العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار

ابن العطار

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْعُدَّة فِي شَرْحِ الْعُمْدَة [1]

جَمِيع الْحُقُوق مَحفوظَة الطبعَةُ الأولى 1427 هـ - 2006 م جمعية الْإِصْلَاح 1360 هـ الْبَحْرين 1941 م مَشروعُ الْعلم النافع سلسلَة إصدارات لجنة الْأَعْمَال الْخَيْرِيَّة (15) شركَة دَار البشائر الإسلامية للِطِّباعَةَ والنشر والتوزيع ش. م م أسَّسها الشَّيْخ رمزي دمشقية رَحمَه الله تَعَالَى سنة 1403 هـ - 1983 م بيروت - لبنان ص. ب: 5955/ 14 هَاتِف: 702857 فاكس: 704963/ 009611 e-mail: [email protected]

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدّمَة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فيعتبر كتاب "العمدة في الأحكام، في معالم الحلال والحرام، عن خير الأنام محمد -عليه الصَّلاة والسلام-"، ممَّا اتفق عليه الشيخان البُخاريّ ومسلم في "صحيحيهما"، للإمام الحافظ الكبير أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي - رحمه الله -، كتابًا مهمًا عز نظيره في هذا الباب، ممَّا حدا بالكثير من العلماء إلى العكوف على شرحه، وبيان أحكامه ومسائله. وكان في مقدمة الشروح عليه: شرح الشَّيخ الإمام الفقيه أبي الحسن عليّ بن إبراهيم علاء الدين العطار - رحمه الله -، المتوفى سنة (724 هـ)، أشهر أصحاب الإمام النووي، وأخصهم به، لزمه طويلًا، وانتفع وتخرَّج به، وكتب مصنفاته، واختصر كثيرًا منها، حتَّى صار يعرف بـ: "مختصر النووي". ويُعدّ كتابه هذا في طليعة شروح العمدة، فقد تكلم فيه على أحاديث العمدة بعبارة سهلة، موضحة من غير تعقيد، أو خلل، أو تقصير، مبينًا فيه الكلام على رواة الأحاديث بذكر أخبارهم، وشيء من مناقبهم، من الكتب المعتمدة، ثم

شرع في الكلام على ألفاظ الحديث وغريبه، وما انطوى عليه الحديث من الاستدلالات الفقهية والأصولية، معتمدًا على كتب شيخه ابن دقيق العيد، والنووي -رحمهما الله-، بجمع مميز، وتحرير للمسائل بفهم دقيق. فهو شرحٌ جمعَ بين عدة كتب، مضافًا إليها ما انفرد بتحريره وترجيحه. ومما يزيد في قيمة الكتاب العلمية: أن يرى الباحث نقولًا للعلماء من شرح ابن العطار، هذا، فالشيخ محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني، المتوفى سنة (781 هـ) له شرح على كتاب "عمدة الأحكام" للإمام عبد الغني المقدسي في خمس مجلدات، سماه: "تيسير المرام في شرح عمدة الأحكام"، قال ابن حجر: جمع فيه بين كلام ابن دقيق العيد، وابن العطار، والفاكهاني، وغيرهم (¬1). والحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" ينقل عن شرح ابن العطار هذا في مواضع عدة، وكذا السيوطي في "شرح السنن"، والشوكاني في "نيل الأوطار" وغيرهم. وبالجملة: فقد أخذ الشَّيخ ابن العطار مادة كتابه هذا من شرح النووي على مسلم، وزاد عليه من شرح ابن دقيق العيد على "العمدة" فوائد أخر حسنة، خاصة فيما يتعلق بالمسائل الفقهية والأصولية، على نقيض ما ذكره ابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية" من أن المؤلف أخذ شرح ابن دقيق، وزاد عليه من شرح مسلم فوائد أخر حسنة. فالكتاب يحمل بين دفتيه الكثير من المسائل، والفوائد الحديثية، والفقهية، واللغوية، ممَّا قد لا يراه المرء في كتب شرح العمدة على الخصوص، وشروح الحديث على العموم. فحريٌّ بطالب العلم إدامة النظر فيه، والعكوف على قراءته ودرسه وفهمه؛ لما اشتمل عليه من الجمع اللطيف لمسائله المنثورة في بطون الكتب، دون حشو ¬

_ (¬1) "كشف الظنون" (2/ 1164).

مصادر الكتاب

أو تطويل، أو إخلال بالمعنى أو تقصير، مع تحرير وتقرير للمسائل، فجزاه الله خيرًا على صنيعه هذا، ورحمه الله من إمام قدير. * مصادر الكتاب: اعتمد المؤلف - رحمه الله - في كتابه هذا على أمهات الكتب المتداولة في عصره، المشتملة على شروح الحديث، وغريب الألفاظ، وتراجم العلماء، وغيرها. ففي شروح الحديث: كانت مادته الأساسية كتاب شيخه النووي -رحمه الله- "شرح صحيح مسلم"، حتَّى إنه اختصر أشياء كثيرة منه في مواضع كثيرة جدًّا في كتابه هذا. كما أخذ عن شيخه ابن دقيق العيد من كتابه "شرح عمدة الأحكام"، واختصر منه أشياء كثيرة -أيضًا-. وأخذ عن الخطابي من كتابه "معالم السنن". وفي تراجم الرجال: كان "الاستيعاب" لابن عبد البر في سرد أخبار المترجمين، إلى جانب كتب: "الثقات" لابن حبان، و"الكمال في أسماء الرجال" للمقدسي، و"أسد الغابة" لابن الأثير، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. وفي غريب ألفاظ الحديث: كان كتاب "تحرير ألفاظ التنبيه" لشيخه النووي لبنة مادته هذه، إلى جانب "مشارق الأنوار" للقاضي عياض، و"غريب الحديث" لأبي عبيد، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري. وعلى وجه الإجمال يمكن القول: إن كتب شيخه النووي - رحمه الله - وبخاصة "شرح مسلم"، وكتاب "شرح العمدة" لابن دقيق، كانا الأساس في مادة هذا الكتاب، بل يمكن القول: إنه اختصر مسائل هذين الكتابين وأودعهما في صلب شرحه هذا، والله أعلم.

النسخ الخطية للكتاب

* النسخ الخطية للكتاب: وقفنا -بفضل الله تعالى- للكتاب على أربع نسخ خطية: ° الأولى: نسخة مكتبة شستربتي بإيرلندا، وهي مشتملة على مجلدين: المجلد الأول: وهو برقم (3755)، ويبدأ من أول الكتاب، وينتهي عند قوله: "ونقل عن بعض المتقدمين فيها دخول البدنة بعد الرقبة إذا تعذرت، رواه عطاء، عن سعيد، وقيل: إن سعيدًا أنكره، والله أعلم، من شرح الحديث السابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في باب: الصوم، وقد جاء في نهاية الجزء: أنه قوبل على نسخة المؤلف - عفا الله عنه -، ونسخة موسى بن إبراهيم، سنة (760 هـ) في الثامن والعشرين من شهر الله المحرم منه. المجلد الثاني: ويبدأ من باب: الصوم في السفر وغيره، وينتهي بآخر الكتاب وهذه النسخة فيها طمس في بعض أوراقها. ورمزنا لهذه النسخة بحرف "ش". ° الثَّانية: نسخة مكتبة برنستون، وتشتمل على الجزء الثاني من الكتاب، تبدأ من أول باب الصداق، وتنتهي بآخر الكتاب. ولم يعرف ناسخها، إلَّا أن الفراغ من نسخها كان سنة (796 هـ). ورمزنا لها بحرف "ب". ° الثالثة: نسخة المكتبة الأحمدية بحلب، برقم (627)، والمنقولة إلى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، برقم (16254)، وتبدأ من أول الكتاب، وتنتهي عند قوله: "وأنه سبحانه واحد في ذاته وصفاته ومخلوقاته، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" من الحديث الحادي عشر عن ابن عمر - رضي الله عنهما -:

منهج التحقيق

"نهى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن الوصال ... " من باب: الصوم في السفر وغيره. ونسخها إسماعيل الدرعي الشافعي، سنة (805 هـ). وقد جاء في آخرها: كتبت هذه النسخة من نسخة بخطِّ المنتصف، وقوبلت عليها، فصارت أصلًا معتمدًا بتاريخ (806 هـ). ورمزنا لها بحرف " ح 1". ° الرابعة: نسخة المكتبة الأحمدية بحلب، برقم (628)، والمنقولة إلى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، برقم (16255)، وتبدأ من أول كتاب: الصوم، وتنتهي بآخر الكتاب. نسخها أبو بكر بن عبد الرحمن بن عليّ الشيباني الشَّهير بابن طليس، سنة (801 هـ). ورمزنا لها بحرف "ح 2". * منهج التحقيق: لقد تمَّ العمل في هذا الكتاب على النحو التالي: 1 - نسخ المخطوط بالاعتماد على نسخة "شستربتي"، ثم المقابلة بينها وبين نسختي حلب (1) و (2)، ونسخة برنستون. 2 - تخريج الأحاديث النبوية الواردة في الكتاب على الشكل التالي: - أحاديث المتن: وهي مقصورة على "صحيحي البُخاريّ ومسلم"، فقد تم العزو إليهما برقم الحديث، واسم الكتاب والباب، اللذين ورد فيهما الحديث، مع التنبيه إلى صاحب اللفظ الذي ساقه صاحب المتن، فيقال مثلًا: "وهذا لفظ البُخاريّ". ولما كان صاحب "العمدة" قد وقع في أوهام عدة في عزوه أو سياقه للأحاديث التي جمعها من "الصحيحين"؛ كان لزامًا التنبيه على ذلك؛ نظرًا لترك الشارح التعقيب عليها.

- أحاديث الشرح: إن كان الحديث في "الصحيحين"، أو في أحدهما، اكتفينا بالعزو إليهما دون غيرهما، وكذلك إن كان الحديث في السنن الأربعة، أو أحدها، وإلا ففي كتب المسانيد والسنن والصحاح الأخرى، مع الإشارة إلى أسماء رواتها، وصاحب اللفظ. ولقد كان هذا التخريج من العسر بمكان؛ بسبب نقل المؤلف للأحاديث التي يذكرها من غير مصادرها الأساسية، وإنما من كتب الشروح والفقه، والتي غالبًا ما تعتني بمعاني الأحاديث أو المقاربة فيها، على ألفاظها المخرَّجة في كتب أصحابها. 3 - تخريج الآثار الواردة في الكتاب من الكتب المعتمدة في هذا؛ كـ "مصنف عبد الرزاق"، و "مصنف ابن أبي شيبة"، و "سنن البيهقي الكبرى"، وغيرها. 4 - توثيق تراجم الصحابة، من الكتب المعتمدة، والأصول المعتبرة، التي اعتنت بتراجمهم وأحوالهم وأخبارهم، ومما يقاربها من كتب التراجم الأخرى، والطبقات، ونحوها. 5 - توثيق ما يذكر من غريب الحديث بالعزو إلى المصدر الذي استقى منه الشارح مادته، مضافًا إليه كتب غريب الحديث، ومعاجم اللغة الأخرى المقدمة في هذا الباب. 6 - عزو الأقوال والمذاهب الفقهية التي ذكرها المؤلف إلى قائلها من كتب الأصول التي ذكرتها، على نقيض صنيع الشارح؛ حيث يختصرها من كتب شيوخه وينسبها إلى قائليها، ويسردها سردًا، فكان في هذا عناء كبير في الرجوع في عزو الأقوال وغيرها إلى أصحابها. 7 - تخريج الأبيات الشعرية من دواوين الشعر، وكتب الأدب المفردة في عزو ونسبة الشعر.

8 - ذكر أسماء بعض الأماكن الواردة في الأحاديث وتعيينها من "معجم البلدان" لياقوت الحموي، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي، وغيرها. 9 - التعريف بالكتب غير المطبوعة؛ بذكر أسماء مؤلفيها، ووفاتهم، ومادة كتابهم إن وجدت، مع الإشارة إلى المصدر، أو المصادر التي ذكرته. * * * * هذا ويسرُّ "لجنة الأعمال الخيرية بجمعية الإصلاح بمملكة البحرين" أن تقدم للعالم الإسلامي وطلبة العلم خصوصًا هذا الكتاب القيِّم. وإننا في هذه اللجنة نفتح الباب لإخواننا المحسنين للمساهمة في دعم مثل هذه المشروعات التي تنشر العلم النافع، فيعم خيره المسلمين في شتى البقاع والآفاق. * ولا يفوتنا في ختام هذا المقام أن نتقدم بالشكر الجزيل والتقدير الأثيل للأخ الشَّيخ نور الدين طالب -من دمشق المحروسة- على جهوده الحثيثة معنا في خدمة هذا الكتاب، وتشجيعه ومتابعته العمل، جزاه الله عنا خير الجزاء، وجعل ذلك في ميزان حسناته يوم يلقاه. هذا ونسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا هذا العمل، ويجعله خالصًا لوجهه الكريم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الله وصحبه وسلم. قاله وكتبه خادم العلم والعلماء بمملكة البحرين نظام محمد صالح يعقوبي عضو مجلس إدارة لجنة الأعمال الخيرية بجمعية الإصلاح

ترجمة المؤلف

تَرْجَمَةُ المؤَلِّف * اسمه ونسبه: هو الإمامُ، العالم، المحدث، الحافظ، الفقيه، المفتي، المتكلم، الصالح، بقية السلف، الزَّاهد: عليّ بن إبراهيم بن داود بن سلمان بن سليمان، علاءُ الدين، أبو الحسنِ ابن العطار، الدمشقيُّ، الشافعيِّ. كان أبوهُ عَطَّارًا يلقب: موفق الدين، وجَدُّهُ طبيبًا. * ولادته ونشأته: ولد يوم الفطر سنة أربع وخمسين وست مئة. وسمع من خلائق كثيرين، ورحل إلى بلدان كثيرة، وسمع بها من عدة أشياخ يزيدون على المئتين. حفظ القرآن في سن مبكرة، وتفقَّه بالإمام النووي - رحمه الله -، ولازمه مدة طويلة، وقرأ عليه "التنبيه" تصحيحًا وضبطًا، وعرضًا وشرحًا، كما قرأ عليه علم الحديث في "مختصره" المشهور، وغيره تصحيحًا وضبطًا وشرحًا، وبحثًا وتعليقًا خاصًّا وعامًّا، وقرأ عليه كتبًا غيرها؛ حتَّى صار يلقب بـ "مختصر النووي"، وقد يختصر فيقال: "المختصر". كما أخذ الفقه عن الإمام ابن دقيق العيد، وتأثر به، وقرأ العربية عن جمال الدين بن مالك صاحب "الألفية"، وعن غيرهم، كما سيأتي في ذكر شيوخه.

تدريسه وإفادته

* تدريسُهُ وإفادتُهُ: باشر ابن العطار - رحمه الله - مشيخة النووي من سنة أربع وتسعين وسبع مئة إلى أن توفي - رحمه الله -، مدة ثلاثين سنة، كما درس بالقوصية بالجامع، وولي مشيخة العلمية. نسخ الأجزاء، ودار مع الطلبة، وغلب عليه الفقه، ودَرَّسَ وأفتى سنين، وانتفع به النَّاس، وكتب الكثير، وحمله، واشتهر ذكره بين النَّاس. قال الذهبي -وهو أخوه لأمه من الرضاعة-: وهو الذي استجاز لي ولأبي من الصَّيْرفيُّ، وابن الخير، وعِدَّة. وقال أيضًا: خَرَّجتُ له "معجمًا" في مجلد انتفعتُ به، وأحسن إلي باستجازته لي كبارَ المشيخة. وقد انتفع الذهبي بعد ذلك بهذه الإجازة انتفاعًا شديدًا. وذكر السبكي أنه نيّف فيه على ثمانين شيخًا. وقد سمع هذا "المعجم": الشَّيخ كمال الدين بن الزملكاني بقراءته، وابن الفخر، وابن المجد، والبرزالي، والمقاتلي. ثم قال الذهبي: وصنف أشياء مفيدة، وكان صاحب معرفة حسنة، وأجزاء وأصول. وقال ابن كثير: له مصنفات، وفوائد، ومجاميع، وتخاريج. وكانت له - رحمه الله - محاسن جمة، وزهد وتعبد، وأمر بالمعروف، على قسوة في أخلاقه، وله أتباع ومحبون. تنبيه: ذكر الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" في ترجمة ابن العطار - رحمه الله - نقيصةً بحقه، لا ينبغي ذكرها؛ لما فيها من غمزٍ لهذا الإمام، فقال: "ولم يكن بالماهر مثل الأقران الذين نبغوا في عصره، حتَّى إنه عُقِدَ مجلسٌ، فحضره العلماء، فأحضر هو في محفّته، فلما رآه الزملكاني قال: من قال لكم تحضرون هذا، نحن طلبنا أقماع العلماء، ما قلنا لكم تحضرون الصلحاء؟! ".

شيوخه

قلت: كلام الزملكاني -إن صحَّ النقل عنه- فيه نظر وتعقب، فإما أن يكون خرج مخرج كلام الأقران في بعضهم، وهذه مسألة مشتهرة بين العلماء، أو يكون له نظرة ورأي في علم ابن العطار، ولكلٍّ وجهة هو موليها. لكن ممَّا يطمئننا إلى رسوخ قدم ابن العطار في العلم ما ذكره في كتابه "تحفة الطالبين" في ترجمة شيخه النووي، قال: وأذن لي -أي: شيخه النووي رضي الله عنه-، في إصلاح ما يقع في تصانيفه، فأصلحت في حضرته أشياء، فكتبه بخطه، وأقرني عليه، ودفع إليَّ دُرْجًا فيه عدة الكتب التي كان يكتب فيها، ويضيف بخطه، وقال لي: إذا انتقلتُ إلى الله تعالى، فأتمَّ "شرح المهذب" من هذه الكتب، فلم يُقَدَّرْ لي ذلك. فهذا الإمام النووي - رحمه الله - لو لم يعلم من تلميذه القدرة والكفاءة في العلم، لما أذن له في إصلاح الغلط، وإتمام "شرح المهذب". والله أعلم بالصواب. * شيوخه: 1 - الشَّيخ الإمام يَحْيَى بن زكريا النووي: وقد لازمه كثيرًا، وهو أشهر أصحابه، وأخصُّهم به، فكانت صحبته له دون غيره من أول سنة سبعين وست مئة وقبلها بيسير إلى حين وفاته، وقرأ عليه الفقه والحديث، وكتب من مصنفاته كثيرًا، وبيض منها، حتَّى كان يقال له: "مختصر النووي"، أو "المختصر". وقد ذكر ابن العطار بعضًا من ملازمته للشيخ، فقال: وكان - رحمه الله - رفيقًا بي، شفيقًا عليّ، لا يمكِّن أحدًا من خدمته غيري، على جهد مني في طلب ذلك منه، مع مراقبة لي - رضي الله عنه - في حركاتي وسكناتي، ولطفه بي في جميع ذلك، وتواضعه معي في جميع الحالات، وتأديبه لي في كل شيء، حتَّى الخطوات، وأعجز عن حصر ذلك، وقرأت عليه كثيرًا من تصانيفه ضبطًا وإتقانًا، وأمرني ببيع كراريس نحو ألف كراس بخطه، وأمرني بأن أقف على

غسلها في الورَّاقة، وخوّفني إن خالفت أمره في ذلك، فما أمكنني إلَّا طاعته، وإلى الآن في قلبي منها حسرات. وقد أفرد ابن العطار ترجمة شيخه النووي بالتَّصنيف، والذي اعتمد عليه السخاوي في ترجمة النووي أيضًا، فقال السخاوي عن كتاب ابن العطار: وهو عمدتي، بل عمدةُ كل من أتى بعده. 2 - الإمام العلامة المحقق ابن دقيق العيد: قرأ عليه الفقهَ في القاهرة، وشرحَ "عمدةِ الأحكام" له، واستفاد من شرحه على "العمدة"، فنقل منه في مواضع كثيرة. 3 - الشَّيخ أبو عبد الله محمد الظهير الحنفي الإربلي، شيخ الأدب في وقته. 4 - الشَّيخ الأديب الفاضل رشيد الدين أبو حفص إسماعيل بن مسعود الفارقي، شيخ الأدب في وقته. 5 - الشَّيخ العلامة، حجة العرب، شيخ النحاة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الجياني. 6 - شيخ الإسلام شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي الحنبلي، شيخ الحنابلة. 7 - الشَّيخ العلامة، قدوة الوقت، أبو محمد عبد السلام بن عليّ بن عمر الزواوي، شيخ المالكية. 8 - الشَّيخ العلامة، قدوة الوقت، ذو العلوم، أبو بكر بن محمد بن أحمد السويسي المالكي. 9 - الشَّيخ العارف، القدوة، أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله، المعروف بابن الأرمني. 10 - الشَّيخ المفتي أبو حامد محمد بن عبد الكريم بن الحرستاني، خطيب دمشق وابن خطيبها.

11 - الشَّيخ العلامة، شيخ الأدب، أبو عبد الله محمد بن عمر بن شاكر الحنفي الإربلي. 12 - الشَّيخ عماد الدين أبو عبد الله محمد بن أمين الدين سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ التغلبي البلدي. 13 - الشَّيخ العارف المحقق أبو عبد الرحيم الأخميمي. 14 - الشَّيخ العارف، القدوة، ولي الدين أبو الحسن عليّ، المقيم بجامع "بيت لهيا" خارج دمشق. 15 - الشَّيخ أبو الحسن كمال الدين سلّار بن الإربلي ثم الدّمشقيُّ. 16 - الشَّيخ أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري. 17 - الشيح ياسين بن يوسف المراكشي. 18 - ابن عبد الدائم. 19 - ابن أبي اليسر. 20 - عبد العزيز بن عبد الله. 21 - الجمال الصَّيْرفيُّ، ويعرف بابن الحبيشي. 22 - ابن أبي الخير سلامة بن الحداد. 23 - الجمال محمد بن إسماعيل بن عساكر. 24 - الشمس بن هامل محمد بن عبد المنعم الحراني. 25 - أبو بكر محمد بن التنسي. 26 - يوسف بن عمر الزبيدي، خطيب بيت الأبار. 27 - محمد بن عمرو. 28 - أحمد بن عبد السلام التميمي، ابن أبي عصرون. 29 - أحمد بن هبة الله الكهفي. 30 - الكمال بن فارس المقري.

آثاره العلمية

31 - حسن الصقلي. 32 - الفقيه زهير الزرعي. 33 - القاضي أبو محمد بن عطاء الأذرعي. 34 - مدلّلة بنت الشيرجي. 35 - عبد الخالق بن عبد السلام، ابن علوان المقري. 36 - يوسف بن إسحاق الطبري. 37 - أبو اليمن بن عساكر عبد الصمد بن عبد الوهاب. 38 - أحمد بن محمد النقبي. 39 - قطب الدين الزهيري. 40 - عماد الدين عبد الحافظ. 41 - أحمد بن إسحاق، الأبرقوهي. 42 - أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي الفاضل، وسمع منه (¬1). * آثاره العلمية: 1 - "تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي". طبع بعناية الدكتور: فؤاد عبد المنعم، ونشرته: مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية. 2 - "فتاوى الإمام النووي" قام بترتيبه. طبع بعناية الشَّيخ محمد الحجار، ونشرته: دار البشائر الإسلامية ببيروت، ¬

_ (¬1) قلنا سابقًا: إن الإمام الذهبي قام بتأليف معجم لشيوخ ابن العطار، أوصل فيه شيوخه إلى ثمانين شيخًا، إلَّا أننا لم نقف على أثر لهذا المعجم، ولهذا قمنا بجمع مشيخة له من كل المصادر المتوفرة لترجمته، وخاصة كتابه عن شيخه النووي "تحفة الطالبين"، فوصلنا إلى عدد يقارب نصف المشيخة، ولا يوجد هذا الجمع -بفضل الله تعالى- في أي مصدر من مصادر ترجمة ابن العطار.

ثناء العلماء عليه

وطبع بعناية محمد رحمة الندوي، مراجعة محمد محيي الدين الأصفر، وقام بنشره المكتب الإسلامي. 3 - "حكم صوم رجب وشعبان وما الصواب فيه". طبع بعناية الأستاذ زهير الشاويش، ونشره: المكتب الإسلامي بيروت. 4 - "شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ" لابن مالك. طبع في: دار الفكر العربي بالقاهرة. 5 - "اختصار نصيحة أهل الحديث" للخطيب البغدادي. وقد طبع بالهند، كما ذكر الكتاني في "فهرسته". 6 - "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق، المسمّى بـ "العدّة شرح العمدة"، وهو هذا الكتاب الذين بين يديك. 7 - "فضل الجهاد". 8 - "حكم البلوى وابتلاء العباد". 9 - "حكم الأخبار والاحتكار عند فقد غلاء الأسعار". 10 - "معجم الشيوخ". وقد خرَّجها له الذهبي؛ كما ذكر في "معجمه". 11 - "رسالة في أحكام الموتى وغسلهم". 12 - "آداب الخطيب". 13 - "الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد". 14 - "الوثائق المجموعة". 15 - "أصول أهل السنة في الاعتقاد". * ثناء العلماء عليه: 1 - قال الذهبي: الشَّيخ، العالم، المحدث، المفتي، بقية السلف، كانت له محاسن جمة، وزهد وتعبد وأمر بالمعروف، وله أتباع ومحبون.

مرضه ووفاته

2 - وقال ابن كثير: الشَّيخ الإمام العالم. 3 - وقال الصفدي: الإمام المفتي المحدث الصالح بقية السلف. 4 - وقال ابن العماد: الحافظ الزَّاهد. 5 - وممّن عدّه في الحفّاظ: العلامة ابن ناصر الدين في كتابه "التبيان شرح بديعة البيان" كما ذكر ابن العماد. 6 - وقال ابن تغري بردي: الشَّيخ الإمام العالم الزَّاهد الحافظ المحدث. 7 - وقال الكتاني: بقية السلف، العالم المحدث المعتني. * مرضه ووفاته: أصيب بالفالج سنة (701 هـ)، وبقي على ذلك أزيد من عشرين سنة، وكان يُحمل في مَحَفَّة ويُطاف به، إلى أن توفي في ذي الحجة سنة أربع وعشرين وسبع مئة -رحمه الله تعالى، ورضي عنه-. * مصادر ترجمته: 1 - "تذكرة الحفَّاظ" للذهبي (4/ 1504 - 1505). 2 - "معجم شيوخ الذهبي" (ص: 352 - 353). 3 - "البداية والنهاية" لابن كثير (14/ 115). 4 - "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (10/ 130). 5 - "الوافي بالوفيات" للصفدي (20/ 10). 6 - "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 270). 7 - "الدرر الكامنة" لابن حجر (3/ 5 - 7). 8 - "النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي (9/ 216). 9 - "الدارس في تاريخ المدارس" للنعيمي (1/ 68 - 71). 10 - "مرآة الجنان" لليافعي (4/ 204 - 205).

11 - "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 114 - 115). 12 - "كشف الظنون" (1/ 368) (2/ 1170). 13 - "هدية العارفين" (1/ 717). 14 - "إيضاح المكنون" (2/ 157). 15 - "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 829). 16 - "الأعلام" للزركلي (4/ 251). 17 - "معجم المؤلفين" لكحالة (2/ 387). * * *

صُوَرُ المخطوُطات

صورة غلاف المجلد الأول من نسخة "ش"

صورة اللوحة الأولى من المجلد الأول من نسخة "ش"

صورة اللوحة الأخيرة من المجلد الأول من نسخة "ش"

صورة غلاف نسخة "ب"

صورة اللوحة الأولى من نسخة "ب"

صورة اللوحة الأخيرة من نسخة "ب"

صورة غلاف نسخة "ح 1"

صورة اللوحة الأولى من نسخة "ح 1"

صورة اللوحة الأخيرة من نسخة "ح 1"

صورة غلاف نسخة "ح 2"

صورة اللوحة الأولى من نسخة "ح 2"

صورة اللوحة الأخيرة من نسخة "ح 2"

العُدَّة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام للإمام علاء الدين علي بن داود بن العطار الشافعي المولود سنة 654 هـ والمتوفى سنة 724 هـ رحمه الله تعالى وقف على طبعه والعناية به نظام محمد صالح يعقوبي

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربِّ يسِّر (1 وأتمم بخير من غير ضير 1) وصلَّى الله على محمَّد وآله الحمد لله الواحد المعبود، الواجد الماجد الودود، الغني عن طاعة الطَّائع ولا يعجل على الكَنود، القويِّ لا بكثرة الأعوان والجنود، الأولِ الذي لا يوصف بابتداء الوجود، الآخرِ الباقي بعد كل مخلوق قضي عليه بالفناء والخلود، الظَّاهرِ فلا يمكن دفع وجوده بالجحود، الباطنِ فلا يخفى عليه خافية في الغيب والشُّهود. أحمده على ترادف فضله المعهود، وأسأله تحقيق الأمل بكرم عفوه الموعود. وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحدَه لا شريك له، شهادة لا شكَّ فيها ولا عنود، وأنَّه الأحد الصَّمد الَذي تنزَّه عن الوالد والمولود. وأشهد أن محمَدًا عبدُه ورسوله صاحبُ اللواء المعقود، ورسولُه المخصوصُ في القيامة بالحوض المورود، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه (¬2) الرُّكعِ السُّجود، القائمين بحقوقه الموفين بالعهود. أمَّا بعد: فقد سألني جماعة من أصحابي في شرح كتاب "العُمْدَة في الأحكام" من ¬

_ (1) ما بينهما زيادة من "ح". (¬2) قوله: "وأصحابه" ساقطة من "ح".

أحاديث رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - للإمام الحافظ أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور المقدسيِّ - رحمه الله -، سهلِ العبارة، موضَحةٍ من غير إشارة؛ ليفهمه المبتدي، ولا يَزْدَرِيهِ الفاضلُ المنتهي. فأجبتهم إلى ذلك بعدَ الاستخارة، رجاءَ نفعِهم، وطلبَ ثواب الله تعالى، وحصول البشارة. وما توفيقي إلَّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبي ونعم الوكيل، سبحانه هو وليُّ أهل الإحسان. وسمّيته: كتابَ "العُدَّة في شرح العُمْدَة". والله تعالى يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ييسِّرَه على أكمل الوجوه، منجيًا لقارئه وكاتبه والمشتغل به من كل محذور ومكروه وشدة، آمين. وأتكلم -إن شاء الله تعالى- في كل حديث على راويه من الصَّحابة، ثم على ألفاظه، ثم على معانيه، ثم على أحكامه. وأرجو من فضل الله تعالى إِنْ تم أن يكون شافيًا نافعًا. وعلى الله تعالى اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، استعنت بالله، توكلْت على الله، فوضت أمري إلى الله، أسلمت وجهي إلى الله، ما شاء الله لا قوَّة إلَّا بالله، لا يأتي بالخير إلَّا الله، ولا يصف السُّوء إلَّا الله، وأستودعُه ديني وبدني وقلبي وأمانتي وجميعَ أموري، ووالديَّ وأحبابي والمسلمين أجمعين، وجميعَ عباد الله الصالحين من سكان السَّموات والأرضين. * * *

كتاب الطهارة

كتاب الطَّهارة الحديث الأوَّل عن عمرَ بنِ الخطَّاب - رضيَ الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّة -وفي رواية: بالنِّيَّاتِ-، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُها أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" (¬1). بدأ المصنف به؛ لتعلُّقه بالطَّهارة، واقتداءً بالسَّلف، والبداءة به في تصانيفهم. وهذا الحديث لم يروه عن النَّبي - صَلَّى الله عليه وسلم - إلَّا عمرُ بنُ الخطاب، وقيل: رواه عنه غيره، ولم يصحَّ، والله أعلم. وهو أحد الأحاديث التي عليها مدارُ الإسلام. قال الشَّافعيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ -رحمهما الله-: يدخل في حديثِ: "الأعمال بالنِّيَّة" ثلثُ العلم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (1)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1907)، كتاب: الإمارة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية". (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 14)، عن الإمام الشافعي. وذكر ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 9)، عن الإمام أحمد أنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث -وعدّ منها حديث: "إنما الأعمال بالنيات"-.

وقال الشافعيُّ: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه (¬1). وليس معنى كلام الشَّافعيِّ - رحمه الله - انحصاره في السَّبعين، وإنما مراده المبالغةَ في الكثرة، والله أعلم. أما راويه فهو: أبو حفصٍ عمرُ بنُ الخطَّابِ بنِ نُفَيْلِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ رِياح -بكسر الرَّاء ثم الياء المثنَّاة من تحت- بنِ عبدِ اللهِ بنِ قرطِ بنِ رَزَاحِ -بفتح الرَّاء ثَمَّ الزَّاي- بنِ عديِّ بنِ كعبٍ، القرشيُّ العدويُّ؛ يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي -بالهمز وتركه-. أسلم قديمًا، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أول من سُمِّيَ أميرَ المؤمنين عمومًا، وسُمِّيَ قبلَه به خصوصًا عبدُ الله بنُ جحشٍ على سريَّةٍ في اثني عشرَ رجلًا. وهو أول من مصَّرَ الأمصار، وفتح الفتوح، وهو أحدُ العشرةِ المشهودِ لهم بالجنَّة، وثاني الخلفاء، وسُمِّيَ الفاروقَ لفرقانِه بين الحقِّ والباطل بإسلامه وظهورِ ذلك. وكان من محدَّثي هذه الأمَّة، ونزل القرآن بموافقتِه في ستَّة أشياء. ومناقبهُ أكثرُ مِنْ أنْ تُحْصَر، وأشهرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، يحتمل ذكرها مجلدات. روي له عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - خمس مئة حديث، وتسعة وثلاثون حديثًا، اتفق البُخاريّ ومسلم منها على ستة وعشرين حديثًا، وانفرد البُخاريّ بأربعة وثلاثين حديثًا، ومسلم بأحد وعشرين حديثًا. وولِّيَ الخلافة عشرَ سنين وخمسةَ أشهر، وقيل: ستة، وقُتل يوم الأربعاء لأربعٍ بقين من ذي الحجة، وقيل: لثلاث، سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين على الأصحِّ، ودفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة - رضي الله عنها -، وصلَّى عليه صُهيبُ بنُ سنان الروميُّ - رضي الله عنه - (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1888). (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 265)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1144)، =

وأما لفظه: فقوله: "سمعت" هي أرفعُ صيغِ الرواية، ثمَّ: حدَّثنا، وأخبرنا، كذا قاله الخطيبُ البغداديُّ (¬1). وقال أبو عمرو بن الصَّلاح: "حدَّثنا"، و"أخبرنا" أرفع من "سمعت" من جهةٍ؛ إذ ليس في "سمعت" دلالةٌ أن الشَّيخ رَوَّاه إيَّاه، بخلافهما (¬2). وقوله: "رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - " اختلف أئمَّة الحديث هل يجوز تغيير "قال النبيّ" إلى: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، أو عكسه؟. فقال أبو عمرو بن الصَّلاح: الظَّاهر أنَّه لا يجوز، وإن جازت الرِّواية بالمعنى؛ لاختلاف معنى النبوَّة والرِّسالة، قال: والصَّواب -والله أعلم- جوازه؛ لأنَّه لا يختلف به هنا معنًى، وهذا مذهب أحمد بن حنبل، وحمَّاد بن سلمة، والخطيب (¬3). ولفظة "إنمَّا" للحصر عند جمهور اللُّغويين والأصوليين وغيرهم، فتثبت الحكم في المذكور، وتنفيه عمًّا عداه، ولكنَّ نفيَه عما عداه بمقتضى موضوعها، أو هو من طريق المفهوم، وفيه بحث. وهي تقتضي الحصر المطلق والمقيد، ويفهم ذلك بالقرائن والسِّياق، فإن دلَّ السِّياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص، فَقُلْ به، وإلا فاحملْه على الإطلاق. ¬

_ = و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 38)، و"المنتظم" لابن الجوزي (4/ 131)، و"صفة الصفوة" له أيضًا (1/ 268)، و "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (4/ 137)، و"الكامل في التاريخ" له أيضًا (2/ 449)، و "تهذيب الكمال" للمزي (21/ 316)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 133)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 588)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 385). وقد أفرده كل من ابن الجوزي، والذهبي، وابن عبد الهادي الحنبلي، وغيرهم في ترجمة مستقلة. (¬1) انظر: "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي (ص: 284). (¬2) انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 135). (¬3) المرجع السابق (ص: 214).

والنِّيَّة -بتشديد الياء على المشهور، وحكي تخفيفها-، وهي القصد، وهو: عزم القلب على الشيء، والمراد هنا: العزم على الفعل تقربًا إلى الله تعالى. والهَجْرُ في اللُّغة: التَّرْك، وهو تَرْكُ الوطن وغيره هنا (¬1). وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلىَ اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلىَ اللهِ وَرَسُولِهِ". القاعدة عند أهل العربية المتقررة أَنَّ الشَّرْطَ والجزَاء والمبتدأ والخبر لا بُدَّ أَنْ يتغايَرا، وها هنا وقع الاتحاد في قوله: "فمن كانت هجرته" إلى آخره، فلا بُدَّ أن يقدر له شيء، وهو: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيّةً وقصدًا، فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا. ووقعت الهجرة في الإسلام على أوجه: أحدها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصَّحابة. الثَّانية: من مكّة إلى المدينة. الثَّالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الرَّابعة: هجرة من أسلم من أهل مكّة ليأتي إلى النبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، ثمَّ يرجع إليها. الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه. ومعنى الحديث وحكمُه يتناول الجميع، غيرَ أَنَّ الحديث ورد على سببٍ، على ما سيأتي، والعبرة بعموم اللفظ. وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ الَى دُنْيَا"، الدُّنْيَا -بضم الدَّال على المشهور-، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها، وجمعها دُنا؛ كَكُبْرَى وكُبَر، وهي من دَنَوْتُ؛ لِدُنُوِّها وسبقها الدَّار الآخرة، وينسب إليها: دُنْيَوِيٌّ، ودُنْيِيٌّ، وقال الجوهريُّ وغيره: ودُنْيَاوِيٌّ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 250)، (مادة: هجر). (¬2) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 265)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 272)، (مادة: دنا).

وفي حقيقتها قولان للمتكلمين: أحدهما: ما على الأرض مع الجَوِّ والهواءِ. والثاني: كلُّ المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدّار الآخرة، وهو الأظهر. وقوله: "دُنْيَا" -مقصور غير مُنوَّنٍ على المشهور-، وهو الذي جاءت به الرِّواية، ويجوز في لغةٍ غريبةٍ تنوينها، وروى ابنُ الأعرابي بيت العَجَّاج في جمع دُنْيَا: دُنْيًا طَالَ ما قد عَنَتْ بالتنوين، والمشهور فيه بلا تنوين. وقوله: "أَوِ امْرَأَة يَتَزَوَّجُهَا" أي: يَنْكِحُهَا كما جاء في الرّواية الأخرى، وقد تستعمل بمعنى الاقتران بالشيء، ومنه قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أي: قَرَنَّاهم، عند الأكثرين. وقال مجاهد والبخاري وطائفة: أَنْكَحْنَاهم. فإن قيل: كيف ذُكِرَتِ المرأة مع الدُّنْيَا مع أنها داخلة فيها؟ فالجواب: أنه جاء أن سببَ هذا الحديث: أن رجلًا هاجر من مكّة إلى المدينة ليتزوَّج امرأةً تسمى أمَّ قيس، لا لقصدِ فضيلةِ الهجرة، فقيل له: مهاجرُ أمَّ قيسٍ (¬1)، فلهذا خصَّ ذكر المرأة، وإن كانت أعظم أسباب الدُّنيا، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ إنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا: الْمَرأَةُ الصَّالِحَةُ" (¬2). فالغالبُ أنها شرُّ متاع الدُّنيا دونَ سائر ما يُنوى به الهجرةُ من أفراد الأعراض ¬

_ (¬1) رواه الطّبرانيّ في "المعجم الكبير" (8540)، ومن طريقه: المزي في "تهذيب الكمال" (16/ 126)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/ 590)، وأخرجه ابن منده، وأبو نعيم من طريق أخرى، كما ساقه الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (18/ 281)، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (1467)، كتاب: الرضاع، باب: خير متاع الدُّنيا المرأة الصالحة، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.

الدُّنْيَوية، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِي أَضَرُّ على الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ" (¬1). وقد صنف الإمام أبو الفرج بنُ الجوزيِّ وغيرُه أسبابَ الحديث، كما صنف الواحديُّ وغيره أسبابَ النزول للقرآن، والله أعلم. وقد يجاب أيضًا: بأنَّ المرأة لا يلزم دخولُها في هذه الصِّيغة؛ لأنَّ لفظة "دُنْيَا" نكرة، وهي لا تعم في الإثبات، فلا تدخل المرأةُ فيها، وقد يكون ذكرها من باب التنبيه على زيادة التحذير منها؛ كذكر الخاص بعد العام تنبيهًا على مرتبته، كما في ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة، وذكر الصَّلاة الوسطى بعد الصلوات في المحافظة، وذكر محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم -صَلَّى الله عليه وعليهم أجمعين- بعد النبيّين في أخذ الميثاق عليهم، وليس منه النَّخْلُ والرُّمَّانُ بعد ذكرِ الفاكهة، وإن كان قد غَلِطَ بعض النَّاس فيه، فعدَّه منه؛ لأنَّ فاكهةً نكرة في سياق الإثبات، فلا تعم، والله أعلم. أما معانيه، فتقدَّم بعضها في ألفاظه. وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" لا بُدَّ فيه من إضمار، ولا جائزَ أن يكون المضمر: وجودها؛ لوجود العمل ولا نيَّة، فتعيَّن أَنْ يكونَ المضمر الصِّحةَ أو الكمالَ، وتقدير الصِّحة ألزمُ؛ لأنَّه أقرب إلى خطوره بالذهن عند الإطلاق، فالحمل عليه أولى، وقد يُقدرونه بالاعتبار، وقرب ذلك بمثل؛ كقولهم: إنما الملكُ بالرِّجال؛ أي: قوامه ووجوده، وإنَّما الرِّجال بالمال، وإنَّما الرَّعيَّة بالعدل، وكل ذلك يُراد به أَنَّ قوامَ هذه الأشياء بهذه الأمور. وعلى تقدير إضمار الصحة أو الكمال، وقع اختلاف الفقهاء، فذهب الشَّافعيُّ والجمهور إلى تقدير الصِّحة، وذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى تقدير ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (4808)، كتاب: النكاح، باب: ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم (2741)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -.

الكمال، وقدَّر بعض المحدثين القبول، وهو راجع إلى ثواب الآخرة، وهو مرتبٌ على الصِّحة والكمال، وقد تَنفكُّ الصِّحة عن القبول بالنِّسبة إلى أحكام الدُّنْيَا فقط، والأعمال تُطْلَقُ على الجوارح والقلوب، قولًا كان العمل أو فعلًا، لكنَّ الأسبقَ إلى الفهم تخصيصُه بالجوارح، لكنْ في الشَّرعيات فهو يستعمل فيهما، فيقال: أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وخصَّص بعضهم أعمال الجوارح بما عدا القول، وهو غلط؛ لاتفاقهم على أنَّ اللِّسان جارحة، والقول عملُه، نعم يستعمل القول والعمل في معرض التَّقابل، أما أنَّ القول لا يسمى عملًا، فلا. قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" مقتضاه أنَّ مَنْ نوى شيئًا، يحصل له، وما لم ينوه، لا يحصل له، ولهذا عظَّمُوا هذا الحديث، وجعلُوه داخلًا في ثلث العلم، أو نصفه، والمراد بالحصولِ وعدمه بالنِّسبة إلى الشَّرع، وإلَّا فالعملُ قَدْ حصل، لكنَّه غيرُ معتدٍّ به، وسياق الحديث يدل عليه بقوله: "وَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إليه". فإِنْ قِيل: فما فائدة ذكر الثَّاني بعد الأول؟ قلنا: فائدته اشتراط تعيين المنويِّ، فمن كان عليه صلاة مقضيَّة، لا يكفيه أَنْ ينويَ الصَّلاةَ الفائتة، بل لا بدَّ أَنْ ينويَ كونها ظُهرًا أو عصرًا أو غيرهما. ولولا اللَّفظ الثَّاني، لاقتضى الأولُ صِحة النيَّة بلا تعيين، أو أَوْهَمَ ذلك. وكونُ هذا الحديث ثلثَ العلم، قال البيهقيُّ وغيره: معناه أَنَّ كَسْبَ العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنيَّةُ أحدُ أقسامِه الثَّلاثة وأرجحُها؛ لأنَّها تكون عبادة بانفرادها، بخلاف القسمين الآخرين، ولهذا كانت نِيَّة المؤمن خيرًا من عمله؛ لأَن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ونحوه، بخلاف النيَّة (¬1)، وتدخل النيَّة في الوضوء والاغتسال والتيمم والصَّلاة وأنواعها، والزَّكاة والصيام والاعتكاف والحجِّ والطلاق والخلع والعتق والكتابة، والتدبير والإبراء والظهار ¬

_ (¬1) انظر: "السنن الصغرى" للبيهقي (ص: 20).

ونحوها، بجعل الكناية كالصريح، وكذلك في البيع والإجارة وسائر المعاملات، والرجعة والوقف والهبة وكناية لفظ الطلاق وغيرها عند من يقول: كنايتها مع النية كالصريح، وهو الصَّحيح، وكذلك إذا كان عليه ألفان بأحدهما رهن دون الآخر، فأوفاه ألفًا، صرف إلى ما نواه منهما، وكذلك ما أشبه ذلك، ويدخل -أيضًا- في الأيمان والنُّذور، والله أعلم. وأمّا ما يتعلق بأحكامه: فاعلم أن النيَّة في جميع العبادات تكون بالقلب كما سبق، ويُسْتحبُّ أَنْ يتلفظ مع ذلك بلسانه، فإِنِ اقْتصَرَ على القلب، كفاه، وإِن اقتصر على اللسان، فلا. وعن الشَّافعيِّ قولٌ ضعيفٌ غريبٌ؛ أنَّه يكفيه في الزَّكاة اللَّفظ؛ لأنَّها تشبه الدُّيون، ولهذا يجوز تقديمها قبل وقتها، ويأخذها السُّلطان قهرًا؛ ولهذا قال الأوزاعيُّ: لا تجب النيَّة في الزَّكاة. وقال أبو عبد الله الزبيريُّ -من متقدِّمي أصحابِ الشَّافعيِّ-: يُشترط في نيَّة الصَّلاة نيَّةُ القلب، ولفظُ اللسان، وهو غلط، ولو جرى على لسانه شيء، وفي قلبه غيره، فالاعتبار بالقلب. وفي اشتراط إضافة العبادة إلى الله تعالى لصِحَّة النيَّة خلاف؛ فالاعتبارُ بالقلب، قال الجمهور: لا يشترط، لَكنْ يُستَحَبُّ، وشَرَطَها أبو العباس بنُ القاصِّ وغيرُه. وينبغي لِمَنْ أرادَ شيئًا من الطَّاعات أَنْ يستحضرَ النيَّة، فينوي بها وجه الله تعالى. وهل يشترط ذلك أول كل عمل -وإن قل وتكرر فعله- مقارنًا لأول العمل متصلًا به؟ اشترطه بعضهم، وشرط بعضهم ذلك في أول العمل، ولا يشترطه إذا تكرر، بل يكفيه أَنْ ينوي أول كل عمل، ولا يشترط تكرارها فيما بعد، ولا مقارنتها، ولا الاتصال.

وشرط بعضهم المقارنة دون الاتصال، وشرط بعضهم الاتصال، وهو أخف من المقارنة، وكلُّ هذه المذاهب راجعةٌ إلى أن النيَّةَ جزءٌ من العبادة، أم شرطٌ لصحتها؟ مذهبُ الجمهور أَنَّها جزءٌ منها، ولأصحاب الشَّافعي وجهٌ أَنَّها شرط، والشرط لا تجب مقارنته ولا اتصاله ولا تكراره للمشروط، بل متى وجد ما يرفعه أو ينفيه، وجب فعله. وتنبغي النيَّة في الصَّدقات، وقضاء حوائج النَّاس، وعيادة المرضى، واتَّباع الجنائز، وابتداء السَّلام وردِّه، وتشميت العاطس وجوابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإجابة الدعوة، وحضور مجلس العلم والأذكار، وزيارة الأخيار والقبور، والنفقة على الأهل والضيفان، وإكرام أهل الود والفضل وذوي الأرحام، ومذاكرة العلم والمناظرة فيه وتكراره وتدريسه وتعلمه وتعليمه ومطالعته وكتابته وتصنيفه، والفتوى والقضاء، وإماطة الأذى عن الطريق، والنصيحة والإعانة على البر والتقوى، وقبول الأمانات وأدائها، وما أشبه ذلك؛ حتَّى ينبغي له إذا أراد أَنْ يأكلَ أو يشربَ أو ينامَ أَنْ يَقْصِدَ به التقوِّيَ على طاعة الله تعالى، وإراحة البدن لينشطَ للطَّاعة. وكذلك إذا أراد جِمَاعَ زوجته أَنْ يقصدَ امتثالَ قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وإيصالَها حقها، وتحصيلَ ولد صالحٍ يعبُد الله تعالى، وإعفافَ الزَّوجة، وإعفافَ نفسه وصيانتَها من التطلع إلى حرام، أو الفكر فيه، أو مكابدة المشاقِّ بالصبر، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي بُضْعِ أحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" (¬1). وكذا ينبغي لِمَنْ يعملُ حِرفةً ينفع المسلمين ممَّا هو فرضُ كفاية أن يقصد إقامةَ فرض الكفاية، ونفعَ المسلمين؛ كالزراعة وغيرِها من الحِرَفِ التي هي قِوَامُ عيشِ المسلمين. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1006)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.

الحديث الثاني

والضَّابط لحصول النِّيَّة والثواب [عليها] (¬1): أنّه متى قصد بالعمل امتثالَ أمر الشَّرع، وبتركه: الانتهاءَ بنهي الشَّرع، كانت حاصلةً مثابًا عليها، وإلا فلا، وإن لم يقصد ذلك، كان عملًا بهيميًّا، ولهذا قال السَّلف: الأعمال البهيمية: ما عُملت بغير نيَّة، والله أعلم. واعلم أن سؤالَ الله تعالى ومحاسبته إنما يقع يوم القيامة على مخالفة الوسائل والمقاصد الشَّرعية، وإنعامَهُ وإفضالَهُ إنما يقع على موافقتها، والنيَّة وسيلةٌ للشَّرع ومقصودة، والأعمالُ قد تكونُ وسيلة، وقد تكون مقصودةً، وقد يكون هذا وهذا، وكل وسيلةٍ مقصودةٍ إلى ما دونها، وسيلةٌ بالنسبة إلى ما فوقها، والله أعلم. ودخول الجنة لا يقع إلَّا برحمة الله تعالى، والدرجاتُ فيها بالأعمال، والخلودُ بالنيَّات، والكلُّ مبدؤه وانتهاؤه وتعلقه راجع إلى فضل الله الإلهِ الخالقِ والآمرِ -تبارك الله ربُّ العالمين-. * * * الحديث الثَّاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ أحَدِكُمْ إذا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأ" (¬2). أبو هريرة: أوَّل مكنًّى بها؛ لهرَّةٍ كانت له يلعب بها صغيرًا. واسمه عبدُ الرَّحمن بنُ صخرٍ على الأصح من نحو ثلاثين قولًا. واختلف في نسبه -أيضًا- كثيرًا. أسلمَ عام خيبر سنة سبع من الهجرة، وشهدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولزمه إلى ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬2) رواه البُخاريّ (6554)، كتاب: الحيل، باب: في الصَّلاة، ومسلم (225)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب الطهارة للصلاة، وهذا لفظ البُخاريّ.

أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو أكثر الصَّحابة حديثًا، وعبد الله بن عمرو بن العاص أكثرُ منه حديثًا، على ما ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وعاش أكثرَ منه، وتأخرت وفاته بعده، إلا أنَّ أبا هريرة كان مقيمًا بالمدينة، ولم يخرج منها، وكان النَّاس يأتونها من كلِّ ناحية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها محط الرّكاب؛ لأجل الخلافة، ولزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصَّلاة في مسجده، ولأخذ العلم، وكان أبو هريرة متصدِّيًا للرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونشر العلم؛ بخلاف عبد الله بن عمرو؛ فإنَّه سافر إلى البلاد، وغلب عليه العبادة، فلهذا لم يُشتهر حديثه، ولم تكثر روايته؛ واشتُهر وكثر حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما -. وكان أبو هريرة من أصحاب الصُّفَّة، ومن أحفظ الصَّحابة حديثًا. وقال البخاري: أبو هريرة: دَوْسِيٌّ أزديٌّ يمانيٌّ، نزل المدينة. قال غيره: روى عنه نحو ثمان مئة رجل أو أكثر من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وغيرهم، وكان ينزل ذا الحليفة، وله بها دار تصدّق بها على مواليه، فباعوها من عمرو بن يزيع، وكان ينوب بالمدينة في الصَّلاة وغيرها، وصلَّى على عائشة وأم سلمة زوجَي النبي صلى الله عليه وسلم، ومات بها، ودفن بالبقيع سنة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وخمسين، وكان سنُّه يوم مات ثمانيًا وثمانين سنة، فتكون سنُّه يوم مات النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى وثلاثين سنة، أو ثلاثين، أو تسعًا وعشرين، على الخلاف في وفاته. وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف حديث، وثلاث مئة حديث، وأربعة وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاث مئة وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، ومسلم بمئة وسبعين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1768)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (67/ 295)، و"أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (6/ 313)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 546)، و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 366)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 578)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 32)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 103)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (18/ 91)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 425)،=

وأمَّا ما اشتهر في الشَّام من أن قبره بقرية بناحية بالقرب من عسقلان، فليس بصحيح، بل ذاك قبر جَنْدَرَةَ -بفتح الجيم وسكون النُّون وفتح الدَّال المهملة وبالرَّاء ثم الهاء-، ابنِ خَيْشَنَةَ -بفتح الخاء المعجمة ثم الياء المثناة تحت السَّاكنة ثمَّ الشِّين المعجمة ثمَّ النون ثم الهاء-، ابن نقَيرٍ -بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة تحت ثم الرَّاء-، أبو قِرْصَافَة -بكسر القاف وسكون الرَّاء ثم الصاد المهملة ثم الألف ثم الفاء ثم الهاء- من بني عمرو بن الحارث بن مالك بن كنانة، سكن الشَّام، ومات بها، وقبره بناحية بقرب من عسقلان، ذكره أبو حاتم بن حِبَّان في الصَّحابة، والله أعلم (¬1). والقبول يراد به في الشَّرع الصِّحةُ وحصول ثواب الآخرة وقد تتخلف الصحة عن ثواب الآخرة بدليل صحة صلاة العبدِ الآبق، ومن أتى عرَّافًا، وشاربِ الخمر إذا لم يسكرْ ما دام في جسده شيء منها؛ فأما ملازمةُ القبول للصِّحة، ففي قوله صلي الله عليه وسلم: "لا تُقْبَلُ صَلاةُ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ" (¬2)؛ أي: مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الحَيْض لا تقْبَلُ صَلاتُهَا إلَّا بسترتها، ولا تصحُّ ولا تُقبلُ مع انكشاف عورتها، والقبولُ مفسَّر بترتُّب الغرض المطلوب من الشِّيء على الشِّيء، يقال: قبل فلان عذرَ فلان: إذا رتَّب على عذره الغرضَ المطلوب منه، وهو محو الجناية والذنب. فقوله صلي الله عليه وسلم: "لا يقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" هو عام في عدم القبول من جميع المحدثين في جميع أنواع الصَّلاة، والمراد بالقبول: وقوعُ ¬

_ = و" تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 288)، و "شذرات الذهب" لابن العماد (1/ 63). (¬1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1733)، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم (ص: 151)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 571)، و (6/ 247)، و" تهذيب الكمال" للمزي (5/ 149)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 514)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 102). (¬2) رواه أبو داود (641)، كتاب: الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار، والترمذي (377)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار، وقال: حسن، وابن ماجه (655)، كتاب: الطهارة، باب: إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار، والامام أحمد في "المسند" (6/ 218)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

الصَّلاة مجزِئةً بمطابقتها للأمر، فعلى هذا يلزم من القبول الصحةُ في الظاهر والباطن، ومتى ثبت القبول، ثبتت الصحة، ومتى ثبتت الصِّحة، ثبت القبول. ونقل عن بعض المتأخرين أن القبول عبارة عن ترتب الثواب والدَّرجات على العبادة، والإجزاءُ عبارة عن مطابقة الأمر، فهما متغايران، أحدهما أخصُّ من الآخر، ولم يلزم من نَفْي الأخصِّ نفيُ الأعم، فالقبول أخصُّ من الصحَّة، على هذا فكل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبولًا، وهذا إنْ نفعَ في نفي القبول مع بقاء الصِّحة، ضرَّ في نفي القبول مع نفي الصحة، لكن يقال: دلَّ الدليل على كون القبول من لوازم الصحة، فإذا انتفى، انتفت، فيصحُّ الاستدلال بنفي القبول على نفي الصِّحَة، ويحتاج في نفيه مع بقائها إلى تأويل أو تخريج. ويرد على من فسَّر القبولَ بكون العبادة مثابًا عليها أو مرضية، مع أن قواعد الشرع تقتضي أن العبادة إذا أُتي بها مطابقة للأمر، كانت سببًا للثواب في ظواهر لا تحصى فيها. إذا ثبت هذا، فاعلم أن الحدث عبارة عن نواقض الوضوء، وهي عند الشافعية أربع متفق عليها، وأربع مختلف فيها. وقد فسَّره أبو هريرة -راوي الحديث- بنوع من الحدث حين سُئل عنه، فقال: فُساء أو ضُراط (¬1)، وكأنَّه أجاب السَّائل عمَّا يجهله منها، أو عمَّا يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر. والحدث بموضوعه يطلق على الأكبر؛ كالجنابة والحيض والنفاس، والأصغر؛ كنواقض الوضوء، وقد يسمى نفس الخارج حدثًا، وقد يسمى المنع المرتَّبُ عليه حدثًا، وبه يصحُّ قولهم: رفعتُ الحدثَ، ونويتُ رفعه، وإلا استحال ما يرفع ألا يكون واقعًا. وكَأنَّ الشَّارعَ صلى الله عليه وسلم جعل أمد المنع المترتب على خروج الخارج إلى استعمال الطُّهر، وقد تقوَّى بهذا قولُ من يرى أن التَّيَمُّم يرفع الحدث؛ لكون المرتفع هو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (135)، كتاب: الوضوء، باب: لا تقبل صلاة بغير طهور.

المنع، وهو مرتفع بالتَّيمُّمِ، لكنه مخصوص بحالة ما، أو بوقت ما؛ إما عدم الماء، أو مانع من استعماله مع وجوده، وليس ذلك ببدع، والأحكام تختلف باختلاف محالها. وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبًا لكلِّ صلاة، فقد ثبت أنَّه كان مختصًّا بوقت، مع كونه رافعًا للحدث اتفاقًا، ولا يلزم من انتهائه في ذلك الوقت بانتهاء وقت الصلاة ألا يكون رافعًا للحدث، ثمَّ نُسخ في فتح مكة، وصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلواتِ الخمسَ بوضوء واحد، ونقل عن بعضهم أنه لم ينسخ، وأن الحكم باقٍ إلى الآن، وهو مردود، لكن الحكم في الاستحباب باق، وفي الوجوب منسوخ؛ لأنه إذا نسخ الوجوب، بقي الندب، على ما تقرر في كتب الأصول. وقد ذكر الفقهاء من أصحاب الشَّافعي وغيرهم: أن الحدث وصفٌ حكميٌّ مقدَّرٌ قيامُه بالأعضاء على معنى الوصف الحسي، وينزلون الوصف الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء؛ كقولنا: الوضوء أو الغسل يرفع الحدث؛ أي: يزيل الأمر الحكمِي المترتب على المقدر الحكمي، فمن يقول بأن التَّيمُّمَ لا يرفع الحدث يقول: إِن الأمرَ المقدر الحكمي باقٍ لم يزلْ، والمنع (¬1) الذي هو مترتب عليه زائل، فلا يرفع ذلك الوصف الحكمي المقدر، وإن كان المنع المرتب عليه زائلًا، ولا دليل من حيث الشَّرعُ يدل عليه، وأقرب ما يذكرون فيه أَن الماء المستعمل قد انتقل إليه مانع، وذلك منازع في طهارته أو طهوريته أو نجاسته، فلا يلزم انتقال المانع إليه، فلا يتمُّ الدَّليل، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى يَتَوَضَّأ" نفى القبولَ إلى غاية، وهي الوضوء، وما بعد الغاية مخالفٌ لما قبلها، فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، ودخل تحته الصَّلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيًا، وهذا مجمَع عليه في الوضوء. والحديث محمول عند العلماء على مَنْ تركَ الوضوء بلا عذر، أمَا مَنْ تركه ¬

_ (¬1) في "ح": "المترتب".

بعذر, وأتى ببدله، فالصلاة مقبولة قطعًا؛ لأنَّه قد أتى بما أُمر به قطعًا. وقد استدلَّ المتقدِّمونَ بهذا الحديث على أن الصَّلاة لا تجوز إلا بطهارة، ولا يلزم من عدم القبول عدمُ الصحة؛ بدليل ما تقدَّم، وقد تكون الصَّلاة مقبولة بلا وضوء ولا تَيَمُّم، فمن لم يجد ماء ولا ترابًا، فإنها صحيحة مقبولة، ولا تجبُ إعادتُها على أحد الأقوال عند الشَّافعي، وهو مختار جماعة من محققي أصحابه، وهو قول جماعة من العلماء، فيكون الحديث خرج على الأصل والغالب، والإعادة والقضاء لا يجبان إلا بأمر محدَّد، وهذا كله على مذهب من يقول: إن الطهارة شرط لصِّحَة الصَّلاة، أمَّا من يقول: إنَّها شرط للوجوب؛ كمالكٍ وابن نافع، فإنهما قالا: مَن عَدِم الماء والصعيد، لم يُصلِّ، ولم يقضِ إِنْ خرج وقت الصَّلاة؛ لأن عدم قبولها لعدم شرطها يدل على أنَّه ليس مخاطبا بها حال عدم شرطها، فلا يترتب في الذِّمَّة شيء، فلا تقضى، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِآمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (¬1) يمنع هذا؛ فإنَّه أَمَرَ بالصَّلاة بشروط تعذرت، فيأتي بها، ولا يلزم من انتفاءِ الشَّرط انتفاءُ المشروط بالنسبة إلى أصل الوجوب، والله أعلم. وقد استدل بهذا الحديث على بطلان الصلاة بالحدث، سواء كان خروجه اختيارًا أم اضطرارًا، سهوًا أو عمدًا؛ لعدم تفريقه صلى الله عليه وسلم بين حدث وحدث في حالة دون حالة، وقد حكي عن مالك والشَّافعي -في القديم-، وغيرهما: أنّها لا تبطل إذا سبقه الحدث، بل يتوضأ ويبني على صلاته، وإطلاق الحديث يرد عليه. واختلف العلماء من أصحاب الشَّافعي وغيرهم في موجب الوضوء ما هو؛ فذهب طائفة إلى أَنّه يجب بالحدث وجوبًا موسعًا، وذهب آخرون إلى أنه يجب بالقيام إلى الصلاة؛ بدليل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6858)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1337)، كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الحديث الثالث

الآية، وذهب آخرون إلى أنه يجب بالأمرين جميعًا، وهو الراجح عند أصحاب الشافعي. وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ما أو تراب، ولا فرق في ذلك بين الصلاة المفروضة والنافلة، وسجود التلاوة والشكر، وصلاة الجنازة. وحكي عن الشَّعبي، ومحمَّد بن جرير الطبري من قولهما جوازُ صلاة الجنازة بغير طهارة، وهو مذهب باطل، والإجماع على خلافه، وعموم الحديث المذكور يدل على ذلك، فلو صلى مُحدِثًا متعمدًا بلا عذرٍ، أثم، ولا يكفر عند الشافعية وجمهور العلماء، وحكي عن أبي حنيفة: أَنَّه يكفر؛ لتلاعبه، دليل الجمهور أَن الكفرَ لا يحكم به إلا بالاعتقاد، وهذا المصلي اعتقاده صحيحٌ، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّارِ" (¬1). أَمَّا عبدُ الله بنُ عمرِو بنِ العاص: أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو نصير، قرشيٌّ سهمي، وهو وأبوه صحابيان، أسلم قبل أبيه، وأبوه أكبر منه بإحدى عشرة سَنَةً، واستدل الفقهاء بذلك على صحَّة إسلام الصبي المميز، إذ لم يكن عبدُ الله بالغًا، وإن كان بالغًا، فيدل أَنَ أقل سنِّ البلوغ في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (161)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، ومسلم (241)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. ورواه البخاري (163)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الأعقاب، ومسلم (242)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (240)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

الإسلام باستكمال عشر سنين، وقيل: كان أكبر منه باثنتي عشرة سنةً، وقال ابن حبَّان: ثلاث عشرة سنةً. وكان غزيرَ العلم، مجتهدًا في العبادة، وكان كثيرَ كتابةِ العلمِ والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثرُ أقرانه حملًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة أكثر رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وتقدم في الحديث قبله سبب ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نِعْمَ أَهْلُ البَيْتِ عَبْدُ اللهِ وأَبُو عَبْدِ الله وَأُمُّ عَبْدِ الله" (¬1)، وهو ممِنْ حَفِظ القرآن أجمع على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ كتب الأولين؛ التَّوراة والإنجيل، ومناقبه كثيرة جدًّا، وله حكم ومواعظ. روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مئة حديث، اتفقا على سبعة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين حديثًا؛ وروى عنه جماعة من التَّابعين، وروى له أصحاب الكتب السِّتَةِ، ومات بمكة، وقيل: بالطَّائف، وقيل: بمصر، وقيل: بالشَّام، قال أبو حاتم بن حبَّان: كان يسكن مكة، ثم خرج إلى الشَّام، وأقام بها، ومات بمصر، ويقال: مات بعجلان -قرية من قرى الشّام بالقرب من غَزَّة من بلاد فلسطين- ليالي الحرَّة- في ولاية يزيد بن معاوية، وكانت الحرة سنة ثلاث وستين، وكان له يوم مات اثنتان وسبعون سنةً، وقد قيل: مات سنة خمس وستين، ومنهم من زعم أَنَّه مات سنة تسع وستين، والأول أصحُّ، هذا آخر كلامه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 161)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (798)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (646)، والشاشي في "مسنده" (18)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 139)، من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن عقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 261)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 5)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 210)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 956)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 238)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 345)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 264)، و "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 357)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 79)، و "تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 41)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر =

وتقدم أبو هريرة، وسيأتي ذكر عائشةَ - رضي الله عنها - إن شاء الله تعالى. وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث يوسف بن ماهك بنحوِه عن عبد الله بن عَمرو. قوله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ": هو الحزن والهلاك والمشقة من العذاب (¬1)، ومعناه هنا: هلاك وخيبة، والأَعْقَاب: جمع عَقِب؛ وهي مؤخر القدم، وهي -مؤنثة، وتُسَكَّنُ القافُ وتُكْسَرُ- (¬2)، وتخصيصه -صلى الله عليه وسلم- الأَعْقَابَ بالعقاب بالنار؛ لأنَّها التي لم تغسل غالبًا، وقيل: أراد صاحب الأعقاب، فحذف المضاف؛ لأَنَّهم كانوا لا يستقصون غسلَ أرجلهم في الوضوء. وهذا الحديث ورد على سَبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى قومًا وأعقابُهم تلوحُ. الألف واللام في "الأعقاب" يحتمل أَنْ تكونَ للعهد، فيختص الذكر بتلك الأقدام المرئية التي لم يَمسَّها الماء، ويحتمل أَنْ تكونَ للجنس، فلا يختص بها، بل الأعقاب التي هذه صفتها لا تعم بالطهر، ولا يجوز أَنْ تكون للعموم المطلق في كل الأقدام ومسحها، بل يكون العموم المطلق فيها مرادًا بالتضمين بالتنبيه بالأدنى على الأعلى. وطرق الحديث، وجمع ألفاظه يفسر بعضه بعضًا. وقد استدل به: على أَنَّ العقب في الرِّجْل محلٌّ للتطهير بالغَسْل؛ للتوعُّد بالنَّار على تركه، عند رؤيته يلوح من غير غسل. وقال صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه: "أَسْبِغُوا الوُضُوء" (¬3). وقد أخرج أبو داود وغيره، بأسانيدهم الصَّحيحة؛ من حديث عمرو بن ¬

_ = (4/ 192)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 294). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 235)، و"القاموس" للفيروز أبادي (ص: 1382). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 99)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 269)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 611). (¬3) كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم تخريجه عند البخاري ومسلم.

شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله! كيف الطَّهور؛ فدعا بماء، فغسل كفَّيه ثلاثًا، إلى أَنْ قال: ثمَّ غسل رجليه ثلاثًا، ثمَّ قال: "هَكَذَا الوُضُوُء؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوَ نَقَصَ، فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ" (¬1). واستُدلَّ به: على أن المسح لا يجزئُ؛ لأنّه لا يقال في المسح: أسبغوا، ولا: أمرنا بإسباغه فيه، وهذا مجمَع عليه، ولم يقل به أحد من العلماء. وقالت الشيعة: يجب مسحهما. وقال محمَّد بن جرير الجُبَّائي (¬2) -رأس المعتزلة-: يتخير بين المسح والغسل، وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين المسح والغسل، وكلها مذاهب باطلة. وقد صنَّف الإمام أبو الفتح سليم الرَّازي - رحمه الله - كتابًا ستَّ كراريس بخطه، قرأه عليه الخطيب البغداديُّ، وغيره من الأئمة الأعلام، سماه: "الرِّسالة المنصفة في طهارة الرِّجلين في الوضوء" على كلام الشَّريف المرتضى أبي القاسمِ عليِّ بن الحسين الموسوي، والشَّيخِ أبي محمَدٍ عبدِ الله بن محمَّدِ بنِ النُّعمان المعروفِ بابنِ المعلِّم (¬3) في ذلك، واستقصى في الردِّ عليهم، وأتى فيه من الأدلة والعلوم ما يُقر به أعينَ العلماء من أهل السنة، وغيرهم، -فرحمه الله، ورضي عنه-. وفي الحديث: وجوبُ غسل جميع الأعضاء، حتَّى لو بقي جزء لطيف من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (135)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، والنسائي (140)، كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه (422)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التعدي فيه، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 180)، وهذا لفظ أبي داود. (¬2) في حاشية "ح": "محمد بن جرير هذا من الشيعة، وليس هو المشهور، نبه عليه الإسنائي في شرح منهاج النووي". (¬3) هو شيخ الشيعة المفيدُ، ترجمته في "لسان الميزان" لابن حجر.

الحديث الرابع

عضو، لم يصحَّ وضوءه؛ لأنَّه لم يقلْ أحدٌ من العلماء بالفرق بين وضوءِ عضو ووضوء عضو في المغسول. وفيه: وجوبُ تعليم الجاهلين، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضيَ الله عنه -: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ، ثمَّ لينتثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَليوترْ، وَإذَا اسْتَيْقَظَ أَحدُكُمْ مِنْ نَوْمه، فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يدخلهما في الإِنَاءِ ثَلاَثًا؛ فَإنَ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ! "، وفي لفظ لمسلم: "فَلْيَسْتنشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الماء"، وفي لفظ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتنشِقْ" (¬1). قول الرَّاوي: "أن": هو عند الإطلاق محمول على السَّماع، خصوصًا إن كان الراوي صحابيًّا، وأدرك الواقعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ"، ولم يقل: ماء، فيه دليل على جواز حذف المفعول، إذا دلَّ الكلام عليه، وقد ذكر المفعول في غير هذه الرِّواية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وترًا، بلفظ: "إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ...... ". ورواه مسلم (237)، كتاب: الطهارة، باب: الإيثار في الاستنثار والاستجمار، بلفظ: "فليستنشق بمنخريه من الماء". ورواه البخاري (2/ 683) معلقًا بصيغة الجزم، بلفظ: "إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء"، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 167)، وقد تقدم تخريجه عند "مسلم" بلفظ: "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء"، وعند مسلم أيضًا (238) بلفظ: "من توضأ فليستنثر. قلت: وقد نسب ابن قدامة في "المغني" (1/ 83)، وابن كثير في "تفسيره" (2/ 24) لفظ: "من توضأ فليستنشق" إلى "الصحيحين"، ولم أره فيهما، وإنما ألفاظهم في الحديث ما سبق ذكره، والله أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ لْينتَثِر"، الانْتِثَارُ: هو دفع الماء للخروج من الأنف، مأخوذ من النثرة؛ وهي طرف الأنف، ومنهم من جعله جذبَ الماء إلى الأنف؛ وهو الاستنشاق، وقال: هو مشتركٌ بينهما، وهو قول ابن الأعرابي وابن قتيبة، وقال الخطابي: النُّثْرَةُ؛ هي الأنف (¬1)، وثبت في الصَّحيح أنّه صلى الله عليه وسلم استنشق واستنثر، فجمع بينهما، وذلك يقتضي التغاير. ومنهم من قال: سمَّى جذب الماء استنشاقًا بأوَّل الفعل، واستنثارًا بآخره؛ وهو استدعاء الماء بنفس الأنف للدخول والخروج. وقال الفرَّاء: يقال: نثر الرجل، وانتثر، واستنثر؛ إذا حرَّك النثرة في الطهارة (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتر". الاستجمار: مسحُ محل البول والغائط بالجِمار، وهي الأحجار، وحمله بعضهم على استعمال البَخُور للتطيُّب بالمجمر، فإنه يقال فيه: تجمَّر، واستَجْمَر، إمَّا بأَنْ يأخذَ ثلاث قطع من الطِّيب، أو يتطيَّب ثلاث مرات، واحدة بعد أخرى، والأظهر الأوَّل. والإيتار: أنْ يكونَ الاستجمارُ بوتر، لكن هو عند الشَّافعي: لا يجوز بأقل من ثلاث، وإن حصل الإنقاء؛ لأنَّ الواجب عنده أمران: إزالة العين، واستيفاء ثلاث مسحات، فإن حصل الإنقاء بثلاث، فلا زيادة، وإن لم يحصل، وجبت الزيادة. وهذا الحديث يدل على وجوب الإيتار، لكن بالثلاث من دليل آخر؛ وهو نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بأقل من ثلاث (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 160)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 136)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 14). (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 191)، (مادة: نثر). (¬3) رواه مسلم (262)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، عن سلمان - رضي الله عنه - بلفظ:=

وقوله: "منخريه": هو -بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة، وبكسرهما جميعًا-، لغتان معروفتان (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّ أَحَدَكَمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" هو بيان لسبب الأمر بالغسل عند استيقاظه من النوم، وحكمة معناه؛ أنه لا يأمن نجاسة يده بطوافها حال نومه على بدنه، فيصادف بثرة، أو قتل قملة، أو قذرًا، أو نحو ذلك. قال الشَّافعي وغيره من العلماء -رحمهم الله-: وأهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار غالبًا، وبلادهم حارَّة، فإذا نام أحدهم، عرق، فلا يأمن أَنْ تطوفَ يده على ذلك الموضع النجس، فإذا وضعها في الماء القليل، نجّسته، والماء غالبًا إِنَّما يكون في الأواني، والغالب فيها القلة (¬2). أما أحكام الحديث: فقد تمسَّك به من قال بوجوب الاسْتِنشَاق؛ وهو مذهب أحمد، وقال مالك، والشافعي، وغيرهما بعدم الوجوب، وحملوا الأمر على الاستحباب؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم -فيما روي- للأعرابي: "تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ الله" (¬3)، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق، ولأن المأمور به حقيقة إنَّما هو الانتثار، وليس هو بواجب بالاتفاق. وفيه دليل على وجوب الإيتار في الاستجمار، أمَّا بالثلاث، فمن دليل خارج. واعلم أن المراد بالإيتار أَنْ يكونَ عدد المسحات ثلاثًا، أو خمسًا، أو فوق ¬

_ = "نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ...... " الحديث. (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 198). (¬2) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (3/ 179). (¬3) رواه أبو داود (861)، كتاب: الصلاة، باب: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (302)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، وقال: حسن، وابن خزيمة في "صحيحه" (545)، من حديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -.

ذلك مِن الأوتار؛ ومذهب الشَّافعي أنه فيما زاد على الثلاث مستحب، قال أصحاب الشَّافعي: إن حصل الإنقاء بثلاث، فلا زيادة، وإن لم يحصل، وجبت، ثمَّ إن حصل بوتر، فلا زيادة، وإن حصل بشفع؛ كأربع أو ست، استحب الإيتار. وقال بعض أصحابنا: يجب الإيتار مطلقا؛ لظاهر هذا الحديث، وحجة الجمهور الحديث الصَّحيح في السُّنن: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيوترْ، مَنْ فَعَلَ، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لا، فَلا حَرَجَ" (¬1) حملًا له على ما زاد على الثلاث، وجمعًا بينه وبين حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن أَنْ يستنجيَ بأقل من ثلاثة أحجار (¬2)، والله أعلم. وفيه دليل على أَنَّ شرعيةَ غسل اليدين وكراهةَ غمسهما في الإناء قبل غسلهما في الوضوء ليس مختصًّا بنوم الليل، بل لا فرق فيه بين نوم اللَّيل والنَّهار؛ لإطلاقه صلى الله عليه وسلم النومَ من غير تقييد. وقال أحمد: يختص بنوم اللَّيل دون النَّهار؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، والمبيت لا يكون إلا باللَّيل، وقد صح أيضًا مقيدًا بالليل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ"، رواه البخاريُّ ومسلم وأبو داود (¬3)، وعنه رواية أخرى: أَن كراهةَ الغمس إن كان من نومِ اللَّيل فهي للتحريم، وإن كان في النهار، فهي للتنزيه، لكنَّه محمول على الغالب، لا للتقييد، كيف وقد علَّل صلى الله عليه وسلم بأمر يقتضي ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (35)، كتاب: الطهارة، باب: الاستتار عند الخلاء، وابن ماجه (337)، كتاب: الطهارة، باب: الارتياد للغائط والبول، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 371)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. والحديث عند البخاري (159)، ومسلم (237) دون الزيادة "من فعل فقد أحسن ..... " الحديث. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وترًا، ومسلم (278)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، وأبو داود (103)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهذا لفظ أبي داود.

الشَّك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فَإنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، فدلَّ على أن اللَّيل والنوم ليس مقصودًا بالتقييد. وقال جماعة من العلماء: يجبُ غسلُ اليدين قبل إدخالهما الإناء في ابتداء الوضوء عند الاستيقاظ من النوم؛ أخذًا من الأمر؛ لظهوره في الوجوب. وقال مالك والشَّافعي والجمهور: لا يجب، والأمر أمرُ ندب؛ لحديث الأعرابي، وليس فيه غسل اليدين في ابتداء الوضوء، ولأن الأمر يصرف عن الوجوب عند الإطلاق؛ لقرينة ودليل (¬1)، وهي هنا تعليله صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الشَّك في نجاسة اليد، وقواعد الشَّرع تقتضي أنَّ الشَّك لا يقتضي وجوبًا في الحكم إذا كان الأصلُ المستصحبُ على خلافه موجودًا، ولا تحصل الطهارة في اليد والماء، فليستصحب (¬2)، ودليلهم على ندبيته في الوضوء مطلقًا وروده في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لسبق نوم، والمعنى المعلَّل به في الحديث هو جَوَلان اليد حال اليقظة، فيعم الحكم؛ لعموم عِلَّتِه، ولو خالف وغمس يده، لم يأثمِ الغامس، ولم يفسدِ الماء؛ وحكي عن الحسن البصريِّ: أنَّه ينجُسُ الماءُ في القيام من نومِ اللَّيل، وهي رواية ضعيفة عن أحمد، ونقل عن إسحاق بن راهويه، ومحمَّد بنِ جرير الطبريِّ، وهو ضعيف جدًّا؛ لأصل الطَّهارة في الماء واليد، وعدم التنجس بالشَّك، ولا يمكن أَنْ يقال: الظاهر في اليد النجاسة. وفيه دليل على كراهة غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثًا إذا قام من النوم، وأمَّا غير المستيقظ، فيُسْتَحبُّ له غسلُها قبل إدخالها في الإناء؛ لأَنَّ صيغة النَّهي تقتضي الكراهة على أقل الدَّرجات، ولا يلزم من الكراهة في الشَّيء الاستحباب في غيره؛ لعدم التلازم بينهما؛ بدليل عكسه في صلاة الضُّحَى؛ فإنَّ فعلَها مستحبٌّ، وتركَها غيرُ مكروهٍ، فكذلك غسلهما للمستيقظ قبل إدخالهما الإناء من المستحبات، وتركه له من المكروهات، وبذلك فرَّقَ أصحاب الشَّافعي بين المستيقظ وغيره. ¬

_ (¬1) في "ح": "ولأن الأمر لا يصرف عن الوجوب عند الإطلاق إلا بدليل لقرينة ودليل". (¬2) في "ح": " ... موجودًا، أو الأصل الطهارة في اليد والماء، فلتستصحب".

وفيه دليل على الفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها عليه، فإذا ورد عليها الماء، أزالها، وإذا وردت عليه، نجَّسته إذا كان قليلًا؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إيرادها عليه، وأمره بإيراده عليها، وذلك يقتضي أَنَّ ملاقاةَ النجاسةِ إذا كان الماءُ واردًا عليها غيرُ مفسدٍ له، وإلَّا لَمَا حَصَلَ المقصودُ من التطْهيرِ. وفيه دليل على أنَّ الماءَ القليلَ ينجسُ بملاقاةِ النجاسة ووقوعها فيه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم إذا مَنَعَ من إِدخالِ اليد فيه لاحتمالِ النجاسة، فمع تَيَقُّنِها أولى، لَكِنْ قَدْ يعترض على هذا بأنَّ مطلق التَّاثير (¬1) لا يلزم منه التَّأثيرُ بالتَّنْجيس، ولا يلزم من ثبوت الأعمِّ ثبوتُ الأخصِّ المعين، فثبت مطلق التَّأثير، ولم يثبت خصوص التأثير بالتنجيس. وأورد أَنَّ الكراهةَ ثابتةٌ عند التوهُّم، فلا يلزم أَنْ يكونَ أثر اليقين هو الكراهة. وأُجِيبَ بأنه يثبتُ عند اليقين زيادة في رتبة الكراهة -والله أعلم-. وفيه دليل على كراهة غمس اليدين في الإناء قبل غسلهما ثلاثا، سواء كان ما في الإناء ماءً قليلًا، أو طعامًا، أو غيره من الأشياء الرَّطبة. وفيه دليل على استحباب التَّثليث في غسل النجاسة؛ لأنه إذا أمر به في المتوهَّمة، ففي المحقَّقة أولى. وفيه دليل على رد ما يقوله أحمد أَن الغسل سبعًا عام في جميع النَّجاسات؛ لتنصيصه صلى الله عليه وسلم على التثليث، والتَّسبيعُ خاصٌّ في ولوغِ الكلب. وفيه دليل على أنَّ النَّجاسة المتوهَّمة يُستحبُّ الغسلُ فيها دون الرَّشِّ؛ للأمر بالغسل دون الرَّش؛ فإنه في بولِ الرَّضيع الَّذي لم يَطعمْ، وفي اللِّباس ونحوه إذا توسوس فيه. وفيه دليل على استحباب استعمال ألفاظ الكنايات فيما يُتحاشى من ذكره؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، ولم يقلْ: فلعلَه وقَعَتْ يَدُه على دُبُرِه، أو ذَكَره، أو نجاسةٍ، أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) في "ح": زيادة: "بالمنع".

الحديث الخامس

وفيه دليل على العفو عن أثرِ النَّجَاسة في محلِّها، وإذا انتقل منه لم يعْفَ عنه، وهذا كله إذا شكَّ في نجاسة يده، فلو تيقنَ طهارتها بطريقة، وأرادَ غمسها قبل غسلها، فقد قال جماعة من أصحاب الشَّافعي: حكمه حكم الشَّك؛ لأن أسباب النجاسة قد تخفى في حق معظم النَّاس، فيجري عليه حكمه؛ لئلا يتساهل فيه من لا يعرف، والأصح الذي عليه جمهورهم أنه لا يكره، بل هو بالخيار بين الغمس أولًا والغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النوم ونبَّه على العِلَّة، وهو الشَّك، فإذا انتفت العِلَّة، انتفت الكراهة. ولو كان النهى عامًّا، لقال: إذا أرادَ أحدُكم استعمالَ الماءِ، فلا يغمسْ يدَه حتى يغسلها، وكان أعمَّ وأحسن -والله أعلم-. وفي الحديث دليل على استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها عند الاشتباه والشَّك ما لم يخرجْ إلى حد الوسوسة -والله أعلم-. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولَنَّ أَحَدُكُمْ في المَاء الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثم يَغْتَسِل مِنْهُ" (¬1)، ولمسلم: "لا يَغْتَسِلْ أحَدُكمْ في المَاء الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" (¬2). الماء الدائم: هو الرَّاكد، ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم: "الذي لا يَجْرِي"، ويوضح معناه، ويحتمل أنه ذكرَه للاحترازِ من المياه التي يجري بعضها دون بعض؛ كالبركة، ونحوها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْه" الرواية: "يغتسلُ" بالرَّفع؛ أي: هو يغتسلُ منه؛ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (236)، كتاب: الوضوء، باب: البول في الماء الدائم، ومسلم (282)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد. (¬2) رواه مسلم (283)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاغتسال في الماء الراكد.

أي: شأنه الاغتسال منه، ومعناه: النهي عن البول فيه، سواء أراد الاغتسال منه، أو لا. وقيل: يجوز جزمه على النهي، ونصبُه على تقدير أَنْ، أو تكون ثمَّ بمعنى الواو للجمع؛ كقوله: لا تأكل السمكَ وتشرب اللبنَ؛ أي: لا تجمعْ بينهما، وهو فاسد المعنى هنا؛ فإنه يقتضي النَّهي عن الجمع بين البول وإرادة الاغتسال، أو نفس الاغتسال، وليس ذلك مرادًا بالإجماع، بل البول في الماء الراكد منهي عنه على إفراده، والاغتسال فيه منهي عنه على انفراده، سواء كان كثيرًا أو قليلًا، وقد رواهما أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح، ولفظه: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ، ولا يغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الجَنَابة" (¬1)، لَكِنْ إِنْ كان كثيرًا، كان نهيَ تنزيه في الغسل، ونهيَ تحريم في البول؛ لما يلزم منه من تقذيره أو إفساده. ووقع هنا "يغتسل منه" بالميم، وهي رواية مسلم، ورواية البخاريُّ "فيه" بالفاء، ومعناهما مختلف يفيد كل واحدٍ منهما حكمًا بطريق النَّص، ولو لمْ يَرِدْ، لاستوى الحكم فيه بالنسبة إلى الوضوء والغسل، وهو مختلف فيهما، فيجوزان بالأخذ من الماء الدَّائم واستعماله خارجًا عنه دون التوضؤ والاغتسال فيه نفسه لفهم المعنى المقصود، وهو التنزه عن التقرب إلى الله تعالى بالمستقذرات، ولهذا استوى المعنى في الوضوء والغسل، وقد ورد النهي عن الوضوء في بعض الروايات مصرَّحا به -والله أعلم-. وسُمِّي الجنب؛ لبعده عن المسجد والقرآن؛ ولمَّا بَعُدَ عنهما، أُمر بالإبعاد عن الماء الدَّائم؛ لئلا يقذره كما يقذره البول، ويقال للرَّجل: جنب، وللمرأة، وللاثنين، والجمع، كله بلفظ واحد، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6]. وأما حكم البول في الماء الراكد، فمقتضاه النهيُّ فيه للتَّحريم مطلقًا، وبه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (70)، كتاب: الطهارة، باب: البول في الماء الراكد، وابن ماجه (605)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب ينغمس في الماء الدائم، أيجزيه؟ ورواه أيضًا النسائي (398)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، وهذا لفظ أبي داود.

استدلَّ أبوحنيفة على تنجيس الغدير ائَذي يتحرك طرفُه بتحرك الطَّرف الآخر؛ بوقوع النجاسة فيه، فإِن الصيغة صيغةُ عموم، وهو عند الشَّافعية وغيرهم محمول على ما دونَ القلَّتين، وعدم تنجيس القلَّتين فما زاد إلا بالتغير مأخوذ من حديث القلَّتين؛ جمعًا بين الحديثين؛ فحديث القلَّتين خاص، وهذا الحديث مقتضاه العموم، والخاص مقدَّم على العام. ولأحمد - رحمه الله - طريقة أخرى، وهي الفرق بين بول الآدمي وما في معناه من العذرة المائعة وغير ذلك من النجاسات، فأمَّا بول الآدمي وما في معناه، فينجِّس الماءَ، وإن كان أكثر من قلَّتين، وأمَّا غيرُه من النجاسات، فيعتبر فيه القلَّتان، وكأنه رأى [أن] الخبث المذكور في حديث القلَّتين عامٌّ بالنسبة إلى الأنجاس، وهذا الحديث خاص بالنِّسبة إلى بول الآدمي، فقدَّم الخاصَّ على العام بالنسبة إلى النجاسات الواقعة في الماء الكثير، ويخرج بولُ الصَّبِيِّ (¬1) وما في معناه من جملة النجاسات الواقعة في القلَّتين؛ لخصوصه، فينجس الماء دون غيره من النَّجاسات، ويلحق بالبول المنصوص عليه ما يُعْلَمُ أنه في معناه. ومالك - رحمه الله - حمل النَّهيَ على الكراهة للتَّنزيه مطلقًا؛ لاعتقاده أَن الماءَ لا يَنْجُسُ إلا بالتغير بالنجاسة، فخرج بالحديث عن الظَّاهر عند الكل بالتخصيص أو التقييد؛ للإجماع على أن الماء الكثيرَ المستبحِرَ لا تؤثر فيه النجاسة، وأنه إذا غيرته النجاسةُ (¬2)، ولو كان يسيرًا، امتنع استعماله: فللحنفية أن يقولوا: خرج عن المستبحر الكثير بالإجماع، فيبقى فيما عداه على حكم النص، فيدخل تحته ما زاد على القلَّتين. وللشافعية أَنْ يقولوا بقولِ أبي حنيفة: في خروج المستبحر للإجماع، ويخرج القلَّتان فيما زاد بمقتضى حديث القلَّتين، فيبقى فيما عداه، وما نقص عن القلَّتين داخلًا تحت مقتضى الحديث. ¬

_ (¬1) في "ح": "الآدمي"، وهو الصواب. (¬2) في "ح": "غير بالنجاسة".

وللحنابلة أَنْ يقولوا: خرج ما ذكرتموه، وما دون القلَّتين داخل تحت نصِّ الحديث، وما زاد على القلَّتين عام في الأنجاس، فتخصَّصَ ببول الآدمي. ولمخالفهم أَنْ يقولَ: معلوم جزمًا أَنَّ النهي إنَّما هو لمعنى النَّجاسة، وعدم التَّقرب إلى الله تعالى بما خالطها، وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس، ولا يتجه فرق بين بول الآدمي وغيره في هذا المعنى، ولا يقال: إن بولَ الآدمي أشد استقذارًا من غيره من سائر النَّجاسات، فيكون أوقعَ وأنسبَ في المنع؛ فإنه ليس كذلك، بل قد يساوي غيره، أو يَرجح عليه غيره في الاستقذار والنفرة منه، فلا يبقى لتخصيصه معنًى في المنع دون غيره، فحينئذٍ يحمل الحديث على أنَّه وردَ من باب التنبيه على ما يشاركه في معناه من الاستقذار، وإذا وضح المعنى، شمل الكل، والجمود على خلافه ظاهرية محضة. وللمالكية أَنْ يقولوا: وجبَ إعمال الحديث فيما يمكن إعماله فيه من كراهة التنزيه في القليل والكثير مع وجود الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول، وذلك يلتفت إلى مسألة أصولية، وهي جواز حمل اللَّفظ الواحد على معنيين مختلفين، فإذا جعلنا النَّهي للتحريم، كان استعماله في كراهة التَّحريم والتنزيه، من باب استعمال اللَّفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والأكثرون على منعه، والشَّافعي وغيره يقولون بجوازه. وقد يقال: حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللَّفظ، فلا يلزم استعمال اللَّفظ في معنيين مختلفين، وهو متجه، إلَّا أَنَّه يلزم منه التَّخصيص في الحديث. وقد استدلَّ بعض العلماء برواية مسلم المذكورة على خروج الماء المستعمل عن التطهير به؛ إما لنجاسته كما نقل عن أبي حنيفة - رحمه الله -، ونقل عنه الرجوع عن ذلك، وإما لعدم طهوريته، قال: لأنَّ النَّهيَ واردٌ على مجرد الغسل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَغْتَسِلْ الحديث"، فدل على وقوع المفسدة بمجرده، ولا بدَّ في الحديث من التَّخصيص بحديث القلَّتين على مذهب الشَّافعي، أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة؛ فإن الاستعمالَ لا يؤثر فيه.

ومالك - رحمه الله - يرى الماءَ المستعملَ طهورًا، قل أو كثر، فحمل النَّهي على الكراهة كما تقدم، قال: لأَن الماءَ بعد استعماله باقٍ غير مختص بالتَّطهير، والحديث عام في النهي، وإذا حمل على كراهة التنزيه، كانت المفسدةُ عامةً؛ لأَنه لا يستقذر بعد الاغتسال فيه باستعماله في طهارة أو غيرها، فيستمر النَّهيُ، إلَّا أنَّ فيه حملَ النَّهي على المجاز، والأصل الحقيقة، وهو التَّحريم، فلا يظهر وجه الدَّلالة. وقد (¬1) تمسكت الظاهرية به في تخصيص النَّهي عن البول في الماء، حتى لو بالَ في كوزٍ وصبَّه في الماء، أو بالَ خارجَ الماءِ فجرى إليه، لم يضرَّ عندهم، وكذا قالوا في التغوُّطِ فيه: إِنه لا يضر، وكذا سائر النَّجاسات إذا وقعت فيه، وهو خلاف الإجماع، وأقبح ما نقل عنهم في الجمود؛ إذ العلم القطعي حاصل ببطلانه؛ لاستواء الحكم في الحصول في الماء على ما تقدم، وليس ذلك من مجال الظنون، بل هو مقطوع به، هذا ما يتعلق بالكلام على هذا الحديث، ومذاهب العلماء وتعلقهم بأحكامه وفوائده. وقد جعل أصحاب الشَّافعي - رحمهم الله - النّهي في هذا الحديث على اختلاف حالين؛ باعتبار قلَّة الماء وكثرته، وتغيُّره وعدم تغيُّره، فإن كان قليلًا، فهو للتحريم، تغير أم لمْ يتغيّر، جاريًا كان أو غيره، وحكى بعضهم فيه وجهًا: أَنَّه يُكْرَهُ إذا لمْ يتغيَّرْ، وإن كان كثيرًا وتغير فهو للتَّحريم، جاريًا كان أو غيره، وإن لم يتغيّر، كره، ولا يحرم، وإن كان راكدًا، ولو قيل: يحرم، لم يكن بعيدًا؛ لعموم النهي، وحمله على التَّحريم على المختار عند المحقِّقين من أصحاب الأصول، قال الشَّافعي - رحمه الله - في "البويطي": أكره للجنب أَنْ يغتسلَ في البئر، مَعِينَةً كانت أو دائمة، وفي الماء الرَّاكد، وسواء قليل الرَّاكد وكثيره، أكره الاغتسال فيه (¬2). وقال العلماء: يُكْرَهُ البولُ والتغوُّط بقرب الماء، وإِنْ لمْ يصلْ إليه؛ لعموم ¬

_ (¬1) "وقد": ليست في "ح". (¬2) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (3/ 189).

نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارِّين بالماء، ولما يخاف من وصوله إليه. وأمَّا انغماس مَنْ لم يستنجِ في الماء للاستنجاء، فإنْ كان قليلًا، فهو حرام، وإن كان كثيرًا جاريًا لا ينجس بوقوع النَّجاسة، فلا بأس به، وإِنْ كان راكدًا، فليس بحرام، ولا تظهَرُ كراهته؛ لأنه ليس في معنى البول، ولا يقاربه، ولو تركه، فهو حسن. وفي الحديث دليل على أن حكمَ الجاري مخالف لحكم الرَّاكد؛ لأنَّ الشَّيء إذا ذكر بأخص أوصافه، كان حكمُ ما عداه بخلافه، والمعنى فيه أَنَّ الجاري إذا خالطه النَّجس، دفعه الجزء الثاني الَّذي يتلوه منه، فيغلبه، فيصير في معنى المستهلك الَّذي لمْ يخالِطْهُ النَّجس، والماء الرَّاكدُ القليلُ لا يدفع النَّجس عن نفسه إذا خالطه، لكن يداخله، فمهما أرادَ استعمالَ شيءٍ منه، كان النَّجس فيه قائمًا، والماء في حدِّ القلَّة، فكان محرمًا، -والله أعلم-. وأما حكم الماء الَّذي انغمس فيه الجنب بعد انفصاله منه، فإن كان قلَّتين فصاعدًا، لم يصرْ مستعملًا، سواء اغتسل فيه واحدٌ متكررًا، أو جماعات في أوقات؛ وإن كان دون قلَّتين، فإِن انغمس فيه بغير نيَّة، ثمَّ لمَّا صار تحته، نوى، ارتفعت جنابته، وصار مستعملًا، وإنْ نزلَ فيه إلى ركبتيه مثلًا، ثم نوى قبل انغماس باقيه، صار الماءُ في الحال مستعملًا بالنِّسبة إلى غيره، وارتفعت الجنابة عن ذلك القدر المنغمس، بلا خلاف، وارتفعت -أيضًا- عن الباقي إذا تمَّم انغماسه على المذهب الصحيح المنصوص في مذهب الشَّافعي. وقال بعض الشَّافعية: لا يرتفع عن باقيه، هذا إذا تمَّم انغماسه من غير انفصال، فلو انفصل ثُمَّ عاد إليه، لم يجزئْه ما يغسله به بعد ذلك، بلا خلاف، ولو انغمس رجلان تحت الماء النَّاقص عن قلَّتين إِنْ تصورتم [أنهما] نويا دفعة واحدة، ارتفعت جنابتهما، وصار الماء مستعملًا، فإن نوى أحدهما قبل الآخر، ارتفعت جنابة النَّاوي، وصار الماء مستعملًا بالنسبة إلى رفيقه، فلا ترتفع جنابته

الحديث السادس

على المذهب الصَّحيح المشهور، وفيه وجهٌ شاذٌّ أَنَّها ترتفع، وإن نزلا فيه إلى ركبتيهما، فنويا، ارتفعت جنابتهما عن ذلك القدر، وصار مستعملًا، فلا يرتفع عن باقيهما، إلَّا على الوجه الشَّاذ، هذا تفصيل مذهب الشَّافعي في ذلك - والله أعلم - (¬1). * * * الحديث السادس عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا" (¬2)، ولمسلم: "أُولاهُنَّ بالترابِ" (¬3). وله في حديث عبد اللَّه بن مُغَفَّلٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإِنَاءِ، فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا، وعَفِّرُوهُ الثامِنةَ بالتُّرابِ" (¬4). أمَّا أبو هريرة، فتقدَّم في الحديث الثاني. وأمَّا عبد الله بن مُغَفَّل، فكنيته أبو سعيد، وقيل: أبو عبد الرَّحمن، وقيل: أبو زياد، وأبوه مُغَفَّل صحابي -أيضًا-، ويقال: المُغَفَّل: بالألف واللام، ذكره مسلم في "صحيحه"، فيقال: رضي الله عنهما عند قراءتهما وكتابتهما، وهو بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الفاء المشدَّدة، ثم لام، ويشتبه بمُعْفِل -بضم الميم وسكون العين وكسر الفاء مخففة - والد هبيب الصَّحابي الغِفَاري، وبمَعْقِل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وبالقاف المكسورة- جماعة من الصَّحابة - رضي الله عنهم -، وبمُعَقَّل -بضم الميم وفتح العين المهملة وبالقاف ¬

_ (¬1) قلت: رحم الله الإمام الغزالي إذ يقول في "الإحياء": وددت لو أن مذهب إمامنا الشافعي - رحمه الله - كان كمذهب مالك. (¬2) رواه البخاري (170)، كتاب: الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، ومسلم (279)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، وهذا لفظ البخاري. (¬3) رواه مسلم (279)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، بلفظ: "طهور إناء أحدكم ..... ". (¬4) رواه مسلم (280)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب.

المفتوحة المشدَّدة -والد عبد الله بن المعقَّل مذكور في "نسب تنوخ" لمحسِّن بن علي التَّنوخي. وولد لعبد الله بن مغفَّل: زيادٌ، ومغفلٌ، وحسَّانُ. قال ابن عبد البرَّ: وكان له سبعة أولاد، وهو عبد الله بن مغفل بن عبد نُهْم -بضم النُّون -، ويقال: عبد عَنْم -بفتح العين وسكون النون-، ابن عفيف بن أسيحم بن ربيعة بن عديِّ بن عوف بن ذُوَيد -بضمِّ الذال المعجمة وفتح الواو وسكون الياء المثناة تحت ثُمَّ دال مهملة- بن سعد بن عداء بن عمرو بن عثمان المزني، من مزينة مضر، بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشَّجرة، وقال: إنِّي لَمَنْ رفع أغصانَ الشَّجرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب (¬1). قال الحسن -وهو أروى النَّاس عنه-: كان عبد الله بن مغفل أحدَ العشرة الذين بعثهم عمر إلينا يفقَهون النَّاس، وكان من نقباء أصحابه، وكان سكن المدينة، ثم تحوَّل إلى البصرة، وابْتَنَى بها دارًا قرب المسجد الجامع. وقال معاوية بن قرة: أول من دخل باب مدينة "تستر" عبد الله بن مغفل المزني، يعني: يوم فتحها. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثًا، اتفقا منها على أربعة، وانفرد البخاريُّ بحديثٍ، ومسلم بآخر، روى عنه جماعة من التابعين، وروى له البخاريُّ ومسلم وأبو داود، والتّرمذي والنَّسائي، وابن ماجه، ومات بالبصرة سنة ستّين، وقيل: إحدى وستِّين، وقيل: تسع وخمسين، في آخر خلافة معاوية، في ولاية عبيد الله بن زياد، وأمر ألا يصلي عليه ابن زياد، وأمر ابن زياد بأن يصلّي عليه أبو برزة الأسلمي، وصلَّى عليه، وقيل: صلَّى عليه عابد بن عمرو - والله أعلم - (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1489)، كتاب: الأحكام والفوائد، باب: ما جاء من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره، وقال: حسن، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 54)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (5460)، والروياني في "مسنده" (909)، وغيرهم. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 23)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر=

أما لفظه: فقوله: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإِنَاءِ" وَلَغَ -بفتح اللام- يَلَغُ -بفتحها أيضًا-، وحكى ابنُ الأعرابي كسرها في الماضي، ومصدرهما وَلغْ، ووُلوغ، وأولغه صاحبُه، وهو أن يُدخل لسانَه في المائع فيحرِّكَه، ولا يقال: ولغ بشيء من جوارحه غيرِ اللِّسان، والولوغ للكلب وسائر السِّباع، ولا يكون لشيء من الطَّير إلا الذباب (¬1). وقال الجوهريُّ: قال أبو زيد: وَلغَ الكلبُ بشرابِنا، وفي شرابنا، ومن شرابنا (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَعَفِّرُوهُ الثامِنةَ بِالتراب"، التعفير: التمريغ، ومعناه: مرِّغوه بالتُّراب (¬3)، وقال صاحب "المطالع" (¬4): عفِّروه: اغسلوه بالتراب؛ أي: مع الماء (¬5)، ويقال منه: عَفَره -مخفف الفاء - يعفِرُه عَفْرًا، وعَفَّرَهُ تعفيرًا؛ أي: مرَّغه، والتراب معروف؛ وهو اسمُ جنس لا يثنى ولا يجمع، وقال المبرد: هو جمع واحدته ترابة، وله خمسة عشر اسمًا ذكرها ابن النَّحاس لا حاجة إلى ذكرها هنا (¬6). ¬

_ = (3/ 996)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 680)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 395)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 271)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 483)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 242)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 38)، و"التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة" للسخاوي (2/ 95). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 225)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 460)، (مادة: ولغ). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1329)، (مادة: ولغ). (¬3) انظر: "المُغْرب" للمطرزي (2/ 69)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 261)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 583)، (مادة: عفر). (¬4) لابن قرقول. (¬5) انظر: "مشارف الأنوار" للقاضي عياض (2/ 97). (¬6) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 42)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 227)، (مادة: ترب).

أما أحكامه: ففيه الأمر بغسل ما شرب منه الكلب أو ولغ، وهو ظاهر في تنجيس الإناء المولوغ فيه، سواء كان طعامًا مائعًا، أو غيره من المائعات. وأقوى من هذا الحديث في الدَّلالة رواية مسلم في "صحيحه": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فيهِ الْكَلْبُ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا" (¬1)؛ لأن لفظة "طهور" معناها: مطهر، والمطهر إمَّا أَنْ يطهِّر الحدث، أو النَّجس، ولا حدث في الإناء وما فيه، ضرورةً، فتعين النَّجس، وهو مذهب الشَّافعي وجمهور العلماء. وقال بعضهم: المراد: الطهارة اللُّغوية، وهي التنزه عما يُستقذر عادةً لا حكما، ورُدَّ عليه بأَنَّ حملَ اللَّفظ على الحقيقة الشَّرعية مقدَّم على اللُّغويَّة والعرفيَّة، كيف ولا تعارض يقتضيهما؟ وحمل مالك - رحمه الله - هذا الأمر على التَّعبُّد؛ لاعتقاده طهارة الماء والإناء، وربما رجَّحه أصحابه بذكر هذا العدد المخصوص، وهو السَّبع؛ لأَنَّه لو كان للنَّجاسة، لاكتفى بما دون الشَّبع؛ فإنَّه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة، وقد اكتفي فيها بما دون السبع، والحمل على التَّنجيس أولى؛ لأنه متى دار الحكم بين التَّعبد وبين كونه معقولَ المعنى، كان حكمه على معقول المعنى أولى؛ لندرة التَّعبد في الأحكام المعقولة المعنى، وكونُه ليسَ بأغلظ من نجاسة العذرة ممنوعٌ عند القائل بنجاسته، وليس بأقذر منها، والتغليظ لا يتوقف على زيادة الاستقذار، لكن إذا كان أصل المعنى معقولًا، تعين القول به، وإذا وقع في التَّفاصيل ما لا يعقل، اتُّبع في التَّفصيل، ولا ينقض له التأصيل، ولو لم تظهرْ زيادةُ التغليظ في نجاسته، لاقتصر على التَّعبد بالعدد، ورجع في أصل المعنى على معقوليته، وإذا ثبت أن الأمرَ بغسله سبعًا للنجاسة، استدل به على نجاسة عين الكلب، إمَّا لنجاسة لعابه المتصل بفمه؛ لكونه جزءًا منه، وفمُه أشرف ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ما فيه، وهو نجس، فكله نجس، أو لكون اللُّعاب نجسًا، وهو عَرَقُ الفم، فعرقه كله نجس، وهو متحلب من البدن، فجميعه نجس. فتبين من الحديث الدَّلالة على نجاسته فيما يتعلق بالفم، وفي باقي البدن بالاستنباط، وفيه بحث، وهو أن يقال: إنما دلَّ الدَّليل على نجاسة الإناء بسبب الولوغ، وذلك قدر مشترك بين نجاسة عين اللُّعاب والفم، أو تنجسهما باستعمال النَّجاسة غالبًا، والدَّال على المشترك لا يدل على أحد الخاصين، فلا يدل على نجاسة عين الفم أو اللُّعاب، فلا تتم الدَّلالة على نجاسة عين الكلب. واعترض على ذلك بأَنَّه لو [كانت] العلَّة تنْجيسَ أحدهما، لزمَ أحدُ أمرين: إِمَّا تخصيص العموم، أو ثبوت الحكم بدون علَّته؛ لأنَّه لو فرض تطهير فمه بماءٍ كثيرٍ، أو بأيِّ وجه، فولغ في الإناء، فإمَّا أَنْ يجبَ غسلُه أولًا، أو لا، فَإِنْ لم يجبْ، لزم تخصيصُ العموم، أو ثبوتُ الحكم بدون علَّته، وكلاهما خلاف الأصل. وأجيب عنه بأن الحكم منوطٌ بالغالب، والمذكور من الصُّور نادر، فلا يلتفت إليه، وهذا كلُّه يقوَّي أَنَّ الغسل وتغليظه لأجل قذارته، وهي النجاسة. وقد استدل على نجاسة الكلب -أيضًا- بأن المولوغ فيه قد أمرنا بإراقته؛ ففي "صحيح مسلم" مرفوعًا: "أَنَّهُ إِذَا وَلَغَهُ، فَلْيُرِقْهُ، وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا" (¬1)، ولو كان طاهرًا، لم يأمر بإراقته، فدلّ على نجاسته؛ لنجاسة الكلب، مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. وإذا ثبت نجاسة الكلب، فهو عام في كل كلب؛ لعموم اللَّفظ، وهو مذهب جمهور العلماء، سواء كان مما يجوز اقتناؤه، وسواء كلب البدوي والحضري. وفي مذهب مالك أقوال: أحدها: كمذهب الجمهور في نجاسته. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (279)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب.

والثَّاني: طهارته، وإليه ذهب بعض أهل الطاهر، وقالوا: غسله تعبد. وتقدم فساده. والثالث: طهارة المأذون في اتِّخاذه دون غيره. وهذه الأقوال الثَّلاثة عن مالك. وحكى الخطابي عنه قولًا رابعًا: أنَّه إذا لم يجدْ ماءً غيره، توضأ به، وبه قال الثوري، لكن قال: ثُمَّ يتيمَّم بعده. وقال عبد الملك بن الماجشون المالكي: كلبُ البدوي غيرُ نجس، وكلب الحضري نجس. والأظهر العموم؛ لأنَّ الألف واللام إذا لم يقمْ دليل على صرفها إلى المعهود المعين، فهي للعموم، ومَنْ يرى الخصوصَ يَصْرِفهُ عنه بقرينة أنهم نُهوا عن اتخاذ الكلاب إلا لوجوه مخصوصة، والأمر بالغسل مع المخالطة عقوبة يناسبها الاختصاص بمن ارتكب النَّهي في اتخاذ ما منع من اتخاذه، فإيجاب الغسل مع المخالطة عسر وحرج، ولا يناسبه الإذن والإباحة في الاتخاذ، وهذا يتوقف على وجود القرينة عند الأمر بالغسل. وفيه دليل على عموم الإناء، والأمر بغسله للنَّجاسة، وذلك بتنجيس ما فيه، فيقتضي المنع من استعماله. وفي مذهب مالك قول أَن ذلك يختصُّ بالماء دون الطعام، وقد ورد الأمر بالإراقة مطلقا في الرِّوايات الصَّحيحة، وظاهره للوجوب. وفي مذهب مالك قول للنَّدب، وكأنَّه لما اعتقد طهارة الكلب بالدَّليل الَّذي دلَّه عليه، جعله صارفًا له من الوجوب إلى النَّدب، والأمر قد يصرف عن ظاهره بدليل. واتفق أصحابُ الشَّافعي على الأمر بالإراقة، لكن اختلفوا، هل هي واجبة لعينها فتجب على الفور، أم لا تجب الإراقةُ إلا إذا أراد استعمال الإناء؟.

حكى الأول الماوردي في "الحاوي" (¬1)، ويحتجُّ له بمطلق الأول، وهو يقتضي الوجوب على المختار، وهو قول أكثر الفقهاء. وبالثاني قال أكثر أصحاب الشَّافعي، لكنهم قالوا: الإراقة مستحبة، لكن إذا أراد استعمال الإناء، أراقه، واحتجُّوا بالقياس على سائر النَّجاسات؛ فإنه لا تجب إراقتها، بلا خلاف، ويمكن أَنْ يُجَابَ عن ذلك بأَنَ المرادَ في الولوغ الرجرُ والتغليظُ والمبالغةُ في التَّنفير عن الكلاب. وفي الحديث دليل نصًّا (¬2) على اعتبار السَّبع في عدد الغسلات، وهو مذهب الشَّافعي، ومالك، وأحمد، والجماهير (¬3)، وفيه ردٌّ على أبي حنيفة - رحمه الله - في قوله: تغسل ثلاثًا، وكأنَّه لم يبلغْه هذا الحديث. ونقل بعض العلماء عن أبي حنيفة وأصحابه: أنه يغسل حتى يغلب على الظن طهارتُه، والعدد لا يعتبر. وفيه دليل على وجوب التَّعفير بالتراب، وبه قال الشَّافعي وأصحاب الحديث. وليست في رواية مالك هذه الزيادةُ من ذكر التراب، فلم يقل بها، لكنَّ الزيادة من الثِّقة مقبولة، وهي رواية الشَّافعي والجمهور من المحدّثين، وقالوا بها، ومعلوم أن التراب إنَّما ضُمَّ إلى الماء استظهارًا في التطهير، وتوكيدًا له؛ لغلظ نجاسة الكلب؛ فقد عُقل أن الأُشنان وما أشبهه من الأشياء التي فيها قوَّة الجِلاء والتطهير بمنزلة التراب في الجواز، وذكر أصحاب الشَّافعي - رحمهم الله - في الجصِّ والصَّابون والأُشنان بدلَ التراب ثلاثةَ أقوال: أظهرها: لا يقوم مقامه؛ لظاهر الخبر، ولأنها طهارة متعلقة بالتراب، فلا يقوم غيره مقامه؛ كالتيمم. ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 304 - 305). (¬2) "نصًّا" ساقطة من "ش". (¬3) "الجماهير" ساقطة من "ش".

والثَّاني: يقوم مقامه؛ كالدِّباغ يقوم غَيْرُ الشَّبِّ والقُرظِ مقامَهما، وكالاستنجاء يقوم فيه غيرُ الحجارة مقامَها. والثالث: إِنْ وجدَ الترابَ، لم يَعْدِلْ إلى غيره، وإِنْ لم يجدْه، جازَ العدول إلى غيره للضرورة، وإن كان يقوم مقامه. ومن أصحاب الشَّافعي مَنْ قالَ: يجوز إقامة غير التُّراب مقام التراب فيما يفسد باستعماله؛ كالثِّياب، فلا يجوز فيما لا يفسد؛ كالأواني. وهذه المسألة مبنيَّة على أصل، وهو أَن التعفير لماذا رُوعي؟ اختلف أصحاب الشَّافعي فيه على أوجه: أحدها: للتعبد يتبع فيه النقل، وقيل: للاستطهار بغير الماء، وقيل: للجمع بين نوعي الطهور: الماء والتُّراب، فعلى الأوَّل والثالث: لا يكفي استعمال غير التُّراب، ولا الغسلة الثامنة، ولا التُّراب النَّجس، ولا المزج بسائر النجاسات المائعات، وعلى الثاني: يجوز؛ لأَنَّه قد استطهر، وهذا كله معانٍ مستنبطة ليس فيها سوى مجرد مناسبة ليست بأمرٍ قويٍّ، فإذا دخلها الاحتمال، رجع إلى النصِّ، وأيضًا -فالمعنى المستنبط إذا عاد على النَّص بإبطالٍ أو تخصيصٍ، مردودٌ عند جميع الأصوليين - والله أعلم -. وفيه دليل على أَن غسلة التتريب تحصل بالأولى، وهي أولى عند الشَّافعي، قال أصحابه: يُستحب أَنْ يكونَ التُّراب في غير الأخيرة لنأتي عليه بما ينظفه (¬1)، والأفضل أَنْ يكونَ في الأولى، ويحصل -أيضًا- بكلِّ مرَّة من المرَّات؛ لأن الرِّوايات ثبتت بذلك، ففي بعضها: "أولاهن"؛ كما ذكره "المصنف"، وفي بعضها "أُخراهنَّ" وفي بعضها: "إحداهن" (¬2)، ويرجح جعله في الأولى؛ بأنه إذا ¬

_ (¬1) في "ح": "يقطعه". (¬2) رواه الترمذي (91)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الكلب، وقال: حسن صحيح، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 8)، وأبو عوانة في "مسنده" (542)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 158)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 241).

لَحِقَ بعضَ المواضع الطَّاهرة رشاشُ بعض الغسلات، لا يحتاج إلى تتريبهِ، وإذا أخرت، فلحق رشاشُ ما قبلها بعضَ المواضع، احتيج إلى تتريبه، فكانت الأولى أولى وأرفق بالمكلَّف. وفي حديثِ ابنِ مغفل دليلٌ على زيادةِ مرَّةٍ ثامنة ظاهرًا، وبه قالَ الحسنُ البصريُّ، وهو رواية عن مالك، وأحمد بن حنبل، وذكر أصحاب الشَّافعي أنَّه هل يقوم غسله ثامنةً بالماء مكانَ التراب؛ فيه وجهان، والحديثُ قويٌّ في المرَّة الثامنة، ومن تأول الحديث تأوَّلَهُ بتأويلٍ بعيدٍ. [قال صاحب "الشَّامل" (¬1): ويحمل الحديث على أَنَّه عَدَّ التراب ثامنة، وإن كان يوجد مع السَّبع؛ لأنه جنس آخر؛ جمعًا بين الخبرين] (¬2). وذكر صاحب "الحاوي" (¬3) في قدر التُّراب وجهين: أحدهما: ما يقع عليه الاسم. والثَّاني: ما يستوعب محلَّ الولوغ. وذكر بعض أصحاب الشَّافعي عنه: أنَّه لو جعل مكان التراب غيره من جصٍّ أو أُشنان، قولان، وأن محلَّهما مع عدم التُّراب، فأمَّا مع وجوده، فلا يجوز، قولًا واحدًا. ومنهم مَنْ قال: القولان في جميع الأحوال، وأنه إذا قلنا: غير التُّراب لا يقوم مقامه في الإناء، ففي الثوب وجهان. وفيه دليل على أنَّ ذرَّ التُّرابِ على المحل لا يكفي، بل لا بدَّ من خلطه بالماء، ثم إيصاله إلى المحل من إناءٍ أَو ثوبٍ، ووجهه أنَّه جعلَ مرَّة التَّتريب داخلة في ¬

_ (¬1) كتاب: "الشامل في فروع الشافعية" لأبي نصر عبد السيد بن محمد المعروف بابن الصباغ الشافعي المتوفى سنة (477 هـ)، وهو من أجود كتب الشافعية وأصحها نقلًا، وله شروح وتعليقات كثيرة. انظر: "كشف الظنون" (2/ 1025). (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ح". (¬3) انظر: "الحاوي" للماوردي (1/ 309).

مسمى الغسلات، وذرُّ التُّراب لا يسمى غسلًا، وفيه احتمال من حيث إنَّ ذرَّ التُّراب على المحل، وإتْبَاعَه الماء يصحُّ أَنْ يقالَ: غسل بالتُّراب، ولا بدَّ من مثل هذا في أمره - صلى الله عليه وسلم - في غسل الميت بماءٍ وسدرٍ عند من يرى أَنَّ المتغَير بالطَّاهر غيرُ طهورٍ، وإن جرى على ظاهر الحديث في الاكتفاء بغسلةٍ واحدةٍ؛ إذ بها يحصل مسمى الغسل، إلا أنَّ قوله: "وَعَفِّرُوه" قد يشعر بالاكتفاء بالتَّتريب بطريق ذرِّ التُّراب على المحلِّ، وإِنْ كانَ بخلطه بالماء لا يُنافي كونَه تعفيرًا لغةً، فلا ينافي ما قالوه؛ لإطلاقِ ذرِّ التُّراب على المحل، وعلى إيصاله بالماء إليه، والحديث إِنْ دلَّ على اعتبارِ مسمى الغسلة، دلَّ على خلطه بالماء، وإيصاله إلى المحل، وذلك أمرٌ زائدٌ على مطلق التعفير على تقدير شموله للصُّورتين: ذرِّ التُّراب، وإيصاله بالماء. وفيه دليل على أنَّ الماءَ القليلَ إذا حلَّت به نجاسةٌ، فَسَد. وفيه دليل على تحريم بيع الكلب إذا كان نجس الذات، فصار كسائر النَّجاسات. واعلم أَنَّه لا فرقَ في مذهب الشَّافعي بين ولوغِ الكلبِ وغيرِه من أجزائه؛ كدمه وبوله وروثه وعرقه وشعره ولعابه، أو عضو من أعضائه إذا كان رطبًا، أو أصاب شيئًا رطبًا في حال رطوبتِه ويُبوسةِ أجزائهِ، فإِنَّه يجبُ غسلُه سبعَ مراتٍ إحداهنَّ بالتُّراب. ولو ولغَ كلبٌ مراتٍ، أو كلبان (¬1) في إناءٍ، ففيه أوجه، الصَّحيح: أنَّه يكفيه للجميع سبعُ مراتٍ، وقيل: يلزمه لكلِّ وَلْغَةٍ سبعٌ، وقيل: يكفيه لو لغاتِ الكلبِ الواحدِ سبعٌ، ولكلِّ كلبٍ سبعٌ، ولو وقع في الإناء المولوغ فيه نجاسة أخرى، كفى سبع، ولو كانت نجاسة الكلب دمه أو روثه، فلم يزلْ إلَّا بستِّ غسلاتٍ مثلًا، فهل يحسب ذلك غسلة أم ستًّا، أم لا يحسب شيئًا؟ أوجه، أصحها: غسلةً. ¬

_ (¬1) في "ح": "كلاب".

الحديث السابع

ولو ولغ في ماءٍ كثيرٍ بحيث لم ينقصْ بولوغه عن قلَّتين، لم ينجسْه، ولو ولغ في ماءٍ قليل، أو طعام، فأصاب ذلك الماءُ والطعامُ ثوبًا أو بدنًا أو إناءً آخر، وجب غسله سبعًا، إحداهنَّ بالتُّراب، ولو ولغ في إناءٍ فيه طعام جامد، أُلقي ما أصابه وما حوله، وانتُفع بالباقي على طهارته السَّابقة؛ كما في الفأرة تموتُ في السَّمن الجامد - والله أعلم -. * * * الحديث السابع عن حُمْرَانَ مولى عُثمَانَ بنِ عفانَ - رضي الله عَنْهما -[أنه رأى عثمانَ - رضي الله عنه -، دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيهِ مِنْ إنَائِه، فَغَسَلَهُما ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَل يَمِيْنهُ في الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتنَشَقَ واسْتنَثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ويَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأسِه، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا، وَقالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَه، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬1). أمَّا راوياه: فأحدهما: عثمانُ بنُ عفان بنِ أبي العاصي بنِ أميَّةَ بنِ عبدِ شمسِ ابنِ عبدِ منافٍ، يجتمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبدِ مناف، كنيته أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو ليلى، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وتزوَّج ابنتي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا سمِّي: ذَا النَّورَين، ولم يُعْرَفْ أحدٌ من لَدُنْ آدمَ - صلى الله عليه وسلم - تزوج بنتي نبي غير عثمان - رضي الله عنه - رقيَّةَ وأمَّ كلثوم - رضي الله عنهما -، وهو أوَّلُ مَنْ خرج إلى أرض الحبشة، وهاجرَ إليها، وسائرُ من هاجر إليها تبعٌ له - رضي الله عنه -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحيي منه أكثرَ من غيره، وهو أكثر ¬

_ (¬1) رواه البخاري (158)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، ومسلم (226)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله.

أمته - صلى الله عليه وسلم - حياء، واشترى بئر رُومةَ، وجعلها للمسلمين، وجهَّز جيشَ العُسْرَةِ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة؛ ما أسرَّ وما أعلن، وما أبدى وما أخفى، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وقال: "ما يُبَالِي عُثْمَانُ مَا عَمِلَ بَعدَهَا" (¬1)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يزيدُ في مَسْجِدِنَا؟! فاشترى عثمانُ موضعَ خمسِ سواريَ، فزاده في المسجد (¬2). وقال عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: كان عثمانُ - رضي الله عنه - أَوْصَلَنا للرَّحم، وكان مِنَ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الآية التي في المائدة [93] (¬3). وزوَّجه الله سبحانه أمَّ كلثوم بنتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل صَداق رقيَّةَ، وعلى مثلِ صحبتها، وكان مِمَنْ تستحي منه ملائكةُ الرحمنِ، وشبهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيم خليلِ الرَّحمن، وهو أحدُ المشهود لهم بالجنة (¬4)، وأحد الَّذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - بحراءٍ، فانتفض، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اثْبُتْ أُحُد؛ فَإِنَّما عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ" (¬5)، وأحدُ الخلفاء الرَّاشدين، وأحدُ الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدُ الَّذين قاموا به في ركعةٍ واحدةٍ، وأحدُ صُوَّامِ الدَّهر وقُوَّامِ اللَّيل - رضي الله عنه -، وجمعَ النَّاسَ ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 340)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 65)، عن حذيفة - رضي الله عنه - بهذا اللفظ. (¬2) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 595)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 19 - 20). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (32060)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 55)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (2574)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 465). (¬4) قوله: "وهو أحد المشهود لهم بالجنة، ساقطة من "ح". (¬5) رواه البخاري (3483)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (2417)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما -، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

على المصحف، واستسلم للقتلِ صبرًا لله تعالى. روى عنه من الصَّحابة: زيدُ بنُ خالدٍ الجهنيُّ، وعبدُ الله بنُ الزبير، والسائبُ بن يزيدَ، ومحمود بنُ لبيدٍ (¬1)، وجماعةٌ كثيرة من التَّابعين؛ كابنه، وغيره. رُويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةُ حديثٍ، وستة وأربعونَ حديثًا، اتفقا على ثلاثةِ أحاديثَ، وانفردَ البخاريُّ بثمانية، ومسلمٌ بخمسة، وروى له أيضًا: أبو داود، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابن ماجَهْ، وغيرُهم من أصحاب السُّنن والمسانيد. ووليَ الخلافةَ اثنتي عشرةَ سنةً إلا عشرةَ أيامٍ، وقيل: إلا اثنتي عشرة ليلةً، وكان في يده خاتمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من سنتين، ثم سقط في بئر أريس من آبار المدينة، فاتَّخذ خاتمًا من فضة فصُّه منه، ونقش عليه: آمنت بالَّذي خَلَقَ فسوَّى. ووُلِدَ في السَّنة السَّادسة بعدَ الفيل، وقُتِلَ يومَ الجمعة بعدَ العصر، وهو صائمٌ، لثمانَ عشرةَ خَلَوْنَ من ذي الحجة، وقيل: قتل في أوسط أيَّام التَّشرِيق سنة خمس وثلاثين، وهو ابنُ تسعين سنةً، وقيل: ابنُ ثمان، وقيل: اثنتين وثمانين، وصلَّى عليه جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، ودُفن بالبقيع بُحشِّ كوكب ليلًا (¬2). قال أَسْهَمُ بْنُ حُبَيشٍ: لمَّا حملنا نعشه، غَشِيَنا سوادٌ من خَلْفِنا، ¬

_ (¬1) قوله: "بن لبيد" ساقطة من "ح". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 53)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 208)، و"تاريخ الطبري" (2/ 679)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1037)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (39/ 3)، و"المنتظم" لابن الجوزي (4/ 334)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 578)، و"الكامل في التاريخ" له أيضًا (3/ 74)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 445)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 8)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 199)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 456)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 127).

فَهِبْنَاهُم، فنادى مناديهم أَنْ: لا روعَ عليكم، اثبتوا؛ فإِنَّا جئْنا نشهدُه معكم، فكان ابن حبيش يقول: هم ملائكةُ الله (¬1). وأمَّا الرَّاوي عنه مولاه حُمرانُ بنُ أَبانَ، فهو مدنيٌّ قُرَشيٌّ أُمَوِيٌّ مولاهم، كان من سبي عينِ التَّمر، كان للمسيب بن نجيد، فابتاعه عثمان، وأدرك أبا بكرٍ وعمرَ، وسمع -أيضًا- عبدَ الله بنَ عمرٍو، ومعاويةَ بنَ أبي سفيانَ، فهو تابعيٌّ ثقة، احتجّا به في "الصّحيحين"، وكان كثيرَ الحديث، وقولُ ابن سعدٍ: لم أَرَهُم يحتجُّون بحديثه، غيرُ صحيح، وهو بضم الحاء - والله أعلم - (¬2). وأمَّا قوله: "دَعَا بِوَضُوءٍ": هو بفتح الواو، وهو الماء، وبالضم اسم لفعل الوُضوء، وقيلَ: بالفتحِ فيهما، وهو قليل، وحُكي ضمُّها، وهو شاذٌّ (¬3)، وذكر بعض أصحاب مذهب مالك أَنَّه هل هو اسم لمطلق الماء، أو لما يفيد الوضوء به، أو إعداده له؟. قال: فيه نظرٌ يحتاج إلى كشفٍ وبيانٍ تنبني عليه مسألة الماء المستعمل لمن استدلَّ بحديث جابر على طهوريته حيث صبَّ عليه - صلى الله عليه وسلم - من وضوئه، ولا يلزم ذلك؛ للإجماع على طهارة المستعمل في فرض الطَّهارة، فكيف بنفلها؟ وما نقل عن أبي حنيفة؛ من نجاسته، ثبت عنه رجوعه عنه، هذا إذا سلَّمْنَا أَن الَّذي صبَّ عليه كان مستعملًا في طهارته، واستعمالهُ للتبريك ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (137)، والطبراني في "المعجم الكبير" (110)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 427 - 430). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 283)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 80)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 265)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 179)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 172)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 182)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 21)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 180)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 21). (¬3) انظر: "المُغْرب" للمطرزي (2/ 358)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 194)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 194)، (مادة: وضأ).

جائزٌ بالإجماع، خصوصًا من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنْ حمَلْنَاه على ما فَضَلَ من ماءِ وضوئه بعد فراغه منه، فهو طهور بلا شكٍّ، وهو طاهر فيه، فلا يبقى فيه دليل من حيث اللَّفظ على ما أراده من طهوريَّة المستعمَل، وهو مذهب مالك، وهو قول قديم للشَّافعي، وجعل أن الوضوء -بالفتح- حقيقة في المستعمل، أو الأقرب إلى الحقيقة، وأَن استعمالَه في المعدِّ للوضوء مجازٌ، وأَنَّ الحملَ على الحقيقة أو الأقرب إليها أولى، فحينئذٍ حملُه على مطلق الماء أولى مِنْ حملِه على أَنْ يكونَ مقيدًا بالاستعمال، أو الإعداد، وهو قول جمهور الفقهاء وأئمة اللغة - والله أعلم -. وهذا البحث أفاد إلى أن الماء المطلق يسمَّى وَضوءًا عند إطلاقه، أو لا بدَّ أَنْ يُقْصَدَ به الوضوء ويعد (¬1) له، وحينئذٍ يرجع إلى تأثير النيّات في الأعيان، وتغيير أحكامها، وهو موجود، - والله أعلم -. وقوله: "فأفرغَ على يديه": أفرغ؛ أيْ: قَلَبَ وصبَّ على يديه ليغسلهما، واليدان تثنية يد، وهي مؤنثة. ويؤخذ من الحديث الإفراغُ على اليدين معا، وفي الحديث الآخر: "أَفْرَغَ بيَدِهِ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى، ثُمَّ غَسَلَهُما" (¬2)، وهو قدر مشترك بين غسلهمَا مجموعتين أو مفرقتين، لَكِنْ إِنْ أمكنَ غسلُهما معًا، فهو أفضلُ هنا، وإلَّا قدَّم الكف اليمنى كما إذا غسل يده اليمنى إلى المرفق؛ فإِن الأفضلَ تقديمُها بلا شَكٍّ. قوله: "ثُمَّ تمضمضَ واستنشقَ واستنثرَ": "ثُمَّ" مفيدة للتَّرتيب بين غسل اليدين، والمضمضة، وأصلُها مشعرٌ بالتَّحريك، ومنه: مضمضَ النُّعاس في عينيه: إذا تحرك، واستعملت في المضمضة لتحريك الماء في الفم، ¬

_ (¬1) في "ح": "يعتد". (¬2) رواه أبو داود (109)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن طريقة البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 47)، وعن أبي علقمة: أن عثمان دعا بماء .... فذكره.

وهو حقيقته عندَ الفقهاء، ولا يُشترطُ مجُّه عندهم، حتى لو ابتلعه بعدَ ذلك، كان قد أتى بها، وعمل بالسُّنة فيها. ومن ذكر المجَّ منهم في المضمضة، جرى على الأغلب في العادة. والاستنشاق: أَخْذُ الماء بخياشيمه إلى أعلى. والاستنثار: أَخْذُه مع الأذى منها إلى خارج، وقد تقدَّم في الحديث الرَّابع الكلامُ على الاستنشاق والاستنثار وحقيقتهما، وأنَّ بعضَهم جعلهما بمعنًى واحدٍ، وهذا الحديثُ يردُّ عليه؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - عطفهما، بعضَهما على بعض، والعطفُ يقتضي المغايرةَ. قوله: "ويَغْسِلُهُمَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ" مبيِّنٌ لذكر العدد المهمَل في رواية مَن أهملَه؛ كمالكٍ وغيرِه، وهو المذكور -أيضًا- في رواية أبي هريرة في الحديث الرَّابع. وقوله: "ثمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا" الوجهُ: مشتقٌّ من المواجهة، وهو عندَ الفقهاء كذلك، لكنِ اختلفوا في حَدِّهِ، فالذي عليه جمهورُهم أنَّه: ما بين مَنابتِ شعرِ الرَّأس في غالبِ المنابت -لا باعتبار الصَّلَع ولا الغمم- ومنتهى اللَّحْيين، وهما: مجتمع عظمي الحنك طولًا، وفي العرض: ما عدا وَتِدَي الأذنين. و"ثمَّ" هنا للتَّرتيب بين المسنون والمفروض، وبعضُ الفقهاء رأى التَّرتيبَ في المفروض دونَ المسنون. وقيل في حِكمةِ تقديمِ المضمضةِ والاستنشاقِ على غَسْلِ الوجهِ المفروض: أنَّ المعتبرَ في صفاتِ الماء للتَّطهير: لونٌ يُدْرَكُ بالبصر، وطعمٌ يُدْرَكُ بالذَّوقِ، ورِيحٌ تُدْرَكُ بالشَّمِّ، فقُدِّمت هاتان السُّنَتَّانِ لاختبارِ الماء، قَبْلَ فِعْلِ الفرضِ. وقوله: "وَيَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ" المرفق: بفتح الميم وكسر الفاء، وقيل: عكسه، لغتان، وكذلك المرفق: من الأمر الذي يَرتفقُ ويَنتفعُ به

الإنسان (¬1)، وهما قراءَتَانِ في السَّبع، قرأ نافع وابن عامر بالأولى، وقرأ الباقون بالثَّانية. والمرادُ به: موصلُ الذِّرَاع في العظمين. لكن اختلفَ قولُ الشَّافعي - رحمه الله -: هل هو اسم لإبرة الذِّرَاع، أم لمجموع رأس عظم العضد مع الإبرة؟ على قولين. وبنى على ذلك أَنَّه لو شُلَّ الذِّراعُ من العضد، هل يجب غسلُ رأسِ العضدِ، أم يستحبُّ؟ فيه خلافٌ، المشهورُ وجوبُهُ، ومذهبُ مالك والشَّافعي وجمهورِ العلماء وجوبُ إدخالِ المرفقينِ في الغَسْلِ، وقال زُفَرُ وأبو بكرِ بنُ داود: لا يجبُ إدخالهُما. ومنشأُ الاختلافِ: أنَّ "إلى" لانتهاءِ الغايةِ، وقد تردُ بمعنى "مع"، والأول هو المشهور، فَمَن قالَ به، لم يُوجِبْ إدخالَهما في الغسل، ومَنْ قالَ بالثاني، أوجبه. وفرَّقَ بعضُهم بين أَنْ تكونَ الغايةُ من جنسٍ ما قبلها، أو لا، فإن كانت من الجنس، دخلتْ؛ كما في الوضوء، وإِنْ كانتْ من غيره، لم تدخلْ؛ كما في قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. ومنهم مَنْ قالَ: إِنْ كانَت الغَايةُ لإِخراج ما دخلَ قبلَها، لم يخرجْ؛ فإن اسمَ اليدِ: ينطلقُ عليها إلى المنكب، حتَّى قالَ أَصحابُ الشّافعيِّ: لو طالَت أظافيرُه ولم يقلِّمْها، وجبَ غسلُها بلا خلافٍ؛ لاتصالها باليد، ودخولها فيها، وكذلك لو نبَتَ في محلِّ الفرضِ يدٌ أخرى، أو سَلْعةٌ، وَجَبَ غسلها، بلا خلاف أيضًا. فلو لم تردْ هذه الغايةُ، لوجبَ غسلُ اليد إلى المنكب، فلمَّا دخلَت، أُخرِجَ عن الغسلِ ما زادَ على المرفقين، فانتهى الإخراج إلى المرفقين، فدخلا في الغسل. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" (2/ 246)، و"مختار الصحاح" (ص: 105)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 118)، (مادة: رفق).

وقال آخرون: لمَّا تردَّد اللَّفظُ بين أَنْ يكونَ للغاية، أو بمعنى "مع"، فاقتضى الإجمالَ؛ فبينه فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أدارَ الماء على مِرْفقيه، وفعلُه - صلى الله عليه وسلم - أصلٌ في بيان المجمل، خصوصًا في الوجوب. قال شيخنا أبو الفتح محمَّدُ بنُ عليِّ بنِ وهبٍ القشيريُّ - رحمه الله -: وهذا عندَنا ضعيفٌ؛ لأنَّ "إلى" حقيقةٌ في انتهاءِ الغَاية، مجازٌ بمعنى "مع"، ولا إِجْمَالَ في اللَّفظ بعدَ تبيين حقيقته، ويدلُّ على أَنَّها حقيقة في انتهاء الغاية: كثرةُ نصوصِ أهلِ العربيَّة على ذلك، ومَنْ قال بأنَّها بمعنى "مع"، لم ينصَّ على أنَّها حقيقةٌ في ذلك؛ فيجوز أَنْ يريدَ المجاز (¬1). قوله: "ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ" هذه الباء مقتضاها عند الشَّافعي التبعيضُ في الآية الكريمة، ويجيء ذلك هنا. وأنكر أَنْ تكونَ للتَّبعيضِ جماعةٌ، وقالوا: مسحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جميعَ رَأْسِه، بدأَ من مقدَّمِه إلى مؤخَّرِه، أقبلَ بيديه وأدبرَ، وهو مبينٌ للمراد من الآية، ولا شكَّ أن اسمَ الرأسِ حقيقةٌ في العضوِ كلِّه، لكنَّ الفقهاءَ اختلفوا في القَدْرِ الواجِبِ مِنَ المسحِ، وليس في الحديث ما يدلُّ على الوجوب لمسح جميعه؛ لجواز أَنْ يكونَ الثوابُ المخصوصُ على هذهِ الأفعالِ؛ إذ لا يلزمُ منه عدمُ الصِّحة عند عدم كلِّ جزءٍ من تلك الأفعال، كما رتَّبه فيه على المَضْمَضة والاسْتِنْشَاق، وإِنْ لم يكونا واجبينِ عندَ كثيرٍ من الفقهاءِ أو الأكثرينَ، وادِّعاءُ الإجمال فيه كما في المرفقين، وأَن الفعلَ بيانٌ له، ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ الظَّاهرَ من الآية بيِّن، إمَّا على مطلَق المسح؛ كما يقوله الشَّافعي - رحمه الله -، أو على الكلِّ؛ كما يقوله مالكٌ - رحمه الله - في أنَّ الرأسَ حقيقةٌ في كلِّه، والتبعيض لا يعارضُه، فلا إجمالَ، وهذا قويٌّ، وهو قولٌ عن الشَّافعيِّ - رحمه الله -. واتفق العلماءُ على أنَّ المسحَ لا يتعيَّن على الشَّعر، ولا على البشرة في حقِّ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 36).

من له شعر، بل أيَّهما مَسَحَ عليه، أجزأه، فلا نقولُ: إنَّ مسحَ الشَّعر بدلٌ عن البَشرة؛ كما يقول في الخُفِّ - والله أعلم -. قوله: "ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ" فيه الصَّراحةُ بوجوبِ غسلِهما، والرَّدُّ على الروافض في أن واجبَ الرِّجلين المسحُ، وقد تبيَّن ذلك -أيضًا- من حديثِ جماعةِ من الصَّحابة - رضي الله عنهم - في "الصَّحيح" وغيره، وأنَّهم وصفُوا وضوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحسنِ الأحاديثِ في ذلك حديثُ عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ -بفتح العين المهملة والباء الموحدة-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ" إلى أَنْ قالَ: "ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ الله" (¬1)، فمن هذا الحديث انضمَّ القولُ إلى الفعلِ، وتَبَيَّنَ أن المأمورَ به الغَسْلُ. قوله: "ثَلاَثًا" فيه استحبابُ التثليث في غَسْلِ الرِّجلين، وبعضُ الفقهاء لا يراهُ، واستُدِلَّ له بأنَّه ورد في بعض الرِّوايات: "فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا" (¬2)، ولم يذكرْ عددًا، وأُكِّد من جهة المعنى بقرب الرِّجْلِ مِنَ الأرض في المشي، وكثرةِ مباشرتها الأوساخَ والأدران، فاقْتَضَى الإِنقَاء مِنْ غَيرِ عددٍ، لكن هذا لا ينافي العددَ، لِمَا في ذكرِ العَدَدِ من الزيادة عليه، فتعيَّنَ العملُ به؛ لدلالةِ لفظِ الحديث عليه من غير وجه - والله أعلم -. وقوله: "نَحْوَ وَضُوئي هَذَا" اعلم أن لفظةَ "نحو" لا تطابقُ لفظةَ "مِثْل"؛ فإنَّ المِثْلَ يقتضي ظاهرًا المساواةَ من كل وجه، إلا من حيثُ حقيقةُ "مِثْل" و"نَحْو" في خروجهما عن الوحدة، واقتضاء التغاير، لكنَّ لفظةَ "نَحْو" لا تُعطي المثلية، وإِنِ استُعملَتْ كذلك لغةَ لا اصطلاحًا عرفيًّا، فيكونُ استعمالُها فيها مجازًا، ولهذا فرَّقَ المحدِّثونَ بين "نَحْو" و"مِثْل"، فقالوا فيما كانَ مثلَ الإسنادِ أو المتنِ من كُلِّ وجهٍ: مِثْلَهُ، كما استعمله مسلم في "صحيحه" في غير موضع، وقالوا: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 112). (¬2) رواه مسلم (236)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه -.

"نَحْوَه" فيما قارب الإسنادَ والمتنَ، حتى استدلُّوا على الَّذينَ قالوا بالفرق بينهما، وألزموهم بمنعهم الرِّوايةَ بالمعنى. ولعلَّ واصفَ وضوءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وروايتَه عنه - صلى الله عليه وسلم - لفظةَ "نَحْوَ وَضُوئي" لحظَ الفرقَ بينهما؛ من حيثُ إنَّ مِثْلِيَّةَ وُضوئهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يتأتَّى لأحدٍ إلَّا مِنْ حيثُ امتثالُ الأمرِ، وحصولُ الثوابِ المناسبِ للمتوضِّئ على قدر التبعية فيه؛ لأنَّه قد يكون في وضوئه - صلى الله عليه وسلم - أشياءُ لم نُكلَّفْ بها، فتكون ملغاةً بالنِّسبة إلينا، فيكون ذكرُ ذلك بيانًا للفعل الَّذي يَحصُلُ الثوابُ الموعودُ به، وعليه: فلا بدَّ أن يكونَ الوضوءُ المفعولُ موصوفًا لأجل الغرض المطلوب، فلهذا استعملَ "نَحْو" في حقيقتها العرفية، مع فوات المقصودِ، لا بمعنى "مِثْل"، أو يكون ترك ما علم قطعًا أَنَّه لا يُخِلُّ بالمقصود - والله أعلم -، مع أنَّ لفظةَ: "مثل" ثابتةٌ عنه - صلى الله عليه وسلم - بإسنادِ "الصَّحيحينِ" في "سنن أبي داود"، وغيره (¬1). قال شيخُنا الحافظُ الموفقُ أبو الفتحِ المعروفُ بابنِ دقيقِ العيدِ - رحمهُ اللهُ -: ويمكن أَنْ يُقالَ: إنَّ الثوابَ يترتَّب على مقاربةِ ذلكَ بالفعل تسهيلًا وتوسيعًا على المخاطَبين، من غير تضييق وتقييد بما ذكرناه إِلَّا أنَّ الأولَ أقربُ إلى مقصود البيان (¬2). واعلمْ أن غفرَ ما تقدَّم من ذنوب المتوضِّئ مرتَّبٌ على أمرين: أحدهما: وضوءُه على النَّحو المذكور. والثَّاني: صلاةُ ركعتين بعدَه بالوصف المذكور في الحديث، والمترتَّبُ على مجموع أمرين لا يلزمُ ترتبه على أحدهما إلا بدليلٍ خارجٍ، وقد يكونُ الشَّيء ذا فضلٍ بوجودِ أحدِ جزأَيْه، فيصحُّ كلامُ مَنْ أدخلَ الحديثَ في فضل الوضوء فقط؛ لحصول مطلق الثواب، لا الثواب المخصوص على مجموع الوضوء على النَّحو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (106)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك رواه مسلم (229)، كناب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 38).

المذكور، والصَّلاة الموصوفة بالوصف المذكور. قوله: "لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ" اعلم أنَّ حديثَ النَّفسِ على قسمينِ: أحدُهما: ما يهجُم عليها، ويتعذَّرُ دفعهُ عنها. والثَّاني: ما يسترسلُ معها، ويمكنُ دفعُه وقطعُه. فيُحمَلُ الحديثُ عليه دونَ الأول؛ لِعُسر اعتبارِه، ولفظُ الحديث يقتضيه بقوله: "لا يحدِّث"؛ فإنَّه يشهد بتَسَبُّبٍ وتفعُّلٍ لحديثِ النَّفْسِ، ويُمكنُ أَنْ يُحملَ على القسمين؛ لتعلُّق العسرِ بالتَّكاليف في وجوب دفعِه وتحصيلِها لحصول الثَّواب المترتَب عليها، فمن حصل له ذلك العملُ، حصل له ذلك الثوابُ، ومن لا، فلا، ولا يكونُ ذلك من باب التَّكاليف المأثوم تاركه حتى يلزمَ دفع العسر عنه، نعم لا بدَّ أَنْ تكون الحالةُ المترتَّبُ عليها الثَّوابُ المخصوصُ ممكنةَ الحصول، وهي التَّجَرُّدُ عن شواغلِ الدُّنيا، وغلبة ذكرُ الله تعالى على القلب، وتعميرُه به، وذلك حاصل لأهل العناية، ومحكيٌّ عنهم، ثمَّ إن حديثَ النَّفس يعمُّ الخواطر الدُّنيويَّةَ والأخرويَّةَ، والحديثُ محمول على المتعلِّقِ بالدُّنيا فقط؛ لأنَّه مأمورٌ بالفِكْرِ في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز والذكر والدَّعوات، وتدبُّرِها، وذلك لا يحصلُ إلا بحديثِ النَّفس، وليس كلُّ أمرٍ محمودٍ أو مندوبٍ بالنِّسبةِ إلى غيرِ وقتِه وحالِه من أمور الآخرة، بل قَدْ يكونُ أجنبيًّا عنها، مثابًا عليه. وقد كان عمر - رضي الله عنه - يجهِّزُ الجيوشَ وهو في الصَّلاة، واستعجلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاةٍ وفراغِهِ منها، وسُئِلَ عن ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ مِنْ تِبْرٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ يُحْتَبَسَ، فَقَسَّمْتُهُ" (¬1)، وكل ذلك قربة خارجة عن مقصود الصّلاة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" الطاهر فيه العمومُ في الكبائر والصَّغائر، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (813)، كتاب: صفة الصلاة، باب: من صلَّى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم، من حديث عقبة بن الحارث - رضي الله عنه -.

لكنَّهم جعلوا مثلَه بالصَّغائر، وقالوا: إنَّما تُكَفَّر الكبائرُ بالتوبة، وكان مستندُهم في ذلك وروده مقيدًا في مواضعَ؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، والجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، ورَمَضَانُ إِلَى رَمَضَان، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ مَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ" (¬1)، فجعلوه في هذه الأمور المذكورة مقيِّدًا للمطلق في غيرها. وفي هذا الحديث دليلٌ على سرعة التَّعليم بالفعل، وأنَّه أبلغُ وأضبطُ في حقِّ المتعلم. وفيه: جوازُ الاستعانة في طلب الماء، وهو مُجْمَعٌ عليه من غير كراهة. وفيه: استحبابُ إفراغِ الماءِ على اليدين قبلَ غسلِهما ما لم تتحقَّقْ نجاستُهما. وفيه: جوازُ إدخالِهما الإناءَ بعدَ غسلِهما، وأنَّه لا يفتقر إلى نيَّة الاغترافِ. وفيه: استحبابُ التثليث في جميع الوضوء، ما عدا الرأسَ؛ فإنَّه لا يُكرَّر ثلاثًا، وقد ثبتَ في "صحيح البخاريِّ" أنَّه - صلى الله عليه وسلم - مسحَه مرَّةً بعد ذكر التَّثليث في باقي الأعضاء (¬2)، وهو المختار عند المحققين. وفيه: وجوبُ التَّرتيبِ في أعضاءِ الوضوءِ؛ فإنَّه رتبه الرَّاوي بثُمَّ في معرض البيان، وهي للتَّرتيب، واختلفَ أصحابُنا في ترتيبِه في مسنونِ أعضاءِ الوضوءِ على وجهين. وفيه: الاستدلالُ بفعلِه - صلى الله عليه وسلم - على الأحكام الشَّرعية، وأنَّ المرجعَ إليه - صلى الله عليه وسلم - في جميعها. وفيه: استحبابُ تناولِ ماءِ الوضوءِ باليمين، ولم يتعرَّضْ في هذا الحديث لتقديم اليمين على اليسار، لكنَّه ثابتٌ في غيره من حديث عُثْمَانَ وغيره في اليدين ¬

_ (¬1) رواه مسلم (233)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (189)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس مرة، من حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -.

الحديث الثامن

والرِّجْلَينِ، وأمَّا الأُذُنَان والخَدَّان والكَفَّان والمَنْخِرَان والعَيْنَان وجَانِبَا الرأسِ، فقال العلماء: لا يُستحبُّ تقديمُ اليمين فيهما، بل يستحبُّ غسلُهما ومسحُهما دفعةً واحدة، فلو فعل وغسلَهما أو مسحَهما دفعةً، فإنْ كان له يدٌ واحدة، قَدَّمَ اليمينَ منهما في الأُذنَيْن والخدَّين وباقيها. وفيه: متابعتُه - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور، وتحرِّي مصلحة فعلِه - صلى الله عليه وسلم -، واستحبابُ ركعتين خفيفتين بعد الوضوء، ودفعُ حديث النَّفس في الأمور الدُّنيوية، وما لا يعني، وما أعدَّه الله تعالى لهذه الأمَّة من الثواب على الطَّاعات، وغَفْرِ السَّيئاتِ، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]- والله أعلم -. * * * الحديث الثَّامن عَن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حُبَيْشٍ، سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِيْهِ مِنَ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثَلاَثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ (¬1). وفي رواية: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى المَكَانِ الَّذي بَدَأَ مِنْهُ (¬2). وفي رواية: أَتانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً في تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (184)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين إلى الكعبين. (¬2) رواه البخاري (183)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) رواه البخاري (194)، كتاب: الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح الخشب والحجارة.

قال - رضي الله عنه - (¬1): التَّوْرُ شِبْهُ الطَّسْتِ. أمَّا رواتُه، فهم أنصاريُّون مازنيُّون مدنيُّون. أمَّا عمرُو بنُ يحيى، فهو ثقةٌ رُوِيَ له في "الصَّحيحين" (¬2)، واسمُ جَدِّه، عُمارةُ بنُ أبي حسن، واسمُه تميمُ بنُ عبدِ عمرِو بنِ قيسِ بنِ محرث بنِ الحارثِ بنِ ثعلبةَ بنِ مازنِ، وقيل: اسمُه كنيتُه، وهو صحابيٌّ، يقال: شهدَ العقبةَ وبدرًا، وعُمارةُ لا يُعْرَفُ له روايةٌ (¬3). وأمَّا أبوه يحيى، فهو تابعيٌّ سمعَ أبا سعيدٍ الخدريّ. وعبدُ الله بن زيدِ بنِ عاصم ثقةٌ، رويَا له في "الصَّحيحين" (¬4). ومعنى قوله: قال: شهدت عمرو بن أبي حسن كأنه قال: شهدت ابني عمرًا إلخ شهدتُ، يعني: عَمْرًا، ونسبه إلى جدِّه الصَّحابي؛ تشريفًا له، ولم ينسبه إلى نفسِه أدبًا. وأمَّا قوله: المازنيّ -بالزاي والنُّون- فهو نسبة إلى مازن: قبائل وبطون، أحدها مازن الأنصار، منهم عبدُ الله بنُ زيدِ بنِ عاصم، وأخوه تميمُ بن زيدٍ، وابن أخيه عبَّاد بن تميم، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين، وعَمْرٌو هذا وأبوه وجدُّه منهم، وتشتبه هذه النِّسبة بالمأربيِّ -بالهمزة والرَّاء والباء الموحدة- نسبة ¬

_ (¬1) ليست في "ح". (¬2) انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 382)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 269)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 215)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 295)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 104)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 5139). (¬3) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1141)، و"أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (4/ 130)، و"تهذيب الكمال" للمزي (21/ 237)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 580)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 362)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 4842). (¬4) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 295)، و"تهذيب الكمال" للمزي (31/ 474)، و"الكاشف" للذهبي (تر: 6218)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 227)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 7612).

إلى "مأرب": ناحية بـ "اليمن"، وهي التي استقطع أبيض بن حمال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ملحها، وقد يقال في النِّسبة إليها: المآربي -بالمدِّ على الجمع- والله أعلم -. وأمَّا عبدُ الله بن زيد، فهو ابنُ زيدِ بنِ عاصمِ بنِ كعب بن عمرو بن عوف بنِ مبذولِ بنِ عَمْرِو بنِ غُنَيْمِ بنِ مازنِ بن النَّجَّارِ الأنصاريُّ المازنيُّ المدنيُّ، أمُّه أمُّ عُمارة نَسِيبة -بفتح النُّون وكسر السِّين- بنتُ كعبِ بنِ عَمْرِو بنِ عوفٍ، شهدَ أُحُدًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -هو وأمُّه أُمُّ عُمارة، فرُويَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذٍ: "رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ" (¬1)، وليس هو راوي حديثِ الأذانِ، وإن كان قاله: سفيانُ بنُ عُيينة، فإنّه وَهم، بل راوي حديث الأذانِ عبدُ اللهِ بنُ زيدِ بنِ عبدِ ربِّه بنِ ثعلبةَ بنِ زيدِ بنِ الحارثِ بنِ الخزرجِ، أبو محمَّدٍ الأنصاريُّ الخزرجيُّ، شهد العقبةَ وبدرًا، وكانت رؤياه الأذانَ في السَّنة الأولى من الهجرة بعدَ بناءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجدَه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "هَذ رُؤْيا حَقٍّ" (¬2)، وأمر فنُودي به على ما رأى، وتوفي بالمدينة سنةَ اثنتين وثلاثين وهو ابنُ أربع وستِّين سنةً، وصلَّى عليه عثمانُ بن عفَّان، قال التِّرمذيُّ: سمعت البخاريَّ يقول: لا يُعرف لعبدِ الله بنِ زيدِ بنِ عبدِ ربِّه إلا حديثُ الأذان (¬3). وأمَّا راوي حديث الوضوء، فروَى له أصحابُ الكتب الستَّة، وروى له البخاريُّ ومسلمٌ ثمانيةَ أحاديثَ، وقُتل يومَ الحرَّة في أواخر ذي الحجَّة سنةَ ثلاثٍ وستين وهو ابنُ سبعينَ سنةً (¬4)، قال أبو حاتم بن حِبَّانَ: سُمِّيت هذه الوقعةُ بيوم ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 415)، بلفظ: "بارك الله عليكم من أهل البيت، رحمكم الله أهل البيت". (¬2) رواه أبو داود (499)، كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، والترمذي (189)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في بدء الأذان، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 42)، وابن خزيمة في "صحيحه" (370)، وابن حبان في "صحيحه" (1679)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 390). (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 361). قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 198): وفيه نظر؛ فإن له عند النسائي وغيره حديثًا غير هذا في الصدقة، وعند أحمد آخر في قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره وأظفاره وإعطائه لمن لم تحصل له أضحية. (¬4) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 223)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 913)،=

الحرَّة؛ لأنَّ يزيدَ بنَ معاوية بعثَ جيشَه يريدُ المدينة، وعليهم صخرُ بنُ أبي الجَهْم، فتُوفِّيَ صخرٌ قبلَ مسيرِ الجيش إليها، فاستعمل يزيدُ عليهم بعده مسلم بن عقبة المزني، فسار بهم حتَّى نزل المدينة، فقاتلهم حتَّى هزمَهم، وأباح المدينةَ ثلاثَةَ أيَّام، فسمِّيت هذه الوقعةُ وقعةَ الحرَّة (¬1)، فهما متفقان في الاسم واسم الأب والقبيلة، ومفترقان في اسم الجدِّ والبطن من القبيلة. فالأول: مأربي، والثاني: حارثي، وكلاهما أنصاريان خزرجيان، فيدخلان في نوعِ المتفق المفترق من علوم الحديث - والله أعلم -. وأمَّا ألفاظه، فقوله: "دعا بتَوْرٍ مِنْ صُفْرِ"، التَّوْرُ: مثلُ الإِجَّانَةِ تشبهُ القِدْرَ، ويكون من حجارةٍ ومن نُحاس (¬2). وقال شيخنا أبو الفتح القاضي: هو الطَّسْتُ (¬3). والصُّفْر -بضم الصاد وكسرها، والضَّمُّ أفصحُ وأشهرُ -هو النُّحاس، وسمِّي النُّحاسُ شَبَهًا -بفتح الشِّين والباء، وبكسر الشِّين وإسكان الباء -سُمِّي به لكونه يشبه لون الذَّهب. وقوله في الرِّواية الأولى: "فَدَعا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ"؛ أي: من إناء من ماء، على حذف المضاف، وهو نوع من المجاز، واستعمل الحقيقة في الرِّواية، الرواية الثَّانية في قوله: في تورٍ من صُفْر. وتقدَّم الكلام على المضمضة والاستنشاق والاستنثار. قوله: "ثم أَدْخَلَ يَدَهُ"؛ يعني: "في التَّوْرِ"، فأقبل بهما وأدبرَ مرَّة واحدة، ¬

_ =و" أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 250)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 252)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 538)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 377)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 97)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 98)، و"تهذيب التذهيب" له أيضًا (5/ 196). (¬1) انظر: "الثقات" لابن حبان (2/ 313 - 314). (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 96)، (مادة: تور). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 40).

اختلفَ الفقهاءُ في كيفية الإقبال والإدبار، هل هو بالنِّسبة إلى الرَّأس، أو بالنِّسبةِ إلى الشَّعر، أو بالنِّسبة إلى النَّاصية إلى الوجه، ثُمَّ إلى مؤخر الرَّأس، ثُمَّ إلى ما بدأ منه؟ على ثلاثة مذاهب. وهذا الحديث مطلقٌ في الإقبال والإدبار من غير تحديد ابتداء غايةٍ وانتهائِها في الرَّأس، لكنَّه ذكره في الرِّواية الثانية في قوله: بدأ بمقدَّمِ رأسِه حتَّى ذهب بهما إلى قفاه، ثمَّ ردَّهما حتَّى رجع إلى المكان الَّذي بدأ منه، فهذه الرِّواية ظاهرةٌ في الأول، وهو مذهبُ الشّافعي ومالكٍ - رحمهما الله -، وهو أنَّهما قالا: يبدأ بمقدَّم الرَّأس الَّذي يلي الوجهَ، ويذهبُ إلى القفا، ثُمَّ يردُّهما إلى المكان الَّذي بدأ منه، وهو مبتدأ الشَّعر من حدِّ الوجه، ولو لم تردْ روايةُ التَّحديد بالابتداء والانتهاء، لكانَ للإطلاق في الرواية الأولى جوابا من حيث إنّهم قالوا: الإقبال لا يكون ابتداؤه إلا من مؤخَّر الرَّأس، والإدبار لا يكون ابتداؤه إلا من مقدَّم الرَّأس لو سلم، مع أنَّهم استدلُّوا عليه بروايةٍ وردت في حديث الرُّبَيِّعِ بنْتِ مُعَوِّذٍ - رضي الله عنها - حسنةٍ، رواها عنها أبو داود والتِّرمذيّ وابن ماجَهْ، وحسَّنها الترمذيُّ وقال: حديثُ عبدِ الله بنِ زيدٍ أصحُّ من هذا وأجودُ إسنادًا (¬1)، وهي أنَّه بدأ بمؤخَّر رأسه، ثُمَّ بمقدَّمه، وهي محمولة على الجواز، لا على الأفضل، أو على حالة أو وقت، فلا يعارض ذلك الرِّواية المفسَّرة عن عبد الله بن زيد، والجوابُ عن رواية الإطلاق في الإقبال والإدبار أن الواو لا تدلُّ على التَّرتيب، ويؤيد عدمه ثبوت التَّقييد بالغاية ابتداءً وانتهاءً في الرِّواية الثانية، ويصحُّ -أيضًا- جعلُ الإقبال من جهة الشَّعر من منابته من جهة القفا، والإدبار إليه على معنى الفرق بين الذَّهاب إليه والوصول، وهو بعيد؛ للبدأة بالرَّأس لا بالشَّعر في رواية الكتاب - والله أعلم -. وفي هذا الحديث دليلٌ على: جواز الاستعانة بإحضار الماء للطهارة بلا كراهة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (126)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والترمذي (33)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (390)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه.

الحديث التاسع

وفيه: جواز الوضوء من آنية النحاس وما أشبهه. وفيه: تعليم المتعلِّمين بالفعل إذا كان الفعل أبلغَ في الفهم من القول. وفيه: إلقاء الماء على اليد قبل إدخالها في الإناء في ابتداء الطهارة. وفيه: جواز إدخالها الإناءَ بعد ذلك. وفيه: أنَّ نيَّة الاغتراف لا تجب؛ لأنّه لو وجبت، لنُقل. وفيه: أن الفقهَ اللازم عن الذِّهن من غير أصلٍ شرعيٍّ لا يُعمل به، بل يكونُ العملُ به بدعةً، ويكونُ ذكرُه لتشحيذ الذِّهن، لا لحكم شرعيٍّ. وفيه: جواز التَّثليث في بعض أعضاء الوضوء دون بعض. وفيه: الفرقُ بين الاستنشاق والاستنثار. وفيه: غسل الرِّجْلَين. وفيه: استقبال الرَّأس واستدباره في مسحه إذا كان له شعر، فلو كان محلوقًا قد نبت يسيرًا، فلا بأس به، ولو كان فاسد المنبت، لم يُستحب، ويكون الحديثُ خرج مخرجَ الغالب. وفيه: إتيان الكبير إلى أتباعه، وابتداؤهم إيّاه بإحضار ماء الوضوء إذا علموا أنَّ به حاجةً إليه. * * * الحديثُ التَّاسعُ عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالَت: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُه التَّيمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ، وَفي شَأنِهِ كُلِّهِ (¬1). أمَّا عائشةُ - رضي الله عنها -، فهي الصِّدِّيقَةُ بنتُ الصِّدِّيقِ، أُمُّ المؤمنين، أُمُّ عبد الله، كُنِّيتْ بابنِ أختِها أسماءَ بِإذنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: بسقطٍ، ولا يصحُّ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (166)، كتاب: الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم (268)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الطهور وغيره، وهذا لفظ البخاري.

واسمُ أبيها أبي بكرٍ: عبدُ الله بنُ أبي قُحافَةَ عثمانَ بنِ عامرِ بنِ عَمْرِو بنِ كعبِ بنِ سعدِ بنِ تَيْمِ بنِ مُرَّة بنِ كعبٍ، يلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مُرَّةَ بنِ كعبٍ. قال أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ: لم يختلفوا في اسم أبيها وجدِّها، وأن لقبَ أبي بكر عتيقٌ، وأمَّها أمُّ رومان -بضم الرَّاء-، وحكى ابن عبد البرِّ أنَّهُ يُقال بفتحها أيضًا، واسمُ أمِّ رومان زينبُ بنتُ عامرٍ، وقيل: بنتُ دهمان من بني مالكِ بنِ كِنانةَ. وعائشةُ وأبوها وأمُّها وجدُّها صحابةٌ، وشاركها في ذلك جماعة من الصَّحابة، لكنَّه قليلٌ، ولا يوجد أربعة من الصَّحابة متوالدون إلا في آل أبي بكر الصِّدِّيق: عبدُ الله بنُ أسماءَ بنتِ أبي بكرِ بن أبي قحافة، ومحمَّدُ بنُ عبد الرَّحمنِ بنِ أبي بكرِ بنِ أبي قحافةَ. تزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبلَ الهجرةِ بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وقيل غيرُ ذلك، وهي بنتُ ستِّ سنينَ، وبنى بها بعد الهجرة مُنْصَرَفَهُ من بدرٍ في شوالٍ السَّنة الثَّانية من الهجرة، وتوفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي ابنةُ ثماني عشرةَ سنة، رُوي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفُ حديثٍ ومئتا حديثٍ وعشرة أحاديث، اتفق البخاريُّ ومسلم على مئةٍ وأربعةٍ وتسعين حديثًا، وانفردَ البخاريُّ بأربعةٍ وخمسين حديثًا، ومسلمٌ بثمانيةٍ وستين حديثًا، روى عنها من الصَّحابة: عبدُ الله بنُ عبَّاس، وعبدُ الله بنُ الزبير، وعبدُ الله بنُ قيسٍ الأشعريُّ، وعبدُ الله بنُ عامرِ بن ربيعةَ، وأبو هريرة، ونيّفٌ وستُّون رجلًا وامرأةً من التابعين في الصَّحيح، توفيت سنةَ سبع، وقيل: ثمان وخمسين، لسبعَ عشرةَ ليلةً خَلَتْ من شهر رمضان، وأَمرتْ أنْ تُدفنَ بالبقيع، وصلَّى عليها أبو هريرة، ونزل قبرها خمسةٌ: عبدُ الله وعروةُ ابنا الزُّبير، والقاسم بن محمَّد، وعبد الله بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر (¬1) - رضي الله عنهم -. ومناقبهُا كثيرة جدًّا؛ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قالَ: ¬

_ (¬1) في "ح": "وعبد الله بن محمد بن أبي بكر".

"عَائِشَةُ لا، قِيْلَ: مِنَ الرِّجَالَ؟ قالَ:. "أَبُوهَا" رواه مسلمٌ (¬1). وعن مسروقٍ قال: رأيتُ مشيخةَ (¬2) أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابرَ يسألون عائشةَ عن الفرائض (¬3). وعن عطاءِ بن أبي رباح قال: كانت عائشةُ أفقهَ الناس، وأعلمَ الناس، وأحسنَ الناس رأيًا في العامَّة (¬4). وعن عروة قال: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بفقهٍ ولا بطبٍّ ولا بشعرٍ من عائشة - رضي الله عنها - (¬5). وعن القاسمِ بنِ محمَّدٍ قال: كانت عائشةُ قد استقلَّتْ بالفتوى في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهلمَّ جرًّا، إلى أن ماتت (¬6). واعلمْ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مات عن تسع من أزواجه، وعائشةُ أفضلهنَّ بلا خلاف. وهل هي أفضلُ من خديجةَ بنتِ خويلد؟ وجهان حكاهما صاحب "التتمة" (¬7)، وادعى الثعلبي الإجماع على أن خديجةَ أولُ الناس إسلامًا، وهذا يقتضي ترجيحَ تفضيلِها على عائشة -رضي الله عنهن-. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4100)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات السلاسل، ومسلم (2384)، كتاب: فضائل الصحابة -رضي الله عنهم-، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (¬2) في "ح" "بمشيخة". (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31037)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 375)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 181)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 12). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (6748)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (2762). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 182)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (2759). (¬6) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 375)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (49/ 165). (¬7) وهو للإمام أبي سعد عبد الرحمن مأمون المتولّي النيسابوري الشافعي، المتوفى سنة (478 هـ)، أتمّ فيه كتاب "الإبانة" للإمام الفوارني، وقد كتبها إلى كتاب "الحدود"، وشرحها، وفرع عليها، وجمع فيها نوادر المسائل وغرائبها لا تكاد توجد في غيرها. انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 555)، "وكشف الظنون" (1/ 1).

واختصَّت عائشةُ بفضائل لم يشركْها أحدٌ من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: الأولى: أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوجها بِكْرًا دون غيرها. الثانية: أنها خُيِّرَتْ فاختارتِ اللهَ ورسولَه على الفور، وكُنَّ تبعًا لها في ذلك. الثالثةُ: نزول آية التَّيَمُّم بسبب عِقْدِها حين حبسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاس، وقال أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرِ: ما هيَ بأولِ بركتِكم [يا] آلَ أبي بكر (¬1). الرَّابعةُ: نزولُ براءتها من السَّماء. الخامسة: جَعْلُها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة. السادسةُ: تَتَبُّعُ الناس بهداياهم يومَها؛ لما علموا من حبِّه - صلى الله عليه وسلم - لها. السابعة: اختيارُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُمَرَّضَ في بيتها. الثامنةُ: وفاته - صلى الله عليه وسلم - بين سَحْرِها ونحرِها. التاسعة: وفاته في يومها. العاشرةُ: وفاته - صلى الله عليه وسلم - في بيتها. الحاديةَ عشرةَ: دفنُه - صلى الله عليه وسلم - في بيتِها. الثانية عشرة: [بيتها] بقعة هي أفضلُ بقاع الأرض مطلقًا، وهي مدفنه - صلى الله عليه وسلم -، وادعى القاضي عياض الإجماع عليه. الثالثةَ عشرةَ: أنها رأتْ جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحيةَ الكلبيِّ، وسلَّم عليها. الرَّابعةَ عشرةَ: كانت أحبَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه. الخامسةَ عشر: اجتماعُ ريقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريقِها في آخر أنفاسه. السَّادسةَ عشرةَ: كانت أكثرَهن علمًا. السَّابعةَ عشرةَ: كانت أفصحَهن لسانًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (327)، وفي أول كتاب: التيمم، ومسلم (367)، كتاب: الحيض، باب: التيمم.

الثامنةَ عشرةَ: لم ينزلِ الوحيُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لِحاف امرأةِ غيرها. التَّاسعةَ عشرةَ: أن جبريلَ جاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بصورتها قبل أن يتزوَّجها. العشرون: لم ينكح النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبواها مُهاجران بلا خلاف سواها. الحاديةُ والعشرون: كان أبوها أحبَّ الرجال إليه، وأعزهم عليه - صلى الله عليه وسلم -. الثَّانيةُ والعشرونَ: كان لها يومان وليلتان في القَسْم دونهن لمَّا وهبتْها سَوْدَةُ بنتُ زمعةَ يومَها وليلتَها. الثالثةُ والعشرون: أنَّها كانت تغضب، فيترضَّاها - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت ذلك لغيرها. الرَّابعةُ والعشرون: لم ينزلْ بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجا، وللمسلمين بركة. الخامسةُ والعشرون: لم يَرْوِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ حديثًا أكثرَ منها. السَّادسةُ والعشرون: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يتتبع رضاها في المباحات؛ كضرب الجواري إليها، وجعل ذقنها على عاتقه، ووقوفه لتنظر إلى الحَبَشَةِ يلعبون (¬1). وأمَّا ألفاظُه: فالتَّنَعُّلُ: لُبْسُ النَّعْل، والتَّرَجُّلُ: تسريح الشَّعر، يقال: شعر مرجَّلٌ؛ أي: مسرَّح، وشعرٌ رَجِلٌ ورَجْلٌ، ورجلَه صاحبُه: إذا سرَّحه ودهنه (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 58)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1881)، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 29)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 15)، و"المنتظم" له أيضًا (5/ 302)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 186)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 227)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 135)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (16/ 341)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 16)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 16)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 461)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (1/ 61). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 241)، و"المُغرب" للمطرزي (1/ 323)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 203).

والتَّيَمُّنُ في التنعل: البدأةُ باليمنى، وفي التَّرَجُّل: البدأَة بالشق الأيمن من الرَّأس في تسريحه ودهنه، وفي الطهور، البدأَة بالشقّ الأيمن في الغسل، وباليد اليمنى والرِّجْل اليمنى في الوضوء، وأما الخدَّان والعينان والأذنان والمنخران والكفان، فلا يشْرعُ التَّيمُّن فيهما كما تقدَّم إلَّا أنْ يكونَ أقطعَ ونحوَه، فتقدم اليمين (¬1). وقولها: "وفي شَأنِهِ كُلِّهِ": عامٌّ في كل شيء، خُصَّ منه دخولُ الخلاء، والخروجُ من المسجد، والامتخاطُ، والاستنجاءُ وما شابه ذلك. والطُّهورُ في هذا الحديث -بضم الطّاء-، والمراد به فعل الطَّهارة، وبفتح الطَّاء: الماء الَّذي يُتطهَّر به، وقال سيبويه: الطَّهور -بالفتح- يقع على الماء والمصدر معًا (¬2). والضَّابط في معنى هذا الحديث: أن ما كان من باب التَّكريم والرُّتبة (¬3) كان لليمين، وما كان بخلافه، فلليسار. وحكم البدأة باليمنى الاستحبابُ عند مالك والشّافعيِّ، وإن كان الشَّافعيُّ يقول بوجوب التَّرتيب في أعضاء الوضوء؛ فإنَّ اليدين والرّجلين كالعضو الواحد؛ حيثُ جُمعا في لفظ القرآن العزيز؛ حيث قال: {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [الأعراف: 124]، وهو مجمع عليه، ويدخل في عموم قولها: وفي شأنه كُلِّه: حالة اللِّباس، والأكل، والشرب، والأخذ، والعطاء، والاكتحال والسِّواك، وتقليم الأظفار، وقصّ الشَّاربِ، ونتف الإبطِ، وحلق الرأس، والمصافحة، واستلام الحَجَرِ، وما أشبهَ ذلك. فلو تعارض الانتعالُ والخروجُ من المسجد، خرجَ منه بيسارِه، ووضعَها على ¬

_ (¬1) في "ح": "اليسر". (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 504)، و"مختار الصحاح" (ص: 167)، و"القاموس المحيط" اللفيروز أبادي (ص: 554)، (مادة: طهر). (¬3) في "ح": "التكرم والزنية".

الحديث العاشر

نعلِه اليسرى من غير لبس، ثمَّ خرج باليمنى، ولبسَها، ثم لبس اليسرى -والله أعلم-. واعلمْ أن تقديمَ اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنَّة، لو خالفه، صح الوضوءُ، وفاته الفضيلةُ، وقالت الشِّيعةُ: هو واجب، ولا اعتدادَ بخلافهم، لكن قال الشَّافعي: الابتداءُ باليسارِ مكروهٌ -نص عليه في "الأم"- (¬1). وقد روى أبو داودَ والتّرمذي بأسانيدَ جيدةٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا لَبِسْتُمْ وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَؤُوا بِأيَامِنِكُمْ" (¬2) ظاهرُ الأمرِ فيه للوجوب، فمخالفته محرَّمةٌ، لكن انعقد الإجماع على عدم التَّحريم، فثبتتِ الكراهة -والله أعلم-. * * * الحديث العاشر عن نُعيمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إن أمتي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" (¬3). وفي لفظ: رأيتُ ابا هريرةَ يتوضَّأ، فَغسَلَ وجهَه ويدَيْه حتَى كَادَ يبلغُ المنكبينِ، ثمَّ غسَلَ رِجْلَيه حتَى رفعَ إلى الساقين، ثمَّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 26). (¬2) رواه أبو داود (4141)، كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، وابن ماجه (402)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الوضوء، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 354)، وابن خزيمة في "صحيحه" (178)، وابن حبان في "صحيحه" (1090). قلت: ولم يروه الترمذي باللفظ المزبور، وإنما روى (1766)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في القمص، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لبس قميصًا بدأ بميامنه". ولعل المؤلف قد تبع شيخه النووي - رحمه الله - في "رياض الصالحين" (ص: 198)، في نسبة الحديث للترمذي، والله أعلم. (¬3) رواه البخاري (136)، كتاب: الوضوء، باب: فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء.

يقولُ "إن أمتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أثَرِ الوُضُوء، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنكمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" (¬1). وفي لفظٍ لمسلمٍ: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ" (¬2). أما نعيمٌ، فكنيته أبو عبد الله بنُ عبدِ الله، ويقالُ: ابنُ محمدٍ، حكاه ابن حبان، وهو عدوي، مولى عمرَ بنِ الخطَّاب - رضي الله عنه -، تابعي مدني، سمعَ ابنَ عمرَ وأَنَسًا وأبا هريرة، اتفقوا على توثيقه، روى له صاحبا "الصحيحينِ". وأما المُجْمِرُ، فهو -بضم الميم وسكون الجيم وكسر الميم الثانية-، ويشتبه بمِخْمَرٍ -بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الميم الثانية- ابنِ اخي النجاشي ذي مِخْمَر، وقال ابنُ يونس: مُجْمِر -بضمِّ الميم وكسر الثانية- ويقال: مِخْبَر -بكسر الميم وإبدال الثانية باءً موحدة مفتوحة-، وجماعة من آباء الرواة مجمر (¬3) بلا اختلاف، وهو صفةٌ لعبدِ الله أبي نُعيم، لا لنعيمٍ على قولِ الأكثرين، منهمُ ابنُ حِبانَ، وصاحب "المطالع"، وقال: إنما استُعمل في نعيم مجازًا، قال ابن حِيان: وإنما قيل: الْمُجْمِر؛ لأن أباه كان يأخذُ المجمرَ قدامَ عمرَ بنِ الخطاب إذا خرجَ إلى المسجد في شهر رمضان، ويقال: إن عمرَ جعلَ نعيمًا على إجمار المسجد، فسمي: المجمِّرَ؛ ذكره عبد الغني المقدسي في "ترجمة كيسان"، وما أظنهُ صحيحًا -والله أعلم- (¬4)، وتجمير المسجد: تبخيرُه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (246)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. (¬2) رواه مسلم (250)، كتاب: الطهارة، باب: تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء. (¬3) في "ح": "مخمر". (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 309)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 460)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 476)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 395)، و"الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1/ 216)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 487)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 227)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 414).

وأما أبو هريرة، فتقدم. وأما الغُرَّةُ، فهي البياض في الوجه، والتَّحجيلُ: بياضٌ في اليدين والرّجلين، وأصله في اللغة: البياضُ في جبهة الفرس ويديها ورجليها (¬1)، ثمَّ استعملَهُ - صلى الله عليه وسلم - في العلامة التي تكون على المؤمنين يوم القيامة في مواضع الوضوء، وهي نور، وسمَّاه غرةً وتحجيلًا من آثار الوضوء، والمرادُ به في الغرة: غسلُ شيءٍ من مقدم الرأس وما يجاوزُ الوجهَ زائدٍ على الجزء الذي يجبُ غسلُه لاستيعابِ كمالِ الوجه، وفي التَّحجيل: غسلُ ما فوقَ المرفقين والكعبين، وهو مستحب بلا خلاف، وادعَى الإمامُ أبو الحسن بن بطَّالٍ المالكي، ثم القاضي عياض اتفاقَ العلماء على أنه لا يُستحبُّ الزيادة فوق المرفقِ والكعبِ، وهي دعوى باطلة؛ فقد ثبت فعل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي هريرة، وعمل العلماء وفتواهم عليه، فهما محجوجان بذلك، واحتجاجهما بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أو نَقَصَ، فَقَدْ أسَاءَ وَظَلَمَ" (¬2) غيرُ صحيح؛ لأن المرادَ به الزّيادةُ في عدد المراتِ أو النقصُ عن الواجبِ، أو الثواب المرتب على نقص العدد، لا الزّيادة على تطويل الغرة والتَّحجيل -والله أعلم-. وأما حدُّ الزائِدِ، فقالَ بعضُ أصحابِ الشَّافعيّ: لا حد له، وقال بعضُهم: حده نصفُ العَضُدِ والساقِ، وقال بعضُهم: إلى الركبتين والمنكِب، والأحاديثُ تقتضي ذلك كله. [وقد استعمل أبو هريرة - رضي الله عنه - الحديثَ على إطلاقه، فظاهرُه في إطالة الغرة والتحجيل -والله أعلم-] (¬3). وقوله: "يُدْعَوْنَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ"، يحتمل أَنْ يكونَ منصوبًا على المفعولية ¬

_ (¬1) انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (3/ 62)، و"مختار الصحاح" (ص: 197)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 14)، (مادة: غرر) و (مادة: حجل). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ما بين معكوفين لس في "ح".

ليُدعون بمعنى التسمية؛ أي: يُسموْن غُرًّا، ويحتملُ أَنْ يكونَ على الحال، وهو الأقرب. وقوله: "مِنْ آثَارِ الوُضُوء" هو -بضم الواو، وهذا هو المعروف، ويجوز أن يُقال بفتحِها، ويكونُ المراد: آثارَ الماءِ المستعملِ في الوضوء، فالغرةُ والتَّحجيلُ نشآ عن الفعل بالماء، فيجوز نسبتُهما إلى كل واحدٍ منهما. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَنِ استَطَاعَ مِنكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" اقتصارُه - صلى الله عليه وسلم - على ذكر الغرة دون التحجيل، من باب التَّغليب بالذكر لأحدِ الشَّيئين، وإن كان بسبيلٍ واحدٍ للتَّرغيب فيه، وقد استعملَ الفقهاءُ ذلك، فقالوا: يُستحب تطويلُ الغرة، ومرادُهم الغُرةُ والتحجيل -والله أعلم-. وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على أن الوضوءَ من خصائصِ هذه الأمة -زادَها اللهُ تعالى شرفًا-، وقال آخرونَ: ليس الوضوءُ مختصًّا بها، بل الذي اختصَّت به الغرة والتحجيلُ. واحتجوا بالحديث الآخر: "هَذَا وُضُوئي وَوُضُوءُ الأَنبِياء قَبْلي" (¬1)، وأجاب الأولون عن هذا بجوابين: أحدُهما: أنَّه حديثٌ ضعيفٌ معروفُ الضَّعفِ. والثاني: لو صح، لاحتمل اختصاصَ الأنبياء دون أممهم؛ بخلاف هذه الأمة -والله أعلم-، ولا شكَّ أن هذه الأمة مختصةٌ بآثارِ الوضوء يوم القيامة، وهو النور الذي يكون في الوجوه والأيدي والأرجل المسمَّى بالحِلْية دونَ غيرِهم من الأمم -والله أعلم-. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (420)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا، من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - إلا أن لفظه: " ... ووضوء المرسلين ....... ". وقد رواه باللفظ الذي ساقه المؤلف: الطيالسي في "مسنده" (1924)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (5598)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 161 - 162)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 246)، والدارقطني في"سننه" (1/ 79)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 80)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وقولُ أبي هريرة - رضي الله عنه -: "سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - " أصلُ الخليل: الصَّديقُ، فَعيلٌ بمعنى مفعول، وهو المحبوبُ الذي تخللت محبته القلبَ، فصارت خِلالَه؛ أي: في باطنه، ولا شكَّ أنه يجبُ محبةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - محبةً تُخالطُ القلبَ والبدن، مقدمةً على النفس والمال والولد والناس أجمعين، ويجوزُ إطلاقُ ذلك هنا بهذا المعنى، فيقولُ أحدُ الصحابة أو كلهم: سمعت خليلي، وقال خليلي، وأمَّا هو - صلى الله عليه وسلم - فلم يتَّخذْ أحدًا خليلًا؛ لأن خلته كانت مقصورة على حبِّ الله تعالى، فليس فيها متَّسَعٌ لغيره، ولا شركةٌ من محابِّ الدنيا والآخرة، ولا ينال ذلك إلا بفضل الله لمن يشاء من عباده. ففي الحديث: استحبابُ المحافظةِ على الوضوء وسننِه المشروعة. وفيه: ما أعدَّه الله تعالى من الفضل والعلامة لأهل الوضوء يوم القيامة. وفيه: ما أطلعه الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من المغيبات المستقبلة التي لم يُطلع عليها نبيًّا غيره - صلى الله عليه وسلم - من أمور الآخرة وصفات ما فيها -والله أعلم-. * * *

باب الاستطابة

باب الاستطابة الاستطابة: إزالة الأذى عن المَخْرَجَيْن بحجرٍ أو ماءٍ، مأخوذٌ من الطِّيب، يقال: استطاب الرّجل فهو مستطيبٌ، وأطاب فهو مطيِّب (¬1). * * * الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" الخبث -بضم الخاء والباء- وهو جمعُ خبيثٍ، والخبائثُ: جمع خبيثةٍ، استعاذ من ذُكران الشياطين وإناثهم (¬2). أما أنس، فهو أنصاري خزرجي نجاري (¬3) كنيته أبو حمزة، كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلةٍ كان يجتنيها، قال: الأزهري: البقلة التي جناها أنس كان في طعمها لذعٌ، فسمِّيت حمزة بفعلها فقال: رمَّانة حامزة؛ أي: فيها حموضةٌ، وهو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن يزيد بن حرام -بالحاء المهملة والرَّاء- وجمع ما في الأنصار من الأسماء حرامٌ كذلك، وفي قريش بكسر ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 180 - 181)، "ولسان العرب" لابن منظور (1/ 567) (مادة: طيب). (¬2) رواه البخاري (142)، كتاب: الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، ومسلم (375)، كتاب: الحيض، باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء. (¬3) في "ح": "حجازي".

الحاءِ المهملة والزَّاي-، أمه أمُّ سُلَيْم، واختُلف في اسمها اختلافًا كثيرًا، والصحيح مليكة، وهو الثابت في "الصحيحين"، وهي بنت مِلْحان -بكسر الميم على المشهور-. وحكى صاحب "المطالع" عن بعضهم فتحَها (¬1)، أتت به أُمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخدمَه حين قدمَ المدينةَ، فخدمه عشرَ سنين، فكان عمرُه عشرًا، وقيل: ثمانيًا، ودعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكثرةِ المالِ والولدِ، فرأى - رضي الله عنه - من أولاده وأحفاده أكثرَ من مئة وعشرين، منهم لصلبه ثمانون ولدًا، ثمانية وسبعون ذكرًا، وابنتان. وقال أنس: أخبرتني ابنتي أُمَيْنَةُ أنَّه دُفن لصلبي إلى مقدم الحَجاجِّ البصرةَ بضع وعشرون ومئة (¬2). وهو من أكثر الصَّحابة حديثًا، رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديثٍ، ومئتا حديثٍ، وستة وثمانون حديثًا، اتَّفقا على مئةٍ وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثةٍ وثمانين، ومسلمٌ بأحدٍ وسبعين. روى عنه: أبو أمامةَ أسعدُ بنِ سهلِ بنُ حنيفٍ، وابناه موسى والنضر، وأحفاده، وخلق كثير من التَّابعين. وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أُمِّه أمِّ سُليم فيصلي في بيتها غيرَ المكتوبة، ويدعو لهم بخير الدنيا والآخرة. وهو من أطولِ الصَّحابة عمرًا، وسكن البصرةَ، ومات بها سنة ثلاث، وقيل: خمس، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين وتسعين، ودفن بقصره على نحو فرسخين من البصرة، وهو آخرُ مَنْ مات من الصحابة بها - رضي الله عنه -، وقال محمدُ بنُ عبدِ الله الأنصاري: كان سِنه يومَ ماتَ مئةً وسبعَ سنين. وقال حُمَيدٌ: عُمرَ مئةَ سنةٍ إلا سنةً، ولا التفات إلى قول من قال: إنه آخر ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 399). (¬2) رواه البخاري (1881)، كتاب: الصوم، باب: من زار قومًا فلم يفطر عندهم.

الصحابة موتًا، بل آخرهم موتًا أبو الطُّفيل عامرُ بن واثلة؛ فإنه مات سنةَ مئة، وقال مُوَرِّقٌ العجلي لما مات أنسٌ: ذهبَ اليومَ نصفُ العلم (¬1). أما ألفاظُه: فالخلاء -بفتح الخاء المعجمة والمدِّ-: موضعُ قضاء الحاجة، وكذلك الكَنيفُ، والمِرْحاض، وأصلُه المكانُ الخالي، ثمَّ كثر استعماله حتى يُجُوز به غير ذلك. وقوله: "إذا دخلَ" معناه: إذا أراد الدُّخول كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: 98]، وقد ثبت هذا المعنى تصريحًا في رواية البخاري قال: كانَ إذا أرادَ أن يدخلَ. وأما الخبث، فهو بضم الخاء والباء وإسكانها، لكنِ الأكثرونَ على الضم، والإسكانُ جائزٌ كما في نظائره، ونقل القاضي عياضٌ أن الأكثرين على الإسكانِ، وقال الخطابي: الإسكانُ غلطٌ، وكلا القولين خلافُ الصواب، بل الوجهان جائزان كما ذكرنا، وجوازُ الإسكان على سبيل التخفيف قياسًا؛ كما يقال: كُتب ورُسل، وعُنق، وأُذن غير ممنوع، لا خلافَ فيه عند أئمة العربية، وهو باب معروف عند أئمةِ التصريفِ، وهو أن فُعُلًا -بضم الفاء والعين- تخَفَّفُ عينُه قياسًا، فلعل الخطابيَّ أنكرَ أن الأصلَ الإسكان فيه، لكن عبارتَه موهمة، وممَن صرح بأن الباء ساكنةٌ هنا إمامُ هذا الفنِّ والعمدةُ فيه أبو عبيد القاسم بنُ سَلام، والخُبثُ -بالضم- جمعُ الخبيثٍ، والخبائث جمعُ الخبيثة، يريد ذُكْرانَ الشَّياطين ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 17)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 4)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 332)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 710)، و"المنتظم" له أيضًا (6/ 303)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 294)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 109)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 136)، و "تهذيب الكمال" للمزي (3/ 353)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 395)، و"تذكرة الحفاظ له أيضًا (1/ 44)، و"العبر" له أيضًا (1/ 107)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 331)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 126)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 329).

وإناثَهم، وقيل: هو الشَّرُّ، وقيل: الكفرُ، وقيلَ: الخُبُثُ: الشَّيطان، والخبائثُ: المعاصي، وقال ابن الأعرابيّ: الخبثُ في كلام العرب: المكروهُ؛ فإن كان من الكلام، فهو الشَّتم، وإن كان من الملل، فهو الكفرُ، وإن كان من الطعام، فهو الحرام، وإن كان من الشَّراب فهو الضَّارُّ (¬1). ولا شك في صحة هذا الحديث من رواية أنسٍ - رضي الله عنه - كما ذكره المصنِّفُ، وهو ثابتٌ في "الصحيحين"، وقد رواه أبو داود والترمذي والنَّسائي وابنُ ماجَهْ، والحاكمُ أبو عبد الله في "مستدركه" من روايةِ زيدِ بنِ أرقم - رضي الله عنه - بزيادة في أوله، وهي: "إن هذِهِ الحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإذَا أتَى أَحَدُكُمُ الخَلاءَ، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخُبُثِ وَالخَبَائِثِ"، وقال الترمذي: حديثُ أنسٍ أصح شيءٍ في الباب وأحسنُ، وحديثُ زيدِ بنِ أرقم في إسناده اضطرابٌ (¬2)، وأشار إلى اختلاف الرواةِ فيه، وقال أبو محمد عبدُ الحق في "أحكامه الوسطى": حديثُ زيدِ بن أرقم اختلف في إسنادِه، والذي أسنده ثقةٌ، وقال الحاكم: هو من شرط الصحيح، ولم يُخرجاه بهذا اللفظ، وقال شيخنا أبو زكريا النواوي - رحمه الله -: حديثُ زيدِ بنِ أرقمَ صحيحٌ أو حسنٌ، قلتُ: وهو حسنٌ عندَ أبي داودَ؛ لسكوته عليه -والله أعلم-. قال شيخنا أبو الفتح بنُ دقيق العيد القشيريّ - رحمه الله - قولُه: "إذا دخلَ": يحتملُ أن يُرادَ به: إذا أراد الدخول؛ كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 192)، و"الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (1/ 348)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 228)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 6)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 82)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 36)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 141)، (مادة: خبث). (¬2) رواه أبو داود (6)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، والنسائي في "السنن الكبرى" (6/ 23)، والترمذي في "العلل" (ص: 22)، وابن ماجه (296)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، والحاكم في "المستدرك" (669).

شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، ويحتمل أن يريد به: ابتداءُ الدخول، وذكرُ الله تعالى مستحبٌّ في ابتداءِ قضاءِ الحاجة، فإِنْ كان المحل الذي يقضي فيه الحاجة غيرَ معدٍّ لذلك؛ كالصحراء مثلًا، جاز ذكرُ الله تعالى في ذلك المكان، وإن كان معدًّا لذلك؛ كالكنيف، ففي جواز الذِّكر فيه خلافٌ بين الفقهاء، فَمَنْ كَرِهَه، فهو محتاجٌ إلى أَنْ يُؤولَ قولَه: إذا دخل بمعنى: إذا أراد؛ لأن لفظة دخل أقوى في الدلالة على الكُنُفِ المبنيَّة منها على المكان البَراح، أو لأنه قد تبين في حديث آخرَ المرادُ؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم - "إن هَذ الحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فَإذا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الخَلاءَ فَلْيَقُل "الحديث، وأما من أجازَ ذكرَ الله تعالى في هذا المكان، فلا يحتاج إلى هذا التأويل، ويحمل دخل على حقيقتها، ثُمَّ قال: الحديثُ الذي ذكرناه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هَذه الحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ"؛ أيْ: للجانِّ والشَّياطين بيانٌ لمناسبةِ هذا الدُّعاء المخصوص لهذا المكان المخصوص، هذا آخرُ كلامه (¬1). قلت: أمَّا قولُه: يجوز ذكرُ الله تعالى في مكان قضاء الحاجة إذا كان غيرَ مُعدٍّ له؛ كالصحراء، وإن كان معدًّا لها، ففيه خلافٌ بين الفقهاء، وجعلُه حديثَ الحشوش محتضرة بيانًا لمناسبة هذا الدعاء المخصوص في هذا المكان المخصوص، فلا أعلم أحدًا ذكر هذه الجملة من العلماء في الجواز والاختلاف والمناسبة، بل كلهم ذكروا الكراهةَ فيه، حتَّى صرَّح بعضُ العلماءِ في الصحراءِ بالكراهةِ إذا أرادَ قضاءَ الحاجة، وأراد اتخاذَ مكانٍ منه أنَّه يصيرُ حكمُهُ حكمَ المكان المتخذ في البنيان. ورأيت بعض المتأخِّرين ينقلُ تحريمَ استصحابِ ذكرِ الله تعالى فيه المكتوب، فكيف بالنُّطق به؟، ولم أرَه، لكنَّهم صرَّحوا بالكراهة، سواءٌ كانَ غير قاضٍ حاجتَه، أَمْ على قضائها، ومناسبةُ الاستعاذةِ تقتضي ذلك، أما أنها تقتضي جوازَ ذكرِ الله تعالى فيه، فلا -والله أعلم-. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 50 - 51).

الحديث الثاني

وأما قولُه: ويحتمل أن يريد به ابتداء الدخول، فهو غيرُ صحيح، مع التصريح في رواية البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أرادَ دخولَ الخلاء، قال -والله أعلم-. وفي هذا الحديث دليلٌ: على مراقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لربه، ومحافظتِه على ضبط أوقاتِه وحالاتِه، واستعاذتِه عندما ينبغي أَنْ يُستعاذَ منه، ونطقِه بما ينبغي أَنْ ينطقَ به، وسكوته عندما ينبغي أَنْ يسكتَ عنده، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: " غُفْرَانَكَ" (¬1)؛ أيْ: أسألك غفرانَك على حالةٍ شَغَلَتْني عن ذكرِك. وفيه: شرعيَّةُ هذا الذكر عند إرادة دخول الخلاء، وهو متَّفق عليه. وفيه: ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضبط أموره - صلى الله عليه وسلم -، وأحواله، وأقواله، وأفعاله، وأذكاره، وغير ذلك -رضي الله عنهم- أجمعين. * * * الحديث الثّاني عن أبي أَيُّوبَ الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذَا أتيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتدبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غرِّبوُا" قال أبو أيوب: فَقَدِمْنا الشَّام، فوجدنا مراحيضَ قد بُنيت نحوَ الكعبة، فننحرفُ عنها، ونستغفرُ الله تعالى (¬2). الغائطُ: الموضعُ (¬3) المُطْمَئِنُّ من الأرض، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنَّوا به ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (30)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، والترمذي (7)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (300)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 155)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه البخاري (386)، كتاب: الصلاة، باب: قبلة أهل المدينة وأهل الشام، ومسلم (264)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة. (¬3) "الموضع": ليس في "ح".

عن نفس الحدث؛ كراهيةً لذكره بخاصِّ اسمه، والمراحيضُ: جمع المِرْحاض، وهو المغتسَل، وهو -أيضًا- كنايةٌ عن موضع التَّخَلِّي. أمَّا أبو أَيُّوب، فاسمه: خالدُ بنُ زيدِ بنِ كُليبِ بنِ ثعلبةَ، الخزرجي، نَجَّاريٌّ، شهد بدرًا والمشاهدَ كلِّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد العقبةَ الثانيةَ، وبايع -أيضًا-، ونزل عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدمَ المدينةَ شهرًا حتى بُنيت مساكنُه ومسجدُه، وقال أبو أيوبَ: لمَّا نزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، نزل في السُّفْل، وأنا وأمُّ أيُّوبَ في العُلْوِ، قال: فقلت له: بأبي أنتَ وأُمِّي! إنِّي أكره وأُعْظِمُ أَنْ أكونَ فوقَك وتكونَ تحتي، فكنْ أنتَ في العلوِ، وننزلُ نحن فنكون في السفْل، قالَ: "يا أَبا أيوبَ! إنَّ أَرْفَقَ بِنا وَبِمَنْ يَغْشَانَا أَنْ نَكُونَ في أَسْفَلِ البَيْتِ"، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سُفْله، وكنا فوقَه في المسكن، فلقد انكسر جُبٌّ لنا فيه ماءٌ، فقمت أنا وأمُّ أيوبَ بقَطيفةٍ لنا ما لنا لحافٌ غيرها ننشِّفُ بها الماءَ؛ خوفًا أَنْ يقطرَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ (¬1). ولمَّا تُحُدِّث في الإفك، وقالت له أمُّ أيوب: ألم تسمعْ ما يتحدث به النَّاس؟ وأخبرته، فقال - رضي الله عنه -: ما يكونُ لنا أَنْ نتكلمَ بهذا -سبحانَ الله- هذا بهتانٌ عظيمٌ، فأنزل الله الآية: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 16] إلى آخرها (¬2). رُوِيَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةٌ وخمسونَ حديثًا، اتَّفق البخاري ومسلمٌ منها على سبعةٍ، وانفرد البخاري بحديثٍ واحدٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ. رَوَىَ عنه: البراءُ بنُ عازبٍ، وجابرُ بنُ سَمُرَةَ، والمقدادُ بنُ معدي كَرِب، وأبو أمامةَ الباهلي، وزيدُ بنُ خالدِ الجهني، وعبدُ الله بنُ عبَّاسٍ، وعبدُ الله بنُ يزيدَ الخطميُّ -رضي الله عنهم أجمعين-، وخلقٌ كثيرٌ من التَّابعين. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في: "الآحاد والمثاني" (1886)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3855)، والحاكم في "المستدرك" (5939)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 43). (¬2) رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (1698)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 76)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 48). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 160).

ماتَ بأرضِ الرُّوم غازيًا سنة اثنتين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سنة خمسين زمن معاوية. وروى ابن سيرين: أنَّه غزا زمنَ معاوية، فمرضَ، فقال لهم: قَدِّموني في أرض الرُّوم ما استطعتم (¬1). وروى المدائنيُّ: أنَّه دخلَ عليه يزيدُ بنُ معاويةَ، فقال: ما حاجتُك؟ قال: تُعَمِّقُ قبري وتُوَسِّعُه (¬2). وقال أبو حاتم بن حِبان البُسْتِي - رحمه الله -: إنَّ أبا أيُّوبَ قالَ لهم: إذا أنا مِتُّ فقدموني في بلاد الرُّوم ما استطعتم، ثمَّ ادفنوني، فماتَ، وكانَ المسلمون على حصارِ القسطنطينية، فقدَّموه حتَّى دفنَ إلى جانبِ حائطِها. روى له أصحاب الكتب السِّتة، وغيرُهم (¬3). وأمَّا قوله: "الأنصاريُّ"، فهي نسبة إلى الأنصار، واحدهم نصير؛ كشريف وأشراف، وقيل: ناصر؛ كصاحب وأصحاب، وهم قبيلتان: الخزرج والأوْس، والخزرج أشرفُهما؛ لكونِ أَخْوالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، وهو وصفٌ لهم إسلاميٌّ. روى البخاريُّ في "صحيحه"، عن غَيْلاَنَ بنِ جريرٍ، قال: قلتُ لأنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -: أرأيتَ اسمَ الأنصارِ، أكنتم تُسَمُّون به، أم سمَّاكم الله تعالى به؟ قال: بل سَمَّانا الله تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/ 125). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 60). (¬3) وانظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 484)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 102)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 424)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 153)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 33)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي، (1/ 468)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 22)، و "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 469)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 66)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 402)، و "البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 58)، و "الوافي بالوفيات" للصفدي (10/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 234)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 79). (¬4) رواه البخاري (3565)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الأنصار.

واعلم أن الخزرج والأوس هما ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ العنقاء بنِ عمرِو مزيقياء بنِ عامرِ ماءِ السماء بنِ حارثةَ الغطريفِ بنِ امرئِ القيسِ بنِ ثعلبةَ بنِ مازنِ بنِ الأزدِ بنِ الغوث بن نَبْتِ بنِ مالكِ بنِ زيدِ بنِ كهلانَ بنِ سبأ بنِ يشجبَ بنِ يعربَ بنِ قحطانَ بنِ عامرِ بنِ شالخِ بنِ أرفخشذَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ - صلى الله عليه وسلم -. وقحطانُ أصلُ العرب، وهو يقطن، وقيل: يَقْظَانَ، وسمّي قحطانَ؛ لأنه كان أولَ مَنْ تجبَّر وظلمَ وقحطَ أموالَ الناس من ملوك العرب -والله أعلم-. وأمَّا ألفاظُه: فقد ذكر المصنف الغائطَ والمراحيضَ، والشَّأم مهموزٌ، ويجوز تسهيلُه، ويقال: الشآم -بالمد- في لغة قليلة، وهو مذكَّر، وقد يؤنثُ، فيقال: الشامُ مباركٌ ومباركة، وسمِّي به لأن سامَ بنَ نوح سكنه أولًا، فَعُرِّبَ بالشين، وقيل: لكثرة قراه، ودنوِّ بعضِها من بعض؛ كالشَّامات، وقيل: لأن بابَ الكعبة مستقبلٌ مَطْلِعَ الشَّمس، فمن استقبلَه كان اليمنُ عن يمينه، والشَّام عن شماله، وهي الشُّومى، فسمِّيا بذلك، وحَدُّهُ في الطول من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالس، وفي العرض، قال السمْعَاني: هو بلاد بين الجزيرة والغور إلى السَّاحل، وهو أفضلُ البقاع بعد مكة والمدينة، وقد بارك الله تعالى فيه -والله أعلم-. وقوله: "قَدْ بُنِيَتْ": يعني: في الجاهلية، وبناؤها نحو الكعبة ليس قصدًا لها، ولا لقبلة أهل الشام إذْ ذاكَ، وهي بيتُ المقدس، وإنما هو مجرد جهل ومُصادفة. والمراد بالقبلةِ المنهيِّ عن استقبالِها واستدبارِها: الكعبةُ، فعلى هذا يكون الألف واللام فيها للعهد، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ للجنس، وإن كان وردَ النهيُ عن استقبالِ بيتِ المقدسِ في "سنن أبي داود" وابن ماجَهْ، و"مسند أحمد بنِ حنبل"، من رواية مَعْقِلِ بنِ أبي معقل الأسدي - رضي الله عنه -، بإسناد حسن؛ لأن النَّهي فيه إنما هو في استقباله فقط، ولفظُه: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نستقبلَ القبلتين ببولٍ أو بغائطٍ (¬1)، ولأن القبلةَ عندَ الإطلاقِ تُصرَفُ إلى الكعبة في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (10)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وابن=

شرعنا، لا على القبلة المنسوخة، ولأن النهي في الكعبة عن الاستقبال والاستدبار في محلِّه على ما فيه من الخلاف، وسيأتي، فلا يجوز أن تكون للجنس في القبلتين، بل للعهد، والله أعلم، ثم إنّ النهي في استقبال الكعبة واستدبارها للتحريم في الصحراء والبنيان، وهو قولُ أبي أيوبَ الأنصاري راوي هذا الحديث، ومجاهد، وإبراهيم والنخعي التابعيين، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وأحمد في رواية، وهؤلاء حملوا النَّهي على العموم، وجعلوا العلَّة فيه للتَّعظيم والاحترام للقبلة؛ لأنَّه معنًى مناسبٌ، ورد النَّهي على وقفه، فتكون علَّةً له. وقد رُويَ من حديثِ سُراقةَ بنِ مالك، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِذَا أتَى أَحَدُكُمُ البَرَازَ، فَلْيُكْرِمْ قِبْلَةَ الله -عَزَّ وَجلَّ-" (¬1)، وهذا ظاهر قوي في هذا التعليل، [فلا فرقَ فيه بين الصحراء والبُنيان] (¬2)، ولو كان الحائلُ كافيًا في جوازه في البنيان، لكانَ في الصَّحراء [من] (¬3) الجبال والأودية ما هو أكفى. وفيه مذهب ثانٍ: أنهما جائزان مطلقًا، وهو قولُ: عروةَ بن الزبير، وربيعةَ الرَّأْيِ شيخِ مالك، وداودَ الظَّاهريِّ، ورأى هؤلاءِ حديثَ أبي أيوبَ منسوخًا، وزعموا أن ناسخَه حديثُ مجاهدٍ عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نستقبلَ القبلةَ ببولٍ، فرأيتُهُ قبلَ أن يُقبَضَ بعامٍ يستقبلُها، وهو حديثٌ حسنٌ بلا شكٍّ، رواه أبو داود، والتّرمذي، وابنُ ماجَهْ، والحاكمُ في "مستدركه"، وقال: صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ (¬4)، والصَّوابُ أنه حسنٌ ليس على ¬

_ = ماجه (319)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 210). (¬1) رواه الخطابي في "غريب الحديث" (2/ 559)، وذكر الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 103): أن الطبري أخرجه في "تهذيب الآثار"، ونسبه ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 105)، إلى الدارمي. (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬3) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬4) رواه أبو داود (13)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، والترمذي (9)، كتاب:=

شرط مسلم؛ لأنَّ أَبانَ بنَ صالحٍ أحدَ رُواته روى له البخاريُّ دون مسلم، ولا يجوزُ أن يقولَ: على شرط البخاري؛ لأن في إسناده محمدَ بنَ إسحاق، والبخاري لم يروِ له أصلًا ولا متابعةً، فتعين أَنْ يكونَ حسنًا، لكن استدلالَ هؤلاءِ به على النسخ ضعيفٌ فيهما، ولا يُصار إليه إلا بعدَ تعذر الجمع، والجمعُ ممكن كما سيأتي. وفيه مذهبٌ ثالثٌ: أنه لا يجوزُ الاستقبالُ فيهما، ويجوزُ الاستدبارُ فيهما، وهو إحدى الرِّوايتين عن أبي حنيفة، وهو ضعيفٌ جدًّا، ويكفي في الرَّدِّ عليه حديثُ أبي أيوب هذا. وفيه مذهبٌ رابع: وهو قول الجمهور، وبه قال مالكٌ والشّافعي، وأحمدُ -في إحدى الروايتين- أنه يَحْرُمُ استقبالُ القبلة في الصحراء بالبول والغائط، ولا يحرم ذلك في البنيان، وهو مرويٌّ عن العباس بنِ عبد المطلب، وابنِ عمرَ -رضي الله عنهم-، ورأى هؤلاءِ الجمعَ بين الأحاديث، وأنه لا يُصار إلى النسخ إلا بالتَّصريح به، أو بمعرفة تاريخه، وأن الجمع أولى من إلغاء بعضِ الأحاديث، واستدلُّوا بحديث ابنِ عمرَ الآتي، وبأحاديثَ أخر، ولِمَا في المنع في البنيان من المشقَّة والتكلُّف لترك القبلة، بخلاف الصحراء. واعلمْ أن الغائطَ استُعمل في الخارج، وغلبَ على الحقيقة الوضعية، فصار حقيقةً عُرفيَّةً، لَكنْ لا يُقصدُ به إلا الخارجُ من الدُّبر فقط، ويقال: إنه يُقصَدُ به الخارج من القُبل والدُّبر كيفَ كانَ. وقولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "وَلكِنْ شَرِّقُوا أَو غَرِّبُوا" هذا الخطابُ لأهلِ المدينة ومَنْ في معناهم؛ كأهل الشَّام واليمنِ وغيرِهم ممَن قبلتُه على هذا [السَّمْتِ] (¬1)، فأمَّا من كانت قبلتُه في جهة المشرق أو المغرب، فإنه يتيامنُ أو يتشاءمُ -والله أعلم-. ¬

_ = الطهارة، باب: ما جاء في الرخصة في ذلك، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (325)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحارى، والحاكم في "المستدرك" (552). (¬1) ما بين معكوفين ليس في "ح".

وقولُ أبي أيُّوبَ: فقدمنا الشَّامَ ... إلى آخره، يدلُّ على أن للعموم صيغةً عندَ العربِ وأهلِ الشَّرع، على خلاف ما ذهب إليه بعضُ الأصوليِّين في ذلك، والمعني به استعمالُ صيغة العموم في بعض أفراده كما فعله الجمهور في حديث أبي أيوب هذا. قال شيخنا أبو الفتح الحافظُ - رحمه الله -: أولع بعضُ أهل العصر وما يقربُ منهم (¬1) بأَنْ قالوا: صيغةُ العموم إذا وردتْ على الذوات مثلًا، أو على الأفعال، كانت عامَّة في ذلك، مطلقةً في الزَّمان والمكان، والأحوال والتَّعلقات، ثمَّ يقال: المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة، فلا يكون حجَّة فيما عداه، وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يُحصَى من ألفاظِ الكتاب والسُنَّة، وصار ذلك دَيْدَنًا لهم في الجدال، وهذا باطل عندنا، بل الواجبُ أنَّ ما دل على العموم في الذوات مثلًا يكون دالًّا على ثُبوت الحكم في كلِّ ذات تناولها اللفظ، ولا يخرجُ عنها ذات إلَّا بدليل يخصُّه، فمن أخرج شيئًا من تلك الذَّوات، فقد خالف مقتضى العموم، نعم يكفي في العمل المطلق مرَّةٌ؛ كما قالوه، ونحن لا نقول به في هذه المواضع من حيث الإطلاق، وإنما قلنا به من حيثُ المحافظةُ على ما تقتضيه صيغةُ العموم في كل ذات، فإن كان المطلق لا يقتضي العمل به في مرَّة مخالفة لمقتضى صيغة العموم، اكتفينا في العمل به مرَّةً واحدةً، مما يخالف مقتضى صيغة العموم، قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغة الأمر، لا من حيثُ إن المطلق يعمُّ، مثال ذلك إذا قال: مَنْ دَخَلَ داري فأعطِه درهمًا، فمقتضى الصِّيغة العمومُ في كلِّ ذاتٍ صدقَ عليها أنَّها الدَّاخلة، فإذا قال قائل: هو مطلقٌ في الأزمان، فأَعملُ به في الذَّواتِ الدَّاخلة في أول النَّهار مثلًا، ولا أعملُ به في غير ذلك الوقت، لأنه مطلق في الزَّمان، وقد عملت به مرَّةً، فلا يلزمُ أَنْ أعملَ به أخرى؛ لعدمِ عمومِ المطلقِ. قلنا له: لمَّا دلَّت الصيغةُ على العموم في كلِّ ذاتٍ دخلت الدَّار، ومن جملتها ¬

_ (¬1) في "ح": "ومنهم".

الذوات الدَّاخلة في آخر النهار، فإذا أَخْرَجْتَ تلكَ الذَّواتِ، فقد أَخْرَجْتَ ما دلَّت الصيغةُ على دخوله، وهي كل ذات، وهذا الحديث أحد ما يُستدلُّ به على ما قلناه؛ فإن أبا أيوبَ من أهل اللسان والشَّرع، وقد استعمل قوله: "ولا تَسْتَقْبِلُوا وَلا تسْتدبِرُوا" عامًّا في الأماكن، وهو مطلقٌ فيها، وعلى ما قال هؤلاء المتأخِّرون لا يلزمُ منه العموم، وعلى ما قلناه يعمُّ؛ لأنه إذا خرج عنه بعض الأماكن، خالف صيغَة العموم في النَّهي عن الاستقبال والاستدبار. هذا آخرُ كلامه، وهو نفيس - والله أعلم - (¬1). أمَّا استغفارُ أبي أيوبَ وأصحابه، فلأن مذهبَه تحريمُ الاستقبال في البنيان كما ذكرنا، ولا يتأتَّى له الانحراف الكاملُ في قعوده إلا بحسب إمكانه، فاستغفرَ احتياطًا، ولا يُظَنُّ به أنه كان يفعلُ ما يعتقد تحريمَه، وقيل: استغفارهم لبانيها، وفيه بُعدٌ من وجهين: أحدهما: أن تعقيبَ الوصفِ للحكم بالفاء والعطف عليه يشعرُ بالعلِّيَّة، فالحكم: المنعُ من الجلوس إلى القبلة، والوصفُ: الانحرافُ المعقَّبُ بالفاء، والعطفُ عليه بالاستغفار. الثاني: الظَّاهر أن المراحيض بناءُ الكفار في الجاهلية، فكيف يجوز الاستغفار لهم؟ مع أنَّه - صلى الله عليه وسلم - استأذَن ربه في الاستغفار لأمِّه، فلم يُؤذَنْ له، واعتذر في الكتاب العزيز عن استغفارِ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لأبيه، وأنه تبرَّأ منه -والله أعلم-. ويُحتَملُ: أَن استغفارَه لِمَنْ بناها من المسلمين جاهلًا على اعتقاده. وقيل: استغفارُه من ذنوبه، فالذَّنبُ يُذَكِّرُ بالذَّنب، لكِن احتمالَ استغفارِه لِمَنْ بناها من المسلمين جاهلًا أو غالطًا أو ساهيا بعيدٌ جدًّا؛ لكونه غيرَ آثمٍ، إلا أَنْ يكونَ استغفرَ على مذهب أهل الورع والرُّتب العليَّة في نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التَّحفظ منه -والله أعلم-. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (1/ 54 - 55).

الحديث الثالث

وفي الحديث: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من القيام بالبيان والإيضاح [والنصح] (¬1) لأمَّتِه. وفيه: ابتداء العالمِ أصحابَه بالعلم، خصوصًا إذا علم أن بهم حاجةً إلى العمل به. وفيه: أنَّه ينبغي للعالم التنبيهُ على الوقائع المخالفة للعلم، والرجوع عنها، أو الاستغفار والتوبة منها، إِنْ كانَ تلبَّسَ بها متلبِّس. وفيه: الكناية عن المستقذرات بألفاظ غير شنيعة النُّطق بها. وفيه: تعظيم جهة القبلة، وتكريمُها، والنهي عمَّا يلزم منه عدمُ ذلك؛ كما في الاستدبار -والله أعلم-. * * * الحديث الثالث عن عبدِ الله بنِ عمرَ بنِ الخطَّاب - رضي الله عنهما - قال: رَقِيْتُ يَوْمًا عَلَى بيتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقْضِي حاجَتَهُ مُستَقْبِلَ الشَّامِ، مُستدبِرَ الكَعْبةِ (¬2). أمَّا عبدُ الله بنُ عمرَ، فكنيتُه أبو عبدِ الرَّحمن، وتقدَّم الكلام على نسبه ونسبته في أول حديثٍ من الكتاب، وهو معدود في المكيين المدنيين، أسلمَ قديمًا مع أبيه وهو صغير لم يبلغِ الحلمَ، وهاجرَ معه ومع أمه زينبَ بنتِ مظعون، وأختِه حفصةَ أمِّ المؤمنين، وقدَّمه على نقله، واستُصغر عن أحد، وشهد الخندقَ وما بعدَها من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو من أكثر الصَّحابة حديثًا، وأحدُ العبادلة الأربعة: وابن الزبير، وابن عباس، وابن عمرو ابن العاص -رضي الله عنهم-، ولا يطلق العبادلة اصطلاحًا على غيرهم، وإن أطلقه الجوهري في ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ليست في "ح". (¬2) رواه البخاري (147)، كتاب: الوضوء، باب: التبرز في البيوت، ومسلم (266)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، بلفظ: " .... مستدبر القبلة" بدل "مستدبر الكعبة".

"صحاحه" على ابن مسعود - رضي الله عنه -؛ لتقدُّم وفاته، وإنَّما خُصَّ هؤلاء من بين العبادلة بالذِّكر؛ لكونهم من أصاغر الصَّحابة وفقهائها، وتأخروا، وأخذ عنهم العلم والرِّواية -والله أعلم-. ولعبدِ الله بنِ عمرَ مناقبُ كثيرةٌ، وفضائلُ شهيرةٌ، رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديثٍ، وستُ مئةِ حديثٍ، وثلاثون حديثًا، اتّفق البخاريُّ ومسلمٌ على مئةٍ وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. رَوَى عنه أولادُه وأحفادُه ومولاه نافع، وخلقٌ كثير من التابعين، وكان - رضي الله عنه - لا يُعدل برأيه؛ فإنه أقام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستِّين سنةً، فلم يخفَ عليه شيءٌ من أمره ولا من أمر الصحابة -رضي الله عنهم-. روى له أصحاب السنن والمسانيد، وكانَ يتحفظُ ما سمعَ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويسألُ عما غاب عنه من قولٍ أو فعلٍ مَنْ حَضَرَ، ويتَّبعُ آثارَه - صلى الله عليه وسلم - حتى مواضعَ صلاتِه - صلى الله عليه وسلم - سفرًا أو حضرًا، وبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أبيه وبعدَه أدبًا، وكان يغضب إذا قيل: هاجرَ قبل أبيه، وكان قوَّامًا صوَّامًا متواضِعًا، لا يأكلُ حتى يؤتى بمسكين فيأكل معه، وكان ممَّن لم تملْ به الدّنيا، وقال سعيد بنُ المسيِّبِ: لو شهدت لأحدٍ أنه من أهل الجنة في الدنيا، لشهدت لابن عمر (¬1)، وكان ضابطًا لأحاديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يزيد فيها ولا ينقص، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَى عَبْدَ اللهِ رَجلًا صَالِحًا" (¬2)، وكان من البكَّائين الخاشعين، إذا أعجَبه شيءٌ من ماله، قرَّبه لربِّه، فكان رقيقُه يتزينون له بالعبادة وملازمةِ المسجد، فيعتقهم، فيقول له أصحابُه: ما بهم إلا خديعتك، فيقول: من خَدَعْنا بالله، انخدعْنا له (¬3)، قال نافعٌ: ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 363)، والحاكم في "المستدرك" (6366)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/ 172)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 113). (¬2) رواه البخاري (3531)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، ومسلم (2478)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، من حديث حفصة - رضي الله عنها -. (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 167)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 294)،=

لو نظرْتَ إلى ابنِ عمرَ إذا اتَّبع أثرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قلتَ: إنه مجنون (¬1)، ولم يمتْ حتى أعتقَ ألفَ إنسانٍ وزيادة، وربما تصدَّق في المجلسِ الواحد بثلاثين ألفًا، وبعثَ إليه معاويةُ بمئةِ ألف، فلم يحلْ حول وعنده شيءٌ منها، وكان إذا تلا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]، يبكي حتى يغلبه، وإذا تلا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، يبكي ويقول: إن هذا الإحصاءَ لشديدٌ. مات - رضي الله عنه - بمكةَ سنةَ ثلاثٍ، وقيل: أربع وسبعين، بعد موت ابن الزُّبير بثلاثة أشهر من جرح أصاب رجله، ابنَ أربعٍ، وقيل: سِتٍّ، وقيل: سبع وثمانين سنةً، وكان مولدُه قبل الوحي بسنةٍ، ودفن بالمحصَّب، وقيل: بسَرِف، وقيل: بفَجٍّ، وكلُّها مواضعُ بقرب مكَّة بعضُها أقربُ إلى مكة من بعض (¬2). وأمَّا ألفاظه: فقوله: "رَقِيْتُ" -هو بكسر القاف، ولغة طَيِّئٍ بفتحها-، وحكى صاحب "المطالع" الفتحَ مع الهمز (¬3)، وسُمِّيت الكعبةُ كعبةً؛ لاستدارتها؛ من التَّكَعُّب، وهو الاستدارة. واختلف العلماء في كيفية العمل بهذا الحديث: ¬

_ = وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 133). (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 310)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31 - 119/ 120). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 142)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 2)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 209)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 641)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 950)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 79)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 563)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 336)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 261)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 180)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 203)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 181)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 287). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 299)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 331)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 236)، (مادة: رقى).

فمنهم: من رآه ناسخًا لحديث أبي أيوب، واعتقد الإباحةَ مطلقًا، وقاس الاستقبالَ على الاستدبار، واطّرح تخصيص حكمه بالبنيان، ورأى أنه وصفٌ مُلْغًى لا اعتبارَ به. ومنهم: من رأى العمل بحديث أبي أيوب، واعتقد أن هذا خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم: من جمع بينهما، وأعملَهما كما تقدَّم -والله أعلم-. واستدل من خصَّه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ نظرَ ابنِ عمرَ، وجلوسَه - صلى الله عليه وسلم - كان اتفاقًا منهما من غير قصد لبيان حكم للأمة، وأنه رد بصرَه في الحال؛ لأنه لو كان ذلك حكمًا عامًّا، لبينه - صلى الله عليه وسلم - بالقول كغيره من الأحكام، فلمَّا لم يقع ذلك، دل على الخصوص، ثمَّ إن حكم العام إذا خُصَّ أن يقتصر على جواز التخصيص، ويبقى العام فيما عداه على عمومه فيما بقي من الصُّور؛ إذ لا معارضَ له في ذلك، وحديث ابنِ عمرَ هذا لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معا، بل دل على الاستدبار فقط، فالمعارضة بينه ويين حديث أبي أيوب إما هي في الاستدبار، فيبقى الاستقبال لا تعارضَ فيه، فيجب العمل به في المنع منه مطلقًا، لكنهم أجازوهما معًا في البنيان، وعليه هذا السؤال، وهذا إذا كان في حديث أبي أيوب لفظٌ يعمُّ، وليس هو كذلك، بل هما جملتان، إحداهما عامَّة في محلِّها، تناولَ حديثُ ابنِ عمرَ بعضَ صورِ عمومها بالخصوص، والأخرى لم يتناولها، فهي باقية على حالها، وتقديم القياس على اللَّفظ العامِّ فيه كلام في أصول الفقه، وشرط صحة القياس مساواةُ الفرع للأصل، أو زيادتُه عليه في المعنى المعتبر في الحكم، ولا تساوي هاهنا؛ لزيادة قبح الاستقبال على الاستدبار على ما يشهد العرف به، وقد اعتبر ذلك العلماء في منع الاستقبال وجواز الاستدبار، فلا يلزم من إلغاء الناقص إلغاءُ الزائد في قبحه وحكم جوازه. وفي الحديث: وجوبُ تتبُّع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعيَّةٌ.

وفيه: جوازُ استدبار القبلة في البنيان، وأنَّه مخصِّص لعموم النَّهي -والله أعلم-. وفيه: استحبابُ الكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط، وجواز قضاء الحاجة في مكان غير معدٍّ له؛ من سطحٍ وغيره، سواء كان مضطرًا إلى ذلك أم لا. وفيه: جوازُ الإخبار عن مثل ذلك للاقتداء والعمل، وجوازُ تَبَسُّط أقارب الزوجة في بيت الزَّوج حالة الاحتشام، وكفُّ البصر عما يُستَحْيَا من رؤيته -والله أعلم-. واعلم أن العلماءَ من أصحاب الشافعي -رحمهم الله- قالوا: يجوز استقبالُ القبلةِ واستدبارُها في البنيان إذا كان قريبًا من ساتر من جدارٍ أو نحوه؛ بحيث [يكون بينه وبين ثلاث أذرع فما دونها، وأن يكون الساتر مرتفعًا بحيث] (¬1) يسترُ أسافلَ الإنسان، وقدَّروه بآخرة الرَّحل، وهي نحو ثلثي ذراع، فإن زاد ما بينه وبين الساتر على ذلك، أو قصر عن آخرة الرحل، فهو حرام كالصحراء، إلّا إذا كان في بيت بُني لذلك، فلا حَجْرَ فيه كيف كان، قالوا: ولو كان في الصحْرَاء، وستر بشيء على الشَّرط المذكور، زالَ التحريم، فالاعتبار بوجود الساتر وعدمه، فيحلُّ في الصحراء والبنيان بوجوده، ويحرم فيهما لعدمه، هذا هو الصحيح المشهور. ومنهم: من اعتبر الصحراء والبنيان مطلقًا، ولم يعتبر الحائل، فأباح في البنيان مطلقًا، وحرم في الصحراء مطلقًا، لكن تفريعهم على الأول، فقالوا: لا فرقَ بين أَنْ يكونَ الساتر دابَّة، أو جدارًا، أو كثيبَ رملٍ، أو جبلًا، ولو أرخى ذيلَه في قبالة القبلة، حصل السَّتر به على أصحِّ الوجهين؛ لحصول الحائل، وهذا الكلام كله مبنيٌّ على أنَّ العلة المستنبطةَ هل هي معتبرةٌ أم لا؟. أما إذا لم يعتبرها، فلا كلام، وإن اعتبرها، فهل هي احترام القبلة، أو رؤية ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين زيادة من "ح".

الحديث الرابع

المصلِّين من الملائكة أو الجن من المؤمنين؟ فيه كلامان: فمن علَّل باحترام القبلة، فلا فرقَ، ومن علَّل برؤية المصلِّين من الملائكة، اعتبر الحائل في الصَّحراء والبنيان -والله أعلم-. وحيث جَوَّزنا الاستقبال والاستدبار، هل نقول: إنَّه مكروهٌ؟ أو نقول: إن كان عليه مشقَّةٌ في تكلُّف التحرف، فلا كراهة، وإن لم تكن مشقَّةٌ، فالأَوْلى تجنُّبه؛ للخروج من خلاف العلماء، ولا يطلق عليه الكراهة. أطلقَ الأوَّلَ: جماعةٌ من أصحاب الشّافعي، ولم يذكره الجمهور، واختار شيخُنا العلامة أبو زكريَّا النواوي - رحمه الله - الثَّاني -والله أعلم-. وأما الجِماعُ مستقبلَ القبلةِ في الصحراء والبنيانِ، فجوَّزه الشّافعيّ، وأبو حنيفةَ، وأحمد، وداود، واختلفَ فيه أصحاب مالك، فجوزه ابنُ القاسم، ومنعه ابنُ حبيب، والصوابُ الجواز؛ فإن التَّحريمَ إنَّما يثبتُ بالشَّرع، ولم يردْ فيه نهيٌ، وإذا تجنبَ استقبالَ القبلةِ واستدبارَها بالبولِ والغائط حالَ خروجهما، جازَ له ذلك حالَ الاستنجاء، وأما بيتُ المقدس، فيكره استقبالُه واستدبارُه بالبول والغائط، ولا يحرُم -والله أعلم-. * * * الحديث الرَّابع عن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الخَلاءَ، فأحملُ أنا وغُلامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وعَنَزَةً، فَيَسْتنجِي بِالماءِ (¬1). العَنَزَةَ: الحَرْبةُ. أمَّا أنسٌ، فتقدم الكلامُ عليه. وأما الخلاءُ -بفتح الخاء والمدُّ- فهو: الخالي المتَّخَذُ لقضاءِ الحاجة، سواءٌ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (151)، كتاب: الوضوء، باب: حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، ومسلم (271)، كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء من التبرز. =

كان في الصحراء أو البنيان، لكن الظَّاهرَ أنَّ المرادَ به في هذا الحديث البَراحُ من الأرض؛ بقرينةِ حمل العَنَزَةِ؛ فإنَّ الصَّلاة إليها إنَّما تكونُ بعدَ الوضوء وقضاءِ الحاجة. والغُلامُ: الصَّبيُّ، مأخوذ من الغُلْمَة، وهي الحركةُ والاضطراب. والإِدَاوَةُ -بكسر الهمزة-: إناءٌ صغير من جلدٍ يُتَّخذ للماء كالسطيحة ونحوها، وجمعها أَداوى. والعَنَزَةُ -بفتح العين والنُّون والزَّاي-: عَصَا طويلةٌ في أسفلها زُجٌّ، ويقال: رمحٌ قصيرٌ، وإنما كان يستصحبُها - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان إذا توضَّأ صلَّى، فيحتاج إلى نصبها بين يديه؛ لتكونَ حائلًا يصلِّي إليه، وقد ورد في حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تُوضع له فيصلِّي إليها (¬1)، وهذا إنما يناسبُ البَراحَ من الأرض لقضاء الحاجة والوضوء والصَّلاة بعده. وأمّا في البنيان، فلا يُناسب؛ لأنَّه لا يحتاج إلى العَنَزَةِ، ولا إلى خدمة الذُّكور له، بل يناسبه خدمة أهل بيته من نسائه ونحو ذلك. وقول أنس: "أَنا وغُلَامٌ نَحْوِي"؛ أي: مقاربٌ لي في السنِّ، والحريَّةِ، لا أنه مثلُه من كل وجهٍ. وفي الحديث فوائدُ: منها: خدمة الصالحين وتفقُّد حاجاتهم، خصوصًا المتعلِّقة بالطهارة والعبادة. ومنها: التَّباعدُ لقضاء الحاجة عن الناس لقرينةِ حمل العنزةِ والإداوة. ومنها: جوازُ استخدامِ الرجُلِ الفاضلِ بعضَ أتباعِه الأحرار، خصوصًا إذا أَرْصدوا لذلك نفوسَهم، والاستعانة في مثل هذا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (472)، كتاب: الصلاة، باب: سترة الإمام سترةُ مَنْ خلفه، ومسلم (501)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -.

ومنها: جوازُ الاستنجاءِ بالماء واستحبابهُ ورجحانهُ على الاقتصار على الحجر، لكنَّ مذهبَ جمهورِ السلفِ والخلفِ، والذي أجمعَ عليه أئمَّةُ الفتوى من أهل الأمصار أن الأفضلَ الجمعُ بينهما، فيقدم الحجرَ، ثمَّ يَستعمل الماءَ، فتخفُّ النجاسة، وتقل مباشرتها بيده، ويكون أبلغ في الإنقاء، فإن أراد الاقتصارَ على الحجر معَ وجود الماء، جاز. وقال ابن حبيب المالكي: لا يجوزُ مع وجود الماء، وهو ضعيف، لكن الاقتصارَ على الماء أفضلُ من الاقتصارِ على الحجر؛ لكوبه يُزيلُ عينَ النجاسةِ وأثرَها، والحجرُ يُزيل العينَ دون الأثر؛ لكنَّه معفو عنه، وتصح الصَّلاةُ معه؛ كسائر النَّجاسات المعفو عنها. وذهب بعضُ السلف إلى أن الأفضلَ الحجرُ، وجازفَ بعضُهم، فأوهم كلامُه أن الماء لا يجوز الاستنجاءُ به؛ لكونه مطعومًا، وهذا كله مخالفٌ لظواهرِ الأحاديثِ الصحيحة، ولِما امتنَّ الله تعالى به في كتابه العزيز من التَّطهير به، وما عليه العلماء من السلف والخلف. وسُئِلَ سعيدُ بنُ المسيبِ عن الاستنجاء بالماء، فقال: هو وضوءُ النّساء (¬1)، ونحوُه عن غيرِه، ولعله ذكر ذلكَ في مقابلة غُلُوِّ مَنْ أنكر الاستجمار بالأحجار، وبالغَ في إنكاره بهذه الصِّيغة؛ ليمنعه من الغلو -والله أعلم-. وقد استدل بعضُ العلماء بهذا الحديث على أن المستحبَّ أَنْ يتوضَّأ من الأواني دون البِرَكِ ونحوِها، وهو غير مقبول، قال القاضي عياضٌ - رحمه الله -: هذا لا أصل له؛ لأنه لم يُنقلْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهُ وَجَدَ البركَ والمشارع ثمَّ عدل عنها إلى الأَواني -والله أعلم-. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 33).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عن أبي قَتَادةَ الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يبولُ، وَلا يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلاءِ بِيَمِيِنهِ، وَلا يَتنفَّسْ في الإِنَاءِ" (¬1). أمَّا أبو قتادةَ الحارثُ بنُ رِبْعِيٍّ: فاسمُ جدِّه أبي أبيه: بَلْدَمَةُ -بفتح الباء الموحدة والدَّال المهملة، وسكون اللام بينهما، ويقال: بضمِّهما، ويقال: بالذال المعجمة المضمومة مع ضمِّ الباء-، بنُ خُنَّاسِ -بضم الخاء المعجمة وتشديد النون، ثم ألف، ثم سين مهملة- بنِ سنانِ بنِ عبيدِ بنِ عديِّ بنِ غنمِ بنِ سَلِمَةَ -بكسر اللام- السُّلَمِي- بفتحِها، ويجوز في لغة كسرها- المدنيُّ، فارسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهدَ أحدًا والخندقَ، وما بعدَ ذلك من المشاهد، واختُلف في شهودِه بدرًا، فلم يذكره ابن عقبةَ، ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره بعضهم فيهم. وأمَّا اسمه، فالمشهورُ ما ذكره المصنفُ، وهو قولُ أكثرِ المحدثين، وقال ابن إسحاق: اسمُه الحارثُ، وقال عبدُ الله بنُ محمدِ بنِ عمارةَ الأنصاري، والواقدي: اسمه النُّعمان، وقال غيرُهما: اسمه عمرُ. وروى عنه ابنُه عبدُ الله، وأبو سعيدٍ الخدري، وجابرُ بنُ عبدِ الله، وخَلْقٌ من التَّابعين. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةُ حديثٍ وسبعونَ حديثًا، انفرد البخاريُّ بحديثين، ومسلم بثمانية، واتَّفقا على أحد عشر، وروى له أصحاب السنن والمساند. مات سنةَ أربعٍ وخمسين بالمدينة، وهو ابنُ سبعين سنة، وقيل: سنة ثمانٍ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (153)، كتاب: الوضوء، باب: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال، ومسلم (267)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، وهذا لفظ مسلم.

وثلاثين بالكوفة، ابنَ اثنتين وسبعين، وصلَّى عليه علي بنُ أبي طالب، والأولُ أصحُّ. قالَ ابنُ حِبان: وقيل: إنَّه مات في خلافة علي، وهو الذي صلَّى عليه وكبَّرَ عليه سبعًا (¬1). أمَّا التَّنَفُّس، فهو هنا خروجُ النَّفَس من الفم، يُقال: تنفسَ الرجل، وتنفس الصُّعَدَاء، وكلُّ ذي رئةٍ متنفِّسٌ، ودواب الماء لا رئاتِ لها (¬2). والحكمةُ في النهي عنه أنه أبعدُ عن تقديرِ الإناء، وعن خروج شيءٍ تعافه النَّفْسُ من الفم، فإذا أَبانه عندَ إرادةِ النَّفَس، أَمِنَ ذلك. وقد ثبت إبانةُ الإناء للتنفس ثلاثًا، وهو في هذا الحديث مطلق، ولأن إبانةَ الإناءِ أهنأُ في الشُّرب، وأحسنُ في الأدب، وأبعدُ عن الشَّره، وأخفُّ للمعدةِ. وإذا تنفس في الإناء، واستوفى رِيَّه، حمله ذلك على فوات ما ذكرنا من حكمة النهي، وَتَكاثرَ الماءُ في حلقِه، وأثقلَ معدتَه، وربما شَرِقَ به. وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن مسِّ الذكَر باليمين، فظاهرُه: النَّهْيُ عنه في حالِ البولِ، وورد في حديثٍ آخرَ النَّهيُ عن مسِّه باليمين مطلقًا؛ لكن في تقييده - صلى الله عليه وسلم - بحالة البول تنبيه على رواية الإطلاق وأولى؛ لأنه إذا كان النهي عن المسِّ باليمين حالةَ الاستنجاء، مع أنه مَظِنَّةُ الحاجة إليها، فغيرُه من الحالات أولى. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 15)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 258)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1731)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 159)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (67/ 141)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 647)، و"المنتظم" له أيضًا (5/ 268)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 244)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 449)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 194)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (11/ 185)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 327)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 224). (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 237)، و"مختار الصحاح" (ص: 280)، (مادة: نفس).

وقد يعترض هاهنا شبهة، وهي أنه نهى عن الاستنجاء باليمين، وعن مسِّ الذَّكَر باليمين، ولا بدَّ للمستجمر من أحد النَّهيين؛ لأنه إن أمسكَ ذكره بيمينه، دخل في النَّهي عن مسِّه، وإن أمسك الحجر بها، دخل في النهي عن الاستنجاء باليمين. والجوابُ عن هذه الشُّبهة: أنه لا يلزم منه أَنْ يُمسكَ الحجرَ بها، بل يمكنه الاستجمار بحجرٍ ضخمٍ لا يزولُ عن مكانه، أو بجدار هو ملْكُه لا يتأذى مارٌّ بالتَّنَجُّس به حين استناده إليه إذا كان رطبًا، ويمسكُ ذكره بيساره، فيحركه بها من غير تكرار وضعِه في الموضع الذي وضعه أولًا عليه؛ لئلا يتنجَّس رأسُ ذَكَرِه بوضعه ثانيا عليه، فلا يجزئه حينئذ إلا الماءُ، فلو كانَ الحجرُ صغيرًا، جعلَه بين عَقِبيه، وفعلَ ما ذكرناه بالصِّفة المذكورة، فلو عجزَ أو شقَّ عليه أخذُ الحجرِ باليمين، وجعله بمنزلة الحائط، أو حجر كبير، ومسح عليه، حرَّكَ اليسارَ دونَ اليمين، ومتى حرَّكَ اليمينَ، دخلَ في النَّهي، -والله أعلم-. ومن العلماء من خصَّ النهي عن مسِّ الذكر باليمين بحالةِ البول، أخذًا بظاهر الحديث كما ذكرنا. ومنهم: من أخذ بالنَّهي عن مسه مطلقًا؛ أخذًا بالرِّواية المطلقة. وقد يسبق إلى الفهم أنَّ المطلقَ يحمل على المقيَّدِ، أو العامَّ على الخاصِّ، فيختص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث للأصوليين، وهو أن القاعدة أن حمل العام على الخاص، أو المطلق على المقيد ليس هو في باب المناهي، وإنما هو في باب الأمر والإثبات؛ لما يلزم منه من الإخلال باللفظ الدال على الخصوص أو المقيد. وأمَّا في باب النَّهي، فيلزم منه الإخلالُ باللَّفظ الدَّالِّ على الإطلاق أوالعموم، مع تناول النَّهي، وهو غير سائغ، وهذا -أيضًا- بعد مراعاة النظر في روايتي الإطلاق والتقييد، أو العموم والخصوص، هل هما حديثان، أو حديث مخرجُه واحد؟، فإن كانا حديثين، فالأمرُ على ما ذكرناه أولًا، وإن كان حديثًا

واحدًا مخرجُه واحد، اختلفَ (¬1) عليه الرواة، فينبغي حملُ المطلَقِ على المقيَّد، ويكون زيادة من عدل، وهي مقبولةٌ عند الأصوليّين والمحدِّثين، وهذا يكون -أيضًا- بعد النَّظر في دلالة المفهوم، وما يعمل به منه، وما لا يعمل به، وبعد أن ننظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم. واعلم أنَّ الأصل في النَّهي التَحريمُ، إلَّا أن يدلَّ دليل على إرادة الكراهة، وقد حمله في هذا الحديث وأمثاله داوُدُ الظاهريُّ، وابنُ حزم، على التَّحريم مطلقًا، وجمهورُ الفقهاء حملوه هنا على الكراهة، وبعضُ أصحاب الشَّافعي وغيرهم أشار إلى التَّحريم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلاَءِ بِيَمِينهِ" سُمِّي الخارجُ من القُبُل والدُّبُر خلاءً؛ لكونه يُفْعل في المكان الخالي، ويلازم ذلك غالبًا، ولفظ الحديث يتناول القُبُلَ والدُّبرَ، وقد ذكرنا كيفيةَ التَّمَسُّح في القُبل، وأما الدُّبر، فاختلفَ أصحاب الشَّافعي في كيفية مسحه على وجهين: أحدهما: أَنْ يضعَ الحجرَ على موضعٍ من جانب الصَّفحة اليُمنى خارجٍ عما أصابهُ الخارج من حلقة الدُّبر، ويمسحها، ثمَّ يضع الحجر الثاني على الصَّفحة اليسرى كذلك، ثمَّ يمسح بالثالث الصّفحتين والمسرُبة، وهذا أسهل وأحبُّ إلينا. والثاني: أن يُمِرَّ الأولَ من مقدم الصَّفحة اليمنى، ويضعَه على عين الخارج، ويديرَه على حلقة الدُّبر إلى أَنْ يرجعَ إلى الموضع الذي بدأ منه، ثمَّ يضع الثاني على مقدَّم الصَّفحة اليسرى، ويديرَه عليها من جهتها إلى [أن يرجع إلى الموضع الَّذي بدأ منه]، ويفعل بالحجر الثالث كفعله به في الوجه الأول، وهذا الوجه العمل به عسرٌ، وهو الرَّاجح في المذهب، وإنما قلنا؛ لا يضع الحجر إلا على موضع لم يصبْه الخارج؛ لأنه إذا وضعه على الخارج، نجس، فمنع الاستجمار به؛ لأنَّ شرطَه أَنْ يكونَ طاهرًا ليزيلَ النَّجْوَ -والله أعلم-. ¬

_ (¬1) في "ح": "اختلفت".

ثمَّ المرأةُ كالرجُل في منع مسِّ القُبل والدبر باليمنى؛ لأن سببَ النهي إكرامُ اليمين، ويُستحبُّ ألا يستعين باليد اليمنى في شيء من أمور الاستنجاء إلَّا لعذر. وإذا استنجى بماء، صبه باليمنى، ومسح باليسرى، وإذا كان بحجر، فإن كان في الدبر، مسحَ بيساره. واعلم أنَّ في النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيهًا على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها، وكذا ما كان من باب التكريم [والتشريف] (¬1) يكون باليمين، وما كان من بابِ الامتهانِ وإزالةِ الأقذارِ والأوساخِ والبشاعةِ يكون باليسار. وأمَّا النهْيُ عن التنفُس في الإناء، فمعناه: لا يتنفس فيه نفسِه، بل يتنفس خارجَه؛ فإنه سنةٌ ثابتةٌ، وأدبٌ شرعيٌّ في الشُّرب؛ لما يحصل بالتنفس في الإناء من نتنه، وغير ذلك من الحكم المتقدمة. وقد روى التّرمذي من رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن [النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) نهى عن النفخ في الشَّراب، فقالَ رجلٌ: القذاةُ أراها (¬3) في الإناء، فقالَ: "أَهْرِقْها"، قال: فإنِّي لا أَرْوَى من نَفَسٍ واحدٍ، قال: "فَأبِنِ القَدَحَ إِذًا عَنْ فِيكَ"، وقال: حديث حسن صحيح (¬4). وأمَّا ما ثبت في "الصحيحين" من رواية أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفسُ في الإناء (¬5) ثلاثًا (¬6)، فمعناه: خارجَ الإناء -والله أعلم-. * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬3) في "ح": "يرها". (¬4) رواه الترمذي (1887)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهة النفخ في الشراب، والإمام مالك في "الموطأ" (2/ 925)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 32)، وابن حبان في "صحيحه" (5327)، والحاكم في "المستدرك" (7208). (¬5) في "ح": "الشراب". (¬6) رواه البخاري (5308)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب بنفسين أو ثلاثة، ومسلم (2028)، كتاب: الأشربة، باب: كراهة التنفس في نَفْسِ الإناء، واستحباب التنفس ثلاثًا خارج الإناء.

الحديث السادس

الحديث السَّادس عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قالَ: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرَين فقالَ: "إنَّهُما لَيُعَذبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُما، فَكَانَ لا يَسْتنَزِهُ مِنَ البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"، فأخذَ جريدةً رطبةً، فشقها نصفين، فغرزَ في كل قبر واحدةً، فقالوا: يا رسولَ الله! لم فعلتَ هذا؟ قالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَا لَمْ ييبَسَا" (¬1). أما عبدُ اللهِ بنُ عباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، ابنُ عمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنيتُه: أبو العباس، وهو أحدُ العبادلة الأربعة كما تقدم ذكرُه في الحديث قبله، كانَ يُقالُ له: الحَبْرُ، والبَحْرُ، دعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والتَّفَقُّه في الدين وتعلم التأويل، فأخذ عنه الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: هو تَرْجُمانُ القرآن (¬2)، ودَعا له -أيضًا- صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهُمَ بارِكْ فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ، وَاجْعَلْهُ مِنْ عِبَادِكَ الصالحِينَ، اللهُمَّ زِدْهُ عِلْمًا وَفِقْها" (¬3)، قال أبو عمر: كلها أحاديثُ صِحاحٌ، قال: وقال مجاهدٌ عن ابن عباس: رأيتُ جبريلَ - صلى الله عليه وسلم - مرتين، ودعا لي بالحكمة مرتين (¬4). وكان عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - يحبه ويُدنيه ويقربه ويُشاوره، ويقول: هو فتى الكُهول، له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عَقول (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (213)، كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر ألا يستتر من بوله، ومسلم (292)، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 366)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (32220)، والحاكم في "المستدرك" (6291)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 174). (¬3) ذكره بهذا السياق: ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 935). ورواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 284) بلفظ: "اللهم آته الحكمة أو قال: اللهم زده علمًا. (¬4) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (378)، والطبري في "تهذيب الآثار" (1/ 167)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10615). (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (8123)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10620)،=

وقال القاسمُ بن محمد ومجاهد: ما سمعت فُتيا أحسنَ من فُتيا ابن عبَّاس، إلا أن يقولَ قائل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال طاوس: أدركتُ خمسَ مئةٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكروا ابن عباس فخالفوه، لم يزلْ يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله (¬2). وقال يزيدُ بنُ الأصم: خرج مُعاوية حاجًّا معه ابنُ عباسِ، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباسٍ موكب ممن يطلبُ العلم (¬3). وقال مسروق: كنتُ إذا رأيتُ ابنَ عباس قلتُ: أجملُ الناس، فإذا تكلم، قلتُ: أفصحُ (¬4) الناس، وإذا تحدث، قلتُ: أعلمُ الناس (¬5). وقال أبو وائل شقيق: خَطَبَنا ابنُ عباس وهو على الموسم، فافتتح سورةَ النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيتُ ولا سمعتُ كلامَ رجلٍ مثله، لو سمعته فارس والرُّوم والتُّرك لأسلمت (¬6). وقال عمرُو بنُ دينار: ما رأيت مجلسًا أجمعَ لكل خيرٍ من مجلس ابنِ عباس؛ الحلال والحرام والعربية والأنساب، وأحسبه قال: والشِّعر (¬7). وقال عُبيدُ الله بنُ عباس: ما رأيتُ أحدًا كان أعلمَ بالسنة، ولا أجلدَ رأيًا، ولا أثقبَ نظرًا من ابن عباس (¬8)، ولقد كان عمرُ - رضي الله عنه - يُعِدُّه للمعضلات، مع اجتهادِ عمرَ ونظرِه للمسلمين. ¬

_ = والحاكم في "المستدرك" (6298)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 318). (¬1) رواه الطبري في "تهذيب الآثار" (1/ 179)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (8/ 386). (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 935)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 351). (¬3) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 983). (¬4) في "ح": "أفقه". (¬5) رواه الطبري في "تهذيب الآثار" (1/ 179)، وعبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 960)، لكن عن الأعمش. (¬6) رواه الحاكم في "المستدرك" (6290)، وعبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 980). (¬7) رواه عبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 954). (¬8) رواه عبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 971).

وقال القاسمُ بنُ محمدٍ: ما رأيت في مجلس ابنِ عباسٍ باطلًا قَطُّ، ولا سمعت قولًا أشبه بالسُّنة من فتواه، وكان أصحابُه يسمُّونه البحرَ، ويسمونه الحبرَ، وكان قد عَمِيَ في آخر عمره، ورُوي أنه رأى رجلًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعرفه، فسأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ "أَرَأَيْتَهُ؟ "، قالَ: نَعَمْ، قالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ، أمَّا إِنك سَتَفْقِدُ بَصَرَكَ" (¬1)، فعميَ بعدَ ذلكَ في آخرِ عمره، فقالَ: إِنْ يَأخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُما ... فَفِي لِسَانِي وقَلْبِي مِنْهُما نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ ... وَفي فَمِي صَارِمٌ كَالسيْفِ مَأثُورُ وابنُ عباس من أكثرِ الصحابة حديثًا، رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفُ حديثٍ، وست مئةِ حديثٍ، وستون حديثًا، اتَّفق البخاريُّ ومسلم على خمسة وتسعين، وانفردَ البخاريُّ بمئةٍ وعشرين، ومسلم بتسعةٍ وأربعين. روى عنه جماعةٌ من الصحابة: عبدُ الله بنُ عمر، وأنسٌ، وأبو الطُّفيل عامرٌ، وثعلبةُ بنُ الحكم، وأبو أمامةَ بنُ سهل بنِ حُنيف، وخلق كثير من التابعين. وروى عنه -أيضًا- أخوه كثيرُ بنُ العباس، وروى له أصحابُ المساند والسنن، وغيرُهم. وُلد - رضي الله عنه - قبلَ الهجرة بثلاث سنين، وكان سنه يومَ ماتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ عشرةَ سنةً، هذا هو الصحيح، وقيلَ غيرُ ذلك عن أحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِه. ومات بالطَّائف سنةَ ثمانٍ وستين، ابنَ إحدى وسبعين سنةً على الصحيح، وقيلَ غيرُه، وصلى عليه محمدُ بنُ الحنفية، وقالَ: اليومَ ماتَ ربَّانيُّ هذه الأمة. قال أبو حاتم بنُ حِبان: وقبرُه بالطَّائف مشهورٌ يُزار. قالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ: ويُروى أن طائرًا أبيضَ خرجَ من قبره، فتأوَّلوه علمه خرج إلى الناس، ويُقال: بل دخلَ قبرَهُ طائرٌ أبيض، فقيلَ: إنه بصرُه في التأويل. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10586)، بلفظ: "أما إنه سيذهب بصرك، ويرد عليك في موتك".

وروينا بإسنادنا إلى أبي الزبير، قال: مات ابنُ عباس بالطَّائف، فجاءَ طائرٌ أبيضُ، فدخل في نعشِه حين حُمل، فما رُئي خارجًا منه (¬1). وله - رضي الله عنه - من الكلام في الحِكَمِ ما لم يُقَلْ مثلُه، قال -رضي الله عنه-: ما مِنْ مُؤمنٍ ولا فَاجر إلا وقد كتب الله رزقَه من الحلال، فإنْ صَبَرَ حتى يأتيَه، آتاه الله، وإنْ جزعَ فتناولَ شيئًا من الحرام، نقَّصَه الله من رزقِه من الحلال (¬2). وعن بُرَيَدةَ قال: شتمَ رجلٌ ابنَ عباس فقال: إنَّك لتشتمني وفيَّ ثلاثُ خِصالٍ: إني لآتي على الآية من كتاب الله، فلوددْتُ أن جميعَ النَّاس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمعُ بالحاكم من حُكَّام المسلمين يعدلُ في حكمِه، فأفرحُ به [وما لي به من سائمة] (¬3)، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإنِّي لأسمعُ بالغيثِ قد أصابَ البلدَ من بلاد المسلمين، فأفرحُ به وما لي بهِ من سائمة (¬4). أمَّا ألفاظُه: فقوله - صلى الله عليه وسلم - عند مروره بالقبرين: "إنهما لَيُعَذَّبانِ"؛ دليل على إثبات عذاب القبر؛ وهو مذهب أهل السنة، وهو مما يجب اعتقاد حقيقته، وهو مما نقلته ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 365)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 3)، و"فضائل الصحابة" لعبد الله بن الامام أحمد (2/ 949)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 207)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 614)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 314)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 933)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 173)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 285)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 291)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 258)، و "تهذيب الكمال" للمزي (15/ 154)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 331)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي أيضًا (1/ 40)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 295)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 121)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 141)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 242). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 326). (¬3) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10621)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 322).

الأمة متواترًا؛ فَمَنْ أنكرَ عذابَ القبر، أو نعيمَه، فهو كافرٌ؛ لأنه كذَّب الله تعالى، ورسولَه - صلى الله عليه وسلم -؛ في خبرهما. ثمَّ إن في إضافة عذاب القبر إلى البول خصوصيةً، دون غيره من المعاصي؛ إن الله تعالى جعل ذلك في حقِّ بعض عباده؛ فإئه جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تَنَزَّهُوا مِنَ البَوْلِ؛ فَإِن عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْه" (¬1)، وجاء أن بعضهم ضمَّه القبر، أو ضغطه؛ فسئل أهله عنه، فذكروا: أنه كان منه تقصير في الطهور. وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ"؛ ففيه تأويلات: أحدُهَا: ليس بكبير عندكم، وهو عند الله كبير، ومعناه: أنه كبير في الذنوب، وإن كان صغيرًا عندكم، يدل عليه ما ثبت في البخاري: "بَلَى إِنهُ كَبيرٌ" (¬2)؛ أي: إنه كبير عند الله، مثل قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. وثانيها: لا شك أن النميمةَ من الدَّناءات المستحقَرة؛ بالإضافة إلى المروءَة، وكذلك التلبس بالنجاسة؛ لا يفعلها إلا حقيرُ الهمَّةِ، فلعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وما يُعَذَّبانِ في كَبِيرٍ"؛ إشارة إلى حقارتهما، بالنسبة إلى الذنوب. وثالثها: أنه ليس بأكبر الكبائر، وإِنْ كانَ كبيرًا. ورابعها: أنه ليس كبيرًا، في زعمهما، دون غيرهما. وخامسها: أنه ليس كبيرًا تركُه عليهما؛ إذِ التنزهُ من البول، وتركُ النَّميمة لا يشق. وقوله: "أما أَحَدُهُما فَكانَ لا يَستَتِرُ مِنْ بَوْلهِ"، اختلف في معنى لا يستتر؛ على وجهين (¬3): ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 127)، ومن طريقة ابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" (1/ 325)، عن أنس - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن ابن عباس، وأبي هريرة، وغيرهما. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري قريبًا. (¬3) في "ح": "قولين".

أحدهما -وهو الراجح-: أنه لا يستنزه من البول، وعليه حجابًا؛ من ماء، أو حجارة؛ فيكون مجازًا؛ لكونه عبَّر بالتستر بالماء، أو الأحجار، في إزالة النَّجو عن الاستتار عن الأعين (¬1) في كشف العورة، إذ هو حقيقة فيه؛ لما بين الحقيقة والمجاز هنا من العلاقة، وهي: أنَّ المستتر عن الشيء فيه بعد، واحتجاب عنه؛ وذلك تنبيه بالبعد عن ملامسة البول. قال شيخنا القاضي أبو الفتح - رحمه الله -: ورجحنا المجاز، وإن كان الأصل الحقيقة؛ لوجهين: أحدهما: لو كان المراد: العذاب على مجرد كشف العورة؛ لكان أمرًا خارجًا عن البول؛ لحصول العذاب على كشفها، وإن لم يكن [بول] (¬2)، فتبقى خصوصية البول مطرحة عن الاعتبار، والحديث دال على خصوصية البول بعذاب القبر تصريحًا؛ فالحمل عليه أولى. الثاني: أنَّ لفظة "من" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ" حين أضيفت إليه؛ لابتداء الغاية حقيقة، أو مجازًا، المعنى ما يرجع إلى معنى ابتدائها، وهو أن عدم الاستتار بسبب العذاب إلى البول إذا هو ابتداء سببه من البول، وحمله على كشفها فقط، يزيل هذا المعنى (¬3). ورواه أبو داود: "لا يَسْتنزِهُ مِنَ البَوْلِ"، وهو رواية لمسلم (¬4)، ورواه البخاري: "لا يَسْتبرِئُ مِنَ البَوْلِ" (¬5)؛ وكلها تقوِّي ترجيح الاستنزاه منه، لا الاستتار. ¬

_ (¬1) "عن الأعين" ساقطة من "ح". (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 62 - 63). (¬4) رواه أبو داود (20)، كتاب: الطهارة، باب: الاستبراء من البول، ومسلم (292)، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه. (¬5) قلت: لم يروها البخاري في "صحيحه"، وقد نسبها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 318) إلى ابن عساكر، وقد رواها من هو قبله؛ كالنسائي (2068)، كتاب: الجنائز، باب: وضع الجريدة على القبر، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1304)، وغيرهما، والله أعلم.

ومعنى الاستبراء من البول، والاستنزاه منه: عدم اجتنابه، والتحرُّز منه؛ أي: لا يستفرغ بقيةَ بوله، وينقي موضعه ومجراه؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك، قد يخرج منه بعدَ الوضوء شيء، فينقضه، فيصلي بغير وضوء؛ ويكون الإثم فيه لأجل الصلاة. ورُويَ: "يستتر" و"يستنثر" بالتاء المثناة، والمثلثة، وهما شاذتان، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ"، النميمةُ: نقلُ كلام الناس بعضِهم إلى بعض، على جهة الإفساد؛ وهي المحرَّمة، أمَّا إذا كان فعله النميمة: في ترك مفسدة، أو دفع ضرر، أو إيصال خبر يتعلق بالغير؛ لم تكن محرمة، ولا مكروهة، بل قد تكون واجبة، أو مستحبة، كما نقول في الغيبة، إذا كانت نصيحة لدفع مفسدة، أو تحصيلِ مصلحة شرعية، ولو أن شخصًا اطَّلع من آخر على قولِ، يقتضي إيقاعَ ضرر بإنسان، وإذا نقل ذلك القول إليه، احترز عنه؛ وجب عليه ذكره له. قال أهل اللغة: يقال: نمَّ الحديثَ، ينُمُّهُ، وينِمُّهُ -بالكسر والضم-، نَمًّا، فهو نَمَّام، والاسم: النميمة، ونمَّ الحديثُ: إذا ظهر؛ فهو لازمٌ، ومتعدٍّ (¬1). والجريدة: السَّعْفَةُ، وجمعها: جريد، والعسيبُ من الجريد: ما لم ينبت عليه الخوصُ، وما نبت عليه؛ فهو: السعفُ. وأما شقها نصفين، وغرز كل واحد على قبر، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعَلهُ يُخَفَّفُ عَنهُما ما لَم ييبسا"، فلأن النباتَ يُسبِّح ما دامَ رطبًا، فإذا حصلَ التسبيح بحضرةِ الميت، حصلتْ له بركتُه بالتخفيف عنه؛ فلهذا اختص بحالةِ الرُّطوبة. أو لأنه - صلى الله عليه وسلم - سأل الشفاعة لهما، ورجا إجابتَها، وارتفاعَ العذاب، أو تخفيفه عنهما مدَّةَ رطوبتهما؛ لبركة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 119)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 592)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 626)، (مادة: نمم).

وقال الخطابي، وغيره: وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابسِ، قال: والعوام في كثير من البلاد يجعل الخوص في قبور موتاهم، كأنهم ذهبوا إلى هذا، وليس لفعلهم وجهٌ، هذا آخر كلامه (¬1). وقد ذكر البخاريُّ في "صحيحه": أنّ بُريدة بنَ الحصيبِ الصَّحابي - رضي الله عنه - أوصى: أن يجعل في قبره جريد (¬2)؛ فلعلَّه تبرك بفعل يُفْعَل مثل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: لعله - صلى الله عليه وسلم - أوحي إليه بذلك، وقيل: بل إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو لهما مدة رطوبتهما. واعلم أن العلماء اختلفوا في تسبيح اليابس: فقال كثيرون، أو الأكثرون من المفسرين: لا يسبح، في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، قالوا معناه: وإن من شيء حي، ثمَّ قالوا: فحياة كل شيء بحسبه؛ فحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع. وذهب المحققون من المفسرين إلى أنه: على عمومه، ثمَّ اختلف هؤلاء؛ هل يسبح حقيقة، أم تسبيحه أن فيه دلالةً على الصَّانع؛ فيكون مسبحًا منزِّهًا، بصورة حاله. والمحققون: على أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى-: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] فإذا كان العقل لا يحيل جعلَ التمييز فيها، وجاء النص به؛ وجبَ المصيرُ إليه. واستحب العلماء من هذا الحديث: تلاوة القرآن عند القبر، قالوا: لأنه اذا ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 27). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 457) معلقًا، ووصله ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 492). ورواه موصولًا أيضًا: ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 8)، عن بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه -.

كان الميت ينتفع بالتخفيف عنه بغرز الجريد الرطب، إمَّا بتسبيحه ما دام رطبًا، أو يابسًا؛ فتلاوة القرآن من الإنسان أولى. وأمَّا أحكامُ الحديث، وفِقْهه: ففيه: إثبات عذاب القبر. وفيه: تحريم النَّميمة، وأنها من الكبائر، وقال بعضهم: ليست من الكبائر؛ فيكون العذاب عليها تنبيهًا على أن التعذيب بالكبائر أولى، وتحذيرًا من الذنوب مطلقًا. وفيه: دليل على التنزه من النجاسات، أو وجوب ستر العورة، على حسب ما تقدَّم. وفيه: دليل المذهب الشَّافعي، في نجاسة الأبوال كلها؛ لشمول البول بالألف واللام، وهو عام يتناول جميع الأبوال. وفيه: جواز ذكر الموتى، إذا كان في ذكرهم بالمعاصي مصلحة؛ وهي: تنفير الناس عن فعلهم. وفيه: جواز تعيينهم بالذكر، وأن هذا الحديث مخصص؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذْكُروا مَحَاسِنَ مَوْتاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاؤِهمْ" (¬1)، ولا يجوز أن يقال: إن صاحبي القبر كانا كافرين، أو منافقين؛ لأنهما لو كانا كذلك، لم يدع لهما بما يُخفف العذاب، أو لم يَرْجُهُ لهما، ولو كان من خواصِّهِ في حقهما، لبيَّنَهُ، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4900)، كتاب: الأدب، باب: في النهي عن سب الأموات، والترمذي (1019)، كتاب: الجنائز، باب: (34)، وابن حبان في "صحيحه" (3020)، والحاكم في "المستدرك" (1421)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

باب السواك

باب السِّواك الحديث الأوَّل عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي؛ لأَمَرْتهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ" (¬1). أما أبو هريرة، فتقدم ذكره. وأمَّا ألفاظه: فكلمة "لولا": تدُل على انتفاء الشيء لوجود غيره؛ لأنها نفت وجوبَ السِّواك، لوجود المشقة. والسِّواكُ: مشتق من التَّساوُك؛ وهو: التَّمايُل، والتردد؛ لأن الإنسان يردِّدُه في فيه ويدلكه، يقال: جَاءَتِ الإبلِ تَساوَكُ: إذا كانت أعناقُها تضطربُ من الهزالِ. وقيل: هو مشتق من السَّوْك، وهو: الدلك، والسواك والمسواك: ما يُدلك به الفمُ من العيدان، ونحوِها، وساكَ فاه يسوكُه: إذا دلكَهُ، فإذا لم يذكر الفم، قلتَ: استاكَ، أو: تسوَّكَ. والسواك: مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب، وذكر صاحب،"المجمل": أنه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6813)، كتاب: التمني، باب: ما يجوز من اللّو، ومسلم (252)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وهذا لفظ مسلم.

يؤنث، ويذكر، وغلَّط الأزهريُّ الليثَ في التأنيث. وجمع السواك: سُؤُك -بضمتين، الثانية مهموزة-، ويجوز إسكان الهمز؛ ككتاب، وكُتْب، وكُتُب، ونظائره (¬1). وقوله: "عِنْدَ كُل صلاةٍ"، يجوز في لفظةِ "عِنْدَ" كسرُ العين، وفتحُها، وضمُّها؛ ثلاثُ لغات، حكاهن الجوهري في "صحاحه" (¬2)، ومعناها: حضورُ الشيء، ودنوه، وهي: ظرفُ مكان وزمان؛ لا يدخل عليها من حروف الجر، إلا: (من)، وكسر العين: أفصح وأشهر. وأمَّا أحكامه: فاستدل به بعض أهل الأصول على أنَّ: الأمر للوجوب، ووجهُه: ما ذكرنا من دلالة لولا، ومعناها؛ فتدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة، والمنتفي لأجل المشقة؛ إنما هو: الوجوبُ، لا الاستحباب؛ لأنه ثابت عند كل صلاة؛ [فاقتضى أن] (¬3) الأمر للوجوب، ولولا أن الأمر للوجوب، لم يكن لقوله - صلى الله عليه وسلم - معنى؛ لأنه إذا أمر به، ولم يجب، كيف شق عليهم؟! فثبت أنه: للوجوب، ما لم يقمْ دليل على خلافه. ومذهب جميع العلماء: استحبابهُ. وحكى الشيخ أبو حامد، والماوردي، عن داود: الوجوب، لكن قال صاحب "الحاوي" عنه: إن تركه لا يبطل الصلاة، وحكى عن إِسحق بن راهويه: أنه واجب، وأن تركه عمدًا يبطلها. وأنكر المتأخرون من أصحاب الشافعي [عليهما] (¬4) هذا النقل عن داود؛ بل ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 149)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 425)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 446)، و "المصباح المنير" للفيومي (1/ 297). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 513)، (مادة: عند). (¬3) في "ح": "فافتصار". (¬4) ليست في "ح".

المنقول عنه: أنه سنَّة، ولو صح، لم يكن خارقا للإجماع. وفيه: دليل على أن المندوب ليس مأمورًا به، وفيه خلاف للأصولين. وفيه: دليل على جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهو مذهب الفقهاء، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المختار عندهم. وفيه: بيان ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة والرفق بأمته. وفيه: دليل على استحبابه عند كل صلاةٍ؛ سواء كانت فريضة، أو نافلة، متكررة في زمان؛ كالتراويح، والضحى، أو متفرقة؛ كالفرائض، وتحية المسجد، وسنة الوضوء. والسرُّ في ذلك: أنَّا مأمورون -في كل حال من أحوال التقرب إلى الله تعالى-، أنْ نكونَ على حالة كمال، ونظافة؛ شرفًا للعبادة، وقد قيل: إن ذلك الأمر هنا متعلق بالملائكة؛ فإن الملَكَ يضع فاه على فم القارئ، وهو يتأذى ممَّا يتأذى منه بنو آدم؛ من الرائحة الكريهة؛ فسنَّ له السواك لأجلِ ذلك. وفيه: دليل بعمومه، على استحبابه للصلاة الواقعة بعد الزوال للصائم، وهو قول الشافعي، حكاه عنه الترمذي، وغيره: أنه لا يكره في وقت من الأوقات. وقال أبو يعقوب البويطي في "كتابه" عن الشافعي، وهو من كتبه الجديدة في كتاب الصيام: ولا بأس بالسواك للصائم في الليل والنهار (¬1)، والذي نصَّ عليه في "مختصر المزني" (¬2)، وعليه جمهور أصحابه: كراهتُه له بعد الزوال، لكن جمهور العلماء على خلافه. ¬

_ (¬1) قال النووي في "المجموع" (1/ 341): وحكى أبو عيسى في "جامعه" في "كتاب الصيام" عن الشافعي - رحمه الله -: أنه لم ير بالسواك بأسًا أول النهار وآخره. وهذا النقل غريب، وإن كان قويًّا من حيث الدليل. (¬2) كتاب: "مختصر المزني" في فروع الشافعية، وهو أحد الكتب الخمسة المشهورة بين الشافعية التي يتداولونها أكثر تداول، للشيح الإمام إسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة (264 هـ) وهو أول من صنف في مذهب الشافعي، وانظر: "كشف الظنون" (2/ 1635).

فثبت عن الشَّافعي ثلاثة نصوص: الكراهة، وعدمها، وأنه لا بأس به. وما استدل به للكراهة من القياس على دم الشهيد، من أنَّه لا يُزالُ عن الميت حرف أصفر لكونه ميتًا، زال عنه التكليف، وإبقاؤه متعلق بالأحياء المكلفين؛ ليكون علامة له يوم القيامة، وشهادةً له على بيعِه نفسَه لله تعالى، في كون الخلوف من الرائحة الكريهة للصائم بعد الزوال غالبًا لا ينبغي إزالتها؛ لأنَّها أطيبُ من ريح المسك عند الله تعالى، وما هو عند الله، لا يتصور زواله، مردود بكون الشيء الواحد له حكمان عند الله تعالى: أحدهما: بالنسبة إلى الدنيا، والثَّاني: بالنسبة إلى الآخرة. فالخلوف، وإن كان طَيبًا عند الله؛ فالمراد: رِضا الله تعالى عنه، وقبوله لفعل العبد، وثناؤه عليه، ولا شك أن ذلك ثابت في الدنيا والآخرة. وأمَّا أنَّه لا يزال في حكم الدنيا؛ لما يترتب عليه من الأذى به للصائم، ومن جالسه؛ من الملائكة، والآدميين؛ فلا، كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ" (¬1)؟! وعمومُ قوله - صلى الله عليه وسلم - الحثّ عليه عند كلِّ صلاة. مع أن الخلوف إنما هو عبارة عن الرائحةِ الكريهةِ الناشئة عن خلو المعدة من الطعام والشراب، والسواك لا يزيلها؛ وإنَّما يخفف آثار ريحها في الفم. مع أنه ثبت في "صحيح [ابن حِبَّان"، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬2) قال: "لَخُلُوفُ فَم الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القيَامَة مِنْ رِيحِ المِسْكِ" (¬3)، والمطلق ¬

_ (¬1) رواه النسائي (5)، كتاب: الطهارة، باب: الترغيب في السواك، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 14)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 47)، والبخاري في "صحيحه" (2/ 682) معلقًا بصيغة الجزم، وابن خزيمة في "صحيحه" (135)، وابن حبان في "صحيحه" (1067)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3423). والحديث رواه البخاري (1795)، كتاب: الصوم، باب: فضل الصوم، ومسلم (1151)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

يحمل على المقيد؛ بالنسبة إلى الأحكام، لا بالنسبة إلى ما عند الله تعالى؛ فإنه مطلق غيرُ مقيد؛ فاستوى هو ودم الشهيد؛ في كونهما موصوفين بالأطيبية يوم القيامة. فأمَّا حكم دم الشهيد في الدنيا: بالنجاسة إجماعًا، وهي محرمة بالاتفاق على المكلفين؛ فكذلك حكم الخلوف في الدنيا: الكراهة، وهو مكروه الإبقاء مع وجود التكليف، كيف وهو غير متصور الزوال، والسواك يخفف آثاره؟! فاستويا في الدنيا في: كونهما أطيبين عند الله -بالمعنى الَّذي ذكرناه- في الدنيا، وفي يوم القيامة، ويزالان عن المكلفين في الدنيا؛ أحدهما: وجوبًا، والآخر: استحبابًا. وتكون فائدة الحديثين؛ في دم الشهيد، والخلوف: الحث على طلب القتل؛ للشهادة، وعلى الصوم؛ الحامل على كسر النفس، ومعرفة نعم الله تعالى في الشبع وغيره، ورؤية فضل الله تعالى، وطلب ثوابه؛ لا إزالة الخلوف، والله أعلم. وفيه: استحباب السواك لكل صلاة؛ سواء كانَ المصلي متطهرًا بالماء، أو التُّراب، أو عادمهما. وفيه: استحبابه لصلاة الجنازة، ولركعة الوتر، والمنذورة. ثمَّ إن السواك: آلة لإزالة ما يكره، في الفم -غالبًا-، وقد يستعمل حيث لا يوجد فيه ما يكره؛ فتكون عبادة محضة، وقد بنوا على ذلك مسألتين: إحداهما: أخذ السواك لاستعماله في الفم، هل يكون باليد اليمنى، أو باليسرى؟ نُقِلَ عن الإمام أحمد - رحمه الله -: أنَّ المستحب أخذُه باليسرى؛ وكأنه نظر إلى أنه آلة لإزالة أذى، فكان باليسرى؛ كآلة الاستجمار. ومن نظر أن فيه تعبدًا؛ حيث أمر فيه، ولا إزالة، قال: يكونُ أخذُه باليمنى؛ وكأنَّه جعله من باب التكريم؛ فأشبه الأكل والشرب.

المسألة الثانية: يستحب البداءة بالجانب الأيمن من الفم بالسواك؛ لاجتماع الأمرين؛ لأنَّا إِنْ نظرْنا إلى الإزالة، أو إلى التكريم، كان الأيمنُ أولى، والله أعلم. ثم اعلم: أن السواكَ مستحبٌّ في جميع الأوقات والحالات، إلا ما تقدَّم من كراهته بعد الزوال للصائم على المشهور من قول الشافعي - رحمه الله -، ووجوبه عَمَّن ذكرنا [من العلماء] (¬1). ويتأكد الأمر به في مواضع: عند الصلاة، وعند الوضوء، وعند الاستيقاظ من النوم، وعند تغيرِ الفم -ويكون بأشياء منها ترك الأكل والشرب؛ يعني: في غير صوم؛ وإلا فيتناقض الاستحباب المؤكد، والكراهة للصائم بعد الزوال-، وعند أكل ما له رائحة كريهة، وعند طول السكوت وعند كثرة الكلام. ثمَّ إن السواك ينبغي أنْ يكونَ بعود من أراك؛ لحديث ورد فيه، وفيه منافع كثيرة، ذكرها العلماء (¬2)، وغيرهم؛ وهو المتعارف بالاستياك بالحجاز. قال أصحابُ الشافعي -رحمهم الله-: وبأي شيء استاك -مما يزيل التغير- حصل؛ كالخرقة الخشنة، وبالسَّعْدِ، والأسنان، ونحوها، وأمَّا الإصبع اللينة؛ فلا يحصل الاستياك بها، وفي الخشنة ثلاثة أوجه: المشهور: لا يحصل أيضًا، والثاني: يحصل، والثالث: يفصل بين وجدان غيرها؛ فلا يحصل، وبين ألا يجد؛ فيحصل. ثم إن السواك يُستحبُّ أَنْ يكونَ متوسطًا بين اليبوسة، والليونة؛ لئلا يجرح، أو لا يحصل به إزالة. ويُستحب أَنْ يستاك بعرض الأسنان لا بعرض الفم؛ لئلا يدمي لحم أسنانه؛ فينجس فمه؛ فتبطل صلاته معه، أو يبتلعه، فيفطر إن كان صائمًا، فلو استاك بعرض الفم: حصل الاستياك مع الكراهة. ويُستحبُّ إمرارُ السواك على طرفِ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬2) في "ح": "الفقهاء".

الحديث الثاني

لسانه، وكراسي أضراسه، وسقفِ حلقه إمرارًا لطيفًا. ويستحب أنْ يُعوَّدَ الصبيانُ السواك، ويُؤْمَرُوا به؛ كالصلاة. ويجوز استعمال سواك غيره بإذنه، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عَن حُذَيفَةَ بنِ اليمانِ - رضي الله عنهما - قال: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ" (¬1). أمَّا حذيفة: فهو صحابي، وأبوه صحابي أيضًا، وتقدم أنَّ اليماني يكتب (بالياء) في ترجمة عبد الله بن عَمْرِو بن العاصِ، والكلام عليه، وهو: حُذَيْفَةُ بنُ اليمانِ، واسمه: حُسَيل -بضم الحاء، وفتح السين المهملتين، ثم الياء، ثم اللام- تصغير: حِسْل -بكسر الحاء، وإسكان السين- ويقال فيه: غير مصغر: حِسْل. واليَمانُ: لقبٌ، ولُقِّبَ به؛ لأنَّ جدَّ جدِّه: جِروة -بكسر الجيم- أصاب دمًا في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل؛ فسمَّاه قومه: اليَمَان؛ لأنَّه حالفَ اليمانية، فلقب بلقبه ابنُ جابرِ بنِ عَمْرِو بنِ ربيعةَ بنِ جروةَ ابنِ الحارثِ بنِ مازنِ بنِ قطيعةَ بنِ عبسِ بنِ بغيضِ بنِ رشيب بنِ غطفانَ بنِ سعدِ بنِ قيسِ عَيْلان بنِ مُضَرَ بنِ نزارٍ، حليفُ بني عبدِ الأشهل. يُكَنَى أبا عبدِ الله، وحكى أبو حاتم بن حِبَّان: أنَّه يقال في كنيته: أبو سريحة، ويقال في نسبته: عبسيٌّ قطعيٌّ، وهو من حُلفَاءِ الأنصارِ. وأُمُّه اسمها: الرَّبَابُ بنتُ كعبِ بنِ عَدِيِّ بنِ كعبِ (¬2) بنِ عبدِ الأَشْهَل. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (242)، كتاب: الوضوء، باب: السواك، ومسلم (255)، كتاب: الطهارة، باب: السواك. (¬2) في "ح": "كليب"!

شهدَ حذيفةُ وأبوه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُحدًا، وقُتِلَ أَبُوه يومئذٍ، قَتَلَه المسلمون خطأً، وكانا أرادَا أَنْ يشهدَا بدرًا، فاستحلَفهما المشركون ألَّا يَشْهَدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحلفا لهم، ثمَّ سَألا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ" (¬1)، وكان حذيفةُ مِمَّنْ هَاجَرَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان له أخٌ اسمُه: صفوان، شَهِدَ معهما أحدًا. وكانَ حُذيفَةُ من كبارِ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الَّذي بَعَثَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ إلى قريشٍ يومَ الخندق؛ فجاءَ بخبرِ رَحيلِهم. وكان عُمَرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - يسألُه عن المنافقين، وهو المعروفُ في الصحابة بصاحبِ سرِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عُمَرُ ينظرُ إليه عندَ موتِ مَنْ ماتَ منهم؛ فإنْ لم يشهدْ جنازتَه، لم يشهدْهَا عُمَرُ. وكان يقولُ حذيفةُ: خيَّرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين الهجرة، والنصرة، فاخترت النصرة (¬2)، وقال حذيفةُ - رضي الله عنه -: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشرِّ؛ مخافة أَنْ يدركني (¬3). وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: كان حذيفةُ أعلمَ أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين (¬4)، وروى عنه: أنه سأله عمر عن الأمارات التي بين يدي الساعة من يعقلُها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أنا، فقال له عمر: هات، فلعمري إنَّك عليها لحريٌّ، ثم ذكر له منها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1787)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الوفاء بالعهد. (¬2) رواه البزار في "مسنده" (2936) إلا أنه قال: (فاخترت الهجرة)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3011)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/ 264). (¬3) رواه البخاري (3411)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (1847)، كتاب: الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال. (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 346)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6041)، والحاكم في "المستدرك" (5631)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (21/ 420). (¬5) رواه البخاري (502)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، ومسلم (144)، كتاب: =

(¬1) وسئل حذيفة - رضي الله عنه -: أيُّ الفتنِ أشدُّ؟ قال: أَنْ يُعرضَ عليك الخيرُ والشرُّ، فلا تدري أَيَّهما تركت (¬2). وقال حذيفةُ: لا تقومُ الساعةُ حتى يسودَ كلَّ قبيلةٍ منافِقُوها (¬3). وقال أبو عمر بنُ عبدِ البر: وشهد حذيفة "نهاوند"، فلمَّا قُتِلَ النعمانُ ابنُ مُقَرِّنٍ (¬4)، أخذَ الرايةَ، وكان فتحُ نهاوند، والري، والدينور على يد حذيفة، وكانت فتوحُه كلُّها سنةَ: اثنتين وعشرين. رُوَي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديثَ لم يذكرْ عدتها بَقِيُّ بنُ مخلَدٍ، وذكر صاحب "الجمع بين الصحيحين" عدة ما له فيهما، فقال: اتفقا على: اثني عشر حديثًا، وانفرد البخاريُّ: بثمانية، ومسلم: بسبعة عشر، والله أعلم. روى عنه جماعةٌ من الصحابة: عمارُ بن ياسر، وجُنْدُبُ بنُ عبد الله، وعبدُ الله بن يزيدَ الخطميُّ، وأبو الطفيل عامرُ بنُ واثلةَ الليثيُّ، وعبدُ الله بن عكيمٍ الجهنيُّ، وخلائق كثيرون من التابعين. وولاه عمر "المدائن"، ومات بها سنة ست وثلاثين، بعد قتل عثمان بأربعين ليلة في أول خلافة علي، وقيل: توفي سنة خمس وثلاثين، والأوَّل أصح، وقال أبو عمرو: وكان موته بعد أن نُعيَ عثمان إلى الكوفة، وكان حذيفة سكن الكوفة. قال أبو حاتم بن حِبَّان: وكان فصُّ خاتمه ياقوتة استمانحونية، فيها كوكبان متقابلان، بينهما مكتوب: الحمد لله، قال: كذا قاله جرير، عن الأعمش، عن ¬

_ = الفتن وأشراط الساعة، باب: في الفتنة التي تموج كموج البحر. (¬1) في "ح": "مسألة". (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (37569)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (1/ 65). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9771)، وفي "المعجم الأوسط" (4861)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 335)، لكن عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. ونسبه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (1/ 353) إلى حذيفة - رضي الله عنها -. (¬4) في "ح": "النعمان بن بشير".

موسى بن عبد الله بن بريد (¬1)، عن أمِّ سلمة بنت حذيفة (¬2). وأمَّا قوله: "يَشُوصُ فاهُ بالسِّوَاكِ" فهو بفتح الياء، وضم الشين المعجمة، وبالصاد المهملة. ومعناه: يغسل فاهُ بالسواك، قاله الهروي، وغيره. يقال: شَاصَه يشُوصُه، وماصَه يموصُه؛ إذا غَسَلَه، والشَوْصُ أيضًا: دَلْكُ الأسنانِ بالسِّوَاك عرضا، قاله ابن الأعرابي، وإبراهيم الحربي، والخطابي، وغيرهم. وقيل: هو التنقية، ذكره أبو عبيد، والداوديُّ، وكل ذلك متقارب (¬3). وتخصيص الذكر للشوص، بالليل؛ يقتضي: تعليقَ الحكم بمجرد القيام مطلقًا. وقيل: يقتضي: تخصيصَه بالقيام للصلاة بالليل. وفي الحديث دليل على: استحباب السواك في حال القيام من النوم، وعلته: أنَّ النومَ مقتضٍ لتغير الفم، وهو لتنظيف الفم؛ فسنَّ لاقتضاء التغير، وإذا كان كذلك؛ فلا فرق بين: نوم الليل، والنهار، فتخصيصه بالليل؛ للغلبة، أو لكون تغير الفم فيه أكثر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "ح": "يزيد". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 15)، و (7/ 317)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 95)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 354)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 334)، و "تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 161)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (12/ 259)، و"المنتظم" لابن الجوزي (5/ 104)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 706)، و "تهذيب الكمال" للمزي (5/ 495)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 361)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 44)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 193). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 260)، و"الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (2/ 269)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 509)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 50)، (مادة: شوص).

الحديث الثالث

ولفظ الحديث في رواية البخاري ومسلم: "كانَ إِذا استيقظَ منَ النوم" (¬1)؛ فيعم النومَ فيهما. * * * الحديث الثالث عن عَائشِةَ - رضي اللهُ عَنْها - قالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبي بَكْرٍ - رضي الله عنهما - عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إلَى صدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ، يَسْتَنُّ بِه؛ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَهُ؛ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ، فَقَضَمْتُهُ، وَطَيَّبْتُهُ، ثم دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَنَّ اسْتِنَانًا أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَهُ، أَوْ إصْبَعَهُ، ثُمَّ قالَ: "في الرَّفِيقِ الأَعْلَى"، ثَلاثًا، ثُمَّ قَضَى، وكانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بين حَاقِنَتِي وذَاقِنَتِي" (¬2). وفي لفظ: فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إلَيْه، وَعَرَفْتُ أنَّه يُحِبُّ السِّوَاك، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ؛ أَنْ: نَعَمْ. هَذَا لَفْظُ البُخَارِيُّ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ (¬3). أَمَّا عائِشَةُ - رضي الله عنها -: فتقدَّم ذكرُها. وأمَّا عبد الرحمن بن أبي بكر، فهو أخوها لأبويها، وهو: أسَنُّ أولادِ الصديق - رضي الله عنهما -، كنيته: أبو عبد الله، وقيل: أبو محمَّد. وشهد بدرًا، وأُحُدًا مع الكفار، ثُمَّ أسلم في هُدْنة الحديبية، وحَسُن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وفتية من قريش. وكان اسمه: عبد الكعبة، فغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماه: عبد الرحمن. وكان من أشجعِ رجالِ قريشٍ، وأرماهم لسهمٍ، وحضر اليمامةَ مع خالد بن ¬

_ (¬1) قلت: ليس عند البخاري ومسلم لفظ: "كان إذا استيقظ من النوم"، وإنما لفظهما: "كان إذا قام من الليل". والله أعلم. (¬2) رواه البخاري (4174)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته. (¬3) رواه البخاري (4184)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ولم أره في "صحيح مسلم"، والله أعلم.

الوليد، فقتلَ سبعةً من كبارهم، وهو الَّذي قتلَ محكم اليمامة ابن طفيل؛ رماه بسهمٍ في نَحْرِه، فقتله. رُوِيَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيةُ أحاديثَ، اتفقا على ثلاثة، روى عنه جماعةٌ من التابعين، وروى له جماعةٌ من أصحاب السُّنَن، والمساند. مات بـ "الحبشي"؛ وهو: جبل بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: نحو عشرة أميال، ثُمَّ حُمل على رقاب الرجال إلى مكة، وقال أبو حاتم بن حبان: مات بالحبشة، وهو غلط. وكانت وفاته سنةَ: ثلاثٍ وخمسين، وهو الأكثر، وقيل: خمسٍ وخمسين، وقال أبو حاتم: سنة ثمان وخمسين، قبلَ عائشة، قال أبو عمر بن عبد البر: يقال: إنَّه توفي في نومة نامها، فلما اتصل موته بأخته عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنهما - ظعنت من المدينة حاجَّة، حتى وقفت على قبره، وكانت شقيقته، فبكت عليه وتمثَّلَت: وكُنَّا كَنُدْمَاني جذيمةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنا كأَنِّي ومَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِماعٍ لَمْ نبَتْ لَيْلَةً مَعَا أما واللهِ لو حضرتُك لدفنتُكَ حيثُ مِتَّ مكانَك، ولو حضرتُك ما بكيتُك، والله أعلم (¬1). وأمَّا ألفاظه: فقولها: "إِنَّهُ كَانَ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ"؛ أي: بعودٍ من أَرَاكٍ. والاسْتِنَان: استعمالُ السواك، وهو افتعالٌ من الأسنان؛ أي: يمره عليها. وكان مسواكُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تارةً من أَراك، وتارة من جَريد النخل. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 242)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 824)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 462)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 311)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 471)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 325)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 133).

قولها: "فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَظَرَهُ"؛ أي: نظر إليه طويلًا. يقال: أَبَدْتُ فلانًا النَّظر؛ إذا طولته إليه، فكأن أصله من معنى التَّبْديد، الَّذي هو التفريق؛ وكأنَّه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه مدَّته من النظر؛ أيْ: حظَّه (¬1). وقولُها: "فَقَضَمْتُهُ وطَيَّبْتُهُ"؛ أَيْ: مضغتهُ بأَسَناني وَلَيَّنْتُهُ. وقولها: "بَيْنَ حاقِنَتي، وذَاقِنتي"؛ الحاقِنَةُ: الوَهْدَة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق. والذاقنة: الذقنُ، وقيل: طرفُ الحلقوم، وقيل: ما ينالُه الذقنُ من الصدر. والحواقنُ: جمع حاقنة؛ وهي: أسافلُ البطنِ أيضًا، وقيل في الذاقنة: أعالي البطن؛ فكان المراد: بحقن الطعامِ؛ أَيْ: يجمعه (¬2)، ومنه المِحْقنة -بكسر الميم-: التي يحتقن بها، ومن كلام العرب: لأجمعنَّ بين حواقنِك، وذواقنِك (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الرَّفيقِ الأَعْلى": يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً منه - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]؛ فيكون معناه: الأعلى من نوع البشر. وقد صنَّفَ السهيلي صاحبُ "الرَّوْضِ الأُنُف" كتابًا في مبهمات القرآن، وذكر أنَّ المُنْعَمَ عليهم؛ الَّذين أُمرنا بسؤال أنْ نهدى صراطهم، في الفاتحة؛ هم: في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، الآية في سورة النساء (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" للحربي (3/ 1136)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 398)، و"مختار الصحاح" لأبي بكر الرازي (ص: 258)، (مادة: بدد). (¬2) في "ح": "جمعه". (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 322)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 173)، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1537). (¬4) انظر: "التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام في القرآن" للسهيلي (ص: 17).

وقال شيخُنا القاضي أبو الفتح -رحمه الله-: ويجوزُ أَنْ يكونَ الأعلى من الصفات اللازمة؛ التي ليس لها مفهوم يخالف المنطوق؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117]؛ وليس ثمَّ داعٍ (¬1) إلهًا آخر له به برهان (¬2). وكذلك {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]؛ ولا يكونُ قتلُ النبيين، إلَّا بغيرِ الحقِّ. فيكونُ الرفيقُ لم يطلقْ الأعلى؛ إلا على الَّذي اختصَّ الرفيقُ به، ويقوِّي هذا ما ورد في بعض الروايات: "وأَلْحِقْني بالرَّفيقِ" (¬3)، ولم يصفه بالأعلى؛ وذلك دليل: أنَّه المراد بلفظة الرفيق، ويحتمل أن يعم الأعلى، وغيره. ثم ذلك على وجهين: أحدهما: أَنْ يُخَصَّ الفريقان معًا، بالمقربين المرضيِّين، ولا شكَّ أَنَّ مراتبَهم متفاوتةٌ؛ فيكون - صلى الله عليه وسلم - طَلَبَ أَنْ يكونَ في أعلى مراتب الرفيق؛ وإِنْ كانَ الكلُّ من السعداءِ المرضيِّين. الثَّاني: أنَّه يُطْلَقُ الرفيقُ، بالمعنى الوضعي؛ الَّذي يعمُّ كلَّ رفيق، ثمَّ يخص منه الأعلى بالطلب؛ وهو مطلق المرضيين؛ ويكونُ الأَعْلَى بمعنى: العَالِي، ويخرج عنه غيرهم، وإن كانَ اسمُ الرفيقِ منطلقًا عليهم. ويُروَى أنَّ عُمَر بنَ عبدِ العزيزِ - رضي الله عنه - لمَّا حَضَرتْه الوفاةُ، قال: أجلسوني، فأجْلَسُوه، فقال: أنا الَّذي أَمرْتَني فَقَصَّرْتُ، ونَهَيْتَني فَعَصيْتُ، ولكن لا إلهَ إلَّا الله، ثمَّ رَفَعَ رأسَه، فأمدَّ النَّظَرَ، ثمَّ قال: إِنِّي لأَرَى حضرةً ما هم بإنسٍ، ولا جنٍّ، ثمَّ قُبِضَ (¬4). ¬

_ (¬1) في "ح": "مُدَّعٍ". (¬2) انظر: "شرح عَمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 69). (¬3) رواه البخاري (4176)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ومسلم (2444)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة - رضي الله عنهما -. (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في "المحتضرين" (90)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 335)، =

قلت: وما ذكر من المجوزات في الرفيق الأعلى، هو إذا لم يكن فيه بيان منه - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد ثبت البيان فيه من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها -، قالت: أُغْمِيَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَأْسُه في حِجْرِي، فَجَعَلْتُ أَمْسَحُه، وأدعُو له بالشفاءِ، فلمَّا أفاقَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا، بل أسألُ اللهَ الرفيقَ الأَعلَى، مع جبريلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ"، رواه أبو حاتم بنُ حِبَّان في "تقاسيمه وأنواعه" بإسناد الصحيح (¬1)، والله أعلم. وفي الحديث: دخول أقارب الزوجة على الزوج في مرضه، وغيره. وفيه: استياك بالسواك الرطب، وقال بعض الفقهاء: إن الأخضرَ لغير الصائمِ أحسنُ، وإِنْ كانَ يابسًا؛ استحب أَنْ يكونَ قد نُدِّيَ بالماء. وفيه: إصلاحُ السواك، وتهيئتُه للاستياك. وفيه: الاستياكُ بسواك الغير. وفيه: العملُ بما يفهم من الإشارة، والحركات. وفيه: جوازُ أَنْ يكونَ الَّذي قربت وفاته جالسًا مستندًا إلى زوجته، ونحوها ممن يعز عليه، ولا يشترط أن يوجه إلى القبلة على جنبه الأيمن، أو على قفاه على العادة. وفيه: نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته كلها؛ لتتبع، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * ¬

_ = وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/ 254). (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (6591)، والإمام أحمد في (المسند) (6/ 120)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 230)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7104)، وفي "عمل اليوم والليلة" (1097).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عن أَبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ، يَسْتَاكُ بِسِوَاكٍ، قالَ: وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ؛ يَقُولُ: "أُعْ أُعْ"، والسِّوَاكُ في فِيهِ؛ كأنَّه يَتَهَوَّعُ" (¬1). أمَّا أبو موسى: فاسمه عبدُ الله بنُ قيسِ بنِ سليمِ بنِ حصَارِ بنِ حَرْبِ بنِ عامرِ بنِ غنمٍ. ويقال في نسبه غير هذا. وهو الأشعري: نسبة إلى الأشعر -رأسه نبت- بنُ أددِ بنِ زيدِ بنِ يشجبَ بنِ يعربَ بنِ قحطان. وكان أبو موسى، وأبو عامر، وأبو بردة، وأبو رهم بنو قيس، إخوة أربعة، أسلموا كلهم في موضع واحد، صحابيون. وكان أبو موسى حليفًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلف فيمن حالف منهم: فقال الواقديُّ: حالف بعد قدومه مكة مع إخوته في جماعة الأشعريين أبا أحيحةَ سعيدَ بنَ العاصي [من بني أمية] (¬2)، وأمية، ثم أسلم بعد ذلك، وهاجر إلى أرض الحبشة. وقال ابنُ إسحاق: هو حليفُ آل عتبةَ بنِ ربيعةَ؛ ذكره فيمن هاجر من حلفاء بني عبد شمس إلى الحبشة. واختلف في هجرة أبي موسى وقومه إلى أرض الحبشة: فقال جماعةٌ من أهلِ السِّير، والنَّسب: لمَّا قدم مكة، وحالف مَنْ حالف، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (241)، كتاب: الوضوء، باب: السواك، ومسلم (254)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وهذا لفظ البخاري. (¬2) ليست في "ح".

انصرف إلى بلاد قومه، ولم يهاجرْ إليها، ثمَّ قدمَ مع إخوته، فصادف قدومُه قدومَ السفينتين من الحبشة. وقال أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البرِّ: الصحيح أنَّه لم يهاجرْ إليها؛ وإنَّما رجع بعد الفتنة إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى قدم مع الأشعريين، نحو خمسين رجلًا في سفينة؛ فألقتهم الريح إلى النجاشي بأرض الحبشة، وافَوا خروج جعفر وأصحابه منها، وأتوا معهم، وقدمت السفينتان معًا: سفينة الأشعريين، وسفينة جعفر وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر. وقيل: إِنَّهم أقاموا بالحبشة بعد رمي الريح لهم إليها مدة، ثمَّ خرجوا منها بعد خروج جعفر، فذكروا فيمن هاجر إليها، والله أعلم. وولَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى على "زبيد"، و"عدن" و"ساحل اليمن"، واستعمله عمر على "الكوفة" و"البصرة"، وشهد وفاة أبي عبيدة (¬1) بـ "الأردن"، وخطبة عمر بالجابية، وقدم دمشق على معاوية. رَوِيَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثُ مئةٍ وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على: خمسين حديثًا، وانفرد البخاري: بأربعة، ومسلم: بخمسة عشر، وروى له أصحاب السنن، والمساند، وروى عنه من الصحابة: أنس بن مالك، وخلق كثير من التابعين. وقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد" (¬2)، وسُئل علي - رضي الله عنه - عن موضع أبي موسى من العلم؛ فقال: صبغ في العلم صبغة (¬3)، وكان عمر إذا رآه، قال: أذكرنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده (¬4). ¬

_ (¬1) "ح": "عبيد". (¬2) رواه البخاري (4761)، كتاب: فضائل القرآن، باب: حسن الصوت بالقراءة للقرآن، ومسلم (793)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحسين الصوت بالقرآن. (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 346)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 314)، والبيهقي في "المدخل" (ص: 142)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (21/ 420). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 109)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 83).

وقال الشَّعبي: كان القضاةُ أربعةً: عمرُ بنُ الخطابِ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو موسى - رضي الله عنهم - (¬1). ورُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - استغفر له؛ فقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ مُدْخَلًا كَرِيمًا" (¬2). مات بمكة، ودفن بها، وقيل: بالكوفة، ودفن بالثوية، على ميلين منها، واختلف في تاريخ وفاته، فقيل: سنة اثنتين وأربعين، وقيل: أربع وأربعين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: اثنين وخمسين، وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنةً -رحمه الله، ورضي عنه- (¬3). وأمَّا ألفاظه: فقولُه: "يقولُ: أُعْ أُعْ". هو بضم الهمزة، وسكون العين المهملة، ورواه النسائي: "عا عا" (¬4). ومعناه: يَتَهَوَّعُ؛ أي: يتقيأُ؛ فكأنَّه يتهوع، أيْ: له تصويت كتصويت المتهوِّع الَّذي يتقيأ؛ لا أنَّه يتقيأ، والله أعلم. وفي الحديث: الاستياكُ على اللسان، وإن كان لفظ الحديث لا يعطي ذلك؛ وقد ورد ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (5960)، عن الشعبي، عن مسروق. ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 182)، عن الشعبي. (¬2) رواه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين - رضي الله عنهما -. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 105)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 22)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 221)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 979)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (32/ 24)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 364)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 545)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 446)، و "سير أعلام النبلاء" الذهبي (2/ 380)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 23)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 211)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 317). (¬4) رواه النسائي (3)، كتاب: الطهارة، باب: كيف يستاك؟ وابن خزيمة في "صحيحه" (141)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 35).

مصرَّحًا به في بعض الروايات، والعلَّة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان، بل هي أبلغ وأقوى؛ لِما يترقى إليه من أبخرة المعدة، لكن الفقهاء ذكروا الاستياك في الأسنان عرضًا، وورد في بعض الروايات: الاستياكُ على اللسان طولًا، والله أعلم. وقد ترجم على هذا الحديث: باب استياكِ الإمامِ بحضرة رعيته (¬1)؛ فإن الاستياك من أفعال البذلة والمهنة، ويلازمه -أيضًا- من إخراج البصاق، وغيره؛ ما لعلَّ بعض الناس يتوهم أنَّ ذلك يقتضي إخفاءَه وتركَه بحضرة الرعية. وقد اعتبر الفقهاء ذلك في مواضع كثيرة؛ كالأكل والشرب في المواضع التي لم تجر العادة بالأكل والشرب فيها؛ كالطرق والأسواق؛ وهو الَّذي يسمونه بحفظ المروءة. فأورد هذا الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يُطلب إخفاؤه، ويتركه الإمام بحضرة الرعية؛ إدخالًا له في باب العبادات والقربات، والله أعلم. والمترجمون في التصانيف على الأحاديث: تارة تكون للتنبيه على الرد على مخالف في المسألة لم تشتهر مقالته. وتارة تكون لفائدة ظاهرة في الدلالة على المعنى المراد. وتارة تكون لفائدة ظاهرة فائدتها قديمة لا تكاد تستحسن. وتارة تكون لمعنى يخص الواقعة، لا يظهر لكثير من الناس، كترجمة هذا الباب، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) وهو النسائي -رحمه الله- في "سننه" (1/ 9)، كتاب: الطهارة، باب: هل يستاك الإمام بحضرة رعيته؟

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين الحديث الأول عن المُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رضي الله عنه - قالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزعَ خُفَّيْهِ، فقالَ: "دَعْهُمَا فَإنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهمَا" (¬1). أمَّا المُغِيرَةُ: فهو بضم الميم، أو كسرها، الضمُّ أشهر، ابنُ شعبةَ بنِ أبي عامرِ بنِ مسعودِ بنِ مُعَتِّبِ -بالعين المهملة، والتاء المثناة فوق المشددة، ثم الباء الموحدة- بنِ مالكِ بنِ كعبِ بنِ عمرِو بنِ سعدِ بنِ عوفِ بن قسيِّ بنِ منبهٍ، وهو ثقيف الثقفي، يكنى: أبا عيسى، ومنعها عمرُ بنُ الخطاب عنه، وكنَّاه: أبا عبدِ الله، وقيل: كنيته: أبو محمد. أسلم عامَ الخندق، وأحصن ثلاثَ مئة امرأةٍ في الإسلام، وقيل: ألف امرأة، وكان موصوفًا بالدهاء، وقصَّ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاربه على سواك، وهذه منقبة لا نعرفها لغيره من الصحابة. رُوِيَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئةٌ وستةٌ وثلاثون حديثًا؛ اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين؛ فجميع روايته فيهما: اثنا عشر ¬

_ (¬1) رواه البخاري (203)، كتاب: الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، ومسلم (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين.

حديثًا، وروى عنه من الصحابة: المِسْوَرُ بنُ مخرمةَ، وخلقٌ كثير من التابعين، وروى له أصحاب السنن، والمساند. ومات بالكوفة أميرًا عليها في الطاعون سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين؛ وهو ابن سبعين سنة (¬1). وقال الشعبِيُّ: دُهاةُ العرب أربعة: معاويةُ بن أبي سفيان، وعَمْرُو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأمَّا معاوية؛ فللأناة والحلم، وأمَّا عمرو؛ فللمعضلات، وأما المغيرةُ؛ فللمبادهة، وأما زياد؛ فللصغير والكبير (¬2). وأمَّا ألفاظه: فالسفر الَّذي كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه: غزوة تبوك، قبل الفجر؛ كذا ثبت في "الصحيحين" (¬3). ففيه دليل على: جواز المسح على الخفين: وهو جائز بالإجماع في السفر والحضر. لكن هل الأفضل غسلُ الرجلين، إِذْ هو الأصل والغالب، أم المسح أفضل ردًّا على الخوارج، أم يتساويان؛ لتقابلهما؟ مذاهب: والجمهور: على أنَّ غسلهما أفضل، والمسح على الخف جائز؛ وبه قال أصحاب الشافعي، وعن الإمام أحمد: روايتان، أصحهما: المسح أفضل، والثانية: هما سواء، واختاره: ابن المنذر. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 285)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 216)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 372)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1445)، و"تاريخ بغداد" (1/ 191)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (60/ 13)، و"المنتظم" لابن الجوزي (5/ 237)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 238)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 369)، و"سير أعلام النبلاء الذهبي" (3/ 21)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 197)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 234). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 182). (¬3) رواه البخاري (4159)، كتاب: المغازي، باب: نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، ومسلم (274)، كتاب: الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام.

واختلفت الروايات فيه: ومن أشهرها: رواية المغيرة بن شعبة. ومن أصحها: رواية جرير بن عبد الله البَجَلي -بفتح الباء والجيم-، وقال: روينا في "سنن البيهقي" عن إبراهيم بن أدهم - رضي الله عنه - قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسنَ من حديث جرير - رضي الله عنه - (¬1). واعلم: أنَّ غزوة تبوك، كانت في رجب، سنة تسع؛ وقتها كانت قصة المغيرة في المسح على الخفين، ورواية جرير فيه كان بعد نزول المائدة، قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين، أو نحوهما. ولهذا كان يعجبُ أصحابَ عبد الله بن مسعود الأخذُ بحديث جرير؛ لتأخرِه، ورده على من ظنَّ أنَّه منسوخ، أو شكَّ في جوازه، وإزالته الإشكال فيه، واللبس على من التبس؛ ولهذا قال جرير - رضي الله عنه -: وهل أسلمْتُ إلَّا بعدَ نزول المائدة؟ (¬2) حتى اشتهر جواز المسح على الخف عند علماء الشريعة، وعُدَّ شعارًا لأهل السنة، حتَّى جعله بعضُهم أفضل من الغسل على ما حكينا؛ لكون تركه صار شعارًا لأهل البدع؛ فحديث جرير مبين للمراد من الآية في غير صاحب الخف؛ فتكون السنة مخصصة للآية، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهُما؛ فَإنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا": يعني: الطهارة الشرعية بكمالها؛ لأنَّه لا يسمَّى شرعًا متطهر، لمن يتطهر في جميع الأعضاء، إلَّا لمعة؛ فكيف من يترك عضوًا كاملًا؟ ولهذا قال أصحاب الشَّافعي - رحمهم الله -: لو غسل إحدى رجليه، ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 273). (¬2) رواه أبو داود (154)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والترمذي (94)، كتاب: الطهارة، باب: في المسح على الخفين، والحاكم في "المستدرك" (604)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 270).

الحديث الثاني

وأدخلهَا الخفَّ، ثم غسلَ الأخرى، وأدخلها الخفَّ؛ لم يجز المسحُ حتى ينزعَ الأولى، ثم يلبسها. وتفويت سنة اللبس في تقديم اليمنى لا يوجب منعَ جواز المسح؛ لأنَّه علَّق الحكم بالمسح عليهما بإدخالهما طاهرتين، وذلك لا يقتضي إدخال إحداهما طاهرة دون الأخرى، والحكمُ المترتبُ على التثنية غيرُ المترتب على الوحدة؛ فيكون حالًا منهما، لا من كل واحد منهما، والله أعلم. وقول المغيرة: "فَمَسَحَ عَلَيهمَا": فيه إضمارٌ، تقديره: فأحدثَ، فمسحَ عليهما؛ لأنَّ وقتَ جواز المسح بعدَ الحديث، ولا يجوزُ قبله؛ لأنَّه على طهارة الغسل. والحدثُ المجوِّزُ للمسح: ما ينقض الوضوء من البول والغائط، والنوم، ونحوها؛ لا ما يوجب الغسل، وذلك ثابت في حديث صفوانَ بنِ عَسَّال -بالعين والسين المشددة المهملتين-، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رضي الله عنه - قالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمسَحَ على خُفَّيْه" (¬1). مختصر، تقدم الكلام على حذيفة وأبيه قريبًا في الحديث الثاني من باب السواك. وقوله: "فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ": بيانٌ للإضمار في الحديث قبلَه، وقد ورد مبينًا فيه. واعلم: أنَّ أحاديث المسح على الخفين، رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلائق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (223)، كتاب: الوضوء، باب: البول عند صاحبه والتستر بالحائط، ومسلم (273)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين.

لا يحصَوْن من الصحابة، قال الحسن البصري - رحمه الله -: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين (¬1). واعلم: أنَّه جائزٌ بالإجماع -كما تقدم- في السفر والحضر؛ سواء كان لحاجة، أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة لبيتها، والزَّمِنِ الَّذي لا يمشي. وأنكر جوازه الشيعة، والخوارج؛ ولا يعتد بخلافهم. ورُوِيَ عن مالكٍ فيه روايات: والمشهور من مذهبه كمذهب الجماهير، والله أعلم. واعلم أنَّ ما ذكرناه من اشتراط كَمالِ الطهارة في جواز المسح بعد اللبس والحدثِ، حتى لو غسل إحدى رجليه، وألبسها الخف، ثم غسل الأخرى، وألبسَها الخفَّ، لم يجز، وأنَّه يجب نزعُ الأولى، ثم لبسُها كما تقدم هو مذهب مالك، وأحمد، وإسحاق في اشتراط الطهارة. وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، ويحيى بن آدَمَ، والمزني، وأبو ثور، وداود: يجوز اللبس على حدث، ثم يكمل الطهارة. وقد قال بعض أصحابُ الشَّافعي: يجب نزعُ اليسرى، ثم لبسُها، وهو شاذ، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 433).

باب في المذي وغيره

باب في المَذْي وغيره الحديث الأول عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لمكانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ المِقْدَادَ بنَ الأَسْوَدِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأ" (¬1)، وللبخاريِّ: "اغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأْ" (¬2)، ولمُسْلِمٍ: "تَوَضَّأ، وَانْضَحْ فَرْجَكَ" (¬3). * أمَّا عليٌّ، فهو أمير المؤمنين، أبو الحسن، وكنَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبا تُرَابٍ، وكانت أحبُّ أسمائِه إليه. واسم أبي طالب: عبدُ منافِ بنُ عبدِ المطَّلبِ، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فكان هو أبا أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقالت طائفةٌ: اسمُ أبي طالب: عمرانُ، مستندين فيه إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]؛ وهو تحريف على الله تعالى، وعلى رسوله، وعلى علماء التفسير، لا يعرف عن أحد من العلماء. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (303)، كتاب: الحيض، باب: المذي. (¬2) رواه البخاري (266)، كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه، لكن بلفظ: "توضأ واغسل ذكرك". (¬3) رواه مسلم (303)، كتاب: الحيض، باب: المذي.

أُمُّه: فاطمةُ بنتُ أسدِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مناف، أبي جدِّ عبدِ المطلب جدِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أولُ هاشمية ولدت هاشميا، أسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى عليها، وبرك في قبرها - صلى الله عليه وسلم -. وعليٌّ - رضي الله عنه - رابعُ الخلفاءِ وأحدُ العشرةِ المشهودِ لهم بالجنة، وأقضى الأمة، وهو أولُ خليفةٍ، كان أبواه هاشميين، ولم يك بعده مَنْ أبواه هاشميان غيرُ محمدٍ الأمينِ بنِ زبيدة، وهو من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى في الأخوة، وشد الأزر -ليس في النبوة- في حياته، وبعد موته (¬1). وشبَّهَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيسى - صلى الله عليه وسلم - في كونه يهلك فيه طائفتان من اليهود والنصارى حيث جعلته إحداهما: ولد زنية؛ فكفروا بذلك، والأخرى: ابن الله -تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا-، فكفروا بذلك. فكذلك هَلَكَ في عليٍّ طائفتان: محبٌّ مفرطٌ، ومبغضٌ مفرطٌ، فمن كفَّره، أو بدَّعه، أو استنقصه؛ فهو ضالٌّ هالك، ومن رقاه إلى الإلهية، أو النبوة، أو التقدمة في الخلافة على من تقدمه من الخلفاء، أو التفضيل عليهم؛ فهو ضال هالك. فعيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وعليٌّ ابنُ عم الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وزوجُ ابنته فاطمةَ البتول - رضي الله عنهما -، وأولُ من أسلم وصلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصبيان، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشاهده كلها، إلَّا تبوك. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 19)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 259)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 61)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1089)، و"الثقات" لابن حبان (2/ 302)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 133)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (72/ 7)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 308)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 87)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 315)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 472)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 564)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 294).

وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"، "مَنْ كُنْتُ نَاصِرَه وَمُؤَازِرَهُ، فعليٌّ كَذَلِكَ". وكان عُمْرُه مبدأَ النبوةِ: عشرَ سنين، وبقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدها بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، ومدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وخلافته: ثلاثون سنة، فكان عمره ثلاثًا وستين سنة، هذا هو الصحيح المختار في مدة عمره. رُوِيَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسُ مئة حديثٍ، وستةٌ وثمانون حديثًا، اتفقا منها على عشرين حديثًا، وانفرد البخاريُّ بتسعةٍ، ومسلم بخمسةَ عشرَ. ورَوَى عنه بَنُوه: الحسنُ، والحسينُ، ومحمدٌ، وعبدُ الله بنُ مسعود، وابن عباس، وابنُ عمرَ، وابنُ قيس، وأبو موسى الأشعريُّ، وابن جعفر، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وأبو رافعٍ، وصُهيب، وزيدُ بن أرقم، وجابرٌ، وأبو أمامةَ الباهليُّ، وأبو هريرةَ، وأبو سريحةَ حذيفةُ بن أسيدٍ الغفاريُّ، وسفينةُ، وجابرٌ بنُ سمرة، وعَمْرُو بن حُريث، وأبو ليلى الأنصاريُّ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وطارقُ بن شهابٍ الأحمسيُّ، وطارق بن أشْيَم الأشجعيُّ، وعبد الرحمن بن أَبْزى، وسيرينْ بنُ سحيم، وأبو جُحيفة السوائيُّ؛ وكلُّهم صحابة، وخلق كثيرٌ من التابعين، روى له أصحاب السنن والمساند. وصنف العلماء في مناقبه تصانيفَ مفردةً فيه، ومضافةً إلى غيره، وكان - رضي الله عنه - من ينابيع الحكم في الصحابة. وُلِّيَ الخلافةَ خمسَ سنين، وقيلَ: خمس سنين إلَّا أربعةَ أشهر، وقيل: إلَّا شهرين وأيامًا، وقُتِلَ ليلة الجمعة، لسبعَ عشرةَ بقيت من رمضان، سنة أربعين؛ وهو عام الجماعة، قتله عَبْدُ الرَّحمَن بنُ مُلْجِمٍ المراديُّ. قال ابن حِبَّان في "تاريخه": وكان لعلي - رضي الله عنه - يوم مات اثنتان وستون سنة، وكانت خلافتُه خمسَ سنين وثلاثةَ أشهرٍ، إلَّا أربعةَ عشرَ يومًا، واختلفوا في موضع قبره، ولم يَصحَّ عندي شيءٌ من ذلك فأذكره، وقد قيل: إِنَّه

دُفن بالكوفة في قصر الإمارة عند مسجد الجماعة، وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنةً، هذا آخر كلامه. وذكر أيضًا: أنَّ لعليٍّ من الولد يومَ مات: خمسًا وعشرين ذكرًا وأنثى؛ خمسة من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحسنُ، والحسينُ، ومُحَسِّنٌ، وأمُّ كلثوم الكبرى، وزينبُ الكبرى، والباقون من غيرها. قال أبو عبد الله محمدُ بن سلامة القضاعيُّ في "عيون الأخبار" له: كان لعليٍّ أربعةَ عشرَ ذكرًا، وثمانيةَ عشرَ أنثى؛ النسلُ منهم لخمسةٍ، وهم: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعمر، والعباس، وذُكِرَ -أيضًا-: أنَّه دفن ليلًا، وعُمِّيَ قَبرُه. ولم يقمْ بالمدينة بعدَ الخلافة غيرَ أربعةِ أشهرٍ، ثم سار إلى العراق في سنة ست وثلاثين. قال أبو القاسم إسماعيلُ بنُ محمد التيميُّ، قال عبدُ الله بن سلام -رضي الله عنه-: وهو ممن شهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة: "ما قتَلَتْ أُمَّةٌ نبَيَّهَا، إلَّا قُتِلَ بهِ منهم سبعون ألفًا، ولا قتَلُوا خَلِيفَتَهم، إلَّا قُتِلَ بِهِ مِنْهُم خمسةٌ وثلَاثونَ ألفًا" (¬1). وكان عليٌّ - رضي الله عنه - من زُهَّادِ المسلمين، يلبس ثيابًا رثَّة؛ فعابوا عليه ثيابه، فقال: يَعيبون عليَّ لباسي؛ وهو أبعدُ لي من الكِبْر، وأجدَرُ أَنْ يقتديَ بي المسلمُ (¬2). ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالرحمة، وأَنْ يدورَ الحقُّ معه حيث دار. وقال - رضي الله عنه - يومًا وقد فرَّق جميعَ ما في بيت المال على الناس، حتى كنسه، ثم أمر بنضحه، ثم صلى فيه ركعتين؛ رجاء أن يشهد له يوم القيامة: يا صفراء! يا بيضاء! غُرِّي غَيْرِي (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الفاكهي في "أخبار المدينة" (2/ 224)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (1/ 153)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 353). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4687). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 81)، والخطيب البغدادي في "موضح أوهام الجمع =

وقال - رضي الله عنه -: ليس الخيرُ أَنْ يَكثُرَ مالُكَ، وولدُك؛ ولكنَّ الخيرَ أَنْ يَكثُرَ عملُكَ، وَيعْظُمَ حِلْمُكَ، وأَنْ تباهيَ الناسَ بعبادةِ ربِّكَ؛ فإنْ أَحسنْتَ، حَمِدْتَ الله، وإِنْ أَسَأتَ، اسْتَغْفَرْتَ الله، ولا خيرَ في الدنيا، إلَّا لأحدِ رَجُلَين: رَجلٌ أَذْنَبَ ذنوبًا؛ فهو مداركٌ ذلك بتوبةٍ، أو رجلٌ يسارعُ في الخيراتِ، ولا يَقِلُّ عملٌ في تقوى؛ وكيف يَقِلُّ ما يُتَقَبَّلُ؟! (¬1). وقال علي - رضي الله عنه -: احفظوا عني خمسًا، فلو ركبتم الإبل في طلبهن، لا تصيبوهن قبل أَنْ تدركوهن، لا يرجو عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحيي جاهل أَنْ يسألَ عمَّا لا يعلم، ولا يستحيي عالمٌ إذا سُئِلَ عَمَّا لا يعلم، أَنْ يقولَ: اللهُ أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمانَ لِمَنْ لا صبرَ له (¬2). وقال: إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم: اتِّبَاعُ الهوى، وطولُ الأمل؛ فأمَّا اتِّبَاعُ الهوى، فيصدُّ عن الحق، وأمَّا طولُ الأمل، فيصدُّ عن الآخرة، ألا وإنَّ الدنيا قد ترحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وإنَّ الآخرةَ قَدْ تَرَحَّلتْ مقبلةً، ولكلِّ واحدةٍ منها بنون، فكونوا من أبناءِ الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل (¬3). وقال: أشدُّ الأعمال ثلاثة: إعطاءُ الحقِّ من نفسك، وذكر الله تعالى على كل حال، ومواساةُ الأخ في المال (¬4). ¬

_ = والتفريق" (1/ 140)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (24/ 401). (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 75)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (2/ 276). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (21031)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (34504)، وأبو نعيم في: "حلية الأولياء" (1/ 75 - 76)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9718)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 510). (¬3) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 130)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (2/ 193)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 494). (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 85).

وقال: لقد رأيتُني أربِطُ الحجرَ على بطني من شدَّةِ الجوع على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإِنَّ صَدَقَتِي اليومَ أربعون ألفَ دينارٍ (¬1). أمَّا ألفاظه: فقوله: "كُنْتُ رَجُلًا مَذّاءً"؛ أي: كثيرَ المذي، وهو بفتح الميم، وتشديد الذال المعجمة، وبالمدِّ، صيغةُ مبالغة، على وزن فعَّال. وفي المذي لغتان؛ مَذْي: بفتح الميم، وإسكان الذال، ومَذِيٌّ: بكسرها، وتشديد الياء، ومَذِي: بكسر الذال، وتخفيف الياء؛ فالأوليان مشهورتان، أصحهما وأشهرهما: الأولى، والثانية حكاها أبو عمرِو الزَّاهدُ عن ابن الأعرابي. ويقال: مَذِيَ، وأَمْذى: يَمذِي، ويُمذي، ومَذَّى، الثالثة بالتشديد (¬2). والمذي: ماء أبيض رقيق لزج، يخرج عند شهوة؛ لا بشهوة، ولا دفق، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس بخروجه؛ ويكون ذلك للرجل والمرأة، وهو في النساء أكثرُ منه في الرجال. وقوله: "فَاسْتَحْيَيْتُ": هذه اللغة الفصيحة فيه بالياءين، وقد يقال: استَحَيْتُ بياء واحدة، والمِرادُ بالحياء هنا: تغيرٌ وانكسارٌ يعرِض للإنسان من تخوف ما يُعاتب به، أو يُذم عليه. وأمَّا الحياءُ الشرعيُّ الممدوحُ عليه الَّذي لا يأتي إلا بخير: فهو رؤية النِّعَم، ورؤيةُ التقصير، فتتولد بينهما حالةٌ تسمَّى حياءً وتلك حالةٌ حاملة على: مزيدِ الشكر، واستقصاء الأعمال. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَانْضَحْ فَرْجَكَ"، وهو بالحاء المهملة، لا يعرف غيره؛ أي: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 159)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 85)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 375). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 300)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 312)، و"لسان العرب" لابن منظور (15/ 274)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 38).

اغسلْه، والنضح: يكون غسلًا، ويكون رشًّا، لكن الغسل هنا متعين ببيان الرواية الأخرى في الأمر به؛ فحُمل النضح عليه. وقولُ عليٍّ - رضي الله عنه -: "لِمَكَانِ ابْنَتِهِ"؛ تنبيهٌ على العلَّة في عدمِ سؤاله عن حكم المذيِ بنفسه؛ لكونه عِلْمًا. والعلمُ وتعلُّمه عبادة لا ينبغي أن تدخلَه النيابةُ، وعدم مواجهة العلماء، والسؤالُ عنه، ولهذا أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نساء الأنصار؛ لكونهن لم يمنعْهنَّ الحياءُ من التفقُّه في الدين؛ لمَّا سَأَلْنَه عن أشياءَ تتعلق بأنفسهنَّ ممَّا يُسْتَحيا من ذكره -عادة-. لكنَّ عليًّا لمَّا رأى أنَّ هذه المسألةَ يتعلق بها مواجهةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال عن حالة تعرِض عندَ مقدمات الجماع؛ أرسل غيره يسأل، أدبًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لمكان ابنته منه. وقوله: "فَأَمَرْتُ المِقْدادَ بْنَ الأَسْوَدِ"؛ إنَّما قيل: ابن الأسودِ؛ لأنَّه كان في حِجْرِ الأسودِ بنِ [عبد] يغوثَ بنِ وَهْبِ بنِ عبدِ منافِ بنِ زهرةَ الزهريِّ، فتبناه وحالفه في الجاهلية؛ وإلا فهو المقدادُ بن عَمْرِو بنِ ثعلبةَ بنِ مالكِ بنِ ربيعةَ بنِ ثمامةَ، بهرانيٌّ من بهرا بنِ عمرٍو، وقيل: كنديٌّ من كندةَ، وقيل: حضرميٌّ من حضرموت، وقيل: حالف أبوهُ كندة فنسبَ إليها، وحالف هو بني زهرة فقيل له: الزهريّ -أيضًا-، وقيل: كان عبدًا حبشيًّا للأسودِ بنِ عبدِ يغوثَ؛ فتبناه، والصحيح: ما ذكرناه أولًا، ولا يصحُّ كونه عبدًا. كنيته: أبو الأسود، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو معبد. وشهد المشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت أنَّه شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارسٌ غيرُه، وقيل: كان الزبير -أيضًا- فارسًا معه، وهو أحد السبعين الذين هم أولُ من أظهر الإسلام. قال أبو عمرَ بنُ عبد البرِّ - رحمه الله -: وكان من الفضلاء النجباء الكبار الأخيار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد الأربعة عشر النجباء الوزراء

الرفقاء الذين أعطيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان للأنبياء قبله. رَويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اثنان وأربعون حديثًا؛ اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد، وانفرد مسلم بثلاثة. روى عنه: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، والسَّائب بن يزيد، وغيرُهم من الصحابة، وكبار التابعين، وروى له أصحاب السنن، والمساند -أيضًا-. مات بالجرف على عشرة أميال من المدينة، وحُمل على رقاب الرجال إليها سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان، وهو ابن سبعين سنة، وصلَّى عليه عثمان - رضي الله عنه - (¬1). قال ابن مسعود: شهدتُ من المقداد مشهدًا، لأَنْ أكونَ صاحبَه، أحبُّ إلَيَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا -واللهِ- لا نقولُ لك كما قالتْ أصحابُ موسى: اذهبْ أنتَ وربُّك، فقاتلا، إنَّا هاهنا قاعدون -لما ذكر المشركين-، ولكنَّا نقاتل بين يديك، ومِنْ خلفِك، وعن يمينك، وعن شمالك؛ قال: فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُشرق وجهه لذلك، وسرّه وأعجبه (¬2). وقال بريدة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه، وعليًّا، وسلمان، وأبا ذر (¬3)، وسمعه ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 161)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 371)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 172)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1480)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (60/ 159)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 423)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 242)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 414)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 452)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 202)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 254). (¬2) رواه البخاري (3736)، كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]. (¬3) رواه الترمذي (3718)، كتاب: المناقب، باب: (21)، عن بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم، قيل: يا رسول الله! سمهم لنا، قال: علي منهم، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان ..... " قال الترمذي: هذا حديث حسن.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ رافعًا صوته، فقال: "أواب" (¬1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَغْسِلُ ذَكَرَهُ"؛ برفع اللام، خبرٌ بمعنى الأمر، وهو مجاز جائز؛ لِما يشتركان فيه من معنى الإثبات، ولو روي مجزومًا؛ [جاز على ضعف. ومنهم من منعه إلَّا في ضرورة الشعر بحذف الحرف عن المجزوم، وانفعاله؛ كقول الشاعر: مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ] (¬2) وفي الحديث فوائد: منها: أنَّ المذيَ لا يوجب الغسل؛ وهو مجمَع عليه. ومنها: أَنَّه ينقضُ الوضوء؛ وهو مذهبُ أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمدَ، والجماهير قالوا: ويوجب الوضوء. ومنها: نجاستهُ؛ لإيجاب الغسل، لَكِنْ قالَ الشَّافعي، والجماهير: يجب غسل ما أصابه المذي، لا غسل جميع الذَّكَر. وحكي عن مالك، وأحمد -في رواية عنهما-: إيجابُ غسل جميعِ الذكر؛ لكونه حقيقةً في العضو كله، وزاد الإمام أحمد: وجوبَ غسل الأنثيين أيضًا؛ لحديث رواه أبو داود - منقطعًا -: في غسله جميعِ الذكر. ثم من قال بوجوب غسل الجميع، اختلفوا في معناه: هل هو لتبريد العضو؛ فيضعف المذي، أو هو تعبد؟ وبنوا على ذلك فرعًا، وهو وجوب النية لغسله. إن جعلناه تعبدًا، وجبت؛ حيث لا نجاسة على ما زاد على محل خروجه، فليس بإزائه نجاسة، وإنما هو عبادة؛ فافتقر إلى النية؛ كالوضوء. وعدولُ جمهور العلماء عن استعمال الحقيقة في الذَّكَر كلِّه نظرًا إلى المعنى الموجِب للغسل، وهو خروجُ الخارج، فاقتضى الاقتصار عليه. ومن جعل الحكمة في غسل جميعه التبريد، اقتضى عدم وجوبه -أيضًا- والله أعلم. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1482)، عن حماد بن سلمة، عن ثابث، عن أنس. (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ح".

ومنها: وجوبُ غسل المذي بالماء، ولا يجوزُ فيه غيرُه، ممَّا لا يجوز الاستجمارُ به، في الغائطِ والبول؛ لكونه نادرًا، فأشبه الدمَ، وهو أصحُّ القولين عند الشَّافعي - رحمه الله -، والقول الآخر: جوازُه؛ قياسًا على المعتاد، ويجعل الحديث بالأمر بالغسل: أنه خرج مخرجَ الغالب المعتاد، فيمن هو في بلد، أو يحمله على الاستحباب. وقد استدل به من قال: يجب الوضوءُ على من به سلسُ البول؛ لكون المذاء: من كثر منه المذي، وقد أُمر بالوضوء منه، فكذلك من بهِ سلسُ البول. لكنَّ المذاء الَّذي يكثر مذيه يكون لصحته، وعلته شهوته -غالبًا-؛ وقد تكون لمرضه، واسترساله لا يمكن إزالته، وهو نادر، خلاف سلس البول؛ فإنَّه مرض لا يزول -غالبًا- فافترقا، والله أعلم. ومنها: جوازُ الاستنابة في الاستفتاء؛ للعذر، سواءٌ كان المستفتي حاضرًا، أو غائبًا. ومنها: جوازُ الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع به؛ لأنَّ عليًّا - رضي الله عنه - اقتصر على قول المقداد مع تمكُّنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد يعترض على ذلك: بأنَّ عليًّا كان حاضرًا مجلسَ سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستحيا أَنْ يكونَ السؤالُ منه بنفسِه. وأورد على ذلك: أنَّه يلزمُ من قبول قول المقداد من غير أَنْ يكونَ عليٌّ حاضرًا مجلس السؤال؛ إثبات خبر الواحد بخبر الواحد. وجوابه: أنَّ المراد ذكرُ صورةٍ من صور خبرِ الآحاد؛ تدلُّ على قبوله، وهي: فردٌ من أفراده غير منحصرة فيه؛ والحجة تقوم بجملتها؛ لأنه منها، وإلَّا لكان ذلك إثبات الشيء بنفسه، وهو محال. لكنه يذكر للتنبيه على أمثاله؛ لا للاكتفاء به، مع أنَّ عليًّا - رضي الله عنه - إنَّما أمر المقداد بالسؤال استحياء، لا لأجل قبول خبره، فإن ثبت أنَّ عليًّا

- رضي الله عنه - أخذ هذا الحكم عن المقداد من غير حضوره، ولا قرينة أوجبت قبولَ خبره، ففيه حجة. ومنها: استحبابُ حُسْن العشرة مع الأصهار، وأنَّ الزوجَ ينبغي له ألَّا يذكر ما يتعلق بأسباب الجِماع ومقدماته، والاستمتاع بالزوجة، بحضرة أبيها، وأخيها، وابنها، وغيرهم من أقاربها. ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: فاستحييت أَنْ أسألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لمكان ابنته؛ لأنَّ المذي يكون غالبًا حالَ مداعبة الزوجة، وقبلتها، ونحو ذلك من أنواع الاستمتاع، مع كونه سؤالًا عن حكم شرعي، فما ظنك بذكر ذلك لغير حاجة؟! والله أعلم. ومنها: وجوب الغسل من خروج المني. ومنها: أنَّ الفرج يراد به شرعًا: القُبُلَ، ولا شكَّ أنَّه مأخوذٌ من الانفراج، في اللغة، فدخل في عمومه: لفظُ الدبر، وقد تمسك به الشافعيةُ في انتقاض الوضوء بمسِّه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَسَّ فَرْجَه؛ فَلْيَتَوَضَّأْ" (¬1). لكنَّ المرادَ به في حديث المذي: القُبُلَ فقط، وإن كان في العُرْف يغلب استعمالهُ فيه من الرجل والمرأة، فصار فيه الوضع اللغوي، غلبة العرفي؛ فرجح المراد الشرعيُّ منه. لكنْ يحتمل أنَّ المخالفَ في انتقاضِ الوضوء بمس الذكر، لم يثبتْ عندَه عُرفٌ يخالفُ الوضعَ العرفي، والله أعلم. ومنها: أنَّه قد يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات المذكورة: "تَوَضَّأْ، وانْضَحْ فَرْجَك" جواز تأخير الاستنجاء على الوضوء، وذلك إنما يتم على قول ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (181)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، والنسائي (444)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: الوضوء من مس الذكر، وابن ماجه (479)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، والامام أحمد في "المسند" (6/ 406)، من حديث بسرة بنت صفوة - رضي الله عنها -.

الحديث الثاني

من يقول: إنَّ الواو للترتيب؛ وهو مذهب ضعيف. وقد جوز جماعة من الفقهاء: تأخير الاستنجاء على الوضوء؛ إذا كان بحائل يمنع انتقاض الطهارة، لكن الأفضل أن يستنجي قبل الوضوء، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عاصمٍ المازِنيِّ - رضي الله عنه - قال: شُكِيَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ في الصَّلاةِ، قالَ: "لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجِدَ رِيحًا" (¬1). أمَّا عَبَّادُ بنُ تَميمٍ، فهو: ابنُ أخي عبدِ اللهِ بنِ زيدِ بنِ عاصمٍ راوي حديث الوضوء، وحديث الاستسقاء، تقدَّم الكلام عليه: على نسبه، ونسبته، وما يتعلق به من الحديث الثامن من كتاب الطهارة. وعبَّاد هذا: تابعيٌّ، ثقةٌ، متفقٌ على توثيقه. رُوي عنه أنَّه قال: أنا يومَ الخندق ابنُ خمسِ سنين؛ فأذكرُ أشياءَ وأعيها، وكنَّا مع النساء في الآطام، وما كان من أهل الآطام ينامون إلا عقبًا؛ خوفًا من بني قريظة أَنْ يُغِيرُوا عليهم (¬2). ومعلوم أن يوم الخندق كان سنةَ خمس من الهجرة، أو قبلَه؛ فمقتضى ذلك أَنْ يُعَدَّ عبَّادٌ في صغار الصحابة، لا في التابعين، ولم أعلم أنَّ أحدًا ذكره فيهم، مع ذكرهم في الصحابة لمحمود بن لبيد، وهو مقاربه، أو أصغر منه، وقد روى عن عباد هذا، وكذلك عبد الله بن الزبير، والنعمانُ بن بشير معدودان في أصاغر ¬

_ (¬1) رواه البخاري (137)، كتاب: الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، ومسلم (361)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، فله أن يصلي بطهارته تلك. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 81).

الصحابة، وهما أصغرُ منه، فليتفطَّنْ لذلك!! والله أعلم (¬1). وأمَّا قوله: "شُكِيَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ": فهو -بضم الشين، وكسر الكاف- مبني لما لم يسمَّ فاعلُه، والرجل: مرفوع. ولم يذكر هنا الشاكي، وجاء في رواية للبخاري أنَّ السائلَ هو: عبد الله ابن زيدٍ الرَّاوي. قال بعض الحفاظ: وينبغي ألا يتوهمَ بهذا أنَّ شكي مفتوحُ الشين والكاف، ويجعل الشاكي هو: عمه المذكور؛ فإنَّ هذا الوهم غلط، والله أعلم. وقوله: "يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ": المشارُ إليه بالشيء هو: الحركة التي يظن بها أنها حدث، وليس كذلك. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجِدَ رِيحًا": معناه: يعلم وجودَ أحدهما، ولا يشترط اجتماعُ السماع والشمِّ بإجماع المسلمين، ومعناه: حتى يتيقن خروجَه. وهذا الحديث: أصلٌ من أصول الإسلام، وقاعدةٌ من قواعد الفقه، وهي: أنَّ الأشياءَ يُحكم ببقائها على أصولها، حتى يُتيَقَّنَ خلافُ ذلك، ولا يضرُّ الشكُّ الطارئُ عليها. والعلماء -فيما نعلم- متفقون على هذه القاعدة، لكنَّهم مختلفون في كيفية استعمالها: مثاله: مسألة الباب التي دلَّ عليها الحديث؛ وهي: أنَّ من تيقن الطهارة، وشكَّ في الحديث، حُكم ببقائه على الطهارة، سواء حصل الشك في الصلاة، أو خارجها، وهذا مذهب الشَّافعي، وجمهور علماء السلف والخلف، إعمالًا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 81)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 141)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 243)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 108)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 612)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 79).

للأصل السابق، وهو الطهارة، واطراحًا للشكِّ الطارئ، وأجازوا الصلاة في هذه الحال. وعن مالك - رحمه الله - روايتان: إحداهما: يلزمه الوضوءُ مطلقًا، وهي محكيَّة عن الحسن البصري، ووجه شاذٌّ عن بعض الشافعية؛ نظرًا إلى الأصل قبل الطهارة، وهو ترتب الصلاة في الذمة، فلا تُزال إلا بطهارة متيقَّنَة، ولا يقينَ مع الشكِّ في وجود الحدث. والثانية: إن كان شكُّه في الصلاة، لم يلزمه الوضوءُ وإن كان خارجَها، لزمه، وكأنَّه أخذه من الحديث الَّذي رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَجَدَ أَحَدُكُم في بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ، أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَمْ لا؟ فلا يَخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أو يَجِدَ ريحًا" (¬1). وحمل الحديث على العموم في الصلاة إذا كان في المسجد، وأنَّ المرادَ بالمسجد نفس الصلاة؛ تسمية للصلاة باسم موضعها؛ للزومها إياه. فالشَّافعي: اطَّرح الشكَّ مطلقًا، وألغى كلَّ قيد، واعتبر أصل الطهارة الواردَ بعدَ ترتب الصلاة في الذمة، كيفَ وقد ورد في بعض طرق الحديث: "إِنَّ الشَّيْطَان يَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيِ الرَّجُلِ" (¬2) تنبيهًا على إلغاءِ الشكِّ الحاضر؛ لأجل مناسبة سبب؟ قال أصحاب الشَّافعي: ولا فرق في شكه بين تساوي الاحتمالين في وجود ¬

_ (¬1) رواه مسلم (362)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحديث، فله أن يصلي بطهارته تلك. (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (1/ 128): حديث: "إن الشيطان ليأتي لأحدكم فينفخ بين ألييه ..... "، قال ابن الرفعة في "المطلب": لم أظفر به، وقد ذكره البيهقي في "الخلافيات" عن الربيع، عن الشافعي: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره بغير إسناد، وكذلك ذكره المزني في "المختصر" عن الشافعي نحوه بغير إسناد أيضًا. وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس. ا. هـ مختصرًا.

الحديث، وعدمه، أو يرجح أحدهما، ويغلب على ظنه، فلا وضوء عليه، ويستحب أن يتوضأ احتياطًا، وإذا توضأ للاحتياط مع دوام الشك، فذمته بريئة. فلو عدم حدثه بعد ذلك، فهل يجزئه الوضوء المستحب في حال شكه؟ وجهان: أصحهما عندهم: لا يجزئه؛ لتردده في نيته، والله أعلم. أمَّا إذا تيقن الحدث، وشكَّ في الطهارة، فإنَّه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. أمَّا إذا تيقن وجودَهما بعد طلوع الشمس -مثلًا-، ولا يعرف السابق منهما، ولا حاله قبل طلوع الشمس؛ لزمه الوضوء. وإن عرف حاله قبلهما، فأوجه: أظهرُها: أنَّ حكمه الآن بضدِّ ما قبل طلوع الشمس، فإن كان متطهرًا قبلها، فهو الآن محدث، وإن كان محدثًا، فهو الآن متطهر. والثاني: -وهو الصحيح عند جماعة المحققين- أنه يلزمه الوضوء بكل حال. والثالث: يبني الأمرَ على ما يغلب على ظنه. والرابع: يكون كما كان قبل طلوع الشمس، وهو غلط؛ لأنَّه حكم بحالة تيقن بطلانها بما وقع بعدها، والله أعلم. ومن مسائل القاعدة التي اشتمل عليها معنى الحديث: مَنْ شكَّ في طلاق زوجته، أو عتقِ عبده، أو نجاسةِ الماء الطاهر، أو طهارةِ النجس، أو نجاسةِ الثوب، أو غيرِه، أو أنَّه صلى ثلاثًا، أم أربعَ ركعات، أو أنه ركعَ وسجد، أم لا، أو نوى الصوم، أو الوضوء أو الاعتكاف، وهو في أثناء هذه العبادات، وما أشبه هذه الأمثلة: فكل هذه الشكوك لا تأثير لها، والأصل عدم الحادث، والله أعلم. ومن أحكام الحديث: شرعيةُ سؤال العلماء عمَّا يحدث من الوقائع، وجوابُ السائل، والله أعلم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عن أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةِ - رضي الله عنها -: أَنَّهَا أَتَتْ بابنٍ لها صَغيرٍ؛ لم يأكلِ الطعامَ، إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَجْلَسَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حِجْرِهِ، فَبَالَ على ثَوْبِه؛ فنَضَحَهُ بماءٍ، ولم يَغْسِلْهُ (¬1). وعن عائشةَ أُمِّ المؤمنينَ - رضي الله عنها -، قالتْ: أُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بصبيٍّ، فَبَالَ على ثَوْبِهِ؛ فَدَعَا بماءٍ، فَأَتبَعَهُ إِيَّاهُ (¬2). ولمسلمٍ: فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ، ولم يَغْسِلْهُ (¬3). أمَّا أُمُّ قيسٍ: فلا اسمَ لها غيرُ كنيتها، وهي: أختُ عُكَّاشَةَ بْنِ محصنِ ابنِ حرثانَ بنِ قيسِ بنِ مرةَ بنِ كثيرِ بنِ غنمِ بن دُودانَ بنِ أسدِ بنِ خزيمةَ. أسلمت قديمًا بمكة، وهاجرت إلى المدينة، وكانت من المبايعات. رُوِيَ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربعةٌ وعشرون حديثًا؛ اتفقا منها على حديثين. رَوَى عنها من الصحابة: وابِصَةُ بنُ مَعْبَدٍ، وجماعةٌ من التابعين، وروى لها أصحاب السنن، والمساند (¬4). وأما قوله: "الأَسَدِيَّةُ"، -بفتح الهمزة، والسين المهملة- فنسبة إلى أسد ابنِ خزيمةَ، وهي نسبة -أيضًا- إلى أسدٍ في قريش: أسدِ بنِ عبد العزى بن قصيِّ بنِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (221)، كتاب: الوضوء، باب: بول الصبيان، ومسلم (287)، كتاب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (220)، كتاب: الوضوء، باب: بول الصبيان. (¬3) رواه مسلم (286)، باب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله. (¬4) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 242)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 459)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1951)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 368)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 379)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 280)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 502).

مالك، وأسدٍ في مَذْحِجٍ: أسدِ بنِ مسلمةَ بنِ عامرٍ، وأسدِ بنِ عبدِ مناةَ بنِ عائذِ الله بنِ سعدِ العشيرةِ، وفي الأسد -أيضًا-: أسدُ بنو أسدِ بنِ حرب بن عتيك. وتشتبه هذه النسبة بالأَسْدي -بسكون السين، مبدَلَةٍ من الزاي- نسبة إلى أَزْد شنوءة؛ كذا قاله السمعانيُّ، وحكى عن ابنِ السِّكِّيتِ، وغيره؛ أنَّه يُقال فيه: الأَزْدُ -بالزاي، والسين- لغتان، منهم من الصحابة: ابن بحينة، وابنُ اللُّتْبِيَّة. وأمَّا ألفاظه: فقولها: "في حَجْرِهِ": هو بفتح الحاء المهملة، وكسرها؛ لغتان مشهورتان. وأما حقيقة النَّضْحِ: فهو أَنْ يُغْمَرَ الشيءُ الَّذي أصابه البولُ بالماء؛ كسائر النجاسات؛ بحيثُ لو عُصر لا يعصر، قاله أبو محمد الجوينيُّ، والقاضي حسين، والبغويُّ. والذي قاله إمام الحرمين، والمحققون: إنَّ النضحَ أَنْ يُغْمَرَ، ويُكَاثَرَ بالماء مكَاثَرَةً لا تبلغُ جريانَ الماء، وتردُّدَه، وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره؛ فإنه يُشترط فيها: أن يكونَ بحيثُ يجري بعضُ الماء، ويتقاطرُ من المحلِّ، إن لم يشترط عصره (¬1). ويدل عليه قولُها: "فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ"، وقولُها في رواية في "صحيح مسلم": "فَدَعا بِماءٍ، فَرَشَّهُ" (¬2). أمَّا أحكامه ومعانيه: فلا شكَّ أن بولَ الصبيِّ الَّذي لم يَطْعَمْ نجسٌ، وقد نقل بعض أصحاب الشَّافعي الإجماعَ على نجاسته. وقال: لم يخالف فيه إلَّا داودُ الظاهريُّ، ومن جوَّزَ نضحَه؛ فللتخفيف في ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 602)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 68 - 69)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 618)، (مادة: نضح). (¬2) رواه مسلم (287)، كتاب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله.

إزالته، لا لكونه ليس بنجسٍ، وحكاية ابن بطال، ثم القاضي عياض، عن الشَّافعي وغيره أنهم قالوا: هو طاهر ويُنَضحُ باطلة قطعًا. ولا خلاف في مذهب الشافعي في جواز نضحه؛ وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن وهب من أصحاب مالك، وروي عن أبي حنيفة؛ عملًا بهذا الحديث. والفرق بينه وبين الصبية في الحديث الآخر: "يُغْسَلُ بَوْلُ الجارِيَةِ، ويُنْضَحُ بَوْلُ الغُلامِ؛ ما لَمْ يَطْعَمْ" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من رواية علي - رضي الله عنه - مرفوعًا، وقال الترمذي: حديث حسن (¬1). وقد حكى صاحب "التتمة" (¬2) من أصحاب الشافعي، ثلاثةَ أوجه فيهما: أحدها: يُغسل منهما. والثاني: يُنضح منهما. والثالث: التفرقةُ بينهما؛ وهو الصحيح، والوجهان الأولان شاذان ضعيفان. وممن قال بوجوب الغسل منهما: مالك، وأبو حنيفة -في المشهور عنهما-، وأهل الكوفة، وكأنهم اتبعوا القياس على سائر النجاسات، ولم يبلغهم الحديث، أو بلغهم، وأوَّلوا الحديث في قوله: "ولم يغسله" على أنَّه: لم يغسله غسلًا مبالَغًا فيه كغيره، فسمِّي الأبلغُ: غسلًا، والأخفُّ: نضحًا؛ وهو خلافُ الظاهر، يحتاج إلى دليل يقاوم هذا الظاهرَ، ويبعده التفرقة بين النضح والغسل في الحديث المذكور؛ وهي تقتضي المغايرة، واعتلَّ بعضهم في هذا: بأنَّ بولَ الصبي يقع في محل واحد، وبول الصبية يقع منتشرًا؛ فيحتاج من صبِّ الماء في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (377)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، والترمذي (610)، كتاب: الطهارة، باب: ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، وابن ماجه (525)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الَّذي لم يطعم. (¬2) تقدم ذكر كتاب "التتمة" للمتولّي، والتعريف به.

مواضع متعددة ما لا يحتاج إليه في بول الصبي. وربما حمل بعضهم لفظَ النضح في بول الصبي على الغسل، وهو ضعيف؛ لنفي الغسل، والتفرقة بينهما في الحديثين. والمعنى في التفرقة بينهما: أنَّ النفوسَ أعلقُ بالذكور من الإناث؛ فيكثر حمل الذكر؛ فناسب التخفيف بالاكتفاء بالنضح، ودفعًا للعسر والحرج، بخلاف الإناث. وقيل غير ذلك؛ وهو ركيك؛ من حيث إنَّ كثافة النجاسة ورقتها لا أثر لها في عدم الوجوب، ولا التخفيف في الشرع؛ وإنما المعتبر في ذلك: عمومُ الابتلاء به، وعدمُه، والله أعلم. وفي الحديث دليل على: استحباب حمل الأطفال إلى الصالحين؛ ليحنِّكوهم، ويبرِّكوهم، ويدعوا لهم؛ ولا فرق في استحباب حمله إليهم حالَ الولادة، وبعدَها. وفيه: الندبُ إلى اللين، وحسن المعاملة، والمعاشرة، والتواضع، والرفق مع الصغار، والضعفاء. وفيه: التبرُّكُ بأهل الصلاح والفضل (¬1). وفيه: وجوبُ غسل بول الصبيِّ إذا طَعِم؛ وهذا لا خلاف فيه. وفيه: الندب إلى حمل الأذى، وما يعرض له منه. وفيه: جبرُ قلوب الكبار؛ بإكرامِ أطفالهم، وإجلاسِهم في الحِجْر، وعلى الركبة، ونحو ذلك. وفيه: طلب الماء إذا عرض له حاجة به، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قلت: إنما يكون التبرك بعلمهم وهدايتهم للناس، لا بذواتهم وآثارهم.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ أعرابيٌّ، فَبَالَ في طائفةِ المسجدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلمَّا قَضَى بَوْلَهُ، أَمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذَنُوبٍ مِنَ الماءِ؛ فأُهْرِيقَ عَلَيْهِ (¬1). تقدم الكلام على أنس - رضي الله عنه -، في أول باب الاستطابة. وأمَّا الأعرابي: فهو: منسوب إلى الأعراب؛ وهم سكان البوادي، ووقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد؛ لأنَّه جرى مجرى القبيلة؛ كأنمار. ولو نسب إلى المفرد؛ وهو عرب، لقيل: عربي، فيقع فيه الاشتباه بالعربي، وهو كل مولود من ولد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم -؛ سواء كان من أهل البادية، والقرى، وهو غير المعنى الأول. وطائفة المسجد: ناحيته. والمسجِد -بكسر الجيم- كالمجِلس: لموضع السجود، ويجوز بفتحها، وقيل: الفتح لموضع الجبهة فقط، ويقال له في لغة: مَسْيد، بالياء بدل الجيم (¬2). [وقال الزهريُّ: المسجدُ -بالكسر-: اسم جامع حيث يسجد عليه، ومنه رحب لا يسجد بعد أن يكون اتخذ لذلك، فأما المسجَد -بالفتح- من الأرض لموضع السجود نفسِه ونحوِ ذلك] (¬3). والذَّنُوب -بفتح الذال، وضم النون-، وهي: الدلو المملوءة ماءً. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (219)، كتاب: الوضوء، باب: يهريق الماء على البول، ومسلم (284)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 40)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 266). (¬3) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

وإنَّما زَجَرَ النَّاسُ الأعرابيَّ؛ لكونهم اعتقدوه منكرًا، فبادروا إلى منعه لما فيه من تنزيه المسجد عن الأنجاس، لكنَّه فاتهم النظر إلى أنَّ منعه، وقطعه عليه يؤدي إلى الضرر به، وزيادة التنجيس لمكان آخر من المسجد؛ فلهذا نَهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن زجره، بخلاف ما إذا تركه حتى يفرغ؛ فإنَّ الرشاش لا ينتشر. وفي هذا الحديث: نجاسةُ بول الآدمي، وهو مجمَعٌ عليه، ولا فرق فيه بين الصغير والكبير؛ لكنَّ بولَ الصغير فيه النضحُ، وتقدم بيانه. وفيه: احترامُ المسجد، وتنزيهُه عن الأقذار. وفيه: أَنَّ الأرضَ تطهُرُ بصبِّ الماء عليها؛ ولا يشترط حفرُها، ونقلُ التراب، وهذا مذهب الشافعي، والجمهور. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لا تطهر إلا بحفرها. وفيه: مكاثرةُ الأرضِ النجسةِ بالماء، وأنَّه لا يتحدَّد بشيء، قيل: إنَّه يكون سبعة أمثال البول. وفيه: أنَّ الماء إذا كان واردًا على النجاسة؛ طهرها، وأنَّه لا يشترط العصر؛ بل يكفي نضوبُ الماء. وفيه: الرفق بالجاهل في التعليم؛ وأنَّه لا يُؤْذَى، ولا يُعَنَّفُ إذا لم يأت بالمخالفة استخفافًا وعنادًا. وفيه: دفعُ أعظمِ الضررين باحتمال أخفِّهما؛ لأنَّ البول في المسجد مفسدة، وزجره؛ لقطعه عليه، وضرره، وتعديد مواضع التنجيس في بدنه، وموضعه؛ مفسدةٌ أكثر من الأولى، فاحتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ ترجيحًا لأخف المفسدتين على أعظمهما، والله أعلم. * * *

الحديث الخامس

الحديث الخامس عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتَانُ، وَالاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظَافِرِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ" (¬1). أمَّا أبو هريرة: فتقدم. وأمَّا قوله: "الفِطْرَةُ خَمْسٌ"، فظاهره الحصر في الخمس؛ كما يقال: العالمُ في البلد زيدٌ، إلا أنَّ الحصر في مثل هذا تارة يكون حقيقيًّا، وتارة يكون مجازيًّا. فالحقيقي: ما ذكرناه، إذا لم يكن في البلد غيره. والمجازي: مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة" (¬2)؛ كأنَّه بُولِغَ في النصيحة إلى أن جُعِل الدينُ إِيَّاها، وإن كان في الدين خصالٌ أخرى غيرُها. وقد ثبت عدمُ الحصرِ لخصال الفطرة في غير هذه الرواية؛ وهي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ"، وفي "صحيح مسلم"، وغيره: "عَشْرٌ من الفِطْرةِ" (¬3)؛ وذلك أدل دليل، وأصرح في عدم الانحصار في الخمس والعشر، والله أعلم. وأمَّا الفِطْرَةُ؛ فالمرادُ بها هنا: السُّنَّةُ؛ لأنَّها جاءت مفسرة في "صحيح البخاري" من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِنَ السُّنَّةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَتَقلِيمُ الأَظَافِرِ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5939)، كتاب: الاستئذان، باب: الختان بعد الكبر ونتف الإبط، ومسلم (257)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬2) رواه مسلم (55)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (5550)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب، ومسلم (257)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬4) رواه البخاري (5549)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب، بلفظ: "من الفطرة" بدل "من السنة". وقد رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 149) بلفظ: "من السنة"، ثم قال: رواه =

وأصحُّ ما فُسر به الحديث بما ثبت في رواية أخرى؛ لا سيَّما في "صحيح البخاري". وقال الماوردي، والشيخ أبو إسحقَ الشيرازيُّ - رحمه الله -: المرادُ بالفطرة هنا: الدِّين. الأول: هو الصحيح، ثمَّ إنَّ معنى الحديث: أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين يُقتدى بهم - عليهم الصلاة والتسليم -. قال الخطابي - رحمه الله -: وأول من أمر بها من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -: إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: بهؤلاء الخصال، فلمَّا فعلهنَّ، قال الله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]؛ أي: يُقتدى بك، ويُستَنُّ بسُنَّتِك (¬1). والفطرةُ تنصرفُ في كلام العرب على وجوه: أحدها: الفطرة: مصدرُ فطرَ اللهُ الخلقَ؛ أنشأه، والله فاطرُ السماوات والأرض؛ أي: خالقُها. والفطرة: بمعنى الجِبِلَّة التي خلق الله الناسَ عليها، وجبلَهم على فعلها. وأمَّا الفطرة، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" (¬2)، فقال أهل اللغة: هي خلقه لهم، وقيل: الإيمان بالله الَّذي كان أقر به لمَّا أخرجه من ظهر آدم. ¬

_ = البخاري، فلعل هذا الَّذي أوقع المؤلف في الغلط، والله أعلم. (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 42). (¬2) رواه البخاري (1319)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم (2658)، كتاب: القدر، باب: معنى: "كل مولود يولد على الفطرة"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والفطرة: زكاةُ الفطر. ذكر هذه الوجوهَ أبو عبد الله محمدُ بنُ جعفرٍ التميميُّ المعروف بالقزَّاز، في كتاب "تفسير غريب البخاري" (¬1). قال شيخنا أبو الفتح القاضي: وأَوْلى الوجوه أن تكون الفطرةُ ما جَبَلَ اللهُ الخلقَ عليه، وجبل طاعتهم على فعله؛ وهي: كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته (¬2). والختان: قطعُ الجلدة التي تُغَطِّي الحَشَفَةَ؛ وهي: كمرةٌ للذَّكر من الصبيِّ، ومن الجارية قطعُ جزء يسير من الجلدةِ التي في أعلى فرجِها. يقال: خَتَنَ الصبيَّ، يَخْتِنُه -بكسر التاء، وضمها-، خَتْنًا -بإسكان التاء-. وهو واجب عند معظم العلماء، ولا يمتنع عطف غير الواجب على الواجب؛ كعكسه في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} [الأنعام: 141]؛ فالإيتاء واجب، والأكل ليس بواجب. والاسْتِحْدادُ: استِفْعالٌ من الحديد؛ وهو: إزالةُ شعر العانةِ؛ وهو آلة منه، يسمَّى الموسى، ويجوز إزالتُه بغير ذلك من القصِّ، والنتف، والنورةِ، لكن السنةَ حلقُه، هو الَّذي دل عليه هذا الحديث. ثُمَّ العانة: الشعرُ فوقَ ذَكَرَ الرجل، وحواليه، وكذلك الشعرُ حول فرجِ المرأة. ونقل عن أبي العباس بن سريج - رحمه الله -: أنَّه الشعرُ النابت حول حلقة الدبر. فيحصل من مجموع هذا: حلقُ جميع ما على القبل، والدبر، وحولهما. وأمَّا وقتُ حلقه، فالمختار: أنَّه يُضْبَطُ بالحاجةِ وطوله، فإذا طال، حُلِقَ، ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن دقيق العيد في: "شرح عمدة الأحكام" (1/ 84). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84).

وكذلك الضبطُ في قصِّ الشارب، وتقليمِ الأظافر، ونتفِ الإبط، وحلقِ العانة. ويُستحبُّ ألا يتجاوز بتركه أكثرَ من أربعين ليلة؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: وُقِّتَ لنا في قَصِّ الشَّارِبِ، وتقليمِ الأظافرِ، ونتفِ الإبطِ، وحَلْقِ العَانةِ؛ أَنْ لا نَتْرُكَ أكثرَ من أربعينَ ليلةً، رواه مسلم في "صحيحه" (¬1). وقصُّ الشاربِ: سُنَّةٌ؛ وهو مخير بين القصِّ بنفسه، وبين أن يولي ذلك غيرَه؛ لحصول المقصودِ من غير هتك مروءة، ولا حرمةٍ؛ بخلاف العانة. ويُستحب البداءة بقصِّ الجانبِ الأيمن. والقصُّ في الحديثِ مطلَقٌ؛ ينطلق على إحفائِه، وعلى ما دونَ ذلك. واستحب بعضُ العلماء إزالةَ ما زاد على الشفة، قالوا: وهو المختار، ولا يحفُّه من أصله، وفسروا به قوله - عليه السلام -: "أَحْفُوا الشَّوَارِبَ" (¬2). وقوم يرون: إنهاك الشفة، وإزالة جميع الشعر، ويفسرون به الإحفاء، فاللفظ يدل على الاستقصاء، ومنه: إحفاء المسألة، وفي بعض الروايات: "أَنْهِكوا الشَّوارِبَ" (¬3). والأصل في الأمر بقصها، وإحفائها: مخالفةُ زيِّ الأعاجم، وورد ذلك منصوصًا في "الصحيح". وزوالُها أبلغُ في النظافة في مدخل الطعام والشراب، وأنزهُ من وَضَرَ الطعام. وتقْلِيمُ الأظافرِ: قطعُ ما طالَ على اللَّحمِ منها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (258)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬2) رواه البخاري (5553)، كتاب: اللباس، باب: تقليم الأظفار، ومسلم (259)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه البخاري (5554)، كتاب: اللباس، باب: إعفاء اللحى، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

وهو تفعيل من: القَلْم، والفعلُ منه: قَلَّم -مشدّدًا-، والقُلامَة: ما يُقطع من الظفر (¬1). وله معنيان: أحدهما: تحسينُ الهيئة، والزينةُ، وإزالةُ القباحة في طول الأظافر. والثاني: أنَّه أقربُ إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة، وهذا إنما يكون: إذا طالت طولًا فاحشًا، أما إذا لم تطل طولًا فاحشًا؛ فإنَّها لا تمنع وصول الماء إلى البشرة، ويُعفى عن يسير الوسخ تحتها. وتقليم الأظافر ليس بواجب؛ ويُستحَبُّ أَنْ يبدأَ باليمين، وباليدين قبل الرجلين: فيبدأ بمسبِّحة يده اليمنى، ثم الوسطى، [ثم البنصر]، ثم الخنصر، ثم الإبهام. ثم يعود إلى اليسرى، فيبدأ بخنصرها، ثم بنصرها، إلى آخرها. ثم يعود إلى الرجل اليمنى، فيبدأ بخنصرها، ويختم بخنصر اليسرى. والقَلْمُ معناه: القطعُ، ويحصل بأي آلة؛ من مِقَصٍّ، وسكين، ويُكره بالأسنان. ويُستحبُّ دفنُ قُلامَة الظفر، وشعر الإبط، والعانة، اتفق عليه أصحاب الشافعي، ونقلوه عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وأمَّا نتفُ الإِبِطِ، فهو: إزالةُ شعرِها بالنتف، ويحصل أيضًا بالحلق، والنورة؛ لكنَّ الأفضلَ: ما دلَّت عليه السنة، وهو النتفُ؛ ولعل السبب فيه: أن الشعرَ يقوى أصلُه بحلقه، ويغلُظ جرمُه. ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 491)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 515)، (مادة: قلم).

ولهذا يصف الأطباء: تكرارَ الحلق للشعر الَّذي تزداد قوته في مواضعه، فالإبطُ إذا قويَ شعره، وغَلُظ؛ كان أفوحَ للرائحة الكريهةِ منه، بخلاف العانة؛ فإنها لا يظهر فيها ما يظهر في الإبط مما ذكرنا، والاستحداد فيها: أيسر، وأخف على الإنسان، من غير معارض. ودخل يونس بن عبد الأعلى على الشافعي - رحمه الله -، وعنده المزيِّنُ يحلق إبطَه، فقال الشَّافعيُّ: عَلِمْتُ أَن السنةَ النتفُ؛ ولكِنْ لا أقوى على الوجع (¬1). ويُستحبُّ أن يبدأ بالإبط الأيمن، والله أعلم. أمَّا الأحكام: فالختان: واجبٌ عند الشافعي، وكثيرٍ من العلماء. وسنةٌ عند مالك، وأكثرِ العلماء، وتمسكوا في ذلك: بأنَّ الفطرةَ مفسَّرةٌ بالسُّنَّة، وهي صريحة في غير الواجب؛ لأنها تذكر في مقابلته. وبأنَّ قرائن الختان مستحبان؛ فكذلك هو. لكن كون السنة تذكر في مقابلة الواجب وضعٌ اصطلاحي؛ لأجل الفقه، وهي في الوضع اللغوي: الطريقة، وهي في ذلك تكون واجبة، أو مندوبة. ويجوز عطف غير الواجب على الواجب، وعكسه؛ كما تقدم. كيف، والأدلة فيه قوية؛ من حيث عمومُ الكتاب العزيز، بالأمر باتِّبَاع إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثَبَتَ أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - اختتن بالقدوم، وهو ابن ثمانين سنة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 344). (¬2) رواه البخاري (3178)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ومسلم (2370)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والأصل في الأمر الوجوب، ولا يلزم من استعمال اللفظ عند اقترانه بالمندوب، ألا يفيد الوجوب في بعض مدلولاته؛ خصوصًا إذا قوي بدليل من خارج. كيف ودلالةُ الاقترانِ ضعيفةٌ؟ خصوصًا إذا استقلت الجمل، ولا يلزم من استمرار استعماله في الندب في هذا الزمن، أن يكون الماضي كذلك؛ لكون الأصل عدم التغيير. كيف ومن قال بأنَّه سنة معارض، بقول مَنْ قَالَ: إِنَّه واجبٌ؟ والأصل عدم التغيير، فتعود الحالُ إلى الأصل، وهو الأمرُ بالاتباع، وهو للوجوب، فلا يكون للندب إلا بدليل من خارج، ولا دليل، والله أعلم. ثم هو واجب على الرجال والنساء جميعًا، وهو في حال الصغر جائز، وليس بواجب. وقيل: يجب على الولي أن يختن الصغيرَ قبل بلوغه. وقيل: يحرم ختانُه قبل عشر سنين. لكن الصحيح: أنَّه يُستحبُّ للولي ختانُه يومَ سابعِه، وهل يُحسب يوم ولادته من السبعة، أم لا؟ وجهان: أصحهما: يحسب، ولو كان خنثى مشكلًا، لم يجز ختانُه في فرجه حتى يتبين، على الأظهر. وقيل: يجب فيهما بعد البلوغ. ولو كان له ذَكَران عاملان، وجب ختانُهما، واعتبارُ العمل فيهما بالبول والجِماع وجهان. ولو كان أحدهما عاملًا دون الآخر، إمَّا بالبول، أو الجماع: ختن العامل. ولو مات غيرَ مختون، لم يختن، على الصحيح، صغيرًا كان أو كبيرًا. وقيل: يختنان، وقيل: يختن الكبير دون الصغير، والله أعلم. وفيه: وجوب نقل ما سُمِع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضبطه، وألَّا يتجاوزَه، وأنَّ ذلك

لا يمنع رواية ما سمعه غيره، وضبطه زيادةً على ما رواه هو، بل الزيادة من الثقة مقبولة؛ إذا لم تخالف ما رواه. فإنَّه رُوي: خمس من الفطرة، وعشرٌ من الفطرة؛ وعملَ العلماءُ بها من غير اختلاف، ولا إنكار، والله أعلم. وفيه: تبين العلم، وهل هو مجتهد فيه، أو منقول عن غيره؟ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بعض طرقه: "عَشْرٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ" (¬1). وتقدَّم باقي أحكامِه في ألفاظِه ومعانيه. * * * ¬

_ (¬1) لم يرد بهذا اللفظ، كما ألمح إلى ذلك الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 77).

باب الجنابة

باب الجنابة الحديث الأول عن أبي هريرةَ - رضي الله عنهُ -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَهُ في بَعْضِ طُرِقِ المَدِينَةِ، وهو جُنُبٌ: فانْخَنَسْتُ مِنْه، فَذَهَبْتُ، فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ، فقالَ: "أينَ كُنْتَ يا أَبا هُرَيْرَةَ؟ " قال: كُنْتُ جُنُبًا، فكَرِهْتُ أَن أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، قَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ! إنَّ المُؤمِنَ لا يَنْجُسُ" (¬1). الجنابة: دالة على معنى البعد، ومنه قوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]. وعن الشَّافعيِّ - رضي الله عنه -: أنه إنَّما سُمِّيَ جُنُبًا، من المخَالَطة. ومن كلام العرب: أَجْنَبَ: إذا خالَطَ امرأته. فعلى هذا يكون من الأضداد، وهو أَنَّ اللفظَ يُستعمل في الضدين في المعنى؛ كالقربِ والبعد، ولأنَّ مخالطتَها يلزم منها حصولُ الجنابة، أو مؤدِّية إليها، التي معناها البعدُ (¬2). وأما المدينة: فهي مدينةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (279)، كتاب: الغسل، باب: عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس، ومسلم (371)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس. (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 279)، و"القاموس" للفيروزأبادي (ص: 89)، (مادة: جنب).

ولها أسماء: المدينةُ، والدار؛ لأَمْنِهَا والاستقرار بها. وطَيْبَة، وطَابةُ؛ من الطِّيب؛ وهي الرائحةُ الحسنة، والطابُ، والطيبُ: لغتان. وقيل: من الطيب، وهو الطاهر؛ لخلوصها من الشرك، وطهارتها. وقيل: من طيب العيش بها. وفي "صحيح مسلم": أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ اللهَ تعالى سَمَّى المدينةَ طابة" (¬1). ويقال لها: يَثْرِبُ، والعذراءُ، وجابرةُ، والمجبورةُ، والمحبةُ، والمحبوبةُ، والقاصمةُ؛ لأنها قصمتِ الجبابرةَ، ولم تزلْ عزيزةً في الجاهلية، تمنَّعت على الملوك السالفة، وغيرهم، أعزَّها الله تعالى برسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: لم يُعْبَد بها صنم قط. ثم اعلم: أَنَّ كثرةَ الأسماءِ تدل على شرف المسمَّى؛ ولهذا كثرت أسماء الله تعالى، وأسماء رسوله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أنَّ الأصوليين اختلفوا في أنَّ: الاسمَ غيرُ المسمى، أو هو هو، وذلك في غير اسم الله تعالى، وأمَّا الله - سبحانه وتعالى -، فلا يجوز إطلاقُ ذلك عليه؛ بل هو -سبحانه- واحدٌ في ذاته، وصفاته، ومخلوقاته، وذاته. وأسماؤه قديمة، لا يقال: هذا هذا، ولا هذا غير هذا؛ بل نطلقه كما أطلقه سبحانه، لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا. وقوله: "فَانْخَنَسْتُ"؛ أي: انقبضتُ راجعًا. والانْخِنَاسُ: الانقباضُ، والرجوعُ، يقال: خَنَسَ، لازمًا ومتعديًا، فمن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1385)، كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي شرارها، من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -.

اللازم: ما جاء في الحديث في ذكر الشيطان: "فإذا ذُكِرَ اللهُ خَنَسَ" (¬1)، ومن المتعدي: ما جاء في الحديث أيضًا: "وخَنَسَ إِبْهَامَه" (¬2)؛ أي: قبضها. وقيل: يقال: أَخْنَسَه في المتعدِّي، ذكره صاحب "مجمع البحرين" (¬3). ورُويت هذه اللفظة: "فانْبَجَسْتُ" (¬4)؛ من الانبجاس -بالجيم-: وهو الاندفاع؛ أي: اندفعتُ عنه، ويؤيده ما جاء في حديث آخر، وهو قوله: "فانْسَلَلْتُ مِنْهُ" (¬5). وروي -أيضًا-: "فانبَخَسْتُ" (¬6) -بالخاء-؛ من البَخْس، وهو: النقص؛ كأنه - رضي الله عنه - اعتقدَ نقصانَ نفسه بجنابته، عن مجالسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو مصاحبته؛ لاعتقاد نجاسة نفسه. وفي لفظ البخاري: "فانسَلْتُ" (¬7)، وفي لفظ مسلم: "فانْسَلَّ" (¬8). وروي: "فانْبَجَسْتُ" -بالجيم، والشين المعجمة-، وهو: الإسراع (¬9). وقوله: "كُنْتُ جُنُبًا"؛ أي: ذا جنابة. وهذه اللفظة تقع على الواحد المذكر، والمؤنث، والاثنين، والجمع بلفظ ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (4301)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 186)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 268)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 163)، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -. (¬3) كتاب: "مجمع البحرين" في اللغة، للإمام حسن بن محمد الصغاني، المتوفى سنة (650 هـ)، في اثني عشر مجلدًا، جمعه من كتب في اللغة كثيرة. وانظر: "كشف الظنون" (2/ 1599). (¬4) وهي من رواية المستملي عن البخاري، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 390). (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1259). (¬6) وهي من رواية الأُصيلي وأبي الحسن القابسي والنسفي والمستملي، كما ذكر القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/ 78). (¬7) رواه البخاري (281)، كتاب الغسل، باب: الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره. (¬8) تقدم من رواية مسلم برقم (371) في "صحيحه". (¬9) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 21).

واحد، قال تعالى في الجمع: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي كُنْتُ جُنُبًا" (¬1). وقد يقال: جُنُبَان، وجُنُبُون، وأَجْنَاب. قوله: "فَكَرِهْتُ أَنْ أُجالِسَكَ، وَأَنا عَلَى غَيْرِ طَهارَةٍ"، إنما كره ذلك؛ لاعتقاده نجاسةَ الجُنُبِ؛ ولهذا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُبْحانَ اللهِ! إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ"؛ تعجبًا من اعتقاده، وإعلامه بالحكم في عدم نجاسة الجنب، وإِنْ كان المستحبُّ أن يكونَ الإنسانُ على طهارة في ملابسة الأمور المعظمة، لكنَّ اعتقادَ النَّجَاسة أعظمُ مفسدةً من مراعاة لمصلحةٍ مستحبةٍ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحانَ اللهِ"؛ تنزيهٌ لله تعالى، منصوب نصب المصدر، أريد به هنا، وأمثاله: التعجبُ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المسلمَ لا يَنْجُسُ"؛ هو -بضم الجيم، وفتحِها- لغتان، فيقال في الماضي: نَجِسَ، و [نَجُسَ]-بكسر الجيم، وضمها-، فمن كسرها في الماضي، فتحها في المضارع، ومن ضمها في الماضي، ضمها في المضارع -أيضًا-؛ وهو قياس يطرد عند أهل العربية، إلَّا أحرفًا مستثناة، من ذلك (¬2). وأمَّا الأحكام: ففيه: دليل على طهارة المسلم حيًّا، أو ميْتًا: وأمَّا الحي: فهو طاهر بإجماع المسلمين. حتى الجنينُ إذا ألقته أمُّه، وعليه رطوبةُ فرجِها، قال بعض أصحاب الشَّافعي: هو طاهرٌ بإجماع المسلمين، قال: ولا يجيء فيه الخلاف المعروف ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (68)، كتاب: الطهارة، باب: الماء لا يجنب، والترمذي (65)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الرخصة في ذلك، وابن ماجه (370)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة بفضل وضوء المرأة، وابن حبان في "صحيحه" (1248)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 67)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 226)، (مادة: نجس).

في نجاسة رطوبة فرح المرأة، والخلاف في كتب الشَّافعية في نَجَاسةِ بيضِ الدَّجاج، ونحوه؛ فإنَّ فيه وجهين؛ بناء على رطوبة الفرج. وأمَّا الميْتُ المسلم: فاختلف العلماء فيه، وللشَّافعي قولان؛ الصحيح: أنَّه طاهر، ولهذا غسل؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المسلمَ لا يَنْجُسُ". ذكره البخاري في "صحيحه"، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - تعليقًا: "المسلمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا، ولا مَيْتًا" (¬1). وأمَّا الآدميُّ الكافرُ: فحكمُه في الطهارة والنجاسة حكمُ المسلم، وهو مذهب جمهور العلماء. وبعض أهل الظاهر يرى: أنَّ المشركَ نَجِسٌ في حال حياته؛ أخذًا بظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. ويقال للشيء: نجَسٌ؛ بمعنى أنَّ: عينَه نجس، ويقال: نجس: بإضافة النجاسة له، ويجب حمله على المعنى الأول؛ هو: أنَّ عينه لا تصير نَجِسَة؛ لإمكان نجاسته بإصابة النجاسة. ويجاب عن الآية الكريمة: بأنَّ المرادَ نجاسةُ الاعتقاد، والاستقذار؛ لا أنَّ أعضاءهم نجسة؛ كنجاسة البول والغائط، ونحوهما. فإذا ثبت طهارةُ الآدمي، مسلمًا كان أو كافرًا، فعرقه، ولعابه، ودمعه طاهرات، سواء كان: محدِثًا، أو جُنبًا، أو حائِضًا ونفساءَ؛ وهذا كلُّه بإجماع المسلمين، كما تقدم. وكذلك الصبيان: أبدانُهم، وثيابُهم، ولعابُهم؛ محمولةٌ على الطهارة، حتى ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 422)، معلقًا بصيغة الجزم، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11134) موصولًا عن ابن عباس موقوفًا عليه من قوله. ورواه الدارقطني في "سننه" (2/ 70)، والحاكم في "المستدرك" (1422)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 306)، عن ابن عباس مرفوعًا.

الحديث الثاني والثالث

تتيقن النجاسة، فتجوز الصلاةُ في ثيابهم، والأكلُ معهم من المائع إذا غمسوا أيديهم فيه، والله أعلم. وفيه: دليل على احترام أهل الفضل، وتوقيرهم في مجالستهم، ومصاحبتهم، وأن يكون على أكمل الهيئات، وأحسن الصفات. ويُستَحبُّ لطالب العلم: أَنْ يحسِّنَ حالَه مع شيخه في المجالسة؛ بأن يكون متطهرًا، متنظفًا بإزالة الشعور المأمور بإزالتها، وقص الأظافر، وإزالة الروائح الكريهة، والملابس المكروهة، وغير ذلك؛ فإنَّ ذلك من إجلال العلم والعلماء. وفيه: أنَّ العالم إذا رأى مِنْ تابعِه أمرًا يخالف الشرع؛ من قول، أو فعل، أو اعتقاد؛ أَنْ يرشِدَه إليه، ويبينَ له الصواب. وفيه: جواز التعجب، بسبحان الله! وأنَّ ذلك لا يعدُّ سوءَ أدب مع التنزيه؛ وكأنَّه في المعنى: تذكيرٌ لمن يعجب من فعلِه المخالفِ؛ بالرجوع إلى الله تعالى، وتنزيهه، والله تعالى أعلم. * * * الحديث الثاني والثالث عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسلَ من الجنابة، غسلَ يديه، وتوضَّأَ وُضُوءَهُ للصلاة، ثمَّ اغتسلَ، ثمَّ يُخَلِّلُ بيديهِ شعرَه، حتى إذا ظنَّ أنه قد أَرْوى بَشَرَتَهُ؛ أَفاضَ عليهِ الماءَ ثلاثَ مراتٍ، ثمَّ غسلَ سائرَ جسده. وقالت: كنتُ أغتسلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من إناءِ واحد، نغترفُ منه جميعًا (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (269)، كتاب: الغسل، باب: تخليل الشعر، ومسلم (316)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري.

وعن ميمونةَ بنتِ الحارثِ زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالت: وَضَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَ الجَنابَةِ؛ فَأَكْفَأ بِيمينِهِ على يَسَاِرِهِ مَرَّتَينِ، أو ثَلاثًا، ثم غَسَلَ فَرْجَه، ثم ضَرَبَ يدَهُ بالأرْضِ، أو بالحائطِ مَرَّتَينِ، أو ثَلاثًا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ، وغَسَلَ وجهَه، وذراعَيه، ثمَّ أَفَاضَ على رأسِه الماءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ، ثُمَّ تَنَّحَى فَغَسَلَ رِجْلَيْه؛ فَأَتَيْتُه بِخِرقَةٍ، فلم يُرِدْهَا؛ فجَعلَ يَنْفُضُ الماءَ بيدَيهِ (¬1). تقدم الكلام على عائشة - رضي الله عنها -. وأمَّا ميمونة: فهي أمُّ المؤمنين بنتُ الحارثِ بنِ حَزْنِ بنِ بجيرِ بنِ الهزمِ بنِ ذؤيبةَ بنِ عبدِ الله بنِ هلالِ بنِ عامرِ بْنِ صعصعةَ، الهلاليةُ، أختُ أمِّ الفضلِ امرأةِ العباسِ بنِ عبدِ المطلب، أمِّ عبد الله بن عباس. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست من الهجرة، وكان اسمها برَّة، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونةَ. رَويَ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستةٌ وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على سبعة، وانفرد البخاريُّ بحديثٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ. رَوى عنها عبدُ الله بنُ عباسٍ، وجماعةٌ من التابعين، وروى لها أصحاب السنن والمساند المشهورة. وماتت سنة إحدى وخمسين في ولاية معاوية -على المشهور-، وقيل غيره. وصَلَّى عليها ابنُ عباسٍ، ودخل قبرَها هو وغيره من أبناء أخواتها، وغيرهم، ودفنت بِسَرِف على أميال مختلَف فيها من مكة، أشهرها: عشرة أميال (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (270)، كتاب: الغسل، باب: من توضأ في الجنابة ثم غسل سائر جسده ولم يعد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى، ومسلم (317)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 132)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 407)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1914)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 262)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 619)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 312)، =

أمَّا ألفاظ حديث عائشة - رضي الله عنها -: فقولها: "كانَ إذا اغتسلَ من الجنابةِ"؛ وصيغةُ (كان) تقتضي تكرار فعله؛ أي: وكان عادته؛ كقول ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس بالخير (¬1)، ويقال: كان فلان يَقْرِي الضيفَ. وقد تستعمل؛ لإفادة مجرد الفعل ووقوعه دون الدلالة على التكرار. والأول أكثر في الاستعمال، وعليه ينبغي حملُ قول عائشة - رضي الله عنها -. وقولها: "إذا اغتسلَ منَ الجنابةِ"؛ يحتمل أن تقدر له الإرادة؛ فيكون من باب التعبير بالفعل عن ارادته؛ كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]. ويحتمل أن تريد به ملابسة الفعل بالشروع فيه؛ فإنه يقال: فعل كذا؛ إذا شرع فيه، وإذا فرغ منه؛ فيكون حمله على الشروع صحيحًا، ويكون وقتًا للبداءة بغسل اليدين. بخلاف قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]؛ فإنَّه لا يمكن وقت الشروع في القرآن أن يكون وقت الاستعاذة، فلا يكون حمله عليه صحيحًا؛ فيتعين حمله على الإرادة دون الشروع، والله أعلم. وقولها: "منَ الجنابةِ"؛ في من -هَاهُنا- معنى: السببية، مجاز عن ابتداء الغاية من حيث إن السبب مصدر المسبب، ومنشِئًا له. وتكون الجنابة -هاهنا- بمعنى: الأمر الحكمي الذي ينشأ عن التقاء الختانين، أو الإنزال. ¬

_ = و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 238)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 126)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 480). (¬1) رواه البخاري (1803)، كتاب: الصوم، باب: أجود ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون في رمضان، ومسلم (2308)، كتاب: الفضائل، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير من الريح المرسلة.

قولها: "غسلَ يديهِ"؛ هذا الغسلُ قبل إدخال اليدين في الإناء، وقد بين ذلك مصَّرحًا به من رواية سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وقولها: "ثم توضَّأَ وضوءَهُ للصلاةِ"؛ ظاهره أنه وضوء كامل، ولمَّا كان وضوء الصلاة له صورة معنوية في الذهن؛ شبه هذا الوضوء به؛ ليطابقه به في الفعل، لكنَّه مقيد بابتداء غسل الجنابة، ولا يلزم منه كونه وضوءًا للصلاة حقيقة. وقولها: "ثمَّ اغتسلَ"؛ يعني: على ما هو مشروع معلوم عندكم، ثم ذكرت بعض صفاته؛ فقالت: "ثم يخلِّلُ بيديه شعرَهُ"؛ فحقيقة التخليل: إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر، لكن هل يكون مع بلل الأصابع بغير نقل ماء، أو بنقل ماء؟ الراجح: أنَّه مع نقل الماء؛ للرواية الواردة في "صحيح مسلم": "ثم يأخذُ الماءَ، فيُدْخِلُ أصابِعَهُ في أُصولِ شعرِهِ" (¬1). وفي "سنن النسائي" في حديث عائشة ما يبين أنه يخلل شعره بالماء، وبوب عليه: باب تخليل الجنب رأسه، فقالت فيه: "كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُشَرِّبُ رَأسَهُ، ثم يَحْثي عليهِ ثلاثًا" (¬2). وهاتان الروايتان: ردٌّ على من قال: يخلل شعره بيديه مبلولة دون ماء، فلا يقال: شرَّبت بدون ماء. وقولها: "حتى ظنَّ أنَّه أَرْوى بشرتَهُ" الظن يكون بمعنى: العلم، وبمعنى: رجحانِ أحد الطرفين على الآخر مع الاحتمال. لكن قولها فيما بعد ذلك: "أفاضَ عليهِ الماءَ ثلاثًا"؛ يمنع القطع بأن يكون بمعنى العلم -هنا-؛ لأنَّه كان يكتفي بريِّ البشرة الذي لزم منه وصول الماء إلى جميع الشعر؛ فيخرج به عن العهد في الإتيان بالواجب. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه النسائي (249)، كتاب: الطهارة، باب: تخليل الجنب رأسه.

مع أنه يكتفى بالظن في هذا الباب، وما شابهه؛ وهو قائم في الحكم مقام القطع؛ لأنَّا لو تعبدنا بالقطع في ذلك؛ لأدى إلى الحرج والمشقة، ثم إلى ترك المأمور. وأَرْوى: مأخوذ من الريِّ؛ الذي هو: ضدّ العطش، وهو مجاز في ابتلال الشعر بالماء. يقول: رَوِيتُ من الماء -بالكسر- أَرْوَى -بالفتح- رَيًّا، ورِيًّا، ورَوِيَ، وأرويتُه أنا (¬1). والبشرةُ: ظاهر الجلد؛ والمراد بإروائها: إيصالُ الماء إلى جميع الجلد، والغالبُ أنه لا يصل إليه إلَّا وقد ابتلت أصول الشعر، أو كله. وقولها: "أفاضَ الماءَ ثلاثَ مراتٍ، ثم غسلَ سائرَ جسدِه"؛ إفاضة الماء على الشيء: إفراغُه عليه، يقال: فاض الماء: إذا جرى، وفاض الدمعُ: إذا سال. سائر -هنا-؛ بمعنى: البقية؛ وهي الأصل في استعمالها، وقد تستعمل بمعنى: الجميع، لكن البقية هنا متعينة؛ لذكرها الرأس أولًا، وهو مأخوذ من السؤر. وأمَّا أحكامه: ففيه دليل على: أَنَّ أفعَاله - صلى الله عليه وسلم - حجةٌ؛ كأقواله. وفيه دليل على: استحباب غسل اليدين قبل وضوء الاغتسال، ثم الوضوء بعده كاملًا، ثم الاغتسال بعده، يبدأ فيه برأسه، ويخلله بأصابعه العشر دون الخمس، ثم باقي جسده. وفيه: التثليث في الاغتسال؛ كالوضوء. وفيه: جواز اغتسال الرجل والمرأة جميعًا من إناء واحد، وأن اغترافهما من الإناء يكون على التعاقب؛ لغلبة صغر أوانيهم، وتعذر تساويهما في الاغتراف ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 348)، (مادة: روي).

من غير تعاقب؛ فيقتضي جواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة؛ لتأخر اغتراف الرجل عن امرأته في بعض الاغترافات، وإن كان لفظ الحديث محتملًا لشروعهما في الاغتسال دفعة واحدة، لكن ليس فيه عموم، والله أعلم. وأمَّا حديث ميمونة - رضي الله عنها -: فقولها: "وضعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَ الجنابةِ"؛ أي: كما في الجنابة، وقد تقدم أن الوَضوء -بفتح الواو- اسم لمطلق الماء، أو للماء المضاف إلى الوضوء، لكن هذا اللفظ يدل على أنه: اسم لمطلق الماء؛ لإضافته إلى الجنابة. قولها: "فَأَكْفَأَ"؛ أي: قَلَبَ، يقال: كَفَأْتُ الإناء، وَأَكْفَأْتُه -ثلاثيًّا، ورباعيًّا-: إذا قَلَبْتُه. وحكى القاضي عياض - رحمه الله - في "المشارق"، عن بعضهم: إنكار أن يكونا بمعنى واحد؛ وإنَّما يقال في قلبت: كفأت -ثلاثي-، وأمَّا أكفأت -رباعيًّا-، فمعناه: أملت؛ وهو مذهب الكسائي (¬1). وقولها: "ثُمَّ غسلَ فرجَه"؛ يعني به: القُبُلَ، وغسله؛ لإزالة ما علق به من الأذى. وينبغي أَنْ يفعلَ ذلك في الابتداء قبل الوضوء؛ لئلا يغسله بعد ذلك؛ فيحتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء؛ لتحصيل سننه للغسل. ثم المعنى في غسله: هل هو للأذى المحكوم عليه بالنجاسة؟ أم بمجرد الأذى الذي هو الاستقذار؟ ينبني ذلك على: أنَّ المني نجس، وفيه خلاف للعلماء: مذهب الشَّافعي - رحمه الله -، وجماعة: طهارته، ومذهب غيرهم: نجاسته. ثمَّ إذا قلنا بطهارته، هل الغالب سبق إنزاله بمذي، فيتنجس به، أم ليس الغالب ذلك؟ ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 344)، و "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 276)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 141).

ثمَّ إذا لم يكن الغالب سبقه بمذي، فهل يتنجس برطوبة فرج المرأة؟ إن قلنا: إنَّها نجسة، نُجِّس؛ وإلَّا: فلا. وحيث حكمنا بالنجاسة، وغسله لإزالة النجاسة، والغسل عن الجنابة: مرة واحدة؛ هل يكتفى بها، أم لا بُدَّ من مرتين؛ إحداهما: للنجاسة، والأخرى: للجنابة؟ فيه خلاف لأصحاب الشَّافعي - رحمه الله تعالى -، لكن الحديث مطلق لا يدل إلَّا على الغسل من غير تكرار؛ فيؤخذ منه الاكتفاء بغسلةٍ واحدةٍ من حيث إنَّ الأصل عدمُ غسله ثانيًا، والله أعلم. وقولها: "ثمَّ ضربَ يَدهُ بالأرض، أو الحائطِ مرتين، أو ثلاثًا"؛ إنَّما فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم -؛ لإزالة ما لعلَّه عَلِقَ باليد من رائحة؛ زيادةً في التنظيف. وقد اختلف أصحابُ الشَّافعي في أنَّ النجاسة إذا زالت عينُها، وبقيت رائحتُها، هل تضرُّ؟ على وجهين، أصحهما: لا تضر، وهو قول كثير من الفقهاء. فإذا استقصى في إزالة العين، فقد يؤخذ من هذا الحديث العفو عنها؛ لأنَّ ضربه - صلى الله عليه وسلم - يده بالأرض، أو بالحائط، لا بدَّ أَنْ يكونَ لفائدة: لا جائز أن يكون: لإزالة العين؛ لحصولها قبله، وإلَّا لتنجست الأرض، أو الحائط؛ بملاقاتها. ولا يكون: لإزالة الطعم؛ لأنَّه دليل على بقاء العين. ولا يكون: لبقاء اللون؛ لبعده بالإنزال، أو المجامعة؛ لكون ذلك لا يقتضي لونًا يلصق باليد، وإن وجد؛ فنادر جدًّا. فتعين أن يكون: لإزالة الرائحة، وحكمها: ما تقدم. فتعين أن يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - استظهارًا في زيادة التنظيف، وإزالة احتمال وجود رائحة، مع الاكتفاء بالظن في زوالها.

وقولها: "ثمَّ تمضمضَ، واستنشقَ، وغسلَ وجهَهُ، وذراعيهِ"؛ ففيه دليل على: شرعية هذه الأفعال في الغسل، لكن اختلف الفقهاء في المضمضة، والاستنشاق فيه: فأوجبها أبو حنيفة، ونفى الوجوبَ: مالك، والشَّافعي، وغيرهما، وقالوا: هما مستحبَّان فيه، وفي الوضوء، وليس في الحديث ما يدل على الوجوب [إلا أن يقال: إن مطلق أفعاله - صلى الله عليه وسلم - تفيد الوجوب] (¬1). غير أنَّ المختار عند الأصوليين: أنَّ الفعل لا يدل على الوجوب إلَّا إذا كان بيانًا لمجمل يعلق به الوجوب، وذلك في الطهارة ليس من قبيل المجملات. وقولها: "ثمَّ أفاضَ على رأسِه الماءَ"؛ قد يحتج بظاهره من يقول من أصحاب مالك: بتأخير مسح الرأس مع الرجلين عن الغسل، وفيه خلاف لأصحاب مالك، ويحتمل أن إفاضته الماء على رأسه؛ لكون فيه معنى المسح، وزيادة. وقد اختلف أصحاب الشَّافعي في أنَّ غسل الرأس يقوم مقامه مسحه؟ الصحيح من أوجه ثلاثة: التفرقة فيما بينهما؛ فيجري في الرأس، ولا يجري في الخف، والله أعلم. قولها: "ثمَّ تنحَّى، فغسلَ رِجْليه"؛ يقتضي: تأخير غسل الرجلين إلى ما بعد الغسل، وهو أحد القولين للشَّافعي، واختيار أبي حنيفة. ومذهب عائشة -قبله- يقتضي: إكمال الوضوء قبل الغسل، وهو الصحيح من مذهب الشَّافعي، وغيره من العلماء. وفرَّق بعضهم بين أن يكونَ موضعُ الغسل وسخًا، أو يكون الماءُ قليلًا، فيؤخر غسلهما، وبين أن لا يكونا كذلك؛ فيكمل وضوءه؛ جمعًا بين الأحاديث، وهذا في كتب المالكية، وغيرهم من العلماء. وقولها: "فأتيتُه بخرقةٍ؛ فلم يُرِدْها"؛ الخرقة المذكورة: جاءت مسماةً في ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

هذا الحديث: بالمنديل (¬1)، ورَدُّه إيِّاها: إمَّا لأمرٍ يتعلق بها من وسخ، أو صبغٍ من زعفران، ونحوه. [وإما أن يكون لعدم حاجته إليها لكي لا يتنشف] (¬2). ولهذا "جعل ينفض الماء بيديه". وقد اختلف أصحاب الشَّافعي في التنشيف، ونفضِ الأعضاء من الوضوء والغسل على أوجه: أظهرها: أن المستحب تركُهما، ولا يقال: إنهما مكروهان. والثاني: أنهما مكروهان. والثالث: أنهما مباحان، يستوي فعلهما وتركهما، وهو المختار عند جماعة من المحققين. والرابع: يستحب التنشيف؛ لما فيه من الاحتراز عن الأوساخ. والخامس: يكره التنشيف في الصيف دون الشتاء. وأمَّا السلف من الصحابة، وغيرهم من العلماء: فقال أنس بن مالك، والثوري: لا بأس به فيهما. وقال ابن عمرو بن أبي ليلى: مكروه فيهما. وقال ابن عباس: يكره في الوضوء دون الغسل. وقد روى التنشيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، قال التِّرمذيُّ: ولا يصح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقد ثبت النفض في حديث ميمونة هذا؛ فاقتضى الإباحة، ولم نعلم أحدًا من العلماء قال باستحبابه، فإذا كان النفضُ مباحًا، كان التنشيفُ مثلَه، وأولى؛ لاشتراكهما في إزالة الماء. ¬

_ (¬1) وقد تقدم تخريجها عند مسلم برقم (317) في "صحيحه". (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ش". (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 74).

الحديث الرابع

وقد استدل بعض العلماء على كراهة النفض بحديث ضعيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنْفِضُوا أيديكم؛ فإنَّها مَراوِحُ الشَّيطانِ" (¬1)؛ فإنَّه لا يقاوم هذا الحديث الصحيح، والله أعلم. وفي الحديث فوائد: منها: إعداد ماء الغسل؛ كالوضوء. ومنها: استحباب الصب باليمين على اليسار. ومنها: استحباب التكرار في الغسل مرتين، وثلاثًا؛ وكذلك الوضوء. ومنها: استحباب تقديم غسل الفرج، ثمَّ الوضوء بعده، ثمَّ إفاضة الماء على الرأس، ثمَّ على سائر الجسد. ومنها: استحباب التنحي من المغتسل إن كان وسخًا؛ لغسل القدمين؛ سواء أكمل وضوءه قبل الغسل، أم لا. ومنها: إباحة التنشيف، والنفض، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن عبدِ الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّاب - رضي الله عنه -: قال: يا رسولَ اللهِ! أَيَرْقُدُ أَحَدُنا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قال: "نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرْقُدْ" (¬2). وقد تقدم الكلام على عبد الله بن عمر في الحديث الثالث من باب الاستطابة. وعلى عمر في أول الكتاب. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (1/ 36)، والديلمي في "مسند الفردوس" (1029)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 99). (¬2) رواه البخاري (283)، كتاب: الغسل، باب: نوم الجنب، ومسلم (306)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له .. ، وهذا لفظ البخاري.

واعلم أنَّ مدلول حقيقة لفظ هذا الحديث؛ إباحةُ النوم وهو جنب، لكنها متوقفة على الوضوء، وهو مأمور به، واختلف العلماء في الأمر به، هل هو للاستحباب، أم للوجوب؟ فمذهب الشافعيِّ، وأبي يوسف، والجمهور: إلى أنَّه للاستحباب. ونقل ابن العربي، عن الشافعيِّ: أنَّه لا يجوز للجنب أن ينامَ إلَّا على وضوء، وهو غريب ضعيف، لا يعرفه أصحاب الشَّافعي؛ بل قالوا كلهم بخلافه. وعن مالك في وجوبه قولان: أحدهما: وهو قوله في "المجموعة"، وبه قال ابن حبيب، وأهل الظاهر: الوجوب، فلو تركه، قال مالك: فليستغفر الله. وقال بعض أشياخ المالكية: لا تسقط العدالةُ بتركه؛ لاختلاف العلماء فيه. ثمَّ المراد بالوضوء: الوضوء المشروع، ولم نعلم أحدًا قال: بأنه الوضوء اللغوي؛ الذي هو مجرد النظافة، ويؤيد ذلك: ما رواه مسلم، في "صحيحه"، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ يتوضأ وضوءه للصلاة (¬1). واستدل من قال بوجوبه: بأنَّه ثبت في لفظ الحديث في "الصحيحين"، وغيرهما: أنَّ الوضوء ورد بصيغة الأمر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَضَّأْ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ؛ ثُمْ نَمْ" (¬2)، ومطلق الأمر للوجوب. لكنَّه وقع الإجماع على أنَّه: لا يجب على الجنب الوضوء؛ وإنَّما يجب عليه الغسل. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (305)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، وكذلك البخاري (284)، كتاب: الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام. (¬2) رواه البخاري (286)، كتاب: الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (306)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -.

واختلف أصحاب الشَّافعي في وقت وجوبه؛ هل هو حصول الجنابة بالتقاء الختانين، أم بإنزال المني، أم بهما؟ أم لا يجب إلَّا عند القيام إلى الصلاة؟ على أوجه. ومن قال: يجب الغسل بحصول الجنابة، قال: يجب وجوبًا موسعًا. واستدل من لم يوجب الوضوء بحديث الأسود، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام وهو جنب، ولا يمس ماء، وهو حديث حسن رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬1). وضعَّفه بعضهم، واختلفوا في تأويله على تقدير صحته على وجهين: أحدهما: ما ذكره ابنُ سُريج، والبيهقي: أنَّ المراد أنَّه لا يمس ماءً للغسل. والثاني: وهو الراجح عند جماعة: أنَّ المراد أنَّه كان في بعض الأوقات لا يمس ماءً أصلًا؛ لبيان الجواز، إذ لو واظب عليه؛ لتوهم وجوبه. واختلف العلماء في علة شرعية الوضوء للجنب قبل أن ينام؟ فقال أصحاب الشافعي: لتخفيف الحدث؛ فإنَّه يرفعه عن أعضاء الوضوء. وقال غيرهم: علته أن يثبت على إحدى الطهارتين؛ خشية الموت في منامه. وقيل: بل لعلة أَنْ ينشطَ إلى الغسل؛ إذ نال الماء أعضاءه. وبنوا على هاتين: وضوء الحائض إذا أرادت النوم: فَمَنْ عَلَّلَ بالنوم على إحدى الطهارتين: استحبه لها. ومن عَلَّلَ بحصول النشاط: لم يستحبه؛ لعدم حصول رفع الحيض، فلا يؤثر في حدثها. وقد نصَّ الشَّافعي، وأصحابه: على أنَّه لا يستحب الوضوء للحائض، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (228)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يؤخر الغسل، والنسائي في "السنن الكبرى" (9052)، والترمذي (118)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل، وابن ماجه (581)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب ينام كهيئته لا يمس ماء.

الحديث الخامس

والنفساء، فيحتمل أنهم راعوا العلة الثانية من العلتين، ويحتمل أنهم لم يراعوها، ورأوا أنَّ أمر الجنب به تعبّد لا يقاس عليه غيره، أمَّا إذا انقطع دم الحائض والنفساء، صارتا كالجنب، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ، امْرَأَةُ أَبي طَلْحَةَ إلى رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ! إن اللهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، هَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إذا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ إذا رَأَتِ الماءَ" (¬1). أمَّا أم سلمة: فهي أُمُّ المؤمنين هند، وقيل: رَمْلَة، وليس بشيء، بنةُ أبي أُمَيَّةَ حُذَيْفَةَ، ويقال: سُهيل بن المغيرة بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ مخزومِ بنِ يقظة بنِ مُرَّةَ، المخزوميَّةُ. كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أبي سلمةَ عبدِ الله بنِ عبدِ الأسد. أَمُّها: عاتكةُ بنتُ عامرِ بنِ ربيعة. تزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث بعد وقعة بدر. هاجرت الهجرتين: هجرةَ الحبشة، والمدينة. رَوي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثُ مئةٍ وثمانيةٌ وسبعون حديثًا؛ اتفقا على ثلاثة عشر حديثًا، ولمسلم مثلها. رَوى عنها: ابنُها عمر، وابنتُها زينبُ، وجماعة من التابعين. ورَوى لها -أيضًا-: أصحابُ السننِ والمسانِد. وتوفيت سنةَ تسعٍ وخمسين، وقيل: سنة ستين؛ لثمانٍ بقين من رجب في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (278)، كتاب: الغسل، باب: إذا احتلمت المرأة، ومسلم (313)، كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، وهذا لفظ البخاري.

اليوم الذي مات فيه معاوية، ووُلِّي فيه ابنُه يزيد، وقال ابنُ حِبَّان: سنةَ إحدى وستين. وصَلَّى عليها أبو هريرةَ، وقيل: سعيد بن زيد أحدُ العشرة، وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّه توفي سنة إحدى وخمسين، وماتت هي سنة إحدى وستين، أو بعدها؛ كما تقدم، والله أعلم. ودُفِنَتْ بالبقيع؛ بلا خلاف، ودخل قبرَها ابناها عمرُ وسلمةُ، وابن أخيها عبد الله بن أبي حذيفة (¬1). وأمَّا أم سُلَيْم: فهي أُمُّ أنسِ بنِ مالكٍ، وتقدم ذكرها في أول باب الاستطابة في ترجمته، وأنَّ اسمها الغُمَيْصَاء، وقيل غيره، وكانت من فاضلات الصحابة، ومشهوراتهن، وهي أختُ أمِّ حَرَام بنِ مِلْحَان - رضي الله عنها -. رُويَ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربعة عشر حديثًا؛ اتفقا على حديث واحد، وللبخاري آخر، ولمسلم حديثان. روى عنها: ابنُها أنس، وعبدُ الله بن عباس. وروى لها: أبو داود، والترمذي، والنسائي. وأمَّا زوجُها أبو طلحةَ، فاسمه: زيدُ بنُ سهلِ بنِ الأسودِ بنِ حَرامِ بنِ عمرِو بنِ زيدِ مناةَ بنِ عديِّ بنِ عمرِو بنِ مالكِ بنِ النجَّارِ. شهد العقبةَ، وبدرًا، وأحدًا، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو نقيب. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اثنان وتسعون حديثًا؛ اتفق البخاري، مسلم على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. رَوى عنه: عبدُ الله بن عباس، وأنسُ بن مالك، وزيدُ بن خالد، وابنُه: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 86)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1920)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 329)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 317)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 201)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 150)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 483).

عبد الله، وابنُ ابنه: إسحاق بنُ عبدِ الله، وغيرُهم. روى له أصحاب السنن والمساند. مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين، وسنُّه: سبعون سنة، وصلَّى عليه عثمان بن عفان. وقيل: مات بالشَّام، وعاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة يسرد الصوم. ورُوي أنَّه غزا البحر؛ فمات فيه. قال أبو حاتم بن حِبَّان: وكان فارسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقتَلَ يومَ حنينٍ عشرين رجلًا بيده، وهو القائل: أَنَا أَبُو طَلْحَةَ، واسْمِي زيدُ ... وُكُلَّ يَوْمٍ في سِلاَحِي صَيْدُ (¬1) وأمَّا لفظه: فقولها: "إنَّ الله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ"، يقال: استحيا -بياء قبل الألف- في الماضي، يستحيي -بياءين- في المضارع، ويقال فيه: يستحي بياء واحدة. ومعناه: أن الله لا يمتنع من بيان الحق، وضربِ المثل بالبعوضة، وبيتِ العنكبوت؛ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]؛ فكذا أنا لا أمتنع من سؤالي عمَّا أنا محتاجةٌ إليه. وقيل معناه: إنَّ الله لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يبيحه؛ وإنَّما قالت ذلك بين يدي سؤالها عمَّا دعتها الحاجة إليه في الدِّين؛ ممَّا تستحيي النساء عن السؤال عنه عادةً، وذِكْرِه بحضرةِ الرِّجال؛ فالامتناعُ من ذلك ليس بحياء حقيقي؛ لأنَّ الحياء خيرٌ كله، ولا يأتي إلَّا بخير، وذلك ليس بخير، بل هو شر؛ فلا يكون ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 504)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 381)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 137)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 553)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 391)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 361)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 75)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 27)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 607)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 357).

حياءً حقيقيًّا؛ بل هو مجازي طبعي، يسمَّى خَوَرًا. وقد قالت عائشة - رضي الله عنها -: نِعْمَ النسَاءُ نساءُ الأنصارِ؛ لم يمنعهُنَّ الحياءُ أَنْ يتفقهنَ في الدِّين (¬1). وقد يقال: إنها تعتذر من المطلوب -عادة- بالحياء، في الإثباث؛ لا في النفي؛ كما ثبت: "إنَّ الله حَيِيٌّ كريمٌ" (¬2)، فأمَّا في النفي؛ فالمستحيلات تبقى، ولا يشترط فيه أن يكونَ ممكنًا. وأُجيبَ بأنَّه: لم يردْ على النفي مطلقًا، بل على أحيا من الحق؛ فمن حيث المفهوم يقتضي: أنَّه يستحيي من غير الحق؛ فيعود من جنبه إلى جانب الإثبات. والذي يحسنُ العذر: أن يأتيَ رافعًا للمعتذر عنه إذا كان متأخرًا، مستقبلًا للنفس، متأثرة بقبحه. أمَّا أن يكون دافعًا له، فلا؛ بأن يكونَ متقدمًا على المعتذَر منه، مدركًا للنفس، صافيًا من العتب، والذي في الحديث من الثاني؛ لكنَّه بالنسبة إلى العادة، لا بالنسبة إلى مطلوب الحق، والله أعلم. ثم في الكلام حذف؛ تقديره: إن الله لا يستحيي من ذكر الحق، وبيانه كما تقدم شرحه. والحق -هنا-، خلافُ الباطل، والمقصود: الاقتداء بفعل الله تعالى في ذلك بذكر الحق الذي دعت الحاجة إليه من السؤال عن احتلام المرأة. وقولها: "هلْ على المرأةِ من غُسْلٍ إذا هي احتلمَتْ؟ ". لفظة هي؛ تأكيد وتحقيق، لو أُسقطت من الكلام، لتمَّ أصل المعنى. والاحتلام -في الوضع-: افتعال من الحُلْم -بضم الحاء، وسكون اللام-، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (332)، كتاب: الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم. (¬2) رواه أبو داود (1488)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، والترمذي (3556)، كتاب: الدعوات، باب: (105)، وابن حبان في "صحيحه" (876)، عن سلمان - رضي الله عنه -.

وهو ما يراه النائم في نومه، يقال منه: حلَم بفتح اللام، واحتلَم، واحتَلَمْتُ به، واحتَلَمْتُه (¬1). وقد خص هذا الموضع اللغوي ببعض ما يراه النائم، وهو ما يصحبه إنزالُ الماء، فلو رأى غير ذلك؛ لصحَّ أن يقال له: احتلم وضعًا، ولم يصح عرفًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَم؛ إذَا رَأَتِ الماءَ". لما كان الاحتلام مستعملًا في رؤية المنام من غير إنزال، وتارة يستعمل مع الإنزال؛ حسن السؤال مستعملًا عن حكمه الشرعي؛ ليتبين من أصل وضعه الذي هو في أصل اللغة. وحسُن الجوابُ مقيدًا بالإنزال؛ وهو قوله: "إذا رأتِ الماءَ"، ووصف الإنزالِ بالرؤية يحتمل النزولَ من الصلبِ، أو الترائبِ إلى باطن الفرج من غير خروج إلى ظاهره. لكنه يعكر على البِكْر في عدم وجوب الغسل عليها بذلك. ولا يعكر على الثيِّبِ؛ فإنه يجب عليها بخروجه إلى باطن فرجها؛ وهو الموضع الذي يجب عليها غسلُه في الجنابة، والاستنجاء، الذي يظهر حالَ قعودها لقضاء الحاجة، وإن لم يبرز إلى ظاهره. فعلى هذا تكون الرؤية بمعنى: العِلْم؛ كأنَّه يقول: إذا علمتِ خروجَ الماء، فيجب عليكِ الغسل، والله أعلم. ثم اعلم أنَّه: يجب الغسل على المرأة بالإنزال؛ وكذلك الرجل، والدليل على ذلك؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما الماءُ منَ الماءِ" (¬2). فيُحتَمَل أنَّ أمَّ سُلَيم - رضي الله عنها - لم تسمع ذلك، فسألت عن ذلك؛ ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 145)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 64)، (مادة: حلم). (¬2) رواه مسلم (343)، كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

لمسيس حاجتها إليه، ويُحتمل أَنْ تكونَ سمعته، ولكنها سألت عن حال المرأة؛ لقيام مانع فيها يخرجها عن العموم؛ وهو ندرة بروز الماء منها. أمَّا أحكام الحديث: ففيه: السؤال عن العلم؛ إذا جهله، أو علمه، أو احتاج إلى زيادة إيضاح. وفيه: تقديمُ الاعتذار قبل المعتذَر منه، وإن كان واجب الفعل؛ لأجل العادة. وفيه: الاحتياط لعدم سوء الظن بالشخص بعدم الأدب العادي، وإن لم يكن سوء أدب شرعًا. وفيه: أن بيان المطلوب؛ إنما هو فيما وافق الشرع، لا العادة. وفيه: السؤال في الاستفتاء: بهل؛ تنبيهًا على عدم معرفة السائل؛ فلا يقول هكذا قلت أنا، ولا كنت أعلم ذلك من غيرك، أو قال فلان: بخلاف قولك. وفيه: أنَّ لفظة (على) مقتضاها: الوجوب. وفيه: جواب المفتي: بنعم، مع قيد في الحكم؛ إذا كان. وفيه: أنَّ المرأة يجب عليها الغسل بخروج المني سواء النوم، واليقظة؛ كما يجب على الرجل بخروجه؛ وهو مجمع عليه. وكذلك أجمعوا على أنه: يجب بإيلاج الحشفة في الفرج. وكذلك أجمعوا على إيجابه بالحيض، والنفاس. واختلفوا في إيجابه على من ولدت ولدًا، ولم تر ماءً أصلًا، أو ألقت مضغة أو علقة، والأصح عند أصحاب الشَّافعي: وجوب الغسل، ومن لا يوجبه أوجب الوضوء. ومذهب الشَّافعي - رحمه الله -: أنَّه يجب الغسل بخروج المني، سواء كان بشهوة، أو دفق، أم بنظر في النوم، أو في اليقظة؛ وسواء أحسَّ بخروجه، أم لا، وسواء خرج من العاقل، أو من المجنون.

الحديث السادس

ثم المراد بخروج المني: أن يخرج إلى الظاهر، أمَّا ما لم يخرج؛ فلا يجب الغسل؛ وذلك بأن يرى النائم، أنَّه يجامع وأنه قد أنزل، ثم يستيقظ، فلا يرى شيئًا، فلا غسل عليه بإجماع المسلمين. وكذلك لو اضطرب بدنه لمبادئ خروج المني، فلم يخرج؛ وكذا لو نزل المني إلى أصل الذكر، ثم لم يخرج؛ فلا غسل، وكذا لو صار المني في وسط الذكر، وهو في صلاة، فأمسك بيده على ذكره، فوقَ حائل، فلم يخرج المني حتى سلَّم من صلاته، صحت صلاتُه، فإنه ما زال متطهرًا حتى خرج. والمرأة كالرجل في هذا؛ إلَّا إذا كانت ثيبًا، فنزل المني إلى فرجها، فإنه يجب الغسل، كما تقدم ذكره، وإن كانت بكرًا؛ لم يلزمها، ما لم يخرج من فرجها، لأنَّ داخل فرجها كداخل إحليل الرجل، والله أعلم. وفيه: جواز استفتاء المرأة بنفسها. وفيه: قبول خبرها؛ وهو مجمع عليه. وفيه: استحباب حكاية الحال في الوقائع الشرعية مع الحكم، والله أعلم. وفيه: رد على من يزعم أنَّ ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمْ؛ إذا رأتِ الماءَ". * * * الحديث السادس عن عائشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَخْرُجُ إلَى الصَّلاَةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الماءِ في ثَوْبهِ (¬1). وفي لفظِ مسلمٍ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرْكًا؛ فَيُصَلِّي فِيهِ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (227)، كتاب: الوضوء، باب: غسل المني وفركه، وغسل ما يصيب من المرأة. (¬2) رواه مسلم (288)، كتاب: الطهارة، باب: حكم المني.

اعلم أن تسمية الجنابة باسم المني: من باب تسمية الشيء باسم سببه؛ فإنَّ خروج المني، ووجودَه: سبب لاجتناب الصلاة، وما في معناها، وبعده عنها. ثمَّ إنَّ غَسْلَ عائشة - رضي الله عنها - للمني، من ثوب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لاعتقاد نجاسته، ووجوب غسله؛ وإنما كان لمجرد التنظيف؛ لقولها في الرواية الثانية: "كنتُ أفرُكه من ثوبهِ - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلِّي فيه". فلو كان نجسًا، لم يتركْه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتفِ بفركه، أو حكه. وقد اختلف العلماء؛ في طهارة مني الآدمي، ونجاسته: فقال الشافعي، وأحمد في أصح روايتيه، وأصحابُ الحديث: بطهارته، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وعائشة، وبه قال داود -أيضًا-. واستدلوا بما تقدم من فركه، وحمل حديث غسله على الاستحباب، والتنزه، واختيار النظافة. وقال مالك، وأبو حنيفة، والليث، والحسن بن صالح: بنجاسته؛ حتى قال مالك: لا بدَّ من غسله، رطبًا ويابسًا. وقال أبو حنيفة: يكفي في تطهيره فركُه إذا كان يابسًا، ويجب غسله إذا كان رطبًا؛ عملًا بالحديث في فركه، وبالقياس في غسل الرطب. ولم يرَ الاكتفاءَ بالفرك دليلًا على الطهارة، وشبهه بعض أصحابه: بما جاء في الحديث من دلك النعل من الأذى؛ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَطِئَ أحدُكم الأذى بنعلِه، أو خُفِّه، فطهورُهما الترابُ" رواه الطحاوي، من حديث أبي هريرة (¬1)؛ فإنَّ الاكتفاء فيه بالدلك لا يدل على طهارة الأذى. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 51)، وأبو داود (386)، كتاب: الطهارة، باب: في الأذى يصيب النعل، وابن خزيمة في "صحيحه" (292)، وابن حبان في "صحيحه" (1404).

وأمَّا مالك: فعملَ بالقياس في نجاسته رطبًا، ويابسًا، وإزالته، ووجه القياس فيه من وجوه: أحدها: أنَّ الفضلات المستحيلة إلى الاستقذار في محل يجتمع نَجِسةٌ، والمني منها، فليكن نجسًا. وثانيها: أنَّ الأحداث الموجبة للطهارة نجسة، والمني من الأحداث الموجبة للطهارة. وثالثها: أنه يجري على مجرى البول، فيتنجس. وهذا غير مقبول؛ فإنَّ مجرى المني غير مجرى البول. ولهذا قال أصحاب الشَّافعي: يجب غسل المني إذا استجمر بالحجر؛ لأنه يجتمع هو والبول في رأس الذكر، وهو نجس معفو عنه بالنسبة إلى الصلاة، غير معفو عنه بالنسبة إلى ما يلاقيه من الرطوبات، فلو كان يجري في مجرى البول، لما كان لقولهم فائدة، ولقالوا: بوجوب غسله؛ لتنجسه. وأمَّا في إزالته بالماء؛ فكسائر النجاسات، إلَّا ما عفي عنه، والفرد يلحق بالأعم الأغلب. وأمَّا الليث فقال: نجسٌ تعاد الصلاة منه. وأمَّا الحسن بن صالح فقال: لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كان كثيرًا، وتعاد منه في الجسد وإن كان قليلًا. وأمَّا الشَّافعي - رحمه الله -: فاتبع الحديث في فركه؛ كما تقدم، ورآه دليلًا على طهارته، فلو كان نجسًا، لما اكتفى فيه إلَّا بالغسل؛ قياسًا على سائر النجاسات. فلو اكتفى بالفرك مع كونه نجسًا؛ لزم خلاف القياس، والأصل عدم ذلك. وهذا الحديث يخالف ظاهره لما ذهب إليه مالك، وقد اعتذر عنه بأشياء فيها بعد نقلًا وتأويلًا، والله أعلم.

وهذا الكلام كله في مني الآدمي. وللشافعي قول شاذ ضعيف: أنَّ مني المرأة نجس، دون مني الرجل. وقول أشذ منه: أنَّ مني المرأةِ والرجلِ نجسٌ. لكنَّ الصوابَ: أنهما طاهران؛ فعلى القول الصواب بطهارته، هل يحل أكله؟ وجهان: أظهرهما: لا؛ لاستقذاره، فهو داخل في جملة الخبائث المحرمة علينا. وأمَّا مني باقي الحيوانات: فإن كان كلبًا، أو خنزيرًا، أو متولدًا من أحدهما؛ فمنيها: نجس بلا خلاف. وإن كان غيرهما؛ ففيه ثلاثة أوجه: أصحها: أنَّها كلَّها طاهرة. والثاني: أنَّها كلها نجسة. والثالث: مني مأكول اللحم: طاهر، وغيره: نجس، والله أعلم. وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث: على طهارة رطوبة فرج المرأة. وفيها خلاف مشهور لأصحاب الشافعي، وغيرهم، والأظهر: طهارتها. ووجه الاستدلال بأن قالوا: الاحتلام مستحيل في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من تلاعب الشيطان بالنائم، فلا يكون المني الذي على ثوبه - صلى الله عليه وسلم - إلَّا من الجماع. ويلزم منه مرور المني على موضع أصاب رطوبة فرج المرأة، فلو كانت نجسة، لتنجس بها المني، ولما تركه في ثوبه، ولما اكتفى فيه بالفرك. وأجاب من قال: بنجاسة رطوبة فرجها بجوابين: أحدهما: منع استحالة الاحتلام منه - صلى الله عليه وسلم - الذي هو فيض من غير تلاعب الشيطان، بخلاف الاحتلام الذي هو تلاعبه؛ فإنه ممنوع عنه - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: جواز أَنْ يكونَ ذلك المني من مقدمات الجماع؛ فيسقط منه شيء

الحديث السابع

على الثوب، وأمَّا المتلطخ بالرطوبة؛ فلم يكن على الثوب، فسقط استدلالهم بالحديث على طهارته. لكن الظاهر منه الأول، والله أعلم. وفي الحديث دليل على: جواز الصلاة في الثوب الرطب، وإن أصابه شيء من الأوساخ الطاهرة؛ كالتراب، والطين، ونحوهما؛ لا ينجسه. وفيه: أنه ينبغي للمرأة أن تتفقَّد ثياب زوجها بالتنظيف، والغسل، ونحوهما، خصوصًا إذا كان من أمر يتعلق بها. وفيه: أنَّه ينبغي للمقتدي أن ينقل أحوال المقتدى به -وإن كان يستحيا من ذكرها في العادة- إلى الناس؛ ليقتدى بها، والله أعلم. * * * الحديث السابع عن أبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَع، ثُمَّ جَهَدَها؛ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ" (¬1)، وفي لفظ: "وَإنَ لَمْ يُنْزِلْ" (¬2). تقدم الكلام على أبي هريرة. واختلف العلماء في المراد بالشُّعَبِ: فقيل: هي يداها، ورجلاها. وقيل: رجلاها، وفخذاها. وقيل: فخذاها، وشُفْراها، وقيل: إِسْكتاها؛ وهما: حرفان بشق فرجها. قال الأزهري: ويفترق الإِسكتان، والشفران؛ في أنَّ الإِسكتين: ناحيتا الفرج، والشُّفران: طرفًا الناحيتين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (287)، كتاب: الغسل، باب: إذا التقى الختانان، ومسلم (348)، كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين. (¬2) رواه مسلم بالرواية المتقدم تخريجها عنه.

وقيل: الشُّعَبُ الأربع: نواحي الفرج الأربع؛ وهو اختيار القاضي عياض - رحمه الله -. والشعب: النواحي، واحدتها: شُعْبة، وأمَّا من قال: أَشْعُبها؛ فهو جمع شُعَبْ (¬1). قال شيخنا أبو الفتح القاضي: وكان التفسير للشعبِ بالنواحي تحويم على طلب الحقيقة الموجبة للغسل، قال: والأقرب عندي أَنْ يكونَ المرادُ: اليدين، أو الرجلين والفخذين، ويكون الجماع مكنيًا عنه بذلك، ويكتفى بما ذكر عن التصريح. وإنَّما رجَّحنا هذا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة، أو هو حقيقة من الجلوس بالكناية عن التصريح؛ لا سيما في أمثال هذا المكان التي يستحيا من التصريح فيها به. وأيضًا، فقد نقل عن بعضهم أنه قال: الجَهْدُ: من أسماء النكاح؛ ذكر عن الخطابي. وعلى هذا: فلا يحتاج أن يجعل قوله: "جلسَ بينَ شُعبِها الأربعِ" كناية عن الجماع بالجماع؛ فإنه صرّح [به] بعد ذلك (¬2). وقوله: "ثم جَهَدَها" هو -بفتح الجيم، والهاء-؛ ومعناه: بلغ مشقتها. وقال الخطابي: حفزها (¬3). قال أهل اللغة: يقال: جَهَدْتُه، وأَجْهَدْتُه: بلغت مشقته. وهذا -أيضًا- لا يراد حقيقته، وإنما المقصود منه: وجوب الغسل بالجماع، وإن لم يُنزل، وكل هذه كنايات يُكتفى بفهم المعنى منها عن التصريح. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 254)، و"المُغرب" للمطرزي (1/ 444)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 477)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 502). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 104 - 105). (¬3) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 40).

قال القاضي عياض - رحمه الله -: الأولى أن يكون جَهَدَ؛ بمعنى: بلغ جهده في عملِه فيها (¬1). والجُهْدُ: الطاقة؛ وهو إشارة إلى الحركة، وتمكن صورة العمل؛ وهو نحو قول من قال: حَفَزَها؛ أي: كَدَّها بحركته؛ وإلَّا فأي مشقة بلغ بها في ذلك؟ وقوله في أول الحديث: "بينَ شُعَبِها"؛ كناية عن المرأة، وإن لم يجر لها ذكر؛ اكتفي بفهم المعنى من السياق؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]. وأمَّا ما يتعلق بأحكام الحديث: ففيه: بيان عدم انحصار وجوب الغسل بالإنزال، بل يجب به، وبالتقاء الختانين؛ وهو تغييب الحشفة، أو قدرِها في الفرج، فعلى هذا يكون الحديث خرج مخرج الغالب؛ لا أن الجلوس بين شعبها، وجهدها شرط لوجوب الغسل. ولا شك أَنَّ وجوبَ الغسل كان في أول الإسلام منحصرًا في الإنزال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما الماءُ من الماءِ" (¬2)، ثم نُسخ ذلك بهذا الحديث، وغيرِه؛ كحديث: "إِذا التَقَى الخِتانانِ" (¬3)، وفي رواية: "إذا مَسَّ الخِتانُ الخِتانَ" (¬4)، وفي رواية أبي داود: "وأُلْزِقَ الخِتانُ بالخِتانِ، فقد وجبَ الغسلُ" (¬5). ولا شك أنَّ هذا الحكم مجمَعٌ عليه، ولم يقل أحد بخلافه؛ إلَّا ما روي عن ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 161)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأئير (1/ 320). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه ابن ماجه (608)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 239)، وابن حبان في "صحيحه" (1183)، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 227)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 30)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬5) رواه أبو داود (216)، كتاب: الطهارة، باب: في الإكسال، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3/ 363)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 163)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

عثمان، وأُبَيٍّ: أنهما لم يريا غسلًا إلَّا من الإنزال، وقد روي رجوعُهما عنه، مع أن المسنَد إليهما في أنه لا يجب إلَّا بالإنزال ضعيف. قال الإمام أبو بكر بن العربي: وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه بأن الغسل مستحب، وهو أحدُ أئمةِ الدين، وأجلُّ علماءِ المسلمين معرفةً، وعدلًا. وما بهذه المسألة خفاء؛ فإن الصحابة اختلفوا فيها، ثم رجعوا عنها، وأجمعوا على وجوب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم يكن إنزال (¬1). وقد نقل عن البخاري أنه قال: الغسلُ منه أحوط في الدين من باب حديثين تعارضا. فقدم الذي يقتضي الاحتياط في الدين، لا أنه قال بعدم الوجوب؛ وهو الأشبه بإمامة البخاري، وعلمه، والله أعلم. وخالفَ في عدم الإيجاب به: داودُ الظاهري، وبعضُ أصحابه، وخالفه بعضُ الظاهرية، ووافق الجماعة. ومستند الظاهري، ومن وافقه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الماءُ من الماءِ". ثم إنَّه قال في الحديث الآخر الذي رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه؛ من رواية أُبَيِّ بن كعبٍ (¬2) - رضي الله عنه -: إنَّما كان الماءُ من الماء رخصةً في أول الإسلام، ثم نُسخ بعد. قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬3)؛ فزال ما استندوا إليه، والله أعلم. واعلم أنَّ الأحكام كلها من وجوب الغسل، والمهر، وغيرهما: متعلقة ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي بشرح الترمذي" لابن العربي المالكي (1/ 170). (¬2) في "ح": "رواية أبي هريرة". (¬3) رواه أبو داود (214)، كتاب: الطهارة، باب: في الإكسال، والترمذي (110)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الماء من الماء، وابن ماجه (609)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وابن حبان في "صحيحه" (1173).

الحديث الثامن

بتغييب الحشفة، بالاتفاق، ولا يشترط تغييب جميع الذكر. فلو غَيَّبَ بعضَ الحشفة؛ لم يتعلق به شيء من الأحكام بالاتفاق أيضًا إلَّا وجهًا شاذًّا منكرًا مردودًا لبعض أصحاب الشَّافعي - رحمه الله -: أن حكمَ بعضِها حكمُ جميعِها، وهو غلط، والله أعلم. ثم إنه يجب الغسلُ على الرجلِ والمرأة؛ لإطلاقه - صلى الله عليه وسلم - إيجابه من غير تقييد بواحد منهما. وحكم الإيلاج في الدبرِ كذلك في وجوب الغسل، أيَّ دبر كان. قال أصحاب الشَّافعي: وسواء كان ذلك عن قصد، أو نسيان، وسواء كان ذلك، مختارًا، أو مكرهًا، وسواء كان ذلك مختونًا، أو أغلف؛ فيجب الغسل في كل هذه الصور على الفاعل، والمفعول به. إلَّا [إذا] كان الفاعل والمفعول به صبيًّا، أو ميتة؛ فإنه لا يقال: وجب عليه؛ [لأنه] ليس مكلفًا، لكن يقال: صار جنبًا. فإن كان مميزًا، وجب على الولي أن يأمره بالغسل؛ كما يأمره بالوضوء. فإن صلَّى من غير غسل، لم تصحَّ صلاتُه، وإن لم يغتسل حتى بلغ؛ وجب عليه الغسل. وإن اغتسل في الصبا، ثم بلغ؛ لم يلزمه إعادة الغسل، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب - رضيَ الله عنهم -: أنه كان هو وأبوه عند جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، وعندَه قومُه؛ فسألوه عن الغُسلِ؛ فقال: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: ما يَكْفِيني، فَقَالَ جابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وخَيْرًا مِنْكَ - يريدُ: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَمَّنا في ثَوْبٍ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (249)، كتاب: الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه.

وفي لفظٍ: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفْرِغُ على رَأسِه ثَلاثًا (¬1). الرجل الذي قال: ما يكفيني؛ هو: الحسنُ بنُ محمدِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أبوه هو ابنُ الحنفية. أمَّا أبو جعفرٍ محمدُ بنُ عليٍّ: فهو: قرشيٌّ، هاشميٌّ، مدنيٌّ، تابعيٌّ جليل، يعرف بالباقر. قال الواقدي: سُمِّي به؛ لأنه بَقَرَ العلمَ، وعرفَ أصلَه؛ أي: شقَّه، وفتحَه. وكان - رحمه الله - خيرَ محمدٍ على وجه الأرض في زمنه؛ متفق على إمامته، وجلالته، وتوثيقه. روى له الأئمة، منهم: البخاري، ومسلم (¬2). وأمَّا أبوه عليُّ بنُ الحسينِ: فكنيته: أبو الحسين، ويقال: أبو الحسن، ويقال: أبو محمد؛ تابعيٌّ جليل، يعرف بزين العابدين، وكان ثقةً، مأمونًا، كثيرَ الحديث، عاليًا، رفيعًا. قال يحيى بنُ سعيد: كان أفضلَ هاشميٍّ أدركته؛ يقول: يا أيها الناس! أَحِبُّونا حُبَّ الإسلام؛ فما بَرِحَ حُبُّكم حتى صار علينا عارًا! وقال شيبةُ بنُ نعامةَ: كان عليُّ بنُ الحسين يُبَخَّلُ؛ فلما مات، وجدوه يقوت مئةَ أهلِ بيتٍ بالمدينة في السرِّ. مات سنةَ أربعٍ وتسعين بالمدينة، وكان يقال لهذه السنة: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات فيها منهم. روى له: الأئمة، والبخاري، ومسلم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (252)، كتاب: الغسل، باب: من أفاض على رأسه ثلاثًا، ومسلم (329)، كتاب الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا، واللفظان للبخاري. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 320)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 180)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 136)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 401)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 311)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 6151). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 211)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم =

وأمَّا الحسين: فكنيته: أبو عبد الله، وهو سبطُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَيحانتهُ. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثمانيةَ أحاديثٍ؛ رويا له عن أبيه. وَوُلِدَ لخمسٍ خَلَوْنَ من شعبان، سنة أربعٍ، وقيل: ثلاث. وقُتِلَ يومَ عاشوراءَ يوم السبت، وقيل: يوم الجمعة بكربلاء من أرض العراق، سنة إحدى وستين؛ وهو ابنُ ثمانٍ وخمسين سنةً، وقيل غيره؛ قتَلَه: سِنَانُ بنُ أنس النَّخَعِي. قال أبو حاتم بنُ حِبَّان - رحمه الله -: وجثَّته بكربلاء، واختلف في موضع رأسه: فمنهم من زعم: أنَّ رأسهَ على رأس عمود في مسجد جامع دمشق على يمين القبلة؛ وقد رأيت ذلك العمود. ومنهم من زعم: أَنَّ رأسَه في البرج الثالث من السور على باب الفراديس بدمشق. ومنهم من زعم: أَنَّ رأسه في قبر معاوية؛ وذلك أَنَّ يزيدَ دفن رأسه في قبر أبيه، وقال: أحصنه بعد الممات، هذا آخر كلامه. وأمَّا ما يقوله أهل مصر: إنَّه بها مدفون؛ فباطل، لا أصل له، ولا خلاف في بطلانه عند العلماء، والله أعلم (¬1). وكان بينه وبين الحسن طُهْرٌ واحد. ¬

_ = (3/ 133)، و"تاريخ دمشق" (41/ 360)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 382)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 386)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 268). (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 381)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 39)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 392)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (14/ 111)، و"تهذيب الكمال" للمزي (6/ 396)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 280)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 24)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 11)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 76)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 299).

وأمُّهما: فاطمة الزهراء بنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهما؛ فَأَحِبَّهما" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "حُسَيْنٌ مِنِّي، وأَنا من حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَينًا؛ حسينٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْبَاط" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ابْنايَ هذان سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، إلَّا ابْنَيِ الخَالَةِ؛ عيسى، ويحيى" (¬3). وأما الرجل الذي قال: ما يكفيني: فكنيته: أبو محمدٍ الحسنُ بنُ محمدِ بنِ الحنفيَّةِ؛ وهو أخو عبد الله بنِ محمد بنِ الحنفيَّة، وكان الحسنُ هذا يقدَّمُ على أخيه في الفضل. وهو: تابعيٌّ، مدنيٌّ، ثقةٌ من أوثق الناس، كان الزهري يُعَدُّ من غِلمانه؛ يعني: في العلم. مات سنة مئة، أو تسع وتسعين. روى له الأئمة، منهم: البخاري، ومسلم (¬4). وأمَّا أبوه محمدُ بنُ عليِّ بن أبي طالب: فكنيته: أبو القاسم، ويقال: أبو عبد الله، يُعرف: بابن الحنفية؛ واسمها: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3769)، كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين، وابن حبان في "صحيحه" (6967)، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الترمذي (3775)، كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين - رضي الله عنهما -، وقال: حسن، وابن ماجه (144) في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 172)، وابن حبان في "صحيحه" (6971)، والحاكم في "المستدرك" (4820)، عن يعلى بن مرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8169)، وابن حبان في "صحيحه" (6959)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2603)، والحاكم في "المستدرك" (4778)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 71)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 328)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 305)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (13/ 373)، و"تهذيب الكمال" للمزي (6/ 316)، و"سير أعلام النبلاء" (4/ 130)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 276).

خَوْلَةُ بنتُ جعفرِ بنِ قيسِ بنِ مسلمِ بنِ ثعلبةَ بنِ يربوعِ بنِ ثعلبةَ بنِ الدؤلِ بنِ حنيفةَ؛ كانت من سبي اليمامة. وروت عن أبيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: قلت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنْ وُلدَ لي بَعْدك ولد، أُسميه باسمك، وأُكَنِّيه بكنيتك؟ قال: "نعم" (¬1). وقال إبراهيمُ بنُ عبدِ الله بنِ الجنيدِ الخَتْلِيُّ: لا نعلم أحدًا أسندَ عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ، ولا أصحَّ، مما أَسندَ محمدُ بن الحنفية. روى له: البخاري، ومسلم، وغيرهما من الأئمة. قال أبو نعيم، وعمرو بن علي: مات سنةَ أربعَ عشرةَ ومئة، وقال البخاري: قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين، وقال يحيى بن بكير: مات سنة إحدى وثمانين (¬2). وأما جابرُ بنُ عبد الله: فكنيته: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، أنصاريٌّ؛ خزرجيٌّ، سُلَمي، مدنيٌّ. وهو: ابنُ عبدِ الله بنِ عمرِو بن حَرامِ بنِ عمرِو بنِ سَوادِ بنِ سلمةَ، وهو من بني جُشمِ بنِ الخزرج. وهو من أكثر الصحابة حديثًا؛ رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألفُ حديث، وخمسُ مئة حديث، وأربعون حديثًا. أخرج له البخاري، ومسلم منها: مئتين وعشرة أحاديث؛ اتفقا على: ثمانية ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4967)، كتاب: الأدب، باب: في الرخصة في الجمع بينهما، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 95)، والبخاري في "الأدب المفرد" (842)، والحاكم في "المستدرك" (7737). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 91)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 174)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (54/ 318)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 147)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 110)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 315).

وخمسين، وانفرد البخاري: بستة وعشرين، ومسلم: بمئة وستة وعشرين. وروى -أيضًا- عن: أبي بكر، وعمر، وعلي، وجماعة من الصحابة. روى عنه: خلقٌ من التابعين. وغزا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه: إحدى وعشرين غزوة؛ شهد جابرٌ منها معه: تسعَ عشرةَ. استغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسةً وعشرين مرةً ليلةَ العقبة. مات سنةَ ثمانٍ، أو تسعٍ وسبعين؛ بعد أن عَمِي، وكان يخطب بالجمرة، وسنه يوم مات: أربع وتسعون سنة، وصلى عليه: أَبَانُ بنُ عثمانَ؛ وهو والي المدينة يومئذٍ. وروى له: أصحاب المساند والسنن (¬1). أمَّا لفظه: فالصَّاعُ: مكيال معروف -يُذَكَّر، ويؤنث-، ويقال فيه أيضًا: صوع، وصُواع؛ ثلاثُ لغات؛ وهو: أربعةُ أمدادٍ بِمُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو هنا: خمسةُ أرطال وثلثٌ بغدادية؛ كما في الفطرة، وفدية الحج، وغيرها، وقيل: ثمانية أرطال. والمدُّ: ربعُ صاع؛ وهو رطلٌ وثلثٌ، وهو معتبر على التقريب، لا على التحديد؛ هذا هو الصواب المشهور، وذكر بعض أصحابنا وجهًا: أنَّ المدَّ رِطْلان (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 648)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 207)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 51)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 219)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 208)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 492)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 149)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 443)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 189)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 434)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 37). (¬2) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 110)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 60)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 400).

وأمَّا حكمُ الحديث: فاعلم أنه: ليس الصاع؛ مذكورًا لبيان أقل ما يكفي من الماء في الغسل. وقد أجمع العلماء على أن الماء المجرى في الوضوء، والغسل، غير مقدر؛ بل يكفي فيه القليل، والكثير؛ ممَّا يسمى غسلًا، ووضوءًا، إذا وجد الإسباغ بجريانِ الماء على الأعضاء؛ فمتى حصل ذلك، تأدَّى الواجب؛ وإن لم يَبُلُّ الثرى. قال الشَّافعي - رحمه الله -: وقد يُرْفَق بالقليل؛ فيكفي، ويُخْرَق بالكثير؛ فلا يكفي (¬1). لكن قال العلماء: والمستحبُّ ألا يَنْقُصَ ماءُ الغسلِ عن صاعٍ، ولا ماءُ الوضوء عن مُدٍّ، وقد تقدم مقدارهما، والاختلاف فيه. وهذا الحديث أحدُ ما يدلُّ على الصاع، وقد دلت الأحاديث في "سنن أبي داود"، وغيره على مقادير مختلفة، وذلك - والله أعلم -؛ لاختلاف الأوقات، والحالات؛ وهو دليل على عدم التحديد فيه. وأجمع العلماء على النهي عن الإسراف في الماء؛ لو كان على شاطئ البحر، وهل النهي للتحريم، أو لكراهة التنزيه؟ وجهان لأصحاب الشافعي، أظهرهما: للتنزيه، والثاني: للتحريم، والله أعلم. وفي الحديث: بيان ما كان عليه الصحابة، وغيرُهم من العلماء من رجوعهم إلى أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وحالاته؛ فإنَّ جابرًا - رضي الله عنه - لما كان عنده آلُ عليِّ بن أبي طالب، وسألوه عن الغسل، وأجابهم بالصاع؛ فأجابه أحدهم بعدم الكفاية، فردَّ عليه جابر بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحاله، [وأنه - صلى الله عليه وسلم -أوفى منه شعرًا، فأفحمه، ورجع إليه. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 28).

وفيه: جواز الصلاة] (¬1) في ثوب واحد؛ وإن كان المصلي إمامًا. وفيه: المباحثة في العلم، والسؤال عنه؛ وإن كان السائل أشرف نسبًا. وفيه: جواز الرد بعنف؛ إذا كان حقًّا وصوابًا في إبلاغ الحق، وإيصاله إلى المردود عليه. وفيه: وجوب الوقوف عند الحق من غير ممانعة، وجدال، والله أعلم. ° ° ° ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

باب التيمم

باب التيمم الحديث الأول عن عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنهما -: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ في القَوْمِ، فقالَ: "يا فُلانُ! ما مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ في القَوْمِ؟ "، فقال: يا رَسُولَ الله! أصَابَتْني جَنَابَةٌ، ولا ماءَ، قال: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ؛ فَإنَّه يَكْفِيكَ" (¬1). أمَّا عمرانُ بنُ حُصين: فهو صحابيٌّ ابنُ صحابي، وكنيتُه: أبو نُجيد -بضم النون-؛ وهو عمرانْ بنِ الحصينِ بنِ عبيدِ بنِ خلفِ بنِ عبدِ فهم بنِ سالمِ بنِ عاصرةَ بنِ سلولَ بنِ حبسيةَ بنِ سلولِ بنِ كعبِ بنِ عَمْرِو بنِ ربيعةَ؛ وهو لُحَيُّ بنُ حارثةَ بنِ عمرِو بنِ عامرِ بنِ حارثةَ بنِ امرئ القيسِ بنِ ثعلبةَ بنِ مازنِ بنِ الأزدِ بنِ الغوثِ بنِ ثبتِ بنِ مالكِ بنِ زيدِ بنِ هلالِ الخزاعيُّ. وممن ذكر صحبةَ أبيهِ: أبو حاتمِ بنُ حِبَّان، وقال فيه: حُصينُ بن عبيد الخزاعيُّ: والدُ عمرانَ، له صحبة. أسلم أبو هريرة، وعمرانُ عامَ خيبر. وكان لعمرانَ ابنٌ اسمه نُجيد، كُنِّي به. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (341)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، ومسلم (682)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، وهذا لفظ البخاري.

رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئةُ حديثٍ، وثمانون حديثًا؛ اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة. روى عنه: جماعة من التابعين، وروى له: أصحاب السنن والمساند. ونزل البصرة، وكان قاضيًا بها؛ استقضاه عبد الله بنُ عامرٍ، فأقامَ أيامًا، ثم استعفاه فأعفاه. وكان الحسن البصري يحلِفُ بالله ما قَدِمَهَا -يعني: البصرة- رَاكبٌ، أنفعُ لهم؛ من عمران بن حصين. ومات بها سنة اثنتين وخمسين (¬1). واعلم أنَّ آية التيمم نزلت في شعبان، سنة خمسٍ من الهجرة، في غزوة المريسيع: قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق من خزاعة على مائهم، قريب من الفرع؛ فقتل منهم رجالهم، وسبا نساءهم، وكان فيمن سبى؛ جويريةُ بنتُ الحارثِ بنِ أبي ضِرارٍ، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل صَداقَها أربعين أسيرًا من قومها. وفي هذه الغزاة سقط عقد عائشة؛ فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس على التِماسِهِ، وليسوا على ماء؛ فنزلت آية التيمم. أمَّا التيمُّم لغةً، فهو: القصد. قال الإمام أبو منصور الأزهري: التيمم في كلام العرب: القصد، يقال: تَيَمَّمْتُ فلانًا، ويَمَّمْتُهُ، وتأَمَّمْتُهُ؛ وأَمَّمْتُهُ؛ أي: قصدتُه (¬2). ثم إن التيمُّمَ خَصيصة خص الله تعالى به هذه الأمة -زادها الله شرفًا-. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 9)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 408)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 287)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 534)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1208)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 269)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 319)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 508)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 705)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 111). (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 52).

وهو ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. وأمَّا الصَّعيد، فالمراد به: التراب، وهو مذهب الأكثرين. وقيل: هو جميع ما صَعِدَ على الأرض. واعلم أن: اعتزالَ الرجل -المذكور في الحديث- الناسَ، وتركَ الصلاة فيهم، لا يخلو؛ إمَّا أن يكون في المسجد؛ وهو الظاهر، أو خارجه: فإن كان خارجه، فيكون الرجل قد لزمَ الأدب والسنة في ترك جلوسه عند المصلين إذ لم يصلِّ معهم. وإن كان في المسجد، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه جالسًا في المسجد، والناس يصلون: "ما مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ، أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟! " (¬1)؛ وهذا الإنكار؛ لشدة قبح الصورة في ترك الصلاة جالسًا، والناس يصلون. أمَّا أن يترك الصلاةَ جنبًا، لابثًا في المسجد، عالمًا بتحريمه، مع تقرير عليه من غير إنكار، وتبيين الحكم له؛ فلا يجوز ذلك على مذهب جماهير العلماء؛ استدلالًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُحِلَّ المسجِدَ لجُنُبٍ، ولا حَائِضٍ" (¬2). وجوز أحمد: المكثَ فيه للجنب، وضعَّف هذا الحديثَ؛ لجهالة رواته، وبه قال المزني. لكنه مخالف لظاهر القرآن العزيز، في قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]؛ بمعنى: لا تقربوا الصلاة، ولا مواضعَها المعدَّةَ لها، إلا عابري سبيل مجتازين، غيرَ لابثين، للخروج من المساجد؛ إذا كنتم جنبًا، فقد أبيح العبور فيها من غير لُبْث. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 132)، ومن طريقه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 214)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 34)، والنسائي (857)، كتاب: الإمامة، باب: إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه، عن محجن الديلي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه أبو داود (232)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يدخل المسجد، وابن خزيمة في "صحيحه" (1327)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (1783)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 442)، عن عائشة - رضي الله عنها -.

وهو قول الحسن، ومالك، والشافعي، ومنع العبور فيها مطلقًا أبو حنيفة، وأصحابه، وقال بعض أصحابه: يتيمم للمرور فيها. وأمَّا الصلاة: فلم يبحْ أحدٌ الدخولَ فيها جنبًا للقادر على الماء، أو التراب، وعند عدمهما يجوز الدخول فيها؛ للضرورة. فعلى قول الجمهور يكون معنى الحديث: أنَّ الرجل اعتزلَ المصلَّى، والصلاة، في غيرِ سفر: فلو كان في حضر؛ بأن كان في قرية انقطع ماؤها، فإنه يتيمم، ويصلي، ولا إعادة عليه عند مالك، والأوزاعي، ويعيد عند الشَّافعي؛ إذا قدر على الماء في الوقت، ويقضي خارجه؛ لندرة إعواز الماء في الحضر، وعند أبي حنيفة: يؤخر الصلاة حتى يجد الماء. وهذا الحديث حجة عليه، وعلى من أوجب الإعادة؛ لإطلاقه كفاية التيمم من غير إعادة، فإنها لا تجب إلَّا بأمر محدد، ولا أمر؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز له تأخير البيان عن وقت الحاجة. كيف! وهو متأخر عن الأمر بالتيمم؛ فإنه في سنة خمس، وهذا بعد إسلام عمران بن الحصين - رضي الله عنهما -، وهو بعد عام خيبر، سنة سبع، والله أعلم. وقوله: "أَصابتني جَنابةٌ، ولا ماءَ"؛ يحتمل أنه لم يعلم مشروعية التيمم، ويحتمل أنه علمه، لكن اعتقد أَنَّ الجنبَ لا يتيمم، ورجح هذا الاحتمال؛ لسبق مشروعية التيمم على إسلام عمران راوي الحديث. وقوله: "ولا ماءَ"؛ نفيٌ لوجود الماء بالكلية؛ بحيث لا يوجد بسبب، ولا سعي؛ ليكون أبلغ في النفي، وإقامة العذر. وقد أنكر بعض المتكلمين على النحاة، تقديرهم في قوله: لا إله إلا الله؛ لنا، أو في الوجود، وقال: نفي الحقيقة مطلقةً أعمُّ من نفيها مقيدةً؛ لأنَّ إبقاءها مقيدة؛ دليلٌ على سلب الماهية مقيدة.

الحديث الثاني

وانتفاؤها غيرَ مقيدة دليلٌ على نفي الحقيقة، فتنتفي مع كلِّ قيد، وإذا انتفت مع كل القيد؛ لا يلزم نفيُها مع قيد آخر، والله أعلم. وفي الحديث: دليل على: أن العالم إذا رأى أمرًا يخالف الشرع، أن يسأل عنه المخالفَ قصدًا؛ لتعليمه ما جهله. وفيه دليل على: وجوب تبيين الحكم والصواب على الفور من غير تأخير. وفيه دليل على: أن التيمم قائمٌ مقامَ الغسل عند عدم الماء، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عَمَّارِ بْنِ ياسِرٍ - رضي الله عنهما - قال: بَعَثَني النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فلمِ أجِدِ الماءَ؛ فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كَما تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً واحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى اليَمِين، وظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ (¬1). أما عمَّارُ بنُ ياسرٍ: فهو صحابيٌّ ابنُ صحابيِّ، وأمُّه سُمَيَّةُ أيضًا صحابيَّة، وكنيته: أبو اليقظانِ بنُ ياسرِ بنِ مالكِ بنِ الحصينِ بنِ قيسِ بنِ ثعلبةَ بنِ عَنْسِ بالنون [بنِ عوفِ بنِ يلمِ] (¬2) بنِ زيدِ بن مالك بنِ أددِ بنِ زيدِ بنِ يشجبَ ابنِ عوف بنِ زيد بنِ كهلانَ بنِ سبأ بنِ يَشْجُبَ بنِ يعربَ بنِ قحطانَ. وأمُّه سميةُ بنتُ خياط، كانت أمةً لأبي حذيفةَ بنِ المغيرةِ بنِ عبد الله بن عمرِو بنِ مخزوم، وكان ياسرٌ قدم [منَ اليمنِ] (¬3) إلى مكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة؛ فزوجه إياها، فولدت عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (340)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، ومسلم (368)، كتاب: الحيض، باب: التيمم، وهذا لفظ مسلم. (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ح". (¬3) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

أسلم ياسرٌ وسميةُ، وكان إسلامُهما ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم؛ هو وصُهيبُ بنُ سنانَ في وقتٍ واحد بعدَ بضعةٍ وثلاثين رجلًا. قال مجاهد: أولُ مَنْ أظهر إسلامه: أبو بكر، وبلال، وخَبَّاب، وصُهيب، وعمارٌ، وأمُّه سميةُ. وكان ممن يعذَّب في الله؛ هو، وأبوه، وأمه، فمرَّ بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يعذبون، فقال: "صَبْرًا آلَ ياسِرٍ؛ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ" (¬1). وقتل أبو جهلٍ سميةَ؛ وكانت أولَ شهيدةٍ في الإسلام، ولمَّا أعطى عمار المشركين بلسانه ما أرادوا، واطمأنَّ بالإيمان قلبه؛ أنزل الله فيه: {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، أجمع على ذلك أهل التفسير. وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة، وصلَّى القبلتين، وهو من المهاجرين الأولين، ثم شهد بدرًا، والمشاهدَ كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبلى ببدر بلاءً حسنًا. وكان عمارٌ أولَ من بنى مسجدًا في الإسلام؛ وهو مسجدُ قُباء، ذكره ابن الأثير. وقال ابن عباس، في قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]، قال: عمار بن ياسر، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، قال: أبو جهل بن هشام (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عَمَّارًا مُلِئَ إِيمانًا إِلَى مُشَاشِهِ"؛ ويُرْوَى: "إِلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْه" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (5646)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1631)، عن ابن إسحاق: أن رجالًا من آل عمار أخبروه. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (769)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 343)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 368)، عن عثمان - رضي الله عنه -. (¬2) رواه أبو الشيخ الأصبهاني، وابن مردويه في "تفسيريهما"، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 352). (¬3) رواه النسائي (5007)، كتاب: الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان، من حديث رجل من =

وقال خالدُ بنُ الوليد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَبْغَضَ عَمَّارًا، أَبْغَضَهُ الله"؛ قال خالد: فما زلتُ أحبُّه من يومِئِذٍ (¬1). وروى أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "اِشْتَاقَتِ الجَنَّةُ إِلَى: عَليٍّ، وعَمَّارٍ، وسَلْمانَ، وبِلالٍ" (¬2). واسْتَأْذَنَ عمَّارٌ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فعرفَ صوتَه، فقال: "مَرْحَبًا بِالطّيِّبِ المُطَيَّبِ؛ ائْذَنُوا لَهُ" (¬3). وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ، إلَّا أُعْطِيَ سَبْعَةَ نُجَباءَ، ووُزَراءَ، ورُفَقاءَ؛ وَإِنِّي أُعْطِيتُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: حمزةَ، وجعفرًا، وأبا بكر، وعُمَرَ، وعليًّا، والحسنَ، والحسينَ، وعبدَ الله بنَ مسعود، وسَلْمَانَ، وعَمَّارًا، وأبا ذرٍّ، وحذيفةَ، والمقدادَ، وبلالًا" (¬4). وتواترت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "تَقْتُلُ عَمَّارًا الفِئَةُ الباغِيَةُ" (¬5)؛ وهذا ¬

_ = أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه ابن ماجه (147) في المقدمة، وابن حبان في "صحيحه" (7076)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 139)، عن علي - رضي الله عنه -. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 89)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8269)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (32252)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4796)، والحاكم في "المستدرك" (5674)، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4666)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 190)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 451)، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬3) رواه الترمذي (3798)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (146)، في المقدمة، باب: فضل عمار بن ياسر، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 99)، وابن حبان في "صحيحه" (7075)، والحاكم في "المستدرك" (5662)، عن علي - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الترمذي (3785)، كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين - رضي الله عنهما -، وقال: حسن غريب، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 142)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (244)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6047)، عن علي - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (436)، كتاب: المساجد، باب: بنيان المسجد، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (2916)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت؛ من البلاء، عن أم سلمة - رضي الله عنها -.

من إخباره بالغيب، وأعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -. وعن عَمْرِو بنِ سلمةَ قال: لَكَأَنِّي أنظرُ إلى عمَّارٍ يومَ صِفِّينَ، واستسقى، فأُتي بشربةٍ من لبن، فشرب، فقال: اليومَ أَلْقى الأحبة، إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَهِدَ إليَّ أَنَّ آخِرَ شربةٍ أشربها من الدنيا، شربةُ لبنٍ"، ثم قاتل حتى قتل - رضي الله عنه - (¬1). رُويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اثنان وستون حديثًا؛ اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث واحد. وروى عنه: عليُّ بنُ أبي طالب، وعبدُ الله بنُ عباس، وأبو موسى الأشعريُّ، وأبو أمامةَ الباهليُّ، وجابرُ بنُ عبدِ الله، وعبدُ الله بنُ جعفرِ بنِ أبي طالب، وأبو الطفيل عامرُ بنُ واثلةَ، وأبو لاسٍ الخزاعيُّ -وهؤلاء صحابة-، وغيرُهم من التابعين. وروى له: أصحاب السنن والمساند. وقُتل بصفينَ سنة سبع وثلاثين، ودفنه عليٌّ في ثيابه؛ ولم يغسلْه، وهو ابنُ ثلاثٍ وتسعين سنة، وقيل: إحدى وتسعين، والله أعلم (¬2). وأمَّا ما يتعلق بالحديث من الألفاظ، والمعاني، والأحكام: فقوله: "فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعيد؛ كما تَمَرَّغُ الدَّابةُ": وهو استعمال لقياس تقدم العلم بمشروعية التيمم عليه. ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (1626)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 141)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 468)، عن ميسرة وأبي البختري. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" (3/ 246)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 25)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 301)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 139)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1135)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 150)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (43/ 359)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 122)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 352)، و"تهذيب الكمال" للمزي (21/ 217)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 406)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 575)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 357).

وكأن عمارًا لما رأى الوضوء خاصًّا ببعض الأعضاء، وبدله؛ وهو التيمم خاصًّا -أيضًا-؛ وَجَبَ أَنْ يكونَ بدلُ الغسلِ الذي يعمُّ جميعَ البدن عامًّا لجميعه. وقد استدل أبو محمدِ بنُ حزمٍ الظَّاهريُّ بهذا الحديث على إبطال القياس؛ لأن عمارًا قَدَّرَ: أن المسكوتَ عنه؛ من التيمم للجنابة، حكمُه حكمُ الغسل من الجنابة؛ إذ هو بدل منه، فأبطل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأعلمه أَن لكلِّ شيءٍ حكمَ المنصوص عليه فقط. قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: والجواب عن استدلاله بهذا الحديث على بطلان هذا القياس الخاص: أنه لا يلزمُ من بطلانِ الخاصِّ، بطلانُ العامِّ، والقائسون لا يعتقدون صحةَ كلِّ قياسٍ. ثم في هذا القياس شيء آخر؛ وهو أن الأصل -الذي هو الوضوء- قد نفي فيه مساواة البدل؛ فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء؛ فصار مساواة البدل للأصل ملغًى في محلِّ النص؛ وذلك لا يقتضي المساواةَ في الفرع. بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلًا على صحة أصل القياس، وأَنَّ قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما كانَ يكفيكَ كَذا وكَذا"؛ يدل أنه: لو كان فعله، لكفاه. وذلك دليلٌ على صحة قولنا: لو كان فَعَلَهُ؛ لكان مصيبًا، ولو كان فَعَلَهُ؛ لكان قائسًا التيممَ للجنابة، على التيمم للوضوء؛ على تقدير أَنْ يكونَ اللمسُ -المذكورُ في الآية- ليسَ هو الجماعَ. لأنه لو كان عند عمار هو الجماع، لكان حكمُ التيممِ مبينًا في الآية؛ فلم يكن يحتاج إلى أَنْ يتمرغَ؛ فإن فِعْلَه ذلك لا يتضمن اعتقاد كونِه ليس عاملًا بالنص، بل بالقياس. وحكمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأَنَّه كان يكفيه التيمم على الصورة المذكورة، مع ما بيَّن من

كونه لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده لا بالنص (¬1). قوله: "ثم ضربَ بيديهِ الأرضَ ضربةً واحدةً": استدلَّ به مَنْ قال: الواجبُ في التيمم ضربةٌ واحدةٌ للوجه والكفين؛ وهو مذهب عطاءٍ، ومكحولٍ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ، وإِسحاق، وابن المنذر، وعامة أصحاب الحديث، وهو قول قديم للشافعي، ورواية عن مالك. وحكى أصحاب الشَّافعي عن الزهري: أنه يجب مسح اليدين إلى الإبطين. وقال الخطابي: لم يختلف أحد في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين. ومذهبُ مالك ترجع حقيقته إلى الاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين، فإنه إذا فعل ذلك، يعيد في الوقت؛ والإعادة تتضمن إجزاءه ظاهرًا. ومذهب الشافعي والأكثرين: أَنَّه لا بُدَّ من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين، وقد ورد في حديث لا يقاوم هذا الحديثَ في الصحة، ولا يعارض بمثله. وبمثل قول الشَّافعي، قال علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، والحسن البصري، والشَّعْبِي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسفيان الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحاب الرأي، وآخرون. وحكى أصحاب الشافعي -أيضًا-، عن ابن سيرين: أنه قال: لا يجزئه أقلُّ من ثلاث ضربات؛ ثانية لكفيه، وثالثة لذراعيه. لكنَّ الأولَ قويٌّ جدًّا؛ وقَوَّاهُ بعضُ المشايخ المحققين الذين أدركناهم، وأُفْتِيَ به، والله أعلم. قوله: "ثم مسحَ الشِّمالَ على اليمينِ، وظاهرَ كفيه، ووَجْهَهُ": قدَّمَ في لفظ الحديث مسحَ اليدين على مسح الوجه، لكن بحرف الواو؛ وهو ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 111 - 112).

لا يقتضي الترتيب، وفي غير هذا الحديث: ثم مسح وجهه، بلفظ (ثم)، وهي تقتضي الترتيب. فاستدل به على أن: ترتيب اليدين على الوجه ليس بواجب؛ لأنه إذا ثبت ذلك في التيمم، ثبت في الوضوء، ولا قائل بالفرق. قوله: "وظاهرَ كَفَّيْهِ": يقتضي الاكتفاء بمسح الكف في التيمم؛ وهو مذهب أحمد. وحكى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة: أنه إذا مسح أكثرَ وجهه، وأكثرَ يديه أجزأَه، ومذهبُ الشافعي وأبي حنيفة -في المشهور عنه-: أَنَّ التيمُّمَ إلى المرفقين، واستدل على ذلك: بتقييده اليد، بالغاية إلى المرفقين في الوضوء؛ لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]. وأطلقت في التيمم؛ بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، فلو كانت الغاية في التيمم مغايرةً للوضوء، لبينها؛ فدلَّ على أن الغاية في التيمم كالغاية في الوضوء. وبحديث أبي الجهم عبدِ الله بن الحارث بن الصَّمة الأنصاري النجَّاري: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَيَّمَّمَ عَلَى الجِدَارِ؛ فَمَسَحَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ" (¬1). ولا شك أَنَّ اليدَ تطلق لفظًا: على رؤوس الأصابع إلى الإبط، وتطلق شرعًا، ولفظًا: على الكفِّ، وتطلق كذلك: على الكف والذراع. وهذه الإطلاقات الثلاثة مذاهبُ للعلماء، تقدَّم نقلُها، لكن أقواها: أن المراد باليدين: الكفَّان؛ لظاهر حديث عمار؛ ولآية السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، والمراد: كفّاهما إجماعًا. وقد ورد في بعض روايات حديث أبي الجهم: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ وَجْهَهُ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (330)، كتاب: التيمم، باب: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، ومسلم (369)، كتاب: الحيض، باب: التيمم.

وذِرَاعَيْهِ"، والذي في "الصحيح": "ويَدَيْهِ". وفي هذا الحديث فوائد: منها: جواز الاجتهاد في زمن - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أصحها: الجواز؛ فإن عمارًا اجتهد في صفة التيمم - رضي الله عنه -، والقائلون بذلك يجوزونه بحضرته -أيضًا-. والثاني: لا يجوز بحال. والثالث: يجوز في غير حضرته، ولا يجوز فيها، والله أعلم. ومنه: مراجعة العلماء في العلم والاجتهاد؛ فإن عمارًا - رضي الله عنه - راجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما اجتهد فيه. ومنها: ذكرُ العلماء لمن راجعهم وجهَ الصواب، وتبيينه. ومنها: البيانُ بالفعل، وأَنَّه أبلغُ في التفهيم من القول. ومنها: أَنَّ التيممَ ضربةٌ واحدةٌ؛ وأنه في الوجه، والكفين، وتقدم بيانه. ومنها: جوازُ إطلاقِ القولِ على الفعل؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يكفيك أن تقول بيديك". ومنها: أَنَّ الجُنُبَ، إذا لم يجدِ الماءَ، تيمم، وفي حكمه الحائض والنفساء إذا طهرتا وعدمتا الماء. وذهب عمر وابن مسعود: إلى أَنَّ الجنب لا يصلي بالتيمم، بل يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء، فيغتسل، وحَمَلَ قولَهُ تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]؛ على اللمس باليد، دون الجماع. وحديث عمار هذا حجة؛ وكان عمر نسي قصة عمار، وُرويَ أَنَّ ابنَ مسعودِ رجع عن قوله، وجوزه للجنب. * * *

الحديث الثالث

الحديث الثالث عن جابرِ بنِ عبدِ الله - رضي الله عنه -: أَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُعْطِيْتُ خَمْسًا، لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبياءِ قَبْلِي؛ نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيَرةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ ليَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا؛ فَأَيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي، أَدْرَكَتْه الصَّلاةُ؛ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ ليَ الغَنَائِمُ، ولم تَحِلَّ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمهِ، وبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" (¬1). أما جابر بن عبد الله؛ فتقدم ذكره قريبًا، قبل باب التيمم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُعطيتُ خمسًا"، فهو تعديد لفضائله التي خُصَّ بها، دون سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-. ثم ظاهر الحديث: أن كل واحدة من الخمس لم تكن لأحد من الأنبياء قبله، وقد يعترض على ذلك: بأن نوحًا - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثًا إلى كل أهل الأرض بعد خروجه من الفلك. وأجيب عنه: بأنَّ ذلكَ من لزوم الوجود؛ لأنه لم يبقَ إلا من كان معه من المؤمنين؛ فكان مرسَلًا إليهم، لا لعموم أصل بعثته؛ لانحصار الخلق في الموجودين بسبب ذلك الحادث. بخلاف نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ عمومَ رسالتِه في أصلِ البعثة، وهو موجب قبولها عمومًا في الأصول والفروع. ثم تمحيض العبادة لله تعالى هو التوحيد؛ فيجوز أَنْ تكونَ الدعوةُ إليه عامةً، لكن على ألسنة أنبياء متعددة؛ ليَثْبُتَ التكليفُ به لسائرِ الخلق، وإن لم تُعُمَّ الدعوة به، بالنسبة إلى نبيٍّ واحدٍ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرْتُ بالرُّعْبِ، مَسيرَةَ شَهْرٍ": ¬

_ (¬1) رواه البخاري (328)، كتاب: التيمم، في أوله، ومسلم (521)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.

الرُّعْبُ: الوَجَلُ، والخَوْفُ؛ لتوقع نزول محذور. ثم هذه الخصيصة تنفي وجود الرعب لغيره - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من مسيرةِ شهرٍ، ولا ينفي أقل من ذلك، وأمَّا المساواة، فهي -أيضًا- منفية؛ لحصول الاشتراك معه - صلى الله عليه وسلم - في خصوصيته وفضائله، ويجوز أن يحصل ذلك لغيره؛ من أتباعه، على سبيل التبعية له - صلى الله عليه وسلم -، لا على سبيل الأصالة؛ ككرامات الأولياء، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِدًا": المَسْجِدُ في الأصل: مَوْضِعُ السُّجُودِ. وهو بكسر الجيم، وفتحها، وقيل: بالفتح: اسم لمكان السجود. وبالكسر: اسم للموضع المتَّخَذ مسجدًا. وحكى غير واحد من أهل اللغة: أنه يقال للمسجد: مَسْيِد -بفتح الميم، وكسر الياء المثناة تحت، بدل الجيم-. ثم يطلق في العرف: على كل مكان مبني للصلاة؛ التي فيها السجود. وكانت الأمم الماضية لا يجوز لها الصلاة إلا في الأماكن المعدَّة لها؛ من البِيَع، والكنائِس، وقيل: كانوا لا يصلون إلا في أرض تيقنوا طهارتها، وخُصت هذه بالصلاة في جميع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته. فأكرم الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأمته؛ بجعل الأرض كلِّها مسجدًا؛ توسعةً عليها، واستثنيت أماكن تمنع الصلاة فيها؛ لوصفٍ عرضَ لها؛ لنجاسة، أو إيهام تعظيم، أو لشغل قلب المصلي فيها؛ كالسوق، ومعاطن، تتعلق به شيء، من أحكام المساجد الشرعية. وقد يكون تسميتها مسجدًا مجازًا من المكان المبني للصلاة؛ لاشتراكهما في الصلاة فيها؛ فيكون من مجاز التشبيه بجملة الصلاة، لا بعضها؛ وهو السجود فقط. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وطَهورًا": الطَّهور: هو المطهِّر لغيره؛ لخصوصية التطهير بالتراب بعد الماء.

ولو كان الطهور هو الطاهر، لم تثبتِ الخصوصيةُ؛ فإنَّ طهارةَ الأرض عامةٌ في حق كل الأمم. وقد استدل به مَنْ جَوَّزَ التيممَ بجميع أجزاء الأرض؛ للعموم في قوله: "وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِدًا وطَهورًا". وأجاب من خصّ التيممَ بالتراب؛ بتخصيصه به في الحديث الآخر؛ وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجُعِلَتْ تربتُها لنا طهورًا" (¬1)، والخاصُّ يقضي على العام. واعترض على ذلك بوجوه: منها: أَنَّ تربةَ كلِّ مكانِ: ما فيه من تراب وغيره. ومنها: أَنَّه مفهومُ اللقب، وهو يعلق الحكم بالتربة؛ وهو ضعيف عند الأصوليين، لم يقلْ به إلا الدَّقاق. وأُجِيبَ عن هذا: بأنَّ في الحديث قرينةً زائدة على مجرد تعليق الحكم بالتربة؛ وهو الافتراق في اللفظ: بين جَعْلِ الأرضِ كلِّها مسجدًا، وجَعْلِ تربتها طهورًا؛ بمقتضى الحديثِ الآخر، والافتراقُ في السياق بالعطف يدل على الافتراق في الحكم. ومنها: أنه لو سُلِّمَ أَنَّ الحديثَ الذي خصَّ التربةَ بالطهوريَّة بمفهومه، والحديثَ الذي عمَّ الأرض بها جميع أجزائها بمنطوقه؛ وإذا تعارضت دلالةُ المفهوم التي تنفي الطهورية، عن غيرها من أجزاء الأرض، ودلالةُ المنطوق التي تقتضي طهوريَّة جميع أجزائها؛ لكان المنطوقُ مقدَّمًا على المفهوم هاهنا، والله أعلم. وقال بعض المالكية: لفظُ طَهور يستعمل لا عن حدث، ولا خبث؛ كما سُمِّيَ الصعيد طهورًا، وليس عن حدث، ولا خبث؛ فإن التيمم لا يرفع الحدث. وجعل ذلك جوابًا عن استدلال الشَّافعية على نجاسة فم الكلب، بقوله: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (522)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.

"طَهُورُ إِناءِ أَحَدِكُمْ، إِذا وَلَغَ فيهِ الكلبُ؛ أن يُغْسَلَ سَبْعًا" (¬1)؛ فقالوا: طهورٌ؛ يستعمل إما عن حدث، أو خبث، ولا حدثَ على الإناء؛ فتعين أَنْ يكونَ عن خبث. فمنع هذا -المجيب المالكي- الحصر، وقال: إنَّ لفظَة طَهور، تستعمل في إباحة الاستعمال؛ كما في التراب؛ إذ لا يرفع الحدث كما قلناه؛ فيكون قوله: "طَهورُ إناء أحدِكم" مستعملًا في إباحة استعماله؛ كما في التيمم. قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وفي هذا عندي نظر؛ فإن التيمم، وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث، لكن الموجب عندي؛ لفعله الحدث، وفرق بين قولنا: إنَّه من حدث، وبين قولنا: إنَّه يرفع الحدث (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَيُّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَّاةُ، فَلْيُصلَّ": أيُّما: هذه صيغةُ عموم يدخل تحتها مَنْ لم يجد ماء، ووجدَ ترابًا، ومن لم يجد ماء، ولا ترابًا، ووجدَ غيرهما؛ من أجزاء الأرض. يستدل به على عموم التيمم بأجزائها، ومن خصَّ التيممَ بالتراب، يحتاج إلى دليل؛ يخص هذا العموم، أو يحمل الحديثَ على من لم يجد ماء، ولا ترابًا؛ فإنه يصلي على حسب حاله. ويحتمل أَنْ يكونَ العمومُ بالنسبة إلى جميع حالات الصلاة والمصلي؛ من عدم آلة الطهارة، وغير ذلك، ومما يتعلق بالصلاة، ووقتها، ومكانها. فإنه كانت الأممُ الماضية لا تصلي إلا في المساجد بوضوء؛ على المشهور من قول العلماء: في أنَّ الوضوء لم يكنْ خاصًّا بهذه الأمة، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هَذَا وُضُوئِي، ووُضُوءُ الأَنْبِياءِ قَبْلي" (¬3)، في التثليث، ولا يخرجها عن وقتها؛ مع ضيق الوقت، وتعيينه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 117). (¬3) تقدم تخريجه.

وخُصَّتْ هذه الأمة بالتيمم بدلًا عن الوضوء، والغسل؛ فكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ على أي حال كان، وفي أي مكان، فليصلها، [وخُصَّتْ أنها بسعة الوقت، إلا في المغرب؛ على قول] (¬1). لكنَّ تعقيبَ الحكمِ بالفاء، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأيما رجلٍ من أمتي"، عقب قوله: "جُعلت لي الأرض مسجدًا، وطهورًا" يدل على أن العموم بالنسبة إلى مكان الصلاة، وطهارتها، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأُحِلَّتْ ليَ الغَنائِمُ": لا شكَّ أنَّ الغنائمَ كانت محرمةً على الأمم الماضية، فكانوا يجمعونها، فتأتي نار من السماء، فتأكلها، فأحلها الله تعالى لهذه الأمة؛ إكرامًا لها لضعفها، بسبب نبيها - صلى الله عليه وسلم -. ثم إِنَّ المرادَ بإحلالها له - صلى الله عليه وسلم -: تصرُّفُه فيها، بقسمتها لنفقته ولمن يشاء؛ كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]. ويُحْتَملُ أَنَّ المراد به: بعضُ الغنائم؛ كما في بعض الأحاديث: "وأُحِلَّ لنا الخُمسُ" رواه أبو حاتم بنُ حِبَّان في "صحيحه" (¬2). والغنائم: ما يؤخذ من الكفار؛ بإيجافِ الخيلِ والرِّكاب بقتال، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأعْطِيْتُ الشَّفَاعةَ": الألف واللام تكون للعهد؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأُعطيتُ الشفاعةَ"، وقوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]. وتكون للعموم؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهُمْ" (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح". (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (6399)، من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (2751)، كتاب: الجهاد، باب: في السرية ترد على أهل العسكر، وابن ماجه (2685)، كتاب: الديات، باب: المسلمون تتكافأ دماؤهم، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 215)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 28)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.

وقد تكونُ لتعريفِ الحقيقة؛ كقولهم: الرجلُ خيرٌ من المرأة، والفرسُ خيرٌ من الحمار. ولا شكَّ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - له شفاعة عامة؛ وهي: التي تكون في المحشر، يفزع إليه الخلائقُ بسببها - صلى الله عليه وسلم -؛ في إراحتهم من طول القيام بتعجيل حسابهم، وهذه خاصة به - صلى الله عليه وسلم -، لا خلاف فيها، ولا تنكرها المعتزلة؛ فعلى هذا تكون الألف واللام في الشفاعة للعهد. قال القاضي عياض: وقيل: المراد بالشفاعة: شفاعةٌ لا تُرَدُّ، قال: وقد تكون شفاعته المذكورة في الحديث لخروج مَنْ في قلبه مثقالُ ذرة من إيمان من النار؛ لأن الشفاعة لغيره إنما جاءت قبل هذا، وهذه مختصة به؛ كشفاعة المحشر (¬1). واعلم أن شفاعاته الأخروية خمسٌ: إحداها: هي العظمى التي يحمَدُه عليها الأوَّلون والآخرون؛ وهي خاصة به؛ كما ذكرنا. الثانية: الشفاعةُ في إدخالِ قومٍ الجنةَ بغير حساب ولا عقاب؛ وهذه أيضًا ثابتة له - صلى الله عليه وسلم -، قال شيخنا أبو الفتح القاضي- رحمه الله تعالى-: ولا أعلم الاختصاص فيها، أو عدمه (¬2). الثالثة: الشفاعة لقوم قد استوجبوا النار؛ فيشفع في عدم دخولهم النار؛ وهذه غير مختصة. الرابعة: فيمن يدخل النار من المذنبين؛ فيشفع في خروجهم منها، وقد صح فيها: عدم الاختصاص؛ من شفاعة الأنبياء، والملائكة، والإخوان من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 4). قلت: وما سيذكره المؤلف -من أنواع الشفاعة-، قد ذكرها النووي أيضًا في "شرح مسلم" (3/ 35). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 118).

المؤمنين، ثم يخرج الله كلَّ مَنْ قال: لا إله إلا الله؛ كما جاء في الحديث، لا يبقى فيها إلا الكافرون. الخامس: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها؛ وهذه لا تنكرها المعتزلة. فيلخص أَنَّ الشفاعةَ: معلومةُ الاختصاصِ به - صلى الله عليه وسلم -، ومعلومة عدم الاختصاص، ومحتملة الوجهين؛ فلا يكون الألف واللام للعموم. فإن كان قد صدر منه - صلى الله عليه وسلم - الإعلام بالأول للصحابة؛ فالألف واللام للعهد. وإن لم يتقدم ذلك على هذا الحديث؛ فليجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة، وينزل على الشفاعة العظمى؛ لأنه كالمطلق حينئذٍ، فيكتفى بتنزيله على فرد. وليس لك أن تقول: لا حاجةَ إلى هذا التكلُّف؛ فإنه ليس في الحديث إلا قوله: "أُعْطِيتُ الشفاعةَ"، وكل الأقسام قد أعطيها - صلى الله عليه وسلم -؛ فيحمل اللفظ على العموم. لأَنَّا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها - صلى الله عليه وسلم -؛ فلفظُها -وإن كان مطلقًا- إلا أن ما سبق في صدر هذا الكلام يدل على الخصوصية. ثم اعلم أنه: لا شك أنه قَدْ عُرِفَ بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح -رضي الله عنهم- شفاعةَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ورغبتُهم فيها. وعلى هذا لا يُلتفت إلى قول من قال: يكره أن يسأل الله تعالى أَنْ يرزقَه شفاعةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونها لا تكون إلا للمذنبين؛ فإنها قد تكون -كما قدمنا- لتخفيف الحساب، وزيادة الدرجات. ثَمَّ كلُّ عاقلٍ معترف بالتقصير؛ محتاجٌ إلى العفو، غيرُ معتقد في عمله، مشفقٌ أَنْ يكون من الهالكين؛ ويلزم هذا القائل ألا يدعو بالمغفرة والرحمة؛ لأنها لأصحاب الذنوب؛ وهذا كله خلاف ما عُرف من دعاء السلف، والخلف، والله أعلم.

ثم اعلم أن كيفية شفاعته - صلى الله عليه وسلم -: أنه يشفع أولًا في إراحة الخلق من الموقف، والفصل بين العباد، وهذا هو المقامُ المحمودُ الذي ادَّخره الله تعالى له، وأعلمه أنه يبعثه فيه. ثم بعد ذلك حلَّت الشفاعة في أمته - صلى الله عليه وسلم -، وفي المذنبين، وحلت شفاعة الأنبياء، والملائكة، وغيرهم -صلوات الله وسلامه عليهم-. ثم تمييز المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة، ووضع الصراط، وهذه شفاعة في المؤمنين المذنبين على الصراط؛ وهي لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، ولغيره. ثم الشفاعة فيمن دخل النار، وهذا مما تقتضيه مجموع الأحاديث، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكانَ النبيُّ يُبعثُ إلى قومِه، وبُعثتُ إلى الناسِ كافَّةً": تقدم الكلام على نوح - صلى الله عليه وسلم -، والاعتراض به على هذا في كونه بعث إلى أهل الأرض، والجواب عنه. وفي هذه الرواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إلى الناس كافة، وهي تقتضي: تخصيص البعثة إلى الناس، دونَ غيرهم، وليس الأمر كذلك؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك في معرض امتنان الله تعالى عليه، لكنه لا تُنفَى زيادةُ الامتنان ببعثَتِه إلى غيرهم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الأبيض والأسود. وروى مسلم في "صحيحه": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وبُعِثْتُ إلى كلِّ أحمرَ وأسودَ" (¬1). قيل: المراد بالأحمر: البيضُ من العجم، وغيرِهم، وبالأسودِ: العربُ؛ لغلبة السُّمرة فيهم، وغيرهم منَ السودان. وقيل: المراد بالأسود: السودان، وبالأحمر: من عداهم من العرب، وغيرهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (521) (1/ 370)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.

وقيل: الأحمرُ: الإنس، والأسودُ: الجنُّ، ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إلى الجن، والإنس. ثمَّ إنه - صلى الله عليه وسلم - خُصَّ بهذه الخمسة، وغيرِها؛ من جوامع الكلم، ومفاتيح خزائن الأرض، والآيات من خواتيم سورة البقرة. وجوامعُ كلمهِ - صلى الله عليه وسلم - هي: القرآن، وكلامُه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَ كلًّا منهما ألفاظُهُ يسيرةٌ، ومعانيه كثيرةٌ، والله أعلم. وفي هذا الحديث: جواز ذكر ما امتنَّ الله به على عبدِه، وخصَّه به، وعدمُ كتمانه، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. وفيه دليل على: جواز الصلاة في جميع البقاع، إلا ما استثناه الشرع؛ من المقبرة، والمزبلة، والمجزرة، وسائر المواضع النجسة، ومواضع الشياطين. وفيه دليل على: أَنَّ الأصلَ في الأرض الطهارةُ. وعلى: تحليل الغنائم بشرطها. وجواز ذكر العلم من غير سؤال، خصوصًا عند الاحتياج إليه. والتعريف بنعم الله تعالى، وعدم الجهل، والله أعلم. وقد يستدل به على: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ الأنبياءِ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فُضِّلَ بأشياءَ على غيره منهم؛ وذلك دليل على أفضليتِه، والله أعلم. ولا شكَّ أنه: يعرف فضل المتبوع بفضل التابعين -أيضًا-؛ فكما أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ الأنبياء، فكذلك أمته خيرُ الأمم، وقد ثبتَ: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهلُ الجنَّةِ عشرونَ ومِئَةُ صَفٍّ، أَنْتُمْ ثَمانونَ" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2546)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة أهل الجنة، وقال: حسن، وابن ماجه (4289)، كتاب: الزهد، باب: صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 347)، وابن حبان في "صحيحه" (7459)، من حديث بريدة الأسلمي - رضي الله عنه -.

باب الحيض

باب الحَيْض الحديث الأول عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أَن فاطمةَ بِنْتَ أَبي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إنِّي أُسْتَحَاضُ، فلا أَطْهُرُ، أفَأَدعُ الصَّلَّاةَ؟ قالَ: "لا" إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ؛ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَّاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتي كُنْتِ تَحِيضِينَ فيها، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وصَلِّي (¬1). وفي رواية: "وَلَيْسَ بالحَيْضَة، فَإذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ؛ فَاتْرُكِي الصَّلاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُها؛ فَاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ، وصَلِّي" (¬2). أما عائشة: فتقدم ذكرها. وأما فاطمة بنت أبي حبيش: فاسمُ أبيها: قيسُ بنُ المطلب بنِ أسدِ بنِ عبدِ العزَّى بنِ قُصَيٍّ، القرشيةُ، الأسديةُ، وهي غير فاطمةَ بنتِ قيسٍ؛ التي روت قصةَ طلاقها، ولا نعرف لهذه المذكورة في هذا الحديث رواية غيرَ حديث الاستحاضة هذا. وحُبَيش: بضم الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، ثم الياء المثناة تحت، ثم الشين المعجمة، وله في الأسماء مشابهُ خمسة، ذكرها ابن ماكولا (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (319)، كتاب: الحيض، باب: إذا حاضت في شهر ثلاث حيض، ومسلم (333)، كتاب: الحيض، باب: المستحاضة وغسلها وصلاتها، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (300)، كتاب: الحيض، باب: الاستحاضة. (¬3) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 330).

ووقع في "صحيح مسلم"، في أكثر النسخ: فاطمة بنت أبي حُبيش بن عبد المطلب؛ وهو وهم، والصواب: ما ذكرناه، بحذف لفظة عبد (¬1). وأمَّا لفظه: فالحَيْضُ، والاسْتِحَاضَةُ؛ أصله: السيلان؛ فالحائض تسمى حائضًا عند سيلان الدم منها، والاستحاضة عند سيلانه مستمرًا. يقال: حَاضَتِ المرأةُ، تَحِيضُ، حَيْضًا، ومَحِيضًا ومحاضًا؛ فهي حَائِضٌ: إذا سال الدم منها، في نُوَبٍ معلومة معتادة، وإذا سال في غير نوبه؛ قيل: استُحيضت، وهي مُستحاضة، والاسم الاستحاضة. وللحيض ستةُ أسماءٍ: الحيضُ، والطمْثُ، والضحك، والعراك، والإكبارُ، والإعصارُ. وهو دمٌ يُرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة، يخرج من قعر الرحم، والاستحاضة في غير أوقاته، ويسيل من عرق فمه في أدنى الرحم، ويسمى: العاذل -بالذال المعجمة مكسورة-، وجعل ابن عرفة المحيض والحيض من ذوات الواو، قال: هو اجتماع الدم إلى ذلك المكان، ومنه تسمى الحوض؛ لاجتماع الماء فيه، وهو خطأ لفظًا ومعنى، أما لفظه، فجعله إياه من ذات الواو؛ وهو من ذوات الياء (¬2). وأما معنى: فلكونه جعله من الاجتماع؛ وهو اجتماع الدم في فرجها، لا من ¬

_ (¬1) قال مسلم في "صحيحه" (1/ 262) عقب حديث (333): وفي حديث قتيبة عن جرير: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش بن عبد المطلب بن أسد، وهي امرأة منا. ا. هـ. وانظر ترجمة فاطمة - رضي الله عنها - في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 245)، و"الاسيعاب" لابن عبد البر (4/ 1892)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 214)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 254)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (8/ 61)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (12/ 469). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 72)، و"شرح مسلم" له أيضًا (3/ 204)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 468)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 142)، (مادة: حيض).

السيلان؛ إما دائمًا، أو في أوقات؛ كما ذكرنا، لكنه يمكن أن يطلق عليهما من حيث المعنى لفظ الاجتماع في بعض الأحوال. وقولها: "أُسْتَحَاضُ"؛ وهو مبني للمفعول، ولم يبن للفاعل؛ كما في قولهم: نُفِسَت المرأة، نُتِجَت الناقة، والكلمة من الحيض كما تقدم لفظها، ومعناها، والزوائد التي لحقتها للمبالغة؛ كما يقال: أعشبَ المكانُ، ثم يبالغ، فيقال: اعشَوْشَبَ، وكثيرًا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى. وقولها: "فلا أَطْهُرُ"؛ يحتمل أن مرادها: نفي الطهارة اللغوية؛ وهي النظافة، وكَنَّتْ بذلك على عدم النظافة من الدم؛ لأنها لم تكن عالمةً بالحكم الشرعي، ولا هي مستعملة للمطهِّر في ذلك الوقت، بل جاءت سائلة عنه؛ فتعين حملُه على الوضع اللغوي. ثم حقيقته: استمرار الدم؛ وعليه حمله بعضُهم، ويمكن حملُه على: المبالغة، ومجاز العرب، وكثرة تواليه، وقرب بعضه من بعض. ولا شكَّ أن الطهارةَ تطلق بإزاء النظافة؛ كما ذكرنا. وتطلق بإزاء استعمال المطهِّر، فيقال: الوضوء طهارة صغرى، والغسل طهارة كبرى. وتطلق على الأمر المرتب على استعمال المطهِّر شرعًا؛ فيقال لمن ارتفع مانع الحدث عنه: هو على طهارة، ولمن لم يرتفع عنه المانع: هو على غير طهارة. وقولها: "أَفَأَدعُ الصَّلاةَ؟ "؛ هو سؤالٌ عن استمرار حكم الحيض حالةَ دوامِ الدم، أو عدمه، ممن تقرر عنده أَنَّ الحائضَ ممنوعةٌ من الصلاة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إِنَّ ذلكَ عِرْقٌ"؛ عرق -بكسر العين، وسكون الراء- وهو المسمى: بالعاذِل؛ كما تقدم. وظاهره: انبثاق الدم من العِرْق، وقد جاء في الحديث: "عِرْقٌ انفجرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 258)، عن أسماء بنت عُميس - رضي الله عنها -، وضعفه.

ويحتمل أَنْ يكونَ: من مجاز التشبيه؛ إِنْ كانَت سببُ الاستحاضة كثرةٌ مادة الدم، وخروجه من مجاري الحيض المعتادة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعِي الصَّلاة قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتي كنتِ تَحيضِينَ فيها": دل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة؛ وهذا يقتضي: أنها كانت لها أيام تحيض فيها. وليس في لفظ الحديث ما يدل أنها كانت مميزة، أو غير مميزة، فقد يستدل به من يرى الرد إلى أيام العادة؛ سواء كانت مميزة، أو غير مميزة؛ وهو اختيار أبي حنيفة، وأحدُ قولي الشَّافعي. ولا شكَّ أَنَّ المستحاضة تكون مبتدأةً، أو معتادةً، وكلُّ واحدةٍ منهما تكون مميزة، وغير مميزة؛ فتصير أربعة. والتمسك بهذا الحديث على ردِّها إلى العادة؛ سواءٌ كانت مميزة، أو غير مميزة، ينبني على قاعدة أصولية؛ وهي منقولةٌ عن الشَّافعي - رحمه الله -: تركُ الاستفصال في حكاية الحال ينزلُ منزلةَ العموم في المقال؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - لفيروز، وقد أسلم على أختين: "اِخْتَرْ أَيَّهمَا شِئْتَ" (¬1)، ولم يستفصله، هل وقع العقد عليهما مرتبًا، أو متفاوتًا؟ وكذا نقول هاهنا، لما سألت هذه المرأة عن حكمها في الاستحاضة، ولم يستفصلها - صلى الله عليه وسلم - عن كونها مميزة، أو غير مميزة؛ كان دليلًا على أَنَّ الحكمَ عامٌّ في المميزة، وغيرها؛ كما قالوا في قصة فيروز، والذي يقال عليه؛ من أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يجوز أَنْ يكونَ عَلِمَ حالَ الواقعة كيف وقعت، وأجاب على ما علم؛ يقال هاهنا: يجوز أن يكون علم حال الواقعة في التمييز، وعدمه. وقوله في رواية: "لَيْسَ بالحِيضَةِ"؛ هي بكسر الحاء؛ أي: الحالة؛ وهو مذهب الخطابي. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1129)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان، وقال: حسن، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 184).

والأظهر فتحُها؛ أي: المرَّةُ من الحيض، ونقله الخطابي عن أكثر المحدِّثين، أو كلِّهم؛ وهو في هذا الحديث متعيِّنُ، أو قريب منه؛ لاقتضاء المعنى إياه؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أراد نفي الحيض، وإثبات الاستحاضة. وأما ما يقع في كثير من كتب الفقه: "إِئما ذَلِكَ عِرْقٌ انقطع، أو انفجرَ، وليسَ بالحيضةِ"؛ فهي زيادة لا تُعرف في الحديث، وإن كان لها معنى. وقوله: "فَإذا أَقْبَلَتِ الحيضةُ، فَدَعي الصَّلاةَ": في الحيضة -هنا- الوجهان؛ في فتح الحاء، وكسرها جوازًا حسنًا. وهو تعليق الحكم بالإقبال، والإدبار؛ فلا بد أَنْ يكونَ معلومًا للحيضة، بعلامة تعرفها: فإن كانت مميزة، ورُدَّتْ إلى التمييز؛ فإقبالها: بدوُّ الدم الأسود، وإدبارُها: إدبارُ ما هو بصفة الحيض، وإن كانت معتادة، ورُدَّتْ إلى العادة؛ فإقبالها: وجودُ الدم في أولِ أيامِ العادة، وإدبارُها: انقضاءُ أيام العادة. وقد ورد في حديث فاطمةَ بنتِ أبي حُبيش ما يقتضي الردَّ إلى التمييز، وقالوا: إنَّ حديثَها هذا في المميزة، وحُمل قولُه: "فإذا أقبلتِ الحيضةُ" على الحيضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد. وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز، الروايةُ التي فيها: "دمُ الحيضِ أسودُ يُعْرفُ؛ فإذا كانَ ذلكَ، فَأَمْسِكي عن الصلاة" (¬1). وقد يشير إلى الردِّ إلى العادة في هذا الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإذا ذهبَ قَدْرُها"؛ يعني: قدرُ أيامِها، وصَحَّفَ بعض الطلبة هذه اللفظةَ، فقال: "فإذا ذَهب قَذَرُها؛ -بالذال المعجمة المفتوحة-، وإنما هو: قَدْرُها -بالدال المهملة الساكنة-؛ أي: قَدْرُ وقتِها. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (286)، كتاب: الطهارة، باب: من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، والنسائي (215)، كتاب: الطهارة، باب: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، وابن حبان في "صحيحه" (1348)، وغيرهم من حديث فاطمة بنت أبي حبيش - رضي الله عنها -.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاغْسِلي عنكِ الدمَ، وصلِّي": هذا الحديث مشكل في ظاهره؛ حيثُ لم يذكر الغسلَ، ولا بدَّ بعد انقضاء الحيض من الغسل. وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار: انقضاء أيام الحيض؛ فالاغتسال .... ، وجعل قوله: "فاغسلي عنكِ الدمَ" محمولًا على دم يأتي بعد الغسل. والجواب الصحيح: أَنَّ الغُسلَ إِنْ لم يُذكرْ في هذه الرواية، فقد ذُكِرَ في رواية أخرى صحيحة قال فيها: "واغتسلي". وأما أحكامه: ففيه دليل على: أن المستحاضة لا تصلي إلا في الزمن المحكوم بأنه حيض؛ وهو مجمع عليه، ولم يخالف فيه الخوارج. وفيه: استفتاء من وقعت له مسألة، وجواز استفتاء المرأة بنفسها، ومشافهتها الرجال فيما يتعلق بالطهارة، وأحداث النساء، وجواز استماع صوتها عند الحاجة. وفيه: النهيُ لها عن الصلاة في زمن الحيض؛ وهو نهي تحريم، ويقتضي فساد الصلاة بإجماع المسلمين، وسواء في هذه الصلاة المفروضة، والنافلة؛ لظاهر الحديث؛ وكذلك يحرم عليها: الطواف، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وكل هذا متفق عليه. وقد أجمع العلماء على: أنها ليست مكلفة بالصلاة، وعلى أَنَّه لا قضاءَ عليها، نعم، استحب بعضُ السلف، وبعض أصحاب الشَّافعي للحائض إذا دخل وقت الصلاة: أَنْ تتوضَّأ، وتستقبلَ القبلة، وتذكرَ الله تعالى، وأنكر ذلك بعضهم. وفيه دليل على: نجاسةِ دم الحيض، والأمر بإزالته، وأنَّ الصلاة تجب بمجرد انقطاع دم الحيض. واعلم: أن المستحاضة لها حكم الطاهرات في معظم الأحكام؛ فيجوز

لزوجها وطؤها في حال جريان الدم عند الشَّافعي، وجمهورِ العلماء، وبه قال ابن المنذر، وحكاه في "الإشراف" (¬1)؛ عن ابن عباس، وابن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وبكر بن عبد الله المزني، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور. ورُوِيَ عن عائشة أنها قالت: لا يأتيها زوجها (¬2)؛ وبه قال النخعي، والحَكَم، وكرهه ابن سيرين، وقال أحمد: لا يأتيها، إلا أن يطول ذلك بها، وفي رواية عنه: أنه لا يجوز وطؤها، إلا أن يخاف العَنَتَ، والمختار: قولُ الجمهور. روى عكرمة عن حمنة بنتِ جَحْش - رضي الله عنها -: أنها كانت مستحاضةً، وكان زوجُها يجامعها، رويناه في سنن أبي داود، والبيهقي، وغيرهما بهذا اللفظ بإسناد حسن (¬3). وقال البخاري في "صحيحه": قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاةُ أعظم (¬4)، ولأن المستحاضة؛ كالطاهرة في الصلاة، والصوم؛ وكذا في الجماع؛ ولأن التحريم إنما يثبت بالشرع، ولم يرد بتحريمه. وأما الصلاة، والصيام، والاعتكاف، وقراءة القرآن، ومس المصحف، وحمله، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، ووجوب العبادات عليها؛ فهي [في] كل ذلك كالطاهر؛ وهذا مجمع عليه. وإذا أرادت المستحاضة الصلاة؛ فإنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث ¬

_ (¬1) كتاب: "الإشراف على مذاهب الأشراف" لأبي بكر محمد بن إبراهيم المعروف بابن المنذر النيسابوري الشافعي المتوفى سنة. (318 هـ) انظر: "كشف الظنون" (1/ 103). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (16960)، والدارمي في "سننه" (830). (¬3) رواه أبو داود (310)، كتاب: الطهارة، باب المستحاضة يغشاها زوجها، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 329). (¬4) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 125) معلقًا بصيغة الجزم. وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (2/ 182).

والنجس؛ فتغسل فرجها قبل الوضوء، أو التيمم إن كانت تتيمم، وتحشو فرجَها بقطنة أو خرقة؛ دفعًا للنجاسة، أو تقليلًا لها. فإن كان دمها قليلًا، يندفع بذلك وحده؛ فلا شيء عليها غيره، وإن لم يندفع بذلك؛ سدت مع ذلك على فرجها، وتَلَجَّمَتْ؛ وهو أن تشدَّ على وسطها خِرْقة أخرى مشقوقةَ الطرفين، فتدخِلُها بين فَخِذيها، وإِليتيها، وتشدُّ الطرفين بالخرقة التي في وسطها، إحداهما: قدامها عند سُرَّتها، والأخرى: خلفَها، وتُحكِمُ ذلك، وتُلصق هذه الخرقةَ بين الفخذين بالقطنة التي على الفرج إلصاقًا جيدًا؛ وهذا الفعل يسمى: تلجُّمًا، واستثفارًا، وتعصيبًا. قال أصحابنا: وهذا الشد، والتلجُّم واجب، إلا في موضعين: أحدهما: أن تتأذى بالشدِّ، ويحرقَها اجتماعُ الدم؛ فلا يلزمُها؛ لما فيه من الضرر. والثاني: أن تكون صائمةً؛ فتترك الحشوَ بالنهار، وتقتصرُ على الشدِّ. قالوا: ويجب تقديم الشدِّ والتلجُّم على الوضوء، وتتوضأ عقب الشد من غير إمهال، فإن شدت، وتلجمت، وأخرت الوضوء، وتطاول الزمان؛ ففي صحة وضوئها وجهان: الأصح: أنه لا يصح. وإذا استوثقت بالشد على الصفة التي ذكرناها، ثم خرج منه دم من غير تفريط: لم تبطلْ طهارتُها، ولا صلاتُها، ولها أَنْ تصليَ بعد فرضها ما تشاء من النوافل؛ لعدم تفريطها، ولتعذر الاحتراز عن ذلك. أما إذا خرج الدم؛ لتقصيرها في الشد، وزالت العصابة عن موضعها؛ لضعف الشد، فزاد خروجُ الدم بسببه؛ فإنه يبطل طهرُها، فإن كان ذلك في أثناءِ صلاةٍ، بطلت، وإن كان بعد فريضة، لم تستبح النافلة؛ لتقصيرها. وأما تجديد غسل الفرج، وحشوه، وشده لكل فريضة: فتنظر؛ إن زالت العصابة عن موضعها زوالًا له تأثيرٌ، وظهر الدم على جوانب العصابة، وجب التجديد.

الحديث الثاني

وإن لم تزل العصابة عن موضعها، ولا ظهر الدم؛ ففيه وجهان لأصحابنا: أصحُّهما: يجب التجديد؛ كما يجب تجديد الوضوء، والله أعلم. وتتعلق بالمستحاضة أحكام وفروع تحتمل كراريس، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. * * * الحديث الثاني عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أَنَّ أُمَّ حبيبةَ - رضي الله عنها - استُحِيضَتْ سَبْعَ سِنينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلاَةٍ (¬1). أما عائشة - رضي الله عنها -؛ فتقدمت. وأما أمُّ حبيبة هذه؛ فيقال فيها: أُمُّ حبيب، بلا هاءٍ، قال الدارقطني: قال إبراهيم الحربي: هو الصحيح، قال الدارقطني: وقول الحربي هو الصحيح، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن، واسمها: حبيبة. قال الحميدي عن سفيان، وصححه أبو علي الغساني، وجعل ابن الأثير: أن أم حبيبة فيها أكثر، وأنها كانت مستحاضة، قال: وأهلُ السيرِ يقولون: المستحاضة أختها؛ حَمْنَةُ بنتُ جحش، قال ابن عبد البر: الصحيح؛ أنهما كانتا مُستحاضتين. وهي: أم حبيبة بنت جحش بن رباب الأسدي (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (321)، كتاب: الحيض، باب: عرق الاستحاضة، ومسلم (334)، كتاب: الحيض، باب: المستحاضة وغسلها وصلاتها، وهذا لفظ البخاري. (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 242)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1928)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 302)، و "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 157)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 586)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 440).

قال الحافظ أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله -: المستحاضات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خمس: الأولى: حَمْنة بنتُ جحش، أختُ زينبَ بنتِ جحش زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: أختُها أم حبيبة، ويقال: أم حبيب، بغير هاءٍ. الثالثة: فاطمةُ بنتُ أبي حُبيش، القرشيةُ، الأسديةُ. الرابعة: سَهْلَةُ بنتُ سُهيل، القرشيةُ، العامريةُ. الخامسة: سَودة بنت زمعة، زوجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر بعضهم: أن زينب بنت جحش استحيضت، والمشهور: خِلافُه؛ وإنما المستحاضة أختاها، والله أعلم (¬1). وهذا الحديث وقع في نسخ هذا الكتاب: "فأمرَها أَنْ تغتسلَ لكلِّ صلاة"، وليس في "الصحيحين"، ولا أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بذلك. ولا شكَّ أَنَّه قد وردَ الأمرُ بالغسل لكل صلاة خارج الصحيح من رواية ابن إسحاق، وغيره، بروايات كثيرة، وليس فيها شيء ثابت، وقد ضعفها كلها البيهقي، ومن قوله: والذي صح في هذا: ما رواه البخاري، ومسلم في "صحيحيهما": أن أم حبيبة بنت جحش - رضي الله عنها - استحيضت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عرق، فاغتسلي"، فكانت تغتسل عند كل صلاة. قال الشَّافعيُّ - رحمه الله -: إنما أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسلَ، وتصليَ، وليس فيه: أنه أمرها بالغُسل لكل صلاة، قال: ولا شك -إن شاء الله تعالى-: أَنَّ غُسلَها كان تطوعًا، غير ما أُمِرَت به؛ وذلك واسع لها؛ هذا كلام الشَّافعيِّ بلفظه (¬2)، وقاله قبله -بعبارة مقاربة لمعنى قوله- سفيانُ بنُ عيينةَ شيخُه، والليثُ بن سعد، والله أعلم. وحمل بعضهم معنى حديث الكتاب؛ بالأمر بالغسل لكل صلاة: على ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر سنن أبي داود" للمنذري (1/ 190). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 62).

مستحاضة ناسيةِ التوقيت، والعدد؛ يجوز في مثلها: أَنْ ينقطعَ الدمُ عنها في وقت كل صلاة. وقد اختلف العلماء من السلف، والخلف في وجوب الغسل على المستحاضة لكل صلاة، فقال الجمهور من السلف والخلف: لا يجب الغسلُ عليها لشيء من الصلوات، ولا في وقت من الأوقات، إلا مرةً واحدة في وقتِ انقطاعِ حيضها؛ وهو مرويٌّ عن عليٍّ، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة -رضي الله عنهم-؛ وهو قول عروةَ بنِ الزبير، وأبي سلمةَ بنِ عبد الرحمن، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأحمدَ. ورُوي عن ابنِ عمرَ، وابن الزبير، وعطاءِ بنِ أبي رباحٍ: أنهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. ورُوي عن عائشةَ: أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا. وعن المسيب، والحسن، قالا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر، دائمًا، والله أعلم. ودليل الجمهور: أن الأصل عدم الوجوب؛ فلا يجب إلا ما ورد الشرع بإيجابه، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرها بالغسل إلا مرةً واحدةً عند انقطاع حيضها؛ وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبلتِ الحيضةُ؛ فدعي الصلاةَ، وإذا أدبرت؛ فاغتسلي" (¬1)، وليس في هذا ما يقتضي تكرارَ الغسل، والله أعلم. وفي حديث عائشة: ردُّ على من قال: يُجمع بين كل صلاتين بغسل واحد. وفيه: ما كانت الصحابة -رضي الله عنهم- في الرجوع؛ فيما يحدث لهم من أمورهم كلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والسؤال عن الأحكام، والجواب عنها، والله أعلم. وفيه دليل على: إثبات الاستحاضة، وأن حكم دمها غير دم الحيض. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (314)، كتاب: الحيض، باب: إقبال المحيض وإدباره، عن عائشة - رضي الله عنها -.

الحديث الثالث

واعلم أن الاستحاضة على ضربين: أحدهما: ألَّا يكونَ حيضًا، ولا مختلطًا به؛ بأن يكونَ دونَ يومٍ وليلة غير متكرر؛ فحكمُه: أَنْ تتوضأَ لكل صلاة. والضرب الثاني: أن يكونَ بعضُه حيضًا، وبعضه ليس بحيض؛ بأن يكون دمًا متصلًا دائمًا، مجاوزًا لأكثر الحيض؛ وصاحبة هذا الضرب، لها ثلاثة أحوال: أحدها: أَنْ تكونَ مبتدأَةً؛ وهي التي لم ترَ الدم قبل ذلك؛ وفيها قولان للشَّافعي، أصحهما: تُرَدُّ إلى يوم وليلة، والثاني: إلى ستٍّ، أو سبع. الثاني: أن تكون معتادةً؛ فترد إلى قَدْرِ عادتها في الشهر الذي قبل شهر استحاضتها. الثالث: أن تكون مميزةً، ترى بعض الأيام دمًا قويًّا، وبعضها دمًا ضعيفًا؛ كالأسود، والأحمر؛ فتكون حيضتها أيامَ الأسود، بشرط: ألَّا يَنْقُصَ الأسودُ عن يومٍ وليلة، ولا يزيدَ على خمسة عشرَ يومًا، ولا ينقصَ الأحمر عن خمسةَ عشرَ يومًا. ولهذا كله تفاصيلُ في كتب المذهب مبسوطة، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عائشةَ -رَضي الله عنها-، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من إنَاءٍ واحدٍ؛ وكِلانا جُنُبٌ، وكَان يَأْمُرُني، فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُني؛ وَأَنا حَائِضٌ، وكانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إليَّ؛ وهُوَ مُعْتكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ؛ وأنا حائِضٌ (¬1). تقدم الكلام على لفظ الجنب، ومعناه، واغتسال الرجل والمرأة من إناءٍ واحدٍ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (295)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، ومسلم (319)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، وهذا لفظ البخاري.

وقولها: "وكان يأمرُني، فَأَتَّزِرُ"؛ معناه: أشدُّ إزارًا، أسترُ به سُرَّتي، وما تحتَها إلى الركبة. وقولها: "فيباشرُني؛ وأنا حائضٌ"، معناه: يباشرني بجميع أنواع الاستمتاع من القبلة، والمعانقة، وبالذَّكَر فيما فوق الإزار فوق السرَّة، وتحت الركبة وهو حلالٌ باتفاق العلماء، ونقل جماعةٌ الإجماعَ عليه، منهم: الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وغيره. ولا يغتر بما حكي عن عبيدة السلماني، وغيره: مِنْ أَنَّه لا يباشرُ شيئًا منها بشيء منه؛ فإنه منكرٌ غيرُ مقبولٍ، ولو صحَّ، لكان مردودًا بالأحاديث الصحيحة في مباشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقَ الإزار، [بفعله] وإذنه: أما فعلُه: ففي هذا الحديث، وغيره. وأما إذنه: ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم"، عن أنس - رضي الله عنه -: "اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكاحَ" (¬1)؛ يعني: الوطْءَ في الفرج، أو فيما دون السرة، وفوق الركبة. ولو تركنا، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرده؛ لم يكن فيه دليل على الإباحة، أو المنع؛ لما تقرر أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب، على المختار عند الأصوليين، وغيرهم من العلماء. وأمَّا المباشرة بالجماع للحائض في الفرج، فهو حرام بنص القرآن العزيز، والسنة الصحيحة، وإجماع المسلمين: فلو فعله معتقدًا حِلَّه، صار كافرًا مرتدًا. ولو فعله غيرَ معتقدٍ حله، فإن كان ناسيًا، أو جاهلًا وجوده، أو تحريمَه، أو مكرَهًا: فلا إثم عليه، ولا كفارة. وإن وطئها عالمًا بالحيض والتحريم مختارًا، فقد ارتكب معصية كبيرة؛ نص ¬

_ (¬1) رواه مسلم (302)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد.

الشَّافعيُّ - رحمه الله -: على أنها كبيرة، ويجب عليه التوبة. ولا كفارة -على الصحيح الجديد من قولَي الشَّافعيِّ-، وهو مذهبُ مالكٍ، وأبي حنيفة، وأحمدَ في إحدى الروايتين، وجماهير السلف؛ كعطاءٍ، وابن أبي مليكة، والشعبي، والنخعي، ومكحول، والزهري، وأبي الزناد، وربيعة، وحماد بن أبي سليمان، وأيوب السختياني، وسفيان الثوري، والليث بن سعد -رحمهم الله تعالى-. وللشَّافعيُّ قولٌ قديمٌ ضعيف: أنه يجب عليه الكفارة؛ وهو مروي عن ابن عباس، وجماعة من التابعين، والأوزاعي، وإسحاق، وأحمد في الرواية الثانية. واختلفوا فيها: فقال الحسن البصري، وسعيد بن جبير: عتق رقبة. وقال الباقون: دينارًا ونصف دينار، على اختلاف منهم فيه؛ هل يجب الدينار في أوله وجِدَّته، أو في زمن الدَّفْق، والنصفُ في آخره، أو بعد انقطاعه؟ والأحاديث في ذلك كلها ضعيفة؛ فالصواب: عدم الوجوب، واستحبابُ التصدق بشيء، والله أعلم. وأما المباشرةُ فيما دون السرَّة، وفوقَ الركبة؛ ففيها أوجهٌ لأصحاب الشافعي: وأشهرها في المذهب: التحريم؛ وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأكثر العلماء؛ منهم سعيدُ بن المسيب، وشُريح، وطاوس، وعطاء، وسليمان بن يسار، وقتادة. والوجه الثاني: الجوازُ مع الكراهة؛ وهو قويٌّ من حيثُ الدليل، وهو المختار؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - الذي رواه مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اصنعوا كلَّ شيءٍ، إلا النكاحَ" (¬1)؛ فاقتصاره - صلى الله عليه وسلم - في مباشرته على ما فوق الإزار محمولٌ على الاستحباب؛ وبه قال عكرمة، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

والحكم، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، ومحمد بن الحسن، وأصبغ، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو المنذر، وداود. والوجه الثالث: إن كان المباشر يضبط نفسه؛ لضعف شهوته، أو لشدة ورعه: جاز، وإلا: فلا؛ وهو حسن، قاله أبو الفياض البصري؛ من أصحابنا. ثم تحريم المباشرة والوطء إنما هو في مدة الحيض، وبعدَ انقطاعه إلى أن تغتسل، أو تتيمم؛ إن عدمت الماء بشرطه؛ وهذا قول الجمهور من العلماء. وقال أبو حنيفة: إذا قطع الدم لأكثر الحيض؛ حل وطؤها في الحال. واحتج الجمهور بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، والله أعلم. وحيث جوزنا المباشرة فيما عدا الفرج مما يستمتع به، فلا فرق فيه بين أن يكون عليه دم، أم لا، على المشهور الذي قطع به جماهير العلماء من أصحاب الشَّافعيِّ، وغيرهم؛ للأحاديث المطلقة، وينبغي اجتنابه خروجًا من الخلاف، ومن معنى تحريم وطء الحائض في الفرج، والوطء في الدبر، والله أعلم. وقولها: "وكان يُخرجُ رأسَهُ إليَّ وهو معتكفٌ، فأغسِلُه وأنا حائضٌ": أما الحائض: فهو اسم فاعل من الحيض يطلق على المؤنث، بلا هاءٍ، وحُكي في لغة قليلة: حائضة، بالهاء. وفي هذه الجملة: جواز إخراج المعتكِفِ بعضَ بدنِه من المسجد، ولا يبطلُ اعتكافهُ. وجواز غسلِ رأس المعتكف حالَ اعتكافه، وترجيلِه، وما في معناه، بشرط: ألا يقذر المسجد. وجواز مخالطة المعتكف بالحائض إذا لم يخرج من المسجد، ولا تدخل هي المسجد، ومحادثتها، وما في معنى ذلك. وجواز استخدام الرجل امرأته فيما خفَّ من الشغل، واقتضته العادة.

الحديث الرابع

وأَنَّ بدنَ الحائض طاهرٌ غيرُ نجسٍ إذا لم يلاقِ نجاسة. وقد استدل به بعضهم على أن من حلف ألا يخرج من بيت، أو غيره، فخرج ببعض بدنه، لم يحنث، ووجه الاستدلال: أَنَّ الحديث دل على: أن خروج بعض البدن لا يكون كخروج كله من المكان المعين الكون فيه فيما يعتبر فيه، وإذا كان كذلك، لم يحنث بخروج ذلك البعض منه؛ لأن اليمين إنما تعلقت بخروجه، وحقيقته في البدن، لا بعضه، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن عائشِةَ - رضي الله عنها -، قالَتْ: "كَان رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِئُ في حِجْرِي، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ؛ وأَنا حَائِضٌ" (¬1). الحجر: معروف، وهو بفتح الحاء، وكسرها، ومعنى "يتكئ في حِجْري"؛ أي: يميل بإحدى شِقَّيه في حجري، ولا شكَّ أن قراءة القرآن ممتنعة على الحائض، وقد يوهم ذلك أنه لا يجوز مخالطتها، والاتكاء في حجرها بقراءة القرآن؛ تعظيمًا للقرآن، فأرادت عائشة - رضي الله عنها - نفيَ هذا التوهُّم، ونفيَ ما كانت اليهودُ عليه من عدم مخالطة الحاثض، ومجانبتهم إياها في الأكل، والشرب، والمضاجعة، فكيف بالتلاوة، والعبادة؟! وقد اختلف العلماء في قراءة القرآن للحائض: فمنعه الشَّافعيُّ، وأصحابه، وجمهور العلماء. وللشَّافعيِّ قولٌ: أَنَّه يجوز لها القراءة إذا خافت نسيانه، أو لم تجد ماءً، ولا ترابًا، وأمرناها بالصلاة، فإنها تقرأ الفاتحة على وجه لأصحاب الشافعي. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (293)، كتاب: الحيض، باب: قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، ومسلم (301)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، وهذا لفظ مسلم.

الحديث الخامس

ومذهب مالك: جواز القراءة لها مطلقًا. وفي الحديث: تبليغ العلم، والابتداء به، والإخبار بأحواله - صلى الله عليه وسلم -؛ للتأسي به، والإخبار بما يُسَتْحَيا من ذكره عادة إذا ترتبت دونه مصلحة من تبيين حكم، وغيره، وقراءة القرآن في حجر الحائض، وبقرب موضع النجاسة، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن مُعاذَةَ قالَتْ: سَأَلْتُ عَائشِةَ -رَضي الله عنها-، فقلت: ما بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّومَ، ولا تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟! فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحرورِيَّةٍ، ولَكِنِّي أَسْأَلُ، فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (¬1). أما معاذة: فكنيتُها: أمُّ الصهباء بنة عبد الله، العدويةُ، البصريةُ، التابعيةُ، امرأة صلة بن أشيم، كانت من العابدات، اتفقوا على أنَّها ثِقَةٌ حُجَّةٌ. رَوى عنها: جماعة من التابعين، وغيرهم. روى لها: البخاريُّ، ومسلم، وأصحاب السنن (¬2). أما الحَرورِيُّ: فمن يُنسب إلى حروراءَ: قرية بقرب الكوفة على ميلين منها -وهي بفتح الحاء المهملة، وضم الراء الأولى، وبالمد-، اجتمع فيها أوائلُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (315)، كتاب: الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة، ومسلم (335)، كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، وهذا لفظ مسلم. (¬2) وانظر ترجمتها في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 483)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 300)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (4/ 22)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 308)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 508)، و"الكاشف" له أيضًا (2/ 517)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 479).

الخوارج، ثم كثر استعمالهُ في كلِّ خارجي، ومنه قول عائشة لمعاذة: "أحروريةٌ أنت؟! "؛ أي: خارجية. وإنما قالت لها ذلك؛ لأن مذهب الخوارج: أَنَّ الحائضَ تقضي الصلاة، وهو خلافُ إجماع المسلمين. ولأن مُعاذةَ أوردت السؤال على غير صفته المجردة، بل قد تُشْعِرُ صيغتها بتعجبٍ، وإنكار؛ حيث قالت: ما بالُ الحائض تقضي الصوم إلى آخره؟ فأجابتها معاذة بأن قالت: ولَكِنِّي أَسْأَلُ؛ أي: أسأل سؤالًا مجردًا عن الإنكار، أو التعجب، بطلب مجرد العلم بالحكم. وأما إجابة عائشة بالنص دون المعنى؛ فلأنه أبلغ وأقوى في الردع عن مذهب الخوارج، وأقطعُ لمن يعارض بخلاف المعنى المناسب؛ فإنه عرضة للمعارضة. والمعنى في وجوبِ قضاءِ الصَّومِ دونَ الصلاة عليها: عدمُ المشقة في الصوم، ووجودُها في الصلاة؛ فإنها متكررة، فيشق قضاؤها، والصوم غير متكرر، فإنه يجب في السنة مرة واحدة، وربما كان الحيض يومًا، أو يومين. وقول عائشةَ - رضيَ الله عنها -: "كان يُصيبنا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بقضاءِ الصَّومِ، ولا نؤمرُ بقضاءِ الصلاةِ". هذا حكمه حكم المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه قول صحابية، والأمر والنهي إذا بُني لما لم يُسَمَّ فاعلُه من الصحابي، لم يحمل على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فيكون بمنزلة قوله: قال، أو: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحوهما من صيغ الرفع، والاتصال. وقد أجمع المسلمون على: أَنَّ الحائضَ والنفساءَ، لا يجب عليهما الصلاة، ولا الصوم، وأجمعوا على: أنه لا يجب عليهما قضاء الصلاة، وعلى: أنه يجب عليهما قضاء الصوم. قال الجمهور من العلماء: وليست الحائضُ مخاطَبة بالصيام في زمن الحيض، وإنما يجب عليها القضاء بأمرٍ جديد.

وذكر بعض أصحاب الشَّافعيِّ وجها: أنَّها مخاطبةٌ بالصيام في حال الحيض، وتؤمر بتأخيره كما يخاطب المحدِثُ بالصلاة، وإن كانت لا تصح منه في زمن الحدث. وهذا الوجه ليس بشيء، فكيف يكون الصومُ واجبًا عليها بسببٍ لا قدرة لها على إزالته؟! بخلاف المحدِث؛ فإنه قادر على إزالة الحدث، والله أعلم. وقد اكتفت عائشة - رضي الله عنها - في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونها لم تؤمر به، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون أخذت إسقاطَ القضاء من سقوط الأداء، ويكون مجرد سقوط الأداء دليلًا على سقوط القضاء، إلَّا أَنْ يُوجدَ معارض، وهو الأمر بالقضاء؛ كما في الصوم. الثاني: وهو الأقرب: أن يكون السببُ في ذلك أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم؛ فإن الحيض يتكرر، فلو وجب قضاء الصلاة فيه، لوجب بيانه، وحيث لم يتبين، دل على ما يقوله أرباب الأصول من أن قول الصحابي: كنا نُؤمر، ونُنهى، في المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا لم تقم الحجة به، والله أعلم. وفي الحديث دليل على: السؤال عن العلم، وأن المسؤول إذا فهم من لفظ السائل شيئًا، يذكره له، ويبين ذلك له، وإن كان مقصود السائل خلافه، فيجب. وفيه: بيان السائل مراده من لفظه. وفيه: أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه حجة بمجرده، ولا يفتقر إلى معرفة سره، أو حكمته، أو علته. وفيه دليل على: أن الحائض لا تصوم، ولا تصلي، وأنها تقضي الصوم دون الصلاة. وتقدم نقلُ الإجماع على الأربعة الأحكام منها، والله أعلم، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة. * * *

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة باب المواقيت الحديث الأول عن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، واسمُه: سعدُ بنُ إِياسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي صاحبُ هذهِ الدَّارِ -وأَشَارَ بيدِهِ إلى دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ-، قَالَ: سَأَلْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلى اللهِ تعالى؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَي؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ الله"، حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ، لَزَادَني (¬1). أما أبو عمرٍو الشَّيباني: فقد ذكر اسمه وكنيته. وأما الشَّيبانيُّ: فهو بالشين المعجمة، نسبةً إلى شيبانَ بنِ ثعلبةَ بن عكابةَ. أدرك سعدٌ زمانَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَره، وقال: بُعِثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أرعى إبلًا لأهلي بكاظم (¬2)، فهو تابعيٌّ مخضرمٌ. وقد عدَّ مسلم - رحمه الله - التابعين المخضرمين عشرين نفسًا، وهم أكثر من ذلك، وممن لم يذكره منهم: أبو مسلم الخولاني، والأحنف بن قيس. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (504)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، ومسلم (85)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 104)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 47)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5532).

سمعَ عليَّ بنَ أبي طالب، وابنَ مسعودٍ، وحذيفةَ، وأبا مسعودٍ البدريَّ، وغيرَهم من الصحابة. روى عنه: جماعة من التابعين، وهو مجمَع على ثقته، وروى له: البخاري، ومسلم (¬1). وتشتبه نسبته بالسيباني -بالسين المهملة-، وهو أبو عمرو زرعة والد يحيى أبي زرعة، عدادُه في الشاميين، تابعي يروي عن: عقبةَ بن عامر، وابنُه يحيى متفق على توثيقه. قال محمد بن حبيب: كلُّ شيءٍ من العرب: شيبان، إلا في حِمْيَر؛ فإن فيها: سيبان؛ يعني: -بالسين المهملة- بنَ الغوثِ بنِ سعدِ بنِ عوفِ بنِ مالكِ ابنِ زيدِ بنِ سهلِ بنِ عمرِو بنِ قيسِ بنِ معاويةَ بنِ جشمَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ الغوثِ بنِ قطنِ بنِ عرنب بنِ زهيرِ بنِ أيمن بنِ الهميسعِ بنِ حِمْيَرٍ (¬2)، والله أعلم. وأما عبدُ الله بنُ مسعود: فكنيته: أبو عبد الرحمن، واسمُ جدِّه أبي أَبيه: غافل -بالغين المعجمة والفاء- بنُ حبيبِ بنِ شمخِ بنِ مخزومٍ، ويقال: شمخُ بنُ فارس بنِ مخزومِ بنِ صاهلةَ بنِ كاهلِ بنِ الحارث بنِ تميمِ بنِ سعدِ بنِ هذيلِ بنِ مُدْركةَ بنِ إلياسَ ابنِ مضرَ، الهذليُّ، حليفُ بني زُهْرَة. كان أبوه مسعودُ بنُ غافلٍ قد -حالفَ في الجاهلية- عَبْدَ الحارثِ بنَ زهرةَ. أمُّه: أمُّ عَبْدٍ بنتُ عَبْد ودِّ بنِ سواءَ بنِ هُذيل -أيضًا-. أسلم عبدُ الله بمكة قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وشهد ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 68)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 47)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 273)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 583)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 421)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 258)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 173)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 406)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" له أيضًا (3/ 254). (¬2) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (64/ 164).

بدرًا والمشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صاحب نَعْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يُلبسه إياها إذا قام، فإذا جلسَ، أدخلَها في ذراعه، وكان كثيرَ الولوج على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آذَنُكَ عَلَيَّ أن تَرْفَعَ الحِجَابَ، وتَسْمَعَ سوادي، حَتى أنْهاكَ" (¬1)، والسواد -بكسر السين-: السرار. روى الطبراني بإسناده إلى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَادِسَ ستةٍ، ما على الأرضِ مسلمٌ غيرُنا (¬2). وشهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة مع العشرة في حديث حسن، رواه أبو عمرَ بنُ عبد البر، في "استيعابه" بإسناده إلى سعيد بن زيد أحد العشرة، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حِراء، فذكرَ العشرةَ، وعبدَ الله بنَ مسعود (¬3)، وكان ممن صلى للقبلتين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رَضِيتُ لأُمَّتي ما رَضِيَ لها ابنُ أُمِّ عَبْدٍ، وسَخِطْتُ لأُمَّتي ما سَخِطَ لها ابنُ أمِّ عَبْدٍ" (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اهْدُوا هَدْيَ عَمَّارٍ، وتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابنِ أُمِّ عبدٍ" (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رِجْلُ -أَوْ رِجْلَا- عبدِ اللهِ في الميزانِ أَثقَلُ مِنْ أُحُدٍ" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2169)، كتاب: السلام، باب: جواز جعل الأذن رفع حجاب أو نحوه من العلامات. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8406)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (33880)، وابن حبان في "صحيحه" (7062)، والحاكم في "المستدرك" (5368)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 126)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 56). (¬3) رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 988)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 93). (¬4) رواه البزار في "مسنده" (1986)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (6879)، والحاكم في "المستدرك" (5387)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 120)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬5) رواه الترمذي (3805)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقال: حسن، والحاكم في "المستدرك" (4456)، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن حذيفة - رضي الله عنه -. (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 420)، والبزار في "مسنده" (1827)، والطبراني في=

وهو ممن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحد الأربعة الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخذ القرآن منهم: ابنُ أُمِّ عبد، ومُعاذٌ، وأُبَيٌّ، وسالمٌ مولى أبي حُذيفةَ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ" (¬1). وكان - رضي الله عنه - رجلًا قصيرًا نحيفًا يكاد طُوالُ الرجالِ يوازيه جلوسًا وهو قائم، وكان شعره يبلغُ شحمةَ أذنيه، وكان لا يغير شيبه، وقَتَل أبا جهلٍ يومَ بدر بسيفه، فنفَّله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إياه. وقال حذيفةُ وهو يحلف بالله: ما أعلمُ أحدًا أشبَه دلًّا وهَدْيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من حينِ يَخْرُجُ من بيته إلى أَنْ يرجعَ إليه، من عبدِ الله بنِ مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه من أقربهم وسيلةً إلى الله يوم القيامة (¬2). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إني لأعلمُهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، وما في كتاب الله سورةٌ، ولا آية، إلا وأنا أعلمُ فيما نزلت، ومتى نزلت (¬3)، ولم ينكر هذا القولَ عليه أحد. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثمان مئة حديثٍ وثمانية وأربعون حديثًا، اتفقا منه على: أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحدٍ وعشرين، ومسلمٌ بخمسةٍ وثلاثين. ¬

_ = "المعجم الكبير" (8452)، وابن حبان في "صحيحه" (7069)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 127)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 148)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 110)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬1) رواه ابن ماجه (138)، في المقدمة، باب: فضل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 7)، وابن حبان في "صحيحه" (7066)، وأبو يعلى في "مسنده" (5058)، وغيرهم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (5746)، كتاب: الأدب، باب: في الهدي الصالح، والطبراني في "المعجم الكبير" (8488)، وهذا لفظ الطبراني. (¬3) رواه البخاري (4714) و (4716)، كتاب: فضائل القرآن، باب: القراء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

روى عنه جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وأبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو موسى الأشعري، وعمرُو بنُ حُريث، وغيرُهم، ومن التابعين خلقٌ كثير، وروى له: أصحابُ السنن والمساند. ولما مات، قال أبو الدرداء: ما ترك بعده مثله. مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وثلاثين؛ ابنَ بضعٍ وستين سنةً، والأكثرون على: أنه مات بالمدينة، ودفن بالبقيع، وصلَّى عليه عثمان، وقيل: عمار، وقيل: الزبير؛ وكان آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الزبير، وكان أوصى إليه، وأوصى أن يدفن بجنب عثمان بن مظعون، وقيل: مات بالكوفة، والله أعلم (¬1). وأما قوله: "حَدَّثني صاحبُ هذهِ الدارِ -وأشارَ إلى دارِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ-": لا شك أنَّ الإشارةَ إلى الشيء قد تكون أبلغَ في التفهيم من التصريح باسمه، وذكره؛ لما فيه من نفي أنواع المجاز، وحينئذ يجوز للراوي التحديثُ من غير ذكر اسم المرويِّ عنه إذا كان السامعُ عارفًا به بإشارة، أو علمٍ سابق به يقع التمييز به من غير اشتباه. وقوله: "سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ العملِ أحبُّ إلى اللهِ؟ ": اعلم أن العبد مأمور بتنزيلِ الأشياء منازلَهَا، فيقدم الأفضلَ على الفاضل، فيعمل عليه، ويسأل عنه طلبًا للدرجة العليا، وتحريضًا على تأكيد القصد إليه، والمحافظة؛ فإن المخالفة في الشرع تقع بارتكاب المحرم، وترك الأفضل. ولا شكَّ أَنَّ العمل يطلق على: عمل القلب، والجوارح؛ والمراد في هذا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 150)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 208)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 124)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 987)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 147)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (33/ 54)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 381)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 121)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 461)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 233)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا =

الحديث: عمل البدن والجوارح؛ حيث وقع الجواب: بالصلاة على وقتها، وتكون النيةُ مطلوبةً فيه باللازم، لا بمراد الحديث، وفي أعمال القلوب: فاضلٌ، وأفضلُ؛ كالإيمان، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، فثبت أن الأعمال في الشرع يُرادُ بها عمل الجوارح والقلوب، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةُ على وَقْتِها": ليس فيه ما يقتضي الصلاة أول الوقت، أو آخره، وكأنَّ المقصودَ به: الاحترازُ عن إخراج الصلاة عن وقتها المشروع؛ لئلا تصيرَ قضاءً، لكِنَّه قد ثَبَتَ في بعض روايات هذا الحديث: "الصلاةُ لوقتها". وروى أبو داود في "سننه" من حديث أُمِّ فروةَ أختِ أبي بكرٍ الصديقِ لأبيه - رضي الله عنهما - قالت: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "الصلاةُ في أَوَّلِ وَقْتِها" ولم يتكلمْ عليه بشيء؛ فهو حسن عنده. وأخرجه الترمذي، وقال: حديث أم فروة لا يُروى إِلَّا من حديث عبد الله بن عمر العمريِّ، وليس بالقوي عند أهل الحديث، واضطربوا في هذا الحديث. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" من رواية ابن مسعود، قال: سَأَلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، بلفظِ حديثِ أم فروة. ورواه الحاكم في "مستدركه" كذلك من طريقين، ثم قال: فقد تقوى لفظه: "الصلاةُ في أَوَّلِ وقتِها" باتفاق الثبتين: بندارِ بنِ بشار، والحسنِ بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو، وهو صحيح، على شرط الشيخين، ولم يخْرِجَاه، وله شواهدُ في هذا الباب (¬1) -. فحينئذ؛ يُحمل حديث الكتاب، ويستدلُّ به على: تقدم الصلاة في أول ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (426)، كتاب: الصلاة، باب: في المحافظة على وقت الصلاة، والترمذي (170)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوقت الأول من الفضل، والحاكم في "المستدرك" (680)، عن أم فروة - رضي الله عنها -. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (327)، والحاكم في "المستدرك" (675)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

الوقت من لفظه ببيان رواية أبي داود، والترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، والله أعلم. واعلمْ أَنَّ الأحاديثَ قد اختلفت في أفضل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في الجمع بينها: أَنَّها أجوبةٌ مخصوصةٌ، لسائلٍ مخصوصٍ بالنسبة إلى حاله، أو وقته، أو بالنسبة إلى عموم ذلك الحال والوقت، أو بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم. ولو خُوطِبَ بذلك الشجاعُ الباسلُ المتأهلُ للنفعِ الأكبرِ في القتال لقيل له: الجهاد. ولو خُوطِبَ صاحبُ المالِ ذو الثروة، لقيل له: الصدقة. وهذا في حق جميع أحوال الناس، قد يكون الأفضلُ في حقِّ قوم، أو شخص، مخالفًا للأفضل في حق آخرين؛ بحسب المصلحة اللائقة بالوقت، أو الحال، أو الشخص. وقد تقدم -في هذا الحديث- بِرُّ الوالدبن على الجهاد، وهو دليل على تعظيم بِرِّهما، ولا شكَّ أنَّ أذاهما بغير موجب محرمٌ، وممنوع منه، وأما ما يجب من البر، ففي ضبطه إشكال، وكلام طويل. والجهادُ ينقسم إلى: فرضِ عينٍ، وفرضِ كفايةٍ؛ فالعينُ: مقدَّمٌ على حق الوالدين، والكفايةُ: لا يجوز إلا بإذنهما إذا تعطلت مصلحتُهما الواجبة به، وكل حق متعين وكفاية كذلك حكمه بالنسبة إليهما، والله أعلم. وبِرُّهما: الإحسانُ إليهما، وفعلُ الجميل معهما، وفعلُ ما يسرُّهما، ويدخل فيه: الإحسانُ إلى صديقِهما؛ كما ثبت في الصحيح: "إنَّ مِنْ أَبَرَّ البرَّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ" (¬1). قال أهلُ اللغة: يُقالُ: بَرِرْتُ والدي، أَبَرُّهُ -بكسر الراء في الماضي، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2552)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وبضمها مع فتح الباء في المضارع- برًّا، وأنا بَرٌّ به -بفتح الباء-، وبَارٌّ، وجمع البَر: الأبْرَار، وجمع البارَّ: البَرَرَةُ (¬1). وقد ذكر في حديث أبي هريرة: الأفضل الإيمان، ثم الجهاد، ثم الحج (¬2). وفي حديث أبي ذر: الإيمان، والجهاد (¬3). وفي حديث ابن مسعود هذا: الصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد؛ كما ترى. وفي حديث عبد الله بن عمرو: أيٌّ الإسلامِ خيرٌ؟ قال: "تُطعمُ الطعامَ، وتقرأُ السلامَ على من عَرَفْتَ، ومَنْ لم تعرفْ" (¬4). وفي حديث أبي موسى، وعبد الله بن عمرو: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال: "مَنْ سَلِمَ المسلمون مِنْ لِسَانِهِ، ويَدِهِ" (¬5). وصح في حديث عثمان - رضي الله عنه -: "خَيرُكم مَنْ تَعلَّمَ القُرْآنَ، وعلَّمَه" (¬6). وأمثالُ هذا في الصحيح كثيرةٌ، وقد ذكر الإمام الجليل أبو عبد الله الحليمي الشَّافعي، عن شيخه الإمام العلامة المتقن أبي بكر القفال الشَّاشي الكبير -وهو ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" (2/ 76)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 53). (¬2) رواه البخاري (26)، كتاب: الإيمان، باب: من قال: إن الإيمان هو العمل، ومسلم (83)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. (¬3) رواه البخاري (2382)، كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ ومسلم (84)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. (¬4) رواه البخاري (12)، كتاب: الإيمان، باب: إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم (39)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل. (¬5) رواه البخاري (11)، كتاب: الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل؟ ومسلم (42)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، عن أبي موسى - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (40)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (¬6) رواه البخاري (4739)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلّمه.

غير القفال الصغير المروزي المتكرر في كتب أصحاب الشَّافعي المتأخرين من الخراسانيين-، قال الحليمي: وكان القفال أعلمَ من لقيته من علماء عصره، إنه جمع بين هذه الأحاديث بوجهين: أحدهما: نحو ما ذكرناه أولًا، قال: فإنه قد يقال: خيرُ الأشياءِ كذا، ولا يراد أنه خير جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال، والأشخاص، بل في حال دون حال، ونحو ذلك. واستشهد في ذلك بأخبار منها: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "حِجَّةٌ لِمَنْ لم يحجَّ أفضلُ من أربعينَ غزوةً، وغزوةٌ لِمَنْ حَجَّ أفضلُ من أربعين حِجَّةً" (¬1). الوجه الثاني: أنه يجوز أن يكونَ المرادُ: من أفضل الأعمال كذا، أو: ومن خير هذا، أو: من خيركم من فعل كذا، فحذفت من، وهي مرادة؛ كما يقال: فلان أعقل الناس، وأفضلهم؛ ويراد أنه: من أعقلهم، وأفضلهم. ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ" (¬2)، ومعلوم أنه لا يصير بذلك خيرَ الناس مطلقًا، ومن ذلك قولهم: أَزْهَدُ النَّاس في عالم جيرانُه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهدُ منهم فيه، هذا كلام القفال. فعلى هذا الوجه: يكون الإيمانُ أفضلَها مطلقًا، والباقياتُ متساويات في كونها من أفضل الأعمال، أو الأحوال، ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل عليها، ويختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص. ولا شكَّ أنه جاء في بعض هذه الروايات: أفضلُها كذا، ثم كذا؛ بحرف "ثم"، وهي موضوعة للترتيب، وهي هنا: للترتيب في الذكر؛ كما قال الله ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (5/ 279) (مجمع الزوائد للهيثمي). (¬2) رواه الترمذي (3895)، كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: حسن غريب صحيح، وابن حبان في "صحيحه" (4177)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 468)، عن عائشة - رضي الله عنها -. وفي الباب: عن أبي هريرة، وابن عباس، ومعاوية، وغيرهم - رضي الله عهم-.

تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:12 - 16]. ومعلوم أنه ليس المراد الترتيب في الفعل؛ وكما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]، إلى قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154]، وكما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، ونظائر ذلك كثيرة، ومما أنشدوا فيه: قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدَّهُ وحكى القاضي عياض - رحمه الله - في الجمع بينهما وجهين: أحدهما: نحو الوجه الأول، قال: قيل: اختلف الجواب لاختلاف الأحوال، فأعلم كل قوم بما بهم حاجة إليه، أو بما لم يكملوه من دعائم الإسلام، ولا بلغهم علمه. والثاني: أنه قدم الجهاد على الحج في بعضها؛ لأنه كان أول الإسلام، ومحاربة أعدائه، والجد في إظهاره، وذكر بعضهم: أن "ثم" لا تقتضي ترتيبًا؛ وهو شاذ عند أهل العربية، والأصول، والمراد بالجهاد: الجهاد المتعين وقت الزحف؛ أي: النفير العام؛ فإنه متقدم على الحج؛ لما فيه من المصلحة العامة للمسلمين، والله أعلم (¬1). واعلم: أَنَّ العباداتِ على ضربين: منها: ما هو مقصود بنفسه. ومنها: ما هو وسيلة إلى غيره، وفضيلة الوسيلة بحسب مقصودها المتوصَّل إليه؛ فحيث يعظمُ [المقصود، تعظم] الوسيلة، فالجهاد وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخماد الكفر ودَحْضه؛ فعظمُ فضلهِ بفضل مقصوده؛ وهو الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 78).

الحديث الثاني

وقوله: "حَدَّثَني بِهِنَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولو استزَدْتُهُ، لزادَني": هو تأكيد لثبوت ما أخبر به من العلم؛ فإنه أخذه من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماعًا من لفظه دون واسطة، وهو أرفع درجات التحمل. ثم أخبر أَنَّه كان بمرتبة الفهم، ووعى ما سمع، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان منشرحًا لذلك، لو طلبت منه زيادة على ما حدثني، لحدثني، لكني كرهت التطويل عليه؛ لئلا يسأم مني. وفي الحديث: السؤالُ عن العلم، ومراتبه في الأفضلية. وفضلُ الصلاة في الوقت، وأن أوله أفضل، وأن الصلاة أفضلُ العمل. وفيه: فضلُ بر الوالدين، وأنه أفضلُ من الجهاد بشروطه. وفيه: فضلُ الجهاد. وفيه: تقديمُ الأهم فالأهم من الأعمال. وفيه: تنبيهُ الطالب على تحقيق العلم، وكيفية أخذه. وفيه: التنبيه على مرتبته عند الشيوخ وأهلِ الفضل؛ ليؤخذ علمه بقبول، وانشراح، وضبط، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الفَجْرَ، فَيشهدُ مَعه النِّسَاءُ مِنَ المؤمناتِ، متَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلى بُيُهوتهِنَّ لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ (¬1). قولها: "فيشهدُ معه النساء؛ من المؤمنات": ¬

_ (¬1) رواه البخاري (829)، كتاب: صفة الصلاة، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، ومسلم (645)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها.

يحتمل قولها: من المؤمنات؛ أنه بيان لنوع النساء اللاتي تحضرن الصلاة؛ لتخرج الكافرات. ويحتمل أنه بيان لوصفهن؛ لتخرج المنافقات، وهو الأقرب. وقولها: "مُتَلَفِّعاتٍ" -هو بالعين المهملة بعد الفاء-، ووقع في رواية في "الموطأ" و"صحيح مسلم": "متلفِّفات" (¬1) -بالفاءين-، ومعناهما متقارب؛ أي: متغطيات، أو ملتحفات، أو متجلِّلات، إلَّا أَنَّ التلفُّعَ لا يكون إلا مع تغطية الرأس. وقولها: "بمُرُوطهنَّ"؛ أي: بأكسيتهن، واحدُها: مِرْط -بكسر الميم-، والمرطُ: كساءٌ معلم؛ يكون من خَزٍّ، ومن صوف، ومن كتان، قاله الخليل. وقال ابن الأعرابي: هو الإزار، وقال النضر: لا يكون المرطُ إلا درعًا، وهو من خَزٍّ أخضرَ، ولا يسمى المرط إلا الأخضر، ولا يلبسه إلا النساء. وظاهر الحديث يصحِّح قول الخليل، وفي الحديث: مرط من شعرٍ أسود (¬2). وقولها: "من الغَلَس"؛ بيان لسبب عدم معرفتهن، ومعناه: ما يُعرفن أنساءٌ هنَّ، أم رجال؟ وقيل: ما تُعرف أعيانُهنَّ، وهذا ضعيف؛ فإن المتلفعة في النهار -أيضًا- لا تُعرف عينُها، فلا يبقى في الكلام فائدة. والغلس -ذكره المصنف-: اختلاطُ ضياء الصبح بظلمة الليل. والغبش -بالباء والشين المعجمة- قيل: الغبس -بالسين المهملة- وبعد ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطا" (1/ 5)، ومسلم (645) (1/ 446)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 377)، و "شرح صحيح مسلم" للنووي (14/ 57). والعبارة هنا فيها سقط. والذي في "مشارق الأنوار" و "شرح مسلم"، وعنهما نقل المؤلف هذا النص: "وظاهر الحديث يصحح ما قال الخليل وغيره أنه كساء، وفي الحديث الصحيح: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرط مرحَّل من شعر أسود" ا. هـ.

الغلس -باللام-، وهي كلها: في آخر الليل، ويكون الغبس: في أول الليل. وقولها: "يصلِّي الفجرَ"؛ يقال: صلَّى الفَجر، وصلَّى الصبحَ، وصلَّى الغَدَاةَ؛ أي: صلَّى صلاةَ كذا، على حذف المضاف، ولا كراهة في ذلك، فكله ثابت في الصحيح. وكره بعضهم صلاةَ الغداةِ، وهو مرجوحٌ ضعيف. لكن قال الشَّافعيُّ: سماها الله الفجرَ، وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبحَ؛ فلا أحب أن تسمى بغيرهما (¬1). وفي هذا الحديث: دليل على: استحباب التبكير بصلاة الصبح، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور، وقال أبو حنيفة: الإسفار أفضل. وجه الدلالة للجمهور: أَنَّ الغلسَ لا يكون إلا مع الظلمة، مع ما ثبت من طول قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصبح، حتى إنه كان يقرأ ما بين الستين إلى السبعين مع الترتيل والتدبر. واستدل أبو حنيفة بحديث ضعيف: "أسفروا بالفجرِ؛ فإنَّه أعظمُ للأجرِ" (¬2). وتأوله الجمهور -على تقدير ثبوته- على التبكير بالصلاة، لا على غلبة الضياء وظهوره؛ جمعًا بين فعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله، والله أعلم. وفيه دليل على: جواز حضور النساء الجماعة بالمسجد مع الرجال، وهو مقيد بما إذا أمنت المفاسد؛ من الافتتان، وغيره، إما عليهنَّ، أو بهنَّ. وليس في الحديث ما يدل على كونهنَّ عجزًا، أو شَوابَّ، وقد كره بعضهم ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 74). (¬2) رواه أبو داود (424)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت الصبح، والنسائي (548)، كتاب: المواقيت، باب: الإسفار، والترمذي (154)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإسفار بالفجر، وابن ماجه (672)، كتاب: الصلاة، باب: وقت صلاة الفجر، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - بلفظ: "أسفروا بالفجر" وبلفظ: "أَصْبِحوا بالصبح".

الحديث الثالث

للشوابِّ ذلك، والذي ينبغي في هذه الأزمان: المنعُ مطلقًا، إلَّا أَنْ يكنَّ عالماتٍ عاملاتٍ، لا يُفْتَن بهنَّ، ولا يَفْتِنَّ غيرَهنَّ بصورة، أو حالة، أو فعل، أو قول، والله أعلم. ولا شك أَنَّ صلاةَ المرأةِ في بيتها أفضلُ من المسجد مطلقًا، وفي مخدع بيتها أفضلُ من بيتها مطلقًا؛ لحديث ثبت في ذلك، والله أعلم. وفيه دليل على: استقرار المرأة في بيتها مطلقًا؛ لحديث ثبت في ذلك، وألَّا تخرجَ منه إلا لمصلحةٍ شرعيةٍ، وأن ترجع إليه بعدَ فراغها منها، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن جَابِرِ بنِ عبدِ الله - رضي اللهُ عنهما - قال: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بالهَاجِرَةِ، والعَصْرَ والشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، والمَغْرِبَ إذا وَجَبَتْ، والعِشَاءَ أَحْيانًا وأحيانًا؛ إذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وإذا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ، والصُّبْحُ كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ (¬1). أما جابر: فتقدم. وأما ألفاظه: فالظهر: مشتقة من الظهور؛ لأنها ظاهرة وسط النهار. والهاجرة: نصف النهار، قال الخليل: والهجر، الهجير، والهاجرة: نصف النهار، وأهجر القوم، وهَجَّروا: ساروا في الهاجرة، وقال غيره: هي شدة الحر. والمراد هنا: نصف النهار بعد الزوال. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (535)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت المغرب، ومسلم (646)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها.

قيل: سميت هاجرة من الهجر؛ وهو الترك؛ لأن الناس يتركون التصرف حيئنذ لشدة الحر، ويقيلون (¬1). والعصر: أصله الزمان، والمراد به هنا: طَرَفُه، ومنه قيل لصلاة الصبح، وصلاة العَصْر: العصران، ويقال للعصرين: الغداة، والعشي. وجاء في الحديث: "حافظ على العَصْرَين"، قيلَ: وما العصرانِ؟ قال: "صلاةٌ قبلَ طلوعِ الشمسِ، وقبلَ غُروبها" (¬2)، سماهما العصرين؛ لأنهما يقعان في طرفي العصرين؛ وهما: الليل، والنهار، والأشبه: أنه غَلَّبَ أحدَ الاسمين على الآخر؛ كالعُمَرين: لأبي بكر وعمر، والقَمَرين للشمس والقمر. وقوله: "والشمسُ حَيَّةَ"؛ حياتها: صفاءُ لونها قبل أن تصفرَّ، أو تتغير، وهو مثل قوله: "بيضاءُ نقيَّة"، وقيل: حياتها: وجودُ حرها. وقوله: "والمغربَ إذا وَجَبَتْ"؛ أي: الشمسُ سقطتْ للغروب، والمراد: سقوطُ قُرْصها، ويستدلُّ عليه بطلوع الليل من المشرق، وهو الوقت الذي يفطر فيه الصائم. وتقدم الغلس في الحديث قبله. وأما أحكامه: ففيه دليل على: أوقات الصلاة، وأن أفضلها أولُها، إلا العشاءَ؛ فإن الأفضلَ تأخيرُها لانتظار كثرة الجماعة؛ لهذا الحديث، لكنْ للعلماء قولان؛ في أن الأفضل: ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 265)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 245)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 288). (¬2) رواه أبو داود (428)، كتاب: الصلاة، باب: في المحافظة على وقت الصلوات، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (939)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 319)، والحاكم في "المستدرك" (51)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 466)، عن فضالة -رضي الله عنه-.

تقديمها: كالصلوات؛ سواء رجاء زيادة الجماعة، أم لا. أم تأخيرها: إلى ثلث الليل، أو نصفِه؛ لأجل مجرد التأخير لقصد ذلك الوقت. وعلى هذا اختلفوا: هل يختلف ذلك باختلاف الأزمنة؛ من الصيف لقصر الليل، فيكون التقديم أفضل، أو الشتاء لطوله، فيكون التأخير أفضل؟ وذهب بعض العلماء؛ إلى أَنَّ تأخير الصلوات إلى آخر الوقت أفضل، إلَّا الصبح يومَ النحر بالمزدلفة؛ فإنه يصليها بغلس. أما الظهر: فتقديمها أفضل؛ لكونه صلاها في الهاجرة؛ وهي شدة الحر وقوته، لكنه معارض بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: "إذا اشتدَّ الحرُّ، فَأَبْرِدوا" (¬1). ويمكن الجمع بينهما: بأَنْ يكونَ أطلق اسمَ الهاجرة على الوقت الذي بعدَ الزوال مطلقًا؛ فإنه قد يكون فيه الهاجرة في وقت، فيُطلق على جميع الوقت بطريق الملازمة، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد؛ وفيه بعد. وقد نقل صاحب "العين" (¬2): أن الهجير، والهاجرة: نصفُ النهار، فإن كان مرادُ الحديث هذا؛ كان معناه مطلقًا على الوقت. وقد اختلف الفقهاء من أصحاب الشَّافعيِّ، وغيرهم: أن الإبراد رخصة، أو عزيمة؛ بمعنى: أنه سنة، وفيه وجهان لأصحاب الشَّافعيِّ: أصحهما: أنه عزيمة بشروط. والثاني: أنه أمر إباحة، فيكون تعجيلُها في الهاجرة أخذًا بالأشَقِّ، فيكون التهجير لبيان الجواز، على قول من يرى الإبرادَ سُنَّةً، وفيه بعد؛ لأن قولَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (512)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم (615)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "العين" للخليل (3/ 387).

الراوي: كان، يشعر بالكثرة، والملازمة عرفًا، فلا يكون لبيان الجواز. وأما العصر: فتعجيلُها أفضل؛ لقوله: "والعصرَ والشمسُ نقيةٌ" خلافًا لمن قال: إن أول وقتها ما بعد القامتين، ولا شك أن للعصر خمسة أوقات: وقت فضيلة: وهو أول وقتها. ووقت اختيار: وهو إلى أن يصير ظلُّ الشيء مثليه. ووقت جواز: وهو إلى إصفرار الشمس. ووقت جواز مع الكراهة: وهو حالة الإصفرار إلى الغروب. ووقت عذر: وهو في حق من يجمع بين العصر والظهر بسفر، أو مطر. ويكون العصر في هذه الأوقات أداء، فإذا كانت كلها بغروب الشمس، كانت قضاء. وأما المغرب: فيدخل وقتها بسقوط قرص الشمس، ويختلف ذلك بالأماكن: فما كان منها حائلًا بين الرائي، وبين قرصها: لم يكتف بغيبوبته عن العين؛ بل لا بد من رؤية طلوع الليل من المشرق، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا غربت الشمسُ من هاهنا، وطلعَ الليلُ من هاهنا، فقد أفطرَ الصائمُ" (¬1). وإن لم يكن حائل: فقد قال بعض المالكية: يدخل وقتها بغيبوبة الشمس، وشعاعها المستولي عليها، ولا وقتَ لها إلا واحد، وهو بمقدار ما يتوضأ، ويستر العورة، ويؤذن ويقيم، وثلاث ركعات، وسنتها، وهو أحد قولي الشافعي المشهور في مذهبه، وله استدامتها إلى غيبوبة الشفق، أما ابتداؤها أداء؛ فلا يجوز بعد ذلك، بل يكون قضاء. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1853)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؛ ومسلم (1100)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

والقول الثاني: أَنَّ وقتَها يمتد إلى الشفق، وله فعلُها أداء في كل ذلك الوقت، وهو الصحيح المختار عند المحققين من المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الشافعي المحدثين، وغيرهم، ولا يأثم بذلك. وصلاة المغرب في حديث جبريل في اليومين في وقت واحد؛ كان متقدمًا بمكة، وامتدادُ وقتها إلى غروب الشفق متأخرًا بالمدينة، وأحاديثها أصحُّ إسنادًا، فوجب تقديُمها، والعملُ بها. أو يكون فعلها في حديث جبريل - عليه السلام - بيانًا للأفضل، أو الاختيار، ولم يستوعب وقت الجواز، وذلك جارٍ في أكثر الصلوات، والله أعلم. وفي قوله: "في العِشاء أَحْيانًا" دليلٌ على أنّ تأخير الصلاة؛ لانتظار الجماعةِ أفضل، وقد تقدم ذكرُ ذلك بالنسبة إلى العشاء، لكنَّ المسألةَ ذكرها العلماء بالنسبة إلى جميع الصلوات التي لم يتضيق وقتها: أن فعلَها في أول الوقت مع الجماعة أفضلُ، فلو تعارضَ الانفرادُ، أو الوقتُ، أو التأخيرُ مع الجماعة، فوجهان: الصحيح المختار: أن التأخير للجماعة أفضلُ؛ لهذا الحديث. ولأن التشديد في ترك الجماعة مع إمكان التقديم، والترغيب في فعلها موجودٌ في الأحاديث الصحيحة، وفضيلةُ الصلاة في أول الوقت وردَ على وجه الترغيب في الفضيلة. وأما جانب التشديد في التأخير عن أول الوقت، فلم يَرِدْ كما ورد في صلاة الجماعة، وكلُّ ذلك دليل على رجحان الصلاة في الجماعة. نعم إذا صح لفظ: "الصلاةُ في أولِ الوقتِ أفضلُ" (¬1) كان دليلًا دلالة ظاهرة على خلاف ما ذكرنا من أن التأخير للجماعة أفضل، وقد تقدم ذكرنا لصحته في الحديث الأول من هذا الباب، وإن كان حديث الباب ليس فيه دليل على الصلاة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث الرابع

في أول الوقت؛ لأن لفظه: "الصلاةُ على وقتها" و"الصلاةُ لوقتها"، وليس فيهما دليل لأفضلية الصلاة في أول الوقت، والله أعلم. وأما الصبح: ففعلها في أول الوقت أفضلُ، وحديث: "أَسْفِروا بالفجر؛ فإنَّه أعظمُ للأجر" (¬1) -بتقدير ثبوته- لا يُعَدُّ معارضًا لأحاديث التبكير بها، مع أنه حمله على التبكير بالصبح، ويكون المراد بالإسفار: تيقنُ طلوعِ الفجر، ووضوحه، لا غلبة الضياء الظلمة. وهو بعيد من حيث إن فعلها فعل تيقن طلوعه لا يجوز، فلا آخر فيه، ولفظةُ أفعل: تقتضي المشاركة في الأجر بقوله: "أعظم" مع رجحان أحد الطرفين حقيقة، وقد يرد أفعلُ التفضيل من غير اشتراك، وهو قليل، لكنه على وجه المجاز، فيُحمل الحديثُ عليه، ويرجح، وإن كان تأويلًا بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تقديمها مغلِّسًا. * * * الحديث الرابع عن أبي المِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلامَةَ، قالَ: دَخَلْتُ أَنا وأَبِي عَلَى أَبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي المَكْتُوبَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ التي تَدْعُونَهَا الأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصَلِّي العَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنا إلَى رَحْلِهِ في أَقْصَى المَدِينَة؛ والشَّمْسُ حَيَّةٌ، ونَسِيتُ ما قَالَ في المَغْرِبِ، وكان يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ العِشَاء الَّتي تَدْعُونَها العَتْمَةَ، وكان يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، والحَدِيثَ بَعْدَهَا، وكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَة الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتينَ إلى المِئَة (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (522)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر، ومسلم (461)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح والمغرب، وهذا لفظ البخاري.

وأما سيَّار: فهو -بتقديم السين على الياء المشددة-، وقد يشتبه بيسار -بتقديم الياء على السين-. وهو تابعيٌّ بصريٌّ رياحيٌّ، من بني رِياح -بكسر الراء، والياء المثناة- ابنِ يربوعِ بنِ حنظلةَ. روى عنه: جماعة من التابعين، وغيرهم، وثَّقه ابنُ معين، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، روى له: البخاري، ومسلم. مات سنة تسعٍ وعشرين ومئة، ذكر وفاته وتبعيته ابن حِبَّان في "ثقاته" (¬1). وأما أبو بَرْزَة: فهو -بفتح الباء الموحدة، وسكون الراء، وفتح الزاي، ثم الهاء الملفوظ بها تاء، في الوصل-، وقد يشتبه بأبي بُرْدَة صورة لا لفظًا -بضم الموحدة، وبالدال المهملة-. ولهم في الأسماء: بُرْزة مثل الأول، إلا أنه بضم الباء؛ جد شيخ دمشقي، سمع من ابن ماكولا، اسمه: عبد الجبار بن عبد الله بن برزة أردسقاني، مولده سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة بالرَّي. واسم أبي برزة: نَضْلةُ بنُ عبيد -بفتح النون، وسكون الضاد-، هذا المشهور في اسمه، واسم أبيه، وقيل عكسه: عبيد بن نضلة، وقيل: نضلة بن عبد الله. وحكى الحاكم أبو عبد الله في "التاريخ" عكسه: عبد الله بن نضلة، وقال: وقيل: كان اسمه نضلة بن نيار؛ فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله، وقال: "نيار شيطان". ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 160)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 254)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 335)، و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 323)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 255)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 2715).

أسلم قديمًا، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة. رُويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستةٌ وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم: على حديثين، وانفرد البخاري: بحديثين، ومسلم: بأربعة. روى عنه جماعة من التابعين، وروى له أصحاب السنن والمساند. نزل البصرة، وغزا خراسان، وعاد إليها، واختلف في تاريخ وفاته، فالذي عليه الأكثر: أنه مات سنة ستين قبل موت معاوية، وقيل: سنة أربع وستين، واختلف في مكان وفاته؛ فالمشهور: بالبصرة، وقيل: بخراسان، وقيل: بنيسابور، وقيل: في مفازة بين سجستان وهَراة. وأما نسبته: الأسلميُّ، فإلى جد من أجداده اسمه أسلم. واسم جد أبي برزة: الحارثُ بن حبال بن أنس بن جَزِيمة -بفتح الجيم، وكسر الزاي- بنِ مالك بنِ سلامان بن أسلمَ بنِ أَفْصى -بالفاء- بن حارثة، والله أعلم (¬1). وأما الهجير: فهو اسم من أسماء الظهر. ويسمَّى: الأُولى؛ كما ذكر في الحديث، سميت أولى؛ لأنها أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخمس المكتوبة في إمامة جبريل - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الصحيح. وتسميتها الهجير؛ لكونها تصلى -غالبًا- في وقت الهجير، والهاجرة؛ وهو شدَّة الحر وقوَّته كما تقدَّم، فتكون تسميتها به من باب حذف المضاف، وإقامة ¬

_ (¬1) وانظر ترجمة أبي برزة في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 9)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 118)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 499)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 419)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 32)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1495)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 182)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 83)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 305)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 407)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 40)، و"الإصابة في تميز الصحابة" لابن حجر (6/ 433)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 399).

المضاف إليه مقامه، تقديره: كان يصلي صلاة الهجير، ولا شك أن "كان" تقتضي الدوام -عرفًا-، وتشعر بالتكرار كما يقال: كان فلان يكرم الضيف، ويقاتل العدو: إذا كان ذلك دأبه وعادته. والألف واللام في "المكتوبة"؛ للاستغراق، ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها؛ لأنه فهم من السائل العموم. وقوله: "حِينَ تَدْحَضُ الشَّمسُ"؛ أي: تزول وتدحضُ -بفتح التاء، والحاء- يقال: دَحَضَتِ الشَّمسُ، تدحض: إذا زالت، وظاهر اللفظ يقتضي: وقوعَ صلاته - صلى الله عليه وسلم - للظهر عند الزوال؛ فلا بدَّ من تأويله. وقد يتمسك به مَنْ يقول من أصحاب الشَّافعيِّ: إنَّ فضيلَة أول الوقت إنما تحصل بأن تقع شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت، وتكون الصلاة واقعة في أوله؛ بهذا الحديث، وهو ضعيف؛ إذ لا يمكن وقوع جميع الصلاة حين الزوال؛ لتعذره [ولانضاف أول جزء من الصلاة على أول جزء من الوقت عند الزوال لعسره] (¬1). ولهذا كان الصحيح في المذهب: أنه إذا اشتغل عقب دخول الوقت بأسباب الصلاة، وسعى إلى المسجد، وانتظر الجماعة، ولم يشتغل إلا بما يتعلق بالصلاة؛ كان مدركًا للفضيلة أولَ الوقت، ويشهد له فعل السلف، والخلف، ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يُشدد في إدراك فضيلة أول الوقت هذا التشديد العسر. ومنهم من قال: تمتدُّ فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار؛ فإن النصفَ السابقَ من الشيء يُطلق عليه: أولُ بالنسبة إلى المتأخر. وقوله: "والشَّمسُ حَيَّةٌ" فهو مجاز عن نقاء بياضها، وعدم مخالطة الصفرة لها، وتقدم في الحديث قبله. وقوله: "وكانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ العِشاءِ"، لفظة "من" هنا: للتبعيض الذي حقيقته راجعة إلى الوقت، أو الفعل المتعلق بالوقت. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

وقوله: "الَّتي يَدْعونَها العَتْمَةَ" هو إشارة إلى اختيار تسميتها بالعشاء؛ لموافقة الكتاب العزيز في قوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]. وقد ثبت النهي عن تسميتها بالعتمة، وثبت في "الصحيح" تسميتها بالعتمة، في قوله: "ولو يعلَمونَ ما في النداء والعَتْمَةِ" (¬1)، وثبت النهي: "لا تغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرابُ عَلى تَسْمِيَتِها العِشاءَ، يَقُولونَ: العَتْمَةَ" (¬2). فلعل تسميتها بها؛ لبيان الجواز، أو لعل المكروه: أن يغلب عليها اسم العتمة؛ بحيث يكون اسم العشاء لها مهجورًا، أو كالمهجور، وقد أباح تسمية العشاء بالعتمة: أبو بكر، وابن عباس -رضي الله عنهم-. والمعنى في النهي عن تسميتها بالعتمة؛ تنزيهًا لهذه الصلاة الشريفة الدينية، وأن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية؛ وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت، ويسمونها العتمةَ؛ ويشهدُ لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّها تُعْتِمُ بِحِلابِ الإِبِلِ" (¬3). والمقصود من النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْلبنكم الأعرابُ على اسمِ صلاتكم العشاء" في "صحيح مسلم" (¬4). و"لا تَغلبنكم الأعرابُ على اسم صلاتكم المغرب"، في "صحيح البخاري" (¬5)؛ لأنهم كانوا يطلقون العشاء على المغرب. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (590)، كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان، ومسلم (437)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن ماجه (705)، كتاب: الصلاة، باب: النهي أن يقال: صلاة العتمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وانظر: تخريج الحديث الآتي عند مسلم. (¬3) انظر: تخريج الحديث الآتي. (¬4) رواه مسلم (644)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: وقت العشاء وتأخيرها، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله العشاءُ، وإنها تعتم بحلاب الإبل". (¬5) رواه البخاري (538)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من كره أن يقال للمغرب: العشاء، عن عبد الله المزني - رضي الله عنه -.

ألا تتبع الأعراب في تسميتهم هاتين الصلاتين بذلك؛ لأنهم لم يقيدوا بتسميتها، لا بما جاء في كتاب الله تعالى، ولا بما جاء في السنة كما ثبت في حديث جبريل - عليه السلام -، وغيره تسميتها بالمغرب، والله أعلم. وقوله: "وكان يَكْرَهُ النَّوْمَ قبلَها"؛ لأنه قد يكون سببًا لنسيانها، أو تأخيرها عن وقتها المختار، وغيره. وقد كرهه: عمر، وابنه، وابن عباس، وغيرهم من السلف، وبه قال مالك، وأصحاب الشَّافعيِّ. وقال الطحاوي: يُرَخَّصُ فيهِ بشرط: أن يكون معه من يوقظه، وروي عن ابن عمر: مثلُه، والله أعلم (¬1). وقوله: "والحديثَ بعدَها"؛ لأنه قد يقع فيه من اللغو واللغط ما لا ينبغي ختمُ اليقظةِ به، ولهذا شرع من الذكر عند النوم ما لا يشرع في غيره من الحالات. وهذا إذا كان الحديث لا يتعلق بمصلحة شرعية؛ كالحديث في مصالح المسلمين، ومع الضيفان، ومؤانسة الضعفاء، والإخوان، ومذاكرة العلم، وقد بوب البخاري عليه: "باب: السمر بالعلم" (¬2)، وكذلك الحديث فيما تدعو إليه حاجة الناس، وقد صح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدث أصحابه بعد العشاء (¬3). ثم المراد بكراهة الحديث بعد العشاء: بعدَ فعلها، لا بعدَ دخولِ وقتها، واتفق العلماء على كراهته، إلا ما كان في خير. وقد تكون الحكمة في كراهة الحديث بعدها: ما جعله الله من كون الليل ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 329). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 55). (¬3) وقد روى البخاري (116)، كتاب: العلم، باب: السمر في العلم، ومسلم (2537)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأتي مئة سنة .. "، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد".

سكنًا ليسكن فيه، فإذا نحدث فيه، فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله التي أجرى عليها وجوده. وقيل: الحكمة فيه إراحةُ الكتبةِ، ولهذا كان بعض السلف يقول لأصحابه إذا أرادوا الحديث بعدها: أَريحوا الكتبةَ، والله أعلم. وقوله: "وكَانَ يَنْفَتِلُ من صَلاَةِ الغَداةِ حيَن يَعْرِفُ الرَّجُل جَلِيسَه"؛ تقدم أنه يقال لصلاة الصبح: صلاة الغداة، بلا كراهة، ونقل عن بعض السلف: كراهته، وهذا الحديث يرد عليه. ومعرفة الرجل جليسَه حين يسلم: هو نظره إلى وجهه، ولهذا قال في رواية في "صحيح مسلم": وكان ينصرف حين يعرف بعضُنا وجهَ بعض (¬1)، وهذا كله ظاهر في شدة التبكير. وليس فيه مخالفةٌ لقوله في النساء في الحديث الثاني: "ما يعرفهن أحدٌ من الغَلَس" (¬2)؛ لأن هذا إخبارٌ عن رؤية جليسه، وذاك إخبار عن رؤية النساء عن بُعد، وقد تقدم أن الغلسَ قبل الغَبَش، فيمكن رؤيةُ الجليسِ مع الغبش في أوله، ولا يمكن مع الغلس. وأما انفتاله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون مراد الراوي به: السلام؛ أي: انفتل بوجهه للسلام، ويحتمل أن مراده: انفتل بجميع بدنه، وأقبل على المأمومين، ولا شك أن كِلاَ الأمرين جائز، لكن اختلف العلماء أيهما أفضل؟ فَذهب الشَّافعيُّ، ومن وافقه، وتبعه: إلى أَنَّ بقاءَه مستقبلَ القبلة إن لم يرد الانصراف أفضلُ، خصوصًا إن جلس للذكر، والدعاء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ المجالسِ ما اسْتُقْبِلَ به القبلةُ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (647)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (2/ 35)، والديلمي في "مسند الفردوس" (2901)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 29)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

ولحثِّه - صلى الله عليه وسلم - على نوع من الذكر بعدَ الصبح وهو ثانٍ رجلَيه على هيئة الجلوس في الصلاة قبل أن يقوم، ولأنه أجمعُ للقلب، وأبعدُ عن شغله. فيكون انفتالهُ - صلى الله عليه وسلم - أحدَ الاحتمالين؛ لبيان الجواز، أو محمولًا على حالة دعت إليه مصلحتها متعدية عامة. وذهب أحمد بن حنبل، ومن وافقه: إلى أن انفتال الإمام إلى المأمومين بجميع بدنه عقب السلام أفضل، واستدل بأحاديث أخرى قال فيها: فلما سَلَّمَ، انْفتلَ، وأَقَبلَ على جُلَسَائِه. والذي يقتضيه الجمعُ بين الأدلة أنه إن كانت المصلحة الشرعية في الاستقبال أكثر، كان أفضل، [وإن كانت في الانفتال إلى المأمومين أكثرَ، كانَ أفضلَ] (¬1)، والله أعلم. وقوله: "وكانَ يقرأ بالستينَ إلى المئةِ"؛ معناه: يقرأ قراءة مرتلة بالستين من الآيات إلى المئة منها، وفي ذلك مبالغة في التقديم في أول الوقت، والتطويل، لا سيما مع ترتيل قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس هذا الحكم خاصًّا به - صلى الله عليه وسلم -، وبصحابته الذين كانوا يصلون وراءه، بل هو عام في جميع أمته، إمامُهم، ومأمومُهم، ومنفردُهم، إذا لم يكن عذر من مرض، أو كبر، أو ضعف، أو حاجة، أو صغر. ولهذا ثبت في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فإن منهم الكبيرَ، والضعيفَ، وذا الحاجةِ" (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِني أَدْخلُ في الصلاة، وإني أُريدُ إطالَتَها، فَأسمعُ بكاءَ الصَّبِيِّ، فَأتَجَوَّزُ في صَلاتي كراهيةَ أَنْ أَشُقَّ على أُمه" (¬3). وأحكام الحديث معلومة من شرحه، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش". (¬2) رواه البخاري (671)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، ومسلم (467)، كاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (678)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من اختصر الصلاة عند بكاء الصبي، =

الحديث الخامس

الحديث الخامس عن عَلِيٍّ - رضي الله عنه -: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يومَ الخَنْدَقِ: "مَلأ اللهُ قُبُورَهُمْ وبيوتَهُمُ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصلاةِ الوُسْطَى حَتى غَابَتِ الشمْسُ" (¬1). وفي لفظ لمسلم: "شَغَلُونَا عنِ الصلاةِ الوُسْطَى؛ صَلاَةِ العَصْرِ"، ثُمَّ صَلاهَا بينَ المَغْرب والعِشَاء (¬2). وله: عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، قَالَ: حَبَس المُشرِكُون رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صَلاَةِ العَصْرِ؛ حتى احْمَرَّتِ الشمسُ، أوِ اصْفَرتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "شَغلُوَنا عَنِ الصلاَةِ الوُسْطَى؛ صَلاَةِ العَصْرِ، مَلأ اللهُ أَجْوَافَهُمْ وقُبُورَهُم نَارًا، أو: حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُم وقبورَهُم نَارًا" (¬3). أما علي، وابنُ مسعود، فتقدم ذكرُهما. وأمَّا يوم الخندق: فكان في شوال سنة خمس من الهجرة، وقيل: أربع، وهو يوم الأحزاب، وكان الذي أشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق سلمان، وهو أول غزوة غزاها سلمان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخندَقَ على المدينة فيها، بين المدام إلى ناحية رائح، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَلْعًا وراءَ ظهره، والخندقَ بينه وبين القوم، والله أعلم. [أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا"، في رواية علي]، (¬4)، وفي ¬

_ = ومسلم (470)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬1) رواه البخاري (6033)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، ومسلم (627)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر. (¬2) رواه مسلم (627) (1/ 437)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر. (¬3) رواه مسلم (628)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر. (¬4) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

رواية ابن مسعود: "مَلأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا، أو: حَشَا اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نَارًا"، فقد يُستدلُّ بالحديثِ الثاني من رواية ابن مسعود: على منع الرواية بالمعنى؛ حيث تردد بين اللفظيين: ملأَ، وحشا، ولم يقتصر على أحدهما، مع تقاربهما في المعنى، لكن بينهما تفاوتًا، فإن قوله: "حَشَا الله"؛ يقتضي: التراكمَ، وكثرةَ أجزاء المحشو ما لا يقتضيه: ملأ. وقد قيل: إن شرطَ الرواية بالمعنى: أن يكون اللفظان مترادفين، لا ينقص أحدُهما عن الآخر، لكن الأولى الروايةُ باللفظ، وإن جَوَّزْنا الرواية بالمعنى؛ فلعل ابنَ مسعود قصدَ الأفضلَ الأولى متحريًا له. وقوله: "ثُمَّ صَلَّاهَا بينَ المَغْرِبِ والعِشَاء"؛ فيه كلامان: أحدهما: أن تأخيره للعصر، وإخراجها عن وقتها، هل كان عمدًا أو سهوًا؟ فيه احتمالان: فمن قال: عمدًا؛ جعل شغل العدو لهم عذرًا في تأخيرها عن وقتها، وقال: كان هذا قبل نزول صلاة الخوف، وأما بعد نزولها، وإلى الآن؛ فلا يجوز تأخيرها، بل تُصلى على حسب حالة شدة الخوف على ما هو معروف من أنواعها عند العلماء. ثم الذي وقع في "الصحيحين": أَن المؤخرَ صلاةُ العصرِ، وظاهرُه أنَّه لم يفتْ غيرُها. وفي "الموطأ": أنها صلاةُ الظهرِ، والعصرِ (¬1). وفي غيره: أَنَّه أَخَّرَ أَربعَ صلواتٍ: الظهرَ، والعصرَ، والمغربَ، والعشاء، حتى ذهب هُوِيٌّ من الليل. وطريق الجمع بين هذه الروايات: أن وقعة الخندق بقيت أيامًا، فكان هذا في بعض الأيام، وهذا في بعضها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 185).

الكلام الثاني: هل صلاتُه - صلى الله عليه وسلم - لها بين وقت المغرب والعشاء، أم بين فعلِهما؟ فإن قلنا: بينَ وقتهما؛ لزمَه منهُ الترتيبُ في الفوائت، وفيه مذاهب للعلماء، أوجبه بعضهم، مع اتفاقهم على استحبابه. وإن قلنا: بينَ فعلِهما؛ لزم منه أن تكون العصر الفائتة بعدَ صلاة المغرب الحاضرة، وذلك لا يراه من يوجب الترتيبَ، وفي ذلك احتمالان، لكن يحتاج أحدهما إلى مرجح، إما لوجوب الترتيب في الفوائت، أو لاستحبابه. وقد ورد في "صحيح مسلم": أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأَ بالعصرِ، ثُم صَلَّى المغربَ (¬1)، فتَرَجَّحَ أنه صَلى العصرَ بين وقتِهما، لا بينَ فعلِهما: إما وجوبًا، وإما استحبابًا. أما تحتُّمُ الوجوب، فلا، وحديثُ: "لا صَلاَةَ لِمَنْ عليهِ صلاةٌ" (¬2) ضعيفٌ، ولو صحَّ، لحمل على: نفي الكمال، لا الصحة، ولا نقول: إنَّ الأصلَ أَنْ يحكيَ القضاءُ الأداءَ، وفعله - صلى الله عليه وسلم - يعين الوجوب فيه؛ لمعارضة أن الأصل عدمُ الوجوب فيه، والله أعلم. وقولُه في حديثِ ابنِ مسعودٍ: "حَبَسَ المشركونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاةِ العَصْرِ، حَتى احْمَرَّتِ الشمْس، أَوِ اصْفَرَّتْ": اعلم أَن اصْفِرَارَ الشمس، واحمرارَها: وقتُ كراهةِ الصلاةِ، ومعلومٌ أَن وقتَ الفضيلةِ، والاختيار، والجواز بلا كراهة: قبلَه. فيكون فعلُها عندَ اصفرارها في وقت الكراهة، لكنَّه كان قبلَ نزول قوله تعالى: {فإن خِفْتُم فرجالًا أَو رُكبَانًا} [البقرة: 239]؛ لأنه لو كانت نزلت، لأُقيمت في حال الخوف. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) ذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 439) بسنده إلى إبراهيم الحربي قال: قيل لأحمد: ما معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن عليه صلاة"؛ فقال: لا أعرف هذه البتة. قال إبراهيم: ولا سمعت أنا بهذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ.

وظاهره يوهم مخالفةَ الحديث قبلَه، وفعلها بين المغرب والعشاء، وليس كذلك، بل حبسُ المشركين إياه انتهى إلى اصفرار الشمس، ولم يقع فعلُها إلا بعد المغرب؛ لاشتغاله - صلى الله عليه وسلم - ناسيًا لها، أو غيرِها؛ مما اقتضى جوازَ تأخيرها إذ ذاك، والله أعلم. وأما أحكام الحديث: ففيه دليل على: جوازِ الدعاءِ على الكفار بمثل هذا الدعاء، وعلى الإخبار بسبب الدعاء؛ لإقامة العذر. وفي ظاهره دليل على: إِنْ فاتَتْهُ الفريضة تُقضَى في جماعة؛ وبه قال العلماء كافة. إلا ما حُكي عن الليث بن سعد: أنه منعَ ذلك، فإن صحَّ؛ فهو مردود بظاهر هذا الحديث، وبصريح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الصبحَ بأصحابه جماعة حين ناموا عنها بعد طلوعِ الشمس؛ كما ثبت في "صحيح مسلم" (¬1). وفيه دليل على: أن من فاتته صلاة، وصلاها في وقت آخر؛ أنه يبدأ بالفائتة، ثم يصلِّي الحاضرة، وهو مجمَع عليه، لكنَّه عندَ الشَّافعي، وطائفة: على الاستحباب، فلو صلى الحاضرة، ثم الفائتة، جاز. وعند مالك، وأبي حنيفة، وآخرين: على الإيجاب، فلو قدم الحاضرة، لم يصح، وتقدم دليلهما مبينًا. وقد يحتج بفعله - صلى الله عليه وسلم - العصرَ مقدمة على المغرب بعدَ غروب الشمس؛ مَنْ يقول: إن وقت المغرب متسعٌ إلى غروب الشَّفَق؛ لأنه لو كان ضيقًا، لبدأ بالمغرب؛ لئلا يفوت وقتُها، فدلَّ على أنه متسع. لكن لا يمشي ذلك عند من يقول: إنه ضيق، فيحتاج إلى الجواب عن هذا؛ لأن المختار اتساعه؛ كما بيناه فيما تقدم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (680)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وفيه دليل على: أنَّ الصلاةَ الوسطى؛ هي العصرُ، وقد اختلف العلماء من الصحابة، فمَنْ بعدَهم فيها في المراد بها في القرآن العزيز. لكنَّ صريحَ هذه الأحاديث يعين أنها العصر، وبه قال: عليُّ بنُ أبي طالب، وابنُ مسعود، وأبو أيُوب، وابنُ عمر، وابنُ عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعَبيدة السلماني، والحسنُ البصري، والنَّخَعِي، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ومقاتل، وأبو حنيفة، وأحمد، وداود بن المنذر، وغيرهم، قال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة، فمَنْ بعدَهم (¬1). وقاله الماوردي عن مذهب الشافعي؛ لصحة الأحاديث فيه، قال: وإنما نصَّ على أنها الصبح؛ لأنه لم تَبلغْه الأحاديث الصحيحة في العصر، ومذهبه اتباع الحديث، وهذا هو المذهب الصحيح في المسألة. وقالت طائفة: هي الصبح؛ وهو منقولٌ عن عمرَ، وابنِه، وابنِ عباس، ومعاذٍ، وجابرٍ، وعطاءٍ، ومجاهدٍ، وعكرمةَ، والربيعِ بنِ أنسٍ، ومالكِ بنِ أنسٍ، والشَّافعيِّ، وجمهورِ أصحابِه، وغيرِهم، وأجاب هؤلاء عن الحديث على طريق المعارضة له، وللفظه، ومعناه. أما المعارضة له: فعُورِضَ بحديث رواه مالك، من حديث أبي يونس، مولى عائشة: أنه قال: أمرتني عائشةُ أن أكتبَ لها مُصحفًا، ثم قالت: إذا بلغْتَ هذه الآية، فآذِنِّي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، فلما بلغْتُها، آذَنتُها، فأمْلَتْ عليَّ: حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وصلاة العصر، وقوموا لله قانتين، ثم قالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ونحوه روي -أيضًا- عن زيد بن أسلم، عن عمر بن رافع، قال: كنت أكتب مصحفًا لحفصةَ أُم المؤمنين، فذكر عنها مثلَ ما ذكر عن عائشة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 342). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 138)، ومسلم (629)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 139)، وابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 280)، =

والمعطوف يغاير المعطوف عليه، وهذا ينبني على خبر الآحاد، هل يثبت به قرآنٌ؟ وإذا لم يثبت به، هل تنزل منزلة خبرِ الآحاد في العمل به؟ اختلف الأصوليون فيه: فالمنقول عن أبي حنيفة: تنزيله منزلته، ولهذا أوجب التتابع في صوم الكفارة للقراءة الشاذة: (فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ متتابعاتٍ) (¬1). والمختار عندهم: أنه لا يجوز إثبات القرآن بالآحاد؛ لأنه لم يُروَ على أنه خبرٌ. لكنَّه قد يعطف الشيء على نفسه، أو يكون من باب عطف الصفات بعضها على بعض مع اتحاد الشخص، ومنه قول الشاعر (¬2): إِلَى (¬3) المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثِ الكَتَيبةِ في المُزْدَحَمْ ومنهم من تمسك في إثبات أنها الصبح؛ بقرينة قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]؛ لأن القنوت في الصبح، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أَنَّ القنوتَ مشتركٌ بين القيام، والسكوت، والدعاء، وكثرة العبادة، فلا يتعين حملُه على قنوت صلاة الصبح. الثاني: أَنَّ الحكمَ قد يُعطَفُ على مثله، وإن لم يكونا مجتمعين في موضعٍ واحدٍ مختصين به، فتضعف القرينة. ومنهم من تمسك بأنها الصبح بالتأكيد فيها في الأحاديث الصحيحة؛ ¬

_ = والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 462). (¬1) قراءة: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) رواها الحاكم في "المستدرك" (3091)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 60)، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -. (¬2) هو ابن الزيات، كما في "خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 451) و (5/ 107)، وانظر: "تفسير الطبري" (2/ 100). وابن الهمام وليث الكتيبة وصفان للملك، وقد عطفا على الصفة الأولى، وهي القرم؛ أي: السيد، وهو من شواهد جواز عطف الخبرين على الآخر، كما يجوز عطف بعض الأوصاف على بعضها. (¬3) في "المخطوط": "أنا"، والصواب ما أُثبت.

كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يَعْلَمُونَ مَا في الصُّبْحِ والعَتْمَةِ؛ لأتوْهُما ولَوْ حَبْوًا" (¬1)؛ لكنه إنما سِيْقَ في مَعْرِضِ ذم المنافقين بتأخرهم عنها. مع أنه معارضٌ بالتأكيداتِ في صلاة العصر؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإِنِ اسْتَطَعْتُمُ ألا تُغْلَبُوا على صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وقَبْلَ غُرُوبِها" (¬3)، وحمل المفسرون قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} [ق: 39] على صلاة الصبح، وصلاة العصر. مع ما ثبت من التشديد في ترك صلاة العصر، ما لا يعلم ثبوته في ترك الصبح؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ، حَبِطَ عَمَلُهُ" (¬4)، وَ"مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فكأَنَّما وُتِرَ أَهْلَهُ، ومَالَهُ" (¬5). وأما المعنى: فهو أَنَّ تخصيصَ الصلاةِ الوسطى بالمحافظة؛ لأجل المشقة، والمشقة في الصبح أكثر؛ لكونها تكون في حال طيب النوم، ولذته؛ حتى قيل: إِنَّ ألذَّ النومِ، إغفاءَةُ الصبح؛ فناسب ذلك أن تكون هي المخصوصة بالمحافظة عليها. لكنَّه معارضٌ بما في صلاة العصر من مشقة تركِ مَعَاشِ الناس وتكسبهم، مع أنه لو لم يعارض بذلك، لكان ساقطَ الاعتبار بالنص على أنها العصر، مع أن للفضائل والمصالح مراتبَ لا يحيط بها البشر، فالواجبُ: اتباعُ النصوصِ فيها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (548)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة الفجر، ومسلم (635)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه البخاري (528)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: إثم من ترك العصر، عن بريدة - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (527)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: إثم من فاتته العصر، ومسلم (626)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

ثم قد سَلَكَ المخالِفُ للنص في أنها العصر مسلكَ النظر في كونها وُسْطى من حيث العدد؛ فلا بُدَّ من تعيين ابتدائها فيه بحيث يقع به معرفة الوسط، وبه يقع التعارض. فمن قال: إنَّها الصبحُ، يقول: سبقَها المغرب، والعشاء ليلًا، وأخر عنها الظهر، والعصر نهارًا، فكانت وسطًا. ومن قال: إنها المغربُ، يقول: سبقها الظهر والعصر -كيفَ وقد سُمِّيت الظهرُ أولى-، وتأخر عنها العشاء والصبح، فكانت هي الوسطى؛ وهو قول قَبِيصَةَ بنِ ذؤيب. ومن قال: هي العشاء، يقول: سبقها صلاة نهار، وصلاة ليل، وتأخر عنها صلاة بينهما، وصلاة نهار، مع أن الصبح قد اختُلِفَ فيها؛ هل هي نهارية، أو ليلية، أو لا يوصف بهما؟ على ثلاثة مذاهب للسلف. ومن قال: الظهر هي عكس القول في العشاء في التقديم، والتأخير. وهذا لا يتعين، بل ينبغي أن يكون مسلك النظر من حيث الفضل؛ كما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ أي: عدلًا. ومع ذلك كله، فأقوى دليل لمن قال: إنها الصبح، ومنع أنها العصر، قضية العطف الذي قدمناه، وهي قاصرةٌ عن النص: في أنها العصر، وقد أقسم الله تعالى بها؛ تعظيمًا لها في قوله: {وَالْعَصْرِ (1)} [العصر: 1] قال مقاتل: أقسم بصلاة العصر؛ وهي الصلاة الوسطى. والاعتقاد منه أقوى من الاعتقاد المستفاد من العطف، والواجب على الناظر المحقق: أَنْ يزيلَ الضعيف، ويعمل بالأرجح منها، والله أعلم. ثم حكى القاضي عياض - رحمه الله - في الصلاة الوسطى قولين آخرين، غير ما ذكرنا، أحدهما": أنها مبهمةٌ في الخمس، والثاني: أنها الجمعةُ، وقيل: إن الوسطى جميعُ الخمسِ. وكلُّها أقوال ضعيفة جدًّا، خصوصًا في الجمعة؛ لأن المفهوم بالإيصاء

الحديث السادس

بالمحافظة عليها، إنما كان كونها معرضة للضياع؛ وهو غير لائق بالجمعة، فإن الناس -في العادة- يحافظون عليها أكثر من غيرها، فإنها تأتي في الأسبوع مرة، بخلاف غيرها. وأما من قال: هي جميع الخمس؛ فهو ضعيف، أو غلط؛ لأن العرب لا تذكر الشيء مفصلًا، ثم تجمله، وإنما تذكره مجملًا ثم تفصله، أو تفصل بعضَه تنبيهًا على فضيلته، وقد تجمله جميعه من غير تفصيل؛ تنبيهًا على المحافظة على جميعه، فيكون القول بإبهامها في الخمس من هذا الأخير، والله أعلم. ثم أصحُّ الأقوال في الصلاة الوسطى: الصبح، والعصر، وأصحهما: العصر، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عباسٍ - رَضي الله عنهما -، قالَ: أَعْتَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بالعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمرُ - رَضِي الله عنه - فَقَالَ: يا رَسُولَ الله! رَقَدَ النِّسَاءُ والصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُه يقْطُرُ، يقولُ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أمَّتِي -أَوْ عَلَى الناسِ-، لأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلاَةِ، هَذه السَّاعَةَ" (¬1). أما ابن عباس، فتقدم ذكره. وأما قوله: "أَعْتَمَ"، فمعناه: أَخَّر الصلاة حتى اشتدت عتمةُ الليل؛ وهي ظلمتُه، يقال: عَتَم بالليل، يَعْتِم -بكسر التاء-: إذا أظلم، والعتمة: الظلمة، ونقل عن الخليل: أنها اسمٌ لثُلثِ الليل الأول بعد غروب الشفق. وقد يستعمل أعتم بمعنى: دخل في العتمة؛ كما يقال: أصبح، وأمسى، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6812)، كتاب: التمني، باب: ما يجوز من اللّو، ومسلم (642)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: وقت العشاء وتأخيرها، وهذا لفظ البخاري.

وأظهر؛ أي: دخل فيها (¬1)، قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، وقال: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]. واستدل بعضهم بقوله: أَعْتَمَ، على جواز تسمية هذه الصلاة: بالعتمة، وليس فيه دليل؛ لأنَّا فسرنا أعتم؛ بمعنى: تأخير الصلاة، أو الدخول في وقت العتمة، ولا يلزم من ذلك جوازُ تسمية العشاء بذلك، وقد تقدَّم في الحديث الرابع من هذا الباب الكلامُ على ذلك، والاختلافُ فيه. لَكنْ قال الشَّافعي: وأحب ألا تُسَمَّى صلاة العشاء: بالعتمة (¬2)، وإنما قال ذلك؛ لما في الحديث من النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعرابُ على اسمِ صلاتِكم، أَلا وإنها العِشاءُ" (¬3) عن غلبة التسمية، والتنفير عنها؛ لأنفة النفوس من الغلبة. وإضافة الاسم إليهم في قوله: "عَلَى اسْمِ صلاتِكُم" قال: فيه زيادة، ألا ترى أنا لو قلنا: لا تُغَلبَنَّ على مالك، كان أشدَّ تنفيرًا من قولنا: لا يغلبنَّ على مال، أو على المال؛ لدلالة الإضافة على الاختصاص به. ولا شَكَّ أَن الأَوْلَى عدمُ تسميتها بالعتمة؛ وهو مقتضى كلام الشَّافعيِّ، أما الكراهة فلا؛ لأن قوله: لا أحبُّ، أقربُ إلى الأولوية، أو نقول: النهي راجع إلى الغلبة؛ كما ذكرنا. ولا شك أنها مكروهةٌ دائمًا، أو أكثر، ولا يناقضه أن يستعمل قليلًا؛ جمعًا بين استعماله - صلى الله عليه وسلم - لفظ العتمة في قوله: "ولو يعلمون ما في الصُّبحِ، والعتمة" (¬4)، والنهي عن تسميتها عتمة، والله أعلم. ثم على قول من قال: إنَّ العتمةَ اسمُ الثلث الأول بعدَ غيبوبة الشفق لا يحمل ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 442 - 443)، و"العين" للخليل (2/ 82)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 381 - 382)، (مادة: عتم). (¬2) تقدم ذكره عن الإمام الشافعي في كتابه "الأم". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

على أول أجزاء هذا الوقت؛ بل على آخره، أو ما يقاربه؛ لتظهر فائدته بمخالفة العادة، وفائدة قول عمر - رضي الله عنه -: "رقدَ النساءُ والصبيانُ"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أَنْ أَشُقَّ على الناسِ، أو على أُمَّتي؛ لأمرتُهم بهذه الصلاةِ هذهِ الساعَةَ". ثُم كلمة "لولا" تدل على: انتفاء الشيء؛ لوجود غيره، وقد تقدم ذلك في السواك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتِي؛ لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ"؛ (¬1) وأَن مطلقَ الأمرِ للوجوب؛ فهل يتساوى لفظ الحديثين في ذلك، أم لا؟ فلك أَنْ تمنعَ التساويَ فيهما، وتقولَ: الذي اقتضاه لفظُ الحديث هنا: انتفاءُ الأمر؛ لوجودِ المشقة، والمنفي أمرُ الوجوب؛ لثبوتِ الاستحباب في تأخيرها عند من يراه. فأما من يرى أَن تقدَيمها أفضلُ؛ لما دل عليه الدليل عنده، فيتعارضان، ويرجح دليلُ التأخير من خارج، وتكون مقدمة لذلك، ويصيرُ مجموع الحديثين دليلًا على أن الأمر للوجوب بهذه المقدمة. وقولُ عُمرَ -رَضِي الله عنه-: "يا رسولَ اللهِ! رَقَدَ النِّسَاءُ والصِّبيانُ". يحتمل أنه قاله لطلب فائدة يسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، أو لظن الغفلة عن التقديم، ثم طلب الفائدة قد يكون راجعًا إلى المسجد؛ لقلة احتمال النساء والصبيان المشقة في حضورهم الصلاة في الجماعة، أو انتظارهم في البيوت؛ لمن يصليها في المسجد ممن حضر المسجد؛ إشفاقًا عليهم، أو إشفاقًا على المصلين؛ لشغل قلوبهم بمن في البيوت من النساء والصبيان؛ لانتظارهم إياهم في العادة. وأما الصبيان، فهو جمع صبي، وهو الغلامُ من حينِ يولد إلى أن يبلغَ -وهو بكسر الصاد، وضمها-؛ كقضيب، وقضبان. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

واعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخرها قصدًا؛ لتطويل مدة الانتظار؛ فإن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة. وقوله: "فَخَرجَ ورَأْسُهُ تقْطُرُ"؛ أي: شَعْرُ رَأْسه يَقْطُرُ؛ لكون القطر إنما يكون من الشَّعْر لا من الرأس، فعبر عنه مجازًا لنيابة فيه، وكان ذلك من أثر اغتساله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنه من أثر الوضوء، وهو بعيد، والله أعلم. وأما أحكامه: ففيه دليل على: تتبع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحواله، وأقواله، ونقلها إلى أمته، وأنها كلها شرع يُقْتَدى به. وفيه: تأخيرُ صلاة العشاء، وأنه مستحبٌّ، لكن هل هو أفضل، أم التقديم، أم يختلف باختلاف الأحوال والأزمان؟ فيه أقوال للعلماء تقدمت. ظاهر هذا الحديث: أَن التأخيرَ أفضلُ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عليه بهذا اللفظ، وأن الغالب كان تقديمها. وبه استدلَّ من قال بتفضيل التقديم، وقال: لو كان التأخير أفضل؛ لواظَبَ عليه، وإن كان فيه مشقة، والحكمة في تركه: خشيةَ أَنْ يُفْرضَ عليهم، أو يتوهموا إيجابه؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح، وتعليله إياه: بخشية افتراضها، والعجز عنها، وأجمع العلماء على استحبابها؛ لزوال العلة التي خيف منها، وهذا المعنى موجود في العشاء، فيكون التأخير الآن أفضل. وفيه: تنبيهُ التابعِ المتبوعَ على أمرٍ يجري على خلاف المعتاد؛ ليتعرف حكمته، أو أنه غفل عنه، ونحو ذلك. وفيه: أنه يستحب للعالم، أو الإمام: أن يعتذر إلى أصحابه إذا تأخر عنهم، أو جرى منه ما يظن أنه يشق عليهم، ويقول لهم وجه المصلحة فيه. وفيه دليل على: أن الأمر للوجوب. وفيه: شرعية النظر في أمر الضعفاء؛ كالنساء، والصبيان، ونحوِهم أكثرَ من غيرهم.

الحديث السابع

وفيه: أنه يجوز لغير المؤذن الراتب أن يُعْلِمَ الإمامَ بالصلاة، خصوصًا إذا كان في إعلامه مصلحةٌ ظنها، أو تحقَّقها. وفيه: ذكر المصلحة مبينة غير مجملة، والله أعلم. * * * الحديث السابع عن عائشِةَ -رَضِي اللهُ عنها-، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إذَا أقِيمَتِ الصَّلاَةُ، وحَضَرَ العَشَاءُ، فابْدَؤوا بِالعَشَاءِ" (¬1)، وعن ابنِ عمرَ: نحوُه (¬2). ولمسلمٍ عَنْها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، ولا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ" (¬3). أمَّا عائشةُ، وابنُ عمر؛ فتقدَّم ذكرهما. اعلم: أن الألف واللام في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ"؛ يحتمل الاستغراقَ بجميع الصلوات، ويحتمل أن يكونَ لتعريف الماهية، ويحتمل أن يكون للعهد؛ لصلاة معينة للشرع. لا جائز أن يكون للاستغراق للأمر بالبداءة بالعشاء لحضور العشاء؛ فخرج به صلاة النهار، وتبين أنها غير مرادة، فبقي الترددُ بين صلاة الليل؛ وهي: المغرب، والعشاء، وانتفى تعريف الماهية، وترجحَ حملُها على معهود الشرع معين عنده؛ وهي: المغرب؛ لما صح في بعض الروايات: "إذا وُضِعَ العَشَاءُ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5148)، كتاب: الأطعمة، باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، ومسلم (558)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (642)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (559)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله. (¬3) رواه مسلم (560)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله.

وأَحَدُكُم صَائِمٌ، فابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا" (¬1)، وفي رواية صحيحة: "فَابْدَؤُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ المَغْرِبِ" (¬2). والحديث يفسر بعضه بعضًا، فأما أهل القياس والنظر، ففهموا المعنى في الحديث: في تقدم الطعام على الصلاة؛ لعدم التشويش بالتشوف إلى الطعام؛ لتنبيهه - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الرواية المفسرة: "وأَحَدُكُمْ صَائِمٌ"؛ فإنه مؤدٍّ إلى عدمِ الحضورِ في الصلاة. لكن هل يقتصر على ما يكسر سَوْرَةَ الجوع، أو يأكل ما يشبعه؛ بحيث لا يؤدي إلى خروج الصلاة عن وقتها، ولا يذهب حضوره فيها؟ نُقِلَ عن الإمام مالك - رحمه الله -: البَدَاءَةُ بالصلاة، إلا أن يكون طعامًا خفيفًا، واستدل بالحديث المفسر، وعلى أَن وقتَ المغرب فيه توسعة. لكن إن أراد التوسعة بالنسبة إلى الطعام للصائم، فمقبول، وإن أراد التوسعة إلى غروب الشفَق، ففيه نظر بالنسبة إلى من يقول بضيقِ وقتِها، وتقديره بزمان معين يدخل فيه ما يكسر سَوْرة الجوع بلقيمات. وأما الظاهريَّة فقالوا: بتقديم الطعام على الصلاة مطلقًا، وزاد بعضهم، فقال: وإن صلى، فصلاتُه باطلة، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعامِ، ولا وَهُوَ يُدافعُهُ الأخبثان": الأخبثان: البولُ، والغائط، وقد ورد التصريحُ بهما في بعض الأحاديث. وهذا الحديث عام في كل صلاة، ومنعها مع حضور الطعام، ومدافعة الأخبثين؛ لأن (لا) لنفي الجنس مع النكرة تعم، وصلاة نكرة مع لا؛ فكان ذلك عامًّا في كل صلاة. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في"صحيحه" (2068)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5075)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (641)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (557)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

وقد تقدم الكلام بالنسبة إلى اللفظ قبله، وأنه خاص بالمغرب، لا بالنسبة إلى المعنى؛ فإن هذا دال على: المعنى والتعميم، وفيهما دليل على: تقديم حضور القلب، وفضيلته في الصلاة على فضيلة أول الوقت؛ فإنهما لمَّا تَزَاحَمَا قَدمَ صاحبُ الشرع الوسيلةَ إلى حضورِ القلب على أداء الصلاةِ في أولِ الوقت. وقد يمنع أصحابُ المعاني في هذا الحديث: الحكمَ بتأخير الصلاة بمجرد حضور الطعام، بل يقولون: لا يدفع حضوره التشوف إليه. قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر؛ فإما أن يكون متيسرَ الحضور عن قرب حتى يكون كالحاضر، أو لا. فإن كان الأول: فلا يبعد أن يكون كالحاضر، وان كان الثاني: وهو ما يتراخى حضوره، فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر؛ فإن حضور الطعام يُوجب زيادةَ تشوُّفٍ، وتطلُّعٍ إليه. وهذه الزيادة يمكن أن تكون اعتبرها الشارع في تقديم الطعام على الصلاة، فلا ينبغي أن يُلحقَ بها ما لا يساويها؛ للقاعدة الأصولية: إن محل النص إذا اشتمل على وصفٍ يمكن أن يكون معتبرًا، لم يُلْغَ، هذا آخر كلامه، وهو نفيس، والله أعلم (¬1). ثم اعلم أن مدافعة الأخبثين لا تخلو من أحوال: أحدها: أن يكون بحيث لا يعقل بسببه الصلاة، وضبط حدودها، فهذا لا تحل له الصلاة، ولا الدخول فيها إجماعًا. الثاني: أن يكون بحيث يعقلها مع ذهاب خشوعه بالكلية، ومذهب جمهور الأمة: أَنه لا تبطلُ صلاتُه. ونقل عبد الله بن خفيف - رحمه الله - عن الشَّافعيِّ - رحمه الله - قولًا: أَنَّ ذهابَ الخشوعِ يُبطِلُ الصلاَة، وهو غريب جدًّا. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 148).

أما الدخول فيها مع فقدان الخشوع، فقد يقال: يمنعه على هذا القول، والذي يتعين: أنه مكروهٌ. الثالث: أن يكون بحيث يؤدي إلى الإخلال بركن، أو شرطٍ امتنع الدخول في الصلاة معه، وان دخل، واختل الركن، أو الشرط، فسدت الصلاة به. وان لم يؤدِّ إلى ذلك، فالمشهورُ من مذاهب العلماء: الكراهة. ونقل عن مالك في ذلك: أنَّه يؤثرُ في الصلاة بشرط شغله عنها، وأنه يعيد في الوقت، وبعدَه، وتأولَه بعضُ أصحابه: على شغل لا يدري كيف صلى معه، وأما الشغلُ الخفيف الذي لا يمنعُ إقامةَ حدودها مع ضَمِّ وركيه، فهو الذي يعيدُ معه في الوقت. والذي يقتضيه التحقيق: أنه إن منع ركنًا، أو شرطًا، منع الدخول، وقيل: فسدت الصلاة به، وإن لم يمنع: فهو مكروه نظرًا إلى المعنى، وإلا: فهو مانع الدخول، أو الاستمرار؛ نظرًا إلى أصل النهي، لكن فعلها مع النهي لا يقتضي الإعادة عند الشافعي، فإنها لا تجب إلا بأمر مجدد. الرابع: أن يكون بحيث يؤدي به إلى الشك في شيء من الأركان، فحكمُه حكمُ مَنْ شكَّ فيها بغير هذا السبب، وهو البناء على اليقين بأنه لم يفعله، فيأتي به، ويكون ذلك مكروهًا -أيضًا-. وقد جعل بعضُهم مدافعة الأخبثين ناقضًا للطهارة، أو قائمًا مقام الناقض؛ لخروج الخبث عن محله ومقره، فيجعله مانعًا للدخول في الصلاة، وهذا بعيد؛ لأنه إحداثُ سببٍ في نواقض الوضوء من غير دليل لم يذكره أحد من العلماء، وليس في الحديث صراحة به، وإن كان فيه مناسبة، لكنها لا تثبت بها الأحكام، والله أعلم. وأما أحكامه: ففيه دليل على: أن شهود الصلاة في الجماعة ليس بواجب؛ لأن النداء

بالإقامة إذا سمعه وهو في بيته، وقد حضر طعامه، لم يجبه، وبدأ به، وإن فاتته الصلاة في الجماعة. وفي هذا الاستدلال نظر؛ فإن الجماعة لا يسقط أصل وجوبها به، لكن حضورَ الطعام عذرٌ في تركها، ووجود العذر رخصة في ترك الواجب، لا أنه يرفعه بمعنى عدم تعلق الخطاب به. وفيه دليل على: أنه يبدأ بالأكل، ويأكل حاجته بكاملها بحيث يسمى عشاء، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية في "صحيح مسلم: "فابْدَؤوا بِالعَشاء" ولا تعجلَنَّ حتى تفرغَ منه". وهذا يضعف تأويلَ من تأوله على أكل ما يكسر سورةَ الجوع، ويبطله؛ لكن شرطَه: ألا تخرجَ الصلاة عن وقتها، وتصيرَ قضاءً، هذا هو المذهب الصحيح عند الشافعي، وجمهور أصحابه، وغيرهم. وحكى أبو سعيد المتولي من أصحاب الشافعي وجهًا لبعض الأصحاب: أنه لا يصلِّي، بل يأكلُ، ويتوضأ، وإن خرج الوقتُ؛ لأن مقصودَ الصلاة الخشوعُ، فلا يفوته، وهو ضعيف؛ لما يلزم منه من ترك واجب لأجل المحافظة على فعل مندوب. مع أن العلماء من أصحاب الشَّافعي، وغيرهم قالوا: وإن ترك الطعام، وصلى على حاله، وفي الوقت سعة، فصلاته صحيحة، وكان فعلها مكروهًا، ويُستحب له إعادتها. وفيه دليل على: أنه ينبغي ألا يدخلَ في الصلاة إلا وقلبه فارغٌ من كل ما يشغله، ويُذهب خشوعَه؛ لأنه إذا نُهي عنها لأمر لازم ليس وجوده بتعاطيه؛ فغيره مما يتعاطاه أولى. وفيه دليل على: فضيلةِ هذه الأمة، وما منحها الله تعالى من مراعاة حظوظ البشرية، وتقديمها على الفضائل الشرعية، ووضع الشديدات عنها، وتوفير ثوابها على ذلك، خصوصًا إذا قصده للمتابعة؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم.

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَباسٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُما- قالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّون، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وبَعْدَ العَصْرِ حَتى تَغْرُبَ (¬1). عَنْ أَبي سَعيدِ الخُدْرِي -رَضِي اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حتَّى تَرْتَفعَ الشمْسُ، ولاَ صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حتى تَغِيبَ الشمْسُ" (¬2). وفي الباب: عن علي بنِ أبي طالبِ، وعبدِ الله بنِ مسعودِ، وعبدِ الله بنِ عمرَ بنِ الخطاب، وعبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاص، وأبي هريرةَ، وسَمُرَةَ بنِ جندب، وسلمةَ بنِ الأكوعِ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، ومُعاذِ بنِ عفراءَ، وكعبِ بنِ مُرَّةَ، وأبي أمامةَ الباهلي، وعمرِو بنِ عَبَسَةَ السلمي، وعائشةَ، والصُّنابِحِي، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنهم-. أما ابنُ عباسِ، وعليٌّ، وابنُ مسعودِ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عَمْرِو، وأبو هريرةَ، وعائشةُ؛ فتقدم ذكرهم. وأما أبو سعيدِ: فاسمه: سعدُ بنُ مالكِ بنِ سنانَ بنِ عبيدِ بنِ ثعلبةَ بنِ عبيدِ بنِ الأَبْجَر وهو خدرةُ بنُ عوفِ بنِ الحارثِ بنِ الخزرجِ، الأنصاري، وهو وأبوه صحابيان. استشهد أبوهُ مالك يومَ أُحد، وكان يقال له: سعدُ بنُ الشهيد؛ إشارة إلى جده سنان، استُصْغِر يومَ أُحدٍ فَرُدَّ، وغزا بعدَ ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرةَ غزوةً. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (556)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، ومسلم (826)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (561)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم (827)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وهذا لفظ البخاري.

وهو من أكثر الصحابة حديثًا، رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألف حديثٍ ومئةُ حديثٍ وسبعون حديثًا؛ اتفق البخاري ومسلم على: ستة وأربعين حديثًا، وانفرد البخاري: بستةَ عشرَ حديثًا، ومسلمٌ: باثنين وخمسين حديثًا. وروى عنه من الصحابة: عبدُ الله بنُ عمر، وجابرُ بنُ عبد الله، وزيدُ بنُ ثابت، وعبدُ الله بنُ عباسٍ، وأبو أمامةَ سهلُ بنُ حُنيفٍ، وخلقٌ كثير من التابعين. وكان ممن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وخمسة على: ألا تأخذهم في الله لومة لائم، منهم: أبو ذر، وسهل بن سعد، وعبادة بن الصامت. وروى حنظلةُ بنُ أبي سفيانَ الجمحيُّ، عن أشياخه قالوا: لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفقهَ من أبي سعيد، وفي رواية: أعلم. وروى له: أصحاب السنن والمساند. مات بالمدينة يومَ جمعة، سنةَ أربعٍ وستين، وقيل: وسبعين؛ وهو ضعيف، ابنَ أربعٍ وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. وأما الخُدْرِيُّ -بضم الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة، وبالراء، ثم ياء النسب-، فنسبة: إلى خُدرة جد من أجداده، وخدرة، وخدارة: أخوان بطنان من الأنصار، أبو مسعود الأنصاري: من خدارة، وأبو سعيد: من خدرة؛ وهما: ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. قال أبو عمر بن عبد البر: كان أبو سعيد من الحفاظ، المكثرين، العلماء، الفضلاء، العقلاء (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 44)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 150)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 650)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 602)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 180)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 373)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 714)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 138)، و" تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 518)، و "تهذيب الكمال" للمزي (10/ 294)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 168)، و "تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 44)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 78)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 416).

وأما سمرة بن جندب: فاختلف في كنيته؛ فقيل: أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو سليمان، ويقال: جندب -بضم الجيم، وبضم الدال، وفتحها-. وهو سمرةُ بنُ جندبِ بنِ هلالِ بنِ خديجِ بنِ مُرَّةَ بنِ حزمِ بنِ عمرِو بنِ جابرِ بنِ ذي الرئاستين الفزاري، حليف الأنصار. رُويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئةُ حديثٍ وثلاثةٌ وعشرون حديثًا؛ اتفق البخاري، ومسلم: على حديثين، وانفرد البخاري: بحديثين، ومسلم: بأربعة، روى عنه: عمران بنُ حُصين، وجماعةٌ من التابعين، وروى له: أصحاب السنن والمساند. وكان يسكن البصرة، ومات بها سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية، سقط في قدر مملوءٍ ماءً حارًا؛ كان يتعالج بالقعود عليها من كراز شديد أصابه؛ فسقط في القدر الحارِّ، فمات؛ فكان ذلك تصديقًا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، ولأبي هريرة، وثالثٍ معهما: "آخرُكم موتًا في النار" (¬1). وقال محمد بن سيرين: كان سمرة -ما علمت- عظيمَ الأمانة، صدوقَ الحديث، يحب الإسلام وأهلَه (¬2). وقال [أبو] عمر بن عبد البر: وكان سمرةُ من الحفاظ المكثرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال سمرة: لقد كنتُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنتُ أحفظ عنه، وما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالًا هم أسن مني، ولقد صليت مع ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/ 106)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (6206). (¬2) رواه ابن شاهين في "تاريخ أسماء الثقات" (ص: 269)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 653 - 654).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة في نفاسها؛ فقام عليها للصلاة وسطَها (¬1). وأما سَلَمَةُ بنُ الأكَوَعِ: فكنيته: أبو إِياس، بابنه إياس؛ وهو الأكثر، وقيل: أبو مسلم؛ وهو مرجَّح عند جماعة، ويقال: أبو عامر. والأكوع: جدُّه، وهو لقبٌ له، وهو سلمةُ بنُ عمرِو بنِ سنانَ، وهو اسمُ الأكوعِ بنِ عبدِ الله بنِ قشيرِ بنِ خزيمةَ بنِ مالكِ بنِ سَلامان بنِ أفصى بنِ خارجةَ بنِ عمرِو بنِ عامرٍ الأسلمي. شهد معه الرضوان تحت الشجرة، وبايع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ثلاث مرات: في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم، وبايعه يومئذ على الموت. وقال يزيد بن أبي عبيد: قلت لسلمةَ بنِ الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحديبية؟ قال: على الموت (¬2). وقال سلمةُ: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعَ غزواتٍ، وخرجت فيما بعث من البعوث سبعَ غزواتٍ. ويقال: إنه شهد مؤتة، وكانت سبب إسلامه؛ فيما ذكره ابن إسحاق: أنه كلمه الذئب. قال سلمة: رأيت الذئب أخذَ ظبيًا، فطلبتُه حتى نزعتُه منه، فقال: ويحكَ ما لي ولك؟! عمدت إلى رزق رزقنيه اللهُ ليس من مالك، فنزعته مني، قال: قلتُ: يا عبادَ الله! إن هذا لعجب! ذئبٌ يتكلم! فقال الذئب: أعجبُ من هذا أن ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 34)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 176)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 653)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 554)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 226)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 130)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 183)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 178)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 207). (¬2) رواه البخاري (3936)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1860)، كتاب: الإمارة، باب: استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال.

النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله، وتأبَوْن إلا عبادة الأوثان! قال: فلحقتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمت (¬1). وقد كلم الذئب رافع بن عميرة، الصحابي -أيضًا-، والله أعلم. روى سلمةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبعةً وسبعين حديثًا؛ اتفقا على: ستةَ عشرَ، وانفردالبخاري: بخمسةٍ، ومسلم: بتسعةٍ. روى عنه: ابنه إِياس، ومولاه يزيدُ بنُ أبي عبيد، وأبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن، وغيرُهم من التابعين. سكن الرَّبذة، وكان شجاعًا، راميًا، محسنًا، خيرًا، قال ابنه إياس: ما كذب أبي قطُّ، وروى عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "خَيْرُ رَجَّالَتِنَا: سَلَمَةُ ابنُ الأَكْوَعِ" (¬2). مات - رحمه الله - سنةَ أربع وسبعين، بالمدينة، وهو ابنُ ثمانين سنة. روى له: أصحابُ السنن والمساند (¬3). وأما زيدُ بنُ ثابتٍ: فكنيته: أبو سعيد، وقيل: أبو خارجة؛ بابنهِ، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن. وهو زيدُ بنُ ثابتِ بنِ الضحَّاكِ بنِ زيدِ بنِ لوذانَ بنِ عمرِو بنِ عبدِ عوفِ ابنِ غنيمِ بنِ مالكِ بنِ النجَّارِ، أنصاريٌّ نجاريٌّ، وقال ابن حِبان: هو من بني سلمة، أحدِ بني الحارث بن الخزرج؛ وهو أخو يزيدَ بنِ ثابتٍ. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 639). (¬2) رواه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة الأحزاب وهي الخندق. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبري" لابن سعد (4/ 305)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 69)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 639)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (22/ 83)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 517)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 220)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 301)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 326)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 151)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 133).

قدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو ابنُ إحدى عشرةَ سنةً، وكان يكتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان -أيضًا-كاتبًا لأبي بكر الصديق، وعمرَ بنِ الخطاب. وكان عمرُ يستخلفه إذا حجَّ، استخلفه ثلاثَ مراتٍ: مرتين في حجتين، ومرةً في خروجه إلى الشام، وكتب إليه من الشام: إلى زيد بن ثابت، من عمر بن الخطاب، وكان معه لمَّا قَدِمَ من الشام، وخطب بالجابية عند خروجه لفتح بيت المقدس. وهو الذي تولى قسمةَ غنائم اليرموك، وقُتل أبوه ثابت، يومَ بُعاث: وقعةٍ كانت بين الأوس والخزرج، وعمرُه يومئذٍ ستُّ سنين، وكانت قبل هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسِ سنين، وأُتي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام قد قرأ ستَّ عشرةَ سورةً. ولم يجزْهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر، ولا أحد، وأُجيز في الخندق، وكان ينقل الترابَ يومئذٍ مع المسلمين، وقال أبو عمر بنُ عبد البر: ردَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدر جماعةً، منهم: زيدُ بن ثابت، ثم شهدَ أُحدًا، وما بعدها من المشاهد، ورُمِيَ يومَ اليمامة بسهم؛ فلم يضرَّه. وكان أحد فقهاء الصحابة الجِلَّةِ الفُراضِ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْرَضُ أُمَّتِي: زَيْدُ بنُ ثابِتٍ" (¬1). وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قد أمره بجمع القرآن في الصحف، فكتبه فيها، فلما اختلف الناس في القراءة زمنَ عثمان، واتفق رأيه ورأي الصحابة أن يردَّ القرآن إلى حرف واحد، وقع اختيارهُ على حرف زيد، فأمره أن يُملَّ المصحف على قوم من قريش جمعهم إليه، فكتبوه على ما هو عليه اليوم بأيدي الناس، والأخبارُ بذلك متواترة المعنى، وإن اختلفت ألفاظها. وكانوا يقولون: غلبَ زيدُ بن ثابت الناسَ على اثنين: القرآنِ، والفرائضِ. ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 359)، والحاكم في "المستدرك" (7962)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

وقال مسروق: قدمتُ المدينة، فوجدت زيدَ بن ثابت من الراسخين في العلم (¬1). وقال مالكُ بنُ أنس: كان إمامَ الناس عندنا بعدَ عمرَ بنِ الخطاب: زيدُ بن ثابت؛ يعني: بالمدينة (¬2). قال أبو عمر بن عبد البر: كان عثمانُ يحب زيدَ بن ثابت، وكانَ زيدٌ عثمانيًّا، ولم يكن فيمن شهدَ شيئًا من مشاهد علي مع الأنصار، وكان مع ذلك يفضِّل عليًّا، ويظهر حبَّهُ. رَويَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اثنان وسبعون حديثًا؛ اتفقا منها على: خمسةِ أحاديثَ، وانفرد البخاري: بأربعة، ومسلم: بحديث. ورَوى عنه من الصحابة: عبدُ الله بن عمر، وأنسٌ، وأبو هريرةَ، وعبدُ الله ابن يزيدَ الخطمي، وسهل بنُ أبي خثمةَ، وسهلُ بنُ سعدِ الساعدي، وسهل ابن حُنيفٍ، وأبو سعيدِ الخدري، وخلقٌ من التابعين، وروى له: أصحابُ السنن والمساند. ومات بالمدينة سنةَ أربعٍ وخمسين، وقيل: ست، وقيلَ: خمسٍ، وقيل: إحدى، أو اثنتين وخمسين، وقيل: سنةَ خمسٍ وأربعين، وقيل: ثلاثٍ، وقيل: اثنتين وأربعين، وقيل: ابنَ ستٍّ وخمسين، وقيل: أربع وخمسين، وصَلَّى عليه مروان؛ وله بالمدينة عقب، وقُتل يومَ الحرة سبعةٌ من الأَولاد من صلبه (¬3). ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 56)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 360)، والدارمي في "سننه" (2891). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (31/ 165). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 358)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 380)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 135)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 475)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 537)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 295)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 704)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 346)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 24)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 426)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 30)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 592)، و"تهذيب الهذيب" له أيضًا (3/ 344). =

وأما مُعاذُ بن عَفراءَ: فهو منسوب إلى أُمه عفراءَ بِنْتِ عبيدِ بنِ ثعلبةَ بنِ عبيد بن ثعلبة بنِ غنم بن مالك بن النجار. وهو معاذ بنُ الحارث بن رفاعةَ بن الحارث بن سواد بن مالكِ بنِ غنمِ ابن النجار، الأنصاري؛ وهو داخل في نوع المنسوبينَ إلى غير آبائهم. شهد بدرًا، والمشاهدَ كلها، ويقال: إنه جرح يوم بدر، فمات منها بالمدينة، وشهد أخواه: معوذ، وعوذ، -ويقال: عوف- بدرًا، وقُتلا شهيدين، وكلهم بنو عفراء، وأبوهم الحارثُ، وقال أبو إسحاق إبراهيمُ بن محمد بنِ الحارثِ الفزاري: يقال: إنه أولُ من أسلم من الأنصار هو ورافع بن مالك الزرقي. قال الواقدي: وآخى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين معاذ بن الحارث ومعمر بن الحارث، ومعاذ وأخوه هما ضربا أبا جهل ببدر حتى برد، وأجهز عليه ابنُ مسعود - رضي الله عنه - بسيفه؛ يعني: سيفَ أبي جهل، فنفَّلَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إياه، ولمعاذ بن عفراء. قال أبو حاتم بن حِبَّان: قُتل معاذ بالحرَّة، سنةَ ثلاث وستين، وقيل: قُتل مع علي بن أبي طالب. وقال الواقدي: توفي معاذ بعد قتل عثمان أيامَ حرب علي، ومعاوية، وهو معنى قول ابن عبد البر: مات معاذ في خلافة علي. روى له من أصحاب السنن: النسائي (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 491)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 360)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 370)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 245)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1408)، و"صفوة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 427)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 190)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 405)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 115)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 140)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 140).

وأما كعبُ بنُ مُرَّةَ: فهو السلمي البهزيُّ، والأكثرون على أنه: كعب بن مرة، وقيل: مرةُ ابن كعب؛ وهو من بهز بن الحارث بن سليم بن منصور، نزل البصرة، ثم سكن الأردن من الشام. روى عنه: جماعة من التابعين، وروى له: جماعة من أصحاب السنن والمساند. ومات بالأردن سنةَ سبعٍ، وقيل: سنة تسعٍ وخمسين (¬1). وأما أبو أُمامَةَ البَاهِليُّ: فاسمه صُدَيُّ بنُ عَجلان، ويقال فيه: الصُّدَيُّ -بالألف واللام؛ كالعباس، وعباس-، ولم يذكر الحاكم أبو أحمد في كتابه "الكنى" غيره. وهو صديُّ بن عجلانَ بنِ والبةَ بنِ رباحِ بنِ الحارثِ بنِ معنِ بنِ مالكِ ابنِ أعصر بنِ سعدِ بن قيسٍ عيلان بن مضر، وقيل في نسبه غير هذا. وأما الباهلي: فنسبه إلى باهلة، واسمه: مالك بن يعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر، واتفقوا على أن نسبته باهليٌّ؛ والأكثر على أنه منسوب إلى مالك بن يعصر كما ذكرنا، وقال بعضهم: نسبة إلى باهلة في بني سهم. سكن أبو أمامة مصر، ثم انتقل إلى حمص، وكان من المكثرين في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر حديثه عند الشاميين. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئتا حديثٍ وخمسون حديثًا؛ روى له البخاريُّ: خمسةَ أحاديثٍ، ومسلم: ثلاثةً. روى عنه: جماعة من التابعين الشاميين، وروى له: أصحاب السنن والمساند. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 414)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 5)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 353)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1326)، و "تهذيب الكمال" للمزي (24/ 196)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 462)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 612)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 395).

ومات بحمصَ من الشام: سنة إحدى وثمانين، وقال أبو حاتم بن حِبَّان: سنة ست وثمانين؛ وهو ابنُ إحدى وتسعين سنة، وكان يُصَفِّرُ لحيته، وكان مع عليٍّ بصفِّين. قال أبو عمر النمري: وأكثرُ حديثه عندَ الشاميين، وهو آخرُ من مات بالشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول بعضهم (¬1). وأما عَمْرُو بن عَبَسَةَ السلميُّ: فكنيته: أبو نجيح في قول الأكثرين، ويقال: أبو شعيب، وينسبونه: عمرو بن عَبَسَةَ بن عامر بن خالد بن عاصرة بن عتاب بن امرئ القيس بن بُهْثة -بضم الباء، وسكون الهاء، وبالثاء المثلثة- بن سليم بن منصور بن عكرمةَ ابن حفصةَ بن قيس بن عيلانَ بنِ مضرَ. وقال أبو حاتم بن حِبَّان: عمرو بن عبسة بن خالد بن حذيفة بن عمرو ابن خلف بن مازن بن عامر. أسلم قديمًا في أول الإسلام، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدم المدينة مهاجرًا، وكان رابع أربعة في الإسلام: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وبلال؛ وهو، وقصته في "الصحيح" مشهورة، وأنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: من معك على هذا؟ يعني: ما ذُكر له من توحيد الله تعالى، وأن لا يشرك به شيء، وتكسير الأوثان، وحقن الدماء قال - صلى الله عليه وسلم -: "حرٌّ وعبدٌ"؛ يعني: أبا بكر، وبلالًا، قلت: ابسطْ يَدَك، أُبايِعك؛ فبايعتُه على الإسلام، قال: فلقد رأيتني، وأنا ربعُ الإسلام (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 411)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 326)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 736)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 743)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (24/ 50)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 733)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 15)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 158)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 359)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 468)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 420). (¬2) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافر وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -.

واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكث معه، أو اللحوق بقومه، فأذن له في الرجوع إلى قومه، فخرج، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة، فسكن الشام، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الحديبية، وكان يسكن صُفَّتَه من أرض بني سليم. وهو أخو أبي ذر الغفاري لأمه، وأمُّهما: رملةُ بنتُ الوقيعة بن حَرام بن غفار. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثمانية وثلاثون حديثًا، روى له مسلم: حديثًا واحدًا، وروى عنه: جماعة من الصحابة، منهم: عبد الله بن مسعود، وأبو أمامة الباهلي، وسهلُ بن سعد الساعديُّ، وأبو الظبية الكلاعيُّ -بالظاء المعجمة-، وغيرُهم من الصحابة والتابعين. نزل الشام، ثم سكن حمص إلى أن مات، روى له: أصحاب السنن والمساند. وأما السُّلَمي: -بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام- فهي نسبة إلى سُلَيم، قبيلة؛ وهي سليم بن منصور بن عكرمة، المذكور في نسبه منهم: عمرو بن عبسة، وجماعة من الصحابة، والتابعين، وغيرهم (¬1). وأما الصُّنابحيُّ: -بضم الصاد المهملة، وفتح النون، ثم ألف، ثم باء موحدة، ثم حاء مهملة، ثم ياء النسب- فنسبة إلى الصُّنابحِ: بطنٍ من مراد، واشتُهر بها دون الاسم: عبد الرحمن بن عسيلةَ بن عسل بن عسال، أبو عبد الله الصنابحي المرادي؛ تابعي جليل، إمامٌ مخضرمٌ؛ رحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فُقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 214)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 269)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1192)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (46/ 249)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 239)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 347)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 456)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 658)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 61).

وهو في الطريق بالجحفة قبل أن يصل لخمسٍ، أو ستٍّ. ثم نزل بالشام، وسمع أبا بكر الصديق، وعبادةَ بن الصامت، وبلالَ بن رباح، ومعاذَ بن جبل، وشدادَ بنَ أوس، وعمرَو بن عبسة، وعائشةَ أمَّ المؤمنين. وروى عنه: جماعة كثيرة من تابعي أهل الشام، وغيرهم. وثَّقه ابنُ سعيد، وقال: قليلُ الحديث. وقال عمر بنُ عبد العزيز في حديث نقله الصنابحي [فقال: إمامٌ أخذ عن إمام، وقال يعقوبُ بن شيبة: وذكر الصنابحي عن أبي بكر الصديق] (¬1)، فقال: يروي عن أهل الحجاز والشام، دخل المدينة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث يرسلها عنه. وقد قلب بعضهم اسمه فجعله كنية، وبعضهم قلب كنيته فجعلها اسمًا، وكله خطأ، والصواب: ما ذكرناه أولًا. روى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن (¬2). وأما ألفاظه: فقوله: "شهدَ عندي رجالٌ مَرْضيُّون، وأرضاهُم عندي عمرُ": لا شَكَّ أن الشهادةَ عند ابنِ عباسٍ؛ بمعنى: الإخبار، والرواية له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتبليغ عنه؛ لا بمعنى الشهادة عندَ الحكام. كيف، وعمر - رضي الله عنه - كان قاضيًا لأبي بكر - رضي الله عنه -، وأميرَ ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 509)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 321)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 262)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 74)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 841)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 282)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 505)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 105)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 208).

المؤمنين بعده، ومات وهو أميرُ المؤمنين، ولم يكن ابن عباس قاضيًا له، ولا نائبًا في الإمارة؟! فدل على ما ذكرناه. وفيه: استحبابُ الثناء على الشيوخ والعلماء، وإن لم يكونوا متهمين، وتبيين مراتبهم في الفضل، وغيره؛ حيث قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما -: "وأرضاهُمْ عندي عمرُ". [وفي (¬1) بعض النسخ "حتى تطلعَ الشمسُ" ولا شك أنهما صحيحان. فأمّا "تُشرِق" فضبط -بضم التاء وكسر الراء-، وضُبط -بفتح التاء وضم الراء- وهو الأكثر عند رواة المشارقة، وأشار القاضي عياض إلى الترجيح الأول في "شرح صحيح مسلم"، وذكر الثاني في "المشارق" (¬2)، وهو بمعنى تطلع؛ لأن أكثر الروايات على تطلع، فوجب حمل تشرق في المعنى على موافقتها. قال أهل اللغة: يقال: شَرَقَت الشمس تَشْرُق؛ أي: طَلَعَت، على وزن طلعت تَطْلُع، وغَرَبَتْ تَغْرُب، ويقال: أشرقت تشرق؛ أي: ارتفعت وأضآت، ومنه قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ} [الزمر: 69] أي: أضاءت (¬3)، فمن قال: إن الرواية من: أشرقت تشرق، واحتج لها بالأحاديث الأخرى في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، والنهي عن الصلاة إذا بدا حاجب الشمس حتى تبرز، وحديث: "ثلاث ساعات: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع" (¬4)، وكل هذا يبين أن المراد بالطلوع ارتفاعها، وإشراقها وإضاءتها، لا مجرد ظهور قرصها، والله أعلم. وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، فهو نهي عن الصلاة بعد ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش". (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 249). (¬3) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 111)، و "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 452)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 173)، (مادة: شرق). (¬4) رواه مسلم (831)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

فعلهما، لا بعد دخول وقتهما، لأنه لو أخرهما لم تكن الصلاة قبلهما، وإن تقدم فعلهما في أول الوقت، كرهت، فدل على ما ذكرنا، وأن عدم الكراهة بدخول وقتهما يختلف بتطويل النافلة وتخفيفها؛ فإنه ربما طول المُصلي النافلة قبل فعلهما إلى آخر وقتهما، فيكون ذلك مكروهًا، وهذا كله بخلاف كراهة الصلاة عند الطلوع، والاستواء، والغروب بالحمرة والصفرة؛ فإن الكراهة فيها متعلقة بالوقت، وهذا الحديث معمول به عند فقهاء الأمصار، وإن اختلف بعض المتقدمين فيه من بعض الوجوه. واعلم أن صيغة النفي إذا دخلت على فعل في ألفاظ صاحب الشرع، كان حملها على نفي الفعل الشرعي أولى من نفي الفعل الوجودي، لتكون نفيًا للحكم الشرعي لا للفعل الحسي؛ لأن الشارع إنما يطلق لفظه على عرفه وهو الشرعي، ونفي الحسي منتفٍ لوجود الفعل حسًّا، ويحتاج فيه إلى إضمارٍ لتصحيح اللفظ، وهو المسمى بدلالة الاقتضاء، وينشأ منه النظر في كون اللفظ عامًّا، أو مجملًا، وظاهرًا في بعض محامله، وحمله على نفي الحقيقة الشرعية أولى؛ لعدم الإضمار. فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الخدري هذا: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفعَ الشمسُ"، وفيه زيادة على نفي الفعل، وهي مَدُّ الكراهة إلى ارتفاع الشمس، وليس المراد مطلق الارتفاع عن الأفق، بل الارتفاع الذي تزول عنه صفرة الشمس، أو حمرتها، وهو مقدر برمح أو رمحين. وقوله: "لا صلاة" عام في كل صلاة، وخصّه الشافعي ومالك: بالنوافل، ولم يقولا به في الفرائض والفوائت، فهي جائزة في سائر الأوقات، وأبو حنيفة يقول بامتناعها، وهو أدخل في العموم، إلا أنه قد يعارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها، فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها" (¬1)، وكونه جعل ذلك وقتًا لها، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (572)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، ومسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

وفي بعض الروايات: "لا وقتَ لها إلا ذلك" (¬1). لكن بين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فحديث النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خاص في الوقت، عام في الصلاة، وحديث النوم والنسيان خاص بالصلاة الفائتة، عام في الوقت، فكل منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه، خاص من وجه. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صيامَ لمنْ لم يُبيِّتِ الصيامَ من الليل" (¬2)؛ فإنه نفيٌ للصومِ الشرعي لا الحسي. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ" (¬3)، فإن حمله على الحقيقة الشرعية ينفي الاحتياجَ إلى الإضمار، وحمله على الحقيقة الحسية، يضمر بعضهم الصحة، وبعضهم الكمال، وكذلك ما شاكل ذلك. واعلم أنه أجمعت الأمة على كراهة صلاةٍ لا سببَ لها في هذه الأوقات. واتفق العلماء على جواز الفرائض المؤداة فيها. واختلفوا في النوافل التي لها سبب؛ كصلاة تحية المسجد، وسجود التلاوة، والشكر، وصلاة العيد، والكسوف، وفي صلاة الجنازة، وقضاء الفوائت. ومذهب الشافعية وطائفة: جواز ذلك كله، ومذهب أبي حنيفة وآخرين: أنه داخل في النهي، بعموم الأحاديث. ¬

_ (¬1) قال ابن خزيمة في "صحيحه" (2/ 100): لم يرد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من نام عن صلاة فليصلها إذا استيقظ" أن وقتها حين يستيقظ، لا وقت لها غير ذلك، وإنما إراد أن فرض الصلاة غير ساقط عنه. بنومه عنها حتى يذهب وقتها، بل الواجب قضاؤها بعد الاستيقاظ، فإذا قضاها عند الاستيقاظ أو بعده، كان مؤديًا لفرض الصلاة التي قد نام عنها. (¬2) رواه النسائي في (2234)، كتاب: الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 202)، عن حفصة - رضي الله عنها -. (¬3) رواه أبو داود (2085)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1101)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1881)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

واحتج الشافعي وموافقوه: بأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى سُنة الظهر بعد العصر، وهذا صريح في قضاء السنة الفائتة، فالحاضر أولى، والفريضة المقضية أولى، وكذلك الجنازة، والله أعلم]. وفي الحديث فوائد: من جملتها: ما في الحديث الأول من قول ابن عباس: شهد عندي رجالٌ إلى آخره، وهو الردُّ على الروافض فيما يدعونه من مباينة أهل البيت، وأكابر الصحابة. ومنها: أن الكراهة في الصلاة بعدَ الصبح وبعدَ العصر، التي لا سبب لها: كراهةُ تحريم؛ لأن الأصل في النهي التحريم، وقد اختلف أصحاب الشافعي - رحمه الله -، في ذلك على وجهين: أصحهما: أن الكراهة للتحريم؛ ولو صلاها، لم تنعقد؛ على أصح الوجهين، ويكون آثمًا. ومنها: أنه لا تكره الصلاة قبل الصبح؛ لأن التخصيص بالنهي بعدها، يفيد عدمَ النهي قبلَها، وقد كره جماعة من السلف: الصلاة قبلها، ما عدا سنةَ الفجر؛ والذي عليه الجمهور خلافُه. ومنها: كراهةُ الصلاة عند طلوع الشمس، حتى ترتفعَ الشمس قيدَ رمح. ومنها: أن الكراهة بعد فعل العصر، ممتدَّة إلى غيبوبة قرص الشمس؛ وبغيبوبته تزول الكراهة، وتجوز الصلاة؛ ولهذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا غابت الشمس، ابتدروا السواري، قبل المغرب بالصلاة، قد يظن الظان؛ أن المغرب قد صليت؛ لكثرة المصلين، والله أعلم. * * *

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ: أَن عُمَرَ بْنَ الخَطَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْه-، جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، بَعْدَمَا غرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، وقَالَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ مَا صلَّيْتُها"، قَالَ: فَقُمْنَا إلى بُطْحَانَ، فَتوَضَّأ للصَّلاَةِ، وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَها المَغْرِبَ (¬1). أما جابر، وعمر: فتقدم ذكرهما. وتقدم ذكر: يوم الخندق -أيضًا-، والجمع بين هذا الحديث، وبين أحاديث صلاة الوسطى؛ في الخامس من هذا الباب، وأحكامها. وأما ما يختصُّ بهذا الحديث؛ من شرحِ الألفاظ، وغيرها: فقولُ عمرَ - رضي الله عنه -: "يا رَسُولَ اللهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ؛ حَتى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ"، لا شك أنَّ (كاد) من أفعال المقاربة؛ ويجوز حذف أَنْ مع الفعل، في خبرها؛ وهذا الحديث يدل عليه، ويجوز إثباتها معه؛ وهو الأكثر، وثبت في هذا الحديث إثباتها في "صحيح مسلم". وقوله: فَقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ مَا صَلَّيْتُها"؛ وإنما حلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، تطييبًا لقلب عمر - رضي الله عنه -؛ فإنه شقَّ عليه تأخيرُ العصر إلى قريب من الغروب، فأخبره - صلى الله عليه وسلم -: أنه لم يصلِّها بعدُ؛ ليكون لعمرَ أسوةً، ولا يشقَّ عليه ما جرى، وتطيبَ نفسُه، وأكد ذلك الخبرَ باليمين. قوله: فَقُمْنَا الى بُطْحَانَ"؛ هو -بضم الباء الموحدة، وإسكان الطاء، وبالحاء المهملتين-؛ هكذا هو عند المحدثين، في رواياتهم، وفي ضبطهم، وتقييدهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (571)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، ومسلم (631)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وهذا لفظ البخاري.

وقال أهل اللغة: هو -بفتح الباء، وكسر الطاء-، ولم يخبروا غير هذا؛ وكذا نقله صاحب "البارع"، وأبو عبيد البكري؛ وهو واد بالمدينة (¬1). وقوله: "فَتَوَضَّأ للصَّلاَةِ، وَتَوضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعدَمَا غَرَبَتِ الشمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا المَغرِبَ"؛ هذا ظاهر أنه صلاهما في جماعة؛ فيكون فيه دليل: بجواز صلاة الفريضة الفائتة جماعة؛ وبه قال العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض، عن الليث بن سعد: أنه منع ذلك؛ وهو مردود بهذا، وبأنه - صلى الله عليه وسلم -: "صلى الصبح في جماعة، حين ناموا عنها"، رواه مسلم في "صحيحه" (¬2). وقد ذكر أصحاب الشافعي -رحمهم الله تعالى-: أن من فاتته الجمعة لعذر، وغيره؛ أنه يصلِّي الظهر، لكنه هل يصلِّيها في جماعة؟ الأصحُّ: أنه تُشرع في جماعة، لكنْ لا تكون مشتهرة؛ لما يلزم من شهرتها سوء الظن بالإمام. ولأصحابنا وجهٌ: أنها لا تُشرع في جماعة، بل تصلَّى فرادى. وفي الحديث فوائد: منها: جواز سبِّ المشركين؛ لتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، من غير إنكار؛ وهو سبٌّ مطلق من غير تعيين، فينبغي أن يُحمل على ما ليس بفحش. وفيه: تقديم الفائتة على المؤدَّاة؛ لقول عمر - رضي الله عنه -: "ما كدت أصلي العصر"؛ لأن (كاد) إذا دخل عليه النفي؛ اِقتضى وقوع الفعل، في الأكثر؛ كما في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - العصرَ قبلَ المغرب؛ تدل على ذلك -أيضًا-. ومذهب مالك: وجوبُه في القليل من الفوائت؛ وهي ما دون الخمس، وفي الخمس خلاف. ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 446)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 115)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 135)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 414)، (مادة: بطح). وعبارة صاحب "المشارق": وكذا قيده القالي في "البارع"، وأبو حاتم البكري في "المعجم". (¬2) تقدم تخريجه.

ومستحب عند الشافعي مطلقًا. فإذا ضُمَّ إلى هذا الحديث الدليلُ على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق، لم يكن في هذا الحديث دليلٌ على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت، وسيأتي إيضاحه. وفيه دليل على: جواز القسم، من غير استحلاف، واستحبابه إذا كان فيه مصلحة؛ من توكيد أمر، أو زيادة طمأنينة، أو نفي توهُّم نسيان، أو إشفاق، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة؛ لأن القسم توكيدٌ للمقسَم عليه. وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع المقسَم عليه؛ حتى كأنه لا يعتقد وقوعه، فأقسم على وقوعه؛ وهو يقتضي تعظيم الترك، وهو مقتضى الاشتفاق منه، أو ما يقارب معناه. وقد كثر القسم في الأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ وهكذا القسمُ من الله تعالى، في الكتاب العزيز، لكن حكمنا في المقسم به، مخالف له -سبحانه وتعالى-؛ فإنه سبحانه وتعالى له أن يحلف بعظيم مخلوقاته؛ تنبيهًا على عظمها عنده، وتشريفها؛ كقوله -سبحانه وتعالى-: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا}، {وَالطُّورِ}، {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {وَالضُّحَى} {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}، {وَالْعَصْرِ}، ونظائرها؛ فكل هذا لما ذكرناه، ولتفخيم المقسم عليه، وتوكيده. وأما حكمنا: فلا يجوز لنا أن نحلف إلا بالله تعالى، أو باسم من أسمائه -تبارك وتعالى- لا يشاركه فيه غيره، أو بصفة من صفاته؛ وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ كانَ حالِفًا؛ فلا يحلفْ إلا بِالله" (¬1)، وفي رواية: "فَلْيَحْلِفْ بالله، أَوْ لِيَسْكُتْ" (¬2)، وورد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6966)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، ومسلم (1646)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه البخاري (2533)، كتاب: الشهادات، باب: كيف يستحلف، ومسلم (1646)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وأبو داود (3249)، كتاب: الأيمان =

في حديث عنه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله، فَقَدْ أَشْرَكَ" (¬1). وفيه دليل على: عدمِ كراهةِ قول القائل: ما صَلَّينا؛ خلاف ما تَوهمه قوم من كراهته. وقد تمسَّك بهذا الحديث، وبحديث: "شَغَلُونا عن الصَّلاةِ الوُسْطى" (¬2) بعضُ المتقدمين؛ في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن. والفقهاء كلُّهم على خلافه؛ وإقامةِ الصلاةِ في حالة الخوف، وأجابوا عن هذين الحديثين: بأنهما كانا في غزوة الخندق، وصلاةُ الخوف شُرعت، في غزوة ذاتِ الرقاع؛ وهي بعدَ ذلك، وتقدَّم ذكر ذلك. ومن الناس من سلك في الجواب طريقًا آخر، وهو أن الشغل أوجب نسيان الصلاة؛ فتركها للنسيان، قال: وهو ظاهر فيه، وليس كذلك؛ بل الظاهر: تعليقُ الحكم بالشغل المذكور لفظًا. وقد تقدَّم الكلام على: وجوب الترتيب في الفوائت، في حديث: الصلاة الوسطى، والاختلاف فيه؛ ولا شكَّ أن الفعل بمجرده لا يدل على وجوب الترتيب في قضائها؛ على المختار عند الأصولين. وإن ضم إليه الدليل على تضييق وقت المغرب؛ كان فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة، عند ضيق الوقت؛ لأنه لو لم يجب، لم يخرج الصلاة عن وقتها لفعل ما ليس بواجب؟! فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب؛ تنبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر؛ في امتداد وقت المغرب، والله أعلم. ¬

_ = والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، وهذا لفظ أبي داود، ولفظهما: "أو ليصمت"، كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬1) رواه أبو داود (3251)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والترمذي (1535)، كتاب: النذور والأيمان، باب: في كراهية الحلف بغير الله، وقال: حسن، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 69)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) تقدم تخريجه.

باب فضل الجماعة ووجوبها

باب فضل الجماعة ووجوبها فيه أحاديث. الحديث الأول عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صلاَةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" (¬1). تقدم الكلام على ابن عمر. وأما الفَذُّ: فهو المنفردُ، ومعناه: المصلِّي وحدَه، قال صاحب "المطالع": ولغةُ عبدِ القيس: الفَنْذ -بالنون-، وهي غُنَّة لا نونٌ حقيقة، قال: وكذلك يقوله أهل الشام، قلت: لعلَّ لغةَ عبد القيس الأصلُ؛ فأدغم نون الغنة في الذال، فشدِّدت، ومعنى الفاذَّة: المنفردة القليلة المثل في بابها (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ مِنْ صلاَةِ الفَذِّ": اعلم أن صيغة أَفْعَلِ التفضيل؛ تقتضي الاشتراك -غالبًا-؛ حيث لا مانعَ منه، وقد لا تقتضيه؛ لمانع؛ كقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (619)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، ومسلم (650)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 150)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 502)، (مادة: فذذ).

فإنه لا يجوز حملُها هنا على الاشتراك، إجماعًا. إذا ثبت هذا؛ فأفضلُ -هاهنا-، تقتضي: الاشتراك، وزيادة الفضل بالجماعة، ويدل عليه؛ ما رواه أبو داود بإسناد حسن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ الرجلِ مع الرجلِ؛ أزكى من صلاتهِ وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين؛ أزكى من صلاتِه مع الرجل، وما زادَ؛ فهو أحبُّ إلى الله" (¬1). وما ثبت في رواية في "الصحيح"، حديث في هذا الباب: "تزيدُ صلاةُ الجماعة على صَلاةِ الفَذِّ" (¬2)، أو "تَفْضُلُ صلاةُ الجماعةِ على صلاةِ الفَذِّ" (¬3)؛ وذلك دليل على: صحةِ صلاة المنفرد، وأنَّ الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة. وقد قال بأن الجماعة فرض على الأعيان؛ جماعةٌ من العلماء، وبأنها شرط لصحتها: داودُ الظاهري، والمختارُ في المذهب الشافعي: أنها فرضٌ على الكفاية، وقيل: سنة. ثم الفضل في الجماعة؛ هل هو بسببها فقط، أم بوصف زائد؛ وهو كونُها في المسجد؛ لكثرة الخطا إليها، وكتب الحسنات، ومحو السيئات بكل خطوة، وانتظار الصلاة، ودعاء الملائكة، ومراعاة آداب دخول المسجد، وغير ذلك؟ والظاهر: الأول؛ لأن الجماعة وصف عُلِّق عليه الحكم، وإذا كان ذلك لأجل الجماعة؛ فهل تفضل جماعةٌ جماعةً بالكثرة؟ المشهور عن مالك: أنه لا تفضل، وقال ابن حبيب: تفضل بالكثرة، وفضيلة الإمام. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (554)، كتاب: الصلاة، باب: في فضل صلاة الجماعة، والنسائي (843)، كتاب: الإمامة، باب: الجماعة إذا كانوا اثنين، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 61)، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (650)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة. (¬3) رواه البخاري (619)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة.

فمن صلى في جماعة؛ وإن قلَّت، لا يعيد في أكثر منها؛ على مشهور قول مالك، وهو قول جماعة العلماء، وحكي عن مالك: إعادتها في المساجد الثلاثة في الجماعة، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"، في رواية في "صحيح مسلم": "بخمس وعشرينَ درجةً"، (¬1) وفي رواية فيه: "بخمسٍ وعشرينَ جُزْءًا" (¬2). الاختلاف بين الدرجة والجزء؛ فإن كلًّا منهما مرادُ الآخر، وإن كان الجزء هو: الجاري على اللغة، والدرجة: مؤولة عليه، وجعلها بعضهم غيره؛ وهو غفلة منه؛ وأما الجمعُ بين سبع وعشرين، وخمس وعشرين؛ فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذكر العدد القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جمهور الأصوليين. الثاني: أنه أخبر بالقليل أولًا، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل؛ فأخبر بها. الثالث: أن ذلك يختلف باختلاف المصلين، والصلاة؛ فيكون لبعضهم خمس وعشرون، ولبعضهم سبع وعشرون، بحسب كمال الصلاة؛ من المحافظة على هيئاتها، وخشوعها، وكثرة جماعتها وفضلهم، وشرف البقعة، ونحو ذلك، والله أعلم. ثم التضعيف بالجماعة للصلاة؛ هل هو بمعنى الصلوات، فتكون صلاة الجماعة؛ بخمس وعشرين، أو سبع وعشرين صلاة؟ أو يقال: إن لفظ الدرجة، والجزء؛ لا يلزم منهما أن يكون بمقدار الصلاة؟ لكن الأول أظهر؛ حيث ورد مبينًا في بعض الروايات، ولفظه: "تُضاعَفُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (649)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، والبخاري (4440)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (621)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة، ومسلم (649)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

على صلاةِ الفَذِّ"، مشعرة به، ثم المراد بالفذ: إِذا لم يكن معذورًا بترك الجماعة؛ لمرض، أو سفر، ونحوهما. أما إذا كان معذورًا بذلك؛ فهل يقع التفاضل بينه، وبين الصلاة في جماعة؟ إن جعلنا الألف واللام، في الفذ؛ تعريفًا للعموم: اقتصر التفاضل بينهما؛ فيدخل تحته: الفذُّ المصلي بعذر، وغيرِ عذر، لكن المعذور يكتب له أجر الجماعة؛ إذا كانت صلاته في الجماعة في حال صحته، وإقامته. لما روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُكْتَبُ للمسافر والمريض ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (¬1)، والله أعلم. وفي الحديث فوائد: منها: المفاوتة في الفضائل في الجماعة؛ في الصلاة، وغيرها. ومقتضى مذهب مالك: عدمُ التفاوت في الجماعة للصلاة؛ كما تقدم، واستدل لذلك: بأنه لا مدخل للقياس في الفضائل، والحديث إذا دل على الفضل مقدار معين، مع امتناع القياس، اقتضى الاستواء في العدد المخصوص، في الفضل؛ فيدخل تحته كل جماعة، سواء كانت كبرى، أو صغرى، والتقدير واحد؛ بمقتضى العموم. لكن صريح الحديث المتقدم دليلٌ على التفاوت، فبطل استدلالهُم. ومنها: أن الجماعة ليست بفرض عين، ولا شرط للصلاة؛ لما تقدم أن صيغة أفعل التفضيل تقتضي الاشتراك في الفضل؛ وهو يقتضي وجود فضيلة في صلاة الفذ، وما لا يصح لا يقتضي ذلك؛ ولذلك نقول، في انتفاء المشروط: بانتفاء الشرط؛ فدل على عدم شرطيتها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2834)، كتاب: الجهاد والشر، باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، بلفظ: "إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا".

الحديث الثاني

وممن قال بأن الجماعة فرض عين: عطاءٌ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثور، وابنُ المنذر، وابنُ خزيمةَ، وداودُ؛ وهو قولٌ محكيٌّ عن الشافعي. ومنها: إطلاق الفضيلة في الجماعة؛ سواء تبدد قلب المصلي في الجماعة، أو لم يتبدد؛ لطلب الشرع لها، والحث عليه، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ الرَّجُلِ جمَاعَةً، تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ في بيتِهِ، وَفي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرينَ ضِعْفًا؛ وَذَلِكَ أنَّهُ إذَا تَوَضَّأ، فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُم خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلا الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً؛ إلا رُفعَتْ لَهُ بَها دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئةٌ، فَإذَا صَلَّى؛ لَمْ تَزَلِ المَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ في مُصَلَّاهُ: اللَّهُم صلِّ عَلَيْه، اللهُم اغفِرْ لَهُ، اللهُم ارْحَمْهُ، ولاَ يَزالُ في صَلاةٍ؛ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ" (¬1). أما أبو هريرة، فتقدم. والجمعُ بين عدد الدرجات، في الحديث الذي قبل هذا؛ تقدم أيضًا. وأما الألفاظ: فالخطوة: -بفتح الخاء-، هي الفعلة من المسمى: واحد الخطا، وبضمها، وهي الرواية: ما بين القدمين؛ وهو الاسم، والفتحُ للمصدر، ولكنها في هذا الموضع، بفتح الخاء أشبهُ؛ لأن المراد: فعل الماشي (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا رُفِعَتْ لَه بِها دَرَجَةٌ، وحُطَّ عنهُ بِها خطيئةٌ". ¬

_ (¬1) رواه البخاري (620)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، ومسلم (649)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 51)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 231)، (مادة: خطا).

قال الداودي: إن كانت له ذنوب؛ حُطت عنه، وإلا رفعت له درجات، قال: وهذا يقتضي: أن الحاصل بالخطوة درجة واحدة؛ إما الحط، وإما الرفع، قلت: فعلى هذا تكون "الواو" بمعنى "أو"، لا بمعنى العطف. وقال غيره: بل الحاصل بالخطوة، ثلاثةُ أشياء؛ لقوله في الحديث الآخر: "كتبَ اللهُ له بكلِّ خطوةٍ حسنةً، ويرفعُه بها درجةً، وحطَّ عنهُ بها سيئةً" (¬1). ثم التضعيف في صلاة الجماعة؛ في المسجد، تضعف على صلاة المنفرد؛ في سوقه وبيته، من غير عذر؛ كما تقدم، أما إذا صلى في الجماعة؛ في البيت، أو في السوق، من غير عذر؛ هل يحصل له هذا التضعيف؟ ظاهر لفظه، في تعليله، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وذلكَ أَنَّه إذا توضأَ، إلى آخره": يقتضي ترتبه عليه؛ لأن ما رُتِّب على مجموع، لا يحصلُ ببعضه، إلا بدليل على: إلغاء ذلك البعض، وعدم اعتباره؛ فيصير وجودُه كعدمه، ويبقى ما عداه معتبرًا. إذا تقرر ما ذكرنا؛ فاللفظ يقتضي: الحكمَ بالمضاعفة في صلاته في الجماعة بهذا الوصف، على صلاته في بيته وسوقه؛ وهو الوضوء في البيت، والإحسان فيه، والمشيُ إلى الصلاة؛ لرفع الدرجات، وصلاة الملائكة عليه، ما دام في مصلاه. فحينئذٍ يلزم أن يكون الحكم في محله، بوجود هذه المذكورات؛ فكلُّ ما أمكن أن يكون معتبرًا منها، لا يجوز ترتُّب الحكم على بعضه؛ لأنه الأصل؛ فإذا صلى في بيته في جماعة، لم يحصل له التضعيف؛ بمقتضى ظاهر اللفظ، والقياس؛ لأنه لا يمكن إلغاؤه. لكنه ورد حديث آخر مطلق في صلاة الجماعة؛ من غير تقييد بالمسجد؛ فحينئذٍ، يرجع كل واحد من الحديثين، والنظر فيهما: إلى العموم والخصوص. وقال أحمد بن حنبل - رحمه الله -، في رواية عنه: لا يتأدَّى الفرضُ في ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (6637)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

البيوت، بإقامته في الجماعة فيها؛ ولعلَّه نظر إلى ما ذكرناه. ثم المفاضلة للصلاة في المسجد؛ بين الانفراد، والجماعة، هل نقول: إنها تحصل للمصلي في البيوت؛ ظاهر إطلاق العلماء حصولُها بينهما بهذا القدر المخصوص؛ أما المفاوتة بينهما، من حيث الجماعة والانفراد؛ فلا شك فيه. لكن فيه تردد أصحاب الشافعي -رحمهم الله-؛ في أنه هل يتأدى الفرض، أو المشروع في الجماعة؛ بإقامتها في البيوت؟ إذا قلنا: إنها فرض على الكفاية، منهم من قال: يكفي؛ كما لو صلوا جماعة في السوق. والصحيح: أنه لا يكفي؛ لأن المشروع في الجماعة، إنما شرع بوصف كونه في المسجد؛ وهو منتفٍ في البيوت، لكنه بعدم الخصوصية في المسجد؛ لا بحسب الجماعة. أما المفاضلة بين الجماعة: في المسجد، والبيت والسوق؛ فمقتضى الحديث: المفاضلةُ بينهما؛ للمقابلة بلفظ الجماعة بينهما؛ لأنا لو جرينا على إطلاق اللفظ، لم تحصل المقابلة، وكون الشيء قسمًا، يصير قسمًا منه باطل؛ فتصح المقابلة بينهما في الجماعة والانفراد، فيكون الحديث عامًّا: في المسجد، والبيت والسوق بينهما. وقد أشار بعضهم إلى المفاوتة بين المسجد والسوق فقط؛ من حيث ما ورد: أن الأسواقَ موضعُ الشياطين؛ فالصلاةُ فيها ناقصة الرتبة، فهي مكروهة؛ وهذا ممكن في السوق، بخلاف البيت، فلا تطرد فيه، لكنهم لم يذكروا الصلاة في السوق مع الصلاة في المواضع المكروهة؛ كالحمام، ومعاطن الإبل. فكأن الحديث خرج مخرج الغالب؛ في أنَّ منْ لم يصلِّ في الجماعة، صلى منفردًا، لا لمقابلة الجماعة بالجماعة؛ في المسجد، وفي البيت والسوق، أو الانفراد؛ بالانفراد فيها؛ وبهذا يرتفع الإشكال. ثم الأوصاف التي تعتبر في ذلك؛ لا تُلغى، فللناظر في الحديث، معتبر:

فوصف الرجولية: لا يخرج المرأة؛ لتساويها مع الرجل، في ثواب العمل، بالنسبة إليها؛ إلا إذا منعناها الخروج للجماعة في المسجد؛ فحينئذٍ صلاتها في بيتها أفضل؛ مع الجماعة، أو منفردة، من خروجها. وتقييد الوضوء في البيت: غير معتبر؛ لكونه غير داخل في التعليل. والوضوء معتبر، لا شك فيه، لكن المعتبر فيه: كونه ظاهرًا؛ [أو فعل الطهارة فيه نظر، ويرجح الثاني باستحباب تحديد الوضوء] (¬1)، لكن الظاهر أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تَوَضَّأ"، ليس للتقييد بالفعل؛ وإنما خرج مخرج الغالب، أو ضرب المثال. وأما إحسان الوضوء: فلا بد من اعتباره؛ وبه يستدل على: اعتبار فعل الطهارة، لا غيره، ويبقى ما ذكرناه؛ من خروجه مخرج الغلبة، أو ضرب المثال. وأما خروجه إلى الصلاة، لا غيره: فمشعر بالخروج لأجلها؛ وهو مصرَّح به في حديث آخر: "لا يُخْرِجُه، أو لا يَنْهَزُه إلا الصَّلاةُ" (¬2)؛ وهذا وصف معتبر. وأما صلاته مع الجماعة: فلا بدَّ من اعتبارها؛ لأنها محل الحكم، والله أعلم. وفي الحديث فوائد: منها: الحثُّ على الصلاة في الجماعة المشروعة لها. ومنها: أن فعلها في المسجد أفضل. ومنها: تجديد الوضوء لكل صلاة، وفعل الواجب أفضل من المندوب. ومنها: أن المسجد الأبعد للجماعة أفضلُ من القريب، إلا أن تتعطل الصلاة، أو الجماعة؛ بذهابه عنه إلى البعيد. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش". (¬2) رواه الترمذي (603)، كتاب: الصلاة، باب: ما ذكر في فضل المشي إلى المسجد.

الحديث الثالث

ومنها: إحسانُ الوضوء، بفعله على الوجه المأمور به؛ من غير مجاوزة فيه، ولا تقصير. ومنها: تكفيرُ الذنوب، ورفعُ الدرجات. ومنها: صلاةُ الملائكة على من ينتظر الصلاة في المسجد. ومنها: أن صلاة الملائكة على المنتظر: هو الدعاء له بالمغفرة، والرحمة. ومنها: أن من تعاطى أسباب الصلاة؛ يسمى مصليًا. ومنها: أنه ينبغي لمن خرج في طاعة؛ صلاةٍ، أو غيرِها: أن لا يشركها بشيء؛ من أمور الدنيا، وغيرها، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقيِن؛ صَلاَةُ العِشَاءِ، وصَلاَةُ الفَجْرِ، وَلو يَعْلَمُونَ مَا فيهِمَا؛ لأتوْهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَتُقَامَ، ثُم آمرَ رَجُلًا، فَيُصَلِّيَ بِالنَّاس، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعي بِرِجالٍ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ؛ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيوتَهُمْ بِالنَّارِ" (¬1). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أثقلُ الصَّلاةِ على المنَافِقينَ؛ صلاةُ العِشاءِ، وصلاةُ الفَجْرِ": أما كونُهما أثقلَ من غيرهما من الصلوات عليهم؛ فللمشقة اللاحقة لهم في فعلِهما جماعة في المساجد؛ وإنما كان الثقلُ في فعلهما في المساجد جماعة؛ دون تركهما، وإن كان غير مذكور في اللفظ؛ لدلالة السياق عليه؛ وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأتَوْهُما، ولو حَبْوًا"، وقوله: "ولقدْ هَمَمْتُ -إلى قوله:- لا يشهدون"؛ فكل ذلك مشعر بأن المراد: حضورُهم إلى جماعة المسجد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (626)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل العشاء في الجماعة، ومسلم (651)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة.

وتخصيص هاتين الصلاتين بكونهما أثقلَ؛ لقوة الداعي إلى ترك الجماعة، والصارف عن الحضور: أَما العِشاءُ: فلأنها وقتُ الإيواء إلى البيوت، والاجتماعُ مع الأهل، واجتماعُ ظلمةِ الليل، مع طلب الراحة من متاعب السعي بالنهار. وأما الصبحُ: فلأنها وقتُ لذةِ النوم، خصوصًا في شدة البرد؛ لبعد العهد بالشمس؛ لطول الليل، أو في زمن الحر؛ فهو وقت البرد، والراحة من أثر حر الشمس؛ لبعد العهد بها. فلما قوي الصارف، ثقلت على المنافقين، وأما المؤمن الكامل الإيمان؛ فهو عالم بزيادة الأجر؛ لزيادة المشقة، فيكون ذلك داعيًا له إلى الفعل؛ كما كان صارفًا للمنافقين، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلمونَ ما فيهما"؛ أي: من الأجر والثواب، "لأتوْهما، ولو حَبْوًا"؛ فالمؤمن: رجا ثواب الله، وتيقنه، وخاف عقابَ الله، واتقاه، والمنافق: كما قال الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} الآية [النساء: 142]. وقال الحسن البصري: من النفاق؛ اختلاف اللسان والقلب، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج (¬1). وقال الأوزاعي: المؤمن يقول قليلًا، ويعمل كثيرًا، والمنافق يقول كثيرًا، ويعمل قليلًا (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولو يَعْلَمونَ ما فيهما؛ لأتوهما، ولو حَبْوًا"؛ أي: لو يعلمون ما في فعلهما جماعةً في المسجد؛ من الأجر والثواب، وفي تركهما؛ من العقاب، لأتوهما؛ أي: لجاؤوا إليهما، ولو حبوًا؛ أي: محتبين، يزحفون على إلياتهم، من مرضٍ أو آفةٍ، أو حبوًا: كحبوِ الصغير على يديه ورجليه. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35642). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 142)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 206).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولقد هَمَمْتُ أن آمرَ بالصلاةِ، فَتُقامَ، ثم آمُرَ رجلًا بصلِّي بالناس" إلى آخره؛ الهمُّ بالشيء، غيرُ فعله. واختلف في الألف واللام، في "الصلاة"؛ هل هي لمعهودِ صلاةٍ، أو للجنسِ؟ فمن قال: للعهد، اختلف فيها؛ ففي رواية: أنها العشاء، وفي رواية: أنها الجمعة. ومن قال: للجنس؛ حملَه على جميع الصلوات، مطلقًا؛ وكلُّه صحيح لا منافاة فيه. ثم اختلف في هؤلاء القوم؛ المتخلفين عن الصلاة: فقيل: كانوا منافقين، وسياقُ الحديث يقتضيه؛ فإنه لا يظن ذلك بالمؤمنين من الصحابة؛ من تركهم الصلاةَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي مسجده. وقيل: يحتمل أن ذلك التهديد لقوم مؤمنين، صلوا في بيوتهم؛ لأمر توهموه مانعًا، ولم يكن كذلك، ويؤيد هذا التأويل؛ ما رواه أبو داود زيادة على هذا الحديث، فقال: "لقد هَمَمْتُ أن آمرَ فِتْيتي، فَيَجْمَعوا حُزَمًا من حَطَبٍ، ثم آتيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ في بُيوتهم؛ ليستْ بهم عِلَّة؛ فَأُحَرِّقَها عَلَيْهِمْ" (¬1)، والمنافقون لا يصلُّون في بيوتهم؛ إنما يصلُّون في الجماعة؛ رياءً وسمعة، وأما إذا خَلَوا؛ فكما وصفَهم الله: من الكفر، والاستهزاء. وعلى هذا التأويل تكون هذه الجماعةُ المهدَّدُ على التخلُّف عنها: هي الجمعة؛ كما نصَّ عليه في حديث عبد الله بن مسعود؛ فيُحمل المطلقُ منها، على المقيد. وهَمُّهُ - صلى الله عليه وسلم - بإتيانهم بعدَ إقامة الصلاة، برجلٍ يصلِّي بالناس؛ لتتحقق مخالفتُهم، وتخلفهم؛ فيتوجَّهَ اللومُ عليهم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (549)، كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، ومن طريقة البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 56).

وفي هذا الحديث فوائد: منها: الدليلُ لمن قال: إن الجماعة فرضُ عين؛ ولا شك أنها كذلك في الجمعة، واختلف العلماء فيما عداها؛ من الصلوات الخمس: فقال عطاءٌ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثورٍ، وابنُ المنذر، وابنُ خزيمة، وداودُ: الجماعةُ فرض عين، لكن اختلفتِ الرواية عن أحمدَ، وداودَ: هل هي فرض؛ بمعنى الشرط للصلاة، أم لا؟ والأظهرُ عن أحمد: أنها فرضُ عين، ليس بشرط. وقال الأكثرون: هي سنة. وقيل: فرض كفاية؛ وهو قول في مذهب الشافعي، ومالكٍ، وهو المختار عند جماعة من محققي أصحاب الشافعي. وجه الدليل لمن قال: إنها فرض عين: هذا الحديث؛ فإنه إن قيل: إنها فرض كفاية؛ فهو كان قائمًا بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه، وإن قيل: إنها سنة؛ فلا تحريقَ، ولا قتلَ على تاركها؛ فتعين أنها: فرضُ على الأعيان. وأجاب القائلون بأنها سنة، أو فرضُ كفاية: بأن التهديد على تركها؛ إنما كان لصفة النفاق، مع ترك الجماعة، لا لتركها فقط، ويشهد لذلك ما ثبت في "الصحيح": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولو علمَ أحدُهم أنه يجدُ عظمًا سَمينًا، لشهدَها"؛ يعني: العشاء (¬1). ومعلوم أن ذلك؛ ليس صفة للمؤمنين، لا سيما أكابر الصحابة، وإذا كان ذلك للمنافقين؛ كان التحريقُ للنفاق، لا لتركِ الجماعة؛ فلا يتمُّ الدليل، مع أن الترتيب على وصفين لا يجوز أن يترتب على أحدهما. وقال القاضي عياض: وقيل هذا في المؤمنين، وأما المنافقون؛ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - معرِضًا عنهم غالبًا، ولهذا لم يعاقبْهم في التخلف معاقبةَ كعبٍ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (651)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة.

وأصحابِه، ولا عارضَهم معارضةَ غيرِهم من المؤمنين (¬1). قال شيخنا أبو الفتح الحافظ -رحمه الله-: وهذا إنما يلزم، على أن ترك معاقبة المنافقين كانَ واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ فتمتنع معاقبتهم بهذا التحريق؛ فيكون ذلك في المؤمنين. فأما إذا كان تركه مباحًا له - صلى الله عليه وسلم -، مخيرًا فيه، فلا يلزم ذلك، بل يجوز أن يكون في المنافقين؛ بجواز معاقبته لهم، وليس في إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عنهم بمجرده، ما يدل على وجوبه عليه. ولعل في قوله - صلى الله عليه وسلم -، وتركه ما طلب منه فيهم؛ لئلا يتحدث الناس: أن محمدًا يقتل أصحابه؛ طلبًا للتأليف، وعدم التنفير عن الإسلام: ما يشعر بتخييره - صلى الله عليه وسلم - فيهم؛ لأنه لو كان يجب عليه ترك قتلهم، لكان الجواب بصريح المنع الشرعي، وهو أنه لا يحل قتلهم، ومما يشهد أن ذلك في المنافقين عندي: سياق الحديث من أوله: "أثقلُ صلاةٍ على المنافقين". قال: ووجه آخر، وهو أن هَمَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بالتحريق يدلُّ على جوازه، وتركه التحريقَ يدلُّ على جواز تركه؛ وإذا اجتمعَ الجوازُ والترك في حقِّ هؤلاء، لا يلزم أن يكون هذا المجموع في المؤمنين؛ هذا ملخص كلامه -رحمه الله - (¬2). ثم لو سلم أن التحريق كان لترك الجماعة، لما كان فيه دليل على أنها فرض عين؛ لأنه لم يحرق، وهَمَّ به، ثم تركَه، ولم يخبرهم أن من تركَ الجماعة: أَنَّ صلاته غير مجزية؛ وهو موضع البيان. وضعف ذلك، على تقدير أن يكون المراد بالحديث المؤمنين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يهم إلا بما يجوزُ له فعلُه لو فعله، وإنما كونه لم يخبرهم، إلى آخره؛ فلأن البيان لم يتعين أن يكون بالتنصيص، بل يكون بالدلالة، ولما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولقد هممتُ، إلى آخره"؛ دلَّ على وجوب الحضور عليهم لصلاة الجماعة. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 127). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 164 - 165).

فإذا دل الدليل على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها غالبا، كان ذكره - صلى الله عليه وسلم - هذا لهم دليلًا على: وجوب الحضور، ووجوبه دليلًا على الشرطية؛ فحينئذٍ، يكون ذكر الهم دليلًا على لازم الحضور؛ وهو الاشتراط بالوسيلة المذكورة، فلا يشترط في البيان أن يكون نصًّا، وقد قيل: إن اشتراطه في النصية غالب، ولهذا ينفك الوجوب عن الشرط. ثم لو سلم ذلك جميعُه، لكان المراد بالتخلف عن الجماعة في الجمعة، لا غيرها، والجماعةُ شرط فيها، وقد ورد مفسَّرًا في بعض الروايات؛ كما قدمناه، لكنه ورد مفسرًا في غيرها؛ فلا يتم أن المراد الجمعة فقط؛ فحينئذٍ، يرجع البحث إلى الأحاديث التي رويت في ذلك؛ هل هي حديث واحد، أو أحاديث مختلفة؟ فإن كانت مختلفة، قيل: لكل واحد من الصلوات المذكورة. وإن كانت واحدًا، اختلف فيه؛ فيرجع البحث إلى أن عدم ترجيح بعض الروايات على بعض؛ يحتاج إلى بيان مراده - صلى الله عليه وسلم -، من إحدى الصلاتين: العشاء، والجمعة. فإن كان مراده الجمعة؛ فلا يتم الدليل. وإن كان العشاء؛ توقف الحال بتردد الاستدلال. ثم لو سلم ما قالوه، إنما يكون ذلك في صلاة معينة؛ وهي: إما الجمعة، وإما العشاء، وإما الفجر، خصوصًا على مذهب الظاهرية؛ فلا يلزم منه وجوب الجماعة في غير هذه الصلوات الثلاثة؛ عملًا بالظاهر، وترك اتباع المعنى. إلا أن يضم إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْ آمرَ بالصلاةِ فتقام" على عمومها، وحينئذٍ يحتاج إلى اعتبار الحديث، وسياقه، وما يدل عليه، فيحمل لفظُ الصلاة عليه، إن أُريدَ التحقيقُ، وطلبُ الحق، والله أعلم. ومنها: تقديم الوعيدِ والتهديدِ على العقوبة، وسرُّ ذلك أنه إذا أمكن دفعُ المفسدة بالأهون من الزاجر، لم يعدل إلى الأعلى والأصعب منه.

الحديث الرابع

وفيه: الحث البليغ على حضور الجماعة في المسجد؛ في العشاء، والفجر. وفيه: تسمية صلاة الصبح بصلاة الفجر. وفيه: أن الإمام إذا عرض له شغلٌ، يستخلفُ مَنْ يصلي بالناس؛ لقوله: "آمرَ بالصلاةِ، فَتُقام، ثم آمرَ رجلًا، فيصلِّيَ بالناسِ". وفيه: جواز الانصراف بعد إقامة الصلاة؛ لعذر. واستدل به بعضهم على جواز العقوبة بالمال؛ وهو مذهب مالك. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرقه: "ثم يحرقَ بيوتٌ على مَنْ فيها" ما يدل على: أن تارك لصلاة متهاونًا يُقتل. وفيه: جواز أخذِ أهل الجرائم على غِرَّة. وفيه: أن الأفضلَ لأهل الأعذار تحمُّلُ المشقةِ في الإتيان إلى الجماعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأتَوْهما، ولو حَبْوًا"، ومعلوم أن إتيان الصلاة حبوًا لا يكون إلا من عذر، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذَا اسْتأذنَتْ أَحَدَكُم امْرَأتُهُ إلى المَسْجِدِ، فَلا يَمْنَعْهَا". قالَ: فقالَ بلالُ بنُ عبدِ اللهِ: وَاللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا ما سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَه قَطُّ، وقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وتَقُولُ: واللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ!! (¬1). وفي لفظ: "لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (442)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة. (¬2) رواه البخاري (858)، كتاب: الجمعة، باب: هل على من لم يشهد الجمعة غُسل من النساء =

أما عبد الله بن عمر؛ فتقدم ذكره. وأما بِلالُ بنُ عبدِ الله: فهو ابنُ عبد الله بن عمر، راوي الحديث؛ تابعيٌّ مدنيٌّ ثقةٌ، روى له مسلم (¬1). وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استأذنتْ أحدَكم امرأتُه إلى المسجد، فلا يمنعْها": مقتضى عدم المنع: الإباحةُ لهن في الخروج إلى المساجد للصلاة. ويلزم من النهي عن المنع، إذا طلبت ذلك: أنها كانت ممنوعة من الخروج من بيت الزوج لغير ذلك؛ لأنه لو كان جائزًا لها الخروج، لم يكن للنهي عن المنع من الخروج فائدة؛ لأنه إذا كانت الطاعات المشروعة مقيدة بالاستئذان، والإذن، فما ظنك بغيرها من أنواع الخروج؟! ثم الحديث عامٌّ في النساء، لكنه ذكرهن في اللفظ الثاني في الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ الله"؛ لأنه أوقع في السمع من التعبير بالنساء؛ لمناسبة الإضافة بين الإماء والمساجد؛ لقصد تشريف الطائع، ومحل الطاعة. ثم اعلم: أن الفقهاء خصصوا هذا الحديث بأحاديث أخر، وجعلوها شروطًا للعمل به؛ لمفاسد طرأت؛ كما قالت عائشة - رضي الله عنها - في "الصحيح": لو رأى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما أحدثَ النساءُ لمنعهنَّ المساجدَ؛ كما مُنعت نساء بني إسرائيلَ (¬2). ¬

_ = والصبيان وغيرهم، ومسلم (442)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة. (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 107)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 396)، و "الثقات" لابن حبان (4/ 65)، و "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 296)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 442). (¬2) رواه البخاري (831)، كتاب: صفة الصلاة، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، ومسلم (445)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة.

فمن الشروط: أن لا يَتَطَيَّبْنَ؛ وهذا مذكور في بعض روايات هذا الحديث: "ولْيَخْرُجْنَ تَفِلاتٍ" (¬1)، وفي بعض الأحاديث: "إذا شهدتْ إحداكُنَّ العشاءَ، فلا تَطَيَّبْ تلكَ الليلةَ" (¬2)، وفي بعضها: "إذا شهدتْ إحداكنَّ المسجدَ، فلا تَمَسَّنَّ طيبًا" (¬3). ويلحق بالطيب: ما في معناه؛ من البخور، وحسن الملابس، والحلي الذي يظهر أثره في الزينة؛ فإن منعَ الطيبِ لهن في الخروج؛ إنما هو: لدفع داعية الرجال، وشهوتهم، وربما يكون سببًا لتحريك شهوة المرأة أيضًا؛ وكذلك حكم كل خروج يؤدي بهن إلى مفسدة نهى الشرع عنها. وخص بعضُهم قولَ عائشة في المنع من الخروج؛ للمرأة الجميلة المشهورة، وربما خصَّه بعضهم بالخروج بالليل؛ لرواية في "صحيح مسلم": "لا تمنعوا النساءَ من الخروج إلى المساجد بالليلِ؛ (¬4)؛ فالتقييد بالليل مشعر بما قال. ومما قيل في تخصيص الحديث: بأن لا يزاحمْنَ الرجال. وكل ذلك من المنع خارج عن الحديث، خلا الطيب، وما في معناه؛ من الخلاخل التي يسمع صوتها، والأزر المفعقعة، والأحذية المصرصرة؛ التي توجبُ رفعَ الأبصار إليها بسببها، والافتتان بها، وكذلك ما يعرض لهن في الطريق من أهل الفساد والأذى. وهذا النهي للتنزيه: إذا كانت ذات زوج، أو سيد، ووجدت الشروط؛ فإن لم يكن لها زوج، ولا سيد، حرم المنع، إذا وجدت الشروط. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (565)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 69)، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه مسلم (443)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، من حديث زينب الثقفية - رضي الله عنها -. (¬3) رواه مسلم (443) (1/ 328)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، من حديث زينب الثقفية - رضي الله عنها -. (¬4) رواه مسلم (442)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

الحديث الخامس

وأما سبُّ عبدِ الله ولدَه بلالًا، ومبالغتُه فيه: ففيه أن السنَّةَ سبُّ المعترضِ على السنَّةِ، والمعارضِ لها برَأيه. وفي الحديث فوائد: منها: منعُ الرجل امرأته من الخروج من منزله، إلا بإذنه. ومنها: أنه لا يمنعها إذا استأذنته في الخروج إلى المساجد؛ بالشروط المذكورة. ومنها: الأدب مع السنة، وأن لا تُعارض بصريح الرد، والأخذ بالرأي. ومنها: تأديبُ المعترضِ عليها، والرادِّ عليها برأيه، وسبُّه، وتعزيرُه، والمبالغةُ في ذلك. ومنها: الردُّ على العالم بمجرد الهوى، وتأديبُ الرجل ولدهَ؛ وإن كان كبيرًا في تغيير المنكر. ومنها: تأديبُ العالم مَنْ تعلَّم عنده، وتكلَّم بما لا ينبغي. ومنها: تقديمُ حقِّ الله تعالى، وحقِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - على غيرهم. ومنها: القولُ بالحق؛ سواء كان القول له قريبًا، أو غيره، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قالَ: صلَّيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، ورَكعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكعَتينِ بَعْدَ العِشَاءِ (¬1)، وفي لفظ: فَأمَّا المَغْرِبُ، والعِشَاءُ، والجُمُعَةُ؛ فَفِي بَيْتِه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1112)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى. (¬2) رواه البخاري (1119)، كتاب: التطوع، باب: التطوع بعد المكتوبة، ومسلم (729)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة، وهذا لفظ البخاري.

وفي لفظٍ: أَن ابنَ عُمَرَ قال: حَدَّثَنْي حَفْصَةُ: أَن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتين بَعْدَمَا يَطلُعُ الفَجْرُ؛ وكانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا (¬1). تقدم الكلام على ابن عمر. وأما أختُه حَفْصَةُ: فتقدَّم نسبُها، في ذكر أبيها عمر - رضي الله عنه -؛ وهي: أم المؤمنين، بنتُ أمير المؤمنين عمرَ، أسلمت تبعًا لأبيها؛ وهي: أختُ عبدِ الله لأبيه وأمه، وأمُّها: زينبُ بنتُ مظعون. وكانت تحتَ خُنَيْسِ بنِ حُذافةَ السَّهْمِيِّ، فلما تَأيَّمَتْ حفصة، ذكرها عمرُ لأبي بكر؛ فلم يرجع إليه كلمة، ثم عرضها على عثمان حين ماتت رُقَيَّةُ بنتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عثمان: ما أريدُ أن أتزوجَ اليومَ؛ فشكا ذلك عمرُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره بعرضِه إليه؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتزوجُ حفصةَ مَنْ هو خيرٌ من عثمانَ، ويتزوَّجُ عثمانُ مَنْ هي خيرٌ من حفصةَ". ثم خطبها إلى عمر، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقي أبو بكر عمرَ؛ فقال: لا تَجِدْ عليَّ في نفِسك؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ذكرَ حفصةَ فلم أكنْ لأُفشيَ سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وتزوجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -عند أكثرهم- في سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: سنة اثنتين، وطلَّقها تطليقة، ثم ارتجعها؛ لأن جبريل - صلى الله عليه وسلم - قال له: "راجعْ حفصةَ؛ فإنَّها صَوَّامة قوامةٌ، وإِنَّها زَوْجُكَ في الجنَّةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث المتقدم؛ إذ هو قطعة منه. (¬2) رواه البخاري (3783)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 365)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (1000)، والحاكم في "المستدرك" (6753)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 50)، عن قيس بن زيد، مرسلًا.

وأوصى إليها عمر بعدَ موته، وأوصت حفصةُ إلى أخيها عبد الله بما أوصى به عمر، وبصدقةٍ تصدقت بها بمال وقفته بالغابةِ. رُوي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستون حديثًا؛ اتفقا على: ثلاثة، وانفرد مسلم: بستة. روى عنها: أخوها عبد الله، والمطلب بن أبي وداعة بن ضميرة، وعبد الله بن صفوان، وشتير بن شَكَل، وروى لها: أصحاب السنن والمسانيد. وتوفيت سنة إحدى، وقيل: سنة خمس وأربعين، وقيل: أول ما بويع معاويةُ، وبويع معاوية في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وقيل: توفيت سنة سبع وعشرين؛ وهو ضعيف (¬1). أما الكلامُ على لفظه: فذكرُ هذا الحديثِ في باب: صلاة الجماعة لم تظهر له مناسبة، إلا من حيثُ المعيَّةُ؛ في قول ابن عمر: "صَلَّيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الحديث"، لكنه لا يلزمُ منها الاجتماعُ للسنن المذكورة؛ لأجل الجماعة فيها، وإن كان محتملًا؛ فإن المعية مطلقًا أعمُّ منها في الصلاة. ومما يبعد الاحتمالَ المذكورَ؛ قولُ عائشة بعدَه: "لم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، على شيء من النوافل أشدَّ تعاهُدًا منه على ركعتيِ الفجرِ" (¬2)، وهذا لا تعلُّق له بالجماعة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 81)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 98)، و "المستدرك" للحاكم (4/ 15)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 50)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1811)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 180)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 38)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 67)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 605)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 153)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 227)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 581)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 439). (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا.

وأما الكلامُ على هذا الحديث، فمن أوجُهٍ: الأول: ما يتعلَّق بعلوم الحديث، وأنواعه؛ وهو أن [في] الرواية التالية، دليلًا على: رواية الأخ عن أخيه؛ سواء كان ذكرًا، أو أنثى. وأخذ العلم من المرأة؛ خصوصًا إذا كانت أعلمَ بالواقعة والحالة. وقبول خبر الواحد، وهو مذهب العلماء العلماء؛ من جميع الطوائف، خلافًا لبعضهم، وعمل بخبر الواحد: الصحابة، فمن بعدهم فيما لا يحصى من الأحكام. الثاني: فيما يتعلق بالصلوات النوافل المقيدة بأوقات وأعداد. فمنها: السنن الرواتب قبل الفرائض وبعدها. فأما الحكمة في النوافل قبلها، فلأن النفس متكيفة بأسباب الدنيا، واشتغالها بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فكان تقديمها عليها تأنيبًا للنفس في الفرض بالعبادة قبله؛ لتتكيف بحالة الخشوع، وتدخل في الفرض على حالة حسنة لم تكن للنفس قبله، فإنها منافرة للطاعة، لا سيما إذا كثر أو طال ورود الحالة المنافية لما قبلها، فإنها قد تمحو أثرها، أو تضعفه، وأما في النوافل بعدها، فلأنها جابرة لما وقع في الفرائض من نقص إن وقع. الثالث: ما يتعلق بعددها، ولا شك أنه قد ثبت في ذلك أحاديثُ، لكن تأكدها على مراتب، فبعضها آكد من بعض؛ بحسب مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليه، أو تخصيصه بكثرة الثواب في فعله لمشقة الفعل، أو لاشتغال الناس عنها بمعايشهم، أو راحة بنوم أو لعب، وغيرهما، أو لغير ذلك. واعلم أنه ثبتت في السنن الراتبة المقيدة بالفرائض أحاديثُ:

منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى اثنتي عَشْرَةَ رَكْعَةً في يومٍ وليلةٍ، بُنيَ له بهنَّ بيتٌ في الجنة" (¬1). ومنها: "ما مِنْ مسلمٍ يصلِّي لله تعالى في يومٍ اثنتي عشرةَ ركعةً تطوُّعًا غيرَ فريضة، إلا بنى الله له بيتا في الجنة" (¬2). ولا شك أن هذا العددَ موجودٌ في أحاديث ابن عمر المذكورة في الكتاب هنا، وفي حديث عائشة هنا: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدَها وبعدَ المغرب وبعدَ العشاء، وإذا طلع الفجر صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الحديث، لكنه لا يلزم منها الاجتماع للسنن المذكورة [إلى] صلى ركعتين، وهن اثنتا عشرة أيضًا، وليس للعصر ذكر في "الصحيحين". وجاء في "سنن أبي داود" بإسنادٍ صحيح عن علي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين (¬3). وفي الترمذي، وقال: حسن: عن ابن عمرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رحمَ اللهُ امرأً صَلَّى قبل العصر أربع ركعات" (¬4). وفيه -أيضًا-، وقال: حسن، عن علي - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم -[يصلي] قبل العصر أربع ركعات" (¬5). وجاء في أربعٍ بعد الظهر عن أم حبيبة - رضي الله عنها - قالت: قال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (728) (1/ 502)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، عن أم حبيبة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه مسلم (728) (1/ 503)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، عن أم حبيبة - رضي الله عنها -. (¬3) رواه أبو داود (1272)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر. (¬4) رواه الترمذي (430)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، وأبو داود (1271)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 117)، وابن حبان في "صحيحه" (2453). (¬5) رواه الترمذي (429)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، والطبراني في "المعجم الصغير" (1124)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 473).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حافظَ على أربعٍ قبل الظهرِ، وأربعٍ بعدَها، حَرَّمه اللهُ على النار" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (¬1). وفي "صحيح البخاري" عن ابن مغفل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلوا قبل، المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء" (¬2)، وفي "الصحيحين" عن ابن مُغفَّل -أيضًا- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ " (¬3)، والمراد: بينَ الأذانِ والإقامة. فهذه جملةٌ من الأحاديث في السنن الراتبة مع الفرائض. قال جمهور العلماء، وأصحاب الشافعي: هذه النوافل المذكورة في هذه الأحاديث جميعُها مستحبة، لا خلافَ في شيء منها، إلا في الركعتين قبل المغرب، فإنَّ فيهما وجهينِ عندَ أصحاب الشافعي: أشهرهما عندهم: عدم الاستحباب، والمحققون منهم قالوا باستحبابهما؛ لحديثي ابن مغفَّل، وحديثِ ابتدارِهم السواريَ بهما، وهو في "الصحيحين" (¬4). قال العلماء من الشافعية وغيرهم: واختلافُ الأحاديث في أعدادها محمولٌ على التوسعة فيها، وأن لها أقلَّ وأكملَ، فيحصل أصلُ السنة بالأقل، والأكملُ فعلُ الأكثر. وَكذلك في الضحى والوتر وغيرها، فأعدادها بالأقل والأكثر وما بينهما دليلٌ على أقل المجزي من أصل السنة، وعلى الأكمل، والأوسط، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1269) كتاب: الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها، والترمذي (428)، كتاب: الصلاة، باب: (317) منه آخر، والنسائي (1816)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد. (¬2) رواه البخاري (1128)، كتاب: التطوع، باب: الصلاة قبل المغرب. (¬3) رواه البخاري (598)، كتاب: الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، ومسلم (838)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: بين كل أذانين صلاة. (¬4) رواه البخاري (481)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة إلى الأسطوانة، ومسلم (837)، كساب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

هذا ما يتعلق بالنوافل المقيدة، وأما النوافل المطلقة، وتسمى المُرسَلة، فما كان منها في حديث صحيح أو حسن مقيدًا بعدد أو هيئةٍ، أُعمل به، وكان مستحبًّا، وتختلف مراتبه وتأكيده باختلاف دليله في فعله وتركه قولًا وعملًا على حسبه؛ في صحته ومَراتبه، وما كان في حديث ضعيف، احتمل أن يعمل به؛ لدخوله تحت العمومات، لكن شرطه أن لا يقومَ دليل على المنع منه في العمومات أَخصُّ منه، وليس الحديثُ الموضوع من ذلك ألبتة، خصوصًا إن أحدثَ شعارًا في الدين؛ كالصلاة المذكورة في ليلة أول جمعة من رجب؛ فإن حديثها موضوع، وقد أدخلها بعضُهم تحت العمومات الدالَّة على فضل الصلاة والتسبيحات، وَلم يستقم له ذلك لو كان حديثها ضعيفًا، وهو الذي لم يدخل تحت حدِّ الصحيح أو الحسن، فكيف بالموضوع الذي هو شرٌّ من الضعيف المختلَق المصنوع؟! كيف وقد صحَّ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تخصيص ليلةِ الجمعةِ بقيام، وهو أخصُّ من العمومات الدالة على فضيلة مطلق الصلاة، ثم احتمال دخوله تحت العمومات إنما هو في الفعل لا في الحكم بالاستحباب المخصوص بهيئةٍ؛ لأنه يحتاج إلى دليل شرعي عليه بذلك الوقت والهيئة والحالة، والله أعلم. ومما أُحدثَ شعارًا في الدين عيدًا ثالثًا أحدثَه الروافضُ وسموه: عيدَ الغدير، وليس له أصل في الشريعة. ثم المحدَث في الدين قد يكونُ زيادةَ وصفٍ في العبادة المشروعة لم تثبت في السنة؛ كاجتماع في موضع الانفراد، ويزعم من يفعل ذلك أن يدخل تحت عموم السنة؛ كما يفعل في ليلة النصف، والتعريف بغير عرفة، وهذا لا يستقيم؛ فإن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذُها التوقيف، فإن دلَّ الدليل على كراهة المحدث بخصوصيته، كان أقوى في منعه وأظهر. وقد ذكر أصحاب الشافعي -رحمهم الله- في رفع اليدين في دعاء القنوت وجهين، فمن نظر إلى صحة الحديث في رفع اليدين في الدعاء عندَ الإطلاق،

قال برفعهما، ومن نظر إلى التوقيف والتعبد، قال بالمنع، كيف والصلاة تُصانُ عن زيادة عمل بغير دليل خاصٍّ فيه صحيحٍ، فإذا لم يصحَّ فيه حديثٌ خاصٌّ، كان دليلُ صيانةِ الصلاة عن زيادةِ عمل أخصَّ من دليلِ رفع اليدين في الدعاء مطلقًا. ثم المحدَثُ قد يكون محرَّمًا، وقد يكون مكروهًا، ويختلف ذلك باختلاف نفس الشرع فيه من التشديد بالنسبة إلى ذلك الجنس والتخفيف، فإنا إذا نظرنا إلى البدع المتعلقة بأصول العقائد، لم تكن مساويةً للبدع المتعلقة بأحكام الشريعة الفروعية، ولا شك أن الناس من العلماء الأصوليين والفروعيين قد تباينوا تباينًا كثيرًا في الكلام على البدع والتشديد فيها، حتى إن بعض العلماء من المالكية مرَّ بقوم يصلُّون في إحدى ليلتي الرغائب في رجب، والتي في نصف شعبان، وبقوم عاكفين على محرَّم، فحسب حالهم على المصلين لتلك الصلاة، وعلَّل بأنهم عالمون بارتكاب المعصية يرجون الاستغفار والتوبة، والمصلُّون لتلك الصلاة معتقدون أنهم في طاعة، فلا يتوبون ولا يستغفرون. والقياس في هذا يرجعُ إلى العُمومات الشرعية أو دليلٍ خاصٍّ عليه، وميل المحققين من العلماء إلى ذلك. وقد ثبت عن السلف من الصحابة والتابعين ما يؤيده؛ كجعل ابن عمر - رضي الله عنهما - صلاةَ الضحى بدعةً؛ حيث لم يثبت عنده فيها دليل بإدراجها تحت عموم الصلاة؛ لتخصيصها بوقت مخصوص، ولذلك قال في القنوت الذي فعل في عصره: إنه بدعة، ولم يرَ إدراجه تحت عموم الدعاء. وكذلك نقل الترمذي عن عبد الله بن المغفَّل، لابنه في الجهرِ بالبسملةِ: "إياكَ والحدثَ" (¬1)، وَلم يرد إدراجه تحت دليل عام. وكذلك ما خرجه الطبراني بسنده عن قيس بن أبي حازم قال: ذُكر لابن ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (244)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ترك الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقال: حسن، وابن ماجه (815)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: افتتاح القراءة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 55).

مسعودٍ قاصٌّ يجلس بالليل ويقولُ للناس: قولوا كذا، وقولوا، فقال: إذا رأيتموه، فأخبروني، قال: فأخبروه، فجاء عبدُ الله متقنِّعًا، فقال: من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود، تعلمون إنكم لأهدى من محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (¬1)، وفي رواية: "لقد جئتم ببدعةٍ ظلمًا" أو: "لقد فضلتم أصحابَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه علمًا" (¬2)، وإنما أنكر ذلك؛ لأنه رآه من باب الزيادة في العبادات، مع أنه داخل تحتَ العمومات في فضيلة الذكر. ولا شك أن ذلك جميعَه -بتقدير ثبوته عنهم- محمولٌ على أنه لم تبلغهم الأحاديثُ الخاصة فيه، أو أنه اقترن به أمرٌ من رياءٍ، أو ترك واجب شرعي، أو استدراج بذلك إلى مفاسدَ علموها، وإلا فالأحاديثُ الصحيحة ثابتة بالأمر بالذكر، فرادى ومجتمعين، والحث عليه، وعلى صلاة الضحى، والدعاء في الصلاة؛ لحديث أبي بكر - رضي الله عنه -: علمني دعاءً أدعو به في بيتي وفي صلاتي (¬3). وحديث: "إنّ لله تعالى ملائكةً سياراتٍ فضلاءَ، يطلبون حِلَقَ الذكر، فإذا وجدوها، قالوا: هلموا إلي طِلْبَتِكُم" (¬4)، وكذلك القنوتُ في الصبح وغيرها. وهذا كلُّه راجع إلى معرفة وجوه السنة، وما هي، وقد بين ذلك الشافعي -رحمه الله- أحسنَ بيان، فيما رويناه في كتاب "المدخل إلى معرفة السنن" للبيهقي -رحمه الله- بإسنادنا إليه، ثم إلى الربيع، قال: أنا الشافعي: وسُنَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة أوجه: أحدها: ما أنزل الله تعالى فيه نصَّ كتاب، فسنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل نَصِّ الكتاب. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8629)، من طريق عبد الرزاق في: "المصنف" (5408). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8630)، من طريق عبد الرزاق في "المصنف" (5409). (¬3) رواه البخاري (799)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر. (¬4) رواه البزار في "مسنده" (10/ 77 مجمع الزوائد للهيثمي)، وأبو نعيم في: "حلية الأولياء" (6/ 268)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - بلفظ نحوه.

والثاني: ما أنزلَ الله فيه جملةَ كتابَ، فبيَّنَ عن الله تعالى معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها، أعامًّا أم خاصًّا؟ وكيف أراد أن يأتي به العباد؟ والثالث: ما سنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ممَّا ليس فيه نصُّ كتاب، فمنهم من قال: جعله تعالى بما افترض من طاعة، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نصُّ كتاب. ومنهم من قال: لم يَسُنَّ سنةً قطُّ إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عددِ الصلاة وعملها عن أصل حمله فرض الصلاة، وكذلك ما سَنَّ من البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله تعالى قال: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29]، وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فما أحل وحرم، فإنما بين فيه عن الله تعالى كما بيَّنَ الصلاة. ومنهم من قال: بل جاءت به رسالة الله -جل ثناؤه-، فأثبت به سنة بفرض الله -عزَّ وجلَّ-. ومنهم من قال: أُلقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقيت في روعه من الله -جل ثناؤه-. هذا آخر كلام الشافعي في "المدخل" (¬1)، والله أعلم. وقال غيره: سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولُه، أو فعلُه، أو حالُه، أو تقريره لما اطلع عليه - صلى الله عليه وسلم - من القول والفعل الحال بحضرته وسكت عليه، والله أعلم. فالحاصل أن السنة في المعنى الشرعي أمرٌ بين الغُلُوِّ والإهمال، فلا يتنطع متعاطيها، ولا يبخل مترخصيها، بل هي حالة بين حالتين، وهي حال ساداتِ الأمة وسلِفها، والقدوةِ من أهلها وخلِفها، فنسأل الله التوفيق لذلك، وأن يهديَنا لأحسن المسالك. ¬

_ (¬1) ورد هذا الكلام بمعناه في كتاب: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 21) وما بعدها.

الحديث السادس

وفي الحديث فوائد: منها: الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في النوافل، وفعلها، وتتبعها، ونقلها. ومنها: صلاة النوافل في البيت، والمسجد، وغيرهما؛ وإن كان فعلها في البيت أفضل، إلا أن يكسل عن فعلها فيه؛ فالمسجد أفضل. ومنها: تخفيف ركعتي الفجر. ومنها: عدم الدخول على الشخص في ذلك الوقت، والاستئذان عليه؛ وقد تقدم باقي أحكامه، وفوائده، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَائشةَ -رَضِيَ اللهُ عنها- قَالَتْ: "لَمْ يكُنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْه عَلَى رَكعَتَيِ الفَجْرِ" (¬1). وفي لفظ مسلم: "رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا" (¬2). أما عائشة؛ فتقدم ذكرها. وأما مناسبة التبويب للحديث، فتقدم قبله أنه لا مناسبة بينهما بوجه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رَكْعَتا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها": المراد بهما: السنَّة، لا الفريضةُ، والمرادُ بالدنيا: حياتُها، وما فيها: متاعُها، لا ذاتها؛ فكأنه قال: خيرٌ من متاع الدنيا، وشدةُ تعاهدِه - صلى الله عليه وسلم - على صلاتهما: لِعظم فضلِهما، وجزيلِ ثوابهما. وجمهور العلماء: على أنهما سنة، ليستا واجبتين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1116)، كتاب: التطوع، باب: تعاهد ركعتي الفجر ومن سماها تطوعًا، ومسلم (724)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه مسلم (725)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر.

وحكى القاضي عياض -رحمه الله-، عن الحسن البصري: وجوبهما. والصواب: أنهما سنة، غيرُ واجبتين؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: "على شيءٍ من النوافلِ"، مع تصريحه - صلى الله عليه وسلم -: بعدمِ وجوب غير هذه الصلوات الخمس، وقولِ السائل له: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلَّا أن تَطَوَّعَ" (¬1). وقد اختلف أصحاب الشافعي -رحمهم الله- في أفضل التطوع، الذي لا تشرع له الجماعة؛ على وجهين: أحدهما: سنة الصبح، والثاني: الوتر، وتمسكوا في أفضلية ركعتي الفجر؛ بهذين الحديثين، من المواظبة عليهما، وكون [ما] فيهما خير من الدنيا وما فيها. فأما المواظبة عليهما: فمشترَكٌ بينه، وبين الوتر؛ فإنه كان واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أنه كان على الواجب أشدَّ محافظةً من المندوب؛ وإذا كان فعلُ المندوب خيرًا من الدنيا، فما ظنك بالواجب؟! وقد رجَّح بعضُ أصحاب الشافعي أفضليةَ الوتر؛ لكونه مختلفًا في وجوبه بين العلماء؛ وهذا لا يصحُّ؛ فإنه مشتَرك بينه، وبينَ ركعتي الفجر؛ بما حكيناه من وجوبهما، عن الحسن البصري، ومعلوم أنه من فضلاء التابعين، وأئمتهم، وجلتهم؛ فاستويا في ذلك. وقد اختلف أصحاب مالك في أن ركعتي الفجر؛ هل هما سنة، أو فضيلة؟ مع فرقهم بين السنة والفضيلة، فقالوا: السنةُ: ما واظبَ عليه في الجماعة مظهرًا له، وما لم يواظب عليه من هذه من النوافل، فهو فضيلة، وما واظب عليه ولم يظهره؛ كركعتي الفجر، ففيه قولان: أحدهما: سنة، والثاني: فضيلة. وهذا اصطلاح لا أصل له؛ وقد بينا السنة ومعناها في الحديث قبله، لكن السنة تختلف رتبتها في الفضيلة، فبعضها آكدُ من بعض، على حسب مقصود ¬

_ (¬1) رواه البخاري (46)، كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام، ومسلم (11)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -.

الشرع، ومقتضاه، ومنطوقه، وشرعية الجماعة فيها، والله أعلم. ولا شك، أن حكم القراءة فيهما: قراءة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، بعد الفاتحة في الأولى، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في الثانية كذلك. أو في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية في البقرة [البقرة: 136]، وفي الثانية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية في آل عمران [آل عمران:64]؛ وكلا القراءتين ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، إن شاء مصليهما، قرأ هذا، وإن شاء، قرأ هذا بعد الفاتحة. وقال مالك: لا يقرأ غيرَ الفاتحة، وبه قال جمهور أصحابه، وقال بعض السلف: لا يقرأ شيئًا؛ وكلا القولين مخالفٌ للسنة الثابتة التي لا معارض لها، والله أعلم. * * *

باب الأذان

باب الأذان الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَيُوترَ الإقَامَةَ (¬1). أما أنس، فتقدم في أول باب الاستطابة. وأما بلال: فهو مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنون أربعة: مؤذنان بالمدينة؛ كما سيأتي: بلال، وابنُ أُمِّ مكتومٍ؛ وكانا في وقت واحد، وكان أبو مَحْذُورةَ مؤذنًا له - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وسعد القرط؛ أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء مرات. وبلال هو ابن رباح، قرشيٌّ تيميٌّ مولاهم، مولى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ اشتراه بسبع أواقي، وقيل: بخمس، وأعتقه، وكان يرثه، ولأبي بكر ولاؤه، وكان يعذَّب في الله تعالى، وأمه: حمامة؛ وهو مشهور بالانتساب إليها، وكانت مولاة لبعض بني جمح. وكان قديم الإسلام، صادقًا فيه، طاهر القلب، متقدم الهجرة، وقيل: إنه أول من أسلم مطلقًا؛ وهو من أول من أظهر الإسلام، وكان ممن هانت عليه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (580)، كتاب: الأذان، باب: الأذان مثنى مثنى، ومسلم (378)، كتاب: الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة.

نفسه في الله تعالى، وهان عليه قومه؛ فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة؛ وهو يقول: أَحَدٌ أَحَد. وقال السمعاني، في "أنسابه" (¬1): الحبشيُّ: نسبة إلى الحبشة؛ بلاد معروفة، وقد ملكها النجاشي؛ الذي أسلم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر إليه أصحابه، حتى هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة؛ فالتحقوهم من الحبشة إلى المدينة، وسميت الحبشة بحبشة؛ لأبيه ابن حام، وقيل: الزنج، والحبشة، والنوبة، وزعاوة، وقران؛ هم ولد رغبا بن كوش بن حام؛ ومنها: بلال الحبشي؛ مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ هذا كلام السمعاني. واختلف في كنية بلال؛ فالمشهور: أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الكريم، ويقال: أبو عبد الرحمن، شهد بدرًا وأحدًا، والمشاهد كلها؛ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو أول من أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يؤذن لأحد بعده - صلى الله عليه وسلم -؛ فيما روي، إلا مرة واحدة، في قَدْمة قدمَها المدينة؛ لزيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طلب إليه الصحابة ذلك؛ فأذن، ولم يُتِمَّ الأذان، وقيل: إنه أذن لأبي بكر خلافته. روي عن بلال - رضي الله عنه -: أنه قال لأبي بكر بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنتَ أعتقَتني لله؛ فدعْني أذهب حيثُ شئتُ، وإن كنتَ أعتقتني لنفسكَ فاحبسني، قال أبو بكر: اذهبْ حيثُ شئتَ (¬2)؛ فذهب إلى الشام، فسكنها مُؤثِرًا للجهاد على الأذان إلى أن مات. وكان خازنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيت ماله. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربعة وأربعون حديثًا؛ اتفقا على: حديث واحد، وانفرد البخاري: بحديثين غير مسندين، ومسلم: بحديث مسند. ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (2/ 167). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20412)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 236)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 150)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 419).

روى عنه: أبو بكر، وعمر، وابنه عبد الله، وأسامةُ بن زيد، وغيرهم من الصحابة، وكبار التابعين، وروى له: أصحابُ السنن والمساند. مات بدمشق سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: سنة ثماني عشرة؛ وهو ابن بضع وستين، وقيل: ابن ثلاث وستين، وقيل: ابن سبعين. واختلف في موضع مدفنه؛ فالمشهور الذي عليه الأكثرون: أنه بباب الصغير، وقيل: بباب كيسان، وقيل: مات بداريا، وحُمل على رقاب الرجال، ودُفن بباب كيسان، وقيل: مات بحلب، ودُفن على باب الأربعين، وقال أبو حاتم بن حبان: وسمعت أهل فلسطين يقولون: قبره بِعَمْواس، وقيل: إن قبره بداريَّا. وامرأة بلال: هند الخولانية، وقال أبو عمر بنُ عبد البر: وله أخ يسمى: خالدًا، وأخت تسمى: عفرة. وكان شديد الأدمة، نحيفًا، طُوالًا، أجنى (¬1)، خفيفَ العارضين، والله أعلم (¬2). وأما قوله: "أُمر" -بضم الهمزة- فهو راجع عند الأصوليين إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ على المختار عندهم؛ وهو الراجح عند جمهور الفقهاء، والمحدثين، وحكمه: حكمُ المرفوع. وشذَّ بعضهم فقال: هذا اللفظ، وشبهه موقوفٌ؛ لاحتمال أن يكون الآمر ¬

_ (¬1) أجنى: أي: صار له جنى. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 86). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 232)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 106)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 28)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 318)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 147)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 178)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (10/ 429)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 434)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 415)، و"الكامل في التاريخ" له أيضًا (1/ 588)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 144)، و "تهذيب الكمال" للمزي (4/ 288)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 347)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 333)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 326)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 441).

غيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو خطأ؛ لأن إطلاق الأمر والنهي إنما ينصرف إلى صاحبه، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا الحكم في قول الصحابي: أُمرنا بكذا، ونُهينا عن كذا؛ سواء أضافه إلى حياته - صلى الله عليه وسلم -، أم أضافه إلى بعد وفاته؛ كلُّه مرفوع، والخلاف جارٍ فيه. وحكى الخطابي: أن بعضهم شذَّ، فقال: الآمرُ لبلال بذلك: أبو بكر، وعمر، قال: وهو فاسد؛ لأن بلالًا لحق بالشام بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف سعد القرظ على الأذان، في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قلت: وهذا كله لم يثبت التصريح برفعه من جهة أخرى؛ فأما إذا ثبت رفعه، فلا وجه للاحتمال، ولا شك أن الآمر في هذا الحديث؛ هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه النسائي، والدارقطني، والحاكم بأسانيد صحيحة. وقال الحاكم: وهو صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه، من رواية أبي قلابة، عن أنس: "أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمر بلالًا أن يشفعَ الأذانَ، ويُوترَ الإقامة" (¬2). فارتفعَ الخلاف فيه، والاحتمال. ولا شك أن شفعَ الأذان، وإيتارَ الإقامة هو من باب العبادات، والتقديرات، وذلك لا يؤخذ إلا بتوقيف منه - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. وقوله: "يَشْفَعَ الأَذانَ"؛ هو -بفتح الياء، والفاء-، وأصله: الضم، ومنه: الشفعة بضم الحصص؛ إذا أبيعت إلى حصته بالشفعة؛ ومعناها هنا: الإتيانُ بكلماته مثنى؛ فكأنه ضم كل كلمة إلى مثلها؛ وهذا مجمَع عليه اليوم، وحُكي عن بعض السلف في إفراده خلاف (¬3). وقوله: "ويُوترَ الإقامةَ"؛ أي: يأتي بكلماتها وترًا، ولا يُثنيها، بخلاف ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 279). (¬2) رواه النسائي (627)، كتاب: الأذان، باب: تثنية الأذان، والدارقطني في "سننه" (1/ 240)، والحاكم في "المستدرك" (710)، وابن حبان في "صحيحه" (1676)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 413). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 256)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 78).

الأذان، ويخرج عنه: التكبير الأول، والأخير؛ فإنه مثنى، وكذلك لفظ الإقامة؛ فإنه مثنى، وقد ثبت في "صحيح مسلم": "ويوتر الإقامة" (¬1). وخالف أبو حنيفة، فقال: الإقامة مثنى؛ كالأذان. وخالف مالك الشافعي في لفظ الإقامة، قال: إنه مفرد؛ عملًا بهذا الحديث. وتمسك الشافعي بالاستثناء في الإقامة في "صحيح مسلم". وأيد مالكٌ مذهبه في ذلك وغيره بعمل أهل المدينة، ونقلِهم، وجعله أقوى؛ لأن طريقه النقل، والعادة في مثله يقتضي شيوع العمل، وأنه لو كان تغير، لعمل به. وقد اختلف أصحاب مالك في أن إجماع المدينة حجة مطلقًا؛ في مسائل الاجتهاد، أو يختص ذلك بما طريقه النقل والانتشار؛ كالأذان، والإقامة، والصاع، والمُدِّ، والأوقات، وعدم أخذ الزكاة من الخضراوات. وقال بعض المتأخرين من المالكية: والصحيح عندنا جزمًا: أنه لا فرق في مسائل الاجتهاد بينهم وبين غيرهم من العلماء، ولم يقم دليل على عصمة بعض الأئمة. نعم؛ ما طريقه النقل، إذا عدم اتصاله، وعدم تغييره، واقتضته العادة من صاحب الشرع، ولو بالتقرير عليه؛ فالاستدلال به قوي، يرجع إلى أمر عادي به؛ كحكمه في إفراده الإقامة، وتثنية الأذان: أن الأذان لإعلام العامة؛ فيثنى؛ ليكون أبلغ في إعلامهم، والإقامة للحاضرين؛ فلا حاجة إلى تكرارها. ولهذا قال العلماء: يكون رفع الصوت في الإقامة دون الأذان، وإنما كرر لفظ الإقامة خاصة؛ لأنه مقصودها، فإن قيل: إن المختار: الإقامة إحدى عشرةَ كلمة، منها: الله أكبر، الله أكبر؛ أولًا، وآخرًا، وهذا تثنية؛ كما مر ذكره؟! ¬

_ (¬1) رواه مسلم (378)، كتاب: الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، والبخاري أيضًا (580)، كتاب: الأذان، باب: الأذان مثنى مثنى.

فالجواب: أنه وإن كان صورة تثنية؛ فهو بالنسبة إلى الأذان إفراد؛ ولهذا قال أصحاب الشافعي: يستحب للمؤذن أن يقول كل تكبيرتين بنفس واحد؛ فيقولهما في أوله، وفي آخره، كل منهما بنفس واحد، والله أعلم. وفي حديث أنس هذا فوائد: منها: قد يُستدل به على وجوب الأذان؛ من حيث إنه إذا أمر بالوصف، لزم أن يكون الأصل مأمورًا به؛ فظاهر الأمر للوجوب؛ وهذه مسألة اختلف فيها: والمشهور: أن الأذان والإقامة سنتان. وقيل: فرضان على الكفاية؛ وهو قول الإِصطخري من أصحاب الشافعي، وقد يكون له متمسك بهذا الحديث. وفيه: أن الأذان يُشفع؛ لكن اختلف العلماء، في كيفية كونه شفعًا: فقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وجمهور العلماء: بالتربيع في التكبير فيه. وقال مالك: بالتثنية. ولا شك أن التربيع ثابت في "صحيح مسلم"؛ من حديث أبي محذورة (¬1)، مع اختلاف فيه بين التثنية والتربيع، وكذلك اختلف فيهما عن عبد الله بن زيد، لكن المشهور فيه التربيع عنه؛ وهي زيادة من الثقة، وهي مقبولة؛ وبها عمل أهل مكة في المواسم؛ وهو مجمع المسلمين، ولم ينكرها أحد من الصحابة، وغيرهم. وقيل لأحمد بن حنبل -وكان يأخذ بأذان بلال-: أليس أذانُ أبي محذورة بعدَ أذان بلال؟ فقال: أليس لما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، أقر أذان بلال على حاله! والله أعلم (¬2). وفيه: أن الإقامة وتر، واختلف العلماء في كيفيتها: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (379)، كتاب: الصلاة، باب: صفة الأذان. (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 276).

الحديث الثاني

فالمشهور من نصوص الشافعي، وبه قال أحمد: أنها إحدى عشرة كلمة؛ بتثنية الإقامة والتكبير مرتين. وقال مالك في المشهور عنه: هي عشر كلمات؛ لإفراده لفظ الإقامة. وللشافعي قول شاذ: أنها ثماني كلمات؛ التكبير الأول، والأخير، والإقامة مرة في كل واحد منها، والصواب: الأول. وقال أبو حنيفة: الإقامة سبع عشرة كلمة؛ فيثنيها كلها؛ وهو شاذ عند العلماء. قال الخطابي: مذهب جمهور العلماء الذي جرى عليه العمل في الحرمين، والحجاز، والشام، واليمن، ومصر، والمغرب، إلى أقصى بلاد الإسلام: أن الإقامة فرادى، إلا لفظ الإقامة؛ فإنها مثنى، والمشهور عن مالك: أنه لا يثنيها، والله أعلم (¬1). * * * الحديث الثاني عَنْ أَبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ السُّوَائيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُو في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، قَالَ: فَخَرَج بلاَلٌ بوضُوءٍ؛ فَمِنْ نَاضِحٍ، وَنَائلٍ، قَالَ: فَخَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ؛ كأنِّي أَنْظرُ الَى بيَاضِ ساقَيْهِ، قَالَ: فَتَوَضَّأ، وأَذَّنَ بِلاَلٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أتتبَّعُ فَاهُ، هَاهُنَا، وهَاهُنَا؛ يَقُولُ يَمِينًا وشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاَح؛ فركَزْتُ لَه عَنَزَةً، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيَنِ، ثُمَّ لَمْ يزَلْ يُصَلِّي حَتَّى رَجَعَ إلى المَدِينةِ" (¬2). أما أبو جُحيفةَ وهبُ بنُ عبدِ الله: فالمشهور في اسمه، واسم أبيه: ما ذكره في هذه الرواية؛ وهو مشهور ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 272 - 273). (¬2) رواه البخاري (369)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثوب الأحمر، ومسلم (503)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي، وهذا لفظ مسلم.

بكنيته، وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يسميه: وهبَ الخير، ووهبَ الله. وقيل: إن اسم أبيه وهبٌ -أيضًا-، وقيل: جابر. وهو من صغار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قيل: مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبلغ الحلم. ونزل الكوفة، وابتنى بها دارًا، وجعله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهدَهُ كلَّها، وكان يحبه، ويثق إليه، وحديثه عند أهلها. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمسة وأربعون حديثًا؛ اتفقا على: حديثين، وانفرد البخاري: بحديثين، ومسلم: بثلاثة. وروى عنه: ابنه عون، وجماعة من صغار التابعين، وروى له: أصحاب السنن والمساند. قال أبو حاتم بن حبان: مات سنة أربع وسبعين، في ولاية بشر بن مروان على العراق، وقال غيره: سنة اثنتين وسبعين، في إمارة بشر البصرة. وأما السُّوائيُّ: بضم السين المهملة، ثم الواو المفتوحة، ثم الألف الممدودة، بعدها همزة مكسورة، ثم ياء النسب؛ بنسبه إلى بني سُواءة. وأبو جُحيفة: من بني حرثان بنِ سُواءة بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وقيل: إنه وهبُ بنُ عبدِ الله بنِ جُنادةَ بنِ حجرِ بنِ رباب بنِ حبيبِ بنِ سُواءة، وقيل غيره، والله أعلم (¬1). وأما القبة الحمراء: فهي شيء يُعمل من خشب مقبى؛ وهو ضيق الرأس معروف، ويُغَشَّى بالأَدَم المصبوغ بالحمرة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 63)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 428)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1619)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 199)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 47)، و"تهذيب الكمال" للمزي (31/ 132)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 489)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 202)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 626)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (11/ 145).

وقوله: "حمراءَ"، وصفَها بذلك؛ وهو من باب وصف الشيء بما ظهر، ورُئي؛ وهو أحسنه. وقوله: "من أَدَم"، هو بفتح الدال؛ وهو جمع الأديم: وهو الجلود. وتقدم أن الوَضوء -بفتح الواو-: اسمٌ للماء، والكلامُ عليه. وقوله: "فمن ناضحٍ، ونائلٍ"؛ فيه إضمار تقديره: فتوضأ، فمن الناس من ينال من وضوئه شيئًا، ومنهم من ينضح عليه غيره؛ مما يناله، ويرش عليه بللًا مما حصل له؛ تبركًا بِآثاره - صلى الله عليه وسلم -، وكلاهما قد ورد مبينًا، في حديث آخر صحيح: "فَمَنْ لمْ يُصِبْ، أَخَذ مِنْ يَدِ صاحِبِهِ" (¬1)، وفي آخر: "فَرَأَيْتُ الناسَ يأخذونَ من فَضْلِ وَضوئِهِ" (¬2). وقوله: "عليه حلة حمراءُ"؛ الحلة: ثوبان غير لفقين رداءً، وإزارًا؛ وسميا بذلك: لأن كل واحد منهما، يحل على الآخر. قال الخليل: ولا يقال حلة لثوب واحد، وقال أبو عبيد: الحلل: برود اليمن، وقال بعضهم: لا يقال لها حلة حتى تكون جديدة، بحلها عن طيها (¬3). والدليل على أن الحلة لا تكون إلا ثوبان: ما ثبت في الحديث: "أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا عليهِ حُلَّة؛ اتَّزَرَ بإحداهما، وارتدى بالأخرى" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب، عند البخاري. (¬2) رواه البخاري (185)، كتاب: الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم (503) (1/ 361)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي. (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 228)، و "العين" للخليل (3/ 28)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196)، وعنه نقل المؤلف نصّه هذا في معنى (الحلة). (¬4) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2606) في قصة ذي البجادين، بلفظ: "فاتزر نصفًا، وارتدى نصفًا ... ". أما ما ساقه المؤلف من لفظ الحديث، فقد نقله من "مشارق الأنوار"، على عادته في ذكر الحديث من غير مصادره الأصلية، وكتاب كـ "مشارق الأنوار" لا يُعنى فيه بالألفاظ الحديثية، وإنما طريقة القاضي -رحمه الله- هي طريقة الفقهاء في ذكر الأحاديث بمعانيها دون النظر في مبانيها، وقد كثر هذا للمؤلف -رحمه الله- فتراه ينقل من "مشارق الأنوار"، و "شرح مسلم" للنووي، و"معالم السنن" للخطابي، أحاديثَ وكلامًا دون نسبته إليهم في مواضع كثيرة، والله أعلم.

وقوله: "حَيَّ على الصَّلاةِ، حَيَّ على الفلاحِ"، معناه: تعالوا إلى الصلاة، تعالوا إلى الفلاح؛ وهو الفوزُ، والبقاءُ الدائم، يقال: حَيَّ على كذا؛ أي: هَلُمَّ وأَقْبِلْ، ويقال: حَيَّ على، وحَيَّ هلا، وحَيَّ هلًا، وحَيَّ على كذا، وحَيَّ إلى كذا، وحَيَّ هَلَ منصوبة مخففة، مشبهة بخمسة عشر، وحَيَّ هَلْ بالسكون؛ لكثرة الحركات، وتشبيهًا بِصَهْ، ومَهْ، وبَخْ، وحي هل بسكون الهاء. وقيل: معنى حَيَّ: هَلُمَّ، وهَلا: حثيثًا، وقيل: هلا: أسرعْ؛ جُعلا كلمة واحدة، وقيل: هلا: اسكن، وحيَّ: أسرعْ، وقيل: حيَّ: أعجلْ، وهلا: صلة (¬1). وقوله: "وأذن بلالُ، فجعلتُ أتتبعُ فاه" إلى آخره؛ معناه: أتتبع فاه في حال التفاتِهِ يمينًا، وشمالًا؛ لقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وتقدم ذكر معنى العَنَزة في الطهارة. واعلم أنه لم يبين في رواية الكتاب مكانَ اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين ذلك في رواية أخرى؛ في "الصحيحين"، وغيرهما، وهي [أن] "أبا جحيفة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة؛ وهو بالأبطح، في قبة له حمراء، من أَدَم" (¬2)؛ وفيها: فائدة زائدة رافعةٌ لإيهام أن يكون اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وصوله إلى مكة، في رواية الكتاب. فيشكل قوله: "فلم يزلْ يصلِّي ركعتين، حتى رجعَ إلى المدينة"، من غير وصوله إلى مكة؛ وكأنه لم يبق للسفر نهاية، وإذا تبين أن الاجتماع كان بمكة؛ علم نهاية السفر، وابتداء قصر الظهر، وأنه: من ابتداء رجوعه من مكة، إلى وصوله إلى المدينة، والله أعلم. وقوله: "ركزتُ له عَنَزَةً"؛ أي: أثبتت في الأرض، يقال: ركزتُ الشيء، أركُزه -بضم الكاف في المستقبل-، رَكْزًا: أثبته. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 218). (¬2) رواه البخاري (5521)، كتاب: اللباس، باب: القبة الحمراء من أدم، ومسلم (503)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي.

وفي الحديث فوائد كثيرة: منها: إتيان أهل القدوة وأهل الفضل إلى أماكنهم، في السفر والحضر؛ للتبرك بهم، والاقتباس منهم، وحكاية حالهم، وذكر منازلهم. ومنها: خدمتهم؛ بإحضار ماء الوضوء، ونحوه. ومنها: استعمال فضل طهورهم، وطعامهم، وشرابهم، ولباسهم، والتبرك بآثارهم. ومنها: جوازُ لبس الأحمر؛ من الحلة الحمراء، وغيرها. ومنها: جواز النظر إلى ساقَي الرجل الصالح؛ للاقتداء به، في حاله ولباسه. ومنها: أن الساقين ليسا بعورة، وقد أجمع العلماء؛ على أنهما ليسا بعورة من الذكور، لكن إن نظر إليهما بشهوة؛ فهو حرام إجماعًا؛ كسائر ما ينظر إليه من المحرمات. ومنها: شرعيةُ الأذان في السفر، قال الشافعي -رحمه الله-: ولا أكره من تركه في السفر، بما أكره من تركه في الحضر؛ لأن المسافر مبني على التخفيف (¬1). ومنها: أنه يسن للمؤذن الالتفات، في الحيعلتين؛ يمينًا وشمالًا، برأسه وعنقه، قال أصحاب الشافعي: ولا يحوِّلُ قدميه وصدرَه عن القبلة؛ إنما يلوي رأسه وعنقه. واختلف في كيفية التفاته، على مذاهب؛ وهي أوجه لأصحاب الشافعي: أصحها، وقول الجمهور: بأنه يقول: حيَّ على الصلاة؛ مرتين عن يمينه، ثم على الفلاح؛ مرتين عن يساره. والثاني: يقول عن يمينه: حي على الصلاة مرة، ثم مرة عن يساره، ثم يقول: حي على الفلاح؛ مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 219).

الحديث الثالث

والثالث: يقول عن يمينه: حي على الصلاة، ثم يعود إلى القبلة، ثم يعود إلى الالتفات عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح؛ يفعل مثل ما فعل عن يمينه. ومنها: استصحابُ العَنَزة للصلاة، ونحوها، في السفر، وجواز الاستعانة للإمام، بمن يركزُها له، ونحو ذلك. ومنها: أن الأفضل قصرُ الصلاة في السفر؛ وإن كان بقرب بلد، ما لم ينو إقامة أربعة أيام، فصاعدًا، والله أعلم. واعلم: أن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على فعل شيء تدل على رجحان فعله، ولا تدل على وجوبه، إلا على مذهب من يرى أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب؛ وليس بمختار عند أهل علم الأصول. والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قَالَ: "إنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ؛ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" (¬1). أما ابنُ عمر، وبلالٌ؛ فتقدم ذكرهما. وأما ابن أم مكتوم: فتقدم في الحديث الأول من هذا الباب: أنه أحدُ مؤذِّني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأربعة. واسمه: عمرُو بنُ قيسِ بنِ زائدةَ بنِ الأصمِّ بنِ هزمِ بنِ رواحةَ؛ هذا قول الأكثرين، وقيل: اسمه: عبدُ الله بن زائدة، كان اسمه الحصين؛ فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله، وقيل غير ذلك في اسم أبيه وجده؛ وهو قرشي عامري، واسم أمه: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2513)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة الأعمى، ومسلم (1092)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.

عاتكةُ بنتُ عبد الله بن عنكثة بن عامرِ بن مخزومِ؛ وهو ابنُ خالِ خديجةَ بنتِ خُويلدٍ. هاجر إلى المدينة، قبل مقدَم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعدَ مصعبِ بنِ عمير، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة ثلاث عشرة مرة؛ ليصلي بالناس، وشهد القادسية، وقُتل بها شهيدًا، وكان ذهابُ بصره بعدَ بدر بسنتين. وقال أبو حاتم بنُ حِبَّانَ: وشهدَ القادسية، ومعه رايةٌ سوداءُ، وعليه درعٌ، ثم رجع إلى المدينة، ومات بها في خلافةِ عمر. روى عنه: عبد الرحمن بنُ أبي ليلى، روى له: أبو داودَ، والنسائيُّ، وابن ماجه (¬1). وفي هذا الحديث: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من المحافظة على أمر ربه -سبحانه وتعالى-؛ في بيان الشرائع، والأحكام دِقِّها وجلِّها؛ فإن الله تعالى جعل البيان إليه - صلى الله عليه وسلم -، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وفيه: جوازُ الأذان للصبح، قبلَ طلوع الفجر الصادق؛ في الصوم، وغيره. وفيه: وجوبُ البيان عند الاشتباه؛ فإنه لما كان الأكل والشرب جائزًا إلى طلوع الفجر الثاني للصائم، والأذانُ في العادة مانعٌ منهما؛ بيَّن حكمه - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو عدم الامتناع منهما بأذان بلال، إلى سماع أذان ابن [أم] مكتوم. وقال بعض أصحاب الشافعي: يُكره الأذان في الصوم قبلَ وقت أذان بلال؛ وهو وقتٌ بين الفجر الصادق والكاذب، ومنهم من قال: يجوز بعد نصف الليل. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 205)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 214)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 735)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 4)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1198)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 582)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 251)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 567)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 26)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 360)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 600)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 30).

لكن في حديث بلال، وابن أم مكتوم؛ ما يدلُّ على تفاوت وقت أذانهما، ففي رواية في "صحيح مسلم": "أنه ليسَ بينَ أذانهما، إلا أنْ ينزلَ هذا، ويصعدَ هذا" (¬1). وفيه: دليلٌ على جواز أن يكون المؤذن أعمى؛ فإن ابن مكتوم كان أعمى، وأذانه صحيح، ولا كراهة فيه إذا كان معه بصير، وقال أصحاب الشافعي: يكره أن يكون الأعمى مؤذنًا وحده. وفيه: دليل على جواز تقليد البصير للأعمى في الوقت، وجواز اجتهاده فيه؛ فإن الأعمى لا بد له من طريق يرجع إليه في طلوع الفجر؛ إما سماع من بصير، أو اجتهاد. وفي الصحيح: "أنه كانَ لا يؤذن، حتى يقالَ له: أصبحت أصبحت" (¬2)؛ فهذا دليل على رجوعه إلى البصير، ولو لم يرد ذلك، لم يكن في هذا اللفظ دليلٌ على جواز رجوعه إلى الاجتهاد بعينه؛ لأن الدال على أحد الأمرين منهما، لا يدل على واحد منهما معينًا. وفيه: دليلٌ على جواز أن يكون للمسجد الواحد مؤذنان. وفيه: دليل على استحباب أن يؤذن كل واحد منهما مفردًا، مرتين، إذا اتسع الوقت؛ كصلاة الفجر، ونحوها، فإن كان ضيقًا؛ كالمغرب، فإنه لم ينقل فيها مؤذنان، وقال الفقهاء من أصحاب الشافعي: يتخيرون بين أن يؤذن كل منهم في زاوية من زوايا المسجد، وبين أن يجتمعوا، ويؤذنوا دفعة واحدة. واعلم أنه لو اقتصر على مؤذن واحد في المسجد؛ لم يكن مكروها، وفرق بين أن يكون الفعل مستحبًا، وبين أن يكون تركه مكروهًا، فلو زاد على مؤذنين؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1092)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، والبخاري أيضًا (1819)، كاب: الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال". (¬2) رواه البخاري (592)، كتاب: الأذان، باب: أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، ومسلم (1092)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.

فليس في الحديث تعرض له، لكن إن احتاج المسجد، أو الناس إلى أكثر؛ اتخذ ثلاثة، أو أكثر بحسب الحاجة، وقد اتخذ عثمان - رضي الله عنه - أربعة؛ للحاجة عند كثرة الناس. قال العلماء من أصحاب الشافعي، وغيره: يستحب ألا يزاد على أربعة، إلا لحاجة ظاهرة، قالوا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدًا؛ فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة، بل: إن اتسع الوقت: يرتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء به؛ أُقرع بينهم. وإن ضاق الوقت: فإن كان المسجد كبيرًا؛ أَذَّنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان ضيقًا؛ أذنوا دفعة، بشرط أن تحصل كلمات الأذان، من كل واحد منهم، وألا يحصل من اختلاف الأصوات تهويش، فإن أدى إلى ذلك: لم يؤذن إلا واحد، فإن تنازعوا: أقرع. وأما الإقامة: فإن أذنوا على الترتيب: فالأول أحقُّ بها، فإن كان هو المؤذنَ الراتب، أو لم يكن هناك مؤذنٌ راتب؛ فإن كان الأولُ غيرَ المؤذن الراتب، فأيُّهما أولى بالإقامة؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي؛ أصحهما: أن الراتب أولى؛ لأنه منصبه. ولو أقام، في هذه الصور، غيرُ من له ولاية الإقامة؛ اعتُدَّ به على الصحيح، الذي قاله جمهور أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: لا يُعْتَدُّ به؛ كما لو خطب واحد، وأمَّ بهم غيرُه؛ فلا يجوز على قول. وأما إذا أذنوا معًا: فإن اتفقوا على إقامة واحد؛ جاز، وإلا: فيُقرع. قالوا: ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد، قال: ولا بأس أن يقيموا معًا؛ إذا لم يؤدِّ إلى التهويش، وبشرط أن تصدر كلمات الإقامة منهم كلِّهم؛ فلو صدر بعضها من بعضهم، والبعض من الآخرين؛ لم تصح الإقامة، والله أعلم. * * *

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ" (¬1). أما أبو سعيد الخدري؛ فتقدم ذكره، وما يتعلق به. وأما أحكامه، وفوائده، وما يتعلق به: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتمُ المؤذِّنَ، فقولوا مثلَ ما يقولُ"، فلا بد أن يعرفَ قولَ المؤذن؛ ومعناه: ليقولَ السامعُ مثلَ قوله، بتدبر معناه، فقوله الأذان المعروف؛ بترجيعه، وتثويبه، وحيعلته. ولا شك أن الحديث قد قال بعمومه -في قول سامع المؤذن مثل قوله- بعضُ العلماء، فقال: يحكيه مثلَ قوله، إلى آخره؛ وهو ظاهر الحديث. وذهب الشافعي، وجمهور العلماء: إلى أنه يبدل السامع لفظ الحيعلة، بالحوقلة، ويقال: الحولقة، ويكررها؛ بتكررها؛ لحديث صحيح ثبت فيه: "أنه يقول السامع للمؤذن، بعد قوله: حي على الصلاة: لا حول ولا قوة إلا بالله، إلى آخره" (¬2). وقدمه الشافعي على الأول؛ لخصوصه، وعموم الأول، وذكر من المعنى فيه: أن الأذكار الخارجة عن الحيعلة يحصل ثوابها بذكرها؛ فيشترك السامع، والمؤذن في ثوابها، إذا حكاها السامع. وأما الحيعلة: فمقصودها الدعاء إلى الصلاة، من المؤذن وحده، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (586)، كتاب: الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي، ومسلم (383)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، إلا أن لفظهما: "إذا سمعتم النداء ..... ". (¬2) رواه مسلم (385)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

ولا يحصل مقصوده من السامع؛ فعوض عن الثواب، الذي يفوته بالحيعلة، الثواب الذي يحصل له بالحوقلة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله؛ كنزٌ من كنوزِ الجنةِ" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ غُرست له نخلةٌ في الجنةِ" (¬2). لكن قد قال بعض العلماء من الأصوليين: إنه إذا أمكن الجمع بين الخاص والعام، وإعمالهما، وجبَ ذلك؛ فلا يبعد أن يكون متمسك من قال: يجيبه في كل كلمات الأذان. وقد ذكر أصحاب الشافعي -رحمهم الله-، في رفع اليدين في الدعاء: يجمع بين إجابته، في الحيعلة بها، وبالحوقلة؛ جمعًا بينهما، ولم أعلم أحدًا، قال به من المتقدمين، وغيرهم، والله أعلم. وأما ترجيع المؤذن: فهو قوله الشهادتين سرًّا يُسمع نفسه بهما، ثم يرجع إلى رفع الصوت بهما، وظاهر الحديث، أنه يقول مثل قوله، إذا علم ترجيعه؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا مثلَ ما يقولُ". وأما تثويبه: وهو قولُه في أذان الصبح: الصلاةُ خيرٌ من النوم، فيقول سامعه: صدقتَ وبررتَ؛ لحديث ورد فيه. ثم إن السامع يقول كل كلمة، بعد فراغ المؤذن منها عقبها؛ لأن الفاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - ـ: "فقولوا" تقتضي التعقيب، وهو يقتضي تعقيب قول المؤذن، بقول الحاكي. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6021)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء إذا علا العقبة، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، عن أبي موسى - رضي الله عنه -. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ، وروى الإمام أحمد في "المسند" (5/ 418)، وابن حبان في "صحيحه" (821)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (1047)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 197)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (657)، عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: أن إبراهيم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به: "مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة .... ، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله".

ولا شكَّ أنه لا تشرع إجابة المؤذن؛ لمن هو في صلاة فريضة، أو نافلة؛ فأما من هو في غير صلاة، فتشرع له إجابته؛ ولا تكره في حالة، أو وقت من الأوقات، إلا في حالة نهى الشرع عن الذكر فيها؛ فلو أجابه في الصلاة، فهل يكره؟ فيه قولان للشافعي -رحمه الله-: أظهرهما: الكراهة؛ لأنه إعراض عن الصلاة، ولا تبطل به، إلا بقوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والصلاة خير من النوم؛ لأنه كلام آدمي. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذهِ الصلاةَ لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس" (¬1)، وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن اللهَ تعالى، أباحَ فيه الكلام" (¬2)؛ فمقتضى هذين الحديثين: تحريمُ كلام الآدميين في الصلاة. فأما بُطلان الصلاة فيه؛ فهو متعلِّق بمن كان عالمًا بتحريمه، متعمدًا؛ فلو كان ناسيًا، أو جاهلًا، لم تبطل. فلو سمعه في الصلاة، وهو في قراءة الفاتحة، كُرهت الإجابة قطعًا، من غير خلاف، إذا كانت بالأذكار فقط، ولا تبطل الصلاة، بل تبطل قراءة الفاتحة، ويجب استئنافُها؛ لوجوب الموالاة فيها، وهو معذور بقطع الموالاة؛ بالتنفس، ونحوه، وبما هو من مصلحة قراءتها؛ من التعظيم والإجلال لله تعالى، وسؤاله -سبحانه وتعالى-؛ فإن ذلك لا يقطع موالاتها. فلو أجاب فيها -أعني الصلاة- بالحوقلة، دون الحيعلة؛ لم تبطل أيضًا. وفي مذهب مالك: إذا أجاب بالحيعلة في الصلاة، هل تبطل به؟ قولان: أحدهما: أنه كلام آدمي، مخاطبة له بالمجيء إلى الصلاة؛ فأبطل، بخلاف بقية ألفاظ الأذان؛ التي هي ذكر، والصلاة محل ذكر. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (537)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (12808)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 85).

والثاني: أنه لم يقصد به المخاطبة بالدعاء للناس إليها؛ بل قصد به حكاية ألفاظ المؤذن، وذلك لا يبطل. ثم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا مثلَ ما يقولُ" لا يقتضي المثلية في رفع الصوت، ولا في أوصاف المؤذن، ومماثلته، بل من الوجه المبين في الأحاديث الصحيحة: من التكبير، والشهادتين، والحيعلة، والحوقلة؛ على ما بيناه أولًا، والله أعلم. ثم اعلم: أن الإجابة سنة مرغَّب فيها، ليست بواجبة؛ على الصحيح الذي عليه الجمهور. وحكى الطحاوي، عن بعض العلماء: الوجوبَ فيه؛ لظاهر الأمر. واتفق أصحاب الشافعي -رحمهم الله-: أنه لا تُشرع إجابة المؤذن، إلا مرة واحدة. وحكى القاضي عياض، خلافًا: أنه هل يجب عند سماع كل مؤذن، أم لأول مؤذن فقط؟ قال: واختلف قولُ مالك؛ هل يتابع المؤذنَ، في كل كلمات الأذان، أم إلى آخر الشهادتين؟ لأنه ذكر، وما بعده ليس بذكر، وبعضه تكرار لما سبق. قال: واختلف أصحاب مالك؛ هل يحكي المصلي المؤذنَ في صلاة الفريضة والنافلة، أم لا يحكيه فيهما، أم يحكيه في النافلة، دون الفريضة؟ على ثلاثة أقوال؛ ومنعه أبو حنيفة فيهما، والله أعلم. قال الشافعي، وأصحابه -رحمهم الله-: لو سمع الأذان، وهو في قراءة، أو تسبيح، ونحوِهما؛ قطعَ ما هو فيه، وأتى بمتابعة المؤذن. قالوا: ويتابعه في الإقامة؛ كالأذان، إلا أنه يقول في لفظ الإقامة: أقامها الله، وأدامها؛ ومتابعته فيها داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا مثل ما يقول".

هذا ما يتعلق بقول سامع المؤذن، وأحكامه. وأما معنى قوله: فاعلم أن الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان، مشتملة على نوعيه؛ من العقليات، والسمعيات: فأوله: إثبات الذات، وما تستحقه من الكمال، والتنزيه عن أضدادها؛ وذلك بقوله: الله أكبر؛ وهذه اللفظة -مع اختصار لفظها- دالة على ما ذكرناه. ثم صرح بإثبات الوحدانية، ونفي ضدها، عن الشركة المستحيلة في حقه -سبحانه وتعالى-؛ وهذه عُمدة الإيمان والتوحيد، المقدَّمة على وظائف الدين. ثم صرح بإثبات النبوة، والشهادة بالرسالة لنبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ وهذه قاعدة عظيمة، بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعُها بعد التوحيد؛ لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد، كملت العقائد العقليات؛ فيما يجب، ويستحيل، ويجوز؛ في حقه -سبحانه وتعالى-. ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعاهم إلى الصلاة، وعقبها بعد إثبات النبوة؛ لأن معرفة وجوبها، من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا من جهة العقل. ثم دعا إلى الفلاح؛ وهو الفوز، والبقاء في النعيم المقيم؛ وفي ذلك إشعار بأمور الآخرة؛ من البعث والجزاء، وهو آخر تراجم عقائد الإسلام. ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة؛ للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان؛ وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه، وعظمة حق تعبده، وجزيل ثوابه. وأما مناسبة جواب الحيعلة بالحوقلة؛ فلأن الحيعلة دعاء إلى الحضور للصلاة، وما يترتب على حضورها؛ من البقاء والنعيم؛ فأمروا بالإجابة بالحوقلة، وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فكأنهم قالوا: لا حول لنا، ولا قوة لنا إلا بالله؛ أي: بعونه وتأييده.

وليس الحول والقوة بمترادفين؛ بل الحول: الاعتمادُ في تحصيل الشيء، أو محاولته، والقوةُ: القدرةُ عليه، وكلاهما: غيرُ حاصلين إلا بإقدار الله تعالى، وتوفيقه، والله أعلم. وللأذان وإجابته آدابٌ وأحكام، وأذكارٌ معروفة في كتب العلم، وعند العلماء؛ فمن أراد فليراجعهم، والله أعلم. * * *

باب استقبال القبلة

باب استقبال القبلة الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ راحِلَتِه؛ حَيْثَ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (¬1). وفي روايةٍ: كَانَ يُوتِرُ عَلَى ظَهْرِ بَعيرِهِ (¬2)، ولمسلم: غَيْرَ أنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا المَكْتُوبة (¬3)، وللبخاري: إلَّا الفَرائِضَ (¬4). أما قوله: "يُسَبِّحُ"؛ فمعناه: يصلِّي النافلة، وأطلق التسبيح على مطلق الصلاة؛ في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]؛ على صلاة الصبح، وصلاة العصر؛ عند أهل التفسير. والتسبيح حقيقة: قولُ: سبحان الله؛ فإذا أطلق على الصلاة، كان من باب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1054)، كتاب تقصير الصلاة، باب: من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها، ومسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (954)، كتاب: الوتر، باب: الوتر على الدابة، ومسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، بلفظ: "كان يوتر على البعير". (¬3) رواه مسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، والبخاري (1047)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: ينزل للمكتوبة. (¬4) رواه البخاري (955)، كتاب: الوتر، باب: الوتر في السفر.

تسمية الشيء باسم جزئه؛ تنبيهًا على فضل ذلك الجزء؛ كما أن أصل الصلاة الدعاء، ثم سميت العبادة كلها به؛ لاشتمالها عليه، وكذلك تسمية الصلاة: بالركوع، أو السجود، أو القرآن، أو القيام. أو لأن المصلي منزِّهٌ لله تعالى، بإخلاص العبادة له وحده؛ كالتسبيح، فإنه تنزيهٌ لله تعالى؛ فيكون من مجاز الملازمة؛ لأن التنزيه لازم للصلاة المخلَصة لله وحده. وقوله: "حيثُ كانَ وجهُهُ" يعني: حيثما توجه وجهه في السفر، وقد ثبت ذكر السفر في بعض الأحاديث، أو معظمها؛ وهو مطلق في رواية الكتاب، حتى تمسك بها بعض أصحاب الشافعي؛ وهو أبو سعيد الإصطخري في جواز النافلة على الدابة في البلد؛ وهو محكي عن أنس بن مالك، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة. وقوله: "يُومئُ برأسِهِ" يعني: في الركوع والسجود؛ ليكون البدلُ على وفق الأصل؛ فيجعل السجودَ أخفضَ من الركوع، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، ولا نفيه، لكن في اللفظ ما يدل على نفي حقيقة السجود. وقوله: "وكانَ ابنُ عمرَ يفعلُه" تنبيه على أن رواية الحديث، والعمل به أقوى في التمسك به من الرواية له فقط؛ لجواز أن يكون الحديث عند الراوي، إذا لم يعمل به؛ مخصوصًا بحالة، أو منسوخًا، أو معللًا، أو نحو ذلك. وقوله: "كانَ يُوتر على بعيرهِ"؛ استدلَّ به على أن الوتر ليس بواجب، بل سنة؛ وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور. وقال أبو حنيفة: واجب، لا يجوز على الراحلة؛ بناءً على مقدمة أخرى؛ وهي أن الفرض لا يقام على الراحلة، وهو مرادف للواجب، فلا يقام عليها. وليس بقوي في الاستدلال؛ لأنه ليس فيه إلا ترك الفعل المخصوص، وليس الترك دليلًا على الامتناع؛ وكذا الكلام على استثناء ابن عمر الفرائض، من فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه يدل على ترك هذا الفعل، وترك الفعل لا يدل على امتناعه.

لكن قد يقال: إن وقت الفريضة مما يكثر على المسافرين؛ فترك الصلاة لها على الراحلة دائمًا، مع فعل النوافل على الراحلة؛ إشارة إلى الفرقان بينهما، في الجواز، وعدمه، مع تأييد المعنى؛ من كون الصلوات المفروضة قليلة محصورة؛ لا يؤدي النزول عن الراحلة لها إلى نقصان المطلوب؛ والنوافل المطلقة لا حصر لها؛ فيؤدي النزول إلى ترك المطلوب من تكثيرها، مع اشتغال المسافر. ودليل الجمهور: هذه الأحاديث. فإن قيل: مذهب الشافعي أن الوتر واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: وإن كان واجبًا عليه، فقد صح فعلُه على الراحلة؛ فدلَّ على صحته منه على الراحلة، ولو كان واجبًا على العموم، لم يصحَّ على الراحلة؛ كالظهر. فإن قيل: الظهر فرض، والوتر واجب، وبينهما فرق، قلنا: هذا الفرق اصطلاح منكم، لا يسلمه لكم الجمهور، ولا يقتضيه شرع، ولا لغة، ولو سلم، لم يحصل به هنا غرضكم، والله أعلم. وقوله: "غيرَ أنَّه لا يصلِّي عليها المكتوبةَ"؛ المكتوبةُ نعت للصلاة، وحذفت لدلالته عليها، ونعتَها بالمكتوبة، دون المفروضة؛ اتباعًا للفظ القرآن، في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. وأجمعت الأمة على أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة، إلا في شدة الخوف. فلو أمكنه استقبال القبلة، والقيام، والركوع، والسجود، على دابة واقفة عليها هودج، أو نحوه: جازت الفريضة؛ على الصحيح من مذهب الشافعي. ولو كانت سائرة: لم تصح؛ على الصحيح المنصوص للشافعي، وقيل: يصح؛ كالسفينة؛ فإنها تصحُّ فيها الفريضةُ بالإجماع. ولو كان في ركب، وخاف لو نزل للفريضة، انقطع عنهم، ولحقه الضرر، قال أصحاب الشافعي: يصلي الفريضة على الدابة، بحسب إمكانه، ويلزمه إعادتها؛ لأنه عذر نادر.

ومقتضى القواعد: أنه لا يلزمه الإعادة، خصوصًا إذا خاف فوتَ الوقت؛ لأنه أتى بما أمر به، على حسب استطاعته، والإعادة والقضاء إنما يجبان بأمر محدود، والله أعلم. وفي هذه الروايات: دليل على: جواز التنفُّل على الدابة في السفر، حيث توجهت، ولا يشترط استقبال القبلة فيها؛ سواء كانت نافلة مطلقة، أو راتبة؛ وهو جائز بإجماع المسلمين، ويجوز في قصير السفر، وطويله؛ عند الشافعي، وجمهور العلماء. وقال مالك، في رواية عنه: لا يجوز التنفل على الدابة في السفر، إلا في سفرٍ تُقصر فيه الصلاة؛ وهو قول غريب محكيٌّ عن الشافعي. واعلم: أن شرط جواز التنفل على الدابة في السفر: ألا يكون سفر معصية؛ فلا يجوز لعاص بسفره الترخُّصُ بشيء من رخص السفر؛ كمن سافر لقطع الطريق، أو لقتال بغير حق، أو عاقًّا والده، أو آبقًا من سيده، أو ناشزةً على زوجها، ونحوهم، إلا التيمم؛ فإنه يجب عليه، إذا لم يجد الماء، ويصلي، وتلزمه الإعادة؛ على الصحيح من مذهب الشافعي؛ تغليظًا عليه، فإن له طريقًا إلى الخلاص من الإعادة، بالتوبة في الحال. ولا شك أن السبب في جواز التنفل على الدابة في السفر: تيسيرُ تحصيل النوافل، وتكثيرها؛ فما ضيق طريقه قل، وما اتسع طريقه سهل؛ فاقتضت رحمة الله تعالى للعباد: أن تقلل الفرائض عليهم؛ تسهيلًا للكلفة، وفتحَ لهم -سبحانه وتعالى- طريقَ التكثير للنوافل؛ تعظيمًا للأجور، أو جبرًا للنقص المحذور. واشترط بعض الفقهاء من الشافعية: أن يكون توجهه إلى جهة مقصده، في سفره؛ ليكون بدلًا له عن القبلة؛ فلو توجه إلى غير جهة مقصده، في المسير: لم يجز له التنفل؛ وذلك مأخوذ من فعله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يسبح؛ حيث كان وجهه، على راحلته، والله أعلم.

الحديث الثاني

وأما تنفُّل راكب السفينة، فمذهب الشافعي: أنه لا يجوز، إلا إلى القبلة، إلا ملاحَ السفينة؛ فيجوز له التنفل إلى غير القبلة؛ لحاجته. وعن مالك روايتان: إحداهما: كمذهب الشافعي، والثانية: جواز التنفل حيثما توجهت، لكل أحد. ثم إنه يجوز التنفل في السفر على كل دابة؛ من بعير، وبغل، وفرس، وحمار؛ بلا خلاف، بشرط ألا يكون الراكب مماسًا لنجاسة، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُباءَ، في صَلاَةِ الصُّبْحِ إذ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ؛ فاسْتَقْبِلُوهَا، وكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ، فَاسْتدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ (¬1). أما ألفاظه: فقوله: "بينَما الناس"؛ معناه: بينَ أوقاتِ كذا، ويجوز: بينما، وبينا؛ بلا ميم. وقُباء: بالمدِّ، ومصروفٌ، ومذكَّر، وقيل: مقصورٌ، وغيرُ مصروف، ومؤنَّثٌ؛ وهو موضع معروف بقُرب المدينة (¬2). وقوله: "وقَدْ أُمِرَ أَنْ يستقبلَ القبلةَ؛ فاستقبِلوها": سميت القبلة قبلة؛ لأن المصلي يقابلها، وتقابله. قال الهروي: وروي: فاستقبلوها -بكسر الباء، وفتحها-، الكسر أصحُّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (395)، كتاب: القبلة، باب: ما جاء في القبلة، ومسلم (526)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. (¬2) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 10).

وأشهر؛ وهو الذي يقتضيه تمامُ الكلام بعده: على الأمر، والفتحُ: على الخبر (¬1). وقوله: "في صلاةِ الصبحِ": قال الشافعي -رحمه الله-: قد سماها الله تعالى الفجرَ، وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبحَ؛ فلا أحبُّ أن تُسمَّى بغير هذين الاسمين (¬2). وقد ثبت في "صحيح مسلم"، في هذا الحديث: "بينما الناسُ، في صلاة الغَداةِ" (¬3)؛ ففيه دليلٌ على: جواز تسميتها غداةً؛ ولا خلاف في جوازه، وإن كان الشافعي لم يحبَّ تسميتها بغير الفجر والصبح؛ لأن ذلك لم يدل على منع التسمية بغيرهما؛ كيف، وقد ثبت غيرهما، من قول الصحابة؟! والله أعلم. واعلم: أنه ينبغي أن نعرف كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الكعبة في صلاته، وهو بمكة؟ فذهب نفر من العلماء: إلى أن صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وهو بمكة، لم تكن إلى بيت المقدس؛ وإنما صلى إليه بعد مقدمه إلى المدينة. والذي عليه جمهور العلماء: أنه كان يصلي إلى الشام. قال شيخنا أبو اليمن بن عساكر الحافظ -رحمه الله- (¬4): وسبب الاختلاف في ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى بمكة مستقبلًا بيت المقدس جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، يتحرى القبلتين معًا؛ فلم يظهر استقباله بيت المقدس، ولا توجهه إليه، حتى هاجر إلى المدينة، وخرج من مكة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) تقدم عن الإمام الشافعي في كتابه: "الأم". (¬3) رواه مسلم (526) (1/ 375)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. (¬4) هو الشيخ الإمام الزاهد أمين الدين أبو اليُمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن زين الأمناء الدمشقي، كان صالحًا خيرًا، قوي المشاركة في العلم، بديع النظم، لطيف الشمائل، صاحب توجه وصدق، مات سنة (686 هـ). انظر: "الوافي بالوفيات" للصفدي (18/ 271)، و"شذرات الذهب" لأبي العماد (5/ 395).

هكذا روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق صحيحة، وقد روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" في هجرة البراء بن معرور، وكعب بن مالك إلى مكة، عام بيعة العقبة؛ ما يدل على ذلك؛ وهو: أن البراءَ بنَ معرور - رضي الله عنه - رأى ألا يجعل الكعبة وراء ظهره في صلاته، وأنه شاور في ذلك كعبًا؛ فلم يوافقه، وأنه بقي في نفسه من فعله حتى قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو وعمُّه العباس جالسين بمكة، فسلم هو وكعب عليه - صلى الله عليه وسلم -، في قصة طويلة، قال البراء بن معرور: يا رسول الله! إني صنعت في سفري هذا شيئًا، أحببت أن تخبرني عنه؛ فإنه قد وقع في نفسي منه شيء؛ إني قد رأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظَهْر، وصليت إليها، ومنعني أصحابي، وخالفوني؛ حتى وقع في نفسي من ذلك ما وقع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَما إِنَّكَ قد كنتَ على قبلةٍ، لو صبرت عليها"، قال: ولم يزده على ذلك الحديث. قال أبو حاتم: أما تركه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ البراء بإعادة الصلاة التي صلاها إلى الكعبة، حيث كان الفرض عليهم استقبالَ بيتِ المقدس؛ لأن البراء أسلم لما شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأمره بإعادة تلك الصلاة، من أجل ذلك (¬1). قال شيخنا الحافظ أبو اليمن بن عساكر -رحمه الله- كلامًا، مقتضاه: أن البراء - رضي الله عنه -، كان مسلمًا قبل هجرته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، هو ومن معه من الأنصار، وكانوا يسمون الأنصار في ذلك الوقت: الخزرج، ويدعون أوسَها وخزرجَها به، والقضاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر؛ وهذه واقعة عين، ووقائع الأعيان تحتمل وجوهًا من التأويل. واحتمال تأويل هذا الإمام -رحمه الله- مُتَّجه، لولا أن سياق القصة يدل على خلافه؛ بل يصرح بخلاف تأويله، واستدل على قوله بأحاديث، واستشهد عليه بشواهد، يطول الكلام بذكرها؛ منها قولهم له في محاجته، في تركه التوجه ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (7011)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 460)، وابن خزيمة في "صحيحه" (429)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 87).

إلى الشام: وما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام، وما كنا نصلي إلى غير قبلة. فحيئذ، يكون تركه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ البراء بالإعادة؛ لتأول البراء فيه، وعلم ذلك عند الله -سبحانه وتعالى-، وتأويله في توجهه إلى الكعبة له أصل صحيح، ومنزع حسن؛ فإنهم كانوا قد تقرر في أذهانهم وعلمهم: أن هذا النبي المبعوث في عصرهم؛ هو على ملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -. ودين إبراهيم الحنيفية، وقبلته الكعبة؛ كما أخبرهم أحبار اليهود؛ الذين ذمهم الله في كتابه المجيد، على كتم ما علموا، أو كفر ما عرفوا، ولعنَهم على إصرارهم على ذلك؛ فقال سبحانه: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. فصلى البراءُ إلى الكعبة؛ اتباعًا لما علمه من علماء اليهود، مستصحبًا لأصل الحكم في ذلك، ورجحه على ما وجد فيه التردد عنده، في ثبوته، والاختلاف في صحته، ووجوده؛ وهو وجه من وجوه التراجيح؛ فهذا ملخص كلامه -رحمه الله- في ذلك، والله أعلم. ثم في حديث الكتاب فوائدُ أصولية وفروعية: أما الأصولية، فمنها: قبولُ خبر الواحد؛ وهو معمول به، معتدٌّ به عند الصحابة -رضي الله عنهم-، وهَلُمَّ جَرًّا، وليس المقصود من ذلك إثباتَ الشيء بنفسه؛ بل ذكره مثال من جهة الأمثلة التي لا تحصى؛ فيثبت بالمجموع القطع، بقبولهم خبر الواحد. ومنها: نسخُ الكتاب والسنة المتواترة، هل يجوز بخبر الواحد، أم لا؟ والأكثرون: على المنع؛ لأن المقطوعَ لا يُزال بالمظنون. ونقل عن الظاهرية: الجواز، واستدل له بهذا الحديث؛ ووجهه: أنهم عملوا بخبر الواحد، من غير إنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم، وفيه نظر؛ من حيث فرض المسألة، وأنها مفروضة، في نسخ الكتاب والسنة المتواترة، بخبر الواحد.

ويبعد عادةً أن أهل قباء؛ مع قربهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإتيانهم إليه، ومراجعتهم له؛ أن يكون مستندهم في استقبال بيت المقدس بالصلاة؛ الخبر عنه - صلى الله عليه وسلم -، من غير مشاهدة لفعله، أو مشافهة من قوله، مع طول المدة؛ وهي ستة عشر شهرًا. ولو سلم الامتناع في العادة، لم يسلم عدمُ إمكان ذلك، والمحتمِلُ لأمرين لا يتعين حملُه على أحدهما؛ فلا يتعين استقبالهم بيتَ المقدس على خبر الواحد عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ بل يجوز أن يكون عن مشاهدة، وإذا جاز انتفاء أصل الخبر؛ جاز انتفاء خبر التواتر؛ لأن انتفاء المطلق يلزم منه انتفاءُ قيوده، وإذا جاز انتفاء خبر التواتر؛ لم يلزم أن يكون الدليل منصوصًا في المسألة المفروضة. واعترض على ما ذكر بوجهين: أحدهما: أن المدعى امتناعُ كون مستندِ أهل قباءَ مجرد الخبر، من غير مشاهدة، إن صح، إنما يصح في جميعهم؛ فأما في بعضهم، فلا يمتنع في العادة، كون مستنده الخبرَ لا التواتر. الثاني: أن ما ابتدئ، من جواز استنادهم إلى المشاهدة يقتضي أنهم أزالوا القاطع بالمظنون؛ فإن المشاهدة قطع، وإذا جاز إزالة المقطوع به بالمشاهدة بخبر الواحد، فمثله زوال المقطوع بالمظنون، وأجيب عن الأول بأنه إذا سلم امتناعه على جميعهم، لزم استنادهم إلى التواتر؛ فلا يتعين حمل الحديث عليهم. فإن قيل: وما يقتضي الجميع؛ فيقتضي استناد بعض من استدار إلى التواتر؛ فيصح الاحتجاج؟ أجيب: بأنه لا شك بإمكان استنادهم كلهم إلى المشاهدة، ومع هذا، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، إلا أن يتبين استناد الكل، أو البعض إلى الخبر بالتواتر، ولا سبيل إلى ذلك. وعن الثاني بوجهين: أحدهما: أنه ليس المراد إثباتَ المسألة المعينة بطريق القياس على

المنصوص؛ بل المراد التنبيه والمناقشة على الاستدلال بالحديث عليها؛ وقد تم الغرض منه. الثاني: أن يكون إثبات جواز نسخ خبر الواحد مقيسًا على جواز نسخ خبر الواحد المقطوع به مشاهدة؛ بجامع اشتراكهما في زوال المقطوع بالمظنون، لكنهم نصبوا الخلاف مع الظاهرية، وفي كلام بعضهم ما يدل على أن: من عداهم لم يقل به، والظاهرية لا يقولون بالقياس؛ فلا يصح استدلالهم بهذا الخبر على المدعى؛ لكون هذا الوجه يختص بالظاهرية. ومنها: جواز نسخ السنة بالكتاب، ووجه تعلق ذلك بالحديث؛ أن الآتي المخبرَ لهم، ذكر أنه أُنزل الليلة قرآن، وأحال النسخَ على الكتاب، وليس التوجه إلى بيت المقدس بالكتاب؛ إذ لا نص فيه عليه؛ فالتوجه إليه بالسنة، ويلزم من مجموع ذلك: نسخ السنة بالكتاب. والمنقول عن الشافعي، وطائفة: خلافه، واعترض عليه بوجوه مقيدة: أحدها: أنه يمكن أن استقبال بيت المقدس، كان ثابتًا بكتاب نسخ لفظه. والثاني: أن النسخ كان بالسنة، ونزل الكتاب على وفقها. الثالث: يجعل المجمَل، في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]؛ كالملفوظ به، وفسر بأمور؛ منها: التوجه إلى بيت المقدس؛ فيكون كالمأمور به لفظًا، في الكتاب. وأجيب عن الأول والثاني: بأن هذا المساق في التجويز يفضي إلى: ألا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلًا؛ فإن هذين الاحتمالين مطردان في كل واحد من ناسخ ومنسوخ. والحق أن هذا التجويز يقتضي القطع اليقيني بالنظر إليه، إلا أن تحتف القرائنُ بنفيه؛ كما في كون الحكمِ بالتحويل إلى القبلة مسندًا إلى الكتاب العزيز. وعن الثالث بعد التسليم بأن المبين كالملفوظ به في كل أحكامه، ومنها: هل يثبت في حق المكلف قبلَ بلوغ الخطاب له؟! وقد اختلف في ذلك، ووجه

التعلق لذلك من الحديث: أنه لو ثبت الحكم في أهل قباء قبل بلوغ الخبر إليهم؛ لبطل ما فعلوه؛ من التوجه إلى بيت المقدس، فلم ينعقد، ويجب الإعادة في بعضها، فتبطل. ومنها: جواز مطلق النسخ؛ لأن كل ما دل على جواز الأَخَصِّ دل على جواز الأَعَمِّ. ومنها: قد يؤخذ منه جواز الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، أو بالقرب منه؛ لأنه كان يمكن قطع الصلاة، وأن يثبتوا على ما فعلوا، فرجحوا البناء؛ وهو محل اجتهاد. وقد حكى الماوردي من الشافعية في "الحاوي" (¬1) وجهين لأصحاب الشافعي؛ في أن استقبال بيت المقدس كان ثابتًا بالقرآن، أم باجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقال القاضي عياض: الذي ذهب إليه أكثر العلماء؛ أنه كان بسنة، لا بقرآن (¬2). فعلى هذا: فيه دليل لمن يقول: إن القرآن ينسخ بالسنة؛ وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين؛ وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني له، وبه قال طائفة: لا يجوز؛ لأن السنة مبيَّنة، فكيف تنسخها؟ وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسنة؛ بل بوحي من الله تعالى، قال الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الآية [البقرة: 143]. واختلفوا -أيضًا- في عكسه؛ وهو نسخ السنة بالقرآن؛ فجوزه الأكثرون، ومنعه الشافعي وطائفة، وتقدم ذلك وأدلته. وأما الأحكام الفروعية: فمنها: أن قولهم: الليلة؛ يطلق على الماضية، ولا يراد بها المستقبلة إلا بقرينة، أو دليل. ومنها: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين؛ وهذا هو الصحيح عند الشافعية؛ ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (2/ 67). (¬2) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 9).

فمن صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم تغير اجتهاده في إثباتها، فيستدير إلى الجهة الأخرى، حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات في الصلاة الواحدة؛ فيصلِّي كل ركعة منها إلى جهة، صحَّت صلاته، على الأصح؛ لأن أهل هذا المسجد المذكور في الحديث استداروا في صلاتهم، واستقبلوا بيت المقدس، ولم يستأنفوها. ومنها: أن الوكيل، إذا عزل، فتصرَّفَ قبلَ بلوغ الخبر؛ هل يصح تصرفه؟ الصحيح: نفوذُ تصرفه؛ بناءً على مسألة النسخ، وجه مأخذ المنازع في البناء على النسخ: أنه خطاب تكليفي؛ إما بالفعل، أو بالاعتقاد، ولا تكليف إلا مع الإمكان، ولا إمكان مع الجهل بورود الناسخ. ومعنى ثبوت حكم العزل في الوكيل: أنه باطل، ولا استحالة في علم الوكيل بعد البلوغ ببطلانه قبلَ بلوغ الخبر؛ وهل يثبت حكمه قبل بلوغ الخبر؟ فيه خلاف: فهذا إما يتعلق بالبناء على ذلك، وعلى تقدير صحته؛ فالحكم هناك يكون مأخوذًا بالقياس، لا بالنص. ومنها: أن الأَمَةَ لو صلَّت مكشوفة الرأس، ثم علمت بالعتق في أثناء الصلاة؛ هل تقطع الصلاة، أم تبني؟ إن أثبتنا الحكم قبلَ بلوغ العلم إليها؛ فسدتِ الصلاة، ولزمَها قطعُها. وإن لم نثبتْه؛ لم يلزمْها قطعُها، إلا أن تتراخى بسترِها لرأسها؛ وهذا الحكم -أيضًا- مثلُ الأول، وإنه بالقياس. ومنها: تنبيه من لم يصل المصلي على أمر يتعلق بالصلاة؛ واجبٌ، أو ممنوع، وقد فعل الصحابة ذلك في المندوب، والمكروه -أيضًا-. ومنها: مراعاة سَمْت القبلة بالاجتهاد؛ لميلهم إلى جهة الكعبة عندَ بلوغهم الخبر بتحويل القبلة قبلَ قطعهم بالصلاة إلى عينها. ومنها: أن من صلَّى إلى غير القبلة بالاجتهاد، ثم تبين له الخطأ؛ لم يلزمه الإعادةُ؛ لأنه فعلَ ما وجبَ عليه في ظنه، مع مخالفة الحكم في نفس الأمر؛ فإن

الحديث الثالث

أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عندَ ظنهم بقاءَ الأمر، ولم يفسد فعلهم، ولا أمروا بالإعادة. ومنها: أن من لم يعلم بفرض الله عليه، ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه الاستعلام بذلك من غيره؛ فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة. فعلى هذا لو أسلمَ في دارِ الحرب، أو طرفِ بلادِ الإسلام، ولم يجدْ مَنْ يستعلمُه عن شرائع الإسلام، وأمكنه السير والبحثُ عما يجب عليه بالإسلام؛ قال مالك، والشافعي: يجب عليه أن يقضي ما مر؛ من صلاة وصيام لم يعلم وجوبهما. وهذا الحكم راجع إلى القياس -أيضًا-؛ فإنه يعدُّ مقصرًا بإسلامه، واعتراضه عما يجب عليه به، مع تمكنه منه. * * * الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللهُ - قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ، فَلَقِينَاهُ بِعَينِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ مِنَ ذا الجَانِبِ -يَعْنِي: عَنْ يَسَارِ القِبْلَةِ-، فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرَ القِبْلَةِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ، مَا فَعَلْتُهُ (¬1). أما أنسُ بنُ سيرين: فهو تابعيٌّ بصريٌّ ثقة، روى له: البخاري، ومسلم، وغيرهما من أصحاب السنن والمساند. وهو أخو محمد بن سيرين، التابعيِّ المشهورِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1049)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: صلاة التطوع على الحمار، ومسلم (702)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت.

أنس هذا كنيتُهُ: أبو موسى، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو حمزة، ويقال في نسبته: الأنصاري؛ لأنه لما ولد، حمل إلى أنس بن مالك؛ فسماه أنسًا، وكناه: أبا حمزةَ، وكان أبوه سيرين يكنى: أبا عمرة، وكان مولى أنس ابن مالك، وابن المولى له حكمُ أبيه؛ في كونه مولًى في النسبة؛ فهو أنصاري، مولاهم. وكان أولادُ سيرينَ ستةً: معبد، ويحيى، ومحمد، وأنس، وحفصة، وكريمة، وذكر بعضهم: خالدًا بدلَ كريمة، وأكبرُهم: معبدٌ، وأصغرهم: أنسٌ. وقال ابنُ معين: ولدُ سيرينَ أثبتُهم: محمد، وأنس: دونه، ولا بأس به، ومعبد: يعرف، وينكر، ويحيى: ضعيف الحديث، وكريمة: كذلك، وحفصة: أثبتُ منهما. وقال غيره: روى محمد، عن يحيى، عن أخيه أنس، عن أنس بن مالك، حديثًا؛ وهذا لطيفة غريبة، ثلاثة إخوة بعضهم عن بعض. وُلد أنس بن سيرين لستة بقيت من خلافة عثمان، وسمع جماعة من الصحابة، والتابعين، ومات سنة عشرين ومئة (¬1). وأما ألفاظه: فتقدم ذكر الشام، في الطهارة. وأما عين التمر: فهو موضع كانت به وقعة زمنَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، في أول خلافته؛ استُشهد بها جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - (¬2). وأما الحمار: فهو اسم للذكر من الحمر، والأنثى: أتان. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 207)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 32)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 48)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 287)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 314)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 346)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 622)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 328). (¬2) انظر: "معجم البدان" لياقوت (4/ 176)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 396) وما بعدها.

وأما استقبالهم لأنس حين قدم من الشام؛ فلأنهم كانوا مقيمين بالبصرة، خرجوا منها، ليتلقوه في مجيئه إلى البصرة؛ فصادفوه في استلقائه، مستقبلين له بعين التمر. ووقع في "صحيح مسلم"، قال: "تلقينا أنس بن مالك، حين قدم الشام" (¬1)، في جميع رواياته؛ من غير اختلاف من رواته، قال القاضي عياض: وقد قيل: إنه وهم، وصوابه: قدم من الشام؛ كما في "صحيح البخاري" (¬2). قال شيخنا أبو زكريا النووي - رحمه الله -: ورواية مسلم صحيحة، ومعناها: تلقيناه في رجوعه، حين قدم الشام؛ وإنما حذف ذكر رجوعه، للعلم به، والله أعلم (¬3). وقوله: "رأيتك تصلِّي إلى غير القِبلة، فقال: لولا أَني رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، لم أفعلْه"؛ هذا السؤال لأنس بن مالك، إنما هو عن عدم استقبال القبلة فقط، لا عن غير ذلك؛ من هيئة، ونحوها، والله أعلم. وفيه فوائد: منها: الصلاة على الدابة، إلى غير القبلة، إذا كانت نافلة؛ كما تقدم في حديث ابن عمر. ومنها: جواز صلاة النافلة في السفر على الحمار. ومنها: أنه قد يؤخذ منه طهارة الحمار؛ لأن ملامسته مع التحرز منه متعذر، لا سيما إذا طال الزمن في ركوبه؛ فاحتمل العرق، وإن كان يحتمل أن يكون على حائل بينه وبينه. ومنها: الرجوع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم -؛ كأقواله، والوقوف عندها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 401)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 212). (¬3) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 212).

ومنها: تلقي المسافر، وسؤاله عن مستند عمله المخالفِ للعادة. ومنها: أن التابع إذا رأى من متبوعه ما يجهله، يسأله عنه. ومنها: الجواب عن السؤال بالدليل، وفعل الصحابي، وقوله حجة ما لم يخالف، والله أعلم. * * *

باب الصفوف

باب الصُّفوف الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ ماِلكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ" (¬1). في الحديث: الأمرُ بتسوية الصفوف، الأول فالأول؛ وهو اعتدال القائمين للصلاة، على سمت واحد، وسدّ فُرَجِ الصفوف؛ جمعًا بين مدلول الأمر؛ للصورة والمعنى، وقد يراد الأمر بسد الخلل في الصفوف، في حديث صحيح؛ فحصل الأمر بالتسوية: صورة ومعنى تصريحًا. وفيه: إشارة إلى أن تسويتها مستحبٌّ ليس بواجب؛ لجعله - صلى الله عليه وسلم - تسويتها من تمام الصلاة، ومعلوم أن الشيء إذا لم يكن من أركان الشيء، ولا من واجباته، وكان من تمامه، كان مستحبًا؛ لكونه أمرًا زائدًا على وجود حقيقته التي لا تسمى إلا بها، في الاصطلاح المشهور، وقد ينطلق من حيث الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به. ثم إن كيفية إتمام الصفوف: أن يتم الأول، فالأول؛ فلا يشرع في تسوية الثاني حتى يتم الأول، ولا الثالث حتى يتم الثاني، ولا الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (690)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم (433)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوت وإقامتها.

الحديث الثاني

ثم تسوية الصفوف، والأمر بها، يتأكد في حق الإمام والمأموم؛ فينبغي لكل منهما المحافظة عليهما، على الوجه المأمور به، والله أعلم. وفيه: أنه ينبغي للمفتي، أو الأمير، إذا أمر بأمر؛ أن يذكر مقام ذلك الأمر من المأمورات، والله تعالى أعلم. * * * الحديث الثاني عَنِ النُّعمانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لِيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" (¬1). ولمسلمٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا، حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِها القِدَاحَ، حَتَّى إذا رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا، فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ؛ فَقَالَ: "عِبادَ اللهِ! لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُم، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" (¬2). أما النُّعمانُ بنُ بشيرٍ: فكنيته: أبو عبد الله بنُ بَشير -بفتح الباء، وكسر الشين المعجمة-، وله في الأسماء مشابه: بُشَير -بضمها، وفتح الشين-، ونُسَيْر -بضم النون، وفتح السين المهملة- ويُسَيْر -بضم الياء المثناة تحت، وفتح السين المهملة-، ويَسِير -بفتحها وكسر السين المهملة-. وبشير: والد النعمان صحابي؛ وهو ابنُ سعدِ بنِ ثعلبةَ بنِ جُلاس -بضم الجيم، وتخفيف اللام، وبالسين المهملة- بنِ زيدِ بنِ مالكِ بنِ ثعلبةَ ابنِ كعبِ بنِ الخزرجِ، أنصاريٌّ خزرجيٌّ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (685)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، ومسلم (436) (1/ 324)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها. (¬2) رواه مسلم (436) (1/ 324)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها.

والنعمانُ أمه: عَمْرَةُ بنتُ رَواحةَ، أختُ عبدِ الله بن رَواحةَ. وهو أول مولود ولد بالمدينة من الأنصار، ولد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة، وقيل: ولد قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثمان سنين، وقيل: بست، والأول أكثر وأصح؛ لأنهم يقولون: ولد هو وعبد الله بن الزبير عام اثنين من الهجرة. نزل النعمان الكوفة، وكان يليها لمعاوية، ثم ولي قضاء دمشق. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئة حديث وأربعة عشر حديثًا؛ ذكره بقيُّ ابن مخلد. روى عنه: جماعة من التابعين، وابنه محمد، وروى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند. قال أبو حاتم بن حبان: وقُتل بحمص؛ قتله خالدُ بن عليٍّ الكلاعيُّ، بعد وقعة المرج براهط؛ وكان عاملًا لابن الزبير على حمص، هذا آخر كلامه. وقال غيره: قُتل بالشام، في أول سنة أربع وستين، بقرية من قرى حمص، وقال ابن أبي خيثمة: قُتل سنة ستين (¬1). وأما ألفاظه ومعانيه: فالقِداح: بكسر القاف، جمع قِدْح؛ وهي خشبُ السهام حين تُنحت، وتُبرى، وتُهيأ للرمي، وتحرير السهم له؛ فإنه كان طائشًا عن الغرض وإصابته، وضرب به المثل؛ لتحرير التسوية لغيره. ومعنى الحديث: يبالغ في تسوية الصفوف؛ حتى تصير كأنما يقوم بها السهام؛ لشدة استوائها واعتدالها، وقد تقدم في الحديث قبله كيفية التسوية. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 53)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 75)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 409)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1496)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 111)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 310)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 411)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 411)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 440)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 399).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أو ليخالفنَّ اللهُ بينَ وجوهِكم"، اختلف في معنى المخالفة للوجوه؛ هل هو بالصورة، أو بالمعنى؟ فمنهم من قال بالصورة؛ ومعناه: يَمسخ الوجوه، ويُحولها عن خلقتها؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَما يخشى الذي يرفعُ رأسَهُ قبلَ الإمامِ أنْ يجعلَ اللهُ صورَته صورةَ حمارٍ؟ " (¬1)، وقيل: يغير صفتها. ومنهم من قال بالمعنى؛ والمراد بالوجوه: القلوب؛ فإن تقدم الشخص على المصلي إلى جنبه، أو على الجماعة، يوغر صدورهم، خصوصًا إن كان غيرَ أهلٍ للتقدم في الإمامة؛ وذلك موجبٌ لاختلافِ قلوبهم، فعبر عنه باختلاف وجوههم؛ لكونه يلزم من تغير القلب تغيرُ الوجه غالبًا، فلما كان لازمًا له، عبر به عنه. والمراد: ما يحصل في القلوب بسبب ذلك؛ من العداوة والبغضاء، وكلاهما سبب للاختلاف في البواطن، الذي سببه الاختلافُ في الظواهر؛ بعدم التسوية في الصفوف، وينشأ عن ذلك الضغائنُ والأحقاد؛ وهذا كما يقال: تغير وجهُ فلان عليَّ؛ أي: ظهر لي من وجهه كراهةٌ لي، وتغير قلبه علي، والله أعلم. وقد يعبر بالمخالفة في الوجه؛ عن اختلاف المقاصد، وتباين النفوس؛ فإن من تباعد مع غيره، وتنافر، رُئي بوجهه تغير؛ فيكون المقصود: التحذيرَ من وقوع التباغض والتنافر، والله أعلم. وقوله: "حتى إذا رأَى أَنا قد عَقَلْنا"، معناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - راقبهم في التسوية، حتى ظهر له فهمُهم المقصود منها، وامتثالُهم له. وقوله: "فقامَ حتَّى كادَ أن يُكَبِّرَ، فرأى رجلًا بادِيًا صدرُه من الصف؛ فقالَ: عبادَ الله! لتسونَّ صفوفَكم"؛ هذا تفسير لشدة مراقبته - صلى الله عليه وسلم - لهم، في التسوية ¬

_ (¬1) رواه البخاري (659)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم (427)، كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

للصفوف، والمحافظة على ذلك، وتنبيه المأمومين عليها، والأمر المؤكد لهم بها؛ فإنه أكده - صلى الله عليه وسلم - بلام الأمر، ونون التوكيد، والتهديد على تركها؛ باختلاف القلوب، والأبشار. وفي الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي للإمام والراعي: أمرُ أتباعِه بالخير، ومراقبتهُ لهم في ذلك، ظاهرًا وباطنًا، والشفقةُ عليهم في الدنيا والآخرة، ولا يهمل واحدًا منهم، وألَّا يخصه بالمخاطبة؛ بل يعمهم جميعَهم بالخطاب، وإن وقعت المخالفة من واحد منهم. ومنها: الحثُّ على تسوية الصفوف، وتسويتها بنصَّ الإمام؛ ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يوكل بتسويتها رجالًا؛ فلو تركه الإمام، فعله المصلون، وأمرَ بعضُهم بعضًا بها، وشرع لكل أحد الأمرُ بها، وتسويتها. والسر في تسويتها: موافقةُ الملائكة - صلوات الله وسلامه عليهم -، وقد ورد في حديث: "صُفُّوا كما تَصُفُّ الملائكةُ" (¬1)، والمطلوب منها: محبةُ الله تعالى لعباده. ومنها: التحذيرُ من المخالفة؛ في الظاهر والباطن، والحثُّ على الموافقة، في الظاهر والباطن. ومنها: أنه لا تُهمل مخالفةٌ، حتى لو حصل الامتثالُ من الجميع، وتخلَّفَ واحد، خُشي من شؤمه عليهم. ومنها: شرعيةُ الكلام بين الإقامة والدخول في الصلاة؛ إذا كان لمصلحة الصلاة، ويقاس عليه: ما كان مصلحةً شرعية، وخُشي فواتُها. واختار جماهير العلماء؛ من الشافعية، وغيرهم: الكلامَ مطلقًا، ومنعه بعضُهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (430)، كتاب: الصلاة، باب: الأمر بالسكون في الصلاة، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، بلفظ: "ألا تصفون كما تصفٌّ الملائكة؟ ". وقد رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8449)، عن ابن عمر - رضي الله عنه - باللفظ الذي ذكره المؤلف - رحمه الله -.

الحديث الثالث

والصواب: الجوازُ؛ سواء كان لمصلحة الصلاة، أو لغيرها، أو لا لمصلحة؛ لكنه إذا كان لا لمصلحة، كان مكروهًا. ومنها: كراهةُ التقدم على المأمومين في الصف؛ سواء كان التقدم بقدميه، أو بمنكبيه، أو بجميع بدنه؛ فإنه إذا كان - صلى الله عليه وسلم - منعَ باديَ الصدرِ، الذي لا يظهر فيه كبيرُ مخالفة في التسوية، وهدَّد من فعله، فما ظنك بغيره؛ من البدن، والقدم، والمنكب!! ومنها: جوازُ التمثيل للأمور المأمور بها، بعضِها ببعض؛ فإن تسوية الصف مأمور بها، وتسوية القداح مأمورٌ بها؛ ومثل تسوية الصف بتسوية القداح. ومنها: اختبار الإمام أو المعلم أتباعَه، بعدَ فهمهم عنه. ومنها: التهديدُ على المخالفة، والتوكيدُ للتحذير، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ ماِلكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ، فأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّيَ لَكُمْ"، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إلى حَصِيرٍ لَنَا؛ قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَصَفَفْتُ أَنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَهُ، والعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولمسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ؛ فَأَقَامَني عَنْ يَمِينِهِ، وَأقَامَ المَرْأَةَ خَلْفَنَا (¬2). قال المصنف - رحمه الله -: اليتيمُ، قيل: هو ضُميرةُ جدُّ حسينِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ ضميرةَ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (373)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على الحصير، ومسلم (658)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الجماعة في النافلة. (¬2) رواه مسلم (660)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الجماعة في النافلة.

تقدم ذكرُ أنسٍ، وقد ذكر المصنف اليتيم؛ فقال: هو ضُميرة، ولم ينسبه؛ وإنما عرفه بكونه: جدَّ الحسين، وقد نسبه غيرُ واحد: ضميرة بن أبي ضميرة الليثي، جد حسين بنِ عبدِ الله بنِ عَمِيرة -بفتح العين المهملة، وكسر الميم-، من أهل المدينة، له صحبة؛ ذكره أبو حاتم بن حبان في الصحابة من "تاريخه". وقال غيره: ضميرة بن سعد الحميري، ولا منافاة بينهما؛ فإن سعدًا اسمٌ لأبي ضميرة، وليثًا من حمير؛ وإنما تنافى كلام ابن حبان، والمصنف، في جد حسين؛ فقال المصنف: ضُميرة، وقال ابن حبان: عَميرة، والله أعلم بالصواب منهما؛ فيحتمل أن يكون أحدهما تصحيفًا (¬1). وأما العجوز: فالذي ذكره غير واحد، أنها: أمُّ سُلَيم أمُّ أنس، وقد تقدم ذكر أم سليم في أحاديث الجنابة. وأما قوله: جدته مليكة: فاعلم أن هذا الحديث رواه إسحق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك؛ فالضمير في جدته عائد على إسحق بن عبد الله؛ لأن مليكة هي أم سليم، وهي أم عبد الله بن أبي طلحة، وأنس بن مالك؛ فهي جدة إسحق لأبيه؛ قاله أبو عمر بن عبد البر. فعلى هذا كان ينبغي للمصنف، وغيره أن يذكر إسحق؛ فإن إسقاطه يوهم أن تكون جدةَ أنس، لا جدةَ إسحق، وقيل: إنها جدة أنس؛ وهو ضعيف؛ فعلى هذا لا يحتاج إلى ذكر إسحق، والأحسن إثباته على كل حال. وقال بعضهم: مُليكة هي أم حَرام؛ فهي بضم الميم، وفتح اللام، وقيل: بفتح الميم، وكسر اللام (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 388)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 199)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1695)، و"غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 170)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 495). (¬2) وانظر ترجمتها في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1914)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 579)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 124).

وقوله: "قوموا فلأُصَلِّيَ لكمْ"، مكسورة اللام في قوله: فلأصليَ: مكسورةٌ، لامُ كي، والفاءُ زائدة، وقد جاءت زيادتُها في قولهم: زيدٌ فمنطلق؛ كما قال: وقائلة خولان فانكح فتاتهم (¬1) وهو مذهب الأخفش. وقد رُوي بكسر اللام، وجزم الياء؛ على أنه أمر نفسه؛ كما يقال: لأقمْ، ولأقعدْ. وقد روي بفتح اللام، والياء ساكتة؛ وهي أشدها؛ لأن اللام تكون جوابَ قسم محذوف، وحينئذ تلزمها النون، في الأشهر (¬2). وقوله: "فقمتُ إلى حَصير قد اسودَّ من طولِ ما لُبِس، فنضحتُه بماءٍ"، لا شكَّ أن لباسَ كلِّ شيء بحسبه شرعًا ولغة؛ فافتراشُ الحصير لا يسمى لباسًا عرفًا. ونضحُه بالماء: يحتمل أن يكون غَسلًا؛ لأجل تليينه، وتهيئته للجلوس عليه، وقد صرح بذلك في رواية في "صحيح مسلم". ويحتمل أن يكون لطهارته، وزوالِ ما يعرض من الشك في النجاسة فيه. ويحتمل أن يكون رشًّا؛ وهو ما دون الغَسل، وهو الذي يُنضح به بولُ الصبي الذي لم يَطْعَم، أو فيمن حصل له شك في نجاسة؛ فإن احتراز الصبيان عن النجاسة بعيد. وقوله: "ثم انصرفَ" يحتمل أن المراد بالانصراف: خروجُه من البيت؛ وهو الأقرب. ويحتمل أنه أراد الانصراف من الصلاة؛ بناء على أن السلام لا يدخل تحت مسمى الصلاة؛ عند أبي حنيفة، وأما على رأي غيره؛ فيكون الانصراف عبارة عن التحلل، الذي يستعقب السلام. ¬

_ (¬1) انظر: "خزانة الأدباء" للبغدادي (1/ 455). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 45).

وفي الحديث مسائل: منها: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من التواضع، في إجابة الدعوة في غير العرس، ولا خلاف في [أن] إجابتها مشروعة؛ لكن هل هو واجب، أم فرض كفاية، أم سنة؟ ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي، وغيرهم؛ وظواهر الأحاديث الإيجاب. ومنها: إجابة أولي الفضل لمن دعاهم في غير الوليمة. ومنها: جواز النافلة جماعة. ومنها: تبريك الرجل الصالح والعالم أهلَ المنزل بصلاته في منزلهم، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد تعليمهم أفعالَ الصلاة مشاهدةً مع تبريكهم؛ فإن المرأة قلَّما تشاهد أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد؛ فأراد أن تشاهدها، وتتعلمها، وتُعلمها غيرَها. ومنها: الصلاة للتعليم، ولحصول البركة للاجتماع؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلأصلي لكم"، يشعر بتخصيصهم بذلك. ومنها: جواز الصلاة على الحصير، وسائرِ ما تنبته الأرض؛ وهو مجمَع عليه، وروي عن عمر بن عبد العزيز خلافُ هذا؛ وهو محمول على استحباب التواضع بمباشرة الأرض نفسها. ومنها: أن الأصل في الثياب، والحصر، والبسط: الطهارة، وأن حكم الطهارة مستمر، حتى تتحقق النجاسة. ومنها: أن الأفضل في نوافل النهار أن تكون ركعتين؛ كنوافل الليل. ومنها: أنه لو حلف ألا يلبس ثوبًا، ولم تكن له نية بافتراشه؛ فافترشه: حنث به؛ وبه قالت المالكية، وقالت الشافعية: لا يحنث؛ لأن الأيمان مبناها العرف عندهم، وهذا في العرف لا يسمى لباسًا. ومنها: أن افتراش الحرير لباس له؛ فيحرم على الرجل، مع أن في الحرير نصًّا يخصه بالتحريم على الذكور، والتحليل للإناث، لكن اختلف أصحاب الشافعي - رحمهم الله - في جواز افتراش الحرير للنساء، على وجهين:

منهم من رجح الجواز، وأسند إلى أن اللباس إنما يسمى عرفًا في البدن، وجوز لهن؛ لما فيه من الزينة للرجال، وليس ذلك في الجلوس، والاستناد إليه. ومنها: صحةُ صلاة الصبي المميز. ومنها: أن للصبي موقفًا في الصف، وبه قال جمهور العلماء؛ وهو الصحيح في مذهب الشافعي، وعن أحمد: كراهته؛ وهو مروي عن عمر، وغيره؛ وهو محمول على صبي لا يعقل الصلاة، ويعبث فيها. ومنها: أن الاثنين يكونان صفًّا وراء الإمام؛ وهو مذهب العلماء كافة، إلا ابن مسعود، وصاحبيه، وأبا حنيفة، والكوفيين؛ فإنهم قالوا: يكونان عن يمينه، وعن يساره، ويكون الإمام بينهما. ومنها: أن موقف المرأة في الصلاة وراء الصبي، وأنها إذا لم تكن معها امرأة أخرى، تقف وحدها؛ وهذا لا خلاف فيه، ويجوز أن يتمسك به على أن المرأة لا تؤم الرجال؛ لأن مقامها في الائتِمام متأخر عن مرتبتهم، فكيف تتقدمهم إمامة؟! وهذا مذهب جمهور العلماء، خلافًا للطبري، وأبي ثور؛ فإنهما أجازا إمامة المرأة للرجال والنساء؛ جملة، وحكي عنهما: إجازته في التراويح؛ إذا لم يوجد قارئ غيرها. واختلف -أيضًا- في إمامتها للنساء؛ فذهب مالك، وأبو حنيفة، وجماعة من العلماء: إلى المنع أيضًا، وأجازه الشافعي، وغيره؛ وهو رواية عن مالك، والله أعلم. ومنها: أن موقف المنفرد من المأمومين عن يمين الإمام؛ سواء كان رجلًا، أو صبيًّا، حتى قال أصحاب الشافعي: ويقوم الخنثى خلفه، والمرأة خلف الخنثى. * * *

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي؛ فَأَقَامَني عَنْ يَمِينِهِ (¬1). تقدم ذكر ابن عباس، وتقدم ذكرُ خالته ميمونة، في باب الجنابة. وأما مبيتُ ابن عباس عندَها، فقد ورد في رواية ضعيفة: أَنَّها كانت حائضًا (¬2)؛ وهي حسنةُ المعنى جدًّا؛ إذ لم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حاجة إلى أهله، ولا يرسله أبوه إلا إذا عدم حاجته إلى أهله؛ لأنه معلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل حاجته مع حضرة ابن عباس معهما في الوسادة. فإن مبيته؛ إنما كان ليراقب أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ليقتدي به في الصلاة، وغيرها، ولعله لم ينم، أو نام قليلًا جدًّا (¬3). وفي الحديث فوائد: منها: جوازُ نوم بعض محارم المرأة في بيت زوجها، إذا لم يكن على الزوج ضرر في ذلك. ومنها: جواز الجماعة في النافلة في صلاة الليل. ومنها: أن أقل الجماعة اثنان. ومنها: أن الجماعة تحصل بالصبي المميز. ومنها: أن موقفه موقف الرجال؛ في الصف الأول، عن يمين الإمام، إذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (667)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا لم ينو الإمام أن يؤم، ثم جاء قوم فأمهم، ومسلم (763)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1093). (¬3) انظر: "شرح صحيح مسلم" (6/ 46).

اطلع على مخالفة من المأمومين؛ يرشد إليها بالفعل، وهو في الصلاة. ومنها: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة. ومنها: أن المأموم إذا وقف في غير موقفه، يحول إلى غيره؛ سواء كان في الصلاة، أو خارجها، بشرط: عدم تكرر الأفعال ثلاثًا متوالية. ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة؛ فإنه ورد في رواية: أنه دخل في الصلاة، بعد دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. ومنها: نقلُ أفعاله، وأحواله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليقتدى به، والله أعلم. * * *

باب الإمامة

باب الإمامة الحديث الأول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، ويَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟ " (¬1). هذا الحديث وعيد؛ بأن من رفع رأسه قبل إمامه، في ركوع أو سجود، يتحول رأسه أو صورته، رأسَ أو صورةَ حمار، ولا يلزم وقوعُ الوعيد، بخلاف الوعد؛ فإنه لازمٌ وقوعُه. والحديث نصٌّ في الرفع، والخفض في الهُوِيِّ إلى الركوع والسجود يقاس على الرفع، واعلم أن فاعل ذلك متعرض للوعيد؛ مما ذكر في الحديث، وليس فيه دليل على وقوعه ولا بد. ثم التحويل والجعل، هل يرجعُ إلى أمر معنوي، أو صوري، أو أعم؟ فترجع إلى المعنى والصورة جميعًا، ويكون أبلغ في الوعيد، والتحضيض على عدم المخالفة، واجتنابها؟ فإن الحمار موصوف بالبلادة، ويستعار للجاهل البليد عن ترك ما يجب عليه؛ من فروض الصلاة، ومتابعة الإمام. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (659)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم (427)، كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما.

فيترجح المعنى المجازي بأن التحويل في الصورة الظاهرة لم يقع غالبًا، مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام، وإن كان قد نقل وقوعه بإسناد صحيح؛ لشخص أو شخصين، في أزمنة قديمة. لكن الحديث لا يدل على وقوعه، وإنما فاعلُ الرفع قبل الإمام متعرضٌ له، خصوصًا إن كان مستهترًا بالحديث؛ فإنه يقع به، كما ذكرنا، ونعوذ بالله من ذلك، والمتعرض للشيء لا يلزم وقوع ما يعرض له، والمتوعَّد به لا يلزم وقوعه في الوقت الحاضر عند فعل المخالفة، والجهل موجود عنده؛ فإن الجهل عبارة عن فعل ما لا ينبغي، وعن الجهل بالحكم؛ فإن العالم بالشيء، ولم يعمل به، يقال له: جاهل؛ لأن الشيء يفوت بفوات ثمرته ومقصوده، وإن كان سببه موجودًا. ولهذا يقال: فلان ليس بإنسان؛ لفوات وصفٍ يناسب الإنسانية، ولما كان المقصود من العلم: العملَ به؛ جاز أن يقال لمن لا يعمل به: جاهل غير عالم، وقد يقال: عالم غير عارف؛ فيسمى عدم المعرفة جهلًا، والله أعلم. وفي الحديث: دليل على: تحريم مسابقة الإمام، وغِلظها، لكن إذا سبقه بركن، لا تبطل صلاته، وإن كان قد ارتكب المحذور؛ إن كان عالمًا: وجب عليه الرجوع إلى متابعته، وإن كان جاهلًا: وجب عليه الرجوع -أيضًا- إلى متابعته، ولا يكون آثمًا؛ بل يأثم بعدم التعلم، إن كان فرط فيه، والله أعلم. وقالت الشافعية: تبطل بسبقه بثلاثة أركان، وهل تبطل بما دون ذلك؟ أوجه، ثالثها: تبطل بركنين، ولا تبطل بركن. وفيه: التهديد على المخالفة؛ خشيةَ وقوعها. وفيه: وجوب متابعة الإمام، واحترامه بها. وفيه: كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته، وبيانه لهم الأحكام، وما يترتب على المخالفة، والله أعلم.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ؛ لِيُؤْتَمَّ بِهِ؛ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ؛ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ" (¬1). وَبِمَعْناهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْها -، قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ؛ فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ؛ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا، فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ" (¬2). أما عائشة، وأبو هريرة؛ فتقدم الكلام عليهما. وأما الكلام على ألفاظه: فالفاء: تقتضي التعقيب؛ فيقتضي أن تكون أفعال المأموم عقبَ أفعال الإمام القولية، والفعلية، فنبه - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير والتسميع على القولية، وبالركوع والرفع على الفعلية. وقد تقدم الكلام على المنع من مسابقة الإمام في الحديث قبله، وأما مساواة الإمام: فقال الفقهاء: هي مكروهة، قالوا: ولا تستحب موافقةُ الإمام في شيء من أحكام الصلاة، إلا في التأمين؛ للحديث الصحيح: "فَمَنْ وافقَ تأمينُه تأمينَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (689)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم (417)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره. (¬2) رواه البخاري (656)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ومسلم (412)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام.

الإمام، غُفر لهُ ما تقدَّم من ذنبِهِ" (¬1)، فقد وقع التخصيص على موافقته فيه؛ فاستُحِبَّ. وإنما: تقتضي الحصر؛ للائتمام، والمتابعة في كل شيء؛ حتى في النية، والهيئة؛ من الموقف، وغيره؛ وقد اختلف في ذلك الفقهاء: فقال الشافعي، وغيره: لا يضرُّ اختلاف النية، وجَعل الحديث مخصوصًا، بالأفعال الظاهرة. وقال مالك، وأبو حنيفة: يضر اختلافُ النية، وجَعلا اختلاف النيات داخلًا تحت الحصر في الحديث. وقال مالك، وغيره: لا يضر الاختلاف في الهيئة؛ بالتقدم في الموقف، وجعل الحديث عامًّا فيما عدا ذلك. وقوله: "سمعَ الله لمن حَمِدَهُ"؛ أي: أجاب، ومعناه: أن من حمدَ الله؛ متعرضًا لثوابِه، استجابَ له؛ فأعطاه ما تعرَّض له. "فقولوا: رَبَّنا ولكَ الحمدُ"، وأما الواو، في قوله: "ولك الحمد"؛ فهي: ثابتة في هذين الحديثين، محذوفة في أحاديث صِحاح أُخَرَ؛ وهذا الاختلاف في الاختيار، لا في الجواز؛ لثبوتهما. لكن إثبات الواو يدل على زيادة معنى؛ وهو النداء بالاستجابة؛ فكأنه يقول: يا ربنا استجب، أو تقبل، ونحوهما، وعطف ذلك بقوله: "ولك الحمد"؛ فكأنه خبر ثان، له الحمد سبحانه وتعالى؛ فكأنه حمد الله تعالى بلفظ الخبر الدال على ثبوت الحمد له ملكًا واستحقاقًا؛ فاشتمل الكلام على: معنى الدعاء، ومعنى الخبر. وحذف الواو دال على أحد هذين المعنيين فقط. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (747)، كتاب: صفة الصلاة، باب: جهر الإمام بالتأمين، ومسلم (410)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قلت: وثبوت الواو في ذلك منقول عن الشافعي في "مختصر البويطي"، والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا صلَّى جالسًا؛ فصلُّوا جلوسًا أجمعونَ"، فهكذا وقع التأكيد في الروايات؛ بأجمعون: مرفوعًا، ومقتضاه: أن يكون منصوبًا؛ لأن التأكيد يتبع المؤكَّد في إعرابه، وقد وقع في بعض الروايات كذلك؛ بأجمعين: منصوبًا، ويمكن التكلف للجواب، على ما وقع في الروايات، والله أعلم. وقولها: "إنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في بيته؛ وهو شاكٍ"؛ هذه الشكاية، يحتمل أنها كانت من سقطة عن فرس ركبها بالمدينة، فصرعه جذم نخلة، فانفكت قدمه؛ فدخل عليه أصحابه يعودونه في مشربة لعائشة، في غير وقت صلاة فريضة؛ ووجدوه يصلِّي نافلة، فقاموا خلفه، فأشار إليهم؛ فقعدوا، فلما قضى الصلاة، قال: "إذا صلَّى الإمامُ جالِسًا، فصلُّوا جلوسًا، وإذا صلَّى قائما، فصلُّوا قيامًا، ولا تفعلوا كما فعلَ أهلُ فارسَ بعظمائِها" رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، من رواية جابر - رضي الله عنه - (¬1). وقد أفصح في هذه الرواية: أن الصلاة التي صلوها خلفه قيامًا كانت نافلة، وأن العلة في أمرهم بالجلوس خلفه في الفريضة؛ عدمُ التشبه بالكفار؛ في قيامهم خلفَ عظمائهم؛ لتعظيمهم، فأمرهم بالجلوس؛ لتكون العظمة لله جميعًا، ولا يكون - صلى الله عليه وسلم - في شيء منها؛ اختيارًا، ولا غير اختيار، والله أعلم. وكان سقوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فرسه، وجحش شقه الأيمن؛ أي: خدش جلده، وانسحاجه، فخرح، فصلى بهم جالسًا، وقال: "إنما جُعِلَ الإمامُ؛ ليؤتَمَّ بهِ"، إلى آخر الحديث؛ في ذي الحجة، سنة خمس من الهجرة، كان - صلى الله عليه وسلم - ركب وأتى الغابة، فسقط عن فرسه. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2112)، وأبو داود (602)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، وابن خزيمة في "صحيحه" (1615)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (1896).

وفي هذا الشهر دفت دافَّةٌ من عامر بن صعصعة، فأمرهم ألا يدخروا من ضحاياهم شيئًا؛ ليواسوا المحتاجين، ثم قال لهم: "كُلُوا وادَّخِروا بعدَ ثلاث" (¬1)، والله أعلم. فهذان النقلان يدلان على: أنه انقطع غير مرة، وصلى بهم جالسًا شاكيًا غير مرة من سقطة، وأن أمرهم بالصلاة خلفه جلوسًا متقدمٌ على قصة الصديق، وصلاتِه بالناس، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، بين بريرة وثوبة، وإجلاسه - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر - رضي الله عنه -، وسيأتي الكلام عليهما، في أحكام الحديث. وفيه مسائل: منها: وجوبُ متابعة الإمام، وتحريمُ الاختلاف عليه. ومنها: أنه لو أحرم المأمومُ بالصلاة، مكبرًا قبلَه؛ لا تنعقدُ صلاته. ومنها: أن ركوعه وسجوده متأخرٌ عن الإمام. ومنها: أن السمع مختصٌّ بالإمام، وأن ذكر الإمام: ربَّنا لكَ الحمدُ، يختصُّ به؛ هكذا استدل به الإمام أحمد؛ وهو اختيار مالك. ومذهب الشافعي، وغيره: أن الإمام، والمأموم، والمنفرد يجمعون بين السمع، والتحميد، في الرفع من الركوع، والاستواء منه، قالوا: فالتسميع ذكر لحالة الرفع منه، والتحميد ذكر لحالة الاستواء من الرفع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ربنا ولك الحمد"؛ تعليمًا لهم ما جهلوه من ذكر الاستواء، بخلاف ذكر الرفع من الركوع؛ وهو التسميع؛ فإنهم كانوا يعلمونه، ويعملون به، ويتابعون فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلم يحتج إلى التنبيه عليه، بخلاف قوله: ربنا ولك الحمد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1972)، كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، وبيان نسخه، عن جابر - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن عائشة، وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -.

وقد روى مسلم في "صحيحه"، من رواية ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع ظهره من الركوع، قال: "سمعَ اللهُ لمن حَمِدَه، رَبَّنا لكَ الحمدُ ملءَ السمواتِ، وملءَ الأرض، وملءَ ما شِئْتَ من شيءٍ بَعْدُ" (¬1). وروى البخاري، في "صحيحه"، قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). ومنها: جواز الإشارة، والعمل القليل في الصلاة؛ للحاجة. واعلم: أن متابعة المأموم لإمامه؛ في التكبير، والقيام، والقعود، والركوع، والسجود؛ مشروع، وأن المأموم يفعلها بعده: فيكبر تكبيرةَ الإحرام بعد فراغ الإمام منها؛ فإن شرع قبل فراغ الإمام منها، لم تنعقد صلاته. ويركع بعد شروع الإمام في الركوع، وقبلَ رفعه منه؛ فإن قارنَه، أو سبقه: فقد أساء، ولكن لا تبطل صلاته؛ وكذا السجود. ويسلم بعد فراغ الإمام من السلام؛ فإن سلم قبله، بطلت، إلا أن ينوي المفارقة؛ ففيه خلاف مشهور، الصحيح: أن له أن ينوي المفارقة؛ بعذر، وغير عذر، وإن سلم معه، فقد أساء، ولا تبطل صلاته؛ على الصحيح، وقيل: تبطل. ومنها: وجوب المتابعة في النيات؛ فلا يصلي مفترض خلف متنفل، ولا مؤدٍّ خلف قاض، ولا مؤدٍّ فرضًا خلف مصلٍّ فرضًا غيره؛ وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وآخرون، وأجاز جميع ذلك الشافعي، وطائفة، وتقدم مأخذهم في ذلك. واستدل الشافعي على الجواز: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه ببطن نخل صلاةَ الخوف مرتين؛ بكل فرقة مرةً، فصلاته الثانية وقعت له نفلًا، وللمقتدين فرضًا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (476)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬2) رواه البخاري (605)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -.

وبأن معاذًا - رضي الله عنه - كان يصلي العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قومه، فيصليها بهم؛ هي لهم فريضة، وله تطوع. ومما يدل على أن الإتمام إنما يجب في الأفعال الظاهرة؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -، في رواية جابر: "ائْتَمُّوا بأئمتكُم: إن صلَّى قائمًا؛ فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا؛ فصلُّوا قعودًا" (¬1). ومنها: أنه لا يجوز للقائم القادرِ على القيام أن يصلي خلف القاعد قائمًا؛ وبه قال أحمد، والأوزاعي. وقال مالك، في المشهور عنه، وعن أصحابه: لا يجوز أن يؤم أحد جالسًا، وإن كان مريضًا، يؤم الأصحاء قيام، لا قعود؛ وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة، والشافعي، وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصليَ خلف القاعد، إلا قائمًا. وتمسك مالك، ومن قال بقوله؛ في عدم جواز إمامة الجالس مطلقًا، بحديث رواه الدارقطني، من حديث جابر الجعفي، عن الشعبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا" (¬2)، ورواه مجالد -أيضًا-، عن الشعبي؛ وهذا مرسَل، لو صح إسناده، كيف وجابر الجعفي متروك، ومجالد ضعيف؛! قال أبو حاتم بن حبان: أول من أبطَل في هذه الأمة صلاةَ المأموم قاعدًا، إذا صلى إمامُه جالسًا: المغيرة بن مِقْسم صاحبُ النخعي، وأخذ عنه حمادُ بنُ أبي سليمان، ثم أخذ عن حماد: أبو حنيفة، وتبعه عليه مَنْ بعده من أصحابه. وأعلى شيء احتجوا به: شيءٌ رواه جابر الجعفي، عن الشعبي؛ فذكره، قال: وهذا لو صح إسناده، لكان مرسلًا؛ والمرسل من الخبر وما لم يُرْوَ سِيَّانِ في الحكم عندنا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (413)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 398) وقال: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 80).

لأنّا لو قبلنا إرسالَ تابعي، وإن كان ثقة فاضلًا، على حسن الظن، لزمنا قبولُ مثله عن أتباع التابعين، ومتى قبلنا ذلك؛ لزمنا قبول مثله عن الأتباع، ومتى قبلنا لزمنا قبول مثل ذلك، عن تباع التبع، ومتى قبلنا ذلك؛ لزمنا أن نقبل من كل إنسان إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وفي هذا نقض الشريعة. والعجب ممن يحتج بهذا المرسل، وقد قدح في روايته الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -، قال: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذبَ من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء قط من رأي، إلا جاءني به بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينطق بها؛ فهذا أبو حنيفة يجرح جابرًا الجعفي، ويكذبه، ضد من انتحل، من أصحابه مذهبه؛ هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬1). واحتجوا -أيضًا- بترك الخلفاء الراشدين الإمامة؛ من قعود، وهو ضعيف؛ فإن ترك الشيء لا يدل على تحريمه، ولعلهم اكتفوا بالاستنابة للقادرين، وإن كان وقع الاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة، وأن الأولى تركها؛ فذلك سبب ترك الخلفاء الإمامة من قعود. ومن العلماء من قال: إن إمامة الجالس كانت خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ضعيف، فالأصل عدم ذلك حتى يدل الدليل عليه. واحتج الشافعي، ومن قال بقوله؛ أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائمًا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرض وفاته بعد هذا قاعدًا، وأبو بكر والناس خلفه قيام. وهذا هو الصواب؛ فقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث عائشة - رضي الله عنها - في صلاة أبي بكر بالناس، قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جلس عن يسار أبي بكر، قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس جالسًا، ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح ابن حبان" (5/ 472 - 474).

وأبو بكر قائمًا، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر (¬1). وقد تقدم أن الذي خرج معه في تلك الحال: بَريرةُ وثوبة، إلى أن أجلستا النبي - صلى الله عليه وسلم - في مصلاه عن يسار أبي بكر؛ فعائشة وهما أعلم بذلك من غيرهن، وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلونه ناسخًا لما قبله؛ وهذا قول البخاري، والجمهور، وزعم بعض العلماء؛ أن أبا بكر كان هو الإمام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مقتدٍ به، لكن الصواب: الأول. وقد تقدم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس وراءه في الصلاة كان متقدمًا، في آخر سنة خمس من الهجرة، وصلاة أبي بكر - رضي الله عنه - خلفه قائمًا؛ في آخر مرض وفاته، في أوائل سنة إحدى عشرة، وأن العلة في منع صلاة القائم خلف القاعد؛ لمخالفة فارس والروم في قيامهم خلف عظمائهم؛ فلما عقلوا ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -، ردهم إلى ما هو مطلوب للشرع أيضًا؛ وهو أنه لا يترك واجب لأجل موافقة الإمام، من غير معارضة ما هو أهم منه. فإن تعظيم الرب - سبحانه وتعالى -؛ هو المطلوب الأعظم، وعدم مشاركة غيره له في ذلك؛ فإذا تحقق العبد ما يستحقه الرب سبحانه وتعالى؛ من التوحيد، والإجلال، والتعظيم، لزمه القيام بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومما أمر به القادر القيامُ في الصلاة الفرضية، ومتابعة الإمام؛ فإذا عجز الإمام، لا يتركه المأموم لأجله. قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] , وثبت في "الصحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمرتُكم بأمرٍ، فافعلوا منه ما استطعتم" (¬2). وتأول بعضهم قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا صلَّى جالسًا، فصلوا جلوسًا أجمعين"؛ على ¬

_ (¬1) رواه مسلم (418)، كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما مَنْ يصلي بالناس، والبخاري أيضًا (681)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم. (¬2) تقدم تخريجه.

الحديث الثالث

حالة الجلوس في الصلاة المشروعة، للقادر على القيام، ولا يخالف الإمام فيها بالقيام؛ وكذلك إذا صلى قائمًا، فصلوا قيامًا؛ أي: في حالة قيامه، ولا تخالفوه بالقعود؛ وكذلك في الركوع والسجود، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا ركعَ فاركعوا، وإذا سجدَ فاسجدوا". وهو بعيد؛ بورود الأحاديث المذكورة في سبب ذلك، والمراد منه، وإشارته إليهم بالجلوس، والتعليل بمخالفة الأعاجم؛ في القيام على ملوكهم، وسياق الحديث يمنع فهم هذا التأويل، وقد حصل الكلام؛ على حديث عائشة، وأبي هريرة بما فيه مقنع، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الخَطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي البَرَاءُ؛ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ (¬1). أما عبدُ الله بنُ يزيدَ: فكنيته: أبو موسى؛ وهو صحابي، شهدَ الحديبية؛ وهو ابن سبعَ عشرةَ سنة، وشهدَ مع عليٍّ صِفِّينَ، والجملَ، والنهروانَ؛ قاله ابن عبد البر. وقال ابن حبان: كنيتُه: أبو أمية، شهدَ بيعة الرضوان، سكن الكوفة، ومات وهو أميرُها أيامَ ابن الزبير. وقال ابن أبي حاتم: روى عنه: أبو بُرْدَةَ بنُ أبي موسى، وابن بِنْتهِ عديُّ بنُ ثابتٍ الأنصاريٌّ، وابنه موسى بنُ عبد الله بنِ يزيدَ. وقال ابن عبد البر: وروى عنه: محمدُ بن كعب القُرَظيُّ، وعامرٌ الشعبيُّ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (658)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: متى يسجد من خلف الإمام؟ ومسلم (474)، كتاب: الصلاة، باب: متابعة الإمام والعمل بعده.

وقال ابن حبان: وكان الشعبيُّ كاتبَه، ولم يرو له من أصحاب الكتب الستة، فيمن روى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ غيرُ أبي داود، والترمذيّ. وذكره بقيُّ بن مخلد؛ فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أربعة أحاديث. وقال عبد الغني المقدسي: رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبعة وعشرون حديثًا؛ أخرج له البخاري حديثين، ولم يخرج له مسلم شيئًا، وقال غيره: خرج له مسلم أحد حديثي البخاري. وأما الخَطْمِيُّ: فهو -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة، ثم الميم، وياء النسب- نسبة إلى بني خَطْمَة؛ هم من الأوس، وخطمةُ هو: ابن جميعِ بنِ مالكِ بنِ الأوسِ، وقيل: اسم خطمة: عبدُ الله بنُ جشمَ بنِ مالكِ بنِ أوسِ بنِ حارثة بنِ ثعلبةَ بنِ عمرِو بنِ عامرٍ (¬1). وتقدم ذكر النسبة إلى الأنصار، وعبد الله بن يزيد -المذكور-؛ وهو: ابنُ يزيدَ بنِ حصينِ بنِ عمرِو بنُ الحارث بن خطمة، والله أعلم. وقد روى هذا الحديث أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وقد صحَّ سماعه من الخطمي، والبراء؛ فجعل بعضهم قول المصنف: "حدثني البراء؛ وهو غير كذوب" من كلام الخطمي في البراء، وجعله بعضهم من كلام أبي إسحق السبيعي فيه، فلو ذكر المصنف أبا إسحق، عن عبد الله بن يزيد، لكان أحسن؛ ليدخل احتمال الوجهين معًا في كلامه. وأما على ما ذكره؛ فلا يحتمل إلا عبد الله بن يزيد، مع أنه قد روى شعبة، عن أبي إسحق، قال: عبد الله بن يزيد، يخطب يقول: "حدثنا البراء؛ وهو غير كذوب". ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 18)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 12)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 197)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 255)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1001)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 413)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 301)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 197)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 267)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 71).

لكن لا يلزم من قول عبد الله بن يزيد ذلك في خطبته، ألا يكون أبو إسحق قاله في روايته للحديث؛ إما اقتداء بعبد الله، وإما ابتداء؛ تنبيهًا على تقوية الحديث، وقبوله، وتفخيمه في النفس؛ للعمل به، وتبليغه. كيف، وقد أضاف ابنُ معين قوله: "حدثني البراء؛ وهو غير كذوب" إلى ابن إسحق، وابنُ معين من الحفاظ الكبار؟! وتخطئته في ذلك؛ لكونه في تزكية البراء، يؤدي إلى الشك في روايته، بتزكيته؛ وهو تابعي، والبراء صحابي؛ والعادة أن الأكبر يزكي من دونه، لا أن الصغير يزكي من فوقه؛ غير لازم، إلا أن يأتي نقل صريح، في هذا الإسناد؛ أنه من كلام عبد الله بن يزيد، لا من كلام أبي إسحق؛ فيجب الرجوع إليه. وقد بينا أن المتكلم، أو الراوي يفخم؛ لقصد تفخيم كلامه، وأخذه بالقبول، وقد فعل ذلك الصحابة، والتابعون، وهلم جرًّا: فقد فعله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو الصادق المصدوق (¬1)؛ وكذلك أبو هريرة - رضي الله عنه -؛ ومعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إلى تزكيتهما، أو ثنائهما. وكذلك فعله أبو مسلم الخولاني التابعي الجليل - رحمه الله -، قال: حدثني الحبيب الأمين عوفُ بنُ مالكٍ الأشجعيُّ، مع نظائر كثيرة لذلك. فحينئذ يكون معنى الكلام: حدثني البراء؛ وهو غير كذوب؛ أي: غير مُتَّهم؛ كما علمتم، فثقوا بما أخبركم عن عبد الله، عنه. ويكون ابن معين أخطأ في تعليله؛ أن البراء صحابي؛ وهو منزه عن هذا الكلام؛ فإنه لا وجه له؛ سواء كان القائل عبدَ الله بن يزيد، أو أبا إسحق، وأن المراد به: عبد الله بن يزيد فقط، كيف وعبدُ الله بن يزيد صحابي -أيضًا-؛ كما ذكرنا؟ لا في إضافة القول إلى أبي إسحق السبيعي؛ فإنه ثبت سماعه من كل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3036)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2643)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه.

واحد؛ من عبد الله، والبراء، وإن كان لم يصرح الحفاظ بسماعه لهذا الحديث من البراء، والله أعلم. وأما البراء: فكنيته: أبو عمارة، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطفيل بنُ عازب بنِ الحارث بن عديِّ بن مجدعة -بفتح الميم، والدال المهملة، وسكون الجيم بينهما، وبعد الدال عين المهملة، ثم الهاء- بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الحارثي الأوسي المدني. وأبوه عازبٌ له صحبةٌ، ذكرها غيرُ واحد؛ منهم: ابن حبان. استُصغر هو، وابنُ عمر، يوم بدر؛ وكانا لِدَةً، وجماعةٌ غيرهما، وأول غزاة شهدها هو، وابنُ عمر، وأبو سعيد، وزيدُ بن أرقم: الخندقُ، وافتتح الري سنة أربع وعشرين؛ صلحًا، أو عنوة، وقيل: افتتحها غيره قبل ذلك، وشهد البراء مع علي صفينَ، والجملَ، والنهروان، ثم نزل الكوفة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث مئة حديث، وخمسة أحاديث؛ اتفق الشيخان: على اثنين وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري: بخمسة عشر، ومسلم: بستة. روى عنه؛ من الصحابة: عبدُ الله بن يزيد الخطميُّ الأنصاريُّ، وأبو جُحيفة، ووهب السُّوائي؛ ومن التابعين: أبو إسحق السَّبيعي، وعامر الشعبيُّ، وعبد الرحمن بنُ أبي ليلى، وغيرُهم، وروى له: أصحابُ السنن والمساند. ومات بالكوفة في ولاية مصعب على العراق، سنة ثنتين وسبعين (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 364)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 117)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 26)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 155)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 177)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 362)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 140)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 34)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 194)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 278)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 372).

الحديث الرابع

وأما قوله: "لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهرَهُ"؛ فمعناه: لم يعطفْ، ومنه حنيتُ العودَ: عطفتُه، ويقال: حنيت، وحنوت -بالياء، والواو-؛ لغتان حكاهما الجوهري، وغيره، وقد روي بهما في "صحيح مسلم": يحنو، ويحني، والأكثر في اللغة والرواية: الياء. وفي هذا الحديث فوائد: منها: ما كان الصحابة - رضي الله عنهم - عليه من الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمتابعة له؛ في الصلاة، وغيرها، حتى لم يتلبسوا بالركن الذي ينتقل إليه، حين يسرع في الهُوِيِّ إليه؛ بل يتأخرون عنه. ومنها: أن في فعل الصحابة ذلك دليلًا على: طول الطمأنينة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: "فإذا ركعَ فاركعوا، وإذا سجدَ فاسجدوا" ما يقتضي تقديم ما يسمى ركوعًا وسجودًا. ومنها: أن السنة للمأموم: لا ينحني للسجود حتى يضع الإمامُ جبهته على الأرض، إلا أن يعلم من حاله؛ أنه لو تأخر إلى هذا الحد، لرفع الإمام من السجود قبل سجوده. ومنها: مع مجموع ما ذكر؛ أن السنة للمأموم: أن يتأخر عن الإمام قليلًا، بحيث يشرع في الركن، بعد شروعه فيه، وقبل فراغه منه، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬1). أَمَّا قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ": ¬

_ (¬1) رواه البخاري (747)، كتاب: صفة الصلاة، باب: جهر الإمام بالتأمين، ومسلم (410)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين.

فقد اختلف العلماء في معنى الموافقة: فالأظهر: أنها راجعةٌ إلى الزمان، ويقوي ذلك قوله في رواية في "صحيح مسلم": "إذا قالَ أحدُكم: آمينَ، والملائكةُ في السماءِ: آمينَ؛ فوافقتْ إحداهما الأُخرى، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" (¬1). وقيل: وافقهم في الإخلاص، والصفاتِ الممدوحة. وقيل: وافقهم في مجردِ القول، ويلزم منه الموافقةُ في الزمان؛ فهو راجع إلى الأول. وقوله: "غُفر له ما تقدَّم من ذنبهِ"؛ أي: من الصغائر، إن كانت، وإن لم تكن؛ رُجي تخفيفُ الكبائر، وإن لم تكن كبائر؛ رُفعت درجات. واختلف في الملائكة المذكورين في الحديث؛ فقيل: الحفظة، وقيل: غيرهم من أهل السماء؛ للحديث في "صحيح مسلم": "فوافقَ قولُه قولَ أهلِ السماء" (¬2). وأجاب الأولون عنه: بأنه إذا قالها الحاضرون؛ من الحفظة، قالها مَنْ فوقهم؛ حتى تنتهي إلى أهل السماء، ووقع في رواية، في غير الصحيح: "فمن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكةِ؛ غُفِرَ لهُ" (¬3)؛ وهي صحيحة المعنى؛ فإن الموافق للموافق موافق، والله أعلم. وفي هذا الحديث: دليل على: استحباب التأمين للإمام، والمأموم، وأما المنفرد؛ فيستحب له -أيضًا-، ولكل قارئ في غير الصلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قالَ أحدُكم: آمينَ"، الحديث؛ وهو أعمُّ من أن يكون إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا، أو في غير صلاة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (410) (1/ 307)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين. (¬2) رواه مسلم (410) (1/ 307)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين. (¬3) بل رواه البخاري (6039)، كتاب: الدعوات، باب: التأمين.

وفيه دليل على: استحباب موافقة المأموم الإمام، في التأمين؛ فيكون معه، لا قبله، ولا بعده. وقد يستدل به على: الجهر بالتأمين للإمام؛ وهو ضعيف؛ فإن فعله، والتحضيضَ عليه، لا يلزم منه الجهرُ به، ووجهُ الاستدلال على جهر الإمام به: أنه علق تأمينهم بتأمينه؛ فلا بد أن يكونوا عالمين به، ولا يحصل لهم العلم إلا بالسماع. قال أصحاب الشافعي: يسن للإمام، والمنفرد: الجهر بالتأمين؛ وكذا يسن للمنفرد، على المذهب الصحيح، وأجمعت الأمة على: أن المنفرد يؤمن؛ وكذلك الإمام والمأموم، في الصلاة السرية؛ وكذلك قال الجمهور في الجهرية. وقال مالك، في رواية عنه: لا يؤمن الإمام في الجهرية. وقال أبو حنيفة، والكوفيون، ومالك، في رواية: لا يجهر بالتأمين، وقال الأكثرون: يجهر. واستدل لمالك: أن الإمام لا يؤمن؛ بأن المراد من الحديث، إذا أمن الإمام: على بلوغه موضع التأمين؛ وهو خاتمة الفاتحة، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قالَ: ولا الضالين، فقولوا: آمين" (¬1)؛ فإذا بلغ موضعه، قيل: أَمَّن، وإن لم يتلبس به؛ كما يقال: أنجد: إذا بلغ نجدًا، وأتهم: إذا بلغ تهامة، وأحرم: إذا بلغ الحرم؛ فكذلك إذا أمن: إذا بلغ موضعه. وهذا مجاز، فإن وجد دليل يرجحه على ظاهر الحديث؛ فإن حقيقته في التأمين، عُمل به، وإلا فالأصل: عدم المجاز، ولعل مالكًا اعتمد على عمل أهل المدينة؛ إن كان لهم في ذلك عمل، ورجح به مذهبه، وقد تقرر في كتب الأصول: ضعفُ القول بعمل أهل المدينة فقط، خصوصًا إن عارضه نص، أو ظاهر. وفيه دليل على: فضل الإمام؛ فإن تأمينه موافق لتأمين الملائكة؛ ولهذا شرع ¬

_ (¬1) رواه مسلم (415)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الحديث الخامس، والسادس

موافقة المأمومين له فيه، بخلاف غيره. وفيه دليل على: فضل الله تعالى، وكرمه؛ حيث جعل غفر الذنوب، على ما ذكرنا، مرتبًا على موافقة الإمام في التأمين. * * * الحديث الخامس، والسادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إِذَا صلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، والسَّقِيمَ، وَذَا الحَاجَةِ، وإِذَا صلَّى لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ" (¬1). وفي معناه: الحديث السابع: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بنَا، فَمَا رَأَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: "يأيُّها النُّاسُ! إِنَّ مِنْكُم مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِه الكَبِيرَ، والصَّغِيرَ، وَذَا الحَاجَةِ" (¬2). تقدم الكلام على أبي هريرة، ونسبه الأنصاري. وأما أبو مسعود: واسمه: عُقْبَةُ بنُ عمرِو بنِ ثعلبةَ بنِ أَسيرةَ -بفتح الهمزة، وكسر السين المهملة- بن عَسيرةَ -بفتح العين، وكسر السين المهملتين- بنِ عطيةَ بنِ جدار -بكسر الجيم- بنِ عوفِ بنِ الخزرج، البدريُّ؛ لسكناه ماءً ببدر، وقيل: لشهوده بدرًا الوقعة المشهورة؛ قاله البخاري، ولا يصح. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (671)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلّى لنفسه فليطول ما شاء، ومسلم (467)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام. (¬2) رواه البخاري (6740)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؛ ومسلم (466)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.

قال ابن إسحق: كان أبو مسعود أحدثَ من شهد العقبة سنًّا، ولم يشهد بدرًا، وشهد أحدًا، وما بعدها من المشاهد، ونزل الكوفة، وسكنها، وخلفَ عليًّا بها في خروجه إلى صِفين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئة حديث، وحديثان؛ اتفقا على: تسعة أحاديث، وللبخاري: حديث واحد، ولمسلم: سبعة. روى عنه؛ من الصحابة: عبدُ الله بن يزيد الخطْمي، ومن التابعين: ابنه بشير، وقيل: له صحبة؛ ولا تصح، وجماعةٌ غيرُه. ومات بالكوفة، وقيل: بالمدينة قبل الأربعين، قيل: سنة إحدى وثلاثين، وقيل: أيام خلافة علي، وقيل: مات بعد الأربعين سنة إحدى، أو اثنتين، وقيل: في آخر خلافة معاوية. وروى له: أصحاب السنن والمساند (¬1). وأما الكلام على معنى التخفيف: فاعلم: أن المراد به: تخفيفٌ لا يخلُّ بمقاصد الصلاة، وأركانها، وسننها. والضابط في التطويل، وعدمه: إذا لم يكن المأمومون يؤثرونه؛ فإن آثروه، طول، وحدُّ التطويل مقدَّر: بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفعلِه فيها غالبًا؛ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل في الصلاة، ويريد إطالتها، فيسمع بكاء الصبي؛ فيتجوَّزُ فيها. والمراد باعتبار قول المأمومين؛ في التطويل، وتركه: إذا كانوا محضورين؛ كما إذا اجتمع قوم لصلاة الليل، أو كان المسجد صغيرًا، في الفرائض؛ أما إذا كان المسجد كبيرًا، والجماعة غير محضورين: فإن الإمام يخفف بهم، مطلقًا؛ ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 16)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 429)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 279)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1074)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 157)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 507)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 55)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 215)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 493)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 524)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 220).

بحيث لا يخل بالفرائض، والسنن؛ وهذا الحكم مذكور في الحديثين المذكورين، مع علته. ثم المشقة في التطويل: أمرٌ إضافي؛ فليس المعتبر فيه عادة بعض المصلين الجاهلين المقصرين، ولا الغالين المتنطِّعين؛ بل هو معتبر بما قاله العلماء. فلا يزيد في القيام؛ بالقراءة الطويلة المملة المؤدية إلى كراهية الصلاة، ولا في الركوع، والسجود؛ على ثلاث تسبيحات، ونحوها، من دعاء في السجود، وتعظيم في الركوع؛ كما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل؛ مع أمره بالتخفيف، [وشدة غضبه في الموعظة، في إطالة الإمام الصلاةَ بهم؛ فهذا لا يعدُّ طولًا ومشقَّة، شرعًا؛ بل التخفيف عنه مكروه] (¬1)، وعن الواجب حرام. ثم العلة في كراهة التطويل: إنما هو التنفير عن الخير، بسبب المشقة الحاصلة منه، مع الحاملة على: ترك العبادة، أو الدخول فيها بغير انشراح، أو تملل، أو شغل القلب بكراهته؛ عن الحضور في الصلاة، والخشوع؛ اللذين هما مقصودها، والمطلوب منها، والله أعلم. ثم غضبه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الموعظة: إما لمخالفة العلم في تخفيف الصلاة، أو التقصير في تعلمه، أو لهما، والله أعلم. ثم تطويل الإمام في الصلاة عذرٌ في التخلف عن حضور الجماعة، إذا عُلم من عادة الإمام التطويلُ الكبير؛ لهذا غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظته؛ لكونِ التطويل على المأمومين سببًا لترك الجماعة، وربما يكون في حق بعض الجهال سببًا لترك الصلاة. ولا شك أن ترك أصل الجماعة حرام، وبعضهم يقول: إن تركها بعض الناس؛ بحيث قام شعارها في الناحية، لم يحرم، وبعضهم يقول: إنَّ تركها مكروه مخالف للسنة. وقد روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، من رواية سعيد بن جبير، عن ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من: "ح".

ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سمعَ النداءَ فلم يُجِبْ؛ فلا صلاةَ له، إلَّا مِنْ عُذْرٍ" (¬1)؛ وفي هذا الحديث: أن الأمر بإتيان الجماعة أمر حتم، لا ندب؛ فتعين أن يكون الأمر الحتم على من سمع النداء: فرضَ عين، أو كفاية. ثم الأعذار في ترك الجماعة؛ المنصوص عليها في السنة، عشرة: الأول: المرض؛ بدليل تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها في مرضه، وقد جعله - صلى الله عليه وسلم - علة في عدم تطويل الإمام الصلاة. الثاني: حضور الطعام، خصوصًا عند توقان النفس إليه، وهو صائم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قُرِّبَ العَشاءُ, وحضرتِ الصلاةُ؛ فابدؤوا بهِ قبلَ صلاة المغرب، ولا تَعْجَلوا عن عشائِكم"؛ حديث صحيح، على شرط الشيخين، من رواية أنس (¬2). الثالث: النسيان الذي يعترض الشخص في بعض الأحوال؛ للحديث الصحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قَفَلَ من غزوة خيبر سارَ ليلةً، حتى إذا أدركه الكرى، عَرَّسَ، وقال لبلال: "اكلأ الليل"، فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلال، وأصحابه؛ حتى طلعت الشمس، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نامَ عنْ صلاةٍ، أو نَسِيَها؛ فَلْيُصَلِّها، إِذا ذَكَرَها" (¬3). الرابع: السِّمَنُ المفرِط؛ للحديث الصحيح الذي رواه أنس - رضي الله عنه -: أن رجلًا من الأنصار كان ضخمًا؛ لا يستطيع حضور الجماعة مع ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (793)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة، وابن حبان في "صحيحه" (2064)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12266)، وفي "المعجم الأوسط" (4303)، والدارقطني في "سننه" (1/ 420)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 57). (¬2) قلت: هو في "الصحيحين"، وقد تقدم تخريجه، فلا حاجة لقول المؤلف - رحمه الله -. حديث صحيح على شرط الشيخين؛ فإنه يوهم عدم تخريجهما له، والواقع خلافه. (¬3) رواه مسلم (680)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، ودعاه لطعام صنعه له في بيته؛ فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حَصير في بيته ركعتين (¬1). الخامس: مُدافعةُ الأخبثين البول، والغائط؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهو يدافعُه الأخبثانِ: البولُ، والغائطُ، (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجدَ أحدُكم الغائطَ؛ فليبدأْ بهِ قبلَ الصلاةِ" (¬3). السادس: خوفُ الإنسان على نفسه، وماله، في طريقه إلى المسجد؛ لحديث عتبانَ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه - في "الصحيح": أنه قال: يا رسولَ الله! إذا كانتِ الأمطارُ، سالَ الوادي، ولم أستطعِ الخروجَ إلى المسجد؛ فأصلي لهم، ووددت أنك يا رسولَ الله تأتي، فتصلي في بيتي؛ حتى أتخذه مصلًّى، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" الحديث (¬4). السابع: وجودُ البرد الشديد المؤلم؛ لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه صلَّى هو وأصحابه في رحالهم ذات ليلة، في برد شديد، وقال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلَ مثلَ هذا، أو أمرَ بهِ الناسَ، حديث صحيح (¬5). الثامن: المطر المؤذي؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانت ليلة بردٍ ومطر، فصلُّوا في الرِّحال"، وكان يأمرُ المؤذِّنَ بذلك، حديث صحيح (¬6)، والمطرُ عذرٌ في التخلف عن الجماعة؛ قليلًا كان، أو كثيرًا؛ لحديث صحيح فيه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1125)، كتاب: التطوع، باب: صلاة الضحى في الحضر. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه النسائي (852)، كتاب: الإمامة، باب: العذر في ترك الجماعة، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 53)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 72)، عن عبد الله بن الأرقم - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (415)، كتاب: المساجد، باب: المساجد في البيوت، ومسلم (33)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة. (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2076). (¬6) رواه البخاري (635)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، ومسلم (697)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الصلاة في الرحال في المطر.

التاسع: وجود الظلمة؛ لحديث صحيح، من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، في ليلة ظلماءَ, فنادى منادٍ به: أَنْ صَلُّوا في الرِّحال (¬1). العاشر: أكلُ الثوم والبصل، إلى أن يذهب ريحهما؛ وكذلك ما في معناهما؛ مما له رائحة كريهة؛ كالكراث، والبقول المنتنة، وقد ثبت في النهي عن ذلك أحاديثُ صحيحة؛ تمنع إتيان المساجد حتى يذهب ريحها؛ سواء كان فيها جماعة، أم لا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. وقد ألحق الفقهاء بهذه النصوص عليها أعذارًا في معناها، وبعضها أولى بأن يكون عذرًا؛ فالشخص مأمور بالجماعة، وإتيانها، فإذا عذر في إتيانها، فلا يتركها؛ إما واجبًا، وإما مندوبًا، والله أعلم. واعلم: أن الضعف يعم: الصغر، والكبر، والمرض، والسقم؛ فيكون ذكر السقيم، والصغير، والكبير؛ من باب ذكر الخاص بعد العام، أو من باب تعداد الصفات الموجبة للعذر، في ترك الإمام التطويل عليهم، في الصلاة. وفي الحديثين مسائل: منها: الردُّ على من قال: لا تجوز صلاة الجماعة إلا خلف معصوم. ومنها: أن الإمام يخفف الصلاة؛ على الشرط، والتفصيل الذي ذكرناه. ومنها: ذكر الأحكام للناس بعللها. ومنها: جواز حضور المريض، والصبي، والشيخ، وسائر من به ضعفٌ الجماعةَ. ومنها: مراعاة الضعفاء في أمور الآخرة؛ وكذلك في أمور الدنيا، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سِيروا على سَيْرِ أَضْعَفِكم" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1656)، وأبو يعلى في "مسنده" (5673)، وابن حبان في "صحيحه" (2084)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13102). (¬2) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 396 - 397): لا أعرفه بهذا اللفظ، ولكن معناه =

ومنها: جواز ذكر الإنسان؛ في الشكوى، والانتصار عليه. ومنها: التأخر عن الجماعة؛ للأعذار. ومنها: الموعظة لأمر الدين، وذكر الأحكام عند المخالفة. ومنها: الغضب في الموعظة. ومنها: تألُّف الناسِ على الطاعات، وعدمُ تنفيرهم عنها. ومنها: أن الإنسان إذا صلى منفردًا، فإنه يصلي ما شاء؛ من قيام، وركوع، وسجود، لا في اعتدال، وجلوس بين سجدتين؛ سواء كان في فرض، أو نفل، والحديث في تطويل المنفرد مطلقٌ منزل على ما ذكرنا. ومنها: تسمية الصلاة، وإضافتها إلى وقتها المأمور بإتيانها فيه. ومنها: خطاب الناس، ونداؤهم في الموعظة، مما تكرهه نفوسهم من المخالفة، وإظهار ذلك القصد، والإرشاد والتعليم، والتبليغ؛ من غير تخصيص بالذكر لفاعل المخالفة، والله أعلم. * * * ¬

_ = في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقدر القوم بأضعفهم؛ فإن فيهم الكبير والسقيم والبعيد وذا الحاجة". وهو عند الشافعي في "سننه"، والترمذي، وقال: حسن، وابن ماجه من حديث عثمان بن أبي العاص، وصححه ابن خزيمة والحاكم، وقال: على شرط مسلم: ونحوه عند الحارث ابن أبي أسامة عن أبي هريرة رفعه: "يا أبا هريرة! إذا كنت إمامًا، فقس الناس بأضعفهم"، وفي لفظ: "فاقتد بأضعفهم" ا. هـ.

باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -

باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الأول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاَةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ، والقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطَايَايَ؛ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ؛ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بالثَّلْجِ، والمَاءِ، والبَرَدِ" (¬1). لا شك أن (كان) تشعر بكثرة الفعل، أو المداومة عليه، وقد تكون لمجرد وقوعه. وقوله: "سكت هُنَيْهَةً"؛ أي: قليلًا من الزمان، وأصلُه: هَنَة، ثم صُغِّرَ هُنَيَّة، ثم أُبدلت الياء المشددة هاء. وقوله: "أرأيتَ سكوتَكَ؟ "؛ المراد به: سكوتٌ عن الجهر؛ لا سكوتٌ مطلَقٌ عن القول، وسكوتٌ عن قراءة القرآن؛ لا عن الذِّكْرِ، والدعاء، والله أعلم؛ بدليل قولهِ بعدَه: ما تقول؟ فإنه مشعرٌ بأنه فهمَ أن في سكوته - صلى الله عليه وسلم - قولًا. ووقع السؤال بقوله: "ما تقولُ؟ "، دون قوله: هل تقولُ؟ مع أن السؤال بهل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (711)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.

مقدَّم على السؤال بما ها هنا؛ لكنه استدل على أصل القول بحركة الفم؛ كما استدل الصحابة - رضي الله عنهم - على قراءته سرًّا، باضطراب لحيته. وقوله: "اللهمَّ باعِدْ بيني وبينَ خَطايايَ"، إلى آخره؛ المراد: محوُ الخطايا، وتركُ المؤاخذة بها؛ وفيه مجازان: أحدهما: استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة، والمباعدة إنما تكون في الزمان، أو المكان. الثاني: استعمالُها في الإزالة الكلية، مع أن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد: البقاء مع البعد، ولا ما يطابقه من المجاز؛ بل المراد: الإزالة الكلية؛ وكذلك التشبيه بالمباعدة بين المشرق والمغرب؛ فإن المراد منه: ترك المؤاخذة. وقوله: "من الدَّنَس"؛ وهو -أيضًا- مجاز عن زوال الذنوب، وأثرها. ولا شك أن الدنس في الثوب؛ بلونٍ غيرِ البياض، وطعمٍ غيرِ طَيِّبٍ، ورائحةٍ كريهة، وكلُّه دنسٌ، وجاء في رواية في "صحيح مسلم": "من الدَّرَن" (¬1)، وفي رواية: "من الوَسَخ" (¬2)؛ ولما كان ذلك في الثوب الأبيض أظهرَ من غيره من الألوان؛ وقع التشبيهُ به. وقوله: "اغسِلْني"، إلى آخره؛ فهو مجاز عن المؤاخذة؛ كما ذكرنا، ويحتمل بعده أمران: أحدهما: التعبير بالغسل؛ عن الغاية بالمحو بمجموع أنواع المياه، في مشاهدة نزولها إلى الأرض؛ من الماء، والثلج، والبرد؛ فيكون المراد منه: التواب الذي، تكرر تنقيته للذنوب، بثلاثة أشياء منقية؛ يكون في غاية النقاء. الثاني: يكون كل واحد من الثلاثة مجازًا عن صفة يقع بها التكفير، والمحو؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (476) (1/ 347)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (476) (1/ 346)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.

وهذا كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، وكل واحد من العفو، والمغفرة، والرحمة؛ صفة لها أثر في محو الذنب. ففي الأمر الأول: نظر إلى كل واحد من أفراد الألفاظ، وفي الثاني: نظر إلى كل فرد من أفراد المعاني؛ وكلاهما دالان على: الغاية في محو الذنب، والتطهير منه. وفي هذا الحديث مسائل: منها: استحباب هذا الذكر؛ بين تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، وغيره؛ وهو مستحب عند الشافعي، وجمهور العلماء، والحكمة فيه: تمرين النفس على انشراحها لأفضل الأذكار، وتدبرها؛ وهي: الفاتحة، وما شرع معها من القراءة -والفاتحة: واجبة-. وأوجبَ جماعةٌ من السلف: قراءةَ شيء معها؛ بأحاديثَ حسنة، رواها أبو داود، وغيره، وجمهورُ العلماء: على استحبابه. ومنها: تفدية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآباء والأمهات؛ وهو مجمَع عليه، وهل يجوز تفدية غيرهِ من المؤمنين؟ على ثلاثة مذاهب: الصحيح: جوازه بلا كراهة. ومنهم من منعها؛ وجعلها خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وله أن يفدِّيَ من شاء، بلا خلاف. ومنهم من فَصَّل؛ فقال: يجوز تفديةُ العلماء الصالحين الأخيار، ولا يجوز تفديةُ غيرهم؛ لأنهم هم الورَّاثُ المنتفَع بهم، بخلاف غيرهم. ومنها: استعمال المجاز، وتسمية الكلام السر سكوتًا. ومنها: السؤال عن العلم للفضلاء دون غيرهم. ومنها: تخصيص الإمام نفسَه بالدعاء، دونَ المأمومين؛ فإن الظاهر منه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إمامًا؛ فيحتمل النهي الوارد في تخصيص الإمامِ نفسَه به، وأنه خانهم، على: كراهة التنزيه، لا التحريم؛ بيانًا للجواز.

الحديث الثاني

ومنها: التطهير بذَوْب الثلج، والبَرَد؛ وهذا مجمع عليه. ومنها: شرعية سؤال المباعدة من الذنوب، والتنقية منها، والغسل، وتأكد ذلك؛ فإن ذلك ليس من التحجر في الدعاء، بل هو من باب العلم، بسعة - رحمة الله تعالى -، وجوده، وكرمه، وأنه لا ملجأَ ولا منجى منه إلا إليه، وأنه لا يُرجى غيره، ولا يُطلب إلا منه، - سبحانه وتعالى - لا يحصى ثناء عليه، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَائشِةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالقِرَاءَةَ بِـ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ؛ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ؛ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسهُ مِنَ السَّجْدَةِ؛ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، وَكَانَ يَقُولُ في كُلِّ رَكْعَتَيْنِ: التَّحِيَّةَ، وكَانَ يَفْرُشُ رِجْلَهُ اليُسْرَى، ويَنْصِبُ رِجْلَهُ اليُمْنَى، وكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْرُشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بالتَّسْلِيمِ (¬1). تقدمت عائشة - رضي الله عنها -. وأما ألفاظه ومعانيه: فتقدم الكلام على: (كان)، وأنها تقتضي المداومة، أو الأكثرية، لكن لا يأتي فيها هنا إلا المداومةُ؛ لافتتاح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ: الحمدُ لله ربِّ العالمين؛ أي: سورة الحمد، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يُخل بالتكبير، والقراءة. والفقهاء يستدلون بأفعاله - صلى الله عليه وسلم -، في كثير منها في الصلاة على الوجوب؛ لأنهم يرون أن قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] خطابٌ مجمَل مبيَّنٌ بالفعل، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (498)، كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختم به ...

والفعلُ المبين للمجمل المأمور به يدخل تحت الأمر؛ فيدل بمجموع ذلك على الوجوب، لا لأن الفعل بمفرده يدل على الوجوب، وإذا كان المسلك ذلك، ووُجدت أفعالٌ غيرُ واجبة، وجب أن يُحال على دليلٍ آخر؛ دل على عدم وجوبها. وفي ذلك بحث؛ وهو أن الخطاب المجمل تبيين بأول وقوع الأفعال، فلم يكن ما وقع بعده بيانًا له؛ لوقوع البيان بالأول، فتبقى أفعالًا مجردة لا تدل على الوجوب، إلا أن يدل دليل على أن الفعل المستدل به بيانًا؛ فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجوده، بل قد يقوم الدليل على خلافه. كمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل فعلًا؛ وهو من أصاغر الصحابة الذين لهم تمييز، بعد إقامته - صلى الله عليه وسلم - مدة للصلاة، مثلًا؛ فهذا مقطوع بتأخره، وكذلك من أسلم بعد مدة، وأخبر برؤية الفعل؛ فإنه حينئذ يتحقق تأخير الفعل. لكنه قد يجاب عنه بأمر جدلي، لا يقوم مقام تأخر الفعل؛ وهو أنه دل الدليل من الحديث المعين، على وقوع هذا الفعل، والأصل عدم غيره؛ فتعين أن يكون بيانًا؛ وهذا قوي، فيما إذا وجدنا فعلًا لم يقم الدليل على عدم وجوبه، فأما إذا وجد: فإن جعلناه مبينًا عدم وجوبه؛ لزم النسخ بذلك الوجوب الذي ثبت، ولا شك أن مخالفة الأصل أقرب من التزام النسخ. قولها: "يستفتحُ الصلاةَ بالتكبيرِ"؛ يعني: بالتكبير الذي هو تحريمٌ للصلاة؛ كما ثبت: "تحريمُها التكبيرُ" (¬1)، ولا شك أن التحريم لا يحصل بالتكبير وحده، بل به وبالنية؛ وهما أمران: أحدهما: قائم بالقلب، والثاني: بالنطق؛ فيحتمل أنها عبرت بالأخص عن الأعم؛ للعلم به، ويحتمل أنها ذكرته؛ للتنبيه على تعين لفظ التكبير، دون غيره. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (61)، كتاب: الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذي (3)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275)، كتاب: الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، عن علي - رضي الله عنه -.

وإن استفتاح الصلاة بالنية كان معلومًا عندهم؛ وهي قصد الطاعة بالصلاة؛ كما أن الإخلاص في الطاعة لله، لا بد منه في الاستفتاح، وغيره؛ وهو تصفية العمل من الشوائب، بألَّا يقصد العمل للنفس، ولا للهوى، ولا للدنيا، بل للتقرب إلى الله تعالى؛ فكذلك النية، وكلاهما كان عندهم معلومًا؛ فلهذا استغنت بذكر التكبير عنهما. ونقل خلاف ذلك عن بعض المتقدمين، وتأوله بعضهم على مالك، والمعروف: خلافهُ، عنه، وعن غيره. ثم التحريم بالتكبير خصوصًا؛ كما ذكرنا. وأبو حنيفة يكتفي بمجرد التعظيم؛ كقوله: الله أجلُّ، أو أعظمُ. وتعيين لفظِه؛ قال به مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء؛ مستدلين على وجوبه، تعينه: بهذا النقل، على الطريقة السابقة، من كونها بيانًا للمجمل؛ وفيه ما ذكرنا، لكن انضم إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي" (¬1)؛ فصار البيان بفعله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله؛ فهذا مجرد أنَّ الفعل يشعر بأنه خطاب للأمة بأن تكون صلاتهم كصلاته؛ في كل فعل، وقول، وحركة، وسكون. ولا شك أنه بعض من حديث مالك بن الحارث، قال: أتينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلةَ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا؛ فظن أنا قد اشتقنا أهلَنا، فسأَلنا عمَّن تركْنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: "ارْجِعُوا إِلى أَهليكُم؛ فأَقيموا عندَهم، وعلِّموهم، ومُروهم، فإذا حضرتِ الصلاةُ؛ فليؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم ليؤمَّكُمْ أكبرُكم" (¬2)، زاد البخاري: "وصلُّوا كما رَأَيتموني أُصَلِّي" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (605)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، والإقامة، ومسلم (674)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أحق بالإمامة؟ (¬3) تقدم تخريجه.

فهذا خطاب لمالك بن الحارث، وأصحابه، والأمة تشاركهم في هذا الخطاب، وأن يوقعوا الصلاة على الوجه الذي أمروا بإيقاعها عليه؛ كما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي. فما ثبت استمراره - صلى الله عليه وسلم - دائمًا؛ دخل تحت الأمر، وكان واجبًا، وبعض ذلك مقطوع باستمرار فعله له؛ وما لم يدل دليل على وجوده، في تلك الصلوات التي تعلق الأمر بإيقاع الصلاة على صفتها؛ لا يجزم بتناول الأمر له؛ فهذا كله يقال، من الجدل أيضًا، والله أعلم. وقولها: "والقراءةَ بِـ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين"، فالقراءة: منصوب عطف على مفعول يستفتح؛ وهو: الصلاةَ، وبالحمدُ: مرفوع، على الحكاية. وقد تمسك به مالك، وأصحابه؛ في ترك الذكر بين التكبير والقراءة؛ لأنه لو تخلل بينهما ذِكْر، لم يكن الاستفتاح بالقرآن؛ بـ: الحمدُ لله ربِّ العالمين. واستدل به أصحاب مالك، وغيرهم؛ على ترك التسمية في ابتداء الفاتحة، وأنها ليست منها. وتأوله الشافعي، والأكثرون القائلون بأنها من الفاتحة؛ على أن المراد: يستفتح القراءة بسورة الحمد، لا بسورة أخرى، وقد قامت أدلة؛ على أن البسملة منها: الأول: ثبوتها في المصحف الكريم. الثاني: ما رواه الشافعي، بإسناده إلى أم سلمة - رضي الله عنها -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ بأمِّ القرآن، بدأ ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يعدها آية، ثم قرأ: الحمدُ لله ربِّ العالمين، بعدَها ستُّ آيات (¬1). وروى بإسناده، عن نعيم بن عبد الرحمن المجمر، قال: صليتُ خلفَ أبي ¬

_ (¬1) ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 199)، وابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 457).

هريرة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قبلَ أم القرآن، وقبلَ السورة، وكبر في الخفض، والرفع، وقال: أنا أشبهُكم صلاةً بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - عز وجل -: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]؛ وهي أمُّ القرآن، وأولُها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1). وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قبلَ: الحمدُ، وقبلَ السورة (¬2). وروي عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: صليت خلفَ عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -، فكان يجهر بـ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (¬3) كل ذلك مذكور في "مختصر أبي يعقوب البويطي"، عن الشافعي - رحمهما الله تعالى -، وقد صنف جماعة كتبًا في التسمية في الفاتحة، والجهر بها؛ منهم: سليم الرازي، والخطيب البغدادي، وغيرهما. وقد أجاب بعض المخالفين عن تأويل الشافعي، وغيره: بأن لفظ الحديث، إن أجري مجرى الحكاية، اقتضى: البداءة به بعينه، ولا يكون غيره قبله؛ لأن الغير حينئذ يكون هو المفتتح، وإن جعل اسمًا؛ فالفاتحة لا تسمى سورتها، بمجموع الحمد لله رب العالمين، بل بسورة الحمد؛ فلو كان لفظ الرواية بها، لقوي تأويل الشافعي، وغيره؛ فإنه يدل حينئذ على الافتتاح بالسورة، التي البسملةُ بعضُها عندهم؛ وفي هذا الجواب عندَ التأمل نظر. وقولها: "وكانَ إذا ركعَ، لم يُشْخِصْ رأسَهُ"؛ أي: لم يرفعه، ومادة الإشخاص: تدل على الارتفاع؛ ومنه: أشخصَ بصرَه: إذا رفعه إلى العلو، ¬

_ (¬1) ورواه النسائي (905)، كتاب: الافتتاح، باب: قراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وابن خزيمة في "صحيحه" (499)، وابن حبان في "صحيحه" (1797)، والحاكم في "المستدرك" (849). (¬2) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 200)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (800). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 200)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 48).

ومنه: الشخص؛ لارتفاعه للأبصار، ومنه: شخصَ المسافرُ: إذا خرج من منزله إلى غيره (¬1). وقولها: "ولم يُصَوِّبْهُ"، هو -بضم الياء، وفتح الصاد المهملة، وكسر الواو المشددة-؛ أي: لم ينكسه؛ ومنه: الصَّيِّب؛ المصبوب بصوب الماء، ومن أطلق الصيب على الغيم؛ فهو من المجاز؛ لأنه سبب الصب، الذي هو المطر (¬2). وقولها: "ولكنْ بينَ ذلكَ"؛ هو إشارة إلى المسنون من الركوع، بأن يكون معتدلًا فيه؛ باستواء الظهر والعنق. وقولها: "وكانَ إذا رفعَ رأسَه من الركوع، لم يسجدْ حتى يستويَ قائمًا"؛ دليل على الرفع من الركوع، والاعتدالِ فيه؛ بأن يستوي قائمًا، وقد اختلف الفقهاء فيه؛ على ثلاثة أقوال: أحدها: يجب. والثاني: يستحب. والثالث: يجب ما هو إلى الاعتدال أقرب، ويستحب ما زاد عليه. ولكن الرفع من الركوع من الأفعال التي ثبت استمرار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها. وقولها: "وكانَ إذا رفعَ رأسَه من السجودِ، لم يسجدْ حتى يستوي قاعدًا"؛ دليل على الرفع من السجود، والاستواء في الجلوس بين السجدتين؛ أما الرفع، فلا بد منه؛ لعدم تصور عدد السجدتين بغيره، بخلاف الركوع؛ فإنه غير متعدد. فلهذا أُجري الخلاف الذي في الرفع من الركوع، في الرفع من السجدة الأولى، وقال: الرفع منها، والاعتدال، والطمأنينة؛ كالرفع من الركوع؛ وهو سهو؛ لعدم تصوره في الرفع من السجود؛ لتعدده شرعًا، بخلاف الركوع؛ فإنه ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 245)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 45)، (مادة: شخص). (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 534)، (مادة: صوب).

غير متعدد، وهو متميز عن السجود، بخلاف السجدة الثانية؛ فإنها غير متميزة عن الأولى، فافتقرت إلى التمييز بالرفع الفاصل بينهما، والله أعلم. وقولها: "وكانَ يقولُ في كلَّ رَكعتين: التَّحِيهَّ"؛ إطلاق لفظ التحية على التشهد كله؛ من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وهذا الموضع، مما فارق فيه الاسمُ المسمى. فإن التحية: الملك، أو البقاء، أو غيرهما؛ وذلك لا يتصور قوله، بل يقال: اسمه الدال عليه، بخلاف قولنا: أكلت الخبز، وشربت الماء؛ فإن الاسم فيه أريد به المسمى. أما لفظة الاسم، فقد قيل فيها: إن الاسم هو المسمى؛ وفيه نظر دقيق. وهذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى الله تعالى؛ فلا يقال: الاسم غير المسمى، ولا هو هو، بل يجب إطلاقه؛ كما أطلقه الله -سبحانه وتعالى-، من غير خوض فيه، والله أعلم. وقولها: "وكانَ يفرُشُ رجلَه اليسرى، وينصِبُ رجلَه اليمنى"؛ يفرش: بضم الراء، أو كسرها، والضم أشهر. واعلم أن جلسات الرباعية، والثلاثية أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة؛ عقب كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير. ومذهب الشافعي -رحمه الله-: أن السنة؛ أن يجلس الرجل جميعَها مفترِشًا، إلا الجلسةَ التي يعقبها سلام؛ فإنَّه يجلس فيه متورِّكًا. واحتج بحديث أبي حُميد الساعديِّ - رضي الله عنه -، في "صحيح البخاري": أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، جلسَ مفترِشًا، في التشهد الأوّل، ومتوركًا في الأخير (¬1)، وحمل حديثَ عائشةَ هذا، على غير الأخير؛ جمعًا بينه، وبين حديث أبي حميد، ورجح من حيث المعنى، بأمرين: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (794)، كتاب: صفة الصلاة، باب: سنة الجلوس في التشهد.

أحدهما: أن المخالفة في هيئة الجلوس، قد تكون سببًا للتذكر، عند الشك في كونه الأول، أو الأخير. والثاني: أن الافتراش هيئة استيفاز؛ فناسبت الجلسات الأول، والتورك هيئة اطمئنان؛ فناسب الأخير، كيف، وهو مطابق للنقل، في حديث أبي حميد، في "صحيح البخاري"؟! فكان أولى. وقال أبو حنيفة: الهيئة المروية في حديث عائشة هذا، أولى؛ تمسكًا بإطلاقه، لكنه في الرجال. ومذهب الشافعي: جلوسُ المرأة؛ كجلوس الرجل. وذهب بعض السلف: أن سنة المرأة التربُّع في الجلسات؛ سواء فيه الفريضة، والنافلة، وخصه بعضهم بالنافلة. ومذهب الجمهور: أنه لا فرق بين الفريضة والنافلة، للرجل والمرأة، في جميع الجلسات؛ افتراشًا، وتوركًا. ومذهب مالك: اختيارُ التورك في جميعها؛ وهو أن يفضي بوركه إلى الأرض، ويُخرج رجلَه اليسرى من تحته، وينصب اليمنى من رجليه، وقد وردت هيئة التورك في بعض الأحاديث، لكنها ليست لها قوة في الصحة؛ كأحاديث الافتراش، والتورك، والله أعلم. واختلف قول الشافعي؛ في الأفضل في جلوس العاجز، عن القيام في الفريضة، وجلوس المتنفل الذي له أجر نصف القاعد؛ على أقوال: أصحها: الافتراش؛ لأنه غالب جلسات الصلاة. والثاني: التورك؛ لأنه أمكن من الافتراش، وهو أحد صفات جلسات الصلاة. والثالث: التربع؛ لأنه أمكن في الجلوس من الافتراش والتورك؛ وليكون الجلوس، الذي هو بدل عن القيام، مخالفًا للجلوس المشروع في الصلاة.

والرابع: جلوس المتعلِّم؛ فيقيم ركبةً، ويضع على الأرض أخرى؛ لأنَّ التربع هيئته هيئةُ تكبر، وجلوسُ المتعلم هيئةُ تواضع؛ فهو أشبهُ أن يكون بدلًا عن القيام، والله أعلم. وقولها: "وكانَ ينهى عن عُقْبةِ الشيطانِ"، ويروى: "عن عَقِبِ الشيطان" (¬1). أما عُقْبة: بضم العين، وسكون القاف، وأما عَقِب: فبفتح العين، وكسر القاف؛ وكلاهما في "صحيح مسلم"، وروى بعضهم الثاني، بضم العين؛ وهو ضعيف. وفسره أبو عبيد: بالإقعاء المنهيِّ عنه؛ وهو أن يلصق إليتَه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض؛ وهو ضعيف. والمشهور في تفسيره: بأن يفرش قدميه، ويجلس بإليته على عقبيه، وسمي ذلك بالإقعاء -أيضًا - (¬2). وأما الإقعاء الذي هو سنة، الثابتُ في "صحيح مسلم"، من رواية ابن عباس؛ فهو: أن ينصب أصابعَ قدميه، ويجلس بوركيه على عقبيه؛ فليس من هذين التفسيرين بشيء، والله أعلم. وقولها: "وينهى أن يفترشَ الرجلُ ذراعيه افتراشَ السبع"؛ وهو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، والسنة: أن يرفعهما، ويكون الموضوع على الأرض كَفَّيه فقط. وقولها: "وكانَ يختمُ الصلاةَ بالتسليمِ"؛ معناه: يتحلَّلُ منها بالتسليم؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تحليلُها التسليمُ" (¬3)، ولا شك أنه كما أن تحريمها التكبير، أو ما في ¬

_ (¬1) رواه مسلم (498) (1/ 357)، كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 210)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 99)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 214)، وعن الأخير أخذ المؤلف مادته هذه. (¬3) تقدم تخريجه.

معناه من التعظيم، على قول أبي حنيفة؛ وكذلك تحليلُها، فيقتضي الوجوب فيه، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا كما رأيتموني أُصَلّي" (¬1). وبوجوبه قال مالك، والشافعيُّ، وأحمد، وجمهور العلماء من السلف، والخلف؛ قالوا: لا تصحُّ الصلاة إلا به. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: هو سنة، ولو تركه صحَّتْ صلاته. قال أبو حنيفة: لو فعل منافيًا للصلاة؛ من حدث، أو غيره، في آخرها؛ صحت صلاته، واحتج: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلِّمه للأعرابي حين علَّمه واجباتِ الصلاة. فاحتج الجمهور: بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبما ذكرناه، والله أعلم. واعلم: أن المشروع تسليمتان؛ وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور. وذهب مالك، في طائفة: إلى أن المشروع تسليمة؛ وهو قول ضعيف عن الشافعي. ثم التسليمة الثانية سنة بالاتفاق، وشذ بعض الظاهرية، والمالكية؛ فأوجبها؛ وهو شاذ مخالف لإجماع من قبله، والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد وأحكام؛ غير ما ذكرنا في ألفاظه ومعانيه: منها: نقل أقواله وأفعاله وأحواله إلى الأمة؛ كما فعلت عائشة، وتلقته الأمة عنها بالقبول، خصوصًا في أحكام الصلاة. ومنها: افتتاح الصلاة بالتكبير، ووجوبه، وتعينه. ومنها: وجوب القراءة في الصلاة، وأنه الفاتحة، وقد ثبت في "صحيح ابن خزيمة" "وابن حبَّان"، أحكام الصلاة، مرفوعًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحةِ الكتابِ" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه ابن خريمة في "صحيحه" (490)، وابن حبان في "صحيحه" (1789)، عن أبي هريرة =

ومنها: تسميةُ السورة ببعضها، وكل سور القرآن في التسمية، كالفاتحة، ثم التسمية بالبعض؛ قد يكون لعظم لفظه، ومعناه، وقد يكون لشهرة قصته، وقد يكون لعظم المنة به، وقد يكون لتفخيم ذكر المنعوتِ في السورة، وقد يكون لغير ذلك، على ما اقتضته التسمية. ومنها: تسوية الظهر في الركوع؛ بحيث يستوي رأسه، ومؤخره. ومنها: وجوب الاعتدال، إذا رفع رأسه من الركوع؛ بحيث يستوي قائمًا. ومنها: وجوب الجلوس بين السجدتين. ومنها: وجوب التشهد الأول، والأخير؛ وهو مذهب أحمد، وأصحاب الحديث. وقال الشافعي: الأول سنة، والثاني واجب. وقال مالك، وأبو حنيفة، والأكثرون: هما سنتان، ليستا واجبتين. دليل أحمد، والمحدثين: هذا الحديث، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" (¬1)، وبقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التشهدَ؛ كما يعلمنا السورةَ من القرآن" (¬2)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكم، فليقل: التحياتُ" (¬3)، والأمر للوجوب. لكن قال أحمد -رحمه الله-: يجبر التشهد الأول بسجود السهو؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه، وجبره بسجود السهو؛ فحينئذ يبقى الخلاف بينه وبين الشافعي؛ في تسميته واجبًا، أو سنة، لكن اعتضد أحمد في تسميته واجبًا بالقياس على ¬

_ = - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه مسلم (403)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، لكن عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه البخاري (797)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التشهد في الآخرة، ومسلم (402)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

واجب الحج؛ فإنَّه إذا تُرك، جُبر بدم؛ وكذلك التشهد الأول واجب، يُجبر بسجود السهو. أجاب الشافعي عن ذلك: بأن الأصل في الواجب: أنه يتعين الإتيان به، ولا يجوز تركه، ولا جبره، جُوِّز في الحج؛ لمشقة العبادة، ولمواساة الفقراء من أهل الحرم، ولدخول النيابة فيه؛ للتخفيف، بخلاف الصلاة؛ فإنها عبادة بدنية، لا مشقة فيها، ولا يدخلها النيابة، ولا تكفر بالمال؛ بل لا بد من الإتيان بها على كل حال، ما دام العقل ثابتًا، حتى في مقابلة العدو، وغيره؛ فافترقا، والله أعلم. واحتج الأكثرون حيث قالوا: هما سنتان: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك التشهد الأول، وجبره بسجود السهو، ولو وجبَ، لم يصحَّ جبره؛ كالركوع، وغيره من الأركان، قالوا: وإذا ثبت هذا في الأول؛ فالأخير بمعناه؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه للأعرابي المسيء صلاته، حين علمه فروض الصلاة. وأجاب الشافعي: بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا غيره؛ تركُه عمدًا، ولا سهوًا، ولا جبره بسجود سهو؛ فاقتضى الوجوبَ؛ كالركوع، والسجود، بخلاف التشهد الأول، والله أعلم. ومنها: شرعية الافتراش في جلسات الصلاة، وتقدم الكلام عليه مستوفى، ثم هو وغيره من هيئات الجلسات في الصلاة مسنونة؛ فلو جلس في الجميع مفترشًا، أو متوركًا، أو متربعًا، أو مقعيًا، أو مادًّا رجليه؛ صحت صلاته، وإن كان مخالفًا. ومنها: شرعية مخالفة الشيطان في الجلوس في الصلاة، وغيرها، ولا شك أن كل حالة؛ من قول، أو فعل، أو حركة، أو سكون، أو خطرة، أو نظرة، أو فكرة مخالفة للشرع؛ فهي شيطانية، لكن بعضها دخل في المجاوزة، التي امتن الله تعالى بها، وبعضها لم يدخل، والله أعلم. ومنها: مخالفة الحيوان؛ كالكلب، وغيره، في حالة افتراش ذراعيه، وغيرها، خصوصًا في الصلاة، ولا شك أن الله تعالى جبل الحيوانات على

الحديث الثالث

أحوال محمودة، ومذمومة؛ فيبين الشرع ما كان محمودًا منها، ومذمومًا؛ للاكتساب، والاجتناب. وقد صنف بعض العلماء كتابًا في "تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، وكل ذلك كرمًا منه سبحانه؛ لتكريم النوع الإنساني، ليقتدي، أو يرتدي، والله أعلم. ومنها: شرعية السلام آخر الصلاة، وتقدم الكلام عليه، ولفظه: السلام عليكم، فلو قال: ورحمة الله، كان أفضل. وأجمع من يعتد به: على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة. وإن سلم واحدة: استحب أن يسلمها تلقاء وجهه. وإن سلم تسليمتين: جعل الأولى عن يمينه، والثانية عن يساره، ويلتفت في كل تسليمة؛ حتى يرى من عن جانبه خدَّه، وقيل: خديه. ولو سلم التسليمتين؛ عن يمينه، أو عن يساره، أو تلقاء وجهه، أو الأولى عن يمينه، والثانية عن يساره: صحت صلاته، وحصلت التسليمتان، ولكن فاتته الفضيلة في كيفيتهما، والله تعالى أعلم. ومنها: استحباب مجافاة المرفقين عن الجنبين في السجود؛ لأنه إذا نُهي عن افتراش ذراعيه، لزم منه رفعهما؛ فلزم منه مجافاتهما، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمْرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَرفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنكبيهِ؛ إذا افْتتحَ الصلاة، وإذا كبَّرَ لِلركُوع، وإذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الركُوع؛ رَفَعَهُما كَذَلِكَ، وَقالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبنا وَلَكَ الحَمْدُ، وَكانَ لا يفْعَل ذَلِكَ في السجُوِد (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (702)، كتاب: صفة الصلاة، باب: رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح =

أما ابن عمر، فتقدم الكلام عليه. اعلم: أن سبب شرعية رفع اليدين؛ كما قيل: أن كفار قريش، وغيرهم، كانوا يُظهرون الصلاةَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصنامُهم تحتَ آباطهم، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برفعهما؛ ليرفعوها معه، فتسقط أصنامهم. وقيل: كانوا يرفعون أيديَهم عند طلب العفو، في محاصرة أعدائهم لهم، فجعل الله تعالى ذلك في الصلاة؛ استسلامًا له، وانقيادًا. وقيل: لرفعهم أيديهم في الغارات، بالصياح والتكبير؛ فجعل الله ذلك في الصلاة، والله أعلم. ثمَّ رفعُهما مع التكبير للإحرام، مشروعٌ بالإجماع؛ للأحاديث الثابتة فيه، كهذا الحديث، وغيره. واختلف العلماء في الرفع فيما سواهما: فقال الشافعي، وأحمد، وجمهور الصحابة، فمَنْ بعدَهم: يُشرع رفعهما -أيضًا- عند الركوع، وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك، وهذا الحديث يدل على ذلك. وللشافعي قول: إنه شرع رفعهما في موضع رابع؛ وهو إذا قام من التشهد الأول؛ وهو الصواب، فقد صح في "البخاري"، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يفعلُه (¬1)، وصح -أيضًا- في "سنن أبي داود، والترمذي"؛ بأسانيد صحيحة، من رواية أبي حميد الساعدي (¬2). ¬

_ = سواء، ومسلم (390)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود. (¬1) رواه البخاري (706)، كتاب: صفة الصلاة، باب: رفع اليدين إذا قام من الركعتين. (¬2) رواه أبو داود (730)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، والترمذي (304)، كتاب: الصلاة، باب: (22)، وقال: حسن صحيح.

فهو مذهب الشافعي، فقد قال - رضي الله عنه -: إذا صح الحديث، فهو مذهبي (¬1). وقال أبو بكر بنُ المنذر، وأبو عليٍّ الطبريُّ من أصحاب الشافعيِّ، وبعضُ أهل الحديث: يستحب -أيضًا- في السجود. وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وجماعة من أهل الكوفة: لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام. وهو مشهورُ الروايات عن مالك. وأجمعوا على: أنه لا يجب شيء من الرفع، وحكي عن داود: إيجابه عند تكبيرة الإحرام، وبه قال الإمام أبو الحسن أحمد بن سيار السياري من أصحاب الشافعي: أصحاب الوجوه. وأما صفة الرفع، فلا شك أنه رفعهما في هذا الحديث حذوَ منكبيه. وفي رواية في "صحيح مسلم": أنه رفعهما حتى حاذى بهما أُذنيه، وفي رواية فيه -أيضًا-: أنه حاذى بهما فُروعَ أذنيه (¬2). وقد جمع الشافعي -رحمه الله- بين هذه الروايات: بأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل كفيه محاذيًا منكبيه، وأطراف أصابعه على أذنيه، وإبهاميه بشحمتي أذنيه، فاستحسن الناسُ ذلك منه؛ وذلك معنى قول ابن عمر، والعلماء: إنه كان يرفع يديه حذو منكبيه. وأما وقت الرفع: فظاهر رواية ابن عمر هذه: أنه يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ولم يتعرض فيها لوقت وضعهما، وفي "صحيح مسلم": أنه رفعهما، ثم كبر، وفي رواية فيه: كبر، ثم رفع يديه (¬3)؛ فهذه حالات فعلها ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 107). (¬2) رواهما مسلم (391) (1/ 293)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين ... (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (390) عنده.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بيانًا لجواز كل واحد منها؛ وهي أوجه لأصحاب الشافعي: الأصح: أنه يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، ولا استحباب في الانتهاء. وقيل: يرفعهما غير مكبر، ثمَّ يبتدئ التكبير مع إرسالهما، وينهيه مع انتهائه. وقيل: يرفع غير مكبر، ثم يكبر ويداه قارَّتان، ثمَّ يرسلهما. وقيل: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، وينهيهما معًا. وقيل: يبتدئ بهما معًا، وينهي التكبير مع انتهاء الإرسال، والله أعلم. واختلف العلماء في حكمة الرفع: فقال الشافعي -رحمه الله-: فعلته إعظامًا لله تعالى، واتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال غيره: هو استكانة، واستسلام، وانقياد، وكان الأسير إذا غُلب، مد يديه؛ علامة لاستسلامه. وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه. وقيل: هو إشارة إلى طرح أمور الدنيا، والإقبال بجملته على صلاته، ومناجاته -سبحانه وتعالى-؛ كما تضمن ذلك قولُه: الله أكبر، فيتطابق فعلُه، وقوله. وقيل غير ذلك، وفي أكثر ذلك نظر، والله أعلم. وقوله: "وإذا رفعَ رأسَه من الركوعِ، رفعَهما كذلكَ، وقال: سمعَ الله لمن حَمِدَه، رَبنا ولكَ الحمدُ"، تقدم الكلام على معنى ذلك، وإثبات الواو، وحذفها. وأما قوله: "وقال: سمعَ الله لمن حمدَه، ربنا ولكَ الحمدُ"؛ فمقتضاه: أن الإمام يجمع بينهما؛ لأنَّ ابن عمر إنما أخبر عن الغالب من حالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو - رضي الله عنه - من المقتفين لأفعاله، وأحواله، وآثاره - صلى الله عليه وسلم -؛ فغير ذلك نادر جدًّا.

ومعنى سمع الله لمن حمده: استجاب دعاءَ مَن حمدَه. واعلم: أنه يبدأ في قوله: سمع الله لمن حمده؛ حين يشرع في رفعه من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائمًا، ثمَّ يشرع في ذلك الاعتدال؛ وهو ربنا ولك الحمد، إلى آخره؛ وهذا مذهب الشافعي. وطائفة قالوا: استحب ذلك لكل مصل؛ من إمام، ومأموم، ومنفرد؛ فيجمعون بينهما على الوجه المذكور؛ من أن سمع الله لمن حمده ذكرٌ لحالة الرفع من الركوع، وربنا لك الحمد ذكر لحالة الاستواء منه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلهما جميعهما، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1). وقوله: "وكانَ لا يفعلُ ذلكَ في السجود"، معناه: لا يرفع يديه في ابتداء السجود، والرفع منه، ولعل مراده في الابتداء، وكأنه أقرب؛ وبه قال أكثر الفقهاء: إنه لا يسن رفع اليدين عند السجود. وخالف فيه بعضهم، فقال: يرفع؛ لحديثٍ ورد فيه؛ وكأنه اعتمد أنه زيادة، فثبت العمل بها، وتقديم القول بها على من نفاها، أو سكت عنها. لكن من ترك الرفع، رجَّحَ روايةَ ابن عمر في ترك الرفع من السجود، لكن الترجيح إنما يكون عند التعارض، ولا تعارض بين رواية من أثبت الزيادة، أو نفاها، أو سكت عنها؛ إلا أن يكون ذلك جميعه منحصرًا متحدًا في وقت واحد؛ فيجب العمل بالزيادة؛ وهذا كله إذا ثبتت صحة الزيادة. أما إذا كانت ضعيفة؛ فلا تعارض بينهما، ويجب تقديم الثابتة، وحديث ابن عمر في نفي الرفع عند السجود ثابت، وحديث إثباته ضعيف، والله أعلم. وفي الحديث مسائل: منها: التكبير في الهُوِيِّ إلى الركوع؛ وهو سنة عند العلماء كافة، إلا أحمدَ بن حنبل، في إحدى الروايتين عنه؛ فإنه أوجبه؛ وكذلك حكم جميع ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

التكبيرات، ما عدا تكبيرة الإحرام؛ فإنها واجبة قطعًا. ومنها: أن الرفع لليدين يكون مع ابتداء التكبير للهوي إلى الركوع، لكنه يستحب بسطُ التكبير على الهوي، إلى أن ينتهي راكعًا، ثمَّ يشرع في ذكر الركوع. ومنها: شرعية رفع اليدين في المواضع الثلاثة المذكورة؛ على ما ذكرناه. ومنها: استحباب الجمع بين قوله: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"؛ للإمام، وقد تقدم الكلام عليه. ومنها: استحباب عدم الرفع في السجود، والرفع منه. ومنها: أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حجة؛ كأقواله. ومنها: وجوب نقلها، وتبليغِها، والعملِ بها؛ على مراتبها من الوجوب، والندب. ومنها: فضلُ الصحابة على مَنْ بعدَهم؛ حيث ضَبطوا، وبلَّغوا، وعلَموا، وبذلوا الجهد في ذلك، والله أعلم. واعلم: أنه إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة؛ وجب اعتقادُ شرعيتها، والعمل بها: فإن كانت واجبة: كان الاعتقادُ والعملُ واجبينِ. وإن كانت مندوبة: وجب اعتقادُ ندبيتها، من حيثُ هو مندوب، ولم يجب العملُ بها؛ لكن يُستحبُّ ويتأكد، ما لم يعارضه مراعاة واجب؛ في نفس، أو مال، أو عيال، أو حق واجب غيرها، والله أعلم. وقد صنف الإمام أبو عبد الله البخاري -رحمه الله- كتابًا في رفع اليدين مستقلًا، رد فيه على [من] منع الرفع؛ وهو روايتنا، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) وقد طبع الكتاب عدة طبعات؛ منها ما اعتنى به بديع الدين الراشدي، ونشرته دار ابن حزم في بيروت.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أمِرتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الجَبْهَةِ -وَأَشارَ بِيَدِه إلى أَنْفِهِ-، واليَدَيْنِ، والرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ" (¬1). أما ابن عباس، فتقدم الكلام عليه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أسجدَ على سبعةِ أعظُم": فالآمر له - صلى الله عليه وسلم -: هو الله تعالى؛ بواسطة جبريل - صلى الله عليه وسلم -، وبالإلهام، وبغير ذلك من الطرق؛ كالرؤيا، والأمرُ يقتضي الوجوب. وسمَّى الجبهةَ، واليدين، والركبتين، وأطرافَ القدمين: أعظمًا، وإن كانت مشتملةً على غيرها، وعلى أكثرَ من سبعةِ عظام؛ مجازًا، من باب تسمية الجملة باسم بعضها، وأراد - صلى الله عليه وسلم - الأعضاءَ. ثمَّ ظاهر الحديث دال على: وجوب السجود على هذه الأعضاء: أما الجبهة: فهي التي يكتنفها الجبينان، والسجودُ عليها واجب عينًا؛ عند الشافعي، ومالك، وجمهور العلماء، والسجودُ على الأنف: مستحبٌّ. وأوجبَ السجودَ عليهما: أحمدُ، وابنُ حبيب المالكيُّ. وقال أبو حنيفة، وابن القاسم من أصحاب مالك: هما واجبان على البدل؛ على أيهما اقتصر أجزأه. ولم يختلف قول الشافعي؛ في وجوب السجود على الجبهة، واختلف قوله؛ في وجوب السجود على اليدين، والركبتين، والقدمين؛ على قولين: الراجح عنده، وعندَ أكثرِ أصحابه: الوجوبُ، ورجح بعضُ أصحابه: عدمَ الوجوب، وأجمعوا على استحباب السجود عليها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (779)، كتاب: صفة الصلاة، باب: السجود على الأنف، ومسلم (490)، كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود.

فإذا قلنا بالوجوب؛ فلو أخلَّ بعضو منها: لم تصح صلاته. واستدل من قال بعدم الوجوب: بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رفاعة - رضي الله عنه -: ثمَّ سجد فمكن جبهته (¬1)؛ وهذا غلبة دلالة مفهوم لقب، أو غاية، ودلالةُ المنطوق على وجوب السجود على الأعضاء المذكورة مقدمٌ عليه. وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم؛ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مسجِدًا، وطَهورًا" (¬2)، مع الزيادة المنقولة من جماعة من الثقات: "وتربتُها طَهورًا" (¬3)؛ فإنَّه يُعمل بها؛ لما يلزم من العمل بالعموم، والمفهوم بخلاف هذا؛ فإنا إذا قدمنا دلالة المفهوم فيه، أسقطنا الدلالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء الستة: اليدين، والركبتين، والقدمين؛ مع تناول اللفظ لها بخصوصها. وأضعف من هذا: ما استدل به على عدم الوجوب؛ من إضافة السجود إلى الوجه، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سجدَ وجهي للذي خلقَهُ" (¬4)؛ حيث لا يلزم من الإضافة إليه، انحصارُ السجود فيه. وأضعفُ منه: الاستدلالُ بأن مسمَّى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ فإن الحديث يدل على إثبات زيادة في المسمى، فلا يترك. وأضعفُ منه: المعارضةُ بقياس شبهي؛ ليس بقول، مثل أن يقال: أعضاء الوضوء لا يجب كشفُها، فلا يجبُ وضعها؛ كغيرها من الأعضاء، سوى الجبهة. فالقول بالوجوب راجح؛ نقلًا ودليلًا. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (858)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (1136)، كتاب: الصلاة، باب: الرخصة في ترك الذكر في السجود، والحاكم في "المستدرك" (881)، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى" (2/ 102). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

واستدل لأبي حنيفة، ومن قال بقوله: في الاكتفاء بالسجود على الأنف، وأنه أيهما سجد عليه؛ من الجبهة، والأنف، أجزأه: برواية في بعض طرق حديث ابن عباس هذا: "الجبهة والأنف" (¬1)، وفي الرواية التي ذكرها المصنف في الكتاب: "وأشارَ بيدِه إلى أنفِه"؛ فيحتمل أن معناه: أنهما جعلا كالعضو، ويكون الأنف كالتبع للجبهة، وقوي هذا الاحتمال بوجهين: أحدهما: لو كان الأنف كعضو منفرد عن الجبهة حكمًا، لكانت الأعضاء المأمور بالسجود عليها، ثمانية لا سبعة؛ فيخرج الحديث عن مطابقة العدد المذكور فيه. الثاني: اختلاف عبارة الحديث؛ في ذكره لفظًا، أو إشارةً؛ فإذا جعلا كعضو واحد، أمكن أن تكون الإشارة إلى أحدهما، إشارةً إلى الآخر؛ فتتطابق الإشارة والعبارة، وحينئذ ربما يستبيح منه إجزاء السجود على الأنف وحده؛ لأنهما كعضو واحد، فإذا سجد على بعضه، أجزأه. لكن الحق أن هذا لا يعارض رواية التصريح بذكرهما، ودخولهما تحت الأمر، وإن اعتقد أنهما كعضو من حيث العدد؛ فهو في التسمية لفظًا، لا في الحكم الدال عليه الأمر، مع أن الإشارة لا تعين المشار إليه، بل قد تتعلق بالجبهة؛ فتكون الإشارة إلى ما قاربه، لا إليه يقينًا، بخلاف اللفظ؛ فإنه يتعين لما وضع له. ثمَّ المراد باليدين المأمور بالسجود عليهما: الكفان، واعتقد قوم: أن مطلق اليدين، يحمل عليهما؛ كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واستنتجوا من ذلك: أن التيمم إلى الكوعين؛ كما تقدم، وبالجملة إن اتضح هذا، أم لم يتضح؛ فالمراد هنا: الكفان؛ لأنا لو حملنا الحديث على الكفين، والذراع، لكان أمرًا بالمنهي عنه؛ من افتراش الكلب، أو السبع؛ وهو مستحيل أن يكون الشيء الواحد مأمورًا به، منهيًا عنه. ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 348)، و"الدراية" لابن حجر (1/ 144 - 145).

ثمَّ المراد بالكفين: الراحة، والأصابع، من غير اشتراط جمعها، بل يكفي أحدهما؛ فلو سجد على ظهر الكف: لم يكفه؛ هكذا ذكره بعض أصحاب الشافعي المصنفين. ولم يختلف قولهم؛ في أنه لا يجب كشف الركبتين في السجود، ومباشرة المصلي بهما، بل يكفي وضعهما؛ لما يلزم منه من كشف العورة؛ وهو منهي عنه. وأما القدمان: فلا يجب كشفهما -أيضًا-؛ لأن الشَّارع وقَّتَ المسحَ على الخفين بمدة تقع فيها الصلاة مع الخف، فلو وجب كشفهما؛ لوجب نزع الخف، وبطلت طهارتهما، أو كل الطهارة، وبطلت الصلاة؛ وهذا باطل، وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في الخفين؛ في غير حديث. وأما الكفان: ففي كشفهما قولان للشافعي مترددان: بين الجبهة؛ فيجب كشفهما، وبين الركبتين، والقدمين؛ فلا يجب، وأصحهما عند المحققين: عدم الوجوب، مع اتفاقهم على تأكد استحبابه. مع أن لفظ الحديث لا يدل على وجوب كشف شيء من الأعضاء السبعة؛ بل يدل على: وجوب الوضع على الأرض؛ فمن وضعها، فقد خرج عن العهدة، وأتى بما أمر به؛ فيكفي مسمى السجود: بالوضع، والزائدُ عليه: خلافُ الأصل، فهل يُضم الزائد إلى فعل المأمور به؛ فيجعل علة للإجزاء، أو جزء علة؟! فيه نظران، والله أعلم. مع أن للشافعي، في وضع ما عدا الجبهة على الأرض؛ قولين، أصحهما: الوجوب؛ للحديث، وعللوا عدم وجوب وضعها: بأنه ليس بأصل؛ لمطلوب السجود عليها، وإنما هو للتبعية للسجود على الجبهة، وإذا وجب الشيء للتبعية والتمكين، لا يلزم منه الوجوب بالأصالة؛ ولهذا لو زوحم عن السجود على الأعضاء المذكورة، وأمكنه السجود على الجبهة: صح سجوده، والصلاة به. والجواب عن هذا: أنه لا يلزم من صحة الصلاة، بالاقتصار على الجبهة في

الحديث الخامس

هذه الصورة؛ إلَّا يكون الوضع في باقي الأعضاء واجبًا، عند التمكن من السجود عليها، ويكون سقط الوجوب فيها؛ لعذر الازدحام، وعدم إبطال العبادة، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصلاةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّر حِينَ يَرفَعُ، ثُمَّ يقُولُ: سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الركْعَةِ، ثُمَّ يقُولُ، وَهُو قائِمٌ: رَبنا وَلَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّر حِينَ يَرفَعُ رَأسَهُ، ثُمَّ يُكَبر حِينَ يسجُدُ، ثُمَّ يكَبِّرُ حِينَ يَرفَعُ رَأسَهُ، ثُمَّ يفْعَلُ ذَلِكَ في صَلاَتِهِ كُلِّها حَتى يقْضِيَها، ويكَبِّر حِينَ يقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ (¬1). اعلم: أن حديث أبي هريرة هذا مجمَع على العمل به اليوم؛ في أن المصلي يكبر في كل خفض، ورفع، إلا من رفعه من الركوع؛ فإنَّه يقول: سمع الله لمن حمده. وكان في التكبير خلافٌ زمنَ أبي هريرة؛ فكان بعضهم لا يرى التكبيرَ إلا للإحرام، وبعضُهم يزيد على بعض ما في حديثه؛ وكأنهم لم يبلغهم فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا كان أبو هريرة يقول في بعض الروايات: إني لأَشْبَهكُمْ صلاةً برسولِ الله (¬2)، واستقر العمل عليه بعده إلى الآن. ثمَّ هذا الحديث يصرح؛ أن في [كُلَّ] ركعةٍ خمسَ تكبيرات؛ فالثنائية: إحدى عشرة تكبيرة، بتكبيرة الإحرام، والثلاثية: سبع عشرة تكبيرة، بتكبيرة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (756)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التكبير إذا قام من السجود، ومسلم (392)، كتاب: الصلاة، باب: إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع. (¬2) رواه البخاري (752)، كتاب: صفة الصلاة، باب: إتمام التكبير في الركوع، ومسلم (392)، كتاب: الصلاة، باب: إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع.

الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، والرباعية: ثنتان وعشرون تكبيرة بها، وخمس في كل ركعة؛ ففي الصلوات الخمس أربع وتسعون تكبيرة، والله أعلم. وقد تقدم قريبًا؛ أن جميع التكبيرات سنة؛ عند العلماء كافة، إلا أحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين عنه؛ فإنه أوجبها، وأجمعوا على وجوب تكبيرة الإحرام. وقوله: "يُكَبِّرُ حينَ يقومُ"؛ يقتضي: إيقاعَ التكبير في حال القيام، ولا شك أنه واجب للتكبير، وقراءة الفاتحة؛ عندَ من يوجبها، مع القدرة؛ وكلُّ انحناء يمنع اسمَ القيام عند التكبير يُبطل التحريم، ويقتضي عدم انعقاد الصلاة. وقوله: "ثمَّ يكبرُ حينَ يركعُ"؛ يقتضي مقارنَة التكبير لابتداء الركوع، إلى حين انتهائه إلى حدِّه، ويمدُّه على ذلك، ثمَّ يشرع في تسبيح الركوع المشروع فيه. وقوله: "ثمّ يقولُ: سمعَ الله لمنْ حَمِدَهُ، حينَ يرفعُ صلبه منَ الركعة"؛ يقتضي: ابتداءَ قولِ التسميع حالَ ابتداء الرفع من الركوع، إلى حينِ ينتصب قائمًا، ويمده عليه، ويدل على أنه ذكر هذه الحالة، ولا شك أن الفعل يطلق على ابتداء الشيء وجملته حالةَ مباشرته، فحمله عليها لكونه مستصحبًا للذكر في جميع مباشرته له أولى؛ لئلا يخلو جزء من الفعل عن ذكر. ومعنى حين يرفع صلبه من الركعة؛ أي: حين يبتدئ الرفع. وقوله: "ثم يقولُ: ربنا ولك الحمدُ؛ وهو قائم"؛ دليل على: أن التحميد ذكرُ الاعتدال من الركوع، وأن ابتداءه حالَ ابتداء الاعتدال حين ينتصب قائمًا. وعلى: أن كلًّا من التسميع، والتحميد في محلهما؛ يُشرعان لكل مصلٍّ؛ جمعًا بينه وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُوا كما رأيتموني أُصلِّي" (¬1)، وتخصيص جمعهما بالإمام؛ خلاف الأصل، وتخصيص من غير مخصص. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

وقوله: "ثم يكبر حين يَهوي"؛ يقال: هَوَيْتُ إلى الأرض -بفتح الواو-؛ بمعنى: سقط؛ وكذلك يقال بمعنى: هلك، ومات؛ ومنه قوله تعالى {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81]، ومن الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهو يَهْوي في النارِ" (¬1)؛ أي: ينزل ساقطًا، يقال من السقوط: هوى يهوي. وزعم بعضهم أن صوابه: أهوى إلى الأرض، وليس ذلك بشيء. وقيل: أهوى؛ من قريب، وهوى؛ من بعيد. ومعناه: ثمَّ يكبر حين يهوي ساجدًا" (¬2)؛ وهو ثابت في "صحيح مسلم"، والكلام في ابتدائه وانتهائه؛ كالكلام فيما قبله، وكذلك الكلام فيما بعده. وكذلك، يشرع في التكبير للقيام من التشهد الأول؛ حين يشرع في الانتقال، ويمده حتى ينتصب قائمًا؛ هذا مذهبنا، ومذهب كافة العلماء، إلا مالكًا؛ فإنه قال: لا يكبر للقيام من التشهد الأول حتى يستوي قائمًا؛ وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز. وظاهر هذا الحديث يخالف ذلك؛ لأنَّ محلّ قوله: "حين يقوم من الثنتين، بعد الجلوس" قبل الاستواء للقيام، ويرجح -أيضًا- من جهة المعنى؛ بشغل زمن الفعل بالذكر، والله أعلم. وتقدم في الأحاديث قبله، وفي الكلام عليه؛ ما يتعلق بأحكامه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قلت: المؤلف -رحمه الله- كثير النقل عن "مشارق الأنوار" للقاضي عياض، بل إن جَل مادته اللغوية مأخوذة منه، على أنه يختصر أحيانًا في عباراته، ومنها هذه، فقد قال القاضي -رحمه الله - (2/ 273)، وهو يشرح مادة (هوى): يقال من السقوط: هوى، ومنه: "فهو يهوي في النار"؛ أي: ينزل ساقطًا، كما جاء في الرواية الأخرى: "فهو ينزل بها في النار" ... إلى آخر كلامه. فلم يذكر أن قوله: "فهو يهوي في النار" من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي دفع إلى هذا هو أني لم أر لفظ "فهو يهري في النار" في شيء من المصادر الحديثية التي بين يدي، والله أعلم بالصواب. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 273).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: صَليْتُ أَنا وَعِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكانَ إذَا سَجَدَ كبَّرَ، وإذا رَفَعَ رَأْسَه كبَّرَ، وإذا نَهَضَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ كبَّر؛ فَلَمّا قَضَى الصلاةَ، أَخَذَ بيَدِي عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَقالَ: ذَكَّرَني هَذا صَلاَةَ مُحَمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أَو قَالَ: "صلى بِنا صلاَةَ مُحَمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). أما مُطَرِّفٌ: فكنيته: أبو عبد الله بُن عبدِ اللهِ بنِ الشِّخير -بكسر الشين، وتشديد الخاء المشددة المعجمتين، وبالياء المثناة تحت، ثم الراء- بنِ عوفِ بنِ كعبِ بنِ وقدانَ بنِ الحرش -بفتح الحاء المهملة، وآخره شين معجمة-، التابعيُّ الجليلُ، البصريُّ العامريُّ، أخو أبي العلاء. مات سنة خمس وتسعين، اتفقا على إخراج حديثه في الصحيحين، وروى له: أصحاب السنن والمساند. اتفقوا على: ثقته، وجلالته، وورعه، وعقله، وأدبه، وكان مُجاب الدعوة؛ كان بينه وبين رجل كلام، فكذب عليه؛ فقال مطرف: اللهم إن كان كاذبًا، فأمته، فخرّ مكانه ميتًا، فرفع ذلك إلى زياد، فقال: قتلت الرجل، فقال: لا، ولكنها دعوة وافقَتْ أجلًا (¬2). وأما عمران، وعلي؛ فتقدما، والكلام عليهما. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (753)، كتاب: صفة الصلاة، باب: إتمام التكبير في السجود، ومسلم (393)، كتاب: الصلاة، باب: إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 141)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 396)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 429)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 289)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 67)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 187)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 64)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 260)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 157).

الحديث السابع

وهذا الحديث يدل على: تمام التكبير في حالات الانتقالات؛ وهو الذي استقر عليه العمل، وأجمع عليه فقهاء الأمصار؛ كما تقدم، وتقدم الاختلاف في وجوبها؛ وهو مبني على: أن الفعل للوجوب، أم لا؟ وإذا لم يكن للوجوب، رجع البحث إلى: أن الفعل بيان للمجمل، أم لا؟ ومن ها هنا مأخذ من يرى الوجوب. والأكثرون على الاستحباب، فإذا قلنا به، فتركه، هل يسجد للسهو له إذا تعدد، أم لواحد منه، أم لا يسجد؟ فيه اختلاف، وليس لذلك تعلق بهذا الحديث، إلا أن يستدل به على: أن التكبيرات المذكورة سنة، مع انضمام أن المستحب مطلقًا يقتضي سجود السهو لتركه، فيصير المجموع دليلًا على ذلك، وأما التفرقة بين كون المتروك مرة، أو أكثر؛ فهو راجع إلى الاستحباب، وتخفيف أمر المرة الواحدة، ومذهب الشافعي: أن تركها لا يوجب السجود، والله أعلم. * * * الحديث السابع عَنِ البَراءِ بْنِ عازِب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: رَمَقْتُ صَلاَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَوَجَدتُ قِيامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فاعْتِدالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ بينَ السجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ ما بينَ التسلِيمِ، والانْصِرَافِ؛ قَرِيبًا مِنَ السَّواءِ. وفي رواية البخاري: ما خَلا القِيامَ والقُعُودَ، قَرِيبًا مِنَ السَّواءِ" (¬1). أما البراء؛ فتقدم ذكره. هذا الحديث بصراحته يدل على: تخفيف القراءة، والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع، والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع، وعن السجود، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (759)، كتاب: صفة الصلاة، باب: استواء الظهر في الركوع، ومسلم (471)، كتاب الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام. =

ونحو هذا قد ثبت في "صحيح مسلم"، من رواية أنس، قال: ما صليتُ خلفَ أَحد أوجزَ صلاةَ؛ من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في تمامٍ (¬1). ولا شك، أن قوله: "قريبًا من السَّواء"؛ يدل على بعضها، كان فيه طول يسير على بعض؛ وذلك في القيام، ولعله في التشهد كذلك؛ لأنه يقتضي: إما تطويل ما العادةُ فيه التخفيف، أو تخفيف ما العادةُ فيه التطويل، في القيام؛ كقراءة ما بين الستين إلى المئة في الصبح. وكما ثبت في قراءة صلاة الظهر؛ بحيث يذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثمَّ يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو في الركعة الأولى؛ مما يطولها. وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم -؛ قرأ سورة المؤمنين، حتى بلغ ذكر موسى وهارون (¬2)، وأنه - صلى الله عليه وسلم -؛ قرأ في المغرب بالطور (¬3)، والمرسلات (¬4)، وفي "صحيح البخاري": أنه قرأ فيها بالأعراف (¬5)، وأشباه هذا. ويوافق هذا ما رواه مسلم، في رواية هذا الحديث؛ من عدم ذكر القيام، وما ذكره البخاري؛ كما ذكره المصنف: أن ما خلا القيام، والقعود؛ قريبًا من السواء. ومعلوم أن القيام يشمل قيام القراءة، وقيام الاعتدال، والقعود يشمل قعود التشهد، وقعود الجلوس بين السجدتين؛ فحينئذ يجمع بين الروايات كلها؛ بأنها ¬

_ (¬1) رواه مسلم (473)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام. (¬2) رواه مسلم (455)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (731)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الجهر في المغرب، ومسلم (463)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (4166)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) رواه البخاري (730)، كتاب: صفة الصلاة، باب: القراءة في المغرب، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

محمولة على اختلاف أحوال؛ ففي أوقات يطول، وفي أوقات يخفف. ذهب بعضهم إلى: أن التخفيف هو المتأخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد ذلك التطويل، وقد ورد في بعض الأحاديث: أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت بعدُ تخفيفًا (¬1)، وأن الذي ذكره البخاري؛ وهو قوله: ما خلا القيامَ، والقعودَ، صحيح، وأن ذكر القيام في رواية الكتاب وَهْمٌ من الراوي. قال شيخنا أبو الفتح القاضي: وهذا بعيد عندنا؛ لأن توهيم الراوي الثقة، على خلاف الأصل، لا سيما إذا لم يدل دليل قوي لا يمكن الجمع بينه وبين الزيادة؛ على كونها وهمًا. وليس هذا من باب العموم والخصوص؛ حتى يُحمل العام على الخاص، فيما عدا القيام؛ فإنه قد صرح من حديث البراء، بذكر القيام، ويمكن الجمع بينهما؛ بأن يكون فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كان مختلفًا؛ فتارة: يستوي الجميع، وتارة: يستوي ما عدا القيام، والقعود. وليس في هذا، إلا أحد أمرين: إما الخروج عما تقتضيه لفظة (كان) من المداومة، أو الأكثرية. وإما أن يقال: الحديث اختلف رواته عن واحد؛ فيقتضي ذلك: التعارض، ولعل هذا هو السبب الذي دعا من ذكرناه عنه؛ أنه نسب تلك الرواية إلى الوهم إلى من قاله؛ وهذا هو الوجه الثاني؛ أعني: اتخاذ الرواية أقوى من الأول، في وقوع التعارض، وإن احتمل غير ذلك، على الطريقة الفقهية. ولا يقال: إذا وقع التعارض؛ فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه؛ وإن المثبت مقدم على النافي؛ لأنا نقول: الرواية الأخرى تقتضي بنصها: عدم التطويل في القيام، وخروج تلك الحالة -أعني: حالة القيام والقعود- عن بقية حالات أركان الصلاة؛ فيكون النفي، والإثباب: إذا انحصروا في محل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (458)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه-.

واحد، والنص والإثبات إذا انحصرا في محل تعارضا. إلا أن يقال باختلاف هذه الأحوال، بالنسبة إلى صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يبقى فيه انحصار إلى محل واحد، بالنسبة إلى الصلاة، ولا يعترض على هذا إلا بما قدمناه؛ من مقتضى لفظة (كان)، أو كون الحديث واحدًا عن مخرج واحد اختلف فيه؛ فلينظر ذلك من الروايات، وتحقق الاتحاد، أو الاختلاف، في مخرج الحديث، والله أعلم، هذا آخر كلامه (¬1). أما أحكامه: ففيه دليل على: أن الرفع من الركوع ركنٌ طويل؛ لأنه لا ينافي أن تكون القراءة في الصلاة، فرضِها ونفلِها؛ بمقدار ما إذا فعل في الركوع، ويكون قصيرًا، والذي قاله في الحديث؛ من استواء الصلاة، ذهب بعضهم إلى: أنه الفعل المتأخر، بعد ذلك التطويل كما ذكرنا. وقد تكلم الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة، واختلفوا في الاعتدال عن الركوع؛ هل هو قصير، أم طويل؟ والراجح عند الشافعية: أنه قصير. ولم يتكلم أصحاب الشافعي في الجلوس بين السجدتين؛ في طوله وقصره، وأنه على الخلاف، بل أطلقوا: أنه قصير، ومقتضى الحديث: أنه طويل؛ كالاعتدال عن الركوع. وفائدة الكلام في تطويل ما هو قصير: أنه هل يقطع الموالاة الواجبة من الصلاة، أم لا؟ ذهب بعض الفقهاء: أنه لا يبطل الصلاة، بل يجب عليه أن ينقل إليه ركنًا قوليًّا؛ كقراءة الفاتحة، ثم يركع، ثم يعتدل، والله أعلم. وفيه دليل على: أن تكون أفعالُ الصلاة مقاربةً بعضُها بعضًا في الطول والقصر؛ فلو طول بعضها على بعض جاز. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 229 - 230).

الحديث الثامن

وفيه دليل على: استحباب الجلوس في مصلاه، بين التسليم والانصراف، بقدر قيام، أو ركوع، أو سجود. وفيه دليل على: أن التابع يستحب له أن يرمق أفعال متبوعه في صلاته، وعبادته؛ ليعمل بها، وينقلها، ولا يسأله باللفظ عنها؛ بل يحمل عنه كلفة الجواب، والتعليم بالقول، خصوصًا إذا تعلقت بالمتبوع تكاليف كثيرة، والله أعلم. وفيه دليل على: أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - حجة؛ كأقواله، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ ثابِتٍ البُنانِي، عَنْ أنسِ بْنِ مالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إني لا آلُو أَنْ أصَلِّيَ بِكُمْ؛ كما رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنا، قَالَ ثابِتٌ: فَكانَ أَنَسٌ يَصنعُ شَيْئًا لا أَراكُمْ تَصنَعُونَهُ؛ فَكانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوعِ، انْتَصَبَ قائِمًا، حَتى يقُولَ القائلُ: قَدْ نَسِيَ، وَإذا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَةِ، يَمْكُثُ، حَتَّى يقُولَ القائِلُ: قَدْ نَسِيَ (¬1). أما أنس؛ فتقدم. وأما ثابت: فكنيته: أبو محمَّد بن أسلم، تابعي جليل، عابد ثقة، بصري. سمع جماعة من الصحابة؛ كابن الزبير، وابن عمر، وابن مغفل، وغيرهم، وخلقًا من التابعين. وروى عنه: جماعة من التابعين الصغار، وخلق سواهم. اتفقوا على توثيقه؛ وهو أحد الثلاثة الذين هم أثبتُ الناس في أنس: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (787)، كتاب: صفة الصلاة، باب: المكث بين السجدتين، ومسلم (472)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام.

الزهري، ثم قتادة، ثم ثابت، وكان من تابعي البصرة، وزهَّادهم، يتثبت في الحديث، من الثقات المأمونين المحدثين، صحيح الحديث، وأحاديثه مستقيمة، وما وقع من النكرة فيها؛ فهو من الراوي عنه. قال أنس - رضي الله عنه -: إن للخير أهلًا، وإن ثابتًا من مفاتيح الخير (¬1). وقال حماد بن سلمة: كان ثابت يقول: اللهم إن كنتَ أعطيتَ أحدًا الصلاةَ في قبره، فأعطني الصلاة في قبري (¬2). وكان حماد أروى الناس عن ثابت؛ فيما ذكره الإمام أحمد بن حنبل، وروى أن ثابتًا رئي في قبره يصلي، مات سنة ثلاث، وقيل: سبع وعشرين ومئة. روى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند. قال علي -هو ابن المديني-: له نحو مئتين وخمسين حديثًا (¬3). وأما البُناني: فهو -بضم الباء الموحدة، وفتح النون، ثم ألف، ثم نون، ثم ياء النسب- نسبة إلى بُنانة، قيل: هي أمُّ سعدِ بن لؤي، وقيل: بل أمه حضنت لسعد بنيه، وقيل: بل هي: بُنانة أم بني سعد بن ضبيعة بن نزار، وللبناني: مشابه سبعة في الأنساب؛ مذكورة في "المختلف والمؤتلف". وقوله: "لا آلو"؛ أي: لا أقصِّر، والألُوُّ: بمعنى التقصير، وبمعنى الاستطاعة، والسياق يرشد إلى المراد، والألو على مثال: العتوّ، ويقال: الأَلِيّ على مثال: الغَنِي، والماضي: آلى، مخففًا، وقد يقال: بهذا المعنى، إلا مشددًا؛ وكلاهما صواب، يقال: آلى الرجل، وألي: إذا قصر، وترك الجهد (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 159)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 232)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35679)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 318). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35677)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 232). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 232)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 159)، و "الثقات" لابن حبان (4/ 89)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 318)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 342)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 220)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 3). (¬4) انظر: "غريب الحديث للخطابي" (1/ 517)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 176)، و"لسان =

الحديث التاسع

وقوله: "أن أصلي"؛ أي: في أن أصلي. وإنما قدم أنس - رضي الله عنه - هذا القول على روايته؛ لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل؛ ليدل السامعين على: الحفظ، والاهتمام به، وليحقق عندهم المراقبة؛ لاتباع أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "حتى يقولَ القائلُ: قد نسيَ"؛ تنبيه على: تطويل فعله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: حتى يقول القائل؛ في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، على العادة فيه، والمشروع؛ فيحمل القائل فعله - صلى الله عليه وسلم - على النسيان، لا على المشروع. وفي هذا الحديث نص صريح على أن الاعتدال من الركوع ركن طويل، وكذلك الجلوس من السجدة الأولى، فلا يجوز العدول عنه لقول من قال: إنهما ركن قصير؛ بدليل أن التسبيحات لم يسن فيه استرسالًا كما سنت القراءة في القيام، والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقًا. وفيه دليل: على إحياء السنن إذا أميتت، والإنكار على مخالف السنة. وفيه: البيان بالفعل، والتنبيه عليه بالقول، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ أنس بْنِ مالِكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ما صلَّيْتُ وَراءَ إمامٍ قَط أَخَفَّ صَلاةً، وَلا أتَمَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). اعلم أن المطلوب في كل أمر العدلُ، وهو الوسطُ في كل شيء، وهذا الحديث من هذا، فيدل على طلب أمرين في الصلاة: التخفيفُ في حق الإمام، مع الإتمام، وعدم التقصير، وذلك هو الوسط العدل، والميلُ إلى أحد الطرفين ¬

_ = العرب" لابن منظور (14/ 72). (¬1) رواه البخاري (676)، كتاب: الجماعة والإقامة، باب: مَنْ أَخَفَّ الصلاة عند بكاء الصبي، ومسلم (469)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.

الحديث العاشر

خروجٌ عنه، فالتطويل في حق الإمام إضرارٌ بالمأمومين، وتقدم حكمه وعلته، والتقصير عن الإتمام بخسٌ لحقِّ العبادة، وليس المرادُ بالتقصير هنا تركَ الواجبات؛ فإن تركها مفسدٌ للصلاة، موجبٌ لنقصها، فيرفع حقيقتها، بل المراد -والله أعلم- التقصيرُ من المسنونات، والتمامُ بفعلها، والله أعلم. فينبغي للإمام التوسطُ في ذلك، ويكون حاله دائمًا بين التفريط والإفراط؛ لأنه إذا كان هذا في الصلاة التي هي أجلُّ أركان الإسلام، فما ظنك بغيرها من العبادات والعادات، كيف وهو قدوةٌ للناس؟ والله أعلم. * * * الحديث العاشر عَنْ أَبِي قِلابةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الجرمِيِّ البَصرِيِّ، قَالَ: جاءَنا مالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ في مَسجِدِنا هَذا، فقالَ: إني لأصلِّي بِكُمْ وَما أُرِيدُ الصَّلاةَ، أصلِّي كيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لأَبي قِلابةَ: كيْفَ كانَ يُصَلي؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنا هَذا، وَكانَ يَجْلِسُ إذا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ (¬1). * أما أبو قِلابةَ: فهو تابعيٌّ، ثقة، جليل، موصوف بالفقه، والعقل، والصلاح، سمع جماعةً من الصحابة والتابعين، وكان كثيرَ الحديث. قال مسلمُ بنُ يَسار: لو كان أبو قلابةَ من العجمِ، كان موبذ موبذان، يعني: قاضي القضاة بالعربية (¬2). قال علي بن المديني: أبو قِلاتة عربي من جَرْم، واسمه عبد الله بن زيد بن عمر، ومات بالشام، وأدرك خلافة عمر بن عبد العزيز. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (769)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 183)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35181)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 284).

وقال ابن يونس: قدم أبو قلابة مصر زمنَ عمرَ بنِ عبد العزيز بن مروان، وتوفي بالشام سنة أربع ومئة. وروى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمساند (¬1). وأما الجرمي: -بفتح الجيم وسكون الراء ثم الميم ثم ياء النسب- فنسبة إلى جَرْم- جدِّ من أجداده -بن ريان- بالراء- هم المشاة تحتد المشددة بن حلوان بن عمران بن الخاف بن قضاعة. وأما البصري: -بفتح الباء الموحدة وكسرها، ثم الصاد المهملة، ثمَّ الراء ثمَّ ياء النسب- نسبة إلى البصرة -بفتح الباء وكسرها وضمها، ثلاث لغات حكاهن الأزهري، المشهور الفتح، وَلم يذكروا في النسبة الضم؛ خوفًا من الاشتباه بالنسبة إلى بُصرى البلدة المعروفة بالشام، وطلبًا للتخفيف-. والبَصرة: بلدة داخلة في حد سواد العراق، وليس لها حكمه؛ لأنها أحدثت بعد فتحه ووقفه، ويقال لها: البُصيرة -بضم الباء وفتح الصاد- على التصغير، ويقال: تدمر، والمؤتفكة. قال السمعاني: ويقال لها: قبة الإسلام، وخزانة العرب، بناها عتبة بن غزوان في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنة سبع عشرة، وسكنها الناس سنة ثمان عشرة، ولم يُعبد صنم قط في أرضها (¬2). * وأما مالك بنُ الحويرث: فكنيته أبو سليمان، ويقال في اسم أبيه: الحارث، وحويرثة تأنيث حويرث تصغير حارث، صحابي ليثي، قدم على ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 183)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (7/ 185)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 92)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 57)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 2)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 282)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 287)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 238)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 542)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 468)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 94)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 197). (¬2) انظر: "الأنساب" للسمعاني (1/ 363).

النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم وأقام عنده أيامًا، ثم أذن له في الرجوع إلى أهله. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر حديثًا، اتفقا على حديثين، وللبخاري حديث واحد. نزل البصرة، وتوفي بها سنة أربع وتسعين، وروى له أصحاب السنن والمسانيد (¬1). * وأما شيخُهم المذكورُ في الحديث، فاسمه عمرو بن سَلِمة -بكسر اللام-، أبو بريد -بضم الباء الموحدة وفتح الراء- الجرمي، إمامهم، ممن نزل البصرة، ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت له سماع منه، وقد وفد أبوه سلمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إن ابنه عمر وفد معه، لكنه غريب. وروى عنه جماعةٌ من التابعين، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي (¬2). * وأما حديثُ مالكِ بنِ الحويرثِ هذا: فانفرد بإخراجه البخاري دون مسلم، وليس ذلك من شرط هذا الكتاب، وأخرجه البخاري من طرق منها: رواية وهيب، وأكثر ألفاظ رواية الكتاب فيها، وفي آخرها في كتاب البخاري: وإذا رفعَ رأسَه من السجدةِ الثانيةَ، جلسَ واعتمدَ على الأرض، ثم قام (¬3). وفي رواية خالد، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث الليثي: أنَّه رأى ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 44)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 301)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 207)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 374)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1349)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 18)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 387)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 132)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 719)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 12). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 89)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 313)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 235)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 278)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1179)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 222)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 344)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 50)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 523)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 643)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 38). (¬3) رواه البخاري (790)، كتاب: صفة الصلاة، باب: كيف يعتمد إذا قام من الركعة.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعدًا (¬1). * وأما ألفاظه ومعانيه: فقوله: "إني لأُصلِّي بكم وما أريدُ الصلاةَ"، معناه: أصلي صلاة لقصدِ التعليم، لا لغيره من مقاصد الصلاة، ولا شك أن الصلاة تُراد لمقاصد أتى الشرع بها، منها هذا القصد؛ لصلاته - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاس على المنبر، فإذا أراد السجود، هبط فسجد على الأرض، ثم صعد، إلى أن أتم صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وكان فعله ذلك لقصد التعليم، ففي ذلك جميعه دليلٌ على جواز فعل مثل ذلك، وليس هو من باب التشريك في العمل. قوله: "أصلِّي كيفَ رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي" دليلٌ على البيان بالفعل، وأنه جارٍ مجرى البيان بالقول، وإن كان البيان بالقول أقوى في الدلالة على آحاد الأفعال إذا كان القول ناصًّا على كل فرد منها. وقوله: "وكانَ يجلسُ إذا رفَع رأسَه من السُّجود قبلَ أن ينهضَ": هذا الجلوس هو أحدُ جلسات الصلاة عقب سجود الركعة الأولى والثالثة من الرباعية، ويسمى عند الفقهاء بجلوس الاستراحة، هو جلوس رابع في الصلاة الثلاثية والرباعية، وحكمه الجلوس مفترشًا عند الشافعي، ومن قال باستحبابه، وللشافعي قول: إنه لا يشرع، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما. وهذا الحديث دليل للاستحباب، وحجة على من قال بعدمه، وحمل هؤلاء الحديث على أنها إنما فعلت لسبب الضعف للكبَر، لا أنها مقصودة لقصد القربة، وقد فصل بعض أصحاب الشافعي في استحبابها بين الشاب القوي والشيخ الضعيف، فقال: لا تستحب للشاب، وتستحب لغيره. وقد روي عن المغيرة بن حكيم: أنه رأى عبدَ الله بن عمر يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه. قال: فلما انصرف، ذكر ذلك له، فقال: إنها ¬

_ (¬1) رواه البخاري (789)، كتاب: صفة الصلاة، باب: من استوى قاعدًا في وتر من صلاته ثمَّ نهض.

ليست بسنة الصلاة، وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي (¬1). وفي حديث آخر في فعل ابن عمر أنه قيل في ذلك. قال: إن رجليَّ لا تحملاني (¬2). والأفعال إذا كانت للجِبِلة، أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القرب المطلوبة، فإن تأيَّد هذا التأويل بقرينة تدل عليه؛ مثل أن أفعاله السابقة على حالة الكبر والضعف، لم يكن فيها هذه الجلسة، أو يقترن فعلها بحالة الكبر، من غير أن يدل دليل على قصد القربة، فلا بأس بهذا التأويل. وقد رجح في علم الأصول أن ما لم يكن من الأفعال مخصوصًا بالرسول، ولا جاريًا مجرى أفعال الجبلة، ولا ظهر أنه بيان لمجمل، ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره، فإما أن يظهر فيه قصد القربة، أو لا، فإن ظهر، فمندوب، وإلا فمباح. لكن لقائل أن يقول: ما وقع في الصلاة، فالظاهر أنه من هيئتها، لا سيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه، وهذا أقوى، إلا أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب الكبر أو الضعف، فيظهر حينئذٍ بتلك القرينة أن ذلك أمر جبليّ، فإن قوي باستمرار عمل السلف على ترك الجلوس، فهو زيادة في الرجحان للترك، مع أن في فعلها تنبيهًا على الاستعانة على النشاط في القيام للصلاة، وإظهار التضعف بين يدي الله تعالى، ولهذا إذا نهض إلى القيام، يقوم كالعاجز، لا كالفاره، فهو أقرب إلى الخشوع الذي هو جل مطلوب الصلاة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 89)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 124). (¬2) رواه البخاري (793)، كتاب: صفة الصلاة، باب: سنة الجلوس في التشهد، من طريق الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 89).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مالِكٍ ابْنِ بُحَيْنةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا صلى "فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتى يَبْدُوَ بَياضُ إبْطَيْهِ" (¬1). أما عبدُ الله بنُ مالكٍ ابْنُ بُحينةَ. فكنيته أبو محمد، أسلم، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قديمًا، وكان ناسكًا فاضلًا يصوم الدهر. * وأما أبوه مالك، فله صحبة، وكان حالفَ المطلبَ بنَ عبدِ مناف، فتزوج بُحينة، وهي ابنةُ الحارث بن المطلب، فولدت له عبد الله. قال ابن سعد: واسمُها عبدة بنتُ الحارث، وهو الأرت، وأسلمت بحينة، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأبو مالك: هو ابن القِشْب -بكسر القاف، وسكون الشين المعجمة، وآخره باء بواحدة -وهو جندب بن نضلةَ بنِ عبد الله بن رافع، أزديٌّ من أزد شنوءة، توفي عبد الله في آخر خلافة معاوية. بُحينة -بضم الباء الموحدة، وفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة، وفتح النون، ثم هاء التأنيث -هي أم عبد الله، وهو أحد المنسوبين إلى أمهاتهم. وغلط بعضُهم فجعلها أمَّ مالك، وهو وهم، إنما هي امرأته أم عبد الله، فعلى هذا يقال: عبدُ الله بنُ مالكٍ -بالجر منونًا-، ويكون ابنُ بحينةَ صفةً لعبد الله، لا لمالك، فيرفع إن كان عبد الله مرفوعًا، ويجر إن كان مجرورًا، وينصب إن كان منصوبًا، ويكتب (ابن) بالألف؛ لأنه ليس بين علمين؛ فإنه لا يحسن حذفها عندَ الكتاب إلا إذا كانت بين علمين [وليست] صفة للأول، فإذا كانت بين علمين صفة للأول منهما؛ فلا بد من كتابته بالألف؛ تنبيهًا على ذلك؛ كعبد الله بن أُبي ¬

_ (¬1) رواه البخاري (383)، كتاب: الصلاة، باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، ومسلم (495)، كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة.

ابن سلول، والله أعلم، وكذلك كل ما أشبه ذلك، والله أعلم. وأمَّا إذا كان بين علمين ليس الثاني منهما أبا للأول، بل أمه، فإنه لا يكتب بالألف، ولا ينصرف الثاني، فلا يجر ولا ينون، بل يكون مفتوحًا، ويكون الفتح علامة للجر، إلا إذا أضيف، فإنه يجر، ولا ينون؛ كمحمد بن حبيبَ صاحبِ كتاب "المحبر في المختلف والمؤتلف في قبائل العرب"، فإن حبيبَ أمه، فلا ينصرفُ؛ للتأنيث، والعلمية، ومثله محمد بن شرفَ القيرواني الشاعر المجيد، فإن شرفَ أمُّه، ولذلك نظائر كثيرة، والله أعلم. روى البخاري ومسلم لعبد الله بن مالك ابن بحينة أربعة أحاديث. روى عنه الأعرجُ، وحفص بن عاصم بنِ عمرَ بن الخطاب، وابنُه عليُّ بن عبد الله ابنِ بُحينةَ، وروى [له] أصحاب السنن والمساند، والله أعلم (¬1). قوله: "فرّج بينَ يديه" بتشديد الراء؛ يعني: رفعَهما عن جنبيه حال وضع كفيه على الأرض وبعدَه، حتى يرفع من السجود، ويسميه الفقهاء: مجافاة المرفقين عن الجنبين، ويسمى -أيضًا-: تحوية. وقوله: "حتى يبدو بياض إبطيه"؛ يعني: يبالغ في رفع مرفقيه وساعديه عن الأرض مبالغة بحيث يَرى الأجنبي بياضَ إبطيه لشدة رفعهما، والمعنى فيه: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 10)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 150)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (2/ 156)، و"الثقات" لابن حبَّان (3/ 216)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 486)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 372)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 124)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 712)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 333). قلت: وما ذكره المؤلف -رحمه الله- من أعلام نسبت إلى أمهاتها، فلعله استفاده من شيخه النووي، في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 104)، فقد ذكر فصلًا قال في أوله: يقال لمحمد هذا: ابن الحنفية، ويقال: محمد بن علي ويقال: محمَّد بن علي ابن الحنفية فينسب إلى أبيه وأمه جميعًا، فعلى هذا يشترط أن ينون علي، ويكتب ابن الحنفية بالألف، ويكون إعرابه إعراب محمد؛ لأنه وصف لمحمد، لا لعلي، ولهذا نظائر، وقد أفردتها في جزء منها: عبد الله بن مالك ابن بحينة، مالك أبوه، وبحينة أمه،. . . . إلى آخر كلامه -رحمه الله-.

الحديث الثاني عشر

إعمال اليدين في الصلاة، وإخراج هيئتهما إلى صفة الاجتهاد عن صفة التكاسل والاستهانة، ولفظ الحديث في الكتاب ليس مقيدًا بالسجود، فدخل فيه الركوع -أيضًا-؛ لأنَّ قوله: "كان إذا صلى، فرج"، فيشمل الركوع والسجود، والحكم فيهما كذلك عند الفقهاء، وقد يلزم من ذلك الحمل على الجبهة في السجود، كما ذكره بعض الفقهاء، وقد خصص الفقهاء المجافاة والتحوية بالرجال، وقالوا: المرأة تضم بعضها إلى بعض؛ لأنَّ المقصود منها التصون والتجمع والتستر، وتلك الحالة أقرب إلى هذا المقصود. ففي الحديث دليل على: شرعية المجافاة عن الجنبين، وعدم بسطهما على الأرض؛ فإنه لا يرى بياض الإبطين مع بسطهما. وفيه: الاقتداء بفعله كما يُقتدى بقوله. وفيه: التحامل على الجبهة في السجود، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عشر عَنْ أَبِي مَسلَمَةَ سَعِيدِ بن يَزِيدَ، قَالَ: سألتُ أَنس بن مالِكٍ: أَكَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي في نَعلَيه؟ قَالَ: نَعَمْ (¬1). * أما أبو مسلمةَ: فهو ثقة، محتج به في الصحيحين، وغيرهما، وهو أزدي بصري تابعي صغير، ويقال له: الطاحي القصير، والطاحي -بالطاء والحاء المهملتين- نسبة إلى طاحية: بطن من الأزد، واسم جده مسلمة، فهو أبو مسلمة سعيدُ بن يزيد بن مسلمة. وقال أبو حاتم بن حبَّان في التابعين من "ثقاته": كنيته أبو مسلمة الطحان، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (379)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في النعال، ومسلم (555)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الصلاة في النعلين، وهذا لفظ البخاري.

وما أظن قوله: الطحان إلا تصحيفًا، وصحفه غيره بالطائي، والله أعلم (¬1). * وأما أنس، فتقدم ذكره. النعل: معروف، والصلاة فيه جائزة، لكن لا توصف بالاستحباب؛ لكونه خارجًا عن المعنى المطلوب في الصلاة، وهوَ عدمُ الزينة الشاغلة عن أشكال هيئة الجلوس والسجود ونحوهما، فإن قيل: إن لبسهما من باب التزين للصلاة، والتجمل لها؛ كالأردية والثياب الحسنة، فيكون مستحبًا. فالجواب: إن التزين والتجمل إنما يستحب إذا لم يكن مانع من إلهاءٍ؛ كالخميصة، أو تلبُّسٍ بقذرٍ أو وسخِ غالبًا؛ كالنعال، فتنحط رتبة الصلاة فيها عن الاستحباب، وينتفي الجواز، مع أنَّه لم يرد نص خاص في التزين والتجمل في الصلاة، وإنما هما داخلان في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُ أَحَقُّ من تزينَ لَهُ" (¬2)، "إن اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمال" (¬3)، ومراعاة مصالح الصلاة من أمر النجاسة والقذر أولى من مراعاة التزين والتحسين، فإن الأول من باب الضرورة، والثاني من رتبة الحاجة، فرعاية الأول أولى، فيكون أرجح، فيعمل بالحديث في الجواز ما لم يمنع منه مانع، وفي عدم الاستحباب، والله أعلم. وقد يستدل بالحديث على جواز العمل بالأصل في حكم الطهارة والنجاسة، وقد اختلف الفقهاء في تعارض الأصل والظاهر أيهما يقدم؟ والتحقيق فيه: إن كان الغالب الظاهر، اتبع، ما لم يعارضه غيره، وإلا عمل بالأصل، ولا شك أنه ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 520)، و"لجرح والتعديل" للرازي (4/ 73)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 280)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 114)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 88). (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (766)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (9368)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 377)، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى" (2/ 236)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (1/ 309)، لكن من قول عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (91)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه-.

الحديث الثالث عشر

قد جاء في الحديث النظر إلى النعلين ودلكهما بالأرض، ودل ذلك على أن دلكهما طهور لهما، وليس ذلك من باب تعارض الأصل والغالب، وإنما هو من باب البيان؛ كما لو صلى فيها من غير دلك، مع أن الأصل عدم الدلك، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بشيء، لم يترك، والظن المستفاد من الدلك أرجحُ من عدمه، والله أعلم. وفيه دليل على: السؤال عن العلم، وأنه يكفي في الجواب: نعم، فقط، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عشر عَنْ أَبي قَتادَةَ الأَنْصارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصَلِّي وَهُوَ حامِلٌ أُمامَةَ بْنةَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شمسٍ، فَإذا سَجَدَ، وَضَعَها، وإذا قامَ، حَمَلَها (¬1). * أما أبو قَتادةَ، فتقدم ذكره في باب الاستطابة. * وأما أُمامةُ: فهي كما ذكر أنها ابنةُ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولدت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يحبها، ويحملها على عنقه في الصلاة، وأُهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية فيها قلادة من جزع، فدعا - صلى الله عليه وسلم - أمامةَ بنت زينب فأعلقها في عنقها، وتزوجها علي بن أبي طالب بعد فاطمة - رضي الله عنها -، زوجها منه الزبير بن العوام، وصيُّ أبيها أبي العاص عليها، فلما قتل علي، وآمت منه أمامة، تزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، زوجها منه الحسن بن علي بعد أن خطبها معاوية فلم تجب إليه، وهلكت عند المغيرة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (494)، كتاب: سترة المصلي، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة.

وليس لها عقب، وقيل: لم تلد لعلي ولا للمغيرة، وقيل: ولدت للمغيرة ولدًا اسمه يحيى، وبه يكنى (¬1). * وأما أمها زينب: فهي ابنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما ذكر-، وهي أكبر بناته. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا لا خلاف فيما علمته في ذلك، إلا ما لا يصح، ولا يلتفت إليه، وإنما الاختلاف بينها وبين القاسم أيهما وُلد أولًا؟ فقالت طائفة من أهل العلم بالنسب: القاسم، ثم زينب، وقال الكلبي: زينب، ثمَّ القاسم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبًا لها، وأسلمت، وهاجرت حين أبي زوجُها أبو العاص بن الربيع أن يسلم، وولدت منه غلامًا يقال له: علي، وجارية اسمها: أمامة. ولدت زينب - رضي الله عنها - سنة ثلاثين من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة بعشر سنين، وماتت سنة ثمان من الهجرة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي ابنة ثلاثين سنة (¬2). * وأما أبو العاص بنُ الربيع: فهو صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجُ ابنته، واسم جده أبي أبيه: عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، كان يقال له: جرو البطحاء، واختلف في اسمه، فأكثر المشهور: لقيط، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وأمه: هالة أختُ خديجة - رضي الله عنها - بنتُ خويلد بن أسد؛ لأبيها وأمها. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 36)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1788)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 20)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 599)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 335)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 501). (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 30)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1853)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 141)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 131)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 610)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 246)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 665).

وكان أبو العاص هذا مؤاخيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مصافيًا، وشكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصاهرته، وأثنى عليه بذلك خيرًا. وهاجرت زينب - رضي الله عنها - مسلمةً، وتركته على تركه، فلم يزل مقيمًا عليه حتى كان قبل الفتح، خرج في تجارة إلى الشام، أصيب في سرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميرهم زيدُ بنُ حارثة، فأسروا ناسًا من العير التي هو فيها، وأفلت هاربًا إلى المدينة، وأجارته زينب، فأجاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستوهب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان معه من المال من السرية في قصة طويلة، ورجع إلى مكة، وأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله، وأسلم بمكة بحضرة قريش، وأخبرهم أنَّه لم يمنعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني أحل أموالكم، فلما أداها الله إليكم، أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول مسلمًا، وحسن إسلامه، ورد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئًا بعد ست سنين، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - ردها بنكاح جديد، والأول أصح وأشهر، والله أعلم (¬1). وأما قوله: "أبو العاص بن الربيع"، هكذا هو في "صحيحي البخاري ومسلم، وعند أكثر رواة "الموطأ": ابن ربيعة، وكذا رواه البخاري عن مالك: أبو العاص بن ربيعة، والصحيح المشهور هو الأول. وقال القاضي عياض: وقال الأصيلي: هو ابن ربيع بن ربيعة، فنسبه مالك إلى جده، قال القاضي: وهذا الذي قاله غير معروف، ونسبه عند أهل الأخبار والأنساب باتفاقهم: أبو العاص بن الربيع، على ما ذكرنا أولًا، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1701)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 67)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 182)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (4/ 1701)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 330)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 248). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 33).

وأما قوله: ولأبي العاص بن الربيع، دون نسبة أمامة إليه، وإنما نسبها إلى أمها؛ تنبيهًا على أن الولد إنما ينسب إلى أشرف أبويه دينًا ونسبًا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما حملها، كان أبوها مشركًا، وهو قرشي عبشمي، وكانت أمها أسلمت، وهاجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي قرشية هاشمية، فنسبها إليها دونه، وبين بعبارة لطيفة أنها لأبي العاص بن الربيع؛ تحريًا للأدب في نسبتها ونسبها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسبه، والله أعلم. ثم الكلام يتعلق بهذا الحديث بوجهين: الأول: حمل الطفلة في الصلاة، وإباحته. الثاني: طهارة ثوبها. والكلام في الأول في بحثين: الأول: أن حملها كان بغير تعمد منه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، بل كانت تتعلق به - صلى الله عليه وسلم -، فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه، قاله الخطابي، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى عمدًا؛ لأنه عمل كثير يشغل، وإذا كان عمل الخميصة شغله، فكيف لا يشغله هذا (¬1)؟! والجواب عن ذلك: أنه دعوى مجردة يردُّها ما ثبت في الصحيح في هذه الرواية وغيرها: أنه كانَ إذا سجدَ وضعَها، وإذا قام حملها، وفي غيره: خرج ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 431). قلت: قال الخطابي -رحمه الله-: ولا يكاد يتوهم عليه أنه كان يتعمد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارة بعد أخرى؛ لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرر، والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته، ثم ليس في شيء من ذلك أكثر من قضائها وطرًا من لعب لا طائل له ولا فائدة فيه، وإذا كان عَلمُ الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية، فكيف لا يشغل عنها بما هذا صفته من الأمر؟! فهذا سياق كلام الخطابي -رحمه الله-، وما ذكره المؤلف -رحمه الله- هو من اختصار شيخه النووي -رحمه الله- لكلام الخطابي في "شرح مسلم" (5/ 32)، وكذلك ما سيذكره في الجواب عن كلام الخطابي، وهذا يدل ويؤكد ما قلناه مرارًا من اعتماد المؤلف على كتب شيخه النووي في جُلِّ مادة كتابه هذا، والله أعلم.

علينا حاملًا أُمامةَ، فصلَّى وهي على عاتِقِه (¬1)، وكل هذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - تعمَّدَ حملَها بيانًا لجواز مثل هذا. وأما الخميصة: فإنها تشغل القلبَ بلا فائدة، بل هي مجرد زينة مُلهية، بخلاف حمل الصبية، فإنه لا يلزم من حملها في الصلاة شغلُ القلب، وإن شغل، فإنه يترتب عليه فوائد، وبيان قواعد أكثر من شغل القلب بالصبية، بخلاف الخميصة. الثاني: لم يقل أحد بتخصيص جواز حمل الصبية دون غيرها من الصبيان والرجال وسائر الحيوان في الصلاة إذا حكمنا بطهارة ذلك كله. واستدل الشافعي، ومن قال بقوله بهذا الحديث على جوازه في الفريضة والنافلة؛ فإنه ثبت في بعض طرقه في "صحيح مسلم": أنه حملها في صلاة كان يؤم الناسَ فيها في المسجد (¬2)، وهو ظاهر في الفريضة، وإذا جاز في الفريضة، كان في النافلة أولى؛ فإنه يحمل في النافلة ما لا يحمل في الفريضة، وحكم المأموم في ذلك والمنفرد حكمُ الإمام. وحمل بعض المالكية الحديثَ في جواز الحمل على النافلة دون الفريضة، وادعى بعضهم أنه منسوخ في الفريضة، وبعضهم: أنه خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها أقوال مروية عن مالك، غير القول بأنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلها دعاوى لا دليل على صحتها، ولا ضرورة إليها، بل الحديث الصحيح الصريح يقتضي جوازه في الفريضة، وأنه كان ذلك في صلاة ظهر أو عصر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خرج عليهم حاملًا أُمامةَ، وأنهم كانوا ينتظرونه لها، والأصل عدم النسخ والتخصيص، والضرورة؛ إذ كل واحد منها لا يصار إليه إلا بدليل، ولا دليل، فإن أريد بالنسخ تحريم العمل في الصلاة، والكلام فيها، قلنا: ليس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5650)، كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته. (¬2) رواه مسلم (543)، (1/ 358)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة.

هذا من ذاك، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الصلاةِ لَشُغْلًا" (¬1) كان قبل قدوم زينب وابنتها إلى المدينة، فإنه كان عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة قبل بدر، وقدومُ زينب وابنتِها إلى المدينة بعدَ ذلك، ولو ثبت أنه بعده، لكان فيه إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يجوز، مع أن الأصل استواءُ الفريضة والنافلة في الشرائط والأركان، ولم يقل أحد بالفرق بينهما في ذلك، إلا في جواز النافلة جالسًا، أو على الدابة في السفر، وليس حملُ الصبية من ذلك، وإلا لبينوه كما بينوا غيره، ونقلوه، والقياسُ لا يصح في ذلك، وهو ممنوع هنا، وقد بينا عدمَ الضرورة. وقد فرق بعض أتباع مالك بين أن تكون الحاجة إلى حمل الصبية شديدة؛ بحيث لا يجد من يكفيه ذلك، أو يخشى على الصبي، فيجوز حمله في الفريضة والنافلة، وبين أن يكون حمله على معنى الكفاية لأمه لشغلها بغير ذلك، فيجوز في النافلة دون الفريضة. والجواب عن ذلك: أن الأصل استواءُ الفريضة والنافلة في الشرائط والأركان، إلا ما خصه الدليل. الوجه الثاني: طهارةُ بدنها وثوبها، ولا شك أن الناس يعتادون تنظيف ثياب الصبيان وأبدانهم في مثل هذا الحال، خصوصًا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الأصل فيهم الطهارة، والغالب النجاسة، لكان الغالب في مثل هذا الحال العادة، وهي التنظيف، فيعادل الغالب بالعادة، ونفي الأصل، وهو الطهارة، فرجحت، مع أن قصة حمل أمامة وطهارة ثوبها وبدنها قضية حال، فلا تعم، فيكون الحال التي صلى بها محمولةً وقع فيها التنظيف؛ إما لتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - لجواز علمه بعصمة الصبية من البول حال حملها، أو لتعمد تنظيفها في تلك الحال على العادة، وكلاهما يوجب صحة انصلاة مع حملها، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع، فإن الآدمي طاهر، وطهارة ظاهره ممكن، وما في جوفه من النجاسة معفوٌّ عنه؛ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

لكونه في باطنه ومعدته، كيف وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهره على هذا. ثمَّ بعد ذلك بحث من حيث إن كثرة الأفعال في أصل الصلاة يبطلها، لكن إذا كانت الأفعال كثيرة متوالية، أما إذا كانت قليلة أو كثيرة متفرقة، فإنها لا تبطلها، وفِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من الثاني، فإنها أفعال متعددة متفرقة، فهو دليل على جواز ذلك، والله أعلم. وفي الحديث مسائل: منها: جواز الصلاة، وهو حامل غيره من الآدميين وغيرِهم، كما بيناه. ومنها: أن ذلك شرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين. ومنها: أن ثياب الصبيان وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتحقق النجاسة. ومنها: أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وأن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال، بل تفرقت، لا تبطل الصلاة. ومنها: التواضع مع الصبيان وسائر الضعفة ورحمتهم وملاطفتهم. ومنها: جواز حملهم في صلاة الفريضة والنافلة، كما بيناه. ومنها: أن شغل القلب [في] مثل ذلك في الصلاة معفو عنه. ومنها: إكرامُ أولاد المحارم -كالبنات والأخوات ونحوهم-: بالحمل، ومؤانستهم؛ جبرًا لهم ولآبائهم وأمهاتهم. وقد يستدل به على أن مسهم لا ينقض الوضوء، لو سُلِّم أنه مسه بلا حائل، وأنه ممن يشتهى. أما المسُّ بحائل، وإن كان لا يمنع الروية كالشعرية، أو لمن لا يشتهى، أو كان في سن من تشتهى، وهو محرم، فلا ينتقض على الصحيح، والله أعلم. * * *

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِراعَيْهِ انْبِساطَ الكَلْبِ" (¬1). * أما أنس، فتقدم ذكره. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعتدلوا في السُّجودِ": معناه راجع إلى الاعتدال المعنوي المرادِ للشرع في السجود، وهو وضعُ الكفين على الأرض، ورفعُ المرفقين عن الأرض وعن جَنبيه، رفعًا بليغًا؛ بحيث يظهر بياض إبطيه إذا لم تكن مستورة. والحكمةُ في ذلك أنه أشبه بالتواضع، وأبلغُ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعدُ من هيئة الكسالى، وليس المراد منه الاعتدالَ الخِلقي المطلوب في الركوع، فإن المراد فيه استواءُ الظهر والعُنُق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي مع ما تقدم، حتى لو تساويا، بطلت الصلاة على الأصح من الوجهين عند أصحاب الشافعي، ولهذا نهى عقب ذلك عن بسط ذراعيه انبساطَ الكلب؛ لكونه منافيًا لمقصود الشرع، فإنه ذكر الحكم مقرونًا بعلته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يبسطُ أحدُكم ذراعيه انبساطَ الكلبِ": انبساطُ الكلب هو كالتتمة للأول، فإن الأول كالعلة له، فيكون الاعتدال المطلوب للشرع علة لترك انبساط الكلب، فذكر الحكم مقرونًا بعلته؛ تنبيهًا على الأشياء الخسيسة المشبهة بفعل الكلب؛ ليُترك في الصلاة؛ فإن المنبسط يُشعر حالُه بالتهاون بالصلاة، وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها، ومثل هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العائدُ في هِبَتِهِ كالكلبِ يعودُ في قَيئهِ" (¬2)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (788)، كتاب: صفة الصلاة، باب: لا يفترش ذراعيه في السجود، ومسلم (493)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتدال في السجود. (¬2) رواه البخاري (2841)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا حمل على فرس فرآها تباع، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بهذا اللفظ، وسيأتي تخريجه في "الصحيحين" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لما قصدَ التنفير عن الرجوع في الهبة، شبهه برجوع الكلب في قيئه، والله أعلم. وجاء المصدر في هذا الحديث مخالفًا لفعله، فإنَّه من الثلاثي، والانبساط من الخماسي، وهو جائز أن يكون المصدرُ مخالفًا لفعله في صيغته، وهو في القرآن العزيز في قوله تعالى في آل عمران: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37]، وفي سورة نوح - صلى الله عليه وسلم -: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]، والله أعلم. وفي الحديث: الأمرُ بالاعتدال في السجود على الوجه المشروع. وفيه: النهيُ عن التشبه بالأفعال الخسيسة. وفيه: إضافة الخسيس إلى أهله، وأنه جائز لقصد التنفير عنه، والله أعلم. * * *

باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

باب وجوب الطُّمَأْنينة في الركوع والسجود عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جاءَ فسلَّمَ عَلَى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: "ارجِعْ فَصَلِّ، فإنكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ فَصَلَّى كَما صلَّى، ثُمَّ جاءَ فسلَّمَ عَلَى النبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: "ارجِعْ فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ثَلاثًا، فَقالَ: والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! ما أحسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقالَ: "إذا قُمْتَ إلَى الصلاةِ، فَكَبّر، ثُمَّ اقْرَأْ ما تَيَسرَ مَعَكَ مِنَ القُرآنِ، ثُمَّ اركَعْ حَتى تَطْمَئِن راكِعًا، ثُمَّ ارفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قائِمًا، ثُمَّ اسْجُد حَتى تَطْمَئِنَّ ساجِدًا، ثُمَّ ارفَعْ حَتَّى تَطْمَئِن جالِسًا، وافْعَلْ ذَلِكَ في صَلاتكَ كُلها" (¬1). تقدم ذكرُ أبي هريرة. وأما الرجلُ المبهَم في هذا الحديث، فلم أعلم أن أحدًا سماه في المبهمات إلا الحافظَ أبا القاسم خلفَ بنَ بشكوال؛ فإنه قال: اسمُه خَلاد، لكنه ذكر الحديث من رواية رفاعة (¬2)، ويسمي الفقهاء هذا الحديث: حديثَ المسيء صلاته. واعلم أن الواجبات في الصلاة على ضربين: متفق عليها، ومختلف فيها، وليس هذا الحديث موضوعًا لحصرها، بل لحصر ما أهمله هذا الرجل المصلي ¬

_ (¬1) رواه البخاري (724)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (397)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 583).

وجهله في صلاته، وقد استدل به الكثير من الفقهاء على أن ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - فيه فهو واجب، وما لم يذكره فيه ليس بواجب، وليس الحديث موضوعًا لبيان سنن الصلاة اتفاقًا، فالنية، والقعود في التشهد الأخير، وترتيب أركان الصلاة واجباتٌ مجمَع عليها، وليست مذكورة في الحديث، والتشهدُ الأخير، والصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، والسلام من المختلفَ فيه، أوجب هذه الثلاثة: الشافعي، والجمهور، قالوا بوجوب السلام منها، وكثيرون قالوا بوجوب التشهد، والشعبي، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وأصحاب الشافعي قالوا بوجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأوجبَ جماعة من الشافعية نيةَ الخروج من الصلاة، وأوجب أحمد التشهد الأول، وكذا التسبيح، وتكبيرات الانتفال. فالجواب: عما استدل له الكثير من الفقهاء من أن المذكور في الحديث واجب، وغيره ليس بواجب، مع ما ذكرنا من الواجبات المجمَع عليها والمختلف فيها: أن المجمَع عليه كان معلومًا عند السائل لم يحتج إلى بيانها، وكذا المختلف فيه عند من يوجبه يحمله على ذلك، وجه استدلالهم على الوجوب بذكره في الحديث، وعدمه بعدمه: أن الأمر تعلق بالوجوب، وأن عدمه ليس لمجرد أن الأصل عدم الوجوب، بل الأمر زائد، وهو أن ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث تعليم وبيان للجاهل، وتعريف لواجب الصلاة، وهو يقتضي انحصاره فيما ذكر، وقويت رتبة الحصر فيه بذكر ما تعلقت به الإساءة من المصلي من الواجب فيها، وما لم تتعلق به، وذلك دليل على عدم الاقتصار على المقصود مما وقعت فيه الإساءة فقط في كل ما وقع، واختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورًا في الحديث، ذلك أن تتمسك به في وجوبه، وكل موضع اختلفوا في تحريمه، فلك أن تستدل على عدم تحريمه؛ لأنه لو حرم، لوجب التلبس بضده؛ فإن النهي عن الشيء أمرٌ بأحد أضداده، ولو كان التلبس بالضد واجبًا؛ لذكر على ما قررناه، فإذا انتفى ذكره -أعني: ذكر الأمر بالتلبس بالضد- انتفى بلزومه، وهو النهي عن ذلك الشيء، وكل موضع اختلفوا في وجوبه، ولم يكن مذكورًا في الحديث، ذلك -أيضًا- أن تتمسك به في عدم وجوبه -أيضًا-

بكونه غير مذكور فيه؛ لما تقدم من كونه موضع تعليم وبيان، فظهرت القرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات، فهذه الطرق الثلاثة يمكن الاستدلال بها على كثير من المسائل المتعلقة بالصلاة، إلا أن على طالب التحقيق في هذا ثلاث وظائف: إحداها: جمع طرق الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه، والأخذ بالزائد فالزائد منها؛ فإنه واجب. الثانية: استمراره على طريقة واحدة فيها، فلا تستعمل في مكان ما يتركه في آخر، فيتقلب نظره، بل يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالًا واحدًا؛ فإنه قد يقع هذا الاختلاف في كلام كثير من المناظرين. الثالثة: إذا أقام دليلًا على أحد أمرين إما على عدم الوجوب، أو الوجوب؛ فالواجب العمل به، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا في باب النفي يجب التحرز فيه أكثر، فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين يعمل به، وإذا استدل على عدم وجوب شيء بعدم ذكره في الحديث، وجاءت صيغة الأمر في حديث آخر، فهي مقدمة، وإن قيل: إن الحديث دل على عدم الوجوب، وتحمل صيغة الأمر على الندب، لكن عدم الوجوب أقوى؛ لأنه متوقف على مقدمة أخرى، وهي أن عدم الذكر في الرواية يدل على عدم الذكر في نفس الأمر، وهي غير المقدمة المتقدمة من أن عدم الذكر يدل على عدم الوجوب؛ لأنه المراد، ثم إن عدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على عدم الوجوب؛ فإنه موضع البيان، وعدم الذكر في نفس الأمر غير عدم الذكر في الرواية، وعدم الذكر في الرواية إنما يدل على عدم الذكر في نفس الأمر بطريق أن يقال: لو كان، لذكر، أو بأن الأصل عدمه، وهذه المقدمة أضعف من دلالة الأمر على الوجوب -أيضًا-، فالحديث الذي فيه الأمر إثبات لزيادة، فيعمل بها. وهذا البحث كله بناءً على إعمال صيغة الأمر في الوجوب الذي هو ظاهر فيها، والمخالف يخرجها عن حقيقتها؛ بدليل عدم الذكر، فيحتاج الناظر

المحقق إلى الموازنة بين الظن المستفاد من عدم الذكر في المخالفة، وبين الظن المستفاد من كون الصيغة للوجوب. قال شيخنا أبو الفتح القاضي -رحمه الله-: والثاني عندنا أرجح، والله أعلم (¬1). ثم إذا تقرر أن عدم الذكر في الحديث يدل على عدم الوجوب، فقد استدلوا بهذا الحديث على مسائل، من حيث إنها غير مذكورة فيه: منها: أن الإقامة غير واجبة، وقال بعض العلماء بوجوبها؛ لما ورد في بعض طرق الحديث الأمر بها، فمن استدل بعدم الذكر في الحديث على عدم الوجوب يحتاجُ إلى عدم رجحان الدليل الدال على وجوبها عند الخصم، فإن صحَّ الأمرُ بالوجوب، فقد عدم أحد الشرطين، وإن لم يصح، فقد تمَّ الدليل على عدم الوجوب، وإلا فيتعارض عدمُ الذكر والأمرُ بها لو صح، فينتفي الوجوب، ويبقى الندب. ومنها: أن دعاء الاستفتاح غير واجب؛ لأنه لم يذكر في الحديث، ومن نقل من بعض المتأخرين من غير المنسوبين إلى مذهب الشافعي: أن الشافعي قال بوجوبه، فقد غلط ووهم. ومنها: التعوذ ورفعُ اليدين في تكبيرة الإحرام، ووضعُ اليد اليمنى على اليسرى، وتكبيراتُ الانتقالات، وتسبيحاتُ الركوع والسجود، وهيئات الجلوس، ووضعُ اليد اليمنى على الفخذ، وغير ذلك مما لم يذكر في الحديث، ليس بواجب إلا ما ذكرناه من المجمَع عليه، والمختلف فيه. ومنها: استدلال لبعض المالكية على عدم وجوب التشهد مما ذكرنا من عدم الذكر، وقد استدل به الحنفية على عدم وجوب السلام، لكن الدليل على وجوبه أقوى، وكذلك دليل إيجاب التشهد؛ للأمر به، هو راجح، وقد تقع المناظرة بين الرجحانين، بأن دلالة اللفظ على الشيء لا تنفي معارضة المانع الراجح؛ لكونها ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 5).

أمرًا يرجع إلى اللفظ، أو إلى أمر لوجود النظر إليه، وذلك يمهد عذر أحد الرجحانين، ويثبت الحكم، ولا ينفي وجود المعارض. أما لو استدل بلفظ يحتمل أمرين على السواء، لكانت الدلالة منتفية، وقد يطلق الدليل على الدليل التام الذي يجب العمل به، وذلك يقتضي عدم وجود المعارض الراجح، لكن الأولى أن يستعمل في دلالة ألفاظ الكتاب، والسنة الطريق الأول، ومن لمدعى المعارض، فعليه البيان. وفي الحديث مسائل: منها: وجوب التكبير بعينه؛ لنصه عليه بقوله: "فكبروا"، وأبو حنيفة يخالف فيه، ويقول: المراد منه التعظيم، وبأي لفظ أتى به حصل، وغيرُه قصر التعظيم بلفظ التكبير، ولم يعده إلى غيره؛ نظرًا إلى التعبد به، والاحتياطُ فيه الاتباع؛ لخصوص التعظيم به، وهو: الله أكبر. وأعلم أن رتب الأذكار مختلفة، فلا يتأدى بذكر ما يتأدى بآخر، ولا يعارض أن يكون ذلك المعنى مفهومًا، فقد يكون التعبدُ واقعًا في التفصيل كما نفهم من الركوع التعظيم بالخضوع، ولو أقام مقامه خضوعا آخر لم يكتف به، فكذلك لفظ التكبير، ويتأيد باستمرار عمل الأمة على الدخول في الصَّلاة به، وهو: الله أكبر، وبما اشتهر في الأصول بأن كل علة مستنبطة تعود على النص بالإبطال أو التخصيص، فهي باطلة، وعلي هذا يخرج حكم هذه المسألة؛ فإنّه إذا لمستنبط من النص أن مطلق التعظيم هو المقصود، بطل خصوص التكبير، فيخرج عن الفائدة. ومنها: وجوبُ القراءة في الصَّلاة في الركعات كلِّها، وهو مذهب الشافعي، وجمهورِ العلماء، لكن ظاهر هذا الحديث أن الفاتحة غيرُ متعينة، والفقهاء الأربعة عينوها للوجوب، إلَّا أن أبا حنيفة منهم جعلها واجبة، وليست بفرض، على أصله في الفرق بين الواجب والفرض. وحكى القاضي عياض عن عليّ بن أبي طالب، وربيعة، ومحمد بن

أبي صفرة، وأصحابِ مالك: أنه لا تجب قراءة أصلًا، وهي رواية شاذة عن مالك، وفي مذهب مالك في قراءة الفاتحة في كل ركعة ثلاثة أقوال: أحدها: كمذهب الجمهور، وتجب في كل ركعة. والثاني: في الأُوليين. والثالث: تجب في ركعة واحدة. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا تجب القراءة في الركعتين الأخيرتين، بل هو بالخيار، إن شاء قرأ، وإن شاء سَبَّح، وإن شاء سكت، والصحيح الذي عليه جمهور العلماء من السلف والخلف: وجوبُ الفاتحة في كل ركعة؛ لقوله - صَلَّى الله عليه وسلم - للأعرابي: "ثم افعلْ ذلكَ في صلاتِك كلِّها"، مع قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تجزئ صلاةٌ لا يُقْرَأُ فيها بفاتحةِ الكتابِ" رواه أبو بكر بن خزيمة، وأبو حاتم بن حبان في "صحيحيهما" من رواية أبي هريرة (¬1)، وهو مبين أن المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ إلَّا بفاتحةِ الكتابِ" (¬2) عدمُ الإجزاء، لا نفيُ الكمال. والجواب عن هذا الحديث: أن المراد منه: "اقرأ ما تيسر": ما زاد على الفاتحة بعدها؛ جمعًا بينهم وبين دلائل إيجابها، ويؤيده الأحاديث الحسنة التي رواها أبو داود في "سننه" مرفوعة: "ثم اقرأْ بفاتحةِ الكتاب، وما تيسر من القرآن" (¬3)، وفي رواية: "وما شاءَ الله" (¬4)، وروى أبو حاتم بنُ حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسَّر، في الصَّلاة (¬5) وقد قال بوجوب الزائد على الفاتحة ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (490)، وابن حبان في "صحيحه" (1789). (¬2) رواه البُخاريّ (723)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (394)، كتاب: الصَّلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. (¬3) انظر تخريجه في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الآتي. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 236)، لكن من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1790)، وأبو داود (818)، كتاب: الصَّلاة، باب: من ترك =

جماعةٌ من التابعين وغيرهم، وقاله شيخنا أبو الفتح بنُ دقيق العيد عن الأكثرين عملًا بهذه الأحاديث، أو أن الحديث محمولٌ على من عجز عن الفاتحة، وعن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: اقرأ بها في نفسك: أن المراد: اقرأها سرًّا، بحيث تُسمع نفسك لا تدبر ذلك، وتكره كما حمله بعض المالكية؛ لأنَّ القراءة لا تطلق إلَّا على حركة اللسان بحيث تُسمع نفسه، ولهذا اتفق العلماء على أن الجنب لو تدبر القرآن بقلبه، من غير حركة لسانه، لا يكون قارئًا مرتكبًا لقراءة الجنب المحرمة، وكذلك لو أَمرَّهُ الجنب على قلبه من غير لفظ، جاز، مع أنه يقال: قرأت بقلبي، فدل على أن مراد أبي هريرة ما ذكرنا، يؤيده فعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قراءته وأصحابه، والله أعلم. ثم مذهب الشافعي ومن وافقه أنها واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد؛ عملًا بحديث أبي هريرة: "اقرأ بها في نَفْسِك" (¬1)، ثم إنه لا يصح أن يكون المراد بقوله: "اقرأ ما تيسر معك" الإجمال الذي يريده الأصوليون؛ فإن المجمل ما لم يتضح المراد منه، وهذا متضح المراد؛ إذ يتبع امتثاله بفعل كل ما تيسر، حتَّى لو لم ترد أحاديث تعيين الفاتحة، لاكتفينا في الامتثال بكل ما تيسر، وإن أريد بالمجمل الذي لا يتعين فرد من أفراده، فهذا لا يمنع الاكتفاء بكل فرد ينطلق عليه الاسم كما في سائر المطلقات، ثم المطلق يجوز تقييده، والعام يجوز تخصيصه، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ إلَّا بفاتحةِ الكتاب" (¬2) مطلَق، وهو مقيد بقيد المتيسر الذي يقتضي التخيير في قراءة كل فرد من أفراد المتيسرات، فليس المطلق مطلقًا هنا من كل وجه، والقيد المخصوص يقابل التعيين، ونظير المطلق الذي لا ينافي التعيين أن يقول: اقرأ قرآنًا، ثم يقول: اقرأ الفاتحة؛ فإنّه يحمل ¬

_ = القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 3)، وأبو يعلى في "مسنده" (1210). (¬1) تقدم تخريجه، في حديث أبي هريرة "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"؛ إذ هو جزء منه. (¬2) تقدم تخريجه.

المطلق على المقيد حينئذٍ، ويوضح ذلك بمثال، وهو أنه لو قال لعبده: اشتر أيَّ لحم، ولا تشتر لحم الضأن، لم يتعارض، ولو قال: اشتر لي لحم شاة، ولا تشتر لحم الضأن، في وقت واحدٍ، لتعارض. وأما التخصيص، فأبعد؛ لأنَّ سياق الكلام يقتضي تفسير الأمر عليه، وإنَّما يقرب هذا إذا جعلت (ما) بمعنى الذي، وأريد بها شيء معين، وهو الفاتحة؛ لكثرة حفظ المصلين لها، فهي المتيسرة. ومنها: أن الركوع واجب، وكذلك الطمأنينة فيه، وقد تخيل من لا يعتقد وجوبها؛ بأن الغاية هل تدخل في المغيّا أم لا؟ فيه مذاهب: فمن فرق بين أن يكون من جنس المغيّا، وصف الركوع بوصف، ووصف الطمأنينة معه بوصف، حتَّى لو فرضنا أنه لو ركع ولم يطمئن، ارتفع مسمى الركوع، ولم يصدق عليه أنه جعل مطلق الركوع مغيًّا للطمأنينة، وادعى بعض المتأخرين أن الطمأنينة لا تجب من حيث إن الأعرابي صَلَّى غير مطئمن ثلاث مرات، والعبادة بدونها فاسدة، ولو كانت فاسدةَ، لكان فعل الأعرابي فاسدًا، ولو كان كذلك، لم يغيره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حال فعله، وإذا تقرر بهده الدعوى عدم الوجوب، حمل الأمر في الطمأنينة على الندب، وفي قوله: "فإنك لم تصل" على عدم الكمال، وهذا التخيل والدعوى فاسدان مخالفان لمدلول اللفظ، ومفهوم الشريعة. ومنها: وجوب الرفع من الركوع والاعتدال فيه، خلافًا لمن نفى وجوب الرفع من الركوع والاعتدال فيه، ومذهب الشافعي وجوبهما، وفي مذهب مالك خلاف في الاعتدال، استدل من قال بعدم الوجوب أن المقصود من الرفع الفصل، وهو يحصل بدون الاعتدال، وهو ضعيف؛ فإن الفصل مقصود، وليس هو كل المقصود، بل هو بصفة الاعتدال مقصودان، والأمر دل عليهما، فلا يجوز تركهما، قريبٌ من هذا الاستدلال في الضعف من قال في عدم وجوب الطمأنينة، بأن الله تعالى قال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فلم يأمر

سبحانه بما زاد على ما يسمى ركوعًا وسجودًا، وهو واهٍ جدًّا لا شك أنّ المكلف لا يخرج عن عهدة الأمر الآخر ممَّا يسمى ركوعًا أو سجودًا، وهو الطمأنينة، إلَّا بفعلها، وبه يحصل امتثاله، كما يحصل امتثال الأمر في الركوع والسجود بفعل مسماهما. ومنها: وجوب السجود، والطمأنينة فيه، والكلام فيه كالكلام في الركوع والرفع منه؛ كما مر. ومنها: وجوب الجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه؛ كما مر. ومنها: وجوب ذلك كله في كل ركعة؛ كما ذكرناه. ومنها: الرفق بالمتعلم والجاهل في التعليم، وملاطفته، وإيضاح المسألة له، وتلخيص المقاصد، والاقتصار على المهم دون المكملات التي لا تحتمل حالة حفظه والقيام بها. ومنها: استدراجُه بفعل ما جهله مرات؛ لعله أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا، فيتذكره، فيفعله من غير تعليم وأمر، وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ، بل من باب تحقق الخطأ وفعله عن جهل، لا عن غفلة ونسيان. ومنها: استحبابُ السلام وتكرارُه على قرب من المتلاقيين، ووجوب الرد عليه في كل مرَّة. ومنها: أن صيغة الرد: وعليكم السلام، أو: وعليك السلام، بالواو، وهذا وجوب الرد مكررًا، وإن لم يكن له ذكر في هذا الحديث، لكنه مذكور فيه في بعض طرقه في الصحيح. ومنها: أن من أخل ببعض واجبات الصَّلاة لا تصح صلاته، ولا يسمى مصليًا، بل يقال: لم يصل، فإن قيل: كيفَ تركه - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي مرارًا صلاة فاسدة؟ فالجواب: أنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم من حاله: أنه لم يأت بها في المرة الثَّانية والثالثة فاسدة، بل كان محتملًا عنده - صلى الله عليه وسلم -: أنه يأتي بها صحيحة، وفعل الرجل الداخل في المرة الأولى إياها؛ على وجه الغفلة والنسيان، ويضمن: أمره له - صلى الله عليه وسلم -

بالرجوع والصلاة، وبيان أنه لم يصل محتملًا، من غير تفصيل. فائدة زائدة: وهي إقامة عذره بالغفلة، والنسيان؛ تجويزًا لذلك، إعلامًا أنه فعله جهلًا، وعنادًا، مع أن ذلك أبلغ في: التعليم، والتعريف، والأدب، وأخذ ما يجهل بقبول له، ولغيره؛ كما أمرهم - صَلَّى الله عليه وسلم - بالإحرام بالحج، ثم بفسخه إلى العمرة؛ ليكون أبلغَ في تقرير ذلك عندهم، والله أعلم. ومنها: أنه ينبغي للجاهل أن يسأل التعليم من العلماء، والاعتراف بعد العلم، وأن يقرَّ به، ويقسم عليه. ومنها: وجوبُ النظر إلى صلاة الجاهل، وأعماله فيها، وتعريفه الصواب، وما جهله، وأن ذلك ليس من باب التجسس، ولا الدخول فيما لا يعني. ومنها: جواز صلاة الفرض منفردًا؛ إذا أتى بفرائضها، وشروطها. ومنها: وجوبُ القيام في الصَّلاة، وقبل الدخول فيها على القادر؛ بقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إذا قُمْتَ إلى الصلاةِ، فَكَبِّرْ" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (724)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (397)، كتاب: الصَّلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث المسيء صلاته.

باب القراءة في الصلاة

باب القراءة في الصَّلاة الحديث الأول عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه -: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا صَلاَةَ لِمَن لَم يَقرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" (¬1). أما عبادة بن الصَّامت: فكنيته: أبو الوليد بنُ الصَّامت بنِ قيسِ بنِ أصرمَ بنِ فهرِ بنِ غنمِ بنِ سالمِ بنِ عوفِ بنِ عمرِو بنِ عوفِ بنِ الخزرج، أنصاريٌّ خزرجيٌّ سالميٌّ، وسالم يقال له: الحبلى؛ لعظم بطنه، ومن نسب إليه، يقال لهم: بنو الحبلى. وعبادة: أحد النقباء ليلة العقبة؛ شهد العقبة الأولى، والثانية، وآخى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بينه، وبين مَرْثَدِ الغَنَويِّ، وشهد بدرًا، والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وشهد بيعةَ الرضوان، ثم وجهه عمرُ إلى الشام قاضيًا، ومعلمًا، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين؛ وهو أول من ولي القضاء بها في بيت المقدس. روي له عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: مئة وأحد وثمانون حديثًا؛ اتفق البُخاريّ ومسلم: على ستة أحاديث، وانفرد البخاري: بحديثين، ومسلم: بآخرين. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (723)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (394)، كتاب: الصَّلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.

روى عنه: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وفضالة بن عبيد، وشُرَحبيل بن حَسَنَةَ، وأبو أُمامة الباهلي، ورِفاعةُ بنُ رافع، ومحمودُ بن الرَّبيع، وبنوه: الوليدُ، وعبيد الله، وداود وبنو عبادة، وجماعة من التابعين المخضرمين، وغيرهم، روي له: أصحاب السنن والمساند. مات عبادة: سنة أربع وثلاثين، ابنَ اثنتين وسبعين سنة، وقال أبو حاتم ابن حبان: ابن ثمانين سنة، واختلف في موضع دفنه، وموته؛ فالأكثر المشهور: أنه دفن ببيت المقدس؛ وهو مشهور بها، قريب من باب الرحمة، وزرته بها. وقال أبو حاتم بن حبان: سكن الشام، ومات بالرملة، ودفن ببيت المقدس (¬1). وأما فاتحة الكتاب: فلها ثلاثة أسماء معروفة: فاتحةُ الكتاب: لأنَّ بها افتتح القرآن. وأُمُّ القرآن، وأُمُّ الكتاب: لأنَّ أصل القرآن منها بدئ، وأُمُّ الشيءِ: أصلُه؛ ومنه سميت مكّة: أُمِّ القرى؛ لأنها أصلُ البلاد، دُحيت الأرض من تحتِها. وقيل: لأنها مقدمة، وإمامٌ لما يتلوها من السور، يبدأ بكتابتها في المصحف، ويُقرأ بها في الصَّلاة. والسبع المثاني: لأنها سبع آيات؛ باتفاق العلماء، وسميت مثاني؛ لأنها تثنى بها في الصَّلاة، وتقرأ في كل ركعة، وقال مجاهد: سميت مثاني؛ لأنَّ الله تعالى استثناها لهذه الأمة، وذخرها لهم (¬2)، وقد امتن الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بها، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 546)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 92)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (3/ 429)، و"الثقات" لابن حبان (1/ 95)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 398)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 807)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 180)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 158)، و "تهذيب الكمال" للمزي (14/ 183)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 5)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 624)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 97). (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 94).

فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] والمراد بها: فاتحة الكتاب. وقوله: "لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحة الكتاب"؛ دليل على: وجوب قراءتها في الصَّلاة. ووجه الاستدلال ظاهر، واعتقد بعض علماء الأصول الإجمال في مثل هذا اللفظ؛ لدورانه بين نفي الحقيقة، أو الكمال: أما الحقيقة: فلا سبيل إليه؛ للزومه؛ ففي كل إضمار مجمل، وهو منتف؛ لأنَّ الإضمار إنَّما احتيج للضرورة إليه، وهي تندفع بإضمار فرد؛ فلا يحتاج إلى أكثر منه، وإضمار الكل يتناقض؛ فإن إضمار الكمال يقتضي: إثباتَ أصل الصحة، ونفيه تعارض الأصل، وليس واحد منهما بأولى من الآخر؛ فيتعين الإجمال. وهذا إنَّما يتم؛ إذا حمل لفظ الصَّلاة، والصيام، وغيرهما؛ على غير عرف الشرع؛ أما إذا حمل على عرف الشرع، فيكون منتفيًا حقيقة، ولا يحتاج إلى الإضمار، والمؤدي إلى الإجمال؛ فإن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه، في الغالب؛ لأنَّه المحتاج إليه، فإنّه بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان موضوعات الألفاظ في اللغة. ثم إن الصَّلاة اسم لمجموع الصَّلاة؛ التي تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم؛ حقيقة، لا لكل ركعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسُ صلواتٍ، كتبهنَّ اللهُ على العباد في اليومِ والليلة" (¬1)، فلو كان كل ركعة تسمى صلاة؛ لقال: سبع عشرة صلاة. وقد يستدل بالحديث من يرى: وجوب قراءة الفاتحة، في كل ركعة؛ بناء ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1420)، كتاب: الصَّلاة، باب: فيمن لم يوتر، والنَّسائيُّ (461)، كتاب: الصَّلاة، باب: المحافظة على الصلوات الخمس، والإمام مالك في "الموطأ" (1/ 123)، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 315)، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.

الحديث الثاني

على: أن كل ركعة تسمى صلاة، وقد بينا عدمه. وقد يستدل به من يرى: وجوبها في ركعة واحدة؛ بناء على: أنه يقتضي حصول اسم الصَّلاة، عند قراءة الفاتحة؛ فإذا حصل مسمى قراءتها، وجب أن تحصل الصَّلاة، والمسمى يحصل بقراءتها مرَّة واحدة؛ فوجب القول بحصول مسمى الصَّلاة، بدليل؛ أن إطلاق اسم الكل، يطلق على الجزء، لكن بطريق المجاز، لا الحقيقة. والجواب عن هذا: أنه دلالة مفهوم؛ على صحة الصَّلاة بقراءة الفاتحة في ركعة؛ فإذا دل المنطوق على وجوبها في كل ركعة، كان مقدمًا عليه. وقد يستدل به من يرى: وجوبها على العموم؛ لأنَّ صلاة المأموم صلاة، فينتفي عند انتفاء قراءتها؛ فإن وجد دليل يقتضي تخصيصه من هذا العموم، قدم، وإلا، فالأصل: العمل به. وفي مذهب الشافعي في وجوب قراءتها على المأموم تفصيل؛ إن كانت سرية: وجبت، بلا خلاف، وإن كانت جهرية: وجبت -أيضًا-، على أصح القولين، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَينِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ؛ بأُمِّ الكِتَابِ، وَسُورَتَيْن؛ يُطَوِّلُ فِي الأولَى، وَيقصِّرُ فِي الثَّانية، وكَانَ يُطَوِّلُ في الأوَلَى؛ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيقَصِّرُ فِي الثَّانِية، وَفِي الرَّكعَتَينِ الأُخْرَيَينِ؛ بِأُمِّ الكِتَابِ (¬1). تقدم الكلام على أبي قتادة، في باب الاستطابة. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (743)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، ومسلم (451)، كتاب: الصَّلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر.

أما الأوليان: فهي تثنية أولى؛ وكذلك الأخريان: تثنية أخرى. وأما ما يسمع على الألسنة؛ من الأولة، وتثنيتها بالأولتين؛ فمرجوح في اللغة. والحكمة في قراءة السورة؛ في الأوليين من الظهر والعصر، وفي الصبح: أن الظهر في وقت قائلة، والعصر في وقت شغل النَّاس؛ بالبيع والشراء، وتعب الأعمال، والصبح في وقت غفلة؛ بالنوم آخر الليل، فطولتا بالقراءة؛ ليدركهما المتأخر؛ لإنشغاله بما ذكرنا؛ من القائلة، والتعب، والنوم، وإن كانت قراءتهما في العصر أقصرَ من الظهر، والصبح. والحكمة في تطويل الأولى على الثَّانية قصدًا: ليدرك المأموم فضيلة أول الصَّلاة جماعة. وقوله: يسمع الآية أحيانًا؛ إسماعه - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أنه كان مقصودًا: فيكون دليلًا على أن الإسرار ليس بشرطٍ لصحة الصَّلاة السرية؛ بل يجوز الجهر، والإسرار فيها، والإسرار أفضل؛ فيكون ذلك بيانًا للجواز، مع أن الإسرار سنة. ويحتمل أنه ليس مقصودًا بل كان دليلًا على أن الإسرار ليس بشرط لصحة السرية، بل يجوز الجهر فيها، والإسرار أفضل، فيكون ذلك بيانًا يحصل بسبق اللسان؛ للاستغراق في التدبر؛ وهو الأظهر، لكن الإسماع يقتضي القصد له، والله أعلم. وفي الحديث مسائل: منها: أنَّ (كان) تقتضي الدوام في الفعل، وتقدم. ومنها: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وتقدم الكلام على ذلك، والاختلاف فيه. ومنها: شرعية السورة في الركعتين الأوليين؛ من الظهر والعصر، وفي حكمهما العشاء؛ وكذلك في الصبح. ومنها: أن السورة لا تشرع في الأخريين؛ من الظهر والعصر؛ وكذلك

العشاء، والثالثة من المغرب، وقد اختلف قول الشافعي في الاستحباب وعدمه؛ على قولين، والمشهور منهما: عدم الاستحباب، إلَّا أن يكون المصلي مسبوقًا. قال الشافعي - رحمه الله -: ولو أدرك المسبوق الأخريين؛ أتى بالسورة في الباقيتين؛ لئلا تخلو صلاته من سورة (¬1). ومنها: أن سورة كاملة أفضل من قدرها من غيرها؛ لارتباط القراءة بعضها ببعض، في ابتدائها، وانتهائها، بخلاف قدرها من طويلة؛ فإنّه قد يخفى الارتباط على أكثر النَّاس، أو كثير منهم، فيبتدئ ويقف على غير مرتبط؛ وهو محذور؛ لإخلاله بنظم القرآن. ومنها: تطويل السورة في الركعة الأولى على الثَّانية؛ في الصبح، والظهر، والعصر؛ وكذلك المغرب، والعشاء، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ من الشافعية، وغيرهم؛ والاختلاف وجهان لأصحاب الشافعي: أشهرهما عندهم: لا تطول الأولى على الثَّانية؛ وهو مخالف لظاهر الحديث، وتأولوه على: أنه طول بدعاء الافتتاح، والتعوذ، أو لسماع دخول داخل في الصَّلاة، لا في القراءة. والثاني: وهو الصحيح، تطويل القراءة في الأولى قصدًا؛ لظاهر السنة؛ فعلى هذا من قال من أصحاب الشافعي: استحباب السورة في الأخريين، اتفقوا على أنها أخف منها في الأوليين. واختلفوا في تطويل الثالثة على الرابعة، إذا قلنا بتطويل الأولى على الثَّانية؛ على وجهين. وقد تقدم ذكر اختلاف السلف؛ في وجوب قراءة السورة مع الفاتحة، ودليله، وعدمه، وفي يده هنا وضوحًا، ولا شك؛ أن مجرد فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على الوجوب، إلَّا أن يبين أنه وقع بيانًا لمجمل؛ فقد ادعي في كثير من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التي قصد إثبات وجوبها، أنها بيان له، لكن ذلك في هذا خارج عما ادعى؛ فإنّه ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 174).

الحديث الثالث

ليس في قراءته - صلى الله عليه وسلم - السورةَ مع الفاتحة هنا، إلَّا مجردُ فعل؛ فافترقا. ومنها: جواز إضافة تسمية الصَّلاة إلى وقتها. ثم أعلم: أنه ليس في هذا الحديث تعرضٌ لتطويل الصَّلاة بالقراءة، ولا قصرها، وقد ثبت في الصحيح بيان ذلك، وسيأتي -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَال: "سَمِعْتُ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يَقْرَأ فِي المَغْرِبِ بالطُّورِ" (¬1). أما جبيرُ بن مطعم - رضي الله عنه -: فكنيته: أبو محمد، ويقال: أبو عَدِي؛ وهو ابنُ مُطْعِمِ بنِ عَدِيّ بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قُصيٍّ، القرشيُّ المدنيُّ. قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ وهو مشرك، في فداء أسارى بدر، ثم أسلم بعد ذلك، قبل عام خيبر، وقيل: أسلم يوم الفتح، وكان من حكماء قريش وساداتهم. وهذا الحديث ممَّا سمعه جبير من النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - حال قدومه؛ وهو مشرك، في فداء الأسارى، لا بعد إسلامه؛ وذلك دليل على: صحة التحمل قبل الإسلام، والأداء بعده، ولا خلاف فيه. روي لجبير عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ستون حديثًا، اتفقا على: ستة، وانفرد البُخاريّ: بحديث (¬2)، ومسلم: بآخر. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (731)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: الجهر في المغرب، ومسلم (463)، كتاب: الصَّلاة، باب: القراءة في الصبح. (¬2) الذي في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 153)، وعنه نقل المؤلف - رحمه الله - معظم =

روى عنه من الصحابة: سليمانُ بن صرد، وجماعةٌ من التابعين، وابناه: محمد، ونافع، ورى له: أصحاب السنن والمساند. مات بالمدينة، سنة أربع، وقيل: سبع، وقيل: تسع وخمسين، وكان يؤخذ عنه النسب (¬1). أما المغرب: فقد وصفها الشرع بوتر النهار؛ لكونها ثلاثية، لا لكونها تصلى في آخر وقت النهار؛ فإنها تصلى في أول الليل بعد غروب الشمس وطلوع الليل من المشرق، وبعد غروب الشمس؛ سميت مغربًا. وأما قراءته - صلى الله عليه وسلم - فيها بالطُّور: فمعناه: في الركعتين الأوليين التي يجهر فيهما بالقراءة، لا في الثالثة منها، والذي استقر عليه العمل عند الفقهاء: تقصيرُ الصَّلاة فيها، وهذا الحديث يخالفه؛ فإن الطور من أوساط سور القراءة في الصَّلاة؛ ومثلُها مشروع في العصر، والعشاء، لا في المغرب؛ وكذلك ما ثبت في قراءته - صَلَّى الله عليه وسلم - في المغرب بالأعراف. فإما أن يحمل الحديثان على: رجحان قراءتهما في المغرب؛ فتقتضيان الاستحباب، أو على: بيان جوازهما، والأفضل: ما استقر عليه العمل من تقصير القراءة؛ لكونهما غير متكرر قراءتهما، فيدلان على الجواز، لا على رجحانهما، وفرق بين كون الشيء مستحبًا، وبين كونه مكروهًا. كيف وقراءته - صَلَّى الله عليه وسلم - في المغرب بالطُّور متقدمًا؟! فإنّه عقب غزوة بدر؛ وهي متقدمة، فإن ذلك في آخر السنة الثَّانية من الهجرة. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: والصحيح عندنا: أن ما صح من ذلك، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ممَّا لم تكثر مواظبته عليه؛ فهو جائز من غير ¬

_ = هذه الترجمة: "اتفق البُخاريّ ومسلم على ستة، وانفرد البُخاريّ بثلاثة، ومسلم بحديث". (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 223)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 50)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 153)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 506)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 95)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 462)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 56).

الحديث الرابع

كراهة؛ لحديث جبير بن مطعم في قراءة الطور في المغرب، ولحديث قراءة الأعراف فيها. وما صحت المواظبة عليه، فهو في درجة الرجحان في الاستحباب، لا أن غيره ممَّا قرأه - صَلَّى الله عليه وسلم - مكروه، والله أعلم (¬1). * * * الحديث الرابع عَنِ البرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أَن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ فِي سَفَرٍ، فَصلَّى العِشَاءَ الأَخِيرةَ، فَقَرأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتيْنِ: بالتِّيْنِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا، أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ - صَلَّى الله عليه وسلم - (¬2). أما البراء بن عازب، فتقدم ذكره. ولا شك أن هذا الحديث، والذي قبله؛ متعلقان بكيفية القراءة في الصَّلاة، وقد ثبت عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في ذلك أفعالٌ مختلفة في الطول والقصر، وصنف بعض الحفاظ فيها كتابًا مفردًا. والذي ذكره الشافعية مختارين له: التطويل في الصبح، والظهر، والتقصير في المغرب، والتوسط في العصر، والعشاء. وغيرهم يوافق في الصبح، والمغرب، ويخالف في الظهر، والعصر، والعشاء، والذي استقر عليه عمل النَّاس: التطويل في الصبح، والتقصير في المغرب. ولعل العلة في شرعية ذلك: انبساط النفس، وانبعاثها للتطويل؛ لراحتها بالنوم، واستيقاظها بعده نشيطة، بخلاف المغرب؛ فإنها تكون منقبضة؛ لتعبها ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 18). (¬2) رواه البُخاريّ (7107)، كتاب: التوحيد، باب: قول النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة"، ومسلم (464)، كتاب: الصَّلاة، باب: القراءة في العشاء.

الحديث الخامس

بالسعي في النهار، وإتعابها، ولحاجة النَّاس إلى عشاء صائمهم، وأكلهم عقب تعبهم، وشغلهم؛ فخففت القراءة بالتقصير لذلك. فحينئذ تكون قراءته - صَلَّى الله عليه وسلم - في العشاء بالتين والزيتون؛ وهي من قصار سور القراءة؛ لكونه في السفر، وهو مناسب للتخفيف؛ لتعب المسافر، وانشغاله. وفي الحديث مسائل: منها: تخفيف القراءة في صلاة السفر. ومنها: تحسين الصوت بالقراءة؛ لأنَّه إذا حسنها في السفر، مع مظنة التعب والمشقة، ففي غيره أولى. ومنها: جواز قول: عشاء الآخرة، مضافًا، والرد على الشعبي في إنكار ذلك. ومنها: نقل أفعاله، وأقواله، وأحواله؛ إلى أمته - صلى الله عليه وسلم -؛ للعلم والعمل بها، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَن رَسُولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فكَانَ يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ فِي صَلاَتهِمْ، فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحْدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "سَلُوهُ: لأَيِّ شَيْءٍ، يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ "، فَسَأَلوهُ، فَقَالَ: لأنَّها صِفَةُ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإنِّي أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أَخْبِرُوهُ أَن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّهُ" (¬1). أما عائشة - رضي الله عنها -، فتقدمت. وأما الرجلُ المبعوثُ على السرية: فلا أعلم اسمَه في المبهمات. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (6940)، كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، ومسلم (813)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.

والسرية: واحدة السرايا؛ وهي: الطائفة التي يبعثها الإمام من الجيش، قبل دخول الحرب، يبلغ أقصاها: أربع مئة، سُموا بذلك: لكونهم خلاصة العسكر، وخياره، مأخوذٌ من الشيء السَّرِيِّ؛ وهو النفيس، وقيل: لأنهم يبعثون سِرًّا وخُفية، وليس بالوجه؛ لأنَّ لام السر: راء، وهذه: ياء (¬1). وأعلم: أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اشتملت على: اسمين من أسمائه تعالى يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى، لم توجد في غيرها، من جميع السور؛ وهو الأحدُ الصمدُ؛ فإنهما يدلان على: أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصات الكمال المعظمة، وبيانه: أن الأحد، والواحد: وإن رجعا إلى أصل واحد لغة، فقد افترقا استعمالًا، وعرفًا؛ وذلك أن الهمزة من أحد، منقلبة عن الواو من وحد، قال النابغة: كَأَنَّ رَحْلي وَقَدْ زَالَ النَّهارُ بِنا ... يَوْمَ الجليلِ عَلَى مُسْتَأنِسٍ وَحِدِ (¬2) فهما من الوحدة؛ وهي راجعة إلى نفي التعدد، والكثرة، غير أن استعمال العرب فيهما مختلف؛ فإن الواحد عندهم: أصل العدد، من غير تعرض لنفي ما عداه، والأحد: يثبت مدلوله، ويتعرض بنفي ما سواه. ولهذا أكثر ما استعملته العرب في النفي، فقالوا: ما فيها أحد، ولم يكن له كفوًا أحد، ولم يقولوا: هنا واحد؛ فإن أرادوا الإثبات، قالوا: رأيت واحدًا من النَّاس، ولم يقولوا: هنا أحدًا. وعلى هذا؛ فالأحد في أسمائه تعالى: مشعر بوجوده الخاص الذكره لا يشاركه فيه غيره؛ وهو المعبر عنه: بوجود الوجود، وربما عبر عنه بعض المتكلمين: بأخص وصفه. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 363). (¬2) انظر: ديوانه، (ق 1: 9)، (ص: 6) من قصيدته المشهورة: يا دارَ ميَّة بالعلياء فالسَّندِ ... أقوت وطال عليها سالف الأبدِ إلَّا أن في الديوان قوله: "بذي الجليل" بدل "يوم الجليل".

وأما الصمد: فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال؛ فإن الصمد: الذي انتهى سؤدده؛ بحيث يُصْمَد إليه في الحوائج كلِّها؛ أي: يُقصد، ولا يقع ذلك تحقيقًا إلَّا ممن حاز جميعَ خصال الكمال حقيقة، وذلك لا يكمل إلَّا لله -عز وجل-؛ فهو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. فقد ظهر بهذين الاسمين؛ من شمول الدلالة على الله تعالى، وصفاته، ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن؛ فلهذا علل حُبَّه إياها؛ لأنها صفة الرحمن. ثم محبة الله تعالى لعباده: إرادةُ ثوابهم، وتنعيمهم، وقيل: محبته لهم نفس الإثابة، والتنعيم، لا الإرادة. ومحبة عباده له -سبحانه وتعالى-: لا يبعد فيها الميل منهم إليه سبحانه؛ وهو متقدس عن الميل؛ فحقيقة محبة عباده له: ميلُهم إليه؛ لاستحقاقه -سبحانه وتعالى- المحبة، من جميع وجوهها، وقيل: محبتهم له: استقامتهم على طاعته، وقيل: الاستقامة ثمرة المحبة. وقولها: "فيختمُ بقلْ هوَ اللهُ أحدٌ"؛ دليل على: أنه كان يقرأ بغيرها، لكنه هل كان يقرأ بها مع غيرها، في ركعة واحدة، ويختم بها في تلك الركعة، أم كان يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة؟ الظاهر: الأول، والثاني: يحتمله اللفظ. وعلى الأول: يكون فيه دليل على: جواز الجمع بين سورتين في ركعة واحدة. وقوله: "لأنها صفةُ الرحمن"؛ يحتمل أنها: لما اختصت بصفات الربِّ تعالى، دون غيرها؛ بمعنى: عدم انحصارها فيها، عَبَّر بها لأنها تضمنت جميعها. ويحتمل: أن يضمر: "ذكر" فيكون المراد أنّ فيها: ذكر صفة الرحمن، فعبر عن ذلك الذكر: بالوصف، وإن لم يكن نفس الوصف. وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أخبروه: أن الله يُحبه"؛ يحتمل: أن محبة الله له بسبب

الحديث السادس

قراءتها، ويحتمل: أنها بسبب ما، شهد به كلامه؛ من محبته لذكر صفة الرب سبحانه، وصحة اعتقاده، ويحتمل: أنه بسبب قراءتها، وما شهد به؛ فإن قراءتها سبب عن المحبة لما ذكر، والله أعلم. وفي هذا الحديث مسائل: منها: استحباب البعوث والسرايا، والتأمير عليهم. ومنها: أن أميرهم يؤمهم، فيصلى بهم. ومنها: جواز قراءة سورتين مع الفاتحة، في ركعة. ومنها: فضيلة سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ولا يدل على أنها أفضل السور، بل أفضل السور سورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ومنها: أنه يشرع لمن فعل فعلًا؛ عبادة، أو غيرها، أن يسأل بعد فعله العلماء به. ومنها: أنه ينبغي للمسؤول العالم أن يسأل السائل عن قصده، وسبب فعله. ومنها: أن محبة الله تعالى، ومحبة صفاته أفضلُ المطلوبات. ومنها: أن ما كان من التلاوة متعلقًا بصفة الرب -سبحانه وتعالى-، كان أفضل التلاوات، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِمُعَاذٍ: "فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، والشَّمْسِ وَضُحَاهَا، واللَّيْلِ إذا يَغْشَى؛ فَإنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ: الكبِيرُ، والصَّغِيرُ، وذو الحَاجَةِ" (¬1). تقدم الكلام على جابر. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (673)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من شكا إمامه إذا طول، ومسلم (465)، كتاب: الصَّلاة، باب: القراءة في العشاء، وهذا لفظ البُخاريّ.

وأعلم: أنه لم يتعين في هذه الرواية؛ في أي صلاة كان القول لمعاذ - رضي الله عنه -، لكن قد عرف أن معاذًا كان يطوِّل في عشاء الآخرة بقومه؛ فيكون ذلك دليلًا على: استحباب قراءة هذه السورة، أو قدرها فيها، لكن هذه السور أفضلُ من غيرها؛ للتحضيض عليها. وكذلك ينبغي المحافظة على كل ما ورد: صحيحًا، أو حسنًا عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ من القراءة المختلفة في الصَّلاة: فعلًا، أو قولًا، أو تقريرًا، أو تحضيضًا، ولقد أحسن من قال من العلماء: اعمل بالحديث، ولو مرَّة؛ تكن من أهله (¬1). وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فإنّه يُصَلِّي وراءك: الكبيرُ، والصغيرُ، وذو الحاجة"؛ فالمراد بالكبير: المسنُّ، ولا شك أن الصَّلاة تختلف إطالتها باختلاف أحوال المصلي؛ إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا؛ فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغلَ للإمام، ولا لهم؛ طوَّلوا، وإذا لم يكن كذلك، خففوا، وقد تراد الإطالة، فيعرِضُ ما يقتضي التخفيف؛ كبكاء الطفل، ونحوه. وعلى ذلك تتنزل الأحاديث؛ في تطويله - صلى الله عليه وسلم -، وتخفيفه، وإذا استقرئ فعله - صَلَّى الله عليه وسلم -: وجد التطويل إمامًا أقل، والتخفيف أكثر؛ فتكون الإطالة لبيان الجواز، والتخفيف لكونه أفضل، وعليه دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن منكم مُنَفِّرِينَ؛ فأَيُّكُمْ صَلَّى بالنَّاس، فَلْيُخفَّفْ؛ فإن فيهم: السقيمَ، والضعيفَ، وذا الحاجةِ" (¬2). وقيل: إن تطويله، وتخفيفه؛ لبيان أن القراءة فيما زاد على الفاتحة؛ لا تقدير فيها، بل يجوز قليلها، وكثيرها؛ بل الواجب الفاتحة فقط؛ لاتفاق الروايات عليها، واختلافها فيما زاد. وبالجملة: السُّنة التخفيفُ؛ للعلَّة التي بينها، وتطويله - صَلَّى الله عليه وسلم - في بعض ¬

_ (¬1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (12/ 165)، عن عمرو بن قيس الملائي قال: إذا بلغك شيء من الخير، فاعمل به ولو مرَّة، تكن من أهله. (¬2) رواه البُخاريّ (372)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من شكا إمامه إذا طول، ومسلم (466)، كتاب: الصَّلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصَّلاة في تمام، عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -.

الأوقات؛ لتحققه انتفاءَ العلَّة، مع قصده إرادة التطويل؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَدخلُ في الصلاةِ، أريدُ إطالتها، فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّزُ في صلاتي؛ مخافَة أن تُفْتَتَنَ أُمُّهُ" (¬1)؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "أَفَتَّانٌ أنتَ؟! " مرتين، أو ثلاثًا (¬2). وإن كان منفردًا، ووجد نفسه مقبلة على التطويل: طؤَل، وإلا: خفَّف؛ ليكون مقبلًا على صلاته، في جميع حالاته؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نعسَ أحدُكم في صلاتِه، فَلْيرقدْ" (¬3)؛ أي: بعد فراغِه منها، وتخفيفها؛ خوفًا من السآمة، وعدم التدبر، والله أعلم. وفي هذا الحديث مسائل: منها: الحثُّ على قراءة هذه السور، ونحوها في الصَّلاة؛ إذا كان إمامًا، وفي حكمه المنفردُ، والمأمومُ الذي لا يسمع قراءة الإمام. ومنها: تعليلُ الأحكام للناس؛ لكونه أدعى إلى القبول، والعمل بالعلم، وأثبت في القلوب. ومنها: الرفق بالضعفاء، والشفقة عليهم؛ في الأمور الأخروية، فما ظنك بغيرها من أمور الدُّنيا؟ ومنها: تحسين العبارة في التعلم بالتحضيض الدال على الأمر من غير تعاطي لفظه؛ مراعاة لنفرة النفوس عنه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (677)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من أخف الصَّلاة عند بكاء الصَّبي، ومسلم (470)، كتاب: الصَّلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصَّلاة في تمام، لكن بلفظ: " .. فأتجوز في صلاتي، ممَّا أعلم من شدة وجد أمه من بكائه". وقد روى البُخاريّ قبله بحديث (676)، عن أنس بن مالك: " ... وإن كان ليسمع بكاء الصَّبي فيخفف، مخافة أن تفتن أمه"، فلعل المؤلف - رحمه الله - قد انتقل نظره في شطر الحديث الأخير إلى هذا، فكتبه، والله أعلم. (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب؛ إذ هو جزء منه. (¬3) رواه البُخاريّ (209)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء من النوم، ومسلم (786)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد، عن عائشة - رضي الله عنها -.

باب ترك الجهر بـ: بسم الله الرحمن الرحيم

باب ترك الجهر بـ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبا بكرٍ، وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- كَانُوا يفتتَحُونَ الصَّلاَةَ، بـ: الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وفي رواية: صلَّيت مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ولمسلم: صلَّيت خلف النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يفتتحون الصَّلاة بالحمد لله رب العالمين، لَا يَذكُرُونَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ؛ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا (¬1). قد تقدم الكلام على أنس، وعلى افتتاح الصَّلاة بـ: الحمد لله رب العالمين، وتأويله؛ فيما مضى، وأنه كان يبتدئ بالفاتحة، قبل السورة. واعلم: أن القراء، والفقهاء من الصحابة، والتابعين، وهَلُمَّ جَرًّا؛ قد اختلفوا في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هل هي آية من الفاتحة، أم لا؟ وهل يجهر بها في الصَّلاة الجهرية، أم لا؟ مع اتفاقهم على: أنها ليست آية أول براءة، وعلى: أنها بعضُ آية في سورة النمل. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (710)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (399)، كتاب: الصَّلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، وهذا لفظ مسلم، إلَّا أن فيه: "يستفتحون بـ: الحمد لله رب العالمين .... " الحديث.

واختلفوا في: أنها آية من أول كل سورة، أو بعض آية، أو ليست بآية؛ على أوجه، وقد صنف فيها جماعة كتبًا من المتقدمين، والمتأخرين، المثبتين لها، والمخالفين، وفي الجهر بها. ولا شك أنها ثابتة في رسم المصحف؛ أول الفاتحة، وكل سورة إلَّا براءة. قال الشعبي: كان يكتب على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في بدء الأمر؛ على رسم قريش: باسمك اللهم، حتى نزلت: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41]، كتب: باسم الله، حتى نزلت: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]، كتب: باسم الله الرحمن، حتى نزلت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، كتب مثلها (¬1). وأما من قال: إنها ليست من الفاتحة، ولا من غيرها من السور، قال: الافتتاح بها للتيمن والتبرك، ومن قال: بأنها من الفاتحة، وليست من سائر السور، قال: إنَّما كتبت للفصل. وقال الثوري، وابن المبارك: هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة، إلَّا سورة التوية. واتفق العلماء على: أن الفاتحة سبع آيات: فالآية الأولى عند من يعدها منها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وابتداء الآية الأخيرة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، إلى آخرها. ومن لم يعدها من الفاتحة، قال: ابتداؤها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وابتداء الآية الأخيرة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}. واحتج من جعلها من الفاتحة، ومن السور: بأنها كتبت في المصحف، بخطِّ القرآن. ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطقات الكبرى" (1/ 263)، وعبد الرَّزاق في "تفسيره" (3/ 81)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (6/ 354 - الدر المنثور للسيوطي).

قال ابن عباس، وسعيد بن جبير: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية السابعة (¬1). روى الدارقطني بإسناد صحيح؛ كلهم ثقات، من رواية أبي هريرة، مرفوعًا: الأمر بقراءتها في الفاتحة، وأنها آية منها؛ وكذلك روى بإسناد صحيح، ورجاله ثقات، عن أم سلمة؛ من فعله - صَلَّى الله عليه وسلم - (¬2). وقوله: "كانوا يفتتحونَ الصلاةَ، بـ: الحمدُ لله ربِّ العالمين": الحمدُ: مرفوع الدال على الحكاية، وإن كان مجرورًا بالباء. وقد استدل به، وبما بعده من الأحاديث؛ على عدم الجهر بالبسملة في الصَّلاة، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ على ثلاثة مذاهب: أحدها: ترك البسملة سرًّا وجهرًا؛ وهو مذهب مالك. الثَّاني: قراءتها سرًّا، لا جهرًا؛ وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد. والثالث: الجهر بها، فيما يجهر فيه؛ وهو مذهب الشافعي، وطوائف من السلف، والخلف. والمتيقن من هذا الحديث؛ عدم الجهر، فأما الترك أصلًا؛ فمحتمل مع ظهوره في قوله: "لا يذكرون: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، في أول قراءة، ولا آخرها". والأحاديث الواردة في قراءتها، والجهر بها في الصَّلاة؛ معتلٌّ أكثرُها، وبعضُها فيه ما يدل على قراءتها في الصَّلاة، إلَّا أنه ليس بصريح الدلالة على خصوص التسمية. ومن صحيحها: حديث المعتمر بن سليمان: أنه كان يجهر بـ: بسم الله ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 36)، وعبد الرَّزاق في "المصنف" (2609)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 200)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 44)، والحاكم في "المستدرك" (2022). (¬2) وقد تقدم تخريجه عند الدارقطني وغيره.

الرحمن الرحيم؛ قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه الحاكم أبو عبد الله، وقال: رواة هذا الحديث كلهم ثقات (¬1). ومن صحيحها -أيضًا-: حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: كنت وراء أبي هريرة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قرأ بأُمِّ القرآن، حتَّى بلغ: ولا الضالين، ثم قال: آمين، وقال النَّاس: آمين، ويقول كما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس: الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده! إنِّي لأشبهُكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه الدارقطني، بأسانيد كل رجالها ثقات (¬2). ومن صحيحها ما رواه الدارقطني بإسناد كلهم ثقات: عن أنس - رضي الله عنه - قال: صلَّى معاويةُ بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة؛ فلم يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها، ولم يكبر حتَّى يهوي، حتَّى قضى تلك الصَّلاة، فلما سلم، ناداه من سمع ذلك من المهاجرين، والأنصار، من كل مكان: يا معاوية! أسرقت الصَّلاة، أم نسيت؟! قال: فلم يصلِّ بعد ذلك، إلَّا قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لأم القرآن، وللسورة التي بعدها، وكبر حتَّى يهوي ساجدًا (¬3). فهذه أحاديث صحاح ثابتة مثبتة للبسملة، والجهر بها؛ فهي مقدمة على الأحاديث بنفيها، ولا يلزم من عدم سماع أنس للبسملة، والجهر بها؛ عدمُ ثبوتها، والجهر بها. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (854)، والدارقطني في "سننه" (1/ 308). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 305)، ورواه أيضًا: النَّسائيّ (905)، كتاب: الافتتاح، باب: قراءة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وابن خزيمة في "صحيحه" (688)، وابن حبان في "صحيحه" (1797). (¬3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 36)، ومن طريقه الدارقطني في "سننه" (1/ 311)، والحاكم في "المستدرك" (851)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 49).

كيف وهي ثابتة في رسم المصحف بخطه؛ باتفاق الصحابة، وإجماعهم على: ألا يثبتوا فيه غيره، وأجمع المسلمون بعدهم عليه، في كل الأعصار إلى يومنا، مع اجتماعهم على: أنها ليست من براءة، ولا يكتب فيها؟! ودليل المالكية على تركها: عملُ أهل المدينة، لكن حديث أنس، وغيره يرد عليه، وليس لهم دليل صريح يدل على الترك مطلقًا، والله أعلم. * * *

باب سجود السهو

باب سجود السَّهو الحديث الأول عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: صلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إحْدَى صَلاتي العَشِيِّ، قَالَ ابنُ سِيرِينَ: وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أنا، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إلى خَشَبةٍ مَعْرُوضَةِ في المَسْجِدِ، فاتَّكأ عَلَيْهَا، كَأنَّه غضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسرَى، وَشَبَّكَ بينَ أَصابعِهِ، وخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَاب المَسْجِدِ، فَقَالُوا: أَقَصِرَتِ الصَّلاَةُ؟ وفي القَوْمَ أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ في يَدَيْه طُولٌ، يقَالُ لَهُ: ذُو اليَدَيْنِ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! أَنَسِيتَ، أَمْ قُصِرَتِ الصَّلاَةُ؟ قَالَ: "لَمْ أَنْسَ، ولَمْ تُقْصَرْ"، فَقَالَ: "أَكمَا يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ؟ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّر، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّر، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَكَبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَنُبِّئْتُ: أَن عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ، قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ (¬1). أما محمد بن سيرين: فكنيته: أبو بكر، وكنية أبيه سيرين: أبو عمرة، ومحمدٌ: تابعيٌّ، ثقة، ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (468)، كتاب: المساجد، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم (573)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: السهو في الصَّلاة والسجود له.

جليل، إمام، رفيع، مأمون، عال، فقيه، ورع، كثير العلم، أنصاريٌّ، مولاهم، بصري، كان مولى أنسِ بنِ مالك خادمِ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وإخوته: معبد، وأنس، ويحيى، وحفصة، وكريمة؛ بنو سيرين، تابعيّون ثقات، وهو وهُمْ: من سبي عين التمر، أسرَهم خالدُ بن الوليد. سمع حديثًا واحدًا من ابن عمر، ودخل على زيد بن ثابت، وسمع جندبَ بنَ عبدِ الله البجليَّ، وأبا هريرةَ، وعبدَ الله بن الزُّبير، وأنسَ بن مالك، وعمرانَ بنَ حُصين، وعديَّ بن حاتم، وسلمانَ بن عامر الضبي، وأمَّ عطية نسيبة الأنصاريةَ، وجماعةً من التابعين، وأخاه معبدًا، وأخته حفصة؛ وهو من أروى النَّاس عن شريح، وعبيدة. واختلف في سماعه من ابن عباس، والصحيح: أنه سمع من عكرمة، عنه. قال أحمد بن حنبل - رحمه الله -: سمع ابن سيرين من: أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، ولم يسمع من ابن عباس شيئًا، كلها يقول: نُبئت عن ابن عباس، وقد سمع من عمران بن حصين. قال: وقال هشام بن حسَّان: أدرك الحسنُ من أصحاب النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، عشرين ومئة، قلت: فابنُ سيرين؛ قال: ثلاثين، وقال هشام: حدثني أصدق من أدركت من البشر: محمدُ بن سيرين، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. وهو أكبر من أخيه أنس، ومات سنة عشر ومئة، بعد الحسنِ بمئة يوم؛ فعلى هذا يكون عمره: نحوَ خمسةٍ وسبعين سنة. روى له: الشيخان، وأصحاب السنن والمساند (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 193)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 90)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 348)، و"حية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 263)، و "تاريخ بغداد" للخطيب (5/ 331)، و "تاريخ دمشق" (53/ 172)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 241)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 99)، و"تهذيب الكمال" للمزي (25/ 344)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 606)، و"تذكرة الحفَّاظ" للذهبي أيضًا (1/ 77)، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 190).

وتقدم أبو هريرة. وأما ألفاظه: فالعشيُّ: ما بين زوال الشمس إلى غروبها؛ ومنه سميت صلاة الظهر، والعصر: صلاتي العشي، وفي "صحيح مسلم": إحدى صلاتي العشي؛ إما الظهر، وإما العصر. وأما الخشبة المعروضة: فهي جذع من نخل؛ كذا جاء مبينًا في "صحيح مسلم"، وكان في قبلة المسجد. وقوله: "وخرجتِ السَّرَعان"؛ هو بفتح السين المهملة، والراء؛ وهو المسرعون إلى الخروج، ويجوز فيه: إسكان الراء؛ نقله القاضي عياض، قال: وضبطه الأصيلي في "البُخاريّ": بضم السين، وإسكان الراء؛ فيكون جمع سريع، كقَفيز وقُفزان، وكَثيب وكثبان، قال الخطابي: وكسر السين خطأ (¬1). وقوله: "أقُصِرتِ الصلاةُ؟ "؛ هو بضم القاف، وكسر الصاد، وروي بفتح القاف، وضم الصاد؛ وكلاهما صحيح، ولكن الأول: أشهر، وأصح (¬2). وقوله: "وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ، يقال له: ذو اليدين"؛ اسم ذي اليدين: الخِرْباق -بكسر الخاء المعجمة، وبالباء الموحدة، وآخره قاف-؛ وهو سلميٌّ من بني سليم. وقول الزُّهريّ: إنه ذو الشِّمالين، عميرُ بن عمرو بن غبشان، من خزاعة، حليفٌ لبني زهرة، وإنه قتل يوم بدر، غلط؛ اتفق أهل الحذق والفهم والحفظ على تغليطه؛ منهم: إمام الفن مسلم بن الحجاج، وأبو عمر بن عبد البر. وقال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على قول الزُّهريّ، في حديث ذي اليدين، وكلهم تركوه؛ لاضطرابه في إسناده، ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 213)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 361)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 68). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 187)، و "شرح مسلم" للنووي (5/ 68).

ومتنه، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن؛ فالغلط لا يسلم منه بشر، والكمال له، وكل أحد يؤخذ من قوله، ويترك، إلَّا النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قوله: "فنبئت أنَّ عُمرانَ بنَ حُصين قال: ثم سَلَّمَ"؛ القائل: هو محمد ابن سيرين الراوي عن أبي هريرة؛ وهو مصرح بأنه لم يسمع ذلك من عمران، بل بواسطة. وأعلم: أن أحاديث باب السهو في الصَّلاة: ستة، وإن كان الماوردي ذكرها: خمسة، وأغفل حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما -؛ وهو: أنه - صَلَّى الله عليه وسلم - سلَّم في ثلاث، ثم صَلَّى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين. الثَّاني: حديث أبي هريرة؛ فيمن شك؛ فلم يدر كم صَلَّى، وفيه: أنه سجد سجدتين، ولم يذكر موضعهما. الثالث: حديث أبي سعيد؛ فيمن شك، وفيه: أنه يسجد سجدتين قبل أن يسلم. الرابع: حديث ابن مسعود؛ وفيه: القيام إلى خامسة، وأنه يسجد بعد السلام. الخامس: حديث ذي اليدين؛ الذي ذكره المصنف، من حديث أبي هريرة؛ وفيه: السلام من اثنتين، والمشي، والكلام، وأنه سجد بعد السلام. قال أبو عمر: وقد روى قصة ذي اليدين: عبدُ الله بن عمر، ومعاويةُ بنُ حُدَيْج -بضم الحاء المهملة-، وعمرانُ بنُ حُصين، وصاحب الجيوش، واسمه: عبد الله بن مسعدة؛ وهو معروف في الصحابة بابنِ مسعدة، له رواية عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). السادس: حديث ابن بحينة، وقد ذكره المصنف بعد هذا؛ وفيه: القيام من اثنتين، والسجود قبل السلام. ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 366)، و "شرح مسلم" للنووي (5/ 72). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 360).

واختلف العلماء، في الأخذ بهذه الأحاديث: فمنهم: من وقف عليها في مواضعها، ومنع القياس عليها؛ كداود الظاهري، ووافقه أحمد في الصلوات المذكورة خاصة، وخالفه في غيرها، وقال: يسجد فيما سواها؛ قبل السلام، لكل سهو. ومنهم من قاس: واختلف هؤلاء: فقال بعضهم: هو غير في كل سهو؛ إن شاء سجد بعد السلام، وإن شاء قبله؛ في الزيادة، والنقص. وقال أبو حنيفة: الأصل فيه: السجود بعد السلام، وتأول باقي الأحاديث عليه. وقال الشافعي: الأصل فيه: السجود قبل السلام، وردَّ بقية الأحاديث إليه. وقال مالك: إن كان السَّهو زيادة: سجد بعد السلام، وإن كان نقصًا: فقبله. فأما الشافعي، فقال في حديث أبي سعيد: فإن كانت خامسة، شفعها، ونص على السجود قبل السلام، مع تجويز الزيادة، والمجوز كالموجود. ويتأول حديث ابن مسعود؛ في القيام إلى خامسة، والسجود بعد السلام؛ على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما علم السَّهو إلَّا بعد السلام، ولو علمه قبله، لسجد قبله. وتأول حديثَ ذي اليدين؛ على أنها صلاة جرى فيها سهو، فسها عن السجود قبل السلام، فتداركه بعده. وأقوى المذاهب هنا: مذهب مالك؛ وهو قول للشافعي، ثم مذهب الشافعي؛ وله قول -أيضًا-: بالتخيير. وعلى القول بالتفرقة؛ بين الزيادة والنقص، وهو أقواها؛ كما ذكرنا؛ لو اجتمع في صلاة سهوان؛ سهو بزيادة، وسهو بنقص: سجد قبل السلام، أو بعده، للزيادة، والنقص؛ أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنَّما اختلافهم في الأفضل.

ولو سها سهوين، فأكثر: كفاه سجدتان للجميع؛ وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وجمهور التابعين. وعن ابن أبي ليلى: لكل سهو سجدتان؛ وفيه حديث ضعيف، والله أعلم. وفي حديث ذي اليدين هذا فوائد؛ أصولية، وفروعية: أما الأصولية: فمنها: ما يتعلق بأصول الدين؛ فهو في موضعين: أحدهما: جواز السَّهو في الأفعال على الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه-. والثاني: في الأقوال. أما الأول: فجوازه مذهب عامة العلماء، والنظار؛ وهذا الحديث يدل عليه؛ وهو مصرح به في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - ينسى؛ كما تنسون (¬1)؛ وهو ظاهر القرآن. وشذت طائفة من المتوغلين، فقالت: لا يجوز السَّهو عليه، وإنَّما ينسى قصدًا، أو يتعمد صورة النسيان؛ وهذا باطل؛ لإخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه ينسى، ولأن الأفعال العمدية تبطل الصَّلاة؛ ولأن صورة الفعل النسياني كصورة الفعل العمدي، وإنَّما يتميزان للغير بالإخبار. والذين أجازوا السَّهو قالوا: لا يقر عليه؛ فيما طريقه البلاغ الفعلي، اختلفوا هل من شرط التنبيه الاتصال بالحادثة، أم لا يشترط، بل يجوز التراخي إلى أن تنقطع مدة التبليغ؛ وهو العمر؟ وهذه الواقعة -في حديث ذي اليدين- قد وقع البيان فيها على الاتصال، ومذهب أكثرين: أنه يشترط تنبيهه - صلى الله عليه وسلم - على الفور متصلًا بالحادثة، ولا يقع فيه تأخير. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (392)، كتاب: القبلة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (572)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: السَّهو في الصَّلاة والسجود له.

وجوزت طائفة: تأخيره مدة حياته - صلى الله عليه وسلم -؛ واختاره إمام الحرمين. ومنعت طائفة من العلماء: السَّهوَ عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ في الأفعال البلاغية، والعبادات؛ كما أجمعوا على منعه، واستحالته عليه؛ في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك؛ وإليه مال الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني. والصحيح: الأول؛ فإن السَّهو لا يناقض النبوة، وإذا لم يقر عليه، لم يحصل فيه مفسدة، بل يحصل فيه فائدة؛ وهو بيان أحكام التأسّي، وتقرير الأحكام. وقسم القاضي عياض - رحمه الله - السَّهو عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ في الأفعال إلى: ما لا طريقه البلاغ، وإلى ما طريقه البلاغ، ولإتيان الأحكام من الأفعال البشرية؛ ممَّا يختص به: من العبادات، والأذكار القلبية. وأبى ذلك بعض من تأخر عن زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وإقراره؛ كله بلاغ، واستنتج بذلك: العصمة في العمل؛ بناء على المعجزة، تدل على العصمة، فيما طريقه البلاغ؛ وهذه كلها بلاغ، تتعلق بها العصمة، ولم يصرح في ذلك؛ بالفرق بين محمد، أو سهو، وأخذ البلاغ في الأفعال؛ من حيث التأسي به - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ فإن سوى بين السَّهو، والعمد فيها؛ فهذا الحديث يرد عليه. قال القاضي عياض: واختلفوا في جواز السَّهو عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ، وبيان أحكام الشرع؛ من أفعاله، وعاداته، وأذكار قلبه؛ فجوزه الجمهور. الموضع الثَّاني: جوازه في الأقوال؛ وهو ينقسم إلى: ما طريقه البلاغ؛ فالسهو فيه ممتنع إجماعًا؛ كامتناع العمد فيه، قطعًا وإجماعًا. وأمَّا السَّهو في الأقوال الدنيوية، وفيما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التي لا تستند الأحكام إليها، ولا أخبار المعاد، وما لا يضاف إلى وحي: فجوزه قوم؛ إذ لا مفسدة فيه، وليس هو من باب التبليغ الذي يتطرق به القدح في الشريعة.

والحق الذي لا مرية فيه، ولا تردد، ولا ترجيح: القولُ بمنع ذلك على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- في كل خبر من الأخبار؛ كما لا يجوز عليهم خُلْفٌ في خبر؛ لا عمدًا، ولا سهوًا، لا في صحة، ولا في مرض، ولا رضا، ولا غضب. وحسبك في ذلك: أن سيرة [نبينا]- صَلَّى الله عليه وسلم -، وكلامه، وأفعاله؛ مجموعة معتنًى بها على مر الزمان، يتداولها الموافق، والمخالف، والمؤمن، والمرتاب؛ فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول، ولا اعتراف بوهم في كلمة. ولو كان، لنقل؛ كما نقل سهوه في الصَّلاة، ونومه عنها، واستدراكه رأيه في تلقيح النخل، وفي نزوله بأدنى مياه بدر، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ لا أحلفُ على يمين، فأرى غيرَها خيرًا منها؛ إلَّا فعلتُ الذي هو خيرٌ، وكَفَّرْتُ عن يميني" (¬1)، وغير ذلك. وأمَّا جواز السَّهو عليه؛ في الاعتقادات في أمور الدنيا: فغير ممتنع. والذي يتعلق بما ذكرنا، من هذا الحديث؛ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم أنَس، ولم تُقْصَر"، وفي رواية أخرى: "كل ذلكَ لم يكنْ"، وقد اعتذر عن ذلك بوجوه: الأول: أن المراد: لم يكن القصر والنسيان معًا، وكان الأمر كذلك. الثَّاني: أن المراد: الإخبارُ عن اعتقاد قلبه، وظنه؛ وكأنه مقدر النطق به، وإن كان محذوفًا؛ فإنّه لو صرح به، ثم بأن خلافُه في نفس الأمر، لم يقتض أن يكون خلافه في ظنه؛ فإذا كان لو، صرح به، وقيل: لم يكن ظني؛ لم يكن مغايرًا له؛ فكذلك إذا كان مقدرًا. وهذان الوجهان؛ يختص الأول منهما: برواية من روى كل ذلك: "لم يكنْ"، فأما من روى: "لم أنَس، ولم تقصرْ"؛ فلا يصح فيه هذا التأويل. وأمَّا الوجه الثَّاني: فهو مستمر على مذهب من يرى؛ أن مدلولَ اللفظ ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (6247)، في أول كتاب الأيمان والنذور، عن عائشة - رضي الله عنها -. وفي الباب: عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-.

الخبري هو: الأمور الذهنية، فإنّه لم يذكر ذلك؛ فهو الثابت في نفس الأمر، ولا يصير كالملفوظ به. الثالث: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم أنس"، يُحمل على السلام؛ أي: إنه كان مقصودًا، لكنه بنى على التمام، ولم يقع سهوًا في نفسه، وإنَّما وقع في عدد الركعات؛ وهذا بعيد. الرابع: الفرق بين السَّهو، والنسيان؛ فإن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، كان يسهو، ولا ينسى، ولذلك نفى عن نفسه النسيان؛ لأنَّه غفلة، ولم يغفل عنها، وكان شغله بحركات الصَّلاة وما فيها، شغلًا بها، لا غفلة عنها؛ ذكر ذلك القاضي عياض (¬1). قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وليس هذا في تلخيص للعبارة عن حقيقة السَّهو والنسيان، مع بعد الفرق بينهما؛ في استعمال اللغة؛ وكأنه يتلوح من اللفظ، على أن النسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو: عدم النسيان لأمر يتعلق به، وبكون الإعراض نسيانًا عن تفقد أمورها حتَّى يحصل عدم الذكر، لا لأجل الإعراض؛ وليس في هذا -بعد ما ذكرناه- تفريق كلي يخص السَّهو والنسيان، والله أعلم (¬2). الخامس: ذكر القاضي عياض - رحمه الله -: أنه ظهر له ما هو أقرب وجهًا، وأحسن تأويلًا؛ وهو أنه إنما أنكر - صلى الله عليه وسلم -: فنسيتَ، المضافة إليه؛ وهو الذي نهى عنه بقوله: "بِئْسَما لأَحَدِكُمْ أَنْ يقولَ: نَسيتُ، ولكنه نُسِّيَ" (¬3). وقد روي: "إنِّي لا أَنسى -على النفي-، ولكن أُنَسَّى" (¬4)، وقد شك ¬

_ (¬1) انظر كلام القاضي عياض - رحمه الله - في: "شرح مسلم" للنووي (5/ 62). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 28). (¬3) رواه البُخاريّ (4744)، كتاب: فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم (790)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضائل القرآن وما يتعلق به، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 100) بلاغًا. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 375): أما هذا الحديث بهذا اللفظ، فلا أعلمه يروى عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه مسندًا ولا مقطوعًا =

الراوي؛ على رأي بعضهم في الرواية الأخرى، هل قال: أَنسى، أو أُنَسّى؟ وأن "أو" هنا للشك، وقيل: بل للتقسيم. وإن كان هذا: يكون مرَّة من قبل شغله، وسهوه، ومرة يغلب على ذلك، ويجبر عليه ليسن؛ فلما سأله السائل بذلك اللفظ، أنكره، وقال: "كلُّ ذلك لم يكنْ"، وفي الرواية الأخرى: "لم أَنس، ولم تُقْصَرْ"، أما القصرُ فتبين؛ وكذلك لم أَنس حقيقةً من قبل نفسي وغفلتي عن الصَّلاة، ولكن الله نَسّاني، لأَسُنَّ. وأعلم: أنه ثبت في الصحيح؛ من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو حدثَ في الصَّلاة شيءٌ، لأنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر، أَنْسى كما تنسون؛ فإذا نَسيتُ فذكِّروني" (¬1). وهذا يعترض على ما ذكره القاضي عياض؛ من أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر نسبة النسيان إليه، وقد نسبه إليه؛ في حديث ابن مسعود هذا مرتين، وما ذكره -أيضًا-؛ من أنه - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "بئسما لأحدِكم أن يقولَ: نَسيتُ آية كذا" (¬2). وهذا ذم لإضافة نسبة النسيان إليه، ولا يلزم من الذم للإضافة إليها؛ الذم لإضافته إلى كل شيء؛ فإن الآية من كلام الله المعظم، ويقبح بالمسلم إضافة كلام الله تعالى، ونسيانه، إلى نفسه؛ وليس هذا المعنى موجودًا، في كل نسيان ينسبه إلى نفسه؛ فلا يلزم مساواة غير الآية لها. وكيفما كان، لم يلزم من الذم الخاص الذم العام لو لم تظهر مناسبة، وإذا لم يلزم ذلك؛ لم يلزم أن يكون قول القائل، الذي أضافه إلى عدد الركعات؛ داخلًا تحت الذم، فينكر، والله أعلم. ولما تكلم بعض المتأخرين؛ على هذا الموضع، ذكر أن التحقيق في الجواب عنه: أن العصمة إنَّما تثبت في الإخبار عن الله تعالى؛ في الأحكام، ¬

_ = من غير هذا الوجه، والله أعلم، ومعناه صحيح في الأصول. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا.

وغيرها؛ لأنَّه الذي قامت عليه المعجزة، أما إخباره عن الأمور الوجودية: فيجوز عليه النسيان؛ لو ضعفنا القول به، والله أعلم. وأمَّا ما يتعلق بأصول الفقه؛ وهي قواعد فروع الدين: فقد احتج بهذا الحديث على: جواز الترجيح بكثرة الرواة؛ من حيث إن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - طلب إخبار القوم، بعد إخبار ذي اليدين. وفي ذلك بحث؛ من حيث إنه ليس المطلوب هنا السؤال؛ للتحمل، والإخبار، بل لتقوية الأمر المسؤول عنه، وتحقيقه، لا للترجيح للتعارض، والله أعلم. وأمَّا ما يتعلق بالفروع؛ ففي هذا الحديث فوائد: منها: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - صَلَّى مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - هذه الصَّلاة، التي سلم منها من اثنتين، ومعلوم أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وأنه لم يحصل له صحبة مع النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سوى هذه المدة؛ فيكون حديث ذي اليدين متأخرًا؛ فلا يكون منسوخًا. ومنها: أن نسيان الراوي لعين المروي لا يمنع الرواية، خصوصًا إذا لم يتلبس بإيهامه حكم. ومنها: أن نية الخروج من الصَّلاة، وقطعها، إذا كانت بناء على ظن التمام؛ لا يوجب بطلانها. ومنها: أن السلام سهوًا لا يبطل الصَّلاة. ومنها: أن كلام الناسي لا يبطل الصَّلاة؛ وكذلك الذي يظن أنه ليس منها، لا يبطلها؛ وبه قال جمهور العلماء؛ من السلف، والخلف، وبه قال ابن عباس، وعبد الله، وعروة؛ ابنا الزُّبير، وعطاء، والحسن، والشعبي، وقتادة، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وجميع المحدثين. وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري؛ في أصح الروايتين عنه: تبطل

صلاته؛ بالكلام ناسيًا، أو جاهلًا؛ لحديث ابن مسعود، وغيره، وزعموا: أن قصة ذي اليدين منسوخة به؛ بناء على أن ذا اليدين قتل يوم بدر، وأن قصته في الصَّلاة كانت قبل بدر. قالوا: ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه؛ وهو متأخر الإسلام عن بدرٍ؛ لأنَّ الصحابي قد يروي ما لا يحضره؛ بأن سمعه من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو صحابي آخر. والجواب عن ذلك: أنه لا يصح ادعاء النسخ لحديث أبي هريرة بحديث ابن مسعود؛ لاتفاق العلماء من المحدثين، وأهل السير على: أن حديث ابن مسعود في تحريم الكلام في الصَّلاة كان بمكة، حين رجع من أرض الحبشة، قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بالمدينة متأخرًا عن عام خيبر، بدليل ما ذكرناه؛ من شهوده القصة، وإسلامه عام خيبر، كما تقدم، وقد بينا غلط الزُّهريّ فيما يتعلق بـ "ذي اليدين" من تسميته ذي الشِّمالين، وأنه استشهد يوم بدر. ومنها: أن كلام العمد لإصلاح الصَّلاة يبطلها عند جمهور الفقهاء، وروى ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لو تكلم بما تكلم به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الاستفسار والسؤال عند الشَّك وإجابة المأمومين: أن صلاتهم تَامَّة على مقتضى الحديث، والذين منعوا من هذا اختلفوا في الاعتذار عن هذا الحديث على وجوه: منها: أنه منسوخ، وقد بينا بطلانه. ومنها: التأويل لكلام الصحابة بأنه الإشارة والإيماء، لا بالنطق، وفيه بعد؛ لأنَّه خلاف الظاهر من حكاية الراوي لقولهم، وإن كان قد ورد في حديث حماد بن زيد في رواية لأبي داود بإسناد صحيح: "أن الجماعة أَوْمَؤوا" (¬1) أي: نعم، فيمكن الجَمْعُ بين أن يكون بعضُهم نقل ذلك إيماء، وبعضهم كلامًا، واجتمع الأمران في حق بعضهم. ومنها: أن كلامهم كان إجابة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإجابته واجبة، واعتَرَض عليه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1008)، كتاب: الصَّلاة، باب: السَّهو في السجدتين.

بعض المالكية بأن قال: إن الإجابة لا تتعين بالقول، فيكفي فيه الإيماء، وعلي تقدير أن يجب لا يلزم منه الحكم بصحة الصَّلاة؛ لجواز أن يجب الإجابة، ويلزمهم الاستئناف. ومنها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم معَتقِدًا لتمام الصَّلاة، والصحابة تكلموا مجوزين النسخَ، فلم يكن كلام واحد منهم مبطِلًا، وهذا يضعفه ما في "كتاب مسلم" أن ذا اليدين قال: أَقُصِرَتِ الصلاةُ يا رسول الله أم نسيتَ؟ فقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "كل ذلك لم يكن"، فقال: قد كان بعضُ ذلك يا رسول الله، فأقبل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على النَّاس فقال: "أَصدقَ ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم يا رسول الله، بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ذلك لم يكن" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ذلك لم يكن" يدلُّ على عدم النسخ، فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ. قال شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -: وليتنبه ها هنا لنكتة لطيفة في قول ذي اليدين: قد كان بعضُ ذلك، بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ذلك لم يكنْ"؛ فإن قوله: "كل ذلك لم يكنْ" تضمن أمرين: أحدهما: الإخبارُ عن حكم شرعي، وهو عدم القصر. والثاني: الإخبار عن أمر وجودي، وهو النسيان، وأحد هذين الأمرين لا يجوز فيه السَّهو، وهو الإخبار عن الأمر الشرعي، والآخر متحقق عند ذي اليدين، فلزم أن يكون بعض ذلك كما ذكر (¬2). ومنها: أن الأفعال الكثيرة التي ليست من جنس أفعال الصَّلاة إذا وقعت سهوًا لا تبطل الصَّلاة؛ بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - جرى منه أفعال كثيرة: مشيُه - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى منزله، وإتيانُه جذعًا في قبلة المسجد، واستناده إليه لما خرج سرعان النَّاس، وكلامُه لذي اليدين وغيره، وتقدُّمه لإتمام ما بقي من صلاته، وفي هذه المسألة وجهان ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 32).

لأصحاب الشافعي - رحمه الله -، الصحيح عند المتولي: ما ذكرنا، والمشهور في المذهب: أنها تبطل، وهو مشكل، وتأويل الحديث عليه صعب، أما الأفعال القليلة أو الكثيرة المتفرقة، فإنّها لا تبطل قطعًا، خصوصًا إن كانت لعذر، والله أعلم. ومنها: جوازُ البناء على الصَّلاة بعدَ السلام سهوًا، وجمهورُ العلماء عليه؛ سواء كان السَّهو بعد ركعة أو ركعتين أو ثلاثًا؛ لأنَّ الأصل في جواز البناء إذا سلم سهوًا؛ لهذا الحديث، وهو ركعتان، وفرعه السلام من ركعة أو ثلاث، فهو في معنى الأصل، ومساو له، وإن خالف القياس عند بعض أهل الأصول، وقد علمنا أن المانع لصحة الصَّلاة إن كان هو الخروج منها بالنية والسلام، وهذا المعنى قد ألغي عند ظن التمام بالنص، فإذًا الفرع في معنى الأصل بلا فرق. وذهب سحنون من المالكية إلى تخصيص جواز البناء إذا سلم من ركعتين، على ما ورد في الحديث، ولعله رأى أن البناء بعد قطع الصَّلاة ونية الخروج منها على خلاف القياس، وإنَّما ورد النص في هذه الصورة المعينة على خلافه، وهو السلام من اثنتين، فيقتصر على مورد النص، ويبقى فيما عداه على القياس. ومنها: تقدير القرب في جواز البناء بما ورد في هذا الحديث، وما عداه طويل، فلا يجوز فيه البناء، وهو وجه في مذهب الشافعي، وقدره بعضهم بالعرف، واختاره جمهور الشافعيين، وقدره بعضهم بمقدار الصَّلاة، وبعضهم بمقدار ركعة، وهو مرجوح عندهم، وأبى ذلك بعض المتقدمين، وقال بجواز البناء وإن طال، ما لم ينتقض فيه وضوءه، وروي ذلك عن ربيعة، وقيل نحوه عن مالك، وليس بمشهور عنه، والمختار الأول، خصوصًا على رواية من روى أنه - صلى الله عليه وسلم - وصل إلى منزله، ثم خرج منه. ومنها: شرعيةُ سجود السَّهو.

ومنها: أن سجود السَّهو سجدتان. ومنها: أنه في آخر الصَّلاة، وقيل في حِكْمَةِ كونه في آخرها احتمال طرآن سهوٍ آخر، فيكون جابرًا للكل، ويتفرع على ذلك أنه لو سجد، ثم تبيّن أنه لم يكن في آخر الصَّلاة، أعاده في آخرها، ويتصور ذلك في صورتين: إحداهما: أن يسجد للسهو في الجمعة، ثم يخرج الوقت، وهو في السجود الأخير، فيلزمه إتمام الظهر، ويعيد السجود. والثانية: أن يكون مسافرًا، فيسجد للسهو، وتصل به السفينة إلى الموطن، أو ينوي الإقامة، فيتم ويعيد، والله أعلم. ومنها: أن سجود السَّهو يتداخل، ولا يتعدد بتعداد أسبابه؛ فإنّه قد تعدد في هذا الحديث الجنس في القول والفعل، ولم يتعدد في السجود، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، ومنهم من قال بتعدد السَّهو، ومنهم من فرق بين اتحاد الجنس وتعدده، فإن اتحد، لم يتعدد، وإلا تعدد. ومنها: أن محل سجود السهو بعد السلام، وقد تقدم في الكلام على ألفاظ هذا الحديث اختلاف العلماء في ذلك، وتقرير مذهب الشافعي، وتأليف الأحاديث عليه، ومأخذنا في المذاهب، وأن أقواها مذهب مالك، وهو ما كان من نقص فمحله بعد السلام، وأومأ إليه الشافعي في القديم، والأحاديث ثابتة في السجود بعد السلام، في الزيادة، وقبلَه في النقص، وعلى ذلك جمع مالك - رحمه الله تعالى- بينها، والذين قالوا بأن الكل قبل السلام؛ كالشافعي، ومن وافقه أو تابعه من العلماء، اعتذروا عن الأحاديث التي جاءت بعد السلام بوجهين: أولهما: ادعاء النسخ بقول الزُّهريّ أن آخر الأمرين من فعل النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - السجود قبل السلام. وثانيهما: أن الذين رووه قبله من متأخري الإسلام وأصاغر الصحابة. وقد اعترض على رواية الزُّهريّ بالإرسال، ولو كانت مسندة، فشرط النسخ

التعارض باتحاد المحل، ولم يقع ذلك مصرحًا به في رواية الزُّهريّ، فيحتمل أن يكون الآخر هو السجود قبل السلام، لكن في محل النقص، وإنَّما يقع التعارض المحوج إلى النسخ لو بين أن المحل واحد، ولم يبين ذلك، واعترض على أن الذين رووا السجود قبل السلام من متأخري الإسلام وأصاغر الصحابة بأنه: لا يلزم منه التحمل حال الإسلام وكبرهم، بل يكون قبلهما، ثم رووه بعدهما، من الاعتذار عن الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام التأويل، بأن المراد بالسلام السلام على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي في التشهد، أو يكون بأخيرهما بعده على سبيل السَّهو، وهما بعيدان؛ لسبق الفهم في السلام هو الذي يقع به التحلل، لا الذي في التشهد، والأصل عدم السَّهو وبطريق إلى الأفعال الشرعية من غير دليل سائغ، وأيضًا فهو مقابل بعكسه، وهو أن يقول الحنفي: محله بعد السلام، وتقدمه قبله على سبيل السَّهو، ومن الاعتذار عنها الترجيح بكثرة الرواة، وهو إن صح، فالاعتراض عليه بأن طريقة الجمع أولى من الترجيح؛ لأنَّه إنَّما يصار إليه عند عدم إمكانه، ولا بد فيه من النظر في محل التعارض، وإيجاد موضع الخلاف من الزيادة والنقصان. وأمَّا القائلون بأن محله بعد السلام مطلقًا، فاعتذروا عن الأحاديث المخالفة لقولهم بالتأويل، إما بأن المراد بقوله: قبل السلام: السلام الثَّاني، أو بأن المراد بقوله: وسجد سجدتين: سجوَدَ الصَّلاة، وما ذكره الأولون من احتمال السَّهو لا يكون إلَّا بعد التسليمتين اتفاقًا. وذهب أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى الجمع بين الأحاديث بطريق آخر غير ما ذهب إليه مالك، وهو أن يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يرد فيه حديث، فمحل السجود فيه قبل السلام، وكان هذا نظرًا إلى أن الأصل في الجائز أن يقع في المجبور، فلا يخرج عن هذا الأصل إلَّا في مورد النص، ويبقى فيما عداه على الأصل. وهذا المذهب مع مذهب مالك متفقان في طلب الجمع وعدم سلوك

الترجيح، لكنهما اختلفا في وجه الجمع، وترجح قول مالك بذكر المناسبة في أن سجود السَّهو عند النقص قبل السلام، وعند الزيادة بعده، وإذا ظهرت المناسبة، وكان الحكم على وفقها، كانت علة، وإذا كانت علة، عم الحكم جميع محالها، فلا يتخصص ذلك بمورد النص. ومنها: أن حكم سهو الإمام يتعلق بالمأمومين، فيسجدون معه، وإن لم يسهُوا؛ بدليل أن القوم سجدوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسهوه في هذا الحديث لما سجد، وهذا إنَّما يتم في حق من لم يتكلم من الصحابة، ولم يمش، ولم يسلم أنه كان لذلك. ومنها: أن التكبير في سجود السَّهو كما في سجود الصَّلاة. ومنها: أنه لا يشرع التشهد بعد سجود السَّهو؛ فإنّه لم يذكر في الحديث، فدل على عدمه في الحكم، وقد فعل العلماء في استدلالهم ذلك كثيرًا، فيقولون: لو كان، لذكر، وقد اختلف أصحاب مالك فيه إذا كان سجودُ السَّهو قبل السلام. ومنها: جواز رجوع المصلي في قدر صلاة نفسه إلى قول غيره؛ إمامًا كان أو مأمومًا، وهو وجه مرجوح في مذهب الشافعي، ذكره صاحب "التتمة"، والجمهور على خلافه، وقالوا: لا يعمل المصلي إلَّا على يقين نفسه، إلَّا أن يكون المجيزون ممن يحصل اليقين بقولهم، وهو أن يبلغوا إلى حد التواتر، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان سؤاله لهم ليتذكر، لا رجوعًا إلى قولهم، فلما ذكروه، ذكر، فعلم السَّهو، فبنى عليه، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره، رجع إليه لما قالَ ذو اليدين حين قال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لم تقصر، ولم أنس"، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثَّاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُحَيْنة، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الركْعَتينِ الأولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إذَا قَضَى الصلاَةَ، وانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ (¬1). أما عبدُ الله بن بُحينة: فهو منسوب هنا إلى أمه، واسمُ أبيه: مالك، وتقدم الكلام عليه في آخر باب صفة صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وأعلم أن كل واحد من التشهدِ الأول وجلوسِه يُشرع لتركه سجودُ السَّهو، وفي هذا الحديث قد تُركا، وسُجد لتركهما سجدتا السَّهو، فيستدل به على أنه إذا سها سهوين أو أكثر: أنه يكفيه سجدتان، وحينئذ يحتمل أن السجود لترك الجلوس، وجاء من ضرورته الوجودية تركُ التشهد، فلا يتعين أن الحكم في السجود ترتَبَ على ترك التشهد فقط. وقد دل هذا الحديث على شرعية سجود السَّهو لما نقص من الصَّلاة قبل السلام، فإنّه نقص من الصَّلاة المذكورة الجلوس الأوسط وتشهده، ويلزم من ذلك أن الجلوس المذكور وتشهده ليسا بواجبين؛ لأنَّ الواجب لا يجبر إلَّا بتداركه وفعله، فلما جبرا بالسجود، علمنا عدم وجوبهما، ولزم من ذلك عدم تكرر السجود عند تكرير السَّهو؛ لتركه الجلوسَ وتشهدَه، وسجودُه لهما سجدتان من غير تكرير، وهذا إذا ثبت أن ترك التشهد الأول بمفرده موجبٌ. وفيه دليل على: وجوب متابعة الإمام، وإن ترك بعضًا مسنونًا من الصَّلاة، وهذا لا إشكال فيه، خصوصًا على قول من يقول: إن الجلوس الأول سنة، وهو ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (795)، كتاب: صفة الصَّلاة، باب: من لم يَر التشهد الأول واجبًا، ومسلم (570)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: السَّهو في الصَّلاة والسجود له.

مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والجمهور، وأحمد. وقال أحمد في طائفة قليلة: هما واجبان، يُجبران بالسجود لسهوهما على مقتضى الحديث، لكن متابعة الإمام واجبة عند جميعهم؛ لاتفاقهم على أن من ترك سنة أو واجبًا مجبورًا، وتلبس بواجب: أنه يستمر فيه، ولا يجوز له الرجوع إلى ما ترك، فلا يترك المأموم واجبين، أحدهما متابعة الإمام، والثاني التلبس بواجب، وهو القيام لأجل المحافظة على سنة أو واجب مجبور، والله أعلم. وفيه دليل على: شرعية التكبير لسجود السَّهو، وهو مجمَع عليه، واختلف العلماء فيما إذا فعلهما بعد السلام، هل يحرم، ويتشهد ويسلم؟ والصحيح في مذهب الشافعي أنه يسلم، ولا يتشهد؛ كصلاة الجنازة. وقال مالك: يتشهد، ويسلم في سجود السَّهو بعد السلام. واختلف قوله: هل يحرم لهما، ويجهر بسلامهما كسائر الصلوات أم لا؟ وقد ثبت السلام لهما إذا فعلتا بعد السلام في حديث ابن مسعود، وحديث ذي اليدين، ولم يثبت في التشهد حديث. ثم سجود السَّهو يشرع في صلاة التطوع كالفرض عند جمهور العلماء، وقال ابن سيرين وقتادة: لا سجود للتطوع، وهو قول غريب ضعيف عن الشافعي، والله أعلم. * * *

باب المرور بين يدي المصلي

باب المرور بين يدَي المصلِّي الحديث الأول عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَاري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لوْ يَعْلَمُ المَارُّ بينَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْم، لَكَانَ أَنْ يقفَ أَرْبَعِينَ خَيرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ"، قَالَ أَبُو النَّضَرِ: لَا أَدْرِي قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةُ (¬1). أما أبو جُهيم: فاسمه: عبدُ الله بنُ جُهيمٍ الأنصاريُّ، كذا قاله الحافظ أبو عمرَ بنُ عبد البر في كتابه "الكنى" من معرفة الصحابة (¬2)، ونقله عن مالك بن أنس، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن بشرِ بنِ سعدٍ، عن أبي جُهيم، قال. وذكره وكيعٌ عن سفيانَ الثوريّ، عن سالم أبي النضر، عن بُسْرِ بن سعيد، عن عبد الله بن جُهيم، قال، فلم يذكر كنيته، وهو أشهر بكنيته على ما قاله مالك. وروى عنه بسر بن سعيد مولى الحضرميين، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في المار بين يدي المصلي: أنه لو علم ما عليه في المرور بين يديه من الإثم، الحديث، قال: ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (488)، كتاب: سترة المصلي، باب: إثم المار بين يدي المصلي، ومسلم (507)، كتاب: الصَّلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي. (¬2) وهو المسمى بـ "الاستغناء في معرفة المشهور من حملة العلم بالكنى" وقد طبع في دار العاصمة بالرياض في ثلاثة مجلدات.

يقال: أبو جهم هذا هو ابنُ أخت أُبي بن كعب، ولست أقف على نسبه في الأنصار، هذا آخرُ كلام أبي عمر -رحمه الله تعالى-، فعلى هذا يكون ما ذكره المصنف من نسبه غلطًا، كيف وقد ذكر الحافظ أبو عمر بعده: أبو الجهيم، قال: ويقال: أبو الجهم بن الحارث بنِ الصمة الأنصاري، أبوه من كبار الصحابة، روى عن أبي جهم هذا عُمير مولى ابن عباس في التَّيمم في الحضر على الجدار، هذا آخر كلام ابن عبد البر. وحديث التَّيمم المذكور رواه البُخاريّ والنَّسائيُّ وأبو داود، وأخرجه مسلم في "صحيحه" منقطعًا، وهو أحد الأحاديث المنقطعة فيه، ولفظ أبي داود وروايته له من رواية عمير مولى ابن عباس: أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن سيّار مولى ميمونةَ زوجِ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - حتَّى دخلنا على أبي الجهيم بنِ الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو الجهيم: أقبلَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من نحو بئرِ جملٍ، فلقيه رجل مسلم فسلَّم عليه، فلم يَرد عليه رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - السلام، حتَّى أتى على جدار، فمسح وجهه ويديه، ثم رد - عليه السلام -. فمقتضى كلام ابن عبد البر: أن أبا جُهيم راويَ حديث التَّيمم غيرُ راوي حديث المرور بين يدي المصلي، لكن ذكرَ الحفاظِ له روايته يدل على أنه راويهما، وقد صرح بذلك القاضي عياض، فقال: هو المذكور في التَّيمم، قال: وهو غير أبي جَهْم -بفتح الجيم مكبر- الذي قال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "اذهبوا بهذه الخَميصَةِ إلى أبي جَهْم" (¬1)؛ فإن اسمه عامرُ بنُ حذيفة العدوي، وهذا البيان من القاضي عياض إنَّما يجيء على قول من قال في كنية ابن الحارث بن الصمة: أبو الجهم، أما من قال فيه: أبو الجهيم -مصغر بالياء-، فلا يتجه بيانه إلَّا لخوف الاشتباه بالتصحيف، وقد ذكره الحافظ أبو محمد المصنف في "كماله" (¬2) في ¬

_ (¬1) رواه مسلم (556)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: كراهة الصَّلاة في ثوب له أعلام، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) وهو كتاب: "الكمال في أسماء الرجال" للحافظ الكبير أبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد = 547

أسماء رجال الكتب الستة، في الصحابة منه، فقال: أبو جهيم ابنُ الحارث بنِ الصمة بنِ عمرو بن عتيكِ بنِ عمرِو بن مبذول، وهو عامرُ بنُ مالكِ بنِ النجارِ، ويقال: هو أبو جُهيم بنُ الحارثِ بنِ الصمةِ بنِ حارثةَ بنِ الحارثِ بنِ زيدِ مناةَ بنِ حبيبِ بنِ عبدِ حارثةَ بنِ مالكِ بنِ عضبِ بنِ جشم بنِ الخزرجِ الأنصاري، قيل: اسمه عبد الله. اتفقا له على حديثين، روى عنه بسرُ بن سعيد، وعمير مولى ابن عباس. روي له الجماعة، وهذا يدل على أنه راويهما عنده. وذكر الحافظ أبو الوليد محمد بن عبد الله بن خيرة في كتابه "المعجم المختصر والمدخل إلى معرفة أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -"، فقال: أبو جهم ابنُ الحارث بن الصمةِ بنِ عمرو بنِ عتيك بن مبذول الأنصاري، له صحبه ورواية، وأخوه سعيد بن الحارث شهدَ صفينَ مع عليّ، فقتل بها، روى عنه عمير مولى ابن عباس، قال: أقبل النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فلقيه رجل مسلم، فسلم عليه، فأقبل النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - على الجدار، فمسح وجهه ويديه، ورد عليه، وليس يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التيمم في الحضر إلَّا من هذا الوجه، وأمَّا أبو جهم بن حذيفة صاحبُ الأنبجانية، فقال: اسمه عبيد، وليست له رواية عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، هذا آخر كلامه، والله أعلم بالصواب، لكن الظاهر فيه قول الجماعة من أنه راوي الحديثين، وقول ابن عبد البر مخالف لهم، والله أعلم (¬1). وأمَّا أبو النضر: المذكور فيه، فهو راوي الحديث عن بسر بن سعيد، عن أبي جُهيم، واسمه ¬

_ = المقدسي الجماعيلي الحنبلي المتوفى سنة (600 هـ)، انظر: "مقدمة تهذيب الكمال" للمزي (1/ 38) وما بعدها. (¬1) وانظر ترجمته في: "الكنى والأسماء" لمسلم (1/ 195)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 355)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1624)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 707)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 58 - 59)، و "تهذيب الكمال" للمزي (33/ 209)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 73)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 64).

سالم بن أبي أميَّة، مدني، قرشي، تيمي، مولى عمرَ بن عبيد الله التَّيميُّ، وكاتبه، وهو تابعي، سمع أربعة من الصحابة: أنسًا، وابن أبي أوفى، وعوف بن مالك، والسائب بن يزيد، اتفقوا على توثيقه وصلاحه وحسن حديثه، قال ابن سعد: ثقة، كثير الحديث، وقال ابن سعد: صالح، ثقة، كثير الحديث، وقال أبو حاتم: صالح، ثقة، حسن الحديث، مات سنة تسع وعشرين ومئة، روي له البُخاريّ ومسلم وأصحاب السنن (¬1). وأمَّا ألفاظه: فقوله: "لكانَ أنْ يقفَ أربعين خيرًا له" إلى آخره: رُوي (خيرًا) منصوبًا ومرفوعًا على أنه اسم كان أو خبرها، وهو ظاهر، ومعناه: لاختار وقوف هذه المدة على ما عليه من الإثم، وذكر ابن أبي شيبة فيه: "لكان أن يقف مئةَ عام خيرًا له" (¬2)، وكل هذا تغليظ وتشديد، ووقع الإبهام في تمييز العدد ليكون أردعَ عن المرور بين يدي المصلي، وهذا إذا لم يكن المصلي متعديًا بوقوفه في الصَّلاة بأن يصلِّي في طريق النَّاس أو في غيرها إلى غير سترة ونحوها. ثم للمار والمصلِّي أربع صور: الأولى: أن يكون للمار مندوحةٌ عن المرور بين يدي المصلي، ولم يتعرض المصلي لذلك، فالإثم خاص بالمار إن مرَّ. الصورة الثَّانية: أن يتعرض المصلي لمرور المار عليه، وليس للمار مندوحة عن المرور، فالإثم خاص بالمصلي دون المار. الصورة الثالثة: أن يتعرض المصلي للمرور عليه، وللمارِّ مندوحةٌ عن ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى- القسم المتمم" لابن سعد (ص: 312)، و "الثقات" لابن حبان (6/ 407)، و"التاريخ الكبير" (4/ 111)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 29)، و "تهذيب الكمال" للمزي (10/ 127)، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 372). (¬2) ورواه ابن ماجه (946)، كتاب: إقامة الصَّلاة، باب: المرور بين يدي المصلي، وابن حبان في "صحيحه" (2365).

الحديث الثاني

المرور، فيمر، فيأثمان، أما المصلي؛ فلتعرضه، وأمَّا المار؛ فلمروره مع إمكان ألا يفعل. الصورة الرابعة: ألَّا يتعرض المصلي، ولا يكون للمار مندوحة، فلا يأثم واحد منهما. وفي الحديث: النَّهي الأكيدُ والزجرُ الشديدُ عن المرور بين يدي المصلي إذا لم يكن المصلي متعديًا؛ لما فيه من شغل قلبه عما هو بصدده، والدخول بينه وبين ربه. * * * الحديث الثَّاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيءٍ يَسترهُ مِنَ النَّاسِ، فَأرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بينَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإن أبى، فَلْيقاتِلْهُ؛ فَإنَّما هُوَ شَيْطَان" (¬1). تقدم الكلام على أبي سعيد ونسبه فيما تقدم. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صَلَّى أحدكم إلى شيء يستره من النَّاس": فهو عام في كل ما يستره من جماد وحيوان، إلَّا ما ثبت المنع من استقباله؛ من آدمي أو ما أشبه الصنمَ المصمودَ إليه، وما في معنى ذلك، وقد كره ذلك بعض الفقهاء، قال: لأنَّه يصير في صورة المصلَّى إليه، وكرهه مالك في المرأة، قال بعض العلماء: يستحب أن يجعل المصلي السترةَ عن يمينه أو شماله ولا يصمدَ لها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أرادَ أن يجتازَ بينَ يديه فَلْيدفعه": هذا الأمر الظاهرُ فيه الوجوب، لكن اتفق العلماء على أنه أمرُ ندب متأكد. قال شيخنا أبو زكريا النواوي - رحمه الله -: ولا أعلم أحدًا من العلماء ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (487)، كتاب: سترة المصلي، باب: يرد المصلي من مر بين يديه، ومسلم (505)، كتاب: الصَّلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، وهذا لفظ البُخاريّ.

أوجبه، بل صرح أصحاب الشافعي وغيرهم بأنه مندوب غير واجب، وهذا لمن لم يفرِّطْ في ترك الصلاة إلى سترة، أما إذا فَرَّطَ بترك الصلاة إليها، أو تباعد عنها على قدر المشروع، فمر مارٌّ وراء موضع السجود، لم يكره، وإن مر موضع السجود كُرِه، ولكن ليس للمصلي أن يقاتله، وعلة ذلك تقصيره [لأنه] لم يقرب من السترة. نقل القاضي عياض اتفاق العلماء على ذلك، قال: وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز للمصلي المشيُ إليه ليدفعه، وإنما يدفعه ويرده من موقفه، إما بإشارة، أو بشيء؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظمُ من مرور المار من بعيد بين يديه، وإنما أُبيح له قدر ما تناله يده من موقفه، ولهذا أُمر المصلي بالقرب من سترة، وإنما يرده إذا كان بعيدًا بالإشارة أو التسبيح، قال: وكذلك اتفقوا على أنه إذا مر، لا يرده؛ لئلا يصير مرورًا ثانيا، إلا شيئًا روي عن بعض السلف أنه يردّه، وتأوله بعضهم، هذا كلام القاضي عياض (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنْ أبى، فَلْيقاتله": ليس المراد بالمقاتلة المقاتلةَ بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى الهلاك، بالإجماع، وإنما المراد: قوة المنع له على المرور؛ بحيث لا ينتهي إلى الأعمال الشانئة للصلاة. قال أصحاب الشافعي: يرده إذا أراد المرور بين يديه بأسهل الوجوه، فإن أبى، فبأشد منه، وإن أدى إلى قتله، فلا شيء عليه؛ كالصائل عليه لأخذ نفسه أو ماله، وقد أباح له الشرع مقاتلته، وهي مباحة، فلا ضمان فيها، فلو قاتله بما يجوز قتاله به، فهلك، فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل يجب دية، أم يكون هدرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 223)، قلت: وهذا من القليل النادر أن يعزو المؤلف - رحمه الله - وهو تلميذ الإمام النووي إلى شيخه؛ إذ إن معظم مادة هذا الكتاب قد أخدت عن كتب شيخه النووي -رحمه الله- من أمثال: "شرح مسلم"، و"تهذيب الأسماء واللغات"، و"تحرير ألفاظ التنبيه"، و"المجموع"، و"رياض الصالحين"، وغيرها، مما يعرفه الحاذق البصير في كتب الإمام النووي - رحمه الله -، والمطالع في هذا الكتاب، والله أعلم.

الحديث الثالث

وفي الحديث دليل على جواز العمل في الصلاة لمصلحتها من غير كراهة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّما هو شيطانٌ": يعني أن امتناعه من الرجوع عن المرور فعلٌ من أفعال الشيطان، فأشبه فعلُه فعلَه؛ لأن الشيطان بعيدٌ من الخير وقبولِ السنة، وقيل: إنما حمله على المرور [و] الامتناع من الرجوع الشيطانُ، وقيل: المراد بالشيطان: القرين؛ كما جاء في الحديث: "فإن معه القرين" (¬1). وفي الحديث: جوازُ إطلاق لفظ الشيطان في مثل هذا. وفيه: التنبيه على عظم رتبة الصلاة ومناجاة الرب - سبحانه وتعالى -، واحترام المصلي، وعدم تعاطي أسباب تهويش قلبه وشغله عما هو بصدده، فإنها حالة عظيمة ومقام كريم خاص بالله تعالى، ولهذا نهي عن القيام بين يدي المخلوقين، وكان مَنْ سَرَّهُ القيامُ بينَ يديه أَنْ يتبوأ مقعده من النار، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بالناس بمنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فنزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الأَتانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فَلَمْ يُنكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ (¬2). تقدم الكلام على ابن عباس. وأما الأتان، فهي الأنثى من جنس الحمر، فقوله في هذه الرواية: حمارٍ أتانٍ، هي رواية البخاري، ولمسلم روايتان: إحداهما: أتان، والأخرى: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (506)، كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه البخاري (471)، كتاب: سترة المصلي، باب: سترة الإمام من خلفه، ومسلم (504)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي.

حمار، فرواية البخاري استعمالُ لفظ الحمار فيما يعم الذكر والأنثى، وبين أنه أنثى، ومثله للفظ الحمار الشاةُ والإنسانُ. وقوله: "ناهزت الاحتلام"؛ أي: قاربته، وهو يصحح قول من قال: إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات كان عمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة، خلافًا لمن قال غير ذلك؛ كسعيد بن جبير، وأحمد بن حنبل؛ مما لا يقارب البلوغ. وقوله: "فأرسلت الأتان ترتع"؛ أي: ترعى. وقوله: "يصلي بمنى"؛ فيها لغتان: الصرفُ، وعدمُه، ولهذا تكتب بالألف والياء، والأجودُ صرفُها وكتابتُها بالألف، وسميت منى؛ لما يُمنى فيها من الدماء؛ أي: يراق، ومنه قوله تعالى: {مِن مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]. وقوله: "فلم ينكر ذلك علي أحد"، استدلاله على عدم بطلان الصلاة لمروره بعدم الإنكار منهم لفعله لفائدتين: إحداهما: أنه غير مؤاخذ بفعله، ومرورِ الحمار بين يدي بعض الصف. أمَّا فعلُه، فإنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز، لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته بسبب صغر سنه، لكنه نبه عليه بقوله: ناهزتُ الاحتلام، تأكيدًا لعدم بطلان الصلاة بمرورِ من هو في هذا السن، ولم يستدل بعدم استئنافهم الصلاة بدلًا عن عدم إنكارهم؛ لأنه أكثر فائدة، فإنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غيرُ ممنوع من فاعله، دل على عدم إفساده الصلاة؛ إذ لو أفسدها، لامتنع إفساد صلاة الناس على المار، ولا ينعكس هذا، وهو أن يقال: لو لم يفسد، لم يمتنع على المار؛ لجواز ألا يفسد الصلاة، ويمتنع المرور على المار؛ كما يقول في مرور الرجل بين يدي المصلي؛ حيث يكون له مندوحة: إنه ممتنع عليه المرور، وإن لم يفسد الصلاة على المصلي، فثبت بهذا أن عدم الإنكار دليلٌ على الجواز، والجواز دليلٌ على الإفساد، وأنه لا ينعكس، فكان الاستدلال بعدم الإنكار أكثرَ فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة.

وأما مرور الحمار بين يدي المصلي، فلا يخلو إما أن يكون إمامًا أو غيرَه، فإن كان إمامًا، فلا يخلو إما أن يصلي إلى سترة، أو إلى غير سترة، فإن كان إمامًا صلى إلى سترة، فهو سترة لمن وراءه، فالمرور في هذا الحديث وقع بين يدي بعض الصف لا كله، والإمام سترة للكل، فلا يضر، وإن صلى إلى غير سترة، فالأكثرون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يديه. وظاهر هذا الحديث يدل عليه بقوله: بغير جدار، ولو كان ثم سترة غيرها من غيره، لذكرها، والمأموم بطريق الأولى، والمنفرد لذلك. وقد وردت أحاديث معارضة لذلك، منها ما دل على قطع الصلاة بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار، وهو حديث صحيح. ومنها ما دل على قطعها بمرور المرأة والحمار فقط، وهو صحيح أيضًا. ومنها ما دل على قطعها بمرور اليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير، وهو ضعيف. وقد قيل: إن هذه الأحاديث منسوخة بأحاديث أخر، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطعُ الصلاةَ شيء" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وادْرَؤُوا ما استطعتم" (¬2)، في حديث المار بين يدي المصلي والمرأة، منسوخة بحديث عائشة الآتي بعد هذا، والحمار بحديث ابن عباس المتقدم، وهذا كله صحيح إن ثبت تاريخ تأخير الناسخ عن المنسوخ بعد تعذر الجمع والتاويل، مع أن حديث "لا يقطع الصلاةَ شيءٌ" ضعيف. وقد اختلف العلماء في قطع الصلاة بمرور الحمار والمرأة والكلب الأسود، فقال قوم: يقطع هؤلاء الصلاةَ، وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: يقطعها الكلبُ الاسودُ، وفي قلبي من المرأة والحمار شيء، ووجه قوله: إن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (719)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: لا يقطع الصلاة شيء، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) انظر تخريج الحديث المتقدم، إذ هو جزء منه.

الكلب لم يجئ في الترخيص فيه شيء يعارض هذا الحديث، وأما المرأة ففيها حديث عائشة، وفي الحمار حديث ابن عباس السابق. وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور العلماء من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا غيرهم، وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقصُ الصلاة؛ لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد بطلانها. وحكى الأثرم عن أحمد -رحمه الله- جزم القول بأنه لا يقطع المرأة والحمار، وجزم القول بذلك يتوقف على أمرين: أحدهما: أن يبين تأخر المقتضى لعدم الفساد على المقتضى للفساد، وفيه عسر عند المبالغة في التحقيق. والثاني: أن يبين أن مرور المرأة مساوٍ لما حكته عائشة - رضي الله عنها - من الصلاة إليها راقدة. قال شيخنا أبو الفتح -رحمه الله-: وليس هذه بالبينة عندنا لوجهين: أحدهما: أنها - رضي الله عنها - ذكرت أن البيوت ليس فيها حينئذ مصابيح، فلعل سبب هذا الحكم عدم المشاهدة لها. والثاني: أن قائلًا لو قال: إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه في التشويش على المصلي اعتراضه بين يديه، فلا يساويه في الحكم، لم يكن ذلك بالممتنع، وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا، وفي قول ابن عباس: فلم ينكر ذلك علي أحد، دليل على أن عدم الإنكار حجة على الجواز، لكنه مشروط بانتفاء الموانع من الإنكار، وبالعلم بالاطلاع على الفعل، وذلك ظاهر، ولعل السبب في قول ابن عباس ذلك دون قوله: ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك: أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف، وليس يلزم من ذلك اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ لجواز أن يكون الصف ممتدًا، ولا يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفعل منه، فلا يجزم بترك إنكاره مع اطلاعه، فلا يوجد شرط الاستدلال بعدم الإنكار على

الحديث الرابع

الجواز، وهو الاطلاع مع عدم المانع، أما عدم الإنكار، فمن رأى هذا الفعل، فهو متيقن، فترك المشكوك فيه، وهو الاستدلال بعدم إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ المتيقن، وهو الاستدلال بعدم إنكار الرائين للواقعة، وإن كان يحتمل قوله: ولم ينكر ذلك علي أحد، النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره؛ لعموم لفظ أحد، إلا أن فيه ضعفًا؛ لأنه لا معنى للاستدلال بعدم إنكار غير النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حضرته، وعدم إنكاره إلا على بعد (¬1). وفي الحديث دليل على: جواز ركوب الصبي المميز الحمار وما في معناه، وأن الولي لا يمنعه من ذلك، وأن صلاته صحيحة، وأن الإمام سترة لما وراءه، وجواز إرسال الدابة من غير حافظ، أو مع حافظ غير مكلف، وعلى احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجحَ منها؛ فإن المرور أمام المصلين مفسدة، والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة، فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار. * * * الحديث الرابع عَنْ عَائشِةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرِجْلَايَ في قِبْلَتِهِ، فَإذَا سَجَدَ، غَمَزنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ، بَسَطْتُهُمَا، وَالبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ (¬2). تقدم الكلام على عائشة. وأما قولها: "فإذا سجد غمزني"، قال صاحب "المطالع": أي: طعن بإصبعه فيَّ لأقبضَ رجليَّ من قبلته (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 44 - 45). (¬2) رواه البخاري (375)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على الفراش، ومسلم (512)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 135).

وقد استدل بعض الفقهاء على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء بناء على أن لمسه - صلى الله عليه وسلم - كان دون حائل، ولا يصح هذا لاحتمال ظاهر أن لمسه - صلى الله عليه وسلم - كان فوق حائل، فلا يكون فيه دليل على المسألة؛ للاتفاق على أن اللمس فوق حائل غير ناقض، أما اللمس دون حائل، فقد اختلف فيه، فقال بعضهم: إن كان دون لذة، لا ينقض، وإن كان بلذة، نقض، وقال بعضهم: ينقض وإن كان دون لذة؛ لعموم دليل اللمس، وهو قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6]؛ حملًا له على مجرد اللمس، وبالجملة: الظاهرُ من حال النائم أن يكون لمسُ المصلي إياه فوقَ حائل، والله أعلم. وقولها: "والبيوتُ يومئذٍ ليس فيها مصابيحُ"، أرادت به الاعتذار عن عدم قبضها رجليها عندَ سجوده - صلى الله عليه وسلم - وعلمها به بالظلمة؛ حيث لا ضوء في البيت كيلا تحوجه - صلى الله عليه وسلم - إلى طعن رجليها بإصبعه -لو كان فيها مصابيح- عند سجوده، ويحتمل أنها ذكرت ذلك لتأكيد الاستدلال على حكم من الأحكام الشرعية، إما لاغتفار صلاة المصلي إلى النائم، أو إلى المرأة، أو لفعل مع الغمز في الصلاة للحاجة، والله أعلم. وفي الحديث مسائل: منها: جواز الصلاة إلى النائم، وإن كان امرأة، بلا كراهة، وقد كرهه بعضهم؛ لحديث ورد فيه، وحمل بعض العلماء هذا الحديث على جواز ذلك، وخصوصيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره؛ لتنزهه عما يعرض لغيره في الصلاة من الفتنة بالمرأة، واشتغال القلب بها، والنظر إليها وتذكرها، مع أن الحالة كانت بالليل، والبيوت ليس فيها مصابيح. ومنها: أن المرأة لا تقطع صلاة، وقد مر الكلام في هذه المسألة في الحديث قبله، وقد يفرق في المعنى بين مرورها ونومها، فإن المرور قد يهوش القلب عن الصلاة أكثر من النوم في الظلمة وعدم الرؤية. ومنها: أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة.

ومنها: عدم كراهية أن تكون المرأة سترة للمصلي، وكرهه مالك، وكره بعض العلماء الصلاةَ إلى الحيوان، آدميًّا كان أو غيره، مع تجويز الصلاة إلى المضطجِع، وكأنه محمول أو مقيد بما إذا كان مستقبلًا للمصلي بوجهه أو بعض بدنه، أما إذا كان مستدبرًا له، فلا كراهة. ومنها: اللطف بالأهل وعدم التهويش عليهم في نومهم ومضجعهم، وإن كان على الزوج كلفة في ذلك وهو في عبادة، والله أعلم. * * *

باب جامع

باب جامع الحديث الأول عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ (¬1). تقدم الكلام على اسم أبي قتادة ونسبه ونسبته. وفي هذا الحديث مسائل: الأولى: في حكم الركعتين عند دخول المسجد. وقد نقل إجماع المسلمين على أنهما سنة. وقال شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -: وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما، ثم اختلفوا، فظاهر مذهب مالك: أنهما من النوافل، وقيل: إنهما من السنن، وهذا على اصطلاح المالكية في الفرق بين السنن والنوافل والفضائل، ونقل عن بعض الناس أنهما واجبان؛ تمسكًا بالنهي عن الجلوس قبل الركوع، وعلى الرواية الأخرى التي وردت بصيغة الأمر، ولا شك أن ظاهر الأمر الوجوب، وظاهر النهي التحريم، ومن أزالهما عن الظاهر، فهو يحتاج إلى الدليل، وهذا آخر كلامه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1110)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (714)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 48 - 49).

قلت: ولعل مراد الشيخ - رحمه الله تعالى - ببعض الناس المنقول عنه وجوبهما: داود وأصحابه؛ فإن القاضي عياضًا - رحمه الله - حكاه عنهم، لكن اصطلاح البخاري إذا قال: فقال بعض الناس: أنه الإمام أبو حنيفة، لكنه ليس مرادًا هنا؛ لأن المنقول عن أبي حنيفة استحبابهما، وكراهتهما في وقت النهي، وإن كان قال بوجوب الوتر، ونقل عن الحسن البصري وجوب ركعتي الفجر، لكن العلماء استدلوا على عدم الوجوب في غير الصلوات الخمس بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العباد" (¬1)، وقول السائل: هل عليَّ غيرُها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" (¬2)، فحملوا بذلك صيغة الأمر على الندب في الوتر، وركعتي التحية، والفجر؛ لدلالة ما ذكرنا من حديث السائل، وكتب الخمس على العباد على عدم الوجوب في غيرها، لكن يشكل عليهم بإيجابهم الصلاة على الميت تمسكًا بصيغة الأمر. الثانية: لا تكره صلاةُ التحية في وقت من أوقات كراهة إذا دخل المسجد، بل هي مستحبة مشروعة، وكرهها أبو حنيفة، والأوزاعي، والليث، وقال مالك: لا يركعهما في الأوقات المكروهة، وحكي وجه بالكراهة في مذهب الشافعي، وطريقة أخرى أن محل الخلاف بين العلماء فيهما إذا قصد الدخول في هذه الأوقات لأجل أن يصليهما فيها، أما إذا لم يقصد الدخول لفعلهما، فلا كراهة، وليس هو محل الخلاف، والمعروف من مذهب الشافعي - رحمه الله - وأصحابه: أنه يركعهما فيها، وأما ما حكاه القاضي عياض - رحمه الله - عن الشافعي - رحمه الله - في جواز صلاتهما بعد العصر ما لم تصفرَّ الشمس، وبعد الصبح ما لم تُسفر؛ إذ هي عنده من النوافل التي لا سبب لها، وإنما يمنع من هذه الأوقات ما لا سبب له، ويُقصد ابتداء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَحَرَّوْا بصلاتِكم طلوعَ الشمسِ ولا غُروبَها" (¬3). انتهى ما حكاه عن الشافعي، فهو غير معروف في نقل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (558)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، =

أصحابه عنه على هذه الصورة، لكنه أقرب الأشياء إليه، خصوصا على ما حكيناه من الطريقة في مذهبه، وإن كان ليس هو بعينه. واستدل من قال بكراهتهما: بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعدَ العصر حتى تغرب الشمس، وأجاب أصحاب الشافعي عن ذلك: بأن النهي إنما هو عما لا سبب لها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد العصر ركعتين قضاء سنة الظهر، فخص وقت النهي، وصلى به ذات السبب، ولم يترك التحية في حال من الأحوال، بل أمر الَّذي دخل المسجد يومَ الجمعة وهو يخطب، فجلس، أن يقوم فيركع ركعتين، مع أن الصلاة في حال الخطبة ممنوع منها إلا التحية، فلو كانت التحية تُترك في حال من الأحوال، لتركت الآن؛ لأنه قعد، وهي مشروعة قبل القعود، ولأنه كان يجهل حكمها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قطع خطبته، وكلمه، وأمره أن يصلي التحية، فلولا شدةُ الاهتمام بالتحية في جميع الأوقات، لما اهتم بها هذا الاهتمام، ولا شك أن الكلام في هذه المسألة مبني على مسألة أصولية، وهي ما إذا تعارض نصان، كلُّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عامٌّ من وجه، خاصٌّ من وجه، وليس المعنى بالنصين هنا ما لا يحتمل التأويل، بل ما حكمه حكم النص في وجوب العمل؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ" الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ بعدَ الصُّبح" (¬1) الحديث، فالأول خاصٌّ بالنسبة إلى صلاة التحية، عامٌّ بالنسبة إلى الأوقات، والثاني خاص بالنسبة إلى الأوقات، عامٌّ بالنسبة إلى الصلوات، فوقع الإشكال في هذه المسألة من هاهنا، وهي من أشكل مسائل الأصول، ولا بد من تحقيق ذلك، فنقول: مدلولُ النص إن لم يتناول مدلولَ الآخر، ولا شيئًا منه، فهما كلفظ ¬

_ = ومسلم (828)، كتاب: الصلاة، صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬1) رواه البخاري (561)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم (827)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

المشركين والمؤمنين مثلًا، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كلَّ مدلول الآخر، فهما متساويان؛ كلفظة الإنسان والبشر مثلًا، وإن كان مدلول أحدهما يتناول كل مدلول الآخر، ويتناول غيرَه، فالمتناولُ له ولغيره عامٌّ من كل وجه بالنسبة إلى الآخر، والآخر خاصٌّ من كل وجه، وإن كان مدلولهما يجتمع في صورة، وينفرد كلُّ واحد منهما بصورة أو صور، وكل واحد منهما عام من وجه، خاص من وجه؛ كهذين الحديثين، فهو من هذا القبيل؛ فإنهما يجتمعان في صورة، وهي ما إذا دخل المسجد بعد الصبح أو العصر، وينفردان بأن توجد الصلاة في ذلك الوقت من غير دخول المسجد، أو دخوله في غير ذلك الوقت، فإذا وقع مثل هذا، فالإشكال قائم؛ لأن أحد الخصمين لو قال: لا تكره الصلاة عند دخول المسجد في هذه الأوقات؛ لأن هذا الحديث دل على جوازها عند دخول المسجد، وهو خاصٌّ بالنسبة إلى الحديث الأول المانعِ من الصلاةِ بعد الصبح، فخصّ قوله: "لا صلاةَ بعدَ الصبح" بقوله: "إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ"، فلخصمه أن يقول: قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد" عام بالنسبة إلى الأوقات، فخصّه بقوله:: "لا صلاة بعد الصبح"، فإن هذا الوقتَ أخصُّ من عموم الأوقات، فتحقق الإشكال، وذهب بعض المحققين في هذا إلى الوقف حتى يأتي بترجيح خارج بقرينة أو غيرها، فمن ادعى أحد هذا الحكمين من الجواز أو المنع، فعليه إبداء أمر زائد على مجرد الحديث، وقدمناه في جواب أصحاب الشافعي في هذه المسألة أولًا، والله أعلم. الثالثة: إذا دخل المسجد بعد فعل ركعتي الفجر في بيته، هل يركع تحية المسجد؟ اختلف فيه قول مالك -رحمه الله-، وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه يركعهما، وهو قول جمهور العلماء، واستدل من منع ركوعهما بحديث رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صلاةَ بعدَ الفجر إلا ركعتي الفجر" (¬1)، وعارض به هذا ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1587)، عن حفصة - رضي الله عنها - بلفظ: كان رسول الله =

الحديث، وهو أضعف من المسألة الثانية؛ لضعف هذا الحديث، ولا بد من صحته وقوته في الصحة قوة تعارض الحديثين الأولين في المسألة قبلها؛ فإنهما صحيحان، ثم بعد التجاوز عن هذه المطالبة، وتقدير تسليم الصحة له يعود الأمر إلى تعارض أمرين كما ذكرنا، فيصير كل واحد عامًّا من وجه، خاصًّا من وجه، والله أعلم. الرابعة: إذا دخل المسجد مجتازًا، هل يركعهما؟ حقق ذلك مالك. قال شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -: وعندي أن دلالة هذا الحديث لا تتناول هذه المسألة، فإنا إن نظرنا إلى صيغة النهي، فهو يتناول جلوسًا قبل الركوع، فإذا لم يحصل الجلوس أصلًا، لم يعقل النهي، وإن نظرنا إلى صيغة الأمر، فالأمر يوجد بركوع قبل جلوس، فإذا انتفيا معا، لم يخالف الأمر، والله أعلم (¬1). الخامسة: ركعتا التحية مشروعة لكل مسجد يدخله: لتناولِ لفظِ الحديث كل مسجد، وقد أخرجوا عنه المسجدَ الحرام، وجعلوا تحيته الطوافَ، وقد كره أبو حنيفة وأحمد ركعتي الطواف في أوقات النهي بمكة، فإن كان في تحية المسجد خلاف فيهما، فلمخالفهم أن يستدل بهذا الحديث، وإن لم يكن خلاف، فالسبب في ذلك النظر إلى المعنى، وهو أن المقصود افتتاح دخول المسجد بعبادة، وافتتاحُ دخول المسجد الحرام بالطواف عبادةٌ تحصل هذا المقصود، مع أن غيره من المساجد لا يشاركه فيها، فاجتمع فيه تحصيلُ المقصود معَ الاختصاص، كيف وهو الموجود من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ = صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر، لا يصلي إلا ركعتي الفجر. وأصله في "الصحيحين"، فقد رواه البخاري (593)، كتاب: الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، ومسلم (723)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، عن حفصة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بدا الصبح، صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة. (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 51).

حجته حين دخل المسجد، فابتدأ بالطواف؛ على ما تقتضيه الأحاديث، واستمر عليه العمل، وذلك أخص من عموم دخول المسجد، مع أنه يأتي بعد طوافه بركعتيه، فيكون ذلك جريًا على ظاهر اللفظ، ومشيًا على السنة، وتوفية للعمل بمقتضى الحديث، والله أعلم. السادسة: ركعتا التحية هل تشرعان لمن صلى العيد في المسجد عند دخوله إليه؟ ظاهر لفظ هذا الحديث أنها تشرع، ونقل الإمام أبو بكر الشاشي - رحمه الله - في "حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء" (¬1) عن الشافعية: أنه يكره للإمام التنفل قبلها وبعدها، ولا يكره للمأموم، قال: وقال مالك وأحمد: يكره للمأموم أيضًا، وعن مالك رواية أخرى: أنه إذا صلى في المسجد، يجوز له التنفل، وقال أبو حنيفة والحسن: يكره له التنفل قبلها، ولا يكره بعدها، وقد جاء في الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ قبلها ولا بعدها -يعني: صلاة العيد-، وهو حديث صحيح متفق عليه، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل العيد في المسجد، ولا نقل ذلك، فلا معارضة بين الحديثين، إلا أن يقول قائل، أو يفهم فاهم: أن ترك الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها من سنتها من حيث هي هي، لا كونها واقعة في الصحراء ولا في المسجد، فحينئذ لم يبق أثر في ذلك الحكم، فيقع التعارض بين الصلاة عند دخول المسجد وعدم الصلاة قبل صلاة العيد في المسجد، غير أن ذلك القول أو الفهم يتوقف على أمر زائد وقرائن تشعر به، والله أعلم. السابعة: هل تشرع التحية لمن تردد إلى المسجد وتكرر مرارًا كما مر مأمورًا به؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي: قال بعضهم: لا تشرع، وقاسه على من تكرر دخوله إلى مكة من الخطابين والفكاهين من غير إحرام، وفيه -أيضًا- اختلاف قول الشافعي، والحديث يقتضي تكرر الركوع بتكرر الدخول، وهذا القياس ¬

_ (¬1) انظر: "حلية العلماء" لأبي بكر القفال الشاشي (2/ 255).

الحديث الثاني

ينبني على جواز القياس على المختلف فيه، وقد منعه بعضهم، واستعمالهم له يدل على جوازه، وحينئذ يرجع ذلك إلى تخصيص العموم بالقياس، وللأصوليين فيه أقوال متعددة، والله أعلم. الثامنة: في ظاهر الحديث دليل على أنه لا تحصل التحية إلا بفعل ركعتين، ولا يشترط أن ينوي بهما التحية، بل لو صلى الفريضة ركعتين، أو سنة راتبة، أو نافلة مطلقة، حصلت، ولو صلى ركعة، أو سجد لتلاوة أو شكر، أو صلى صلاة الجنازة بنية التحية، حصلت على وجه لبعض أصحاب الشافعي، والصحيح أنها لا تحصل، وهو الصواب؛ للنص على صلاة ركعتين، وليس ذلك في معناهما، إلا أن يكون المفهوم من الحديث شغل المسجد بعبادة مطلقة عند الدخول تعظيمًا له، لكن تعظيمه بركعتين أبلغُ في إكرامه واحترامه من ركعة أو سجدة أو قيام، كيف والمعتبر في العبادات التوقيف، ولم يرد ما يدل على خلافه؟ والله أعلم. قال أصحاب الشافعي: ولو نوى بصلاته التحية والمكتوبة، انعقدت صلاته، وحصلتا له؛ لأنه ليس في نيته وفعله ما ينافي المأمور، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كُنَّا نَتكَلَّمُ في الصَّلَاة، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ الَى جَنْبِهِ في الصَّلَاةِ حَتى نَزَلَتْ: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فَأُمِرْنَا بالسُّكُوتِ، ونُهِينَا عَنِ الكَلَامِ (¬1). أما زيد بن أرقم، فهو أنصاريٌّ خزرجيٌّ، وهو ابنُ أرقمَ بنِ زيدِ بنِ قيسِ بنِ النعمانِ بنِ مالكِ بنِ الأغرِّ بنِ ثعلبةَ بنِ عمرِو بنِ كعبِ بنِ الخزرجِ بنِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4260)، كتاب: التفسير، باب: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ومسلم (539)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، وهذا لفظ مسلم.

الحارثِ بن الخزرج، اختلف في كنيته على أقوال كثيرة، أشهرها: أبو عمرو، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو سعد، وقيل: أبو أنيسة، ويقال: أبو حمزة، وهو الَّذي رفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولَ عبدِ الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فأكذبه عبدُ الله، وحلفَ، فأنزل الله تعالى تصديقَ زيدِ، والقصةُ مشهورة في كتب التفسير. غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، قال الحافظ أبو الوليد بن خيرة: أول مشاهده: الخندقُ سنةَ خمسٍ، ثم مات بعدها، وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: ويقال: إن أول مشاهده: المريسيع، وشهد مع عليٍّ صِفَّينَ، ونزل الكوفة وسكنها، وابتنى بها دارًا في كندة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة، وانفود البخاري بحديثين، ومسلم بستة. روى عنه: أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وجماعة كثيرة من كبار التابعين وغيرهم، مات بالكوفة سنة خمس، وقيل: سنة ثمان وستين، وروى له أصحاب السنن والمساند (¬1). وأما الكلام على الحديث، فمن أوجه: أحدها: قولُه: "نتكلَّم في الصلاة"، هذا حكمه حكمُ المرفوع التي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجيء فيه التفصيل في عدم الإضافة إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فيكون موقوفًا، وإلا فهو مرفوع على الصحيح من قول العلماء؛ لأنه ذكر نزول الآية: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، ومعلوم أنها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 18)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 385)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 139)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 613)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 535)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 256)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 342)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 196)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 9)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 165)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 589)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 340). =

أُمروا ونُهوا عن الكلام لبعضهم بعضًا، فكان ذلك ناسخًا، فاجتمع في كلام الراوي ذكرُ المنسوخ والناسخ؛ لتقدم أحدهما على الآخر. الثاني: صراحة ذكرهما فيه ظاهر بلا شك، وهو أحد أقسامه، وليس من قسم ما عرف بالتاريخ؛ فإنه قد ذكروا فيه أنه لا يصلح أن يكون دليلًا على أنه ناسخ؛ لاحتمال أن يكون الحكم بالنسخ عن طريق اجتهادي، والنسخ رفع حكم متقدم من الشارع بحكم منه متأخر؛ كهذا الحديث. الثالث: قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة:238] الَّذي ذكره المفسرون في كتبهم، ورجحوه في القنوت المأمور به أنه الطاعة؛ أي: مطيعين، ومنه قوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أمة قانتًا؛ أي: مطيعًا. وظاهر هذا الحديث أنه السكوت عن الكلام المذكور فيه، وهو كلام الرجل صاحبه، لا كل كلام؛ فإن الصلاة ليس فيها حالة سكوت، وإسكات الصلاة في افتتاحها وبعد الفراغ من الفاتحة قبل آمين وبعده قبل قراءة السورة، ليس سكوتًا حقيقيًّا، وإنما هو سكوت بالنسبة إلى رفع الصوت، لا عن ترك دعاء، حتى قال بعض الشافعية: يستحب أن يقول بعد التأمين وقبل السورة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله كبر، فحينئذ المفهوم من السكوت عرفًا ترك الكلام مطلقًا، وشرعًا ترك الكلام خطابا للآدميين، أو ترك الجهر أو إسماع نفسه به في الصلاة، أما كلام النفس فيها، فمعفو عنه، مع تنقيص الثواب إذا استمر، وهذا معنى قول من قال من المفسرين: وقيل: القنوت: السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة. وقال مجاهد: قانتين: خاشعين، قال: ومن القنوت طول الركوع، وغض البصر، وخفض الجناح (¬1)، وقيل: المراد: طول القيام. وقيل: القنوت: الصلاة؛ أي: مصلين، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (2/ 571)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 449)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 282)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3152).

آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]؛ أي: مصليًا، هذا ما يتعلق بالآية من كلام الفقهاء المحققين والمفسرين. والقنوت يستعمل في اللغة بمعنى الطاعة والإقرار بالعبودية، والخضوع، والدعاء، وطول القيام، والسكوت، وفي كلام بعضهم ما يفهم منه أنه موضوع للمشترك، وهو الدوام على الشيء، فإذا كان أصله هذا، فمديم الطاعة قانت، وكذلك الداعي والقائم في الصلاة، والمخلص فيها، والساكت فيها، كلُّهم قانتون فاعلون له، وهذه طريقة المتأخرين من أهل العصر وما قاربه، يقصدون بها دفع الاشتراك والمجاز عن موضع اللفظ، ولا بأس بذلك إن لم يقم دليل على أن اللفظة حقيقة في معنى معين أو معانٍ، فيستعمل حيث لا يقوم دليل على ذلك. الرابع: كلام الصحابي في التفسير لا ينزل منزلة المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، بل يكون موقوفًا عليه، فإن كان كلامه يتعلق بسبب نزول آية، أو تعليل، ونحوهما، فهو منزل منزلة المسند المرفوع، هذا كلام المحققين في ذلك، فقول زيد بن أرقم - رضي الله عنه - في هذا يشعر بأن المراد بالقنوت كما ذكرنا تفسيره، قيل: لما دل عليه لفظة (حتى) التي للغاية، والفاء في قوله: فأمرنا، التي تشعر بتعليل ما سبق عليها لما يأتي بعدها، ولا شك أن الصحابة كانوا مشاهدين الوحي والتنزيل، ويعلمون سبب ذلك مع القرائن المحتفة بها، ما يرشدهم إلى تعيين المحتملات، وبيان المجملات، فيصيرون كأنهم ناقلون للفظ التعليل والتسبيب. الخامس: قوله: "فأمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام"، هذا حكمه حكم المرفوع، ولا يجيء فيه الخلاف الَّذي عند المحدثين في ذلك، بدليل مشاهدة الراوي لنزول الآية، وجعلِه غايةً لترك الكلام في الصلاة، ثم الأمر بالسكوت يقتضي أن كلَّ ما يسمى كلامًا، فهو منهي عنه، وما لا يسمى كلامًا، فدلالة الحديث قاصرة عن النهي عنه.

وقد اختلف القدماء في أشياء هل تُبطل الصلاة أم لا؟؛ كالنفخ والتنحنح لغير غلبة وحاجة، وكالبكاء، والذي يقتضيه القياس أن ما يسمى كلامًا فهو داخل تحت اللفظ، وما لا يسمى كلامًا، فمن أراد إلحاقه به، كان ذلك بطريق القياس، فليراع شرطه في مساواة الفرع للأصل، واعتبر أصحاب الشافعي ظهورَ حرفين، وإن لم يكونا مفهمين، فإن أقلَّ الكلام حرفان، ولقائل أن يقول: ليس يلزم من كون الحرفين يتألف منهما كلام أن يكون كل حرفين كلامًا، وإن لم يكن كذلك، فالإبطال به لا يكون بالنص، بل بالقياس، فليراع شرطه، اللهم إلا أن يريد بالكلام كل مركب، مفهمًا كان أو غير مفهم، فحينئذ يندرج التنازع فيه تحت اللفظ، إلا أن يكون فيه بحث، والأقرب أن ننظر إلى مواقع الإجماع، والخلاف؛ حيث لا يسمى الملفوظ به كلامًا، فما أجمع على إلحاقه بالكلام، ألحقناه به، وما لم يجمع عليه، مع كونه لا يسمى كلامًا، فيقوى به عدم الإبطال، ومن هذا استضعف القول بإلحاق النفخ بالكلام، ومن ضعيف التعليل فيه قولُ من علل البطلان به بأنه شبه الكلام، وهذا ركيك مع ثبوت السنة الصحيحة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ في صلاة الكسوف في سجوده. وفي هذا الحديث دليل على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين في الصلاة، وأجمع العلماء على أن الكلام فيها عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه، مبطلٌ للصلاة، وأما الكلام لمصلحتها، فقال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور: يُبطل الصلاة، وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك، وطائفة قليلة، وكلام الناسي لا يبطلها عند الشافعي والجمهور، ما لم يطل، وقال الكوفيون وأبو حنيفة: يبطل، والله تعالى أعلم. * * *

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ؛ فَإن شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم" (¬1). أما راوياه، فتقدم الكلامُ عليهما. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اشتدَّ الحرُّ"، فاشتداده: قوَّتُه، وسطوعُه، وانتشارُه، وغليانُه. وقوله: "فَأَبْرِدوا" أَيْ: أَخِّروا. وقوله: "عن الصلاةِ"، وروي في "صحيح مسلم": "بالصلاة" -بالباء- وهما بمعنى، و (عن) تطلق بمعنى الباء؛ كما يقال: رميت عن القوس؛ أي: بها، ومنع بعض أئمة اللغة القول: رميتُ بالقوس، ونقل جوازه جماعةٌ، فيقال: رميت عن القوس، وبها، وعليها، وممن نقله عن العرب مطلقًا ابنُ الجوزي في "تفسيره" في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25]، والله أعلم (¬2)، ومعنى الحديث: أخروا الصلاة إلى البرد، واطلبوه لها. وقوله: "فإنَّ شدةَ الحرِّ من فَيْح جهنمَ" روي بفتح الفاء والياء المثناة تحت، وبالحاء المهملة، وروي في غير "الصحيح": فوح -بالواو بدل الياء- (¬3)، ذكره ابن الأثير في "نهايته" (¬4)، ومعناه: أن شدة الحر وغليانه تشبه نار جهنم، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (510)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما -. - ورواه مسلم (615)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (6/ 84)، و"تفسير الطبري" (19/ 6). (¬3) رواه الإمام أحمد في: "المسند" (3/ 52)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وقد روى البخاري (5394)، كتاب: الطب، باب: الحمى من فيح جهنم، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - مرفوعًا: قال: "الحمى من فوح جهنم، فأبردوها بالماء". (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 477).

فاحذروه واجتنبوا ضرره، والذي يقتضيه مذهب أهل السنة وظاهر الحديث أن شدة الحر من فيح جهنم حقيقة لا استعارة وتشبيهًا وتقريبًا؛ فإنها مخلوقة موجودة، وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشتكتِ النارُ إلى ربِّها، فَأَذِنَ لها بنَفَسَيْنِ: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف" (¬1)، والله أعلم. واعلم أن الإبراد إنما شرع في صلاة الظهر، وقال أشهب المالكي: شرع في العصر، وخالفه جميع العلماء، واختلف في مقدار وقته، فقال بعض الشافعية: وهو أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت مقدارَ ما يظهر للحيطان ظِلٌّ، ولا يحتاج إلى المشي في الشمس، وقالت المالكية: يؤخر الظهر في الحر إلى أن يصير الفيء أكثرَ من ذراع. واختلف الفقهاء في هذا الإبراد، هل هو رخصة أو عزيمة سنة؟ وقد يعبر عنه بأن الأفضل تقديمُ الظهر أو الإبرادُ بها، وينبني على ذلك أن من صلى في بيته، أو مشى في كنٍّ إلى المسجد، هل يسن له الإبراد؟ إن قلنا: رخصة، لم يسن له؛ إذ لا مشقة عليه في التعجيل، وإن قلنا: سنة، أبرد، وهو الأقرب؛ لورود الأمر به، مع ما اقترن به من العلة، من أن شدة الحر من فيح جهنم، وذلك مناسب للتأخير، والأحاديث الدالة على التعجيل وفضيلته عامة أو مطلقة، وهذا خاص، فلا مبالاة مع صيغة الأمر ومناسبة العلة بقول من قال: التعجيل أفضل؛ لأنه أكثر مشقة؛ فإن مراتب الثواب إنما يرجع فيها إلى النصوص، وقد ترجح بعض العبادات الخفيفة على ما هو أشقُّ منها بحسب المصالح المتعلقة بها. واختلف أصحاب الشافعي بالإبراد بالجمعة على وجهين: فقال جمهورهم: لا يشرع؛ فإن التبكير بها سنة فيها، وقال بعضهم: يشرع؛ لأن لفظ الصلاة في الحديث يطلق على الظهر، والجمعة، والتعليل مستمر فيها، فالجواب عن تعليل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3087)، كاب: بدء الخلق، باب: صفة النار وأنها مخلوقة، ومسلم (617)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الحديث الرابع

الجمهور بأنه قد يحصل التأذي بحر المسجد عند انتظار الإمام، لكن قد ثبت في "الصحيح": أنهم كانوا يرجعون من صلاة الجمعة وليس للحيطان فيء يستظلون به (¬1) من شدة التبكير بها أول الوقت، فدل على عدم الإبراد بها، والله أعلم. وقد عورض هذا الحديث بما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث خباب بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه -، قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّ الرَّمضاء فلم يشكنا، وسئل أبو إسحاق -يعني: السبيعي- بعد رواية هذا الحديث: أفي الظهر؟ قال: نعم، قيل: أفي تعجيلها؟ قال: نعم (¬2)، واختلف العلماء في الجواب عنه على أوجه: أحدها: أنه منسوخ؛ لأنهم لما شكوا ذلك، كانوا بمكة، وحديث الإبراد بالمدينة، فإنه من رواية أبي هريرة وغيره، ومن العلماء من لم ير النسخ، وقال: الجمع ممكن، فيحمل حديثُ خباب على الأفضل، وحديثُ الإبراد على الرخصة، والتخفيف في التأخير، أو يجمع بأن الإبراد سنة؛ للأمر به والتعليل، ويحمل حديثُ خباب على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإبراد الَّذي ذكرناه أولًا، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفارَةَ لَها إلا ذَلِكَ، أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" (¬3)، ولمسلمٍ: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3935)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (860)، كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (619)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر. (¬3) رواه البخاري (572)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ومسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.

"مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْها، فكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا" (¬1). تقدم ذكر أنس - رضي الله عنه -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسيَ صَلَاةَ فَلْيُصَلِّها إذا ذكرَها" معناه: أنه يلزمه الصلاة إذا خرجت عن الوقت بنوم أو نسيان، وتكون قضاء، وهذا لا خلاف فيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا كَفَّارةَ لها إلَّا ذلكَ" يعني: أنه لا كفارة لها غير فعلها وقتَ ذكرِها، ولا يلزمه شيء آخرُ مع فعلها؛ من عتقٍ أو صيام أو صدقة، كغيرها مما تدخله الكفارة مع وجوب قضائه، ويحتمل أن مراده أنه لا بدل لقضائها كما يقع الإبدال في بعض الكفارات، أو أنه لا يكفي مجرد التوبة والاستغفار، بل لا بدَّ من الإتيان بها. وقوله: "أقم الصلاة لذكري" قال مجاهد في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} [طه: 14]؛ أي: لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها (¬2). وقد قرئ في الشواذ: {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا}. ثم الأمر بقضائها يقتضي فعله عند ذكرها، فيصير ظرفًا للمأمور به، فيتعلق الأمر بالفعل فيه، ولا شك أنه كذلك، أما على الوجوب في حق من تركها عامدًا، فإنه يجب على الفور، أو على الاستحباب في حق النائم والساهي، ولا يجب كما ذكره بعض أصحاب الشافعي، وقد ذكر بعضهم الوجوب على الفور مطلقًا، وبعضهم عدم الوجوب على الفور مطلقًا، واستدل بعض العلماء على عدم وجوب القضاء على الفور بعذر النوم والنسيان بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما ناموا عن صلاة الصبح بالوادي، فما أيقظهم إلا حر الشمس، أخر قضاءها، واقتادوا رواحلهم حتى خرجوا من الوادي، وذلك دليل على جواز التأخير، لكنه ¬

_ (¬1) رواه مسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها. (¬2) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 561).

يتوقف ذلك على أنه لا يكون ثَمَّ مانع من المبادرة إلى فعلها، وادَّعى بعضهم أن المانع كونُ الشمس كانت حينئذ طالعة، والصلاة حينئذ مكروهة، وذلك مردود بأنها كانت صبح اليوم، وأبو حنيفة وغيره يجيزها في هذا الوقت، وبأن في هذا الحديث: فما أيقظهم إلا حرُّ الشمسُ، والحرُّ بها لا يكون إلا بعد ارتفاعها، والقضاء كان بعد ذلك، واعتقد بعضهم أن المانع من فعلها على الفور كونُ الوادي حضرَهم فيه الشيطان، وقد نبه في الحديث على ذلك، فأخر الصلاة حتى خرج عنه، لكن كل وقت ومكان وقع فيه مثل هذا يكون قد حضر فيه الشيطان غالبًا، لكن حضوره في الوادي قطعي بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيرُه ظنيٌّ راجح، وذلك كله يقتضي رجحان القضاء على الفور وإرغام الشيطان، لكن ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من تأخيرها لذلك راجح مقدَّم على هذا الرجحان الَّذي يقتضي القضاء على الفور في هذه الصورة؛ لأنه صاحب الشرع، وهو - صلى الله عليه وسلم - أعرف به، والله أعلم. ثم الصلاة إذا قلنا: إنه يجب الترتيب في قضائها، فلو ذكر الفائتة المنسية وهو في صلاة، هل يقطعها؟ لم يقل المالكية بالقطع مطلقًا، بل لهم في ذلك تفصيل بين الفذ والإمام والمأموم، وبين أن يكون الذكر بعد ركعة أولًا، فلا يستمر الاستدلال مطلقًا لهم، وحيث يقال: يقطعها، فوجهُ الدليل منه أنه يقتضي الأمر بالقضاء عند الذكر، ومن ضرورة ذلك قطعُ ما هو فيه، ومن أراد إخراج شيء من ذلك، فعليه أن يبين معنى مانعًا من إعمال اللفظ في الصورة التي يخرجها، ولا يخلو هذا التصرف من نوع جدل. وفي الحديث دليل على: وجوب القضاء على العامد بالترك بطريق الأولى؛ لأنه إذا لم تقع المسامحة مع قيام العذر بالنوم والنسيان، فلأن لا يقع مع عدم العذر [أولى]، وحكى القاضي عياض عن بعض المشايخ أن قضاء العامد مستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليصلِّها إذا ذكرها"؛ لأنه بغفلته عنها وعمده كالناسي، ومتى ذكر تركه لها، لزمه قضاؤها. قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وهو ضعيف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:

الحديث الخامس

"فليصلِّها إذا ذكرها"، وهو كلام مبني على ما قبله، وهو قوله: "من نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها"، والضمير في قوله: "فليصلِّها إذا ذكرها" عائد على الصلاة المنسية، أو التي وقع النوم عنها، فكيف يحمل ذلك على ضد النوم والنسيان، وهو الذكر واليقظة؟ نعم لو كان كلامًا مبتدأ؛ مثل أن يقال: من ذكر صلاةً، فليصلِّها إذا ذكرها، لكان ما قيل محتملًا، وأما قوله: كالناسي، إن أراد بذلك أنه مثله في الحكم، فهي دعوى، ولو صحت لم يكن ذلك مستفادًا من اللفظ، بل من القياس، أو من مفهوم الخطاب الَّذي أشرنا إليه، وكذلك ما ذكر في هذا من الاستناد إلى قوله: "لا كفارةَ لها إلا ذلك"، والكفارةُ إنما تكون من الذنب، والنائم والناسي لا ذنبَ لهما، وإنما الذنب للعامد، لا يصح أيضًا؛ لأن الكلام كله مسُوق على قوله: "من نام عن صلاة أو نسيها"، والضمائر عائدة إليها، فلا يجوز أن يخرج عن الإرادة، ولا أن يحتمل اللفظ ما لا يحتمله، وتأويل لفظ الكفارة هاهنا أقرب، وليس من إيغال أن الكلام الدال على الشيء مدلول على ضده؛ فإن ذلك ممتنع، وليس ظهور لفظ الكفارة في الإشعار بالذنب بالظهور القوي الَّذي تصادم به النص الجلي في أن المراد الصلاة المنسية، أو التي وقع عنها النوم، وقد وردت كفارة القتل خطأً مع عدم الذنب، وكفارة اليمين بالله مع استحباب الحنث في بعض المواضع، وجواز اليمين ابتداء، فلا ذنب، والله أعلم (¬1). * * * الحديث الخامس عَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِشَاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى قَوْمِهِ، فَيُصَلِّي بِهِم تِلْكَ الصَّلاةَ (¬2). * أما جابرٌ، فتقدم ذكره. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 58 - 59). (¬2) رواه البخاري (679)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلّى ثم أمّ قومًا، ومسلم (465)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، وهذا لفظ مسلم.

وأما معاذٌ، فكنيته أبو عبد الرحمن بنُ جبلِ بنِ عمرِو بنِ أوسِ بن عايذ -بالياء المثناة من تحت والذال المعجمة- بنِ عديِّ بنِ كعبِ بنِ عمرِو بنِ أودى بنِ سعدِ بنِ عليِّ بنِ أَسدِ بنِ شاردةَ بن تزيدَ -بالتاء المثناة فوق- بنِ جشمَ بنِ الخزرجِ، الأنصاريُّ ثم الجشميُّ، وقيل في نسبه غير ذلك، وهو مدني أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومناقبه كثيرة جدًّا، وكان له ابن يسمى: عبد الرحمن، وبه كني، وقاتل مع أبيه يوم اليرموك، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين ابن مسعود، قال الواقدي: هذا مما لا اختلاف فيه عندنا. وقال ابن إسحاق: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين معاذ وجعفر بن أبي طالب، وبعثه رسول الله قاضيًا إلى الجند من اليمن يعلِّم الناسَ القرآن وشرائعَ الإسلام، ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالدُ بنُ سعيد على صنعاء، والمهاجرُ بن أبي أمية على كندةَ، وزيادُ بن لبيد على حضرموت، ومعاذُ بن جبل على الجند، وأبو موسى الأشعري على زَبيد، وزمعةَ، وعدن، والساحل، ولما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن قال له: "بم تقضي؟ "، قال: بما في كتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: بما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإن لم تجد؟ "، قال: أجتهد رأي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الَّذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يحبُّ رسولُ الله" (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [أعلمُهم -يعني: أُمَّتهُ-] بالحلالِ والحرامِ معاذُ بن جبل" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي معاذ بنُ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3592)، كتاب: الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي (1327)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 230)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 114)، عن أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الترمذي (3795)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل ... ، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (154)، في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند، (3/ 184)، وابن حبان =

جبل يوم القيامة أمامَ العلماء رَتْوَة" (¬1)، والرتوةُ -بفتح الراء، وبالمثناة فوق ساكنة، وبالواو مفتوحة، ثم هاء التأنيث-، ومعناها: الرمية بسهم، وقيل: بحجر؛ أي: يكون معاذ يوم القيامة أمام العلماء بمقدار مسافة الرمية بالسهم أو الحجر. وعن فروة الأشجعي وغيره قال: كنت جالسًا مع ابن مسعود، فقال: إن معاذًا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120]، فأعاد قوله: إن معاذًا، فلما رأيته أعادَ، عرفت أنه تعمَّد الأمر، فسكتُّ (¬2). وفي رواية قال: سمعتموني ذكرتُ إبراهيم؟ إنا كنا نشبه معاذًا بإبراهيم، قال فروة: فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة: الَّذي يعلم الخير ويُؤتم به ويقتدى، والقانت: المطيع لله، وكذلك كان معاذ بن جبل معلمًا للخير، مطيعًا لله ولرسوله (¬3). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "واللهِ يا معاذُ إِنِّي لأُحِبُّكَ"، قال: وأنا واللهِ أحبُّكَ يا رسولَ الله، الحديث (¬4). وعن عبد الله بن كعب بن مالك - رحمه الله - ¬

_ = في "صحيحه" (7131)، والحاكم في "المستدرك" (5784)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1833)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 404)، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 347)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 288)، عن محمد بن كعب القرظي، مرسلًا. وفي الباب: عن جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 349)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9947)، والحاكم في (المستدرك) (9947)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 230)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 418). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 349)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9944)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 230)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 419). (¬4) رواه النسائي (1303)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، والطبراني في "المعجم =

قال: كان معاذ رجلًا شابًّا جميلًا من أفضل شباب قومه، سمحًا، لا يمسك، وادَّانَ حتى أغرق ماله كله في الدين، فباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ماله كله في دَيْنه حتى قام معاذ بغير شيءٍ، في قصة طويلة فيها: أن معاذًا - رضي الله عنه - بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طائفة من أهل اليمن عامَ الفتح ليجبره، فمكث أميرًا باليمن، وكان أول من تجر في مال الله تعالى، وأنه أصاب حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم على أبي بكر، الحديث. وهذا الحديث مرسل صحيح (¬1). وخرج معاذ إلى الشام في خلافة أبي بكر، واستعمله عمر على الشام إذ مات أبو عبيدة، فمات من عامه في طاعون عَمْواس بين قرية بين الرملة وبيت المقدس، قاله أبو عمر بن عبد البر. وقال المدائني: مات معاذ بناحية الأردن في طاعون عمواس. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وسبعة وخمسون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث واحد، روى عنه من العبادلة: ابنُ عمر، وابنُ عباس، وابن عمرٍو بنِ العاصي، وأبو قتادة الأنصاريُّ، وجابرُ بن عبد الله، وأنسٌ، وأبو أمامةَ الباهليُّ، وأبو ثعلبةَ الخشنيُّ، وعبدُ الله بن أبي أوفى، وعبدُ الرحمن بنُ سمرة، وعبدُ الرحمن بنُ غنم، وجنادةُ بن أبي أمية، والمقدامُ بن معدي كرب، وجماعةٌ من التابعين المخضرمين، وغيرهم، وروى له أصحاب السنن والمساند. ونسب الطاعون الَّذي مات فيه إلى عمواس؛ لأنه أول ما بدأ منها، قال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو البصري الدمشقي: كان الطاعون بسنة سبع عشرة وثمان عشرة، وفي سنة سبع عشرة رجع عمر من سرغ بجيش المسلمين ليلًا يقدمهم على الطاعون، ثم عاد من العام المقبل سنة ثمان عشرة حتى أتى ¬

_ = الكبير، (20/ 111)، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بهذا اللفظ. (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (15177)، ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 31)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 429)، لكن عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.

الجابية، فاجتمع إليه المسلمون، فجند ومصَّر الأمصار، وفرض الأعطية والأرزاق، ثم قفل إلى المدينة. وعن الزهري قال: أصاب الناسَ طاعونٌ بالجابية، فقام عمرو بن العاصي فقال: تفرقوا عنه؛ فإنه بمنزلة نار، فقام معاذ بن جبل فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هذه رحمةٌ لهذه الأمة، اللهم فأذكره معاذًا وآل معاذ فيمن يذكره بهذه الرحمة" (¬1). واتفقوا على أنه مات سنة ثمان عشرة، إلا قولًا شاذًّا أنه مات سنة سبع عشرة، واختلفوا في سنه يوم مات، فالأكثرون على أنه ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: أربع، وقيل: ثمان، وقيل: إحدى وثلاثين، وقيل: ثمان وعشرين. قال الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي - رحمه الله -: وقبره بغور بيسان في شرقيه - رحمه الله ورضي عنه - (¬2). أما قول جابر: إن معاذًا كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشاء الآخرة، ففيه دليل على جواز مثل هذا، وإضافة المنكر إلى المعرف، وإذا كان المعرف صفة للمنكر، ويعبر عنه بإضافة الموصوف إلى صفته، وهو مذهب الكوفيين، فيقال: عشاء الآخرة، ومسجد الجامع، ومنعه البصريون، وقالوا حيث جاء إضافة المنكر إلى المعرف في الصفة والموصوف إنما هو بتقدير موصوف معرف محذوف، وهو العشاء الآخرة، وفي مسجد المكان الجامع، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 371 - 372). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 347)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 359)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 368)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 301)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 228)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1402)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 383)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 489)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 187)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 403)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 105)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 443)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 19)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 136)، و"تهذيب التهذيب"، له أيضًا (10/ 169).

وقد منع بعض العلماء قول: العشاء الآخرة، قال: لأنه يقتضي أن يكون ثمَّ عِشاءٌ أولى، وقد نُهي عن تسمية المغرب عشاءً، وهذا غلط مردود بما ثبت في "صحيح مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَيُّما امرأةٍ أصابَتْ بَخُورًا، فلا تشهدْ معنا العشاءَ الآخِرَةَ" (¬1)، وقد ثبت ذلك من كلام جماعة من الصحابة؛ لحديث جابر هذا وغيره، والله أعلم. وأما صلاة معاذ - رضي الله عنه - صلاةَ العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يصليها بقومه، فاعلم أنه ينبغي أن يقرر أولًا أن فرض معاذ - رضي الله عنه - في هذه الصلاة كانت الأولى، وهي صلاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوجوه: أحدها: أنه روى الدارقطني في بعض طرق هذا الحديث فيمن صلى وفعل فعلَ معاذٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فهيَ لهم فَريضةٌ وله تَطَوُّعٌ" (¬2)، وعللها بعض المالكية بأنها رواية شديدة الضعف، وعلى تقدير ثبوتها، فهي مدرجة، ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل من كلام ابن جريج، أو من روى عنه، أو من قول جابر؛ لأن ابن عيينة رواه، وليس فيه هذه اللفظة التي ذكرها ابن جريج، ولا شك أن الدارقطني إمام جليل لم يذكر شيئًا من ذلك، وهو أخبر، وأعلم بالحديث، فلو كان ثم شيء مما ذكره هذا المالكي المعلل، لبيَّنه، وابن جريج ثقة فيما رواه ¬

_ (¬1) رواه مسلم (444)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 274)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 409)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 86)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. قال الطحاوي معقبًا على هذا الحديث: قد روى ابن عينية هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تامًّا، وساقه أحسن من سياق ابن جريج، غير أنه لم يقل فيه هذا الَّذي قاله ابن جريج: "هي له تطوع ولهم فريضة"، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، ويجوز أن يكون من قول عمرو بن دينار، ويجوز أن يكون من قول جابر، فمن أي هؤلاء الثلاثة كان القول، فليس فيه دليل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا؛ لأنهم لم يحكوا ذلك عن معاذ، إنما قالوا قولًا على أنه عندهم كذلك، وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك. ا. هـ. وقد نصّ على أن هذه الزيادة ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي من الرواة: الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 53).

وانفرد به، ولا يثبت القدح في مثل هذا بالاحتمال من غير نص من حافظ على أنها مدرجة، والله علم. الوجه الثاني: أنه يبعد بعدًا شديدًا أن يجعل معاذ فرضَه مع قومه، وصلاتَه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلةً؛ فإنه - رضي الله عنه - لا يظن به ذلك، فيترك فضيلة فرضه خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويأتي بها مع قومه، مع ما ثبت من رتبته في العلم. الوجه الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أُقيمت الصلاةُ، فلا صلاةَ إلا المكتوبة" (¬1)، فكيف يُظن بمعاذٍ - رضي الله عنه - مخالفةُ ذلك، ويصلي النافلةَ مع قيام المكتوبة؟! إذا تقرر هذا، وأن فرض معاذ - رضي الله عنه - كان الأولى، وأن صلاته بقومه كانت نافلة، فقد ادعى بعضهم أن ذلك منسوخ بأمرين: أحدهما: أنه يحتمل أن فعل معاذ ذلك حين كانت الفريضة تقام في اليوم مرتين حتى نهي عنه. والثاني: أن إسلام معاذ كان متقدمًا، وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده سنتين من الهجرة صلاةَ الخوف غيرَ مرة على وجه تقع فيه المخالفة الظاهرة بالأفعال المنافية للصلاة في غير حالة الخوف، وذلك يدل على عدم إيقاع الصلاة في اليوم مرتين على وجه لا يقع المنافاة والمفسدات في غير هذه الحالة. والجواب عن الأول: أنه لا بد من نقل على إيقاع الفرض في اليوم مرتين، ولا نقلَ، فلا دليل على النسخ، وإثباتُه بالاحتمال لا يجوز. وعن الثاني: ما ذكر من الملازمة، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده صلاة شدة الخوف لا يدل على النسخ بتقدير تقدم إسلام معاذ وفعله، كيف والمنازعة واقعة في أن ذلك هل كان عقب إسلامه أو بعده؟ على أنه قد كانت الضرورة داعية إلى صلاة معاذ بقومه؛ لقلة القراء ذلك الوقت، ولم يكن لهم غِنًى عن صلاة معاذ، ولم يكن لمعاذ غِنًى عن صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع احتمال فعل معاذ ذلك أنه كان ¬

_ (¬1) رواه مسلم (710)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

مقترنًا بحالة مخصوصة أُبيح له ذلك من أجلها، فيرتفع الحكم بزوالها، فلا يكون نسخًا على كل حال، فهو ضعيف؛ لعدم قيام الدليل على النسخ والفعل من كل وجه، والله أعلم. إذا تقرر أن فرض معاذ الأولى، وعدم نسخه، ثبت جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وادعاء عدم علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك بعيد جدًّا، ولو فرض عدم علمه بذلك، وأن ذلك لم يجز، لم يقر عليه - صلى الله عليه وسلم -، بل كان ينزل عليه الوحي بمنع فعل معاذ، فقد نزل الوحي في المجادلة عن نفسها، وفي التحريم لما أحلَّ الله، وغير ذلك، وأمرُ الصلاة أعظمُ، فدل على بطلان هذا الادعاء، والله أعلم. وقد اختلف العلماء في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وهو راجع إلى قاعدة، وهي أن ائتمام المأموم بالإمام واجبٌ في الصورة والنية، والفعل والقول، أم في الفعل وبعض القول؟ وفي ذلك كلام تقدم معظمه، ونتكلم هنا على ما يتعلق بحديث معاذ، فنقول: يجوز اختلاف نية الإمام والمأموم مطلقًا؛ لحديث معاذ، فيجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، وعكسه، والقاضي بالمؤدي، وعكسه، سواء اتفقت الصلاتان، أم لا، إلا أن تختلف الأفعال الظاهرة، وهو مذهب الشافعي، ومن قال بقوله، وهو أوسع المذاهب. وخالف مالك في أحد قوليه في ذلك، وقال: لا يجوز اختلاف النيات حتى لا يصلي المتنفل خلف المفترض، ونقلُ هذا القول عن مالك ليس بجيد، كذا قال شيخنا أبو الفتح القاضي، قال: وهذا أضيقُ المذاهب في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة، ومالك -في المشهور الراجح عنه، وهو أوسط المذاهب-: يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض، لا عكسه (¬1)، وحديث معاذ - رضي الله عنه - أشبهُ بالاستدلال على جواز عكس هذا المذهب، خصوصًا لمن لم يعد المعنى في العبادات، لكنه اعترض على فعل معاذ بأن الاستدلال به إنما هو من باب ترك الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشرط صحة الاستدلال بالفعل الواقع من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 59).

الحديث السادس

غيره - صلى الله عليه وسلم - علمُه به، وتقريره إياه، وجائز ألا يكون - صلى الله عليه وسلم - علم بصلاة معاذ بقومه؛ إذ لو علم، لأنكر، وهذا الاعتراض بعيد جدًّا؛ لما ذكرناه أولًا، وبما ثبت في "الصحيح": أنه - صلى الله عليه وسلم - علم بصلاته بشكوى قومه من التطويل عليهم، وغضبه - صلى الله عليه وسلم - لذلك، وتكرير قوله: "أَفَتَّانٌ أنْتَ يا مُعاذُ؟! " (¬1)، ولم يثبت صريحًا أنه - صلى الله عليه وسلم - منعه من الصلاة بقومه وإلزامه بالصلاة معه، بل خيره بين الصلاة معه، والتخفيف في صلاته بقومه، وبين تركِ صلاتهِ بقومه، والصلاةِ معه - صلى الله عليه وسلم -، لا أنه خيره بين الصلاة معه وتركِ الصلاة بقومه، وبين الصلاة بقومه وترك الصلاة معه، والله أعلم، ولهذا كان استدلال جمهور العلماء بحديث معاذ على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، وعكسه؛ لأن المحذور إنما هو وقوع الاختلاف على الأئمة ظاهرًا، ولا اختلاف ظاهرًا هنا، واختلاف النيّات أمر باطن لا يظهر فيه كبير محذور، والاستدلالُ للمسائل العمليات إنما هو بما ظهر من الأفعال أو الأقوال أو التقريرات، لا بالمعتقدات المجوزات، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإذَا لَمْ يَسْتَطعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ في الأَرْضِ، بَسَط ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ (¬2). تقدم ذكر أنس - رضي الله عنه -. وقوله: "كنا نصلِّي معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا حكمه حكمُ المرفوع، بلا خلاف؛ إذ الظاهرُ تقريرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، وعلمُه به، ولهذا صرح أنس بالمعية في صلاتهم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (1150)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: بسط الثوب في الصلاة للسجود، ومسلم (620)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر.

وقوله: "بسطَ ثوبَه فسجدَ عليه"، لا شكَّ أن الثوب لغة إنما هو غير المَخيط؛ كالرداء والإزار، وقد تطلق على المخيط؛ كالقميص وغيره، وقد فسر عمر - رضي الله عنه - الثوبين بالمخيط وغيره في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَكُلُّكُمْ يجدُ ثوبينِ؟ " (¬1) حين سئل عن الصلاة في الثوب الواحد، فقال: هو إزار ورداء، أو إزارٌ وقميص، وغير ذلك، إذا ثبت هذا، فقول أنس: "بسط ثوبه"، يعمُّ ذلك [كل] ما يسمى ثوبًا، لكنه ليس فيه تعرض لاتصاله بلبس المصلي، أو بسطه منفصلًا عن لبسه، لكن الظاهر انفصاله عنه، فإنه إذا صلى على ثوب منفصل عن لبس المصلي، فإنه يجوز الصلاة عليه بلا خلاف، وإن كان متصلًا به، فإن كان المبسوط المصلَّى عليه يتحرك بحركة المصلي، لم يصحَّ الصلاة عليه، وإن لم يتحرك بحركته، صحت، فبسطُ الصحابة ثيابَهم لاتقاء الحر في الصلاة، محمولٌ على أنهم لم يكونوا لابسيها، ولو كانوا لابسيها، كانت محمولة على أنها لم تتحرك بحركتهم في الصلاة، والله أعلم. وقد أجاز أبو حنيفة والجمهور السجودَ على طرف ثوبه المتصل به، ولم يجوزه الشافعي، وتأول الحديث على السجود على ثوبٍ منفصل عنه، وحمله الأصحاب على المتصل إذا لم يتحرك بحركته، والله أعلم. وفي الحديث فوائدُ: منها: أنه يقتضي تقديم الظهر في أول الوقت مع الحر، ولا شك أن ذلك صحيح إن قلنا: إن الإبراد رخصة، فيكون تقديمها سنة، والإبراد جائز، وإن قلنا: إن الإبراد عزيمة مسنونة، فقد ردد بعضهم القول في أن صلاتهم للظهر في أول الوقت في شدة الحر منسوخ، أو يكون على الرخصة. قال شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -: ويحتمل عندي عدم التعارض؛ لأنا إذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (358)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في القميص والسراويل والتبّان والقباء، ومسلم (515)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الحديث السابع

جعلنا الإبراد إلى حيث يبقى ظل يمكن المشي فيه إلى المسجد، أو إلى ما زاد على الذراع، فلا يبعد أن يبقى مع ذلك حر يحتاج معه إلى بسط الثوب، فلا يقع تعارض. ومنها: جواز استعمال الثوب وغيره في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض؛ لاتقاء الحر وبردها. ومنها: أن الأولى في مباشرة المصلي الأرض بجبهته ويديه، فإنه علق بسط الثوب بعدم الاستطاعة، وذلك يفهم منه أن الأفضل والمعتاد عدم بسطه، والله أعلم (¬1). * * * الحديث السابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" (¬2). المراد بالثوب هنا الإزارُ فقط، وقد ألحق به في المعنى السراويل، وكل ما تُستر به العورة؛ بحيث يكون أعالي البدن مكشوفًا، فورد النهي على مخالفة ذلك بأن يجعل على عاتقه شيء يحصل الزينة المسنونة في الصلاة. والعاتق: ما بين المنكب والعنق، وهو مذكر، ويؤنثُ أيضًا، وجمعه: عواتقُ، وعُتُق -بضمتين-، وعُتْق، -بضم ثم إسكان-. ثم السنةُ في جعل بعض ثوب المصلي على العاتق إذا كان مكشوفًا، أما إذا كان مستورًا بقميص أو غيره، فلا يشرعُ جعلُ شيء منه ولا غيره على عاتقه، وقد ذكر أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - أن الإمام يومَ الجمعة يستحب له أن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 62 - 63). (¬2) رواه البخاري (352)، كتاب: الصلاة، باب: إذا صلَّى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه، ومسلم (516)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، إلا أنه عندهما: "عاتقيه" بدل "عاتقه".

يزيد على سائر الناس في الزينة؛ كالرداء ونحوه، وليس من زينته الطيلسان؛ فإنه ليس من شعار الإسلام، بل هو من شعار اليهود؛ فإنه ثبت في "صحيح مسلم" وغيره أنه شعارُ يهودِ أصبهانَ السبعين ألفًا الذين يخرجون مع الدجال (¬1)، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه باليهود والنصارى وسائر الكفار، ولعن من تشبه بهم، مع أنهم يمنعون من لبسه في بلاد المسلمين؛ لما فيه من الرفعة عليهم به، والله أعلم. وقد اختلف العلماء في ستر العاتق في الصلاة، هل هو مستحب، أو واجب؟ فذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والجمهور إلى استحبابه، وأن تركه مكروه كراهة تنزيه، تصح الصلاة مع كشفه. وذهب أحمد - رحمه الله - في المشهور عنه، وبعض السلف إلى الوجوب، وعدم الصحة بتركه إذا قدر على ستره، أو وضع شيء عليه؛ لظاهر هذا الحديث. وعن أحمد رواية أخرى: أن صلاته صحيحة، لكنه يأثم بتركه. واستدل الجمهور بما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من رواية جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في ثوب له: "فإنْ كانَ واسعًا، فالتحِفْ به، وإن كانَ ضيقًا، فاتَّزِرْ به" (¬2)، ولم يأمره - صلى الله عليه وسلم - بوضع شيء على عاتقه مع ضيقه واتزاره به، فدل على عدم وجوبه والإثم بتركه، لكنه قد يجاب عنه بأن عدم أمره - صلى الله عليه وسلم - له بوضع شيء على عاتقه مع ضيق ثوبه؛ لعلمه بعجزه عن ستره، والعاجزُ معذور في ذلك، بخلاف القادر، والله أعلم. وقد اعترض على ذلك بأن الَّذي يطرح على عاتقه شيئًا في الصلاة لا يخلو إما ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2944)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، عن أنس بن مالك مرفوعًا: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة". (¬2) رواه البخاري (354)، كتاب: الصلاة، باب: إذا كان الثوب ضيقًا، ومسلم (3010)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل، وهذا لفظ البخاري.

الحديث الثامن

أن يشغل يده بإمساكه، أولًا، فإن لم يشغل، خِيفَ سقوطه وانكشاف عورته إن كان بعض ثوبه الإزار، وإن شغل، كان فيه مفسدتان: إحداهما: منعُه من الإقبال على صلاته والاشتغال بها، الثانية: أن شغل يديه بالركوع والسجود لا يؤمن معه انكشاف العورة فيهما بسقوط الثوب، مع أنه نقل عن بعض العلماء القولُ بظاهر الحديث، ومنع الصلاة في السراويل والإزار وحده، لأنها صلاة في ثوب ليس على عاتقه منه شيء، وهو مخصوص بغير حالة الضرورة، والأشهر عند جمهور العلماء خلاف هذا على ما حررنا نقله أولًا، وجواز الصلاة بما يستر العورة، وحمل الحديث على كراهة التنزيه؛ حيث لا ضرورة ولا معارض له بأمرٍ أكثرَ مصلحةً للصلاة منه، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، وَلْيَعْتَزِل مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ"، وَأُتِيَ بِقِدْرٍ فِيه خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخْبِرَ بمَا فِيهَا مِنَ البُقُولِ، فَقَالَ: "قَرِّبُوهَا" إلى بَعْضِ أَصْحَابهِ، فَلَمَّا رَآهُ، كَرِهَ أَكْلَهَا، فَقَالَ: "كُلْ؛ فَإِنِّي أُناجِي مَنْ لَا تُنَاجِي" (¬1). تقدم الكلام على جابر. أما البقول -في جمع البقل- قال أهل اللغة: البقل: كل نبات اخضرت به الأرض (¬2). وقوله: "وأُتي بقدر فيه خضرات"، هكذا هو في "صحيح مسلم": بقدر وهو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (817)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكُرّاث، ومسلم (564)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من كل ثومًا أو بصلًا أو كُرَّاثًا أو نحوها. (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (11/ 60)، (مادة: بقل).

ما يُطبخ فيه، ورواه البخاري في "صحيحه"، وأبو داود في "سننه"، وغيرهما: بِبَدْر -بباءين موحدتين - (¬1)، قال العلماء: وهو الصواب، وفسره الرواة وأهل اللغة والغريب بالطبق، قالوا: وسمي بَدْرًا لاستدارته كاستدارة البدر، واستبعدوا لفظة القدر بأنها تشعر بالطبخ (¬2). وقد ورد الإذن بأكل البقول المذكورة مطبوخة، وأما البدر، فلا تشعر كونها فيه مطبوخة، بل يجوز أن تكون نية، فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة. وأما الضمير في "فيه"، فهو عائد على القدر إذا قلنا: إنه مذكر، وهو لغة، وأما إذا قلنا: إنها مؤنثة، فيكون الضمير عائدًا إلى الطعام الَّذي في القدر، والله أعلم. وقوله: "فأُخبر بما فيها من البقول": دليل على أن القدر مؤنثة. وقوله: "قربوها، إلى بعض أصحابه"، الضمير في قربوها عائد إلى البقول، أو إلى الخضرات، لكن عوده إلى البقول أولى؛ لأنه أقرب. وقوله: "فلما رآه كره أكلها، قال: كُلْ فإني أُناجي من لا تناجي"، فيه دليل على إباحة أكل الثوم والبقل ونحوهما، وهو حلال بإجماع مَنْ يعتد به، وحكي عن أهل الظاهر أو بعضهم تحريمُ أكل هذه الأشياء؛ لأنها تمنع عن حضور الجماعة، وتقريره عندهم أن الجماعة فرضُ عين، ولا يتم الإتيان به إلا بترك أكل هذه الأشياء؛ لهذا الحديث، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فترك أكل هذا واجب، وحجة الجمهور المعتد بهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلْ؛ فإني أناجي من لا تناجي"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّها الناس! ليس لي تحريمُ ما أحلَّ الله" (¬3)، ويلزم من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3822)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الثوم، وقد تقدم تخريجه قريبًا عند البخاري. (¬2) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 533)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 81)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 106)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 49)، (مادة: بدر)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 50)، وعنه أخذ المؤلف مادته هذه. (¬3) رواه مسلم (565)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من كل ثومًا أو بصلًا أو =

إباحة أكلها ومنع حضور الجماعة والمساجد بسبب أكلها، ألَّا تكون الجماعة واجبة على الأعيان، وتقريرُه أن كل هذه الأشياء جائز؛ لما ذكرناه، ومن لوازمه تركُ الصلاة جماعة في حق آكلها، ولازمُ الجائز جائز، وترك الجماعة في حق آكلها جائز، وذلك ينافي الوجوب عليه. وفي الحديث فوائد: منها: اعتزال الجماعة والمساجد لمن أكل بصلًا أو ثومًا أو نحوهما مما له رائحة كريهة، ولزوم بيته، وذلك تصريح بالنهي عن ذلك في كل مسجد، وهو مذهب العلماء كافة، وحكي عن بعض العلماء: أن النهي خاص بمسجد الرسول؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليعتزلْنا، أو: فليعتزلْ مسجدَنا" (¬1)، وأكد ذلك بأن مسجده - صلى الله عليه وسلم - كان مهبطَ الوحي، والصحيحُ عمومُه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية في "صحيح مسلم": "فلا يقربن المساجد" (¬2)، فيكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مسجدنا" للجنس، أو لضرب المثال؛ لأنه معلل بتأذي الناس أو الملائكة الحاضرين، وذلك قد يكون موجودًا في المساجد كلها. ومنها: أن أكل البصل والثوم ونحوهما حلال، والنهي إنما هو عن الحضور مع الجماعة، أو عن حضور المسجد، لا عن أكلها، فإنه جائز بإجماع من يعتد به، وتقدم ذلك، وقد اختلف أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - في الثوم هل كان حرامًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم كان يتركه تنزهًا كغيره؟ على وجهين، وظواهر الأحاديث عدم التحريم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كغيره، ومن قال بالتحريم قال: ¬

_ = كُرَّاثًا أو نحوها، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، لكن بلفظ: "ليس بي" بدل من "ليس لي". (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) رواه مسلم (561)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كُرَّاثًا أو نحوها، والبخاري أيضًا (815)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكُرَّاث، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ: "فلا يقربن مسجدنا -أو- مساجدنا".

الحديث التاسع

المراد بقوله: "ليس لي تحريمُ ما أحل الله" (¬1) بالنسبة إلى أمته فيما أحل لها، لا بالنسبة إليه، والله أعلم. وقد ألحق العلماء بالمنع من المساجد من أكل الثوم والبصل والكراث كلَّ ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، وألحق القاضي عياض - رحمه الله - به من أكل فجلًا، أو كان يتجشأ، وألحق ابن المرابط المالكي به من في فيه بَخْر، أو بهِ جُرْحٌ له رائحة، وقد قاس العلماء على هذا مجامع الصلاة في غير المساجد؛ كمصلى العيد والجنائز ونحوهما، والله أعلم. ومنها: أنه من أكل هذه المذكورات، هل هو عذر مرخِّصٌ في ترك الجماعة، أم خرج المنع من حضور المساجد والجماعات مخرجَ الزجر عن أكلها، فلا يقتضي أن يكون عذرًا في ترك حضورها إلا أن تدعوه ضرورة إلى أكلها، وهذا بعيد من وجه آخر، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بتقريب هذه البقول إلى بعض أصحابه، فإنه ينافي الزجر، والله أعلم. ومنها: احترامُ الناس والملائكة؛ بمنع أذاهم بالروائح الكريهة ونحوها مما يؤذي. ومنها: الأمرُ بالقعود في البيت عندَ وجود الأذى المتعدِّي واعتزال الناس للكفِّ عن أذاهم؛ والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَكَلَ البَصلَ وَالثُّومَ والكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَى مِنْهُ الإنْسَانُ" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) رواه البخاري (816)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكُرّاث، ومسلم (564)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كُرّاثًا أو نحوها، وهذا لفظ مسلم.

تقدم ذكرُ جابر. وفي هذا الحديث زيادٌ على الَّذي قبله: ذكرُ الكرَّاث، وفيه إشارةٌ إلى تعدي الحكم إلى كل ما له رائحة كريهة كما ذكرناه فيما تقدم، وتقدم التوسع بالمساجد إلى سائر المجامع، خلا الأسواق ونحوها. وأما تعليله - صلى الله عليه وسلم - بتأذي الملائكة من أكل المذكورات كلها لأجل ريحها كما يتأذى به الإنسان، ففيه تنبيه على كراهة أكلها مطلقًا، أو في مواضع حضور الملائكة، فيخرج منه الحفظة الملائكة الملازمون لبني آدم، وإن لم يكن أحد من بني آدم حاضرًا، فيكون تأذي الملائكة علَّة بانفرادها، وتأذي بني آدم علة بانفرادها، والله - سبحانه وتعالى - أعلم. * * * انتهى المجلد الأول ويليه المجلد الثاني، وأوله باب التشهد، من كتاب الصلاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْعُدَّة فِي شَرْحِ الْعُمْدَة [2]

جَمِيع الْحُقُوق مَحفوظَة الطبعَةُ الأولى 1427 هـ - 2006 م جمعية الْإِصْلَاح 1360 هـ الْبَحْرين 1941 م مَشروعُ الْعلم النافع سلسلَة إصدارات لجنة الْأَعْمَال الْخَيْرِيَّة (15) شركَة دَار البشائر الإسلامية للِطِّباعَةَ والنشر والتوزيع ش. م م أسَّسها الشَّيْخ رمزي دمشقية رَحمَه الله تَعَالَى سنة 1403 هـ - 1983 م بيروت - لبنان ص. ب: 5955/ 14 هَاتِف: 702857 فاكس: 704963/ 009611 e-mail: [email protected]

باب التشهد

باب التشهد سمي التشهد تشهدًا بأشرف ما فيه، وهو لفظه، وهو الشهادتان، كما سميت الصلاة سبحة أو ركوعًا أو سجودًا بأشرف ما فيها، وهو التسبيح، أو الركوع، والسجود؛ فإنهما لما كانا علة في الخضوع، سميت به، وإن كان أحدهما أبلغ من الآخر فيه، وإن كان التسبيح من حيث ذاته أفضل منهما، والسجود أفضل من الركوع، والله أعلم. * * * الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ، كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: "التَّحِيَّاتُ للهِ والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَليْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللهِ وَبرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ" (¬1). وفي لفظ: "إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ في الصَّلَاةِ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ للهِ"، وذكره، وفيه: "فَإنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ في السَّمَاءِ والأَرْضِ"، وفيه: "فَلْيَتَخَيَّرْ مِنَ المَسْأَلةِ مَا شَاءَ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5910)، كتاب: الاستئذان، باب: الأخذ باليدين، ومسلم (402)، (1/ 301)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة. (¬2) رواه البخاري (5969)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة، ومسلم (402)، =

أما ابن مسعود، فتقدم الكلام عليه في أول كتاب الصلاة. وأما ألفاظه، فقوله: التحيات، هي جمع تحية، وهي الملك، وقيل البقاء، وقيل: العظمة، وقيل: الحياة، وقيل: السلام، فإذا حمل على السلام، فيكون التقدير: التحيات التي تعظم بها الملوك مثلًا كلُّها مستحقةٌ لله تعالى، وأتى بها بلفظ الجمع؛ لأن ملوك العرب كل واحد منهم يحييه أصحابه بتحية مخصوصة، فقيل؛ جميع تحياتهم لله تعالى، وهو المستحق لذلك حقيقة، وإذا حمل على البقاء، فلا شك في اختصاص الله تعالى به، وإذا حمل على الملك والعظمة، فيكون معناه: الملك الحقيقي التام، أو العظمة الكاملة لله؛ لأن ما سوى ملكه وعظمته تعالى فهو ناقص. وقوله: "والصلوات" الواو تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون حينئذ كلُّ جملة ثناء مستقلًا، وهو أبلغ، ومعناها: الصلوات المعهودة، ويكون التقدير أنها واجبة لله تعالى، لا يجوز أن يقصد بها غيره، أو يكون ذلك إخبارًا عن إخلاصنا الصلواتِ له؛ أي: صلاتنا مخلصة له لا لغيره، [وقيل: معناها: الرحمة، فيكون معنى إضافتها إلى الله؛ أي: هي للمتفضل بها، والمعطي هو الله؛ لأن الرحمة التامة لله لا لغيره] (¬1)، وقدر بعض المتكلمين هذا المعنى بأن قال: كلُّ من رحم أحدًا، فرحمتُه له بسبب ما حصل له من الرقة عليه، وهو برحمته دافع لألم الرقة عن نفسه، بخلاف رحمة الله تعالى؛ فإنما [هي] لمجرد إيصال النفع إلى العبد، وقيل: معناها: الدعوات والتضرع. وقوله: "والطيبات" فقد فسرت بالأقوال الطيبات، ولو فسرت بما هو أعظم من الأفعال والأقوال والأوصاف، كان أولى، وطيب الأوصاف كونها بصفة الكمال، وخلوصها عن شوائب النقص. وقوله: "السلامُ عليكَ أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، السلامُ علينا وعلى ¬

_ = (1/ 301)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، وهذا لفظ مسلم. (¬1) ما بين معكوفين ساقط من: "ح".

عباد الله الصالحين"، أما السلام، فمعناه: التعوذُ باسم الله الَّذي هو السلام، والتحصينُ به - سبحانه وتعالى -؛ كما يقول: الله معك؛ أي: الله متوليك وكفيل بك؛ أي: باللطف والحفظ والمعونة، وقيل: معناه: السلامة والنجاة لكم، كما في قوله تعالى: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 91]، وقيل: معناه: الانقياد لك؛ كما في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وليس يخلو بعض هذا من ضعف؛ لأنه لا يتعدى السلام ببعض هذه المعاني بكلمة على، ولذلك قيل في معنى السلام آخرَ الصلاة الَّذي هو تحليل منها. وأما قوله: "عبادَ الله، فهو جمعُ عبد، وله جموع غيره: عبيد، وأَعْبُد، وأَعابِد، ومعبوداء، ومعبدة، وعبد، وعُبدان، وعِبدان -بضم العين وكسرها-، وعبدا -بالقصر والمد-، والعبودية أشرف أوصاف العبد، وبها بعث الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في أعلى مقاماته في الدنيا، وهو الإسراء في بدايته ونهايته؛ حيث قال - سبحانه وتعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، فكان من ربه {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9، 10]، ونعتهم بالصالحين ليخرج الطالحين، قال الزجاج وصاحب "مطالع الأنوار" وغيرهما (¬1): هم القائمون بحقوق الله تعالى، وحقوقِ العباد الواجبة عليهم، والألف واللام الداخلتان على الجمع للتكثير، وعلى الجنس دليل على العموم، وعلى صحة القول به من غير توقف ولا تأخر، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حيث قال: "أصابتْ كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض" (¬2)، وهو مذهب الفقهاء - رحمهم الله تعالى -، وهو مقطوع به في لسان العرب، وتصرفات ألفاظ الكتاب والسنة التي من جملتها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصابَتْ كلَّ عبدٍ"، فأدخل فيه الكل، حتى ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 44)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 117)، وعنه أخذ المؤلف. (¬2) رواه البخاري (797)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التشهد في الآخرة، ومسلم (402)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة.

الملائكة خصهم، أعني: العباد الصالحين من الملائكة والجن والإنس بالذكر للثناء والتعظيم، وقد كانوا قبل ذلك يقولون: السلامُ على الله، السلام على فلان، السلام على فلان، حتى علموا هذا اللفظ. وقوله: "أشهد أنْ لا إلهَ الا اللهُ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" إنما أتى بلفظ الشهادة دون لفظ العلم واليقين؛ لأنه أبلغ في معنى العلم واليقين، وأظهر؛ حيث إنه شهود، وهو مستعمل في ظواهر الأشياء وباطنها، بخلاف العلم واليقين؛ فإنهما يستعملان في البواطن غالبًا دون الظواهر، ولهذا قال الفقهاء - رحمهم الله تعالى -: لا تصح إذًا الشهادة عند الحاكم بلفظ دون الشهادة، فلو قال الشاهد: أعلم أو أوقن بكذا، لم يصح، والله أعلم. وسمي نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - به؛ لكثرة خصاله المحمودة، فألهم الله أهله تسميته به؛ لعلمه سبحانه بها فيه - صلى الله عليه وسلم -، قال أهل اللغة: يقال: رجل محمد ومحمود: إذا كثرت خصالُه المحمودة (¬1). واعلم أنه ورد في التشهد أحاديثُ: منها: رواية ابن مسعود هذه. ومنها: رواية ابن عباس، وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم -، واتفق العلماء على جوازها كلها، واختلفوا في الأفضل والمختار منها، ولا شك أن الروايات اختلفت فيه، فمذهب أبي حنيفة وأحمد - رحمهما الله - وجمهور الفقهاء اختيارُ تشهدِ ابن مسعود هذا؛ لكونه عند المحدثين أشدَّ صحة؛ فإنه في "الصحيحين"، وغيره في مسلم خاصة، ولما فيه من المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقدم، وأنه أبلغ، بخلاف حذف واو العطف، فيكون ما عدا الأول صفة له، فيكون جملة واحدة في الثناء، وزاد بعض الحنفية في تقرير هذا بأن قال: لو قال: والله، والرحمن، والرحيم، لكانت أيمانًا متعددة تتعدد بها ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 117)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 157)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 64)، (مادة: حمد).

الكفارة، ولو قال: والله الرحمن الرحيم، لكانت يمينًا واحدة فيها كفارة واحدة، وبما فيه من إثبات الألف واللام في السلام للتعريف، وتنكيره في رواية غيره، والتعريف أعم. وبقول ابن مسعود - رضي الله عنه - في اللفظ الذي يدل على العناية بتعلمه وتعليمه، وهو: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه؛ كما يعلمني السورة من القرآن، لكن هذا مشترك بينه وبين تشهد ابن عباس - رضي الله عنهما - لما فيه من زيادة لفظة "المباركات"، وهي موافقة لقول الله تعالى {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]. وأجاب من رجح مذهب الشافعي في اختيار تشهد ابن عباس بأن واو العطف قد تسقط، وتكون مقدرة في حديث ابن عباس، فيكون تقدير التحيات المباركات الصلوات الطيبات، بالواو فيها كلها، وحذفها جائز للاختصار، معروف في اللغة، وأنشدوا في ذلك: كيف أصبحت كيف أمسيت مما (¬1) والمراد: كيف أصبحت وكيف أمسيت؛ وهذا أولًا إسقاط للواو العاطفة في عطف الجمل، ومسألتنا في إسقاطها في عطف المفردات، وهو أضعف من إسقاطها في عطف الجمل، ولو كان غير ضعيف، لم يمتنع الترجيح بوقوع التصريح بما يقتضي تعدد الثناء، بخلاف ما لم يصرح به، والله أعلم. واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي علمه الناسَ على المنبر، ورجحه أصحابه؛ لشهرته، وعدم المنازعة فيه من أحد من الصحابة -رضي الله عنهم-، فصار كالإجماع، وهو: التحياتُ لله الزاكياتُ الطيباتُ لله، سلام عليك أيها النبي، إلى آخره، ويترجح تشهد ابن مسعود عليه، وكذا تشهد ابن عباس - رضي الله عنه - بأن رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصرَّح به، ورفع تشهد عمر - رضي الله عنه - بطريق الاستدلال، كيف والغاية دالة على تقديمها بتعليمها ¬

_ (¬1) منسوب إلى علي - رضي الله عنه -، كما في "ديوانه" (ص: 190)، وفيه: كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... ينبت الودُّ في الفؤادِ الكريمِ

كما يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السورة من القرآن، والله أعلم. واعلم أن العلماء اختلفوا في التشهد، هل هو واجب، أم سنة؟ فقال الشافعي وطائفة: الأخير واجب، والأول سنة، وقال جمهور المحدثين: هما واجبان، وقال أحمد: الأول واجب، والثاني فرض، وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان، وعن مالك رواية بوجوب الأخير، وقد وافق من لم يوجب التشهد على وجوب التعوذ بقدره في آخر الصلاة، واستدل للوجوب بقوله: "فليقل التحياتُ"، والأمر للوجوب، إلا أن مذهب الشافعي - رحمه الله - أن جميع ما يوجه إليه هذا الأمر ليس بواجب، بل الواجب بعضه، وهو: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي"، من غير إيجاب ما بين ذلك من "المباركات والطيبات والصلوات"، وكذا -أيضًا- لا يوجب كل ما بعد السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - على اللفظ الذي يوجه عليه الأمر، بل الواجب بعضه، واختلفوا فيه، وعلل هذا الاقتصار على بعض ما في الحديث بأنه المتكرر في جميع الروايات، وعليه إشكال؛ لأن الزائد في بعض الروايات زيادة من عدل، فيجب قبولُها إذ توجه الأمر بها، وكان الشافعي - رحمه الله - اعتبر في حد الأقل ما رآه مكررًا في جميع الروايات، ولم يكن تابعًا لغيره، وإن ما انفردت به الروايات، أو كان تابعًا لغيره، جوز حذفه، لكنه يشكل على هذا لفظة "الصلوات"، فإنها ثابتة في جميع الروايات، وليست تابعة في المعنى، وقد ادعى الرافعي ثبوت "الطيبات" في جميع الروايات، واستشكلها، وهي منفية في رواية "الموطأ" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، والله أعلم. ثم اعلم أن "المباركات والزاكيات" في حديث عمر بمعنى واحد، والبركة: كثرة الخير، وقيل: النماء، وكذا الزكاة أصلُها النماء. وفي هذا الحديث أحكام: منها: شرعية تعليم السنة والأحكام وضبطها وحفظها كما يشرع تعليم القرآن وحفظه وضبطه.

ومنها: الأمر بالتشهد وتقدم الاختلاف في وجوبه والكلام عليه. ومنها: أن لفظة "كل" للعموم. ومنها: الدعاء بالسلام على الأنبياء والصالحين، وتقدم الكلام على ذلك مفصلًا. ومنها: شرعية الدعاء آخر الصلاة قبل السلام. ومنها: أنه يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا ما لم يكن إثمًا، وهذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا الدعوات الواردة في القرآن والسنة، واستثنى بعض أصحاب الشافعي بعض صورٍ من الدعاء تقبُح؛ كما لو قال: اللهم أعطني امرأة صفتُها كذا وكذا، وأخذ يذكر أوصاف أعضائها. ومنها: ما استدل به جمهور العلماء على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير ليست واجبة من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم التشهد، وأمر عقبه أن يتخير من المسألة ما شاء، ولم يعلم ذلك، وموضع التعليم لا يؤخر فيه بيان الواجب، ومذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وبعضِ أصحاب مالك وجوبُها في التشهد الأخير، فمن تركها، بطلت صلاته، وقد جاء في رواية في هذا الحديث في غير مسلم زيادة: "فإذا فعلتَ ذلكَ فقد تَمَّتْ صلاتُك" (¬1)، لكنها زيادة ليستْ صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسيأتي الكلام عن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآتي مبينًا واضحًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (856)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه الترمذي (302)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، وابن خزيمة في "صحيحه" (545)، عن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - كلاهما في حديث المسيء صلاته.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (¬1). أما عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى، فكنيته أبو عيسى، واسم أبيه أبي ليلى: يَسارٌ، على الأصح المشهور، ويقال: بلال، ويقال: داود بن بلال بن بلبل بن أحيحةَ بن الجلاح بنِ الحريشِ بنِ جحجنا بنِ عوفِ بنِ عمرِو بنِ عوفِ بنِ مالكِ بنِ الأوس. وعبدُ الرحمن هذا تابعيٌّ، ثقة، جليل، أنصاريٌّ، أوسيٌّ، كوفي، حضر حلقته جماعةٌ من الصحابة -رضي الله عنهم- استمعوا لحديثه، وأنصتوا له، فيهم البراء بن عازب - رضي الله عنهما -، وروي عنه قال: أدركت عشرين ومئة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم من الأنصار. ولد لست بقيت من خلافة عمر، وروى عنه وعن الخليفتين بعده، وسعد بن أبي وقاص من العشرة، وخلق كثير من الصحابة والتابعين. وأبوه أبو ليلى صحابي، لم يرو عنه غيرُ ابنه عبد الرحمن هذا، وابنُ أبي ليلى الفقيه، القاضي محمدُ بن عبد الرحمن هذا ضعيف، ومات عبد الرحمن سنة ثلاث وثمانين، وروى له البخاري ومسلم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3190)، كتاب: الأنبياء، باب: "يزفون"، ومسلم (406) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 109)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 350)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 199)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 372)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 262)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 58)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 234).

وأما كعبُ بن عُجرة، فكنيته أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو إسحاق، وهو من بني سالمِ بن عوف، وقيل: من بني سالم بنِ بليِّ بنِ الحاف بنِ قضاعةَ، حليفٌ لبني حارثة بنِ الحارث بنِ الخزرج، وقيل: هو حليفٌ لبني عوف بن الخزرج، وهم القواقلة، وقيل: إنه حليف لبني سالم من الأنصار، شهد بيعة الرضوان، وقال ابن الأثير: تأخر إسلامه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بآخرين، وروى عنه ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاصي؛ العبادلة، وجابرُ بن عبد الله، وطارقُ بن شهاب، وبنوه: إسحاق، وعبد الملك، ومحمد، والربيع، وجماعة من التابعين، مات بالمدينة سنة اثنتين، وقيل: إحدى، وقيل: ثلاث وخمسين، وله خمس وسبعون سنة، روى له أصحاب السنن والمساند (¬1). أما ألفاظه: فقوله: "ألا أهدي لك هديةً" الهديةُ: ما يُتقرب به إلى المهدى إليه توددًا وإكرامًا من غير قصد عوض دنيوي، بل القصد ثواب الآخرة، وأكثر ما يستعمل في المأكول والمشروب والملبوس، وقد يتجوز بها في العلوم اللفظية والمعنوية الشرعية؛ كما في هذا الحديث: "ألا أهدي لك هدية"، والهدية واحدة الهدايا؛ كالعطية والعطايا، والبرية والبرايا، وفيه إضمار؛ كأن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال له: نعم، فقال له كعب: "إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله" الحديث. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمدٍ" إلى آخره، صيغة الأمر في قوله ظاهرة في الوجوب، وقد اتفق العلماء على وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 351)، "والمستدرك" للحاكم (3/ 545)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1321)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 139)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 454)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 377)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 179)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 52)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 599)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 390).

اختلف العلماء، فأكثرهم على وجوبها في العمر مرة، وقال بعضهم: يجب كلما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو اختيار الطحاوي من الحنفية، وأبي عبد الله الحليمي من الشافعية. وقال الشافعي وأحمد: هي واجبة في التشهد الأخير عقبه قبل السلام، وهذا مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما -، وهو قول الشعبي، وإسحاق، وقد نسب الشافعي جماعة في وجوبها في التشهد الأخير إلى مخالفة الإجماع، وهو غير صحيح، فإن الشعبي تابعي صغير، وهو من الفقهاء المعتد بقولهم، وخلافه ليس معه إجماع، كيف وهو منقول عن عمر وابنه، وجعل من نسب الشافعي إلى مخالفة الإجماع في ذلك أن قول أحمد وإسحاق في الوجوب على سبيل التبعية والتقليد للشافعي، لا استقلالًا. واعلم أنه ليس في الحديث تنصيص على أن هذا الأمر مخصوص بالصلاة، وقد استدل الفقهاء كثيرًا على وجوبها في الصلاة بأنها واجبة بالإجماع، ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع، فتعين وجوبها فيها، وهو ضعيف جدًّا، ولأن قولهم: لا تجب في غير الصلاة بالاجماع إن أرادوا به عينًا، فهو صحيح، لكنه لا يلزم منه أن يجب في الصلاة عينًا؛ لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة، فلا يجب واحد من العينين خارج الصلاة وداخلها. واعلم أن كل لفظ أُمرنا بالإتيان به على صيغة من الشارع يجب في العمل به مراعاة لفظه، ولا يجوز الإتيان به بمعناه، فالصلاة من الله تعالى معناها الرحمة، فإذا قلنا: اللهم صل على محمد، فكأننا سألنا الله تعالى الرحمة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسقط الأمر بقولنا: اللهم ارحم محمدًا، أو اللهم ترحمَّ على محمد، دون الصلاة، وقد وردت الرحمة مع الصلاة والتبريك في بعض الأحاديث الغريبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "وارحم محمدًا وآل محمد، كما رحمت إبراهيم وآل إبراهيم"، واختلف علماء المالكية في قول ذلك، فقال بعضهم: لا يقال، وهو اختيار أبي عمر بن عبد البر، وأجازه بعضهم، وهو مذهب محمد بن أبي زيد، والمختار

عند أكثر العلماء عدم جوازه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم الصلاة عليه، وليس فيها ذكر الرحمة، فيتعين لفظ الصلاة، وإن كان معناها السؤال والدعاء والتضرع له - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة، فلا تفرد بالذكر، والله أعلم. وقد استدل بعض أصحاب الشافعي على وجوبها في الصلاة برواية في هذا الحديث في صيغة أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد" إلى آخره، وهذه الرواية صحيحة، رواها الإمامان الحافظان أبو حاتم بن حبان البستي، والحاكم أبو عبد الله في "صحيحيهما"، وقال الحاكم: هي زيادة صحيحة (¬1)، واحتجا بها على الوجوب، واحتجا أيضًا في "صحيحيهما" بما روياه عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي لم يحمدِ الله ولم يمجِّدْه، ولم يصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَجِلَ هذا"، ثم دعاه النبي فقال: "إذا صلَّى أحدكم، فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليدع بعدُ بما شاء"، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم (¬2). وهذان الحديثان، وإن اشتملا على ما لا يجب بالإجماع؛ كالصلاة على الآل والذرية والدعاء، فلا يمتنع الاحتجاج بهما؛ فإن الأمر للوجوب، فإذا خرج بعض ما تناوله الأمر عن الوجوب بدليل بقي الباقي على الوجوب، والله أعلم. وأما الصلاة على الآل، فهو سنة، وفي مذهب الشافعي وجه شاذ أنها واجبة، وقد يتمسك لهذا الوجه بلفظة الأمر، لكنه محجوج بإجماع من قبله في عدم وجوب الصلاة على الآل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1959)، والحاكم في "المستدرك" (988)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 119)، وابن خزيمة في "صحيحه" (711)، والدارقطني في "سننه" (1/ 354)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 146)، عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1960)، والحاكم في "المستدرك" (840)، وأبو داود (1481)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، والترمذي (3477)، كتاب: الدعوات، باب: (65)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 18)، وابن خزيمة في "صحيحه" (710).

وقد اختلف في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هم؟ فاختار الشافعي أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، واختار الأكثرون والمحققون أنهم جميع الأمة وأهل دينه، قال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]، واختار آخرون أنهم أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، وذريته، والله أعلم. وأما تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحمد، فتقدم في الكلام على الحديث قبله. وقوله: "كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد"، أما إبراهيم، وإبراهام، وإبراهم -بضم الهاء وفتحها وكسرها-، فقال الماوردي: معناه بالسريانية أب رحيم، وقال غيره: فيه خمس لغات، وقال الجواليقي وغيره (¬1): أسماء الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- كلها عجمية إلا محمدًا، وصالحًا، وشعيبًا، وآدم، وقال ابن قتيبة: تحذف الألف من الأسماء الأعجمية كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وإسرائيل، استثقالًا كما ترك صرفها، وكذا سليمان، وهارون، قال: فأما ما لا يكثر استعماله منها؛ كهاروت، وماروت، وقارون، وطالوت، فلا تحذف الألف في شيء منه، ولا تحذف من داود، وإن كان مشهورًا؛ لأنه حذف منه إحدى الواوين، فلو حذفت الألف، أجحف به، وأما ما كان على وزن فاعِل، كصالح، ومالك، وخالد، فيجوز إثبات ألفه وحذفها بشرط كثرة استعماله، فإن قل؛ كسالم، وحامد، وجابر، وحاتم، لم يجز حذف الألف، وما كثر استعماله ودخلته الألف واللام، تحذف ألفه معهما، وبإثباتها مع حذفهما، تقول: قال الحرث لئلا يشتبه بحرب، فلا تحذف من عمران، ويجوز حذفها وإثباتها في عثمان وسفيان ونحوهما بشرط كثرة استعمالها (¬2). وقد كثر سؤال المتأخرين عن مقتضى المشبه به، وهو الصلاة على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وآله، والمشبه، وهو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله، مع أن نبينا أفضلُ ¬

_ (¬1) انظر: "المُعَرَّب من الكلام الأعجمي على حرف المعجم" لأبي منصور الجواليقي (ص: 13). (¬2) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 72)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (1/ 112).

من إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فكيف تطلب صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تشبه بالصلاة على إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد أجيب عن ذلك بوجوه: أحدها: أن التشبيه بينهما إنما وقع في أصل الصلاة، لا في قدرها؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، فالتشبيه إنما وقع في أصل الصيام، لا في عينه ووقته، قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وهذا ليس بالقوي (¬1). الثاني: أن التشبيه إنما وقع في الصلاة على الآل، فيكون الكلام تم عند قوله: اللهم صل على محمد، ويكون منقطعًا عن التشبيه، ويكون قوله: وعلى آل محمد متصلًا بما بعده، فيكون السؤال لهم مثل ما لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وآله آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، وقد حكى هذا الوجه بعضُ أصحاب الشافعي عنه، قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وفي هذا من الإشكال أن غير الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- لا يمكن أن يساويهم، فكيف يطلب ما لا يمكن وقوعه؟ (¬2). الثالث: أن التشبيه إنما وقع في الصلاة مقابلة للمجموع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وآله بالمجموع من إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وآله، ومعظم الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - هم آل إبراهيم، فكأنه سأل مقابلة الجملة بالجملة، لا المقدار بالمقدار؛ لأنه إذا تعذر أن يكون لآل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلُ ما لآل إبراهيم الذين هم الأتباع من الأنبياء وغيرهم، كان ما توفر من ذلك حاصلًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون زائدًا على الحاصل لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان، ومن كانت في حقه أكثر، كان أفضل. الرابع: أن الأمر بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل، فإذا اقتضت في حق كل مصل حصول صلاة مساوية للصلاة على ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 74). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

إبراهيم، كان الحاصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى مجموع الصلوات أضعافًا مضاعفة، لا ينتهي إليها العد والإحصاء. فإن قيل: التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة، والفرد منها، فالإشكال حاصل، قال أبو الفتح شيخنا - رحمه الله -: متى يرد الإشكال؟ إذا كان الأمر للتكرار، وإذا لم يكن، الأول ممنوع، والثاني مسلم، ولكن هذا الأمر للتكرار بالاتفاق، وإذا كان للتكرار، فالمطلوب من المجموع حصول مقدار لا يحصى من الصلوات بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من المساواة أو عدم الرجحان عند السؤال، وإنما يلزم ذلك لو لم يكن الثابت للرسول - صلى الله عليه وسلم - صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم، أو زائدة عليها، أما إذا كان كذلك، فالمسؤول من الصلاة إذا انضم إلى الثابت المتقرر للرسول - صلى الله عليه وسلم -، كان المجموع زائدًا في المقدار على القدر المسؤول، وصار هذا في المثال كما إذا ملك إنسان أربعة آلاف درهم، وملك آخر ألفين، فسألنا أن يعطي صاحب الأربعة آلاف مثل ما لذلك الآخر، وهو ألفان، فإذا حصل ذلك، انضمت الألفان إلى الأربعة آلاف، فالمجموع ستة آلاف، وهي زائدة على المسؤول الذي هو ألفان، والله أعلم (¬1). وقوله: "اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" اختار المصنف هذا اللفظ من بين سائر ألفاظ الروايات في الصلاة والتبريك، فإنه ليس فيهما ذكر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وإنما المشبه به آله فقط، وأكثر الروايات فيها ذكر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وآله، والله أعلم. ومعنى البركة هنا: الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: الثبات على ذلك؛ من قولهم: بركت الإبل؛ أي: ثبتت على الأرض، ومنه بركة الماء، وقيل: هي بمعنى التطهير من العيوب كلها والتزكية. وقوله: "إنك حميد مجيد"؛ أي: حميد بصيغة المبالغة بمعنى المحمود، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 74 - 75).

وهو المستحق لأنواع المحامد، وقيل: الذي تُحمد أفعاله، ومجيد: مبالغة في الماجد، وهو الذي كمل في الشرف والكرم والصفات المحمودة، يقال: مَجُدَ الرجلُ ومَجَدَ -بالضم والفتح- يمجُد -بالضم فيهما-، مَجدًا ومَجادة، فيكون مجيد كالتعليل لاستحقاق الحمد بجميع المحامد، ويحتمل أن يكون حميد مبالغة من حامد، ويكون ذلك كالتعليل للصلاة المطلوبة؛ فإن الحمد والشكر يتقاربان، فحميد قريب من معنى شكور، وذلك مناسب لزيادة الإفضال والإعطاء لما يراد من الأمور العظام، وكذلك المجد والشرف مناسبته لهذا المعنى ظاهرة، والله أعلم. وقد احتج بهذا الحديث من أجاز الصلاة على غير الأنبياء، فإن أراد بالجواز على سبيل التبعية لهم، فمسلم، وإن أراد على سبيل الاستقلال، فممنوع، مع أن الصلاة والتسليم لم يؤمر بهما على سبيل الجمع في الكتاب العزيز إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخبر الله تعالى عن نفسه الكريمة وعن ملائكته - صلى الله عليهم وسلم - بالصلاة فقط إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما السلام فقط، فقد سلم الله تعالى في سورة الصافات على الأنبياء والمرسلين دون الصلاة، وقد أمر الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالسلام على المؤمنين بالآيات إذا جاؤوه، فقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]. وقد أجمع العلماء على الصلاة على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أجمع من يعتد به على جوازها واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالًا، وأما غير الأنبياء والملائكة من مؤمني الآدميين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد اختلف العلماء في الصلاة عليهم استقلالًا، فذهب مالك والشافعي والأكثرون إلى أنهم لا يُصلَّى عليهم استقلالًا، فلا يقال: اللهم صل على أبي بكر، أو عمر، أو علي، أو غيرهم، ولكن يُصلَّى عليهم تبعًا، والحديث يدل على ذلك، خصوصًا على مذهب المحققين في أن الآل كل المؤمنين. واختلف أصحاب الشافعي في هذا المنع هل هو للتحريم أم لكراهة التنزيه،

أم هو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أوجه، والصحيح الذي عليه الأكثرون منهم: أنه مكروه كراهة تنزيه، قالوا: لأنه شعار أهل البدع، وقد نُهينا عن شعارهم، لكن المعتمد في دليل المنع أن الصلاة في لسان السلف صارت مخصوصة بالنبي وغيره من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- استقلالًا، كما أن قولنا: عزَّ وجلَّ مخصوص بالله -سبحانه وتعالى-، فكما لا يقال: محمد عزَّ وجلَّ، وإن كان عزيزًا جليلًا، لا يقال: أبو بكر أو علي صلى الله عليه، وإن كان معناه صحيحًا. وذهب الإمام أحمد وجماعة إلى جواز الصلاة على كل واحد من المؤمنين استقلالًا، واحتجوا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى" (¬1)؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم، صلَّى عليهم، وأجاب الأكثرون بأن هذا النوع من الصلاة مأخوذ من التوقيف وعمل السلف، ولم ينقل استعمالُهم ذلك، بل خَصوا به الأنبياء كما ذكرنا، وأجابوا عن الآية الكريمة والحديث المذكورين وغيره من الأحاديث: أن ما كان من الله -عزَّ وجلَّ- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو دعاء وترحم، وليس فيه معنى التعظيم والتوقير الذي يكون من غيرهما، واتفق العلماء على جواز جعل غير الأنبياء من الأتباع والذرية والأزواج تبعًا لهم في الصلاة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وفي الأمر به في أحاديث التشهد، والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وفي السلام عليه، ولم يزل السلف على العمل به خارج الصلاة أيضًا. وأما السلام، فقال الشيخ أبو محمد الجويني: هو في معنى الصلاة، فإن الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب غير الأنبياء، فلا يقال: أبو بكر، أو عمر، أو علي - عليه السلام -، وإنما يقال ذلك خطابًا للأحياء والأموات، وأما الحاضر ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1426)، كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ومسلم (1078)، كتاب: الزكاة، باب: الدعاء لمن أتى بصدقة، عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -.

منهم، فيقال: سلام عليك، أو عليكم، أو السلام -بالألف واللام-، والله أعلم (¬1). وفي الحديث فوائد: منها: استحبابُ ابتداء العالم أصحابَه بالعلم باستفتاح كلام يحملهم على أخذه بقبول. ومنها: أنه يؤخذ العلم تؤدة شيئًا فشيئًا؛ ليفهم ويعمل به، فإذا علمه، أخبرنا العالم بأنه فهمه وعلمه، وسأله عن غيره، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ ومنها: أنه يستحب للإنسان أن يبدأ بنفسه في الدعاء؛ حيث قال: السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين. ومنها: تنزيل مراتبِ الأنبياء وغيرهم، ويقيس الإنسان مراتبَهم، فلا يقدم أخيرًا على أول. ومنها: أن تقديم ذكر الشيء في كتاب الله تعالى لا يوجب العمل تقديمه، فإن الله تعالى قدم الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على السلام، والسلامُ مقدَّم في العمل إجماعًا، وهذا يدلك أن الواو تقتضي مطلق الجمع لا الترتيب، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ومنها: فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفضل الصلاة والتسليم، وقد روينا في فضلهما والترغيب فيهما وما يترتب عليهما من رفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتكثير الحسنات، وقضاء الحاجات، ورفع الحجب، واستجابة الدعوات أحاديثَ كثيرات، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (4/ 128).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمنْ عَذَابِ النَّارِ، ومنْ فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ، وَمنْ فِتْنَةِ المَسِيح الدَّجَّالِ" (¬1)، وفي لفظٍ لمسلم: "إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ مِنْ أَرْبعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّم"، ثم ذكر نحوه (¬2). تقدم الكلام على أبي هريرة. وقوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو" إلى آخره: فيه دليل على استحباب هذا الدعاء آخر الصلاة قبل السلام، وفي "صحيح مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، وأن طاوسًا - رحمه الله - أمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يَدْعُ بهذا الدعاء فيها (¬3)، وهذا كله دليل على تأكيد على هذا الدعاء والتعوذ، والحث الشديد عليه، وظاهر كلام طاوس أنه حمل الأمر به على الوجوب، فأوجب الإعادة للصلاة بفواته، وجمهور العلماء على أنه مستحب، ليس بواجب، ولعل طاوسًا أراد تأديب ابنه، وتأكيد هذا الدعاء عنده، لا أنه يعتقد وجوبه، والله أعلم. واعلم أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعاذته من هذه الأمور التي عوفي منها وعُصم إنما فعله ليلتزم خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه، لتقتدي أمته به، وليبين لهم صفة الدعاء والمهم منه، والله أعلم. وقوله: "أعوذ بك من عذاب القبر": فيه إثبات عذاب القبر وفتنته، وهو متكرر مستفيض في الروايات عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1311)، كتاب: الجنائز، باب: التعوذ من عذاب القير. (¬2) رواه مسلم (588)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة. (¬3) رواه مسلم (590)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإيمانُ به واجب، وأجمعَ عليه العلماء من أهل السنة وغيرهم، وهو مذهب أهل الحق، خلافًا للمعتزلة. وقوله: "ومن عذاب النار": فيه الإيمان بالنار، وأنها مخلوقة موجودة، وقد ثبتت الاستعاذة منها في غير حديث. وقوله: "ومن فتنة المحيا والممات": أي: الحياة والموت، ففتنة المحيا ما يتعرض له الإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأشدها وأعظمها -والعياذ بالله تعالى منه- أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات قيل: المراد: فتنة القبر، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذةُ من عذاب القبر وفتنة القبر كمثلِ أو أعظمَ من فتنة الدجال، ولا يكون من هذا الوجه متكررًا مع قوله: من عذاب القبر؛ لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسببُ غير المسبب، ولا يقال: إن المقصود زوالُ عذاب القبر؛ لأن الفتنة نفسَها أمر عظيم، وهو شديد يستعاذ بالله من شره، ويجوز أن يراد بفتنة الممات: الفتنةُ عند الموت، وأضيفت إلى الموت؛ لقربها منه عند الاحتضار، أو قبله بقليل، وتكون فتنة المحيا على هذا ما يقع قبل ذلك في مدة الحياة للإنسان وتصرفه في الدنيا، فإن ما قارب الشيء يُعطى حكمه، فحالة الموت تشبه بالموت، فلا تعد من الدنيا، فعلى هذا يكون الجمع بين فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال وفتنة القبر من باب ذكر الخاص بعد العام، ونظائرُه كثيرة، والله أعلم. ويحتمل أن يراد بفتنة المحيا والممات حالة الاحتضار وحالة المساءلة في القبر، فكأنه استعاذ من فتنة هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما؛ كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. واعلم أن الرواية التي في "صحيح مسلم" - رحمه الله - كما ذكرها المصنف فيها زيادة كون الدعوات مأمورًا بها بعد التشهد، والمراد به الأخير لا الأول؛

الحديث الرابع

لأنه مبني على التخفيف، وقد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور؛ حيث أمرنا بها في كل صلاة، وهي حقيقة بذلك؛ لعظم الأمر فيها، وشدة البلاء في وقوعها، ولأن أكثرها أمور إيمانية غيبية، فتكررها على النفس يجعلها مَلَكة لها، وفيها التعبير عن الاستعاذة بصيغة من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه يمكن التعبير عنها بغير هذا اللفظ، وهو جائز يحصل به المقصود، فإن معنى أعوذ: أعتصم، لكن الأولى امتثالُ الأمر بقول ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. وفي الحديث الرد على أبي حنيفة - رحمه الله -؛ حيث منع الدعاء في الصلاة إلا بألفاظ القرآن العظيم. واعلم أن محل الدعاء من الصلاة مواطن: منها: هذا الموطن بين التشهد والتسليم. ومنها: دعاء الاستفتاح بين تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة. ومنها: الدعاء في السجود. ومنها: الدعاء في الجلوس بين السجدتين. ومنها: في الركوع. ومنها: الدعاء في تلاوته فيها، وهو إذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوذ، وقد وردت في كل موطن منها أحاديث صحيحة وحسنة وضعيفة، منها أحاديث خُرِّجَتْ في "الصحيحين" وغيرهما، ويدل أيضًا عليها حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وهو هذا. * * * الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاِتي، قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي

ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا انْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" (¬1). أما عبد الله بنُ عمرو بن العاص، فتقدم الكلام عليه. وأما أبو بكر الصديق: فاسمه عبد الله بن أبي قحافة، واسمه عثمانُ بن عامر بن عمرو بن كعب ابنِ سعدِ بنِ تَيْمِ بن مرةَ بنِ كعب بن لؤيِّ بنِ غالبٍ، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب، وأمه أمُّ الخير سلمى بنتُ صخرِ بنِ عامر بنِ كعبٍ أخي عمرو بن كعب بنِ سعدِ بنِ تيمِ بنِ مرة بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبٍ، تلتقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[في مرة]، فهي ابنة أخي جده عامر، وهو صخر بن عامر، فتكون ابنةَ عم أبيه، والله أعلم. أسلم أبوه، وقيل: إن اسمه عتيق، وليس بمشهور، وقيل: إنما سمي به لحسن وجهه، وقيل: إنما سمي عتيقًا؛ لما روي من غير وجه عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبو بكر عتيقُ الله من النار" (¬2)، فمن يومئذ سمي عتيقًا، وقال مصعب بن الزبير وغيره: إنما سمي عتيقًا؛ لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به (¬3)، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: إن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صِدّيقًا (¬4)، وقال أبو العالية والكلبي في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، الذي جاء بالصدق: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدَّق به: أبو بكر - رضي الله عنه - (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (799)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر. (¬2) رواه الترمذي (3679)، كتاب: المناقب، باب: (17)، وقال: غريب، والحاكم في "المستدرك" (3557)، عن عائشة - رضي الله عنها -. وفي الباب: عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 22). (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 75). (¬5) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 228)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (30/ 438).

وروى محمد بن فضيل عن الكلبي أن قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬1)؛ فإنه أول من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أول من أظهر إسلامه بسيفه وبيعته النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - (¬2). وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله -: وسمي الصديق لبداره إلى تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما جاء به، وقيل: بل قيل له الصديق لتصديقه له في خبر الإسراء. وكان في الجاهلية وجيهًا، رئيسًا من رؤساء قريش، وإليه كانت الأشناف، وهي الرايات في الجاهلية، كان إذا حمل شيئًا، صدقته قريش فيه، وأمضوا حمالته وحمالةَ من قام معه، وإن احتملها غيرُه، خذلوه ولم يصدقوه. وأسلم على يدي أبي بكر من العشرة: الزبيرُ، وعثمانُ، وطلحةُ، وعبد الرحمن بن عوف. وهو أول من أسلم من الرجال، وكان له أربعون ألفًا أنفقها كلَّها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما نفعني مالٌ ما نفعني مالُ أبي بكر" (¬3). وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة. ¬

_ (¬1) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 28)، و"التمهيد" لابن عبد البر (22/ 131). (¬2) روى ابن ماجه (150)، في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 404)، وابن حبان في "صحيحه" (7083)، والحاكم في "المستدرك" (5238)، عن عبد اللهِ بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر - رضي الله عنه - فمنعه الله تعالى بقومه. . . الحديث. (¬3) رواه الترمذي (3661)، كتاب: المناقب، باب: (15)، وابن ماجه (94)، في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 253)، وابن حبان في "صحيحه" (6858)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وزوَّجَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ابنتَه عائشةَ - رضي اللهِ عنها -، وكان يقال لها: الصديقة بنتُ الصديق، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - أعلم الناس بحديث التخيير، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوا لي صاحبي؛ فإنكم قلتم لي: كذبتَ، وقالَ: صدقتَ" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في كلام البقرة والذئب: "آمنتُ بهذا أنا وأبو بكرٍ وعمرُ" (¬2)، وما هما [ثَمَّ]، ثم علم - صلى الله عليه وسلم - منهما بما كانا عليه من اليقين والإيمان. وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله! من أحبُّ الناس إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها" (¬3). وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أَمَنَّ الناسِ عليّ في صحبته ومالِه أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقينَّ في المسجد خَوْخَةٌ إلا خوخة أبي بكر" (¬4). وعن أَبِي أمامةَ الباهليِّ - رضي الله عنه - قال: حدثني عمرو بن عَبَسة، قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باركٌ بعكاظ، فقلت: يا رسول الله! من اتبعك على هذا الأمر؟ قال: "حُرٌّ وعبدٌ: أبو بكر، وبلال"، قال: فأسلمت عند ذلك (¬5). وعن أنس: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنهما - حدثه قال: قلت: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3461)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلًا"، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (2199)، كتاب: المزارعة، باب: استعمال البقر للحراثة، ومسلم (2388)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه البخاري (3691)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، ومسلم (2382)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬5) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة.

يا رسول الله - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار-: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه، لأبصرنا تحت قدميه، قال: "يا أبا بكر! ما ظنك باثنينِ اللهُ ثالثُهما؟ " (¬1). وقال رجل من أبناء أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسِ فيه القاسمُ بن محمدِ بنِ أبي بكر الصديق: واللهِ ما كان من موطن فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وعليٌّ فيه، فقال القاسم: يا أخي! لا تحلف، قال: هَلُمَّ، قال: بلى ما لا نرده، قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬2) [التوبة: 40]. قال أصحاب المعاني: كانت المعية لفظًا ومعنى، أما اللفظ، فإنه كان يقال لأبي بكر: خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قال له رجل: يا خليفة الله! قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا راض بذلك (¬3)، وأما المعنى، فإن عناية الله تعالى لم تفارقهما في الدنيا والآخرة، وأجمع الصحابةُ على استخلافه من غير نزاع، وكانت خلافته كالمنطوق بها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته في الصلاة، وإنما لم يصرح باستخلافه على أعباء الأمة؛ لأنه لم يؤمر فيه بشيء، بل عرض به - صلى الله عليه وسلم - تعريضًا قام مقام التصريح، وهو ما رواه الطحاوي عن المزني، عن الشافعي، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أتت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن شيء، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله! أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ -تعني الموت-، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لم تجديني، فأتي أبا بكر" (¬4)، قال الشافعي - رحمه الله -: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4386)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، ومسلم (2381)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 92). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (37048)، عن ابن أبي مليكة، مرسلًا. (¬4) ورواه البخاري (3459)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا =

في هذا الحديث دليل على أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنه - (¬1). وكان أبو بكر أعلم الناس بالأنساب وبكل شيء بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أشجعَ الناس، وأشدَّهم فهمًا، وأغزرهم علمًا، وأكثرهم رأفة ورحمة، ولما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يعتره ما اعترى الصحابةَ من الجزع والقلق وعدم الصبر، حتى إنه - رضي الله عنه - كان في سرية أسامة بن زيد، فجاء المسجدَ، فوجد الناس مضطربين لموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَرُعْه ما الناس فيه، ولم يرجعْ إلى قولهم حتى دخل بيتَ ابنته عائشة - رضي الله عنهما -، فكشف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجده قد مات، فقبله بين عينيه، وقال: واللهِ لقد متَّ الموتة التي كتبها الله -عزَّ وجلَّ- عليك، ثم سجاه، ثم خرج إلى المسجد وخطب الناس، وقال من جملة قوله: من كان يعبدُ الله، فإن اللهِ حي لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، فعلم الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات (¬2)، ثم لم يكن له - رضي الله عنه - همٌّ إلا أمر المسلمين وأعبائهم، فذهب إلى الأنصار، فتكلم هو وعمر معهم، وقال لهم من جملة قوله: نحن الصادقون وأنتم المفلحون، والله جعلَ المفلحين مع الصادقين، يشير بذلك إلى أن الله تعالى وصفَ المهاجرين بالصادقين، والأنصار بالمفلحين في سورة الحشر، وجعل المفلحين مع الصادقين في سورة براءة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فرجعوا إليه، وبايعهم وبايعوه في قصة طويلة، وأول من بايعه عمر - رضي الله عنهما -، ثم ¬

_ = خليلًا"، ومسلم (2386)، كتاب: الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 969). (¬2) رواه البخاري (3467)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلًا"، عن عائشة - رضي الله عنها -.

تتابع الناس، وقال لهم: لست بخيركم، فإن نسيتُ فذكروني، وإن اعوجَجْتُ فقوموني (¬1). فانظر إلى ما جمع تعالى له من التوحيد والتشريع والشجاعة، والثبات، والفهم الثاقب، والعلم الراسخ، واليقين الصادق، والصبر الجميل، إلى غير ذلك من الصفات الحميدة، والعطايا الفريدة، رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا وزن الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجحَها، ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: من قال: إن أحدًا كان أحقَّ بالخلافة من أبي بكر - رضي الله عنه -، فقد أعظم الفريةَ، وخَطَّأَ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: واللهِ الذي لا إله إلا هو! لولا أنَّ أبا بكرٍ استُخْلِفَ، ما عُبِدَ اللهُ، فقيل له: مَهْ يا أبا هريرة! ما تقول؟ فأقام الحجة، وأوضح المحجة، حتى صدقوه فيه، وشَهِدوا له بما ذكره فيه (¬2). وقال علي - رضي الله عنه -: رحم اللهِ أبا بكر، أول من جمع ما بين اللوحين (¬3). وقال: لا يفضِّلُني أحدٌ على أبي بكر وعمرَ إلا جلدتُه جلدَ المفتري (¬4). وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: ولينا أبو بكر فخير خليفة، أرحمه بنا، وأحناه علينا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20702)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 212)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 303). (¬2) رواه البيهقي في "الاعتقاد" (ص: 345)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ 60). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30229)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 193)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 380). (¬4) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 575)، والبيهقي في "الاعتقاد" (ص: 358)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 343). (¬5) رواه الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 163)، والحاكم في "المستدرك" (4468)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (7/ 1299)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/ 386).

وقال مسروق: حبُّ أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ومعرفة فضلهما من السنة (¬1). وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللَّذَيْنِ من بعدي: أبي بكر وعمر" (¬2). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: اجعلوا إمامكم خيرَكم؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمامنَا خيرنا (¬3). وقال أبو بكر بن عياش - رحمه الله - في مجلسه العام: ما ولد لآدم ولد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر، قالوا: صدقت يا أبا بكر، قال له عاصم بن يوسف مولى فضيل بن عياض: يا أبا بكر! ولا يوشع بن نون وصي موسى؟ قال: ولا يوشع بن نون وصي موسى، إلا أن يكون نبيًّا، ثم فسره أبو بكر فقال: قال الله -عزَّ وجلَّ-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل هذه الأمة بعدي أبو بكر" (¬4)، قال الحافظ أبو محمد عبد الغني المقدسي - رحمه الله -: والأمة مجمعة على ما قال أبو بكر - رحمه الله - إلا من لا يعتد بخلافه. وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أول الناس إسلامًا، وهاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد معه بدرًا والمشاهد كلها، ثم ولي الخلافة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنتين ونصفًا، وقد اختلف فيما بعد السنتين اختلافًا كثيرًا، فأكثرها ستة أشهر، وأقلها ثلاثة أشهر إلا خمس ليال، وحكي قول غريب: أن ¬

_ (¬1) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (3/ 112)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 391)، وابن قدامة في "المتحابين في الله" (ص: 69 - 70). (¬2) رواه الترمذي (3662)، كتاب: المناقب، في مناقب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 382)، والبزار في "مسنده" (2827)، والحاكم في "المستدرك" (7952)، وغيرهم. (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (22/ 131)، و"الاستيعاب" له أيضًا (3/ 971). (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 395).

مدة خلافته عشرون شهرًا، واستكمل بخلافته سن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة، وصلى عليه عمر بن الخطاب في المسجد، ودفن في بيت عائشة - رضي الله عنها - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل في قبره عمر، وعثمان، وطلحةُ وابنه عبد الرحمن -رضي الله عنهم-، وتوفي يوم الاثنين، وقيل: ليلة الثلاثاء، لثمان، وقيل: لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وكان مرضه خمس عشرة ليلة، ودفن ليلًا. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، واثنان وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ستة أحاديث، وانفرد البخاري بأحد عشر حديثًا، ومسلم بحديث واحد، وروى عنه عمرُ، والبراءُ بن عازب، وابنه عبد الله، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، والبراء بن عازب، وابنته عائشةُ أم المؤمنين، وعبدُ الله بن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو سروعة عقبةُ بنُ الحارثِ بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ القرشيُّ، وخلق سواهم، وروى له أصحاب السنن والمساند. قالت عائشة - رضي الله عنها -: لم يقل أبو بكر - رضي الله عنه - بيتَ شعر في الإسلام حتى مات (¬1)، وكان هو وعثمان - رضي الله عنهما - ممن حرَّمَ الخمر في الجاهلية، وهو - رضي الله عنه - الذي قام بقتال أهل الردَّة، فظهر من فضل دأبه في ذلك وشدته مع لينه ما لم يحتسب، فأظهر الله تعالى دينه، وقُتل على يديه وببركته كلُّ من ارتد عن دين الله، حتى ظهر أمر الله وهم كارهون، وقاتل مانعي الزكاة -أيضًا- حتى رغبوا إلى أدائها. واختلف في مكثه في الغار هو ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال مجاهد - رحمه الله -: مكثا فيه ثلاثًا، وقيل: بضعة عشر يومًا، وهو غير صحيح، وله - رضي الله عنه - من الخطب والمواعظ والحكم وغير ذلك ما يحتمل مجلدات، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20507). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 169)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 1)، و"المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان (1/ 593)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي =

أما قوله: "ظلمًا كثيرًا"، فهو في معظم الروايات مضبوط بالثاء المثلثة، وفي بعض روايات مسلم: كبيرًا -بالباء الموحدة-، وكلاهما حسن، قال شيخنا العلامة أبو زكريا النووي - رحمه الله -: فينبغي أن يجمع بينهما -يعني للاحتياط على التعبد- بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمحافظة عليه خصوصًا في الدعاء، فيقال: ظلمًا كثيرًا كبيرًا" (¬1). وقد احتج البخاري في "صحيحه" (¬2)، والبيهقي في "سننه" (¬3)، وغيرهما من الأئمة بهذا الحديث للدعاء آخر الصلاة، وهو استدلال حسن صحيح؛ فإن قوله: "في صلاتي" يعمُّ جميعَها، ومن مظانِّ الدعاء في الصلاة هذا الموطن، فتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - تقريرٌ منه - صلى الله عليه وسلم - له لسؤاله وجواز العمل به، فمقتضى الحديث الأمرُ به من غير تعيين لمحل، ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء فيه، جاز، لكنه يترجح فعله في موطنين: في السجود، وبعد التشهد قبل السلام؛ فإنه قد ثبت الأمر بالدعاء فيهما خصوصًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وليتخيرْ بعدَ ذلكَ من المسألةِ ما شاء". قال شيخنا أبو الفتح ابن دقيق العيد الحافظ، المدقق، المحقق -رحمه الله تعالى-: ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد؛ لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل (¬4). ¬

_ = عاصم (1/ 68)، و"المعجم الكبير" للطبراني (1/ 51)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 64)، و"الثقات" لابن حبان (1/ 184)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 28)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 963)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (30/ 3)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 235)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 310)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 472)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 282)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 2)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 163)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 169)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 276). (¬1) انظر: "رياض الصالحين" للنووي (ص: 331). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 286)، باب: الدعاء قبل السلام. (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 154)، باب: ما يستحب له أن لا يقصر عنه من الدعاء قبل السلام. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 78).

وقوله: "إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا" دليلٌ على أن الإنسان لا يَعْرى من ذنب وتقصير؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "استقيموا ولن تحصوا" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون" (¬2)، وأمرنا بالدعاء بذلك على الإطلاق من غير تقييد وتخصيص بحالة، فلو كان ثم حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير، لما كان هذا الإخبار مطابقًا للواقع، ولا يؤمر به. وقوله: "ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت"، إقرارٌ بوحدانية الباري -سبحانه وتعالى-، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار؛ كما قال تعالى: "علم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب"، وقد وقع في هذا الحديث امتثالٌ لما أثنى الله تعالى في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]. وقوله: "فاغفرْ لي مغفرةً من عندِكَ" فيه وجهان: أنه إشارة إلى التوحيد في قوله: "ولا يغفرُ الذنوب إلا أنت" كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله أنت، والثاني: وهو أحسنها، أنه إشارة على طلب مغفرة مبتدأ بها من عند الله تعالى لا يقتضيها سببٌ من العبد من عمل حسن وغيره، بل هي رحمة من عنده -سبحانه وتعالى- متفضلٌ بها، ولا إدلال بسبب من الأسباب، فإن الإدلال بالأعمال، والاعتقاد بكونها موجبة للثواب وجوبًا عقليًّا، يقتضي أن للعبد فيها سببًا، وليس الأمر كذلك، بل الله سبحانه المتفضل بالسبب والمسبب، فكل منهما من عنده، ليس للعبد فيه مدخل سوى توفيق الله -سبحانه وتعالى-، وهو خلق قدرة الطاعة فيه، فشرفَ بذلك. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (277)، كتاب: الطهارة، باب: المحافظة على الوضوء، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 276)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1444)، والحاكم في "المستدرك" (447)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 82)، عن ثوبان - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الترمذي (2499)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (49)، وقال: غريب، وابن ماجه (4251)، كتاب: الزهد، باب: ذكر التوبة، والامام أحمد في "المسند" (3/ 198)، والحاكم في "المستدرك" (7617)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

والمغفرة: الستر في لسان العرب، والرحمة من الله تعالى عند المنزهين من الأصوليين عن التشبيه، إما نفس الأفعال التي يوصلها الله تعالى؛ من الإنعام والإفضال إلى العبد، وإما إرادة اتصال تلك الأفعال، فعلى الأول: هي من صفات الفعل، وعلى الثاني: هي من صفات الذات. وقوله: "إنك أنت الغفور الرحيم": صفتان ذكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لما قبله لقوله: "اغفر لي وارحمني"، فالغفور مقابل لسؤال المغفرة، والرحيم مقابل لسؤال الرحمة، وقد وقعت المقابلة للأول بالأول، والثاني بالثاني - هاهنا-، وقد تقع على خلاف ذلك بأن يراعى القرب، فيجعل الثاني للأول، والأول للأخير، وذلك على حسب اختلاف المقاصد، وطلب التعيين في الكلام، ومما يحتاج إليه في علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لما قبلها، والله أعلم. وفي هذا: الحديث: شرعية طلب تعليم العلم من العلماء، خصوصًا في الدعوات المتعلقة بالصلوات. وفيه: الاعتراف بظلم النفس وتقصيرها في كل حالة. وفيه: حصره للمغفرة بأنها لا تكون إلا من عند الله تعالى؛ إذ لا يتصور إيجادها من عند غيره. وفيه: طلبها وطلبُ الرحمة، وإن كانت رحمة الله تعالى تعمُّ المغفرة وغيرها. وفيه: الثناء على الله تعالى بما وصف به نفسه. وفيه: إجابة العالم للمتعلم سؤاله، خصوصًا إذا كان المسؤول علمًا عمليًّا، وافتقارًا وتوحيدًا أو تنزيهًا، والله تعالى أعلم. * * *

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: مَا صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬1)، وفي لفظ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬2). في لفظ الحديث أولًا ما يصرح بالمبادرة إلى امتثال الأمر في قوله: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، مع ما جاء في بعض الحديث في "الصحيح" من قول عائشة: يتأول القرآن (¬3)، وذلك يشعر بأنه يفعل ما أمر به فيه، فإن كان الفتح ودخول الناس في دين الله حاصلًا، فكيف يكون القول امتثالًا للأمر الوارد، ولم يوجد شرط الأمر؟ وإن لم يكن حاصلًا، وهو المختار على مقتضى اللفظ، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بادر إلى الفعل المأمورِ به قبل وقوع الزمن الذي تعلق به الأمر فيه إذ ذاك عبادة وطاعة لا تختص بوقت معين، فإذا وقع الشرط، كان الواقع من هذا القول بعد وقوعه واقعًا على حسب الامتثال، وقبل وقوع الشرط واقعًا على حسب التبرع، وليس في قول عائشة - رضي الله عنها -: يتأول القرآن، ما يقتضي، ولا بد أن يكون جميع قوله - صلى الله عليه وسلم - واقعًا على جهة الامتثال للمأمور حتى يكون دالًا على وقوع الشرط، بل مقتضاه أنه يفعل تأويل القرآن وما دل عليه لفظه فقط، وجاز أن يكون بعض هذا القول فعلًا لطاعة مبتدأة، وبعضه امتثالًا للأمر. وفي لفظه ثانيًا ما يقتضي جواز الدعاء في الركوع، ولا تعارض بين ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4683)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، ومسلم (484)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجو د، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (761)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء في الركوع، ومسلم (484)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، وهذا لفظ البخاري. (¬3) هو عند مسلم، وقد تقدم تخريجه آنفًا.

وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما الركوعُ فعظِّموا فيه الربَّ، وأما السجودُ، فاجتهدوا فيه في الدعاء" (¬1)؛ فإنه دال على الأولوية من تعظيم الرب -سبحانه وتعالى- في الركوع، والأولوية لا يخالف الجواز من الدعاء فيه، كيف ولم ينه عنه فيه، بل فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، وأمر بالاجتهاد في السجود من الدعاء من غير منع من التسبيح، فيقتضي ذلك جميعه أن تكون الكثرة للتعظيم في الركوع، لا منع الدعاء، والكثرة للدعاء في السجود لا منع التنزيه، وإن كان السؤال والدعاء يدل على التنزيه والتعظيم، مع أن في حديث عائشة - رضي الله عنها - لفظ (إذا)، وهي تقتضي الاستقبال وعدم حصول الشرط حينئذ، لكنها لا تدخل إلا على ما يتحقق وقوعه، بخلاف (إن)؛ فإنها تدخل على المشكوك في وقوعه، ولهذا إذا قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق، لم يكن حلفًا؛ لأنه غير محقق الوقوع، فلا يصح دخولها على الدخول للدار، ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، كان حلفًا؛ لكونه مشكوكًا فيه غير محقق الوقوع، لكنه إذا وجد المعلق عليه فيهما، وقع الطلاق؛ لوجود الصفة، وقد ولدوا في (إذا) وجهًا في عدم الوقوع في قوله: إذا حلفتُ بطلاقكِ فأنتِ طالق، فقال: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم دخلت، قالوا: لأنه لا يسمى حلفًا عرفًا، وإن كان وضعهما لغة كما ذكرنا، فلا يكون حلفًا في (إذا)، ويكون حلفًا في (إن)، فلما كانت (إذا) لا تدخل إلا على ما يتحقق وقوعه، عامله معاملة الحاضر، فبادر إلى امتثال الأمر، فقول عائشة - رضي الله عنها -: "ما صَلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت: إذا جاء نصر الله والفتح"، يقتضي تعجيل القول لتحقق وقوعهما، وقرب الصلاة عقب نزول الآية، والمراد بالفتح فتح مكة، وأما دخول الناس في دين الله أفواجًا، فتحتاج إلى مدة أوسع من المدة التي بين الصلاة الأولى ونزول الآية والفتح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (479)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

وقوله: "سبحانك اللهم" سبحانَك: منصوبٌ على المصدر، قال أهل العربية وغيرهم: التسبيحُ: التنزيهُ، يقال: سبحت اللهَ تسبيحًا وسُبْحانًا، ومعناه براءة وتنزيه له من كل نقص وصفة لمحدث (¬1). وقوله: "وبحمدك" سبحتك، ومعناه: وبتوفيقك لي وهدايتك وفضلك عليَّ سبحتك، لا بحولي وقوتي، ففي ذلك شكر لله تعالى على هذه النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأن كل الأفعال له سبحانه ملكًا واستحقاقًا، وقوله في الآية الكريمة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر: 3]، فيه وجهان: أحدهما: المراد بالأمر: التسبيح بنفس الحمد؛ لتضمن الحمد معنى التسبيح الذي هو التنزيه؛ لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى وحده، وفي ذلك نفي التزكية. والثاني: المراد: التباس فسبح بالحمد، فتكون الباء في (وبحمدك) دالة على الحال، وهذا هو الراجح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبح وحمد بقوله: "سبحانك وبحمدك"، وعلى مقتضى الوجه الأول كان يكتفي بالحمد فقط، لكن تسبيح النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على ترجيح المعنى الثاني، ويكون معناه: بحمدك سبحت، فيكون الحمد سببًا للتنزيه بسبحان، ويكون معناه التوفيق والهداية، والاعتقاد معناه، وهذا كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما نزلت براءتها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: بحمد الله لا بحمدك، كما ثبت في "الصحيح" (¬2)؛ أي: وقع هذا بسبب حمد الله؛ أي: بتفضله وإحسانه وعطائه؛ قإن الفضل والإحسان سبب الحمد، فيعبر عنهما به. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغفر لي" امتثالٌ لقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 203)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 134)، و"شرح مسلم" له أيضًا (4/ 201 - 202). (¬2) رواه البخاري (3208)، كتاب: التفسير، باب: قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} [يوسف: 7].

تَوَّابًا} بعد امتثال قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، وسؤال المغفرة هنا، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - مغفور له، هو من باب العبودية والإذعان والافتقار إلى الله -سبحانه وتعالى- والله أعلم. * * *

باب الوتر

باب الوتر الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: "مَثْنَى مَثْنَى، فَإذَا خَشِيَ الصُّبْحَ، صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى"، وَأَنَّه كَانَ يَقُولُ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا" (¬1). أما ابن عمر، فتقدم الكلام عليه. وأما الرجل السائل، فلا أعلم اسمه بعد الكشف عليه. وأما المنبر: فهو مأخوذ من النبر، وهو الارتفاع. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاةُ الليل مثنى مثنى"، فهكذا هو في "صحيح البخاري ومسلم". وقد تمسك به مالك - رحمه الله - في أنه لا يزاد في صلاة النفل على ركعتين، سواء كان بالليل أو النهار، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: صلاة نفل الليل مثنى مثنى، وأما نفل النهار، فرباع؛ حيث إن صلاة النهار، وهي الظهر والعصر، رباعيتان، فنفله كفرضه، وأما الليل، فصلاته ¬

_ (¬1) رواه البخاري (460)، كتاب: المساجد، باب: الحِلَق والجلوس في المسجد، ومسلم (749)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، وهذا لفظ البخاري.

فرضًا ثلاثية ورباعية، وقد نص الشارع على أن نفله مثنى، فلا يتعدى. أجاب الأولون والجمهور بأنه صح بالإسناد الصحيح الذي أجاب البخاري بصحته، وهو في "سنن أبي داود والترمذي": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ الليل مثنى مثنى" (¬1)، لكن ظاهر لفظ الحديث في "الصحيحين" يقتضي حصرَ صلاة الليل فيما هو مثنى، وبعد ثبوت لفظ النهار، ارتفع الحصر في الليل، واقتضى أن حكم النهار كالليل في كون صلاة نفله مثنى، وهو المقصود؛ إذ ذلك ينافي الزيادة؛ لأنه لو جازت الزيادة، لما انحصرت صلاة الليل والنهار في المثنى، لكن الشافعي حمل ذلك على الأفضل والأولى، وهو أن يسلم من كل ركعتين، فلو جمع ركعات بتسليمة واحدة، أو تطوع بركعة واحدة، جاز، وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لو تطوع بأزيد من ركعتين شفعًا أو وترًا، فلا يزيد على تشهدين، ثم إن كان المتنفل به شفعًا، فلا يزيد بين تشهدين على ركعتين، وإن كان وترًا، فلا يزيد بينهما على ركعة، فعلى هذا إذا تنفل بعشر ركعات مثلًا، جلس بعد الثامنة، ولا يجلس بعد السابعة، ولا ما قبلها؛ لأنه يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين، وإن تنفل بتسع أو بسبع مثلًا، فلا يزيد بين التشهدين على ركعة، فيجلس بعد الثامنة في التسع، وبعد السادسة في السبع، ثم يصلي الركعة، ثم يجلس، ولو اقتصر على جلوس واحد في ذلك كله، جاز، وإنما حمله على ما ذكر أن النوافل تبع للفرائض، وهي شبهها، والفريضة الوتر للنهار في المغرب، وليس بين التشهدين فيها إلا ركعة واحدة، والفرائض الشفع ليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعتين، وليس بمتفق على ذلك عند أصحاب الشافعي، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الضحى يوم الفتح ثمان ركعات، سلَّم من كل ركعتين، وكل واحدة من صلاة العيد والاستسقاء ركعتان، وهذه كلها من صلاة النهار، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1326)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، والترمذي (437)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن صلاة الليل مثنى مثنى.

ثم لفظ الحديث كما اقتضى ظاهره عدم الزيادة على مثنى، وكذلك يقتضي عدم النقصان منهما، وقد اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي وطائفة: يجوز التنفل بركعة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" وهذا أولى من الاستدلال بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة، لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب، فإنه ضعيف، ثم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى"، مع قوله: "فإذا خشي الصبحَ أوترَ بركعة واحدة توترُ له ما صلى"، يقتضي تقديمَ شفعٍ على الوتر، فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع، لم يكن آتيا بالسنة، وظاهر مذهب مالك - رحمه الله - لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الوتر بأقل من ثلاث ركعات، ثم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خشي الصبح، أوتر بواحدة" يقتضي انتهاء وقت الوتر إلى طلوع الفجر الثاني يخرج بطلوعه، وهو المشهور في مذهب الشافعي، وهو قول جمهور العلماء، ولأصحاب الشافعي وجه أنه يمتد بعد طلوع الفجر حتى يصلي الصبح. ثم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" يقتضي أن يكون الوتر آخر صلاة الليل؛ لأنه أمر أن يجعله آخر صلاته بالليل، ولم يقل أحد بوجوبه فيما أعلم، بل ذهب ذاهب إلى وجوب أصل الوتر، وجعل من جملة ما استدل به على وجوبه هذا الحديث، وليس فيه دليل، بل إن أراد الاستدلال بأن يحمل الصيغة على الندب، فلا يستقيم له أيضًا؛ لما يلزم منه من الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة، ومذهب هذا الذاهب يمنعه، ولا يرى ندبية الوتر، فلا يستقيم له الاستدلال به على الوجوب، ثم جعل الوتر آخر صلاة الليل هو الأفضل؛ لأنه الغالب من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله، فلو أوتر ثم أراد التنفل، فهل يشفع وتره بركعة أخرى، ثم يتنفل بما شاء من صلاته؛ فيه وجهان لأصحاب الشافعي، وإذا لم يشفعه بركعة، وصلى، فهل يعيد الوتر أخيرًا؛ فيه خلاف للمالكية والشافعية، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي ظاهره إعادته، لكنه يتوقف على ألَّا يكون قبله وتر؛ لما جاء من الحديث الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"لا وتران في ليلة" رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حسن، وابن خزيمة في "صحيحه" (¬1)، فيلزم من الأمر بجعله آخر الصلاة، ومن قوله: "لا وتران في ليلة" يشفع الوتر الأول، وإن لم يشفعه، أعاد الوترين في ليلة، وإن لم يعد الوتر، لم يكن آخر صلاة الليل وترًا، ومن قال: لا يشفع ولا يعيد الوتر، منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث، وطول الفصل إن وقع ذلك، فإذا لم يجتمعا، والحقيقة أنهما وتران، ولا وتران في ليلة، فامتنع الشفع، وامتنع إعادة الوتر أخيرًا، ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا"، وهو محمول على الاستحباب، كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك، وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه، ومن قال بإعادة الوتر، فهو -أيضًا- مانع من شفع الوتر الأول محافظة على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا"، ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله: "لا وتران في ليلة"، وقد ينبني الكلام في ذلك على مسألة، وهي أن التنفل بركعة فردة هل يشرع في غير المنصوص عليه؟ وفيه خلاف، فليتأمل ذلك. وقد رتب الشافعي -رحمه الله تعالى- على هذا المعنى مسألة، وهي أنه لو نذر صلاة، هل يلزمه ركعتان، أو ركعة؟ إن نظرنا إلى واجب الشرع فيه، وهو الصحيح، لزمه ركعتان، وإن نظرنا إلى جائزه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر ركعة من آخر الليل" (¬2)، لزمه ركعة، والله أعلم. وأبو حنيفة - رحمه الله - يخالف في أن الوتر ركعة، وفي أنه لا يجوز التنفل بركعة، قال: إنه ليس في الفرائض صلاة ركعة، فلتكن النوافل كذلك، لكن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1439)، كتاب: الصلاة، باب: في نقض الوتر، والنسائي (1679)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوترين في ليلة، والترمذي (470)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: لا وتران في ليلة، وابن خزيمة في "صحيحه" (1101)، عن طلق بن علي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (752)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

الحديث الثاني

الحديث الصحيح يدل على أن الوتر ركعة من آخر الليل، رواه مسلم في "صحيحه"، وغيره، وقد روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه بإسناد حسن صحيح من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوترُ حقٌّ على كلِّ مسلم، فمن أحبُّ أن يوتر بخمسٍ، فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاثٍ، فليفعل، ومن أراد أن يوتر بواحدةٍ، فليفعل" (¬1)، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِرهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ (¬2). تقدم ذكر عائشة - رضي الله عنها -. السحر: هو وقتٌ قبلَ انفجار الصبح قريب منه. واعلم أن الليل اسم لجميع الوقت؛ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وقد اختلف علماء السلف ما بين طلوع الفجر الثاني وطلوع الشمس، هل هو من النهار، أم من الليل، أم هو وقت مستقل لا من هذا، ولا هذا؟ وهذا الحديث يدل ظاهره على أنه ليس من الليل؛ لأنه جعل كل الليل وقتًا للوتر، وجعل نهاية الوتر الذي كل الليل وقته السحر أو الفجر، فدل على أن ما بعده ليس من الليل، ولا شك أن أول وقت الوتر لا يدخل فيه ما بين غروب الشمس ووقت العشاء اتفاقًا، مع أنه داخل في قولها: من كلِّ الليلِ أوترَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1422)، كتاب: الصلاة، باب: الوتر، والنسائي (1712)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، وابن ماجه (1190)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع. (¬2) رواه البخاري (951)، كتاب: الوتر، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل.

من أوله، والصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه أنه لا يدخل وقته إلا بفراغ المصلي من صلاة العشاء، وفي وجه: يدخل وقته بدخول وقت العشاء، وفي وجه: لا يصح الإيتار بركعة إلا بعد نفل بعد العشاء، وأما آخر وقته، فيمتد إلى آخر طلوع الفجر الثاني، وقيل: يمتد إلى صلاة الصبح، وقيل: يمتد إلى طلوع الشمس، والأحاديث الصحيحة تدل للأول والثاني؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح عقب طلوع الفجر الثاني بيسير، فعبر في بعض الأحاديث بفعل الصبح عن طلوع الفجر؛ لقربه منه، واتفق العلماء على جواز فعله في جميع ما بين أول وقته وآخره، لكنهم اختلفوا في أن الأفضل تقديمه في أول الليل، أو تأخيره إلى آخره، ولا شك أن ذلك يختلف باختلاف الحالات، وطرآن الحاجات، وخصوصية الأوقات، فمن وثق أن يقوم آخر الليل، فلا شك أنه أفضل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ صلاةَ آخر الليل مشهودة" (¬1)، وذلك أفضل؛ ومعناه تشهده ملائكة الرحمة، ومن لا يثق بذلك، فالتقديم له أفضل؛ لحديث أبي هريرة وغيره في "الصحيح": "أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - ألَّا أنام إلا على وتر" (¬2). ولا شك أن آخر الليل أفضل من أوله وأوسطه، وفيما بين نصفه الأول وسدسه الآخر أفضل من الأول والآخر، وحكى بعض العلماء عن أصحاب الشافعي وجهين مطلقًا في أن الأفضل الوترُ أولَ الليل وآخره، والصواب فيه التفصيل الذي ذكرناه، وإذا نظرنا إلى آخر الليل من حيث هو، كان فعل الوتر فيه أفضل، فإذا عارضه احتمال تفويته، قدمناه على فوات الفضيلة، وهذه قاعدة كبيرة تدخل تحتها مسائل كثيرة، من جملتها: إذا كان عادمًا للماء، ويرجو وجوده آخر الوقت، فهل بقدم التيمم أول الوقت إحرازًا لتحقق الفضيلة أوله، أم يؤخره إحرازًا للوضوء؟ فيه قولان للشافعي، المختار: تقديمُ الصلاة بالتيمم أول الوقت، وهكذا كل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (755)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: من خاف ألَّا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، عن جابر بن عبد اللهِ - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (1124)، كتاب: التطوع، باب: صلاة الضحى في الحضر، ومسلم (721)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى.

الحديث الثالث

فضيلة كانت في ذات العبادة ينبغي مراعاتها وتقديمها على كل فضيلة خارجة عنها، فالطواف قربَ البيت أفضلُ من البعد عنه، فإذا عارضه ما يمنع من الإتيان به في ذاته على الوجه المشروع، كان البعدُ عنه أفضلَ؛ محافظةً على المطلوب في ذات الطواف، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الوتر أول الليل وآخره كما في الحديث الصحيح في الكتاب، وأقر أبا بكر على فعله أوله، وعمر على فعله آخره، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "أخذ هذا بالحذر"، وقال لعمر: "أخذ هذا بالقوة" بعد سؤاله - صلى الله عليه وسلم - لكل واحد منهما: "متى توتر؟ " (¬1). وليس للوتر وقت لا يجوز فيه، ولا يكره في الوقت المحدود له في الليل، لكن فعل الصحابة منزل على ما ذكرناه أولًا من الحكم والتعليل، والله أعلم. واعلم أن حكم قيام رمضان المسمى بالتراويح في وقته حكمُ وقت الوتر، لا أعلم في ذلك خلافًا، وأما ما يفعله كثير من الأئمة للمساجد بالديار المصرية في حضرها وريفها من صلاتهم لها بين المغرب والعشاء، والوتر بعدها قبل فعل العشاء، فلا يجوز ذلك، ولا يحصل لهم فضيلة قيام رمضان ووتره، وهل يحصل لهم فضيلة نفل مطلق؟ فيه نظر إذا أتوا بذلك على الوجه المأمور به فيه، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوْتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسِ، لَا يَجْلِسُ في شَيْءٍ إلَّا في آخِرِهَا (¬2). اعلم أن لفظة (كان) فعل ماض يدل على وقوع الفعل مرة واحدة من حيث ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1434)، كتاب: الصلاة، باب: في الوتر قبل النوم، وابن خزيمة في "صحيحه" (1084)، والحاكم في "المستدرك" (1120)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 35)، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (1089)، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ومسلم (737)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، وهذا لفظ مسلم.

وضعها لا يلزم منه الدوام ولا التكرار، وهو المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين، فإن دل دليل على التكرار أو الدوام، يعمل به، ولا شك أنه ثبت في "الصحيح" أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنتُ أطيبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لحلِّه قبل أن يطوف بالبيت (¬1)، ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحجَّ بعد أن صحبته عائشة إلا حجةً واحدة، وهي حجة الوداع، فقد استعملت (كان) في المرة الواحدة، ولا يقال: لعلها طيبته لحلِّه قبل أن يطوف بالبيت في العمرة أيضًا، فاقتضت التكرار؛ لأن المعتمر لا يحل له الطيب قبل الطواف بالإجماع، فثبت استعمالها (لكان) في المرة الواحدة، كما قاله الأصوليون، إذا ثبت هذا، فقولها: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، مع ما ثبت في "الصحيح" عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم بتسع ركعات (¬2)، كان يقوم بإحدى عشرة ركعة منهن الوتر، يسلم من كل ركعتين (¬3)، وكان يركع ركعتي الفجر إذا جاء المؤذن (¬4)، وعنها: كان يقوم بثلاث عشرة بركعتي الفجر (¬5)، وعنها: كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة (¬6)، أربعًا وأربعًا وثلاثًا، وعنها: كان يصلي ثلاث عشرة: ثمانيًا، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، ثم يصلي ركعتي الفجر (¬7)، وقد فسرتها في الحديث الآخر: منها ركعتا الفجر، وعنها في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1465)، كتاب: الحج، باب: الطيب عند الإحرام، ومسلم (1189)، كتاب: الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. (¬2) رواه مسلم (730)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز النافلة قائمًا وقاعدًا. (¬3) رواه أبو داود (1336)، كتاب الصلاة، باب: في صلاة الليل، وابن حبان في "صحيحه" (2431)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 486)، بهذا اللفظ، ورواه مسلم (736)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، بلفظ نحوه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) رواه البخاري (1096)، كتاب: التهجد، باب: قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره، ومسلم (738)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل. (¬7) رواه مسلم (738)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل.

البخاري: أن صلاته من الليل سبع أو تسع (¬1)، يقتضي كل ذلك عدمَ التكرار والدوام، وذكر البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: أن صلاته بالليل ثلاث عشرة ركعة، وركعتين بعد الفجر سنة الفجر (¬2)، وفي حديث زيد بن خالد: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين خفيفتين، ثم طويلتين، وذكر الحديث، وقال في آخره: فتلك ثلاث عشرة (¬3). قال القاضي عياض- رحمه الله - (¬4): قال العلماء: في هذه الأحاديث إخبار كل واحد من ابن عباس وزيد وعائشة بما شاهد، واختلف في أحاديث عائشة، واختلافها، فقيل: هو منها، وقيل: من الرواة عنها، فيحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة هو الأغلب، وباقي رواياتها بما كان يقع نادرًا في بعض الأوقات، فأكثرُه خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقلُّه سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل؛ من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة، كما جاء في حديث حذيفة وابن مسعود، أو لنوم، أو لعذر من مرض أو غيره، أو عند كبر السنن كما قالت عائشة: "فلما أسنَّ، صَلَّى سبعَ ركعات" (¬5)، أو تارة بعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل كما رواها زيد بن خالد (¬6)، وروتها عائشة في "صحيح مسلم" (¬7) بعد ركعتي الفجر تارة، وبحذفهما أخرى، وقد تكون عدَّتْ راتبةَ العشاء مع ذلك تارة وحذفها أخرى، قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زيدت، زاد الأجر، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1088)، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ (¬2) رواه البخاري (1087)، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ومسلم (764)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه. (¬3) رواه مسلم (765)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه. (¬4) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 18). (¬5) رواه مسلم (746)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) تقدم تخريجه.

وإنما الخلاف في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اختار لنفسه، والله أعلم. وقولها: "يوترُ من ذلك بخمس لا يجلسُ إلَّا في آخرها" قد تقدم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى" دالٌّ ظاهرًا على الحصر في صلاة النفل ليلًا، وكأنه صارت المثبوتة لها صفة، إلا ما خرج بدليل؛ بحيث لا يجوز الزيادة على ركعتين إلا بسلام، وهذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم - يدل على الجواز، فيقتضي التعارض بينهما، فلا بد من الموازنة بينهما، فنقول: دلالةُ الفعل على الجواز يتطرق إليها الخصوص، وهو بعيد لا يُصار إليه إلا بدليل، فتبقى دلالةُ الفعل على الجواز معارضة لدلالة اللفظ على الحصر، ودلالة الفعل على الجواز قوية، فيبقى نظر آخر، وهو أن الأحاديث دلت على أعداد مخصوصة، فإذا جمعنا ونظرنا أكثرها فما زاد عليه، وقلنا بجوازه، كان قولًا بالجواز مع اقتضاء الدليل منعه من غير معارضة الفعل له. ولقائل أن يقول: نعمل دليل المنع حيث لا معارض لها من الفعل، إلا أن يصد عن ذلك إجماع، أو يقام دليل على أن الأعداد المخصوصة ملغاة عن الاعتبار، ويكون الحكم الذي دل عليه الحديث مطلق الزيادة، وفيها هنا أمران: أحدهما: أن نقول: مقادير العبادات يغلب عليها التعبد، فلا يُجْزَم بأن المقصود لا يتعلق بالعدد، وأن المقصود مطلق الزيادة. الثاني: أن نقول: المانع المحتمل هو الزيادة على مقدار ركعتين، وقد ألغي بهذه الأحاديث، وقد تقدم أنه لا خلاف في جواز الزيادة على العدد المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما الخلاف في صفته واختياره لنفسه - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. * * *

باب الذكر عقيب الصلاة

باب الذكر عقيب الصلاة قوله: عقيب -بالياء- لغةٌ شاذة في عقب الشيء -بلا ياء-، وهي الفصيحة المعروفة، ومعناها: بعد الشيء. * * * الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن رَفْعَ الصَّوْتِ بالذكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ، كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كنتُ أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ (¬1)، وفي لفظ: مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا بِالتَّكْبِيرِ (¬2). تقدم ذكر ابن عباس. وهذان الحديثان مرفوعان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكم؛ لتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - للذكر برفع الصوت من غير نكير منه؛ لأن هذه الحالة تدل على علمه بها، فيدل ذلك على شرعيته واستحبابه، وتأكيد التكبير من الذكر، وقد قال ذلك من الاستحباب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (805)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (583)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة. (¬2) رواه البخاري (806)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (583)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة.

برفع الصوت عقب المكتوبة من المالكية: ابنُ حبيب في "الواضحة" (¬1)، قال: كانوا يستحبون التكبير في العساكر، والبُعوث إثرَ صلاة الصبح والعشاء تكبيرًا غالبًا ثلاث مرات، وهو قديم من شأن الناس، وعن مالك: أنه محدَث، وقد استحبه جماعة من السلف، واستحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهري وغيره. وقال الطبري: في هذا الحديث الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء، يكبر بعد صلاته، ويكبر من خلفه. وقال غيره: ولم يقل أحد من أصحاب المذاهب المتبوعة، وكلهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - جَهَرَ وقتًا يسيرًا حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائمًا، قال: فأختار للإمام والمأموم أن يذكرا الله تعالى بعد صلاته ويكبر من خلفه، وقال غيره: ولم يقل به] (¬2) الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إمامًا يريد أن يُتعلم منه، فيجهر حتى يعلم أنه قد تعلم منه ثم يسر، وحمل الحديث على هذا. ولا شك أن الذي حمل الشافعي - رحمه الله - على اختيار إخفاء الذكر عقيب الصلاة إلا أن يكون له مقصود شرعي في الجهر؛ للنقل والعقل، أما النقل، فحديث روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الذكرِ الخَفِيُّ" (¬3)، وهو حديث غير ثابت، وأما العقل، فإن الإخفاء أبعد من الرياء ونحوه، أما إذا كان صادقًا مع الله تعالى، ولم يكن متعديًا برفع صوته؛ بأن كان مذكِّرًا به أو معلِّمًا، أو كان يجتمع قلبه وبدنه عليه وعلى تدبره، أو كان إظهار شعائر الدين برفع صوته به، فهو ¬

_ (¬1) كتاب: "الواضحة في إعراب القرآن" لعبد الملك بين حبيب المالكي القرطبي، المتوفى سنة (239 هـ). انظر: "كشف الظنون" (2/ 1996). (¬2) لعل العبارة محذوفة فهي مكررة عن عبارة سابقة. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 172)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (29663)، وابن حبان في "صحيحه" (809)، وعبد بن حميد في "مسنده" (137)، والشاشي في "مسنده" (183)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1218)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (552)، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وعند بعضهم: سعد بن مالك.

الحديث الثاني

أفضل، وهذا الحديث محمول على ذلك، والله أعلم. وقول ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته" ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة في الجماعة في بعض الأوقات؛ لصغره، وقد ذكر بعض المصنفين في كتاب "ما العوام عليه موافقون للسنة والصواب دون الفقهاء". وذكر مسائل: منها: رفع الصوت بالذكر عقيب الصلوات، وهذان الحديثان يدلان على صحة قوله، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَمْلَى عَلَى المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي كِتَابٍ إلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِما أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ عَلَى مُعَاوِيةَ، فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ (¬1). وفي لَفْظٍ: كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمْهَاتِ وَوَأْدِ البَنَاتِ وَمَنْعٍ وهَاتِ (¬2). أما المغيرة بن شعبة، فتقدم ذكره في باب المسح على الخفين. وأما وَرَّادٌ: فهو كاتب المغيرةِ بن شعبةَ ومولاه، وهو ثقفيٌّ، كوفيٌّ، كنيته: أبو سعيد، ويقال: أبو الوراد، تابعي ثقة، روى له البخاري ومسلم وأصحاب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (808)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (471)، كتاب: الصلاة:، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام. (¬2) رواه البخاري (6862)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم (593)، كتاب: الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.

السنن والمساند، وروى عنه جماعة من التابعين الصغار (¬1). وأما معاوية: فهو ابن أبي سفيان، وهو صَخْرُ بنُ حربِ بنِ أميةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ، كنيته أبو عبد الرحمن، وأمه هندٌ بنتُ عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، كان هو وأبوه وأخوه يزيدُ بن أبي سفيان من مسلمة الفتح، وروي عن معاوية أنه قال: أسلمتُ في عمرة القضية، ولكني [كنت] أخاف أن أخرج، وكانت أمي تقول: إن خرجتَ، قطعت عنك القوت. وأما أبوه صخر، فذكر ابن قتيبة: أن عينيه ذهبت إحداهما يوم الطائف، والأخرى يوم اليرموك، ومات في خلافة عثمان أعمى. وهو أول من عمل المقصورة سنة أربع وأربعين بجامع دمشق والجوامع، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مِرْقاة، وأول من جعل ابنه وليَّ العهد خليفةً بعده في صحته، وأول من جعل على رأسه حَرَسًا، وأول من قِيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخِصْيان في الإسلام، وأول من قتل مسلمًا صبرًا؛ حجرًا وأصحابه، وكان يقول: أنا أول الملوك (¬2)، وولاه عمر -رضي الله عنه- الشام بعد موت أخيه يزيد، وكان معاوية أحدَ كتاب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحضر غزوةَ قيسارية مع أخيه يزيد، واستخلفه على غزوها حين سار إلى دمشق، ولم يزل معاوية عليها حتى فتحها، وقد قيل: إن فتحها كان في سنة تسع عشرة في خلافة عمر - رضي الله عنه -، وفي ذي الحجة منها توفي يزيد بن أبي سفيان في دمشق، وولي معاويةُ بعده، وجزع عمر على يزيد جزعًا شديدًا، وكتب بالولاية بعده لمعاوية، فأقام أربع سنين، فأقره عثمان عليها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات، ثم كانت الفتنة بينه وبين علي - رضي الله عنه -، فحاربه ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 48)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 498)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 427)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 441)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 431)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 100). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30714)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 177).

معاوية أربع سنين، على الصواب، وقيل: خمس سنين، ولما دخل عمر الشام، وشهد فتح بيت المقدس حين دخوله الشام سنة ست عشرة -وكان فتحها صلحًا- رأى معاويةَ في موكب عظيم، فلما دنا منه قال: أنت صاحبُ الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك!، قال: ما يبلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو، وبها كثير، فيجب أن نظهر فيها من السلطان ما يرهبهم، فإن أمرتني، فعلت، وإن نهيتني انتهيت، فقال عمر: يا معاوية! ما نسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقًّا، إنه لرأي أريب، وإن كان باطلًا، إنها لخدعة أديب، قال: فمرني يا أمير المؤمنين، قال: لا آمرك ولا أنهاك، فقال عمرو ابن العاص: يا أمير المؤمنين! ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردتَهُ فيه! قال: لحسن مصادره وموارده جَشَّمناه ما جشمناه (¬1)، وذم معاويةَ عند عمر - رضي الله عنه - قومٌ، فقال: دعونا من ذم فتى قريش، من يضحك في الغضب لا ينال ما عنده إلا على الرضا، ولا يوجد ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه (¬2). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ما رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسود من معاوية، فقيل له: ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فقال: كانوا -والله- خيرًا من معاوية، وأفضل، وكان معاوية أسود منهم (¬3). وقيل لنافع: ما لابن عمر بايع معاوية ولم يبايع عليًّا؟ فقال: كان ابن عمر لا يضع يدًا في فرقة، ولا يمنعها من جماعة، ولم يبايع معاويةَ حتى اجتمع عليه. ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 112). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 112). (¬3) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (516)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13432)، وفي "المعجم الأوسط" (6759)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 174).

قال أبو عمر بن عبد البر: كان معاوية - رضي الله عنه - أميرًا بالشام نحو عشرين سنة، وخليفةً مثل ذلك؛ كان من خلافة عمر نحوًا من أربعة أعوام، وخلافة عثمان كلها اثنتي عشرة سنة، وبايع له أهل الشام خاصة بالخلافة سنة ثمان أو تسع وثلاثين، واجتمع الناس عليه حين بايع له الحسن بن علي وجماعة ممن معه، وذلك في ربيع أو جمادى سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة. وقال أبو بشر الدولابي: وبويع له في ذي الحجة سنة أربعين ببيت المقدس، وكانت خلافته تسع عشرة سنة، وتسعة أشهر، وثمانية وعشرين يومًا. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وثلاثة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخاري بمثلها، ومسلم بخمسة. وروى عنه من الصحابة: عبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، والسائب بن يزيد، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وجماعة من التابعين، وروى له -أيضًا- أصحاب السنن والمسانيد، ومات في رجب سنة ستين بدمشق ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل: ابن ست وثمانين، واختلف في يوم وفاته، وفي سنتها، والمشهور ما ذكرنا، وقال القضاعي محمد بن سلامة بن جعفر: وتوفي بدمشق مستهل رجب، وقيل: للنصف سنة ستين بدمشق، ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل: ابن ست وثمانين، واختلف في يوم وفاته، وفي سنتها، والمشهور ما ذكرناه. وصلى عليه ابنه يزيد، وقيل: إن ابنه كان غائبًا، فصلى عليه الضحاك ابن قيس، ودُفن بين باب الجابية وباب الصغير، ورأيت بخط بعض علماء وقتنا المتأخر في جواب فتيا له: أن معاوية مات بدمشق، ودفن تحت حائط جامعها في قبلته في الموضع الذي يسمى بقبر هود - صلى الله عليه وسلم -، وأُخفي قبره كما أخفي قبرُ عليٍّ بالعراق خشيةً عليه، وما أعلم من أين أخذ هذا، ثم وجدت معنى ما أفتى به في جزء مخرج عن أبي الفتح محمد بن هارون بن نصر بن السدي، وأنه دفن أولًا

بمقبرة باب الصغير، ثم نقل إلى المكان المذكور، وكان مشهورًا، ثم بني الجامع بعد ذلك، ثم لعله أخفي بعد ذلك، والله أعلم. ولا شك أن هودًا - صلى الله عليه وسلم - لم يقدم الشام فيما ذكره المؤرخون، وإنما كان بحضرموت، ومات بها، وقيل: قدم مكة، ومات بها، ودفن، والله أعلم. ولما حضرت معاويةَ الوفاةُ، وثقل في مرضه، وكان ابنه يزيدُ غائبًا، كتب إلى ابنه بحاله؛ فيما ذكر محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول ذلك، وأنشد ابنه يزيدُ أبياتًا مشهورة لما أتاه الرسول بذلك، فلما وصل إليه ابنه وجده مغمورًا، فأفاق معاوية فقال: يا بني! إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج لحاجة، فاتبعته بإداوة، فكساني أحد ثوبيه الذي يلي جلده، فخبأته لهذا اليوم، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من أظفاره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبأته لهذا اليوم، فإذا أنا مت، فاجعل ذلك القميص دون كفني مما يلي جلدي، وخذ ذلك الشعر والأظفار فاجعله في فمي وعلى عيني ومواضع السجود مني، فإن نفع شيء، فذاك، وإلا، فإن الله غفور رحيم. ولمعاويةَ منقبةٌ جليلة رويناها في "جزء ابن عرفة": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ عَلِّمْ معاويةَ الكتابَ والحسابَ، وقِهِ العذابَ" (¬1). وقال قتادة: قلت للحسن: يا أبا سعيد! إن هاهنا ناسًا يشهدون على معاوية أنه من أهل النار، فقال: لعنهم الله، وما يدريهم من في النار (¬2)؟ ورزق عمر بن الخطاب معاوية - رضي الله عنهما - على عمله بالشام عشرة آلاف دينار كل سنة (¬3). ¬

_ (¬1) ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 127)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1938)، وابن حبان في "صحيحه" (7210)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 251)، عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 206). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 32)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 326)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 373)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1416)، =

وأما ألفاظ الحديث ومعانيه وأحكامه: فقوله: "دبرَ كلِّ صلاة"، فالمعروف المشهور في الروايات واللغة: دُبر -بضم الدال-، وقال الداودي عن ابن الأعرابي: دُبر الشيء ودَبره -بالضم والفتح-: آخر أوقاته، والصحيحُ: الضم، ولم يذكر الجوهري آخرون غيره، وقال أبو عمر المطرزي في كتابه "اليواقيت" (¬1): دبر كل شيء -بفتح الدال-: آخر أوقاته من الصلاة وغيرها، قال: هذا هو المعروف في اللغة، والمراد به في الحديث: عقب السلام منها، سواء كان آخر وقتها، أو أوسطه، أو أوله، إلا أن يكون مراد أهل اللغة بآخر أوقات الشيء الفراغَ من فعله، فيتطابق تفسيرهم ومراد الحديث، والله أعلم (¬2). وقوله: "ولا ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجدُّ" المشهور الذي عليه الجمهور أن الجَد بفتح الجيم، ومعناه: لا ينفع ذا الغنى والحظِّ منك غِناه، وضبطه جماعة بكسر الجيم (¬3)، والجد هنا وإن كان مطلقًا، فهو محمول على حظوظ الدنيا، يعني: إنما ينفعه العمل الصالح، والنافع في الحقيقة هو الله تعالى بالتوفيق للعمل الصالح والإخلاص فيه وقبوله، والله أعلم. واعلم أن الذكر مطلوب محثوث عليه من الشرع، وهو مطلق ومقيد، فالمطلق لا يكره في وقت من الأوقات، ولا حالة من الحالات، إلا في حالة فضاء من البول والغائط والجماع، واختلف العلماء في كراهته في الحمام ¬

_ = و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 207)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (59/ 55)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 201)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 406)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 176)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 119)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 151)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 187). (¬1) كتاب "اليواقيت في اللغة" للمطرزي أبي عمر محمد بن عبد الواحد المطرز، صاحب ثعلب، المتوفى سنة (345 هـ). انظر: "كشف الظنون" (2/ 2053). (¬2) انظر: "لسان العرب" (4/ 268)، (مادة: دبر)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 95 - 96)، وعنه أخذ المؤلف - رحمه الله - هذه المادة. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 142)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 90).

والمواضع النجسة، وقراءة القرآن أفضلُ من المطلق منه، والمقيدُ منه هو الذي ورد فيه نص خاصّ بزمان أو مكان أو حال، وهو أفضل من تلاوة القرآن، هكذا نص عليه العلماء، وإنما شرع هذا الذكر المخصوص عقيب الصلوات؛ لما اشتمل عليه من معاني التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، والثواب المرتب على الأذكار يرد كثيرًا مع خفة اللسان بالأذكار وقلتها، وإنما كان كذلك اعتبارًا بمدلولاتها؛ لأنها كلها راجعة إلى الإيمان الذي هو أشرف الأشياء. وقوله: "منك" هو متعلق بينفع، وينفع مضمَّنٌ معنى يمنع، أو ما يقاربه، ولا يعود "منك" إلى الجد؛ فإن ذلك نافع. وقوله: "عن قيلَ وقال" الأشهر فيه: قيلَ -بفتح اللام- على سبيل الحكاية، وهذا النهي لا بد فيه من التقييد بالكثرة التي لا يؤثر معها وقوع الخطل والخطأ، والسبب إلى وقوع المفاسد من غير يقين، والأخبار الباطلة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفى بالمرء إثمًا أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمعَ" (¬1)، وقال بعض السلف: لا يكون إمامًا من حدَّث بكل ما سمع (¬2). وقوله: "وإضاعةِ المال"، فمعناه النهيُ عن إنفاقه في غير وجوهه المأذون فيها شرعًا، سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن الله تعالى جعل الأموال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويتُ تلك المصالح المأذون فيها، إما في حق مضيعها، أو في حق غيره، أما بذله وإنفاقه كثيرًا في تحصيل مصالح الآخرة، فهو مطلوب محثوثٌ عليه بشرط إلَّا يبطل حقًّا أخرويًّا أهمَّ منه، وقد قال السلف: لا سرفَ في الخير، ولا خيرَ في السرف (¬3)، وبذلُ المترفين من أهل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (5)، في المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأبو داود (4992)، كتاب: الأدب، باب: في التشديد في الكذب، عن حفص بن عاصم، وأبي هريرة - رضي الله عنهما -، وهذا لفظ أبي داود. (¬2) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 109)، عن عبد الرحمن بن مهدي. (¬3) انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 454).

الدنيا وإنفاقُهم -غالبًا- إنما هو فيما لم يأذن فيه الشرع، فيقدمون حظوظ نفوسهم في الأموال على حقوق الله تعالى فيها، فيقع الهلاك بعد الإمهال من غير إهمال؛ لأن فعلهم عين الإضاعة، والله أعلم. وأما إنفاق المال في مصالح الدنيا وملاذٍّ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق وقدرِ ماله، فإن كان لضرورة مداواة، أو دفع مفسدة تترتب، فليس بإسراف، وإلا ففي كونه إسرافًا فيه وجهان: المشهور أنه إسراف، وصحح الرافعي في "المحرر" (¬1) الإسراف، ووجهه أنه يقوم مصالح البدن وملاذه، وهو غرض صحيح، لكنه يؤدي به الحال غالبًا إلى ارتكاب المحذور والذل، وما أدى إلى المحذور فهو محذور، وظاهر القرآن العظيم يقوي أنه إسراف في غير آي، والله أعلم. قال شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -: والأشهر في مثل هذا أنه يباح؛ أعني: إذا كان الإنفاق في غير معصية، وقد نوزع فيه (¬2). وقوله: "وكثرة السؤال" فيه وجهان للعلماء: أحدهما أنه راجع إلى الأمور العملية، وقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أعظمُ الناسِ جُرْمًا عندَ الله من سألَ عن شيء لم يُحَرَّمْ على المسلمين، فَحُرِّمَ عليهم من أجلِ مسألته" (¬3)، وفي حديث اللعان لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد مع امرأته رجلًا، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائلَ وعابها (¬4)، وفي حديث معاوية - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ¬

_ (¬1) كتاب: "المحرر في فروع الشافعية" للإمام أبي القاسم عبد الكريم أبي محمد الرافعي القزويني المتوفى سنة (623 هـ)، وهو كتاب معتبر مشهور بين الشافعية، وعليه شروح كثيرة. انظر: "كشف الظنون" (2/ 1612). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 91). (¬3) رواه مسلم (2358)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم -، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) رواه مسلم (1498)، كتاب: اللعان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الأغلوطات، وهي شِدادُ المسائل وصِعابُها (¬1)، وإنما كان ذلك مكروهًا؛ لما يتضمن كثيرًا من التكاليف في الدين، والتنطع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصلُ المنعُ من الحكم بالظن، إلا حيث تدعو الضرورة إليه، ومما دعت الضرورة إليه من ذلك جوازُ الاجتهاد في المياه، والأخذ بما غلب على الظن طهارتهُ، مع وجود الماء المتيقن طهارته، وكذلك الأخذُ بالأصل في طهارتها، وإن شك في نجاستها، وكذلك إلحاق الولد بالفراش؛ لتعذر اليقين فيه، وكذلك عدمُ الحكم بالعلم، والعملُ بالبينة استبراءً للعرض المحثوثِ عليه شرعًا. وأما قول الشافعي - رحمه الله -: لولا قضاة السوء، لقلتُ بجواز الحكم بالعلم لما يقع الاشتباه بالقاضي المحق والمبطل، ولا يقع النقاد من العلماء في كل عصر، ولو وقع، قد تضعف نفوسهم عن إظهار الزيف، ولو أظهروا الحق، قد لا يجدون من يعينهم على إظهاره والعمل به، فمنع القول بجوازه سدًّا للتهمة في الدين والعرض عملًا تحضيض الشرع على ذلك، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "فمنِ اتقى الشُّبهاتِ استبرأَ لدينهِ وعرضِه" (¬2). وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالحكم بالظاهر، وقطعه - صلى الله عليه وسلم - قطعةً من النار لمن حكم له بالظاهر الذي يخالف الباطن، والله أعلم. الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم تقبيح مسألة الناس، ولا شك أن لفظ الحديث يدل على النهي عن الكثرة في السؤال، لا عن السؤال مطلقًا، وهو عام في سؤال الله تعالى والناس، خرج سؤال الله تعالى بالأمر به، والحث عليه في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 435) والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 389)، وفي "مسند الشاميين" (2108)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 299)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 46). (¬2) رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -.

فَضْلِهِ} [النساء: 32] وقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سألتَ فاسألِ الله" (¬1)، وهو مطلق، كثيره وقليله، ففي القليل من سؤال الناس لبعضهم، وفي حديث رواه أبو داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبعض من سأله عن المسألة مرارًا، قال له في الثالثة: "فإنْ كنتَ لا بدَّ سائلًا، فاسألِ الصالحين" (¬2)، وإذا ثبت بعض سؤال بعض الناس، فلا شك أن بعضه ممنوع حيث يكون السائل غنيًّا لاحاجة به إلى ما سأل، ويُظهر الحاجة، وهو في الباطن بخلافها، أو يخبر السائل عن أمر هو كاذب فيه، وفي السنة ما يشهد باعتبار ظاهر الحال في هذا، وهو ما ثبت أن رجلًا من أهل الصُّفة مات وترك دينارين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَيَّتان" (¬3)، وإنما كان ذلك -والله أعلم- لأنهم كانوا فقراء مجردين يتصدَّق عليهم، ويأخذون بناء على الفقر والعدم، وظهر معه هذان الديناران على خلاف ظاهر حاله. والمنقول عن مذهب الشافعي جوازُ السؤال، لكن ذكر العلماء من أصحابه وغيرهم له شروطًا، وهي أنه لا يلحُّ في السؤال، ولا يذلُّ نفسه ذلًّا زائدًا على ذل نفس السؤال، ولا يؤذي المسؤول، ثم ينظر في السؤال، إن كان في صورة لا يحرم من العلم أو المال، فإن كان في صورة تقتضي، "المنع منه تنزيهًا، فينبغي الامتناع من قليله وكثيره، لوان لم يقتض المنع منه، حمل النهي على الكثير من السؤال المباح دون قليله؛ لأن كراهتها في الكثير أشد، وليس في الحديث ما يدل إلا على الكثرة فقط، أو يحمل الحديث على السؤال عن كثرة السؤال عن المسائل المتعلقة بالدين، الحاملة على التنطُّع والتدقيق والتضييق فيه. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2516)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (59)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 303)، والحاكم في "المستدرك" (6303)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه أبو داود (1646)، كتاب: الزكاة، باب: في الاستعفاف، والنسائي (2587)، كتاب: الزكاة، باب: سؤال الصالحين، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 334)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 197)، عن الفراسي - رضي الله عنه -. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 405)، وأبو يعلى في "مسنده" (4997)، وابن حبان في "صحيحه" (3263)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6962)، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

ثم إن الحديث المذكور مراد بكثرة السؤال لنفسه فيما ذكر، فهل يكون السؤال لغيره حكمُه حكم نفسه في الكثرة والقلة، أو يمنع منه مطلقًا، أو يؤذن فيه مطلقًا؟ يختلف ذلك باختلاف المقاصد والنيات، وحال السائل والمسؤول، والله أعلم. وقوله: "وكانَ ينهى عن عقوقِ الأُمهات" تخصيص النهي بالأمهات مع امتناعه في الآباء -أيضًا- لأجل كثرة حقوقهن وشدتها، ورجحان الأمر ببرِّهِنَّ وتكريره مرات دون الآباء، وهذا من باب تخصيص الشيء بالذكر إظهارًا لعظم موقعه في الأمر إن كان مأمورًا [به]، وفي النهي إن كان منهيًا عنه، وقد يذكر في موضع آخر بالتنبيه بذكر الأدنى على الأعلى، فيخص الأدنى بالذكر، وذلك بحسب اختلاف المقصود، وقد يقع التنبيه بالأعلى على الأدنى. وقوله: "ووَأدِ البنات" هو عبارة عن دفنهنَّ بالحياة، وخُصت البنات بالذكر دون الأبناء؛ لأنه كان هو الواقع، فتوجه النهي إليه، لا لأن الحكم مخصوص بالبنات. وقوله: "ومَنْعٍ وهات" وهذا النهي راجع إلى السؤال الصحيح وغير الصحيح بالمنع والإعطاء، وحينئذ يحتمل وجهين: أحدهما: النهي عن المنع حيث يؤمر بالإعطاء، وعن السؤال حيث يمنع منه، فيكون كل واحد منهما مخصوصًا بصورة غير صورة الآخر. الثاني: أن يجمعا في صورة واحدة لا تعارض بينهما، فيكون وظيفة الطالب ووظيفة المعطي ألا يمنع إن وقع السؤال، وهذا لا بد أن يستثنى منه، أما إذا كان المطلوب محرمًا على الطالب، فإنه يمتنع على المعطي إعطاؤه؛ لكونه معينًا على الإثم، ويحتمل أن يكون ذلك محمولًا على الكثرة من السؤال، والعبارة الواضحة في ذلك النهيُ عن منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على: استحباب هذا الذكر عقيب الصلاة المكتوبة.

الحديث الثالث

وعلى استحباب إملاء العالم العلم على أصحابه ليقيدوه ويكتبوه. وعلى المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها. وعلى جواز العمل بالمكاتبة بالأحاديث، وإجرائها مجرى المسموع، والعمل بالخط في مثل ذلك إذا وثق به بأنه خط الكاتب. وعلى قبول خبر الواحد، وهذا فرد من أفراد لا تحصى. وعلى التفويض إلى الله تعالى واعتقاد أنّه -سبحانه وتعالى- مالك الملك، وأن له الحمد ملكًا واستحقاقًا، وأن قدرته -سبحانه وتعالى- تعلقت بكل شيء من الموجودات، خيرِها وشرها، نفعِها وضرها، وأن العطاء والمنع بيده، وأن الأسباب إنما تنفع بإذنه، وأنها متصرَّف فيها كسائر المخلوقات، لا تأثير لها في شيء من الأشياء إلا بتقديره وإذنه. وعلى الامتناع من اللغط وفضول الكلام وما لا فائدة فيه. وعلى الامتناع من كثرة السؤال إلا فيما أذن الشرع فيه. وعلى تحريم إضاعة المال في غير وجوهه المأذون فيها. وعلى قتل الأنفس بغير حق شرعي. وعلى تحريم منع ما يجب أداؤه، وعلى تحريم إعطاء ما يجب منعه، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبي بكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي صَالحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ فُقَرَاءَ المُسْلِمِينَ أَتوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ! قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالدَّرَجَاتِ العُلَى والنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقاَل: "وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، ويَتصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ ولاَ نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَلاَ أُعَلَّمُكُمْ

شَيئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنكُمْ إلا مَنْ صنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يا رسولَ اللهِ، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وتُكَبِّرونَ وَتَحْمَدُوِنَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثَلاَثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً"، قَالَ أَبوُ صَالح: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: سَمعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ذلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ". قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِ الحَدِيثِ فَقَالَ: وهِمْتَ، إِنَّمَا قَالَ لَكَ: تُسَبِّحُ ثَلاَثًا وثلاثِينَ، وتَحْمَدُ اللهَ ثَلاثًا وَثَلاَثينَ، وَتُكبِّرُ اللهَ ثَلاَثًا وَثَلاثِينَ، فَرَجَعْتُ إلَى أَبي صَاِلح فَقُلْتُ لَهُ ذِلَكَ، فَقَالَ: اللهُ أَكبَرُ وَسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِن ثَلاثًا وثَلاَثِينَ (¬1). أما سمي: فهو قرشي، مخزومي، مولاهم، مدني، ثقة، وثقه أحمد بن حنبل وأبو حاتم، وروى له البخاري ومسلم، قتله الخوارج بقديد سنة إحدى وثلاثين ومئة (¬2). وأما أبو صالح: فاسمه ذكوان. وتقدم ذكر أبي هريرة. وأما الدثور: فهي الأموال، واحدها دَثْر -بفتح الدال المهملة-، وهو المال الكثير (¬3). وقوله في عدد كيفية التسبيحات والتحميدات والتكبيرات: إن أبا صالح كان يقول: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ثلاثا وثلاثين مرة، وظاهر الحديث أنه كان يسبح ثلاثًا وثلاثين مستقلة، ويكبر ثلاثا وثلاثين مستقلة، ويحمد كذلك، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (807)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (595)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 203)، و "خلاصة تذهيب التهذيب" للخزرجي (ص: 156)، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 209)، و "تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 2635). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 460)، و "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 253)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 100)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 91)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 276)، (مادة: دثر).

وهو ظاهر جميع روايات الحديث، قال القاضي عياض: وهو أولى من تأويل أبي صالح (¬1). وقوله: "ولا يكونُ أحدٌ أفضلَ منكم" يدل على ترجيح هذه الأذكار على فضيلة المال، وعلى أن تلك الفضيلة للأغنياء مشروطة بألا يفعل هذا الفعل الذي أمر به الفقراء، ويدل على تعليم كيفية هذا الذكر، ولا شك أن جمعه والإتيان بكل كلمة منه على حدة فرادى جائز، لكن جمعه راجح؛ لأن العدد في الجملة يحصل في كل فرد من العدد، كيف وهو ظاهر الحديث؟ وفي الحديث فوائد: منها: السؤال عن الأعمال المحصلة للدرجات العالية والنعيم الدائم والمسابقة إليها. ومنها: فضل من جمع الله له بين خير الدنيا والآخرة من الصلاة والصوم والصدقة والعتق والذكر. ومنها: أن من نقص شيئًا مما ذكر، كان مفضولًا بالنسبة إلى من أتى به. ومنها: أن من كان فقيرًا صابرًا هل يقوم فقره وصبره مقام غنى الغني وشكره في الفضل، أم يترجح أحد المقامين على الآخر إذا خلا عما يقترن بكل واحد منهما من الإطغاء والإنساء وغيرهما من محبطاته؟ ولا شك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان غنيًّا بالله تعالى، شاكرًا له، فقيرًا إليه، صابرًا على جميع أحواله، مع أن هذا الحديث يقتضي تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر بسبب القربات المتعلقة بالمال، وقد أقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، لكن علمهم بما يقوم مقام تلك الزيادة، فلما قالها الأغنياء، ساووهم فيها، وبقي معهم رجحان قربات المال، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء"، فظاهره القريب من النص أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات، وقد تأول بعض الناس قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" بتأويل مستنكر يخرجه عن الظاهر، والذي يقتضيه الأصل تساويهما، وحصول ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 93 - 94).

الرجحان بالعبادات المالية، فيكون الغني أفضل، وذلك غير مشكوك فيه، والذي يقع النظر فيه إذا تساويا في أداء الواجب فقط، وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه من الصبر أو الشكر؛ فإن كلًّا منهما متعبد به، وإذا تقابلت المصالح، ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل، فإن فسر بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضلُ من القاصرة، وإن فسرنا بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقراء أشرفُ، فيترجح الفقراء، ولهذا المعنى ذهب الجمهور من الزهاد والعباد إلى ترجيح الفقير الصابر؛ لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى، فكان أفضل بمعنى الشرف، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على خمسة أقوال: أحدها: تفضيل الغني؛ لهذا الحديث وغيره. والثاني: تفضيل الفقير؛ لاستعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الغنى، خصوصًا إذا كان مطغيًا. والثالث: تفضيل الكفاف؛ لسؤاله - صلى الله عليه وسلم - إياه. والرابع: أن التفضيل باعتبار حال الناس في الغنى والفقر بالنسبة إلى صلاحهم في أنفسهم وأديانهم. والخامس: التوقف عن تفضيل واحد منهما. ولا شك أن المسألة لها غَوْر، والأحاديث فيها متعارضة، وقد صنف العلماء فيها كتبًا عديدة، والذي يقتضيه القول في التفضيل ما اختاره الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وصحابته -رضي الله عنهم-، وهو الفقر غير المدقع، ويكفيك دليلًا ما ثبت في "الصحيح" مرفوعًا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمس مئة عام (¬1)، وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، ويُسألون عن ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2354)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، وقال: صحيح، وابن ماجه (4122)، كتاب: الزهد، باب: منزلة الفقراء، والنسائي في "السنن الكبرى" (11348)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 296)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-.

الحديث الرابع

فضول أموالهم، وحينئذ يرجع التأويل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضلُ الله يؤتيهِ مَنْ يشاء" إلى الثواب المترتب على الأعمال عند الله تعالى، لا بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله أعلم. ومنها: أن الإنسان قد يدرك بالعمل اليسيرِ في الصورة، العظيم في المعنى مَن سبقه، ولا يدركه مَن بعده في الفضل ممن لا يعمل به؛ فإن سياق الحديث يدل على ذلك. ومنها: فضل الذكر أدبار الصلوات. ومنها: أن أدبار الصلوات أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعوات وقبول الطاعات، ويصل بها متعاطيها إلى الدرجات العاليات والمنازل الغاليات، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَن عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلمّا انْصَرَفَ، قَالَ: "اذهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذ إلى أبِي جَهْمٍ، وَأتُوني بِأَنبِجَانِيَّة أَبي جَهْمٍ؛ فَإنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عن صَلاَتِي" (¬1). الخميصة: كساء مربَّع له أعلام، والأنبجانية: كساء غليظ. تقدم ذكر عائشة. وأما أبو جهم المذكور في الحديث، فاسمه عامر بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي، المدني، الصحابي. قال الحاكم أبو أحمد: ويقال: اسمه عبيد بن حذيفة، وهو غير أبي جُهيم -بضم الجيم وزيادة ياء على التصغير- المذكور في التيمم، وفي مرور المار بين يدي المصلي (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (366)، كتاب: الصلاة، باب: إذا صلّى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، ومسلم (556)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة في ثوب له أعلام. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبير" لابن سعد (5/ 451)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 291)، =

والأنبجاني -بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح الباء الموحدة منه، وتكسر، وأما الياء المثناة تحت آخره، فهي مشددة ومخففة-، قال ابن قتيبة: إنما هو منبجاني، ولا يقال: أنبجاني، منسوب إلى مَنْبِج، وفتحت الياء في النسب؛ لأنه خرج يخرج مخيراني، وهو قول الأصمعي، لكنه ليس بظاهر؛ فإن النسب إلى منبج منبجي. وأما قوله في الحديث: "وأْتوني بأنبجانيةِ أبي جهم" فروي بتشديد الياء المثناة والتأنيث على الإضافة، وعلى التذكير من غير ذكر أبي جهم ثانيًا، قال المصنف - رحمه الله -: هو كساء غليظ، وقال غيره: هو كساء غليظ لا علم له، فإذا كان له علم، فهو الخميصة، وإن لم يكن له، فهو أنبجانية، وقال ثعلب: هو كل ما كثف، وقال الداودي: هو كساء غليظ بين الكساء والعباء، وقال القاضي أبو عبد الله المازري: هو كساء سداه قطن أو كتان ولحمته صوف (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنها ألهتني عن صلاتي" معناه: أنها شغلت قلبي عن كمال الحضور في الصلاة وتدبر أذكارها وتلاوتها ومقاصدها من الانقياد والخضوع، وبعثهُ - صلى الله عليه وسلم - بالخميصة إلى أبي جهم وطلبُ أنبجانيه من باب الإدلال عليه؛ لعلمه بأنه يؤثر ذلك ويفرح به، ولا يلزم من بعثها إليه أن أبا جهم يصلي فيها، فإن حلَّة عطارد بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر - رضي الله عنه -، وقال: "لم أبعثْ بها إليكَ لتلبَسها" (¬2)، وفي رواية: "لم أَكسُكَها لتلبسَها" (¬3)، والله أعلم. ¬

_ = و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1623)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 173)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 56)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 492)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 556)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 71). (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 40 - 41)، و"المغرب" للمطرزي (2/ 282)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 37)، و "شرح مسلم" للنووي (5/ 43)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 372)، (مادة: نبج). (¬2) رواه مسلم (2068)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه البخاري (846)، كتاب: الجمعة، باب: يلبس أحسن ما يجد، ومسلم (2068)، =

وفي هذا الحديث مسائل: منها: جواز لبس الثوب ذي العلم. ومنها: أن اشتغال الفكر يسيرًا في الصلاة غير قادح فيها، وأنها صحيحة، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء [ونقل عن بعض السلف والزهاد ما لا يعتد به في الإجماع]. ومنها: طلبُ الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذلك. قال أصحاب الشافعي -رحمهم الله تعالى-: يستحب للمصلي النظر إلى موضع السجود، ولا يتجاوزه، وقال بعضهم: يكره تغميض عينيه، قال شيخنا أبو زكريا النووي - رحمه الله -: وعندي أنه لا يكره إلا أن يخاف ضررًا (¬1). ومنها: المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعات، وإلى الإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها. ومنها: النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف -رحمهم الله- لا يخطئُ نظرُ أحدهم موضعَ قدميه إذا مشى. ومنها: ما استنبطه الفقهاء من هذا الحديث، وهو كراهة تزويق حيطان المساجد ومحاريبها بالأصباغ والنقوش وزخرفتها بالصنائع المستظرفة؛ فإن الحكم يعمُّ بعموم علته، والعلةُ: الاشتغالُ عن الصلاة، وزاد بعض المالكية في هذا: كراهةَ غرس الأشجار في المساجد. ومنها: قبول الهدية من الأصحاب، والإرسال بها إليهم، والطلب لها ممن يظن به السرور به أو المسامحة. * * * ¬

_ = كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (5/ 44).

باب الجمع بين الصلاتين في السفر

باب الجمع بين الصلاتين في السفر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ الظُّهرِ والعَصْرِ إذَا مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، ويَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ (¬1). تقدم ذكر ابن عباس. ولفظ هذا الحديث للبخاري دون مسلم، وأطلق إخراجه عنهما نظرًا إلى أصل الحديث على عادة المحدثين، فإذا أرادوا التحقيق فيه، قالوا: أخرجاه بلفظه إن كان، أو بمعناه إن كان. واعلم أن الفقهاء لم يختلفوا في جواز الجمع في الجملة، لكن أبا حنيفة - رحمه الله - يخصه بالجمع بعرفةَ ومزدلفةَ، وتكون العلة في جوازه النسكَ لا السفرَ، والحنفيون يؤولون أحاديث الجمع بعذر السفر على [أن] المراد بها تأخيرُ الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية في أول وقتها، وجعل بعض الفقهاء الجمع نوعين: جمع مقارنة، وجمع مواصلة، قال: فجمع المقارنة كون الشيئين في وقت واحد؛ كالأكل والقيام مثلًا؛ فإنهما يقعان في وقت واحد، وجمع المواصلة أن يقع أحدُهما عقبَ الآخر، وقصد إبطال تأويل أصحاب أبي حنيفة - رضي الله عنه - بما ذكرنا؛ لأن جمع المقارنة لا يمكن في الصلاتين؛ إذ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1056)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، ومسلم (705)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر. وهذا لفظ البخاري.

لا يقعان في حالة واحدة، وأبطل جمع المواصلة -أيضًا-، وقصد إبطال تأويل الحنفيين المذكور؛ إذ لم يتنزل على شيء من النوعين، لكن الروايات الصحيحة؛ كحديث ابن عمر، وأنس، وابن عباس هذا يدل على جواز الجمع بعذر السفر، ويبطل تأويل الحنفيين، ولولا ذلك، لكان الدليل يقتضي امتناع الجمع؛ لأن الأصل عدم جوازه، ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدود لها، لكن هذا الحديث دل على جواز الجمع على ظهر سير في الظهر والعصر، وكذلك المغرب والعشاء، وهو رخصة، وجملة ما ذكروه من التأويل يقتضي الحصر والزيادة في المشقة على المسافر، وقد صح الجمع -أيضًا- في حال النزول، فالعمل به دليل آخر على الجواز في غير صورة السير، وقيام دليلهم يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، ولا يمكن معارضة دليل الوصف بالمفهوم من هذا الحديث؛ لأن المنطوق أرجح. وقوله: "وكذلك المغرب والعشاء" يريد: في الجمع، وظاهره اعتبار الوصف فيهما، وهو كونه على ظهر سير. وأجمع العلماء على أن الجمع ممتنع بين الصبح وغيرها، وبين العصر والمغرب، كما أجمعوا على جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ومن هاهنا ينشأ نظر القياس في مسألة الجمع، فأصحاب أبي حنيفة - رحمه الله - يقيسون الجمع المختلف فيه على الجمع الممتنع اتفاقًا، ويحتاجون إلى إلغاء الوصف الفارق بين محل النزاع ومحل الإجماع، وهو الاشتراك الواقع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما مطلقا، أو حالة العذر، وغيرهم يقيس الجواز في محل النزاع على الجواز في موضع الإجماع، ويحتاج إلى إلغاء الوصف الجامع، وهو النسك. ثم اختلف في جواز الجمع بعذر المطر، فجوزه الشافعي وجمهور العلماء في الصلوات التي يجوز فيها الجمع، وخصه مالك بالمغرب والعشاء فقط. وأما الجمع بعذر المرض، فمنعه الشافعي والأكثرون، وجوزه أحمد وبعض

الشافعية، منهم: القاضي حسين، وأبو حسين المتولي، والروياني، واختاره الطبري؛ لما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر جمعًا بالمدينة في غير خوف ولا سفر (¬1)، وفي رواية من حديثه أيضًا: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، قال الراوي عن ابن عباس: قلت له: لِمَ فعل ذلك؟ قال: كي لا يُحرجَ أمته (¬2). وهو محمول عند العلماء على المرض، وقد فعله ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقال لمن استعجله في صلاة المغرب وقد بدت النجوم: أتعلمني بالسنة لا أمَّ لك؟! رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته، فصدَّق مقالتَه (¬3)، وتأويلُه عندهم على المرض، وفعلُ ابن عباس، وتصديقُ أبي هريرة يدلان على أن الحديث معمول به غير منسوخ، ومن هذا المعنى المشقةُ في المرض أشدُّ من المطر. واعلم أن الترمذي - رحمه الله - قال في آخر كتابه في "العلل": ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع [بين الصلاتين] من غير خوف ولامطر، وحديث قتل شارب الخمر في الرابعة (¬4)، أما قوله في قتل شارب الخمر، فمسلَّم، وهو منسوخ دل الإجماع ¬

_ (¬1) رواه مسلم (705)، (1/ 490)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر. (¬2) رواه مسلم (705)، (1/ 490)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر. (¬3) رواه مسلم (705)، (1/ 491) كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر. (¬4) انظر: "العلل الصغير" للترمذي (ص:736)، وانظر: "شرح العلل" لابن رجب الحنبلي (1/ 323 - 324).

على نسخه، وقوله في حديث ابن عباس ممنوع بدليل من ذكرنا ممن تأوله وعمل به، والله أعلم. وأما الجمع للحاجة في الحضر من غير اتخاذه عادة، فجوزه ابن سيرين، وأشهبُ من أصحاب مالك، والقفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، وحكاه الخطابي عنه عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، وهو ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرجَ أمته، ولم يعلله بمرض ولا غيره، والله أعلم. واعلم أن جمع التقديم ثابت بين الظهر والعصر بعرفة، وجمع التأخير ثابت بين المغرب والعشاء بمزدلفة، وتقدم الاختلاف في علة جوازه، هل هو النسك أو السفر؟ وتظهر فائدة الخلاف بين أهل مكة وما حولها والغرباء، فمن علل بالنسك، جوزه لجميع الناس المقيمين والغرباء، ومن علل بالسفر، جوزه للغرباء دون المقيمين ومَنْ في معناهم، ثم الجمعُ بعذر السفر هل يجوز في كل سفر، أم يختص بالطويل؟ الصحيح أنه لا يجوز في القصير، كما لا يجوز فيه القصر، ويجوز في الطويل بلا خلاف، والطويل ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية، وهو مرحلتان معتدلتان، والقصير دون ذلك، وفوق مسافة العدوى، وهي أن يستعدي على خصمه ويرجع إلى وطنه في يومه، والأفضل لمن هو في المنزل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إليها، ولمن هو سائر في وقت الأولى ويعلم أنه ينزل قبل خروج وقت الثانية أن يؤخر الأولى إلى الثانية، ولو خالف فيهما، جاز، وكان تاركًا للأفضل، وشرط الجمع في وقت الأولى أن يقدمها، وينوي الجمع قبل فراغه من الأولى، وألَّا يفرق بينهما، فإذا أراد الجمع في وقت الثانية، وجب أن ينويه في وقت الأولى، ويكون قبل ضيق وقتها، بحيث يبقى من الوقت ما يسع تلك الصلاة فأكثر، فإن أخرها بلا نية، عصى، وصارت قضاء، وإذا أخرها بالنية، استحب أن يصلي الأولى أولًا، وأن ينوي الجمع، وألَّا يفرق بينهما، ولا يجب شيء من ذلك.

وأما الجمع بعذر المطر، فشرط جوازه أن يمشي إلى الجماعة في غير كِنٍّ؛ بحيث يلحقه بلل المطر، ولا يجوز لغيره على الأصح من الوجهين، وشرطه -أيضًا- أن يكون في وقت الأولى عند الإحرام بها، والفراغ منها، وافتتاح الثانية، ولا يجوز الجمع في المطر في وقت الثانية، على أصح الوجهين؛ لعدم الوثوق باستمراره إليها. * * *

باب قصر الصلاة في السفر

باب قصر الصلاة في السفر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَحِبْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذِلِكِ (¬1). هذا لفظ رواية البخاري، ولفظ رواية مسلم أطول وأبسط وأزيد، فليعلم ذلك. وتقدم ذكر ابن عمر. القَصْر: رد الرباعية إلى ركعتين، ويقال: قصر الصلاة وقصَّرها -مخففًا ومثقلًا-، وحكى الواحدي في "الوسيط" (¬2): أقصرها -رباعيًّا- ثلاث لغات، وبالتخفيف جاء القرآن، قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، والمصدر منها القَصْر والتقصير، والقياس من الثالثة الإقصار، والله أعلم (¬3). واعلم أن الصلاة كانت فرضيتها ركعتين ركعتين مدة شهر من قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكانوا يتنفلون، فرآهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أيها الناس! اقبلوا فريضة الله"، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1051)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، ومسلم (694)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: قصر الصلاة بمنى، وهذا لفظ البخاري. (¬2) كتاب "الوسيط" للواحدي وهو أحد ثلاثة كتب في التفسير له، تسمى "الحاوي لجميع المعاني". انظر: "كشف الظنون" (1/ 460). (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 273).

فأقرت صلاة المسافر، وزيدت في صلاة المقيم (¬1). وقوله: "فكان لا يزيد في السفر على ركعتين" لا شك أن مذهب ابن عمر - رضي الله عنهما - عدم التنفل في السفر، حتى لو قال: لو كنت متنفلًا، لأتممت، فحينئذ قوله: "فكان لا يزيد على ركعتين" يحتمل أن يكون ذكره دليلًا على عدم التنفل وقصر الصلاة، فلا يزيد على ركعتين في الرباعية، ولا يتنفل قبلها ولا بعدها، ويحتمل أنه أراد عدم التنفل فقط، ويكون ذكر قصر الصلاة لازمًا لذلك، وقد وردت أحاديث يدل سياقها على أنه أراد ذلك، والظاهر الذي يفهم منه أنه أراد عدم زيادة في الفرض على ركعتين وترك الإتمام؛ حيث أتم جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- الصلاة في السفر، فذكر ذلك دليلًا عليهم، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان في ذلك، مع أن الحجة قائمة بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليبين أن ذلك كان معمولًا به عند الأئمة، لم يتطرق إليه نسخ ولا معارضة راجحة، وقد فعل ذلك جماعة من الأئمة في استدلالهم؛ كمالك وغيره، والله أعلم. واعلم أن القصرَ في السفر الطويل والإتمامَ جائزان بالإجماع، واختلف العلماء في أن الأفضل القصر أو الإتمام؟ فذهبَ مالكٌ والشافعي وأحمد وأكثرُ العلماء على أن القصر أفضل، وللشافعي قول: أن الإتمام أفضل؛ قياسًا على قوله: إن الصوم في السفر أفضل، ولأصحابه وجه: أنهما سواء. وقال أبو حنيفة وجماعة: القصر واجب، ولا يجوز الإتمام. والحجة عليهم ما ثبت في "صحيح مسلم" وغيره أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يسافرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، لا يعيب بعضهم على بعض (¬2)، وبأن عثمان كان أمير ¬

_ (¬1) رواه البخاري (343)، كتاب: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء، ومسلم (685)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه مسلم (1117)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في =

المؤمنين، وعائشة كانت أمهم، وأتما الصلاة في السفر، فلو كان القصر واجبًا، لما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أتم من الصحابة معه في السفر عليه، ولَما فعله عثمان وعائشة، فدل على جوازه، وأنهم أخذوا بأحد الجائزين، وتركوا الأفضل؛ لمعان اقتضت ذلك في اجتهادهم، لا أنهم تركوا الواجب وما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في حياته عليه، والله أعلم. والحجة على أن القصر أفضلُ من الإتمام مواظبةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه في السفر، وقال بعض العلماء بوجوبه فيه كما تقدم تبيينه قريبًا، بخلاف الصوم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يواظب عليه في السفر، ولم يقل أحد بوجوبه في السفر -أيضًا-، ولأنه إذا أفطر فيه، خرج به عن وقته، ووجب قضاؤه، والقصر لا يخرج الصلاة عن وقتها، بل يأتي بالصلاة في وقتها المشروع، إما منفردة، أو جمعًا، وقد تقدم في الباب قبله حدُّ السفر الطويل والقصير. قال الشافعي ومالك وأصحابهما، والليث، والأوزاعي، وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم: لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين، وهي ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، والإصبع ست شعرات معترضات معتدلات. وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا تقصر في أقل من ثلاث مراحل، وروي عن عثمان، وابن مسعود، وحذيفة. وقال داود وأهل الظاهر: يجوز في السفر الطويل والقصير، حتى لو كان ثلاثة أميال، قصر. ثم مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونَه سفرَ خوف، وبعضهم كونَه سفرَ حج أو عمرة أو غزو، وبعضهم كونَه سفرَ طاعة، وجوزه أبو حنيفة والثوري في سفر المعصية، ومنعه الشافعي، ومالك، وأحمد والأكثرون. ¬

_ = غير معصية، عن أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.

قال أصحاب الشافعي -رحمهم الله-: العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، والعاصي في سفره يترخص، والله أعلم. ولا تجوز صلاة الفرض في حال من الأحوال ركعة واحدة، وجوزه في الخوف جابر، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك، وإسحاق بن راهويه، مستدلين بما ثبت في "صحيح مسلم" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فرض الله -عزَّ وجلَّ- الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة (¬1)، وخالف ذلك الشافعي ومالك والجمهور، وقالوا: صلاة الخوف كصلاة الآمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر، وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر، وجب ركعتان، ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة في حال من الأحوال، وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردًا كما جاءت الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الخوف، وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (687)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها.

باب الجمعة

باب الجمعة - بضم الميم، وإسكانها، وفتحها-، ووجه بعضهم الفتح بأنها تجمع الناس، ويكثرون فيها، كما يقال: هُمَزَة ولُمَزَة؛ لكثرة الهمز واللمز، سميت جمعة لاجتماع الناس، وكان يقال ليوم الجمعة في الجاهلية: العروبة، وجمعها: جمعات وجمع (¬1). * * * الحديث الأول عَن سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَلَى المِنبرِ، فَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى المِنبَرِ، ثُمَّ رَفَعَ فنَزَلَ القَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ في أَصْل المِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلاَته، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "يا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا صنَعْتُ هَذَا لِتأْتَمُّوا بِي وَلِتعَلَّمُوا صَلاَتي" وفي لفظ: صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ كبَّرَ وَهُوَ عَلَيْها، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيهَا، ثُمَّ نَزَلَ القَهْقَرَى (¬2). وجهُ دخول هذا الحديث في باب الجمعة أن فعلَه - صلى الله عليه وسلم - للصلاة على الوجه ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 84)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 46 - 47)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 58)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 108)، (مادة: جمع). (¬2) رواه البخاري (875)، كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر، ومسلم (544)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب؛ جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة.

المذكور، وعلته إنما كان ليأتموا به وليعلموا صلاته، وهذا المقصود في الجمعة أبلغ منه في غيرها من الصلوات، إذ لا فرق في الحكم. واعلم أن أول جمعة جمعت بعد قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة في بني سالم بن عوف بأربعة أيام. وأما سهل بن سعد: فكنيته أبو العباس بنُ سعدِ بنِ مالكِ بنِ خالدِ بنِ ثعلبةَ بنِ حارثةَ بنِ عمرِو بنِ الخزرجِ بنِ ساعدةَ بنِ كعبِ بن الخزرج، الأنصاريُّ، المدنيُّ، كان اسمه حَزْنًا، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سَهْلاَ، وقال -رضي الله عنه-: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة. رُوى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وثمانية وثمانون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ثمانية وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري بأحد عشر، وروى عنه الزهريّ، وأبو حازم سلمة بن دينار، وأُبي بنُ العباس بن سهل بن سعد، وغيرهم، وروى له أصحاب السنن والمساند، مات بالمدينة بلا خلاف سنة إحدى وتسعين وهو ابن مئة سنة، وهذا لا يصح؛ لأنه كان عمره قبل الهجرة خمس سنين، فيقتضي أن يكون يوم موته ابن ست وتسعين، إلا على ما روي أن عمره يوم الملاعنين كان خمسَ عشرة سنة، فيصح أن عمره يوم مات مئة سنة، وقيل في يوم وفاته غير هذا، والله أعلم. قال بعضهم: وهو آخر من مات من الصحابة مطلقًا، وليس بصحيح؛ فإن آخرهم موتًا أبو الطفيل عامر، بل الصواب أن آخرهم موتًا بالمدينة كما روي عن ابن عيينة قال: قال أبو حازم سلمة بن دينار: كان سهل بن سعد آخرَ من بقي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: بالمدينة، كما أن آخرهم موتًا بالبصرة أنس بن مالك -رضي الله عنهم-. وأما الساعدي: فنسبته إلى بني ساعدة بطنٍ من الأنصار الخزرجيين، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في "الثقات" لابن حبان (3/ 168)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 664)، =

وأما المنبر: فهو بكسر الميم، مشتق من النبر، وهو الارتفاع، ولا شك أن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات، إحداها المقام، وهو الذي قام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. وقوله: "ثم رفع" وهو بالفاء؛ أي: رفع رأسه من الركوع. وقوله: "فنزل" أصل موضوع الفاء للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه، والمراد النزول: بعد رفعه من الركوع. وقوله: "القهقرى" هو المشي إلى خلف، وإنما فعل ذلك لئلا يستدبر القبلة. وقوله: "حتى سجدَ في أصلِ المنبر"؛ أي: على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولتعلَّموا صلاتي" هو بفتح العين واللام المشددة؛ أي: تتعلموا؛ بين - صلى الله عليه وسلم - أن صعوده المنبر وصلاته عليه إنما كان للتعليم؛ ليرى جميعهم أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف ما كان على الأرض؛ فإنه لا يراه إلا بعضهم ممن قربَ منه. وقوله: "وفي لفظ: صلَّى عليها، ثم كبر عليها، ثم ركع وهو عليها" الضمير في عليها في المواضع الثلاثة عائد إلى الدرجة الثالثة، وهي أعلى المنبر، وهي بعض من المنبر، وإن لم يكن لها ذكر؛ لدلالة المعنى عليها. وفي هذا الحديث فوائد: منها: استحباب اتخاذ المنبر. ومنها: استحباب كون الخطيب ومَنْ في معناه على مرتفَع من الأرض؛ كمنبر أو كرسي ونحوهما. ومنها جواز الفعل القليل في الصلاة. ¬

_ = و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 261)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 575)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 227)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 188)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 422)، و"الإصابة في تميز الصحابة" لابن حجر (3/ 200)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 221).

الحديث الثاني

ومنها: أن الخطوتين لا تبطل الصلاة، ولكن الأولى ترك الخطوة والخطوتين وغيرهما من أفعال إلا لحاجة، فإن كان لحاجة، فلا كراهة فيه كما فعل - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن الأفعال الكثيرة إذا تفرقت لا تبطل الصلاة؛ لأن النزول عن المنبر والصعود تكرر، فجملته كثيرة، وأفراده متفرقة كل واحد منهما قليل. ومنها: جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من موضع المأمومين لقصد التعليم بلا كراهة، بل هو مستحب، وكذلك حكم ارتفاع المأموم على الإمام لقصد إعلام المأمومين بصلاة الإمام، وإن لم يقصد شيئًا من ذلك، فهو مكروه، وزاد أصحاب مالك: إن قصد بذلك التكبر، بطلت صلاته. ومنها: أنه ينبغي للكبير أو الإمام أو العالم إذا فعل شيئًا يخالف المعتاد أن يبين حكمه لأصحابه؛ ليزيل الريبة عنهم، ولأنه أبلغ في فهمهم. ومنها: استحباب قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة؛ فإن ذلك لا يقتضي القدح والتشريك في العبادة، بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم، وكذلك حكم إقامة الصلاة أو الجماعة لقصد التعليم، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ جَاءَ مِنكمُ الجُمُعَةَ فَليغتسِلْ" (¬1). تقدم الكلام على ابن عمر. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جاء منكمُ الجمعةَ" المراد بالمجيء إرادتُه، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية في "صحيح مسلم": "إِذَا أرَادَ أَحَدُكُمُ أَنْ يَأتِيَ الجُمُعَةَ" (¬2)، وفي معنى إرادة المجيء قصدُ الشروع في المجيء. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (854)، كتاب: الجمعة، باب: هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ ومسلم (844)، (2/ 579)، في أول كتاب الجمعة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه مسلم (844)، (2/ 579)، كتاب: الجمعة، في أوله.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليغتسلْ" الفاء للتعقيب، واشترط مالك - رحمه الله - اتصالَ الغسل بالرواح؛ لتعلقه بالأمر بالمجيء إلى الجمعة، لكنه قد تبين أن المراد إرادتُه أو قصدُه، وأبعدَ داودُ الظاهري، وجعل الغسل متعلقًا باليوم فقط، حتى لو اغتسل قبل غروب الشمس يوم الجمعة حصلت مشروعية الغسل، مستدلًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح": "لو اغتسلْتُمْ ليومِكُم" (¬1)، وقوله: "غسلُ يومِ الجمعة" (¬2)، وقوله: "لو اغتسلتم يوم الجمعة"، فعلقه، وأضافه إلى اليوم، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فدل على أنه مشروع لليوم، لا لتعين المجيء، لكنه قد تبين المقصود من الغسل، وبيان سبب شرعيته في الأحاديث الصحيحة، وهو إزالة الروائح الكريهة والوسخ؛ لعدم إيذاء الناس والملائكة، وكذلك أبعدَ من قدَّم جوازَه على يوم الجمعة؛ بحيث لا يحصل المقصود من إزالة ما ذكر والنظافة لم يعتد به، والمعنى إذا كان معلومًا من الشرع بالقطع؛ كالنص، أو بالظن الراجح المقارن للنص، فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ، وإذا كان أصل المعنى معقولًا، وتفاصيله تحتمل التعبد، فلا شك أنه محل نظر، ولا شك أن الأحاديث التي دلت على تعلق الأمر بالمجيء أو الإتيان قد دلت على تعلق الأمر بهذه الحالة المطلوبة من النظافة وإزالة الوسخ، والأحاديث التي تدل على تعليقه باليوم لا تتناول تعليقه بها، فهو إذا تمسك بها أبطل دلالة الأحاديث التي دلت على تعلق الأمر بالحالة المطلوبة، وليس له ذلك، ونحن إذا قلنا بتعليقه بهذه الحالة، لم يبطل ما استدل به، وعملنا بمجموع الأحاديث. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (861)، كتاب: الجمعة، باب: وقْت الجمعة إذا زالت الشمس، ومسلم (847)، كتاب: الجمعة، باب: وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه البخاري (839)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم (846)، كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، بلفظ: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم".

واللام في قوله: "فَلْيغتسلْ" للأمر، ولكن جمهور العلماء من السلف والخلف على أنها للندب، قال القاضي عياض: وهو المشهور من مذهب مالك وأصحابه (¬1)، وإن كان ظاهر الأمر للوجوب، وقد ثبت التصريح به في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غسلُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ" (¬2)، وهذا الذي حمل طائفة من السلف وبعض الصحابة وبعض التابعين، ومالك في رواية عنه، وأهل الظاهر إلى القول بوجوبه؛ عملًا بظواهر الأمر والأحاديث المروية فيه، واحتج الجمهور الذين قالوا بالندب بأحاديث صحيحة، منها ما رواه مسلم في "صحيحه": أن رجلًا دخلَ وعمرُ يخطبُ، وهو عثمانُ بنُ عفان، وقد ترك الغسلَ، وأقره عمرُ والصحابة على ذلك (¬3)، وهم أهلُ الحل والعقد، مع أن تركَ عثمانَ -رضي الله عنه- حجةٌ في عدم الوجوب بمجرده، فلو كان واجبًا، لألزموه، ولما تركه، ومنها ما ثبت صحيحًا في السنن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَوَضَّأَ، فَبِها وَنِعْمَتْ، ومَنِ اغتسلَ فالغسلُ أفضلُ" (¬4)، ففيه دليلان: الندب، وعدم الوجوب، ومنها رواية في "صحيح مسلم"، وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو اغتسلتمْ يومَ الجمعة" (¬5)، وهذا اللفظ يقتضي أنه ليس بواجب؛ لأن التقدير: لو اغتسلتم، لكان أفضلَ وأكملَ، وتأولوا صيغةَ الأمر على الندب، وصيغةَ الوجوب على التأكيد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واجبٌ على كل محتلم"، وضعف هذا التأويل؛ فإن المراد بالمحتلم البالغ، كما أن المراد بالحائض في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبلُ اللهُ صلاةَ حائضٍ إلا بخمارٍ" (¬6): من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 133). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) رواه مسلم (845)، كتاب: الجمعة، في أوله، والبخاري أيضًا (842)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. غير أن اسم الصحابي (عثمان بن عفان) - رضي الله عنه - لم يُصرح به في رواية البخاري. (¬4) رواه أبو داود (354)، كتاب: الطهارة، باب: في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والنسائي (1380)، كتاب: الجمعة، باب: الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والترمذي (497)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، عن سمرة - رضي الله عنه -. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه.

الحديث الثالث

بلغت سن الحيض، لا وجوده، والوجوب شرعًا المنع من الترك، وحمله على الندب أو تأكيد النفل خلافُ الظاهر إذا لم يعارضه دليلٌ آخر، فحينئذ يكون الجمع بين الأدلة التي ظاهرها الاختلاف وإعمالُها أولى من إلغائها، خصوصًا إذا أمكن الجمع بوجه سائغ. والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "صَلَّيْتَ يا فُلانُ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ" (¬1). تقدم الكلام على جابر. والرجل المبهم هو معين في رواية في "صحيح مسلم" (¬2)، وهو سُلَيْكٌ الغَطَفاني، وقال الخطيب في "المبهمات" وغيره: وقيل: هو النعمان بن قوقل، والأول هو المشهور (¬3). وهذا الحديث حجة لمن يقول باستحباب تحية المسجد لمن دخله والإمامُ يخطب، وهو مذهب الشافعي، وأحمدَ، وإسحاقَ، وفقهاء المحدثين، وقال به الحسن البصري وغيره من المتقدمين، وغير هذا الحديث أصرحُ في الدلالة، وهو ما ثبت في "صحيح مسلم" في بعض طرق هذا الحديث: أنه قال - صلى الله عليه وسلم - بعد أمره لسليك: "قم فاركعْ ركعتين وتجوَّزْ فيهما"، ثم قال: "إذا جاءَ أحدُكم يومَ الجمعة والإمامُ يخطبُ، فليركعْ ركعتين، وليتجوَّزْ فيهما" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (888)، كتاب الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، ومسلم (875)، كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، وهذا لفظ البخاري. (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) وانظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 62). (¬4) رواه مسلم (875)، (2/ 597)، كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب.

وقال مالك، والليث، وأبو حنيفة، والثوري، وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وهو مروي عن عمر وعثمان: لا يصليهما؛ لوجوب الاشتغال بالإنصات للخطبة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قلتَ لصاحبِكَ والإمامُ يخطبُ: أنصتْ، فقد لَغَوْتَ" (¬1). قالوا: فإذا منع من الكلمة، وهي: أنصت، مع كونها أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر في زمن يسير، فلأن يمنع من الركعتين مع كونهما مسنونتين في زمن طويل من باب الأولى. واعتذروا عن الأحاديث المذكورة من أمره للرجل الداخل أنه مخصوص به؛ لأنه كان فقيرًا، فأريد قيامه لتستشرفه العيون، ويتصدق عليه، وأيدوا ذلك بأمره - صلى الله عليه وسلم - له بالقيام؛ لأن ركعتي التحية تفوت بالجلوس، وقد تمَّ، وبأن الحديث المذكور خبر واحد، والمالكية تقدم عملَ أهل المدينة عليه، ويرون العمل به أولى من خبر الواحد، والحنفية ترده فيما تعم البلوى به. والجواب عن ذلك بأن التخصيص على خلاف الأصل يبعد الحمل عليه مع صيغة العموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدُكم الجمعةَ والإمامُ يخطب"؛ فإنه تعميم يزيل توهم التخصيص بهذا الرجل، ومذهبُ المالكية معروف في رد خبر الواحد بعمل أهل المدينة، [ومذهب] الحنفية معروف -أيضًا- في رده بما تعم به البلوى، وبالقياس الجلي في كتب أصول الفقه. وأما الجلوس قبل أن يركعهما، فمكروه للعالم بأنها سنة، وأما الجاهل، فيستحب له تداركها على قرب، ولا تسقط بمجرد الجلوس، ولا بالنسيان إذا ذكرها على قرب، والاشتغال بالركعتين للداخل مستثنى من عموم الأمر بالإنصات للخطبة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (892)، كتاب: الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة والامام يخطب، ومسلم (851)، كتاب: الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وقال الإمام أبو العباس القرطبي صاحب "المفهم" (¬1): وذهب بعض المتأخرين من أصحاب الحديث إلى الجمع بين الأمرين، فخير الداخل بين الركوع وتركه، وهو قول من تعارض عنده الخبر والعمل، والله أعلم. وفي هذا الحديث: جواز تأخير المجيء إلى الجمعة والإمام يخطب على المنبر. وفيه: جواز الكلام للخطيب في الخطبة لحاجة التعليم ونحوه. وفيه: جواز جوابه للمستمع وغيره. وفيه: الأمر بالمعروف، والإرشاد إلى المصالح في كل حال وموطن. وفيه: أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل حكمها. وفيه: أن تحية المسجد ونوافل النهار ركعتان. وفيه: أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل. وقد أطلق أصحاب الشافعي فواتها بالجلوس، وهو محمول على من طال جلوسه كما ذكرنا عالمًا بأنها سنة. وقد يستنبط منه أن تحية المسجد وغيرها من الصلوات ذوات الأسباب المباحة لا تكره في وقت من الأوقات، وكذلك كل ذات سبب واجب؛ كقضاء فائتة ونحوه؛ لأنها لو سقطت في حال من الأحوال، لكان حال استماع الخطبة أولى بالسقوط، فلما لم تترك في حال هو واجب، وتركه محرم، وقطعت الخطبة من أجله، وأمره بفعله بعد أن قعد؛ لجهله بحكمها، دل على تأكدها، وأنها لا تترك بحال، ولا في وقت من الأوقات، وباقي الصلوات ذوات الأسباب يقاس عليها، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 514).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَاِئمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ (¬1). أما جابر هذا، فهو ابن سَمُرَةَ، كذا هو مبين في "صحيح مسلم". قال ابن حِبان: ولأبيه سمرةَ صحبةٌ، واختلف في اسم جده، فقيل: جُنادة بن جُندب، وقيل: عمرو بن جُندب، وهو سُوائي من بني سُواءة حليف بني زهرة. كنية جابر هذا: أبو عبد الله، وقيل: أبو خالد، وأمه خلدة بنت أبي وقاص أخت سعد بن أبي وقاص أحد العشرة، سكن الكوفة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وستة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين، روى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، مات سنة ست وستين أيامَ المختار. وقال أبو حاتم بن حبان: توفي بالكوفة سنة أربع وسبعين في ولاية بشر ابن مروان على العراق، وصلى عليه عمرو بن حُريث، وحديثه عند أهل الكوفة، هذا آخر كلامه، وروى له أصحاب السنن والمساند (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (886)، كتاب: الجمعة، باب: القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة، ومسلم (862)، كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة. قلت: وهذا ليس لفظ البخاري ولا مسلم، فأما لفظ البخاري، فهو: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما". وأما لفظ مسلم، فهو: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائمًا". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 406): "وغفل صاحب "العمدة" -أي: الحافظ عبد الغني- فعزا هذا اللفظ للصحيحين". وقد رواه النسائي (1416)، كتاب: الجمعة، باب: الفصل بين الخطبتين بالجلوس، وابن خزيمة في "صحيحه" (1446)، وغيرهما، باللفظ الذي ساقه الإمام عبد الغني المقدسي - رحمه الله -. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 24)، و"التاريخ الكبير" للبخاري =

أما الخطبة -بضم الخاء-، فهي الكلام المؤلف المتضمن وعظًا وإبلاغًا، خطَب يخطُب -بضم الخاء- خِطابًا بكسر الخاء (¬1). وفي هذا الحديث دليل على ثلاث مسائل في الخطبة: الأولى: اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة، وهو مذهب الشافعي والأكثرين، قال القاضي عياض: وإليه ذهب عامة العلماء، وقال الحسن البصري، وأهل الظاهر، وابن الماجشون عن مالك: إنها تصح بلا خطبة، وفي دليل اشتراطهما نظر؛ من حيث إنهم استدلوا عليه بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلي" (¬2)، وذلك يتوقف على أن تكون إقامة الخطبتين داخلًا تحت كيفية الصلاة، وإذا لم يكن كذلك، لم يبق الاستدلال عليه إلا بمجرد الفعل. الثانية: اشتراط القيام فيهما، ولا يصح من القاعد، قال ابن عبد البر: إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائمًا لمن أطاقه. وقال أبو حنيفة: يصح قاعدًا، والقيام ليس بواجب. وقال مالك: وهو واجب لو تركه أساء وصحت الجمعة. والذي ذهب إليه الشافعي والأكثرون اشتراطه، وفي دليله من النظر ما ذكرنا في المسألة الأولى. الثالثة: اشتراط الجلوس بينهما، وأنه فرض من فروضها، قال الطحاوي: لم يقل هذا غير الشافعي (¬3)، وقال مالك، وأبو حنيفة، والجمهور: الجلوس بين ¬

_ = (2/ 205)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 52)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 493)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 224)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 186)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 199)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 488)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 149)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 431)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 35). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 45)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 360)، (مادة: خطب). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 150).

الحديث الخامس

الخطبتين سنة ليس بواجب ولا شرط، وفي دليل الاشتراط والفرضية من النظر ما ذكرنا، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ" (¬1). قوله: "أنصت" معناه: اسكت، وقد ثبت في "صحيح مسلم" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أتى الجمعةَ فاستمعَ وأنصتَ" (¬2)، فجعلهما شيئين متمايزين، ولا شك أن الاستماع الإصغاءُ، والإنصات السكوتُ، ولهذا قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، يقال: أنصتَ ونَصَتَ وانتصت، ثلاث لغات حكاهن الأزهري في "شرح ألفاظ مختصر المزني" (¬3). وقوله: "فقد لغوت" يقال: لغا يلغو، ولغي يلغى، بالواو والياء في المضارع، وظاهر القرآن يقتضي لغة الياء في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، وقد لغوت ولغيت، وهما روايتان في "صحيح مسلم" (¬4). واللغو واللغي: رديء الكلام وكل ما لا خير فيه، وقد يطلق على الخيبة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (892)، كتاب: الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ومسلم (851)، كتاب: الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة. (¬2) رواه مسلم (857)، كتاب: الجمعة، باب: فضل من استمع وأنصت في الخطبة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 113). (¬4) رواه مسلم (851)، (2/ 583)، كتاب: الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة. وفيه: قال أبو الزناد في "لغيت": هي لغة أبي هريرة، وإنما هو "فقد لغوت".

أيضًا، وقيل: معناه: ملت عن الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي (¬1). ومعنى الحديث: النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا على ما سواه؛ لأنه إذا قال: أنصت، وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغوًا، فغيره من الكلام أولى، وطريقه إذا أراد نهي غيره عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه، فإن تعذر فهمه، فلينهه بكلام مختصر، ولا يزيد على أقل ممكن. ولا شك أن الحديث دليل على طلب الإنصات في الخطبة، والناس في ذلك على قسمين: أحدهما: من يسمع الخطبة، وهؤلاء ضربان: ضرب لا تصح الجمعة إلا بهم، وهم أربعون أو أقل أو أكثر على قدر الاختلاف فيهم، فهؤلاء يجب عليهم الاستماع بلا شك، وضرب تصح الجمعة بدونهم وهم يسمعون، فهؤلاء يجب عليهم -أيضًا- عند مالك، وأبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه في الحديث، وأحمد في المشهور من روايته، وعامة العلماء، مع اتفاقهم على أن الكلام في هذا الضرب مكروه كراهة تنزيه، لكن الاختلاف في التحريم، والذي يقتضيه الدليل التحريم، وهو الراجح عند أكثر العلماء، وحكي عن النخعي والشعبي وبعض السلف: أنه لا يجب إلا إذا تلا الخطيب فيها القرآن. القسم الثاني: من لا يسمع الخطبة أصلًا، قال القاضي عياض وغيره: اختلف العلماء فيه، هل يجب عليه السكوت؛ كما لو كان يسمع؟ قال الجمهور: يلزمه؛ لأنه إذا تكلم، يهوش على السامعين، ويشغلهم عن الاستماع، وقال النخعي وأحمد، والشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه، ولكن يستحب له. وأما الإنصات بين خروج الإمام والخطبة، فقال به أبو حنيفة، قال: يجب الإنصات بخروج الإمام، وقال مالك والشافعي والجمهور: لا يجب، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 361)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 138).

الحديث السادس

ولا شك أن الإنصات والإمام يخطب يُستدل له من عموم الحديث على من سمعه ومن لم يسمعه من غير تقييد، حتى استدلت به المالكية على عدم تحية المسجد من حيث إن الأمر بالإنصات أمر بمعروف، وأصله الوجوب، فإذا منع منه مع قلة زمانه وقلة انشغاله، فلأن يمنع الركعتان مع كونهما سنة وطول الاشتغال بهما أولى، وقد تقدم ذلك، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأنَما قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيةِ، فَكَأنمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّمَا قَرَّبَ كبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرابِعَةِ، فكَأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ في الساعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإمَامُ، حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" (¬1). أما الرواح لغة: فهو الذهاب أول النهار وآخره، قال الأزهري: لغة العرب أن الرواح الذهاب، سواء كان أول النهار أو آخره، أو في الليل، والمراد به في الحديث الذهابُ أول النهار (¬2)، وادعى مالك والقاضي حسين وإمام الحرمين من أصحاب الشافعي: أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، وقالوا: هذا معناه في اللغة بناء على أن الساعات المذكورة في الحديث عندهم لحظات لطيفة، لا الساعات التي هي من طلوع الفجر أو طلوع الشمس، وقد اختلف في ذلك، والصحيح عند العلماء أنه من طلوع الفجر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "يومُ الجمعة اثنتا عشرةَ ساعةً" (¬3)، فجعل الساعات عبارة عن جميع اليوم، لا عن اللحظات ¬

_ (¬1) رواه البخاري (841)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة، ومسلم (850)، كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة. (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 64)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 328)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 86). (¬3) رواه النَّسائيُّ (1389)، كتاب: الجمعة، باب: وقت الجمعة، والحاكم في "المستدرك" =

اللطيفة، مع أن لفظة راح محتملة لمجرد السير أيَّ وقت كان، كما صرح به الأزهري، وأوله مالك في السعي على مجرد السير. وقوله: "فكأنما قَرَّبَ بدنةً" معنى قرب: تصدَّق، وأما البدنة، فقال جمهور أهل اللغة وجماعة من الفقهاء: تقع على الواحد من الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك؛ لعظم بدنها، وخصها جماعة بالإبل، وهو المراد بالحديث اتفاقا؛ لأنها قوبلت فيه بالبقرة والكبش (¬1)، وادعى بعض الفقهاء من الشافعية أن استعمال البدنة في الإبل أغلبُ، وبنى على ذلك أنه لو قال: لله علي أن أضحي ببدنة، ولم يقيد بالإبل لفظًا ولا نية، والإبل موجودة، هل يتعين؟ فيه وجهان: أحدهما: التعين؛ لأن لفظة البدنة مخصوصة بالإبل، أو غالبة فيه، فلا يعدل عنه. والثاني: أنه يقوم مقامها بقرة، أو سَبْع من الغنم؛ حملًا على ما علم من الشرع من إقامتها مقامها، والأول أقرب. فإن لم يوجد الإبل ففيه وجهان: أحدهما: يصبر إلى أن توجد. والثاني: تقوم مقامها البقرة. واعلم أن البدنة والبقرة تطلقان على الذكر والأنثى باتفاقهم، والهاء فيهما للوحدة؛ كقمحة وشعيرة ونحوهما من أفراد الجنس، وأما البقرة، فسميت بها؛ لأنها تبقر الأرض؛ أي: تشقها بالحراثة، والبَقْر: الشقُّ، ومنه قولهم: بقر بطنه، أي: شقه، ومنه سمي محمد الباقر - رضي الله عنه -؛ لأنه بقر العلم، ودخل فيه مدخلًا بليغًا، ووصل منه غاية مرضية. ¬

_ = (1032)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 136)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 49)، (مادة: بدن).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كبشا أقرنَ" ووصفه بالأقرن لكماله به وحسن صورته، ولأنه ينتفع به. والدجاجة -بكسر الدال وفتحها- لغتان مشهورتان، وتقع على الذكر والأنثى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خرجَ الإمامُ، حضرتِ الملاتكةُ يستمعون الذِّكر" يقال: حضرت -بفتح الضاد وكسرها- لغتان، الفتح أفصح وأشهر، وبه جاء القرآن، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8]. ومقتضى الحديث خروجُ الإمام بعد الساعة الخامسة، وتطوي الملائكة الصحف لاستماع الذكر، وخروج الإمام إنما يكون بعد الساعة السادسة على ما بينا أن المراد بالساعات الزمانية التي يومها اثنتا عشرة ساعة، أما إذا جعلنا المراد منها اللحظات بعد الزوال، أو جعلنا ذلك عبارة عن ترتيب منازل السابقين، فلا يلزم هذا الاقتضاء، والإشكال عليه، والمراد بهؤلاء الملائكة: غير الحفظة، ووظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، واستماعهم للذكر الذي هو الوعظ والتذكير؛ تشريفًا له ولسامعيه، وتعظيمًا لقدر الجمعة، وشهادة لهم بذلك جميعه. واعلم أنه جاء في رواية النَّسائيُّ بعد الكبش: بطة، ثم دجاجة، ثم بيضة (¬1)، وفي رواية له بعد الكبش: دجاجة، ثم عصفور، ثم بيضة (¬2) , وإسناد الروايتين صحيحان، ولا إشكال عليهما، فإن اقتضاهما أن خروج الإمام بعد السادسة، فيصح كون أن الساعات هي من اليوم الذي هو اثنتا عشرة ساعة، والله أعلم. ثم إن من جاء في أول ساعة من هذه الساعات، ومن جاء في آخرها مشتركان ¬

_ (¬1) رواه النَّسائيُّ (1385)، كتاب: الجمعة، باب: التبكير إلى الجمعة، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 259)، والدارمي في "سننه" (1544). (¬2) رواه النَّسائيُّ (1387)، كتاب: الجمعة، باب: التبكير إلى الجمعة، وابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 26)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 81)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

في تحصيل ثواب أصل البدنة أو البقرة أو الكبش، ولكن ثواب بدنة الأول أكمل من ثواب الآخر، والمتوسط، وثواب بدنة المتوسط بينهما، كما أن صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة، ومعلوم أن الجماعة تطلق على اثنين وعلى ألوف، فمن صلى في جماعة هم عشرة آلاف مثلًا، درجاته أكمل من درجات من صلى مع اثنين، مع نظائر كثيرة لهذا، والله أعلم. ثم المراد بالغسل المتقدم في الحديث على الرواح الإطلاق لأجل الجمعة من غير مواقعة لزوجة أو جارية، واستحبه بعض أصحاب الشافعي في كتب الفقه، قال: ليكون أغضَّ لبصره وأسكنَ لنفسه، مستدلًا برواية في "صحيح مسلم": "من اغتسلَ يومَ الجمعةِ غُسْلَ الجنابةِ" (¬1)، وهو استدلال ضعيف؛ لأن معنى الحديث: من اغتسل غسلًا كغسل الجنابة في الصفات، لا في الموجبات له من جماع أو احتلام، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: الأول: الحثُّ على الغسل يوم الجمعة، وتقدم الاختلاف في وجوبه واستحبابه في الحديث الثاني من هذا الباب، لكن في هذا الحديث عمومٌ أكثر من ذلك؛ فإن عمومه بالمجيء، والأمر بالغسل مقيد به، وهنا عمومه من حيث الحث عليه، وعلى التبكير إلى الجمعة، سواء كان رجلًا أو امرأة، وسواء كان صبيًّا أو جارية؛ لأن القربات تصح من هؤلاء كلهم، فيشرع لكل مريد للجمعة مطلقًا، ويتأكد في حق الذكور البالغين أكثر من غيرهم من النساء والصبيان المميزين؛ فإنه في حق النساء قريب من التطيب، ولا يكره في حقهن؛ فإنه تنظف له محض، وهو مطلوب للجمعة وغيرها، ولأصحاب الشافعي في هذه المسألة اختلاف وجوه: أصحها: ما ذكرنا. والثاني: يستحب للذكور خاصة. ¬

_ (¬1) الرواية في "صحيحي البخاري ومسلم"، وقد تقدم تخريجهما قريبًا.

والثالث: يستحب لمن تلزمه الجمعة دون النساء والصبيان والعبيد والمسافرين. والرابع: يستحب مطلقًا لكل أحد، سواء أراد حضور الجمعة أم لا؛ كغسل العيد؛ فإنه يستحب لكل أحد. الثاني: استحباب التبكير إلى الجمعة والتهجير؛ كما ورد في الأحاديث الصحيحة، ومذهب الشافعي، وجماهير أصحابه، وابن حبيب المالكي، وجمهور العلماء: استحبابُ التبكير إليها أولَ النهار، والساعات عندهم أول النهار، والرواح أوله وآخره كما تقدم ذكره، واختار مالك التهجير، واستدل عليه بأوجه: أحدها: أن التهجير والمهجر إنما يكون في الهاجرة، ومن خرج من بيته عند طلوع الشمس مثلًا، أو بعد طلوع الفجر، لا يقال له: مهجر، وأجيب عن ذلك بأن التهجير مشتق من الهجر، وهو ترك المنزل أيَّ وقت كان، كيف وقد ثبت في "الصحيح" مرفوعًا: "من غَسَلَ واغتسَلَ، وغَدا وابْتكَرَ" (¬1)، وذلك يدل على أن المراد بالتهجير أول النهار؛ لأن الغدو والتبكير إنما يكونان أول النهار؛ لا وقت الهاجرة، قال الخليل بن أحمد وغيره من أهل اللغة: التهجير: التبكير (¬2)، ومنه الحديث: "لو يعلمونَ ما في التَّهجير، لاسْتَبَقُوا إليه" (¬3)؛ أي: التبكير إلى كل صلاة. الثالث: ما ذكرنا من أن المراد بالساعات: اللحظات، وقد بينا بطلانه هنا، واستدلوا على ما قالوه بأن العرف واستعمال الشرع لا يدلان على استعمال ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (345)، كتاب: الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، والنسائي (1381)، كتاب: الجمعة، باب: فضل غسل يوم الجمعة، والترمذي (496)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة، وابن ماجه (1087)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة، عن أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 115)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 331)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 245)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 255)، (مادة: هجر). (¬3) تقدم تخريجه.

الساعات بحساب وآلات، وإن دل، فالمراد بها الظرفية التي تقع فيها المراتب في الذهاب، وقد بينا تسمية الشارع لها حيث قال: "يومُ الجمعةِ اثنتا عشرة ساعة" (¬1)، والجواب عن المراتب بالأكملية والأفضلية في السبقية، لا رفع كل التقريب بالنسبة إلى تلك الصلاة. الرابع: ما ذكرناه من أن الساعة السادسة لم تذكر، وعقب خروج الإمام وحضور الملائكة بالخامسة، فمن قال: التبكير من طلوع الفجر إلى زوال الشمس يجعلُ الوقتَ المذكور في هذا الحديث مقسمًا على خمسة أجزاء، ويجعله مردًّا للفعل في الذهاب، وهذا لا يصح؛ فإن الحمل على الساعات التي من اثني عشر أولى؛ لظهوره وخفاء ما جعله، ولم يقل أحد به، بل القائل اثنان إما أول النهار، أو أول الزوال، ولا عيب في خروج الإمام عقب الخامسة، كيف وقد أجبنا عنه بذكر النَّسائيُّ للسادسة، فدل ذلك جميعه على أنه لا شيء من الهدي والفضيلة لمن جاء بعد الزوال، وإن ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظار الصلاة، والاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال؛ ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال؛ لأن النداء يكون حينئذ، ويحرم التخلف بعده. الخامس: البيان لمراتب الناس في الفضائل في الجمعة وغيرها بحسب أعمالهم، وذلك يعرف أيضًا من قوله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. السادس: أن القربان والهدي والصدقة تقع على القليل والكثير من غير الإبل والبقر والغنم، وقد قال به بعض أصحاب الشافعي، وهي أقرب إلى الرواية التي فيها لفظ؛ كالمهدي دجاجة وغيرها، وقد ذكرنا أن النَّسائيَّ روى بإسنادين ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

صحيحين بعد الكبش: بطة، ثم دجاجة، ثم بيضة، وفي الرواية الثانية: دجاجة، ثم عصفور، ثم بيضة. السابع: أن التضحية بالإبل أفضلُ من البقر؛ لجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإبل في الدرجة الأولى، والبقرة في الدرجة الثانية، وقد أجمع العلماء على أن الإبل أفضل من البقر في الهدايا، واختلفوا في الأضحية، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة والجمهور: أن الإبل أفضل من البقر ثم الغنم، كما في الهدايا، ومذهب مالك أن أفضل الأضحية الغنم، ثم البقر، ثم الإبل، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين (¬1)، ولأن لحم الغنم أطيب، فكان أفضل، لكن ظاهر حديث التبكير إلى الجمعة يخالف هذا، وهو حجة الجمهور، ومع القياس على الهدايا وتضحيته على كبشين لا يلزم منها الأفضلية، بل تقيد الجواز وطيب اللحم من الغنم معارض بكثرته من الإبل والبقر، ولعله - صلى الله عليه وسلم - لما ضحى بالكبشين لم يجد غيرهما في ذلك الوقت، كما ثبت في "الصحيح": أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه بالبقر (¬2). الثامن: أن حضور هؤلاء الملائكة لازم لخروج الإمام للخطبة المشتملة على ذكر الله تعالى والوعظ والتذكير، واستماع ذلك، لا لاستماع ما أحدث فيها من البدع وغيرها؛ فإن ذلك تكتبه الحفظة على فاعله، والراضي به بلسانه، وأما الراضي به بقلبه، فإن الله تعالى مطلع عليه دون الحفظة من الملائكة، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5233)، كتاب: الأضاحي، باب: في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين، ومسلم (1966)، كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (290)، كتاب: الحيض، باب: كيف كان بدء الحيض، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، عن عائشة - رضي الله عنها -.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَكَانَ مِنْ أَصحَاب الشجَرَة، قَالَ: كنا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجُمُعَةَ، ثُمَّ ننصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَستَظِل بِهِ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: كنَّا نُجَمعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا زَالَتِ الشمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ فنتَتبعُ الفَيْءَ (¬2). تقدم الكلام على سلمة بن الأكوع. والفيء؛ قيل: هو اسم مخصوص بالظل الذي بعد الزوال، وإن أطلق على الظل قبل الزوال مجازًا؛ لأنه من فاء يفيء: إذا رجع، وذلك فيما بعد الزوال. وقوله: "نُجَمِّعُ" هو -بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة-؛ أي: نقيم الجمعة. وقوله: "ليس للحيطان ظل نستظل به" ليس نفيًا لأصل الظل، بل ينفي ظلًا يستظلون به، ولا يلزم من نفي الأخص نفيُ الأعم، مع أن أهل الحساب قالوا: إن عرض المدينة خمسة وعشرون درجة، فإذًا غايةُ الارتفاع تسعة وثمانون، فلا تسامت الشمس الرؤوس، وإذا لم تسامت الرؤوس، لم يكن ظل القائم تحته حقيقة، بل لا بد من ظل، فامتنع أن يكون المراد نفي أصل الظل، فيكون المراد ظلًا يكفي أبدانهم للاستظلال، ولا يلزم من ذلك وقوع الصلاة ولا شيء من خطبتها، ولو طالت القراءة فيها، قبل الزوال. وقوله: "فنتتبع الفيءَ" إنما كان ذلك لشدة التبكير، وقصر حيطانهم، لكنه كان في يسير، وفي هذين الحديثين دليل على أن وقت الجمعة وقت للظهر لا يجوز إلا بعد الزوال، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ولم يخالف في ذلك إلا أحمد وإسحاق، فقالا بجوازها قبل الزوال؛ تمسكًا بهذا الحديث؛ من حيث إنه تقع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3935)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية. (¬2) رواه مسلم (860)، كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس.

الحديث الثامن

بعد الزوال الخطبتان والصلاة، مع ما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيهما الجمعة والمنافقين، وذلك يقتضي زمانًا يمتد فيه الظل، فحيث كانوا ينصرفون منها، وليس للحيطان فيء يستظلون به، ربما اقتضى ذلك أن تكون واقعة قبل الزوال، أو خطبتاها، أو بعضها، لكن الحديث الثاني يتبين منه وقوع ذلك جميعه بعد الزوال، ولا يلزم من قراءته الجمعة والمنافقين الدوامُ، وما تمسكا به من الحديث الأول، وهمٌ؛ لما بيناه. قال القاضي عياض: وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح شيء منها إلا ما عليه الجمهور، وحملوا الحديث على المبالغة في تعجيلها، وأنهم كانوا يؤخرون الغداء أو القيلولة في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم نُدبوا إلى التبكير إليها، فلو اشتغلوا بشيء من ذلك قبلها، خافوا فوتها، أو فوت التبكير إليها، والله أعلم (¬1). * * * الحديث الثامن عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ في صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1، 2] السجْدَةَ، و: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬2) [الإنسان: 1]. في الحديث دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة الصبح يوم الجمعة، والسجود عند قراءة آية السجدة في صلاة الفجر وغيرها من الفرائض، وقد كرهه مالك في "المدونة" (¬3) خشيةَ التخليط على المأمومين، وعلل أيضًا بخوف زيادة سجدة في صلاة الفرض، وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 148 - 149). (¬2) رواه البخاري (851)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، ومسلم (880)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في يوم الجمعة. (¬3) انظر: "المدونة" (1/ 110).

وخص بعض أصحاب مالك الكراهة بصلاة السر، فعلى هذا لا يكون مخالفًا لهذا الحديث، وفي المحافظة على قراءتها دائمًا أمر آخر، وهو أنه ربما أدى ذلك الجهال إلى اعتقاد أن ذلك فرض في هذه الصلاة، ومن مذهب مالك حسمُ مادة الذرائع، فالذي ينبغي أن يقال: إن الكراهة لقراءتها مطلقًا لا يقال؛ لأن الحديث يأباه، وإذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة، تركت في بعض الأوقات؛ دفعًا لهذه المفسدة، وليس في الحديث ما يقتضي قراءتها دائمًا اقتضاء قويًّا، وعلى كل حال فهو مستحب، والمستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهذا المقصود يحصل بالترك في بعض الأوقات، لا سيما إذا كان يحضره الجهال ومن يخاف منه وقوع هذا الاعتقاد الفاسد، والله أعلم. * * *

باب العيدين

باب العيدين العيد مشتق من العَوْد، وهو الرجوع والمعاودة؛ لأنه يتكرر، وهو من ذوات الواو، وكان أصله: عِوْد -بكسر العين-، فقلبت الواو ياء؛ كالميقات والميزان، من الوقت والوزن، وجمعه أعياد، قال الجوهري: وإنما جمع بالياء، وأصله الواو؛ للزومها في الواحد، قال؛ ويقال في الفرق بينه وبين أعواد الخشب (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأبو بكْر وَعُمَرُ يُصَلُّونَ العِيدَيْنِ قَبلَ الخُطْبةِ (¬2). أما ابن عمر، فتقدم ذكره. واعلم أن أول صلاة صليت للعيد بالمدينة في المصلى صلاةُ عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة بعد بدر. وأما قوله: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر" إلى آخره، فمعناه أن فعل صلاة العيد قبل الخطبة سنة ثابتة إلى الآن، لم ينسخ؛ لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - حجةٌ بمجرده، ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 87 - 88)، و" المصباح المنير" للفيومي (2/ 436)، (مادة: عاد). (¬2) رواه البخاري (920)، كتاب: العيدين، باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم (888)، كتاب: صلاة العيدين، في أوله.

وفعل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حجة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذَينِ من بعدي: أبي بكر، وعمر" (¬1)، خصوصًا إذا وقع الإجماع على فعلهما من غير مخالفة لهما، فصار فعل الصلاة قبل الخطبة ثابتًا بالسنة والإجماع عليه، فهذا معنى إضافة فعلهما إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. واعلم أن صلاة العيدين من الشعائر الإسلامية المطلوبة شرعًا، والنقل بهما متواتر يغني عن خبر الآحاد، وإن هذا الحديث مما يدل عليها، وقد كان للجاهلية يومان معدَّان للَّعِب، فأبدل الله تعالى المسلمين منهما بهذين اليومين اللذين يظهر فيهما تكبير الله تعالى وتحميده ظهورًا شائعًا، وذلك يغيظ المشركين، وجعلهما شكرًا على ما أنعم به من أداء العبادات التي في يومهما وقبلهما؛ كإتمام الصوم في عيد الفطر، وما يقع فيه من العبادات القاصرة والمتعدية، وكالعبادات الواقعة في عَشْرِ عيد الأضحى، وأعظمها إقامة وظيفة الحج، ولهذا سمي عيدًا؛ لعوده كل سنة وتكرره، وقيل: لعود السرور، وقيل: تفاؤلًا بعوده على من أدركه؛ كما سميت القافلة عند خروجها تفاؤلًا بقفولها سالمة، وهو رجوعها، وحقيقتها الراجعة. وقد قدمت الخطبة على الصلاة في صلاة العيدين في زمن بني أمية، وقيل: فعلوا ذلك في كل صلاة لها خطبة والصلاةُ مقدمة عليها، إلا الجمعة، وخطبة يوم عرفة؛ فإنهم أقروهما على ما هما عليه، وإنما قدموا الخطبة على الصلاة؛ نظرًا إلى عدم تفويت الناس الصلاة، فآثروا تقديم الخطبة للمحافظة على الصلاة لمن يتأخر. واختلفوا في أول من فعل ذلك، فقيل: فعله عثمان - رضي الله عنه - في شطر خلافته، ولم يصحَّ عنه، وقيل: أول من قدمها معاوية، وقيل: مروان بالمدينة في خلافة معاوية، وقيل: زياد بالبصرة في خلافة معاوية، وقيل: فعله ابن الزبير في آخر أيامه، ثم وقع الإجماع على خلاف ذلك، والرجوع إلى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث الثاني

وقد فرق العلماء بين صلاة العيد والجمعة بفرقين: أحدهما: أن صلاة الجمعة فرض عين يهتم الناس بالإتيان إليها من خارج المصر قبل دخول وقتها، وينتشرون في أشغالهم بعده في أمور دنياهم، فقدمت الخطبة عليها ليتلاحق الناس ولا يفوتهم الفرض، لا سيما فرض لا يقضى على وجهه، وهذا معدوم في صلاة العيد. الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة، وإنما قصرت بشرائط، منها: الخطبتان، والشرط لا يتأخر، ويتعذر مقارنة الشرط للمشروط الذي هو الصلاة، فلزم تقديمه، وليس هذا المعنى في صلاة العيد؛ أي: ليست مقصورة عن شيء آخر بشرط حتى يلزم تقدم ذلك الشرط. واختلف العلماء في صلاة العيد، هل هي واجبة أم مستحبة؟ فذهب الشافعي إلى أنها سنة مؤكدة، وبه قال جماهير أصحابه. وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: هي فرض كفاية. وقال أبو حنيفة: هي واجبة. فإذا قلنا: فرض كفاية، فامتنع أهل موضع منها، قوتلوا عليها كسائر فروض الكفاية، وإذا قلنا: سنة، فوجهان: أصحهما: لا يقاتلون؛ كسنة الظهر وغيرها من السنن. والثاني: يقاتلون؛ لأنها شعار ظاهر، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَاِزبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَقَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النَّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَلَا نُسُكَ لَهُ"، فَقَالَ أَبُو بردةَ بنُ نِيَارٍ خَالُ البرَاءِ بْنِ عَازِب: يا رَسُولَ الله! إِنِّي نَسَكْتُ قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اليَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ،

وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بيتي، فَذَبَحْتُ شَاتِي، وَتَغَذيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاَةَ، قَالَ: "شَاتُكَ شَاةُ لَحْم"، قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! فَإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أفتُجْزِئُ عَنِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" (¬1). أما البراء بن عازب، فتقدم ذكره في باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -". وأما خاله أبو بردةَ بنُ نِيار، فاسمه هانئ، وقيل: الحارث، وقيل: مالك، والصحيح المشهور الأول. وأما أبوه نِيار، فاختلف فيه، فالمشهور نِيار، وقيل: عمرو، وقيل: هبيرة، ولم يختلفوا أنه من بُلَي؛ فيما قاله شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -. قال أبو حاتم بن حبان: هو أسلمي، ويقال: هو حليف لبني حارثة بن الحارث بن الخزرج. ونسبه غيرهما إلى بني قضاعة؛ لأن بليًا منهم، وقال: هو مدني. وقال أبو حاتم: هو حليف لبني مجدعة. قلت: ويسمونه أيضًا هانئ بن عمرو بن نيار، وكان عَقَبيًّا بدريًّا، وشهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير. وقال الواقدي: إنه توفي في أول خلافة معاوية، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد له، وروى عنه جابر بن عبد الله وجماعة من التابعين، وروى له أصحاب السنن والمساند، مات ولا عقب له، قال أبو حاتم بن حبان: سنة خمس وأربعين، وقال غيره: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (912)، كتاب: العيدين، باب: أكل يوم النحر، ومسلم (1961)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 451)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 227)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 431)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1608)، =

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى صلاتَنا ونسكَ نسكَنا"، فلا شك أن أصل النسك في اللغة من النسيكة، وهي البقرة المدل المصفاة من كل خلط، والمراد بها هنا الذبيحة أضحية، وقد استعمل فيها كثيرًا، واستعمله بعض الفقهاء في نوع خاص من الدماء المراقة في الحج، وقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك من العبادات، ومنه يقال: فلان ناسك؛ أي: متعبد، ومعناه: مخلص عبادته لله تعالى. ثم قوله: "صلى صلاتنا ونسك نسكنا"؛ أي: مثلَ صلاتنا ومثلَ نسكنا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقد أصابَ النسكَ"؛ أي: فقد أصاب مشروعية النسك وما قارب ذلك. وقوله: "ومن نسكَ قبلَ الصلاة، فلا نسكَ له" معناه: لا يقع مجزئًا عن الأضحية، وظاهر اللفظ أن المراد منه قبل فعل الصلاة، ولم يتعرض لذكر الخطبتين، وهما معتبران عند الشافعي؛ لكونهما مقصودتين مع الصلاة، فإن وقت الأضحية لا يدخل إلا بمقدار الصلاة والخطبتين عنده. وقوله: "شاتُك شاةُ لحم"؛ أي: ليست ضحية، ولا ثوابَ فيها، بل هو لحم لك تنتفع به، كما في رواية أخرى: "إنما هو لحمٌ قَدَّمْتَهُ لأهلِكَ" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولنْ تَجْزِيَ عن أحدٍ بعدَكَ" هو بفتح التاء المثناة فوق، ومعناه لن تقضي، يقال: جزى عَنِّي كذا؛ أي: قضى؛ أي: إن الذي فعله من الذبح قبل الصلاة لم يقع نسكًا، فالذي يأتي بعده لا يكون قضاء عنه، وهذا الذي ضبطناه ¬

_ = و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 27)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 71)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 36)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 22). (¬1) رواه البخاري (922)، كتاب: العيدين، باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم (1961)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، بلفظ: "فإنما هو لحم قدمه لأهله". قلت: وما ذكره المؤلف -رحمه الله- من اللفظ، فإنما أخذه من شيخه النووي في شرحه على "مسلم" (13/ 312)، وقد أسلفنا القول من قبل: أن طريقة الإمام النووي والمحدثين المتأخرين يغلب عليها الفقه؛ فإني لم أجد الحديث هكذا في كتب الحديث، وإنما لفظهم فيه ما قد ذُكر آنفًا، فكان على المؤلف -رحمه الله- أن يَفْطن لهذا في نقوله، والله أعلم.

في تَجزي بفتحِ التاء هو في جميِع الطرق والروايات، وهو من نحو قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33]، وقد امتنع بهذا الحديث قياس غير أبي بردة عليه، وتخصيص أبي بردة بهذا الحكم إمضاء له دون من بعده، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عتودًا؟، وقال: "ضَحِّ به أنتَ" رواه مسلم في "صحيحه" (¬1)، وأعطى زيدَ بنَ خالد - رضيَ الله عنه - عتودًا أجذع فقال: "ضَحِّ به"، فقلت: إنه جذع، من المعز أضحي به؟ قال: "نعم ضَحِّ به", فضحيت به (¬2)، ورواه أبو داود بإسناد حسن (¬3)، وليس فيها قوله: من المعز، لكنه معلوم من قوله: عتود؛ فإن العتود من أولاد المعز خاصة، وهو ما رعى وقوي، قال الجوهري وغيره: هو ما بلغ سنة، وجمعه أعتدة وعُدَّان بإدغام التاء في الدال، ومعلوم أنه لا يجزئ في الأضحية، وإنما يجزئ الجذع من الضأن، ولهذا روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنمًا أقسمها ضحايا بين أصحابي، فبقي عتود منها، فقال: "ضحِّ بها أنت ولا رخصةَ لأحدٍ فيها بعدَك" (¬4)، فهذان الصحابيان حكمهما في الرخصة لهما حكم أبي بردة بن نيار. وأما العَناق: فهي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة، فإذا قوي ورعى، وأتى عليه حول، قيل للذكر منه: عتود، وقال بعضهم: هي الصغيرة من أولاد المعز ما دامت ترضع، [ولهذا قال في بعض روايات "صحيح مسلم": عندي ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1965)، كتاب: الأضاحي، باب: سن الأضحية، والبخاري أيضًا (2178)، كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشريك في القسمة وغيرها. (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 270)، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 194)، وهذا لفظ البيهقي. (¬3) رواه أبو داود (2798)، كتاب: الضحايا، باب: ما يجوز من السن في الضحايا، وابن حبان في "صحيحه" (5899). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 270).

عَناقُ لبنٍ (¬1)؛ أي: صغيرة قريبة مما ترضع] (¬2)، وجمع العناق أعنق وعنوق. وقوله: "هي أحب إلي من شاتين"، وفي رواية في "صحيح مسلم": "عندي عناقُ لبنٍ هو خيرٌ من شاتَيْ لحمٍ" (¬3)، ومعناه: أطيبُ لحمًا وأنفع؛ لسمنها ونفاستها. وفي هذا الحديث مسائل: منها: أن خطبة عيد الأضحى بعد الصلاة، وتقدم الكلام عليها في الحديث قبله. ومنها: أن الأضحية لا يدخل وقتها إلا بعد صلاة العيد والخطبتين، وقد قال ابن المنذر - رحمه الله -: وأجمع العلماء على أن الأضحية لا تجوز قبل طلوع الفجر، واختلفوا فيما بعد ذلك، فقال الشافعي، وداود، وابن المنذر: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإذا ذبح بعد هذا الوقت، أجزأه، سواء صلى الإمام أم لا، وسواء صلى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى أو البوادي أو المسافرين، وسواء ذبح الإمام ضحيته أم لا. وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإذا ذبح قبل ذلك، لم يجزئه. وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه. وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام، ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5236)، كتاب: الأضاحي، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز ... "، ومسلم (1961)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها. (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من: "ح". (¬3) رواه البخاري (6296)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1961)، (3/ 1554)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.

وسواء عنده أهل القرى والأمصار، ونحوه عن الحسن، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه. وقال الثوري: تجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته، وفي أثنائها. وقال ربيعة: فمن لا إمام له إن ذبح قبل طلوع الشمس لا يجزئه، وبعد طلوعها يجزئه، وظاهر هذا الحديث حجة على من خالفه بالنسبة إلى الصلاة. ولما كانت الخطبتان مقصودتين في هذه العبادة، اعتبرهما الشافعي ومن وافقه. ومنها: أن من ذبح قبل الصلاة لم يكن ناسكا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "شاتُكَ شاةُ لحمٍ". ومنها: أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر، لم يكن الجهل عذرًا فيها، وقد فرق العلماء بين المأمورات والمنهيات في ذلك، فقالوا: يعذر في المنهيات بالنسيان والجهل؛ كما في حديث معاويةَ بنِ الحكم حين تكلم في الصلاة، ولا يعذر في المأمورات بأن المقصودَ منها إقامةُ مصالحها، ولا يحصل ذلك إلا بفعلها، بخلاف المنهيات، فإنها مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانًا للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعهد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي، فعذر بالجهل فيه. ومنها: أن لله تعالى أن يخص ببعض الأحكام التي منع الناس منها من شاء على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لعذر وغير عذر. ومنها: أن المرجع في الأحكام كلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره ومن رجعت إليه من أمته فإنما هو بإذنه - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن يوم الأضحى يوم أكل وشرب يحرم الصومُ فيه؛ حيث وصفه بالأكل والشرب، والله أعلم. * * *

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صلى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ خَطَبَ، ثُم ذَبَحَ، وَقَالَ: "من ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ أخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ" (¬1). أما جُندُب بنُ عبد الله، فهو -بضم الجيم والدال المهملة بينهما نون ساكنة، ويقال: بفتح الدال أيضًا-، وحكى لي بعض شيوخي أن أبا محمد عبد العظيم الحافظ المنذري - رحمه الله - قال: ويقال فيه: جندب -بكسر الجيم وفتح الدال- وكأنه قاله لغة من واحد الجنادب الذي هو طائر، لا وضعًا في هذا الاسم المعين، والله أعلم. وجندب هذا هو ابن عبد اللهِ بنِ شقيقٍ، ويقال فيه: ابن سفيان، وكأنه نسبه إلى جده، فإن الأول أشهر وأصح، كنيته: أبو عبد الله، وهو منسوب إلى علقة، وعلقة حيٌّ من بَجيلةَ، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقال له: جندب الخير، نزل الكوفة ثم تحول إلى البصرة، فحديثه عند البصريين جميعًا. قال العلائي: جندب من بني علقة بن عبد اله بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث أخي الأزد بن غوث. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة، روى عنه الحسن البصري، وأبو عمران عبد الملك بن حبيب الجوني، وأبو مجلز لاحقُ بنُ حميد، وغيرهم من التابعين، وروى له أصحاب السنن والمساند، مات سنة أربع وستين (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (942)، كتاب: العيدين، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، ومسلم (1960)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 35)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 221)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 56)، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 510)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 236)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 66)، و"تهذيب =

وأما البَجَلِيّ -بفتح الباء الموحدة والجيم ثم اللام ثم ياء النسب- فنسبة إلى بَجيلةَ، قال السمعاني (¬1): هذه النسبة إلى قبيلة بجيلة، وهو ابن أنمار بن أراش كما تقدم ذكرنا له قريبًا، وقيل: إن بجيلة اسم أمهم، وهي من سعد العشيرة، وأختها باهلة، ولدتا قبيلتين عظيمتين نزلتا الكوفة، وبجيلة -أيضًا- حي من سليم، وبجيلة -أيضًا- من عُكّ بنِ عُدْثان -بضم العين المهملة وبالثاء المثلثة بعد الدال- والصحيح أن عكًا أخو مَعَدّ بنِ عدنان -بفتح العين المهملة وبالنون-، وبجيلة أيضًا من أحمس، وتشتبه هذه النسبة بالبَجْلي -بسكون الجيم- نسبة إلى امرأة اسمها بجلة بنت هناه بن مالك بن فهم الأزدي، منهم عمرو بن عبسة. صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهم، وهم رهط من سليم بن منصور، يقال لهم: بنو بجلة، والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن لم يذبحْ فَليذبحْ باسم الله"قال الكتاب من أهل العربية: إذا قيل: باسم الله، تعين كتبه بالألف، وإنما تحذف الألف إذا كتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بكمالها (¬2)، ومعناه فليذبح قائلًا: باسم الله، والتسمية على الذبيحة سنة عند جمهور العلماء، وواجبة عند بعضهم، قال ابن سيرين والشعبي: إذا ذبح المسلم من غير تسمية، حَرُمت، سواء تركها عمدًا أو سهوًا، وقال الثوري وجماعة: إن تركها عامدًا، لا تحل، وإن تركها ناسيًا، تحل، وقال ابن عباس وخلق من الصحابة والتابعين: تحل، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، واحتج لذلك بما ثبت في "صحيح البخاري" -رحمه الله- من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قالوا: يا رسول الله! إن هنا أقوامًا حديثُ عهدٍ بشرك يأتون بلُحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال: "اذكروا أنتم ¬

_ = الكمال" للمزي (5/ 137)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 174)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 508)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 101). (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (1/ 284). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 110).

اسمَ اللهِ وكلوا" (¬1)، فلو كانت التسمية شرطًا للإباحة، لكان الشك في وجوده مانعًا من تسميته كالشك في أصل الذبح. ومعنى هذا الحديث معنى الحديث الذي قبله من حيث إن الضحية لا يدخل وقتها إلا بعد الصلاة والخطبة، وهو أظهر في اعتبار فعل الصلاة من الذي قبله، فإن الأول اقتضى تعليق الحكم بلفظ الصلاة، وهذا لم يعلق فيه الحكم بلفظ فيه الألف واللام، إلا أنه إن جرينا على ظاهره، اقتضى أنه لا تجزي الأضحية في حق من لم يصل صلاة العيد أصلًا. قال شيخنا أبو الفتح - رحمه الله -: فإن ذهب إليه أحد، فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث، وإلا فالواجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة، ويبقى ما عداها بعد الخروج عن الظاهر في محل البحث، قال: وقد يستدل بصيغة الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليذبحْ أُخرى" إحدى طائفتين: إما من يرى أن الأضحية واجبة، وإما من يرى أنها تتعين بالشراء بنية الأضحية، أو بغير ذلك؛ من غير اعتبار لفظ التعيين، وإنما قلت ذلك؛ لأن اللفظ المعين للأضحية من صيغة النذر أو غيرها قليلٌ نادر، وصيغة (مَنْ) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ذبح" صيغةُ عموم، واستغراق في حق كل من ذبح قبل أن يصلي، وقد ذكرت لتأسيس قاعدة وتمهيد أصل، وتنزيل صيغ العموم التي ترد لتأسيس القواعد على الصورة النادرة أمر مستكره على قدر في قواعد التأويل في فن أصول الفقه، وإذا تقرر هذا، وهو استبعاد حمله على الأضحية المعينة بالنذر أو غيره من الألفاظ، فينبغي التردد في أن الأولى حمله على من سبق له أضحية معينة بغير اللفظ، أو حمله على ابتداء الأضحية من غير سبق تعيين، هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬2). وقد يستدل بهذا الحديث بما نقلناه عن مالك - رحمه الله - في الكلام على الحديث الذي قبله من أنه لا يجوز ذبح الأضحية إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه؛ لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - مورد لبيان الأحكام، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6963)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 128 - 129).

الحديث الرابع

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذبحَ قبلَ أن يصليَ فليذبحْ أُخرى مكانَها" إنما كان بعد ذبحه، فكأنه قال: من ذبح قبلَ فعلي هذا من الصلاة والخطبة والذبح، فليذبحْ أخرى مكانها؛ أي: فلا يعتدُّ بما ذبحه أولًا ضحية. وهذا الاستدلال غير مستقيم؛ لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة، والتعقيب بالفاء من غير مهلة، والخطبة إنما اعتبرناها في وقت عدم جواز الأضحية تبعًا للصلاة، وأما الذبح، فلا يصح اعتباره لمنع دخول وقتها، بل هو دليل لنا على جواز الذبح؛ لما قررناه من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - حجة للأمة ما لم يرد دليل بتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - به، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ العِيدِ، فَبَدأَ بالصَّلاَةِ قَبْلَ الخُطْبةِ بِلاَ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثَم قَامَ متَوَكِّئًا عَلَى بِلاَلٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ الناسَ، وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتى أتى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ؛ فَإنَّكُن أكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ"، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النساء سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لأنكن تكثرنَ الشَّكَاةَ، وَتكفرنَ العَشِيرَ"، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَ، يُلْقِينَ في ثَوْبِ بِلاَلٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وخَوَاتِيمِهِنَّ (¬1). تقدم ذكر جابر. وأما قوله: "شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة" تقدم الكلام على أن صلاة العيد قبل الخطبة، وما يتعلق بذلك. وقوله: "بلا أذان ولا إقامة"، فهو مجمع عليه عند العلماء اليوم، وهو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (935)، كتاب: العيدين، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد، مختصرًا، ومسلم (885)، في أول كتاب العيدين، وهذا لفظ مسلم.

المعروف من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، ونقل عن بعض السلف فيه شيء خلاف إجماع من قبله وبعده، وكان سببه تخصيص الفرائض بالأذان تمييزًا لها بذلك عن النوافل، وإظهارًا لشرفها، وأشار بعضهم إلى معنى آخر، وهو أنه لو دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، لوجبت الإجابة، وذلك مناف لعدم وجوبها، وهذا أحسن بالنسبة إلى من يرى أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان، قال العلماء: ويستحب أن يقال فيها: الصلاةَ جامعةً، لنصبهما الأولَ على الإغراء، والثانيَ على الحال. قوله: "ثم قام متوكئًا على بلالٍ" التوكؤ: التحامل، والمراد هنا الميل في قيامه متحاملًا على بلال. قوله: "فأمرَ بتقوى الله، وحثَّ على طاعته، ووعظَ الناس، وذكرهم": أما التقوى، فهي امتثال أمر الله تعالى، واجتناب نهيه، وأما الحث على الطاعة، فيكون بأمرين: أحدهما: بالترغيب في الجزاء عليها. والثاني: بالترهيب من تركها بفوات ثوابها وترتب العقاب عليه. وأما الوعظ، فهو الأمر، ومنه قوله تعالى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164]؛ أي: تأمرون، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46]؛ أي: آمركم. وأما التذكير فيكون بالنعم ودفع النقم، واستحقاق الله -سبحانه وتعالى- الطاعة والتنزيه والتحميد والتوحيد، والشكر على ذلك كله، وعلى التوفيق له. وهذه المذكورات الأربع هي مقاصد الخطبة، ولا شك أن الوصية بتقوى الله تعالى واجب في الخطبة الواجبة، لكن هل يتعين لفظ التقوى؛ أي: يتأدى بمعناها؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي -رحمهم الله تعالى-: أصحهما عندهم: الثاني، مع اتفاقهم أن الأولى الإتيان بلفظها، وما كان واجبًا فيما هو واجب، هل يكون واجبًا فيما هو مسنون؟ فيه أوجه لأصحاب الشافعي:

الأصح: تسميته بالوجوب في المسنون، فما يتأدى به الواجب في الخطبة الواجبة يتأدى به السنة في الخطبة المسنونة. وقوله: "ثم مضى حتى أتى النساءَ فوعظهنَّ وذكَّرهن وقال: تَصَدَّقْنَ" هذا المضيُّ إلى النساء صريح في أنه كان بعدَ الفراغ من خطبة العيد، ووقع في رواية في "صحيح مسلم" ما يوهم أنه - صلى الله عليه وسلم - نزل من المنبر في أثناء الخطبة، فأتى النساء فوعظهن، لا بعد الفراغ منها، وقطع القاضي عياض به، وليس كما قال، وقد وقع في "صحيح مسلم" -أيضًا- في حديث جابر هذا بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ثم خطب الناس، فلما فرغ، نزل فأتى النساء، فذكرهن (¬1)، والله أعلم. قوله: "فإنكن أكثر حطب جهنم" جهنمُ: اسمٌ من أسماء النار -أعاذنا الله منها- وحطبُها: وَقودُها، والحصب في لغة أهل اليمن والحبشة: الحطب، وإنما كنَّ كذلك؛ لعدم طاعة الله في أنفسهن وأزواجهن وشكرِهن لله تعالى على نعمه. قوله: "فقامت امرأةٌ من سِطَةَ النساء" أصلُ هذه اللفظة من الوسط الذي هو الخيار، وهي -بكسر السين المهملة وفتح الطاء المخففة-، ووقع في بعض نسخ "صحيح مسلم": من وَاسطة النساء (¬2)، يقال: فلان من أوساط قومه، وواسطة قومه، ووسط قومه، وقد وسط وساطة وسِطَةً، ويقال: وسطتُ القوَم أَسِطُهم وَسْطًا وسِطَة؛ أي: توسطتهم. قال القاضي عياض: معنى هذه اللفظة الخيارُ؛ أي: من خيار النساء، والوسط: العدل والخيار، قال: وزعم بعض الفضلاء الحذاق أن الرواية فيها تصحيف وتغيير من بعض رواة "صحيح مسلم"، وأن الأصل في الرواية من سفلة النساء، فاختلطت الفاء باللام، فصارت طاء، ويؤيد ذلك رواية ابن أبي شيبة: والنسائي من "سفلة النساء" (¬3)، وفي رواية لابن أبي شيبة: "فقامت امرأة ليست ¬

_ (¬1) الرواية في "الصحيحين"، وقد تقدم تخريجها في حديث الباب. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 175). (¬3) ورواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 318)، والنسائي (1575)، كتاب: صلاة العيدين، =

من علية النساء" (¬1)، وهذا ضد التفسير الأول، ويعضده بعده قوله: "سفعاءُ الخدين" (¬2). قال شيخنا العلامة أبو زكريا النواوي - رحمه الله -: وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها خيار النساء؛ كما فسره القاضي، بل المراد امرأة من وسط النساء، جالسة في وسطهن، والله أعلم (¬3). وقوله: "سَفْعاءُ الخَدَّيْنِ" قال أبو العباس القرطُبي -رحمه الله تعالى- يقال: سَفْعاء -بفتح السين وضمها، وقيل غيره-، وحكاهما أيضًا صاحب "المطالع"، ومعنى السَّفْع: من أصابَ خدَّه لونٌ مخالفٌ لونَه الأصلي من سواد أو حمرة أو غيره، وقال الأصمعي: هو حمرةٌ يعلوها سواد، وقال غيره: هو شحوب بسواد (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأنكن تُكثرنَ الشَّكاةَ" هو بفتح الشين؛ أي: الشكوى، ولا شك أن الشكاية جائزة إذا اضطررن إليها، فإذا كثرت منهن، دل ذلك على عدم الرضا بقضاء الله تعالى، وعلى عدم وشكره -سبحانه وتعالى-، فيكون إكثارهن لها متعلقًا بالله تعالى، فاقتضى دخول النار. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتكفرْنَ العشيرَ" قال أهل اللغة: العشيرُ: المعاشر والمخالط، ومعناه عند الأكثرين هنا الزوج، وقيل: هو كلُّ مخالط، وقال الخليل: يقال: هو ¬

_ = باب: قيام الإمام في الخطبة متوكئًا على إنسان، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 296)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (9805)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 376)، وابن حبان في "صحيحه" (3323)، والحاكم في "المستدرك" (2772)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 214). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 175). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 226)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 531).

العشير والشعير، على القلب (¬1)، ومعنى الكفر هنا: جحد الإحسان؛ لضعف عقلهن، وقلة معرفتهن؛ فإن الزوج قَوَّام على المرأة بالنفقة والكسوة والسكنى، وغض بصرها عن المحارم، وقيام حرمتها به، وسترها، وقد بين الله -سبحانه وتعالى- ذلك في كتابه العزيز فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. واعلم أن الكفر -عند الإطلاق- لا يطلق إلا على الكفر المنافي للإسلام، وقد يطلق على الكفر المنافي لكماله؛ لقصد التنبيه على عظم قبحه شرعًا وعادة، لا للخروج من الإسلام. وقوله: "فجعلْنَ يتصدَّقْنَ من حليهن يُلقين في ثوبِ بلالٍ من أقراطهن وخواتيمهن"الحلي: جمع، والمفرد حَلْي، وهو: بضم الحاء المهملة وكسرها، الضمُّ أشهر وأكثر، وقد قرئ بهما في السبع، وأكثر القراء على الضم، واللام مكسورة، والياء مشددة فيهما، والأقرطةُ: جمع قرط، قال ابن دريد: كل ما علق في شحمة الأذن فهو قرط، سواء كان من ذهب أو خرز، وأما الخرص، فهو الحلقة الصغيرة من الحلي. قال القاضي عياض - رحمه الله -: قيل: الصواب: قرطتهن، بحذف الألف، وهو المعروف في جمع قرط؛ كخرج وخرجة، ويقال في جمعه: قِراط؛ كرمح ورماح، وقيل في جمع قرط: قُروط، نقله غير القاضي، قال القاضي: ولا يبعد صحة أقرطة، وتكون جمع جمع؛ أي: يكون أقرطة جمعَ قِراط، لا سيما وقد صح في الحديث (¬2)، والخواتيم: جمع خاتم، وفيه أربع لغات: فتح التاء، وكسرها، وخاتام، وخَيْتام (¬3)، وهذه أنواع من الحلي مأخوذة من الحلية، وهي الزينة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (1/ 245) وما بعدها، (مادة: عشر)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 175). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 176)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 374 - 375)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 498). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 139).

وفي هذا الحديث أحكام كثيرة: منها: شهود صلاة العيد مع الإمام. ومنها: البدأة بالصلاة قبل الخطبة، واتفق أصحاب الشافعي على أنه لو قدمها على الصلاة، صحت، ولكنه يكون تاركًا للسنة، مفوتًا للفضيلة، بخلاف خطبة الجمعة؛ فإن تقديمها شرط لصحة الجمعة. ومنها: أنه لا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة. ومنها: القيام في الخطبة، والتوكؤ على شيء، ولو على آدمي. ومنها: الأمر بتقوى الله تعالى، والوعظ والتذكير، والحث على طاعة الله تعالى في الخطب. ومنها: تخصيص النساء بالوعظ والتذكير في مجلس غير مجلس الرجال إذا لم يترتب عليه مفسدة، وهو حقٌّ على الإمام أن يفعله. ومنها: حضور النساء صلاة العيد، وهذا كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - حضورهن إياها مطلقًا، سواء المخبآت، وغيرهن، وأما اليوم، فلا تخرج الشابة ذات الهيئة، ويخرج إليها من لا هيئة لها، ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لو رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدثَ النساء لمنعهن المساجدَ كما مُنعت نساءُ بني إسرائيل" (¬1). واختلف العلماء من السلف في خروجهن للعيد، فرأى جماعة ذلك حقًّا عليهن، منهم: أبو بكر، وعلي، وابن عمر، وغيرهم -رضي الله عنهم-، ومنهم من منعهن ذلك، منهم: عروة، والقاسم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وأبو يوسف، وأجازه أبو حنيفة مرة، ومنعه مرة. ومنها: الأمر بالصدقة لأهل المعاصي والمخالفات. ومنها: التنبيه على أن الصدقة من دوافع عذاب جهنم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ومنها: الإعلان بالنصح بالعلة التي تبعث على إزالة العيب أو الذنب اللذين يتصف بهما الإنسان. ومنها: العناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه للمخاطبين. ومنها: بذل النصيحة لمن يحتاج إليها والسعي فيها إليه. ومنها: سؤال الواعظ والمذكِّر حال وعظه وتذكيره عما يلبس عليه من العلم وما لا يعلمه. ومنها: مباشرة المرأة المفتي بالسؤال، خصوصًا بحضرة النساء. ومنها: سؤال المستفتي للعالم عن العلم وهو قائم، للنساء وغيرهن. ومنها: عدم الحياء في السؤال عن العلم. ومنها: جواز كشف المرأة وجهها إذا كانت غير جميلة للاستفتاء بحضرة الرجال والنساء، وقد جوز الفقهاء كشفَ وجه المرأة مطلقًا للشهادة عليها. ومنها: شكر الإحسان وأهله. ومنها: الصبر وعدم الشكاية إلى المخلوقين، وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- بالصبر في غير آية، وحث عليه، وأن يكون جميلًا، وهو الذي لا شكوى فيه ولا جزع، وقد حث الشرع على إنزال الحوائج بالله تعالى دون غيره، وأن إنزالها بالله تعالى سبب لحصولها، وأن إنزالها بالمخلوقين سبب لفواتها. ومنها: تحريم كفران النعم، سواء كانت من مفضول أو فاضل، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يشكرُ اللهَ مَنْ لا يشكرُ الناسَ" (¬1). ومنها: التنبيه على شكر الله والثناء عليه؛ فإنه -سبحانه وتعالى- خالقُ الأسباب والمسببات، والهادي لأحسنها، والصارفُ لسببها، ولا شك أن ذكر ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4811)، كتاب: الأدب، باب: في شكر المعروف، والترمذي (1954)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الشكر لمن أحسن اليك، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 258)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

النعم والتحدث بها شكرها بالنسبة إليه -سبحانه وتعالى-. وأما بالنسبة إلى الآدميين، فبالمكافأة عليها إن قدر، وإلا فبالثناء على صاحبها والدعاء له. وأما التحدث بها، فإن علم أن صاحبها يؤثر التحدث بها وذكرها، أمسك عنهما، وإن علم أنه يكره ذلك، فعلَهما، وينبغي أن يكون مع ذلك مقصودٌ شرعي؛ من التنبيه على مثل فعل المنعم، والاقتداء به في الإحسان، وحكم المكافأة الثناء عليه والذكر، والله أعلم. ومنها: التنبيه على الأعلى بالأدنى؛ فإنه إذا كان بالشكاية وكفر الإحسان فاعلهما من أهل النار، فكيف بمن ترك الصلاة وقذف المؤمنين ورماهم بالكبر والبهتان؟ ومنها: جواز طلب الصدقة للفقراء من الأغنياء عند الحاجة. ومنها: جواز تصرف المرأة في مالها وحليها بالصدقة وغيرها بغير إذن زوجها، وقد منعه مالك فيما زاد على الثلث إلا برضاء زوجها، والجمهور على جوازه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - حث النساء عليها، وفعلنها من غير تقييد بإذن زوج، فدل على الجواز، أجاب بعض المالكية عن ذلك بأنهن تصدقن بحضرة أزواجهن، وأنه الغالب، ولعلهن لم يفعلن ذلك فيما زاد على الثلث، وهو ضعيف أو باطل؛ لأن فعلهن ذلك كان في غيبة أزواجهن وهن معتزلات عنهم في حضرته - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أنه ينبغي للإمام إذا لم يكن في بيت المال شيء من مال أو متاع أو عقار أن يطلب الصدقة للمحتاجين، ويقيم من يتطوع بجمعها لهم، وكذلك كبير القوم يفعل إذا دعت إلى ذلك حاجة أو ضرورة. ومنها: المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إليها. ومنها: الصدقة بجميع أنواع المال، وإن كان المتصدق محتاجًا إلى ما يتصدق به. ومنها: منقبة ظاهرة للنساء المتصدقات، ورفع مقامهن في الدين، وامتثال

الحديث الخامس

أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أنهن ضعيفات عن التكسب غالبًا، وتحصيل الأموال، والشحُّ فيهن أغلب من الرجالُ، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أمِّ عَطِيَّةَ نُسَيْبةَ الأَنْصَارِيةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: أَمَرَنَا -تَعْنِي: النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخْرِجَ فِي العِيدَيْنِ العَوَاتِقَ وذَوَاتِ الخُدُورِ، وَأَمَرَ الحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَى المُسْلِمِين حَتى يَخْرَجَ الحُيضُ فَيُكَبرْنَ بِتكبِيرِهِم، وَيدْعُونَ بِدُعَائهِم، ويَرْجُونَ بركَةَ ذَلِكَ اليَوْم وَطُهْرَتَهُ. وفي لفظ: كنا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَومَ العِيدِ، حَتَّى تَخْرُجَ البِكْرُ مِنْ خِدْرِهَا (¬1). أما أم عطية نُسيبة، وهي: -بضم النون، وفتحها-، ذكرهما الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي في كتابه "الأسماء المبهمة"، قال: عن علي المديني: أن عبد العزيز بن المختار سمى أم [عطية]: نسيبة بضم النون، وأن يزيدَ بن زريع سماها نسيبة بفتح النون. واختلف في اسم أبيها، فقال أبو نعيم وابن منده: هي بنت كعب، وقال أبو عمر بن عبد البر: هي بنت الحارث، وهي مشهورة بكنيتها، وهي التي غسَّلت بنتَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن ماكولا: أم عطية: نُسيبة -بضم أوله وفتح ثانيه- الأنصاريةُ، لها صحبةٌ، وروى عنها محمد بن سيرين، وأخته حفصة. قال: وأما نَسيبة -بفتح أوله وكسر ثانيه-، فهي أم عمارة نسيبة بنتُ كعب الأنصارية، كانت تشهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روى عنها عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة. وقال ابن الأثير الجزري: كانت أم عطية من كبار نساء الصحابة، وكانت ¬

_ (¬1) رواه البخاري (928)، كتاب: العيدين، باب: التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة، ومسلم (890)، كتاب: صلاة العيدين، باب: إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى.

تغسل الموتى، وتغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تعد في أهل البصرة. وقد قال عبد الغني المقدسي الحافظ: روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ستة، وانفرد البخاري ومسلم بآخر. قلت: وروى لها أصحاب السنن والمساند، وجعل الحافظ أبو حاتم بن حبان - رحمه الله - أمَّ عطية الأنصارية وأمَّ عمارة واحدة لها كنيتان، فقال: أم عطية الأنصارية التي دخلت البصرة اسمها نسيبة بنتُ كعب المازنية، وهي أم عمارة، وهي والدة عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، روى عنها ابن سيرين، وأهل البصرة، وتقدم ذكرها في الكلام على الحديث الثامن من كتاب الطهارة، في ترجمة ابنها عبد الله بن زيد بن عاصم، وأنها أم عمارة لا أم عطية، والله أعلم (¬1). وأما الألفاظ: فالعواتق: جمع عاتق، وهي الجارية البالغة، وقيل: التي قاربت البلوغ، وقيل: هي ما بين أن تبلغ إلى أنْ تعنس ما لم تتزوج، والتعنيسُ: طول المقام في بيت أبيها بلا زواج حتى تطعن في السن، قال أهل اللغة: سميت عاتقًا؛ لأنها عتقت من امتهانها في الخدمة والخروج في الحوائج، وقيل: لأنها قاربت أن تتزوج، فتعتق من قهر أبويها وأهلها، وتشتغل في بيت زوجها. وأما الخدور، فهي جمع خِدْر، وهي البيت، وقيل: الخدر: ستر في ناحية البيت. قولها: أمر الحيض: أمر -بفتح الهمزة والميم-، ومعناه: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 455)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 465)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 423)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1947)، و"الإكمال" لابن ماكولا (7/ 259)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 71)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 356)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 626)، وعنه أخذ المؤلف هذه الترجمة، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 315)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 318)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 261)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 482).

وكان المقصود بالأمر بإخراجهن جميعهن المبالغة في الاجتماع وإظهار الشعار، وكان المسلمون إذ ذاك في غاية القلة، فاحتيج إلى المبالغة بإخراج العواتق وذوات الخدور الحيض منهن والطاهرات لذلك، وأمرُ الحيض باعتزال مصلى المسلمين ليس لتحريم حضورهنَّ فيه إذا لم يكن مسجدًا، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة؛ كما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "ما منعكَ أنْ تصلي معَ الناس، ألستَ برجل مسلم؟ " (¬1)؛ ولا يصح أن يستدل بهذا الأمر على وجوب صلاة العيدين والخروج إليها؛ لأن هذا الأمر إنما توجه لمن ليس بمكلف بالصلاة باتفاق؛ كالحيض، وإنما مقصود هذا الأمر تدريبُ الأصاغر على الصلاة، وشهود دعوة المسلمين، ومشاركتهم في الثواب، وإظهار جمال الدين. قولها: فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، ويرجون بركةَ ذلك اليوم، وطُهرته: هذا إشعار بتعليل خروجهن لأجل ما ذكر الفقهاء أو بعضهم يستثنى خروج الشابة التي يخاف من خروجها الفتنة، وقد تقدم اختلاف الصحابة ومَنْ بعدهم في ذلك في الحديث قبله. واعلم أن التكبير للعيدين شُرع في أربعة مواطن: في السعي إلى الصلاة إلى حين يخرج الإمام، وفي أول الصلاة، وفي أول الخطبة، وبعد الصلاة، وسيأتي بيان تفصيله في أحكام الحديث، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: الأول: أن السنة الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عملُ الناس في معظم الأمصار، وأما أهلُ مكة، فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول، واختلف أصحاب [الشافعي] ¬

_ (¬1) رواه النسائي (857)، كتاب: الإمامة، باب: إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه، من طريق الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 132)، عن محجن الديلي - رضي الله عنه -.

-رحمهم الله- في الأفضل في صلاة العيد؛ أن تفعل في الصحراء، أو في المسجد؟ على وجهين: أصحهما عند المحققين منهم: الصحراء أفضل؛ لهذا الحديث وغيره. والثاني: وهو الأصح عند أكثرهم: المسجد أفضل، إلا أن يضيق على الناس، وعللوه بأن صلاة أهل مكة في المسجد كانت لسعته، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى لضيق المسجد، فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع. الثاني: أن السنة خروج الناس كلهم إلى المصلى، الرجال والنساء والجواري والصبيان؛ لما فيه من إظهار الشعار، لكن السنة إذا خرج النساء مع الرجال أن يكن في حافات الطريق لا في وسطها. الثالث: منعُ الحيَّضِ من النساء من المصلى، وأن يعتزلن الناسَ فيه، وقد اختلف أصحاب الشافعي في هذا المنع، هل هو للتنزيه، أم للتحريم؟ فالذي قاله جمهورهم، بل كلهم إلا واحدًا أو اثنين: للتنزيه؛ للاحتراز من مقارنتهن للرجال من غير حاجة ولا صلاة، ولصيانتهن، وإنما لم يحرم؛ لأنه ليس مسجدًا. وحكى أبو الفرج الدارمي منهم عن بعض أصحاب الشافعي وجهًا: أنه يحرم مكث الحائض في المصلى كما يحرم مكثها في المسجد؛ لأنه موضع للصلاة، فأشبه المسجد، والأول هو الصواب. الرابع جواز ذكر الله للحائض من غير كراهة، وكذلك الجنب، وإنما يحرم عليهما قراءة القرآن. الخامس: حضور مجالس الذكر والخير لكل أحد من الجنب والحائض ومن في معناهما، إلا في المسجد. السادس: شرعية التكبير في العيدين لكل أحد، وفي كل موطن، خلا موضع نهى الشرع عنه، وهو مجمَع عليه، ويستحب أيضًا ليلتي العيدين، ويقدم مواطن التكبير في العيد، ويتأكد استحبابه حال الخروج إلى الصلاة، وبه قال جماعة من الصحابة وسلف الأمة، وكانوا يكبرون إذا خرجوا حتى يبلغوا المصلى، يرفعون

أصواتهم، وقاله الأوزاعي ومالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يكبر في الخروج للأضحى دون الفطر، وخالفه أصحابه، وقالوا بقول الجمهور. وأما التكبير بتكبير الإمام في الخطبة، فمالك يراه، وغيره يأباه. وأما التكبير في أول صلاة العيد سوى تكبيرة الإحرام في الأولى، وتكبيرة القيام إلى الثانية، فهو متفق عليه بين العلماء للإمام والمأموم والمنفرد، لكن اختلفوا في عدده: فقال الشافعي: سبع في الأولى، وخمس في الثانية. وقال مالك وأحمد وأبو ثور: ست في الأولى، وخمس في الثانية. وقال الثوري وأبو حنيفة فيما حكاه عنهما ابن المنذر، يكبر أربع تكبيرات قبل القراءة، ثم يقوم في الركعة الثانية فيقرأ، ثم يكبر أربع تكبيرات، ثم يركع بالتكبيرة الرابعة، قال: وبهذا القول قال أصحاب الرأي، وممن قال به من الصحابة: ابن مسعود، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وعقبة بن عامر. واعلم أن جمهور العلماء يرى هذه التكبيرات متوالية متصلة، وقال عطاء والشافعي وأحمد: يستحب بين كل تكبيرتين ذكر الله تعالى، وروي هذا عن ابن مسعود -أيضًا-. وأما التكبير بعد الصلوات وغيرها، فهو مشروع في عيد الفطر من غروب الشمس ليلة العيد إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد، وفي عيد الأضحى اختلف علماء السلف ومن بعدهم في ابتدائه وانتهائه على نحو عشرة مذاهب، أما ابتداؤه، فمن صبح يوم عرفة أو ظهره، أو صبح يوم النحر أو ظهره أو عصره، أقول: وأما انتهاؤه، فمن ظهر يوم النحر، أو ظهر أيام النفر، أو في صبح آخر أيام التشريق، أو ظهره، أو عصره، أقوال، واختار مالك والشافعي وجماعة ابتداءه من ظهر يوم النحر، وانتهاءه صبح آخر أيام التشريق، وللشافعي قول: إلى العصر من آخر أيام التشريق، وقول: إنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر

التشريق، وهو الراجح عند جماعة من العلماء الشافعيين وغيرهم، وعليه العمل في الأمصار. السابع: جواز بروز الأبكار للطاعات بشرط ألَّا تتبرج ولا تفتتن ولا يفتن بها. الثامن: أنه ينبغي لأولياء الجواري والصبيان أن يُمَرِّنوهُم على العبودية لله تعالى بالدعاء له وتكبيره، ويعرفوهم بركةَ ذلك اليوم، وما يترتب عليه من الثواب والجزاء والغفران، ولذلك يجب عليهم تعلم ما يجب عليهم ويحرم، حتى قال الواحدي: يجب عليهم تعليم أسماء الأنبياء، ونقل الاتفاق عليه، والله أعلم. التاسع: ينبغي مراعاة يوم العيدين؛ لبركتهما، بمزيد الخيرات، وتطهير السيئات، وعدم ارتكاب المخالفات. العاشر: فضلُهما في ذاتهما وشرف زمنهما على غيره؛ فإن الشرف يكون بالعطاء، ويكون بالمنع من البلاء، وهذان حاصلان فيهما؛ مما جعله الله فيهما، فينبغي مراقبتهما لما ذكرنا، والله أعلم. * * *

باب الكسوف

باب الكسوف الحديث الأول عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلاة جامِعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ في رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (¬1). تقدم ذكر عائشة - رضي الله عنها -. وقولها: خَسَفَتْ، يقال: خسفت -بفتح الخاء المعجمة وفتح السين المهملة-، ويقال: خُسِفَتْ -بضم الخاء، على ما لم يُسَمَّ فاعلُه-، يقال: كسفت الشمس والقمر، وكُسفا، وانكسفا، وخَسفا، وخُسِفا، وانخسفا، ست لغات. وقيل: الكسوف مختص بالشمس، والخسوف بالقمر، وهو ظاهر في القرآن العزيز في سورة القيامة في قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} [القيامة: 7]، وقيل عكسه، وهو ضعيف، ويشهد لاختلاف اللغات اختلاف الألفاظ في الأحاديث الصحيحة، وكلها بمعنى واحد؛ فإنها كلها أطلقت على معنى واحد. وفيل: الكسوف في أوله، والخسوف في آخره إذا اشتد ذهاب الضوء. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1016)، كتاب: الكسوف، باب: الجهر بالقراءة في الكسوف، ومسلم (901)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف.

وقيل: الكسوف: ذهابُ النور بالكلية، والخسوفُ: تغير اللون (¬1). قولها: فبعث مناديًا ينادي: الصلاةَ جامعةً، الصلاةَ جامعةً، منصوبان، الأول على الإغراء، والثاني على الحال. وفي هذا الحديث أحكام: الأول: المبادرة إلى الصلاة عند خسوف الشمس والسعي في أسبابها بالنداء لها والاجتماع. الثاني: اهتمام الإمام بها والتحريض عليها. الثالث: المبادرة إلى الاجتماع لها من غير تأخير. الرابع: كونها سنةً مؤكدة، وذلك مجمَعٌ عليه؛ لبِدار النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وجمع الناس عليها، وإظهاره ذلك. وحكم خسوف القمر كذلك عند الجمهور، وتردد مالك في الصلاة له، ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول. الخامس: لا يؤذَّن لها، ولا يُقام، اتفاقًا، وهذا الحديث يدل على أنه ينادى لها: الصلاةَ جامعةً، وهو حجة لمن استحبه. السادس: أن السنة أن تصلَّي في جماعة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وقال العراقيون: فرادى، وهذا الحديث وغيره حجة عليهم. السابع: السنة في كيفيتها أن تُصلَّى ركعتين، في كل ركعة قيامان وركوعان وسجودان، وهو مذهب الشافعي، ومالك، والليث، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وجمهور علماء الحجاز وغيرهم. وقال الكوفيون: هما ركعتان كسائر النوافل، وهذا الحديث مع حديث جابر ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 246)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 85)، و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 67).

وابن عباس وابن عمرو بن العاص حجة عليهم، مع أنه قد صح غيره أيضًا، وهو ثلاث ركعات، وأربع ركعات في ركعة واحدة، لكن قال ابن عبد البر: أحاديث قول الجمهور أصحُّ ما في الباب، وما باقي في الروايات المخالفة معللة ضعيفة (¬1). قلت: وحديث جابر بن سمرة وأبي بكرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكسوف ركعتين (¬2)، الذي احتج به الكوفيون، مطلق، والروايات الصحيحة تبين المراد به، وبتقدير صحته، فالروايات الكثيرة أصح، ورواتها أحفظ وأضبط، ومن العلماء من اعتذر عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس، هل انجلت أم لا؟ فإذا لم يرها انجلت، ركع. وقال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وفي هذا التأويل ضعف إذا قلنا: سنتها ركعتان كسائر النوافل (¬3). ومن العلماء من قال: اختلاف الروايات بحسب اختلاف حال الكسوف، ففي بعض الأوقات تأخرَ انجلاءُ الكسوف، فزاد عددَ الركوع، وفي بعضها أسرعَ الانجلاء، فاقتصرَ، وفي بعضها توسَّطَ بينهما، فتوسَّطَ في عدده. واعترض الأولون على هذا بأن تأخر الانجلاء لا يعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه، منويٌّ من أول الحال، وكان العلماء ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 314)، قلت: وقد أطال - رحمه الله - في هذا الموضع من ذكر الحجج على قول الجمهور، فمن أراد الشفاء من هذا، طالعَه هناك فاشتفى. وقد نقل المؤلف - رحمه الله - هنا عبارة الإمام النووي في "شرح مسلم" (6/ 198) في حكاية كلام ابن عبد البر. (¬2) رواه البخاري (1014)، كتاب: الكسوف، باب: الصلاة في كسوف القمر، عن أبي بكرة - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (913)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة، عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 136).

الحديث الثاني

الذين جعلوا اختلاف الروايات بحسب الانجلاء جعلوا ذلك سنة صلاة الكسوف، لا أن يكون سنتها أن يكون هيئتها منوية من أولها، فيكون الفعل مبينًا لنسبة هذه الصلاة، وعلى مذهب من جعلها ركعتين، كانهم أرادوا أن يخرجوا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العبادة عن المشروعية مع مخالفتهم للقياس في زيادة ما ليس من الأفعال المشروعة، في الصلاة. وقال إسحاق بن راهويه، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم من العلماء: جرت صلاة الكسوف في أوقات، واختلاف صفاتها محمولٌ على بيان جواز جميعها، فتجوز صلاتها على كل واحد من الأنواع الثابتة، وهذا قوي، والله أعلم. الثامن: جواز إطلاق لفظ الركعات على نفس الركوع. التاسع: تقدم الإمام على المأمومين. العاشر: أن يكون إحرام الإمام وتكبيره عقبَ كونه في مصلاه. الحادي عشر: استحباب بعث الإمام من ينادي بصلاة الكسوف، وكذلك ينبغي أن يفعل في كل صلاة شرعت لها الجماعة. الثاني عشر: نُقِل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند تغير الأحوال والأزمنة إلى أمته للاقتداء والعمل، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ أَبي مَسعودٍ عُقْبةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِي البَدْرِي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيتانِ مِنْ آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بهمَا عِبَادَهُ، وإنَّهُمَا لا يَنكسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإذَا رَأَيْتُم مِنْهَا شَيئًا، فَصَلوَا، وادْعُوا حَتَّى يَنكشِفَ مَا بِكُمْ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (994)، كتاب: الكسوف، باب: الصلاة في كسوف الشمس، ومسلم (911)، =

أما أبو مسعود الأنصاري، فتقدم ذكره. واعلم أن كسوف القمر كان في جمادى الاَخرة السنة الخامسة من هجرته - صلى الله عليه وسلم -[إلى] المدينة فيما ذكره أبو حاتم بن حبان - رحمه الله - في "تاريخه"، قال - رحمه الله -: فجعلت اليهود يرمونه بالشهب، ويضربون بالطاس، ويقولون: سحر القمر، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف، هذا آخر كلامه. قلت: فثبت بما ذكره أن الضرب على الطاس ونحوه عند كسوف القمر من فعل اليهود، فينبغي أن يُجتنب؛ لعموم نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التشبُّه بالكفار، وأمرِه - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة اليهود. وأما كسوف الشمس، فكان في سنة ست من الهجرة، وبعد رجوعهم من سرية إلى العمر وقبل سرية إلى ذي الفضة، ثم كان بعد ذلك في سنة عشر من الهجرة، يقال: إنه كان يوم مات إبراهيم يوم عاشوراء، ولا يصح؛ فإن إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وعاش ستة عشر شهرًا، وكان من مارية القبطية، هكذا ذكره ابن حبان الحافظ (¬1)، وأما القضاعي، فقال: ولد سنة ثمان من الهجرة، ومات وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام، وعلى كلا القولين لا يصح موته يوم عاشوراء نقلًا، ولا يصح -أيضًا- في اصطلاح أرباب تسيير الكواكب، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، معناهما: أنهما علامتان دالتان على عظم قدرة الله تعالى وقهره، وكمال إلهيته، وإنما خصهما بالذكر؛ لما وقع للجاهلية من أنهما لا يخسفان إلا لموت عظيم، وهذا لا يصدر إلا ممن لا علمَ له، ضعيفِ العقل، مختلِّ الفهم، فرد - صلى الله عليه وسلم - جهالتهم، وتضمن ذلك الرد على من قال بتأثيرات النجوم، ثم أخبر - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الذي لأجله ينكسفان، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يخوف الله بهما عباده"؛ أي: إنه ينبغي للعباد الخوف عند وقوع ¬

_ = كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة، وهذا لفظ مسلم. (¬1) انظر: "الثقات" لابن حبان (1/ 261).

التغيرات العلوية، فإن قيل: وأي تخويف في ذلك؟ والكسوف أمرٌ عادي بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض، وذلك يجري مجرى حجب الجسم الكثيف نور الشمس عما يقابله من الأرض، وذلك لا يحصل به تخويف، فيكون لكسوف الشمس والقمر أسبابٌ عادية يخرج كسوفهما عن التخويف، فينافي التخويف المذكور في الحديث، وذلك فاسد؛ فإنا لا نسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه، ومن أين عرفوا ذلك بالعقل أم بالنقل؟ وكل واحد منهما إما بواسطة تطرأ، أو بغير واسطة، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة، وغايتهم أن يقولوا: [إن] ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية يفضي بسالكها إلى القطع، ونحن نمنع إفضاء ما ذكروه إلى القطع، وهو أول المسألة، ولئن سلمنا ذلك جدلًا، لكنا نقول: يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة: أوضحها: أن ذلك مذكر بالكسوفاتِ التي تقع بين يدي الساعة، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها، ولذلك قام - صلى الله عليه وسلم - فزعًا يخشى أن تقوم الساعة، وكيف لا وقد قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7، 8، 9]، قال أهل التفسير: جمع بينهما في إذهاب نورهما، وقيل غير ذلك. و-أيضًا- فإن كل ما في العالم علويِّه وسفليِّه دليل على تفرد قدرة الله تعالى وتمام قهره باستغنائه وعدم مبالاته، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فأصحاب المراقبة له ولأفعاله -سبحانه وتعالى- الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعظيم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها، إذا وقع عندهم شيء غريب، حدث عندهم الخوف؛ لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى على ما يشاء، وذلك لا يمنع أن يكون ثم أسبابٌ تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عافى، وإن كان هبوب الريح موجودًا في العادة، فيكون لله تعالى أفعال خارجة عن كل الأسباب، وأفعال خارجة على الأسباب، وقدرته -سبحانه وتعالى- حاكمة على كل سبب، فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض.

وخص هنا خسوفهما بالتخويف؛ لأنهما أمران علويان نادران طارئان عظيمان، والنادر العظيم مُخيف موجع، بخلاف ما كثر وقوعهُ؛ فإنه لا يحصل منه ذلك غالبا، و -أيضًا- فلما وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدها، ولما وقع من اعتقاد تأثيرهما حتى قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام ردًّا عليهم، والحكمة في ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينكسفان لموت أحد من الناس": أن بعض الجاهلية الضلال كانوا يعظِّمون الشمسَ والقمر، ويقولون: انخسفا لموت العظماء؛ لعظمهما عندهم، فبين - صلى الله عليه وسلم - أنهما مخلوقان، لا صنع لهما؛ كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغيير كغيرهما، وكان بعض الضلال من المنجمين وغيرهم يقولون: لا ينكسفان إلا لموت عظيم، حتى قالوا عند مصادفة موت إبراهيم - رضي الله عنه -، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن هذا باطل -أيضًا-؛ لئلا يغتر أحد بأقوالهم، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيتم منها شيئًا، فصلُوا وادعوا حتى ينكشفَ ما بكم" معناه: بادروا بالصلاة والدعاء، وأسرعوا إليهما حتى يزول هذا العارض الذي يخاف كونه مقدمةَ عذاب أو وجود عذاب، ولا شك أن الله -عزَّ وجلَّ- امتنَّ على البشر بالشمس والقمر ونورهما، ووصف القمر بالنور، والشمسَ بالسراج، فإذا زال ذلك، أو تغير، فهو عذابٌ حاضر، سواء عاد نورهما، أم لم يعد، لكن عدم عودهما أشدُّ عذابًا؛ لما يدل على قرب الساعة وأهوالها، فالإسراعُ إلى الصلاة والدعاء سببٌ لرفع البلاء غالبا، وفي أمره بالصلاةُ والدعاء جميعا ما يدل على أن المراد بالصلاة: الصلاة المشروعة للكسوف؛ لجمعه في الأمر بينهما، فلو كان المراد بالصلاة: الدعاء الذي به سميت الصلاة، لما حسن ذلك، فدل على ما ذكرنا، وإذا كان كذلك، فيقتضي الأمر بهما أن تكون غاية فعلهما إلى الانجلاء. قال الفقهاء: إذا صليت صلاة الكسوف على الوجه المشروع، ولم يقع الانجلاء: إنها لا تصلى ثانيًا، بخلاف صلاة الاستسقاء؛ فإنهم إذا لم يُسْقَوا، صَلَّوا ثانيًا وثالثًا. وقال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: وليس في هذا الحديث ما يدل

الحديث الثالث

على خلاف ما ذكره الفقهاء في صلاة الكسوف؛ من عدم إعادتها إذا صليت ولم تنجل؛ لوجهين: أحدهما: أنه أمر بمطلق الصلاة، لا بالصلاة على هذا الوجه المخصوص، ومطلق الصلاة شائع إلى حين الانجلاء. الثاني: لو سلمنا أن المراد الصلاة الموصوفة بالوصف المذكور، لكان لنا أن نجعل هذه الغاية لمجموع الأمرين؛ أعني: الصلاة والدعاء، ولا يلزم من كونهما غاية لمجموع الأمرين أن يكونا غاية لكل واحد منهما على انفراده بخلاف، فجاز أن يكون الدعاء ممتدًا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة على الوجه المخصوص مرة واحدة، ويكون غاية المجموع (¬1). وفي الحديث دليل على: التنبيه بالاعتبار بآيات الله وحدوث ظهورها، وعلى عظيم قدرته وإلهيته -سبحانه وتعالى-، وعلى أن الكواكب وغيرها لا فعلَ لها ولا تأثيرَ، وإنما هي علامات، وعلى الرجوع إلى الله تعالى عند الحوادث المخالفة للعادة بالصلاة والدعاء، خصوصًا إذا خشي زوال نعم الله تعالى فيها، وعلى شرعية صلاة الكسوف، والتوجه إلى الله تعالى عنده، وعلى وجوب البيان للأمور، خصوصًا إذا اعتقد خلاف الصواب فيها، وعلى الاجتهاد في السؤال لله تعالى، والعبادة حال وجود الحوادث حتى تزول. * * * الحديث الثالث عَنْ عَائشِةَ -رَضيَ اللهُ عَنهَا-: أنهَا قَالَتْ: خُسِفَتِ الشمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالناسِ، فَأطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَكعَ فأطالَ الرُّكُوعَ، ثُم قَامَ فأطالَ القِيَامَ، وَهُوَ دُونَ القِيَام الأَولِ، ثُم رَكَعَ فَأطالَ الركُوعَ، وَهُوَ دُونَ الركوعِ الأَولِ، ثُمَّ سَجَدَ فَأطَالَ السجُودَ، ثُم فَعَلَ في الركْعَةِ الأخْرَى ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 138).

مِثْلَ مَا فَعَلَ في الركْعَةِ الأولَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ الناسَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيتانِ مِنْ آياتِ اللهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللهَ، وَكبِّروا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا"، ثُمَّ قَالَ: "يا أمَّةَ مُحَمَّدٍ! وَاللهِ ما مِنْ أَحَدٍ أَغْير مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزنيَ أَمَتُهُ، يَا أمةَ مُحَمدٍ! واللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُم قَلِيلًا، وَلَبكَيْتُمْ كَثيرًا". وَفِي لَفْظٍ: فَاسْتكمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (¬1). تقدم الكلام على بعض هذا الحديث في الحديث الأول والثاني، ونتكلم -إن شاء الله تعالى- على باقي ما يتعلق بهذا الحديث. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أمة محمد! ما من أحد أغيرُ من الله"، من زائدة، تقديره: ما أحدٌ، وثبت في "صحيح مسلم": "إنْ من أحدٍ"، وهي نافية بمعنى: ما، فعلى هذا، يجوز في أغير النصب خبر (إن) النافية؛ فإنها تعمل عمل (ما) عند الحجازيين، وعلى اللغة التميمية فيها: أغيرُ مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو أحد، فالوجهان جائزان، في رواية الكتاب في أغير النصب والرفع. والغيرةُ في حقنا راجعة إلى تغير وانزعاج وهيجان يلحق الغَيْران عندما ينال شيءٌ من حرمه أو محبوباته يحمل على صيانتهم ومنعهم، وهذا التغير على الله تعالى مُحالٌ؛ إذ هو منزه عن كل تغير ونقص، لكن لما كانت ثمرة الغيرة صونَ الحريم ومنعَهم، وزجرَ القصد إليهم، أطلق ذلك على الله تعالى؛ إذ قد زجر وذم، ونصب الحدود، وتوعد بالعقاب الشديد من تعرض لشيء من محارمه، وهذا من باب التجوز، ومن باب تسمية الشيء باسم ما يترتب عليه. ولا شك أن المنزهين لله تعالى عن سمات الحدث ومشابهة المخلوقين بين رجلين: إما ساكت عن التأويل، وإما مؤول على أن يراد شدة المنع والحماية من الشيء؛ فإن الغائر على الشيء مانعٌ له، حامٍ له، فالمنعُ والحماية من لوازم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (997)، كتاب: الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف، ومسلم (901)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف.

الغيرة، فأطلق لفظ الغيرة عليهما من مجاز الملازمة، أو غير ذلك من الوجوه الشائعة في لسان العرب كما ذكرنا، والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يُسلِّم التنزيه؛ فإنه حكم شرعي؛ أعني: الجواز وعدمه، كما تؤخذ سائر الأحكام، إلا أن يدعي مدَّعٍ أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع -أعني: المنع من التأويل- ثبوتًا قطعيًّا، فخصمُه يقابله حينئذٍ بالمنع الصريح، وقد يتعدى بعض خصومه إلى التكذيب القبيح. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أمة محمد! والله لو تعلمونَ ما أعلمُ، لَضحكتُم قليلًا، ولَبكيتُم كثيرًا" معناه: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم، وشدة عقابه، وأهوال القيامة وما بعدها كما علمت، ترونَ النار كما رأيت في مقامي هذا، وفي غيره، لبكيتم كثيرًا، ولقلّ ضحككم؛ لفكركم فيما علمتموه. ولما كانت النفوس مجبولةً على الإخلاد إلى الشهوات، والأخذ بالرخص وترك العزائم، وذلك كلُّه يوقعها في الخطر العظيم، ويحملها عليه، قابلها - صلى الله عليه وسلم - الطبيب الحاذق بما يصدُّها، لا بما يزيدها؛ فإن العلل المزمنة إن لم يبادر إليها بقطع مادة الداء بالدواء النافع القاطع لها، وإلا استحكمت العلة. وقولها: "فاستكمل أربعَ ركعاتٍ وأربعَ سجداتٍ" أطلقت الركعات على عدد الركوع، وتقدم في الحديث الأول إطلاقها في ركعتين، وهو متمسَّك بعض المالكية في أنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني؛ من حيث إنه أطلق على الصلاة ركعتين. وفي الحديث أحكام: منها: شرعية صلاة الكسوف في جماعة بإمام. ومنها: شرعية طول القيام فيها، ولم يذكر في الحديث حد لطوله، لكن قال أصحاب الشافعي وغيرهم بطول القيام الأول نحوًا من سورة البقرة؛ لحديث ورد فيه. ومنها: تطويل الركوع الأول، ولم يذكر -أيضًا- في الحديث له حد، وذكر

الشافعية أنه يطوله بقدر مئة آية، وذكر غيرهم أنه لا يطوله إلا بما لا يضر بمن خلفه. ومنها: أن القيام الثاني يكون دون القيام الأول، وهو سنة هذه الصلاة، وهو مناسب لحكم الركعة الثانية في غيرها من الصلوات عند المحققين من العلماء أن يكون أقصر من الأولى، وكان السبب فيه أن النشاط في الركعة الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرًا من الملال. واعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر خلاف معنى هذه المناسبة في قيام الليل، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قامَ أحدُكم من الليل، فليصلّ رَكعتينِ خفيفتين، ثم لْيُطَوّلْ ما شاء" (¬1)، وكانت المناسبة في ذلك استدراج النفس من التخفيف إلى حلاوة التثقيل، وهو التطويل، وكذلك ذكر العلماء مناسبة شرعية السنن الراتبة قبل الصلوات، وكذلك إذا اعتبرتَ مناسبةَ التنزيل للكتاب العزيز، وشرعية الأحكام وتكثيرها، فإنك تجدُها متدرجة من التخفيف والتقليل إلى التثقيل والتكثير؛ ليكونا أثبتَ وأبعدَ من الملال فيهما، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا من العملِ ما تُطيقون الدوامَ عليه" (¬2) الحديث، والله أعلم. واعلم أن الفقهاء اتفقوا على القراءة في هذا القيام الثاني؛ أعني: الذين قالوا به، وجمهورهم، على قراءة الفاتحة، وقالوا: لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال محمد بن مسلمة من المالكية: لا تقرأ الفاتحة في القيام الثاني، وكأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع، والركعة الواحدة لا تثنى فيها الفاتحة، فهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث كما ذكرنا في قول عائشة: واستكمل أربع ركعات في أربع سجدات. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1323)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح صلاة الليل بركعتين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، دون قوله: "ثم ليطول ما شاء". (¬2) رواه البخاري (43)، كتاب: الإيمان، باب: أحب الدين إلى الله أدومه، ومسلم (782)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره، عن عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: "عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دُووم عليه وإن قلَّ".

وقولها: "فصلى أربع ركعات في ركعتين"، واتفق العلماء على أن القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى أقصرُ من القيام الأول والركوع، وكذا القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الثانية يكون أقصر من الأول منهما. واختلفوا في القيام الأول والركوع الأول من الثانية، هل هما أقصر من القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى، أم هما سواء؟ فمن قال: تكون أقصر في ذلك كله، يجعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهو دون القيام الأول ودون الركوع الأول" عائدًا إلى مجموع الصلاة، وهو بعيد من لفظ الحديث، فإنها قالت: ثم فعل في الركعة الثانية مثلَ ما فعل في الركعة الأولى، والمثلية في الثانية تقتضي التسوية بينها وبين الأولى من غير تقصير عنها، والعلماء متفقون على شرعية إطالة القراءة والركوع فيها كما وردت به الأحاديث، فلو اقتصر على الفاتحة في كل قيام، وأدنى طمأنينة في كل ركوع، صحَّت صلاته، وفاته الفضيلة. ومنها: استحبابُ إطالة السجود فيها، وظاهر مذهب مالك والشافعي أنه لا يطوله، بل يقتصر على قدره في سائر الصلوات، وبه قال جمهور أصحاب الشافعي، والذي نص عليه المحققون، ونص عليه الشافعي - رحمه الله - في "البويطي"، وقاله أبو العباس بن سريج: أنه يطول كما يطول الركوع، ولفظ الشافعي في "البويطي": ثم خر ساجدًا، فسجد سجدتين تامتين طويلتين، يقيم في كل سجدة نحوًا مما أقام في ركوعه، لكن قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله - في "المهذب" (¬1) بعد حكايته عن ابن سريج تطويله: إنه ليس بشيء؛ قال: لأن الشافعي لم يذكر ذلك، ولا نقل ذلك في خبر، ولو كان قد أطال النقل كما نقل في القراءة والسجود، وهذا الذي قاله غير مقبول؛ لعدم اطلاعه على الأخبار الصحيحة، ومنصوصات الشافعي الجديدة في ذلك؛ كحديث الكتاب في إطالة السجود، وفي حديث آخر عن عائشة أنها قالت: "ما ¬

_ (¬1) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 122).

سجدَ سجودًا أطولَ منه" (¬1)، وكذلك ثبت بطوله من حديث أبي موسى، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-، وقد تقدم نقلنا له عن مختصر "البويطي"، وهو من أجل أو أجل منصوصات الشافعي في كتبه الجديدة، والذي ذكره أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله - من عدم ذكر الشافعي له إنما أراد في "مختصر المزني" فقط، لا غيره، والله أعلم. ومنها: شرعية الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لقولها: "فخطب الناس، فحمِدَ الله وأثنى عليه"، وهو ظاهر الدلالة في أن لصلاة الكسوف خطبة، وبه قال الشافعي، وابن جرير، وفقهاء أصحاب الحديث، قالوا: استحب بعدها خطبتان، ولم ير ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد، وقال بعض أتباع مالك: لا خطبة لها، ولكن يستقبلهم، ويذكرهم، وهذا خلاف الظاهر من الحديث؛ لأنه ابتدأ بما يبتدئ به الخطيب من الحمد لله والثناء عليه، وما ذكر من أن المقصود الإخبار بأنهما: "آيتان من آيات الله" إلى آخره ردًّا على من قال: "إنهما ينكسفان لموت عظيم"، وقد قالوه عند موت إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه-، والإخبار عن الجنة والنار؛ حيث رآهما، وذلك يخصه - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، كله ضعيف؛ فإن الخطب لا تنحصر مقاصدها بما يخص الخطيب، بل ما ذكر مطلوب للخطيب وغيره؛ فإن الحمد والثناء والموعظة شامل لذكر الجنة والنار، وكونهما آيتين من آيات الله، وذلك بعض مقاصد الخطبة؛ لأن المقصود لو سلم خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - بذلك. ومنها: أن خطبة الكسوف لا تفوت بالانجلاء، بخلاف الصلاة. ومنها: أن الخطبة يكون استفتاحها بالحمد لله تعالى، والثناء عليه دون شيء اَخر من الذكر والبسملة وغيرهما، ومذهب الشافعي وأحمد: أن لفظة الحمد لله متعينة، فلو قال معناها، لم تصح خطبته. ومنها: شرعية صلاتها لخسوف القمر ككسوف الشمس في جماعة، وبه قال ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1003)، كتاب: الكسوف، باب: طول السجود في الكسوف.

الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وروي عن جماعة من الصحابة وغيرهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيتم ذلك، فصلُّوا" بعد ذكرهما من غير تفصيل في جماعة أو فرادى، وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - في جماعة في كسوف الشمس، فدل على أن كسوف القمر كذلك، وقال مالك وأبو حنيفة: لا تسن الجماعة في كسوف القمر، ولا أن تكون هيئتها كهيئة كسوف الشمس من تكرار الركوع وتطويلها، بل تسن صلاتها ركعتين فرادى كسائر الصلوات، والله أعلم. ومنها: جواز فعلها في أوقات الكراهة وغيرها عند رؤية الكسوف أيَّ وقت كان؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بها إذا رأوا كسوفها، وهو عام في كل وقت، وهو مذهب الشافعي وغيره، واختلف مذهب مالك في ذلك، فظاهر مذهبه: أنها لا تفعل إلا بعد جواز النافلة إلى الزوال، وقيل في مذهبه -أيضًا-: إنها لا تفعل إلا بعد صلاة العصر، ومنطوقُ الحديث بعمومه يردُّ ذلك. ومنها: استحباب الصدقة عند رؤية الكسوف، وكذلك يستحب عند كل المخاوف؛ لاستدفاع البلاء والمحاذر. ومنها: استحباب الدعاء والتوجه إلى الله تعالى واللجوء إليه عند المخاوف والشدائد، ولا شك أن الدعاء في الرجاء مطلوب للشرع بكونه سببًا لدفع البلاء والشدائد؛ فإنه ثبت في الصحيح مرفوعًا: "تَعَرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفْكَ في الشَّدةِ" (¬1)، وروى الترمذي من رواية أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أرادَ أن يستجيبَ اللهُ دعاءه عندَ الكَرْبِ والشدائد، فلْيُكْثِرْ من الدعاءِ في الرَّخاء" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 307)، وعبد بن حميد في "مسنده" (636)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11560)، والحاكم في "المستدرك" (6303)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 314)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (745)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1574)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه الترمذي (3382)، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وأبو يعلى في "مسنده" (6396)، والحاكم في "المستدرك" (1997)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/ 414).

ومنها: أنه ينبغي ألا يفخم الإنسان نفسه، ولا يعظمها بالوصف المتصف به، بل يذكر نفسه باسمه الموضوع له؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الخطبة: "يا أمة محمد! "، وكرره من غير أن يضيفهم إلى نبوته، ولا رسالته، ولا ياء الإضافة، كل ذلك تواضعًا وأدبًا، والله أعلم. ومنها: الحث على اجتناب الزنا والمعاصي، وتفخيم العقوبة عليها وقبحها عند الله تعالى، ولا شك أن الزنا من الكبائر، لا يكفر بفعله كفرًا يخرجه عن الإسلام إلا أن يعتقد حلَّه، فيكفر إجماعًا، وينبغي اجتناب المعاصي كلِّها صغيرِها وكبيرها؛ فإنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَحْقِرَنَّ أحدكم صغيرَ الذنبِ، فربما به دخلَ النارَ" (¬1)، وكذلك لا ينبغي أن يحقر من الخير شيئًا؛ فإنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تَلْقى أخاكَ بوجهٍ طَليقٍ" (¬2)، والجامع لذلك كله قوله -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. ومنها: الحث على قلة الضحك وكثرة البكاء، والتحقق بما الإنسان صائرٌ إليه، وما هو فيه، ولا شك أن كثرة الضحك وقلة البكاء مذمومان للشرع؛ فإنهما يدلان على قسوة القلب، وكثرة البطر، ومن الضحك ما هو محمود، وهو ما اقترن به مقصود شرع من تعجب بنعم الله تعالى، أو فرح للمسلمين، أو تجلد على الكافرين والمنافقين، ونحو ذلك، ومن البكاء ما هو مذموم؛ كالبكاء لإظهار الجزع، أو للرياء، أو لإضعاف المؤمنين، أو تحزنًا على المنافقين، أو ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 402)، والطيالسي في "مسنده" (400)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10500)، وفي "المعجم الأوسط" (2529)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 187)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". (¬2) رواه مسلم (2626)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، عن أبي ذر -رضي الله عنه-.

الحديث الرابع

ما شاكل ذلك، فأما ما كان منه خشية لله تعالى، وخوفًا، فهو شعار عباد الله العارفين، وهو جلاء للقلوب، وتطهير للذنوب، وتقريب من علام الغيوب، وقد يغلب على الفاجر البكاء كما ورد في بعض الأحاديث مرفوعًا وموقوفا: "إذا كَمُلَ فُجورُ الرجلِ مَلَكَ عينيهِ، فإذا أراد أن يبكي، بكى" (¬1)، وقد يقع البكاء على أمر نفساني، فيتوهم أنه من خشية الله تعالى، فليتفطن لذلك؛ ليقطع ويجتنب، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ أَبي [مُوسَى]-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أن تكونَ السَّاعَةُ حَتى أتى المَسْجِدَ، فَقَامَ، فَصَلَّى بأطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُهَ في صلاَةٍ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: "إن هَذه الآيَاتِ التي يُرْسِلُهَا اللهُ لَا تكونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِن اللهَ يُرْسِلُهَا يُخَوّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائه وَاسْتِغْفَاره" (¬2). أما أبو موسى، فتقدم ذكره، وأن اسمه: عبد الله بن قيس بن سليم بن حصار الأشعري، وتقدم الكلام على معظم هذا الحديث قبله، فإن ذلك جميعه دليل على جواز استعمال الخسوف في الشمس، وهي لغة صحيحة ثابتة كما تقدم. وقوله: "فقام فزعًا يخشى أن تكونَ الساعة". قد استشكل ذلك من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة لا بد من وقوعها، ولم ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 150)، عن عقبة بن عامر مرفوعًا، ومن طريقه رواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 819). ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 72)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (953)، عن سفيان الثوري. ورواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 42)، عن شعيب الجُبَّائي. (¬2) رواه البخاري (1010)، كتاب: الكسوف، باب: الذكر في الكسوف، ومسلم (912)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة.

تقع؛ كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار، والدجال، وقتال الترك، وأشياء كثيرة لا بد من وقوعها قبل الساعة؛ كفتوح الشام والعراق ومصر وغيرها، وإنفاق كنوز كسرى في سبيل الله، وقتال الخوارج، وغير ذلك من الأمور المشهورة في الأحاديث، وأجيب عنه بأجوبة: أحدها: لعل هذا الكسوف قبل إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأمور. وثانيها: لعله خشي أن يكون ذلك بعض مقدماتها. وثالثها: إن قيامه - صلى الله عليه وسلم - فزعًا خاشيًا أن تكون الساعة إما هو ظن من الراوي لما رآه خرج إلى الصلاة مستعجلًا مبادرًا إليها؛ لا أنه - صلى الله عليه وسلم - خشي ذلك حقيقة، ولعله - صلى الله عليه وسلم - خاف أن يكون الكسوف نوعَ عقوبة؛ لخوفه عند هبوب الريح أن يكون عذابًا، فظن الراوي خلاف ذلك، ولا اعتبار بظنه، وذلك دليل على دوام مراقبته - صلى الله عليه وسلم - لفعل الله تعالى، وتجريد الأسباب العادية عن إيجادها لمسبباتها. وفي الحديث أحكام: منها: أن السنة في صلاة الكسوف أن تكون في المسجد الجامع، وهو المشهور من مذاهب العلماء، قال أصحاب الشافعي: وإنما لم يخرج إلى المصلى خوفًا من فواتها بالانجلاء؛ فإن السنة المبادرة إليها، وخيَّر بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، وهو خلاف الصواب، والمشهور لانتهاء فعل الصلاة بالانجلاء، وهو مقتض لأن يعتني بمعرفته، ويراقب حال الشمس، ولولا أن المسجد أرجح، لكانت الصحراء أولى؛ لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء وعدمه، وأيضًا فإنه يخاف من اجتماع الناس في المصلى فوات إقامتها كما ذكره الشافعيون، والله أعلم. ومنها: جواز الإخبار بما يوجب الظن من شاهد الحال، وإن لم يكن في نفس الأمر كذلك؛ فإن إخباره أنه قام فزعًا خاشيًا أن تكون الساعة محتمل له ولغيره.

ومنها: الدوام على مراقبة الله تعالى، وطاعته، والخوف منه؛ بحيث لا يخرجه الخوف إلى اليأس من رحمته. ومنها: تطويل الركوع والسجود، وتقدمَ الكلامُ عليه في الحديث قبله. ومنها: شرعية صلاة الكسوف للنساء والمسافرين وكل واحد؛ فإنه وإن كان الخطاب للذكور؛ بقوله: "فافزعوا إلى الصلاة" في الحديث قبله والدعاء والذكر والاستغفار والصدقة وغير ذلك، فالنساء مندرجات فيه كما في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]، و {كُتِبَ عَليكُمُ اَلصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وغير ذلك من خطاب التعبدات العامة، فإنهن داخلات فيها باتفاق. وكونها مشروعة للنساء وغيرهن هو مذهب الشافعي، ومشهور مذهب مالك، وروي عن مالك -أيضًا-: أن المخاطب بها من يخاطب بالجمعة، فيخرج منها النساء والمسافرون ونحوهم، وذهب الكوفيون إلى أنهن يصلين أفذاذًا لا جماعة، وقد صح حضورهن لها مع رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يدل على أنهن مخاطبات بها في جماعة. ومنها: شرعية الدعاء والذكر والاستغفار عند الكسوف، ولا شك أن كل واحد من المذكورات عبادة مستقلة مطلوبة في جميع الحالات والآنات، سواء كان أمر مخوف، أم لا، لكنه آكد في المخوف، والله أعلم. فالدعاء والذكر والاستغفار مشروع لمزيد الخيرات واستدفاع المكروهات. * * *

باب الاستسقاء

باب الاستسقاء الاستسقاء: طلب السقيا. الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ زَيْدِ بنِ عَاصِمٍ المازنيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى القِبْلَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُم صَلَّى رَكعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بالقِرَاءَةِ (¬1). وفي لَفْظٍ: إلى المُصَلَّى (¬2). أما عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، فتقدم ذكره في كتاب الطهارة، والكلام على المازني -أيضًا-. وأما قوله: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي"؛ أي: يطلب السقي بتضرعه ودعائه. وقوله: "فتوجه إلى القبلة، وحول رداءه"، أما استقبال القبلة هنا، فلأنها حالة دعاء وتضرع لطلب السقيا، فناسبت استقبالها، بخلاف الخطبة والموعظة؛ فإنها حالة إنذار وتذكير، فناسبت استقبال الناس واستدبار القبلة، وهي السنة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير المجالس ما استُقبل به القبلةُ" (¬3)، فهو خارج عن هذا؛ ¬

_______ (¬1) رواه البخاري (978)، كتاب: الاستسقاء، باب: الجهر بالقراءة في الاستسقاء. (¬2) رواه مسلم (894)، كتاب: صلاة الاستسقاء، في أوله. (¬3) تقدم تخريجه.

حيث لا تعلق لأحد به من موعظة أو تعلم أو مخاطبة، والله أعلم. وأما تحويل الرداء، فهو من باب التفاؤل وانقلاب الحال من الشدة إلى السعة. وقوله: "ثم صلَّى ركعتين جهرَ فيهما بالقراءة" ظاهره أنه صلى بعد الدعاء وتحويلِ الرداء، وإن كانت ثم استعملت لغير الترتيب في عطف الجمل بعضها على بعض، وإن كان ما بعدها متقدمًا على المذكور في قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآية إلى قرله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] الآية. وقد قال بتقديم الخطبة فيها على الصلاة: الليثُ بن سعد، ومالك، لكن مالكًا رجع عنه، وقال بتقديم الصلاة على الخطبة، وهو مذهب الشافعي وجمهور العلماء، والأحاديث بعضها يقتضي تقدم الصلاة على الخطبة، وبعضها يقتضي عكسه، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم-. ولم يذكر في صلاة الاستسقاء في هذا الحديث التكبيرات الزوائد كما في صلاة العيد، وقد قال به الشافعي، وابن جرير، وروي عن ابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، وقال الجمهور: لا يكبر، واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، وخيره داود بين التكبير وتركه. واحتج الشافعي ومن قال بقوله بما رواه أبو داود من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَبَذِّلًا متواضعًا متضرعًا حتى أتى المصلى، فرقي المنبر، ولم يخطُبْ خُطَبَكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء فيه والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد"، وقد أخرج هذا الحديث الترمذيُّ، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1)، لكن قال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في "جرحه ¬

______ (¬1) رواه أبو داود (1165)، كتاب: الصلاة، باب: جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائي (1521)، كتاب: الاستسقاء، باب: كيف صلاة الاستسقاء؟ والترمذي (558)، =

وتعديله" (¬1): إن راوي هذا الحديث إسحاقُ بن عبد الله بن كنانة عن ابن عباس، وأبي هريرة، مرسل، وبتقدير صحته واتصاله لا تنتهض الحجة به على التكبيرات الزوائد؛ فإن التشبيه بالشيء يصدق من بعض الوجوه، ولا يلزم من كلها إلا في شبيه ومثيل؛ للمبالغة التي فيها؛ فإن العرب تقول: زيد كالأسد، وكالبحر، وكالشمس، يريد بذلك أنه يشبهه في وجه من الوجوه، وقد روى هذا الحديث الدارقطني، وقال فيه: "صلى ركعتين، كبر في الأولى سبعَ تكبيرات، وقرأ في الأولى: سبح اسمَ ربك الأعلى، وقرأ في الثانية: هل أتاك حديث الغاشية، وكبر خمس تكبيرات" (¬2)، وهذا نص، غير أن في إسناد هذا الطريق محمدَ بنَ عمرَ بنِ عبدِ العزيز بنِ عبدِ الرحمن بنِ عوف، وهو ضعيف، مع أن الجمهور تأولوا الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: أنه صلى كما صلى في العيد، على أن المراد في العدد للركعتين، وللجهر بالقراءة، وفي كونها قبل الخطبة، والله أعلم. وأما قوله: "جهر فيهما بالقراءة"، وفي كونهما قبل الخطبة، والله أعلم، فلم يذكر في مسلم، بل هو في البخاري، فينكر على المصنف بإطلاقه من غير تبيين، وأجمع العلماء على استحباب الجهر بالقراءة فيهما، بخلاف كسوف الشمس؛ فإنه يستحب الإسرارُ فيها، وأما الخطبة، فقال مالك والشافعي: ويُخطب فيها خطبتان، يجلس في أولاهما، وفي وسطهما، وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن مهدي: يخطب خطبةً واحدةً لا جلوس فيها، وخيره الطبري. وفي هذا الحديث أحكام: منها: الخروج إلى المصلى لصلاة الاستسقاء؛ وأنه سنة، وقال أصحاب الشافعي: يخرجون إلى الصحراء؛ لأنه أبلغ في الافتقار والتواضع، ولأنها أوسع ¬

_ = كتاب: العيدين، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. (¬1) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 226). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 66)، والحاكم في "المستدرك" (1217).

للناس؛ لأنها يحضرها الناس كلهم، فلا يسعهم المصلى ولا المسجد الجامع. واعلم أن خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى للاستسقاء المذكور في أول شهر رمضان سنة ست من الهجرة. ومنها: أن السنة في صلاته الجماعة، وقال أبو حنيفة: لا تشرع له صلاة فضلًا عن الجماعة، ولكن يستسقى بالدعاء، وقال سائر العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم حتى أصحاب أبي حنيفة كلهم: يصلي للاستسقاء ركعتين بجماعة، واستدل لأبي حنيفة باستسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة من غير صلاة، قالوا: لو كانت سنة، لما تركها، وأجاب الجمهور عن هذا: بأنه كان في صلاة الجمعة، وهي عقب الاستسقاء بالدعاء في خطبتها، فاكتفى بها بيانًا لجواز مثل هذا، وقد أجمع أهل العلم على أن الاستسقاء سنة، لكن قالوا: هو مشروع على ثلاثة أنواع: أحدها: الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة. الثاني: الاستسقاء في خطبة الجمعة، أو في إثر صلاة مفروضة، وهو أفضل من النوع الذي قبله. الثالث: وهو أكملها: أن يكون بصلاة ركعتين، وخطبتين، وهو الذي خالف فيه أبو حنيفة، قال أصحاب الشافعي: ويتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر، ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. ومنها: استحباب [تحويل] الرداء وقلبه في أثناء الخطبة، قال أصحاب الشافعي: يحوله في نحو ثلث الخطبة الثانية حين يستقبل القبلةَ فيها، وجمهورُ العلماء على أن تحويله سنة، وأنكره أبو حنيفة، وصعصعة بن سلام من قدماء العلماء بالأندلس، وهذا الحديث وغيره حجة عليهم، قال أصحاب الشافعي: يستحب أيضًا للمأمومين كما يستحب للإمام، وبه قال مالك وغيره، وخالف فيه جماعة من العلماء. ثم الذين قالوا بالتحويل اختلفوا، فمنهم من قال: إنه يرد ما على يمينه على

شماله، ولا ينكسه، قاله بعضهم، وهم الجمهور، وقال الشافعي بمصر: ينكسه، فيجعل ما يلي رأسه أسفل، وسبب هذا الاختلاف اختلافُهم في مفهوم قول الصحابي: حَوَّلَ وقلبَ: هل هما بمعنى، أو بينهما فرق؟ ولا خلاف في تحويل الإمام وهو قائم، والذين قالوا بتحويل الناس قالوا: يفعلونه وهم جلوس، وكذلك نص الشافعي في مختصر" البويطي": على أن الإمام يدعو وهو قائم، وأن الناس لا يقومون، بل يكونون جلوسًا، والذين قالوا بعدم التحويل استدل لهم بأن التحويل إنما فعله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أثبتَ على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء، أو عرفَ بطريق الوحي تغير الحال عند تغيير ردائه، وهو بعيد؛ فإن الأصل عدم نزول الوحي بتغيير الحال عند تحويل الرداء، وفعله - صلى الله عليه وسلم - التحويل لمعنى مناسب أولى من حمله على مجرد ثبوت الرداء على عاتقه أو غيره، واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فعله أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص، مع ما عرف في الشرع من محبته التفاؤل. ومنها: يقدم الدعاء على الصلاة، ويقدم الكلام على ذلك. ومنها: استقبال القبلة عند تحويل الرداء والدعاء في الاستسقاء. ومنها: استقبالها عند الدعاء مطلقًا. ومنها: الجهر بالقراءة في هذه الصلاة. ومنها: الرد على من أنكر صلاة الاستسقاء. ومنها: أنها ركعتان، وهي كذلك بإجماع المثبتين لها، واختلفوا هل هي قبل الخطبة أم بعدها؟ وتقدم، فلو قدم الخطبة على الصلاة، صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة؛ كصلاة العيد وخطبتها عند من يقول به، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَجُلًا دَخَلَ المَسجِدَ يَومَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِم يَخْطُبُ، فَاستَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادعُ اللهَ يُغِثْنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ، ثُم قَالَ: اللهم أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللهم أَغِثْنَا، قَالَ أَنسٌ: وَلَا واللهِ! مَا نَرَى في السمَاء مِنْ سَحَاب وَلَا قَزَعَةٍ، وَما بيننَا وَبينَ سَلْع مِنْ بيتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِه سَحَابةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السمَاءَ، انْتَشَرَتْ، ثُم أَمْطَرَتْ، قَالَ: [فلا] وَاللهِ! ما رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبلَةِ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَتِ اَلأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا عَنا، قَالَ: فَرَفعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ، ثُم قَالَ: اللَّهُمَ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللهم عَلَى الآكامِ والظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَأقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي في الشَّمْسِ، قَالَ شريك: فَسَألْتُ أَنس بنَ مالكٍ: أَهُوَ الرَّجُل الأَولُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي (¬1). الظراب: الجبال الصغار. وأما أنس، فتقدم الكلام عليه. وأما ألفاظه، وما يتعلق به: فقوله: "إن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة من باب نحو دار القضاء": أما دار القضاء، فهي دار بيعت في دَيْن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي كتبه على نفسه، وأوصى ابنَه عبدَ الله أن يباع فيه ماله، فإن عجز ماله، استعان ببني عدي، ثم بقريش، فباع ابنُه داره هذه لمعاوية، وماله بالغابةِ، فقضى دينه، وكان ¬

(¬1) رواه البخاري (967)، كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، ومسلم (897)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء.

دينه ستة وثمانين ألفًا فيما رواه البخاري في "صحيحه" (¬1)، وغيرُه من أهل الحديث والسير والتواريخ وغيره. وقال القاضي عياض: كان ثمانية وعشرين ألفًا، وهو غلط (¬2)، فكان يقال: دارُ قضاءِ دَيْنِ عمر، ثم اختصر، فقالوا: القضاء، وهي دار مروان، وقال بعضهم: هي دار الإمارة، وهو غلط؛ لأنه بلغه أنها دار مروان، فظن أن المراد بالقضاء الإمارة، والصواب ما ذكرنا، والله أعلم. ودخول الرجل من باب كان نحو دار القضاء، وكلامُه للنبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على جواز كلام الداخل مع الخطيب في حال خطبته، ويحتمل أن يكون إنما كلمه في حال سكتة كانت من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إما لاستراحة في النطق، وإما في حال الجلوس، والله أعلم. وقوله: "ثم قالَ: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل": المراد بالأموال: الأموال الحيوانية؛ لأنها التي يؤثر فيها انقطاع الغيث من المطر وغيره، بخلاف الأموال الصامتة، والسبلُ: الطرق، وانقطاعُها إما بعدم المياه التي يعتاد المسافرون ورودها، وإما باشتغال الناس وشدة القحط عن الضرب في الأرض. وقوله: "فادع الله يغثنا"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أغثنا" المشهور في اللغة أنه يقال في المطر: غاثَ اللهُ الناسَ والأرضَ، يَغيثهم -بفتح الياء- ثلاثي؛ أي: أنزل المطر، والذي في هذا الحديث وغيره من رواياته: أغثنا -بالألف-، ويغيثنا: -بضم الياء- من أغاث يُغيث، رباعي، لكن الهمزة فيه للتعدية، ومعناه: هب لنا غيثًا، وقال بعضهم: المذكور في الإغاثة بمعنى المعونة، وليس من طلب الغيث، إنما يقال في طلب الغيث: اللهم غِثْنا، قال القاضي عياض: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث؛ أي: هبْ لنا غيثًا، وارزقنا غيثًا، كما يقال: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3497)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة، والاتفاق على عثمان - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 191).

سَقاه الله وأسقاه؛ أي: جعل له سُقيا، على لغة من فرق بينهما، والصواب أن الهمزة فيه للتعدية كما ذكرنا، والله أعلم (¬1). قوله: "فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، وقال: اللهمَّ أَغثْنا" إلى آخره: لا شك أن السنة في دعاء الاستسقاء رفعُ اليدين فيه، وقد عداه بعضُهم إلى كل دعاء، وقالوا: السنةُ رفعُ اليدين في الدعاء مطلقًا، ومنهم من لم يعده، مستدلًا بما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، وغيرهما عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتي يُرى بياض إبطيه (¬2)، ولا شك أن هذا مؤول على عدم الرفع البليغ؛ بحيث يُرى بياض إبطيه إلا في الاستسقاء، أو أن المراد: لم أره رفع، وقد رآه غيره، فيقدم المثبتون في مواضع كثيرة، وهم جماعات، على واحد لم يحضر ذلك، وقد ورد في حديث آخر أنه: استثنى ثلاثة مواضع: الاستسقاء، والاستنصار، وعند رؤية البيت، وفي موضع آخر عشية عرفة. وقد روى رفعَ اليدين في الدعاء جماعةٌ من الصحابة، وقد روى أنس حديثًا يعارض حديثَه هذا، وهو حديث القراء الذين بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاله حَرامٌ، وفيه: فقال أنس: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما صلي الغداه رفع يديه يدعو عليهم (¬3)، وقد صنف الحافظ أبو محمد عبد العظيم المنذري في ذلك جزءًا -رحمه الله-، وقد جمع شيخنا أبو زكريا النواوي -قدس الله روحه ونور ضريحه- في "شرح المهذب" نحوًا من ثلاثين حديثًا من "الصحيحين"، أو ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 140)، "شرح مسلم" للنووي (6/ 191)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 174)، (مادة: غوث). (¬2) تقدم تخرجه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" وأعوانه في "مسنده" (7343)، وعبد بن حميد في "مسنده" (1276)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3606)، وفي "المعجم الأوسط" (3793)، وفي "المعجم الصغير" (536)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 123)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 211).

أحدهما في رفع اليدين في الدعاء مطلقًا في أواخر باب: صفة الصلاة، منه (¬1)، والله أعلم. قوله: "ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعة"، المراد بالسماء هنا: الفضاء المرتفع بين السماء والأرض، والسحابُ معروف، والقَزَعة -بفتح القاف والزاي- وهي: القطعةُ من السحاب، وجمعها قَزَع؛ كقصبة وقَصَب، قال أبو عبيد: وأكثر ما يكون في الخريف، ومنه أخد القزع في الرأس، وهو: حلقُ بعضِ رأس الصبي وتركُ بعضه (¬2). قوله: "وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار": قوله: "من بيت ولا دار"هو تأكيد لقوله: وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة؛ لأنه أخبر أن السحابة طلعت من وراء سلع، فلو كان بينه وبينهم دار، لأمكن أن تكون السحابة والقزعة موجودة حال بينهم وبينها ما بينهم وبين سلع من دار لو كانت، وسَلْع -بفتح السين المهملة وسكون اللام-، وهو جبل بقرب المدينة من غربها (¬3)، والمقصود بهذا كله الإخبارُ عن معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظيمِ كرامته على الله -سبحانه وتعالى- بإنزال المطر سبعة أيام متوالية من غير تقدم سحاب ولا قزع ولا سبب آخر، لا ظاهر، ولا باطن، سوى سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي نحن مشاهدون له - صلى الله عليه وسلم - ولسلع وللسماء، وليس هناك سبب للمطر أصلًا. وقوله: "ثم أمطرت"، يقال: مَطَرت، وأَمطرت، في المطر، وهذا الحديث دليل لجواز أمطر -بالألف-، وهو المختار عند المحققين من أهل اللغة، وقال بعضهم: لا يقال: أمطرت -بالألف- إلا في العذاب؛ كقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، والمشهور الأول، ولفظة أمطرت: تطلق في الخير ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 469) وما بعدها. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 440). (¬3) انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (3/ 236).

والشر، وتعرف بالقرينة، قال الله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، وهذا من أمطر، والمراد به: المطر في الخير؛ لأنهم ظنوه خيرًا، فقال الله تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ} (¬1) [الأحقاف: 24]. وقوله: "ما رأينا الشمس سبتًا"؛ أي: جمعة، وقد بين في رواية أخرى، والمراد به: سبعة أيام، أولها يوم الجمعة ويوم السبت، وآخرها يوم الخميس وبعض يوم الجمعة، وهو في اللغة: القطع، وبه سمي يوم السبت، وقال: بانت في تفسير قوله: سبتًا؛ أنه: القطعة من الزمان، يقال: سبت من الدهر؛ أي: قطعة منه، وسبتُّه: قطعته، وقد رواه الدارقطني: ستًّا، وفسره: ستة أيام من الدهر، وهو تصحيف، كذا قاله أبو العباس القرطبي: إنه تصحيف (¬2)، وهو الصحيح؛ من حيث إن الرواية فيه سبتًا -بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة وبالتاء المثناة فوق- أما من حيث معنى السبت في العدد، فهو صحيح؛ فإنهم ما رأوا الشمس سبعة أيام كوامل، بل ستًا كوامل وبعض يومي جمعة، وذلك لا يطلق عليه يوم كامل، والله أعلم. وقوله في الجمعة الثانية: "هلكت الأموال، وانقطعت السبل"؛ أي: بكثرة المطر فإن إمساك المطر وكثرته مُضرٌّ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم حوالينا": هو ظرف معلق بمحذوف تقديره: اللهم أنزل حوالينا، ولا تنزل علينا، ويقال: حولنا، وحوالينا، وهما روايتان صحيحتان. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم على الآكام والظَّراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر": سأل - صلى الله عليه وسلم - ربه -سبحانه وتعالى- ذلك أدبًا معه؛ حيث لم يسأل رفعه من أصله، بل سأل رفعَ ضرر المطر، وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق؛ بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل، وسأله بقاءه في مواضع الحاجة؛ بحيث يبقى ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 179)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 261)، (مادة: مطر)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 192). (¬2) انظر: "المُفهم" للقرطبي (2/ 543).

نفعه وخصبه، وهي بطون الأودية وغيرها من المواضع المذكورة. والإكام -بكسر الهمزة، ويقال: بفتحها مع المد فيها-: جمع أكمة، ويقال: جمع أَكَم -بفتح الهمزة والكاف-، وأُكُم -بضمهما- والذي يقتضيه القياس أن يكون الأكم والأكمات جع الأكمة، أما الأكُم بضمهما فيقتضي أن يكون جمع الإكام؛ مثل كِتاب وكُتُب، وقد يكون ذلك جمع أكم -بفتحهما- مثل جبال وجبل، وهو التل المرتفع من الأرض، دون الجبل، وأعلى من الرابية، وقيل: دون الرابية. والظِّراب -بكسر الظاء المعجمة-: جمع ظَرِب -بفتحها وكسر الراء-، وهي الروابي الصغار (¬1). وقوله: "فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري"، وثبت في "صحيح البخاري" وغيره في بعض طرق هذا الحديث أنه الرجل الأول. وفي هذا أعلام نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأحكام: منها: استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء والاستصحاء، وعظيم قدره وحرمته عند ربه -سبحانه وتعالى- حتى أمطرت في الاستسقاء عقب دعائه أو معه، وحتى أمسكت في الاستصحاء حتى خرجوا يمشون في الشمس. ومنها: أدبه - صلى الله عليه وسلم - مع ربه -سبحانه وتعالى- حيث لم يسأل ربه -سبحانه وتعالى- رفعَ المطر، بل سأل دوامه حيث ينتفع به. ومنها: استحباب سؤال الإمام الاستسقاء والاستصحاء. ومنها: استحباب ذلك في خطبة الجمعة، وهو أحد الأنواع فيه كما تقدم ذكره. ومنها: جواز الاستسقاء منفردًا عن الصلاة المخصوصة له، واغترت به الحنفية، وقالوا: هذا هو الاستسقاء المشروع لا غير، وجعلوا الاستسقاء بالبروز ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 30)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 543)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 193)، و"القاموس" للفيروزأبادي (ص: 1391)، (مادة: أكم).

إلى الصحراء والصلاة بدعةً، وليس كما قالوا، بل هو سنة ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم في الحديث الأول وغيره من الأحاديث الصحيحة، وقد ذكرنا أنه ثلاثة أنواع، وفيما قالوه إبطال نوع ثابت، والله أعلم. ومنها: استحباب تكرير الدعاء ثلاثًا، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دعا بدعوة، دعا بها ثلاثًا. ومنها: استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل والمرافق إذا كثر وتضرروا به، وهو الاستصحاء، ولكن لا تشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء. ومنها: إجابة الإمام الرعية إذا سألوه في مصالحهم الدنيوية والأخروية، خصوصًا إذا كانت مصلحة عامة. ومنها: الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال والتضرع في جميع حالات العبد وما ينزل به. ومنها: الاستعانة في ذلك بالصالحين وأهل الخير في المجامع والمساجد والأماكن الشريفة. ومنها: استقبال القبلة في الدعاء. ومنها: الدعاء قائمًا للإمام ومن في معناه. ومنها: رفع اليدين فيه. ومنها: الدعاء في الخطبة وقطعها للأمر يحدث. ومنها: الاعتبار بعظيم قدرة الله تعالى وما يجريه على يدي أنبيائه ورسله من المعجزات، وعلى يدي أوليائه من الكرامات. ومنها: الاقتداء بهم في جميع ذلك كما فعل الصحابة والتابعون والسلف الصالحون وهلم جَرًّا إلى اليوم، والله تعالى أعلم. * * *

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَلَّى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاة الخَوْفِ فِي بَعْض أيَّامِهِ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإزَاء العَدُوِّ، فَصَلَّى بالذِينَ مَعَه رَكعَة، ثمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الآخَرُونَ، فَصَلى بِهِمْ رَكْعَة، وَقَضَتِ الطائِفَتانِ رَكعَة رَكْعَةً (¬1). أما ابن عمر، فتقدم الكلام عليه في كتاب الطهارة. وأما صلاة الخوف: فكانت في عسفان في سنة ستٍّ من الهجرة بعد رمضان، وبها نزلت آيتها التي في النساء، وكان سبب نزولها: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه الظهر، فندم المشركون على عدم اغتيالهم بالقتل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فعزموا على ذلك في الصلاة الآتية، فنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: إنها صلاة الخوف، وتلا عليه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]، فعلمه صلاة الخوف، ثم صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك على أوجه في أماكن، والله أعلم. واعلم أن صلاة الخوف رويت في الأحاديث على أوجه يبلغ مجموعها ستة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3904)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (839)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، وهذا لفظ مسلم.

عشر وجهًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكرها كلَّها الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني الحافظ -رحمه الله تعالى- في "سننه"، وذكر ابن القصار المالكي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشرة مواطن، وذكر غيره منهم أكثر من ذلك، وفي حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر: أنه صلاها يوم ذات الرقاع، وهي غزوة نجد وغطفان سنة خمس من الهجرة، وتقدم ذكرنا أنه صلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم، وفي غراة جهينة، وفي غزوة محارب بنجد، وببطن نجد على باب المدينة، والمختار عند العلماء أن هذه الروايات كلها جائزة بحسب مواطنها، وفيها تفصيل وتفريع في كتب الفقه. قال الخطابي - رحمه الله -: صلاة الخوف أنواع، صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى (¬1). ثم مذهب العلماء كافة أن صلاة الخوف مشروعة اليوم كما كانت، إلا أبا يوسف والمزني، فقالا: لا تشرع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]، وقد يؤيد هذا بأنها صلاة على خلاف المعتاد، وفيها أفعال منافية، فجازت المسامحة فيها بسبب فضيلة إمامته - صلى الله عليه وسلم -، وما ذكراه لا يصلح أن يكون دليلًا على الخصوصية؛ لأنه لو كان دليلًا، للزم قصر الخطابات على من توجهت له، وحينئذٍ يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها، لكلن قد تقرر بدليل إجماعي أن حكمه على الواحد حكمه على الجماعة، وكذلك ما يخاطب به هو؛ كقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94]، و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64]، ونحوه كثير، كيف وقد أمرنا باتباعه والتأسي به، فيلزم اتباعه مطلقًا حتى يدل دليل واضح على الخصوص، مع أن الصحابة -رضي الله عنهم- اطرحوا توهم الخصوص في هذه الآية والصلاة، وعَدَّوْا ذلك إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 64).

ولا يلتفت إلى قول من ادعى الخصوصية، مع عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، والله أعلم. وصلاة الخوف هي الصلاة المعهودة، تحضر والمسلمون متعرضون لحرب العدو، وقد اختلف العلماء: هل للخوف تأثير في تغيير الصلاة المعهودة عن أصل مشروعيتها المعروفة، أم لا؟ ذهب الجمهور إلى أن له تأثيرًا، وهو راجع إلى ما ذكرناه من أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أم عام في جميع الأزمان؟ والله أعلم. وقد أخذ بحديث ابن عمر هذا: الأوزاعي، وأشهب المالكي، وهو جائز عند الشافعي. ثم قيل: إن الطائفتين قضوا ركعتهم الباقية معًا. وقيل: متفرقين، وهو الصحيح، ورجح أبو حنيفة الأخذَ بحديث ابن عمر هذا، إلا أنه قال: بعد سلام الإمام تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الإمام، فتقضي، ثم تذهب، ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإمام، فتقضي، ثم تذهب، وقد أنكرت عليه هذه الزيادة. وقيل: إنها لم ترد في حديث، واختار الشافعي رواية صالح بن خوات عمن صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف الآتية. واختلف أصحابه لو صلى على رواية ابن عمر هل تصح، أم لا؟ الصحيحُ: الصحةُ؛ لصحة الرواية، وترجيح رواية صالح من باب الأولى، واختار مالك ترجيح الصفة التي ذكرها سهل بن أبي حثمة التي رواها هو عنه في "الموطأ" موقوفةً، وهي تخالف الرواية المذكورة في الكتاب في سلام الإمام، فإن فيها أن الإمام يسلم، وتقضي الطائفة الثانية بعد سلامه. ولما رجح الفقهاء بعض الروايات على بعض، احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح، فتارة يرجحون بمواقع ظاهر القرآن، وتارة بكثرة الرواة، وتارة بكون بعضها موصولًا، وبعضها موقوفًا، وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث الثاني

وتارة بالمعاني، وهذه الرواية التي اختارها أبو حنيفة - رحمه الله - توافق الأصول في أن قضاء الطائفتين بعد سلام الإمام، وأما ما اختاره الشافعي، ففيه قضاء الطائفتين معًا قبل سلام الإمام، والله أعلم. الحديث الثاني عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالحِ بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلاةَ الخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِم، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِم (¬1). الَّذِي صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ. أما يزيدُ بن رومان، فكنيته: أبو روح، وهو أسدي قرشي، مولاهم، كان مولى الزبير بن العوام، معدود في المدنيين، تابعي، روى عن عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وجماعة من التابعين، عالم، كثير الحديث، ثقة، روى عنه الزهري، وهشام بن عروة، وخلق سواهم من الأئمة والثقات، مات سنة ثلاثين ومئة، روى له البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمساند. وأبوه: رومان -بضم الراء-، وحكي في اسم رومان: فتحُ الراء مطلقًا، وهو شاذ (¬2). وأما صالح بن خوات بن جبير، فهو أنصاري، مدني، تابعي، ثقة، روى له ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3900)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 331)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 260)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 615)، و"تهذيب الكمال" للمزي (32/ 122)، و"الكاشف" للذهبي (2/ 382)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 284).

البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمساند، وخَوَّات -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو، ثم ألف، ثم تاء مثناة-، وهو ابن جبير بن النعمان، له صحبة، وكان أحد فرسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله مشابه، والله أعلم (¬1). وأما: سهل بن أبي حثمة، فكنيته: أبو يحيى. ويقال: أبو محمد. وقيل: أبو عبد الرحمن، وأبو حَثْمَة -بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة، ثم الميم المفتوحة، ثم تاء التأنيث-، واسمه: عبد الله بن ساعدة. وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي بن خيثم بن مجدعة بن حارثة ابن الحارثِ بنِ الخزرجِ بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأنصاريُّ، المدينيُّ، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة أحاديث، روى عنه جماعة من التابعين، منهم: ابن شهاب الزهري. وقيل: لم يسمع منه، وروى له أصحاب السنن والمساند، وذكر ابن [أبي] حاتم الرازي: أنه سمع رجلًا من ولده يقول: كان ممن بايع تحت الشجرة، وكان دليلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أُحد، وشهد ما بعدها من المشاهد، قال ابن الأثير في "معرفة الصحابة" له، وقول الواقدي أصح؛ يعني: موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، قال: وتوفي في أول أيام معاوية، وحديثه في صلاة الخوف صحيح مشهور (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 259)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 276)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 399)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 372)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 237)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 35)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 339). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 304)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 97)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 200)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 169)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 661)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 570)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 227)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 177)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" له أيضًا (3/ 195).

وأما غزوة ذات الرقاع، فكانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد، سميت ذات الرقاع؛ لأن أقدام المسلمين تعبت من الحفا، فلفوا عليها الخرق، هكذا ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (¬1). وقيل: سميت به بجبل هناك يقال له: الرقاع؛ لأن فيه بياضًا وحمرة وسوادًا. وقيل: سميت بشجرة يقال لها: ذات الرقاع. وقيل: لأن المسلمين رقعوا راياتهم فيها. وقيل: يحتمل أن هذه الأمور كلها وجدت فيها، وشرعت صلاة الخوف فيها، وقيل: في غزوة بني النضير، وتقدم ذكرنا لسبب نزول آية صلاة الخوف أول الباب، وأنه كان في عسفان سنة ست، والله أعلم. وأما الطائفة: فهي الفرقة والقطعة من الشيء، تقع على القليل والكثير، لكن قال الشافعي: أكره أن تكون الطائفة في صلاة الخوف أقلَّ من ثلاثة، فينبغي أن تكون الطائفة التي تكون مع الإمام ثلاثة فأكثر، والذين في وجه العدو كذلك، واستدل بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] إلى آخر الآية، فأعاد على كل طائفة ضمير الجمع، وأقل الجمع ثلاثة على المشهور، والله أعلم. وقوله: "وطائفة وجاه العدو" وهو -بكسر الواو وضمها-، يقال: وِجاهه ووُجاهه وتُجاهه؛ أي: قبالته. واعلم أن هذا الحديث اشتمل على أمرين مخالفين للصلاة المفعولة في الأمن: وهو جوازها إلى غير القبلة إذا كان العدو في غير جهتها. الثاني: انتظار الإمام قائمًا الطائفةَ الثانيةَ في الركعة الثانية ليصلوها ثم يسلموا جميعًا، وهذا في الصلاة الثانائية مقصورة كانت أو بأصل الشرع، وهذا مختار الشافعي، أما الرباعية: فهل ينتظرها قائمًا في الثالثة أو قبل قيامه؟ فيه اختلاف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3899)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1816)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذات الرقاع.

للفقهاء، وإذا قيل بأنه ينتظرها قبل قيامه، فهل تفارقه الطائفة الأولى قبل تشهُّدِه عند رفع رأسه من السجود، أو بعد التشهد؟ اختلف الفقهاء فيه، وليس في الحديث دلالة على أحد المذهبين، وإنما يؤخذ بطريق الاستنباط منه. قال: شيخنا القاضي أبو الفتح -رحمه الله تعالى-: ومقتضى الحديث -أيضًا- أن الطائفة الأولى تتم لأنفسها مع بقاء صلاة الإمام، وفيه مخالفة للأصول في غير هذه الصلاة، لكنه فيها ترجيح من جهة المعنى؛ لأنها إذا قضت وتوجهت إلى نحو العدو، وتوجهت فارغة من الشغل بالصلاة، وتوفر مقصود صلاة الخوف، وهو الحراسة على الصفة التي اختارها أبو حنيفة بتوجيه الطائفة للحراسة، مع كونها في الصلاة، فلا يتوفر المقصود من الحراسة، وربما أدى إلى أن يقع في الصلاة الضرب والطعن وغير ذلك من منافيات الصلاة، ولو وقع في هذه الصورة، لكان خارج الصلاة، وليس بمحذور، ومقتضى الحديث -أيضًا-: أن الطائفة الثانية تتم لنفسها قبل فراغ الإمام، وفيه ما في الأول، ومقتضاه -أيضًا-: أنه يثبت حتى تتم لنفسها ويسلم بهم، وهذا اختيار الشافعي، وقول في مذهب مالك، ثم ظاهر مذهب مالك أن الإمام يسلم، وتقضي الثانية بعد سلامه، وربما ادعى بعضهم أن ظاهر القرآن يدل على أن الإمام ينتظرهم ليسلم بهم؛ بناء على أنه فهم من قوله: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]؛ أي: بقية الصلاة التي بقيت للإمام، فإذا سلم الإمام بهم، فقد صلوا معه البقية، وإذا سلم قبلهم، لم يصلوا معه البقية؛ لأن السلام من البقية، وليس بالقوي الظهور، وقد يتعلق بلفظ الراوي من يرى أن السلام ليس من الصلاة من حيث إنه قال: فصلى بهم الركعة التي بقيت، فجعلهم مصلين معه بما يسمى ركعة، ثم أتى بلفظه، ثم ثبت جالسًا، فأتموا لأنفسهم، ثم سلم، فجعل لفظ السلام متراخيًا عن مسمى الركعة، إلا أنه ظاهر ضعيف، وأقوى منه في الدلالة ما دل على أن السلام من الصلاة، والعملُ بأقوى الدليلين متعين، هذا آخر كلامه -رحمه الله تعالى- (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 154).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الخَوْفِ، فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ خَلَفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والعَدُوُ بَيْنَنَا وَبينَ القِبْلَةِ، وَكَبَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيه، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ، وَتَأخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَرَفَعْنَا جَميعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأُوَلَى، فَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السُّجُودَ والصَّفُّ الَّذِي يَليهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا، قَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلاَءِ بِأُمَرَائهِمْ. ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِه، وَذَكَرَ البُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ، وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة السابقة غزوة ذات الرقاع (¬1). أما جابر، ونسبه، ونسبته، فتقدم ذكره جميعه. واعلم أن هذه الصلاة المذكورة كانت والعدو في جهة القبلة، وبهذه الكيفية قال الشافعي، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ويجوز عند الشافعي تقدُّم الصف وتأخر الصف الأول كما في هذا الحديث، ويجوز بقاؤهما على حالهما، وقد رواه مسلم في حديث ابن عباس، ولا شك أن الحراسة تتأتى للكل مع الإمام في الصلاة، ويتأتى فيها التأخير عن الإمام لأجل العذر، إذا ثبت هذا، فموضع الحراسة في السجود، وأما في الركوع، فالمشهور في مذهب الشافعي أنه ليس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3898)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (840)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف.

موضعها؛ لأنه لا يمنع من إدراك العدو بالبصر، فالحراسة ممكنة معه بخلاف السجود، وفيه وجه لبعض أصحاب الشافعي: أنه يحرس في الركوع -أيضًا-، والمراد بالسجود الذي سجده النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسجد معه الصف الذي يليه، هو السجدتان جميعًا. ثم الحديث يدل على أن الصف الذي يلي الإمام يسجد معه في الركعة الأولى، ويحرس الصف الثاني فيهما، ونص الشافعي على خلافه: وهو أن الصف الأول الذي يليه يحرس في الركعة الأولى، فقال بعض أصحابه: لعله سها، ولم يبلغه الحديث، وجماعة من العراقيين وافقوا الصحيح في مذهبه، ولم يذكر بعضهم سوى ما دل عليه الحديث؛ كأبي إسحاق الشيرازي، وبعضهم قال بذلك بناء على المشهور عن الشافعي: أن الحديث إذا صح يؤخذ به ويترك قوله، أما الخراسانيون فإن بعضهم تبع نص الشافعي؛ كالغزالي في "الوسيط" (¬1)، ومنهم من ادعى أن في الحديث رواية لذلك، ورجح ما ذهب إليه الشافعي بأن الصف الأول يكون جُنة لمن خلفه، ويكون ساترًا له عن أعين المشركين، وبأنه أقربُ إلى الحراسة، وهؤلاء مطالبون بإبراز تلك الرواية، والترجيح إنما يكون بعدها. ثم الحديث يدل على أن الحراسة يتناوبها الطائفتان في الركعتين، فلو حرست طائفة واحدة في الركعة معًا، ففي صحة صلاتهم خلاف للشافعي، والله أعلم. ولا شك أن في بعض طرق حديث جابر هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعتين، وهي صحيحة في "صحيح مسلم"، وغيره، ورواها أبو داود في "سننه" من رواية أبي بكرة - رضي الله عنه - (¬2)، فكانت الطائفة الثانية مفترضين خلف ¬

_ (¬1) كتاب: "الوسيط في الفروع" لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي، المتوفى سنة (505 هـ)، وهو أحد الكتب الخمسة المتداولة بين الشافعية، وله عدة شروح. انظر: "كشف الظنون" (2/ 2008). (¬2) رواه مسلم (843)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، عن جابر بن =

متنفِّل، وبه قال الشافعي، وهو محكيٌّ عن الحسن البصري، وادعى الطحاوي أنه منسوخ، ولا تقبل دعواه؛ إذ لا دليل لنسخه. واعلم أن الخوف لو كان أكثر مما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله فيه، فإنه يصلي على حسب حاله، راكبًا وقائمًا، يومئ إيماء، مستقبل القبلة وغيرَ مستقبلها، وهو قول ابن عمر، وبه أخذ مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وعامة العلماء، ويشهد له قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال بعض العلماء: بحسب ما يتمكن منه. وقال جماعة من الصحابة والسلف: يصلي في الخوف ركعة يومئ بها إيماء. وقال الضحاك: فإن لم يقدر على ركعة، فتكبيرتين حيث كان وجهه. وقال إسحاق: إن لم يقدر على ركعة إيماء، صلى سجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. وقال الأوزاعي نحوه إذا تهيأ الفتح، لكن إن لم يَقدِر على ركعة، ولا على سجدة، لم يجزئه التكبير، وأخرها حتى يؤمنوا. وهذه المذاهب كلها لها أصل صحيح من الكتاب والسنة، وهو قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتُكم بأمر فَأتوا منه ما استطعتُم" (¬1)، وهو مأمور بالصلاة على صفة من قيام وركوع وسجود وتكبير وتلاوة، فإذا تعذر بعضها، أتى بالباقي؛ محافظةً على امتثال الأمر، والله أعلم. ومنع مكحول وبعض أهل الشام من صلاة الخائف جمله متى لم يتهيأ له أن ¬

_ = عبد الله - رضي الله عنه -. ورواه أبو داود (1248)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 315)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 259)، عن أبي بكرة - رضي الله عنه -. (¬1) تقدم تخريجه.

يأتي بها على وجهها، ويؤخرها إلى أن يتمكنوا من ذلك، واحتجوا بتأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق، ولا حجة لهم فيه؛ لأن صلاة الخوف إنما شرعت بعد ذلك كما ذكرنا. واختلف الذين قالوا بالجواز للمطلوب في جواز ذلك للطالب: فمالك وجماعة من أصحابه على التسوية بينهما. وقال الشافعي، والأوزاعي، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن عبد الحكم: لا يصلي الطالب إلا بالأرض. ثم اختلفوا فيما يباح له من العمل في الصلاة، فجمهورهم على جواز كل ما يحتاج إليه في مطاردة العدو، وما يضطر إليه من ذلك؛ من مشي ونحوه، وقال الشافعي: إنما يجوز له من ذلك المشي اليسير، والطعنة والضربة، فأما ما كثر، فلا تجزئه الصلاة، ونحوُه عن محمد بن الحسن، والله أعلم. * * *

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز الجنائز -بفتح الجيم- جمع جنازة -بكسر الجيم وفتحها-، وقيل: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش عليه ميت، وقيل: عكسه، حكاه صاحب "المطالع"، وقال ابن فارس: الجنازة مشتقة من جنز يجنز: إذا ستر (¬1). الحديث الأول عَنْ أَبيِ هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّجَاشِيَّ في اليَوْم الَّذِي مَاتَ فَيْهِ، وَخَرَجَ بهِمْ إلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكبَّرَ أَرْبَعًا (¬2). تقدم ذكر أبي هريرة. وأما النجاشي: وهو -بفتح النون وبالجيم والشين المعجمة وتشديد الياء-، لقبٌ لكل من ملكَ الحبشة، ومعناه بالعربية: عَطِيَّة، فيما ذكره ابن قتيبة، قال جماعة من الأئمة أهل العربية وغيرهم، وكلامُهم متداخل: كلُّ من ملك المسلمين يقال له: أمير المؤمنين، ومن ملك الحبشة: النجاشي، ومن ملك الروم: قيصر، ومن ملك الفرس: كسرى، ومن ملك الترك: خاقان، ومن ملك ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 94). (¬2) رواه البخاري (1188)، كتاب: الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ومسلم (951)، كتاب: الجنائز، باب: في التكبير على الجنازة.

القبط: فرعون، ومن ملك مصر: العزيز، ومن ملك اليمن: تُبَّع، ومن ملك حمير: القيل -بفتح القاف-. وقيل: القيل أقل درجة من الملك. واسم النجاشي: أَصْحَمَة -بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء المهملتين-، وقيل: صحمة -بفتح الصاد وإسكان الحاء-، وحكى الرافعي في "شرح مسند الشافعي": أنه يقال: أَصْمَحَة -بتقديم الميم على الحاء- أصمحة، ولعله تصحيف، وقيل: صمحة -بتقديم الميم على الحاء بلا ألف-، قاله ابن أبي شيبة في "مسنده"، وهو شاذ، والله أعلم. واعلم أن النجاشي تابعي؛ لأنه آمن، رأى الصحابة، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه المسألة تلقى في المعاياة، فيقال: شخص صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه، وهو تابعي، فيقال: هو النجاشي، قاله أعلم (¬1). وقوله: "نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي"، اعلم أن النعي على ضربين: أحدهما: مجرد إعلام لمقصد ديني؛ مثل: طلب كثرة الجماعة تحصيلًا للدعاء للميت وتتميمًا للعدد الذي وعد بقبول شفاعتهم له؛ كالأربعين والمئة مثلًا، أو لتشييعه وقضاء حقه في ذلك، وقد ثبت في معنى ذلك قوله: - صلى الله عليه وسلم - "هَلَّا آذنتموني به" (¬2)، ونعيه - صلى الله عليه وسلم - أهل مؤتة. وضرب فيه أمر محرم: مثل نعي الجاهلية المشتمل على مفاخر الميت ومآثره، وإظهار التفجع عليه، وإعظام حال موته، فالأول مستحب، والثاني محرم. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 63)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 22)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 205). (¬2) رواه البخاري (446)، كتاب: المساجد، باب: كنس المساجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، ومسلم (956)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وفي الحديث أحكام: منها: الإعلام بالميت للمقصد الديني. ومنها: إثبات الصلاة على الميت، وأجمع العلماء على أنها فرض كفاية، واختلفوا في القدر الذي يسقط به، فقال أصحاب الشافعي: تسقط بصلاة واحد، وهو الصحيح عندهم، وقيل: يشترط اثنان، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة. وأما صلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي: فكانت متعينة؛ حيث مات بأرض لم تقم بها فريضة الصلاة عليه، فتعين الإعلام بموته لذلك، وهكذا الحكم في كل مسلم مات ولم يُصَلَّ عليه؛ فإنه يتعين على كل من علم بموته الصلاة عليه. ومنها: معجزة ظاهرة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لإعلامه بموته وهو في الحبشة في اليوم الذي مات فيه. ومنها: شرعية الصلاة على الميت الغائب، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله -، وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة وغيرهما، وقالا: لا يصلى على الغائب، ويحتاجون إلى الاعتذار عن الحديث، ولهم اعتذارات: منها: ما ذكر أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي كانت متعينة. والثاني: ما قيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - رآه، فيكون حين صلاته عليه كميت رآه الإمام ولم يره المأمومون، وهذا يحتاج إلى نقل يثبته، فمثله لا يثبت بالاحتمال. ومنها: الخروجُ إلى المصلى للصلاة على الميت الغائب من غير كراهة، وقد تمسك به الحنفية في منع الصلاة على الميت في المسجد، وبجعل الكراهة في الصلاة على الميت في المسجد مطلقة، ولا يتم لهم ذلك إلا أن تخص الكراهة في الميت يكون في المسجد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد (¬1)، ومعلوم أن موته كان خارج المسجد، وحمل إلى المسجد للصلاة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (973)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الجنازة في المسجد، عن عائشة - رضي الله عنها -.

عليه فيه، والخروج إلى المصلى للصلاة على النجاشي أبلغ في إظهار أمره المشتمل على هذه المعجزة الباهرة، ولإكثار المصلين عليه، ومذهب جمهور العلماء جواز الصلاة على الميت في المسجد مطلقًا، ولا يتم لهم الاستدلال منه على الكراهة على الصلاة عليه فيه أصلًا؛ لأن الممتنع عندهم إنما هو إدخاله إلى المسجد، لا مجرد الصلاة عليه فيه. ومنها: أن سنة تكبيرات صلاة الجنازة أربع، وهو مذهب الشافعي وجمهور العلماء، ونقل إجماعهم عليه، وخالف الشيعة في ذلك، وقالوا: يكبر خمسًا، وقد وردت به أحاديث مرفوعة، لكنها غير ثابتة كثبوت التكبير أربعًا، وبتقدير ثبوتها، فالتكبير أربعًا متأخر عنها، وهو مروي عن ابن عباس؛ أعني: التكبير أربعًا كان متأخرًا عن التكبير خمسًا، ومعلوم أن الأخذ عنه كان بالآخر فالآخر من أمره - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن بعض المتقدمين أنه كبر على الجنازة ثلاثًا، وهذا الحديث يرده، واختلف الصحابة فيه من ثلاث إلى تسع، ثم وقع الاتفاق على الأربع كما بينا، ونسخ ما عنداه. ومنها: استحباب الصفوف، والأمر بها في صلاة الجنازة؛ لقوله: فصف بهم، وقد ثبت في الصحيح من كتب السنن: "من صلى عليه ثلاثةُ صفوفٍ لا يشركون بالله شيئًا إلَّا شَفَّعهم اللهُ فيه" (¬1)، ولم يقع في الأحاديث الصحيحة السلامُ من صلاة الجنازة على الخصوص، لكن يستدل عليه بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحريم الصلاةِ التكبيرُ، وتحليلها التسليم"، وهو حديث صحيح أجمع العلماء عليه، لكن قال الجمهور منهم: يسلم تسليمة واحدة، وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من السلف: يسلم تسليمتين. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3166)، كتاب: الجنائز، باب: في الصفوف على الجنازة، والترمذي (1028)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، وابن ماجه (1490)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء فيمن صلّى عليه جماعة من المسلمين، عن مالك بن هبيرة - رضي الله عنه - بلفظ: "من صلّى عليه ثلاثة صفوف، فقد أوجب".

الحديث الثاني

وهل يجهر الإمام بالسلام أو يسرُّ به؟ قال الشافعي: يسر، وقال أبو حنيفة: يجهر، وعن مالك روايتان، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَو الثَّالِثِ (¬1). في هذا الحديث استحباب أن تكون الصفوف على الميت أكثر من واحد، وهو بعض من الحديث الأول، وثبت عن بعض العلماء من الصحابة أو التابعين: أنه كان إذا حضر الناس الصلاة على الميت، صفَّهم صفوفًا؛ طلبًا لقبول الشفاعة؛ للحديث الذي ذكرناه قريبًا من كتب السنن، وهذا الحديث الثاني لعله من هذا القبيل، فإن الصلاة كانت في الصحراء، ولعلها لا تضيق من صف واحد، ويمكن أن يكون لغير ذلك، والله أعلم. وفيه: التثبت فيما يقوله الإنسان ويحكيه، خصوصًا إن كان لتبيين حكم، أو تعليم أدب؛ فإن جابرًا لما ذكر أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي كانت بصفوف وراءه، وأنه كان في الصف الثاني أو الثالث، حكى الحال على ما هو في ذهنه من غير زيادة ولا نقص. وفيه: الصلاة على الغائب، خصوصًا إذا علم عدم الصلاة عليه. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1254)، كتاب: الجنائز، باب: من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام، ومسلم (952)، كتاب: الجنائز، باب: في التكبير على الجنازة، وهذا لفظ البخاري.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ مَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا (¬1). تقدم الكلام على ابن عباس، وهذا القبر الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون قبر السوداء التي كانت تَقُمُّ المسجد، ويحتمل غيره إلا أن يأتي بيان. وبالجملة ففي الحديث دليل على جواز الصلاة على القبر بعد دفن الميت، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وموافقيه، وسواء كان صلى عليه أم لا. ومنعَ الصلاةَ على القبر أصحابُ مالك مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه القبورَ مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله تعالى ينورها بصلاتي عليهم" (¬2)، فقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وغيره لا بعلمه مخصوصًا به، وهذا ليس بشيء لوجوه: أحدها: إنا لا نسلم أن المراد بصلاته عليهم الصلاة المعهودة، وإن كان سياق الحديث يدل على إرادته، بل المراد مجرد الدعاء، فيكون دعاؤه بخصوصيته مجردًا عن الصلاة هو الذي يحصل تنويرها به لتحقق استجابته، لا مطلق الصلاة الذي هو المجموع، لكن يقال: استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أبلغ منها في غيرها. الثاني: وإن كنا لم نعلم الخصوصية به لجواز الصلاة على القبر، لكنا نظنه، ونرجو فضل الله -سبحانه- ودعاء المسلمين لمن صلوا عليه. الثالث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "من صلى عليه مئةٌ -أو: أربعون- من المسلمين، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1262)، كتاب: الجنائز، باب: صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، ومسلم (954)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 150)، والدارقطني في "سننه" (2/ 77)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 46)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (5/ 117) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

شفعوا فيه" (¬1)، فقد أعلمنا أن ذلك يكون من غيره. الرابع: أنه كان يلزم منه ألَّا يصلي على ميت بعده - صلى الله عليه وسلم -؛ لإمكان الخصوصية فيمن صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا باطل، فإن قيل: الخصوصية في جواز صلاته - صلى الله عليه وسلم - على القبر إنما كانت لكونه ولي المؤمنين وواليهم، فيختص جواز الصلاة على القبر بالوالي والولي إذا لم يصليا على الميت، فالجواب أن هذا المذكور خارج عن محل الخلاف، كيف وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من أصحابه معه على القبر ولم ينكر عليه؟! لكن هذا يحتاج إلى نقل من حديث آخر ليس في هذا الحديث ذكرٌ له. وفيه: بيان ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التواضع والرفق بأمته، وتفقد أحوالهم والقيام بحقوقهم في الحياة والموت، والاهتمام بمصالح آخرتهم ودنياهم. وفيه: دليل على أن التكبير في الصلاة على الميت أربع، قال ابن عبد البر: وانعقد الإجماع بعد الاختلاف على الأربع، وما سواه شذوذ لا يلتفت إليه، قال: ولا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار يخمِّس إلا ابن [أبي] ليلى، والله أعلم. واعلم أنه لم يذكر في هذه الأحاديث ما يقرأ في صلاة الجنازة، وقد اختلف العلماء في قراءة الفاتحة فيها، فذهب مالك -في المشهور عنه- وأبو حنيفة، والثوري إلى عدم قراءتها، وكأنهم تمسكوا بظاهر ما خرجه أبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا صَلَّيتم على الميتِ، فأَخْلِصوا له الدعاءَ" (¬2)، وبأن مقصود هذه الصلاة إنما هو الدعاءُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (947)، كتاب: الجنائز، باب: من صلى عليه مئة شفعوا فيه، عن عائشة - رضي الله عنها - بلفظ "المئة". ورواه مسلم -أيضًا- (948)، كتاب: الجنائز، باب: من صلّى عليه أربعون شفعوا فيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "الأربعين". (¬2) رواه أبو داود (3199)، كتاب: الجنائز، باب: الدعاء للميت، وابن ماجه (1497)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنازة، وابن حبان في "صحيحه"، (3076)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 40).

واستفراغُ الوُسْع بعمارة أحوال تلك الصلاة في الاستشفاع للميت. وذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن مسلمة، وأشهب من أصحاب مالك، وداود إلى أنه يقرأ فيها بالفاتحة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬1)؛ حملًا على عمومه، وقد خرج ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" في هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بأمِّ القرآن" (¬2)، وقد خرج البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: ليعلموا أنها سنة (¬3)، وخرج النسائي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في الأولى بأم القرآن مخافتةً، ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة (¬4)، وذكر الإمام محمد بن نصر المروزي عن أبي أمامة -أيضًا- قال: السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم (¬5). هذان الحديثان صحيحان، وهما ملحقان عند الأصوليين بالمسند، والعمل على حديث أبي أمامة أولى؛ إذ فيه جمع بين عموم قوله: لا صلاة، وبين إخلاص الدعاء للميت، وقراءة الفاتحة فيها لم هي استفتاح الدعاء، ففي حديث أبي أمامة وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وبه قال الشافعي -رحمه الله تعالى-، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (1270)، كتاب: الجنائز، باب: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة. (¬4) رواه النسائي (1989)، كتاب: الجنائز، باب: الدعاء، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 359)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 500)، والطبراني في "مسند الشاميين" (3000)، وابن الجارود في "المنتقى" (540)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 39). (¬5) انظر: تخريج الحديث المتقدم.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ (¬1). أما قولها: "يمانية"، فهو بتخفيف الياء، على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما لغة في تشديدها، ووجه الأول: أن الألف بدل من ياء النسب، فلا يجتمعان، بل يقال: يمنية أو يمانية بالتخفيف، وكانت الأثواب من قطن (¬2). وقولها: "ليس فيها قميص ولا عمامة" معناه لم يكفن في قميص ولا عمامة، وإنما كفن في ثلاثة أثواب غيرهما، ولم يكن مع الثلاثة شيء آخر، هكذا فسره الشافعي وجمهور العلماء، وهو مقتضى ظاهر الحديث، حتى قالوا: ولا يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة، وقال مالك وأبو حنيفة: يستحب قميص وعمامة، وتأولوا الحديث على أن معناه ليس القميص والعمامة من جملة الثلاثة، وإنما هما زائدان عليها، وهو ضعيف؛ لعدم ثبوته في الحديث، بل يتضمن أن القميص الذي غسل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - نزع عنه عند تكفينه، ولا يتجه غير ذلك؛ لأنه لو كفن فيه مع رطوبته، لأفسد الأكفان. وأما الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه" من رواية ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كُفِّن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان، وقميصه الذي توفي فيه (¬3)، فهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن أبي زياد أحدَ رواته مجمَعٌ على ضعفه، لا سيما وقد خالف رواية الثقات. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1205)، كتاب: الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن، ومسلم (941)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن الميت. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 304). (¬3) رواه أبو داود (3153)، كتاب: الجنائز، باب: في الكفن، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 222)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 304).

الحديث الخامس

وفي هذا الحديث فوائد: منها: استحباب التكفين في ثلاثة أبواب، وقد ثبت في الصحيح أنها كانت سوابغ، قال العلماء: وأقل الواجب فيه ثوبٌ واحد ساتر لجميع البدن، وما زاد مستحبة. ومنها: أن الورثة لا يضايق بعضهم بعضًا، بل كل من رأى تكفين الميت في المستحب يجاب، ولا يمنع، بل يتبع. ومنها: استحباب كونها يمانية من قطن. ومنها: كراهة القميص والعمامة في الأكفان. ومنها: الاقتداء بآثاره - صلى الله عليه وسلم - في حياته وموته، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَت: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، واجْعَلْنَ في الأَخِيرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ، فآذِنَّنِي"، فَلمَّا فَرَغْنَا، آذَنْاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا بِهِ"؛ يَعْنِي: إزَارَه -وَفي رِوَايَةٍ: "أَوْ سَبْعًا"-، وَقَالَ: "ابْدَأْنَ بمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوضُوءِ مِنْهَا"، وإنَّ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وجَعَلْنَا رَأسَهَا ثَلاَثَةَ قُرُونٍ (¬1). أما أم عطية، فتقدم الكلام عليها في آخر باب العيدين. وأما الابنة التي توفيت، فهي زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو المشهور الذي رواه مسلم في "صحيحه"، وروى أبو داود في "سننه" من حديث ليلى بنت قانف الثقفية: أن التي غسلتها أم عطية هي أم كلثوم - رضي الله عنها - (¬2)، وذكره القاضي عياض عن بعض أهل السير، والأول أصح، ويحتمل أنها غسلت هذه، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1196)، الجنائز، باب: ما يستحب أن يغسل وترًا، ومسلم (939)، كتاب: الجنائز، باب: في غسل الميت. (¬2) رواه أبو داود (3157)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن المرأة.

وهذه؛ فإن أم عطية كانت غاسلة للميتات، وكانت من فاضلات الصحابيات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا" معناه: اغسلنها وترًا، وليكن ثلاثًا، فإن احتجتن إلى زيادة للإنقاء، فليكن خمسًا، على أن الإيتار مطلوب في غسل الميت، فإن حصل تعميمه وإنقاؤه بواحدة، كانت الثلاث مأمورًا بها ندبًا، وإن لم يحصل ذلك بواحدة، وحصل بالثلاث، كانت الثلاث واجبة، وندب الخمس، وقد اختلف أصحاب الأصول في جواز إرادة المعنيين المختلفين بصيغة الأمر؛ فقوله: "اغسلنها" صيغةُ أمر بالغسل، وقوله: "ثلاثًا" غير مستقل بنفسه، فإذا حصل المقصود بواحدة، كان قوله: "ثلاثًا أو خمسًا" غير داخل تحت صيغة الأمر بأصل الغسل، فيكون المراد به الاستحباب، فالوجوب مراد بالنسبة إلى أصل الغسل، والاستحباب بالنسبة إلى الإيتار عند عدم الحاجة إلى الزيادة على الواحدة أو الثلاث، وقد رواه مسلم بروايات: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا، أو أكثر من ذلك"، "اغسلنها وترًا: ثلاثًا أو خمسًا"، ولم يذكر الواحدة؛ لخروج الحديث على الغالب في الإنقاء والتعميم، لا على التحديد بعدد، ولهذا جعله - صلى الله عليه وسلم - مفوضًا إليهن على حسب الحاجة الشرعية، لا مجردة بحسب التشهي؛ فإن الأمر الوارد من الشرع يصان عن التشهي، خصوصًا إذا كان موصوفًا بصفة؛ لوجود الإسراف في التشهي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن رأيتن ذلك"، فالكاف من "ذلكِ" مكسورة خطابًا لأم عطية - رضي الله عنها -، وأتى بالنون الثقيلة لجميع النساء؛ حيث إن الغسل لا يتعاطاه إلا جماعة منهن، لكن نظر المصلحة الشرعية قد يكون لواحدة منهن، فيحسن جمعهن في الرواية، وإفراد أم عطية في الخطاب، ومعنى ذلك: إن احتجن إلى الزيادة، وليس معناه التخيير والتفويض إلى شهوتهن. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بماء وسدر" قد يوهم هذا اللفظ أن الماء المختط بالسدر يجوز التطهير به من غير ماء مطلق، وليس هو ظاهرًا في امتزاج السدر بالماء حال التطهير، بل يحتمل اجتماعهما في الغسل من غير مزج، ويكون أحدهما واردًا على الآخر، فيزول توهم جواز ذلك.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واجعلن في الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور" الحكمة في الكافور في غسل الميت الحفظُ لبدنه، ولعل ذلك السبب في جعله في الأخيرة؛ فإنه لو جعل في غسل غيرها من الغسلات قبلها، لأذهبه، فلا يحصل المقصود من ذلك، مع ما فيه من تطييب الميت وإكرامه وتبريد بدنه وتصليبه، وذلك يمنع إسراع الفساد إليه. وقولها: "فأعطانا حِقْوهُ " -بكسر الحاء وفتحها- لغتان: وهو الإزار، وأصل الحقو معقدُ الإزار، وسمي به الإزار مجازًا؛ لملازمته إياه، وهو من باب تسمية الشيء باسم ما يلازمه، وجمع الحقو: أَحْقٍ وحِقًى، ويجمع -أيضًا- على أحقاء؛ كدلو وأدلاء ودِلًى (¬1). وقولها: فقال: "أشعرنها إياه" معناه: اجعلنه شعارًا لها، والشعار ما يلي الجسد، والدثار ما فوقه، والحكمة في إشعارها به تبريكها بآثاره - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" هذا أمر بإكرام ميامن الميت، ومواضع الطهارة من بدنه؛ تشريفًا لها على سائر البدن، فإن البدأة بالشيء يقتضي الاهتمام به، لكن إذا فعل ذلك، هل هو وضوء حقيقي، أو هو جزء من الغسل خُصت به المذكورات من الميامن ومواضع الوضوء تشريفًا؟ فيه كلام. قولها: "وجعلنا رأسها ثلاثة قرون"؛ أي: ثلاث ضفائر، وتضمن ذلك تسريح شعر الميت وضفره. وفي هذا الحديث أحكام كثيرة: منها: أن العالم يجب عليه الابتداء بتعليم العلم إذا علم أن العامل يجهل ذلك العلم، أو يقصر في العمل به. ومنها: أن النساء أحقُّ بغسل الميتة من زوجها، وقد يمنع ذلك من يتحقق أن ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 46)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 275)، و"لسان العرب"، لابن منظور (14/ 190)، (مادة: حقو).

زوج زينب كان حاضرًا في وقت وفاتها، لا مانع له من غسلها، وأنه لم يفوض الأمر إلى النسوة، ومذهب الشافعي والجمهور أن للزوج غسل زوجته، وقال الشعبي والثوري وأبو حنيفة: لا يجوز له غسلها، واختلف أصحاب الشافعي في أن النساء أحقُّ بغسل الميتة من زوجها على وجهين: أصحهما عندهم: أنهن أحق به منه، وأجمع العلماء على أن لها غسل زوجها. ومنها: أن بعض العلماء استدل بهذا الحديث على أنه لا يجب الغسل من غسل الميت من حيث إنه موضع تعليم، فلو وجب، لذكره، وعدم الوجوب مذهب الشافعي والجمهور، ولكن قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوبه، وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه، وجمهور العلماء على استحبابه، وفي مذهب الشافعي وجه شاذ مردود: أنه واجب، وليس بشيء، والحديث المروي فيه من رواية أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتا فليغتسلْ، ومن مَسَّهُ فليتوضأ" (¬1) ضعيف بالاتفاق. ومنها: شرعية الإيتار في غسل الميت على حسب الحاجة. ومنها: تفويض الحاجة في ذلك إلى الغاسل على حسب المصلحة الشرعية من غير إسراف. ومنها: أنه ينبغي للعالم إذا علم أمرًا يتعلق بالمأمور به لا يمكن الائتمار به إلا بالفعل على صورة أن يقيد الأمر والتعليم بغاية ليوضع موضعه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا فرغتنَّ فآذنني"؛ أي: أَعلمنني. ومنها: أنه ينبغي للمأمور التقيد بالأمر فورًا وغاية. ومنها: استحباب السدر في غسل الميت، وهو متفق على استحبابه، ويكون في المرة الواجبة، وقيل: يجوز فيها. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (993)، كتاب: الجنائز، باب: في الغسل من غسل الميت، وقال: حسن، وابن ماجه (1463)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 454)، وابن حبان في "صحيحه" (1161).

الحديث السادس

ومنها: استحباب شيء من الكافور في الغسلة الأخيرة، وهو متفق عليه عند الشافعية ومالك وأحمد، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يستحب، وهذا الحديث حجة عليه. ومنها: تبريك الرجل الصالح أقاربه وأصحابه بشيء من آثاره، خصوصًا في الموت وأسبابه، وقبول ذلك منه. ومنها: جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل. ومنها: استحباب مشط رأس الميت وضفره، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال الأوزاعي والكوفيون: لا يستحب المشط ولا الضفر، بل يرسل الشعر على جانبيها مفرقًا، وقال بعض أصحاب الشافعي بجعل الثلاث خلف ظهرها، وروى في ذلك حديثًا غريبًا أثبت استحبابه به. ومنها: استحباب تقديم الميامن في غسل الميت وسائر الطهارات، ويلحق بذلك أنواع الفضائل. ومنها: استحباب وضوء الميت، وهو عند الشافعية في أول الغسل كما في وضوء الجنب، وباستحباب وضوء الميت قال مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يستحب، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرفَةَ، إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ، أو قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا" (¬1)، وفي رواية: "ولاَ تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1206)، كتاب: الجنائز، باب: الدفن في ثوبين، ومسلم (1206)، (2/ 15)، كتاب: الجنائز، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات. (¬2) رواه مسلم (1206)، (2/ 866)، كتاب: الجنائز، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات، بلفظ: "ولا تخمروا رأسه ولا وجهه".

قال المصنف - رحمه الله -: الوَقْصُ: كسر العنق. تقدم الكلام على ابن عباس. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تحنطوه" فهو بالحاء المهملة؛ أي: لا تمسوه حَنوطًا، والحنوط -بفتح الحاء المهملة-، ويقال له: الحِناط -بكسر الحاء-، وهو أخلاط من طِيب يُجمع للميت خاصة، لا يستعمل في غيره (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تخمروا رأسه"؛ أي: لا تغطوه، والتخمير: التغطية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" معناه: على هيئته التي مات عليها؛ ليكون ذلك علامة لحجه، ودلالة على فضيلته؛ كما يجيء الشهيد يوم القيامة وأوداجه تشخب دمًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه" لم يقل مالك وأبو حنيفة ومن قال بقولهما: إن المحرم إذا مات لا يمتنع ستر رأسه ووجهه؛ لأنه بالموت انقطع عنه حكم الحياة؛ لانقطاع العبادة بزوال حكم التكليف هو القياس، وقال الشافعي وأصحابه: يباح ستر وجهه، ولا يحرم، ويحرم تغطية رأسه، ويبقى كما كان في الحياة، فيتأول الحديث على أن النهي عن تغطية الرأس الوجه ليس مقصودًا لذاته، بل لكونه لازمًا لتغطية الرأس غالبًا، والعمل بالحديث إذا صح مقدم على القياس، وهذا متعين، ويجعل مالك وأبو حنيفة أن هذا الحكم خاص بالمحرم المذكور في الحديث؛ حيث علله - صلى الله عليه وسلم -: بأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، ولا يعلم وجود ذلك في غير هذا المحرم لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحكم إنما يعم بعموم علته، لكن هذه العلة تقتضي الخصوصية، والأصل أن ما ثبت لشخص في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت لغيره حتى يدل الدليل على خلافه، ولم يثبت خلافه، كيف وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُبعث المرءُ على ما مات عليه" (¬2)، وهذا عام في كل صورة ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 203)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 450)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 130). (¬2) رواه مسلم (2878)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى =

الحديث السابع

ومعنى، فاقتضى ذلك تعليق هذا الحكم لأجل الإحرام؛ حيث مات محرمًا، فيعم كل محرم، كيف والتلبية من لوازم الإحرام؟! والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة: منها: أن حكم الإحرام باق في الميت المحرم، وهو مذهب الشافعي كما تقدم. ومنها: أن الميت المحرم يجب غسله وتكفينه. ومنها: جواز التكفين في الثياب الملبوسة، وهو مجمع عليه. ومنها: جواز التكفين في ثوبين، لكن الأفضل ثلاثة. ومنها: أن الكفن مقدم على الدَّيْن وغيره؛ حيث لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دين مستغرق، ولا غيره، وتركُ الاستفصال في حكاية الحال ينزل منزلة العموم في المقال. ومنها: أن الكفن للميت واجب بالإجماع، وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه. ومنها: استحباب دوام التلبية في الإحرام. ومنها: التنبيه والتحريض على لقاء الله تعالى بحالة تناسب العبودية؛ لتكون شاهدًا لصاحبها يوم القيامة، والله أعلم. * * * الحديث السابع عَنْ أمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةِ - رضي الله عنها - قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا (¬1). هذا الحديث حكمه حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النهي لا يجوز أن يضاف إلى غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = عند الموت، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬1) رواه البخاري (1219)، كتاب: الجنائز، باب: اتباع النساء الجنائز، ومسلم (938)، كتاب: الجنائز، باب: نهي النساء عن اتباع الجنائز.

وقولها: "ولم يعزم علينا"؛ أي: لم يؤكَّد علينا في المنع من اتباع الجنائز ما وُكِّد علينا في غيره، فلم نؤمر فيه بعزيمة، والعزيمة دالة على التأكيد، فكأنها قالت: كُره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم، وقال بعض الأصوليين: العزيمة: ما أُبيح فعلُه من غير قيام دليل المنع، والرخصة: ما أبيح فعله مع قيام دليل المنع، وهذا خلاف ما دل عليه هذا الحديث، وهو مخالف -أيضًا- لما دل عليه الاستعمال اللغوي من إشعار العزم بالتأكيد؛ فإن هذا القول يدخل تحته المباح الذي لا يقوم دليل الحظر عليه. وقد وردت أحاديث في التشديد في اتباع النساء أو بعضهن للجنائز أكثر مما يدل عليه هذا الحديث، والذي جاء عن فاطمة - رضي الله عنها - من ذلك إما أن يكون لعلو منصبها، وحديث أم عطية هذا في عموم النساء، أو يكون الحديثان محمولين على اختلاف حالات النساء، وقد أجاز مالك اتباعهن للجنائز، وكرهه للشابة في الأمر المستنكر، وخالفه غيره من أصحابه، فكرهه مطلقًا؛ لظاهر النهي، والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد منها: أن النهي إذا بُني لما لم يسمَّ فاعله من النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاف إلى الله تعالى دون غيره. ومنها: كراهة اتباع النساء الجنائز من غير تحريم. قال القاضي عياض - رحمه الله -: قال جمهور العلماء بمنعهن من اتباعها، وأجازه علماء المدينة، قلت: فإن اقترن باتباعهن لها محرم، أو جر إلى مفسدة، كان حرامًا شديد التحريم. ومنها: التفرقة بين نهي التنزيه والتحريم في عرف الصحابة بالنسبة إلى العلم، وأما بالنسبة إلى العمل، فلم يفرقوا فيه، بل كانوا يجتنبون المكروه تنزيهًا وتحريمًا مطلقًا، لا لضرورة بيان من اعتقاد أو إلجاء إلى ارتكاب محرم، فيفعلون المكروه تنزيهًا خلوصًا من المحرم، ومن استقرى فعلهم وقولهم وقواعد الشرع، وجد الأمر كما ذكرته، والله أعلم.

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ، فَإنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ، وَإنْ تَكُ غَيْرَ صَالِحَةٍ، فَشَرٌّ تَضَعُونَه عَنْ رِقَابِكُمْ" (¬1). قد تقدم أن الجِنازة -بفتح الجيم وكسرها- لغتان مطلقًا، يقال: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش، فيكون الفتح للأعلى، والكسر للأسفل، فينبغي أن تقرأ هنا: أسرعوا بالجنازة بالفتح؛ لأن المراد به الإسراع بالميت، فهو المقصود. واعلم أن المراد بالإسراع: الإسراعُ في المشي بالميت إلى المدفن، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: "فخير تقدمونها إليه، أو شر تضعونه عن رقابكم"، وقيل: يعني به الإسراع بتجهيز الميت بعد موته، لئلا يتغير، لكن الأول أظهر، ثم لا يبعد أن يكون كل واحد منهما مطلوبًا؛ إذ مقتضاه مطلق الإسراع؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقيده بقيد، والله أعلم. ثم الخطاب بالإسراع للرجال دون النساء؛ لأنهم أقوى للحمل، والنساء ضعيفات، وربما انكشف من الحامل بعض بدنه. ثم الإسراع بالميت مطلوب بشرط إلَّا يكون على هينة مزرية، ولا يؤدي إلى انفجاره أو سقوطه ونحو ذلك، قد جعل الله لكل شيء قدرًا، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في الإسراع بقوله: "فإن تك صالحة إلى آخره"، والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد: منها: الأمر بالإسراع على ما ذكرنا، وقد كره بعض السلف الإسراع، وهو محمول على الإسراع المحذور. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1252)، كتاب: الجنائز، باب السرعة بالجنازة، ومسلم (944)، كتاب: الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة.

الحديث التاسع

ومنها: إكرام أهل الخير والصلاح إذا ماتوا بالمبادرة إلى الوصول إلى جزاء ما قدموه من الأعمال الصالحة، وجزاؤها من فضل الله تعالى ورحمته. ومنها: تقليل مصاحبة أهل الشر، إلا فيما وجب بسببهم من بعد موتهم؛ لبعدهم عن رحمة الله تعالى، فلا مصلحة في مصاحبتهم، وكذا ينبغي اجتناب مصاحبة أهل البطالة وغير الصالحين، ومما ابتلي به الناس في هذه الأزمان في جنائزهم المشي معها متماوتين زائدًا على السكينة والوقار بهما في غيرها من الحالات، وتأخير الإسراع بها بحضور بعض الظلمة، أو صلاته عليها، أو تكرير الصلاة عليها مرة بعد أخرى لغير مقصود أو عذر شرعي، وكل هذا مخالف للسنة، بعيد من حالة الموت والاعتبار بها، والله يعلم المفسد من المصلح، والمنتفع من المتضرر، وجالب الخير من مانعه، وهو سبحانه أعلم بكل شيء، سبحانه لا يُحصى ثناءٌ عليه كما أثنى على نفسه. * * * الحديث التاسع عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّيتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسْطَهَا (¬1). تقدم الكلام على سمرة بن جندب. وأما هذه المبهمة في الحديث، فقد ذكرها النسائي في "سننه"، وقال: هي أم كعب (¬2)، وأما النفاس: فهي -بكسر النون-، وهو الدم الخارج بعد الولد، مأخوذ من النفس، وهي الدم، أو لأنه يخرج عقب النفس (¬3)، وليس هذا مرادًا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1266)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، ومسلم (964)، كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه؟ (¬2) رواه النسائي (393)، كتاب: الحيض والاستحاضة، باب: الصلاة على النفساء. (¬3) انظر: "المُغرب" للمطرزي (2/ 318)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 45)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 280)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 238)، (مادة: نفس).

بقوله: ماتت في نفاسها، بل المراد: ماتت قبل خروج الولد في نفاسها، وعلى هذا تأوله بعض من منع القيام على جنازة المرأة على وسطها في الصلاة، وقال: إنما قام - صلى الله عليه وسلم - وسط هذه المرأة من أجل جنينها حتى يكون أمامه. وقوله: فقام وسْطها، فهو -بسكون السين-، هكذا الرواية فيه، وكذا قيده الحفاظ، وقيده بعضهم بالسكون والفتح معًا بمعنى واحد، والصواب: أن الساكن ظرف، والمفتوح اسم، فإذا قلت: حفرت وسط الدار بئرًا، كان معناه: حفرت في الجزء المتوسط منها، ولا نقول: حفرت وسَط الدار بالفتح إلا أن تعم الدار بالحفر، وعلى هذا فالصواب في الرواية السكون (¬1). وكون هذه المرأة ماتت في نفاسها هو وصف غير معتبر بالاتفاق، وهو حكاية أمر وقع، وأما وصف كونها امرأة، فهل هو معتبر أم لا؟ من الفقهاء من ألغاه، وقال: يقام عند وسط الجنازة مطلقًا، ذكرًا كان أو أنثى، ومنهم من خص ذلك بالمرأة كي يسترها عن الناس، وأما الرجل، فعند رأسه، وهو مذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي يوسف، وقال ابن مسعود بعكس هذا، وذكر عن الحسن التوسعة في ذلك، وبها قال أشهب، وابن شعبان من أصحاب مالك، وقال أصحاب الرأي: يقوم فيها حذاء الصدر، ولا شك أن النساء لم يكن يسترن في ذلك الوقت بما يسترن به اليوم، لكن الفعل إذا شرع لمعنى، ثم زال ذلك المعنى، بقي الحكم فيه كما كان، وإن لم يوجد معنى السبب؛ كالرّمَل في الطواف وغيره. وقد روى أبو داود وغيره ما يرفع الخلافَ: عن أنس - رضي الله عنه -: أنه صلى على جنازة، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة! هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الجنائز كصلاتك؛ يكبر عليها أربعًا، يقوم عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؟ قال: نعم. وهذا الحديث يدل على مشروعية مقام الإمام كذلك، وهل يبطل تأويل من ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 295).

الحديث العاشر

تأول أن مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وسط جنازة أم كعب إنما كان من أجل جنينها كما تقدم، والله أعلم. وأجمع العلماء على أنه لا يقوم ملاصقًا للجنازة، وأنه لا بد من فرجة بينهما، حكاه الطبري. وفي هذا الحديث: إثبات الصلاة على النفساء، وإن كانت شهيدة. وفيه: أن السنة أن يقف الإمام عند عجيزة الميتة. وفيه: أن موقف المأموم في صلاة الجنازة وراء الإمام، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ والحَالِقَةِ والشَّاقَّةِ (¬1). قال المصنف - رحمه الله -: الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة. أما أبو موسى، فتقدم الكلام عليه. وأما الصالقة، فقد فسرها المصنف، والصَّلْق: الصوتُ الشديد، يريد: رفعه في المصائب، وعندَ الفجيعة بالموت، ويدخل فيه النوح، ويقال بالسين أيضًا، وهو الأصل، ويقرب منه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، والصاد تبدل من السين. والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة إذا حلت، ومنه الحديث: "ليسَ مِنَّا مَنْ صَلَقَ أو حلق" (¬2)، ومنه لعنُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من النساء الحالقةَ والسالقةَ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1234) كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى عن الحلق عند المصيبة، ومسلم (104)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية. (¬2) رواه أبو داود (3130)، كتاب: الجنائز، باب: في النوح، والنسائي (1861)، كتاب: الجنائز، باب السلق، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 411)، عن أبي موسى الأشعري =

والشاقَّة: التي تشق ثوبها عندَ المصيبة. وهذا الحديث دليل على تحريم هذه الأفعال، وإنما حرمت لإشعارها بعدم الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، والسخط له، وذلك كبيرة من كبائر الذنوب؛ حيث اقتضى فعلُ هذه الأشياء التبريَ من فاعلها ولعنَه وخروجَه من طريقة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإن اعتقد معتقد حلَّ فعلها، كان كافرًا. ويدخل في معنى الحالقة مَنْ قطعت شعرها من غير حلق. وهذه الأفعال من الرجال أشد تحريمًا، ويحرم تعاطي الأسباب الحاملة على ذلك، وصرفُ الأموال فيه، ويجب التصبر والصبر والرضا بقضاء الله تعالى وقدره، وتجنب صرف الأموال في أسباب تعاطي ذلك. وتشرع الصدقة عن نفس الإنسان وعن موتاه، ويصل ثوابها إليهم بإجماع المسلمين، وتحريم الصدقة في الوجوه المحرمة، ويأثم فاعلها بإجماع المسلمين، ومن الوجوه المحرمة: صرف الأموال إلى النواحات والمنوحين، سواء كان ذلك بقراءة أو إنشاد أو وعظ أو نحو ذلك، خصوصًا إن ترتب على ذلك محرمات أخر؛ من تمطيط قراءة، أو تهييج على صراخ وشق وحلق، أو تعديد محاسن الميت من غير قصد تحريض اقتداء بفعله، ولم يكن الميت متصفًا بها، أو جعل المقابح محاسن، ويشرع التصبر والتصبير والتذكير الحامل على ذلك، ومن أحسنه: أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فليصبر صاحب المصيبة، وليحتسب أجرها عند الله تعالى. ومن الأفعال المحرمة عند مصائب الموت إدارةُ ذوائب العمائم إلى قدام بدنه؛ فإن ذلك فعل اليهود، وقد نهى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم، ولعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ تشبه بهم، وأمر بمخالفتهم، ومن الأفعال المحرمة عندها ما يفعله الأمراء والأخيار ومماليكهم وإماؤهم من نشر الشعور ولبس جلال الدواب المشعرة وغيرها، وقلب سروج الخيل، وتنكيس الرايات، وبذر ¬

_ = - رضي الله عنه -، بلفظ: "ليس منا من حلق ومن سلق ومن خرق".

الحديث الحادي عشر

التبن على الأبواب، وذبح الذبائح لموت الميت، وعقر الحيوان، ولطم الخدود، وشق الجيوب، وإعلاء الأصوات بالبكاء والندب، والمراءاة بذلك، وارتكاب ذلك لأجل فلان وفلانة، بل يجب في ذلك كله الامتناع منه، والرجوع إلى الله تعالى، وليكثر من قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون عند وجود المصيبة وبعدها وقبلها، والله أعلم. ومن الأفعال المحرمة في ذلك المراءاة به، وقصد التسميع والمفاخرة بها، بل يكون المكلف في ظاهره وباطنه متبعًا لا مبتدعًا، مقيدًا بالشرع لا مطلقًا ولا متكلفًا ولا متخلفًا عن فعل خير، خصوصًا في هذه الحال المذكرة بالزهد في الدنيا ومقابحها، الحاملةِ على الرغبة في الآخرة وموانحها، فينبغي المراقبة لله تعالى في كل حال من الحالات، والاستغفار من كل زلة من الزلات، والرجوع إليه في كل لحظة من اللحظات، وسؤاله الثبات حتى الممات، إنه ولي ذلك، وجميع المؤمنين والمؤمنات. * * * الحديث الحادي عشر عَنْ عائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قاَلت: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ذَكَرَ بَعْضُ نِسائهِ كَنيسَةً رأينَها بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، يُقَالُ لَها: ماريةَ، وكانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبَيبَةَ أَتَتا أَرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتا مِنْ حُسْنِها وَتَصاويَر فيها، فَرَفَعَ رَأسَهُ فَقَالَ: "أولئكَ إذا ماتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالحُ، سَوَّوا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أولَئِكَ شِرارُ الخَلْقِ عِنْدَ الله" (¬1). أما عائشة وأم سلمة، فتقدم ذكرهما، وأن اسم أم سلمة: هند، ويقال: رملة، وليس بشيء، وهما أما المؤمنين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1276)، كتاب: الجنائز، باب: بناء المسجد على القبر، ومسلم (528)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، وهذا لفظ البخاري.

وأما أم حبيبة، فاسمها رملة، وقيل: هند، والأول أشهر، كُنيت بابنتها حبيبة بنتِ عبيد الله بن جحش، وهي أم حبيبة بنت أبي سفيان صخرِ بن حرب ابن أمية، أمُّ المؤمنين، الأموية، كانت من السابقين إلى الإسلام، هاجرت مع زوجها عبيد الله إلى أرض الحبشة، فتوفي عنها، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي هناك سنةَ ست من النبوة قبل الهجرة، ويقال: سنة سبع، زوجه إياها عثمان بن عفان، وأمها صفية بنت أبي العاصي عمة عثمان، وقيل: إن النجاشي -رضي الله عنه- زوجه إياها، وأصدقها مئتي دينار، وقيل: أربع مئة دينار، فلعل واحدًا منها أوجب، والآخر قبل منه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: عقد عليها خالد ابن سعيد [بن] العاصي، وأولم عليها عثمان بن عفان لحمًا وثريدًا، وجهزها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي، وبعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرحبيل بن حسن، فجاءه بها، وقيل: بل تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وقيل: إنه الصحيح، وكان أبوها إذ ذاك بمكة، والله أعلم بالصواب. وروي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بحديثين، وروى عنها أخواها: معاوية وعتبة، وابنُ أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وجماعة كثيرة من التابعين، وروى لها أصحاب السنن والمساند، وتوفيت قبل موت معاوية بسنة، وتوفي معاوية في رجب سنة ستين، وقيل: توفيت سنة أربع وأربعين، وأما موضع دفنها، فأهل الشام يقولون: إنه بدمشق بمقبرة باب الصغير، وقال أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله تعالى-: روي عن علي بن حسين قال: قدمت منزلي في دار علي بن أبي طالب، فحفرنا في ناحية منه، فأخرجنا منه حجرًا، فإذا فيه مكتوب: هذا قبر بنت صخر، فأعدناه مكانه، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 96)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1843)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 130)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 116)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 175)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 651)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 448).

وأما مارية، فهي -بكسر الراء، وفتح الياء المثناة تحت الخفيفة، بالكسر والفتح فيهما-: الكنيسة المذكورة في الحديث. وفي هذا الحديث دليل على تحريم تصوير الحيوان، خصوصًا الآدمي الصالح، سواء كان التصوير في حائط، أو ثوب، أو رق، أو مجسدًا قائمًا بذاته، والأحاديث في "الصحيحين" وغيرهما تدل على ما ذكرته، ولقد غلط من حمل التحريم على المجسد القائم بذاته؛ حيث أشبهت الأصنام، وأبعدُ من ذلك من حمل الأحاديث على كراهة التنزيه، وأن التشديد الوارد في التصوير إنما كان في ذلك الزمان لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا الزمان انتشر الإسلام، وتمهدت قواعده، فلا تساويه في المعنى، ولا في التشديد في التحريم، وكل من القولين غلط باطل قطعًا؛ حيث أخبرنا الشارع - صلى الله عليه وسلم - بعذاب المصورين في الآخرة، وأنه يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وذلك مخالف لمقالتهم، كيف وقد صرح في قوله - صلى الله عليه وسلم - في وصف المصورين: المشبهون بخلق الله، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة لا تحصى زمنًا دون زمن، وليس لنا التصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة الصريحة بمعنى خيالي يمكن ألا يكون مرادًا، مع اقتضاء اللفظ للتعليل بغيره، وهو التشبيه بخلق الله. وفيه دليل على منع بناء المساجد على القبور، وهو منع يقتضي التحريم، كيف وقد ثبت في الحديث الآتي لعنُ اليهود والنصارى على اتخاذ القبور مساجد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" (¬1). وفيه: دليل جواز حكاية الإنسان ما رآه من البناء والتصاوير، وأنه لا حرج في ذلك. وفيه: دليل على وجوب البيان عند حكاية ما يقتضي مخالفة الشرع. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 172)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 241)، عن عطاء بن يسار، مرسلًا. ورواه موصولًا: ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 42)، من طريق البزار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

وفيه: دليل على أن المرض ليس عذرًا في عدم البيان والإنكار. وفيه: دليل على تحريم التعظيم بما لا يحل فعله، وقوله. وفيه: دليل على وصف فاعل المحرمات المضاهية لخلق الله تعالى والآمر بها، ومرتضيها بأقبح وصف؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بشرار الخلق عند الله. وفيه: دليل على أن الاعتبار في الأحكام والأوصاف وغيرها إنما هو بما عند الله، لا بما عند الخلق. وفيه: دليل على جواز الكلام عند المريض والشاكي. وفيه: دليل على أن الكلام عنده إنما يكون بما يناسب حال الشاكي ومقامه؛ حيث ذكرتا أماكن العبادة وتعظيم النصارى لها بما ذكرتا، فبين - صلى الله عليه وسلم - حكمَ ذلك، ودليل جميعه. أما بناء غير المساجد على القبور، فإن كان لمعنى مقصود شرعي، فهو جائز إجماعًا، بشرط ألا يكون في بقعة محرمة من غصب أو تسبيل على المسلمين، وقد نص الشافعي وأصحابه على تحريم البناء في المقبرة المسبلة للمسلمين، قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى فيها (¬1)، ويؤيد الهدم، ومن المقصود الشرعي فعلُ الصحابة -رضي الله عنهم- بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه حيث دفنوا في بيت عائشة - رضي الله عنها -، وأخفيت قبورهم بالبناء كي لا تتخذ مسجدًا كما ذكرته عائشة في الحديث الآتي، أما البناء في ملك الباني غير المساجد على القبر، فهو مكروه، وعموم النهي عنه في الأحاديث الصحيحة يقتضي التحريم، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 277) ونصّه فيه: "وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أر الفقهاء يعيبون ذلك. . .". قلت: وما نقله المؤلف - رحمه الله - من كلام الإمام الشافعي، فإنما أخذه من شيخه النووي في شرحه على "مسلم" (7/ 27)، وهذا يؤيد ما قلناه مرارًا، من أن المؤلف - رحمه الله - يأخذ من كتب شيخه النووي والآخرين، دون عزو إليهم، فينقل عبارات الأئمة السابقين كالشافعي وأبي حنيفة وغيرهما من غير مصادرها الأم، كما وقع هنا، والله أعلم.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبيَائهِمْ مَسَاجِد"، قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَاكَ، أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا" (¬1). أما قولها: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه"، فهو تنبيه على ما كانت الصحابة تعتمده من الأخذ بالآخر من قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فنبهت - رضي الله عنها - على أن ذلك ليس من أمره المتقدم، بل هو من المتأخر عند موته. وهذا الحديث يدل على امتناع اتخاذ قبر رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مسجدًا، ولم يفهم من ذلك امتناع الصلاة على قبره - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف العلماء في الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد غسله وتكفينه وقبل دفنه، مع اتفاقهم على أنه غُسِّل وكُفِّن، فقالت طائفة: لم يصلِّ عليه أحدٌ أصلًا، وإنما كان الناس يدخلون أرسالًا يدعون وينصرفون، واختلف هؤلاء في علة ذلك، فقيل: لفضيلته، فهو غني عن الصلاة عليه، وهذا ينكسر بغسله، وقيل: بل لأنه لم يكن هناك إمام، وهذا غلط؛ فإن إمامة الفرائض لم تتعطل، ولأن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت قبل دفنه، وكان إمامَ الناس قبل الدفن. والصحيح الذي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه أفرادًا، فكان يدخل قوم يصلون فرادى ثم يخرجون، ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك، ثم دخلت النساء بعد الرجال، ثم الصبيان، وإنما أخروا دفنه - صلى الله عليه وسلم - من يوم الاثنين إلى ليلة الأربعاء أو آخر نهار الثلاثاء؛ للانشغال بأمر البيعة؛ ليكون لهم إمام يرجعون إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1265)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ومسلم (529)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور.

قوله إن اختلفوا في شيء من أمور تجهيزه ودفنه، وينقادون لأمره؛ لئلا يؤدي إلى النزاع واختلاف الكلمة، وكان هذا أهم الأمور عندهم. أما الصلاة عليه بعد دفنه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة المعهودة، فلم ينقل فعلها عن أحد من السلف والخلف، وقد حكى بعض الشافعية في ذلك وجهًا ضعيفًا بناء على جواز الصلاة على الميت بعد الدفن لمن لم يصل عليه، لكنه بعيد جدًّا لتطابق المسلمين على عدم فعلها، ولإشعار الحديث بالمنع، وأما الدعاء عند قبره، فلم يزل السلف والخلف يفعلونه، ويتوسلون إلى الله تعالى بالدعاء هناك، وبه - صلى الله عليه وسلم - عند قبره وغيره من البقاع من غير منع، والله أعلم. واستدل بعض الفقهاء بعدم الصلاة على قبره - صلى الله عليه وسلم - على عدم الصلاة على القبر جملة، وأجيبوا عن ذلك بأن قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخصوص عن هذا بما فهم من الحديث من النهي عن اتخاذ قبره - صلى الله عليه وسلم - مسجدًا، والله أعلم. وتحرم الصلاة على قبره، والسجود له؛ لما حرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنع منه من الصلاة إلى قبر غيره من الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - وغيرهم، ومنع من السجود له في حياته - صلى الله عليه وسلم -، فبعد موته أولى، ولما علم الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون ذلك، لم يبنوا الحجرة النبوية -على ساكنها أفضل الصلوات والتسليم- مربعة، بل بنوها من جهة شمالها مثلثة على صفة السنبوسكة؛ لئلا يُصلِّى هناك ويُسجد، وهذا كله تعريف لمقام الربوبية، ومراقبة له سبحانه وتعالى؛ حيث انفرد سبحانه بالعظمة والكبرياء والإلهية والعبادة، وكل ما أوهم تعظيمًا لشيء، كان فعله حرامًا، إلا ما قرره الشرع من التوقير والتعظيم للأشياء المضافة إليه -سبحانه وتعالى-؛ ككتاب الله تعالى، وبيته، والحجر الأسود، ومساجده، وأنبيائه، وأوليائه، وأحبابه، والعلماء به وبأحكامه، ونحو ذلك من غير مجازفة، وتجاوزه مجاوزة الحد في ذلك. وأما التعظيم المطلق، فهو لله تعالى من كل الوجوه لصفاته وأسمائه ولا سيما [ما] لا يشركه في ذلك مشارك، ولا ينازعه منازع، فله التعظيم كله،

الحديث الثالث عشر

وله الكمال كله، وله الجلال كله، وله التقديس كله، وله الحمد كله، وله الشكر كله، وله الملك كله، سبحانه لا يحصى ثناءٌ عليه هو كما أثنى على نفسه. وفي هذا الحديث: جواز لعن اليهود والنصارى على العموم، وأما لعن الشخص المعين منهم، فقيل: لا يجوز؛ لغيب خاتمته؛ فإنه قد يموت مسلمًا، وقيل: يجوز لوصف اليهودية أو النصرانية فيه الآن؛ كلعن المعين من المسلمين أصحاب المعاصي المصرين عليها. وفيه: جواز ذكر سبب اللعن؛ للتحذير منه. وفيه: تحريم بناء المساجد على القبور مطلقًا؛ لأنه إذا منع من بنائها على قبور الأنبياء، وهم أرفع البشر درجة، فمن دونهم أولى. وفيه: تعظيم الربوبية، وتحريم تعاطي الأسباب المؤدية إلى المشاركة لها في ذلك، بل إن اعتقدوا جواز ذلك، فهو كفر. وفيه: وجوب بيان ذلك وتحقيقه بالعلل والحكم. وفيه: تحريم السجود إلى القبور، والصلاة إليها، وإن لم يقصد تعظيمها، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخَدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ" (¬1). تقدم الكلام على ابن مسعود. وأما الجاهلية، وهي ما قبل الإسلام، وكل فعل خالف فعل الإسلام وما قرره الشرع، فهو جاهلي، وفاعله من الجاهلية؛ حيث خالف الإسلام فيه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1235)، كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من ضرب الخدود، ومسلم (103)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.

والمراد بدعوى الجاهلية: ما كانت العرب تفعله عند موت الميت برفع الصوت وغيره: واجبلاه! واسنداه! واسيداه! ويدخل في ذلك تحت لفظ الصالقة في الحديث السابق، وما كانت تدعو الناس إلى المآتم، والذابح عليها، والنعي، وما أشبه ذلك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا"؛ أي: ليس من هدينا وسنننا وطريقتنا، وقال سفيان الثوري: يجري على ظاهره من غير تآويل؛ لأن إجراءه كذلك أبلغ في الانزجار عما يذكر في الأحاديث التي صيغتها: ليس منا من قال أو فعل كذا، وقال المتأخرون من العلماء: بل هي مؤولة على من فعلَ المزجورَ عنه معتقدًا حلَّه؛ فإنه يكفر بذلك، فيكون قوله: "ليس منا"؛ أي: ليس من أهل ديننا، وإن فعله غير معتقد حله، كان مؤولًا على: ليس من طريقتنا وسنننا، ولا يكفر، بل يكون عاصيًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ضربَ الخدودَ" لما تضمَّنَ ضربُ الخدود عدمَ الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، ووجود الجزع، وعدم الصبر، وضرب الوجه الذي نهى الشرع عن ضربه من غير اقتران مصيبة، كان فعله حرامًا مؤكدَ التحريم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وشقَّ الجيوبَ" الجيوب جمع جيب، وهو ما يشق من الثوب ليدخل فيه الرأس نازلًا به إلى العنق والرقبة، أو يقطع منه، ومنه قوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]: قطعوا، ولما تضمَّنَ شقُّه ما ذُكر في لطم الخدود، وإفساد الشق المذكور بزيادة على ما وضع له من الانتفاع به متضمنًا نقص قيمة الثوب، والرياء بذلك، كان أيضًا حرامًا شديد التحريم، وهو براءته - صلى الله عليه وسلم - من الشاقة في الحديث المتقدم. وفي هذا الحديث: تحريم هذه المذكورات، والسكون إلى أوامر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الحالات. وفيه: تحريم ضرب الوجه؛ لأنه إذا حرم البعض، فالكل بطريق الأولى، مع أن في الوجه ما هو أفضل من الخد.

الحديث الرابع عشر

وفيه: تحريم إفساد المال، أو تنقيصه، خصوصًا عند السخط والجزع. وفيه: تحريم تعاطي ما كانت الجاهلية تفعله؛ لأنه إذا حرم مثل ما ذكر عند المصائب، مع أن فاعل ذلك كالمكره عليه طبعًا، فغيره من الأمور الاختياريات من فعلهم الذي يقرر الشرع عدم فعلها بالتحريم أولى، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عشر عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَان"؛ قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ". ولِمسلمٍ: "أَصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ" (¬1). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد الجنازة حتى يُصلَّى عليها فله قيراطٌ"، فالقيراط: اسم لمقدار معلوم في العرف، وهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا، وقد يراد به الجزء مطلقًا، ويكون عبارة عن الحظ والنصيب، فيكون تمثيلًا لجزء من الأجر، ومقدارٍ منه، ألا ترى أنه قال: مثل الجبلين العظيمين، أو مثل أحد؟ وهذا من مجاز التشبيه؛ تشبيهًا للمعنى العظيم بالجسم العظيم، والمقصود من الحديث: أن من صلى على جنازة، فله أجر عظيم من الثواب والأجر، فإن صلى عليها واتبعها حتى تدفن، كان له حظان عظيمان من ذلك؛ إذ قد عمل عملين: أحدهما: صلاته، والثاني: كونه معه إلى أن يدفن، ولا يلزم من هذا أن يكون هذا القيراط هو المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتنى كلبًا إلَّا كلبَ صيدٍ أو زَرْع أو ماشيةٍ، نقصَ من أجره كلَّ يومٍ قيراطٌ" (¬2)، وفي رواية: "قيراطان" (¬3)، بل ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1261)، كتاب: الجنائز، باب: من انتظر حتى تدفن، ومسلم (945)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬2) رواه البخاري (3146)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ومسلم (1575)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (5164)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو =

قدر معلوم يجوز أن يكون مثل هذا وأقل وأكثر، فإن قيل: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن شهدَها حتى تدفن، فله قيراطان" ما يقتضي أن القيراطين يحصلان بشهودها ودفنها، أحدهما: بالشهود، وهو اتباعها، والثاني: بدفنها، فيكون حينئذٍ له بالصلاة والاتباع والدفن ثلاثة قراريط، قلنا: هذا مردود بما ثبت في "صحيح البخاري" في أوائل كتاب الإيمان منه، وهو: أن القيراط الثاني على مجموع الشهود والدفن، ولا يحصل بهما قيراطان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهدَ جنازةَ وكانَ معها حتى يصلَّى عليها، ويفرغَ من دفنها، رجعَ من الأجر بقيراطين" (¬1)، وهذا صريح في أن المجموع بالصلاة والاتباع وحضور الدفن قيراطان، وقد سبق مثل هذا في باب المواقيت في حديث: "مَنْ صلَّى العشاءَ في جماعة، فكأنَّما قامَ نصفَ الليل، ومن صَلَّى العشاءَ والصُّبحَ في جماعة، فكأنَّما قامَ الليلَ كلَّه" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى تدفن"، وفي رواية في "صحيح البخاري ومسلم": "حتى يُفْرَغَ من دفنِها" (¬3) دليلٌ على أن القيراط الثاني لا يحصل إلَّا لمن دام معها من حين صَلَّى إلى أن فرغ من دفنها، وهذا الصحيح عند أصحاب الشافعي، وقال بعض أصحابه: يحصل القيراط الثاني إذا ستر الميت في القبر باللَّبِنِ، وإن لم يُلْق عليه التراب، وفي وجه لهم: أنه يحصل بمجرد الوضع في اللَّحد، وإن لم يلق عليه التراب، والله أعلم. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد الجنازة حتى يصلَّى عليها" ما يؤذِنُ بما ورد في ¬

_ = ماشية، ومسلم (1574)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬1) رواه البخاري (47)، كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان. (¬2) رواه مسلم (656)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه.

بعض الروايات، وهو اتباعها من عند أهلها، وأن المراد: شهودها حتى يصلَّى عليها، ولا شك أن من صلى عليها مجردًا، حصل له قيراط، لكن قيراط من شهدها من عند أهلها حتى صُلِّي عليها أكملُ، وكذلك قيراطُ من تبعها حتى يُفرغ من دفنها أكملُ ممن حضر الدفن والفراغ منه دون الاتباع، والله أعلم. وفي هذا الحديث: استحباب شهود الميت من حين غسله وتكفينه واتباعه، والصلاة عليه إلى حين يفرغ من دفنه، ولا شك أن النفوس لما كانت لاهية بالحياة الدنيا وزينتها، شُرع لها ما يلهيها عن ذلك بشهود الجنائز، ورُغبت في ذلك بالأجور والثواب؛ ليكون أتقى لها وأزكى، وأبعد لها عما اشتغلت به، فينبغي أن تستعمل في ذلك كله الآداب الشرعية؛ من السكينة والوقار، وعدم الجبرية والاستكبار، والحديثِ فيما يلهي عن ذلك من المحظورات والمباحات شرعًا في ظاهره وباطنه، ولا يغفل عما يجب عليه في ذلك كله، والله أعلم. وفيه: وجوب الصلاة على الميت، ودفنه. وفيه: التحضيض على الاجتماع لهما. وفيه: التنبيه على عظيم فضل الله تعالى فيما شرعه للنفوس، وما رتبه من الأجور على ما شرعه لها لمصلحتها الدنيوية والأخروية. وفيه: أداء حقوق الموتى بالصلاة والتشييع وحضور الدفن. وفيه: التنبيه على ما الإنسان صائر إليه ومشاهدته؛ ليعلم أنه راجع إلى الله تعالى، ومتصرف فيه، لا يملك لنفسه موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فلا تكثر التبعات عليه، ويأخذ نفسه بالعزائم وعدم الراحات؛ ليجدها يوم فقره وفاقته، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتبعَ نفسَه هواها، وتمنى على الله، والله أعلمُ بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ بَعَثَهُ إلَى اليَمَنِ: "إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمِ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذلِكَ، فَأَخْبِرْهُم أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُم أَن الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤخَذُ مِنْ أَغْنِيَائهِم فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائهِم، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجابٌ" (¬1). أما ابن عباس ومعاذ - رضي الله عنهما -، فمضى الكلام عليهما. وأما الزكاة: فهي في اللغة: النماء والتطهير: فمن الأول: قولهم: نما الزرع، فالمالُ ينمى بإخراج الزكاة من حيث لا يرى. ومن الثاني: قوله تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. وسمي هذا الحق زكاة بالاعتبارين، فمن الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نقصَ مالٌ من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1425)، كتاب: الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، ومسلم (19)، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.

صدقة" (¬1)، أو بمعنى أن متعلقها الأموالُ ذات النماء، وسميت بالنماء لتعلقها به، أو بمعنى تضعيف أجورها، كما ثبت أن الله تعالى يربي الصدقةَ حتى تكون كالجبل، وأما بالاعتبار الثاني، وهو التطهير، فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل، أو لأنها تطهر من الذنوب. وقيل: سميت زكاة؛ لأنها تزكي صاحبها، وتشهد بصحة إيمانه، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والصدقةُ برهان" (¬2)، وسميت -أيضًا- صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها، وصحة إيمانه بظاهره وباطنه، وأثبت الشارع هذا الحق في المال لمصلحة الدافع والآخذ، فمصلحة الدافع تطهيره وتضعيفُ أجوره، ومصلحة الآخذ سدُّ خلته، وقد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة، وأنها لا تكون إلا في مال له بال، وهو النصاب، ثم جعلها في الأموال النامية، وهي العين والزرع والماشية، وأجمعوا على وجوب الزكاة في هذه الأنواع، واختلفوا فيما سواها؛ كالعروض، فالجمهور يوجبون الزكاة فيها، وداود يمنعها؛ تعلقًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ على المسلمِ في عبدِه ولا فَرَسِهِ صدقةٌ" (¬3)، وحمله الجمهور على ما كان للقُنية. وحدد الشرع نصابَ كل جنس بما يحتمل المواساة، فنصاب الفضة: خمس أواق، وهي مئتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب: فعشرون مثقالًا، والمعوَّل فيه على الإجماع والحديث، وأما الزروع والثمار والماشية: فنُصُبها معلومة، ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤونة والتعب في المال، فأعلاها وأقلها تعبًا الرِّكازُ: وفيه الخمس؛ لعدم التعب فيه، ويليه الزرع والثمر؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2588)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: استحباب العفو والتواضع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "ما نقصت صدقة من مال. . .". (¬2) رواه مسلم (223)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء، عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه-. (¬3) رواه البخاري (1394)، كتاب: الزكاة، باب: ليس على المسلم في فرسه صدقة، ومسلم (982)، كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

فإن سقي بماء السماء ونحوه، ففيه العشر، وإلا فنصفه، ويليه الذهب والفضة والتجارة فيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة، ويليه الماشية؛ فإنه يدخلها الأوقاص، بخلاف الأنواع السابقة، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب" هو كالتوطئة والتمهيد بالوصية؛ لاستجماع همته على الدعاء لهم إلى ما ذكر في الحديث؛ لأن أهل الكتاب أهل علم، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين وعبدة الأوثان في العناية بها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" البدأة في الدعاء إلى الشهادتين والمطالبة بهما لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء من فروعه إلا بهما، فمن كان منهم غير موحد على التحقيق؛ كالنصارى، فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينًا، ومن كان موحدًا كاليهود، فالمطالبة له بالجمع بين ما أقر به من التوحيد، وبين الإقرار بالرسالة، وإن كان اليهود الذين كانوا باليمن عندهم ما يقتضي الإشراك، ولو باللزوم، تكون مطالبتهم بالتوحيد؛ لنفي ما يلزم من عقائدهم. وقد ذكر الفقهاء أن كل من كان كافرًا بشيء ومؤمنًا بغيره دخل في الإسلام بالإيمان بما كفر به، وهذا ليس على إطلاقه، بل قال أصحاب الشافعي العراقيون: لا يدخل في الإسلام إلا بالتلفظ بالشهادتين، وقال الخراسانيون منهم القاضي حسين: كل من أقر بما هو معروف من دين الإسلام أنه حق، صار به مسلمًا، وإن لم يتلفظ بالشهادتين، ولا شك أن العالم بالشيء قد يكون عارفًا به، وقد يكون غير عارف، فاليهود والنصارى، وإن كانوا عالمين بالله، لكنهم غير عارفين به، ولهذا ثبت في رواية في "صحيح مسلم" في هذا الحديث: "فليكنْ أولَ ما تدعوهم إليه عبادةُ الله تعالى، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم" (¬1) إلى ¬

_ (¬1) رواه مسلم (19)، (1/ 51)، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، والبخاري أيضًا (1389)، كتب: الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة. =

آخره؛ لأنهم في علمهم بالله معتمدون على دلالة السمع عندهم، وإن كان الفعل عندهم لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولًا. قال القاضي عياض - رحمه الله -: ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء، أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه بما لا يليق به، أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله، وإن سموه به؛ إذ ليس موصوفًا بصفات الإله الواجبة له، فإذا ما عرفوا الله سبحانه، فتحقق هذه النكتة، واعتمد عليها، وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا، وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي من عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة. هذا آخر كلام القاضي - رحمه الله - والله أعلم (¬1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن همْ أَطاعوا لكَ بذلكَ، فأخبرهم أن الله فرضَ عليهم خمسَ صلوات في كلِّ يوم وليلةٍ". اعلم أن طاعتهم بالإيمان بالنطق بالشهادتين كما تقدم، وأما طاعتهم بالصلاة، فتحتمل أمرين: أحدهما: إقرارهم بوجوبها، واعتقاد فرضيتها، والتزامهم بها. الثاني: طاعتهم بالفعل، وأداؤها، ويحتمل أن المراد مجموع ذلك، وهو الظاهر، لكن رجح الأول بأمر معاذ بإخبارهم بالفرضية، فتعود الإشارة إليها، ورجح الثاني بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل، لكفى، ولم يشترط بلفظهم بالإقرار للوجوب، وكذلك في الزكاة، لو بادروا بأدائها من غير لفظ بالإقرار، لكفى، فالشرط عدم الإنكار للوجوب، لا التلفظ بالإقرار، وإنما كان كذلك؛ لأن المبادرة إلى الفعل متضمن الامتثال والإقرار بالوجوب، فهو أبلغ في ذلك جميعه، لا أنه المطلوب فقط ظاهرًا، بل مطلوب الشرع وجود الامتثال للأمر ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (1/ 199 - 200).

بسوابقه ولواحقه، لكن هل يستفاد ذلك من صيغة الأمر بالمطلوب، أم من أمر خارج؟ فيه كلام في أصول الفقه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" الضمير في فقرائهم وأغنيائهم عائد إلى المسلمين، أم إلى كل ناحية منهم؟ فإن نظرنا إلى عموم الحكم، جعلنا الضمير عائدًا إلى جميع المسلمين، وإن نظرنا إلى خصوصية المبعوث إليهم أهل اليمن، رددناه إلى الناحية، فيختص الحكم بهم، لكن أعيان الأشخاص في قواعد الشرع الكلية غير معتبر، ولولا المناسبة الموجودة في باب الزكاة، لقطعنا بعدم اعتبار خصوصية الناحية، كما هي غير معتبرة في الصلاة قطعًا في الحكم، وتظهر فائدة هذا الكلام في جواز نقل الزكاة وعدمه عن بلد المال، وفيه اختلاف. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم" الكرائم: جمع كريمة، وهي جامعة الكمال في حقها؛ من غزارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة اللحم، أو الصوف، والرواية: "وإياك وكرائم" بالواو في "وكرائم"، قال ابن قتيبة: ولا يجوز إياك كرائمَ، بحذفها (¬1)، قال الفقهاء: والكرائم؛ كالأكولة، والربَّى، وهي التي تربي ولدها، والماخض، وهي الحامل، وفحل الغنم، وحرزات المال، وهي التي تحرز بالعين وترمق؛ لشرفها عند أهلها. والحكمة في منع الساعي من أخذ ذلك: أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء، فلا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال، فسامحهم الشرع بما يضنون به، [ونهى] الساعي عن أخذه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" هذا تنبيه على الامتناع من جميع أنواع الظلم، وذكر ذلك عقب أخذ كرائم الأموال؛ حيث إن أخذها ظلم، وعلل اتقاء دعوة المظلوم بعدم الحجاب بينها وبين الله؛ تأكيدًا ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (1/ 197).

لتحريم الظلم، وتنبيهًا على سرعة عقوبة فاعله، لكن دعوة المظلوم مسموعة لا ترد، وهذا معنى عدم حجاب بينها وبين الله تعالى. وفي هذا الحديث دليل على أحكام: منها: أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشرع؛ حيث دعوا أولًا إلى الإيمان فقط، ودعوا إلى الفروع بعد إجابتهم إلى الإيمان، وضُعِّف هذا بأن الترتيب في الدعاء لا يلزم منه ولا بد الترتيب في الوجوب؛ بدليل أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت في الذكر، وأخرت الزكاة، مع تساويهما في الخطاب؛ للوجوب في الدنيا، ولا تتعلق المطالبة به في الدنيا إلا بعد الإسلام، وليس المراد ألا يزاد عذابهم بسببها في الآخرة، كيف وهو - صلى الله عليه وسلم - رتب ذلك في الدعاء إلى الإسلام، وبدأ بالأهم فالأهم؟. وقد اختلف العلماء في أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور بها والمنهي عنها على ثلاثة أقوال: الصحيح المختار: أنهم مخاطبون بها جميعها. والثاني: أنهم غير مخاطبين بها جميعها. والثالث: أنهم مخاطبون بالمنهي دون المأمور. ومنها: قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به. ومنها: أن الوتر ليس بواجب، وكذلك ركعتا الفجر ليستا واجبتين، فإن بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقليل بعد الأمر بالوتر وركعتي الفجر، وقد قال بوجوب الوتر أبو حنيفة، وبوجوب ركعتي الفجر الحسن البصري. ومنها: أن السنة أن الكفار يُدْعون إلى التوحيد قبل القتال، ولم يذكر في هذا الحديث كل دعائم الإسلام، بل ذكر بعضها، قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: هو تقصير من الراوي. ومنها: أن الكافر لا يحكم بإسلامه إلا بالنطق بالشهادتين، وهو مذهب أهل السنة.

ومنها: أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة. ومنها: وجوب الزكاة. ومنها: أن الإمام يبعث سعاة عدولًا أمناء ثقات علماء يأخذون الزكاة نيابة عن الفقراء. ومنها: توصية الإمام نوابه بما يحتاجون إليه في عملهم من العمل بالأحكام؛ أمرِها ونهيِها، خصوصًا ما يتعلق بأمر الرعية. ومنها: أنه يحرم على الساعي أخذ كرائم الأموال في الزكاة، بل يأخذ الوسط، ويحرم على رب المال إخراج شر المال. ومنها: تحريم دفع الزكاة إلى كافر. ومنها: أنها لا تدفع إلى غني من نصيب الفقراء، ومقتضى مذهب الشافعي أن الغني والفقير في ذلك معتبر برتبة الشخص، وقد اختلف العلماء في الغني الَّذي يحرم عليه أخذ الزكاة، فقيل: هو من ملك نصابا، وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب مالك؛ من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - جعله في الحديث غنيًّا، وقابله بالفقير، وقد ورد في الحديث: أن الغني من ملك أوقية. ومنها: اهتمام الإمام بأمر الفقراء في الزكاة. ومنها: أن صاحب المال إذا امتنع من دفعها، أخذت منه بغير اختياره؛ حيث قال: "تؤخذ من أموالهم"، وهذا الحكم لا خلاف فيه، لكن هل تبرأ ذمته وتجزئه في الباطن؟ فيه خلاف للشافعية، وقد استدل به الخطابي وغيره من أصحاب الشافعي على أن الزكاة لا يجوز نقلها عن بلد المال، وفيه نظر كما تقدم، وفي هذه المسألة وجهان لأصحاب الشافعي: أصحهما عند جمهورهم: لا يجوز النقل، ومأخذ الخلاف عود الضمير في فقرائهم، وتقدم ذكر ذلك، وإرادة فقراء الناحية الموجودين أظهر، والله أعلم. ومنها: وجوب بيان تحريم الظلم على الإمام وغيره من العلماء، والأمر

الحديث الثاني

باجتنابه، وبتقوى الله تعالى، والمبالغة في ذلك، وتعريف قبح عاقبته، والله أعلم. ومنها: تحريم جميع أنواع الظلم، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" (¬1). أما أبو سعيد الخدري، فتقدم الكلام على اسمه ونسبه ونسبته وما يتعلق به. وأما الأواق: فجمع أوقيَّة -بتشديد الياء-، ويقال: وفي كل جمع إذا كان مفرده مشددًا بتشديد الياء وتخفيفها، كالأواقي والتخابي والعلالي والكراسي، وما أشبه ذلك، وممن ذكر هذه القاعدة فيما واحدهُ مشدد أنه يجوز في جمعه الوجهان: ابنُ السِّكِّيت في "إصلاحه"، (¬2) والجوهريُّ في "صحاحه"، (¬3) وقد ثبت في هذا الحديث في الجمع حذفُ الياء، فتصير في الجمع للأوقية ثلاث لغات: التشديد، والتخفيف، والحذف، والأوقية بضم الهمزة، ولا يجوز عند جمهور أهل اللغة، وفيه تحذف الهمزة، وحكى اللحياني الجواز -بفتح الواو وتشديد الياء-، وجمعها وقايا. وأجمع العلماء من المحدثين والفقهاء واللغويين على أن المراد بالأوقية الشرعية أربعون درهمًا، وهي أوقية الحجاز. وقال القاضي عياض - رحمه الله -: ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1340)، كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته فليس بكنز، ومسلم (979)، كتاب: الزكاة، في أوله. (¬2) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السكيت (ص: 178)، باب: ما يشدّد وما يخفّف. (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2528).

مجهولة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوجب الزكاة في أعداد منها، ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، قال: وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان، وأنه جمعها برأي العلماء، وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل، ووزن الدرهم ستة دوانق، قول باطل، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام، وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم، وصغارًا وكبارًا، وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة، ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزنا واحدًا لا يختلف، وأعيانًا يستغنى فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها، وضربوه على وزنهم، قال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلا فكيف كان يتعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد؛ وهذا كما كانت الأوقية معلومة. وقال العلماء من الشافعية: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدرهم ستة دوانق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإسلام (¬1). واعلم أن الدراهم كانت في الجاهلية تضرب على نوعين مختلفين: فمنها: ما ينسب إلى ملك يقال له: رأس البغل، وهي السود مما نسب إليه منها، يقال لها: بغلية، وكل درهم منها ثمانية دوانق. ومنها: ما ينسب إلى طبرية الشام، يقال لما يضرب فيها: طبرية، وزن كل منها أربعة دوانق، وهي العتق، فقدر الشرع في الإسلام الدرهم ستة دوانق؛ جمعًا بينهما، ووقع الإجماع عليه من غير ضرب، وكانوا يتعاملون بهذا التقدير، الشطر من هذه والشطر من هذه لدى الإطلاق ما لم يعينوا بالنص أحد النوعين، وكذلك كانوا يؤدون الزكاة مئة من هذه، ومئة من هذه؛ اعتبارًا في أول الإسلام، ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 80)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 51).

هكذا قاله أبو عبيد وغيره، وهي الخمس الأواقي المذكورة في الحديث، ولم يخالف في ذلك أحد إلا ابن حبيب الأندلسي؛ فإنه زعم أن كل بلد يتعاملون بعرفهم في الدراهم، وهو خلاف قول الجمهور، ويعضد قولهم ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوزنُ على وزنِ أهل مكة" (¬1)، وهذا المقدار هو الَّذي كان أهل مكة يتعاملون به في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما تمكن الإسلام، واتسع، ضُربت الدراهم على التقدير الإسلامي تحريًّا لمعاملاتهم الإطلاقية، فنسب التقدير إلى من ضربت في زمنه ابتداء، وليس كذلك، بل كان ذلك إظهارًا للضرب، لا ابتداء تقدير، والله أعلم. واختلف في زمن من ابتدأ الإظهار بالضرب للتقدير المذكور؟ فقيل: في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقيل: في زمن بني أمية، ولا يصح قول من جعل التقدير في زمن أحدهما، والله أعلم. وأما الصدقة واحدةُ الصدقات، فتفتح الصاد والدال، وأما ما هو اسم من أسماء الصَّداق -بفتح الصاد وكسرها-، فيقال فيه: صَدُقة -بفتح الصاد وضم الدال-، وصُدْقة -بضم الصاد وإسكان الدال- أربع لغات مشهورات، والله أعلم (¬2). وأما الذود: فاصله من ذاد يذود ذودًا: إذا دفع شيئًا، فهو مصدر، فكان من كان عنده دفعَ عن نفسه معرَّةَ الفقر وشدة الفاقة والحاجة، وهو عند أهل اللغة من الثلاثة إلى العشرة من الإبل، لا واحد له من لفظه، قالوا: ويقال في الواحد: بعير، قالوا: وكذلك البقر. والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الألفاظ لا واحد لها من لفظها، قالوا: وقولهم: خمسُ ذَوْد؛ كقولهم: خمسة أبعرة، وخمسة جمال، وخمس نوق، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3340)، كتاب: البيوع، باب: في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المكيالُ مكيال المدينة"، والنسائي (2520)، كتاب: الزكاة، باب: كم الصاع؟ والبيهقي في (السنن الكبرى) (6/ 31)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 197)، (مادة: صدق).

وخمس نسوة، وقال سيبويه: يقال: ثلاث ذود؛ لأن الذود مؤنث، وليس باسم كسر عليه مذكره، قال أبو عبيد: الذود مما بين ثنتين إلى تسع، وقوله مخالف لقول جمهور أهل اللغة، قال: هو مختص بالإناث، وأنكر ابن قتيبة أن يقال: خمس ذود؛ كما لا يقال: خمس ثوب، وغلطه العلماء، بل هذا اللفظ شائع مسموع من العرب، معروف في كتب اللغة، وهو ثابت في الأحاديث الصحيحة، وليس هو جمعًا لمفرد، بخلاف الأثواب، قال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجمع، فقالوا: خمس ذود لخمس من الإبل، وثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود، وعشر ذود، على غير قياس، كما قالوا: ثلاث مئة، وأربع مئة، والقياس مئين ومئات، ولا يكادون يقولونه. وقد ضبطه الجمهور: خمس ذود، في الحديث، ورواه بعضهم: خمسة ذود، وكلاهما لرواة مسلم، لكن الأول أشهر، وهما صحيحان في اللغة، فإثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث، ومن حذفها قال: أراد الواحدة منه فريضة، ولا شك أن الذود واحد في لفظه كما قال السجستاني، والمشهور الَّذي قاله المتقدمون أنه لا يقال على الواحد، والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة"، فمعنى دون في مواضع هذا الحديث أقل؛ أي: ليس في أقل خمس صدقة، لا أنه نفى عن غير الخمس الصدقة كما زعم بعضهم في قوله: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أنها بمعنى غير، والله أعلم. والأوسق جمع وسق -بفتح الواو وكسرها- كما حكاهما صاحب "المحكم" وغيره، والأشهر فتح الواو، وهو جمع قلة، ويقال في الجمع -أيضًا-: وُسوق وأَوْساق، قال الهروي: وكل شيء جمعته فقد وسقته، وقال غيره: وسقت الشيء: ضممت بعضه إلى بعض، وأصل الوسق في اللغة الحمل، والمراد به ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (8/ 55)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 257)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 271)، و"المُغرب" للمطرزي (1/ 310)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 171)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 169).

ستون صاعًا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالعراقي، وفي رطل العراق أقوال، أظهرها: أنه مئة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، وقيل: مئة وثمانية وعشرون بلا أسباع، وقيل: مئة وثلاثون، فالأوسق الخمسة: ألف وست مئة رطل بالبغدادي (¬1)، وهل هذا التقدير بالأرطال تقريب أم تحديد؟ وجهان لأصحاب الشافعي: أصحهما: تقريب، فإذا نقص عن ذلك يسيرًا، وجبت الزكاة، لكن ظاهر الحديث أن النقصان مطلقًا مؤثر في عدم الوجوب، لكنه غير مؤثر عرفًا، لعدم منعه إطلاق الاسم بنقص اليسير. والثاني: تحديد، فمتى نقص شيئًا، وإن قل، لم تجب الزكاة. وفي هذا الحديث فائدتان: إحداهما: وجوب الزكاة في هذه المحدودات من الدراهم والإبل والحبوب. والثانية: عدم الزكاة فيما دون المحدود، ولا خلاف بين العلماء في ذلك، إلا ما قاله أبو حنيفة وبعض السلف: أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره، واستدل له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سَقَتِ السَّماءُ العشرُ، وما سُقي بنضحٍ أو دالية، ففيه نصفُ العشر" (¬2)، وهذا عام في القليل والكثير، والجواب عن ذلك بأن المقصود من الحديث بيانُ قدر المخرَج، لا قدر المخرَج منه، ولا شك أن هذا يرجع إلى قاعدة أصولية، وهي: أن الألفاظ العامة ترد بوضع اللغة على ثلاثة أنحاء: أحدها: ما يظهر فيها قصد التعميم؛ بأن يرد مستنده على سبب لقصد تأسيس القواعد. ¬

_ (¬1) انظر: "المُغرب" للمطرزي (2/ 354)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 184)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 110)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 379)، و"القاموس" للفيروز أبادي (ص: 1199)، (مادة: وسق). (¬2) رواه البخاري (1412)، كتاب: الزكاة، باب: العشر فيما يسقى من ماء السماء، وبالماء الجاري، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

والثاني: ما يظهر فيه قصد التخصيص. والثالث: ما لم يظهر فيها قرينة لقصد التعميم لا عدمه، ولا يحتاج ذلك إلى دليل، بل يعرف ذلك من السياق، لا يقام عليه دليل بالاتفاق، ولذلك لو فهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل، لعسر إقامته، لكن الناظر يرجع إلى ذوقه ودينه وإنصافه، ولذلك لا خلاف أنه لا تجب الزكاة فيما نقص عن الأواقي الخمسة المحدودة، وهي مئتا درهم، لكن مالكًا - رحمه الله - تسامح في النقص اليسير جدًّا الذي يروج معه الدراهم والدنانير رواج الكامل، واختلف أصحابه في مقداره، فقبل: ما لا يُشاحّ فيه في العادة، وقيل: بأنه المقدار الَّذي يختلف فيه في الموازين، وحكي عن عمر بن عبد العزيز أن نقص ثلاثة دراهم وثلث دينار من نصابهما لا يسقط الزكاة، والظاهر مع الحنفية، والمعنى مع المالكية. وليس في هذا الحديث تعرض للذهب، ولا تحديده بالأواقي، وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة في عشرين مثقالًا منه، وحكي عن الحسن البصري والزهري: أنهما قالا: لا تجب في أقل من أربعين مثقالًا، لكن الأشهر عنهما الوجوب في عشرين؛ لقول العلماء، وحكى القاضي عياض عن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته مئتي درهم، وإن كان دون عشرين مثقالًا، وقال هذا القائل: ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مئتي درهم. واختلف العلماء فيما إذا ملك بعض نصاب من الذهب، وبعض نصاب من الفضة، هل يضم بعضه إلى بعض بالقيمة؛ فقال مالك والجمهور: يضمان في إكمال النصاب، لكن مالكًا يراعي الوزن، ويضم الأجزاء، لا على القيم، بل على الوزن؛ حيث إن مذهبه كل دينار لعشرة دراهم على الصرف الأول، وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والثوري يضم على القيم في وقت الزكاة، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: لا تضم مطلقًا.

واعلم أنه لم يتعرض في الحديث للقدر الزائد على المحدود من المذكورات فيه، وقد أجمع العلماء على وجوب الزكاة فيما زاد على خمسة أوسق من الحب والثمر بحسابه، وأنه لا أوقاص فيها، واختلفوا فيما زاد على نصاب الذهب والفضة، قليلًا كان أو كثيرًا، هل فيه ربع العشر ولا وقص فيه؟ فقال مالك، والليث، والثوري، والشافعي، وابن أبي ليلى، ويوسف، ومحمد، وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وجملة أهل الحديث: لا وقص فيه، وفيه ربع العشر، وهو يروى عن علي، وابن عمر، وقال أبو حنيفة، وبعض السلف: لا شيء فيما زاد على مئتي درهم حتى يبلغ أربعين درهمًا، ولا فيما زاد على عشرين دينارًا حتى يبلغ أربعة دنانير، فإن زادت ففي كل أربعين درهمًا درهم، وفي كل أربعة دنانير درهم، فجعل لها وقصًا كالماشية، واحتج الجمهور بما روى البخاري في "صحيحه" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الرقة ربعُ العشرِ" (¬1) وهذا عام في النصاب وما فوقه، وبالقياس على الحبوب، ولأبي حنيفة في المسألة حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به. واعلم أن المراد بالأواقي الخمسة الدراهم الخالصة من العين حقيقة دونها دراهم منقوشة، بل السبائك وغيرها حكمها، فلو كانت مغشوشة، لم يجب فيها شيء حتى يبلغ من الخالص مئتي درهم، وفي الحديث حجة لذلك، وفيه رد على المالكية؛ حيث أوجبوا الزكاة فيما نقص من المئتين فيه أو نحوها، وحجة مذهب الشافعي وموافقيه على عدم الوجوب في ذلك فإنه صرف لها دون خمس أواق، ثم قدر الدراهم منها خمسون حبة وخمسا حبة؛ لأن كل درهم ستة دوانق، ووزن كل دانق ثماني حبات وثلث حبة، وثلث خمس حبة من الشعير المطلق، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1386)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬1). وَفي لَفْظٍ: "إلا زَكَاةَ الفِطْرِ في الرَّقِيقِ" (¬2). قوله: "وفي لفظ: إلا زكاة الفطر في الرقيق" ليس هو مما اتفق عليه البخاري ومسلم، بل مما انفرد به مسلم فيما أعلم، والله أعلم. وفي هذا الحديث أصل في أن الأموال القنية لا تجب فيها الزكاة، لكن قال العلماء: لا يصير المال للقنية إلا بالنية، ولا يصير للتجارة إلا بالنية -أيضًا-، وزكاته متعلقة بقيمته، لا بعينه، فعند عدم النية لهما، وعدم النص بعدم وجوبها يقتضي أن تجب الزكاة فيه، أو يكون مسكوتًا عنه، والحديث دال بصريحه على عدم وجوبها في غير الخيل والرقيق، وهو مذهب العلماء كافة من السلف والخلف، إلا أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، وزفر؛ فإنهم أوجبوها في الخيل إذا كانت ذكورًا أو إناثًا، قولًا واحدًا، وإن انفردت الذكور والإناث، فعن أبي حنيفة في ذلك روايتان؛ من حيث إن النماء بالنسل لا يحصل إلا باجتماع الذكور والإناث، وإذا وجبت الزكاة، فهو مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارًا، أو يقوم ويخرج عن كل مئتين خمسة دراهم، فحينئذ وقع الإجماع على عدم وجوبها في عينها، بل بسببها، فيخرج من غيرها، وإنما احترزنا بقولنا: غير الخيل والرقيق عن وجوبها في قيمتها إذا كانت للتجارة، وهذا الحديث صريح في الرد عليهم؛ فإنه يقتضي عدم وجوبها في فرس المسلم مطلقًا، وفي عين العبيد، وقد استدل به الظاهرية على عدم وجوب زكاة التجارة، وقيل: إنه قول ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1395)، كتاب: الزكاة، باب: ليس على المسلم في عبده صدقة، ومسلم (982)، (2/ 675)، كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه مسلم (982)، (2/ 676)، كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، بلفظ: "ليس في العبد صدقة، إلا صدقة الفطر".

قديم للشافعي - رحمه الله - من حيث إن الحديث يقتضي عدم وجوب الزكاة في الخيل والعبيد مطلقًا، وأجاب الجمهور عن استدلالهم بوجهين: أحدهما: القول بالموجب؛ فإن زكاة التجارة متعلقها القيمة لا العين، فالحديث يدل على عدم تعلقها؛ فإنه لو تعلقت بالعين منها، لبقيت ما بقيت العين، وليس كذلك؛ فإنه لو نوى القنية، لانتفت الزكاة، والعين باقية، وإنما متعلق الزكاة فيهما القيمة بشرط نية التجارة وغيرها من الشروط. والثاني: أن الحديث عام في عدم وجوبها في الخيل والعبيد، فإذا أقاموا الدليل على وجوب زكاة التجارة، كان هذا الدليل أخص من ذلك العام، فيقدم عليه، نعم يحتاج إلى تحقيق إقامة الدليل على وجوب زكاة التجارة، والمقصود ها هنا بيان كيفية النظر بالنسبة إلى هذا الحديث. وفي الحديث دليل صريح على وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبيده، سواء كانوا للقنية أو للتجارة، وهو مذهب مالك، والشافعي، والجمهور، وقال أهل الكوفة: لا تجب في عبيد التجارة، وحكي عن داود: أنها لا تجب على السيد، بل تجب على العبد، ويلزم السيدَ تمكينُه من الكسب ليؤديها، وحكاه القاضي عياض عن أبي ثور -أيضًا-. وقد يستدل به لمن قال من أصحاب الشافعي: إن فطرة المكاتب على سيده؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المكاتَبُ عبدٌ ما بقيَ عليه درهمٌ" (¬1)، وقد اختلف في وجوبها وعدمه عليه، فقال الشافعي وجمهور العلماء: لا تجب فطرة المكاتَب عليه، ولا على سيده، وعن عطاء، ومالك، وأبي ثور: وجوبها على السيد؛ كالوجه المستدل له عن بعض الشافعية، وعندهم وجه: أنها تجب على المكاتب؛ لأنه كالحر في كثير من الأحكام، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3926)، كتاب: العتق، باب: في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 111)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 324)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "العَجْمَاءَ جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفي الرِّكَازِ الخُمُسُ" (¬1). قال المصنف: الجبار: الهدر الَّذي لا شيء فيه، والعجماء: الحيوان البهيم. أما العجماء، فسميت بذلك لأنها لا تتكلم، ومنه: الدواب العجم؛ تنبيهًا على أنها لا تتكلم، ومنه: الأعجمي الَّذي لا يُفصح. وأصل التسمية بالجبار أن العرب تسمي السيل جُبارًا؛ للمعنى الَّذي ذكره المصنف؛ أي: لا طلب فيه، ولا قَوَدَ ولا ديةَ. وأما البئر، فاشتقاقه من بأرت: إذا حفرت، والبؤرة: الحفرة، وهو يهمز أصلًا، ولا يهمز تسهيلًا، وجمعه: بئار وآبار وأبآر، والمراد به ما حفره الإنسان حيث يجوز له، فما هلك فيها، فهو هدر، وقيل: المراد به البئر القديمة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والمعدِن جُبار"؛ أي: من يهدر عليه من الفَعَلَة في المعدن، فلا شيء على المستأجر، وجمع المعدن: معادن، ومعادن الأرض: أصولها وبيوتها، ومعدِن الشيء: أصله، ومنه: معادن الذهب وغيره، وأصل المعدن: الثبوتُ والإقامة، ومنه سمي المعدن؛ لثبوت ما فيه، وقيل: لإقامة الناس عليه لاستخراجه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي الركاز الخمس" الكنز من دفين الجاهلية عند جمهور العلماء وعند أهل العراق هي المعادن؛ لأنها ركزت في الأرض؛ أي: ثبتت، وسمي ركازًا؛ لأنه ركز في الأرض؛ أي: أُقر؛ كما يقال: ركزت الرمح، يقال: ركزه يركزه -بضم الكاف-، والخمس -بضم الميم وإسكانها-، ويقال فيه: الخميس، ثلاث لغات، ومنه سمي الجيش خميسًا؛ لأنه ينقسم على خمسة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1428)، كتاب: الزكاة، باب: في الركاز الخمس، ومسلم (1710)، كتاب: الحدود، باب: جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، وهذا لفظ البخاري.

أقسام: مقدمة، وساقة، وميمنة، وميسرة، وقلب، وكذلك في النصف إلى العشر، يقال ثلاث لغات: الضم والإسكان، ووزن فعيل، إلا القلب؛ فإنه لم يسمع فيه التثليث، فمن تكلم به فيه، فقد أخطأ، والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد: منها: أن الحيوان إذا أتلف شيئًا من الأبدان أو الأموال، فهو غير مضمون بنص الحديث، وهو محمول على ما إذا أتلف شيئًا بالنهار، أو انفلت بالليل من غير تفريط من مالكه، وأتلف، ولم يكن معه أحد، لكن الحديث محتمل لإرادة الجناية على الأبدان فقط، وهو أقرب إلى حقيقة الجرح، فإنه قد ثبت في بعض طرقه في مسلم وغيره: "العجماء جرحُها جُبار" (¬1)، ومعلوم أن الجرح لا يكون إلا على الأبدان، وعلى كل تقدير، فلم يقولوا بالعموم في إهدار كل متلف من بدن أو مال، والمراد بجرح العجماء: إتلافها، سواء كان بجرح أو غيره. قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد، فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفته. وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال، إلا أن يحملها الَّذي هو معها على ذلك، أو بقصده. قال أصحاب الشافعي: وسواء كان إتلافها بيدها أو رجلها أو فمها ونحوه، فإنه يجب ضمانه في ضمان الَّذي هو معها، سواء كان مالكها، أو مستأجرًا، أو مستعيرًا، أو غاصبًا، أو مودعًا، أو وكيلًا، أو غيره، إلا أن يتلف آدميًّا، فتجب ديته على عاقلة الَّذي معها، والكفارة في ماله، أما إذا أتلفت بالنهار، وكانت معروفة بالإفساد، ولم يكن معها أحد، فإن مالكها يضمن؛ لأن عليه ربطها والحالة هذه (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب قريبًا. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 225).

وأما جنايتها بالليل، فقال مالك - رحمه الله -: يضمن صاحبها ما أتلفته، وقال الشافعي وأصحابه: إن فرط في حفظها، ضمن، وإلا، فلا، وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما رعته نهارًا، وقال الليث وسحنون: يضمن. وقد ورد حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إتلافها بالليل دون النهار في المزارع، وأنه يضمن كما قاله مالك. ومنها: أن المعدن إذا حفره رجل في ملكه، أو مَوات، أو مرَّ به مار، أو استاجر أجراء يعملون فيها، فيقع عليهم، فيموتون، فلا ضمان في هذه الصور كلها، وكذلك البئر إذا حفرها في ملكه، أو مَوات، فوقع فيها إنسان أو غيره، أو استأجره لحفرها، فوقعت عليه، فلا ضمان عليه في ذلك كله، أما إذا حفرها في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، فتلف فيها إنسان، وجب ضمانه على عاقلة حافرها، والكفارة في مال الحافر، وإن تلف بها غير الآدمي، وجب ضمانه في مال الحافر. ومنها: وجوب الخمس في الركاز، وهو زكاة عند الشافعية على أحد الوجهين يصرف إلى أهل الزكاة، واختار المزني أنه يصرف إلى أهل الفيء. ومنها: أن الركاز غير المعدن؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما في اللفظ والحكم، وعطف أحدهما على الآخر، وذلك يقتضي المغايرة دون الترادف. ومنها: أن الركاز لا يختص بالذهب والفضة؛ لعموم الحديث، وللشافعي قولان في ذلك: الأصح الجديد: اختصاصه بهما، والثاني: جريان الركاز في غيرهما. ومنها: أنه لا فرق في الركاز بين القليل والكثير في وجوب التخميس؛ لعموم الحديث، واعتبر بعضهم فيه النصاب. ومنها: عدم اعتبار الحول في إخراج زكاة الركاز، ولا خلاف فيه عند الشافعية؛ كالغنيمة والمعشرات، ولهم في المعدن اختلاف في اعتبار الحول؛ إذ الفرق بينهما أن النماء يحصل في الركاز متكاملًا من غير كد، فلم يعتبر فيه

الحديث الخامس

الحول؛ لأنه معتبر لتحصيل النماء، بخلاف المعدن؛ فإنه يحصل شيئًا فشيئًا بكد وتعب، فأشبه أرباح التجارة، فاعتبر فيها الحول. ومنها: إطلاق اعتبار الخمس في الركاز من غير اعتبار الأراضي، لكن الفقهاء جعلوا الحكم يختلف باختلافها، فإن أرادوا اعتبار الأراضي في بعض الصور، فهو قريب من الحديث، فعند الشافعية أن الأرض إن كانت مملوكة لمالك محترم مسلم أو ذمي، فليس بركاز، فإن ادعاه، فهو له، وإن نازعه منازع، فالقول قوله، وإن لم يدعه لنفسه، عرض على البائع، ثم على بائع البيع حتى ينتهي الأمر إلى من عمر الموضع، فإن لم يعرف، فظاهر المذهب أنه يجعله لقطة، وقيل: ليس بلقطة، بل مال ضائع، يسلم إلى الإمام، فيجعله في بيت المال، وإن وجد الركاز في أرض عامرة لحربي، فهو كسائر أموال الحربي إذا حصلت في أيدي المسلمين، وإن وجد في موات دار الحرب، فهو كموات دار الإسلام عند الشافعية، أربعة أخماسه للواجد، والله أعلم * * * الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابنُ جَمِيلٍ، وخَالِدُ بْنُ الولِيدِ، والْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خالِدٌ، فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، وَقَدِ احْتبَسَ أَدْرُعَهُ وأَعْتَادَهُ في سَبِيلِ اللهِ، وأَمَّا العَبَّاسُ، فَهِيَ عَلَيَّ ومِثْلُها"، ثُمَّ قَالَ: "يا عُمَرُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ" (¬1). أما أبو هريرة، وعمر - رضي الله عنهما -، فتقدم ذكرهما. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1399)، كتاب: الزكاة، باب: قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}، {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة: 60]، ومسلم (983)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، وهذا لفظ مسلم.

وأما ابنُ جميل، فهو -بفتح الجيم وكسر الميم وبالياء آخر الحروف، وباللام- فلا يعرف اسمه، وروى عنه أبو هريرة، وقال المهلب: كان ابن جميل منافقًا أولًا، فمنع الزكاة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه} [التوبة: 74]، قال: فاستتابه به الله، فتاب، وصلحت حاله (¬1). وأما خالد بن الوليد، فكنيته: أبو سليمان بنُ الوليدِ بنِ المغيرة بنِ عبد الله بن عمرَ بنِ مخزومِ بن نقطةَ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبِ، القرشيُّ المخزوميُّ، سيفُ الله، سماه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة لما حضرها، وشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمله بها بالمدينة، فمن يومئذٍ سماه: سيف الله، وروى له البخاري حديثًا موقوفًا، وهو أن خالدًا - رضي الله عنه - قال: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية (¬2). أُمُّه لُبابةُ الصغرى بنتُ الحارثِ أختُ ميمونةَ بنتِ الحارث زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. أسلم خالد قبل الفتح بعد الحديبية، وشهد خيبر والفتح وحنينًا ومؤتة كما ذكرنا، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيةَ عشرَ حديثًا، اتفقا على حديث، وللبخاري الحديث الموقوف الَّذي ذكرناه، وروى عنه: قيس بن أبي حازم، وأبو وائل شقيق بنُ سلمة. مات بحمص من الشام سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، ودفن على ميل منها، وقيل: مات بالمدينة، رواه أبو زرعة الدمشقي عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي دحيم. قال أبو حاتم بن حبان - رحمه الله -: مات في عهد عمر بحمص سنة إحدى وعشرين، وأوصى إلى عمر، وكان إسلامه سنة ثمان من الهجرة، وكان في أيام بدر وأحد والخندق مع المشركين، ثم هداه الله بعد. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (9/ 46). (¬2) رواه البخاري (4018)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة من أرض الشام.

قلت: وكلامه هذا يدل على أنه لم يشهد خيبر صريحًا؛ لأنها كانت سنة سبع، والله أعلم. وروى بإسناده الصحيح إلى قيس -يعني: ابن أبي حازم- قال: قال خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: ما ليلة يهدى إلي منها عروسٌ أنا لها محبٌّ، أو أُبشر بغلام أحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، أُصَبِّحُ فيها العدو (¬1)، والله أعلم (¬2). وأما العباس: فهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكنى: أبا الفضل، وهو: ابنُ عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، الهاشميُّ القرشيُّ، وكان أسنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين أو ثلاثة. قال أبو حاتم بن حبان: ولد قبل الفيل بثلاث سنين، شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين، وأُسر يومئذ، وأسلم بعد ذلك، وقيل: أسلم قبل بدر، وكان يكتم إسلامه، وأراد القدومَ إلى المدينة، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمقام بـ "مكة"، وقال له: "إن مقامك بـ "مكة" خير"، وكان يكتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخبار المشركين، وكان المسلمون يتقوَّون به، فلذلك أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمقام بـ "مكة". ومناقبه - رضي الله عنه - كثيرة جدًّا، وقد صنف العلماء فيها كتبًا كثيرة، منهم: ابن أبي الدنيا، وغيره، وملكت مصنفًا في مناقبه مجلدًا كبيرًا لا أعلم من ¬

_ (¬1) رواه ابن المبارك في "الجهاد" (107)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (19421)، وأبو يعلى في "مسنده" (7185)، وابن حبان في "الثقات" (3/ 101). (¬2) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 394)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 136)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 356)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 101)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 336)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1453)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 216)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 140)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 187)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 366)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 251)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 107).

صنفه، ثم ذهب مع كتب لي في وقعة غاران بحمص، والله خير مخلف، وهو خير الرازقين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وثلاثون حديثًا، اتفقا على حديث واحد، وللبخاري حديث، ولمسلم ثلاثة، روى عنه: ابناه: عبد الله، وكثير، وجابر بنُ عبد الله، والأحنفُ بن قيس، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وإسحاق بن عبد الله بن نوفل، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وغيرهم، ومات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان، وهو ابنُ ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان - رضي الله عنه -، ودفن بالبقيع، وزرتُ قبره غير مرة بالبقيع في قبة عثمان - رضي الله عنهما -، وقيل: مات سنة أربع وثلاثين، والله أعلم (¬1). وأما ألفاظه: فقوله: "ما ينقم ابن جميل" هو -بكسر القاف، والماضي منه بفتحها-، وهي لغة القرآن: {وَمَا نَقَمُوا إلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] ويقال: بفتحها في المضارع، وكسرها في الماضي، ومعناه: أنكر؛ أي: إذا لم يكن موجب المنع من الصدقة إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله، وهذا ليس بموجب لمنعها، والعرب كثيرًا تقصد مثل هذا في النفي على سبيل المبالغة بالإثبات، كقول الشاعر (¬2): ولا عَيْبَ فيهم غَيْرَ أَن سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ أي: إذا لم يكن فيهم عيب إلا هذا، فليس بعيب، فلا عيب فيهم، فكذلك ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 5)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 2)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 288)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 210)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 810)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 308)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 273)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 163)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 78)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 631). (¬2) هو النابغة الذبياني، كما في "ديوانه"، ق 4: 19، (ص: 60) من قصيدة مطلعها: كِلِيني لَهمٍّ يا أميمةَ ناصِبِ ... وليلِ أُقاسيه بَطِيءِ الكواكبِ

هذا، إذا لم ينكر ابن جميل إلا كون الله تعالى أغناه بعد فقره، فلم ينكر منكرًا أصلًا، ويقال: نقم منه الإحسان: إذا جعله مؤديًا إلى كفر النعمة، فيكون معناه: أن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى بمنع الزكاة، فما ينقم؛ أي: ما ينكر ويكره إلا أن يكفر النعمة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنكم تظلمون خالدًا" هو خطاب للعمال على الصدقة؛ حيث لم يحتسبوا له بما أنفق في الجهاد من الخيل والعدة؛ لأنهم طلبوا منه زكاة أعتاده، ظنًّا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة فيها واجبة، فقال لهم: لا زكاة لكم علي، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن خالدًا منع الزكاة، فقال: إنكم تظلمون خالدًا؛ لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله، قبل الحول عليها، فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد: لو وجبت عليه زكاة، لأعطاها، ولم يشحَّ بها؛ لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعًا، فكيف يشحُّ بواجب عليه؟ ويحتمل أنه لم يقفها، بل رفع يده عنها، وخلى بين الناس وبينها في سبيل الله؛ لأنه احتبسها وقفًا على التأبيد؛ لأنه صرفها مصرفها؛ حيث تعينت للجهاد، وقد جعل الله تعالى له حظًّا من الزكاة، فرأى صرفها فيه، فاشترى بها ما يصلح له كما يفعله الإمام، فلما تحقق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، قال: "إنكم تظلمون خالدًا"؛ فإنه قد صرفها مصرفها، وأجاز له ذلك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" احتبس بمعنى: وقف، ويحتمل أن يكون بمعنى: إبانة اليد عن الملك لله تعالى؛ كما ينقل المهدي لبيت الله تعالى فيها بالتخلية بينها وبين مستحقها، والأدراع: جمع درع، ويكون من الحديد وغيره، وأعتاده: هذه اللفظة رويت على أوجه: أحدها: أعتاده كما ذكره المصنف، وأنكرها بعضهم، وهي ثابتة في "صحيح مسلم". الثاني: أعتدة -بالتاء ثالث الحروف-، وهي والأعتاد جمع قلة لعَتَد -بفتح العين والتاء-، وهو الفرس الصلب، وهو قيل: المعدّ للركوب، وقيل: السريع

الوثب، وصححه بعضهم، وقال: يعني: خيله، وقيل: هو كل هو ما أعده الرجل من سلاح وآلة ومركوب للجهاد. الثالث: عتاده، ويجمع على أعتدة -بكسر التاء وضمها-. الرابع: أعبده -بالباء الموحدة- جمع قلة للعبد، وهو الحيوان العاقل، وقيل: إنه جمع صفة من قولهم: فرس عبد؛ أي: صلب. وروي: فقد احتبس رقيقه ودوابه. وروي: عقاره -بالقاف والراء-، والعقار: الأرض والضياع والنخل ومتاع البيت. وقد اختلف في معنى ذلك كله، فقيل: إنه طولب بالزكاة عن أثمان الأدراع والعتاد على أنها كانت عنده للتجارة، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا زكاة عليه فيها؛ إذ قد جعلها حبسًا في سبيل الله. وقيل: اعتذر ودافع عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كان خالد قد احتسبها في سبيل الله تقربًا إليه - سبحانه وتعالى -، فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة عليه، وهو يتقرب إلى الله تعالى لنفل المندوب المستحب ومنع الواجب؟ وقيل: يجوز أن يكون احتسب - صلى الله عليه وسلم - لخالد ذلك من الزكاة؛ لأنه في سبيل الله، لكن الأحاديث الصحيحة تدل على أنها الصدقة الواجبة، وتعريفها بالألف واللام يدل عليه، وهي التي جرى البعث والاستعمال عليها، وفي حديث آخر: منع صدقته، وجعل بعضهم هذه الصدقة صدقةَ تطوع؛ لحديث عبد الرزاق في ذلك، وقال فيه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب الناسَ إلى الصدقة، وذكر الحديث (¬1)، قال بعضهم: وهذا أليق بالقصة، ولا تظن بأحد منهم منع الواجب، فيكون عذر خالد واضحًا؛ لأنه إذا أخرج أكثر ماله، وحبسه، لا يحتمل صدقة التطوع، فعذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون ابن جميل شحَّ في التطوع، فعتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (6826).

وأخبر أن العباس سمح ما طلبه منه، ومثله معه، وأنه ممن لا يمتنع مما التزمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هذه كاللازم. قال شيخنا الحافظ أبو زكريا النواوي - رحمه الله -: الصحيح المشهور أن هذا كان في الزكاة، لا في صدقة التطوع، وهو الَّذي قاله أصحاب الشافعي وغيرهم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهي عليَّ ومثلها معها" هذا لفظ مسلم وأبي داود، ومعناه: إني سلفت منه صدقة سنتين، فصار دينًا علي. وقيل معناه: أنا أؤديها عنه، والذي قال بهذا لا يجوّز تعجيل الزكاة، وقد جاء في حديث آخر في غير "صحيح مسلم" رواه الدارقطني: "إنا تعجلنا منه صدقة عامين (¬2) "، وقيل: يكون - صلى الله عليه وسلم - قد قبض منه صدقة عامين: العام الَّذي شكي فيه، إنها لدي من زكاة فيه العامل، وتعجل صدقة عام ثان، فقال: هي علي، وبمثلها معها. وقد يكون - صلى الله عليه وسلم - قد تحمل الصدقة، وضمن أداءها عنه لسنتين، ولذلك قال: "إن عمَّ الرجل صنو أبيه"، وصوب بعضهم الأول، ولفظ البخاري والنسائي: "فهي عليه صدقةٌ ومثلُها معها" (¬3)، قال البيهقي: يبعد أن يكون محفوظًا؛ لأن العباس كان من جملة بني هاشم تحرُمُ عليه الصدقة (¬4)، وقال غيره: إلا أن يقال: لعل ذلك قبل تحريم الصدقة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورأى - صلى الله عليه وسلم - إسقاط الزكاة عامين لوجه رآه، وحكى البخاري عن ابن إسحاق: هي عليه ومثلها معها، قيل: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - أخرها عنه عامين لحاجة كانت بالعباس إليها، وللإمام تأخيرُ ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 57). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 124)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 111)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "أسلفنا صدقة عامين في عام". (¬3) رواه النسائي (2464)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق. وتقدم تخريجه عند البخاري. (¬4) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 111).

إذا أدَّاه اجتهاده إليه؛ كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عام الرمادة إلى أن جبى من الناس العام المقبل، فأخذ منهم زكاة عامين. ورواه موسى بن عقبة، فقال: "هي له ومثلُها معَها" (¬1)، قيل: إن (له) بمعنى عليه، قال الله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52]، وقال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]. قال بعضهم: والأشبهُ عندي احتمالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها على ما تقدم، وإخراجُها عنه برأيه، وهي له، ويعضده رواية: فهي له، وصدقة عليه، لا على أنه أحل له الصدقة، ولكنه تركها له، فأخرج الصدقة عنه من مال نفسه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عمُّ الرجلِ صِنْوُ أَبيهِ"؛ أي: يرجع مع أبيه إلى أصل واحد، ومنه قوله تعالى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد: 4]، وأصله في النخلتين والنخلات التي ترجع إلى أصل واحد، والصنوان جمع صنو؛ كقنوان وقنو، وتجمع أصناء؛ كأسماء، فإذا كثرت قُلتَ: الصني والصُّنى. وذكر - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعمر تعظيمًا لحق العم، وهو مقتض ومناسب لأن يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هي علي" على أنه يحملها عنه احترامًا له ومبرة وإكرامًا حتى لا يتعرض له بطلبها أحد؛ إذ يحملها عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا الحديث أحكام أصلية ومتفرعة على التأويلات فيه: فمن الأصلية: بعثُ الإمام العمال لجباية الزكوات. ومنها: أن يكونوا أمناءَ فيها، ثقات، عارفين؛ حيث بعث - صلى الله عليه وسلم - عليها عمر - رضي الله عنه -. ومنها: تعريف الإمام بمانعيها؛ ليعينهم على أخذها منهم، أو يبين لهم وجوه أعذارهم في منعها. ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2329)، و (2330)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 164).

ومنها: تعريف الفقير نعمة الله تعالى عليه في المعنى؛ ليقوم بحق الله تعالى فيه الواجب، أو المندوب. ومنها: البيان للعمال ما يظلمون فيه من غيره. ومنها: تحمُّل الإمام عن بعض رعيته وأتباعه وأقاربه ما وجب عليه، أو ندب إليه. ومنها: بيان فضل العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتنبيه على فضل العم، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر على فضل الخالة، فقال: "الخالةُ بمنزلة الأم" (¬1). وأما الأحكام المتفرعة على تأويلات الحديث: فمنها: أنه يجوز للإمام، ويستحب له أن يتأول لمن شُكي إليه من رعيته في منع الحق التأويلات المحتملة، وإن كانت خلاف الظاهر. ومنها: وجوب الزكاة في الأموال المرصَدة للتجارة، وقد حكى ابن المنذر فيه الإجماع، وزعم بعض المتأخرين من الظاهرية أنه لا زكاة فيها، وهو مسبوق بالإجماع. ومنها: جواز تحبيس الخيل والإبل والسلاح من الدروع والسيوف والحجف وغيرها من المركوبات والمنقولات. ومنها: جواز أخذ القيم في الزكاة، وقد أدخل البخاري هذا الحديث في باب أخذ العوض في الزكاة، فيدل على أنه ذهب إلى تأويل الحديث عن الصدقة الواجبة. ومنها: عتب الإمام على من منع الخير، وإن كان منعه مندوبًا، في غيبته وحضوره. ومنها: جواز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها، وهو مذهب أبي حنيفة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2552)، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان، وفلان بن فلان، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -.

الحديث السادس

والأوزاعي، والشافعي، وفقهاء المحدثين، ومن هؤلاء من يجيز تقديم زكاة عامين؛ أخذًا بهذا الحديث، ومنع ذلك مالكٌ والليثُ، وهو قول عائشة، وابن سيرين، وقالوا: لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها؛ كالصلاة، وعن مالك خلاف فيما قرب، وكَأن هؤلاء لم يصحَّ عندهم الحديث، ولا ارتضوا ذلك التأويل، أو جعلوه خاصًّا بالعباس. ومنها: جواز دفع الزكاة إلى صنف واحد، وهو قول مالك وجمهور العلماء، خلافًا للشافعي وغيره، والاستدلال على ذلك من هذا الحديث ضعيف جدًّا، وفي بعض هذه الاستدلالات المتفرعة نظر، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ زَئْدِ بْنِ عَاصِمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: لَمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ فِي النَّاسِ، وَفي المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا في أَنْفُسِهِمْ إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِيْنَ، فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي؟ وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بي؟ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ، قَالَ: "مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "لَوْ شِئتُمْ لَقُلْتُم: جِئْتَنَا كَذَا وكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ والبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَو سَلَكَ النَّاسُ وَادِي أَو شِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً، فَاصبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ" (¬1). أما هذا الحديث: فلا مدخل له في باب الزكاة، إلا أن يقاس إعطاء المؤلفة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1061)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه.

من الزكاة على إعطائهم من الفيء والخمس. وأما عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، فتقدم الكلام عليه. وأما قوله: "لما أفاء الله"؛ أي: ردَّ ورجع، والفيء: الرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئًا؛ لأنه رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق، وكان الأموال التي بأيدي الكفار كانت بالأصالة للمؤمنين؛ إذ الإيمان هو الأصل، والكفر طارئ عليه، فغلب الكفار على تلك الأموال، فإذا غنم المسلمون منها شيئًا، رجعت إلى نوع من كان يملكها. وأما حنين: فهو اسم وادٍ قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا، وقال عروة: إلى جنب ذي المجاز، وقال ابن حبان: وهو واد أجوف (¬1)، وكانت غزوته بعد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وكان فتح مكة في العشرين من شهر رمضان، وكانت حنين بعد فتح مكة، وإقامته فيها خمس عشرة ليلة تقصر الصلاة فيها في العشر الأول من شوال، والله أعلم. وقوله: "قسم في الناس وفي المؤلفة"، المؤلفة: من التأليف تسميتهم، وهو جمع القلوب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم أجدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي؟ " الضَّلال المشار إليه هو ضلال الإشراك والكفر، والهداية للإيمان، ولا شك أن نعمة الإيمان أعظم النعم؛ حيث لا يوازيها شيء من أمر الدنيا، ثم أتبع ذلك بنعمة الألفة، وهي أعظم من نعمة المال؛ إذ الأموال تبذل في تحصيلها، وكانت الأنصار [في] غاية التباعد والتنافر، وجرت بينهم حروب، منها يوم بعاث -بالعين المهملة والمعجمة، وآخره ثاء مثلثة-: موضع من المدينة على ليلتين، ثم أتبع ذلك بنعمة الغنى والمال، وقد استعمل - صلى الله عليه وسلم - في ذلك جميعه ما يجب من الأدب مع القرآن العزيز وأتباعه في إضافة الهداية والألفة والإغناء إلى الله تعالى، فإن ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الثقات" لابن حبان (2/ 69)، وأبو يعلى في "مسنده" (1862).

جميعه خاص به - سبحانه وتعالى - لا يشرَكُه فيه أحد، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، وفي إضافة الهداية إلى الأسباب؛ حيث أضافها الله تعالى إليه في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فلهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فهداكم الله بي"، وكذلك الألفة حيث قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62 - 63]، وكذلك الإغناء؛ فإنه -سبحانه وتعالى- المغني، وامتن به في قوله تعالى لقوم نوح - صلى الله عليه وسلم - وعلى لسانه: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12]، والله أعلم. وقوله: "عالة" هم الفقراء الذين لا مال لهم، والعَيْلَة: الفقر. ثم في جواب الصحابة - رضي الله عنهم - بما أجابوا به من استعمال الأدب والاعتراف بالحق، والذي كنى به الراوي: كذا وكذا، قد بين مصرَّحا به في رواية أخرى، فتأدب الراوي بالكناية دون التصريح. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا الهجرةُ لكنتُ امرأً من الأنصار" معناه: أتسمَّى باسمهم، وأنتسب إليهم كما كانوا يتناسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة ومرتبتها سبقت، وعلت؛ فهي أعلى وأشرف، فلا تُبدل بغيرها، ولا ينتفي منها من حصلت له، وقيل معناه: لكنت منهم في الأحكام والعداد، ولا يجوز أن يكون المراد النسب قطعًا. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لسلكت واديَ الأنصار وشعبَها" الوادي: اسم للحفيرة، وقيل: للماء، والأول أشهر، والشِّعْب: اسم لما انفرج بين الجبلين، وقيل: هو الطريق في الجبل، والمراد جبرهم بهذا القول، والتنبيه على ما حصل لهم من الإيمان والنصرة والقناعة والرضا عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن من كان هذا وصفه، فهو حقيق بأن يسلك طريقه، ويتبع حاله؛ لما فيها من الراحة الدنيوية والأخروية، والسلامة فيهما.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأنصارُ شِعارٌ، والنَّاسُ دِثار" الشعارُ: الثوب الَّذي يلي الجلد من الجسد، والدثار: الثوب الَّذي فوقه، واستعمال هذين اللفظين مجاز عن العرب، والاختصاص والتمييز لهم على غيرهم في ذلك؛ حيث إن المطلوب إنما هو في النصرة في الدين، والمواساة عليها، فلما كانت الأنصار أقْوَمَ بهذا الوصف من غيرهم، كانوا أقرب إليه - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الثوب الَّذي يلي الجسد، بخلاف غيرهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ستلْقَوْنَ بعدي أَثَرة" الأثرة: الاستئثار بالمشترَك؛ أي: يُستأثر عليكم، ويُفضل عليكم غيرُكم بغير حق، ولا شك أن هذا من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ هو إخبار عن أمر مستقبل وقع على وَفقْ ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من الاستئثار عليهم بالدنيا، والأثرة: اسم من أَثَر يُؤثر إيثارًا، وهو -بفتح الهمزة والثاء، على المشهور-، وقيل: -بضم الهمزة وسكون الثاء- لغتان صحيحتان، ويقال: إثرة: -بكسر الهمزة وسكون الثاء-، وهي قليلة، قال أبو علي القالي: ومعناها: الشدة، وبه كان يتأول الحديث، ولكن التفسير الأول أظهر، وعليه أكثر، وسياق الحديث وسببه يشهد له، وهو إيثارهم المهاجرين على أنفسهم، فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - بهذا (¬1)، وفي الحديث: فآثر الأنصار المهاجرين؛ أي: فضلوهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاصبروا حتى تَلْقَوْني على الحوض" أصل الصبر: الحبس، ومعناه: حبس النفس عن حظوظها الدنيوية رجاء للحظوظ الأخروية، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ لرضاه لهم - صلى الله عليه وسلم - بالأخرى على الأولى؛ لعلمه وتحققه أنها خير من الأولى وأبقى؛ كما أخبر به - سبحانه وتعالى - في القرآن العزيز عن صحف إبراهيم وموسى - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، والجميل منه: الَّذي لا شكوى فيه ولا جزع، ومن لا يتعاطاه ويوصي به ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (8/ 237)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 151) و (12/ 225)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 8)، (مادة: أثر).

ويقبل الوصية به، فهو في خسر؛ كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - في سورة: والعصر، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام وآداب: منها: أن للإمام صرفَ بعض الخمس على ما يراه من تفضيل الناس فيه، وأن يعطي الواحد منه بكثير، وأنه يصرفه في مصالح المسلمين، وله أن يعطي الغني منه لمصلحة. ومنها: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام منه. ومنها: إقامة الحجة عند الحاجة إليها على الخصم. ومنها: أن المؤمن إذا وجد في نفسه شيئًا من فوات الدنيا، وتحدث به، لا ينقصه، ولا يبطل ثوابه. ومنها: استحباب الخطبة للإمام عند الأمر يحدث، سواء كان الأمر خاصًّا بقوم، أو عامًّا بالناس. ومنها: تخصيص المخاطب بالنداء في الخطبة. ومنها: تذكير العاتب على فوات الدنيا بنعم الله عليه الظاهرة والباطنة، ومن جرت على يديه أو بسببه. ومنها: الأدبُ مع الله تعالى في الألفاظ، وتنزيلها منازلها. ومنها: التحضيض على طلب الهداية والألفة والغنى. ومنها: أن المنة لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق. ومنها: استعطاف العاتب، وتبيين الحجة لرد عتبه. ومنها: وجوب مراعاة جانب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمور العادلين، وتقديمها على مصلحة نفس الإنسان؛ لما فيها من مصالح الدنيا والدين. ومنها: بيان فضل الأنصار ومرتبتهم على غيرهم من الناس. ومنها: اتباع آثار أهل الفضل والإحسان والتحضيض عليه.

ومنها: تقديم جانب الآخرة على جانب الدنيا. ومنها: علم من إعلام النبوة؛ حيث إن الأنصار لم ينالوا رتبة من رتب الدنيا وولاياتها. ومنها: الأمر بالصبر عن حظوظ الدنيا وحطامها، وما استؤثر به منها، وادخار ثواب ذلك للدار الآخرة، والله أعلم. * * *

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَدَقَةَ الفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ والأُنْثَى، والحُرِّ وَالمَمْلُوكِ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاع مِنْ بُرٍّ، عَلَى الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ. وفي لفظ: أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ (¬1). أما عبد الله بن عمر، فتقدم ذكره. وأما قوله: "فرض"، فمعناه عند جمهور السلف والخلف من العلماء: أوجب وألزم، وإن كان أصله في اللغة بمعنى قَدَّر، لكنه نُقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب، فالحملُ عليه أولى؛ لأن ما اشتهر في الاستعمال، فالقصد إليه هو الغالب، فحينئذ زكاة الفطر فرضٌ واجب عندهم؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَءَاتُوْا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ولقوله: "فرض"، وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى. قال إسحاق بن راهويه: إيجاب زكاة الفطر بالإجماع. وقال بعض أهل العراق، وبعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1432)، كتاب: صدقة الفطر، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (984)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.

وداود في آخر أمره: إنها سنة ليست واجبة؛ لأن فرض بمعنى قدر على سبيل الندب، وقال أبو حنيفة: هي واجبة ليست فرضًا، بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض. قال القاضي عياض: وقال بعضهم: الفطرة منسوخة بالزكاة. قال شيخنا أبو زكريا النواوي - رحمه الله -: هذا غلط صريح، والصواب أنها فرض واجب (¬1). وقوله: "صدقةَ الفطر، أو قال: رمضان" مقتضاه إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان، لا بغير وقت وجوبها؛ لعدم استلزام اللفظ ذلك، بل يقال: بالوجوب من قوله: فرض، ويؤخذ وقت الوجوب من أمر آخر. وقال ابن قتيبة: معنى صدقة الفطر؛ أي: صدقة النفوس، والفطرة أصل الخلقة (¬2)، وهذا بعيد مردود؛ لقوله في "صحيح مسلم": "فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر من رمضان". واختلف العلماء في وقت وجوبها، فالصحيح من قول الشافعي: أنها تجب بغروب الشمس، ودخول أول جزء من ليلة عيد الفطر، والثاني: تجب بطلوع الفجر ليلة العيد، وقال بعض أصحابه: تجب بالغروب والطلوع معًا، فإن ولد مولود بعد الغروب، أو مات قبل الطلوع، لم تجب، وعن مالك روايتان كالقولين، وعند أبي حنيفة: تجب بطلوع الفجر. وسبب هذا الخلاف أن الشرع قد أضاف هذه الزكاة للفطر، وهل هو الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب من وقت الغروب، أو الفطر المعتاد في كل يوم فيكون من طلوع الشمس، أو المراد أول الفطر المأمور به يوم الفطر، فيكون من طلوع الفجر؟ لكن لم أعلم أحدًا قال بوجوبها عند طلوع الشمس يوم الفطر، بل قال أصحاب الشافعي: الأولى أن تخرج يوم الفطر قبل صلاة العيد، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 58). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 184).

وكان سبب الإخراج للفطرة أن صوم رمضان عبادة تطول ويشق التحرز فيها من أمور تفوِّت كمالَها، فجعل الشرع فيها كفارة مالية بدل النقص؛ كالهدي في الحج والعمرة، وكذلك الفطرة؛ لما يكون في الصوم من لغو وغيره، وقد جاء في حديث آخر: "أنها طهرةٌ للصائم من اللغو والإثم" (¬1)، فإن قيل: فقد وجبت على من لا إثم عليه ولا ذنب؛ كالصغير، والصالح المحقَّقِ الصلاح، والكافر الَّذي أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، قلنا: التعليل بالتطهير لغالب الناس، كما أن القصر في السفر جُوَّز للمشقة، فلو وُجد من لا مشقة عليه، فله القصر، وهو أفضل، أو هو واجب عند بعضهم. وأما الصاع: فهو مكيال معروف، وتقدم ذكره وضبطه في أبواب الطهارة، وخالف فيه أبو حنيفة - رحمه الله -، وجعل الصاع ثمانيةَ أرطال، واستدل مالك بنقل الخلف عن السلف بالمدينة، وهو استدلال قوي صحيح في مثل هذا، ولمَّا ناظر أبو يوسف بحضرة الرشيد في هذه المسألة، رجع أبو يوسف إلى قوله لما استدل بما ذكرناه. وقوله: "فعدل الناس به نصف صاع من بر"، الضمير في (به) عائد على التمر، ومعناه: أن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - كلم الناس على المنبر فقال: إني أرى أن مُدَّين من سمراءِ الشام تعدلُ صاعًا من تمر، فأخذ الناسُ بذلك، قال أبو سعيد الخدري: أما أنا، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشت (¬2)، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - أنه يخرج نصف صاع من حنطة أو زبيب، وخالفه الجمهور ومالك والشافعي، فقالوا: الواجب من ذلك صاع أيضًا؛ لحديث أبي سعيد الآتي بعد هذا: كنا نخرج زكاة الفطر في زمان ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1609)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر، وابن ماجة (1827)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر، والحاكم في "المستدرك" (1488)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 162)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) سيأتى تخريجه قريبًا.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب. والدلالة فيه من وجهين: أحدهما: أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسمٌ للحنطة خاصة، لا سيما وقد قرنه بباقي المذكورات. الثاني: أنه ذكر أشياء قيمتها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا، فدل على أن المعتبر صاع، ولا نظر إلى قيمته، ووقع في رواية أبي داود: أو صاعًا من حنطة، قال: وليس بمحفوظ (¬1)، وليس للقائلين بنصف صاع حجة إلا حديث معاوية، ولا يمكن أن يجعل إجماعًا بقول الراوي: فعدل الناس فيه نصف صاع، على هذا الحكم، ويقدم على خبر الواحد في حديث أبي سعيد؛ فإنه ملحق بالمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخفى مثله عنه، ولا يذكره الراوي في معرض الاحتجاج إلّا وهو مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن الإجماع وقع على إخراج صاع في غير الحنطة والزبيب؛ كيف والمروي عن معاوية قول صحابي قد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه وأعلمُ بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وإذا اختلفت الصحابة به، لم يكن بعضهم أولى من بعض، فيرجع إلى دليل آخر، وظاهر الأحاديث والقياس متفقة على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه، لا أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه -مع كثرتهم تلك اللحظة- علمٌ في موافقة معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذكره؛ كما جرى لهم في غير هذه القضية. وقوله: "على الذكر والأنثى، والحر والمملوك"، مقتضى هذا اللفظ وجوبُ إخراج الفطرة عن هؤلاء المذكورين، وإن كانت لفظة (على) تقتضي الوجوب عليهم نفسهم ظاهرًا، وقد اختلف الفقهاء في الَّذي يخرج عنهم، هل باشرهم الوجوب أولًا، والمخرِجُ عندهم بتحمله، أو الوجوب بلا في المخرج أولًا؟ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1616)، كتاب: الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر؟

وهما وجهان أو قولان في مذهب الشافعي، فمن قال بمباشرة الوجوب للمذكورين أولًا، أخذ بظاهر الحديث؛ حملًا للفظة (على) مقتضاها ومن قال بلا في الوجوب المخرج أولًا، تأول لفظة (على) معنى (عن). ثم قوله: "الذكر والأنثى" إلى آخره، يقتضي عموم الإخراج عن كل غني وفقير، فمن تعلق الوجوب به، وهو كونه من المسلمين كما قيد في الصحيح، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه؛ حيث قالوا: لا يلزم من يحل له أخذها، وورد هذا الحديث لبيان مقدار الفطرة، ومن تقدر عليه، ولم يتعرض فيه لبيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره، بل يشمل الجميع؛ إذ قد ذكر فيهم الحر والمملوك، ولم يفرق بين صغير وكبير، فأما الصغير، فلا خلاف عند من يقول: إنها تخرج بسببه أن وليه هو الَّذي يخاطَب بإخراجها؛ إذ الصبي لم يجر عليه بعدُ قلمُ التكليف، وأما المملوك، فمذهب الجمهور أنه ليس مخاطبًا بها؛ لأنه لا شيء له، ولو كان له مال، فسيده قادر على انتزاعه، خلافًا لداود؛ فإنه أوجبها على المملوك؛ تمسكًا بلفظ المملوك المذكور في الحديث، وقال: على سيده أن يتركه قبل الفطر، فيكتسب ذلك القدر، وليس له منعه من ذلك في تلك المدة، كما لا يمنعه من صلاة الفرض. ثم إذا تنزلنا على قول في أنه لا يجب عليه شيء، فهل يخاطب السيد بإخراجها عنه، أم لا؟ جمهورهم أيضًا على أنه يجب ذلك عليه؛ لأنه يلزمه نفقته ومؤنته، وهذه من جملة المؤن؛ فإن المخاطب بإخراجها المكلفُ الواجد لها حين الوجوب عن نفسه وعمَّن تلزمه نفقته؛ بدليل ما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون (¬1)، والذي في "صحيح مسلم" من حديث ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 141)، وقال: رفعه القاسم، وليس بقوي، والصواب: موقوف، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 161). ورواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 93)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 161)، عن جعفر بن محمد، عن أبيه.

أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر عن كل صغير وكبير، حر ومملوك (¬1)، فصرح فيه بأنهم كانوا مخاطبين بإخراج زكاة الفطر عن غيرهم، وذلك الغير لا بد أن يكون بينه وبين المأمور بالإخراج ملابسة، وتلك الملابسة هي تكون مثل الملابسة التي بين الصغير ووليه، والعبد وسيده، وهو القيام بما يحتاج إليه كل واحد منهما من المؤن، والله أعلم. قال القاضي عياض - رحمه الله -: واختلف في النوع المخرَج، فأجمعوا على أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير، إلا خلافًا في البر لا يعتد بخلافه، وخلافًا في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع، مردودٌ قولُه به (¬2). وأما الأَقِط: فأجازه مالك والجمهور، ومنعه الحسن، واختلف فيه قول الشافعي، وقال أشهب: لا يخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالك على الخمسة كلَّ ما هو عيشُ أهل بلد من القطاني، وعن مالك قول آخر: أنه لا يجزئ غيرُ المنصوص في الحديث، وما في معناه، ولم يجز عامة العلماء إخراجَ القيمة، وأجازه أبو حنيفة، وقال الشافعي: جنس الفطرة كل حب وجب فيه العشر، ويجزئ الأقِط على الراجح، وهو المذهب. والأصح: أنه يتعين غالب قوت بلده، والثاني: يتعين قوت نفسه، والثالث: يتخير بينهما، فإن عدل عن الواجب إلى أعلى منه، أجزأه، وإن عدل إلى ما دونه، لم يجزئه. ثم ظاهر الحديث أنها لا تجب إلا على القرى والأمصار والبوادي والشعاب، وكل مسلم حيث كان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وجماعة العلماء، وعن عطاء، والزهري، وربيعة، والليث: أنها ¬

_ (¬1) رواه مسلم (985)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 60).

لا تجب إلا على الأمصار والقرى دون البوادي. وفي هذا الحديث فوائد وأحكام: منها: وجوب صدقة الفطر، وتقدم اختلاف العلماء في وجوبها. ومنها: جواز قول: رمضان، من غير إضافته إلى (شهر) من غير كراهة، واختلف السلف في كراهته. ومنها: وجوب الفطرة على الزوجة نفسها، ويلزم إخراجها من مالها؛ حيث قال: على الأنثى، وهو مذهب الكوفيين، وقال مالك والشافعي والجمهور: يلزم الزوجَ فطرةُ زوجته؛ لأنها تابعة للنفقة، وأجابوا عن الحديث ما أجابوا لداود في فطرة العبد. ومنها: من مفهومه لا من منطوقه أنها لا تخرج إلا عن مسلم، فلا تخرج عن عبد وزوجة وولد ووالد كفار فقراء، وإن وجبت نفقتهم حيث يقول به، وهو قول مالك، والشافعي، وجماهير العلماء، وقال الكوفيون، وإسحاق، وبعض السلف: تجب عن العبد الكافر، وتأول الطحاوي قوله في بعض الأحاديث: من المسلمين، على أن المراد به السادة دون العبيد، وهو مردود بظواهر الأحاديث. ومنها: وجوب إخراج الصاع من كل نوع مخرَج، وتقدم الكلام والاختلاف فيه. ومنها: أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد، وهو مذهب الشافعي والجمهور، فلو أخرجها بالنية، وعينها لمستحقها، ولم يتفق له قبضها، جاز؛ لأنها لم تؤخر عن يوم العيد في المعنى، نص على ذلك أصحاب الشافعي. ومنها: أن الأفضل إخراجُها قبل الخروج إلى المصلى، ويجوز إخراجها في جميع رمضان؛ كتقديم الزكاة على الحول، والله أعلم. ومنها: أن الاجتهاد والعمل به لا ينفذ مع وجود النص أو الظاهر المعمول به؛ فإنه تُرك اجتهاد معاوية في تعديل البر، وعُمل بالنص، أو الظاهر الموصوف.

الحديث الثاني

وباقي فوائد الحديث وأحكامه تقدمت في الكلام على ألفاظه ومعانيه، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كُنَّا نُعْطِيهَا في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَّةُ، وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ، قَالَ: أَرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا، فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ (¬1). تقدم الكلام على هذا الحديث في الحديث قبله مبينًا واضحًا. والأَقِط -بفتح الهمزة وكسر القاف، ويجوز إسكان القاف مع فتح الهمزة وكسرها؛ كنظائره-، وهو لبن يابس غيرُ منزوع الزُّبد. والسمراء: هي الحنطة المحمولة من الشام. وفي هذا الحديث دليل صريح في إجزاء الأقط في الفطرة، وإبطال القول من منعه. وفيه دليل على أن فعل الشيء في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة في فعله وتقريره؛ لأن الظاهر علمه - صلى الله عليه وسلم - به، كيف والوحي كان ينزل؟ فلو كان فعل الشيء ممنوعًا منه، لنزل الوحي بمنعه، كيف وما يتعلق بشرع عام دائم؟ وفيه دليل على أنه لا يجوز لمن علم النص أن يرجع إلى اجتهاد المجتهد من العلماء، بل يجب على المجتهد الإقرار بالرأي، والتسليم للنص؛ كما ثبت من معاوية - رضي الله عنه - في هذه المسألة لما بلغه حديث أبي سعيد هذا، قال: إنه رأي رأيتُه؛ لأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1437)، كتاب: صدقة الفطر، باب: صاع من زبيب، ومسلم (985)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.

وفيه: الثبوت على السنة، والعمل بها، وعدم الرجوع إلى قول من رأى خلافها، وإن طالت المدد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "عَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكُم ومحدَثاتِ الأمور" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4607)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، والترمذي (2676)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، وابن ماجه (42) في: المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 126)، عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -.

كتاب الصيام

كتاب الصيام الصيام والصوم في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص. واعلم أنه فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام تسع رمضانات، وأن أكثرها تسعة وعشرون يومًا، والله أعلم. * * * الحديث الأول عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَومِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَينِ، إلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ" (¬1). الكلام على هذا الحديث من وجوه: أحدها: الرد على الروافض الذين يرون تقدم الصوم على الرؤية؛ فإن رمضان اسم لما بين الهلالين، فإذا صام قبله يوما، فقد تقدم عليه. الثاني: فيه تبيين لمعنى الحديث الَّذي فيه: "صوموا لرؤيته، وأَفطروا لرؤيته" (¬2)؛ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1815)، كتاب: الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، ومسلم (1082)، كتاب: الصيام، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه البخاري (1810)، باب: الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الهلال، فصوموا، وإذا رأيتموه، فأفطروا"، ومسلم (1081)، كتاب: الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية =

فإن اللام في قوله: "لرؤيته" للتأقيت، لا للتعليل كما زعمت الروافض. الثالث: فيه عدم النهي عن تقدُّم يوم أو يومين لرمضان بالصوم لمن له عادة في غير شعبان أن يصوم أواخره، وسواء كانت عادته بنذر، أو تطوع؛ فإنه داخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا رجلًا كانَ يصومُ صومًا فليصمْهُ". الرابع: يدخل تحت النهي صومُ يوم الشك، وهو عبارة عن اليوم الَّذي يتحدث برؤية الهلال من لا يقبل قوله؛ كالصبيان والعبيد، وقد اختلف السلف ممن صامه تطوعًا، وأوجب صومه عن رمضان: أحمد، وجماعة؛ بشرط أن يكون هناك غيم. الخامس: فيه التصريح بالنهي عن إنشاء الصوم قبل رمضان بيوم أو يومين بالتطوع، وهو نهي تحريم بلا شك، وهو الصحيح في مذهب الشافعي - رحمه الله -، وليس قوله: "بيوم ولا يومين" للتخيير، بل هو لتبيين المنع من التقديم عليه بالصوم، وأمدُ المنع فيه نصف شعبان، وهو مبين فيما رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا انتصفَ شعبانُ، فلا تصوموا"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1)، وهذا الحديث مقيد بالحديث المذكور: "إلا رجلًا كان يصوم صومًا فليصمه"، وقد ضعف أحمد بن حنبل حديثَ المنع بعد نصف شعبان من الصوم، وقال: هو منكر، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث به، ولعل ذلك لتفرد العلاء بن عبد الرحمن بروايته؛ فإن فيه مقالًا عند بعض أئمة هذا الشان، لكنه وإن كان كذلك، فقد حدث عنه الإمام مالك، مع شدة انتقاده للرجال، ¬

_ = الهلال، والفطر لرؤية الهلال، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬1) رواه أبو داود (2337)، كاب: الصوم، باب: في كراهته ذلك، والنسائي (1470)، كتاب: الصوم، باب: النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان، والترمذي (738)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، وابن ماجه (1651)، كاب: الصيام، باب: ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم، إلا من صام صومًا فوافقه، وهذا لفظ أبي داود.

وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في "صحيحه"، وذكر له أحاديث كثيرة، فهو على شرطه، فيجوز أن يكون ترك لأجل تفرده به، وإن كان قد خرج في الصحيح أحاديث تفرد بها رواتها، وكذلك نقل البخاري أيضًا أحاديثَ تفرد بها رواتها، لكن للحفاظ مذاهب في الرجال، كل واحد منهم فعل ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد، وقد ذكر بعضهم في النهي عن تقدم رمضان وبعد نصف شعبان إنما كان لأجل التقوي على صيام رمضان، والاستِجمام، وهو بعيد، فإن ذلك إذا أضعف عن رمضان، كان شعبان كله أولى بأن يضعف، وقد أجمع العلماء على جواز صومه كله، بل على استحبابه، وقد روى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أم سلمة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًّا إلا شعبان يصله برمضان، قال الترمذي: حديث حسن (¬1)، وقد ذكر بعضهم أن ظاهر حديث: "لا تقدموا رمضانَ بيومٍ ولا يومين" متعارض؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: "هل صمتَ من سُرَرِ شعبانَ شيئًا"؟ قال: لا، قال: "فإذا أفطرتَ، فصمْ يومًا"، وفي رواية: "يومين"، وهو حديث صحيح رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود من رواية عمران بن حصين (¬2)، والمراد بسرر شعبان: آخره؛ لأن الهلال يستسرُّ آخرَ الشهر ليلة أو ليلتين، وجمع بينهما بأن الرجل كان قد أوجب على نفسه صيام آخر الشهر بنذر، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء به، أو كان الصوم آخر الشهر عادة له، فتركه لاستقبال رمضان لأجل النهي عن تقدمه، فاستحب له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضيه؛ لكونه عادة له، وقال بعضهم: بل قوله: "هل صمت من سرر شعبان؟ " سؤال زجر وإنكار؛ لأنه قد نهى عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، فلا يكون بينهما معارضة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2336)، كتاب: الصوم، باب: فيمن يصل شعبان برمضان، والنسائي (2353)، كتاب: الصيام، باب: صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي، والترمذي (736)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في وصال شعبان برمضان، وابن ماجه (1649)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في وصال شعبان برمضان، وهذا لفظ أبي داود، والنسائي. (¬2) رواه البخاري (1882)، كتاب: الصوم، باب: الصوم آخر الشهر، ومسلم (1161)، كتاب: الصيام، باب: صوم سرر شعبان، وأبو داود (2328)، كتاب: الصوم، باب: في الصيام.

الحديث الثاني

قلت: وإن أريد بسرر شهر شعبان أوله، على ما ذكره بعضهم أن سرر الشهر: أوله، فلا تعارض بين الحديثين -أيضًا-، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَأَقْدُرُوا لَهُ" (¬1). قوله: "فإن غُمَّ عليكم" معناه: حالَ بينكم وبينه غيمٌ، يقال: غُمَّ وأُغْمِيَ وغُمِّي وغُمِيَ -بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما-، ويقال: غَبِي -بفتح الغين وكسر الباء-، وكلها لغات صحيحة، وقد غامت السماء وغَيَّمت وأَغامت وتَغيَّمت وأغتمت (¬2). وقوله: "فاقدروا له" قال أهل اللغة: يقال: قدرتُ الشيء أقدُرُه وأقدِرُه وقَدَرْته وأقدرْتُه بمعنى واحد، وهو من التقدير (¬3)، ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، واختلف العلماء في معناه في الحديث، فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور السلف والخلف: معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا، وتؤيده الروايات: "فعدوا ثلاثين"، "فاقدروا ثلاثين"، "فصوموا ثلاثين يومًا"، "فأكملوا العدد"، كل ذلك في "صحيح مسلم" (¬4)، وفي رواية ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1801)، كتاب: الصوم، باب: هل يقال: رمضان أو شهر رمضان؛ ومن رأى كله واسعًا، ومسلم (1080)، (2/ 760)، كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 135)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 388)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 186). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 254)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 186)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 77)، (مادة: قدر). (¬4) رواه مسلم (1081)، (2/ 762)، كتاب: الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال.

للبخاري: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" (¬1)، وقال أحمد بن حنبل وطائفة: معناه: ضيقوا له؛ أي: قدروه تحت السحاب، ولهذا جوز صوم ليلة الغيم عن رمضان. لكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فصوموا ثلاثين، وأكملوا عدة شعبان ثلاثين" يدلان على عدم التقدير لشعبان دون رمضان، ولا عكسه، بل لهما، فالتخصيص بأحدهما من غير مخصص خلف. وقال ابن مطرف بن عبد الله، وابن سريج، وابن قتيبة، وآخرون من المالكية وغيرهم: معناه: قدروه بحساب المنازل الَّذي يراه المنجمون، وهو ضعيف جدًّا؛ لأن الناس لو كلفوا به، ضاق عليهم؛ فإن ذلك لا يعرفه إلا أفراد الناس، والشرع إنما يعرف إليهم بما يعرفه جماهيرهم. قال شيخنا القاضي أبو الفتح بنُ دقيق العيد - رحمه الله - لا يجوز أن يعتمد عليه في الصوم بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو يومين؛ فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع؛ كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب؛ لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤيا مشترطة في اللزوم؛ فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم أن اليوم من رمضان، وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال، ولا أخبره من رآه، هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬2). وفي هذا الحديث فوائد: منها: دلالة على تعليق الحكم بالرؤية، ولا يراد بها رؤية كل فرد من الأفراد، بل مطلق الرؤية، أما في أول شهر رمضان، فتكفي رؤية عدل -على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1810)، كاب: الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا". (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 206).

أصح الوجهين- لجميع الناس، وأما في الفطر، فلا بد من رؤية عدلين، عند جميع العلماء، وقال أبو ثور: يجوز الفطر برؤية عدل -أيضًا-. ومنها: وجوب الصوم والفطر على منفرد رأى الهلال في رمضان أو شوال، لكن قال العلماء: يفطر سرًّا؛ لئلا يساء الظن به. ومنها: أنه لا يجوز صوم الشك، ولا صوم يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم، وقد روى أبو داود بإسناد كلُّ رجاله محتجٌّ بهم في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصومه لرؤية رمضان، فإن غم عليه، عد ثلاثين يومًا، ثم صام، ورواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح (¬1). ومنها: أنه قد يستدل به على أن حكم الرؤية ببلد لا يتعدى إلى بلد آخر؛ لأنه إذا فرض أنه رُئي الهلال ببلد في ليلة، ولم ير في تلك الليلة بآخر، فيكمل ثلاثين يومًا لرؤية الأولى، ولم ير بالبلد الآخر، فهل يفطرون أم لا؟ فمن قال: يتعدى الحكم على أحد الوجهين في المسألة، لم يجز لهم الإفطار، وقد وقعت المسألة في زمان ابن عباس، وقال: لا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، وقال: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن أنه أراد بذلك هذا الحديث العام، وهو قوله: "أفطروا لرؤيته"، أو لأنه شهادة واحد لم يثبت به إلا حديثًا خاصًّا بهذه المسألة، وهو الظاهر، والله أعلم. ومنها: أنه استدل لمن قال بالعمل بالحساب في الصوم بقوله: "فاقدروا له"؛ حيث إنه أمر يقتضي التقدير، وتأوله غيرهم بأن المراد كمال العدد ثلاثين كما بيناه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2325)، كتاب: الصوم، باب: إذا أغمي الشهر، والدارقطني في: "سننه" (2/ 156)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 149)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1910)، وابن حبان في "صحيحه" (3444)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 206)، وهذا لفظ أبي داود.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا؛ فَإنَّ في السُّحُورِ برَكَةً" (¬1). أما السحور: فرووه بفتح السين وضمها، فالمفتوح: اسم للمأكول، والمضموم: اسم للفعل، واختار بعضهم أن يكون اسمًا للفعل بالوجهين (¬2). والبركة: النماء والزيادة، والتي في السحور يجوز أن تكون راجعة إلى أمور أخروية؛ من متابعة السنة في الفعل، وقد يحصل له بسببه ذكر ودعاء ووضوء وصلاة واستغفار في وقت شريف تنزل فيه الرحمة، ويستجاب الدعاء، وقد يدوم ذلك حتى يطلع الفجر، وكل ذلك سبب لمزيد الأجور، ويجوز أن تكون راجعة إلى أمور دنيوية؛ من التقوية على الصيام، والتنشيط له، ويحصل له بسببه الرغبة في الازدياد من الصوم؛ لخفة المشقة على فاعله، فيجوز أن يضاف إلى كل واحد من الفعل والمتسحَّر به معًا، ومما أوجب الأمر به المخالفة لأهل الكتاب؛ فإن السحور عندهم ممتنع، وذلك أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأمور الأخروية، وقد أجمع العلماء على استحباب السحور، وأنه ليس بواجب، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَنَسٌ: قُلْتُ لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1823)، كتاب: الصوم، باب: بركة السحور، ومسلم (1095)، كتاب: الصيام، باب: فضائل السحور وتأكيد استحبابه. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 205 - 206). (¬3) رواه البخاري (1821)، كتاب: الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر؟ ومسلم =

أما زيد بن ثابت، وأنس، فتقدم الكلام عليهما. الظاهر أن المراد بالأذان هنا: الأذان الثاني، ولو فرض الأول، لما كان بينهما زمن طويل كما تقدم في باب الأذان من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن بلالًا يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم" (¬1)، وثبت في الصحيح أنه لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم في الصوم إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا (¬2)، ومعلوم أن الصعود والنزول زمنه يسير، وإنما أخروا السحور؛ لأنه أقرب إلى حصول المقصود من التقوي، وأبلغ في مخالفة أهل الكتاب، وقد تكلم المتصوفون وأهل الباطن على معنى ما ذكرنا من تأخير السحور بكلام لا تحل حكايته إلا لبيان بطلانه، وهو: أن معنى الصوم وحكمته إنما هو كسر شهوة البطن والفرج، فمن لم تتغير عليه عادته في مقدار أكله، لا يحصل له بالسحور المقصود من الصوم، وهو كسر الشهوتين، فلا يفعل، والصواب: أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس ومقاصدهم ومقدار ما يتعلمونه من السحور، فما زاد في المقدار على مقصود الشرع وحكمته حتى يعدم كل واحد منهما بالكلية؛ كعادة المترفين في التأنق في المأكل والاستعداد بهما، فلا يستحب، وما لا يزيد فيه عليهما، فهو مستحب، وقد يحصل لبعض الناس بسببه إذا خالفوا مقصود الشرع تخمة وجُشاء منتن وكسل وتخبيث نفس، وما ذلك إلا للجهل بالشرع ومقصوده وحكمته، ومجاوزة الحد فيه، والله أعلم. وقوله: "قال: قدر خمسين آية"، معناه: بينهما قدر قراءة خمسين آية، أو أن يقرأ خمسين، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على استحباب السحور، وتأخيره إلى قبل طلوع الفجر الثاني. ¬

_ = (1097)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

الحديث الخامس

وفيه دليل على تتبع السنن، ومعرفة أوقاتها، والمحافظة عليها. وفيه دليل على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - سنن عامة؛ كأقواله، وأنها شرع، ويحرم تقديم الأذان الثاني في رمضان على طلوع الفجر الثاني؛ لما يلزم منه من تحريم الأكل المحلَّل المشروع على الناس، وما كان وسيلة إلى الحرام، فهو حرام، بل إن اعتقد معتقد حل تقديمه إذا أوهم طلوع الفجر الثاني وتحريم السحور لا لمقصود شرعي، فهو كفر، والله أعلم، ولو فعل ذلك احتياطًا للصوم مع الاجتهاد التام في تحرير معرفة طلوعه، وخشي طلوعه من غير علمه لغيم أو تقصير فيه، فلا بأس به إذا لم يفحش، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ عَائِشَةَ وَأمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْرِكهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ (¬1). تقدم الكلام على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما -. المقصود من ذكر هذا الحديث: الدلالة على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام، أو جماع، وكان فيه اختلاف بين الصحابة والتابعين، فذهب أبو هريرة إلى أنه: من أدركه الصبح جنبًا، فلا يصم، ورواه عن الفضل بن عباس، وأسامة بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه مالك، وقال: أفطر، فلما بلغه حديث عائشة وأم سلمة، رجع إليه، وترك حديث الفضل، ورآه منسوخًا؛ لأنه في أول الأمر حين كان الجماع محرمًا في الليل بعد النوم، كما كان الطعام والشراب محرمًا، ثم نسخ ذلك، ولم يعلمه أبو هريرة، فكان يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ، فرجع إليه، وهذا أحسن ما قيل فيه، ولذلك يقال جوابًا عمن قال به بعد أن بلغهم ورجعوا، قال طاوس، وعروة، والنخعي: إن علم بجنابته، لم يصح، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1825)، كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبًا، ومسلم (1109)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب.

وإلا، فيصح، وحكي مثله عن أبي هريرة، وحكي أيضًا عن الحسن البصري والنخعي: أنه يجزئه في صوم التطوع دون الفرض، وحكي عن سالم بن عبد الله، والحسين بن صالح: أنه يصومه ويقضيه، ثم ارتفع الخلاف، ووقع الإجماع على صحة صوم الجنب، مع أنه قد قيل: إن أبا هريرة لم يرجع عن قوله بعدم صحة صوم الجنب، لكن الصحيح رجوعه، كيف والحديث بصحة صوم الجنب موافق للقرآن العزيز؛ فإن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر، قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، والمراد بالمباشرة: الجماع إجماعًا، ولهذا قال تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187]، فاقتضى ذلك جواز الجماع إلى طلوع الفجر، ولزم منه أن يصبح جنبًا، ويصح صومه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فلما أتم الصوم، وأبيح الجماع في ليلة الصوم مطلقًا إلى الوقت المقارن لطلوع الفجر، لزم الإصباح جنبًا، وإذا دل القرآن وفعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جواز الصوم لمن أصبح جنبًا، وجب المصيرُ إليه، وصار ناسخًا لما قبله. وقد أجيب عن حديث الفضل وأسامة على تقدير عدم نسخه بأنه إرشاد إلى الأفضل أنه يغتسل قبل الفجر، ولو خالف، جاز، وهذا جواب أصحاب الشافعي عن الحديث، ومذهبهم في حكم المسألة، فإن قيل: كيف يكون الاغتسال أفضل، وهذا الحديث الصحيح على خلافه؟ فالجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان الجواز، وفعله - صلى الله عليه وسلم - الشيء بيانًا لجوازه أفضل في حقه؛ حيث إنه مأمور بالبيان؛ كما توضأ - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، وطاف على البعير، مع أن الوضوء ثلاثًا والطواف ماشيًا أفضل؛ لأنه المتكرر من فعله - صلى الله عليه وسلم -، ونظائر ذلك كثيرة. وهذا الكلام راجع إلى مسألة أصولية، وهي أن الوجوب إذا نسخ هل ببقى الاستحباب؟ الصحيح بقاؤه، فالاغتسال قبل الفجر في الصوم للجنب كان واجبًا، فلما نسخ، بقي استحبابه. والله أعلم.

الحديث السادس

ومنهم من حمل حديث الفضل وأسامة على من أدركه الفجر مجامعًا، فاستدام بعده عالمًا، فإنه يفطر، ولا صوم له، وهو بعيد من حيث تسمية المجامع حال جماعه عرفًا جنبًا، والله أعلم. وقولهما: "من أهله" فيه حذف لمضاف تقديره: من جماع أهله، وإنما ذكرتا ذلك لإزالة اللبس وزيادة الإيضاح؛ حيث يقع في الذهن احتمال الاحتلام في النوم؛ فإنه على غير اختيار من الجنب، فيكون سببا للرخصة، بخلاف جنابة المجامع، ففي ذلك دليل على جواز الاحتلام من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -، ولا يلزم من الاحتلام أن يكون في حقهم من تلاعب الشيطان؛ حيث يكون فيضًا مجردًا، أو في مَحَلٍّ حلالٍ؛ فإن الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - منزهون من تلاعب الشيطان، والله أعلم. وهذا المذكور في الحديث حكم الجنب، سواء كان رجلًا أو امرأة، وأما الحائض والنفساء إذا انقطع دمهما في الليل، ثم طلع الفجر قبل اغتسالهما، صح صومهما، ووجب عليهما إتمامه، سواء تركتا الغسل عمدًا، أو سهوًا، بعذر، أو غيره؛ كالجنب، وهذا مذهب العلماء كافة، وفي مذهب مالك في وجوب القضاء عليهما قولان، فعلى أحد قوليه، في وجوب القضاء: يلزم عنه عدم صحة صومهما؛ لأن القضاء فعل الشيء خارج الوقت لنوع من الخلل الواقع في الوقت، ولم يكن ثَمَّ خلل إلا عدم اغتسالهما قبل طلوع الفجر، وهذا قول ضعيف مخالف لقول العلماء، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1831)، كتاب: الصوم، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، ومسلم =

اختلف الفقهاء في أكل الناسي للصوم وشربه: هل يفطر به، أم لا؟ فقال الشافعي، وأبو حنيفة، وداود، وآخرون: لا يفطر، ويصح صومه، وذهب ربيعة، ومالك: إلى فساد الصوم، وإيجاب القضاء، ولا كفارة، وهو القياس؛ حيث فات ركن الصوم، وهو من باب المأمورات، لكن هذا الحديث وما في معناه يدل على عدم وجوب القضاء؛ فإنه أمر بالإتمام، ولا يسمى متمًّا إلا من صام شرعًا لا صورة، فالإتمام متفق عليه، لكن هل يوجب عدم القضاء أم لا؟ وهو راجع إلى أن اللفظ إذا دار بين حمله على المعنى اللغوي أو الشرعي، فحملُهُ على الشرعي أولى، إلا أن يكون دليل خارج يقوى به اللغوي، فيعمل به، ومما يدل على صحة حمل اللفظ على المعنى الشرعي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإِنَّما أطعمه الله وسقاه"؛ فإن فيه إشعارًا بصحة الصوم؛ حيث إن الأكل والشرب وما في معناهما ناسيًا فعلٌ صادر من فاعله، مسلوب الإضافة إليه، والحكم بالفطر يلزمه الإضافة إليه، أجاب الذين قالوا بالإفطار: بأن المراد بالحديث عدمُ الإثم في الفعل والمؤاخذة به، وتعليق الحكم بالأكل والشرب لا يقتضي من حيث هو مخالفة غيره له؛ فإنه تعليق للحكم باللقب، فلا يدل على نفي الحكم [عَمّا] عداه، أو لأنه تعليق للحكم بالغالب؛ فإن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليه، والتخصيص بالغالب لا يقتضي مفهومًا. وأما الجماع في الصوم ناسيًا: فحكمه حكم الأكل والشرب ناسيًا: أنه لا يفطر، والخلاف فيه كالخلاف فيهما، لكنه لا كفارة فيه عند من قال بإفساد الصوم به، وقال عطاء، والأوزاعي، والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد: يجب في الجماع القضاءُ والكفارة، ولا شيء في الأكل والشرب. والكلام في الجماع في الصوم ناسيًا مفرع على أن أكل الناسي لا يوجب القضاء، مع اتفاقهم على أنه لا يوجب الكفارة، أما من قال بإفساد جماع الناسي ¬

_ = (1155)، كتاب: الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، وهذا لفظ مسلم.

الحديث السابع

له، فإنهم اختلفوا في وجوب الكفارة، ومدار جميعهم في دليلهم على الإفساد والكفارة قصور حالة المجامع ناسيًا عن غيره فيما يتعلق بالعذر بالنسيان، فمن أراد إلحاق المجامع بالمنصوص عليه، فإنما طريقه القياس، والقياس مع الفارق متعذر، إلا إذا بَيَّنَ القائسُ أن الوصف الفارق ملغى. ثم إن أصحاب الشافعي - رحمهم الله تعالى - اتفقوا على أن الأكل والشرب القليل ناسيًا لا يفطر، واختلفوا في الكثير على وجهين: أصحهما عند الأكثرين منهم: لا يفطر؛ لإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل أو شرب ناسيًا من غير تقييد بكثرة أو قلة، وقياسًا على الجاهل بكون الأكل مفطرًا؛ بأن كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بباديةٍ، وكان يجهل مثل هذا؛ فإن صومه لا يبطل اتفاقًا، والله أعلم. * * * الحديث السابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! هَلَكْتُ، قَالَ: "مَا لَكَ؟ "، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ -وفي رواية: أَصَبْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُها؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تَجدُ إطْعَامَ سِتيِّنَ مِسْكِينًا؟ "، قَالَ: لَا، فَمَكَثَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ: المِكْتَلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيْنَ السَّائِلُ؟ "، قَالَ: أَنَا، قَالَ: "خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَوَاللهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْها -يُرِيدُ: الحَرَّتَينِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1834)، كتاب: الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء، فتصدق عليه، فليكفِّرْ، ومسلم (1111)، كتاب: الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، وهذا لفظ البخاري.

أما الرجل المجامِع، فهو مبهَم في الروايات كلِّها، لا أعلم تسميتَه في رواية ولا نقل. وقوله: "يا رسول الله! هلكت"؛ أي: وقعت في الإثم والمخالفة بفعل ما حرم علي فعلهُ في الصوم، وهو الجماع فيه، وفي لفظ لمسلم: "وَطِئْتُ امرأتي في رمضانَ نهارًا"، ورواه مسلم، وأبو داود في "سننه": أنه قال: "يا رسولَ الله! احترقتُ" (¬1)، وروي في بعض طرق الحديث الضعيفة: "هلكتُ وأهلكتُ" (¬2)، واستدل بها بعضهم على مشاركة المرأة إياه في الجناية، واتفق الحفاظ على ضعفها، وأنها غير محفوظة، وبينوا من رواها ومن دخلت عليه، وضعفوه، والله أعلم. قوله: "أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر"، العرق -بفتح العين والراء- في الرواية واللغة، وروي بإسكان الراء، وهو غلط أو ضعيف، وقد فسره في الحديث: المِكْتَل، وهو: بكسر الميم وفتح التاء المثناة فوق-، ويقال للعرق: الزبيل -بفتح الزاي من غير نون-، والزنبيل -بكسر الزاي وزيادة نون-، قال ابن دريد: سمي زبيلًا؛ لأنه يُحمل فيه الزِّبل، ويقال له: القُفَّة، والسفيفة -بفتح السين المهملة وبالفاءين-، والفَرَق عند الفقهاء: ما يسع خمسةَ عشرَ صاعًا، وهي ستون مُدًّا، لستين مسكينًا، لكل مسكين مد (¬3). قوله: "فوالله ما بين لابتيها"، اللابتان: الحَرَّتان، والمدينة بينَ حَرَّتين، والحرَّةُ: الأرض الملبسة حجارة سوداء إذا كانت بين جبلين، ويقال: لابة، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1112)، كتاب: الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، وأبو داود (2394)، كتاب: الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان. ورواه البخاري أيضًا (6436)، كتاب: المحاربين، باب: من أصاب ذنبًا دون الحد فأخبر الإمام، فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيًا، كلهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 209)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 227). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 105)، و"الزاهر" للأزهري (ص: 165)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 225).

ولوبة، ونوبة، حكاهن أبو عبيد، والجوهري، ومن لا يُحصى من أهل اللغة، قالوا: ومنه قيل للأسود: لوبي، ونوبي -باللام والنون-، قالوا: وجمع اللابة: لوب، ولاب، ولابات، وهي غير مهموزة (¬1). قوله: "أهلُ بيت أفقرُ من أهل بيتي"، أفقرُ مرفوعٌ نعتٌ لأهلُ بيت. وقوله: "حتى بدت أنيابه"، الأنباب: جمع ناب، وهي الأسنان التي خلف الرباعية، وضحكه - صلى الله عليه وسلم - يحتمل التعجبَ من حال السائل وتبيانه؛ حيث كان أولًا محترقًا، هالكًا، متلهفًا، حاكمًا على نفسه بذلك، ثم انتقل إلى طلب الطعام لنفسه وعياله، ويحتمل أنه من رحمته - صلى الله عليه وسلم - به، وشفقته عليه، وإطعامه هذا الطعام بعد أن أمره بإخراجه، وإحلاله له. وفي هذا الحديث أحكام كثيرة: منها: وجوب السؤال عن علم ما يفعله الإنسان مخالفًا للشريعة. ومنها: الخوف من سوء عاقبته. ومنها: جواز إظهار المعصية لمن يرجو منه تخليصه من إثمها وعاقبتها. ومنها: عدم تعزيره عليها مع وجوب الكفارة إذا فعلها جاهلًا، وكانت لا حدَّ فيها، خصوصًا إذا جاء مستفتيًا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه، مع اعترافه بالمعصية، لكنه باعترافه بها يقتضي أن يكون فعله إياها كان وهو عالم بأنها معصية، لا جاهل؛ فإن مجيئه مستفتيًا معترفًا بالهلاك يقتضي العلم والندم والتوبة، والتعزيرُ استصلاح، ولا استصلاحَ مع الصلاح؛ فإنه لو عزرنا كلَّ من جاء يستفتي عن مخالفة، أدى ذلك إلى ترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في المخالفات والخروج منها، وذلك مفسدة عظيمة يجب دفعها، كيف والمفتي في زماننا لم تكن إليه إقامة التعزيرات، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الحاكمَ والإمامَ ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 315)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 465)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 309)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 746)، (مادة: لوب).

والمفتيَ والمشرع، ولم يُقم عليه التعزير بقول ولا فعل. قال البغوي في "شرح السنة" (¬1): وأجمعت الأمة على أن [من] جامع متعمدًا في نهار رمضان يفسد صومه، وعليه القضاء، ويعزَّر على سوء صنعه. قال بعض أصحاب الشافعي: ومن جامع امرأته حائضًا، وقلنا: يكفِّر، عُزِّر بلا خلاف، وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي فيما يجب التعزير فيه مع وجوب الكفارة، قال: وفي المجامع في رمضان، وفي الظهار والقبل وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لما ذكرنا، وأرجحهما عندهم: الوجوب، قالوا: لأن الكفارة إنما وجبت لانتهاك حرمة الوقت، ولقول الزور، وفوات الروح، والتعزيرُ يجب لحق الله تعالى في الرحم والمخالفة، والله أعلم. ومنها: استعمال الكنايات فيما يُستقبح ظهوره بصريح لفظه؛ كالمواقعة والإصابة ونحوهما عن النكاح النيك. ومنها: وجوب الكفارة بإفطار المجامع عامدًا، وهو مذهب جميع العلماء سوى من شذ منهم، وقالوا: لا تجب، وهو قول للشافعي ضعيف، قال: لأنها لو وجبت، لما سقطت بالإعسار، قلنا: قولكم: سقطت بالإعسار يقتضي تقدم وجوب حتى يقتضى السقوط، وإلا لما صح السقوط الَّذي هو بمعنى الخروج، كيف والأصل والقياس الوجوب، والمسبب لا يبطل السبب؛ فإن الإعسار مسبب، والوطء في رمضان سبب، والوجوب إنما يسقط للاستحالة أو المشقة، ولا استحالة ولا مشقة؛ فإن المطالبة بالكفارة إنما يكون عند القدرة، ومع الإعسار لا قدرة، فحينئذٍ لا يرفع الإعسار الوجوب من غير معارض سائغ. فإن قيل: سقطت بمقارنة الإعسار؛ لأنها لم تؤد، ولا أعلمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنها تبقى في الذمة، فإنها لو بقيت، لأعلم به - صلى الله عليه وسلم -، كيف والبيان واجب عليه - صلى الله عليه وسلم -؟ فالجواب: أن الحديث دل على استقرار الكفارة؛ بدليل إخبار السائل بالعجز عن العتق والصيام والإطعام، ومجيء العَرَق وإعطائه إياه؛ ليخرجه كفارة، فلو ¬

_ (¬1) انظر: "شرح السنة" للبغوي (6/ 284).

لم تجب، لما أمره بإخراجها، ولو سقطت بالعجز، لم يكن عليه شيء، فدل على ثبوتها في ذمته، وإذنه له بإطعام عياله للاضطرار وإزالته تجب على الفور، والكفارة لا تجب على الفور، بل على التراخي، خصوصًا في هذا الحال، وهي صدقة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الصدقةِ ما كانَ عن ظهرِ غِنًى" (¬1)، فلم يكن له أن يتصدق على غيره، وتأخيرُ البيان إلى وقت الحاجة جائزٌ عند جماهير الأصوليين، والله أعلم. ولو جامع ناسيًا، فهل يفطر، وتجب عليه الكفارة، أم لا يفطر، ولا تجب، أم يجب القضاء والإمساك ولا كفارة؛ ثلاثة مذاهب تقدم ذكرُها في الحديث قبله، والصحيح عند الشافعي: أنه لا يفطر، ولا كفارة؛ كالأكل ناسيًا، واحتج من قال بوجوبها بأنه حكم ورد على جواب سؤال من غير استفصال عن عمد أو نسيان، فنزل منزلة العموم؛ لأن الحكم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا ورد عقب ذكر واقعة محتملة لأحوال مختلفة الحكم، كان حملُه على العموم أولى؛ حملًا على الفوائد المتكثرة، والجواب عن ذلك: بأن حالة النسيان في حق هذا السائل بعيدة جدًّا بالنسبة إلى الجماع، ومحاولة مقدماته، وطول زمانه، وعدم اعتياده في كل وقت، فلم يحتج إلى الاستفصال بناء على الظاهر، وقد قال: هلكت، فإنه يشعر بتعمده ظاهرًا، ومعرفته بالتحريم، والله أعلم. ومنها: جريان وجوب العتق ثم الصوم ثم الإطعام مرتبا لا مخيرًا، وهو قول جميع العلماء، وهو قول ابن القاسم في "المدونة" (¬2)، ولا يعرف عن مالك في ذلك غير الإطعام وعدم جريان العتق والصوم في كفارة المفطر. قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: وهي معضلة زَبّآء ذات وبر، يهتدى إلى ترويجها مع مصادمتها الحديث. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1361)، كاب: الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومسلم (1034)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "المدونة الكبرى" لابن القاسم (1/ 218).

غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، وذكروا وجوهًا في ترجيح الطعام على غيره، منها: أن الله تعالى ذكره في القرآن رخصة للقادر؛ يعني: في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، ونسخ هذا الحكم لا يلزم منه نسخ الفضيلة بالذكر والتعيين للإطعام لاختيار الله تعالى له في حق الفطر. ومنها: جريان حكمه في حق من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان ثان. ومنها: مناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصوم الَّذي هو إمساك عن الطعام والشراب، وهذه الوجوه لا تقاوم ما دل عليه الحديث من البداءة بالعتق ثم الصوم، ثم بالإطعام، فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب، فلا أقلَّ من أن تقتضي استحبابه، وقد وافق بعض أصحاب مالك على استحباب الترتيب على ما جاء في الحديث، وبعضهم قال: إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت الشدائد تكون بالإطعام، وبعضهم فرق بين الإفطار بالجماع والإفطار بغيره: يكفر بالإطعام لا غير، وهذا أقرب مخالفة للنص من الأول. أما ترتيبها والتخيير فيها، فقد اختلف فيه مالك والشافعي، فقال مالك: إنها على التخيير، ومذهب الشافعي أنها على الترتيب، وبه قال أصحاب مالك، واستدل على الترتيب في الوجوب بالترتيب في السؤال بأن قوله أولًا: "هل تجد رقبة تعتقها؟ "، ثم رتب الصوم بعد العتق، ثم الإطعام بعده. ونازع القاضي عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال على ذلك، وقال: مثل هذا قد يستعمل في التخيير، وقال: فيدل على الأولوية مع التخيير، وهو غير مسلم؛ فإن ذكر هذه الأشياء الثلاثة مرتبة في معرض البيان والسؤال بمنزلة الشرط للحكم، ومقتضى ذلك الترتيب لا التخيير، والله أعلم. ومنها: أن إطلاق الرقبة يدل على جواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة، وهو قول أبي حنيفة وغيره، وقال الشافعي: لا يجوز إلا رقبة مؤمنة؛ حملًا

للمطلق على المقيد، وأبو حنيفة يحمل المقيد على المطلق، فمن يشترط الإيمان فيها، يقيد الإطلاق هاهنا بالتعيين به في كفارة القتل. وهذا الحكم مبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم، هل يتقيد المطلق أم لا؟ وإذا قيد، فهل هو بالقياس أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه، لكن الأقرب أنه قيد بالقياس، والله أعلم. ثم شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب التي تضر بالعمل إضرارًا بينًا. ومنها: أنه ينتقل من الصوم إلى الإطعام عند عدم استطاعته، وفي بعض طرق الحديث: أن الرجل قال: وهل أُتيت إلا من الصوم؛ فاقتضى ذلك عدم استطاعته بسبب شدة الشَّبق وعدم الصبر في الصوم عن الوقاع، لكنها رواية ضعيفة، ونشأ منه انظر للشافعية في أن هذا هل يكون عذرًا مرخصًا في الانتقال إلى الإطعام في حق من هو شديد الشبق؟ فقال به بعضهم. ومنها: أنه إذا قدر على الإطعام دون غيره، وجب إطعامه العددَ المذكور في الحديث، وهو ستون مسكينًا، فلو ضاق عليه الإطعام الَّذي هو مصدر أطعم إلى ستين، لا يكون ذلك موجودًا في حق من أطعم عشرين مسكينًا ثلاثة أيام، ولو قيل بإجزاء ذلك، كان عملًا بعلة مستنبطة تعود على ظاهر النص بالإبطال، وهو غير جائز في أصول الفقه. وقد أجمع العلماء في الأعصار المتأخرة على اشتراط إطعام ستين مسكينًا، وحكي عن الحسن البصري: أنه إطعام أربعين مسكينًا عشرين صاعًا، ثم جمهور المشترطين ستين قالوا: لكل مسكين مد، وهو ربع صاع، وقال أبو حنيفة والثوري: لكل مسكين نصف صاع. ومنها: أنه إذا عجز عن الإطعام، ودُفع إليه ما يكفر به طعامًا، وكان محتاجًا إليه هو وعياله، فصرفه في ذلك، هل يقع كفارة، وتبرأ به ذمته، ويلزم من ذلك سقوطها عن المعسر، أو بقاؤها في ذمته إلى أن يوسر، وقرن سقوطها عنه بصدقة الفطر؛ حيث يسقط للإعسار المقارن لاستهلال الهلال، وتقدم الكلام عليه قريبًا.

وقد ادعى بعضهم أن هذا الحكم خاص بهذا الرجل، وادعى غيره أنه منسوخ، وهما ضعيفان؛ إذ لا دليل على التخصيص، ولا على النسخ؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أطعمه أهلك" عطية لا عن جهة الكفارة مقدمة في هذا الحال على الكفارة، مع استقرار وجوبها أولًا، وعدم رفعه بالحاجة التي هي واجبة مترتبة في الذمة لثبوته أول الحديث، والسكوت عن بيان بقائه لتقدم العلم به إما لأن ما ثبت في الذمة يتأخر بالإعسار، ولا يسقط؛ للقاعدة الكلية والنظائر؛ كالمفلس، أو الدليل يدل عليه أقوى من السكوت. ومنها: وجوب القضاء على مفسد الصوم بالجماع، وبه قال جمهور الأئمة، وقال الأوزاعي: إن كفر بالعتق، أو الإطعام، صام يومًا مكانه، وإن يكفر بالشهرين، أجزأه عنه، وذهب بعضهم إلى عدم وجوب القضاء؛ لسكوته - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح: وجوبه، والسكوتُ عليه لتقريره وظهوره، وقد روى أبو داود في بعض طرق هذا الحديث من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل: "كلْه أنتَ وأهلُ بيتك، وصُمْ يومًا" (¬1)، وروي القضاء في غير أبي داود، من حديث عمرو بن شعيب، وسعيد بن المسيب، وهذا الخلاف في وجوب القضاء موجود في مذهب الشافعي ثلاثة أوجه لأصحابه، كالمذاهب الثلاثة، وفي حق الرجل، أما المرأة، فيجب عليها القضاء بلا خلاف. ومنها: أن ما ثبت في حق الرجل من الكفارة إذا مكنت، ثبت في حق المرأة؛ لأنه ما ثبت في حق واحد ثبت في حق جميع الناس؛ لاستوائهم في الحكم، كيف إذا كانت المرأة ممكنة، فالتحريم منسوب إليها -أيضًا- بالتمكين، وهي آثمة به، مرتكبة كبيرة من الكبائر كما في الرجل، وقد أضيف اسم الزنا إليها في كتاب الله تعالى، ومدار الوجوب على هذا المعنى، وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2393)، كتاب: الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والدارقطني في "سننه" (2/ 190)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 226).

عنه، والشافعي في أحد قوليه: إلى أنها إذا مكنت طائعة، ووطئها الزوج، وجبت عليها كفارة -أيضًا-، وللشافعي قول آخر: أنه لا تجب عليها، بل يختص الوجوب بالزوج، وهو الراجح المنصوص عند أصحابه. ثم اختلفوا هل هي واجبة على الزوج لا تلاقي المرأة وهي كفارة واحدة تقع عنهما جميعًا؟ وفيه قولان مخرجان من كلام الشافعي - رحمه الله -، واحتج لعدم الوجوب عليها بأمور لا تتعلق بالحديث، وأمور تتعلق به، وهي: استدلالهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم المرأة بوجوب الكفارة عليها، مع الحاجة إلى الإعلام، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيسًا أن يغدو على امرأة العَسيف، فإن اعترفت، رجمها، فلو وجبت عليها، لأعلمها - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما في حديث أنيس، والذين أوجبوا الكفارة عليها، أجابوا بوجوه: أحدها: أنا لا نسلم الحاجة إلى إعلامها، فإنها لم تعترف بسبب الكفارة، وإقرار الرجل لا يوجب عليها حكما، وإنما تمس الحاجة إلى إعلامها إذا ثبت الوجوب في حقها، ولا يثبت على ما بينا. وثانيها: أنها قضية حال يتطرق إليه الاحتمال لا عموم لها، كيف وهذه المرأة يجوز أن تكون ممن لا تجب عليها الكفارة بهذا الوطء؛ إما لصغرها، أو جنونها، أو كفرها، أو حيضها، أو طهارتها من الحيض في أثناء اليوم؟ واعترض على هذا بأن علمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيض امرأة الأعرابي أو عدمه عسر، ولو كان علمه، ولم يخبره به الأعرابي، ولم يسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستحيلًا، وباقي الأعذار المذكورة من الصغر والجنون وغيرها تنافي التحريم على المرأة، وينافيها قوله فيما روي في الحديث، وإن كان ضعيفًا: "هلكت وأهلكت" (¬1)، فعلى المعترض بيان صحة هذه الرواية وجودة هذا الاعتراض. وثالثها: أنا لا نسلم عدم بيان الحكم بأن بيانه في حق الرجل بيان في حق المرأة؛ لاستوائهما في تحريم الفطر، وانتهاك الحرمة، مع العلم بأن إيجاب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الكفارة هو ذاتي، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، وهذا كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر إيجاب الكفارة على سائر الناس غير الأعرابي؛ لعلمه بالاستواء في الحكم، وهذا وجه قوي، والذي حاولوه في التعلل عليه بأن يبنوا في المرأة معنى يمكن أن يظن به اختلاف حكمها مع حكم الرجل، بخلاف غير الأعرابي من الناس؛ فإنه لا معنى يوجب اختلاف حكمهم مع حكمه، وذلك المعنى الَّذي أيدوه في حق المرأة هو أن مؤن النكاح لازمة على الزوج؛ كالمهر، وثمن ماء الغسل، فيمكن أن يكون هذا منه، - وأيضًا - فجعلوا الزوج في باب الوطء هو الفاعل المنسوب إليه الفعل، والمرأة محل، فيمكن أن يقال: الحكم مضاف إلى من ينسب إليه القول، فيقال: للواطئ: واطئ ومواقع، ولا يقال للمرأة ذلك، وليس هذا أمر بين، فإن المرأة يحرم عليها التمكين، وهي آثمة به، مرتكبة كبيرة كالرجل، كما ذكرنا أولًا، والله أعلم. ومنها: وجوب التتابع في صوم الشهرين، وهو مذهب الجمهور، وأجمع عليه أئمة الفتوى، ونقل عن ابن أبي ليلى: أنه لا يلزم فيها التتابع. ومنها: أنه لا مدخل لغير هذه الخصال الثلاث في الكفارة، ونقل عن بعض المتقدمين فيها دخول البدنة بعد الرقبة إذا تعذرت، رواه عطاء عن سعيد، وقيل: إن سعيدًا أنكره، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) جاء في خاتمة نسخة "ش" ما نصه: نجز الجزء الأول من كتاب "العدة في شرح العمدة" بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، يتلوه في الجزء الثاني، باب: الصوم في السفر وغيره، ووافق الفراغ منه على السنة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر الله المحرم سنة ست وسبع مئة.

باب الصوم في السفر وغيره

باب الصوم في السفر وغيره الحديث الأول عَنْ عائشِةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَصُومُ في السَّفَرِ؟ -وَكانَ كَثِيرَ الصِّيامِ- قالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر" (¬1). أما حمزة بن عمرو: فكنيته أبو صالح، ويقال: أبو محمَّد بنُ عمرِو بنِ عويمرِ بنِ الحارثِ بنِ الأعرجِ بنِ سعيدِ بنِ رزاحِ، بنِ عديِّ بنِ سَهْمِ بنِ مازنِ بنِ سلامانَ بنِ الحارثِ بنِ أسلمَ بنِ أفصى بنِ حارثة، مدنيٌّ، رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أحاديث، روى له مسلم حديثًا واحدًا من رواية أبي مرواح الغفاريِّ عنه، وقد أخرجا ذكره في هذا الحديث. وقد حدَّث عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، روى عنه ابنه محمَّد بنُ حمزة، وعائشةُ الصديقة، وسليمانُ بن يسار، وعروةُ بن الزبير، وغيرهم، مات في ولاية يزيدَ بنِ معاوية سنة إحدى وستين، وهو ابن إحدى وسبعين سنة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1841)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار، ومسلم (1121)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 315)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 46)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 212)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 7)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 375)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 213)، و"تهذيب =

وأما الأَسْلَمِي، فبفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح اللام وكسر الميم، ثم ياء النسب، فنسبة إلى جدّ من أجداده المذكورين أسلم بن أفصى بن حارثة، وإليه ينسب أيضًا من الصحابة - رضي الله عنهم - أبو برزة الأسلمي، والله أعلم. واعلم أن حديث حمزة بن عمرو هذا قد حمله بعضهم على مطلق الصوم، وقيَّده بعضهم بصوم رمضان، مستدلًا بما رواه مسلم وغيره في حديث حمزة بن عمرو هذا، قال: قلت: يا رسول الله! إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه، وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني: رمضان- وأنا أجد القوة وأنا شابٌّ، فأجد أن أصوم يا رسول الله أهون علي بأن أؤخره، فيكون دينًا، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: "أيَّ ذلك شئت يا حمزة" (¬1). وقد روى البخاري ومسلم الإطلاق من غير تقييد برمضان، وفيه: إني رجل أسرد الصوم في السفر ... أفأصوم؟ كما في حديث الكتاب، وإذا ثبت ذلك، فإما أن يحمل المطلق على المقيد، فلا يكون فيه دليل على صوم التطوع، قال: أبو العباس القرطبي: لوجهين: أحدهما: قوله في بعض روايات الحديث قال: "هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها، فحسن، ومن أحبَّ أن يصومَ، فلا جُناحَ عليه" (¬2)، ولا يقال في التطوع مثل هذا. والوجه الثاني: إن [في] الحديث التقييد برمضان، فهو نص في الفرض دون التطوع (¬3)، أو يحمل المقيد على المطلق، فيدخل فيه صوم التطوع، أو يكون ¬

_ = الكمال" للمزي (7/ 333)، و"الإصابة في تمييز الصحابة"، لابن حجر (2/ 123)، و"تهذيب التهذيب"، له أيضًا (3/ 28). (¬1) رواه أبو داود (2043)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر، والطبراني في "المعجم الكبير" (2995)، والحاكم في "المستدرك"، (1581)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 241). (¬2) رواه مسلم (1211)، (2/ 790)، كاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر. (¬3) انظر: "المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 179).

من باب العبرة بعموم اللفظ في قوله: إني رجل أسرُدُ الصوم في السفر، وخيّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الصوم وتركه، من غير نظر إلى فرض أو نفل، أو يعتبر خصوص السبب في كونه شابًّا، ويجد قوة، ويكري ظهره، ويعالجه في سفره، ويرى أن الصوم أهونُ عليه من الإفطار؛ لكون الصوم يبقى دينًا، فخيَّره، ويكون السبب كالمعاد في التخيير، وهو الجواب ينظر في ذلك كُله. وإذا حملناه على الفرض والنفل، فيحتاج الجواب عن مذهب الشَّافعي - رحمه الله -، وأحمد، في كون النفل لا يبقى دينًا على من أفطره، والله أعلم. أما من حمله على مطلق الصوم، فاستدلَّ بقوله: إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ الحديث، فقال: ظاهره أن ذلك لا يستعمل إلا في التطوع، وإلا لما حسن السؤال عن صوم الفرض، فاستدلَّ به للشافعي وموافقيه في أن صوم الدهر وسرده غير مكروه لمن لا يخاف منه ضررًا، ولا يفوِّت به حقًّا، بشرط فطر يومي العيد والتشريق؛ لأنه أخبر بسرده، ولم ينكر عليه، بل أقره عليه، وأذن له فيه في السفر، ففي الحضر أولى، فحينئذ يحتاج الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في إنكار النَّبي - صلى الله عليه وسلم - صوم الدهر، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: في صوم يوم وفطر يوم: "لا أفضل من ذلك" (¬1). والجواب عن الإنكار: أنه - صلى الله عليه وسلم - علم منه أنه سيضعف عنه، وهكذا جرى، فإنه ضعف في آخر عمره، وكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الدائم وإن قَلَّ، ويحثُّهم عليه، وعن قوله: "لا أفضل من ذلك" إما بالنسبة إلى عبد الله فقط، وإما بالنسبة إلى الإطلاق، وليس بينه وبين المدعى منافاة؛ فإن المدعى الجواز وعدم الكراهة، أو أنه مسنون بشروطه المذكورة لا الأفضلية، والله أعلم. وقد كان جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - يسردون الصوم متقربين به، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1875)، كتاب: الصوم، باب: صوم الدهر، ومسلم (1159)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوَّت به حقًّا.

فلو لم يكن راجحًا بالنسبة إليهم على يوم ويوم، لما فعلوه، فدلّ على أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، والله أعلم. وفي الحديث دليل على السؤال عن العلم في كل ما يعرض للإنسان من جوازه وأفضليَّته. وفيه دليل على أنَّ المستفتي يذكر للمفتي حاله وما يعرض له، ولا يكتمه شيئًا مما يتعلَّق بسؤاله. وفيه دليل على إثبات الخيار للمسافر بين الصوم والإفطار. وفيه دليل على جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول أهل عامة العلم. ورُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عبَّاس - رضي الله عنهم -: إن صام في السَّفر لم يجزئه، وعليه أن يصوم في الحضر، وبهذا قال أهل الظاهر، وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التخيير في الصَّيام في السَّفر والفطر من رواية جماعة من الصحابة، والحجة في السنّة، وهذا إن ثبت ما ذكر عمَّن قدمنا. واختلف أهل العلم في أفضل الأمرين منهما: وقد ساق الإمام أبو داود - رحمه الله - في "سننه" (¬1) ما فيه مستند لمذاهبهم، فقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فإن كان الصوم أيسر عليه، صام، وإن كان الفطر أيسر، فليفطر. وقيل: الصوم والفطر سواء، والصَّواب في مذهب الشَّافعي وأصحابه الَّذي لا اختلاف فيه بينهم: أن الأفضل الفطر لمسافر يضرُّه الصوم، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر "سنن أبي داود" (2/ 316) وما بعدها.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عن أَنَسِ بنِ مالكٍ - رضيَ اللهُ عنه - قالَ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ على المُفْطِرِ، ولا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ" (¬1). لما تقرر عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأخذَ برخص الله تعالى في عزائمه أفضلُ وأحبَّ إليه - سبحانه وتعالى - ظن قوم أن الأخذ بالعزيمة في الصوم عيب، فقال أنس - رضي الله عنه -: كنَّا نسافرُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث، فأَفهم بذلك جوازَ صوم رمضان في السفر؛ حيث تعرض لعيبه، وأنه محظور ممنوع منه؛ بخلاف الصوم المرسل؛ فإنه لا يُعاب بشرطه، ولا يحتاج إلى رفع وهم فيه. ولا شك أنَّ الرخصة متوجهة إلى جميع المكلفين، كما أن الخطاب بالصوم متوجه لجميع المسافرين وغيرهم. وبيان ذلك: أنَّ الرخصة حاصلها راجع إلى تخلف الحكم مع تحقق سببه لأمر خارج عن ذلك السبب، كما تقوله في إباحة الميتة عند الضرورة، وبهذا يتحقَّق بطلانُ قول من قال: إنَّ صوم المسافر لا ينعقد، والله أعلم. وزعم بعض أهل العلم أنه إذا أنشأ السفر في رمضان، لم يجز له أن يفطر، محتجًا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمهُ} [البقرة: 185]، وقال غيره: وهذا غلط؛ لهذا الحديث وغيره. ومعنى الآية الكريمة: شهد الشهر كلَّه، ومَنْ شهد الشهرَ كلَّه، فإنَّه لم يشهد بعضه. وفي حديث أنس هذا دليل على رفعه؛ حيث قال: كُنَّا نسافر مع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1845)، كتاب: الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار، ومسلم (1118)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية.

الحديث الثالث

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر؛ حيث إن الحديث لم يكن فيه ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنه كان يشاهدهم في حالهم هذا؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشاهدهم في كثير من غيبهم، إما بإلهام، وإما بنزول وحي، فما ظنك بهذه الحال، وهم مسافرون معه - صلى الله عليه وسلم -؟! وفيه دليل على أنَّ الأشياء من الأحكام وغيرها، لم تتغير عن وضعها بنظر ولا اجتهاد، وأنَّ من اختصَّ بحال في نفسه، لا يلزم في أحكام الشرع وعموم النَّاس، والله سبحانه أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ - رضيَ اللهُ عنهُ - قالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، في شَهْرِ رَمَضَانَ، في حَرٍّ شَديدٍ، حَتَّى إنْ كانَ أَحدُنا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَما فينا صَائِمٌ إلا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ - رضيَ اللهُ عنهُ - (¬1). أَمَّا أبو الدرداء: فاسمه: عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر، ويقال: عويمر بن مالك بن عبد الله بن قيس بن عائشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، ويقال: اسمه عامر بن مالك، وعويمر لقب له، وأمه مجيبة بنت واقد بن عمرو، وتأخر إسلامه قليلًا، كان آخر أهل داره إسلامًا، وحَسُنَ إسلامه، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان الفارسي - رضي الله عنهما -، وكان فقيهًا عالمًا حكيمًا، شهد ما بعدَ أحد من المشاهد، واختلف في شهوده أحدًا، وولي قضاء دمشق في خلافة عثمان. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وتسعة وسبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية. روى عنه: ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وفضالة بن عبيد، وأبو أمامة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1843)، كتاب: الصوم، باب: إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، ومسلم (1122)، كتاب: الصيام، باب، التخيير في الصوم والفطر في السفر.

وخالد بن معدان، ومعدان بن أبي طلحة، ويوسف بن عبد الله بن سلام، وابنه بلال، وزوجته أم الدرداء هُجَيْمَة بنت حُيي، وخلقٌ سواهم، وروى له أصحاب السنن والمساند. مات بالشام سنة إحدى، وقيل: اثنتين أو ثلاث وثلاثين، وقيل: بعد صفين، وليس بصحيح، وقبره وقبر زوجته بدمشق (¬1). وأما عبد الله بن رواحة المذكور في المتن، فكنيته: أبو محمَّد بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري، أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بَدْرًا وأُحُدًا والمشاهد إلا الفتح وما بعدها؛ لأنه قتل يوم مؤتة، وكانت في أوائل السنة الثامنة من الهجرة، وكان أحد الأمراء فيها، وشجَّع الناس قبل وقعتها، وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم من أجلها: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدة ولا قوة، إنما نقاتلهم بهذا الدين، الَّذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، إنما هو إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فقالوا: صدق ابن رواحة (¬2). وهو أحد الشعراء المحسنين، الذين كانوا يردُّون الأذى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرج له في "صحيح البخاري" حديث، من رواية النعمان بن بشير عنه، وروي له هذا الحديث في "الصحيحين". وكان هذا الصوم من النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة في غزوة بدر -فيما يغلب على الظَّن-؛ لأن أسفاره - صلى الله عليه وسلم - فيما بين بدر ومؤتة، لم يكن شيء منها في رمضان غير ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 391)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 76)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 26)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 380)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1646)، و"تاريخ دمشق"، لابن عساكر (47/ 93)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 627)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 306) و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 511)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 747)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 335)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 747) و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 156). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 119)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ 7).

بدر؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يسافر إلا في غزوٍ أو حج بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فإن كان له سفر في شهر رمضان في ستة أعوام، من بدر إلى مؤتة فليفد، والله أعلم. وروى النسائي عن أحمد بن أبي عبيد الله، عن عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -: أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، فقال له: "يا بنَ رواحَة! انزلْ فحرك بالركاب" (¬1) الحديث، لكن قيسًا لم يدرك ابن رواحة، والأشبه أنّه من رواية عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن رواحة، رواه عبد الله بن إدريس عن إسماعيل، عن قيس، عنه، والله أعلم. وروى عنه من الصحابة: ابن عباس، وأبو هريرة، وروى يحيى بن سعيد قال: كان عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - أولَ خارج إلى الغزو، وآخرَ قافل. وقال عروة: لما ودَّع المسلمون عبد الله بن رواحة في خروجه إلى مؤته، دعوا له ومن معه أن يردهم سالمين، فقال ابن رواحة - رضي الله عنه -: لكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ قرْعٍ تَقْذِفُ الزَّبَدا أَوْ طَعْنَةً بيدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تنفذُ الأَحْشَاءَ والكَبِدَا حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... يَا أَرْشَدَ اللهُ مِنْ غَازٍ، وَقَدْ رَشَدَا (¬2) وقال هشام بن عروة: سمعت أبي عروة يقول: سمعت أبي -يعني: الزبير- يقول: ما سمعت أحدًا أجرى ولا أسرع شِعرًا من ابن رواحة، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له يومًا: "قُلْ شعرًا تقتضيه الساعةُ، وأنا أَنظرُ إليكَ"، فانبعث مكانه يقول: إِنِّي تَفَرَّسْتُ فيكَ الخيرَ أعرفُه ... والله يعلمُ أَنْ ما خَانني البَصَرُ ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8251)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 527)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (512)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 227)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (28/ 103 - 104). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 119)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ 6).

أنتَ النَّبيُّ ومَنْ يُحْرَمْ شَفَاعَتَهُ ... يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِهِ القَدَرُ فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسى ونَصْرًا كالَّذِي نُصِرُوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنتَ فثبتك اللهُ يا بنَ رواحَةَ" (¬1). قلت: زرت قبر عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - بمؤتة، وقبور الشهداء بها؛ كجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - في العشر الآخر من شوال، سنة ثلاث وسبعين وست مئة - رضي الله عنهم أجمعين - (¬2). وهذا الحديث: دليل صريح بأنَّ هذا الصوم وقع في شهر رمضان في السفر، وأنَّه صحيح، وهو مذهب الفقهاء. وخالفت الظاهرية به، أو بعضهم في صحته، بناءً على ظاهر لفظ القرآن في قوله - عزَّ وجلَّ -: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة: 184]، من غير اعتبار إضمارٍ فيه، وتقدَّم اختلاف العلماء في أنَّ الأفضل الصوم أو الفطر. والذي ذهب إليه أبو حنيفة والشَّافعي والأكثرون: أنَّ الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به، فالفطر أفضل، واحتجوا بهذا الحديث وغيره من الأحاديث، فلأنه يحصل به براءة الذمَّة في الحال، وقال سعيد بن المسيِّب، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم: الفطر أفضل مطلقًا، وحكاه بعض أصحاب الشَّافعي قولان، وهو غريب، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الفِطرَ رخصةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بها، فحَسَن، ومن أحبَّ أن ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 900). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 525)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (3/ 408)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 221)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 118)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 898)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 108)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 481)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 235)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 250)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 506)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 230)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 82)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 186).

الحديث الرابع

يصومَ، فلا جُناحَ عَلَيهِ" (¬1)، وظاهره: ترجيح الفطر، وأجاب الأكثرون بأنَّ هذا فيمن يخاف ضررًا، أو يجد مشقةً، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على جواز السفر في رمضان، خصوصًا إذا كان في طاعة. وفيه دليل على الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأحواله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على شرعية حكاية الحال، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عنْ جابِرٍ بنِ عبدِ اللهِ - رضيَ الله عنهُما - قالَ: كانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فرأى زِحَامًا، ورجلًا قَد ظُلِّلَ عليهِ، فقالَ: "ما هذا؟ " قالوا: صائمٌ، قال: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ" (¬2). ولمسلم: "عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ" (¬3). أما الرجل المبهم الَّذي ظلل عليه، فلا أعلمه بعد الكشف عليه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ من البر الصومُ في السفر"، وروي في بعض الروايات: "ليس البر" (¬4) بغير "من"، فمن أثبتها، فهي "مِن" الزائدة المرادة لتأكيد النفي، وقد ذهب بعض الناس إلى أنها مبعضة هنا، وليس بشيء، وروى أهل الأدب: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (1844)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، ومسلم (1115)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية. (¬3) رواه مسلم (1115)، (2/ 784)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية. (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (2565)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 352)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2017)، وابن حبان في "صحيحه" (3552).

ليس من امبر امصيام في السفر، فابدلوا من اللام ميمًا، وهي لغة قوم من العرب، وهي قليلة، والله أعلم. وقد أخذ من هذا الحديث: أنَّ كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذا الحال، ممّن يجهده الصوم ويشق عليه، أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات، ويكون قوله: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ" منزلًا على هذه الحال، لكن المانعون من الصوم في السفر يقولون: اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السَّبب، وينبغي أن تتفطن لقاعدة كبيرة، وهي النظر في اللفظ العام المجرد، الجاري على سبب، وفي دلالة السياق والقرائن التي تخصص العام وتدل على مراد المتكلِّم، ولا يجري كل ذلك مجرى واحدًا؛ فإنَّ مجرَّد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص؛ كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]؛ فإنها نزلت بسبب سرقة رداء صفوان، وذلك لا يقتضي التخصيص بالضرورة والإجماع، وأما السياق والقرائن، فإنها الدالة على مراد المتكلِّم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المحتملات، فاضبط هذه القاعدة، فإنها نفيسة مفيدة لمواضع لا تحصى جارية منها، فانظر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّومُ في السَّفَرِ"، مع حكاية حال الرجل المظلل عليه من أي القبيلين هو، فنزله عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ بِرُخصةِ اللهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ" دليل على استحباب التمسك بالرخصة والعمل بها، إذا دعت الحاجة إليها، ولا تترك على وجه التشديد على النَّفس والتنطُّع والتعمُّق، والله أعلم. وفي الحديث دليل على شرعيَّةِ السؤال عن أمور الناس وأحوالهم، في اجتماعهم وافتراقهم لولاة الأمور والعلماء؛ ليرشدوهم إلى الصواب والعمل به، وأنَّ ذلك ليس مما لا يعني. وفيه دليل على أنَّ البرّ ليس مطلقًا، بل مقيَّد بالشَّرع،

الحديث الخامس

وفيه دليل على الأخذ بالرخصة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يحبُّ أن تُؤْتى رخصُه، كما تُؤْتى عَزائمُه" (¬1). وقد قال الفقهاء: الرخصة إذا وقعت، عمت، لكن عمومها إنما هو في المحل الَّذي وقعت من أجله، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن أنسِ بنِ مالكٍ - رضيَ اللهُ عنهُ - قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمنَّا المُفْطِر، قالَ: فنزلْنا منزلًا في يوم حارٍّ، وأكثرُنا ظلّاً صاحبُ الكساء، فمنَّا مَنْ يتقي الشمسَ بيدِه، قالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وقَامَ المُفْطِرُونَ، فَضَربوا الأبنيةَ، وسَقَوا الركابَ، فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ذهبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ" (¬2). أما الأبنية، فجمع بناء، وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء، فمنها الطراف، والخباء، والبناء، والقبة، والمضرب، وقد تكرر ذكره مفردًا ومجموعًا في الحديث. والركتاب: الإبل، وتجمع ركائب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ"، والأجر وجهان: أحدهما: الأجر الخاص المرتب على الأفعال التي فعلوها، والمصالح التي جرت على أيديهم، لا مطلق الأجر على سبيل العموم. والثاني: أن يكون أجر المفطرين قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغًا ينغمر فيه أجر الصُّوَّام، فتحصل المبالغة بسبب ذلك، وتجعل كأن الأجر ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (354)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 276)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11880)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه البخاري (2733)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1119)، كتاب: الصيام، باب: أجر المفطر إذا تولى العمل.

كله للمفطرين، ويقرب هذا مما تقوله بعض الناس في إحباط بعض الأعمال الصالحة ببعض الكبائر، وأن ثوابها ينغمر في الكبائر وعقابها، فتصير كأنَّها محبطة لثوابها، وإن كان الصوم هنا ليس من المحبطات، ولكن المقصود المبالغة في أنَّ الثواب -وإن قلَّ جدًّا- أنه كالمعدوم، وهذا قد يوجد مثله في التصرفات الوجودية وأعمال الناس في مقابلتهم حسنات، من يفعل منها شيئًا بسيئاته، فإنهم يجعلون اليسير جدًّا كالمعدوم بالنسبة إلى الإحسان والإساءة؛ كحجامة الأب لولده، وإيجار الأم لولدها الوجور [الكريه] لدفع الأمر الأعظم منه؛ كالمرض وغيره؛ فإن كلًّا منهما يعد محسنًا مطلقًا، ولا يعدُّ مسيئًا بالنسبة إلى الإيلام بالحجامة والمرارة لستارة ذلك الألم بالنسبة إلى دفع الأمر الشديد من المرض وغيره، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على ما كانت الصحابة عليه؛ من الزهادة في الدنيا، والصبر على المؤلمات في طاعة الله تعالى. وفيه: جواز حكاية مثل ذلك للقدوة والتأسِّي. وفيه: جواز اتخاذ الأبنية ونحوها في الأسفار للاستظلال. وفيه: اتقاء الشَّمس وحرِّها عن البصر والبدن باليد ونحوها. وفيه: وجوب القيام بمصالح الدواب من الإبل وغيرها بالسقي وغيره. وفيه: التنبيه على فعل الرخصة بكثرة الأجر فيه إذا كان في تركها مشقة. وفيه: أنَّ اطِّلاع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الشيء وتقريره إياه من غير نكير شرعٌ؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أقرهم على الصوم والفطر. وفيه: أنَّه إذا تعارضت المصالح، قُدِّم أولاها وأقواها، والله أعلم. * * *

الحديث السادس

الحديث السادس عن عائشةَ - رضيَ اللهُ عَنْها - قالتْ: كانَ يكونُ عَلَيَّ الصَّومُ منْ رمضان، فما أستطيعُ أن أقضيَ إلا في شعبانَ (¬1). اعلم أنه قد بيَّنت عائشة - رضي الله عنها - سبب تأخر قضائها الصومَ من رمضان إلى شعبان في حديث آخر صحيح في "صحيح مسلم" وغيره، وهو قولها: الشغلُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولا شك أن قضاء الصوم الواجب، وحقَّ الزوج، واجبان، فيقدَّمُ حقُّ الزوج؛ حيث إنه على الفور، على قضاء الصوم، وحيث إنَّ وجوبه موسَّع، والحقُّ على الفور مقدَّم على الحقِّ على التراخي، ولا شك أنَّ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كنَّ يهيِّئنَ أنفسهنَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يترصدن لاستمتاعه في جميع أوقاتهن إن أراد ذلك، ولا تدري كل واحدة منهنَّ متى يريد حاجته - صلى الله عليه وسلم - منها، ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن، فتكون له حاجة فيها، فتفوتها عليه، وهذا من الأدب. وقد اتفق العلماء على أنَّ المرأة لا يحلُّ لها صوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ للحديث الصحيح في ذلك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬3). وقد اختلف شيوخ المالكية في صوم المرأة القضاء وزوجها حاضر إلا بإذنه، فقال بعضهم: لا تصومه إلا لإذنه، إلا أن تخاف الفوات، فيتعين، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1849)، كتاب: الصوم، باب: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]، ومسلم (1146)، كتاب: الصيام، باب: قضاء رمضان في شعبان. (¬2) قلت: هو جزء من الحديث المتقدم تخريجه عند البخاري ومسلم، وفي نسبته التي "صحيح مسلم" فقط، وجعله لفظًا آخر مستقلًا، قصورٌ لا يخفى. (¬3) رواه البخاري (4896)، كتاب: النكاح، باب: صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا، ومسلم (1026)، كتاب: الزكاة، باب: ما أنفق العبد من مال مولاه، بلفظ: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه".

وترتفع التوسعة، وقال بعض شيوخهم: لها أن تصوم القضاء بغير إذنه؛ لأنه واجب. وإنما يحمل الحديث المقتضي لنهيها عن الصوم إلا بإذنه على التطوع، فأما الواجباب: فلا يحتاج فيها إلى إذن أحد، فحينئذٍ يكون فعل عائشة - رضي الله عنها - لحقه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وخصوصيته - صلى الله عليه وسلم - به دون غيره، وإنما كانت تصومه في شعبان؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له في النساء في النهار، ولأنه في شعبان يتضيق قضاء رمضان، فإنه لا يجوز تأخيره عنه. فإن قيل: وكيف لا تقدر على الصوم لحقه فيها، وقد كان له تسع نسوة، وكان يقسم بينهنَّ، فلا تصل النوبة لإحداهن إلا بعد ثمان، فكان يمكنها أن تصوم في هذه الأيام التي يكون فيها عند غيرها؟ والجواب: إن القَسْم لم يكن عليه واجبًا لهنَّ، وإنما كان يفعله بحكم تطييب قلوبهنَّ، ودفعًا لما يتوقع من الشرور، وفساد القلوب، ألا ترى قول الله -عز وجل-: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 51]، فلما علم نساؤه، أو من سألته منهن، كنَّ يتهيأن له دائمًا، ويتوقعن حاجته إليهن في أكثر الأوقات، والله أعلم. ثم من أفطر بغير عذر؛ كحيض، ومرض، وسفر، وجب القضاء عليه على الفور مطلقًا، ومن أفطر بهذه الأعذار ونحوها، فقد قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء من السَّلف والخلف: يجب على التراخي، ولا تشترط المبادرة به في أول الإمكان، لكن قالوا: لا يجوز تأخيره عن شعبان الآتي؛ لأنه يؤخر حينئذ إلى زمان لا يقبله، وهو رمضان الآتي، فصار كمن أخَّره إلى الموت، وقال داود: يجب المبادرة به في أول يوم بعد العيد من شوال، وحديث عائشة هذا يرد عليه. وقال جمهور العلماء: تستحب المبادرة به للاحتياط فيه؛ فإن أخره، فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول: أنه يجب العزم على فعله،

الحديث السابع

وكذلك القول في جميع الواجب الموسَّع، إنما جوز تأخيره بشرط العزم على فعله، حتى لو أخره بلا عزم، عصى. وأجمع العلماء على أنَّه لو مات قبل خروج شعبان، لزمه الفدية في تركته عن كل يوم بمد من طعام، وهذا إذا تمكن من القضاء، فلم يقض، فأما من أفطر في رمضان بعذر، ثم اتصل عجزه، فلم يتمكَّن من الصوم حتَّى مات، فلا صوم عليه، ولا يطعم عنه، ولا يصام عنه. ثم إنَّ قضاء رمضان يندب مرتبًا متواليًا، فلو قضاه غير مرتب، أو مفرقًا، جاز عند الشَّافعي وجمهور العلماء؛ لأن الصوم اسم يقع على الجميع، وقال جماعة من الصحابة والتابعين وأهل الظاهر: يجب تتابعه، كما يجب الأداء، والله أعلم. * * * الحديث السَّابع عَنْ عَائِشَةَ - رضيَ اللهُ عنها -: أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ مَاتَ وعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" (¬1)، وأخرجَهُ أبو داوُدَ، وقالَ: هذا في النذر، وهو قول الإمام أحمدَ بنِ حنبلٍ (¬2). ذكر شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: أن هذا الحديث ليس مما اتَّفقا عليه، وذكر أبو محمَّد عبد العظيم المنذري: أنَّ البخاري ومسلمًا أخرجاه في "مختصر سنن أبي داود"، وهو موافق لما ذكره المصنف. والوليُّ أصله من الولْي -بسكون اللام-، وهو القرب، وقال الفراء: والمولى والوليُّ واحد (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1851)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (1147)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت. (¬2) رواه أبو داود (2400)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صيام. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 287).

وقد اختلف العلماء في المراد به في هذا الحديث: فالمختار عند العلماء من المحققين وغيرهم: أنَّه مطلق القرابة، سواء كان القريب وارثًا، وغيره. ومنهم من اشترط فيه العصوبة أو الإرث، وتوقف في ذلك إمام الحرمين، وقال: لا نقل عندي في ذلك، وقال: بعض الفضلاء المتأخرين: وأنت إذا فحصت عن نظائره، وجدت الأشبه اعتبار الإرث. وفي هذا الحديث أحكام: منها: العموم في الصوم الَّذي يصام عن الميِّت من غير تخصيص بنذر، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يقتضي الإذن في الصوم عمَّن مات وعليه نذر لصوم، وليس ذلك بمقتضٍ لتخصيص صورة النذر. ومنها: دليل بعمومه على أن الولي يصوم عن المئت، وأنّ النيابة تدخل في الصوم، سواء كان الصوم عن رمضان، أو قضاءً، أو نذرًا، أو غيره، وهو المختار الَّذي عليه المحققون من الشافعيين الجامعون بين الفقه والحديث، وهو أحد قولي الشافعي: أنه يستحب لوليه أن يصوم عنه، ولا يجب، ويصح صومه عنه، وتبرأ ذمَّة الميت، ولا يحتاج إلى إطعام عنه؛ لعموم هذا الحديث، والأحاديث الصحيحة الثابتة فيه. قال: البيهقي - رحمه الله -: لو وقف الشافعي - رحمه الله - على جميع طرقها، ونظائرها، لم يخالفها - إن شاء الله تعالى - (¬1). وقال غيره: كيف وقد قال الشَّافعي - رحمه الله -: إذا صحَّ الحديث، فهو مذهبي (¬2)، وقد صحَّ في الصيام عن الميت أحاديث، وقال الشَّافعي في المريض لا يصح من مرضه حتَّى يموت: فلا صوم عليه ولا كفارة، وقد تقدم أن من أفطر في رمضان بعذرٍ، ثم اتصل عجزه، فلم يتمكن من الصوم حتى مات: أنه ¬

_ (¬1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 256). (¬2) تقدم تخريجه.

لا صوم عليه ولا إطعام، ولا يصام عنه، والحديث الوارد: "منْ ماتَ وعليه صومٌ أُطعم عنهُ" ليس بثابت، ولو ثبت، أمكن الجمع بينه وبين الأحاديث الواردة في جواز الصوم بأن يحمل على جواز الأمرين؛ فإن من يقول بالصيام، يجوز عنده الإطعام، فيثبت أن الصواب المتعيِّن تجويزهما، والولي مخير بينهما. وتقدم الكلام على المراد بالوليِّ واشتقاقه، فلو صام عنه أجنبي بإذن الولي، صحَّ، وإن كان بغير إذن الولي، ففيه وجهان؛ أظهرهما المنع. ويقول الشَّافعي: هذا وعمل بهذا الحديث: طاوس، والحسن البصري، والزّهري، وقتادة، وأبو ثور، وأهل الظاهر، وإسحاق، وممن قال به في النذر خاصة مع أحمد: اللَّيث، وأبو عبيد، وإسحاق في روايةٍ عنه. والمشهور من قولي الشَّافعي، وإليه ذهب الجمهور: أنه لا يصام عن ميت، لا نذر ولا غيره، وهو الجديدُ من مذهبه، وإليه ذهب الجمهور، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة - رضي الله عنهم -، ورواية عن الحسن، والزهري، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. أما الأجنبي، فلا يصوم؛ لأجل التخصيص في مناسبة الولاية لذلك، أو لأن الأصل عدم جواز النيابة في الصوم؛ لكونها عبادة بدنيَّة لا تدخلها النيابة في الحياة، فلا تدخلها بعد الموت؛ كالصلاة، وإذا كان الأصل عدم جواز النيابة، وجب أن تقتضي فيه على ما ورد في الحديث. وأمَّا غيره من القرابة، أو العصبة، أو الولاية؛ فيجري على القياس، لكن قال أصحاب الشافعي: لو أمر الوليُّ أجنبيًّا بأن يصوم عنه بأجرة أو بغير أجرة، جاز؛ كما في الحج، وهذا إنما يكون على قول للشَّافعي: إنَّه يصام عنه. أمَّا على قول المنع، فلا يتجه ذلك، قال القاضي عياض - رحمه الله -: منعُ الصوم عن الميِّت هو قول جمهور العلماء، وتأولوا حديث هذا الباب على أنه يطعم عنه وليه، وهو تأويل ضعيف باطل، لا ضرورة إليه أم أي مانع يمنع من العمل به مع تظاهر الأحاديث، وعدم المعارض لها، قال القاضي، وأصحاب

الحديث الثامن

الشافعي: وأجمعوا على أنَّه لا يصلَّى عن الميِّت صلاة فائتة، وعلى أنه لا يصام عن أحد في حياته، وإنما الخلاف في الميت، والله أعلم (¬1). ومنها: أن الأجنبي لا يصوم عن الميت، على ما تقدم تقريره وبيانه. ومنها: أن غير الصوم لا يلحق به، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ - رضيَ اللهُ عنهُما - قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله! إنَّ أُمِّي ماتَتْ، وعَلَيها صَوْمُ شَهْرٍ، أَفأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فقال: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قاضِيَهُ عَنْهَا؟ "، قال: نَعَمْ، قال: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَقْضَى" (¬2). وفي رواية: جاءتِ امرأةٌ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ! إن أُمِّي مَاتَتْ، وعليها صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عنها؟، فقال: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ "، قالتْ: نَعَمْ، قال: "فَصُومي عَنْ أُمِّكِ" (¬3). أمَّا ابن عبَّاس، فتقدَّم الكلام عليه. وأَمَّا الرجل والمرأة وأمهما، فلا أعلم أسماءهم بعد الكشف والتَّعب، فمن علم ذلك، فليفد. وقد اقتضى حديث ابن عبَّاس عدمَ تخصيص جواز النيابة بصوم النذر؛ فإنَّه قد أطلق القول فيه بموت أمه، وعليها صوم شهر، من غير تقييد بنذر، وهو منصوص الشافعي في القديم، وهو الراجح كما تقدم بيانه، خلافًا لما قاله أحمد من أنه يصوم عنه في النذر، ويطعم عنه في قضاء رمضان. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 27). (¬2) رواه البخاري (1852)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (1148)، (2/ 804)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت. (¬3) رواه مسلم (1148)، (2/ 804)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت.

ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجهين: أحدهما: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحكم غير مقيَّد بعد سؤال السائل مطلقًا عن واقعة، يحتمل أن يكون وجوب الصَّوم فيها عن نذر، ويحتمل أن يكون عن غيره، لكن ذلك يرجع إلى قاعدة في أصول الفقه متَّفق عليها، وهي أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا أجاب بلفظ غير مقيَّد عن سؤال وقع عن صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفًا: أنه يكون الحكم شاملًا للأمور كلها، وهو الَّذي نقل عن الإمام الشَّافعي - رحمه الله تعالى -، وغيره. وعن أئمة أصول الفقه: ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال، مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال. وقد استدلَّ الشَّافعي بمثل هذا، وجعله كالعموم. الوجه الثاني: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - علَّل قضاء الصوم بعلة؛ للنذر وغيره، وبينه بالقياس على الدَّين، وذلك لا يختص بالنذر في كونه حقًّا واجبًا، والحكم يعم بعموم علته، وقد استدلَّ القائلون بالقياس في الشريعة، بهذا الحديث؛ من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاس وجوب أداء حقِّ الله تعالى، على وجوب حق العباد، وجعله من طريق الأحق، ويجوز لغيره القياس بقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوُهُ} لا سيَّما وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت" إرشاد وتنبيه على العلة التي هي والحكم كشيءٍ واحد مستقر في نفس المخاطب، وأما الرواية الثابتة، ففيها ما في الأولى؛ من دخول النيابة في الصَّوم، والقياس على حقوق الآدميين، إلا أنه ورد التخصيص فيها بالنذر، وقد يتمسك بها من يرى التخصيص بصوم النذر، إما بأن يدل الدليل على أن الحديث واحد، فيتبيَّن من بعض الروايات أن الواقعة المسؤول عنها واقعة واحدة، وهي النذر، فيسقط الوجه الأول؛ وهو الاستدلال بعدم الاستفصال، إذا تبيَّن عين الواقعة، إلا أنَّه قد يتعدَّى هذا التباين بين الروايتين؛ فإن في إحداهما: أنَّ السائل رجل، وفي الثانية امرأة، وقد تقرر في علم الحديث: أنه يعرف كون الحديث واحدًا باتِّحاد سنده ومخرجه، وتقارب ألفاظه، وعلى كل حال، فيبقى الاستدلال بعموم العلَّة، وتقديمه على عموم الحكم، كيف ومعنى عموم آخر،

وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ماتَ وعليه صيامٌ، صامَ عنه وليُّه"؟! فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر مع ذلك العموم راجعًا إلى مسألة أصولية، وهو: أنَّ التنصيص على بعض صور العام، لا يقتضي التخصيص، وهو المختار في علم الأصول. وقد نسب بعض الشَّافعية المتأخرين إلى أنَّه قاس الاعتكاف والصَّلاة على الصَّوم في النيابة، وربَّما حكاه بعضهم وجهًا في الصلاة، فإن صحَّ، فقد يستدل بعموم التعليل. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز صوم القريب عن الميِّت -كما تقدَّم-، واعتذر القاضي عياض - رحمه الله - عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصَّوم عن الميِّت والحج، بأنَّها مضطربة، وهو عذر باطل، بدليل صحَّتها بالاتفاق. ومنها: جواز سماع كلام المرأة الأجنبية ونحوها في الاستفتاء ونحوه من مواضع الحاجة. ومنها: صحَّة القياس؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فدينُ الله أحقُّ بالقضاء". ومنها: قضاء الدَّين عن الميِّت، وقد أجمعت الأمة عليه، ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره، فيبرأ به بلا خلاف. ومنها: تقديم دين الله - عزَّ وجلَّ - على دين الآدمي إذا تزاحما؛ كدين الزكاة، ودين الآدمي، ولم يمكن الجمع بينهما لضيق التركة عن الوفاء لكل منهما. وقد يستدلُّ لتقديم الزكاة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فدين الله أحق بالقضاء"، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال للشافعي: أصحها: تقديم دين الله تعالى. والثاني: تقديم دين الآدمي؛ لأنه مبنيٌّ على الشحِّ والمضايقة.

الحديث التاسع

والثالث: هما سواء، فيقسم بينهما سواء. ومنها: أنَّه يستحبُّ للمفتي أن ينبِّه على وجه الدليل إذا كان مختصرًا واضحًا وبالسائل إليه حاجةٌ، أو يترتب عليه مصلحةٌ؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - قاس على دين الآدمي تنبيهًا على وجه الدليل. ومنها: استحباب الجواب بنعم إذا كان حقًّا. ومنها تقريب العلم إلى أذهان السائلين، بعبارة مفهومة عندهم؛ ليكون أقرب إلى سرعة فهمهم للمسؤول عنه، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضيَ اللهُ عنهُ -: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬1). أما سهل بن سعد السَّاعديُّ: فتقدَّم ذكره في أَوَّل باب الجمعة. أما تعجيل الفطر والحضُّ عليه، فلأمرين: أحدهما: منصوص عليه في "سنن أبي داود"، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الفِطْرَ؛ لأنَّ اليَهُودَ والنَّصَارى يُؤَخِّرُونَ"، (¬2) فجعل - صلى الله عليه وسلم - العلةَ في التعجيل مخالفةَ أهل الكتاب في التأخير. الأمر الثاني: مستنبط، وهو أنَّه - صلى الله عليه وسلم - إنَّما حضَّ على التعجيل للفطر؛ لئلَّا يزاد في النهار ساعة من الليل، فتكون زيادة في فروض الله تعالى، ولأن ذلك أرفق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1856)، كتاب: الصوم، باب: تعجيل الإفطار، ومسلم (1098)، كتاب: الصيام، باب، فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر. (¬2) رواه أبو داود (2353)، كتاب: الصوم، باب: ما يستحب من تعجيل الفطر، والنسائي في "السنن الكبرى" (3313)، وابن ماجه (1698)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في تعجيل الإفطار.

الحديث العاشر

بالصائم، وأقوى على الصيام، والله أعلم. وأمَّا كون النَّاس بفعله بخير، وأن الدين لم يزل ظاهرًا بتعجيله؛ فلِما فيه من إظهار السنَّة؛ فإنَّ الخير كله في متابعتها، والشر كله في مخالفتها، وفعلها كالعلم على صلاح الدِّين والأمور كلها، وتركها كالعلم على فساد الدِّين والأمور كلها، حتَّى إنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا إذا خذلوا في أمرٍ، فتَّشوا على ما تركوا من السنَّة، فإذا وجدوه، علموا أنَّ الخذلان إنَّما وقع بترك تلك السنَّة، فلا يزال أمر الأمة منتظمًا، وهم بخير، ما داموا محافظين على سنَّة تعجيل الفطر، وإذا أخَّروه، كان علامةً على فساد يقعون فيه. وفي الحديث دليل على استحباب تعجيل الفطر، بعد تحقق غروب الشَّمس، وقد اتَّفق العلماء عليه. وفيه: الردُّ على المتشيعة الذين يؤخرون الفطر إلى ظهور النجم، ولعلَّ المراد بالحديث الرَّدُّ عليهم. وفيه: الحثُّ على اتِّباع السنَّة، وترك مخالفتها، وأن فساد الأمر بتركها، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عن عُمَرَ بنِ الخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عنهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هَاهُنَا، وَأَدْبرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬1). وتقدَّم الكلام على عمر أول الكتاب. أمَّا إقبال الليل وإدبار النهار، فهما متلازمان في الوجود، وقد ينفكان في الحس في بعض المواضع؛ بأن يكون في جهة المغرب ما يستر البصر عن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1853)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم، ومسلم (1100)، كتاب: الصوم، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار.

الغروب، ويكون بالمشرق ظاهرًا بارزًا؛ بأن يكون في واد؛ بحيث لا يشاهد غروب الشمس، فيعتبر إقبال الظلام، وإدبار الضياء. وجاء في رواية في هذا الحديث: "وغابت الشمس" (¬1)، وهي ملازمة للإقبال والإدبار، لكنَّها مخرجة على ما ذكرنا فيهما. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ"، معناه: فقد انقضى صومه وتمَّ، وصار في حكم المفطر، وإن لم يأكل، ويكون المعنى: فقد حل له الفطر بعد أن كان حرامًا، أو يكون المراد: فقد دخل في الفطر، وإن لم يأكل، كما يقال: أصبح، إذا دخل في وقت الصُّبح، وأمسى، وأظهر كذلك، ويكون مفطرًا شرعًا، لا حسًّا؛ كالعيدين والتشريق، وتكون الفائدة فيه: أنَّ اللَّيل غير قابل للصوم، وأنَّه بنفس دخوله خرج الصائم من الصَّوم. وعلى المعنى الأول: يكون دخول اللَّيل علامةً لجواز الفطر، وعلى الثاني: يكون فيه بيان امتناع الوصال، بمعنى الصَّوم الشرعي. فلا يكون من أمسك حسًّا صائمًا شرعًا، بل هو مفطر شرعًا، وفي ضمن ذلك إبطال فائدة الوصال شرعًا؛ إذ لا يحصل به ثواب الصَّوم. وقال بعضهم: لا يجوز الإمساك بعد الغروب، وهو كإمساك يوم الفطر، ويوم النَّحر، وقال بعضهم: هو جائز، وله أجر الصائم، واحتجوا بأن الأحاديث الواردة في الوصال فيها ما يدل على النَّهي عن الوصال تخفيفا ورفقًا، وفي بعضها نهاهم عن الوصال رحمة لهم. وفي هذا الحديث فوائد: بيان وقت الصَّوم وتحديده. ومنها: الرَّد على أهل الكتاب وغيرهم من المتشيعة الذين قالوا: لا يفطر حتَّى تظهر النجوم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

الحديث الحادي عشر

ومنها: أنَّ الأمر الشرعي أبلغ من الحسِّي، وأنَّ العقل لا يقضي على الشَّرع، بل الشَّرع قاض عليه؛ حيث جعل دخول اللَّيل فطرًا شرعًا. ومنها: البيان بذكر اللَّازم والملزوم جميعا؛ فإن اللَّازم يلزم منه وجود اللزوم، ولا ينعكس؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - ذكر إقبال اللَّيل، وهو لازم، وإدبار النهار، وهو ملزوم الفطر، للإيضاح والبيان، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر عَنْ عَبد اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - قالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الوِصَالِ، قالوا: إِنَّكَ تُواصِلُ، قال: "إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" رواه أبو هريرة، وعائشة، وأنس (¬1). ولمسلم عن أبي سعيد الخدري: "فَأَيُّكُمْ أَرادَ أَنْ يُواصِلَ، فَلْيُواصِلْ إِلى السَّحَرِ" (¬2). أَمَّا ابن عمر ومن ذكر من الصحابة - رضي الله عنهم -، فتقدم ذكرهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1861)، كتاب: الصوم، باب: الوصال، ومسلم (1102)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ورواه البخاري (1864)، كتاب: الصوم، باب: التنكيل لمن أكثر الوصال، ومسلم (1103)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه البخاري (1863)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، ومسلم (1105)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، عن عائشة - رضي الله عنها -. ورواه البخاري (1860)، كتاب: الصوم، باب: الوصال، ومسلم (1104)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (1862)، كتاب: الصوم، باب: الوصال. قلت: لم أره مخرجًا في "صحيح مسلم"، ولا عزاه إليه أهل التخريج؛ كابن حجر في "فتح الباري" (4/ 139)، وفي "تلخيص الحبير" (3/ 133)، والشوكاني في "نيل الأوطار" (4/ 297)، والصنعاني في "سبل السلام" (2/ 156)، وغيرهم. نعم ذكره ابن كثير في "تفسيره (1/ 224)، وعزاه إلى الصحيحين، ولعله سهو أو وهم منه - رحمه الله تعالى -. فكان على المؤلف - رحمه الله - تبيان هذا والتنويه به، والله أعلم.

وأما قوله: "رواه أبو هريرة" إلى آخره، فيحتمل أنَّه ذكر روايتهم لتقرير النهي وتأكيده؛ حيث إنَّ كلًّا منهم متأخر التَّحمل عنه - صلى الله عليه وسلم -، والرواية، وذلك دليل على استقرار حكم النهي وعمومه. وأمَّا الوصال، فحقيقته: أن يتَّصل صوم اليوم الأول باليوم الثاني من غير فطر بينهما، فلا يتناول ذلك الفطر وقت السّحر، ولا يكون ذلك وصالًا، لكنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُواصِلَ، فَلْيُواصِلْ إِلى السَّحَر"، وذلك يقتضي تسميته وصالًا، فيكون صورة لا معنى. والحكمة في النَّهي عنه الملل المترتب عليه، والتعرُّض للتقصير في بعض وظائف الدِّين؛ من إتمام الصَّلاة، ووظائفها، وغيرها من وظائف العبادات المشروعة، في ليله ونهاره، أو ترك الصَّوم بالكلية، أو إبطاله، ولهذا المعنى نهى في الصَّوم عن الفصد والحجامة، ومنع من القبلة ونحوها فيه؛ حيث إن ذلك يؤدي إلى إبطاله وإفساده، وما أدى إلى الفساد، فهو فاسد. ثمَّ الشيء قد يكون مأمورًا به بأصل الشرع؛ كالصوم، إِمَّا واجبًا، إِمَّا ندبًا، وقد يكون مأمورًا به، مترتَّبًا على إيجاب الشخص على نفسه؛ كالنَّذر، فإِنَّه منهي عنه بأصل الشَّرع، واجب الإتيان به، والحديث يعم النَّهي عن الوصال في ذلك جميعه. فإن كان في الواجب بأصل الشَّرع، كان تركه واجبًا، وإن كان في المندوب على قول من يوجب إتمامه من الفقهاء، فكذلك، وعلى قول من يستحبه، كان تركه مستحبًّا، وفعله مكروهًا. وأمَّا النذر: فهو متردد بين كون أصله منهيًا عنه، ويين ترتيب الوجوب عليه، لكنَّ رتبته في المنع من الوصال أعلى من رتبة الصَّوم المندوب، وأدنى من رتبة الصَّوم الواجب بأصل، وفيه نظر، فيحتمل استواؤهما؛ لاستوائهما في الوجوب، ويحتمل افتراقهما؛ لاختلافهما في الإيجاب بأصل الشَّرع، أو بإيجاب الشَّخص دون الشَّرع. لكنَّ الوجوب في النَّذر؛ إنما هو للوفاء بما التزمه

العبد لله تعالى، وألا يدخل فيمن يقول ما لا يفعل. وهذا بمفرده لا يقتضي استواءهما في المصالح، مع ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن النَّذر مع وجوب الوفاء بالمنذور. فلو كان مطلق الوجوب ممَّا يقتضي مساواة المنذور بغيره من الواجبات، لكان فعل الطَّاعة بعد النذر أفضل من فعلها قبل النذر، مع أنَّ فعل الطَّاعة قبل النَّذر داخل في قوله تعالى، فيما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عن ربّه - سبحانه وتعالى -: "وما تقرَّبَ عبدي إليَّ بمثلِ أداءِ ما افترضت عليه" (¬1)، فيحمل النَّهي عن الوصال والبحث المذكور على أداء ما افترض بأصل الشَّرع؛ لأنَّه إذا حمل على العموم، كان النذر وسيلة إلى تحصيل الأفضل من الوصال وغيره، فكان يجب أن يكون مستحبًّا، ولم يقل أحد به، بل اتفقوا على كراهته. ثم إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُواصِلَ، فَلْيُواصِلْ إلى السَّحَرِ"، محمول على مواصلة ترك الفطر وعدم تعجيله، لا على مواصلة الصَّوم المنهيِّ عنه؛ فإن الليل غير قابل إجماعًا، وهذه الإباحة، بشرط ألا يفوّت بها حقًّا مستحبًا ولا واجبًا. وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِني لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وأسْقَى" معناه: الكناية عن القوَّة التي جعلها الله تعالى له، وإن لم يطعم ويسقى، بل يكون كمن أطعم وأسقي. وقيل: يخلق الله تعالى فيه من الشِّبع والرّي ما يغنيه عن الطعام والشَّراب. وقيل: يطعم ويسقى حقيقة من طعام الجنَّة؛ كرامة له - صلى الله عليه وسلم -. والصَّحيح: الأول؛ لأنَّه لو كان حقيقة، لم يكن مواصلًا، ومما يوضِّح معنى أنه كناية عن القوَّة التي تكون فيمن أطعم وأسقي، ويقطع كلَّ تأويل، ما رواه مسلم في رواية "صحيحه": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) قلت: الراوية في "صحيحي البخاري ومسلم"، وقد تقدم تخريجها من حديث أنس - رضي الله عنه -.

ولفظة: أظلُّ، لا تستعمل إلا في النَّهار؛ فلو كان يأكل ويشرب حقيقةً، لما جاز إجماعًا، فدلَّ على أن المراد: الكناية عن القوَّة ونحوها، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: المنع من الوصال لغير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف السَّلف من الصَّحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم من العلماء فيه، فمنهم من قال: إن قدر عليه ولا حرج في فعله، مستدلًا بقوله في "صحيح مسلم"، في بعض طرقه: نهاهم عن الوصال رحمةً لهم (¬1)، وهذا لا يمنع النَّهي عنه، وكونه مرجوحًا فعله؛ حيث إنَّ الشَّرع سدَّ باب الذرائع، ولما كان الوصال يؤدي غالبًا إلى المشقَّة وترك الواجب، منع منه؛ لئلَّا يتكلَّفوا ما يشقُّ عليهم؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَسْتُ مِثْلَكُمْ". ومنهم من أجازه وفعله، فممن فعله من الصَّحابة: عبد الله بن الزبير، وابنه عامر بن عبد الله، حتى روي أنَّ عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - كان يواصل سبعة أيَّام، حتى تتبيَّن أمعاؤه، فإذا كان اليوم السَّابع، أتي بسمن وصبر فَيتحساه (¬2) حتى يفتق الأمعاء مخافة أن تنشقَّ بدخول الطَّعام فجأة فيها. ومنهم من قال: لا يجوز الوصال، وهو قول الجمهور، ونصَّ الشَّافعي - رحمه الله - عليه وأصحابه، ولهم في المنع منه وجهان: أحدهما: منع كراهة، وأصحهما: منع تحريم؛ لأنَّه لا معنى للنَّهي إلا التحريم مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أقبلَ اللَّيلُ من هاهنا، فقد أَفْطَرَ الصَّائِمُ"، فأي وصال بقي؟ ومنهم من قال: يواصل إلى السَّحر، وبه قال ابن وهب، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه؛ لحديث أبي سعيد، وقد تقدَّم الكلام عليه، والمراد منه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قلت: الراوية في "صحيحي البخاري ومسلم" وقد تقدم تخريجها من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه الطبري في "تهذيب الآثار" (2/ 721)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 22)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (28/ 177).

أَمَّا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالوصال من خصائصه التي أبيحت له، وهو محرَّم على أمَّته، قاله العلماء؛ كالخطابي وغيره من الشافعية، لا اختلاف فيه، لكنَّه من باب الإكرام له، والتخفيف عنه، وليس من باب التشديد والتَّثقيل عليه - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. ومنها: أن الأتباع إذا رأوا من متبوعهم شيئًا مخالفًا لما أمرهم به، أو نهاهم عنه، سألوه عنه. ومنها: أنَّ [المتبوع] يبيّنه لهم، ويذكر لهم علته. ومنها: ما اختصَّ الله تعالى به نبيه محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام دون غيره؛ تكريمًا له، وتشريفًا ولطفًا، وتعريفا لقدره - صلى الله عليه وسلم -، وتبيينًا لعظيم رتبته عند ربِّه - سبحانه وتعالى -. ومنها: بيان قدرة الله تعالى على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر للخلق؛ لأنَّه لو كان السَّبب في وصاله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا، لما سألوه عنه، ولما احتاج إلى البيان لهم، والله أعلم. ولا شكَّ أن الله تعالى أجرى الأشياء كُلَّها على الأسباب، لكن بعضها يكون ظاهرًا لكلِّ أحد، وبعضها يكون خفيًّا لا يعلمه إلا الخواص، فيتوهم أنه جرى على غير سبب، فليعلم ذلك! والحكمة في ذلك جميعه: تعريف قدرة الله -عزَّ وجلَّ- في الأسباب والمسببات، وأنَّه - سبحانه وتعالى - واحد في ذاته وصفاته ومخلوقاته، أَلا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. * * *

باب أفضل الصيام وغيره

باب أفضل الصِّيام وغيره فيه أحاديث. الحديث الأوَّل عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أقولُ: والله لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فقلتُ لَهُ: قَدْ قلتُهُ بأبِي أنْتَ وأُمِّي، فقال: "فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ"، قَالَ: "فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْر ثَلاثَةَ أَيَّامِ؛ فَإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَام الدَّهْرِ"، قُلتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قال: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، قُلتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيامُ دَاوُدَ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَام"، فَقَالَ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ (¬1). وفي رواية: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ، شَطْرُ الدَّهْرِ، صُمْ يَوْمًا وأَفْطِرْ يَوْمًا (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1875)، كتاب: الصوم، باب: صوم الدَّهر، ومسلم (1159)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوت به حقًّا. (¬2) رواه البخاري (1879)، كتاب: الصوم، باب: صوم داود - عليه السلام -، ومسلم (1159)، (2/ 817)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوت به حقًّا.

تقدَّم الكلام على عبد الله بن عمرو بن العاص. أَمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ"؛ عدم الاستطاعة تطلق بمعنيين: أحدهما: المتعذر مطلقًا، الَّذي لا يمكن، والثاني: الشَّاق على الفاعل. والحديث محمول على الثاني، وحمل بعضهم على الأول: قوله تعالى {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، حمله على المستحيل، حتى أخذ منه جواز تكليف ما لا يطاق، وحمل بعضهم الآية على ما يشق، وهو الأقرب، ويمكن أن يحمل الحديث على المتعذر الممتنع، إما لكبر السِّن، وأعلم النَّبي وأنَّه سيصير إلى سن لا يستطيع فعل ما التزمه، وإمَّا لاستحقاق الزمن الَّذي التزم فيه ما التزمه أمورًا يتعذر فعل ذلك فيها؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه لا يستطيع ذلك مع القيام ببقية المصالح المرعية شرعًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وذلكَ مثلُ صيامِ الدَّهْرِ" اعلم أن المثليَّة ترد في الأحاديث كثيرًا، والمراد بها القول الحسِّي الواقع في الخارج؛ للحث على فعل المذكور من غير تضعيف الحسنات فيها؛ كالممثل به؛ حيث إنَّ المقدر لا يكون كالمحقق؛ فإنَّ القواعد اقتضت ذلك؛ فالحسنات تتفاوت بحسب تفاوت المصالح بالمشقة بالفعل وغيره؛ فكيف تستوي من فعل الشيء بمن قدرته؛ لكنَّ المراد في نظر الشارع في التَّقدير؛ الفعل المرتب عليه التضعيف في التَّحقيق. ومن هاهنا استدلَّ على جواز صوم الدهر استحبابًا؛ من حيث إنَّ صوم ثلاثة أَيَّام من الشَّهر مرغَّب فيها؛ كترغيب صوم الدَّهر. ولا يجوز أن تكون جهة الترغيب هي جهة النَّهي، وسبيل الجواب في النَّهي عن صوم الدهر -عند من قال به- متعلَّق بالفعل الحقيقي، وهو في كلِّ الأوقات الجائز الصوم فيها، والمنهي عنه فيها، وجهة الثَّواب ها هنا حصوله على الوجه التَّقديري، وهو غير الحقيقي، فاختلف جهة الترغيب والنَّهي فإنَّ صوم الدَّهر حسًّا، غيرُ صومه شرعًا، والذين قالوا باستحبابه قالوا: بشرط ألا يعطل عن حق شرعي، فإن عطل، كان مكروهًا، وعليه نزل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَامَ مَن صَامَ

الأَبَدَ" (¬1)، مع أنَّ الأبد لا يقتضي دخول الأيام المنهي عنها فيه. وهذا الاشتراط لا بأس به، لكنَّ الدليل الدَّال على كراهة صوم الدَّهر أقوى منه دلالة، فالعمل بالأقوى أولى وأوجب، والذين أجازوا صومه، حملوا النَّهي على من عجز عنه، أو اقترن به لزوم تعطيل مصالح راجحة عليه، أو متعلقة بحقِّ الغير؛ كالزوجة مثلًا. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أنَّ الكبير العالم إذا بلغه عن بعض أصحابه أمر يخالف الأولى في حقه، أو مطلقًا، أن ينبهه عليه، [ويبينه] له. ومنها: أنَّ التزام الطَّاعات الشَّاقات التي لا يستطاع القيام بها، أو الدَّوام عليها، غيرُ لازمة. ومنها: أنَّ الإنسان إذا سئل عما نقل عنه، يجيب بالواقع، ولا يورِّي؛ خصوصًا فيما يتعلَّق بالعبادات. ومنها: التفدية بالآباء والأمهات لكبار العلماء، وصدقهم، وجوابهم بأحسن العبارات. ومنها: أنَّ الشخص لا يعمل إلا ما يستطيع الدَّوام عليه، ويراعي في ذلك حقَّ الله - عزَّ وجلَّ -، وحقَّ نفسه، وحقَّ غيره. ومنها: بذل الوسع في الاجتهاد في العبادات على حسب الطاقة، وأداء غيرها من الطاعات. ومنها: جواز صوم الدَّهر، غير الأيام الخمسة المنهي عنها، وهو مذهب الجمهور. وقد سرد الصَّوم عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل موته بسنتين، وسرده ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1876)، كتاب: الصوم، باب: حق الأهل في الصوم، ومسلم (1159)، (2/ 814)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوت به حقًّا، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.

أبو الدَّرداء، وأبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن عمرو، وحمزة بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهم - زوجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسماء بنت أبي بكر، وجماعة من التَّابعين. وقال الإمام الشَّافعي - رحمه الله تعالى -: فإن قوي على صوم الدَّهر، إذا أفطر الأيام التي نهى عنها الشَّرع، فحسن، ومنع أهل الظاهر صيام الدَّهر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَد" (¬1)، أو: "مَا صَامَ وَلَا أَفْطَر" (¬2)، وتأوَّلهُ مخالفوهم على من صام الدَّهر بالأيام المنهي عنها، وهو جواب عائشة - رضي الله عنها -، وهو حقيقة صوم الأبد كما ذكرناه، فمن صام هذه الأيام مع غيرها، فهو صائم الأبد، ومن أفطرها، لم يصم الأبد. إلا أنَّ في هذا خروجًا عن الحقيقة الشَّرعية في مدلول لفظة "صام"؛ حيث إنَّها غير قابلة للصوم شرعًا، فإن وقعت المحافظة على حقيقة الأبد، فقد وقع الإخلال بحقيقة لفظ: "صام الأبد" شرعًا، فيجب أنَّ يحملوا ذلك على الصَّوم اللُّغوي، وإذا دار اللَّفظ بين حمله على مدلول اللُّغة، ومدلولِ صاحب الشَّرع في ألفاظه، حُمل على الحقيقة الشرعية، مع أنَّ تعليق الحكم بصوم الأبد يقتضي ظاهره أنَّ الأبد متعلِّق الحكم من حيث هو أمد، وإذا وقع الصَّوم في هذه الأيام، فعلَّته وقوعُه في الوقت المنهي عنه، فعلَّته ترتب الحكم، ويبقى ترتيبه على مسمى الأبد غير واقع؛ فإنه إذا صام هذه الأيام، تعلَّق به النَّهي، سواء صام غيرها، أو أفطر، فلا يبقى متعلق النَّهي، وعلَّته: صوم الأبد، بل صوم هذه الأيام، إلا أنَّه لمَّا كان صوم الأبد يلزم منه صوم هذه الأيام، تعلَّق به النَّهي؛ لكونه ملزومًا للنهي عنه، فمن هنا نظر المؤولون لهذا التأويل، وتركوا التعليل بخصوص صوم الأبد. تأويل ثانٍ: أنه محمول على من تضرَّر به، أو فوَّت حقًّا، كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) رواه مسلم (1162)، كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -.

تأويل ثالث: أنَّ معنى "لا صام من صام الأبد": أنَّه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره ممن صام وأفطر، فيكون "لا صام الأبد" خبرًا، لا دعاءً، مع أنَّ نهي عبد الله بن عمرو وخطابه بذلك كان لعلم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعجزه آخر عمره، فعجز وندم على كونه لم يقبل الرخصة، فنهيه عنه لعلمه بأنه سيعجز، وإقراره لحمزة بن عمرو؛ لعلمه بقدرته بلا ضرورة. وقد اختلف الفقهاء في الأفضل من صوم يوم ويوم، أو صوم الدَّهر غير الأيام المنهي عنها، مع اتِّفاقهم على جواز الأمرين إذا لم يتضرَّر بواحد منهما، ولم يفوت حقًّا، فاستدلَّ من قال بأفضلية صوم يوم ويوم بهذا الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهو أَفْضَلُ الصِّيامِ"، وفي رواية: "أَحَبَّ الصِّيامِ إِلى اللهِ"، وهو أقوى الصيام في ذلك. واستدلَّ من قال بأفضلية صوم الدَّهر بالشرط المذكور بأنَّ العمل كلَّما كان أكثر، كان الأجر أوفر، وهذا هو الأصل، فيحتاج إلى تأويل قول من قال بأفضلية يوم ويوم، ودليلهم. فقيل: إنَّه أفضل بالنسبة إلى حال مَنْ حالُه مثل عبد الله بن عمرو ممَّن يتعذَّر عليه الصَّوم الأكثر وبين القيام بالحقوق. وقال شيخنا الإمام أبو الفتح - رحمه الله - (¬1): والأقرب عندي أنَّ يجري على ظاهر الحديث في تفضيل صيام داود - صلى الله عليه وسلم -، والسَّبب فيه؛ أنَّ الأقوال متعارضة المصالح والمفاسد، وليس ذلك معلومًا لنا، ولا منحصرًا، فإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار كل واحد منهما في الحثِّ والمنع غير محقق لنا، فالطريق حينئذ؛ أنَّ يفوّض الحكم إلى صاحب الشَّرع، ويجري على ما دلَّ عليه ظاهر اللَّفظ مع قوَّة الظَّاهر هاهُنا. وأَمَّا زيادة العمل، واقتضاء القاعدة زيادةَ الأجر بسببه، فيعارضه اقتضاء ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 239).

العادة والجبلَّة والتَّقصير في حقوق يعارضها الصَّوم الدَّائم، ومقادير ذلك بالفائت مع مقادير الحاصل من الصَّوم، غير معلوم لنا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ"؛ يحمل على أنَّه لا فوق في الفضيلة المسؤول عنها. قلت: والذي تقتضيه الأدلَّة كلُّها، وفعل الصَّحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم، وتقرير حمزة بن عمرو وغيره، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإكثار الصَّوم لمن لا يستمع التَّزوج، وسرده - صلى الله عليه وسلم - الصَّوم في بعض الشُّهور والإفطار في بعضها، وتخفيف المشقة في الصَّوم سردًا، والمشقة في تفريقه يومًا يومًا: أنَّ الأفضلية تختلف باختلاف الأشخاص، على حسب حاجتهم إليه، والقيام بحقوق الله -عز وجل-، وفي غيره لا [يتقدر] بصوم يوم يوم، ولا بالسَّرد؛ جمعًا بين الأدلة، والثَّواب وكثرته وقلَّته راجع إلى ما ذكرته، لا إلى كثرة العمل وقلَّته، بل إلى الإخلاص فيه والمقاصد، فربَّ عمل قليل أفضلُ من كثير، والذي ذكر من الترجيحات، إنَّما هو بالنِّسبة إلى الظاهر، والله سبحانه أعلم. ومنها: استحباب صيام ثلاثة أيَّام من كل شهر، وقد اختلف العلماء في تعيينها اختلافًا كثيرًا، وهو اختلاف في تعيين الأحسن، والأفضل لا غير. وليس في هذا الحديث شيء مما يدل على تعيين شيء، بل فيه تعليله بأنَّ الحسنة تضاعف بعشر أمثالها. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر، ولم يكن يبالي من أي الشَّهر كان يصوم، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بالصوم من سرة الشَّهر، ومن سرر الشَّهر، ولا شك أنَّ سرة الشَّهر وسطُه، فيكون المراد بالثلاثة: الأيامَ البيض؛ وهي الثالثَ عشرَ، والرابع عشر، والخامس عشر، وجاءت مبينة في حديث عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في التِّرمذي، وغيره (¬1). ولعلَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نبه بسرة الشَّهر، وبحديث الترمذي في أيَّام البيض، على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

أفضليتها، لا على كونها ثلاثًا من كل شهر، كما نبَّه على صوم الاثنين والخميس، ومعلوم أنهما متكرران في كل شهر، وسررُ الشَّهر أوله، وقيل: آخره، وقيل: وسطه، وخياره وأفضله لغة. وقد وقع الأمر بصوم الثَّلاث أول الشَّهر، وقد وقع آخره، وكل ذلك يبين أنه لا حرج في ذلك، وأنَّ الاختلاف إنَّما هو في الأحسن الأفضل. ومنها: كراهة قيام كل اللَّيل، ونقلت الكراهة عن جماعة، ودليلهم: رد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على من أراده، ولما يتعلق بفعله من الإجحاف بوظائف من الدِّين وغيره عديدة، وقال أصحاب الشَّافعي - رحمهم الله -: يُكره قيام كل اللَّيل دائما لكل واحد، وفرَّقوا بينه وبين صوم الدَّهر في حقِّ من لا يتضرَّر به، ولا يفوِّت حقًّا؛ بأن صلاة اللَّيل كلِّه لا بدَّ فيها من الإضرار بنفسه، وتفويت بعض الحقوق؛ لأنَّه إن لم ينم بالنَّهار، فهو ضرر ظاهر، وإن نام نومًا ينجبر فيه سهره، فوَّت بعض الحقوق، بخلاف من يصلِّي بعض اللَّيل؛ فإئه يستغني بنوم باقيه، وإن نام معه شيئًا في النَّهار، كان يسيرًا لا يفوت به حق، وكذا من قام ليلة كاملة، كليلة العيد أو غيرها، لا دائمًا؛ فإنَّه لا كراهة في ذلك؛ لعدم الضرر فيه، والله أعلم. وتأوَّل جماعة من المتعبدين من السَّلف وغيرهم ردَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قيام كلِّ اللَّيل والنَّهي عنه على الرِّفق بالمكلَّف فقط، لا على الكراهة الشرعية، والله أعلم. ومنها: استدراج الشيخ المربي أتباعه في عبادات الصوم والصلاة وغيرها من الأخف إلى الأثقل؛ لتتمرَّن نفوسهم عليها من غير كراهة ولا ملل يؤدي إلى التَّرك بالكليَّة، وهذه سنَّة الله - عزَّ وجلَّ - في وحيه وتنزيله، ورسله - صلى الله عليهم وسلم -. ومنها: مراعاته - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - في الاتباع؛ حيث ذكرهم الله - عزَّ وجلَّ - في كتابه العزيز، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] الذين من جملتهم في الذكر داود - صلى الله عليه وسلم -.

الحديث الثاني

ومنها: بيان كرم الله تعالى في تضعيف الحسنة بعشر أمثالها، وأما السيئات، فلا تضاعف، بل جزاء السيئة مثلها، إن لم يقترن بفعلها انتهاك حرمة شخص، أو مكان أو زمان، فإن اقترن بفعلها شيء من ذلك، كانت مضاعفة؛ كالمعاصي من أقارب الأولياء والعلماء والصَّالحين، أو منهم، وفي الأشهر الحرم والأزمنة الفاضلة، وفي الحرم والمساجد، والمواضع الفاضلة الشَّريفة، وبجوار الأولياء والصَّالحين، والله أعلم. ومنها: الشَّفقة على الأتباع، والتَّخفيف عنهم، وأمرهم بإعطاء النَّفس حقَّها من الرَّاحة وغيرها؛ من الأكل والنَّوم، خصوصًا إذا نوى بذلك امتثال الأمر؛ فإن جميعه يكون طاعات وعبادات من الآمر والمأمور، والله أعلم. ومنها: أنَّ الشَّخص إذا نوى فعل طاعات لا يستطيع القيام بها، لا تلزمه، لكنَّه يثاب على نيَّته إن لم يكن في الفعل طاعة محظورة. * * * الحديث الثّاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -أيضًا- قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ؛ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا، ويُفْطِرُ يَوْمًا" (¬1). تقدَّم الكلام على الصَّوم في الحديث قبله مبسُوطًا، وتقدَّم الكلام على قيام اللَّيل كله. أمَّا قيام بعض اللَّيل، فهو سنَّة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأفضل قيام اللَّيل في النِّصف الأخير منه، وأي وقت قام فيه منه، كان إتيانًا بالسّنّة، وكان فاعله ممن يتجافى جنبه عن المضاجع، حتَّى وردت السُّنَّة بذلك في حقِّ من قام بين المغرب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3238)، كتاب: الأنبياء، باب: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، ومسلم (1159)، (2/ 816)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوّت به حقًّا.

الحديث الثالث

والعشاء، لكنَّ القيام بين المغرب والعشاء لا يسمَّى تهجُّدًا، بل التَّهجُّد في عُرْف الشَّرع: من قام بين فعل العشاء ونومه وطلوع الفجر، ووسطُ اللَّيل أفضل من الأول والأخير، وإن كانت الصلاة آخر اللَّيل مشهودة؛ لما فيه من نوم النَّاس وغفلتهم عنها، وقد ورد في حديث حسن: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذاكرُ اللهِ في الغافلينَ كشجرةٍ خضراءَ بينَ أشجارِ يابسةٍ" (¬1). والمراد بالوسط: ما في حديث ابن عمرو من فعل داود - صلى الله عليه وسلم - هذا، وهو الثلث الَّذي بين النِّصف الأول والسدس الأخير، وإن كان في عبارة أبي إسحاق الشّيرازي في "التَّنبيه" (¬2) ما يخالف ظاهره ذلك بقوله: والثُّلث الأوسط أفضلُ من الأول والأخير، لكنَّ المراد به هذا الَّذي ذكرناه. وإنما كان ذلك أفضل؛ لما فيه من مصلحة الإبقاء على النفس، واستقبال صلاة الصبح وأذكار النَّهار بالنَّشاط، والَّذي يقدَّر في الصُّوم من المعارض وارد هنا من أنَّ زيادة العمل تقتضي زيادة الفضيلة، والكلام فيه كالكلام في الصوم من تفويض مقابلة المصالح والمفاسد إلى صاحب الشَّرع، ومن مصالح القيام على ما في هذا الحديث أنَّه أقرب إلى عدم الرِّياء في العمل؛ فإن من نام السُّدس الأخير، فإن نفسه تكون مجموعة غير منهوكة، لا يظهر عليها أثر العمل عند من يراه، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ورَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوْتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 91)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 181)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (565)، والديلمي في "مسند الفردوس" (3140)، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "التنبيه" لأبي إسحاق الشيرازي (ص: 34 - 35)، و"المهذب" له أيضًا (1/ 84). (¬3) رواه البخاري (1880)، كتاب: الصوم، باب: صيام أيام البيض، ومسلم (721)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى.

أمَّا قول أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره:: "خليلي" يصفون النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ويضيفون خلته - صلى الله عليه وسلم - إلى نفوسهم؛ تشرُّفًا بها، فهذا جائز لا بأس به، وقد وقع من جماعة من الصَّحابة - رضي الله عنهم - غير أبي هريرة، من غير نكير، بل ذلك مستعمل إلى الآن، لكنَّه بالمعنى الذي ذكرناه. أمَّا إضافتها إليه - صلى الله عليه وسلم - بمعنى أنَّه اتخذهم، أو أحدًا منهم خليلًا، فهذا لا يجوز؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - نفاها عنهم، وأثبتها لنفسه، وأضافها إلى الله تعالى. وأمَّا مخاللة الإيمان والإسلام، فهذا جائز بالاتفاق، فإن الله - عزَّ وجلَّ -، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد أثبتاها في الكتاب والسنة، فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخو المسلم" (¬1)، ومعنى الأخوة: المخاللة بهذا الوصف، والله أعلم. وأمَّا إيصاؤه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الثَّلاث، فلِمَا في المحافظة عليها من الخيرات الدُّنيوية والأخروية، منها: التمرين للنَّفس على النَّوافل [المعينة] من الصَّوم والصَّلاة؛ لكي تدخل في الواجب منهما بانشراح واسترواح، ولينجبر بها مع ما يقع فيه من نقص، ولإذهاب السَّيئات؛ فإن الحسنات يذهبْنَ السَّيئات، ولتضعيف الحسنات؛ كما علل - صلى الله عليه وسلم - صوم ثلاثة أَيَّام من الشهر في الحديث قبله، بقوله: "فإنَّ الحسنةَ بعشرةِ أمثالها"، وكان صومها يعدل صيام الشَّهر، ولعل الحكمة فيه تحصيل العلم بالفرق بين أنَّ يصوم الشَّهر تقديرًا وتخفيفًا. وأمَّا صلاة الضُّحى، فلأنَّ الركعتين منها تجزى عن الصدقات التي تصبح في كلِّ يوم على مفاصل ابن آدم، وهي ثلاث مئة مفصل وستون، وقد ورد في السُّنَّة الحثُّ على فعلها، وصنف الحاكم أبو عبد الله الحافظ فيها كتابًا مستقلًا، وفيه فوائد جمَّة، وذكر فيه حديثًا أنَّه يقرأ في الركعة الأولى منها بعد سورة الفاتحة: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2310)، كتاب: المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ومسلم (2580)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

الحديث الرابع

والشمس وضحاها، وفي الثَّانية: سورة: والضُّحى. لكنَّ الحديث ضعيف، وهو حسن العمل به فيهما، مناسب لها، والله أعلم. ولا شكَّ أنَّ عدد ركعات صلاة الضُّحى له أكثر وأقل وأوسط، فبلغ الحاكم في كتابهِ المذكور بأكثرها إلى اثنتي عشرة ركعة، وهذا الحديث بيان لأقلِّها، وهو ركعتان، والوسط ما بينهما، وله درجات، وهي سنَّة مستحبَّة محثوث عليها بلا شك، وعدم مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليها لا يدل على عدم استحبابها؛ فإن الاستحباب يقوم بدلالة القول، وليس من شرط الحكم أنَّ تتظافر عليه الأدلة، بل ما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - وتترجح مرتبته على هذا، وعلى ما لم يواظب عليه ظاهرًا. وأمَّا النَّوم على الوتر، فتقدَّم الكلام عليه في الحديث الثَّاني من باب الوتر، في تقديمه وتأخيره، ورد فيه حديث يقتضي الفرق بين من يثق بنفسه القيام آخر اللَّيل، وبين من لم يثق، فعلى هذا تكون وصيته - صلى الله عليه وسلم - هذه مخصوصة بمن حاله كحال أبي هريرة - رضي الله عنه - ومن وافقه، والله أعلم. وفي هذا الحديث: استحباب وصية العالم أصحابه بالمندوبات وفعلها. وفيه: استحباب صيام ثلاثة أَيَّام من كلِّ شهر. وفيه: استحباب ركعتين من الضُّحى كل يوم. وفيه: شرعية الوتر، وأنه يفعل قبل النوم، على ما بينَّاه، والله أعلم. * * * الحديث الرَّابع عَنْ محمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ قالَ: سألتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما -: أَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يوْمِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وزاد مسلم: وَرَبِّ الكَعْبَةِ! (¬1). أمَّا محمَّدُ بنُ عبد الله بنِ جعفرٍ؛ فهو تابعيٌّ قرشيٌّ مخزوميٌّ مكِّيٌّ، ثقة، قليل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1883)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، ومسلم (1143)، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، إلا أنه قال: "نعم ورب هذا البيت".

الحديث، وثَّقه أبو زُرعة وابنُ معين، وقال ابن سعد: كان ثقة، وقال ابن معين: مشهور، وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. روى له البخاري ومسلم وغيرهما، واسم أبي جدِّه جعفرِ: رفاعةُ بن أميَّة بن عابد -بالباء الموحَّدة- بنِ عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأمُّه زينبُ بنت عبد الله بن السَّائب بن أبي السَّائب المخزومي، وسمع أيضًا عبدَ الله بن عمر، وأبا هريرة، وعبد الله بنَ عمرِو بن العاص، وغيرهم، وروى عنه جماعة (¬1). وأمَّا جابر، فتقدَّم ذكره. وهذا الحديث نص صريح في النَّهي عن صوم يوم الجمعة بمفرده، كيف وقد أقسم جابر في جوابه عن نهي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن صومه بربِّ الكعبة، وأما بمفرده جمعًا بينه وبين الأحاديث الصَّحيحة الثابتة في عدم كراهة صومه، إذا صام يومًا قبله أو بعده، أو كان صوم يصومه عادة بنذر أو غيره، وأمَّا إذا لم يكن من ذلك، فهو مكروه، وبه قال من الصَّحابة - رضي الله عنهم -: أبو هريرة، وسلمان، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله -، وأصحابه، وقال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يُقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامُه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحرَّاه (¬2)، وقد قيل: إنَّ الَّذي كان يتحرَّى صومه: محمَّد بن المنكدر، وهو الَّذي رىه مالك، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسُّنّة مقدمة على ما رآه هو وغيره، والنَّهي ثابت من غير نسخ له، فتعين القول به. ومالك - رحمه الله - معذور؛ حيث لم تبلغه هذه السُّنَّة، ولو بلغته، لقال بها، كيف وهو - رحمه الله تعالى - يقول: كل أحد مأخوذ من قوله ومتروك، إلا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 475)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 175)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 13)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 356)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 101)، و"تهذيب الكمال" للمزي (25/ 433)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 216). (¬2) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 311).

صاحب هذا القبر -يشير إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؟! قال الداودي -وكان من أصحاب مالك-: لم يبلغ مالكًا هذا الحديث، ولو بلغه، لم يخالفه (¬2). واختلف العلماء في علَّة النَّهي عن صوم يوم الجمعة، والحكمة، فروي عن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه -، وأبي ذر - رضي الله عنهما -: أنَّهما قالا: إنَّه يوم عيد وطعام وشراب، فلا ينبغي صيامه، وبه قال أحمد، وإسحاق، وأورد الطَّحاوي في ذلك حديثًا مسندًا، غير أنَّ في سنده مقالًا، وبيَّنه بعضهم، ولفظه أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا يوم الجمعة" فإنَّه يومُ عيد، إلا أَنْ تَصِلوه بأيام" (¬3)، يريد به: بعض الأَيَّام. وقال بعضهم: يوم الجمعة يومُ دعاء وذكر وعبادة؛ من الغسل، والتبكير إلى الصَّلاة، وانتظارها، واستماع الخطبة، وإكثار الذِّكر بعدها؛ لقول الله - عز وجل -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة: 10]، وغير ذلك من العبادات في يومها، ويستحبُّ الفطر فيه؛ ليكون أعون له على هذه الوظائف، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة، وهو نظير صوم الحاج يوم عرفة بعرفة؛ فإنَّ السُّنَّة فيه الفطر؛ لهذه الحكمة. فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتم من العلَّة والحكمة، لم يزل النهي والكراهة بصوم قبله أو بعده؛ لبقاء هذا المعنى، والجواب أنه يحصل له بفضيلة الصوم الَّذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في [وظائف] يوم الجمعة بسبب صومه، فهذا هو المعتمد في الحكمة في النَّهي عن إفراد صوم ¬

_ (¬1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 93). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 19)، و"حاشية ابن القيم على السنن" (7/ 47)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 179). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 79)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (237)، وابن حبان في "صحيحه" (3610)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الجمعة، وقال بعضهم: سببه خشية أنَّ يستمر على صومه، فيعتقد فرضه، وهذا منتقض بصوم الأيام الَّتي حضَّ الشرع على صيامها؛ فإنها مشروعة الصِّيام والمواظبة عليها من غير كراهة، ولم تترك لخوف اعتقاد وجوبها، كيف وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يبيِّن هذا المعنى هنا كما بيَّنه في قيام رمضان؟! ولما زال المعنى، اتفق الصَّحابة - رضي الله عنهم - على قيامه. وأجمع المسلمون على فعله من غير اعتقاد وجوبه، وبيَّن ذلك عمر - رضي الله عنه -، وهو مستمر إلى الآن من غير نكير. وقيل: خشية أنَّ يعظم بالصوم، كما عظَّمت اليهود والنَّصارى السَّبت والأحد من ترك العمل، وهذا باطل؛ فإنَّ تعظيم يوم الجمعة ثابت مبيَّن في الكتاب والسُّنَّة بأمور كثيرة، ولا يلزم من تعظيمه بالصَّوم لو كان مشروعًا التَّشبُّهُ بالسَّبتية والأحدية، فإنَّهم لا يعظمونه بذلك، لم يكن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صومه ملزومًا بالتشبه بهم، ولا لازمًا، بل لأمر اطلع عليه - صلى الله عليه وسلم -، كيف وهم يعظِّمون سبتهم وأحدَهم بالأكل والشُّرب؛ فقد روى أبو حاتم بن حبَّان في "صحيحه" عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أنَّ رسول الله أكثرَ ما كان يصوم من الأيام، يوم السَّبت والأحد، وكان يقول: "إنَّهما عيدانِ للمشركينَ، وأنا أريدُ أنْ أخالفَهم" (¬1). ومعلوم أنَّ يوم العيد يومُ أكل وشرب، ويترك العمل والسعي في مصالحهم، وقد كانوا أمروا بيوم الجمعة كما أمرنا به، فخالفوا وبدَّلوا، فجعل عليهم غضبًا وتغليظًا، وتعظيم يوم الجمعة معروت عندهم، لكنَّهم غيَّروا وبدَّلوا. والَّذي يقع التَّشبُّه بهم فيه ترك العمل، كما يفعله المصريون في هذه الأزمنة؛ فإنَّهم تشبَّهوا فيه بسبت اليهود، وكان - صلى الله عليه وسلم - يزور قباء كلَّ سبت، والله أعلم. وفي الحديث دليل على جواز الحلف من غير استحلاف؛ لتحقق الأمر. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3616)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 323)، والنسائي في "السنن الكبرى" (2776)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2167)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 283)، والحاكم في "المستدرك" (1593).

الحديث الخامس

وفيه: إضافة الرُّبوبية إلى المخلوقات المعظَّمة تشريفًا لها وتفخيمًا. وفيه: السؤال عن العلم للعلماء. وفيه: جواب المفتي بنعم، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إلا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ" (¬1). حديث أبي هريرة هذا يبيِّن المطلق في الحديث قبله، وقد تقدَّمت الحكمة في النَّهي عن صومه مستوفاة، والحكمة في زوال الكراهة بصوم يوم قبله أو بعده؛ بأنه جبر لما وقع من التقصير بصومه، وترك شيء من الوظائف، أو أكمليتها بسببه. وقد ذكر بعضهم أنَّ الحكمة في رفع الكراهة بصوم يوم قبله تمرنه به، فيخف عليه مشقته لو كان مفردًا. أمَّا صوم يوم بعده، فلا يتأتَّى فيه هذا، مع أنه ورد في صوم يوم السَّبت مع الأحد، وأنَّه سنَّة حديثٌ حسن أو صحيح عن أم سلمة كما ذكرناه في الكلام على الحديث قبله قريبًا، وورد النَّهي عن صوم السَّبت وحده في حديث صحيح أو حسن؛ أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا يومَ السَّبت إلَّا فيما افْتُرِضَ عليكم، ولو لم يجدْ أحدُكُمْ إلا لحاءَ شجرةٍ فليفطر عليهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1884)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، ومسلم (1144)، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه أبو داود (2421)، كتاب: الصوم، باب: النهي أنَّ يخص يوم السبت بصوم، والنسائي في "السنن الكبرى" (2759)، والترمذي (744)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم السبت، وقال: حسن، وابن ماجه (1726)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في صيام يوم السبت، وابن حبان في "صحيحه" (3615)، عن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه -.

الحديث السادس

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ، لا يقتضي لغة إتباعهما ليوم الجمعة، وإن اقتضاه عرفًا؛ فإنَّ القبلية والبعدية تصدق، وإن لم يكونا تباعًا له، خصوصًا على الحكمة في كونهما جبرًا لما وقع من التَّقصير فيه، أمَّا من علَّل بتخفيف المشقَّة، فلا يتاتَّى ذلك. قال أصحاب الشَّافعي: يكره إفراد يوم السَّبت بالصَّوم؛ لهذا الحديث، وقد أخرجه أبو داود، والتِّرمذي، والنِّسائي، وابن ماجه، وابن حبَّان في "صحيحه"، وحسَّنه الترمذي، وقال النَّسائي: أحاديثه مضطربة، فيقتضي ذلك ضعفه عنده. وقال أبو داود بعد روايته له: هذا الحديث منسوخ، ولعلَّ نسخه عنده بصوم السَّبت والأحد؛ لكونهما عيدين للمشركين. والمدعى إفراده بالصوم، فإذا صام الجمعة والسَّبت، زالت الكراهة فيهما، وكذا إذا صام السَّبت والأحد، زالت الكراهة اتِّفاقًا، والله أعلم. وقد يقتضي هذا الحديث أنَّ العلَّة في النَّهي عن صوم الجمعة إفراده به بالقصد، ولا شكَّ أنَّ ذلك عامٌّ بالنِّسبة إلى كلِّ الأمة، وليس فيه دليل على جماعة غيره من الصَّوم وتخصيصه به، بل فيه دليل على جواز صوم غيره معه، إمَّا تباعًا، أو مفردًا على ما ذكرناه، والله أعلم. * * * الحديث السَّادس عَنْ أَبي عُبَيْدٍ - مَوْلَى ابنِ أَزْهَرَ - واسمُهُ سَعْدُ بنُ عُبيدٍ، قالَ: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فقال: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا؛ يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، واليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ (¬1). أمَّا أبو عبيد: فهو تابعي مدني ثقة، زهريٌّ، مولى عبد الرحمن بن أزهر بن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1889)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الفطر، ومسلم (1137)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.

عبد عوف، ويقال: مولى عبد الرحمن بن عوف، وهو ابن عمه، فإنَّ أزهر وعوفا أخوان، وهما ابنا عبد عوف، وسمع عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبا هريرة. روى عنه الزّهري، وسعد بن خالد القارطي، قال الزّهري: كان من القدماء وأهل الفقه، توفي بالمدينة سنة ثمان وتسعين، وروى له البخاري ومسلم، وغيرهما (¬1). قوله: "يَوْمُ فِطْرِكُمْ" مرفوع، إمَّا على أنَّه بدل من يومان، وإمَّا على أنه خبر مبتدأ تقديره: أحدهما، ووصفهما بالفطر والنُّسك؛ لتبيين العلة لفطرهما، وهو الفصل من الصوم واشتهار تمامه، وحده يفطر ما بعده، والآخر لأجل النُّسك المتقرّب بها فيه ليؤكل منها، ولو كان يوم صوم، لم يؤكل منها فيه ذلك اليوم، فلم يكن لنحره فيه معنى. قيل: فطرهما شرع غير معلل. والنُّسك هنا عبارة عن الذَّبيحة المتقرَّب بها إلى الله - عزَّ وجلَّ -، وفرق بعض الفقهاء بين الهدي والنُّسك، وأجاز الأكل، إلا من فدية الآدمي، ونذر المساكين، وهدي التَّطوُّع إذا عطب قبل محله. وجعل الهدي جزاء الصَّيد، وما وجب لنقص في حج أو عمرة. وفي هذا الحديث دليل على تحريم الصَّوم يومي العيد بكل حال، سواء صامهما عن نذر، أو تطوع، أو كفارة، أو غير ذلك؛ من قضاء فرض، أو متمتِّع، وهذا كله إجماع من الأئمة لا نزاع فيه. ولو نذر ناذر صيام يوم بعينه، فوافق ذلك يوم فطر أو أضحى، فأجمعوا أنَّه لا يصومهما، وهل يلزم قضاؤهما؛ فيه خلاف للعلماء، وهو قولان للشافعي: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 60)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 90)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 295)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 288)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 414).

أصحُّهما: لا يجب القضاء؛ لأنَّ النَّهي يقتضي التحريم، والتحريم العائد على الوصف للشيء وذاته يقتضي الفساد، وإذا اقتضى ذلك لم يقتضِ القضاء؛ إذ القضاء لا يجب إلا بأمر محدد، وهو الرَّاجح عند الأصوليين. أمَّا إذا نذر صومهما معتمدًا لعينهما، فقال الشَّافعي والجمهور: لا ينعقد نذره، ولا يلزمه قضاؤهما. وقال أبو حنيفة: ينعقد قضاؤهما. قال: فإن صامهما، أجزأه، وخالف النَّاس كلَّهم في ذلك. ولا شكَّ أنَّ الحنفية قالوا: إذا نذر صوم العيد وأيام التَّشريق، صحَّ نذره، وخرج عن العهد بصوم ذلك، وطريقهم فيه: أنَّ الصَّوم له جهة عموم وجهة خصوص، فهو من حيث إنَّه صوم يقع الامتثال به، ومن أحيث، إنَّه يوم عيد يتعلَّق به النَّهي، والخروج عن العهدة يحصل جهة كونه صومًا. ولا شكَّ أنَّ البحث في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما: انفكاك النهي من هذا الصَّوم المنذور، فلا يصحُّ أنَّ يكون قربة، فلا يصحُّ نذره، فيتعلَّق النَّهي بصومه عن العيد، فلا يصحُّ مطلقًا. وهذا بخلاف الصَّلاة في الدَّار المغصوبة عند من يقول بصحَّتها؛ فإنَّ إيقاعها في مكان مغصوب ليس مأمورًا به في الشَّريعة، والأمر فيها وجه الأمر إلى مطلق الصَّلاة، والنهي إلى مطلق الغصب، وتلازمهما واجتماعهما إنَّما هو في فعل المكلف المتعلق بالأمر والنَّهي الشَّرعي، فلم يتعلَّق النَّهي شرعًا بخصوص الصَّلاة فيها، بخلاف صوم العيد؛ فإنَّ النَّهي ورد عن خصوصية، فتلازمت فيه جهة العموم والخصوص في الشَّريعة، وتعلَّق النهي بعين ما وقع به النذر، فلا يكون قربة. الأمر الثَّاني: أنَّ النهي يدل على عدم الصحة، وإذا دل على ذلك، اقتضى الفساد من كل الوجوه. ونقل عن محمَّد بن الحسن: أنَّ النَّهي لا بد فيه من إمكان المنهي عنه، فيدل على صحَّته؛ إذ لا يقال للأعمى: لا تبصر، وللإنسان لا تنطق، فإذًا هذا المنهي

الحديث السابع

عنه صوم يوم العيد ممكن، وإذا أمكن، ثبتت الصِّحة، وهو ضعيف؛ لأن الصحة معتبر فيها التصور الشرعي، وهو ممتنع، لا التَّصوُّر العقلي أو العادي، وكان محمد بن الحسن يصرف اللفظ في المنهي عنه إلى المعنى الشَّرعي. وفيه دليل: على أنَّ الخطيب يذكر في خطبته ما يتعلَّق بوقته من الأحكام، فإنَّ عمر - رضي الله عنه - ذكر في خطبته نهي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم العيد؛ لمسيس حاجة النَّاس إلى ذلك. وفيه: الإيماء والتَّنبيه على علل الأحكام، إمَّا بالتَّسمية اللازمة للوصف الشَّرعي، وإمَّا بما يلازمه من فعل أو حال. وفيه دليل: على جواز الأكل من النُّسك. وفيه دليل: على أنَّ من سمع علمًا يجوز له روايته، وإن لم يأذن له المسموع منه في ذلك، والله أعلم. * * * الحديث السَّابع عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: الفِطْرِ والنَّحْرِ، وَعَنِ الصَّمَّاء، وأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ والعَصْرِ. أخرجه مسلمٌ بتمامه، وأخرج البخاري الصَّومَ [منه] فقط (¬1). أمَّا أبو سعيد ونسبته، فتقدَّم الكلام عليهما، وتقدَّم الكلام على يومي الفطر والنَّحر. وأمَّا قوله: "وَعَنِ الصَّمَّاءِ"، فالمراد به: اشتمال الصَّماء، على حذف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1890)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الفطر، ومسلم (827)، (2/ 800)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى. وقوله: "أخرجه مسلم تمامه، وأخرج البخاري الصوم فقط" فيه قلب، والصحيح: أنَّ البخاري هو الَّذي أخرجه تمامه، وأخرج مسلم الصوم منه فقط.

المضاف، وقد ثبت في لفظ آخر، وهو الالتفاف في ثوب واحد من رأسه إلى قدميه، يجلل به جسده، وتسمَّى الشملة الصمة أيضًا، سميت بذلك؛ لشدِّها وضمِّها جميع الجسد، ومنه الحديث. والثَّاني كالأزرة صماء؛ أي: مكتنَزة لا تخلل فيها، ومنها صمام القارورة، قال صاحب "المطالع": هذا قول أهل اللُّغة (¬1). فأمَّا مالك وجماعة من الفقهاء، فهو عندهم الالتحافُ بثوب واحد، ويرفع جانبه على كتفه وهو بغير إزار، فيفضي ذلك إلى كشف عورته. قلت: ولفظ الحديث مطابق لقول أهل اللُّغة، ولا يشعر تفسير مالك وغيره من الفقهاء به من لفظ الصَّمَّاء، والنَّهي عنه يحتمل خوفَ الدَّفع إلى حالة شاذة لمتنفسه فيهلك عما إذا لم يكن فيه فرجة، ويحتمل أنَّه إن أصابه شيء، أو نابه مؤذ، ولا يمكنه أنَّ يتَّقيه بيديه؛ لإدخاله إياهما تحت الثَّوب الَّذي اشتمل به، والله أعلم. قوله: "وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ"، الاحتباء: هو أنَّ يضمَّ الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشُدُّه عليهما، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب، وإنَّما نهى عنه؛ لأنه إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد، ربَّما تحرك أزوال الثوب، فتبدو عورته، ومنها: "الاحتباءُ حيطانُ العربِ" (¬2)؛ أي: ليس في البوادي حيطان، فإذا أرادوا أنَّ يستندوا، احتبوا؛ لأن الاحتباء يمنعهم من السقوط؛ ويصير لهم كالجدار، يقال: احتبى يحتبي احتباءً، والاسم الحُبْوَة والحِبْيَة -بالواو والياء- وتضم الحاء وتكسر، والجمع حُباء وحِباء، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 46). (¬2) رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث" (ص: 151 - 152)، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -. ورواه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص: 42)، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 335)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 161)، (مادة: حبا).

الحديث الثامن

وفي الحديث أحكام: منها: تحريم صوم يوم الفطر والأضحى. ومنها: كراهة اشتمال الصَّماء. ومنها: كراهة الاحتباء في ثوب واحد، وأمَّا الاحتباء بنصب الساقين وإلصاقهما بالإليتين، ووضع يده اليمنى على اليسرى عوضًا عن الثوب، فهو جائز، بل مستحبٌّ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس محتبيًا، وأمَّا الجلوس كذلك، ووضعُ اليدين على الأرض، فمنهيٌّ عنه؛ لما فيه من التشبُّه بالكلاب. وأمَّا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الحبوة يوم الجمعة، والإمامُ يخطب؛ فلأنَّ الاحتباء يجلب النَّوم، فلا يسمع الخطبة، ويعرِّض طهارته للانتقاض. ومنها: كراهة صلاة النَّفل المطلق بعد صلاة الصُّبح وصلاة العصر، وهذا متَّفق عليه، وأما صلاة ذات السبب؛ من قضاء فائتة، وتحيَّةِ مسجدٍ، ونحوهما، فلا يكره، وكراهة المطلق كراهة تحريم على أصحَّ الوجهين في مذهب الشَّافعي، فلا ينعقد، وتقدم الكلام على ذلك في باب المواقيت. * * * الحديث الثَّامن عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدِّرِيِّ أَيْضًا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صَامَ يَوْمًا في سَبِيلِ اللهِ، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" (¬1). اعلم أنَّ سبيل الله - عزَّ وجلَّ - في الأكثر من العرف هو الجِهاد، وأكثر استعماله في لفظ الشارع فيه، فإذا حُمل عليه، كانت الفضيلة فيه؛ لاجتماع فضيلة عبادتي الصَّوم والجهاد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2685)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله، ومسلم (1153)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، وهذا لفظ البخاري.

ويحتمل أنَّ يراد بسبيل الله: طاعته، كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد، والنِّية فيه، لكن الأول أقرب إلى العُرْفِ. وقد ورد في بعض الأحاديث جعل الحج وسفره من سبيل الله، وفي الكتاب العزيز: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [النساء: 100]. قال شيخُنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله - (¬1): وهذا استعمال وضعي. والخريف هنا: السَّنة، واحدة السنين، يريد به سبعين سنة، وقد يعبَّر بالسَّنة عن الفَصلِ المعروف، الَّذي هو وقت اختراف الثمار؛ لأنَّه إذا مرَّ الخريف، فقد مضتِ السَّنةُ؛ حيث لا يوجد في السَّنة إلا خريف واحد، وقد يعبر عن السَّنة ببعض فصولها، كالرَّبيع والمصيف والمشتى؛ إذ ليس في العام إلا فصل واحد منها، لكن قال بعضهم: تسميته بالخريف أولى؛ لأن فيه نهاية ما بدا في الفصول قبله؛ فإن الأزهار تبدو في الرَّبيع، وتتشكَّل في صورها في الصَّيف، وفيه يبدو وينضج أكثرها، ووقت الانتفاع بها أكلًا وتحصيلًا وادخارًا هو الخريف، وهو معظم المقصود من السَّنة، فكأنَّه المقصود بالذكر عن السَّنة دون غيره، والله أعلم. ثم المراد بالوجه: جملةُ الشخص الصَّائم في سبيل الله، وعبَّر به عن الجملة؛ لأنه أشرف ما فيه. ثم قوله: "يومًا" إن أريد به واحد الأيام، كان دليلًا على استحباب صومه، سواء أردنا بسبيل الله: الجهاد، والطاعة؛ حيث لا يحصل به ضعف المجاهد عن جهاده ولا طاعته، وإن أردنا به: جنس الصَّوم، وأنَّه لا يتقيد بعدد، فينبغي أنَّ يكون بحيث لا يضعف به عن مقصوده من عمله في الجهاد أو الطَّاعة، والله أعلم. وأمَّا المباعدة عن النَّار في هذا الحديث، فهي بحيث لا يحس بها، ولا يجد ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 247).

ألمها، وعبَّر بالسبعين خريفًا عن ذلك؛ مبالغة في المباعدة عنها، والله أعلم. وفي الحديث: الحثُّ على الصوم المطلق في كل موطن، حتى في الجهاد وغيره، على ما بيَّنَّاه. وفيه: الحث على اجتماع الفضل في الطَّاعات، وأنَّه إذا أمكن الجمع فيها، كان أفضل؛ تكثيرًا للأجور. وفيه: جواز التعبير عن الكلِّ بالجزء إذا كان له وجه فضيلة وشرف، والله أعلم. * * *

باب ليلة القدر

باب ليلة القدر الحديث الأَوَّل عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رِجالًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنَامِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ" (¬1). أمَّا ليلة القدر: فإنما سميَّت بذلك؛ لما يكتب الله فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السَّنة، لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4]. ومعناه: يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علمُ الله تعالى به، وتقديره له. وقيل: سمِّيت ليلةَ القدر؛ لعظم قدرها وشرفها. وأجمع من يُعتد به من العلماء على دوامها ووجودها إلى آخر الدَّهر، وشذَّ قوم فقالوا: رفعت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتَّى تلاحى الرَّجلان، فرفعت" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1911)، كتاب: صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، ومسلم (1165)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر. (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا.

قال القاضي عياض - رحمه الله - (¬1): وهذا غلط من هؤلاء الشَّاذين؛ لأنَّ آخر الحديث يردُّ عليهم، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَرُفِعَتْ، وعَسَى أَنْ يكونَ خيرًا لكُمْ، التمِسُوها في السَّبْعِ، والتِّسْعِ" (¬2)، هكذا هو في أول "صحيح البخاري"، وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفعُ بيان علم عينها، ولو كان المراد رفعَ وجودها، لم يأمر بالتماسها، والله أعلم. واختلف العلماء في انتقالها وتعيينها، فقال قوم: هي منتقلة تكون في سنة في ليلة، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى، وهكذا أبدًا، وهؤلاء قالوا: إنما تنتقل في شهر رمضان، وجمهورهم قالوا: تنتقل في العشر الأواخر منه. قالوا: وبهذا نجمع بين الأحاديث. ويقال: في كل حديث جاء في أحد أوقاتها، ولا تعارض فيها، وهذا نحو قول مالك، والثَّوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور وغيرهم. وقال قوم: هي معيَّنة، لا تنتقل أبدًا، بل هي ليلة معيَّنة في جميع السِّنين، لا تفارقها، وهؤلاء اختلفوا، فقال قوم: هي في السَّنة كلها، وممَّن قال به: ابن مسعود، وأبو حنيفة وصاحباه، وقال قوم: هي في شهر رمضان كلِّه، وهو قول ابن عمر - رضي الله عنهما -، وجماعة من الصَّحابة - رضي الله عنهم -، وقيل: بل في العشر الأوسط والأواخر، وقيل: في العشر الأواخر. وقيل: تختصُّ بأوتار العشر، وقيل: بأشفاعها، وقيل: بل في ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين، وهو قول ابن عباس، وقيل: تطلب في ليلة سبعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وحكي عن علي وابن مسعود، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وهو قول كثير من الصَّحابة وغيرهم، وقيل: ليلة أربع وعشرين، وهو محكيٌّ عن بلال، وابن عبَّاس، والحسن، وقتادة، وقيل: ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 58). (¬2) رواه البخاري (49)، كتاب: الإيمان، باب: خوف المؤمن من أنَّ يحبط عمله وهو لا يشعر، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.

ليلة سبع وعشرين، وهو قول جماعة من الصَّحابة، وقيل: سبع عشرة، وهو محكيٌّ عن زيد بن أرقم، وابن مسعود -أيضًا-، وقيل: تسع عشرة، وحكي عن ابن مسعود -أيضًا-، وحكي عن علي -أيضًا-، وقيل: آخر ليلة من الشَّهر. ولا شكَّ أنَّ ليلة القدر موجودة، وأنَّها تُرى، ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان، والأحاديث الثابتة الصَّحيحة تدلُّ على ذلك، وإخبار الصَّالحين بها، ورؤيتهم لها أكثرُ من أن تحصر. ومنع المهلَّب بن أبي صفرة إمكان رؤيتها حقيقة، وغلَّطه العلماء، وحكوه عنه؛ للتنبيه على غلطه؛ لئلا يُغتر به، قالوا: وإنَّما أُخفي بيان علم عينها عن النَّاس؛ لأجل الاجتهاد في العبادة، وعدم الكسل؛ لأنَّهم لو علموا عينها، حملهم ذلك على تركها إلى ليلتها، واستغنوا بالاجتهاد فيها عن باقي اللَّيالي، والله أعلم. قَولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ"؛ أي: توافقت وتواطأت، مكتوب في النُّسخ كلِّها جميعها، بطاء ثمَّ تاء، وهو مهموز بغير ألف بينهما، وينبغي أنَّ يكتب بالألف بين الطاء والتَّاء صورة للهمزة، ولا بدَّ من قراءته مهموزًا، قال الله - عزَّ وجلَّ -: {لِيُوَاطئُوا عَدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ} [التوبة: 37]. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ" التَّحَرِّي: الاجتهاد وطلب الأحرى، ومعناه: فليجتهد في طلبها يطلب حينها وزمانها. وفي الحديث دليل على عظم الرؤيا، والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات، وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها، فلو رأى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في الرُّؤيا، وأمره بأمر سهل، يلزمه ذلك، وقيل: إنَّ فيه أنَّ ذلك إما أنَّ يكون مخالفًا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الأحكام في اليقظة، أو لا، فإن كان مخالفًا، عمل بما ثبت في اليقظة؛ لأنا، وإن قلنا بأنّ من رأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المنقول من صفته، فرؤياه حقٌّ، وهذا من باب تعارض الدليلين، والعمل بأرجحهما، وما ثبت في اليقظة، فهو أرجح، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة، ففيه خلاف.

وقد ذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتاب "أدب الجدل" له (¬1)، قال: لو أنَّ رجلًا رأى النَّبيَّ في المنام على الهيئة الَّتي نقلت في صفاته، فسأله عن مذهبه، فأفتى بخلاف ما هو مذهبه، ولكن لم يكن مخالفًا لنصٍّ ولا إجماع، هل يأخذ بفتياه، أو يأخذ بمذهبه الَّذي يستند إلى الدَّليل؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذ بقوله؛ لأن قوله مقدَّم على القياس، وهذا مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رآني في المنام، فقد رآني؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يتمثَّل بي" (¬2)، فصار كقوله في حياته. وفي الوجه الثَّاني: الأخذ بالقياس أولى؛ لأنَّه دليل شرعي، والأحلام لا تعويل عليها، فلا يترك لأجلها الشَّرعي، والله أعلم. لكن الاستناد إلى الرؤيا هاهنا أمر ثبت استحبابه مطلقًا في طلب ليلة القدر، وإنَّما يرجح السَّبع الأواخر بسبب المرائي الدَّالة على كونها في السَّبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب أمر شرعي بالتأكيد بالنِّسبة إلى هذه اللَّيالي، مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب قيام ليلة القدر، وقد قالوا: تستحبُّ في جميع الشَّهر. وفيه دليل على أنَّ ليلة القدر في شهر رمضان، وهو مذهب الجمهور، وقيل: إنَّها في جميع السنة كما تقدم. قال الفقهاء: لو قال في رمضان لزوجته: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى تأتي عليها سنة؛ لأن كونها مخصوصة برمضان مظنون، وصحَّة النِّكاح ¬

_ (¬1) كتاب "أدب الجدل" للإمام علي بن أحمد السهيلي أبو الحسن الإسفراييني، المتوفى سنة (418 هـ)، وضع فيه غرائب من علم أصول الفقه وغيره. انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبيكي (5/ 246)، و"كشف الظنون" (1/ 45). (¬2) رواه البخاري (110)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2266)، كتاب: الرؤيا، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رآني في المنام، فقد رآني"، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهذا لفظ مسلم.

معلومة، فلا يزال مرور ليلة القدر إلا بتعين، وهو مضي سنة. قال شيخنا أبو الفتح الإمام - رحمه الله -: وفي هذ انظر؛ لأنَّه إذا دلَّت الأحاديث على اختصاصها بالعشر الأواخر، كان إزالة النِّكاح بناء على مستند شرعي، وهو الأحاديث الدَّالة على ذلك، والأحكام المقتضية لوقوع الطَّلاق يجوز أنَّ تبنى على [أنَّ] أخبار الآحاد يرفع بها النِّكاح، ولا يشترط في رفع النكاح وأحكامه أنَّ يكون مستندًا إلى خبر متواتر، أو أمر مقطوع به اتِّفاقًا، نعم ينبغي أنَّ ينظر إلى دلالة ألفاظ الأحاديث الدَّالة على اختصاصها بالعشر الأواخر، ومرتبتها في الظهور والاحتمال، فإن ضعفت دلالتها، فللَّذي قيل وجه، هذا آخر كلامه - رحمه الله - (¬1). والأشهر في مذهب الشافعي - رحمه الله - أنَّ ليلة القدر منحصرة في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأنها ليلة معيَّنة لا تنتقل، بل تكون كل سنة في تلك الليلة. والمختار: أنَّها تنتقل، فتكون في بعض السِّنين في ليلة، وفي بعضها في ليلة أخرى، ولكن إنَّما تنتقل في العشر الأواخر، حتَّى قال أصحاب الشَّافعي أو جماعة منهم: لو قال لزوجته صبيحة اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق إلا صبيحته من السَّنة المستقبلة؛ لجواز أنَّ تكون وقعت تلك الليلة التي حلف صبيحتها. وبالمختار في انتقالها يجمع بين الأحاديث الصحيحة والمختلفة فيها، وممن قال به من أئمة أصحاب الشَّافعي: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وصاحبه إمام الأئمة أبو بكر محمَّد بن إسحاق بن خزيمة - رحمهما الله تعالى -. وفيه دليل: لمن رجَّح في ليلة القدر غيرَ ليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين. وفيه دليل: على العمل بقول الأكثر، أو الكثير؛ في الرُّؤيا وغيرها من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 249 - 250).

الحديث الثاني

الأحكام، بشرط ألا تخالف نصًّا ولا إجماعًا ولا قياسًا جليًّا، على ما تقدَّم، والله أعلم. وفيه: الأمر بطلب الأحرى والصَّواب لمن أراده، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في لَيَالِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ" (¬1). في الحديث: دليل على طلب ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر، مع دلالته على ترجيح انحصارها فيه. وفيه: الأمر بالاجتهاد في طلبها. وفيه: الإرشاد من غير استرشاد. وفيه: عدم اختصاص ليلة القدر بالسَّبع الأواخر، والله أعلم. * * * الحديث الثَّالث عَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتكِفُ في العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتكَفَ عَامًا، حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِي اللَّيْلَةُ التَّي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: "مَنِ اعْتكفَ مَعِي، فَلْيَعْتكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَقَدْ أرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِها، فَالْتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا في كُلِّ وِتْرٍ"، فمَطَرَتِ السَّماءُ تلكَ اللَّيلة، وكَانَ المَسْجِدُ على عَرِيشٍ، فَوكَفَ المَسْجِدُ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1913)، كتاب: صلاة التراويح، باب: تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، ومسلم (1165)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر.

فَأَبصرتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى وَجْهِهِ أثَرُ الماءِ والطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وعِشريِن (¬1). أما قوله: "كان يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوْسَطَ"، هكذا هو في جميع الروايات: الأوسط، والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر، باعتبار الليالي، كما قال في أكثر الأحاديث: العشر الأواخر، وتذكيره أيضًا لغة صحيحة باعتبار الأيام، أو الزمان، أو الوقت، ويكفي في صحتَّها ثبوتُ استعمالها في الأحاديث الصَّحيحة. وقوله: "فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ"، يقال: مطرت السَّماء، وأمطرت، لغتان صحيحتان في المطر، وتقدَّم ذلك في باب الاستسقاء. قوله: "وَكَانَ المَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ"، العريش: سقف البيت، وكذلك عرشه، وكلُّ ما يُستظلُّ به يقال له: عرش، وعريش، والمراد في: "كان بسقف بيت المسجد" وكان سقف المسجد على عريش - على حذف المضاف -. قوله: "فَوَكَفَ المَسْجِدُ"؛ أي: قطر ماء المطر من سقفه. يقال: وكف البيت يَكِف وَكْفًا ووُكوفًا: إذا قطر، ووكف الدَّمع وَكيفًا ووَكفانًا ووَكْفًا: بمعنى قطر (¬2). وفي هذا الحديث: دليل على جواز قول: رمضان، من غير إضافة شهر إليه. وفيه: دليل على أنَّ الأولى إذا كان ذاكرًا الشيء ثمَّ نسيه، أنَّ يقول: أُنسيته، ولا يقول نسيته. وفيه: دليل على استحباب الاعتكاف في رمضان، وأنَّ العشر الأوسط منه الاعتكاف فيه أفضل من الأول، وفي الآخر أفضل من الأوسط. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1923)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، ومسلم (1167)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 294 - 259)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 219)، و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 362)، (مادة: وكف).

وفيه: دليل لمن رجَّح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر. ومن ذهب إلى أنَّ ليلة القدر تنتقل في اللَّيالي، فله أنَّ يقول: كانت في تلك السَّنة ليلة إحدى وعشرين. ولا يلزم من ذلك أنَّ تترجَّح هذه اللَّيلة مطلقًا، والقول بتنقلها حسن، لأن فيه جمعًا بين الأحاديث، وحثًّا على إحياء تلك اللَّيالي والأيام، وإِنَّما رجَّح تسمية العشر باللَّيالي؛ لأن وضعه كذلك، فيكون وضعها جمعًا لإبقائها. وقد ورد في بعض الرِّوايات ما يدلُّ على أنَّ اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأوسط كان لطلب ليلة القدر قبل أنَّ يعلم أنَّها في العشر الأواخر. وفيه: دليل على أنَّ اللَّيلة إذا أطلقت، قد يراد بها الماضية التي اليوم بعدها، وقد يراد بها الآتية، وإذا أريد أحدهما، قُيِّدَ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "وَهِيَ الّتي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِن اعتِكَافِه"، ولكن المشهور في استعمال الشرع واللغة أنها تستعمل عند الإطلاق في الماضية، واستعملها بعض الظاهرية من أهل الحديث في الآتية. وفيه: دليل على أنَّ السُّنة للمصلي ألا يمسح جبهته في الصَّلاة، وهو متفق على استحبابه عند العلماء. وقد يَستدلُّ بهذا الحديث بعض الحنفية على أنَّ مباشرة الجبهة بالمصلَّى في السُّجود غير واجبة، وهو من يقول: بأنَّه لو سجد على كور العمامة، كالطَّاقة والطاقتين صحَّ، ووجه الاستدلال أنَّه إذا سجد في الماء والطِّين، ففي السُّجود الأوَّل يتعلَّق الطِّين بالجبهة، فإذا سجد السُّجود الثاني، كان الطين الَّذي تعلَّق بالجبهة في السُّجود الأول حائلًا في السُّجود الثاني عن مباشرة الجبهة بالأرض. والجواب عن هذا الاستدلال من وجهين: أحدهما: أن يكون مسح ما تعلَّق بالجبهة أولًا قبل السُّجود الثَّاني، لو كان، كيف ولفظ الحديث: "فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الماءِ والطِّينِ" وأثر الشيء غيره.

والثاني: أنَّه محمول -لو سُلِّم أنَّه طين- على شيء يسير لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة. كيف والَّذي ورد في بعض روايات الحديث: "وجبينه ممتلئًا طينًا" (¬1) لا يخالف ما تأوَّلناه، وأنَّ الجبين غير الجبهة، فالجبينان يكتنفان الجبهة، ولا يلزم من امتلاء الجبين امتلاء الجبهة، والله أعلم. ومذهب الشَّافعي وموافقيه: منع السُّجود على حائل متصل بالجبهة. وفيه: دليل على أنَّ العالم الَّذي له أتباع، إذا اطَّلع على علم، وعمل به، وأراد موافقة أتباعه له، أن يرشدهم إليه بصيغة عموم وأمر عامّ، لا خاص وخصوصيَّة لمعيَّن؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ اعتكَفَ معي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ". وفيه: دليل على أنَّ العالم إذا كان عنده علم من شيء، ثمَّ نسيه، أنَّ يعرِّف أصحابه بنسيانه، ويُقِرَّ به، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1167)، (2/ 825)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف الحديث الأوَّل عَنْ عَائشِةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتكفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حتَى تَوَفَّاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، ثُمَّ اعْتكفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ (¬1). وفي لفظ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْتكِفُ في كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتكَفَ فِيهِ (¬2). أمَّا الاعتكاف في اللُّغة: فهو الاحتباسُ واللُّزوم للشيء كيف كان، وفي الشَّرع: لزوم المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة، ويسمَّى: جوارًا -أيضًا-، ومنه حديث عائشة - رضي الله عنها - في "صحيح البخاري": كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصغي إِليَّ رأسَهُ وهو مُجاوِرٌ إلى المَسْجِدِ، فأرجِّلهُ وأَنَا حَائِضٌ (¬3). وهو كسائر الأسماء الشرعية في الكلام فيها. وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحباب الاعتكاف وتأكده؛ حيث واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - حتَّى توفَّاه الله ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1922)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، ومسلم (1172)، كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. (¬2) رواه البخاري (1936)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في شوال. (¬3) رواه البخاري (1924)، كتاب: صلاة التراويح، باب: الحائض ترجل المعتكف، ومسلم (297)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد.

- عزَّ وجلَّ -، وقد أجمع المسلمون على استحبابه، وأنه ليس بواجب، وأنَّه متأكد في العشر الأواخر من رمضان، وقد أشعر تأكيد استحبابه بقولها: ثمَّ اعتكف أزواجه بعده، وبقولها: في كل رمضان. ومنها: استواء الرَّجل والمرأة في شرعيَّة الاعتكاف. ومنها: أنَّ الاعتكاف لا يصحُّ إلا في المسجد، وأن كونه فيه شرط لصحَّته؛ حيث اعتكف - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه فيه مع المشقَّة في ملازمته، ومخالفةِ العادة في الاختلاط بالنَّاس، لا سيما النِّساء، فلو جاز الاعتكاف في البيوت، لما خولف المقتضى لعدم الاختلاط بالنَّاس في المسجد وتحمُّل المشقة في الخروج لعوارض الخلقة، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وداود، والجمهور، وقال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو الموضع المهيَّأ من بيتها لصلاتها، قال: ولا يجوز للرَّجل في مسجد بيته. ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي، ضعيف عند أصحابه، وجوَّزه بعض أصحاب مالك والشافعي للرَّجل والمرأة في مسجد بيتهما. واختلف المشترطون المسجد العام، فقال مالك والشَّافعي وجمهورهم: يصحُّ الاعتكاف في كلِّ مسجد، وقال أحمد: يختص في المسجد الَّذي تقام فيه الجماعة الرَّاتبة، وقال: أبو حنيفة: يختص بمسجد تصلَّى فيه الصَّلوات كلُّها، وقال الزهريُّ: يختص بالجامع الَّذي تقام فيه الجمعة، ونقلوا عن حذيفة بن اليمان الصَّحابي - رضي الله عنه - اختصاصه بالمساجد الثَّلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والأقصى. ومنها: أنَّ الاعتكاف لا يكره في وقت من الأوقات، وأجمع العلماء على أنَّه لا حدَّ لأكثره، واختلفوا في أقلِّه، فقال الشَّافعي وأصحابه وموافقوهم: أقله لحظة واحدة، وضابطه عندهم: أنَّه مَكثٌ يزيد على طمانينة الرُّكوع أدنى زيادة. وفي المذهب وجه شاذٌّ: أنَّه يصحُّ اعتكاف المارِّ في المسجد من غير لبث، فينبغي لكل جالس في المسجد؛ لانتظار صلاة، أو لشغل أجر من آخرة أو دنيا،

أنَّ ينوي الاعتكاف، فيحسب له، ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج ثمَّ دخل، جدد نيَّة أخرى. وليس للاعتكاف ذكر مخصوص، ولا فعل آخر سوى اللَّبث في المسجد بنية الاعتكاف، ولو تكلَّم بكلام دنيا، أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها، لم يبطل اعتكافه. ومنها: أنَّه ينبغي أنَّ يكون الاعتكاف مصحوبًا بصوم، واشترطه مالك، وأبو حنيفة، والأكثرون، وقالوا: لا يصحُ اعتكاف مفطر، وقال الشافعي وأصحابه: لا يشترط، احتجَّ من اشترطه بهذا الحديث، واحتجَّ الشَّافعي - رحمه الله - باعتكاف النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في العشر الأول من شوَّال، رواه البخاري ومسلم، وبحديث عمر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله! إنِّي نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال: "أَوْفِ بنذرِكَ" (¬1)، روياه -أيضًا-، ومعلوم أنَّ اللَّيل ليس محلًا للصوم، فدلَّ على أنَّه ليس بشرط لصحَّة الاعتكاف. ومنها: إطلاق لفظ الغداة على صلاة الصُّبح، وكرهه بعضهم، وهذا الحديث وغيره يردُّ عليه. ومنها: أنَّ السُّنَّة إذا كان معتكفًا، وصلَّى الصُّبح في مكان من المسجد غيرِ محلّ معتكفه: أنَّه لا يجلس في مصلَّاه إلى طلوع الشَّمس، بل يرجع بعد فراغه منها إليه؛ لقولها: فإذا صلَّى الغداة، جاء مكانه الَّذي اعتكف فيه، وقد استدلَّ به الأوزاعي، والثَّوري، واللَّيث في أحد قوليه، على ابتداء الاعتكاف والدُّخول فيه من أوَّل النَّهار، وليس فيه دليل؛ فإنَّ اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أنَّ يكون قبل ذلك، بل هو الظَّاهر. ومجيئه - صلى الله عليه وسلم - إلى مكانه بعد صلاة الغداة؛ للانفراد من النَّاس بعد الاجتماع بهم في الصَّلاة، لا أنَّه ابتداء دخول المعتكف، ويكون المراد بمكانه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6319)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر أو حلف ألا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم، ومسلم (1656)، كتاب: الأيمان، باب: نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم.

الحديث الثاني

الَّذي اعتكف فيه، الموضع الَّذي خصَّه بالاعتكاف من المسجد وأعدَّه له، كيف ولفظه يشعر بذلك، وهو قولها: اعتكف فيه، بصيغة الماضي، والحديث الآخر: فضربَ أزواجُه الأخبيةَ، وهذا ظاهر فيما قلناه، وهو قول مالك. وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: أنَّه يدخل فيه قبل غروب الشَّمس، إذا أراد اعتكاف شهر أو عشر، وتأولوا الحديث على ما ذكرناه، والله أعلم. ومنها: استحباب الاعتكاف في كل رمضان لمن قدر عليه، بقولها: كان يعتكف في كل رمضان. ومنها: استحباب الانفراد عن النَّاس والأهل وغيرهم في الاعتكاف، إلا فيما لا بدَّ منه من اجتماع على صلاة، أو ضرورة، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عَنْ عَائشِةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حَائِضٌ، وهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ، وَهِيَ في الحُجْرَةِ يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ (¬1). وفي رواية: وكانَ لا يدخلُ البيتَ إلا لحاجةِ الإنسانِ (¬2). وفي رواية: أنَّ عائشةَ - رضيَ اللهُ عَنْها - قالت: إنْ كُنْتُ لأَدْخُلُ البَيْتَ لِلْحاجَةِ، وَالمريضُ فيهِ، فلا أسألُ عنه إلَّا وأنَا مارّةٌ (¬3). الترجيل: تسريح الشعر، وحاجةُ الإنسان هنا: البولُ والغائطُ. وفي الحديث أحكام: منها: أنَّ خروج رأس المعتكف من المسجد لا يبطل اعتكافه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1941)، كتاب: الاعتكاف، باب: المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل. (¬2) رواه البخاري (1925)، كتاب: الاعتكاف، باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة، ومسلم (297)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحافٍ واحد. (¬3) رواه مسلم (297)، (1/ 244)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحافٍ واحد.

ومنها: أنَّه لو حلف شخص لا يدخل بيتًا، فأدخل رأسه فيه، وسائرُ بدنه خارج، لم يحنث، وكذلك الحلف على الخروج منه؛ فإنه موازن الدخول، وحكم بعض البدن في ذلك حكم الرَّأس. ومنها: جواز ترجيل المعتكف رأسَه، وفي معناه حلقُ شعره، وتقليمُ أظفاره، وتنظيفُ بدنه من الشَّعث. ومنها: طهارة الحائض. ومنها: منع الحائض من المسجد. ومنها: جواز ملامسة الحائض للمعتكف وغيره. ومنها: أنَّ الخروج من المعتكف للحاجة الضرورية التي لا يمكن فعلها في المسجد جائز، وهذا الحديث بعمومه يدل على ذلك، وأنَّه ممنوع من الخروج لغير الحاجةِ الضَّرورية؛ حيث إنَّ الضَّرورة دعت إليه، والمسجد مانع منه. وكلُّ ما ذكره الفقهاء من الجواز في ذلك، واختلفوا فيه، فهذا الحديث يدلُّ على عدم الخروج له كما ذكرنا. ولا بدَّ أنَّ يضم إلى الحاجة المجوزة للخروج قيام الدَّاعي الشرعي في بعضه. وهذا كلُّه إنَّما يقول به على سبيل الاستحباب وتأكُّده؛ إذ الاعتكاف سنَّة مؤكدة، ومعلوم أنَّ من دخل في تطوّع، لا يلزمه إتمامه؛ إلا إذا التزمه بالنذر، إلا أنَّ يقول قائل بأن دخل في الاعتكاف استحبابًا بما يلزمه إتمامه؛ كمذهب مالك، وأبي حنيفة في منع الخروج من صلاة التَّطوُّع وصيامه، فيتقيد الخروج لغير الحاجة للتحريم لا الكراهة. وقد ذكروا في عيادة المريض، وصلاة الجنازة وشبههما، المنعَ، إلَّا إذا خرج للضرورة، فسأل عن المريض من غير لبث وتعريج، فإنَّه يجوز، كما فعلته عائشة - رضي الله عنها -، وفي فعلها إشعار بالمنع من العيادة على غير الوجه الَّذي ذكرناه، والله أعلم. ومنها: استقرار المرأة في بيت الزوج، وإن لم يكن له حاجة في الدُّخول

الحديث الثالث

إليه، أو له مانع ضروري شرعي، أو غيره؛ من دخوله لسفر واعتكاف، والله أعلم. وقد ذكرنا جواز اعتكاف المرأة كالرَّجل، لكن إن كانت مزوَّجة، فلا يجوز إلا بإذن الزَّوج، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، فلو أذن لها، ثمَّ منعها، فهل له ذلك؟ فيه خلاف للعلماء: قال الشَّافعي، وأحمد، وداود: له ذلك في زوجته ومملوكته في اعتكاف التَّطوُّع، وإخراجهما منه، ومنعهما مالك، وجوَّز أبو حنيفة إخراجَ المملوكة دون الزَّوجة، والله أعلم. * * * الحديث الثَّالث عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، -وَفِي رِوَايةٍ: يَوْمًا- في المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). ولم يذكر بعض الرُّواة: يومًا ولا ليلة. أمَّا النَّذر، فهو واحد النُّذور، يقال: نذرت أنذُر وأنذِر بكسر الذال وضمها. وأمَّا الجاهلية، فهي ما قبل الإسلام، سُمُّوا بذلك لكثرة جهالاتهم، وتطلق الجاهلية على كل من فعل ما يخالف الإسلام والشَّرع. وأمَّا المسجد الحرام، فكان فناء حول الكعبة وفضاءً للطائفين، ولم يكن له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر [جدار] يحيط به، وكانت الدُّور محدقة به، وبين الدُّور أبواب يدخل النَّاس من كلِّ ناحية منها، فلمَّا استخلف عمر - رضي الله عنه -، وكثر النَّاس، وَسَّع المسجدَ، واشترى دُورًا وهدمَها وزادَها ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1938)، كتاب: الاعتكاف، باب: إذا نذر في الجاهلية أنَّ يعتكف ثم أسلم، ومسلم (1656)، كتاب: الأيمان، باب: نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم.

فيه، واتَّخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه. وكان عمر - رضي الله عنه - أؤل من اتَّخذ الجدار للمسجد الحرام، ثمَّ تتابع الناس على عمارته وتوسيعه؛ كعثمان، وابن الزُّبير - رضي الله عنهم -، ثمَّ عبد الملك بن مروان، ثمَّ ابنه الوليد، ثمَّ المنصور، ثمَّ المهديِّ، واستقر بناؤه على ذلك إلى وقتنا. ويجوز الطَّواف في جميع ذلك، وكذلك الاعتكاف. ولو وسِّع المسجد شيئًا آخر، جاز الطَّواف والاعتكاف في جميعه. واعلم أنَّ المسجد الحرام يطلق، ويراد به هذا المسجد، وهذا هو الغالب، وقد يراد به الحرم، وقد يراد به مكَّة، وقيل هذان الأمران في قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: فنها: لزوم النَّذر للقربة، وقد يستدلُّ بعمومه للزوم الوفاء بكلِّ منذور. ومنها: صحَّة النَّذر من الكافر، وهو وجه في مذهب الشَّافعي، والأشهر: لا يصحُّ؛ لأن النَّذر قربة، والكافر ليس من أهل القرب، فعلى هذا؛ يحتاج إلى تأويل هذا الحديث -في أمره بالوفاء بالنذر- على أنَّ المراد به نيَّة فعل الاعتكاف في الجاهلية، فأطلق عليه أنَّه منذور؛ لشبهه به، وقيامه مقامه في فعل ما نواه من الطَّاعة. وعلى هذا؛ يكون قوله: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ" من مجاز الحذف، أو من مجاز التَّشابه، لكنَّ ظاهر الحديث خلافه، فإن دلَّ دليل أقوى من هذا الظاهر على أنَّه لا يصحُّ اعتكاف الكافر، احتيج إلى هذا الدليل، وإلَّا فلا، وقد حمل من قال: النَّذر لا يصحُّ من الكافر الأمرَ في حديث عمر - رضي الله عنه - على الاستحباب، فظاهر الأمر يقتضي الوجوب، كيف ونصَّ الشَّافعي - رحمه الله - على كراهة الابتداء بالنَّذر، ووجوب الوفاء به، بلاخلاف، وأنَّه لا يصحُّ بالنيَّة،

الحديث الرابع

بل لا بدَّ فيه من القول مع النيَّة، مستدلًا للكراهة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنذروا" (¬1)، وبنهيه عنه. ومنها: عدم اشتراط الصَّوم في الاعتكاف؛ لأنَّ اللَّيلة ليست محلًا للصَّوم. وقد أُمر عمرُ بالوفاء بالنَّذر للاعتكاف من غير صوم -وهو مذهب الشَّافعي- كما تقدَّم تقريره والخلاف فيه عن مالك، وأبي حنيفة، وغيرهما باشتراط الصَّوم فيه، وتأوَّلوا قوله: "ليلة" بيوم؛ فإنَّ اللَّيلة: تغلب في لسان العرب على اليوم، يقولون: صمنا خمسًا، والخمسُ منطلق على اللَّيالي، ولو انطلق على الأيام، لقيل: خمسة، فاطلقت اللَّيالي وأرادت الأيام. أو يقال: المراد ليلة بيومها، ويدلُّ على ذلك: أنَّها قد وردت في بعض الرِّوايات بلفظ اليوم. ومنها: سؤال العلماء عما يجهله من العلم. ومنها: سؤالهم عما كان من السائل في حال كفره. ومنها: وجوب البيان على من سئل عن علم علمه، وعدم كتمانه. * * * الحديث الرَّابع عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا، فَأَتَيتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي -وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أسامَةَ بْنِ زيْدٍ-، فَمَرَّ رَجُلَان مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ، أَسْرَعَا، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَىَ رسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ"، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللهِ يا رَسُولَ اللهِ!، فقال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطانُ في قُلوبِكُمَا شَرًّا، أَوْ قَالَ: شَيْئًا" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1640)، كتاب: النذر، باب: النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئًا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (3107)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2175)، =

وَفي روايةٍ: أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ في اعْتِكافِهِ في المَسْجِدِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَابَ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَة، ثمَّ ذكره بمعناه (¬1). أمَّا صفيَّة - رضي الله عنها -، فهي أمُّ المؤمنين، أمُّ يحيى بنتُ حُيي -بضمِّ الحاء وكسرها- بن أخطب بن سَعْنَة بن عبيد بن الخزرج بنِ أبي حبيب بنِ النَّضر بن النحام، النَّضريةُ من بني إسرائيل، من بنات هارون بن عمران أخي موسى بن عمران - صلى الله عليهما وسلم -، وهما من سبط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمَ خليلِ الرَّحمن، سباها النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ خيبر، في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، ثمَّ أعتقها وتزوَّجها، وجعل عتقَها صداقَها، وأمُّها: برَّة بنتُ شمول، وكانت صفيَّة عند سَلَام -بتخفيف اللَّام- بنِ أشكمَ -شاعر- ثمَّ خلفَ عليها كنانة بن أبي الحقيق -وهو شاعر- فقتل يوم خيبر. قال أبو عمر: واصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصارت في سهمه، وجعل عتقها صداقها، لا يختلفون في ذلك، وهو خصوص عند أكثر الفقهاء له؛ إذ كان حكمه في النِّساء مخالفًا لحكم أمَّته. قال: ويروى: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على صفية وهي تبكي، فقال لها: "ما يُبكيكِ؟ "، قالت: بلغني أنَّ عائشة وحفصةَ تنالان منِّي، وتقولان: نحن خيرٌ من صفيَّة، نحن بنات عمِّ رسول الله وأزواجُه، قال: "ألا قلتِ لهنَّ: كيف تكنَّ خيرًا مني، وأبي هارونُ، وعمِّي موسى، وزوجي محمَّد -صلوات الله وسلامه عليهم-؟! " (¬2)، قال: وكانت صفيَّة حليمة عاقلة، فاضلة، قال: روينا أنَّ جارية ¬

_ = كتاب: السلام، باب: بيان أنَّه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة، وكانت زوجة أو محرمًا له، أن يقول: هذه فلانة؛ ليدفع ظن السوء به. (¬1) رواه البخاري (1930)، كتاب: الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، ومسلم (2175)، (4/ 1712)، كتاب: السلام، باب: بيان أنَّه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة، وكانت زوجة أو محرمًا له، أن يقول: هذه فلانة؛ ليدفع ظن السوء به. (¬2) رواه الترمذي (3892)، كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: غريب، =

أتت عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -، فقالت: إنَّ صفيَّة تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث إليها عمر بن الخطَّاب، فسألها، فقالت: أمَّا السَّبت، فإنِّي لم أحبَّه منذ أبدلني الله بيوم الجمعة، وأمَّا اليهود، فإنَّ لي منهم رحمًا، فانا أَصِلُها، قال: ثمَّ قالت للجارية: ما حملكِ على ما صنعتِ؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرَّة. ورُويَ لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث، اتَّفق البخاريُّ ومسلم على هذا الحديث. وروى عنها: علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -، وروى لها: أبو داود، والتِّرمذي، والنَّسائي، وابن ماجة، وماتت في رمضان زمن معاوية، سنة خمس، وقيل: في خلافة علي سنة ست وثلاثين (¬1). وأمَّا الرَّجلان المبهمان فقيل: إِنَّهما أُسيد بن حُضير، وعبَّاد بن بشر، صاحبا المصباحين، والله أعلم. قولها: "فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَني" -هو بفتح الياء- أي: يصرفني إلى منزلي، يقال: قلبه، يقلبه، وانقلب: إذا انصرف، قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِلَيهِ تُقلَبُونَ} [العنكبوت: 21]، كان أبو هريرة يقول لمعلم الصِّبيان: اقلبهم؛ أي: اِصرفهم إلى منازلهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَى رِسْلِكُمَا"، هو بكسر الرَّاء وفتحها، قيل: هما بمعنى، من التؤدة وترك العجلة؛ أي: اثبتا ولا تعجلا. وقيل: هو بالكسر: التؤدة، وبالفتح: من اللِّين والرِّفق، وأصله: السير اللَّيِّن، والمعنى متقارب. ¬

_ = والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 75)، وفي "المعجم الأوسط" (8503)، والحاكم في "المستدرك" (6790). (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 120)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (5/ 440)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 197)، و"المستدرك" للحاكم (4/ 30)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1871)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 51)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 168)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 614)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 210)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 231)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 738).

وقولهما: "سُبْحَانَ اللهِ! " هو تنزيه لله، ومعناه في هذا الموضع بالذِّكر استعظامُ الأمر وتهويلُه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ"، قيل: هو على ظاهره، وأنَّ الله - تعالى عزَّ وجلَّ - جعل له قوةً وقدرةً في الجري في باطن الإنسان مجاري دمه، وقيل: هو على الاستعارة؛ لكثرة إغوائه، ووسوسته، فكأنَّه لا يفارق الإنسان، كما لا يفارقه دمه. وقوله في الرِّواية الثانية: "عندَ بابِ أُمِّ سَلَمَةَ": هي زوجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدَّم اسمها. وفي هذا الحديث دليل على جواز زيارة المرأة المعتكف. وفيه: جواز التَّحدُّث معه. وفيه: جواز اشتغال المعتكف بالأمر يحدث له، سواء كان مندوبًا أو مباحًا. وفيه: استحباب المشي مع الزَّائر إلى باب مكان المزور، خصوصًا إذا كان فيه تأنيس، وإزالة وحشة باللَّيل ونحوه. واستدلَّ به بعضهم على جواز خروج المعتكف من المسجد، في ما لا غنى به، وليس فيه دليل؛ فإنه قد بيَّن في الرِّواية الثَّانية الغايةَ في مشيه - صلى الله عليه وسلم - مع صفية إلى باب المسجد فقط، وإن كان الخروج من المسجد للمعتكف للحاجة الشَّرعية جائزًا بلا خلاف. وفيه دليل: على التحرُّز مما يقع في الوهم، ونسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي، حسب طاقته، وأنّه ينبغي للإنسان ألَّا يؤثم النَّاس بسببه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق على الله تعالى في خير قرنٍ وأشرف أمَّة، وأفضل زمان ومكان، في أفضل عبادة، ومع هذا كلِّه خشي على الرَّجلين وسوسةَ الشيطان بقذف شيء، في قلوبهما يكون مؤديًا إلى الكفر، أو هو كفر. قال بعض العلماء: ولو وقع ببالهما شيء، لكفرا. وقال سفيان بن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث؟ فقال الشَّافعي: إن كان

القوم اتهموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانوا بتهمتهم إيَّاه كفَّارًا، لكنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّب مَنْ بعدَه من أمَّته، فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا؛ لئلَّا يُظن بكم ظنَّ السُّوء، فقال سفيان بن عيينة: جزاك الله خيرًا، ما يجيئنا منك إلَّا كما نحب، هذا آخر كلامه (¬1). وهذا متأكَّد في حقِّ العلماء ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أنَّ يفعلوا فعلًا يوجب ظن السُّوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأنَّ ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم. قال العلماء: وينبغي للحاكم أنَّ يبين وجه الحكم للمحكوم عليه إذا خفي، وذلك من باب نفي التُّهمة بالنِّسبة إلى الجور في الحكم، أو من باب وجوب البيان وإزالة اللَّبس. وفيه دليل: على هجوم خواطر الشَّيطان على النفس، وما كان من ذلك غيرَ مقدور على رفعه، لا يؤاخذ به؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَا نُكَلِّفُ نفْسًا إلا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أنَّ يتكلَّم به: "ذلك محض الإيمان" (¬2)، فجعل - صلى الله عليه وسلم - تعاظمه للتكلَّم بالوسوسة محضَ الإيمان، لا الوسوسة. فالكراهة لذلك، وترك استقراره في الخاطر، وترك العمل عليه، كل واحد منهما من محض الإيمان، وقد أخطأ من جعل الوسوسة نفسَها دليلًا على خير الإنسان والعناية به، وإنَّما الخير والعناية تقعُ بدفعها واستقرارها والعمل عليها. فهجوم الخاطر لا يؤاخذ به؛ حيث إنَّه لا قدرة له فيه، واستقرارُه، والعملُ عليه، والإصرارُ يؤاخذ به. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 92)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (51/ 305). (¬2) رواه مسلم (132)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه أيضًا (133)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

وعلى ذلك معنى قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وهذا بيان واضح جليٌّ، فافهمه، ونسأل الله التوفيق، والله أعلم. وفيه: كمالُ شفقته بأمَّته - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنَّه لمَّا خشي عليهما شرَّ الشَيطان، بادر إلى دفعه عنهما باليقين. وفيه: جواز التَّعجُّب بسبحان الله! والتَّعجُّب بها يقع على أوجه: منها: تعظيم الأمر وتهويله. ومنها: للحياء من ذكره. ومنها: لكون المحلِّ ليس قابلًا للأمر، ومن تتبع ذلك في الأحاديث النَّبوية، وجده، والله أعلم. وفيه: الأمر بالتَّؤدة وترك العجلة في الأمور، إذا لم تدع ضرورة. وفيه: جواز خطاب الرجال الأجانب، إذا كان مع المخاطب زوجه، أو أحد من محارمه، خصوصًا إذا دعت إلى المخاطبة حاجة شرعية؛ من بيان حكم، أو دفع شرٍّ، ونحوهما، وإن كان ذلك، لا يكون نقصًا من المروءة، والله سبحانه أعلم. * * *

كتاب الحج

كتاب الحجّ الحَجُّ -بفتح الحاء-: هو المصدر، وبالفتح والكسر جميعًا هو الاسم منه، وأصله القصد، ويطلق على العمل -أيضًا-، وعلى الإتيان به مرة بعد أخرى. قال الأزهري: هو مأخوذ من قولك: حججته: إذا أتيته مرَّة بعد أخرى (¬1). وفي الشَّرع: هو قصد مخصوص، من شخصٍ مخصوص، إلى محلٍّ مخصوصٍ، على وجه مخصوصٍ. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 169)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 133)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 226)، (مادة: حجج).

باب المواقيت

باب المواقيت الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأَهْلِ المَدِينَةِ: ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّام: الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلأَهْلِ اليَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ؛ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّة (¬1). أمَّا قوله: "وَقَّتَ"، التَّوقيت: ذكر الوقت في الأصل، ثمَّ استعمل في تعليق الحكم بالوقت، فيصير التَّحديد من لوازم التَّوقيت، فيطلق عليه: توقيت. وتوقيته - صلى الله عليه وسلم - هذه المواقيت للإحرام يحتمل أنَّه أراد به تحديد هذه المواضع للإحرام، ويحتمل أنه أراد به تعليق الحكم -وهو الإحرام- بوقت الوصول إليهما بشرط إرادة الحج والعمرة. ومعنى توقيت هذه الأماكن للإحرام: أنَّها لا يجوز مجاوزتها من حيث هي مواقيت، وذلك تصريح بالوجوب، وقد ورد في بعض الروايات التَّصريح بصيغة الأمر بذلك. أمَّا المدينة: فهي اسم لمدينة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ولها أسماء أُخر، الدَّار، وطابة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1452)، كتاب: الحج، باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة، ومسلم (1181)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة.

وطيبة، والعذراء، وجابرة، والمجبورة، والمحبَّة، والمحبوبة، والقاصمة؛ لأنَّها قصمت الجبابرة، وكره بعض العلماء تسميتها يثرب، وكثرة الأسماء تدلُّ على شرف المسمَّى، ولم تزل عزيزة في الجاهلية، تمنَّعت على الملوك السَّالفة، وغيرهم، أعزَّها الله - عَزَّ وَجَلَّ - برسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا ذو الحُلَيْفَةِ، فهو بضمِّ الحاء المهملة، وفتح اللَّام وبالفاء: موضع بقرب المدينة، عند قرية على ستة أميال منها، أو سبعة، وقيل: أربعة، وهو من مكَّة نحو عشر مراحل، وهو ماء من مياه بني جُشَم، بينهم وبين بني خفاجة العقيليين. وأمَّا ذو الحليفة الَّذي في حديث رافع بن خديج، فهو موضع من تهامة نحو ذات عرق، وليس بالمهمل (¬1). وأمَّا الشَّام: فتقدَّم ذكره في الطَّهارة. وأمَّا الجُحْفَة: فهو بجيم مضمومة، ثمَّ حاء مهملة ساكنة، فهي قرية جامعة بمنبر على طريق المدينة من مكَّة، على سبع مراحل أو ثمان من المدينة، وثلاث من مكَّة، كان اسمها مَهْيَعَة -بفتح الميم وسكون الهاء-، وقيدها بعضهم بكسر الهاء، مثل جميلة، فأجحفها السَّيل بأهلها، فسميت الجحفة، وهي على ستَّة أميال من البحر، وهي ميقات أهل الشَّام ومصر، إذا لم يمروا بميقات المدينة (¬2). وأمَّا نَجْد: فهي بفتح النون، وهي ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحده من الغرب الحجاز، قال صاحب "المطالع": ونَجدٌ كلُّها من عمل اليمامة (¬3). وأمَّا قَرْنُ المَنَازِلِ: فهو بفتح القاف وسكون الرَّاء، بلا خلاف، ويقال له ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (2/ 295)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 221)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 108). (¬2) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (2/ 111)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 168)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 54). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 34)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 350).

-أيضًا-: قرن الثعالب. وروي في "الصَّحيح" غير مضاف، وهو موضع تلقاء مكَّة، على يوم وليلة منها، وهو أقرب المواقيت إليها، ورواه بعضهم بفتح الرَّاء، وهو غلط، وقيل: من قال بالإسكان، أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح، أراد الطَّريق الَّذي يفترق منه، فإئَّه موضع فيه طريق مفترقة. وأمَّا قول الجوهري في "صحاحه" (¬1): والقرن: موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أُويس القرني، فغلط من أوجه: أحدها: جعله بالفتح موضعًا، وهو بالإسكان. الثاني: نسبة أويس القرني إليه، وهو منسوب إلى بطن من مراد يقال له: قَرَن، بالفتح. والثَّالث: جعله ميقات أهل نجد، والميقات بالإسكان بلا خلاف، كما بيَّنَّاه، فالمكان بالإسكان، والقبيلة بالفتح، والنسبة إليها بالفتح بلا خلاف. وممن ذكر ذلك على الصَّواب: الدَّارقطني، والسَّمعاني، وابن حبيب، في "المختلف والمؤتلف في أسماء قبائل العرب"، والله أعلم (¬2). وأمَّا اليَمَنُ: فهو الإقليم المعروف، سُمِّي يمنًا؛ لأنَّه عن يمين الحجر الأسود، والشَّام عن شماله، والحجر الأسود مستقبل مطلع الشَّمس. قال صاحب "المطالع" (¬3): اليمن: كل ما كان عن يمين الكعبة من بلاد الغور، واليمامة: مدينة اليمن، على يومين من الطَّائف، وعلى أربعة من مكَّة، ولها عمائر، وأعدتها حجر اليمامة، وهي من عداد أرض نجد، وتسمَّى: العروض، بفتح العين، هذا آخر كلامه. وقال السَّمعاني في "أنسابه" (¬4): اليمنيُّ: نسبة إلى اليمن، وبلاد اليمن بلاد ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2181)، (مادة: قرن). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 199)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 54)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (3/ 288). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 306). (¬4) انظر: "الأنساب" للسمعاني (5/ 706).

عريضة كبيرة، وقد ورد في فضائلها أحاديث عدة، قد ذكرتها في "النزاع إلى الأوطان"، وإنَّما قيل لها اليمن؛ لأنها يمين الأرض، كما أنَّ الشام شمال الأرض. هذا آخر كلامه، والله أعلم. وأمَّا يَلَمْلَم: فهو بفتح الياء واللأَمين، والميم ساكنة بينهما، ويقال فيه: ألملم؛ وهو الأصل، والياء بدل منها، وهو على مرحلتين من مكَّة. وقال ابن السيد: يلملم، ويرمرم، باللَّام والرَّاء المكرَّرتين (¬1). وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هُنَّ لَهُنَّ": الضَّمير في "هنَّ لهنَّ" عائد إلى المواضع والأقطار المذكورات، وهي: المدينة، والشَّام، واليمن، ونجد؛ أي: هذه المواقيت لهذه الأقطار، والمراد: أهلها. وقد ورد ذكر الأهل في بعض الرِّوايات، وحذفه من باب حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ" يقتضي أنَّه إذا مرَّ بهن من ليس هنَّ ميقاته: أنَّ يحرم منهنَّ ولم يجاوزهنَّ غيرَ محرم؛ كالشَّامي يمرُّ بميقات المدينة ذي الحليفة، فيلزمه الإحرام منها، ولا يتجاوزها إلى الجحفة الَّتي هي ميقاته، وكذا الباقي، وهذا لا خلاف فيه عند الشَّافعية، وأمَّا المالكيَّة، فإنَّهم نصُّوا على أنَّ له مجاوزته إلى الجحفة، ومن أطلق من الشَّافعية أنَّه لا خلاف فيه، فمراده: في مذهبه. ولا شكَّ أنَّ قوله: "وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ" عامٌّ فيمن أتى عليهنَّ، ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (5/ 441)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 306)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 298)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 373). قلت: وقد جُمعت مواقيت الإحرام بنظم وهو: قرن يلملم ذو الحليفة جحفة ... قل ذات عرق كلها ميقات نجد تهامة والمدينة مغرب ... شرق وهن إلى الهدى مرقاةُ انظر: "عمدة القاري" للعيني (9/ 140).

سواء كان ميقات بلده، أو غيره؛ كأهل الشَّام والجحفة إذا مرُّوا بين يدي هذه المواقيت، ومن لم يمرَّ بين يديها، فإنَّه عامٌّ بالنِّسبة إلى من يمر بميقات آخر أيضًا. فإن عملنا بالعموم الأوَّل، دخل تحته هذا الشَّاميُّ الَّذي مرَّ بذي الحليفة، فلزم أنَّ يحرم منها، وإن عملنا بالعموم الثَّاني، وهو أنَّ لأهل الشَّام الجحفة، دخل تحته هذا المارّ أيضًا بذي الحليفة، فيكون له التجاوز إليها، فلكلِّ واحد منهما عموم من وجه، فكما يحتمل أنَّ يقال: "وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ أَهْلِهِنَّ" مخصوص بمن ليس ميقاته بين يديه، يحتمل أنَّ يقال: "ولأهل الشَّام الجحفة"، مخصوص بمن لم يمرَّ بشيء من هذه المواقيت. وقوله: "مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ": يقتضي تخصيص هذا الحكم بالمريد لأحدهما، أو لهما، وأَنَّه إذا لم يرد واحدًا منهما، لا يلزمه الإحرام، وله التَّجاوز غير محرم. واستدلَّ به على أنَّه لا يلزمه الإحرام لمجرَّد دخول مكَّة، وهو أحد قولي الشَّافعي، فمن لا يريد حجًّا ولا عمرة، أنَّه لا يلزمه الإحرام لدخول مكة، وهو الرَّاجح عند أصحابه. وهذا الاستدلال أولًا: يتعلَّق بأنَّ المفهوم له عموم؛ من حيث إنَّ مفهومه ألا يريد حجًّا ولا عمرة ولا دخول مكَّة، ومن لا يريد حجًّا ولا عمرة، ويريد دخول مكَّة. وفي عموم المفهوم نظر في الأصول، وعلى تقدير أنَّ يكون له عموم، فإذا دلَّ الدَّليل على دخول مكَّة، وعلى وجود الإحرام لدخول مكَّة، وكان ظاهر الدَّلالة لفظًا، قدّم على هذا المفهوم؛ لأن المقصود بالكلام حكمُ الإحرام بالنِّسبة إلى هذه الأماكن، ولم يقصد به بيان حكم الدَّاخل إلى مكَّة، والعموم إذا لم يقصد به [...]، فدلالته ليست بتلك القوة، إذا ظهر من السِّياق المذكور المقصود من اللَّفظ. واستدلَّ على أنَّ الحجَّ ليس على الفور؛ لأنَّ من مرَّ بهذه المواقيت لا يريد

الحجَّ والعمرة، يدخل تحته من لم يحجَّ، فيقتضي اللَّفظ أنَّه لا يلزمه الإحرام من حيث المفهوم، ولو وجب على الفور، للزمه، أراد الحجَّ أولم يرده، وفيه من الكلام ما في المسألة قبلها. وقد اختلف العلماء في الحجِّ، هل يجب على الفور، أو التَّراخي؟ فقال الشَّافعي، وأبو يوسف، وطائفة: هو على التَّراخي، إلا أنَّ ينتهي إلى حال يظنُّ فواته لو أخَّره عنها، واستدلوا على قولهم بأنَّ فريضة الحجَّ كانت سنة خمسٍ أو ست أو ثمان من الهجرة -على أقوال في ذلك-، ولم يحجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا في سنة عشر، فلو كان واجبًا على الفور، لم يؤخره - صلى الله عليه وسلم -. وقال مالك، وأبو حنيفة، وآخرون: هو على الفور، والله أعلم. قوله: "وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ" يقتضي أنَّ مَنْ منزلُه بين مكَّة والميقات إذا أنشأ السَّفر للحجِّ أو العمرة، فميقاته منزلُه، ولا يلزمه المسير إلى الميقات المنصوص عليه من هذه المواقيت. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ": يقتضي أنَّ أهل مكَّة يحرمون منها، وهو مخصوص بالإحرام بالحجِّ، فمن كان من أهل مكَّة، أو واردًا إليها، وأراد الإحرام بالحج، فميقاته نفسُ مكَّة، ولا يجوز له ترك مكَّة والإحرام بالحجِّ من خارجها، سواء الحرم والحلّ. وهذا هو الصَّحيح في مذهب الشَّافعي، وفيه وجه: أنَّه يجوز أنَّ يحرم به من الحرم، كما يجوز من مكَّة؛ لأن حكم الحرم حكم مكَّة، ويجوز أنَّ يحرم من جميع نواحي مكَّة؛ بحيث لا يخرج عن نفس المدينة وسورها. وفي الأفضل، قولان للشَّافعية؛ أصحُّهما: من باب داره، والثَّاني: من المسجد الحرام، تحت الميزاب. أمَّا الإحرام بالعمرة، فإنَّه من أدنى الحلّ، والله أعلم. وأجمع العلماء على أنَّ هذه المواقيت مشروعة، تحرم مجاوزتها، فلو

جاوزها، أثم، ولزمه دم، وصحَّ حجُّه عند مالك، وأبي حنيفة، والشَّافعي، وأحمد، والجمهور. وقال عطاء والنَّخعي: لا شيء عليه. وقال سعيد بن جبير: لا يصحُّ حجُّه. وفائدة الإحرام من هذه المواقيت تحرم مجاوزتها بغير إحرام، وأنّه يلزمه الدَّم، فلو عاد إلى الميقات قبل التلبّس بنسك، سقط عنه الدَّم، وفي المراد بهذا النُّسك خلاف منتشر. أمَّا من لا يريد حجًّا ولا عمرة، فلا يلزمه الإحرام لدخول مكَّة على الصَّحيح كما تقدَّم، سواء دخل لحاجة تتكرر؛ كحطَّاب، وحشَّاش، وصيَّاد، ونحوهم، أم لا؛ كتجارة وزيارة ونحوهما. وأمَّا من مرّ بالميقات غيرَ مريد دخول الحرم، بل لحاجة دونه، ثمَّ بدا له أنَّ يحرم، فيحرم من موضعه الَّذي بدا له فيه، فإن جاوزه بلا إحرام، ثمَّ أحرم، أَثِمَ، ولزمه دم. وإن أحرم من الموضع الَّذي بدا له، أجزأه، ولا دم عليه، ولا يكلَّف الرُّجوعَ إلى الميقات. هذا هو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أحمد وإسحاق: يلزمه الرُّجوع إلى الميقات، والله أعلم. وفي هذا الحديث: دليل على فضيلة مكَّة، والحرم، والحج والعمرة؛ حيث إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - شرع هذه المواقيت، والإحرام لمن أراد دخولهما؛ تشريفًا وتعظيمًا، أو التلبُّس بهما، أو بأحدهما، والله أعلم. وفيه دليل: على أنَّ هذه الأربعة المنصوص عليها مواقيت لأهلها المذكورين، بنصِّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا من عداهم؛ كأهل العراق، ومَنْ في معناهم على خطِّهم، فقد اختلف العلماء فيهم:

هل ميقاتهم بنصٍّ منه - صلى الله عليه وسلم -، أم باجتهاد من عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -؟ وهو وجهان لأصحاب الشَّافعي - رحمه الله -؛ أصحُّهما، وهو نص الشَّافعي في "الأم" (¬1): أنَّه اجتهاد من عمر، وهو في "صحيح البخاري" (¬2). ومن قال منهم: إنَّه بنص، استدلَّ بحديث ضعيف عن جابر، غير مجزوم برفعه: أنَّ ميقاتهم ذات عرق، وقد ضعَّفه الدَّارقطني (¬3) بما ذكرناه، وهو صحيح، وبأن العراق لم تكن فُتحت في زمن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو فاسد؛ لأنَّه غير ممتنع أنَّ يخبر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بميقات ناحيةٍ قبل فتحها، ويكون إخباره من معجزات نبوَّته - صلى الله عليه وسلم -، وإخباره بالمغيبات المستقبلات؛ كتوقيته لأهل الشام الجحفة، ومعلوم أنَّه لم يكن فتح حينئذ. وقد ثبتت الأحاديث الصَّحيحة: أنَّه أخبر بفتح الشَّام واليمن والعراق، وأنَّهم يأتون إليها بتشوُّق، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وأنَّه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنَّه زُويت ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشَّافعي (2/ 137). (¬2) رواه البخاري (1458)، كتاب: الحج، باب: ذات عرق لأهل العراق. (¬3) روى مسلم (1183)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة، عن أبي الزبير: أنَّه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يسأل عن المهلِّ، فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ... ، ومهل أهل العراق من ذات عرق .... " الحديث. قلت: عقب النووي في "شرحه على مسلم" (5/ 86) بقوله: هذا صريح في كونه ميقات أهل العراق، لكن ليس رفع الحديث ثابتًا. ا. هـ. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 390): وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة، وابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد، كلاهما عن أبي الزبير، فلم يشكا في رفعه، ووقع في حديث عائشة، وفي حديث الحارث بن عمرو السهمي، كلاهما عند أحمد، وأبي داود، والنسائي، وهذا يدل على أنَّ للحديث أصلًا، فلعل من قال: إنه غير منصوص، لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أنَّ كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث. وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا. ا. هـ.

الحديث الثاني

له مشارق الأرض ومغاربها (¬1)، وقال: "سيبلغُ ملكي ما زُوي لي منها" (¬2)، وأنَّهم سيفتحون مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط (¬3)، وأنَّ عيسى - صلى الله عليه وسلم - ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، (¬4) إلى غير ذلك مما يطول ذكره، والله أعلم. وفيه دليل: على جواز إطلاق الميقات على الأمكنة، وإن كان أصله في الأزمنة، ولهذا قال الفقهاء: للحجِّ والعمرة ميقاتان: زمانيٌّ، ومكانيٌّ، وسواء كل واحد منهما، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ" (¬5). إنَّما أخَّر حديث ابن عمر عن حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهم - وإن كان ابن عمر أحفظ وأضبط لأحاديث المواقيت والمناسك؛ حيث حجَّ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3952)، كتاب: الفتن، باب: ما يكون من الفتن، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8397)، وفي "مسند الشاميين" (2690)، عن ثوبان - رضي الله عنه -. (¬2) رواه أبو داود (4252)، كتاب: الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، والترمذي (2176)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء في سؤال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا في أمته، وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه" (6714)، عن ثوبان - رضي الله عنه - بلفظ: "إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها .... ". (¬3) رواه مسلم (2543)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر، عن أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬4) رواه مسلم (2937)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (1453)، كتاب: الحج، باب: ميقات أهل المدينة، ومسلم (1182)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة.

وضبط أماكن نزوله وصلاته فيها، وتتبعها - رضي الله عنه - بعده - صلى الله عليه وسلم -، وصلَّى فيها اقتداءً وتبرُّكًا؛ لأن في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - الجزمَ بتوقيت النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لميقات أهل اليمن، ولم يذكر ذلك في حديث ابن عمر، بل ذكره بغير صيغة سماعه من النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: وبلغني، فلهذا أخَّره، وأتى بصيغة الخبر في الإهلال، والمراد به الأمر به؛ حيث إنَّه أبلغُ فيه من صيغة الأمر؛ إذ الخبر من حيث موضعُه لا يُتصوَّر فيه الحلف، بخلاف الأمر، فيكون ذكره له بصيغة الخبر توكيدًا، والله أعلم. * * *

باب ما يلبس المحرم من الثياب

باب ما يَلْبسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّياب الحديث الأوَّل عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ: "لَا يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا البرَانِسَ، وَلَا الخِفَافَ، إلا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ" (¬1). وللبخاريِّ: "وَلَا تَنتَقِبُ المَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ" (¬2). أمَّا ابن عمر، فقد تقدَّم ذكره والكلام عليه. وأمَّا الرَّجل المبهم: فلا أعلم له ذكرًا فيما اطلعت عليه من نوعه. وأمَّا القُمُصُ: فجمع قميص، وهو معروف، يقال: تقمَّصت القميص: إذا لبسته، وتقمَّصت الأمر استعارة: إذا دخلت فيه. وأمَّا العَمَائم: فجمع عِمامة، وهو ما يُلفُّ به الرَّأس، سُمِّيت بذلك لأنَّها تعمُّ جميع الرَّأس بالتغطية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1468)، كتاب: الحج، باب: ما لا يلبس المحرم من الثياب، ومسلم (1177)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح. (¬2) رواه البخاري (1741)، كتاب: الحج، باب: ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة.

وأمَّا السَّرَاوِيلَات: فهي جمع سراويل، وهي مؤنَّثة عند الجمهور، وقيل: مذكَّر، والجمهور: على أنَّها أعجمية معرَّبة، وقيل: عربيَّة، والجمهور على أنَّها مفردة، وجمعها: سراويلات، وقيل: سراويل جمع سروالة، ويقال فيها: سراوين، بالنُّون، وبعض الأعراب تقول: سِرْوال -بالسِّين المهملة-، وبعضهم: بالشين المعجمة، ويقال: سرولته فتسرول؛ أي: ألبسته السراويل، والأكثرون على أنَّه لا ينصرف إذا كان نكرة، وقيل: ينصرف (¬1). وأمَّا البرَانِسُ: فجمع بُرنُس، -بضمِّ الباء والنّوُن-، وهو كلُّ ثوب رأسه ملتزق به ذراعه، كان أو جبة أو غيرهما، وقال ابن دريد: البُرنس -بضمِّ الباء-: نوع من الطَّيالسة يلبسه العبَّاد، وأهل الخير، قاله ابن قرقول في: "المطالع". وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النُّسَّاك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البُرس -بضمِّ الباء-، وهو القطن، والنُّون زائدة. وقيل: إنَّه غير عربي (¬2). وأَمَّا الخِفَافُ: فجمع خفٍّ، ويجمع على أخفاف أيضًا، ذكره صاحب "المطالع"، وهو معروف (¬3). أَمَّا الزَّعفَرَانُ: فهو نبت يكون باليمن، وورد ذكره في الحديث كثيرًا. وأمَّا الوَرْسُ: فهو نبت باليمن، أصفر، تصبغ به الثِّياب، والخبر معروف. وفي الحديث: ثياب ورسية، وملحفة وريسة؛ أي: مصبوغة به. وقال أبو بكر بن العربي - رحمه الله - (¬4): الورس نبات يزرع باليمن زرعًا، ولا يكون بغير اليمن، ولا يكون قويًّا، نباته مثل السمسم، فإذا جفَّ، تفتَّتت ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 57)، و"مختار الصحاح" (ص: 125)، (مادة: سرول). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 85)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 122)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 26). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 54). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (2/ 222)، إلا أنَّه نسبه إلى أبي حنيفة الدينوري.

خرائطه، فينتفض منه الورس أحمر، يزرع سنةً، فيقيم في الأرض عشر سنين، ينبت ويثمر، وأجوده حديثه. يقال: أورس فهو وارس، وتورس لغة ضعيفة. وأمَّا القُفَّاز: فهو بضمِّ القاف، وتشديد الفاء، وهو شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن، يغطي الأصابع والكفَّ والسَّاعد من البرد، يحشى بقطنٍ، ويكون له أزرار يزر على السَّاعدين، وهما قفَّازان، وقيل: هو ضرب من الحليِّ تتخذه المرأة ليديها. وقوله: "وَلَا تَنْتَقِبُ المَرْأَةُ": يعني: المحرمة؛ أي: لا تستر وجهها بذلك، والنِّقاب: شدُّ الخمار على الأنف، وقيل: على المحجر. أَمَّا الحكمة في تحريم هذه المذكورات على المُحرم؛ فَلِما فيها من التَّرفُّه والتزيُّن؛ ليتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكَّر أنَّه محرم في كلِّ وقتٍ، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكَّر به الموت ولباس الأكفان، وليتذكَّر البعث يوم القيامة حفاة عراة مهطعين إلى الدَّاعي. ونبَّه - صلى الله عليه وسلم - بكلِّ واحد من المذكورات على ما في معناه، فنبَّه بالقميص والسَّراويل على كلِّ مخيط، أو مخيطٍ معمول على قدر البدن، أو عضوٍ منه؛ كالجوشن والرَّان والتبَّان وغيرها. ونبَّه بالعمائم والبرانس على كلِّ ساترٍ للرَّأس، مخيطًا كان أو غيره، حتَّى العصابة، فإنَّها حرام، فإن احتاج إليها لصداع أو شَجَّة ونحوها، شدَّها، ولزمته الفدية. ونبَّه بالخِفَاف على كل ساتر للرِّجل من مداسٍ وجمجم، وجورب وغيرها. ونبَّه بالوَرْسِ والزَّعْفَرَان على كلِّ طيب، فيحرم على كلِّ محرم، رجلًا كان أو امرأة، جميعُ أنواع الطِّيب الَّذي يقصد له، أما ما لا يقصد له؛ كالأترج والتُّفاح، وأزهار البراري؛ كالقيصوم ونحوه، فليس بحرام؛ لأنَّه لا يقصد للطيب.

أمَّا المرأة: فإنَّه يباح لها ستر جميع بدنها بكلِّ ساتر، إلا سترَ وجهها وكفَّيها بغير القفَّازين، وفي ستر يديها به خلاف للعلماء، وهما قولان للشَّافعيِّ: أصحُّهما: تحريمه؛ للحديث، والله أعلم. فإن قيل: سؤال الرَّجل للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما هو عمَّا يلبس المحرمُ، والجوابُ وقع عمَّا لا يلبس! فالجواب: أنَّ هذا من باب بديع الكلام وجزله، وهو أنَّه إذا كان المسؤول عنه غير منحصر، وغيرُه منحصر: أنَّه يُجاب بالمنحصر؛ لينضبط المسؤول عنه للسائل، فينتهي عن المنحصر، ويلبس ما سواه؛ تنبيهًا على أمرين: أحدهما: أنَّ الإباحة هي الأصل فيه. والثاني: أنَّه لا ينبغي أنَّ يعتبر أنَّ يتغيَّر في الجواب المطابقة للسؤال، بل المعتبر ما يحصل المقصود، وكيف كان، ولو بتغير، أو زيادة، ولا تشترط المطابقة، وذلك لأنَّ مطلوب الشَّرع البيان والتقريب إلى الأفهام، وبأيِّ نوع كان يرجَّح الإتيان به على غيره. وبهذا شُرِّفَ اللِّسان العربيُّ على غيره من الألسنة، حتَّى جعله الله - عَزَّ وَجَلَّ - لسانَ أهل الجنّة ولغتَهم، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تحريم ما ذكر على المحرم في الحديث، وهو إجماع واتِّفاق من العلماء. وعدّاه القياسون إلى ما رواه في معناه على ما ذكرناه. ومنها: أنَّ المحرم هو من دخل في الحجِّ أو العمرة معًا، أو أحدهما، والإحرام: الدُّخول في أحد النُّسكين، والتشاغل بأعمالهما، قاله شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -. وقد كان شيخنا العلَّامة أبو محمَّد بن عبد السلام يستشكل معرفة حقيقة الإحرام جدًّا، ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل: إنَّه النيَّة، اعترض عليه بأنَّ النيَّة شرط الحجِّ الَّذي الإحرام ركنُه، وشرط الشَّيء غيرُه، ويعترض عليه أنَّ التَّلبية، بأنَّها

ليست بركن، والإحرام ركن هذا أو قريب منه، وكان يحوم على فعل تتعلق به النيَّة من الابتداء (¬1). ومنها: التنبيه على عظم عبادة الحجِّ والعمرة؛ باعتبار ما فيهما مشروع من شرائطهما وأركانهما وواجباتهما وسننهما وآدابهما، والخروج عن العادات المألوفات. ومنها: جمع لهم ما من تلبّس بهما لمقاصد الآخرة، والإعراض عن مقاصد الدُّنيا وملاذها وترفها. ومنها: اغتفار ما منع الشَّرع من إتلافه بسببهما، وهو قطع الخفِّ من أسفل الكعبين، إذا لم يجد نعلين، مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال. وجوَّزت الحنابلة جواز لبس الخفَّين للمحرم من غير قطعهما، وقالوا: روى ابن عبَّاس وجابر مرفوعًا: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ" (¬2)، ولم يذكر قطعهما، فكأنَّهم يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرِّح بقطعهما بذلك، ويزعمون أنَّ قطعهما إضاعة مال، والَّذي قاله مالك، وأبو حنيفة، والشَّافعيُّ، وجماهير العلماء: أنَّه لا يجوز لبسهما إلا بعد قطعهما أسفل من الكعبين. والنَّسخ لا يصار إليه إلا بتعين تاريخ متأخِّر، كيف وحديث ابن عبَّاس وجابر مطلق، وحديث ابن عمر مقيَّد، والمطلق يحمل على المقيَّد، والزيادة من الثِّقة مقبولة. وقولهم: إنَّه إضاعة مال، غير مقبول؛ فإنَّ الإضاعة إنَّما تكون فيما نهى ¬

_ (¬1) ذكره ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (3/ 12)، وعنه أخذ المؤلف. وانظر ترجمة شيخ المؤلف العلَّامة أبو محمد بن عبد السلام في مقدمة هذا الكتاب، عند ذكر شيوخ الشارح ابن العطار - رحمه الله -. (¬2) رواه البخاري (5467)، كتاب: اللباس، باب: السراويل، ومسلم (1178)، كتاب: الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ورواه مسلم (1179)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، عن جابر ابن عبد الله - رضي الله عنه -.

الشَّرع عنه، لا فيما أذن فيه وأمر به؛ فإن قطعهما عند عدم النَّعلين، وعدم الخفاف حقٌّ يجب الإذعان له، والله أعلم. ثم لابس الخفين لعدم النعلين من غير قطع، يجب عليه الفدية، عند أبي حنيفة وأصحابه؛ كما إذا حلق ولبس، فإنَّه يفدي، وقال مالك، والشَّافعيُّ، ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنَّه لو وجبت فدية، لبيَّنها - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: تحريم لباس الثِّياب المورَّسة والمزعفرة وما في معناهما ممَّا هو مطيَّب، على المحرم، سواء كان مخيطًا، أو محيطًا، أو غيرهما. والحكمة في تحريم ذلك: أنَّه داعية إلى الجِماع، وأنَّه ينافي حال الحاجِّ؛ فإنَّه أشعث أغبر. وسواء في تحريم ذلك الرَّجلُ والمرأة، فلو لبس مخيطًا مطيَّبًا، قاصدًا للبس والتَّطيُّب، عامدًا، لزمه فديتان بلا خلاف، وإن كان ناسيًا: فلا فدية عند الثوري، والشَّافعيِّ، وأحمد، وإسحاق، وأوجبها أبو حنيفة، ومالك. أمَّا اللِّباس المعصفر، فلا يحرم على المحرم، عند مالك والشَّافعيِّ، وحرَّمه الثَّوري، وأبوحنيفة، وجعلاه طيبًا، وأوجبا فيه الفدية، ويكره للمحرم لبس الثِّياب المصبوغة بغير طيب، ولا يحرم، والله أعلم. ومنها: تحريم لبس السَّراويل على المحرم مطلقًا، وبه قال مالك، وجوَّزه الشَّافعيُّ، وأحمد، والجمهور للمحرم إذا لم يجد إزارًا من غير قطعه؛ لحديثي ابن عبَّاس وجابر -رضي الله عنهم- في إباحته، عند عدم الإزار، وكونه لم يذكر ذلك في حديث ابن عمر هذا؛ لأنَّه ذكر حالة وجود الإزار، فلا منافاة بين الحديثين حينئذٍ، والله أعلم. ومنها: تحريم لباس القفَّازين على المحرمة، وهو الصَّحيح من قولي الشَّافعيِّ كما تقدَّم، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ" لِلْمُحْرِمِ (¬1). هذا الحديث مع حديث ابن عمر قبله، يرجعان إلى قاعدة مُجمَع عليها، وهي أنَّه مهما أمكن إعمالُ الأحاديث، وحملُ بعضها على بعض، كان أولى من إلغاء بعضها، أو نسخِه عند عدم تحقُّق النَّسخ، إذا ثبت هذا، فقد استدلَّ بهذا الحديث من لا يشترط القطع من الخفَّين عند عدم النَّعلين، فإنَّه مطلق بالنِّسبة إلى القطع وعدمه، وحملُ المطلق هاهنا على المقيَّد أولى؛ فإنَّ حديث ابن عمر المتقدِّمَ، مقيَّد فيه القطع، كيف ولفظه بصيغة الأمر، وذلك أمر زائد على الصِّيغة المطلقة، فإن لم يعمل بها، وأجزنا مطلق الخفَّين، كنَّا قد تركنا ما دلَّ عليه الأمر بالقطع، وهو غير شائع، وهذا خلاف ما لو كان المطلق والمقيَّد من جانب الإباحة؛ فإنَّ إباحة المطلق حينئذ ينتفي بزيادة ما دلَّ عليه إباحة المقيد، فإذا أخذنا بالزيادة، كان أولى؛ إذ لا معارضة بين إباحة المقيد وإباحة ما زاد عليه، فلبسُ السَّراويل إذا لم يجد إزارًا، يدلُّ هذا الحديث على جوازه من غير قطع، وهو قوي جدًّا إذا لم يرد بقطعه ما ورد في الخفين، فانتظم إعمال الحديثين من غير نسخ، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ". ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1744)، كتاب: الحج، باب: لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، ومسلم (1178)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، وهذا لفظ البخاري.

قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ يزيدُ فِيهَا: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالعَمَلُ" (¬1). اعلم: أنَّ التَّلبية هي الإجابة، وهي مثنَّاة للتكثير والمبالغة، ومعناها: إجابة بعد إجابة، ولزومًا لطاعتك، فتثنى للتوكيد. واختلف أهل اللُّغة في أنَّ لفظ التَّلبية مثنًّى أم مفرد؟ فقال سيبويه: مثنًّى؛ بدليل قلب ألفه ياء مع الظهور، وأكثر النَّاس على قول سيبويه، وقال يونس بن حبيب البصري: لبَّيك: اسم مفرد لا مثنًّى، وألفه إنَّما انقلبت ياءً لاتِّصالها بالضَّمير؛ كلَدَيَّ، وعَلَيَّ، وهو مأخوذ من أَلَبَّ بالمكان، ولبَّ: إذا أقام به؛ أي: أنا مقيم على طاعتك، وقيل: من لُبِّ الشيء، وهو خالصُه؛ أي: إخلاصي لك. قيل: معناه: الخضوع، وقيل: المحبَّة، وقيل: القرب، فكأنَّه أجاب بكل واحد من هذه المعاني، قال القاضي عياض - رحمه الله -: قيل: هي الإجابة؛ لقوله تعالى لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحجّ: 27]، والله أعلم (¬2). وقوله: "إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ": أمَّا "إنَّ"، فتروى بكسر الهمزة؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ الحمد لله على كلِّ حال، وهو أجود في المعنى وأشهر نقلًا واختيارًا، ويروى بفتحها؛ لأنه يدلُّ على التَّعليل، كأنَّه يقول: لهذا السَّبب لبَّيتك. وأمَّا "النِّعْمَةَ لَكَ"، فالأشهر فيها النَّصب عطفًا على الحمد، ويجوز الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، وقال ابن الأنباري: وإن شئت جعلت خبر إنَّ محذوفًا، تقديره: إنَّ الحمد لك، والنِّعمة مستقرة لك. وقوله: "وَسَعْدَيْكَ" هي في إعرابها وتبيينها؛ كلبَّيك، ومعناه: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1474)، كتاب: الحج، باب: التلبية، ومسلم (1184)، كتاب: الحج، باب: التلبية وصفتها ووقتها، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 353)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 222)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 87)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 731)، (مادة: لبب).

وقوله: "وَالخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ"؛ أي: ابتداؤه وانتهاؤه، والتَّوفيق له من فضلك، وهو من باب صلاح الخطاب، كما في قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشُّعراء: 80]. وقوله: "وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالعَمَلُ" أمَّا الرَّغباء: فتروى بفتح الرَّاء وبالمد، وبضم الراء والقصر، كالنَّعماء والنُّعمى، فمن فتح، مدَّ، ومن ضمَّ، قصر، قال القاضي عياض - رحمه الله -: وحكى أبو علي فيه -أيضًا- الفتحَ مع القصر، مثل سَكْرى، ومعناه هنا: الطَّلب والمسألة لمن بيده الخير، وهو المقصود بالعمل المستحقِّ للعبادة، والعمل فيه محذوف تقديره: العمل والقصد إليك، والانتهاء؛ لتجازي عليه، ويحتمل أن يقدَّر: والعمل لك، والله أعلم. هذا ما يتعلَّق بألفاظ التَّلبية ومعانيها. أمَّا أحكامها: فهي مشروعة إجماعًا، واختلف العلماء، هل هي سنَّة، أم واجبة، أم شرط لصحَّة الحجِّ؟ فقال الشَّافعيُّ - رحمه الله - وآخرون: هي سنَّة، لو تركها، صحَّ حجُّه، ولا دم عليه، وفاته الفضيلة. وقال مالك - رحمه الله -: ليست بواجبة، لكن لو تركها، لزمه دم، وصحَّ حجه. وقال بعض أصحاب الشافعي: هي واجبة، تجبر بالدَّم، ويصحُّ الحجُّ بدونها. وقال بعضهم: هي شرط لصحَّة الإحرام، فلا يصحُّ هو ولا الحجُّ إلَّا بها. والصَّحيح الأول. وينعقد الحجُّ بالنيَّة بالقلب من غير لفظٍ، كما ينعقد الصوم بها فقط عند مالك والشَّافعيِّ. وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إلَّا بانضمام التَّلبية أو سَوْق الهدي إلى النيَّة، ويجزي عنده عن التلبية ما في معناها؛ من التَّسبيح والتَّهليل وسائر الأذكار، كما

قال في تكبيرة الصلاة: إنَّه لا يتعيَّن لفظه، بل يجوز بكل لفظ غيره، من التَّعظيم والإجلال، والله أعلم. ويستحبُّ رفع الصوت بالتَّلبية؛ بحيث لا يشقُّ على الملبِّي، ولا تؤدِّي به إلى ضرر في بدن، والله أعلم. ولا ترفع المرأة صوتها؛ لأنَّه يخاف الفتنة بصوتها غالبًا. ويستحبُّ الإكثار منها عند تغاير الأحوال، كإقبال اللَّيل والنَّهار، والصُّعود والهبوط، واجتماع الرِّفاق، والقيام والقعود، والرُّكوب والنزول، وأدبار الصَّلوات، وفي المساجد كلِّها، والأصحُّ أنَّه لا يلبِّي في الطَّواف والسعي؛ لأنَّ لهما أذكارًا مخصوصة. ويستحبُّ أن يكرّر التَّلبية في كلِّ كرة ثلاث مرَّات فأكثر، ويواليها ولا يقطعها بكلام، فإن سلِّم عليه، ردَّ السَّلام باللَّفظ، ويكره السَّلام عليه في هذه الحال، وإذا لبَّى، صلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسأل الله -عزَّ وجلَّ- ما شاء لنفسه ولمن أحبَّه وللمسلمين، فأفضلُه سؤال الرِّضوان والجنة والاستعاذة من النَّار، وإذا رأى شيئًا يعجبه قال: لبَّيك إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة. ولا تزال التَّلبية مستحبَّة للحاجِّ حتَّى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النَّحر، وفي طواف الإفاضة إن قدَّمه عليها، أو الحلق عند من يقول: الحلق نسك، وهو الصَّحيح، وتستحبُّ للمعتمر حتَّى يشرع في الطَّواف. وتستحبُّ التَّلبية للمحرم مطلقًا، سواء الرَّجل والمرأة، والمحدِث، والجنب، والحائض؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: "اصنعي ما يصنع الحاجُّ، غيرَ أنْ لا تطوفي" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (299)، كتاب: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، عن عائشة - رضي الله عنها -.

الحديث الرابع

الحديث الرَّابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ". وفي لفظٍ للبخاريِّ: "تُسَافِرُ مَسِيَرةَ يَوْمٍ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" (¬1). اعلم أنَّ هذا الحديث روي في "الصَّحيح" على أوجه، منها: "لَا تُسَافِرُ المَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلَّا وَمعَهَا ذُو مَحْرَمٍ"، وفي رواية: "فَوْقَ ثَلاَثٍ"، وفي رواية: "ثَلاَثَةٍ"، وفي رواية: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ"، وفي رواية: "لَا تُسَافِرُ المَرْأَةُ يَوْمَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ منها، أَوْ زَوْجُها"، وفي رواية: نهى أن تسافرَ المرأةُ مسيرةَ يومين، وفي رواية: "لا يحلُّ لا مرأةٍ مسلمةٍ تسافرُ مسيرةَ ليلةٍ إلا ومعَها ذُو حرمةٍ منها"، وفي رواية: "لَا يَحِلُّ لِامْرأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إلا مَعَ ذِي مَحْرَمِ"، وفي رواية: "مَسِيَرةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ"، وفي رواية: "لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". هذه روايات مسلم، وفي رواية لأبي داود: "لا تسافرُ بريدًا"، والبريد: مسيرة نصف يوم (¬2). قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ؛ لاختلاف السَّائلين، واختلاف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1038)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ ومسلم (1339)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر هذه الروايات في "صحيح البخاري" (1037)، و"مسلم" (1338)، (2/ 975) عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. والبخاري (1139)، ومسلم (827)، (2/ 975 - 976)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. والبخاري (1763)، ومسلم (1341)، (2/ 978)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ومسلم (1339)، (2/ 978)، وأبو داود (1724)، (2/ 140)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

المواطن، وليس في النَّهي عن الثَّلاثة تصريحٌ بإباحة اليوم أو اللَّيلة أو البريد. قال البيهقيُّ: كأنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن المرأة، تسافر ثلاثًا بغير محرم، فقال: "لَا"، وَعَنْ يَوْمَيْنِ، فقال: "لَا"، وَعَنْ يَوْمٍ، فقال: "لَا"، وَكَذلكَ البريد، فأدَّى كلٌّ منهم ما سمعه (¬1)، وما جاء منها مختلفًا، عن راو واحد، فسمعه في مواطن، يروي تارة هذا، وتارة هذا، وكلُّه صحيح، وليس في هذا كلّه تحديد لأقلِّ ما يقع عليه اسم السَّفر، ولم يُرد - صلى الله عليه وسلم - تحديدَ أقل ما يسمَّى سفرًا، فالحاصل: أن كلَّ ما يسمى سفرًا تنتهي عنه المرأة بغير زوج أو محرم، سواء كان ثلاثة أيَّام، أو يومين، أو يومًا، أو بريدًا، أو غير ذلك؛ لرواية ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - المطلقة، وهي آخر روايات مسلم السَّابقة: "لا تسافر المرأة إلَّا مع ذي محرم"، وهذا يتناول جميع ما يسمَّى سفرًا، والله أعلم. واعلم: أنَّه لا بدَّ من تبيين المَحْرَمِ، ومعرفة حدِّه، وحقيقته: قال العلماء من الشَّافعية: المحرم من النِّساء التي يجوز النَّظر إليها والخلوة بها، والمسافرة بها: كلُّ من حرم نكاحها على التَّأبيد بسبب مباح؛ لحرمتها، فقولنا: على التأبيد احتراز من أخت المرأة، وعمتها وخالتها ونحوهنَّ. وقوله: بسبب مباح: احتراز من أمِّ الموطوءة بشبهة، وبنتها، فإنَّهما يحرَّمان على التَّأبيد وليستا محرَّمتين؛ لأن وطء الشُّبهة لا يوصف بالإباحة؛ حيث إنَّه ليس بفعل مكلَّف. وقولنا: لحرمتها، احتراز من الملاعنة؛ فإنَّها محرَّمة على التأبيد بسبب مباح، وليست محرمًا؛ لأن تحريمها ليس لحرمتها، بل عقوبة وتغليظًا، والله أعلم. أمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ"، فهو عامٌّ في كلِّ امرأة، سواء الشَّابة والعجوز. وحكى القاضي عياض عن الباجي من المالكيَّة: أنَّه قال: هذا عندي في ¬

_ (¬1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 139).

الشَّابة، فأمَّا الكبيرة غير الشابة، فتسافر كيف شاءت كلَّ الأسفار بلا زوج ولا محرم. قال شيخنا أبو زكريَّا النَّوويُّ، -قدَّس الله روحه-: وهذا الذَّي قاله الباجي لا يوافق عليه؛ لأن المرأة مظنَّة الطَّمع فيها والشَّهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكلِّ ساقطة لاقطة، ويجتمع في الأسفار من سفهاء النَّاس وسقطتهم ما لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها؛ لغلبة شهوته، وقلَّة دينه ومروءته، وكثرة خيانته، ونحو ذلك، والله أعلم (¬1). قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: والَّذي قال الباجي تخصيص للعموم بالنَّظر إلى المعنى، وخالفه بعض الشَّافعية المتأخِّرين، قال: وقد اختار هذا الشَّافعي: أن المرأة تسافر بالأمر ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها من جملة القافلة، وتكون آمنة. وهذا مخالف لظاهر الحديث، والله أعلم (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ". تنبيه: يوصف الإيمان بالله، واليوم الآخر على العمل بأحكام الشَّرع، والوقوف مع حدوده، في الظَّاهر والباطن، وأنَّ الحامل على ذلك إنَّما هو الإيمان لا غير، فإن من علم أنَّ له ربًّا يغفر الذَّنب ويأخذ بالذنب وأنَّه محاسب عليه يوم القيامة، حمله ذلك على التَّقيُّد بفعل المأمور، وترك المنهيِّ، وذلك هو المطلوب، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْ تُسَافِرَ" هو مطلق في كلِّ سفر، طويلًا كان أم قصيرًا، كما بيَّنَّاه في الكلام على روايات الحديث. وهل هو عامٌّ في سفر كل طاعة، أم مخصَّص؟ أمَّا سفر الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، فاتَّفق العلماء على وجوبه، وإن لم يكن معها أحد من محارمها. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 105). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 19).

وأمَّا سفر الحجِّ أو العمرة، فإن كانا واجبين، وهي مستطيعة كالرَّجل، فهل يشترط لاستطاعتها وجود محرم لها في سفرها لهما؟ فمذهب الشَّافعي في المشهور عنه: لا يشترط المحرم، بل يشترط الأمن على نفسها، وبه قال عطاء، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، ومالك، والأوزاعيُّ. قال أصحاب الشَّافعيِّ: ويحصل الأمن بزوجٍ أو محرمٍ أو نسوة ثقاتٍ، ولا يلزمها الحجُّ إلا بأحد هذه الأشياء. واشترط أبو حنيفة المحرم لوجوب الحجِّ عليها، إلَّا أن يكون بينها وبين مكَّة دون ثلاث مراحل، ووافقه جماعة من أصحاب الحديث، وأصحاب الرَّأي، وحكي أيضًا عن الحسن البصريِّ والنَّخعي. وإن كانا تطوعًا، أو سفر زيارة، أو تجارة، ونحوها من الأسفار التي ليست واجبةً، فقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم، وقال بعضهم: يجوز لها الخروج فيها مع نسوةٍ ثقات، كحجَّة الإسلام. قال القاضي عياض - رحمه الله -: واتَّفق العلماء على أنَّه ليس لها أن تخرج في غير الحجِّ والعمرة، إلَّا مع ذي محرم، إلَّا الهجرة من دار الحرب، كما ذكرنا، قال: والفرق بينهما: أنَّ إقامتها في دار الكفر حرام إذا لم تستطع إظهار الدين، وتخشى على دينها ونفسها، وليس كذلك التَّأخر عن الحجِّ، كيف وهو مختلف في أنَّه على الفور، أم التَّراخي (¬1)، فالَّذين اشترطوا المحرم لوجوب الحجِّ، استدلوا بهذا الحديث، فإنَّ سفرها للحجِّ من جملة الأسفار الدَّاخلة تحته، فيمتنع إلَّا مع المحرم، والَّذين لم يشترطوه قالوا: المشترط الأمن على نفسها مع رفقةٍ مأمونين، رجالًا أو نساءً، كما تقدَّم. ولا شك أنَّ هذه المسألة تتعلَّق بالعامَّين إذا تعارضا، وكان كلُّ واحدٍ منهما عامًّا من وجه، خاصًّا من وجه: بيانه: أن قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] يدخل تحته الرِّجال والنِّساء، فيقتضي ذلك أنَّه إذا وجدت ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 104).

الاستطاعة المتَّفق عليها، أن يجب عليها الحجُّ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لاِمْرَأَة" الحديث خاص بالنِّساء، عام في الأسفار، فإذا قيل: وأخرج عنه سفر الحجِّ بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، قال المخالف: ويعمل بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، فتدخل المرأة فيه، ويخرج سفر الحجِّ عن النَّهي، فيقوم في كلِّ واحد من الحديثين عموم وخصوص، ويحتاج إلى التَّرجيح من خارج. وذكر بعض الظَّاهرية: أنَّه يذهب إلى دليل من خارج، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله" (¬1)، ولا يتَّجه ذلك؛ لكونه عامًّا في المساجد، ويمكن أن يخرج عنه المسجد الَّذي يحتاج إلى السَّفر في الخروج إليه؛ لحديث النَّهي. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَسِيرةَ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ، إلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ" وللبخاريِّ: "مَسِيرَةَ يَوْمٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" تقدَّم الكلام على اختلاف الرِّوايات، في مسيرة السَّفر، والمراد منها كلِّها، وعلى حقيقة المحرم. ولا شكَّ أنَّ ذا المحرم عامٌّ في محرم النَّسب؛ كأبيها، وأخيها، وابن أخيها، وخالها، وعمِّها، ومحرم الرّضاع، ومحرم المصاهرة؛ كأبي زوجها، وابن زوجها، واستثنى بعضهم ابنَ زوجها، وقال: يكره السَّفر معه؛ لغلبة الفساد في النَّاس بعد العصر الأوَّل؛ ولأنَّ كثيرًا من الناس لا ينزل زوجةَ الأب في النَّفرة عنها منزلةَ محارم النَّسب، والمرأة فتنة، إلا فيما جبل الله النفوسَ عليه في النفرة عن محارم النسب. والحديث عامٌّ، فإن كانت الكراهة للتَّحريم إلَّا مع محرمية، لزم الزَّوج، وهو بعيد مخالف لظاهر الحديث، وإن كان للتنزيه للمعنى المذكور، فهو أقرب تشوقًا إليه، ويقويه استثناء السَّفر مع المحرم، فيصير التَّقدير: إلَّا مع ذي محرم، فيحلُّ. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ويبقى النَّظر في قولنا: يحلُّ، فهو يتناول المكروه، أم لا؛ بناء على أنَّ لفظ يحلُّ يقتضي الإباحة المستوية الطَّرفين، فإن قلنا: لا يتناول المكروه، فهو قريب جدًّا في التَّخصيص، وإن قلنا: يتناوله، فهو مشكل، والله أعلم. ثمَّ الحرمة في إحدى الرِّوايتين بمعنى: ذي المحرم، وإن استعمل استعمالًا لغويًّا فيما يقتضي الإحرام، فيدخل فيه الزَّوج لفظًا، فيلحق في الحكم بالمحرم في جواز السَّفر معه، وأولى بالجواز، والله أعلم. هذا حكم السَّفر وما يتعلَّق به، والخلوة ملحقة بحكمه. أمَّا إذا خلا الأجنبيُّ بالأجنبية من غير ثالث معهما، فهو حرام باتِّفاق العلماء، وكذلك لو كان معهما من لا يستحيا منه؛ لصغره؛ كابن سنتين وثلاث، ونحو ذلك، فإنَّ وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجالٌ بامرأةٍ أجنبيةٍ، فهو حرامٌ، بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوةٍ أجانب؛ فإنَّ الصَّحيح جوازه؛ لتواطؤ الرِّجال على المرأة، وعدم مواطأة النِّساء على الرَّجل الواحد. والمختار: أنَّ الخلوة بالأمرد الأجنبيّ الحسن كالمرأة، فتحرم الخلوة به، حيث حرمت بالمرأة إلَّا إذا كان في جمع من الرِّجال المصونين، قال أصحاب الشَّافعيِّ: ولا فرق في تحريم الخلوة بحيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها. ويستثنى من هذا كلِّه مواضعُ الضرورة، بأن يجد امرأةً منقطعةً في الطَّريق، أو نحو ذلك، فيباح له استصحابها، بل يلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا خلاف فيه، ويدلُّ عليه حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصَّة الإفك، والله أعلم. * * *

باب الفدية

بَابُ الفِدْيةِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَعْقِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيِّ خاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، أوْ: مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شاةً؟ "، فَقُلْتُ: لَا، قال: "فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ" (¬1). وفي روايةٍ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يَهْدِيَ شاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (¬2). أمَّا عبدُ اللهِ بنُ مَعْقِل: فهو تابعيٌّ، كوفيٌّ، ثقة، من خيار التَّابعين، كنيته: أبو الوليد، روى عن عبد الله بن مسعود، وثابت بن الضَّحَّاك، وكعب بن عُجْرة، وعديّ بن ثابت، وروى عن علي بن أبي طالب، وروى له البخاري ومسلم وغيرهما. وأمَّا أبوه مَعْقِل: فهو -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف- ابن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1721)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: الإطعام في الفدية نصف صاع، ومسلم (1201)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه البخاري (1722)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: النسك شاة، ومسلم (1201)، (2/ 862)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى.

مُقَرِّن -بضمِّ الميم وفتح القاف وكسر الرَّاء المشددة- مزنيٌّ، كوفيٌّ، له صحبة، قاله أحمد بن عبد الله العجلي. قال الحافظ عبد القادر الرهاوي في كتابه "الأربعين": ليس لعبد الله بن مَعْقِل هذا في "الصَّحيحين" غيرُ حديث: "اتَّقوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ" (¬1)، قال: ويشاركه في اسمه واسم أبيه، عبد الله بن مَعْقِل المحاربي الكوفيُّ، يروي عن عائشة، يروي عنه أشعث بن سليم وعبد بن حنين. قال شيخنا أبو زكريَّا النَّوويُّ الحافظ - رحمه الله -: وهذا الَّذي ادعاه عبد القادر غلط، ففي "صحيح البخاري" في كتاب: الحجِّ، في باب: إطعام المحصر في الفدية نصفَ صاع، عن عبد الله بن معقل المزني هذا، عن كعب بن عُجْرة، حديث، والله أعلم. وهو كما قال، بل الحديث في "صحيح مسلم" أيضًا كما ذكره المصنِّف - رحمه الله - (¬2). وأمَّا كَعْبُ بن عُجْرَةَ: فكنيته: أبو محمَّد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو إسحاق، وهو أنصاري من بني سالم بن عوف، ويقال: من بليّ بن الحاف بن قضاعة، وقيل غير ذلك، وقيل: هو حليفٌ لبني عوف بن الخزرج، وهم القواقلة، وقيل: حليف لبني سالم من الأنصار. وأبوه عُجْرة -بضم العين المهملة، وسكون الجيم-، وقيل: هو عُجْرةُ بن أمية بن عدي بن عبيدِ بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1351)، كتاب: الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، ومسلم (1016)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، عن عبد الله بن معقل، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه -. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 175)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 195)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 169)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 35)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 169)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 212)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 36).

شهد كعبٌ هذا بيعةَ الرِّضوان، وقال ابن الأثير: تأخَّر إسلامه، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وأربعون حديثًا، اتَّفق البخاريُّ ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بآخرين، وروى عنه بنوه: إسحاق، وعبد الملك، ومحمد، والرَّبيع، ومن الصَّحابة العبادلةُ: ابن عمر، وابن عبَّاس، وابن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-، وخلقٌ من التَّابعين، وروى له أصحاب السُّنن والمساند. مات بالمدينة سنة إحدى، وقيل: اثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين، وله خمس وسبعون سنة (¬1). وأمَّا قوله: "فَسَأَلْتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً" السَّائل هو عبد الله بن معْقِل، والمسؤول: هو كعب بن عُجْرة، وهو الَّذي نزلت فيه خاصَّة -يعني: الفدية- ويريد بقوله: خاصة: اختصاص السبب الذي نزلت به، ويريد بقوله: "لكم عامَّة": عموم اللفظ في الآية بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وهذه صيغة عموم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كُنْتُ أُرَى" بضمَّ الهمزة؛ أي: أظنُّ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الوَجَعَ أَوِ الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى" هو شكٌّ من الرَّاوي، هل قال: الوجع، أو الجهد؟. والجَهْدُ: بفتح الجيم؛ هو المشقَّة، وبالضَّمِّ: الطَّاقة، ولا معنى لها هنا، إلَّا أن يكون الفتح والضَّمُّ لغتين في المشقة. و "ما أَرى": هو بفتح الهمزة؛ هو من رؤية العين؛ أي: ما أشاهد ببصري. وقوله: "فأمره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ": الفَرَقُ -بفتح الرَّاء، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" (7/ 220)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 160)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 351)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1321)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 139)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 454)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 52)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 599)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 390).

وقد تسكن-، وهي ثلاثة آصع، وهو مفسَّر في الرِّوايتين بقوله في الأولى: "لكل مسكين نصف صاع"، وفي الثَّانية هذه بقوله: "بَيْنَ سِتَّة". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتجدُ شاة؟ " قال: لا، وفي الثَّانية: "أو يهدي شاة" هذا هو النُّسك المجمل في الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وليس المراد بقوله: أتجد شاة؟ قال: لا، فأمره بالصوم أو الإطعام: أنَّ كلَّ واحد منهما لا يجزئ إلَّا عند عدم الهدي، بل هو محمول على أنَّ سؤاله عن وجدانه، فإن أخبره به، أخبره - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه مخيَّر بينه وبين الصِّيام والإطعام، وإن عدمه، فهو مخيَّر بين الصِّيام والإطعام. ولا شكَّ أنَّ لفظ الآية والحديث معًا، يقتضي التَّخيير بين الخصال الثَّلاث المذكورة؛ فالصّيام والصَّدقة والنسك مجملات في الآية الكريمة، مبيَّنة في الحديث، فالصِّيام مبيَّنٌ بثلاثة أيَّامٍ، وأبعد من قال من المتقدِّمين: إنَّ الصَّوم عشرة أيَّام؛ فإنَّه مخالف للآية والحديث. والصَّدقة: ثلاثة آصُعٍ؛ لكل مسكين نصفُ صاع. والنُّسك: واحدته نسيكة؛ وهي الذَّبيحة، وأعلاها بدنةٌ، وأوسطها بقرةٌ، وأدناها شاةٌ، أيما شاء ذبح، فهذه الفدية على التَّخيير، والتَّقدير: يتخيَّر بين الثلاثة المذكورات. وكلُّ هديٍ أو إطعام يلزم المحرم، يكون بمكة، ويتصدَّق به على مساكين الحرم، إلَّا الهديَ الذي يلزم المحصر؛ فإنَّه يذبحه حيث أُحصر. وأمَّا الصَّوم: فإنَّه يصوم حيث شاء، وقد اتَّفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث، لكن وقع الخلاف على الإطعام، هل يتعيَّن من الحنطة مقدارًا وعينًا؟ فحكي عن أبي حنيفة والثَّوري: أن نصف الصَّاع لكلِّ مسكين، إنَّما هو في الحنطة، فأمَّا التَّمر وغيره، فيجب صاع لكلِّ مسكين. وهذا خلاف نصّه في الحديث، في "صحيح مسلم": "ثلاثة آصُعٍ كان تمر" (¬1)، وعن أحمد بن حنبل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1201)، (2/ 861)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى.

- رحمه الله - رواية: "لكلِّ مسكينٍ مُدُّ حنطة، أو نصفُ صاعٍ من غيره"، وعن الحسن البصريِّ، وبعض السَّلف: أنَّه يجب إطعام عشرة مساكين، أو صوم عشرة أيَّام، وكلُّ هذا ضعيفٌ مردود منابدٌ للسنَّة. وفي الحديث دليلٌ: على جواز حلق الرَّأس للمحرم من أذى القمل، وقاسوا عليه ما في معناه من الضَّرر؛ كالمرض. وفيه دليل: على أنَّ السُّنَّة مبينة للمجمل في الكتاب. وفيه دليل: على أنَّ التَّفسير المتعلِّق بسبب النُّزول من الصحابيِّ، مرفوعٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذا لم يضفه إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ بقول كعب - رضي الله عنه -: "نزلتْ فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّة". وفيه دليل: على أنه يشرع لكبير القوم أو عالمهم، إذا رأى ببعض أتباعه ضررًا، أن يسأله عنه، وأن يرشده إلى المخرج منه إن كان عنده مخرج. وفيه دليل: على أن تحريم الحلق من غير ضرر للمحرم. وفيه دليل: على الله إذا حلق لغير ضررٍ، أنَّه يلزمه الفدية من باب التنبيه؛ لأنَّه إذا وجبت في الضَّرر بالخروج منه، فلأنْ يجب في التَّرفُّه به من طريق الأولى، لكنه في إزالة الضَّرر يجب الفدية، ولا يكون إثمًا، وفي التَّرفُّه به يجب، ويكون إثمًا، والله أعلم. * * *

باب حرمة مكة

باب حُرمة مكَّة الحديث الأول عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو الخُزَاعِيِّ العدويِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعيدِ بْنِ العاصِ، وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إلى مَكَّةَ: ائذَنْ لي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قولًا قَامَ بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِه، أنَّهُ حَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها الله، ولم يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقولوا: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ؛ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ"، فَقِيلَ لأَبي شُرَيْحٍ: مَا قيل لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُريَحْ! إِنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبةٍ" (¬1). الخربة -بالخاء المعجمة، والرَّاء المهملة- قيل: الخيانة، وقيل: البليَّة، وقيل: التُّهمة، وأصلها في سرقة الإبل، قال الشَّاعر (¬2): وَالخَارِبُ اللِّصُ يُحبُّ الخَارِبَا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة ... (¬2) انظر: "الكامل" للمبرد (2/ 937)، و "غريب الحديث" للخطابي (2/ 266).

أَمَّا أَبوُ شُرَيْح، فهو -بضمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون الياء، وبالحاء المهملة- خويلد، -مصغَّر خالد- بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، وقيل: هانئ بن عمرو، ويقال: عبد الرَّحمن بن عمرو بن صخر بن عبد العزَّى بن معاوية بن المحترمْنَ عمرو بن رَمَان بن عديّ بن عمرو بن ربيعة، أسلم قبل فتح مكَّة، وكان يحمل أحد ألوية بني كعب من خزاعة الثلاثة يوم فتح مكَّة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون حديثًا، اتَّفق له البخاريُّ ومسلم على حديثين، وانفرد البخاريُّ بحديثٍ. روى عنه: نافع بن جبير بن مطعم، وسعيد بن أبي سعيدٍ المقبري، وروى له أصحاب السُّنن والمساند، مات بالمدينة سنة ثمانٍ وستِّين (¬1). وأمَّا الخُزَاعيُّ: فبضمِّ الخاء المعحمة، وفتح الزَّاي، ثمَّ الألف، ثمَّ العين المهملة، ثمَّ ياء النَّسب، نسبةً إلى خُزَاعة. والعَدَويُّ: بفتح العين والدَّال المهملتين، ثمَّ الواو، ثمَّ ياء النَّسب، نسبةً إلى عديّ خزاعة، وهي نسبةٌ إلى قبائل خمسة أحدها هذه. ويقال له: الكعبي، نسبة إلى كعب خُزَاعَةَ، وهي نسبة إلى قبائلَ أربعةٍ، أحدها هذه. وأمَّا عَمْرُو بنُ سَعيد بنِ العَاص: فكنيته، أبو أميَّة الأموي، قيل: له رواية، ولم يثبت، واسم أبي جده: العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، وهو المعروف بالأشدق؛ لُقِّب به لأنَّه كان عظيم الشدقين، وقيل: لقَّبه به معاوية؛ لكلامٍ جرى بينه وبينه، وهو مشهور. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 295)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 224)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 398)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 110)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1688)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 160)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و "تهذيب الكمال" للمزي (33/ 400)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 204)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 138).

وأبوه سعيد صحابي، كنيته أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرَّحمن. سمع عمرو هذا أباه، وروى عنه شبابة بن عاصم، روى له التِّرمذيِّ حديثًا من رواية عامر وأيُّوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص. وقال عقبة: حديثه غريبٌ، لا نعرفه إلَّا من حديث عامر، وأيُّوب بن موسى، رواه عن أبيه عن جدّه قال: وهذا عندي مرسل، قال غير واحد من المؤرِّخين: قتله عبد الملك بن مروان بيده، والله أعلم (¬1). وأمَّا ألفاظه: فقوله: "وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثُ": هي جمع بعث بمعنى المبعوث، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، والمراد بالبعوث: القوم المرسلون للقتال، ونحوه. وقوله: "إلى مكَّة" اعلم أنَّ مكَّة وبكَّة -بالميم والباء-، لغتان عند جماعة العرب، والعرب تعاقب بين الميم والباء، فتقول: سبد رأسه، وسمد. واختلف في معناهما، فقيل: بكَّة: [موضع البيت، ومكة: اسم البلد. حكاهما المارودي عن النخعي وغيره] (¬2)، وقيل: بكَّة: موضع البيت والمطاف، ومكة: البلد كلُّه. وقيل: بكَّة: المسجد خاصَّةً، ومكة: الحرم كلُّه، حكاه أيضًا عن زيد بن أسلم والزّهري. فحينئذ مكَّة أعم من بكَّة؛ لكونها اسمًا للحرم كلِّه، أو للبلد كلِّه، وبكَّة إمَّا للبيت فقط، أو مع المطاف، وإمَّا لجميع المسجد. وسمِّيت مكَّة؛ لقلَّة مائها، من قول العرب: مكَّ الفَصيلُ ضرعَ أمِّه، وامتكَّه: إذا امتصَّ جميع ما فيه من اللَّبن، وقيل: لأنَّها تمكّ الذنوب؛ أي: تذهب بها. وسميت بكَّة؛ لازدحام النَّاس بها، يبكُّ بعضهم بعضًا؛ أي: يدفع في زحمة ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 388)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 236)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 294)، و "تهذيب التهذيب" له -أيضًا- (8/ 33). (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ح".

الطَّواف، وقال اللَّيث: لأنَّها تبكُّ أعناقَ الجبابرة؛ أي تدقُّها، والبكُّ: الدَّقُّ. ويقال لمكَّة -أيضًا-: أمُّ القرى، والبلد الأمين، وأمّ رُحْم، بضم الرَّاء وسكون الحاء المهملة؛ لأن الرحمة تنزل بها، وصَلاحِ -بفتح الصاد وكسر الحاء مبني على الكسر كقطام-، ونظائرها، والباسَّة -بالباء-؛ لأنَّها تبسُّ الظالم؛ أي: تحطِّمه، والناسّة -بالنون-، والنساسة؛ لأنها تنس الملحد فيها؛ أي: تطرده. وقيل: لقلَّة مائها، وهو اليبس؛ حكاه الجوهريُّ عن الأصمعي، والحاطِمة، والرَّأس، وكُوثَى -بضمِّ الكاف وبفتح المثلّثة-، والعرش، والقادسةُ، والمقدَّسة، فهذه ستة عشر اسمًا (¬1). وكثرة الأسماء؛ لشرف المسمَّى، ولهذا كثرت أسماء الله -عزَّ وجلَّ- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهي أفضل البقاع، عند الشَّافعيِّ والجمهور، وقال مالك وطائفة: المدينة أفضل، وقال القاضي عِيَاض - رحمه الله -: الخلاف إنَّما هو فيما عدا مدفن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمَّا مدفنه، فهو أفضل بقاع الأرض مطلقًا، ونقل الإجماعَ عليه، والله أعلم (¬2). قوله: "ائْذَنْ لي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ": إنما استأذنه في تحديثه؛ ليكون أدعى إلى قبول حديثه، وتحصيل الغرض منه؛ فإنَّ الغَلَط عليه قد يكون سببًا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه. وقوله: "أُحَدِّثكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي" إنَّما قال ذلك تخفيفًا لما يريد أن يخبره به. وقوله: "سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ" نفيٌ لتوهُّم أن يكون رواه عن غيره. وقوله: "وَوَعَاهُ قلبي" تحقيق لفهمه، والتَّثبّت في تعقل معناه. ¬

_ (¬1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (ص: 280)، وما بعدها، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 114)، و "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 133 - 134). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 163).

وقوله: "وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنَّهُ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنىَ عَلَيْهِ" زيادة في تحقيق السَّماع منه والفهم عنه بالقرب والرؤية، وأن سماعه منه ليس هو اعتمادًا على الصوت دون حجاب، بل على الرؤية والمشاهدة، وأنَّه بدأ بما ينبغي أن يبدأ به في الكلام وغيره. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ حرَّمَ مَكَّةَ، وَلَمْ يُحَرِّمها النَّاسُ" معناه: تفهيم المخاطبين تعظيم قدر مكَّة، بتحريم الله تعالى إيَّاها، ونفي ما تعتقده الجاهلية، وغيرهم؛ من أنَّهم يحرِّموا أو يحللوا، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا؛ لأنَّه من آمن بالله، لزمه طاعته، ومن آمن باليوم الآخر، لزمه القيام بما وجب عليه، واجتناب ما نُهي عنه مخلصًا خوف الحساب عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا" يسفك -بكسر الفاء، وحكي ضمّها- ومعناه: يسيله. "وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً"، والعَضْد: القطع، يقال: عَضَد بفتح الضَّاد، يعضِد بكسرها، وهذا الخطاب عند علماء البيان، من باب خطاب التَّهييج، ومقتضاه: أن استحلالُ هذا المنهيِّ عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر، بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، ولو قيل: لم يحل لأحد مطلقًا، لم يحصل فيه هذا الغرض. ومن خطاب التَّهييج قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وغير ذلك مما يناسبه من الآيات. وقد توهَّم بعض أصحاب الأصول: أنَّ هذا الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلّ" إلى آخره، يدل على نفي الكفَّار، وأنَّهم ليسوا مخاطبين بفروع الشَّرع، والصَّحيح عند الأصوليين أنَّهم مخاطبون. والجواب عن هذا التَّوهم: أنَّ ذكر وصف الإيمان بالله واليوم الآخر للشَّخص، هو المحصّل للإيمان له، والمؤمن هو الَّذي ينقاد لأحكام الشَّرع،

وينزجر عن محرَّماته، ويستثمر الأحكام منه، فجعل الكلام فيه، لا أنَّ غيره من الكفَّار ليس مخاطبًا بالفروع، كيف وخطابه بهذه الكيفيَّة؛ إنَّما هو للتَّهييج إلى عدم استحلال المحرَّم وتحريم المحلل، واستقباح ذلك من المؤمن، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بقتالِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -" إلى آخره يقتضي هو وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ" (¬1) وجودَ قتال منه - صلى الله عليه وسلم -، وأن مكَّة فتحت عنوةً، وهو مذهب أبي حنيفة، والكثيرين، أو الأكثرين. وقال الشافعي - رحمه الله -، وغيره: فتحت صلحًا، وتأولوا الحديث على أن القتال كان جائزًا له - صلى الله عليه وسلم - فيها لو احتاج إليه، لكنه ما احتاج إليه، ولو احتاج إليه، لفعله، وضعَّف ذلك، واستبعده جماعة بما ذكرنا أوَّلًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ": كل من حضر شيئًا، وعاينه، فقد شهده، وقيل له: شاهد. والغائب: من غاب عنه. وهذا اللَّفظ جاءت به أحاديث كثيرة، وقد أمر الله -عزَّ وجلَّ- نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في كتابه بالتَّبليغ، وحثَّ عليه في غير آيةٍ؛ من النَّصيحة لله ورسوله، وإقامة الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وفي قوله -عزَّ وجلَّ-: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التَّوبة: 9]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النَّساء: 64]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 66]، ومن جملة ذلك كلِّه البلاغ، والله تعالى أعلم. وقولُ عمرٍو لأبي شريحٍ: "أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ" إلى آخره: هو كلامه، ولم يسنده إلى رواية. وقوله: "لا يعيذ عاصيًا"؛ أي: لا يعصمه. وقوله: "وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ"، الخَرْبَةُ -بفتح الخاء المعجمة وسكون الرَّاء، ويقال بضمِّ الخاء- وأصلها: سرقة الإبل؛ كما قال المصّنف، وقد فسَّرها بالبليَّة والتُّهمة على وجهين: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الأوَّل: في "صحيح البخاري": ويطلق على كل خيانةٍ، سواء كانت في الإبل أو غيرها. وقال الخليل: هي بالضم: الفساد في الدِّين، من الخارب؛ وهو اللِّص المفسد في الأرض، وقيل: هي العيب، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام كثيرة: منها: حسن الأدب في مخاطبة الكبار، لا سيَّما الملوك والأمراء، لا سيما فيما يخالف مقصودهم. ومنها: التنبيه على قبول علم الإنسان بحفظه ووعيه ومعاينته ممَّن أخذه منه؛ ليكون أدعى إلى قبوله والتَّمسك به محقَّقًا. ومنها: أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي امتثال أمر الله تعالى، واجتناب نهيه، وخوف الحساب على ذلك، ورجاء الثَّواب عليه. ومنها: أنَّ الرُّجوع في كلِّ حالة دنيوية وأخروية إلى الشَّرع، وأنَّ ذلك لا يعرف إلَّا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانه وتقريره. ومنها: النَّصيحة لولاة الأمور ومناصحتهم، وعدم الغش لهم، والإغلاظ عليهم. ومنها: الخطبة للأمور المهمة والأحكام العامَّة. ومنها: وجوب حمد الله تعالى والثَّناء عليه في الخطبة. ومنها: عظم قدر مكَّة. [ومنها: أنَّ التَّحريم والتَّحليل إنَّما هو من عند الله تعالى، وأنَّ النَّاس ليس لهم فيه مدخل] (¬1). ومنها: تحريم مكَّة، واختلف العلماء في ابتداء تحريمها، فقال الأكثرون: لم تزل محرَّمة من يوم خلق الله السموات والأرض. وقيل: ما زالت حلالًا إلى زمن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كغيرها، ثمَّ ثبت لها التَّحريم من ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح".

زمن إبراهيم، واستدلَّ للقول الأوَّل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هذا البلدَ حرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ" (¬1)، واستدلَّ للقول الثَّاني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن إبراهيمَ حرَّمَ مكَّة" (¬2). وأجاب الأكثرون عن هذا الثَّاني: بأنَّ تحريمها كان ثابتًا يوم خلق الله السموات والأرض، ثمَّ خفي تحريمها، ثم أظهره إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وأشاعه؛ لا أنه ابتدأه. وأجاب من قال بالقول الثَّاني عن الأوَّل: بأنَّ معناه: أنَّ الله تعالى كتب في اللَّوح المحفوظ أو غيره يوم خلق الله السموات والأرض: أنَّ إبراهيم سيحرّم مكَّة بأمر الله تعالى، والله أعلم. ومنها: ما أكرم الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من تحليل القتال له بمكة ساعةً من نهار، وأنَّه استمرَّ تحريمها إلى يوم القيامة. ومنها: تحريم القتال بمكة. قال أبو الحسن الماورديُّ، صاحب كتاب "الحاوي" في كتابه "الأحكام السُّلطانية" (¬3): من خصائص حرم مكَّة: أن لا يحارب أهله، فلو بغى أهله على أهل العدل، فإن أمكن ردُّهم عن البغي بغير قتالٍ، لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردُّهم عن البغي إلَّا بالقتال، فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون؛ لأنَّ قتال البغاة من حقوق الله -عزَّ وجلَّ- الَّتي لا يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها، وهذا هو الصَّواب الَّذي نصَّ عليه الشَّافعيُّ في "الأمِّ"، في: اختلاف الحديث، منه، وفي "سير الواقديِّ" منه. وقال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم، ويضيَّق عليهم حتَّى يرجعوا إلى الطَّاعة، ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) رواه البخاري (2022)، كتاب: البيوع، باب: بركة صاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1360)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن عبد الله بن زيد بن عاصم - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260).

ويدخلوا في أحكام أهل العدل، قال القفَّال: في "شرح التلخيص" في أول كتاب: النكاح، في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكة، قال: حتَّى لو تحصَّن جماعة من الكفَّار بمكَّة، لم يجز، فإنَّه يحرم بها قتالهم فيها. وهذا غلط ينبغي أن يعرف، ولا يغترَّ به (¬1). وأجاب الشَّافعيُّ - رحمه الله - في "سير الواقدي" عن الأحاديث بأنَّ معناها: تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعمُّ؛؛ كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصَّن الكفَّار ببلدٍ آخر، فإنَّه يجوز قتالهم على كل وجه، وبكلِّ شيءٍ، والله أعلم. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي - رحمه الله - (¬2): وأقول: هذا التَّأويل على خلاف الظَّاهر القويِّ، الَّذي دلَّ عليه عموم النكرة في سياق النَّفي، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا يحلُّ لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دمًا"، وأيضًا فإن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بيَّن خصوصيَّة إحلالها له ساعة من نهار بأن قال: "فَإنْ أَحَدٌ ترخَّصَ بقتالِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقولوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرسُولِهِ وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ"، فأبان بهذا اللَّفظ أن المأذون للرَّسول فيه لم يؤذن فيه لغيره، والذي أذن للرَّسول - عليه السلام - فيه إنما هو مطلق القتال، ولم يكن قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم؛ كما حمل عليه الحديث في هذا التَّأويل. و -أيضًا- فالحديث وسياقه يدلُّ على أنَّ هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها، وسفك الدَّم، وذلك لا يختصُّ بما يستأصل، وأيضًا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث، فلو أنَّ قائلًا أبدى معنى آخر، وخصَّ به الحديث، لم يكن بأولى من هذا. هذا آخر كلامه، والله أعلم. ومنها: أنَّ الملتجئ إلى الحرم، إذا وجب عليه قتل، لا يقتل به، وبه قال ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 125). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 25 - 26).

أبو حنيفة وأحمد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا"، وهذا عام، تدخل فيه صور النِّزاع، قال أبو حنيفة: بل يُلجأ إلى أن يخرج من الحرم، فيُقتل خارجه، وذلك بالتَّضييق عليه. ومنها: تحريم قطع شجر الحرم، واتَّفق العلماء عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة، سواء كان له شوك يؤذي، أم لا، وسواء الكلأ، وغيره، وقال جمهور أصحاب الشَّافعيِّ: لا يحرم قطع الشَّوك؛ لأنَّه مؤذ، فأشبه الفواسق الخمس، ويخصون الحديث بالقياس، واختار المتولِّي من الشَّافعية التحريم مطلقًا، وهو الصَّحيح. وأمَّا ما يستنبته الآدميون، ففيه خلاف للفقهاء، فلو قطع ما يحرم قطعه، هل يضمنه؟ قال مالك: يأثم، ولا فدية عليه، وقال الشَّافعيُّ، وأبو حنيفة: عليه الفدية، واختلفا فيها، فقال الشَّافعيُّ: في الشَّجرة الكبيرة بقرة، وفي الصَّغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس، وابن الزُّبير، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع: القيمة، قال الشَّافعيُّ: ويضمن الخلا بالقيمة. ويجوز عند الشَّافعيِّ ومن وافقه رعيُ البهائم في كلأ الحرم، وقال أبو حنيفة، وأحمد، ومحمَّد: لا يجوز، والله أعلم. ومنها: أنَّ مكَّة فتحت عنوةً؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ"، وقال الشَّافعيُّ وغيره: فتحت صلحًا، وتقدَّم ذلك وتأويله. ومنها: التَّصريح بوجوب نقل العلم وإشاعته، خصوصًا الأحكام والسُّنن، وهذا مجمع عليه. ومنها: أنَّ الاعتصام إنَّما هو بالشَّرع واتباعه، وأنَّ الأماكن الشريفة ونحوها من الأنساب والخلفاء لا يمنع من حقٍّ أوجبه الله -عزَّ وجلَّ-، ولا يعيذ من حدوده وعقابه. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثَّاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَومِ القِيامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَها، وَلَا يُخْتَلَى خَلاَهُ"، فَقَالَ العبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِلَّا الإِذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِقَيْنهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فقال: "إلَّا الإِذْخِرَ" (¬1). القين: الحداد. فُتحت مكَّة سنة ثمان من الهجرة، في رمضان في اليوم العشرين منه، وهو يوم الفتح. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا هِجْرَةَ": هو نفيٌ لوجوب الهجرة من مكَّة إلى المدينة؛ فإنَّ الهجرة واجبةٌ من دار الكفر إلى بلاد الإسلام، وقد صارت مكَّة دار إسلام بالفتح، وإن لم يكن النفي من هذه الجهة، فيكون حكمًا ورد لرفع وجوب هجرةٍ أخرى، بغير هذا السَّبب، ولا شكَّ أنَّ الهجرة اليوم واجبة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، لمن قدر على ذلك. وقد ورود أنَّ الهجرة وردت على خمسة أقسام، في الكلام على حديث الأعمال بالنِّيَّات، أوَّل الكتاب، وفي ضمن هذا الحديث، الإخبار بأنَّ مكَّة تصير دار إسلام أبدًا، والله أعلم. وقيل: معناه: لا هجرة بعد الفتح، فضلُها بعده كفضلها قبله؛ كما قال -عزَّ وجلَّ-: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] الآية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3017)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَكِن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"؛ أي: جهاد مع نيَّة خالصة؛ إذ العمل مع غير النيَّة الخالصة لا يعتد به، ولا يكون صحيحًا، ويحتمل أن يكون معناه: ولكن جهادٌ بالعمل لمن قدر عليه، أو نيَّة لمن لم يقدر عليه، بمعنى: لو قدر لفعل؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ماتَ ولم يجاهدْ، ولم يحدِّثْ نفسَه بالجهاد، ماتَ على شعبة من النِّفاق" (¬1). ويحتمل أن يكون معناه: ولكن جهاد خاصٌّ، أو مطلق، ونيَّة مطلقة في كلِّ نوع من الخير، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، معناه: إذا دعاكم وليُّ الأمر، أو مَنْ يقوم مقامه من نائب وغيره، إلى الغزو، فاذهبوا فيما دعاكم إليه، فإن كان الغزو فرض عينٍ، وجبَ الذَّهاب إليه عامًا، وإن كان فرضَ كفايةٍ، وجب على من يقوم به من المسلمين، ويتعيَّن على من دُعي إليه بأمر الإمام أو نائبه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ"، تقدَّم الكلام عليه في أحكام الحديث قبله، والجمع بين اختلاف ظواهر الأحاديث فيه بمعنى التَّحريم في اللَّوح المحفوظ، وإظهار إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - له للنَّاس في زمنه، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لأَحَدٍ"، معناه: تحريم القتال فيه، وأنَّ تحريم القتال فيه ثابت لا ينسخ، وتقدَّم الكلام على ذلك في الحديث قبله، وكذلك على قوله: "لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ"، وأنَّ الشوك هل يحرم قطعه نفسه، أو يباح لكونه مؤذيًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ"؛ معنى لا ينفر: لا يُزعج من مكانه. ونبَّه - صلى الله عليه وسلم - بالنَّهي عن الإزعاج من مكانه وتنحيته عنه، على الإتلاف، وسائر أنواع الأذى؛ تنبيهًا بالأدنى على الأعلى؛ فإنَّه إذا حرم الإزعاج والتَّنحيةُ، فغيره أولى. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1910)، كتاب: الإمارة، باب: ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا": اللُّقطة؛ الشيء الملقوط، وهو بفتح القاف على المشهور الَّذي سُمع من العرب، أجمع عليه أهل اللُّغة، ويقال: بإسكانها، نقله الأزهريّ عن الخليل، وقاله الأصمعيُّ، والفرَّاء، وابنُ الأعرابي. ويقال لها: لُقاطة، بضم اللَّام، ولَقَط: بفتحها وفتح القاف بلا هاء، نقلهما شيخنا العلَّامة أبو عبد الله بن مالك الجياني، ونظم اللغات الأربع في بيت (¬1): لُقَاطَةٌ، ولُقْطَةٌ، ولُقَطَهْ ... ولَقَطٌ ما لاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ ومعنى الحديث: لا تحلُّ لقطة حرم مكَّة إلا لمن يريد أن يعرِّفها أبدًا من غير توقيتٍ بسنةٍ، ثمَّ يملكها كغيرها من البلاد. وقد ثبت في "صحيح مسلم" وغيره: "لَا تَحِلُّ لقطتها إلا لمنشد" (¬2)؛ وهو المعرِّف مطلقًا. وأمَّا ناشدها: فهو طالبها. وأصل النَّشيد والإنشاد: رفع الصوت. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يُخْتَلَى خَلاَه": الخلا: بفتح الخاء المعجمة مقصور، وهو الرَّطب من الكلأ. قال أهل اللُّغة: الخلا والعشب: اسم للرَّطب منه، والحشيش والهشيم: اسم لليابس منه. والكلأ، مهموز مقصور، يقع على الرَّطب واليابس، قال ابن مكِّي، وغيره من أهل اللُّغة: مما يلحن العوام فيه، إطلاقهم الحشيش على الرَّطب، وهو مختص باليابس. ومعنى اختلائه: قطعه. فالخلا يحرم قطعه وقلعه، والحشيش يحرم قلعه ولا يحرم قطعه، والله أعلم (¬3). وقوله: "فقال العباسُ: يا رسول الله! إلَّا الإِذْخِرَ" العبَّاسُ: هو عمُّ ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 235)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 282). (¬2) رواه مسلم (1355)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة، عن أبي هريرة بلفظ: "ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد". وقد رواه البخاري (2301)، كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة؟ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "ولا تحل لقطتها إلا لمنشد". (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 125)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 147).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقدَّم ذكره. والإِذْخِرُ -بكسر الهمزة والخاء المعجمة-: نبتٌ معروفٌ، طيب الرَّائحة. قوله: "فإنَّه لِقَيْنهِمْ وبُيوتهم": القينُ: الحداد، كما ذكره المصنّف، وإنَّما ذكر القين؛ لأنَّه يحتاج إليه في عمل النَّار، وفي معناه الصائغ، وقد ورد ذكره في بعض الأحاديث، والبيوت: لما يحتاج إليه من التسقيف فوق الخشب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا الإِذْخِرَ" إجابته - صلى الله عليه وسلم - للعبَّاس على الفور، يحتمل أنَّه أجابه باجتهادٍ منه - صلى الله عليه وسلم -، أو بتفويض الحكم إليه من الله -عزَّ وجلَّ-، وهو قول بعض أهل الأصول. ومَنْ منعَ ذلك منهم قال: يجوز أن تكون إجابته بوحي من الله تعالى في الحال، أنَّه يستثنى تحريمه من الخلا في زمن يسيرٍ؛ فإنَّ الوحي إلقاء في الرُّوع بواسطة ملك، أو إلهام، وقد تظهر أماراته، وقد لا تظهر، فالذي بواسطة الملك، خاصٌّ بالأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-. والذي بالإلهام يقع للأولياء -رحمة الله عليهم- في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ من أمَّتي ملهمين، وإنَّكَ منهم يا عُمر" (¬1). وفي هذا الحديث أحكام: منها: رفع وجوب الهجرة عن الصَّحابة وغيرهم -رضي الله عنهم- من مكَّة إلى المدينة بعد فتح مكَّة. ومنها: أنَّ حكم الهجرة من بلاد الكفر إلى دار الإسلام، بالوجوب أو النَّدب، باقٍ إلى يوم القيامة. ومنها: أنَّ الجهاد بقصد الإخلاص لله -عزَّ وجلَّ- والطَّاعة له مطلوبان إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3282)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (2398)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر - رضي الله عنه - عن عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم" قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون.

ومنها: وجوب النَّفير مع كلِّ إمام، برٍّ وفاجر. ومنها: تحريم مكَّة، وحرمتها بتحريم الله تعالى إلى يوم القيامة. ومنها: تحريم القتال فيها. ومنها: أنَّ التَّحليل والتَّحريم لا يعلمان إلَّا بالشرع. ومنها: تحريم قطع شجر الحرم، وتقدَّم الكلام عليه في الحديث قبله. ومنها: تحريم تنفير صيده، وتنحيته من موضعه، فإن نفَّره، عصى، سواء تلف أم لا، لكن إن تلف في نفاره قبل سكونه منه، ضمنه المنفِّر، وإلا، فلا ضمان. ومنها: تحريم لقطته إِلَّا بقصد التَّعريف دائمًا، وعدم تملُّكها، وبه قال الشَّافعيُّ، وعبد الرَّحمن بن مهدي، وأبو عبيد، وغيرهم. وقال مالك: يجوز تملُّكها بعد تعريفها سنةً، كما في سائر البلاد، وبه قال بعض أصحاب الشَّافعيِّ. وتأويلات الحديث ضعيفة لا يستوي ذكرها. ومنها: تحريم قطع الرَّطب من الخلا وقلعه منها. ومنها: أن الإذخر من الخلا. ومنها: جواز تخصيص العامِّ. ومنها: جواز تعليل الحكم من السَّائل ليقع الجواب على تقدير الحكم والعلَّة. ومنها: الجواب على الفور، إذا كان عالمًا به، من غير تأن، خصوصًا إذا اقتضته المصلحة. ومنها: مراعاة المصالح العامَّة والتَّنبيه عليها من الأئمة والكبار. ومنها: المبادرة إليها، خصوصًا في المجامع والمشاهد وابتداء الأمر. ومنها: أن تحريم الله -عزَّ وجلَّ- وتحليله يطلقان بمعنى ما في اللَّوح المحفوظ، وبمعنى الظُّهرر، وأن الإطلاق جائز لمن علمه، والله أعلم. * * *

باب ما يجوز قتله

باب ما يجوز قتله عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، والفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ" (¬1). ولمسلم: "يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ" (¬2). اعلم: أنَّ مسلمًا - رحمه الله - زاد في بعض روايات هذا الحديث: الحيَّة، ولم يذكر العقرب، وذكر في بعضها: العقرب بدل الحيَّة، فيصير المنصوص عليه منها ستًّا. ووصفت بالفسق؛ [لخروجها جميعًا بالإيذاء والفساد عن طريق معظم الدَّواب] (¬3)، وقيل: لخروجها عن حكم سائر الحيوان في تحريم قتله في الحرم والإحرام بجوازه، وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج، وسُمِّي الرَّجل الفاسق فاسقًا؛ لخروجه عن أمر الله -عزَّ وجلَّ- وطاعته، وأكَّد فسقهنَّ بكلٍّ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1732)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم (1198)، (2/ 857)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم. (¬2) رواه مسلم (1198)، (2/ 856)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، بلفظ: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ... ". (¬3) ما بين معكوفين ليس في "ح 2".

ووصفهنَّ به تنبيهًا على إيذائهنَّ، وعدم حرمتهنَّ، وإباحة قتلهنَّ في مواضع تحريم قتل غيرهنَّ من الدَّواب. والمراد بالحرم؛ ما أطاف بمكة -شرَّفها الله تعالى-، وأحاط بها من جوانبها، جعل الله -عزَّ وجلَّ- له حكمها في الحرمة تشريفًا لها، وهو محدود معروف عليه علامات من جوانبه كلّها، ومنصوب عليه أنصاب. وذكر الأزرقيُّ في "تاريخ مكَّة" (¬1)، بأسانيده، وغيرُه: أنَّ إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - عملها، وجبريل - صلى الله عليه وسلم - يريه مواضعها، ثمَّ أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتحديدها، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ معاوية -رضي الله عنهم-، وهي إلى الآن بيته، ولله الحمد. والمراد بالحلِّ: ما عدا ذلك، وقد ثبت في إباحة قتلهنَّ في الإحرام أيضًا رواية في "صحيح مسلم"، والله أعلم. وقوله في رواية مسلم: "يُقْتَلُ خَمْسُ فَوَاسِقَ"، هو بإضافة خمس، لا بتنوينه، وقد روى مسلم أيضًا: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ"، ففي خمس هنا وجهان: أحدهما، وهو المشهور: تنوينه، وفواسقُ صفة له، والثَّاني: إضافته إلى فواسقَ من غير تنوين. والرواية الأولى في الكتاب تدلُّ للمشهور من رواية التَّنوين، من غير إضافة إلى فواسق؛ فإنه أخبر عن خمس بقوله: كلُّهن فواسقُ، وذلك يقتضي أن ينون خمس، وينوَّن فواسق أيضًا، وبين التَّنوين والإضافة في هذا فرقٌ دقيقٌ، وهو: أنَّ التَّنوين يقتضي مداخلة الفسق لهنَّ، فيصير كأنَّه جملتهنَّ، بخلاف الإضافة؛ فإنَّها قد تقتضي ذلك، وقد لا تقتضيه. وقد مثَّلوا ذلك في قولهم: رجلٌ عدلٌ وصومٌ، بالتَّنوين والإضافة. وقالوا: التَّنوين أبلغ، والله أعلم. وَأمَّا الغُرَابُ: فهو مفرد، وله جموع، نظمها شيخنا أبو عبد الله بن مالك الجياني -رحمة الله عليه- في بيتٍ: ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ مكة" للأزرقي (ص: 128) وما بعدها.

بالغُرُبِ اجمعْ غُرَابًا ثمَّ أَغْرِبَةٌ ... وأَغْرُب وغَرَابِينَ وغِرْبان (¬1) وفي "صحيح مسلم": "الغُرَابُ الأَبْقَعُ"، وهو الذي في ظهره وبطنه بياض. وأمَّا العقرب: فهي مؤنَّثة. ويقال -أيضًا-: عقربة، وعقرباء، وللذَّكر عُقرُبان، بضمِّ العين والرَّاء. وأمَّا الحِدَأَة: فهي بكسر الحاء المهملة، مقصورة، وبالهاء، وجمعها حِدَأ، كذلك، بغير هاء كعِنَبة وعنب. وفي رواية في مسلم: "الحُدَيَّا" (¬2) بضمِّ الحاء، مقصور مشدد الياء. وأمَّا الفَأْرَةُ: فهي مهموزة، ويجوز تسهيلها، معروفة. وأَمَّا الكَلْبُ العَقُورُ: فالمراد به هذا المعروف، وحمله زفر على الذِّئب وحده، وعدَّاه الجمهور إلى كلِّ عادٍ مفترس غالبًا، ومعنى العقور: العاقر الخارج. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز قتل هذه المذكورات السِّت، في الحلِّ والحرم والإحرام، واتَّفق على ذلك جماهير العلماء. ونقل عن مجاهدٍ: أنَّه لا يقتل الغراب، ولكن يرمى، وروي عن عليٍّ، وليس بصحيح. واختلف العلماء في معنى جواز قتلهنَّ، مع اتِّفاقهم على أنَّه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهنَّ، فقال الشَّافعيُّ: المعنى فيه كونهنَّ غير مأكولاتٍ؛ فكلُّ ما لا يؤكل، ولا هو متولد من مأكول وغيره، فقتلُه جائز للمحرم، ولا فدية عليه. وقال مالك: المعنى فيهنَّ: كونهنَّ مؤذيات، فكلُّ مؤذٍ يجوز للمحرم قتله، ¬

_ (¬1) وانظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 170). (¬2) رواه البخاري (3136)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، ومسلم (1198)، (6/ 852).

وما لا، فلا، ومقتضى المذهبين المذكورين: التَّعدية عن المذكورات، وفي كتب الحنفية الاقتصارُ عليهن وعدمُ التَّعدية. ونُقل عن غير واحدٍ من المخالفين لأبي حنيفة عنه: أنَّه ألحق الذِّئب بها، وعدُّوا ذلك من مناقضاته. قال شيخنا القاضي أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله - (¬1): وهذا عندي فيه نظر؛ فإنَّ جواز القتل غير جواز الاصطياد، وإنَّما يرى الشَّافعيُّ جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل بغير المأكول. وأمَّا جواز الإقدام على قتل كلِّ ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر، فغير هذا، ومقتضى مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - الَّذي حكيناه: أنَّه لا يجوز اصطياد الأسد والنَّمر وما في معناهما من بقية السِّباع العادية. وأصحاب الشَّافعيِّ يردُّون هذا؛ بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس، وهو الأذى الطَّبيعي، والعدوان المركَّب في هذه الحيوانات. وإذا ظهر المعنى في المنصوص عليه، عدَّاه القائسون إلى كلِّ ما وجد منه المعنى في ذلك الحكم كما في الأشياء السِّتَّة الَّتي في باب الرِّبا. وقد وافق أبو حنيفة في التَّعدية فيها، وإن اختلف هو والشَّافعيُّ في المعنى الَّذي يعدَّى به، قال: وأقول: المذكور ثَمَّ هو تعليق الحكم بالألقاب، وهو لا يقتضي مفهومًا عند الجمهور. فالتَّعدية لا تنافي مقتضى اللَّفظ، والمذكور هنا مفهوم عدد، وقد قال به جماعةٌ، فيكون اللَّفظ مقتضيًا للتَّخصيص، وإلَّا بطلت فائدة التَّخصيص بالعدد، وعلى هذا عوَّل مصنِّفو الحنفيَّة في التَّخصيص بالخمس المذكورات -أعني: مفهوم العدد-، وذكر غير ذلك مع هذا -أيضًا-. واعلم: أنَّ التّعدية بمعنى الأذى في كلِّ مؤذٍ قويٌّ، بالإضافة إلى تصرف القائسين؛ فإنَّه ظاهر من جهة الإيماء بالتَّعليل بالفسق؛ وهو الخروج عن الحدِّ. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 33 - 35).

وأمَّا التَّعليل بجهة الأكل: ففيه إبطال ما دلَّ عليه إيماء النَّص من التَّعليل بالفسق؛ لأنَّ مقتضى العلَّة أن يتقيَّد الحكم بها وجودًا وعدمًا. فإذا لم يتقيَّد، وثبت الحكم حيث يعدم؛ بطل تأثيرها بخصوصيَّتها في الحكم؛ حيث ثبت الحكم مع انتفائها، وذلك خلاف ما دلَّ عليه النَّص من التَّعليل بها. ومنها على مذهب من قال بالتَّعدية: جوازُ قتل كلِّ مشارك للمذكورات في الأذى، سواء كان المشارك يلسع أم لا؛ كالبرغوث، أم ينقب، أو يعرض بالأذى؛ كابن عرس، أو يخطف؛ كالصقر والبازي، أم عادٍ بطبعه؛ كالأسد والفهد والنَّمر. وتكون الدَّلالة على المذكورات من باب التَّنبيه على أنواع الأذى، وهو مختلف؛ فأذى الحيَّة والعقرب باللَّسع، والفأرة بالفساد، والغراب والحدأة بالاختطاف، والكلب العقور بالاعتداء بالطَّبع. والذي قاله بالتَّعدية إلى كل ما لا يؤكل، أحال التَّخصيص في ذكر المذكورات في الحديث، دون غيرها؛ للغلبة في الملابسة للنَّاس، والمخالطة في الدُّور؛ بحيث إنَّه يعم أذاها، وذلك كلُّه سببٌ للتَّخصيص، والتخصيص بالغلبة ليس له مفهوم على ما عرف في الأصول، إلَّا أنَّ خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضًا عليهم في تعديته الحكم إلى بقية السِّباع المؤذية، وتقريره: أنَّ إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق قياسًا، شرطُه مساواة الفرع للأصل، أو رجحانه، أمَّا إذا تعذر الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر، فلا إلحاق. ولمَّا كانت هذه الأشياء عامَّة الأذى، كما ذكرتم، ثمَّ أمكن أن يكون ذلك سببًا لإباحة قتلها؛ لعموم ضررها، وهذا المعنى معدوم فيما لا يعمُّ ضرره؛ ممَّا لا يخالط في المنازل، فلا تدعو الحاجة إلى إباحة قتلها، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات، فلا يلحق به، وأجاب الأولون عن هذا بوجهين: أحدهما: أنَّ الكلب العقور أذاه نادر، وقد أبيح قتله. والثَّاني: معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوَّة الضَّرر.

ألا ترى أنَّ تأثير الفأرة بالفساد مثلًا، والحدأة بالخطف، شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس، فكان إباحة القتل أولى، وهذا كلُّه يرجع إلى دلالة التَّنبيه، وهو بالأدنى على الأعلى جائزٌ اتِّفاقًا، وبالأعلى على الأدنى جوازه مرجوح، والله أعلم. قال أصحاب الشَّافعيِّ -رحمهم الله-: للمحرم تنحية القمل من بدنه وثيابه، ولا كراهة في ذلك، وله قتله، ولا شيء عليه، بل يستحبُّ للمحرم قتله، كما يستحبُّ لغيره. قالوا: ويكره للمحرم أن يفلِّي رأسه ولحيته، فإن فعل، فأخرج منها قملة وقتلها، تصدَّق، ولو بقملةٍ، نصَّ عليه الشَّافعيّ. واختلف الأصحاب في هذا التَّصدق على وجهين: أرجحهما: أنَّه مستحبٌّ. والثَّاني: واجب؛ لما فيه من إزالة الأذى عن الرَّأس واللحية، وكان هذا الوجه يحتجّ إلى منع التَّعدية، في جواز قتل ما سوى السِّت المذكورات في الحديث، ولعلَّ الشَّافعيّ إنَّما أمر بالتصدق استحبابًا، خروجًا من الخلاف، لا وجوبًا، والله أعلم. ومنها: جواز قتل الكلب العقور، واختلف العلماء في المراد به كما تقدَّم، جمهورُ العلماء على أنَّ المراد به: كلُّ عادٍ مفترسٍ، واستدلُوا على ذلك؛ بأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دعا على عتبةَ بنِ أبي لهب بأن يسلَّط عليه كلبٌ من كلابه (¬1)، افترسه سبع، فدل على تسميته بالكلب. ورجّح من قال: إنَّ المراد به الكلب الإنسي المتخذ بأنْ يسميه غيره به، خلاف العرف، وإذا نقل اللَّفظ من المعنى اللُّغوي إلى المعنى العرفيِّ، كان حمله عليه أولى، لكن هذا عند الإطلاق من غير نظرٍ إلى قرينةٍ تقوِّي أحدهما، أمَّا إذا عقلت القرينة، كان ما اقترنت به أولى، سواء اقترنت باللُّغوي أو العرفيِّ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 641) و (7/ 641 - 642).

ومنها: جواز قتل صغار هذه المذكورات؛ لعموم الحديث. وقد اختلف المالكيَّة في قتل صغار الغراب والحدأة على قولين: أشهرهما: القتل، فأمَّا من منع قتلها، فاعتبر الصِّفة التي علَّل القتل بها، وهي الفسق، على ما شهد به إبهام اللَّفظ، وهو معدوم في الصِّغار حقيقة، والحكم يزول بزوال علَّته؛ وكذلك عندهم في صغار الكلب قولان أيضًا، لكنَّ عدم القتل فيه أولى؛ لأنَّه أبيح قتله في حالة تتقيَّد الإباحة بها، وهي كونه عقورًا، وهي مفقودة في الصِّغر، غير معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء؛ بخلاف غيره من المذكورات؛ فإنَّه ينتهي بطبعه عند الكبر إلى الأذى قطعًا، وأمَّا صغار باقي المذكورات، فيقتل، وظاهر اللَّفظ والإطلاق يقتضيه. ومنها: جواز قتل من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه قتلٌ بقصاص، أو رجمٌ بالزِّنا، أو قتلٌ بالمحاربة، وغير ذلك، وأنَّه يجوز إقامة الحدود فيه، سواء كان موجب ذلك في الحرم أو خارجه، ثمَّ لجا إليه، وهو مذهب مالك والشَّافعيِّ وآخرين. وقال أبو حنيفة: ما ارتكبه من ذلك في الحرم، يقام عليه، وما فعله خارجه، ثمَّ لجأ إليه، إن كان إتلاف نفسٍ، لم يقم عليه في الحرم، بل يضيَّق عليه، ولا يكلَّم، ولا يجالس، ولا يبايَعُ، حتى يضطرَّ إلى الخروج منه خارجه، فيقام عليه. وما كان دون النَّفس، يقام فيه، وبه قال طائفة، وحجَّتهم: قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. وحجَّتنا عليهم: مشاركة فاعل هذه المذكورات في اسم الفسق، فيعمُّه، بل فسقه أفحش؛ لكونه مكلَّفًا، بخلاف المذكورات؛ فإنَّ فسقها طبيعيٌّ، ولا تكليف عليها، والمكلَّف المرتكب للفسق هاتكٌ حرمةَ نفسه، فهو أولى، ولأنَّ التَّضييق الَّذي ذكره لا يبقى لصاحبه أمان، فخالفوا ظاهر ما فسَّروا به الآية. قال القاضي عياض - رحمه الله -: ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسِّرين: أنَّه إخبار عما كان قبل الإسلام، وعطف على ما قبله من الآيات، وقيل: أمن

بالنار. وقالت طائفة: يُخرج منه، ويقام عليه الحدُّ مطلقًا، وهو قول ابن الزبير، والحسن، ومجاهد، وحماد، والله أعلم (¬1). ومنها: جواز قتل الفأرة، وحكي عن النَّخعيّ أنَّه لا يجوز للمحرم قتل الفأرة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 118).

باب دخول مكة وغيره

باب دخول مكَّة وغيره الحديث الأوَّل عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: ابنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، قَالَ: "اقتُلُوهُ" (¬1). ابنُ خَطَلٍ: اسمه: عبد العزَّى، وقيل: غالبُ بنُ عبد الله بنِ عبد منافِ بن أسعدَ بنِ جابرِ بنِ كثيرِ بنِ تيمِ بنِ غالبٍ، قاله ابن الكلبيِّ، وقال ابن إسحاق: اسمه عبد الله، وقيل: سعيد بن حُريث، وخَطَل: بخاءٍ معجمةٍ وطاء مهملةٍ مفتوحتين. وأمَّا المِغْفَرُ: فهو ما يلبسه الدَّارع على رأسه من الزَّرَدِ ونحوه، وقد رأيته، وهو شيء يشبه التحنك للنِّساء، يغطِّي الرأس وبعض الوجه والقفا، من الزَّرد، والله أعلم. وأَمَّا أَسْتَارُ الكَعْبَةِ: فهو ما يكساه من القباطي وغيرها. قال ابن جريح: كان أوَّلَ من كسا البيت كسوة كاملةً: تُبَّعٌ؛ فقد أُري في المنام أن يكسوها، فكساها الأنطاع، ثم أُري أن يكسوها الوصائل، وهي ثياب ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1749)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ومسلم (1357)، كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.

حِبَرَة من عصب اليمن (¬1)، ثمَّ كساها النَّاس بعده في الجاهلية، وكساها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ومعاوية وابن زياد الديباجَ. وكانت تُكسى يوم عاشوراء، ثمَّ كساها ابن الزبير ومعاوية في السَّنة مرَّتين، ثمَّ كان المأمون يكسوها ثلاث مرَّات، فيكسوها الدِّيباجَ الأحمرَ يوم التَّروية، وهو اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة، والقباطي يوم هلال رجب، والدِّيباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان. وهذا الأبيض، ابتدأه المأمون سنة ستٍّ ومئتين، حين قالوا له: الدِّيباج الأحمر يتخرق قبل الكسوة الثَّانية، فسأل عن أحسن ما تكون فيه الكعبة؟ فقيل: الدِّيباج الأبيض، ففعله، والله أعلم. وقد تقدَّم تاريخ دخول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مكَّة يوم الفتح، وثبت عن ابن شهابٍ - رحمه الله -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محرمًا ذلك اليوم، وظاهرُ كونِ المغفر على رأسه - صلى الله عليه وسلم - يقتضي ذلك، وكان أمره - صلى الله عليه وسلم - بقتل ابن خَطَلٍ؛ لأنَّه كان قد ارتدَّ عن الإسلام، وقتل مسلمًا كان يخدمه، وكان يهجو النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ويسبُّه، وكان له قينتان تغنِّيان بهجاء المسلمين. فإن قيل: ففي الحديث الآخر: "مَنْ دخلَ المسجدَ فهو آمِنٌ" (¬2)، فكيف قتله وهو متعلِّق بالأستار؟ فالجواب: أنَّه لم يدخل في الأمان، بل استثناه هو وابن أبي سرح والقينتين، وأمر بقتله، وإن وجد متعلِّقًا بأستار الكعبة، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أنَّ المريد لدخول مكَّة، إذا كان محاربًا، يباح له دخولها بغير إحرام، لحاجة المحارب إلى التَّستُّر بما يقيه وقع السلاح. ¬

_ (¬1) رواه الأزرقي في "تاريخ مكة" (ص: 250). وقد روى في "تاريخه" أيضًا (ص: 249)، وتمام الرازي في "فوائده" (1695)، عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سب أسعد الحميري -وهو تُبَّعٌ- وقال: وهو أول من كسا الكعبة". (¬2) تقدم تخريجه.

وقد اختلف قول الشَّافعيِّ فيمن أراد دخول مكَّة بغير إحرام، فقال مرَّة: يجوز، سواء كان دخوله لحاجةٍ تتكرر؛ كالحطَّاب، والحشَّاش، والسَّقَّاء، والصَّياد، وغيرهم، أو لا تتكرَّر؛ كالتاجر والزَّائر، وغيرهما، وسواء كان آمنًا أم خائفًا، وهذا أصحُّ القولين، وبه يفتي أصحابنا. والقول الثَّاني له: أنَّه لا يجوز دخولها بغير إحرام، إن كانت حاجته لا تتكرَّر، إلَّا أن يكون مقاتلًا، أو خائفًا من قتالٍ، أو خائفًا من ظالم لو ظهر، وهذا قول أكثر العلماء. ومنها: إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم، وتقدَّم اختلاف العلماء فيه، وفي التَّمسُّك من الحديث لذلك نظر؛ فإنَّ جواز قتل ابن خطلٍ وغيره محمولٌ على الخصوصيَّة التي دلَّ عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأَحدٍ بعدي، وإِنَّما أُحلَّتْ لي ساعةً من نهار" (¬1). مع أنَّ أصحاب الشَّافعيِّ - رحمه الله - تأوَّلوا قتلَ ابن خطلٍ بعدَ السَّاعة التي أُبيحت له، لا في السَّاعة التي أبيحت له. ومنها: جواز إقامة الحدود في الحرم، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ، وموافقيهما. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وتأوَّل هذا الحديث في قتله على السَّاعة التي أبيحت له، وقيل: إنَّما قتله؛ لأنَّه لم يترك القتال، ولم يف بالشَّرط، بل قاتل بعد ذلك، والله أعلم. ومنها: استحباب لبس المغفر ونحوه من السِّلاح حالَ الخوف من العدوِّ، أو لإرهابهم. ومنها: شرعيَّة ستر الكعبة بالأستار؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقرَّها على السَّتر، وسترها بكسوة بعد ذلك. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث الثاني

ومنها: رفع أخبار المرتدِّين والمنافقين إلى ولاة الأمور، وليس ذلك من الرَّفع المنهي عنه. ومنها: تحتيم قتل من سبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير قبول توبته واستعاذته وتعلُّقه بأستار الكعبة ونحوها، أو غيرها من المخلوقين، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي بِالبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى (¬1). أمَّا كَدَاء: فبفتح الكاف وبالمدِّ، هكذا ضبطه الجمهور، وضبطه بعضهم بفتح الكاف والقصر، وكذا بضمِّ الكاف وبالقصر، بأسفل مكَّة؛ هي الثنيَّة السفلى. وأمَّا كُدَيُّ -بضمِّ الكاف وتشديد الياء-، فهو في طريق الخارج إلى اليمن، وليس من هذين الطَّريقين في شيء، والله أعلم (¬2). وأمَّا: "الثَّنِيَّةُ العُلْيَا الَّتِي بِالبَطْحَاءِ": فالثَّنية: الطَّريق بين جبلين، والبطحاء بالمد، ويقال لها: الأبطح، وهي بجنب المحصَّب، وهذه الثَّنيّةُ تنحدر منها إلى مقابر مكَّة. وإنَّما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المخالفة داخلًا وخارجًا في طريقه؛ تفاؤلًا بتغير الحال إلى أكمل منه، كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان، وليتبرك أهلهما. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1501)، كتاب: الحج، باب: من أين يخرج من مكة؟ ومسلم (1257)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 350)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 156)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 149).

الحديث الثالث

وفي الحديث دليلٌ على استحباب دخول مكَّة من الثَّنيَّة العليا، سواء كان طريق الدَّاخل إلى مكَّة من وطنه إليها، أم لا، كالشَّاميِّ والمدني واليمنيِّ والعراقي، فيستحب لكلِّ واحدٍ قصدها لدخول مكَّة منها. وقال بعض أصحاب الشَّافعيِّ: لا يستحبُّ الدُّخول منها إلَّا لمن كانت على طريقه؛ كأهل المدينة، وغيرهم؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما دخل منها لأنَّها على طريقه، وهذا ضعيفٌ؛ لأن الطريق إلى مكَّة من غير هذه الثَّنيَّة لأهل المدينة ونحوهم أقصدُ وأوسعُ، فدلَّ على أنَّ الدُّخول منها مقصود بالنُّسك والعبادة لكلِّ أهل ناحيةٍ، وإن كان فيه مشقَّة، والله أعلم. وفيه دليل: على استحباب الخروج من مكة من الثنيَّة السفلى إلى بلده، وكذا يستحب للخارج من بلده والدَّاخل إليه أن يخرج من طريقٍ، ويرجع من آخر. وفيه: اقتفاء آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خصوصًا في مناسك الحجِّ؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، فقال: "خذوا عنِّي مناسككم" (¬1)، والله أعلم. * * * الحديث الثَّالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - البَيْتَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلاَلٌ، وعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ البَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا، كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلاَلًا، فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ العَمُودَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ (¬2). أمَّا ابن عمر وبلال، فتقدَّم ذكرهما. وأمَّا أسامة بن زيدٍ، فهو الحِبُّ بن الحِبِّ، كنيته: أبو محمَّد، وقيل: أبو ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1297)، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخارى (1521)، كتاب: الحج، باب: إغلاق البيت، ومسلم (1329)، كتاب: الحج، باب؛ استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها.

زيدٍ، وقيل: أبو حارثة، وقيل: أبو يزيد، واسم جدِّه شراحيل بن كعب بن عبد العزَّى بن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن النُّعمان بن عامر بن عبد ود بن زيد بن اللَّات بن رفيدة بن وبرة بن [كعب بن وبرة] (¬1) بن الحاف بن قضاعة، وهو مولى رسول الله، أمَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش فيهم أبو بكر وعمر، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أمير ذلك الجيش، وكان عمره يومئذ عشرين سنةً، وقيل: تسع عشرة، وقيل: ثماني عشرة، وكان نازلًا بوادي القرى لمَّا قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان نقش خاتمه: حِبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وأمّه: أم أيمن، واسمها بركة، حاضنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر الله -عزَّ وجلَّ- أباه زيدًا باسمه في سورة الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب:37]، وردَّ بذكر زيد في القرآن على من قال: كلُّ من ذكر باسمه فيه من المؤمنين فهو نبي كريم، والخضر، وذي القرنين، ولقمان، فإنَّ زيدًا صحابيٌّ بالإجماع، واستشهد يوم مؤتة سنة ثمانٍ في جمادى الأولى، مع أنه اختلف في بعض من ذكر من هؤلاء، هل هو نبيٌّ، أم وليٌّ؟ والله أعلم. رُوي لأسامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وثمانية وعشرون حديثًا، اتَّفقا منها على خمسة عشر، وانفرد البخاريُّ بحديثين، ومسلم بحديثين. روى عنه عبد الله بن عبَّاسٍ، وجماعةٌ من كبار التَّابعين، وغيرهم، وروى له أصحاب السُّنن والمساند. مات بالمدينة، وقيل: بوادي القرى سنة أربعين، بعد قتل عليٍّ - رضي الله عنه - بقليل، وقيل: سنة أربع وخمسين. قال الحافظ أبو محمَّد عبد الغني المقدسي - رحمه الله -: وهذا أصحّ (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين لم يرد في "ح 2". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 61)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 20)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 283)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 2)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 688)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 75)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (8/ 46)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 521)، و"أسد الغابة" لابن الأثير =

وأمَّا عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ، فوقع في بعض نسخ "صحيح مسلم" هكذا: عثمان بن طلحة، كرواية الجمهور، ووقع في بعضها: عثمان بن أبي طلحة، وكلاهما صحيح؛ فالرِّواية الأولى نسبة إلى أبيه، والثَّانية نسبةً إلى جدِّه، وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، عبد الله بن عبد العزَّى بن عثمان بن عبد الدَّار بن قصيِّ بن كلاب بن مرَّة العبدريُّ القرشيُّ الحجبيُّ، أسلم مع خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكَّة، ودفع إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة، وإلى شيبةَ بن عثمان بن أبي طلحة، وقال: "خذوها يا بني طلحةَ خالدةً تالدةً، لا ينزِعُها منكم إلَّا ظالم" (¬1). ثمَّ نزل بالمدينة، فأقام بها إلى وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ تحوَّل إلى مكَّة، وسكنها إلى أن مات بها سنة اثنتين وأربعين، في أول خلافة معاوية. وقيل: إنَّه استشهد يوم أَجنادِين -بفتح الدَّال وكسرها-، وهي موضع بقرب بيت المقدس، وكانت وقعته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. روى له أبو داود، وحديثه عند امرأة من بني سليم (¬2). وثبت في "الصَّحيح" قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مَأْثُرَةٍ كانت في الجاهلية، فهيَ تحتَ قدميَّ، إلَّا سقايةَ الحاجِّ وسِدانةَ البيتِ" (¬3). ¬

_ = (1/ 194)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 125)، و "تهذيب الكمال" للمزي (2/ 338)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 496)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 49)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 182). (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11234)، وفي "المعجم الأوسط" (488)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 137)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 448)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 155)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 260)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 485)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1034)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 376)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 572)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 395)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 10)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 450)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 114). (¬3) رواه أبو داود (4547)، كتاب: الديات، باب: في الخطأ شبه العمد، والبيهقي في "السنن =

قال القاضي عياض - رحمه الله -: قال العلماء: لا يجوز لأحدٍ أن ينزعها منهم، قالوا: وهي ولاية لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، فتبقى دائمة لهم ولذريَّاتهم أبدًا، ولا يُنازعون فيها، ولا يشاركون، ما داموا موحِّدين صالحين لذلك، والله أعلم (¬1). وأمَّا قوله: "فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ البَابَ"؛ إنَّما أغلقوه؛ ليكون أسكنَ لقلوبهم، وأجمعَ لخشوعهم، ولئلَّا يجتمع النَّاس ويدخلوه، أو يزدحموا فينالهم ضرر ويتشوش عليهم الحال بسبب لغطهم. قوله: "فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ"؛ أي: دخل. والولوج: الدخول، يقال: وَلَجَ: بفتح اللَّام، يَلِجُ: بكسرها، وأولج غيرَه، وإنمَّا كان ابن عمر أوَّل من ولج؛ لحرصه على اقتفاء آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المناسك وغيرها ليعمل بها، وليبلِّغها، وذلك هو مقصود العلم لا غير، والله أعلم. وقوله: "قالَ: نَعَمْ، بَيْنَ العَمُودَيْنِ اليَمَانِيينِ" يعني: قال بلال: نعم، لابن عمر ذلك حين سأله: هل صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت؟ ولا شكَّ أنَّ بلالًا أثبت صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة، وأنَّ أسامة نفاها. وأجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال؛ لأنَّه مثبت، فمعه زيادةُ علم، فوجب ترجيحه، والمراد بالصَّلاة: ذات الركوع والسُّجود المعهود، لا مجرَّد الدُّعاء، ولهذا قال ابن عمر في بعض الروايات: ونسيت أن أسأله كم صلَّى؟ (¬2) وأمَّا نفي أسامة الصَّلاة، وإثباته الدُّعاء؛ فلأنَّهم لمَّا دخلوا، أغلقوا الباب، واشتغل كلُّ واحدٍ من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبلال، وأسامة، وعثمان بالدُّعاء في نواحي البيت، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، واشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي ¬

_ = الكبرى" (8/ 68)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 83 - 84). (¬2) رواه البخاري (456)، كتاب: المساجد، باب: الأبواب والغلق للكعبة والمساجد، ومسلم (1329)، (2/ 966)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها.

البيت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية أخرى، وبلال قريبٌ منه، ثمَّ صلَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فرآه بلال؛ لقربه، ولم يره أسامة؛ لبعده واشتغاله، وكانت صلاته خفيفة، فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدُّعاء، وجاز له نفيها عملًا بظنِّه، وأمَّا بلال، فتحققَّها، فأخبر بها، والله أعلم. مع أنَّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بين العمودين، فقد يكون أسامة في ناحيةٍ من البيت حجبه عن رؤية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العمودُ بينه وبينه، والظُّلمة الحاصلة بغلق الباب، بخلاف بلال، فإنَّه كان قريبًا منه - صلى الله عليه وسلم -، وفي سنِّه، وأسامة كان عمره إذ ذَّاك، إمَّا خمس عشرة سنةً، وإما ست عشرة سنة، وإمَّا سبع عشرة سنة، على اختلافٍ فيه. وإنَّ دخوله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة وصلاتَه فيها كان يوم الفتح، بلا خلافٍ، لا في حجَّة الوداع، والله أعلم. واعلم: أنَّ البيت على أعمدةٍ في داخله، ففي رواية الكتاب: "أنَّه صلَّى بين العمودين اليمانيين"، وفي "صحيح مسلم": "جعل عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه" (¬1)، وفي روايةٍ للبخاريِّ: "عمودين عن يمينه، وعمودًا عن يساره"، وكذلك هو في رواية "الموطَّأ"!، وأبي داود (¬2)، وفي رواية للبخاريِّ أيضًا: "عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره" (¬3). ويمكن الجمع بينهما، إن ثبت أنَّه صلَّى أكثر من ركعتين، أو أنَّه انتقل في الركعتين من مكان إلى مكان بحيث لا تبطل صلاته به، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحباب دخول الكعبة والصلاة فيها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1329)، (2/ 966). (¬2) رواه البخاري (483)، كتاب: سترة المصلي، باب: الصلاة بين السواري في غير جماعة، وأبو داود (2023)، كتاب: المناسك، باب: في دخول الكعبة. وقد رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 398) إلا أنه قال فيه: "جعل عمودًا عن يمينه، وعمودين عن يساره". (¬3) انظر تخريج الحديث المتقدم عند البخاري.

ومنها: جواز الاستئثار بذلك إذا أمكن، والله أعلم. ومنها: اقتفاء آثاره - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ موطن وحالةٍ. ومنها: السُّؤال عن العلم. ومنها: جواب المسؤول في الفتيا وغيرها بـ: نعم. ومنها: جواز سؤال المفضول مع وجود الفاضل. ومنها: منقبة ظاهرة لابن عمر - رضي الله عنه -، وحرصه على تعلُّم المناسك، واقتفاء آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: الحرص على طلب العلم، وجواز ذكر الحرص للمصلحة من الاقتداء والوثوق بما يؤخذ من علم الحريص. ومنها: جواز صلاة النَّفل المطلق فيها. وقال محمَّد بن جرير، وأصبغ المالكيّ، وبعض أهل الظَّاهر: لا تصحُّ صلاة فيها أبدًا، وحكي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -. وقال مالك: يصحُّ فيها النَّفل المطلق دون الفرض والوتر، وركعتي الوتر، وركعتي الطَّواف. وقال الشَّافعيُّ، والثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور: تصحُّ فيها صلاة النفل والفرض، ودليلهم في النَّفل حديث بلال، وإذا صحَّت النَّافلة، صحَّت الفريضة؛ لأنهما من الوضع والنُّزول سواءٌ في استقبال خارجها، فكذلك داخلها، وإنَّما تختلفان فيه حال السّير في السَّفر، والله أعلم. ومنها: إجزاء استقبالِ جزء من الكعبة لمن صلَّى داخلها، ولا يشترط استقبال جميعها، وكذلك لو استقبل بابها، وهو مردود، أو عتبة بابها، وهو منفتح مرتفع قدر ثلثي ذراع ونحوه. ومنها: جواز الصَّلاة بين الأساطين والأعمدة، سواء كان بينها حقيقةً، أو في مسامتها، وإن احتمل أنَّه يكون - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في الجهة بينها.

الحديث الرابع

وقد ورد في المنع من الصَّلاة بينها حديث، وإن لم يصحّ سنده، وهذا الحديث مقدَّم عليه؛ فإن حقيقة قوله: "بين العمودين" يقتضي جوازه من غير كراهة، والله أعلم. وإن صحَّ سنده، أُول بالصلاة في مسامتها فيما بينها، لا بينها حقيقةً، وإن كان أثرًا عن السَّلف، قدِّم هذا الحديث المسند عليه، والله أعلم. * * * الحديث الرَّابع عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ جَاءَ إلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (¬1). هذا الحديث أصل أصيل، وقاعدة عظيمة في اتِّباع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - واقتفاء آثاره، وترك ما كانت عليه الجاهلية من تعظيم الأصنام والأحجار، وتبيَّن أنَّ: النَّفع والضُّر بيد الله تعالى، وأنَّه -سبحانه وتعالى- هو النَّافع والضَّار، وأنَّ الأحجار لا تنفع من حيث هي هي، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأصنام، وأراد عمر - رضي الله عنه - بذلك إزالةَ الوهم الَّذي يقع في أذهان النَّاس من ذلك جميعه. وفي هذا الحديث دليل: على استحباب تقبيل الحجر الأسود. وفيه دليلٌ: على أنَّه ينبغي للإمام العالم أن يبيِّن للنَّاس السُّنن بقوله وفعله. وفيه دليلٌ: على أنَّ المرجع في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون غيره. وفيه دليلٌ: على أنَّ الإمام العالم والمقتدى به إذا خاف على النَّاس فعل محذور أو اعتقاده، أو انجرار المشروع إلى ذلك، أن يبيِّنه ويوضِّحه للنَّاس في المجامع والمواسم، ويشهره بالإيضاح والبيان؛ ليكون سببًا لإبلاغه في البلدان ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1520)، كتاب: الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود، ومسلم (1270)، كتاب: الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف.

الحديث الخامس

والأقطار، وليحفظه أهل المواسم المختلفو الأوطان. واعلم: أنه لا يُشرع التقبيل إِلا للحجر الأسود، وللمصحف، ولأيدي الصَّالحين من العلماء وغيرهم، وفي شفاه القادمين من السَّفر، بشرط ألا يكون أمرد ولا امرأة محرمة، وبين عيني الموتى الصَّالحين وشفاههم، وفي شفة من نطق بعلمٍ أو حكمةٍ ينتفع بهما، وكل ذلك ثابت في الأحاديث الصَّحيحة، وفعل السَّلف. فأمَّا تقبيل الأحجار، والقبور، والجدران، والستور، وأيدي الظَّلمة والفَسَقة، واستلام ذلك جميعه، فلا يجوز، ولو كانت أحجار الكعبة، أو قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو جدار حجرته، أو ستورهما، أو صخرة بيت المقدس، فإن الاستلام والتَّقبيل ونحوهما تعظيم، والتَّعظيم خاص بالله تعالى، فلا يجوز إلا فيما أذن فيه. * * * الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إنهُ يقدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَتهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأمرَهُمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بينَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَم يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إلا الإِبقَاءُ عَلَيْهِمْ (¬1). اعلم: أن قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا وأصحابه كان في عمرةِ القضاء، سنة سبع قبل فتح مكَّة، وكان في المسلمين ضعفٌ في أبدانهم، وإنما رملوا إظهارًا للقوة، واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الرُّكنين اليمانيين؛ لأن المشركين كانوا جلوسًا في الحجر لا يرونهم بين هذين الركنين، ويرونهم فيما سوى ذلك، فلمَّا حجَّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4009)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء، ومسلم (1266)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة.

النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع سنة عشر، رمل من الحجر إلى الحجر، وذلك متأخِّر، فوجب الأخذ به ونسخُ ترك الرَّمل، وتبين بذلك أنَّ المشي بين الرُّكنين اليمانيين في الأشواط الثلاثة منسوخ، والله أعلم. وأمَّا الرَّمَلُ: فهو إسراع المشي، مع تقارب الخطا، ولا يثب وثوبًا، يقال: رَمَلَ، يَرْمُل: بضمِّ الميم، رَمْلًا: بفتح الرَّاء وسكون الميم، ورَمَلانًا. وقوله: "وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ"؛ هو بتخفيف الهاء؛ أي: أضعفتهم، قال الفرَّاء وغيره: يقال: وَهَنتهُ الحمَّى وغيرها، وأَوْهَنتهُ، لغتان. وَأَما يَثْرِب: فهو الاسم الذي كان للمدينة في الجاهلية، وسُمِّيت في الإسلام: المدينة، وطيبة، وطابة، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة:120]، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101]، {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقون: 8]. وقد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسميتها يثرب، في حديث رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وفي "صحيح مسلم": "يقولون يثرب، وهي المدينة" (¬1)، يعني: إنَّ بعض المنافقين وغيرهم يسميها يثرب، قال عيسى بن دينار: من سماها يثرب، كتبت عليه خطيئة (¬2)، وسبب الكراهة أنَّ يثرب مأخوذ من التثريب، وهو التَّوبيخ والملامة. وسُمِّيت طابة، وطيبة؛ من الطيب؛ لحسن لفظهما، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ الاسم الحسن، ويكره الاسم القبيح، وتسميتها في القرآن يثرب، حكاية عن قول المنافقين والَّذين في قلوبهم مرض. وقولُه: "وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ": أمَّا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 237)، ومسلم (1382)، كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي شرارها. قلت: وقد رواه البخاري أيضًا (1772)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، وأنها تنفي الناس، ثلاثتهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 154)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 87).

الأشواط: فهي الطوفات راملًا، ويسمَّى الطَّواف كله، والطَّوفة الواحدة دورًا. وأَمَّا قوله: "إلا الإبْقَاءُ عَلَيْهِمْ": فهو بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالمدِّ؛ أي: الرفق بهم. واعلم: أن الرَّمل شُرع لحكمة إظهار القوَّة للمؤمنين، [و] إرغامًا للمشركين، أو، لإظهار التوحيد للرَّب -سبحانه وتعالى- وأما أمره بحضرتهم. وقد زالت الحكمة التي شُرع لأجلها، وحكمه باقٍ إلى يوم القيامة عند جميع العلماء، إلا ابنَ عباس - رضي الله عنهما -؛ فإنه قال باستحبابه في ذلك الوقت، وزال بزوال علَّته، ففعله حينئذٍ تأسيًا واقتداءً بما فعل في زمن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، كما وقع التأسي بكثير من أفعال الحجِّ تعبُّدًا؛ كالسَّعي ورمي الجمار؛ فإن السعي سبب التَّعبُّد به قصَّةُ هاجر مع ابنها إسماعيل، وتركهما إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلِّية، مع ما أظهر الله -سبحانه- من الكرامة والآية في إخراج الماء لهما حين سعت هاجر بين الصَّفا والمروة؛ لئلا ترى الألم بإسماعيل - عليه السلام - عند موضع زمزم، وتركها له هناك، وكذلك سبب التعبد برمي الجمار: أن إبليس اللعين سعى بالجمار في هذه المواضع، عند إرادة إبراهيم ذبح ابنه امتثالًا لأمر الله تعالى. وفي شرعيَّة ذلك جميعه من الفوائد المتكثرة ما يزيد أولي الألباب تبصُّرًا وتذكُّرًا: فمنها: تذكُر وقائع السّلف الكرام للمتأخرين، إذ في تذكرها مصالح دينيَّة في أشياء كثيرة. ومنها: ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى، والمبادرة إليه، وبذل النفس في ذلك جميعه. ومنها: تعظيمهم باحتمال مشاق امتثال الأوامر، والصبر عليه، ووجود عدم المعين عليها والمفند عنها؛ فإن ذلك جميعه باعثٌ لنا على التَّأسي والتعظيم. وكل ما ذكرنا معنى معقول تبيَّن في أشياء كثيرة، والله أعلم.

وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحباب الرَّمل، وهو سنة ثابتة مطلوبة على تكرر السِّنين، وهو مذهب جميع العلماء من الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعين، ومن بعدهم، وخالفهم ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقال: إنما سنَّة سَنّهُ في تلك السَّنة؛ لإظهار القوة عند الكفار، وقد زال ذلك المعنى، وقد بيَّنا الحكمة والسِّرَّ فيه. وأجمع من قال باستحبابه على أنه في الطَّوفات [الثلاث الأُوَل من السِّبع، إلا عبد الله بن الزبير، فإنه قال: يسن في الطَّوفات السبع] (¬1)، فإن تركه، فقد ترك سنَّةً، وفاتته الفضيلة، ويصحُّ طوافه، ولا دم عليه، وقال الحسن البصري، والثوري، وعبد الملك بن الماجشون المالكي: إذا ترك الرَّمل، لزمه دم، وكان مالك - رحمه الله - يقول به، ثمَّ رجع عنه. ولا يسنُّ الرمل إلا في طواف العمرة، وفي طواف واحد في الحج، ولا يستحب إلا في طواف يعقبه سعيٌ، سواء كان السَّعي بعد طواف القدوم، أو بعد طواف الإفاضة، وهذا قول جماعة من العلماء، وهو أصح قولي الشَّافعي، وفي القول الثاني له: يستحب بعد طواف القدوم مطلقًا، أو بعد طواف الإفاضة، وهذا قول جماعة من العلماء، سواء أراد السعي بعده أم لا. قال أصحاب الشَّافعي: ولا يتصور الرَّمل في طواف الوداع؛ لأن شرط جواز طواف الوداع: أن يكون قد طاف للإفاضة، والرمل إمَّا يُسَن فعله بعد القدوم مطلقا، وإما بعد طوافٍ يعقبهُ سعي، ولا يكون السعي إلا بعد أحدهما، لكن فعله مستحب بعد طواف القدوم، قالوا: ولو ترك الرَّمل في الثلاث الأُوَل من السَّبع، لم يأت به في الأربع الأواخر؛ لأن السنة فيها المشي على العادة، فلا يغيِّره. ولو لم يمكن الرمل للزَّحمة، أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرامل، ولو لم يمكنه الرَّمل بقرب الكعبة للزحمة، وأمكنه إذا تباعد عنها، فالأَوْلى: أن يتباعد ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح 2".

الحديث السادس

ويرمل؛ لأنَّ فضيلة الرَّمل هيئة للعبادة في نفسها، والقرب من الكعبة هيئة في موضع العبادة لا في نفسها، فكان تقدم ما تعلق بنفسها أولى. واتَّفق العلماء على أنَّ الرَّمل لا يشرع للنِّساء، كما لا يشرع لهن شدَّة السَّعي بين الصَّفا والمروة، والله أعلم. ومنها: أنَّ الرَّمل لا يشرع بين الرُّكن اليماني والأسود، وإنما يشرع المشي، وقد بينا أنَّ ذلك منسوخ، واستقرار استحبابه حول البيت والحجر. ومنها: إظهار قوة الدِّين والإسلام بحضرة أعدائه، وإن كان الضَّعف حاصلًا. ومنها: أن ما شُرع لمعنى يستحب المداومةُ على فعله؛ تذكُّرًا لنِعم الله تعالى وتأسيًا. ومنها: جواز تسمية الطِّواف: شوطًا، ونقل عن مجاهدٍ والشافعي كراهته، وكراهة تسميته: دورًا، وإنَّما سمّي طوفةً، والصَّحيح أنه لا كراهة فيه؛ لظاهر هذا الحديث. ومنها: رفق الإمام بالناس فيما يأمرهم به من الطَّاعات للمصالح العامَّات، وألَّا يتجاوز بما يأمرهم به من ذلك إلى حدِّ المشقَّة عليهم. ومنها: كراهة تسمية المدينة: يثرب، على ما بيَّنَّاه، وكذلك حكم التَّشبُّه بالمشركين في تسمياتهم وعباراتهم، وغير ذلك، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يقدَمُ مَكَّةَ، إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاَثَة أَشْوَاطٍ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1526)، كتاب: الحج، باب: استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوت ويرمل ثلاثًا، ومسلم (1261)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة.

الخَبُّ والرَّمل، بمعنى واحدٍ، واستلام الرُّكن الذي فيه الحجر الأسود مشروع لفضيلتين: إحداهما: لكونه فيه الحجر الأسود. والثانية: لكونه مبنيًّا على قواعد ابراهيم - صلى الله عليه وسلم - فقط، وقد استدل للقاضي أبي الطَّيب من الشَّافعية بهذا الحديث، على استحباب استلام الرُّكن الأسود مع الحجر، فيجمع بينهما في استلامه؛ للاتِّفاق على استحباب استلام الحجر أول قدومه، من غير تعرض للركن الذي هو فيه. وليس في هذا الحديث لاستلامه ذكر، بل للركن الذي هو فيه، وقد يعبر عن الركن بالحجر؛ لشرفه، ولكونه بعضَه، كما إذا قيل: استلمَ الركن، فإنما يريد بعضه، ومعنى الاستلام: مسحُ اليد عليه، مأخوذ من السلام، وهو التَّحيَّة، أو السَّلام بكسر السِّين، وهي الحجارة. وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحباب البدأة باستلام الحجر الأسود، أول قدومه. ومنها: البدأة بطواف القدوم عند وصوله إلى مكة. ومنها: استحباب الرمل فيه. ومنها: أن استحبابه إنما هو في الطَّوفات الثلاث الأُول. ومنها: جواز تسميتها: أشواطًا. ومنها: الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - في مناسك الحج، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: طَافَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الركْنَ بِمِحْجَنٍ (¬1). إنما سميت حَجَّةَ الوَدَاعِ؛ لأَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ودَّع النَّاس فيها، ولم يحجَّ بعد الهجرة غيرها، وكانت سنة عشر من الهجرة، وكره بعض العلماء أن يقال لها: حجَّة الوداع، وهذا غلط، والصَّواب جوازه؛ لهذا الحديث، وغيره من الأحاديث، ولم يزل السلف والخلف على جوازه واستعماله، والله أعلم. وأمَّا المِحْجَن: فهو بكسر الميم، وسكون الحاء، وفتح الجيم، وهي عصًا محنيَّة الرأس، يتناول بها الرَّاكب ما سقط له، ويحرِّك بها بعيره للمشي. والعلَّة في طوافه - صلى الله عليه وسلم - راكبًا؛ لكي يراه النَّاس مشرفًا؛ ليسألوه وليتعلموا أفعاله؛ ليتقيدوا بها، وليتبيَّن الجواز في الطّواف راكبًا. وروى أبو داود في "سننه": أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان في طوافه هذا مريضًا (¬2)، وإلى هذا أشار البخاريُّ في "صحيحه"، وترجم عليه "باب: المريض يطوف راكبًا" (¬3)، فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبًا؛ لما ذكر جميعه، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز الطَّواف راكبًا. ومنها: جواز استلام الحجر بِعُودٍ ونحوه، إذا عجز عن استلامه بيده، وليس في الحديث تعرُّض لتقبيله وعدمه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1530)، كتاب: الحج، باب: استلام الركن بالمحجن، ومسلم (1272)، كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره، واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب. (¬2) رواه أبو داود (1881)، كتاب: المناسك، باب: الطواف الواجب، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 99). (¬3) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 588).

الحديث الثامن

ومنها: جواز قول: حجة الوداع. ومنها: طهارة البعير ونحوه، وعرقه، وهو مُجمع عليه. ومنها: جواز إدخاله المسجد للحاجة إلى ذلك، وقد استدل أصحاب مالك، وأحمد، على طهارة بولِ ما يؤكل لحمه، وروثه، قالوا: لأنه لا يؤمن البول والرَّوث منه، فلو كان نجسًا، لما عرض المسجد له، ومذهب الشَّافعي، وأبي حنيفة: نجاسته. وليس في هذا الحديث دلالة على هذا الاستدلال؛ لأنه لا يلزم من دخوله أن يبول أو يروث في حال الطواف، وإنما هو محتمل، وعلى تقدير حصوله، يُنظَّف المسجدُ منه، وقد أقر - صلى الله عليه وسلم - دخول الصبيان ونحوهم المساجد، ومعلوم أنَّه لا يؤمن من بولهم وغائطهم فيها، ولو كان ذلك محققًا، لَنُزِّهَ المسجد من دخولهم إليه، سواء كان ما يؤذى به المسجد من الأقذار طاهرًا أو نجسًا. ومنها: أن المصالح والمفاسد وتوهمها، إذا تعارضت، قُدِّم أرجحُهما مصلحةً، وأخفُّهما مفسدةً إذا تحقق أو غلب على الظَّن وجودُه، على حسب القرائن والمناسبات، وأنه إذا زالت المفاسد، رجع إلى الأصلح اتفاقًا، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إلا الركْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ (¬1). اليمانيين: بتخفيف الياء على اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه والجوهري، وغيرهما فيها لغة أخرى بالتَّشديد، فمن خفف قال: هي نسبة إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1531)، كتاب: الحج، باب: من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، ومسلم (1267)، كتاب: الحج، باب: استلام الركنين اليمانيين في الطواف.

اليمن، فالألف فيه عوض من إحدى ياءي النَّسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شدَّدناها، كان جمعًا بين العوض والمعوَّض، وذلك ممتنع، ومن شدد قال: الألف في اليماني زائدة، وأصله اليمنيُّ، فتبقى الياء مشددة، وتكون الألف زائدة، كما زيدت النون في صنعاني ورقباني ونظائرهما. والركنان اليمانيان هما: الركن الأسود، والركن اليماني، وإنما قيل لهما: اليمانيان؛ للتغليب، كما قيل في الأب والأم: الأبوان، وفي الشَّمس والقمر: القمران، وفي أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: العُمران، وفي الماء والتمر: الأسودان، والله أعلم. [واعلم أن للبيت أربعة أركان: الرّكن الأسود، والرُّكن اليمانيُّ] (¬1)، ويقال لهما: اليمانيان، كما في هذا الحديث. وأمَّا الركنان الآخران، فيقال لهما: الشَّاميان، ويقال لهما: الغربيَّان؛ فالركن الأسود يُستلم ويقتل؛ لكونه مخصوصا بفضيلتي: الحجر الأسود، وبنائه على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، والركن اليماني يُستلم ولا يقبَّل؛ لاختصاصه بفضيلة بنائه على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فقط. وأما الركنان الآخران، فليس فيهما شيء من هاتين الفضيلتين، فلا يقبَّلان، ولا يُستلمان، وأجمعت الأمة على استحباب استلام الرُّكنين اليمانيين. ونقل القاضي أبو الطَّيب إجماع أئمة الأمصار والفقهاء على أن الشاميينِ لا يُستلمان، ونقل غيره ذلك عن جمهور العلماء. قال: واستحبه بعض السلف، ومن كان يقول باستلامهما: الحسن والحسين ابنا عليٍّ -رضي الله عنهم-، وابن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيدٍ -رضي الله عنهم-. قال القاضي أبو الطيب: كان فيه خلاف لبعض السَّلف من الصحابة والتَّابعين، وانقرض الخلاف، ثمَّ أجمعوا على عدم استلامهما، والله أعلم. وليس في هذا الحديث دليل على نفي استلامهما، ولا إثباته، وإنما ثبت نفيه باستقرار الإجماع عليه، قال أصحاب الشَّافعي: لو عجز عن استلام اليماني، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح 2".

أشار إليه بيده، ولا يقبِّلها، ولو عجز عن استلام الأسود، أشار إليه بيده، وقبلها؛ لأن الحجر الأسود يُشرع استلامُهُ وتقبيلهُ، فإذا عجز عنه، أتى ببدله، وهو الإشارة، وتقبيل ما أشار به؛ يده، أو غيرها، والله أعلم. ولا شك أن تعليل استلام اليمانيين بكونهما على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مناسبٌ، وهو ظنُّ ابن عمر وتعليله، وقال بعض أصحابه: ليس شيء من البيت مهجورًا، لكن اتباع ما دلَّ عليه الحديث أولى؛ إذ العبادات الغالب عليها الاتباع، لا سيما إذا وقع التخصيص مع توهم الاشتراك في العفة؛ فإن التوهُّم أمر زائد، وإظهار معنى التخصيص غير موجود فيما ترك فيه الاستلام. * * *

باب التمتع

باب التَّمتُّع الحديث الأول عَنْ أَبي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِي، قالَ: سَألْتُ ابْنَ عَباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عَنِ المُتْعَةِ، فَأمرني بِهَا، وَسَألْتُهُ عَنِ الهَدْيِ، فَقَالَ: فيها جَزُورٌ أَو بقرة أَوْ شَاة أو شِركٌ في دَمٍ، قَالَ: وَكأنَّ ناسًا كَرِهُوهَا، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كأن إنْسَانا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، ومُتْعَة مُتَقَبَّلَة، فَأتيتُ ابْنَ عباسٍ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ أكبر! سُنَّةُ أَبي القاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). أما أبو جمرة، فهو بالجيم والرَّاء، وليس في الكنى بهذه الضيغة غيره مطلقا. وإذا أطلقه شعبة في الرِّواية عنه من غير تسميةٍ، فهو بالجيم والزَّاء، فإنه يروي عن شعبة عن ابن عباسٍ: بالحاء والزاي، إلا أبا جمرة هذا، والسنة لا يذكرهم إلا معرفين بشيء. وأبو جمرة هذا، اسمه نصر -بالصاد المهملة- بنُ عمران، واختلف في صحبة أبيه عمران، وممن ذكر الاختلاف فيه: ابن منده، وأبو نعيم، وابن عبد البر. وكان عمران هذا قاضيًا على البصرة - رحمه الله -، وعمران هذا هو ابن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1603)، كتاب: الحج، باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ومسلم (1242)، كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.

عصام، وقيل: عاصم بن واسع، وأبو جمرة هذا تابعيٌّ بصري، متّفق على توثيقه، والرواية له في "الصحيحين" والسُّنن والمساند، وروى عن عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك وغيرهما، ومات سنة ثمانٍ وعشرين ومئة. وذكر مسلم بن الحجاج موته بسرخس في آخر كتاب الجنائز، في حديث القطيفة التي فرشت تحت النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره، من "صحيحه" (¬1). وحكى موته بسرخس -أيضًا- الحاكم أبو عبد الله، عن مسلم بن الحجاج وغيره، والله أعلم. وأما الضُّبَعِي: -بالضاد المعجمة المضمومة، ثم الباء الموحدة المفتوحة، ثمَّ العين المهملة، ثمَّ ياء النسب-، فنسبة إلى ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن بكر بن وائل بن قاسط. وتشتبه هذه النسبة [بالضِّبْغي: بالصَّاد المهملة المكسورة، وسكون الباء الموحّدة، وبالعين المعجمة، ثمَّ ياء النسب] (¬2)، وبالصنْعِي -بالصَّاد المهملة المفتوحة وسكون النُّون، وبالعين المهملة، ثمَّ ياء النسب- (¬3). قوله: "سَأَلْتُ ابْنَ عَباسٍ عَنِ المُتْعَةِ، فَأَمَرَني بِهَا" اعلم أن المتعة تطلق في الشَّرع بمعانٍ: منها: نكاح المرأة إلى أجلٍ، وليس هذا مرادًا بسؤال ابن عباس وجوابه اتفاقًا؛ فإن المتعة بنكاح المرأة مؤجلًا كان مباحًا، ثمَّ نسخ يوم خيبر، ثمَّ أبيح يوم الفتح، ثمَّ نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى الآن وإلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثمَّ ارتفع، وأجمعوا على تحريمه. وأما المُتْعَةُ المرادة بسؤال ابن عباس وأمره بها، فالظاهر أنها الإحرام بالعمرة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (967)، كتاب: الجنائز، باب: جعل القطيفة في القبر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ح 2". (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 235)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 104)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 476)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 491)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 362)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 243)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 385).

إلى الحج في أشهر الحج قبل الحج، ثمَّ الحجّ من عامه، وهو المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، قال ابن عبد البر: لا خلاف في ذلك بين العلماء (¬1). وقال ابن الزُّبير، وعلقمة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير: معنى التَّمتُّع في الآية: المحصَر يفوته الحجُّ، فيتحلل بعمل عمرة، ثمَّ يحج في العام المقبل، فيكون متمتِّعًا بما بينهما في العامين، وقد نُقل عن ابن عمر وعثمان النَّهيُ عن ذلك، وهو نهي أولوية، لا نهي تحريم وكراهة؛ للتَّرغيب في الإفراد؛ فإنَّه أفضل؛ لكونه أكثر عملًا، ولا يجبر بدم ولا غيره. وقد انعقد الإجماع بعد ذلك على جواز الإفراد والتَّمتع والقِران من غير كراهةٍ. واختلف العلماء من الأفضل في الثلاثة. وقوله: "فَأمَرَنيِ بِهَا" يدل على جوازها من غير كراهةٍ. وقوله: "وَكانَ ناسٌ كَرِهُوهَا"، الكراهة منقولة عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما -، وقد قام عمر بذلك فقال: إن الله تعالى يحلُّ لرسوله ما شاء بما شاء، وإنَّ القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله، وأبقوا نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة (¬2). قال المازريّ: وقد اختُلف في المتعة الَّتي نهى عنها عمر في الحج: فقيل: هي فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: هي العمرة في أشهر الحجّ، ثمَّ الحجُّ من عامه (¬3). وعلى هذا، إنما نهى عنها ترغيبًا في الإفراد -الَّذي هو أفضل- لا أنه يعتقد بطلانها أو تحريمها. ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 93). (¬2) رواه مسلم (1217)، كتاب: الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 169).

قال القاضي عياض: الظاهر أن المتعة المكروهة إنما هي فسخ الحج إلى العمرة، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يضرب الناس عليها، ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج، وإنَّما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة -رضي الله عنهم- أن فسخ الحج إلى العمرة كان خصوصًا في تلك السنة؛ للحكمة التي اقتضته، والله أعلم (¬1). وقوله: "وَسَألتُهُ عَنِ الهَديِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ أَو بقَرَةٌ أَوْ شاةٌ أو شِركٌ في دَمٍ". أما الهَدْيُ: فهو ما يُهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، لكن المراد به في الآية والحديث؛ ما يجزئ في الأضحية من الإبل والبقر والغنم، ويقال: هَدْي وهَدِي، بإسكان الدال وتخفيف الياء، وبكسرها وتشديد الياء، ذكرهما الأزهري وغيره، قال الأزهري: أصله التشديد، والواحدة هَدْية وهَدِية، وتقول: أهديتُ الهديَ (¬2). وأما الجَزُورُ: فلفظها مؤنث، نقول: هذه الجزور، والمراد بها البعير، ذكرًا كان أو أنثى، وجمعها جُزُر وجِزار (¬3). والبقَرَةُ: فهي الواحدة من البقر، وهو اسم جنس للذكر والأنثى، ويقال في الواحدة -أيضًا-: باقورة، والبيقور، والبقير، والبقرات، كلها بمعنى البقر، مشتقة من بقرت الشيء: إذا شققته؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة، ومنه قيل لمحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم-: الباقر؛ لأنه بقر العلم، فدخل فيه مدخلًا بليغًا (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 156)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 636)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 204). (¬3) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 98)، (مادة: جزر). (¬4) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 102)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 145)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 73)، (مادة: بقر).

والشاةُ: الواحد من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وأصلها: شوهة، ولهذا إذا صغرت عادت الهاء فقيل: شُوَيْهة، والجمع شياه بالهاء في الوقف والدرج (¬1). وقولُه: "أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ"؛ أي: ما يجزي ذبحه في الأضحية عن سبعة؛ كالبدنة ونحوها. وقوله: "فيها" الضمير فيها عائد إلى المتعة؛ أي: الواجب على من تمتع بالتحلل بين العمرة والحج بما كان محرمًا عليه في إحرامه، إما في عام أو عامين، دمٌ صفته ما ذكر، والله أعلم. واعلم: أن لوجوب الدم للمتمتع عند الجمهور من العلماء أربع شرائط: أحدها: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. والثاني: أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة. والثالث: أن يحرم بالحج في مكة، ولا يعود إلى الميقات لإحرامه. والرابع: ألَّا يكون من حاضري المسجد الحرام. فمن وجدت فيه هذه الشرائط، فعليه ما استيسر من الهدي، وهو دم شاةٍ أو نحوه، يذبحه يوم النحر، فلو ذبح قبله بعدما أحرم بالحج، فذهب بعض أهل العلم إلى جوازه؛ كدماء الجبرانات، وذهب بعضهم إلى عدم الجواز قبل يوم النحر؛ كدم الأضحية، والله أعلم. وقولهُ: "رَأَيتُ في المَنَام كأن إنسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبرُورٌ، وعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ" الى آخره: الحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثمٌ. واعلم أن الاستئناس بالرؤيا فيما يقوم عليه الدليل الشرعي، ليس من باب التقوية له، وإنما هو للتنبيه على عظم قدر الرؤيا، وأنها جزء من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، وهذا الاستئناس والترجيح ليس منافيًا للأصول. ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 103)، و"النهاية في غريب الحديث" للنووي (2/ 521 - 522)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 510)، (مادة: شوه).

الحديث الثاني

وتكبيرُ ابن عباس - رضي الله عنه - وقوله: "سنة أَبي القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -: يدل على أنه تأيد بالرؤيا واستبشر بها. وفي ذلك دليل على ما قلناه من الاستئناس والتنبيه على عظم قدر الرؤيا في الشرع، والله أعلم. وفي الحديث: دليل على السؤال عن العلم. وفيه دليل: على جواز المتعة. وفيه دليل: على وجوب الدم فيها، بشروطه. وفيه دليل: على أن للرؤيا مدخلًا في الأحكام الشرعية، إذا لم تنافها. وفيه: عرض الرؤيا على الكبار والعلماء. وفيه: التكبير عند استعظام الأمر والاستبشار به. وفيه: التنبيه على عظم قدر الرؤيا. وفيه: التنبيه على الخلاف في العلم ليجتنب ويُعمل بالوفاق. [وفيه: العمل بالأدلة الظاهرة والباطنة في الأحكام] (¬1). وفيه: أن المقصود من العبادة موافقة العلم، والإخلاص، والصبر، وطلب القبول، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَن عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: تَمَتعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجة الوَدَاعِ، بِالعُمْرَةِ إِلى الحَج، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأهل بِالعُمْرَة إلى الحَج، فَكَانَ في الناس مَنْ أهْدى مِنْ ذي الحليفَةِ، وَمنهم مَمن لم يُهْدِ، فَلَما قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ للناسِ: "مَن كَانَ مِنكُم أَهْدَى، فَإنهُ لَا يَحِل مِنْ شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتى يقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يكنْ أَهْدَى، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح 2".

فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ وَبالصفَا وَالمَرْوة، وَلْيقصِّر، وَلْيَحلِلْ، ثم ليُهِلَّ بِالحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثلاَثةَ أَيامٍ في الحَج وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ". فَطَاف رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاستَلَمَ الركْنَ أَولَ شَيءٍ، ثمَّ خَب ثلاَثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالبَيْتِ عِنْدَ المَقَام رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأتى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالمَروَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثمَّ لَمْ يَحِل مِنْ شَيْء حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النحرِ، وَأفاضَ، فَطَافَ بِالبَيْتِ، ثمَّ حَلَّ مِنْ كُل شَيْءٍ حَرمَ مِنْه، وَفَعَلَ مِثلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أهْدَى فَسَاقَ الهَدْيَ مِنَ النَّاسِ (¬1). أَما قول ابنِ عُمَر: "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ": فهو محمول على التمتع اللغوي، وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا آخرًا؛ فإن ابن عمر روى أنه أحرم أولًا مفردًا، فتعين أن قوله: "تَمتَّعَ" على أنه كان قارنًا، وأدخل العمرة على الحج؛ لأجل سوق الهدي معه؛ فإن من ساق الهدي لا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وإنما لم يفسخ الحج إلى العمرة؛ كما أمر غيره؛ لأجل ما كانت الجاهلية تعتقده من عدم جواز العمرة في أشهر الحج، فأراد - صلى الله عليه وسلم - إبطال ما كانوا عليه بفعله وقوله، وترفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتخاذ الميقات بإدخال العمرة على الحج والفعل. وقولهُ: "فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِالعُمْرة إلَى الحَج"؛ أي: بإدخال العمرة على الحج، وإنما قال: في حجة الوداع؛ لينفي تمتع الإحصار، وليدل بتعين ذلك فيها باستقرار حكم إدخال العمرة على الحج؛ حيث إنه الآخِر من فعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع. وقولهُ: "وَأَهْدَى فَسَاقَ الهَدْيَ مَعَهُ مِن ذِي الحُلَيْفَةِ" هو بيان للمكان الذي ابتدأ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1606)، كتاب: الحج، باب: من ساق البدن معه، ومسلم (1227)، كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع.

سوق الهدي منه، وهو ميقات أهل المدينة ومن مر بها من غير أهلها، ليبين أَن ذلك سنة مؤكدة ينبغي لكل أحد فعلها ممن قدر على سوقه عند إحرامه وميقاته. وقوله: "وَبَدَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأهَل بِالعُمْرَةِ الَى الحَج؛ فهو بيان وتفسير لقوله: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على ما شرحناه. وقوله: "وَكَانَ مِنَ الناسِ مَن أَهدَى فَسَاقَ الهَديَ مِن ذِي الحُلَيْفَةِ، وَمنْهُم مَن لمَ يُهدِ": هو بيانٌ لسوق الهدي، وأنه ليس بحتم، بل هو سنة، من شاء فعله، ومن لم يفعله لم يأثم. ثم قوله: فَلَما قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ للناسِ: "مَنْ كَانَ مِنكُم أَهْدَى، فَإنهُ لَا يَحِل مِن شَيءٍ حَرُم مِنهُ حَتى يقْضِيَ حَجهُ" إلى آخره، في هذه الجملة دليل على أن فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي جائز، لبيان مخالفة الجاهلية في منعهم العمرة في أشهر الحج. واختلف العلماء في ذلك، هل كان خاصًّا للصحابة -رضي الله عنهم- تلك السنة خاصةً، أم هو باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصًّا، بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحجٍّ، وليس معه هدي، أن يقلب إحرامه عمرة، ويتحلل بأعمالها، وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختصٌّ بهم في تلك السنة؛ لمخالفة الجاهلية في تحريم العمرة في أشهر الحج، ودليلُهم في ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة (¬1)؛ يعني: فسخ الحج إلى العمرة، وما رواه النسائي في "سننه" عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ! فُسخ لنا الحجُّ خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: "بل لنا خاصة" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1224)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع. (¬2) رواه النسائي (2808)، كتاب: مناسك الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق =

وأما حديث سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: "لأبد" (¬1)، فمعناه: جواز الاعتمار في أشهر الحج، أو القِران، فالعمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة، كذلك القِران، وفسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم. وقولُه: "وَمَنْ لَمْ يكنْ أَهْدَى، فَليَطُفْ بِالبيتِ وَبِالصفَا وَالمَروَةِ، وَلْيقصرْ وَلْيَحْلِلْ، ثم لْيُهِلَّ بِالحَجِّ" في هذه الجملة بيان؛ لأن من ساق الهدي لا يتحلل، وهذا متفق عليه، ومن لم يسق الهدي، يجوز له إدخال العمرة على الحج قبل الطواف، ويتحلل منها. وإن أفعال العمرة هي: الطواف، والسعي، والتقصير أو الحلق، وإنما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتقصير ليبقى على رأسه ما يحلقه في الحج؛ فإن الحلق في الحج أفضلُ منه في العمرة، ولا شك أنهما جائزان في الحج والعمرة، والحلق أفضل؛ لدعائه - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين بالمغفرة مرتين، وللمقصرين مرة، وكل منهما نسك. ومعنى قوله: "وَلْيَحْلِلْ"؛ أي: يصير حلالًا، بمعنى أنه يحتاج بعد ذلك إلى تجديد عمرة، أو فعل آخر، قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي - رحمه الله -: ويحتمل عندي أن يكون المراد بالأمر بالإحلال: هو فعل ما كان حرامًا عليه في حال الإحرام؛ من جهة الإحرام، ويكون الأمر للإباحة، والله أعلم (¬2). وقوله: "ثُم لْيهِلَّ بِالحَجِّ" معناه: يحرم به في وقت الخروج إلى عرفات، لا أنه يهل عقب تحلل العمرة بالحج؛ بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بـ: "ثم"، التي هي للمهلة والتراخي. ¬

_ = الهدي، وابن ماجه (2984)، كتاب: المناسك، باب: من قال: كان فسخ الحج لهم خاصة، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 469)، والحاكم في "المستدرك" (6201). (¬1) رواه مسلم (1216)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 54).

وقوله: "وَلْيُهْدِ" المراد به: هدي التمتع، وهو واجب بشروط متفق عليها عند الشافعية، تقدم ذكرها في الحديث قبله قريبًا، واختلفوا في ثلاثة شروط أخر: أحدها: نية التمتع. والثاني: كون الحجِّ والعمرة في سنة واحدة وشهر واحد. والثالث: كونهما عن شخص واحد. والأصح عدم اشتراط هذه الثلاثة، والله أعلم. وقولُه: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا" عدم وجدان الهدي يكون بذاته، وبعدم ثمنه، وبكونه يباع بأكثر من ثمن مثله، وبامتناع صاحبه من بيعه، فمتى وجد شيء من هذه الصور، انتقل المتمتع إلى الصوم، سواء كان واجدًا لثمنه في بلده أم لا. وقولُه: "فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ، فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أيامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ": هذا موافق لنص كتاب الله تعالى، وقد تعلق وجوب الصوم بعدم وجدان الهدي، وإن كان قادرًا عليه في بلده، أو بأكثر من ثمن مثله، على ما بيناه؛ لأن صيامه ثلاثة أيام في الحجِّ إذا عدم الهدي لا يقتضي الاكتفاء بهذا البلد في الحال ثلاثة أيام في الحج، وهي محصورة، فلا يمكن أن يصوم في الحج إلا إذا كان قادرًا عليه في الحال، عاجزًا عن الهدي في الحال، وهو المراد. واعلم أن أيام الحجِّ سبعة؛ أولها السابع من ذي الحجة، وآخرها الثالث عشر منه، ولِمَا بعدَ السابعِ منها أسماء، فالثامنُ: يوم التروية؛ لأن الناس يتروون فيه للذهاب إلى عرفة، والتاسع: يوم عرفة؛ لوقوفهم بها، والعاشر: يوم النحْرِ؛ لنحرهم الذبائح بمنى، والحادي عشر: يوم القر؛ لاستقرارهم بمنى، والثاني عشر: يوم النفر الأول؛ لجواز نفرهم منها لمن أراد التعجل، والثالث عشر: يوم النفر الثاني، فمن كان متمتعًا، وصام الأيام الثلاثة الأول من السبعة، فقد أتى بما وجب عليه، وإن كان أولى ترك صوم يوم عرفة، وصوم يوم قبل السبعة، ولا يجوز صوم يوم النحر بالإجماع؛ للنهي عن صومه، فإن لم يصمها قبله، وأراد صومها في أيام التشريق، اختلف قول الشافعي؛ في صحته، ومقتضى

الأحاديث الصحيحة جوازه وصحته، والأشهر عنه: عدم الصحة، ويرجع ذلك إلى مقدمة، وهي أن أيام التشريق والمقام بمنى لأجل أفعال الحج الباقية، هل هي من أيام الحج، ووقتها من وقت الحج؟ ولا شك أن أيام الحج تنطلق عليها، ولا شك أن سبب وجوبها التمتع بالعمرة إلى الحج وعدم الهدي، فلا يجوز تقديم صومها على التمتع، ويجوز صومها بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج، والأفضل ألا يصومها حتى يحرم بالحج، فلو صامها قبل الفراغ من العمرة، لم يجز، وبه قال مالك، وجوزه الثوري، وأبو حنيفة، ولو ترك صيامها حتى مضى العيد والتشريق، لزمَهُ قضاؤها عند الشافعية، وقال أبو حنيفة: يفوت صيامها، ويلزمه الهدي إذا استطاعه، والمراد بالرجوع: انتهاؤه، وهو وصوله إلى وطنه وأهله، وقيل: ابتداؤه؛ وهو فراغه من الحج بمنى، ورجوعه إلى مكة من منى، وهما قولان للشافعي ومالك، وبالثاني قال أبو حنيفة، ولو لم يصم الثلاثة ولا السبعة حتى عاد إلى وطنه، لزمه صوم عشرة أيام. وفي اشتراط التفريق بين الثلاثة والسبعة إذا أراد صومها خلاف: قيل: لا يجب؛ لأنه أمر به تخفيفًا على المتمتع، وقد زال ذلك. والصحيح: وجوبه، ليحكي القضاء الأداء، فيجب التفريق بقدر الواقع في الأداء، وهو بأربعة أيام، ومسافة الطريق بين مكة ووطنه، والله أعلم. وقولُه: "وَطَافَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ" هذا بيان لطواف المتمتع بتقديم العمرة على الحج، فيكون طوافه - صلى الله عليه وسلم - للقدوم، وهو مستحب لا واجب، والسنَّة فيه البداءة به أول قدومه قبل فعل كل شيء، وهو تحية المسجد الحرام؛ بخلاف باقي المساجد، فإن تحيته ركعتان. وقولُه: "وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ" يعني: مسحه بيده، والسنَّة لمن دخل المسجد الحرام أن يبتدئ قبل طوافه باستلام الحجر الأسود، وهو المراد بقوله: واستلم الركن. والسر في البداءة به قبل الطواف؛ أنه يمين الله تعالى في الأرض،

ونزل من الجنة، وهو أشد بياضًا من الثلج، وإنما اسودَّ بخطايا بني آدم؛ لأنهم يأتونه للزيارة متلوثين بالخطايا، فيتقون منها باستلامهم إياه، فيكسبه السواد، ويلبسهم النقاء من الذنوب، والله أعلم. وقولُه: "ثُم خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبع"؛ أي: رَمَلَ، وتقدم بيانه. ويحبب بعد استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه ثلاثًا، أن يجاوزه بجميع بدنه، ويجعله على يمينه وهو مستقبل الكعبة، سواء كان قريبا منها، أو بعيدًا، بشرط كونه داخل المسجد الحرام، ثم يبتدئ الطواف، ويمر بجميع بدنه على الحجر الأسود وركنه خارجًا عنهما، ويستلمه، ويُقبِّله ثانيًا، ويثبت قدميه عند ذلك، ويرفع رأسه من تقبيله، ويدَه من استلامه؛ لئلا يمر عليه بزحمة الناس أو عجلة نفسه ويدُه أو رأسه متصلة به، فيكون قد طاف وبعضه في جزء من البيت، فلا يكون طائفًا به، بل فيه، والذي أمر الله تعالى الطواف بالبيت لا فيه، ثم يخبُّ ثلاثة أطواف خارج البيت والحجر من المكان الذي ذكرنا إليه. وإنما ذكرنا هذه الكيفيَّة؛ لأن في أساس البيت شيئًا خارجه عن بنائه يسمى: شاذروانًا، وهو من البيت، فيجب الطواف خارجه، والله أعلم. وقولُه: "وَمشى أَرْبَعًا" يعني: ومشى الأربعة الباقية من السبع، فلو لم يرمل في الثلاثة الأول، لم يرمل فيها؛ لأن السنَّة فيها المشي. وقولُه: "وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ رَكعَتَيْنِ، ثُم سَلَّمَ". اعلم: أن رَكعتي الطواف سُنَّة مؤكدة؛ لهذا الحديث، وليستا ركنًا، ولا شرطًا لصحة الطواف، بل يصحُّ بدونهما، ولا يجبر تأخيرهما ولا تركهما بدم ولا غيره. لكن قال الشافعي - رحمه الله -: يُستحبُّ إذا أخرهما أن يريق دمًا. وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها بشيء، وهو أنها تدخلها النيابة، فإن الأجير يصليها عن المستأجر، على أصح الوجهين عند الشافعية، والوجه الآخر: أنها تقع عن الأجير نفسه. وقولُه: "عِنْدَ المَقَامِ"؛ يعني: خلفه، فيجعله بينه وبين الكعبة، لا أمامه،

ولا عن يمينه، ولا شماله، قال أصحاب الشافعي: فلو لم يصلِّهما خلفه لزحمة الناس أو لغيرها، صلاهما في الحِجْر، فإِنْ لم يفعل، ففي المسجد، وإلا، ففي الحرم، وإلا، فخارجه، ولا يتعين لهما زمان ولا مكان، بل يجوز أن يصلِّيهما بعد رجوعه إلى وطنه وفي غيره، ولا يفوتان ما دام حيًّا. قالوا: ويُستحب أن يقرأ في الركعة الأولى منهما بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون]، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص]، ثبت ذلك في "صحيح مسلم" من رواية جابر (¬1)، ويجهر بالقراءة إِنْ صلاهما ليلًا، ويسرُّ إِنْ كان نهارًا. وقولُه: "فَانصَرَفَ، فَأتى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالمروَةِ سَبعَةَ أَطوَافٍ": في هذه الجملة دليل على شرعية السعي عقب الطواف للقدوم وركعتيه، ويجب أن يكون السعي بعد طواف صحيح، وهو إما طواف القدوم، أو الزيارة، ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع؛ لأنه يؤتى به بعد فراغ المناسك، فإذا بقي السعي، استحال أن يكون طواف وداع، وقد اشترط بعض الفقهاء أن يكون السعي عقب طواف واجب، ولا شك أن هذا الطواف وقع واجبًا على ما قررناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولًا مفردًا، ثم أدخل عليه العمرة، فصار متمتعًا، قارنًا؛ لأجل سوق الهدي، وليتبين جواز العمرة في أشهر الحج. ومن العلماء من لم يجعله واجبًا، بل هو طواف قدوم؛ كمفرد الحجِّ، وهو مستحب. وقولُه: "فَانْصَرَفَ فَأتى الصَّفَا" بفاء التعقيب في الانصراف وإتيان الصفا عقب قوله: "ثم سلَّم من ركعتي الطواف" يقتضي ألا يكون بين ذلك فعل شيء آخر؛ حيث إن التعقيب بالفاء يقتضي عدم المهلة، ولا شك أنه ثبت في "صحيح مسلم" رجوعه بعد سلامه من ركعتي الطواف إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وذكر الماوردي في "الحاوي": أنه إذا استلم الحجر، استحب أن يأتي الملتزم؛ وهو ما بين الركن وباب الكعبة، ويدعو فيه، ويدخل الحِجْر، ويدعو تحت الميزاب (¬1). وذكر محمد بن جرير الطبري: أنه يطوف، ثم يصلي ركعتيه، ثم يأتي الملتزم، ثم يعود إلى الحجر الأسود، فيستلمه، ثم يخرج إلى الصفا للسعي. وذكر الغزالي - رحمه الله -: أنه يأتي الملتزم إذا فرغ من الطواف، قبل ركعتيه، ثم يصليهما. وليس في حديث الكتاب ولا في حديث "صحيح مسلم" الذي ذكرناه شيء مما ذكر هؤلاء، سوى استلام الركن بعد ركعتي الطواف، فالأولى اتباعه، وترك ما عداه، إلا أن يرد شيء مما ذكروه في سنة فيتَّبع، والله أعلم. والبداءة بالصفا في السعي واجب في المرة الأولى من السبع، وبالمروة في المرة الثانية منه، وبختم السبع بالمروة، وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة: أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالصفا، وختم بالمروة، وهو الصحيح من مذاهب جماهير العلماء والشافعية وغيرهم، وعليه عمل الناس في الأزمنة المتقدمة والمتأخرة. وقال ثلاثة من الشافعية: إنه يحسب الذهاب من الصفا إلى المروة والعود منها إليه مرة واحدة، وهو أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبو حفص بن الوكيل، وأبو بكر الصيرفي، قال شيخنا أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى-: وهذا قول فاسد، لا اعتداد به، ولا نظر إليه؛ إنما ذكرته للتنبيه على ضعفه؛ لئلا يغتر به من وقف عليه، والله أعلم (¬2). وقد سُمي -في حديث الكتاب، وفي غيره من الأحاديث- السعيُ طوافًا، وهو جائز بلا كراهة، والله أعلم. وقولُه: "ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّه وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (4/ 154). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 567).

النَّحْرِ، وَأفَاضَ وَطَافَ بِالبَيْتِ، ثُم حَلَّ مِنْ كُل شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ" إلى آخر الحديث، إنما لم يحل من عمرته من أجل سوق الهدي؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وفي ذلك دليل على أن ذلك حكم القارن. وفي قوله: "وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ سَاقَ الهَدْيَ"؛ بيان عدم خصوصه - صلى الله عليه وسلم - بحكم سوق الهدي وعدم تحلله بسببه، وأنه عامٌّ له ولغيره ممن ساقه، وفي حديث آخر: فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى حل منهما جميعًا. وفي هذا الحديث جمل من أحكام مناسك الحجِّ: منها: جواز إدخال العمرة على الحج. ومنها: استحباب سوق الهَدْي من الميقات. ومنها: أن من تركه لا إثم عليه، لكن فاته الفضل. ومنها: أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمرته، ومَنْ لم يسقه يتحلَّل منها، ويتمتَّع فيما بينها وبين إحرامه بالحج من مكة. ومنها: وجوب الصوم على المتمتع بشروطه المتقدمة. ومنها: وجوب الصوم على من لم يجد الهدي. ومنها: أن الصوم عشرة أيام. ومنها: وجوب التفريق بين الثلاثة والسبعة، وبماذا يفرق؟ فيه خلاف وتفصيل تقدم ذكره. ومنها: وجوب الطواف على المتمتع والقارن حين قدومه مكة. ومنها: استحباب استلام الحجر الأسود حين قدومه قبل طوافه. ومنها: استحباب الرَّمل فيه، بشرط استعقابه السعي. ومنها: استحباب مشي الأربعة الباقية. ومنها: استحباب ركعتين بعد الطواف خلف المقام. ومنها: شرعية السعي بعد فعل الركعتين.

الحديث الثالث

ومنها: وجوب البدأة بالصفا في السعي وختمه بالمروة. ومنها: جواز تسمية السعي طوافًا. ومنها: أن يحل الدماء للهدايا والجبرانات المتعلقة بالحج، قرانًا كان، أو تمتعًا، ونحوها يوم النحر بمنى. ومنها: استحباب فعل طواف الإفاضة يوم النحر. ومنها: أنه يتحلل من كل شيء حرم عليه بالإحرام بالطواف للإفاضة. ومنها: الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في مناسك الحج، فعلًا وقولًا وتقريرًا، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَن حَفصَةَ زَوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -رَضِيَ اللهُ عَنهَا-: أنهَا قالَت: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا شَأنُ الناسِ حَلُّوا مِنَ العُمرة وَلَم تَحِلَّ أَنتَ مِن عُمرتكَ؟ قالَ: "إنِّي لَبَّدتُ رَأسِي، وَقلَّدتُ هَديي، فَلَا أَحِل حَتى أَنحرَ" (¬1). أَما حَفْصَة: فتقدم ذكرها في باب: فضل الجماعة ووجوبها. قولُها: "مَا شَأنُ الناسِ حَلُّوا مِنَ العُمرَة" وَلَم تَحِل أَنتَ مِن عمْرتكَ؟ "، معناه: العمرة المضمومة إلى الحج، وقد كان الناس حَلوا من العمرة هذا الإحلال، وهو الذي وقع للصحابة -رضي الله عنهم- في فسخ الحج إلى العمرة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحلل منها، لأجل سوق الهدي، فيكون قارنًا، وتكون "من" بمعني "مع"؛ أي: مع عمرتك، وقيل: "من" بمعني "الباء"؛ أي: بعمرتك؛ بأن تفسخ حجتك الي عمرة كما فعل غيرك. وكون "من" بمعني "مع" أو "الباء" ضعيفان، كيف وإضافة العمرة إليه - صلى الله عليه وسلم - تقتضي تقرير عمرة له، والعمرة التي يقع بها التحلل لم تكن مقررة ولا موجودة؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1491)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، ومسلم (1229)، كتاب: الحج، باب: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد.

وقيل: أرادت بالعمرة: الزيارة؛ لاشتراكها هي والحج في الوضع اللغوي، وهو الزيارة، وهو ضعيف -أيضًا-؛ لأن الاسم إذا انتقل إلى حقيقة عرفية، كانت اللغوية مهجورة في الاستعمال. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إني لَبدْتُ رَأْسِي"؛ التلبيد: أن يجعل في الشعر ما يسكنه ويمنعه من الانتفاش؛ كالصبر أو الصمغ أو ما أشبههما، وفِعلُ ذلك سنَّة بالاتفاق. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وَقَلَّدْتُ هَدْييِ، فَلَا أَحِل حَتَّى أَنْحَرَ"؛ التقليد: أن تقلد الهدي قلادة في عنقه من خيوط ونحوها، وتعلق فيها نعل، أو قربة، أو جلد، ونحو ذلك بعراها؛ ليكون ذلك علامة على أنه هدي لله تعالى، فيجتنب عما يجتنب غيره من الأذى وغيره، وإن ضلَّ، رُدَّ، وإن اختلط بغيره تميزه، ولما فيه من إظهار الشعار وتنبيه الغير على فعل مثل هذا جميعه، وهو سنة بالاتفاق في الإبل، وأما في الغنم، فاستحبه جمهور العلماء، ومنعه مالك، وأما في البقر، فهو عند الشافعي والعلماء جميعهم مستحب، والله أعلم. وقوله: "فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ"؛ هو اتِّباع لقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، فمن ساق الهدي لا يحل [له] التحلل من عمرته حتى ينحر يوم النحر بمنى. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز سؤال المرأة زوجها الكبير المقتدى به عما وقع من مخالفة الناس له فيما فعله. ومنها: الجواب بذكر السبب في مخالفتهم له. [ومنها: جواز تسمية القارن معتمرًا، وإن لم يحل من عمرته] (¬1). ومنها: استحباب تلبيد شعر المحرم عند إحرامه. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح 2".

الحديث الرابع

ومنها: أن من لبد رأسه لم يكفِه إلا الحلقُ يوم النحر. ومنها: أن من ساق الهدي لم يحل حتى يحلق يوم النحر. ومنها: أن القارن لا يتحلل بالطواف والسعي، بل لا بد في تحلله من الوقوف بعرفات، والرمي والحلق والطواف، كما في الحاج المفرد. ومنها: أن سوق الهدي سنة مؤكدة، وكذا تقليده، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أُنْزلَتْ آيةُ المُتْعَةِ فِي كتَابِ اللهِ تعالى، فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يَنْهَ عنها حتى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ برأيهِ مَا شَاءَ. قال البخاري: يقال: إنه عمر (¬1). ولمسلمٍ: نَزلَتْ آيهُ المُتْعَةِ، يَعْني: مُتْعَةَ الحَجِّ، وَأَمَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُم لَمْ تَنْزِلْ آيةٌ تَنْسَخَ اَيةَ مُنْعَةِ الحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ (¬2): ولهما: بمعناهُ. أما عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ: فهو وأبوه صحابيان، وتقدم ذكره أول باب: التيمم. ومن مناقب عمران - رضي الله عنه -: أن الملائكة كانت تسلم عليه؛ لبواسير كانت به، فكان يصبر على ألمها، ثم اكتوى، فانقطع سلامهم عليه، ثم ترك الكي، فعاد سلامهم عليه (¬3)، ثم إن عمران - رضي الله عنه - لم يخبر بذلك الأمر إلا في مرضه الذي توفي فيه، وأمر بكتمان التحدث به إلا بعد موته؛ خوفَ التعرض للفتنة في الحياة، بخلاف ما بعد الموت. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4246)، كتاب: التفسير، باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. (¬2) رواه مسلم (1226)، (2/ 900)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام. (¬3) رواه مسلم (1226)، (2/ 899)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام.

أما المراد بآية المتعة؛ فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. والمتعة التي نهى عنها، ليست متعة النساء، ولا متعة فسخ الحج إلى العمرة؛ لأن شيئًا منهما لم ينزل القرآن بجوازه، بل هي متعة الحج، وهي الإحرام بالمتعة في أشهر الحج، ثم الحج من عامه، وهو نهي تنزيه بيانًا للأولى والأفضل، وحذرًا من فعله بترك إفراد الحج والتتابع عليه طلبًا للتخفيف على أنفسهم. وفي هذا الحديث دليل على جواز العمرة في أشهر الحج، ثم الحج. وفيه إشارة إلى جواز نَسْخِ القرآن بالسُّنَّة؛ إذ لو لم تكن كذلك، لما كان لقوله: "ولم ينه عنها" فائدة؛ حيث إن النهي يقتضي رفع الحكم الثابت بالقرآن، فلو لم يكن الرفع ممكنًا، لَمَا احتاج إلى قوله: "ولم ينه عنها"؛ إذ لا طريق لرفعه إلا جواز نسخه، وورود السنة بالنهي. وقد يوجد من ذلك أن الإجماع لا ينسخ؛ إذ لو نسخ، لقال: ولم يتفق على المنع منها؛ لأن الاتفاق يكون سببًا لرفع الحكم، وكان يحتاج إلى نفيه، كما نفى نزول القرآن بالنسخ وورود السنَّة بالنفي. [و] فيه دليل: على وجوب بيان اللفظ المشترك بإضافته إلى المعنى المقصود منه. وفيه دليل على جواز نسخ القرآن بالقرآن. * * *

باب الهدي

باب الهدي الحديث الأول عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: فَتلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، أَو قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى البيتِ، وَأقامَ بِالمَدِينةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيء كَانَ لَهُ حِلٌّ (¬1). أَما الإشْعَارُ: فهو شقُّ صفحة السنام بحديدةٍ ونحوها طولًا، وسَلْتُ الدم عنه، وأصله من الإعلام والعلامة، وإشعار الهدي؛ لكونه علامة له (¬2). واختلف الفقهاء، هل يكون في الصفحة اليمنى أو اليسرى؟ فمذهب الشافعي: في اليمنى. وأَما التَّقْلِيدُ: فتقدم ذكره في الحديث الذي قبل الحديث الذي قبل هذا. وفي الحديث أحكامٌ: منها: استحباب فَتْلِ القلائد للهدي، ويكون من جلود أو خيوط ونحوهما. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1612)، كتاب: الحج، باب: إشعار البدن، ومسلم (1321)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه، واستحباب تقليده وفتل القلائد. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 64 - 65)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 173).

الحديث الثاني

ومنها: استحباب الإشعار والتقليد، أما التقليد: فتقدم تفاصيل محله من الإبل والبقر والغنم، وأما الإشعار: فاتفق العلماء على أن الغنم لا تشعر؛ لضعفها عن الجرح، ولأنه يُستر بالصوف، وأما البقر: فيستحب إشعاره كالإبل. والإشعار مشروع سنة عند جمهور العلماء من السلف والخلف، وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: الإشعار بدعة؛ لأنه مثلة، وذلك مخالف للأحاديث الصحيحة المشهورة، بل لا يسلم أنه مثلة، بل هو كالفصد والحجامة والختان والوشم. ومنها: استحباب بعث الهدي من البلاد، وان لم يكن معه صاحبه. ومنها: استحباب إشعاره عند بعثه، بخلاف ما إذا سافر صاحبه؛ فإنه لا يُستحب إشعاره إلا عند الإحرام. ومنها: أنه لا يحرم على من بعث الهدي شيء من محظورات الإحرام، ونقل فيه خلاف عن بعض المتقدمين، وهو مشهور عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. ومنها: استحباب إعانة أهل الطاعات بما أمكن من المعونات، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: أَهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً غَنَمًا (¬1). في الحديث دليل على إهداء الغنم، وهو جائز بالاتفاق، وتقدم استحباب تقليده، وعدم إشعاره. وفيه: تتبُّع آثاره - صلى الله عليه وسلم -، ونقلها إلى أمته، وروايتها، والعمل بها. وفيه: قبول خبر المرأة، وهو متفق عليه عند العلماء، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1614)، كتاب: الحج، باب: تقليد الغنم، ومسلم (1321)، (2/ 958)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن نَبِي اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَسوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ: "اِرْكَبْهَا"، قَالَ: إنَّهَا بَدَنة! قَالَ: "اِرْكَبْهَا"، فَرَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النبِي - صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظٍ: قَالَ في الثانِيةِ أو في الثالِثَةِ: "اِرْكَبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ: وَيْحَكَ! " (¬1). أما الرجل المبهم: فلا أعلمه مسمًّى. وأَما البَدَنَةُ: فهي هنا من الإبل، وتستعمل في البقر والغنم لغةً، وتطلق على الذكر والأنثى، وجمعها: بُدْنٌ، بإسكان الدال وضمها، وبالإسكان جاء القرآن، وسُمّيت بدنةَ؛ لعظمها وسمنها؛ لأنهم كانوا يسمنونها للإهداء (¬2). وقوله: "وَيْلَكَ! ": قال الجوهري (¬3): الوَيْلُ: كلمةُ عذاب، وهو منصوب بفعل مضمر، وكذلك: ويحك، وتستعمل ويلك في المخاطبة للتغليظ على المخاطب، واستحقَّ المخاطبةَ به لتأخرِه عن امتثال الأمر حتى روجع مرةً أو مرتين، وقد يخاطب بها من غير قصد إلى معناها وموضعها على عادة العرب في ذلك؛ كقولهم: ويحه، وويله، وقد ورد نحو هذا في الحديث، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَرِبَتْ يَدَاكَ" (¬4)، وأفلح وأبيهِ (¬5). وقولُه: " أَوْ: ويحكَ": هو شكٌّ من الراوي، هل قال: ويلك، أو: ويحك، قال الحسن البصري - رحمه الله -: ويح كلمة رحمة (¬6)، وقال أبو الفرج بن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1604)، كتاب: الحج، باب: ركوب البدن، ومسلم (1322)، كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها. (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 185)، و"العين" للخليل (8/ 51)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 144). (¬3) نظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1846)، (مادة: ويل). (¬4) رواه البخاري (4802)، كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين، ومسلم (1466)، كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) تقدم تخريجه في حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - في قصة الأعرابي الذي سأل عن الإسلام وما يجب عليه. (¬6) رواه ابن حبان في "الثقات" (9/ 197)، وابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 141).

الجوزي: ويح كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، يرثي له (¬1). وإنما أمره - صلى الله عليه وسلم - بركوبها مخالفة لسيرة الجاهلية في مجانبة الانتفاع بالسائبة والوصيلة والحامي، وإهمالها بلا انتفاع بها، حتى نقل عن بعض العلماء وجوب ركوبها؛ لهذا المعنى، ولمطلق الأمر. وفي هذا الحديث دليل على جواز ركوب البدنة المهداة، وقد اختلف العلماء فيه على مذاهب، مع الاتفاق على تحريم الإضرار بها، فقال الشافعي - رحمه الله -، وابن المنذر، وجماعة، ورواية عن مالك: يجوز ركوبها لحاجة، ولا يجوز من غير حاجة، وقال مالك في الرواية الأخرى، وأحمد، وإسحاق: له ركوبها من غير حاجة، وهو قول عروة بن الزبير من التابعين، وأهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: لا يركبها إلا ألا يجد منه بدًا. وتقدم نقل وجوب الركوب عن بعض العلماء، والدليل على عدم الوجوب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى، ولم يركب هديه، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا. وفي رواية في "صحيح مسلم"، عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "اركبها بالمعروف، إذا أُلجئتَ إليها، حتى تجدَ ظهرًا" (¬2)، وهي رد على عروة بن الزبير وموافقيه، والله أعلم. وفيه دليل: على أن الكبير القدوة، إذا رأى ما فيه مصلحة تتعلق ببعض أتباعه، أن يأمره بها. وفيه: المبادرة إلى قبول الأمر. وفيه: أنه إذا لم يبادر إلى قبوله، زُجر بالكلام الغليظ بعد تَنْبيهِهِ على الأمر ثانيًا وثالثًا. وفيه: جواز مسايرة الكبار في الركوب في السفر ونحوه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن الجوزي (2/ 486). (¬2) رواه مسلم (1324)، كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَن عَلِي بْنِ أَبي طَالِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَمَرَني النبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدنِهِ، وَأَن أتصَدقَ بِلُحُومهَا وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا، وَأَلا أعطِيَ الجَزارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: "نحْنُ نُعطِيه مِنْ عِندِنَا" (¬1). تقدم الكلام على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وَأما بُدْنه: فتقدم الكلام أنها بإسكان الدال وضمها، جمع بَدَنَة، ومعنى القيام عليها: إصلاح شأنها في علفها ورعيتها وسقيها، وسوقها، وإزالة الضرر عنها، والعمل فيها بما يجب ويشرع ويحذر. وأما الأَجِلة؛ فهي جمع جِلاَل، وهو ما يتخذ من الثياب تشق على الأسنمة، إذا كانت قليلة الثمن، لئلا تسقط، وتعقد أطراف الجلال على أذنابها، ويكون ذلك بعد إشعارها لئلا يتلطخ بالدم. والأَجِلة مختصة الاستحباب بالإبل عند العلماء، قال القاضي عياض - رحمه الله -: وفي شق الجلال على الأسنمة، فائدة أخرى، وهي إظهار الإشعار لئلا تُستر تحتها (¬2). والجزار معروف، وهو الذي يتولى سلخها وتقطيع اللحم، وتفصيل أعضاء الحيوان المهدى، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز الإشعار به في سوق الهدايا، والقيام عليها وذبحها، وفي التصدق بها. ومنها: استحباب التصدق بجميع لحومها وجلودها وجلالها، ولا شك أنه أفضل، وواجب في بعض الدماء. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1631)، كتاب: الحج، باب: يتصدق بجلال البدن، ومسلم (1317)، كتاب: الحج، باب: في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 66).

ومنها: أن الجلود تجري مجرى اللحم في التصدق؛ لأنها من جملة ما يتصدق به، فحكمها حكمه. ومنها: استحباب تجليل الهدايا، وهو سنة ثابتة تختص بالإبل، وهو مما اشتهر فعله من عمل السلف، ورآه مالك، والشافعي، وأبو ثور، وإسحاق، قال العلماء: ويستحب أن تكون قيمة الجلال ونفاسته بحسب حال المهدي، وكان بعض السلف يجلل بالوشي، وبعضهم بالحبرة، وبعضهم بالقباطي والملاحف والأزر. قال مالك - رحمه الله -: وتشق على الأسنمة إن كانت قليلة الثمن، لئلا تسقط، قال: وما علمت من ترك ذلك إلا ابن عمر - رضي الله عنهما -؛ استبقاءً للثياب؛ لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الأنماط والبرود والحبر. قال: وكان لا يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات. قال: وروي عنه أنه كان يجلل من ذي الحليفة، وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها، فإذا مشى ليلة عرفة، نزعها؛ فإذا كان يوم عرفة، جلَّلهَا، فإذا كان عند النحر، نزعها؛ لئلا يصيبها الدم. قال مالك: أما الجِلال، فتنزع بالليل، لئلا يخرقها الشوك، قال: وأستحب إن كانت الجِلال مرتفعة أن يترك شقها، وألًا يجللها حتى يغدو إلى عرفات، فإن كانت بثمن يسير، فمن حينِ يحرم يشق ويجلِّل. وكان ابن عمر أولًا يكسو الجلال الكعبة، فلما كسيت، تصدق بها على الفقراء، والله أعلم. ومنها: عدم إعطاء الجزار منها شيئًا مطلقا بكل وجه، وهو ظاهر الحديث، ولا شك في امتناعه إذا كان إعطاؤه أجرة للذبح؛ لأنه معاوضة ببعض الهدي، وهي في الأجرة كالبيع، وهو لا يجوز، أما إذا كان ما يعطيه منها خارجًا عن الأجرة زائدًا عليها، فالقياس جوازه، ولكن السنة منعته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن نعطيه من عندنا"، فأطلق المنع من غير تقييد، والذي يخشى من إعطائه منها أن يقع

الحديث الخامس

مسامحة في الأجرة؛ لأجل ما يأخذه الجزار من اللحم، فيعود إلى المعاوضة في نفس الأمر، فمن يميل إلى سد الذرائع، يتمسك بهذا الحديث؛ خشية من مثل هذا. ومنها: جواز الاستئجار على النحر ونحوه. ومنها: تحريم بيع جلد الهدي والأضحية وسائر أجزائهما بعوض من الأعواض، سواء كان ينتفع به في البيت وغيره؛ أم لا، وسواء كانا تطوعًا أو واجبين، لكن إن كانا تطوعًا، فله الانتفاع بالجلد ونحوه للبس وغيره، وبذلك قال الشافعية والمالكية والحنابلة، وحكوه عن أئمتهم، وبه قال عطاء، والنخعي، وإسحاق، وحكى ابن المنذر، عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق: أنه لا بأس ببيع جلد هديه، ويتصدق بثمنه، قال: ورخَّص في بيعه أبو ثور، وقال النخعي، والأوزاعي: لا باس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها، وجوز الحسن البصري إعطاء الجزار جلدها، وهو منابذ للسنة، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أتى عَلَى رَجُل قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ فنَحَرَهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةَ؛ سُنه مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). أما زياد بن جبير؛ فهو تابعي ثقفي بصري، ثقة، قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: هو من الثقات، وفي رواية: رجل معروف. وروى له البخاري ومسلم. أما أبوهُ جُبَيْرٌ؛ فهو بضم الجيم وفتح الباء الموحدة ثم الياء المثناة الساكنة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1627)، كتاب: الحج، باب: نحر الإبل مقيدة، ومسلم (1320)، كتاب: الحج، باب: نحر البدن قيامًا مقيدة.

ثم الراء، ابنُ حَيَّة -بفتح الحاء وبالياء المثناة المشددة-، وهو تابعي جليل، روى له الأئمة والبخاري، ولجبير في "المؤتلف والمختلف" مشابه ستة، والله أعلم (¬1). وأَما قولُه: "ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيدَة"؛ فمعناه: انحرها قائمة معقولة اليد اليسرى، وهو قيدها. وصحَّ في "سنن أبي داوود" بإسناد على شرط مسلم، عن جابر: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى (¬2)، قائمةً على ما بقي من قوائمها. والمراد بالبَدنَة هنا؛ البعير ونحوه من الإبل، وأما البقر والغنم، فليس هذا حكمها، بل يُستحب ذبحها مضطجعة على جنبها الأيسر، وتترك رجلها اليمنى، وتُشد قوائمها الثلاث، وهذا الذي قاله ابن عمر - رضي الله عنه - للرجل هو المشار إليه في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]؛ أي سقطت بعد النحر، فوقعت جنوبها على الأرض، وأصل الوجوب: الوقوع. قال مجاهد - رحمه الله -: الصواف: إذا علقت رجلها اليسرى، وقامت على ثلاث قوائم (¬3). وفي الحديث أحكام: منها: تعليم الجاهل. ومنها: عدم السكوت على مخالفة السنة. ومنها: استحباب نحر الإبل معقولة من قيام على الصفة المذكورة، وهو ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 347)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 526)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 253)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 441)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 515)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 308). (¬2) رواه أبو داود (1767)، كتاب: المناسك، باب: كيف تنحر البدن، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 237). (¬3) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 53).

مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، والجمهور، وقال أبو حنيفة، والثوري: يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة، وحكى القاضي عياض - رحمه الله - عن عطاء: أن نحرها باركة أفضل، والمذهبان مخالفان للسنة، واتِّباعها أولى، والله أعلم. ومنها: ما كانت الصحابة -رضي الله عنهم- عليه من التقيد بالسنة، قولًا وعملًا واعتقادًا، والله -سبحانه- أعلم. * * *

باب الغسل للمحرم

باب الغسل للمحرم عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ حُنينٍ: أَن عَبدَ اللهِ بنَ عَباسٍ، وَالمِسوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ، اخْتَلَفَا بالأَبْواءِ، فَقَالَ ابْنُ عَباسٍ: يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ، وقَالَ المِسوَرُ: لا يَغسِلُ المُحْرِمُ رأْسَهُ، قَالَ: فَأرْسَلَني ابنُ عَباس إلى أَبي أَيوبَ الأَنْصَارِي، فَوَجَدْتُهُ يَغتَسِلُ بينَ القَرْنَيْنِ، وَهُوَ يستترُ بِثَوْبٍ، فَسَلمْتُ عَلَيهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَني الَيْكَ ابْنُ عَباسِ، يَسألكَ: كَيفَ كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيوبَ يَدَه عَلَى الثوْبِ، فَطَأطَاَهُ حَتى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُم قَالَ لإنْسَانِ يَصُبُّ عَلَيْهِ المَاءَ: اصْبُبْ، فَصَب عَلَى رَأْسِهِ، ثُم حَركَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَر، ثُم قَالَ: هَكَذَا رَأيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يفعَلُ (¬1). وفي رواية: قَالَ المِسوَرُ لابنِ عَباس: لَا أمَارِيكَ أبدًا (¬2). القَرْنَان: العمودان اللذان تشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة. أما عَبدُ اللهِ بنُ حُنينٍ، فهو قرشي هاشمي، مولاهم، المشهور أنه مولى عبد الله بن عباس، -رضي الله عنهم-، ويقال: مولى علي بن أبي طالب، وهو تابعي ثقة، روى له البخاري ومسلم، وكان قليل الحديث. وأما أبوه حنين: فهو بضم الحاء المهملة، وفتح النون، وياء مثناة تحت ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1743)، كتاب: الحج، باب: الاغتسال للمحرم، ومسلم (1205)، كتاب: الحج، باب: جواز غسل المحرم بدنه ورأسه. (¬2) رواه مسلم (1205)، (2/ 864)، كتاب: الحج، باب: جواز غسل المحرم بدنه ورأسه.

ساكنة ثم نون، قيل: إنه مولى مثقب، ومثقب مولى مسحل، ومسحل مولى شماس، وشماس مولى ابن عباس (¬1). وأَما ابن عباس وأبو أيوب الأنصاري، فتقدَّم ذكرهما. وأما المِسْوَر: فهو بكسر الميم وسكون السين المهملة، وفتح الواو المخففة، ثم راء، وأبوه مَخْرمَةُ بميمين مفتوحتين بينهما خاء معجمة ساكنة، ثم راء مفتوحة، وآخره تاء تأنيث. ويشتبه مِسْور -بكسر الميم- بمُسَوَّر -بضمها وفتح السين المهملة المخففة، وتشديد الواو المفتوحة، ثم الراء-، ويشتبه مخرمة بمخرفة -بالفاء بدل الميم الثانية-، والمسور بن مخرمة وأبوه صحابيان. أما المِسْور: فكنيته: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو عثمان بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري، وأمه الشيقاء بنت عوف، أخت عبد الرحمن بن عوف، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في عقب ذي الحجة سنة ثمان عام الفتح، وهو ابن ست سنين، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، وسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصحَّ سماعه منه، وفي سنة مولده ولد مروان بن الحكم. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وعشرون حديثًا، اتَّفقا على حديثين، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث، روى عنه: أبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف، وخلق من التابعين الكبار، وغيرهم. أصابه المنجنيق وهو يصلي في الحجر بمكة، في فتنة ابن الزبير، سنة ثلاث وسبعين، فمكث خمسة أيام، ثم مات في ربيع الآخر، وصلى عليه ابن الزبير، ودفن بالحجون، ثم قتل ابن الزبير بعده يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى، وقيل: في جمادى الآخرة، فكان سنُّ المِسْور وابنِ الزبير اثنتين ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 286)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 439)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 169).

وسبعين سنة؛ لأنهما ولدا في عام واحد، المسور بمكة، وابن الزبير بالمدينة، وقتلا بمكة في عام واحد. وروى للمسور أصحاب السنن والمساند (¬1). وأما أبو مخرمةُ: فكنيته أبو صفوان، وهو الأكثر، وقيل: أبو المسور، وهو ابن عم سعد بن أبي وقاص بن أهيب، أحد العشرة. وكان من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم، وحسن إسلامه، وكان له سن وعلم بأيام الناس، وبقريش خاصة، وكان يؤخذ عنه النسب، وعاش مئة وخمس عشرة سنة، وعمي في آخر عمره، وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينًا، وهو أحد من أقام أنصاب الحرم في خلافة عمر - رضي الله عنه -، أرسله عمر، وأرسل معه أزهرَ بن عبد عوف، وسعيدَ بن يربوع، وحويطبَ بن عبد العزى، فجددوها، والله أعلم (¬2). وأَما الأَبْواء: فهو بفتح الهمزة، وسكون الباء الموحدة، وفتح الواو، وبمد الألف بعدها، وهو اسم قرية من عمل الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثمانية وعشرون ميلًا، قال صاحب "المطالع": قال بعضهم: سميت بذلك لما فيها من الوباء. ولو كان كما قال، لقيل: الأوباء، أو يكون مقلوبًا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 410)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 297)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 394)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1399)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 772)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 170)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 399)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 581)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 390)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 119)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 137). (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 15)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 362)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 394)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1380)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (57/ 147)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 119)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 392)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 542)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 50).

منه. والصحيح: أنها سميت بذلك لتبواء السيول بها، وبه توفيت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقد فسر المصنف - رحمه الله - القرنين؛ وهما تثنية قرن، ولا ينحصر تفسيرهما بعمودين، بل لو كان عوضهما بناء، سميا قرنين، والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد: منها: جواز التناظر في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها، إذا غلب على ظنِّ كل واحد من المتناظرين حكم. ومنها: الرجوع إلى من يُظنُّ أن عنده علمًا فيما اختلف فيه. ومنها: وصول خبر الواحد، وأن العمل به سائغ شائع بين الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لأن ابن عباس أرسل إلى أبي أيوب عند اختلافه هو والمسور؛ ليستعلم منه حكم المسألة برسول واحد، وهو ابن حنين، ومن ضرورته قبول خبره عن أبي أيوب فيما أرسل فيه. ومنها: أخذ الصحابي عن الصحابي بواسطة التابعي. ومنها: وجوب الرجوع إلى النص عند الاجتهاد، والأخذ به. ومنها: ترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص، وهذا لا خلاف فيه عند أحد من العلماء. ومنها: التستر عند الغسل. ومنها: جواز الاستعانة للمتطهر بمن يستره، أو يصب عليه، وقد ثبت في الاستعانة أحاديث صحيحة، وما ورد في تركها لا يقابلها في الصحة، فيحمل على أن تركها أولى. ومنها: جواز الكلام حال الطهارة. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 57).

ومنها: جواز السلام على المتطهر في الوضوء والغسل للحاجة، بخلاف الجالس على الحدث. ومنها: جواز تحريك اليد على الرأس حال الغسل للمحرم، إذا لم يؤد إلى نتف الشعر. ومنها: أن الإنسان إذا كان عنده علم من الشيء، ووقع فيه اختلاف، لا بأس أن يراجع غيره فيه ممن عنده علم به؛ لأن سؤال ابن عباس - رضي الله عنه - عن كيفية غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، يشعر بأنه كان عنده علم به؛ إذ لا يحسن السؤال عن كيفية الشيء إلا بعد العلم بأصله. ومنها: أن غسل البدن كان مقرر الجواز عنده في الإحرام؛ إذ لم يسأل عنه، وإنما سأل عن كيفية غسل الرأس، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه موضع الإشكال في المسألة؛ لأن تحريك اليد على ما الشعر عليه، يخاف منه: الانتتاف. ومنها: جواز اغتسال المحرم في رأسه وجسده، وهو مجمع عليه إذا كان الغسل واجبًا من جنابة أو حيض ونحوهما، وأما إذا كان لمجرد التبرد، فمذهب الشافعي، والجمهور: جوازه، وجوز أصحاب الشافعي الغسل بالسدر والخطمي بحيث لا ينتف شعرًا، ولا فدية عليه، وقال مالك وأبو حنيفة: هو حرام، وعليه الفدية؛ لأنه ترفه. قال شيخنا أبو الفتح القاضي - رحمه الله -: فإن استدل بالحديث على هذا المختلف فيه، فلا يقوى؛ لأنه حكاية حال لا عموم فيه، وحكاية الحال يحتمل المختلف فيه، ويحتمل غيره، ومع الاحتمال لا تقوم الحجة، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 69).

باب فسخ الحج إلى العمرة

باب فسخ الحجِّ إلى العُمْرَةِ الحديث الأول عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدَ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَهَلَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ بِالحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَد مِنْهُمْ هَدْيٌ غيْرَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِي مِنَ اليَمَن، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بمَا أَهَلَّ بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمَرَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَة، فَيَطُوفُوا ثُمَّ يقصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إلا مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إلى مِنًى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يقْطُرُ! فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الهَدْيَ، لأَحْلَلتُ"، وَحَاضتْ عَائشِةُ، فنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهاَ، غيْرَ أنها لَمْ تَطُفْ بِالبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ، طَافَتْ بِالبَيْتِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ! فَأمَرَ عَبْدَ الرحمنِ بْنَ أَبي بكر أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَج (¬1). أما جابر وعائشة، فتقدم ذكرهما، وكذلك عبد الرحمن بن أبي بكر تقدم ذكره في باب: السواك. أما قوله: "أَهَلَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ بِالحَجِّ"؛ أصل الإهلال: رفع الصوت، ثم استعمل في التلبية استعمالًا شائعًا، ويعبر به عن الإحرام، قال القاضي عياض - رحمه الله -: هذا مما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج؛ حيث أحرم به ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1568)، كتاب: الحج، باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (1250)، كتاب: الحج، باب: إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وهذا لفظ البخاري.

النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مفرِدًا، ويؤيده توقفهم على التحلل بالعمرة ما لم يتحلل، حتى أغضبوه واعتذر إليهم بسبب سوق الهدي، ومثله تعليق علي وأبي موسى إحرامهما على إحرام النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقولُه: "وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَطَلْحَة"؛ هذا الكلام كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة إذا لم يكن هدي، وتقدم ذكر الهدي. وأما طلحة: فهو أحد العشرة -رضي الله عنهم- المشهود لهم بالجنة، وكنيته أبو محمد، ولقَّبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطلحة الخير يومَ أحد، وطلحة الفياض، وطلحة الجود يوم حنين، وهو ابن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأب السابع، أمه: الصعبة بنة الحضرمي -واسمه: عبد الله- أختُ العلاء بن الحضرمي، أسلمت - رضي الله عنها -، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين كعب بن مالك - رضي الله عنهما -. لم يشهد بَدْرًا، لكن ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه منها، وشهد أُحُدًا وما بعدها من المشاهد، وهو من المهاجرين الأولين، وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، والخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر - رضي الله عنه -، والستة أصحاب الشورى، الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقه قبل أن يقتل: "طلحةُ ممن قضى نحبه وما بدلوا تبديلًا" (¬2). رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثًا، اتَّفق البخاري ومسلم على ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 172). (¬2) رواه الترمذي (3740)، كتاب: المناقب، باب: مناقب طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، وقال: غريب، وابن ماجه (126)، في المقدمة، باب: فضل طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -، والطبراني في (المعجم الكبير) (19/ 324)، عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -.

حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة، روى عنه السائب بن يزيد، وجمع كثير من كبار التابعين، وأولاده: موسى، ويحيى، وعيسى، وغيرهم، وروى له أصحاب السنن والمساند. قُتل - رضي الله عنه - يوم الجمل يوم الخميس، وقيل: يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وقيل: في رجب سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة وهو ابن أربع، وقيل: اثنتين وستين سنة، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: ستين، وقيل غير ذلك، قتله مروان بن الحكم (¬1). وقول عليٍّ - رضي الله عنه -: "أَهْلَلْتُ بمَا أَهَل بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - "، اعلم أنه ثبت أن عليًّا وأبا موسى الأشعري - رضي الله عنَهما- أحرم كل واحد منهما إحرامًا معلقًا؛ وهو أن يحرم إحرامًا كإحرام فلان، فينعقد إحرامه، ويصير محرمًا بما أحرم به فلان، وهذا النوع أحد وجوه الإحرام الجائزة؛ وهي خمسة: الإفراد، والتمتع، والقران، والإطلاق، والتعليق، ولا شك أنه اختلف آخر إحرام أبي موسى وعلي في التحلل، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا بالبقاء على إحرامه من غير تحلل؛ لأنه علق إحرامه بإحرام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان معه - صلى الله عليه وسلم - الهدي، فشاركه عليٌّ في الهدي وعدم التحلل؛ بسبب الهدي، وصار قارنًا، وأما أبو موسى، فلم يكن معه هدي، فصار له حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يكن معه، وقد قال: "لَولا الهَدْيُ لجعلتُها عُمْرَةً وتحللت" فأمر أبا موسى بذلك، فاعتمر وتحلل لعدم الهدي، والله أعلم. وفي إحرام علي وأبي موسى دليل لمذهب الشافعي وموافقيه: أنه يصح ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 214)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 344)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 471)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 87)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 764)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (25/ 54)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 84)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 239)، و "تهذيب الكمال" للمزي (13/ 412)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 23)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 529)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 19).

الإحرام معلقًا بإحرام الغير، وانعقاد إحرام المعلق بما أحرم به الآخر، فإن كان إحرام الغير بحج، كان هذا بحج، وإن كان بعمرة، فبعمرة، وإن كان بهما، فبهما، وإن كان مطلقًا، كان مطلقًا، ويصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة، ولا يلزمه موافقةُ الغير في الصرف. ومن العلماء من خص التعليق بصورة غير ما ذكره الشافعية، ومنعه غيره، ومن أبي التعليق قال: الحج مخصوص بأحكام ليست في غيره، ويجعل محل الخلاف منها، والله أعلم. قولهُ: "فَأمَرَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً"؛ فيه عموم لجميع أصحابه، وهو مخصوص بأصحابه الذين لم يكن معهم هدي، وهو مبين في حديث آخر، وفسخ الحج إلى العمرة كان جائزًا بهذا الحديث؛ حسمًا لمادة الجاهلية في أن الاعتمار في أشهر الحج من أفجر الفجور. وقد اختلف الناس -فيما بعد هذه الواقعة- هل يجوز فسخ الحج إلى العمرة؛ كما في هذه الواقعة، أم لا؟ فمنهم من جوزه، ومنهم من منعه، وجعله مخصوصًا بالصحابة، وروى فيه حديثًا عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وعن الحارث بن بلال عن أبيه -أيضًا-، وتقدم ذلك، والله أعلم. قوله: "فَلْيَطُوفُوا ثُم يقصِّرُوا" يحتمل أن يريد بالأمر بالطواف: الطوافَ بالبيت، والسعيَ بين الصفا والمروة؛ حيث إن العمرة لا بد فيها من السعي، ويحتمل أنه استعمل الطواف فيهما؛ حيث إن السعي يسمى طوافًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158]. وقوله "فَقَالُوا: ننطْلِقُ إلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يقْطُرُ! "؛ المراد بقولهم هذا: المبالغةُ في الكلام، لا حقيقة الإمذاء أو الإنزال؛ لأنهم إذا حلوا من العمرة، وواقعوا النساء، كان ذلك قريبًا من إحرامهم بالحج؛ لقرب الزمان بين الإحرام والمواقعة والإنزال، فقيل مبالغة: "وذكر أحدنا يقطر" إشارة إلى اعتبار المعنى

في الحج، وهو الشعث وترك الترفه، وطول زمن الإحرام يحصل هذا المقصود، وقصره يضعفه بعدم الشعث ووجود الترفه، وكأنهم استنكروا زوال المقصود وضعفه لقرب إحرامهم من تحللهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِن أَمرِي مَا اسْتدبَرْتُ، مَا أَهْدَيْتُ"؛ اعترض على ذلك بقوله: "إن لو تفتحُ عملَ الشيطان"، والجمع بينهما: أن المنع من قول: لو أني فعلت كذا، لكان كذا، ولو كان كذا وكذا، لما وقع كذا وكذا، إنما هو لما فيه من صورة عدم التوكل، ولنسبة الأفعال إلى القضاء والقدر فقط. أما إذا استعملت "لو" في معنى تمني القربات؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمرِي" في هذا الحديث، فلا كراهة فيه، ولا منع، ويلزم من ذلك أن يكون ما تمناه - صلى الله عليه وسلم - أفضل، وهو التمتع لو وقع، الجواب: أن الشيء قد يكون أفضل لذاته، وقد يكون أفضل لما يقترن به من مصلحة لا لذاته، فالتمتع مقصود للترفه ولجبره بالدم، لكنه لما اقترن به قصد موافقة الصحابة -رضي الله عنهم- في فسخ الحج إلى العمرة لما شق ذلك عليهم، وهو أمر زائد على مجرد التمتع، اقتضى ذلك أفضليته من هذا الوجه خاصة، لا من حيث هو هو، ولا يلزم من ذلك أن يكون التمتع بمجرده أفضل، فاقتضى ترجيحه لذلك، لا لذاته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْلَا أَن مَعِي الهَدْيَ لأَحْلَلْتُ" هذا معلل بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]؛ فإن فسخ الحج إلى العمرة يقتضي التحلل بالحلق عند الفراغ من العمرة، ولو تحلل بالحلق عند فراغه منها، لحصل الحلق قبل بلوغ الهدي محله. وفي معنى الحلق التقصيرُ، فيمتنع كما يمتنع الحلق قبل بلوغ الهدي محله، وحينئذ يؤخذ من هذا: التمسكُ بالقياس، مع أن النص لم يرد إلا في الحلق، فلو وجب الاقتصار على النصِّ، لم يمتنع فسخ الحج إلى العمرة لأجل هذه العلة؛ فإنه حينئذ كان يمكن التحلل من العمرة بالتقصير، ويبقى النصُّ معمولًا به في منع الحلق حتى يبلغ الهدي محله، فحيث حكم بامتناع التحلل من العمرة، علل بهذه العلة، دل ذلك على أنه أجرى

التقصير مجرى الحلق في امتناعه قبل بلوغ الهدي محله، مع أن النصَّ لم يدل عليه بلفظه، وإنما ألحق به بالمعنى. وقوله: "وَحَاضَتْ عَائشِةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فنسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا، غيْرَ أنهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ"؛ اعلم: أن ابتداء حيض عائشة - رضي الله عنها - هذا، كان يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشر، وطهرها كان يوم السبت في يوم النحر عام حجة الوداع، ذكره ابن حزم في كتابه "حجة الوداع" (¬1)، وإنما لم تطف الحائض بالبيت، إما لذات الحيض، أو لملازمته لدخول المسجد. وثبت في رواية أخرى صحيحة أنها بعد أن طَهُرت طافت وسعت، وأُخذ من ذلك أن السعي لا يصح إلا بعد طواف صحيح، فإنه لو صح، لما لزم من تأخير الطواف بالبيت تأخير السعي؛ لأنها قد فعلت المناسك كلها غير الطواف بالبيت؛ فلولا اشتراط تقدم الطواف على السعي، لفعلت في السعي ما فعلت في غيره من المناسك. وحينئذ يكون في رواية الكتاب: "فَلَما طَهُرَتْ طَافَتْ بِالبَيْتِ"، حَذْف تقديره: وَسَعت، تبينه هذه الرواية في طوافها وسعيها بعد طهارتها، وكون السعي لا يكون إلا بعد طواف صحيحٍ إما واجب وإما مندوب، هو مذهب مالك، والشافعي، واتفق عليه أصحابهما. غير أن المالكية زادوا قولًا واحدًا آخر: أن السعي لا بد أن يكون بعد طواف واجب، وإنما صححوه بعد طواف القدوم؛ لأنه عند القائل بصحة السعي بعده واجب، لا مندوب، والله أعلم. وقولُها: "تَنْطَلِقُونَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ"؛ تريد: العمرة التي فسخوا الحج إليها، والحج الذي أنشؤوه من مكة. وقولُها: "وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ"؛ هذا مشعر بأن عائشة - رضي الله عنها - لم تحصل لها العمرة؛ إما لأنها لم تتحلل بفسخ حجها الأول إلى العمرة، وإما بأنها فسخته ¬

_ (¬1) انظر: "حجة الوداع" لابن حزم (ص: 124).

ثم حاضت، فتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها، وإدراك الحج، فأحرمت به، فصارت مدخلة للحج على العمرة،، وقارنة، فالأول ظاهر قولها: "وَأَنْطْلِقُ بِحَجَّة"، لكنه لما ثبت في روايات أخر صحيحة اقتضت أن عائشة اعتمرت، حيث أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بترك عمرتها ونقض رأسها وامتشاطها، وبالإهلال بالحج لما حاضت لامتناع التحلل من العمرة بوجوه: منها: الحيض، ومنها: مزاحمة وقت الحج، ومنها: امتناع إتمام أعمال العمرة وهو الطواف ودخول المسجد، ولم يمكن: رفض العمرة، فأهلت بالحج مع بقاء العمرة، فصارت قارنة، فأشكل قولها: "تنطلقون بحج وعمرة، وأنطلق بحج"، إذ هي على التقدير الثاني، قد حصل لها حج وعمرة، فهي قارنة، فاحتاج العلماء إلى تأويل ما أشكل على أن قولها: "تنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحجة"؛ أن المراد منه تنطلقون بحج مفرد عن عمرة، وعمرة مفردة عن حجة، وأنطلق بحجة غير مفردة عن عمرة، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة؛ ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حجة، وحجة مفردة عن عمرة. وهذا حاصل ما قيل في هذا الإشكال وجوابه، مع أن الظاهر خلافه بالنسبة إلى هذا الحديث، لكن الجمع بين روايات الحديث ألجأ العلماء إلى ذلك، وفيه جميعه دلالة على الرد على من يقول: القِران أفضل، والله أعلم. وقولُه: "فَأمرَ عَبدَ الرحمنِ بنَ أبي بكرٍ - رضي الله عنهما - أَن يَخرُجَ مَعَهَا إلَى التَّنْعِيمِ، فَاعتَمَرَتْ بَعْدَ الحج"؛ يعني: أخا عائشة لأبويها، وكان أكبر أولاد أبي بكر، كما تقدم. والتنعيم: مكان عند طرف الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال -وقيل: أربعة- من مكة، سُمي بذلك؛ لأن عن يمينه جبلًا يقال له: نعيم، وعن شماله جبل يقال له: ناعم، والوادي نعمان. والعلة في الإحرام بالعمرة من الحل؛ لقصد الجمع بين الحل والحرم في العمرة، كما وقع في الحج من الجمع بينهما؛ فإن عرفة من الحل خارج الحرم،

والوقوف بها من أركان الحج، حتى لو أحرم بالعمرة من مكة، أو في الحرم، هل ينعقد ويكون صحيحًا ويلزمه دم، أو يكون باطلًا؟ وللشافعي في ذلك قولان، وقال مالك: لا يصح، وشذ بعضهم فشرط الخروج إلى التنعيم بعينه، دون الخروج إلى مطلق الحل، وليس بشيء؛ بل المفهوم منه الخروج إلى مطلق الحل، وإنما أمر عائشة - رضي الله عنها - بالخروج مع أخيها للعمرة إلى التنعيم؛ لقربه من الحرم؛ فإنه أقرب جهات الحل من الحرم، لا لعينه، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحباب التلبية ورفع الصوت بها. ومنها: وجوب الإحرام على من أراد الحج أو العمرة أو أرادهما. ومنها: أن السنَّة سوق الهدي من الميقات. ومنها: أن الأفضل: الإحرام بالحج مفردًا. ومنها: جواز إدخال العمرة على الحج ويصير قارنًا. ومنها: أن من ساق الهدي لا يجوز له التحلل من العمرة. ومنها: مخالفة الجاهلية وجواز الاعتمار في أشهر الحج. ومنها: أن [على] العالم إذا حاول إحياء شرع أو سنَّة، أن يتلطف في ذلك بالاستدراج دون البغتة. ومنها: جواز مخالفة الأفضل لمصلحة أهم منه. ومنها: وجوب المبالغة ومخالفة العقول والطباع والعادات من أجلها. ومنها: جواز المباحثة وذكر العلل لطلب الحق والرجوع إليه والعمل به. ومنها: أن الحكم الخاص بزمن أو شخص لعلة يصير عامًّا، وإن لم توجد العلة. ومنها: الاعتذار لمخالفة العادة.

ومنها: جواز تسمية السعي طوافًا. ومنها: جواز المبالغة في الكلام، وإن لم يكن حقيقة لمقصود شرعي. ومنها: أن من عقل شيئًا من معاني الأحكام أن يذكرها بها للعلماء؛ ليقروه عليها، أو يردوه عنها. ومنها: جواز تمني الأمور الأخروية. ومنها: جواز استعمال "لو" فيها من غير كراهة، ولا يكون هذا تركًا للتوكل، ولا مخالفة للقضاء والقدر. ومنها: ترك فعل الراجح مراعاة لموافقة الأصحاب، إذا لم يكن محذورًا. ومنها: أن الحائض يصح منها جميع أفعال الحج غير الطواف بالبيت. ومنها: أن المحرم لا يحل له حلق رأسه أو تقصيره حتى يشرع في أسباب التحلل بمحله. ومنها: تحريم المسجد على الحائض، والطواف، وغيره من الصلاة والاعتكاف، وسواء خافت تلويثه أم لا، وسواء المرور فيه وغيره. ومنها: طلب الأفضل والأكمل في العبادة. ومنها: جواز الخلوة بالمحارم، وأنَّه لا يجوز سفر المرأة إلا مع ذي محرم، وسواء كان السفر قصيرًا أو طويلًا، وتقييد السفر بيوم أو ليلة أو بهما -في بعض الأحاديث- خرج على الغالب. ومنها: الجمع بين الحل والحرم في الإحرام بالعمرة. ومنها: أن الأفضل أن يحرم بها من الحل. ومنها: أن من جملة جهات الحل للإحرام بها التنعيم، وليس في الحديث دليل على أنه أفضل الجهات للإحرام بها. ومنها: أن العمرة المستقبلة لمن أفرد الحج، وأراد فعلها، لا يجوز إلا بعد الفراغ من الحج.

الحديث الثاني

واختلف العلماء في جواز فعلها في أيام التشريق لمن تعجل في يومين: فحرمه مالك وطائفة، وجوزه الشافعي وطائفة مع الكراهة، إما للخروج من اختلاف العلماء، وإما لخصوصية وجود أيام التشريق، وجواز الذبح والتضحية فيها، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالحَجِّ، فَأَمَرَنا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً (¬1). إنما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجعل ما أحرموا به من الحجِّ عمرة؛ لمخالفة الجاهلية فيما قرروه في النفوس من أنَّ العُمرة في أشهر الحجِّ من أفجر الفجور، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم، وتقرير جوازها في أشهر الحجِّ، وكونه يفسخ الحج إليها أبلغ في تقرير جوازها في أشهر الحجِّ. وقولُ جابر: "وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالحَجِّ"، ليس المراد به كل أصحابه -رضي الله عنهم-، بل المراد بعضهم، كما ورد في حديث آخر عن جابر: "فمنَّا من أهلَّ بحجة، ومنَّا من أهلَّ بعمرة" (¬2). وفي الحديث استحباب ذكر ما أحرم به من حج أو غيره في التلبية. وفيه دليل على جواز فسخ الحج إلى العمرة. وفيه دليل على جواز فعل العمرة في أشهر الحج. وفيه دليل على وجوب الرجوع في بيان الأحكام إطلاقًا وتقييدًا وعزيمة ورخصة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1495)، كتاب: الحج، باب: من لبّى بالحج وسمّاه، ومسلم (1216)، كتاب: الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة. (¬2) رواه البخاري (1487)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، لكن عن عائشة - رضي الله عنها -.

الحديث الثالث

وفيه دليل على المبادرة إليه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك جميعه، بقوله: فجعلناها عمرة، فأتى بفاء التعقيب الدالة على عدم التراخي من غير مهلة، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ، صَبِيحَةَ رَابعَةٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الحِلِّ؟ قَالَ: "الحِلُّ كُلُّهُ" (¬1). قوله: "قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رابِعَةٍ"، يعني؛ قدم مكة في حجه صبيحة ليلة رابعة، وكان ذلك يوم الأحد من ذي الحجة حيث كان يوم الجمعة بعد يوم عرفة، وهو التاسع. وقول الصحابة -رضي الله عنهم-: "أَيُّ الحِلِّ" هو استفسار منهم؛ لأنهم استبعدوا جواز جميع أنواع الحلِّ من الجماع المفسد للإحرام، فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - بما يقتضي التحلل المطلق، والذي يدل على هذا قولهم في الحديث قبله: "ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر"؛ فإن ذلك يُشعر باستبعادهم التحلل المبيح للجماع، والله أعلم. وفي الحديث دليل على فسخ الحجِّ إلى العمرة. وفيه دليل على أن التحلُّلَ بالعمرة تحللٌ مطلق بالنسبة إلى جميع محظورات الإحرام. وفيه دليل على أن التابع إذا وقع في ذهنه التخصص في لوازم المأمور به أن يسأل عنه مجملًا. وفيه: البيان بالعموم من غير ذكر المراد، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1489)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، ومسلم (1240) كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ أسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَنَا جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيُر العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةٍ، نَصَّ (¬1). أمَّا عُرْوة بنُ الزُّبَيْرِ؛ فكنيته: أبو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيٍّ، القرشيُّ، الأسديُّ، المدنيُّ، التابعيُّ، أحدُ فقهاء المدينة السبعة، سمع أباه، وأخاه عبد الله، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق، وخالته عائشة الصدِّيقة، وسعيدَ بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحكيمَ بن حزام، وابنه هشام بن حكيم، وباقي العبادلة المشهورين، وغيرهم من الصحابة والتابعين. روى عنه خلق كثير من التابعين، وبنوه: هشام، ومحمد، ويحيى، وعبد الله، وعثمان، ويتيمة أبو الأسود، ومحمد بن عبد الرحمن، وغيرهم، وروى له البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند. قال ابن شهاب: كان عروة بحرًا لا تكدره الدلاء (¬2)، وقال أيضًا: استخرته مع غيره فوجدته بحرًا لا يُنْزَف (¬3)، وقال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن (¬4)، وقال محمد بن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، فقيهًا، عالمًا، مأمونًا، ثبتًا، توفي في سنة أربع وتسعين، وقال البخاري: سنة تسع وتسعين، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1583)، كتاب: الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، ومسلم (1286)، كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. (¬2) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 255)، وابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 6)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 251). (¬3) انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 62). (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 45)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 253).

وقال يحيى بن بكير: مات سنة أربع أو خمس وتسعين (¬1). وَأَمَّا أُسامةُ بنُ زَيْدٍ؛ فتقدَّم ذكره قريبًا في باب: دخول مكة وغيره، في الحديث الثالث منه. أما إدخال هذا الحديث في باب فسخ الحج بالعمرة، فلا تعلق له [به]، وقد أدخله المصنف فيه، ويحتمل أن تعلقه به لما ساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدي من ميقات المدينة، وأدخل العمرة على الحج، ولم يتحلل منها بسبب سوق الهدي في مسافة سيره التي من جملتها: حين دفع من عرفات إلى مزدلفة، ومنها إلى منى، كان حكم سوق الهدي المانع من التحلل في تلك المسافة، حكم سيره بنفسه إذا سيرته، فوجد القائم عليه فجوة، نص، وإذا لم يجد، سار العَنَق به، وهذه مناسبة تسوغ إدخال الحديث في الباب، والله أعلم. وَأمَّا العَنَق؛ فهو انبساط السير، وهو بفتح العين المهملة والنون. والنَّصُّ: بفتح النون وتشديد الصاد، وهما نوعان من إسراع المشي، لكن العنق أرفقهما، والفجوة: بفتح الفاء: المكان المتسع، وهو الفجوة في "الصحيحين"، وفي بعض نسخ "الموطأ": فُرجة -بضم الفاء وفتحها، وبالراء قبل الجيم-، وهو بمعنى الفجوة (¬2). وفي الحديث أحكام: منها: السؤال عن العلم، والتفتيش عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - للتأسِّي به. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 178)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 31)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 395)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 194)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 176)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 237)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 85)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 305)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 11)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 421)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 62)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 163). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (22/ 201).

الحديث الخامس

ومنها: استعمال الرفق وترك العجلة في السير عند الازدحام؛ لعدم التأذي والإيذاء. ومنها: استحباب الإسراع عند ترك الزحمة، وخلوِّ الطريق؛ للمبادرة إلى مقصده من المناسك وغيرها، ولاتساع الوقت له في ذلك. ومنها: جواز الرواية والتحمل لمن سمع شيئًا، وإن لم يسأل عنه، ولا قصد المجيب ترويته إياه. ومنها: أن الإسراع في موضعه، والمشي في موضعه من مناسك الحج، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سيره لأصحابه: "عليكم السكينة، لتستعملوها في موضعها" (¬1)، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَسَأَلَ رَجُلٌ: فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: "اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ"، وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: "ارْمِ وَلَا حَرَجَ"، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيءٍ يَوْمَئِذٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" (¬2). هذا الوقوف كان بمنًى يوم النحر، وكان بعد صلاة الظهر، وقف على راحلته للخطبة، وهي إحدى خطب الحج المشروعة الأربعة، وهي الثالثة منها، والله أعلم. وقولُهُ: "لَمْ أشعر"؛ أصل الشعور: العلم، وهو مأخوذ من المشاعر، وهو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1587)، كتاب: الحج، باب: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة عند الإفاضة، ومسلم (1282)، كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، عن ابن عباس بلفظ: " ... أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع". (¬2) رواه البخاري (83)، كتاب: العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، ومسلم (1306)، كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي.

الحواس، فكأنه يستند إلى الحواس في عدم العلم. واعلم: أن النحر ما يكون في اللبَّة، والذبح ما يكون في الحلق. والوظائف يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، والسنَّة ترتيبها هكذا، فلو خالف وقدَّم بعضها على بعض، جاز، ولا فدية عليه، وعلى ذلك دل قولُه: "فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ، إِلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ". ومعنى قوله: "لَا حَرَجَ": لا شَيْءَ عليكَ مطلقًا، لا إثم ولا فدية، والله أعلم. وقولُه: "فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ"، إلى آخر الحديث؛ معناه: افعل ما بقي عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير. واعلم: أن نفي الحرج يستعمل لغة في نفي الضيق، وهو معنى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]؛أي: من ضيق، وقد استعمل كثيرًا عرفًا وشرعًا في نفي الإثم، فاستعماله في عدم الفدية فيه نظر، فهو خلاف الظاهر، لكن وجوب الفدية ضيق، وتركه إثم، على تقدير الوجوب، فحسن تفسير قوله: "ولا حرج" بنفيهما -أعني: الإثم والفدية-. واعلم: أنه قد يشعر التقييد كثيرًا في الأحاديث، بإضافة حجَّته - صلى الله عليه وسلم - إلى الوداع؛ حيث أشعرت بانتقاله أنه يحجُّ غيرها. ولم يحجَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلا حَجَّة واحدة، وهي حَجَّة الوداع، وقد نقل ابن إسحاق: أنه حجَّ أخرى -يعني: قبل الهجرة- من مكة، وروي في حديث في غير "الصحيح": أنه - صلى الله عليه وسلم - حجَّ قبل الهجرة حجتين، والله أعلم. وفي الحديث هذا فوائد: منها: وجوب اتباع أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحج؛ حيث إنهم سألوه عن تقديم بعض الأفعال الأربعة المذكورة على بعض، لما فعلها على صفة الترتيب

من تقديم الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف للإفاضة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم" (¬1). ومنها: وجوب السؤال عما وقعت المخالفة فيه؛ ليعلم جوازه أو أفضليته. ومنها: وجوب البيان على المسؤول إذا علم الحكم في المسؤول عنه. ومنها: أن السنَّةَ ترتيب الأفعال الأربعة على ما ذكرنا، وأنَّه لو خالف وقدَّم بعضها على بعض، جاز، ولا فدية عليه، وبهذا قال جماعة من السلف، وهو مذهب الشافعي، وله قول ضعيف: أنه إذا قدَّم الحلق على الرمي والطواف، لزمه الدم، بناء على قوله الضعيف: إن الحلق ليس بنسك. وبهذا القول -هنا- قال أبو حنيفة، ومالك. وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، والنخعي، وقتادة، ورواية شاذة عن ابن عباس: أَنَّ مَنْ قدَّم بعضها على بعضى لزمه دم، وهم محجوجون بهذه الأحاديث، فإن تأوَّلوها على أن المراد نفي الإثم، وادعوا أن تأخير البيان لوجوب الدم يجوز، قلنا: ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حرج" يخالف هذا التأويل؛ حيث معناه: أنه لا شيء عليك مطلقًا. وقد صرح في بعض الأحاديث في "صحيح مسلم" بتقديم الحلق على الرمي، وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمي، لا شيء عليه، واتفقوا على أنه لا فرق بين العامد والساهي في ذلك؛ في وجوب الفدية وعدمها، وإنما يختلفان في الإثم عند من يمنع التقديم، والله أعلم. نعم، ليس في الحديث المذكور -من السؤال والجواب- ما يدل على أن تقديمهم وتأخيرهم بعضَ الأفعال الأربعة على بعض كان عمدًا، ولا غيره، بل هو مطلق بالنسبة إلى حال السؤال والجواب، والمطلق لا يدل على أحد الخاصين بعينه، فلا يكون حجة في حال العمد. ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم التكليف والمؤاخذة، والحكم علق به، فلا يمكن اطِّراحه وإلحاق العمد به؛ إذ لا يساويه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث السادس

ومنها: أنه لا فرق في عدم وجوب شيء عليه -في تقديم بعض الأفعال على بعض- بين الجاهل والعالم، والناسي والعامد؛ حيث أطلق - صلى الله عليه وسلم - الجواب من غير استفسار عن السؤال، ونقل عن الإمام أحمد: أن ذلك في الناسي والجاهل، أما العالم العامد: ففيه روايتان، والوجوب: الفدية على العامد دون الجاهل والناسي قوي؛ من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم" (¬1). وهذه الأحاديث المرخصة في جواز التقديم مقيدة في السؤال بعدم الشعور من السائل، فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل الوجوب لاتِّباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اتِّباع الحَجِّ. ومن قال بوجوب الدم في العمد والنسيان عند تقديم الحلق الرمي، حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا حَرَجَ" على نفي الإثم دون نفي وجوب الدم، وتقدم الكلام على ذلك، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَرآهُ يَرْمي الجَمْرَةَ الكُبْرَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ، فَجَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). تقدَّم الكلام على ابنِ مسعود. وأما عبد الرحمن بن يزيد؛ فكنيته أبو بكر بن يزيد بن قيس، تابعيٌّ، كوفيٌّ، ثقة، روى له البخاري ومسلم، وهو أخو الأسود بن يزيد، سمع عثمان بن عفان من العشرة، وعائشة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسلمانَ الفارسيَّ من موالي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (1662)، كتاب: الحج، باب: من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، ومسلم (1296)، كتاب: الحج، باب: رمي جمرة العقبة من بطن الوادي.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخاه الأسودَ، وعلقمة بن قيس، وغيرهم. وروى عنه جمع كثير من التابعين الصغار وغيرهم. وأما النَّخَعِيُّ -بفتح النون والخاء المعجمة، وبالعين المهملة، ثم ياء النسب-، فنسبة إلى النَّخع: قبيلة من العرب، نزلت الكوفة، واسم النخع: جسر -بفتح الجيم- بن عمرو بن عُلَة -بضم العين وفتح اللام المخففة ثم هاء التأنيث- بن خالد بن مالك بن أدد، سمي بالنخع؛ لأنه ذهب عن قومه. ومن هذه القبيلة خلق كثير من الفضلاء العلماء، العبَّاد، الزهَّاد، الشجعان، التابعين وغيرهم (¬1). وَأَمَّا الجَمْرَةُ الكُبْرَى؛ فهي جمرة العقبة. وَأَمَّا قَولُ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ: "هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البَقَرَةِ"؛ فإنَّما خصَّ سورة البقرة بالذكر؛ لأن معظم أحكام المناسك فيها، فكأنه قال: هذا مقام من أنزلت عليه أحكام المناسك، وأُخذ عنه الشرع، وبيَّن الأحكام، فاعتمدوه!. وأراد بذلك التنبيه على أن أفعال الحج توقيفية، ليس للاجتهاد فيها مدخل، فلا يفعل أحد شيئًا من المناسك برأيه، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: إثبات رمي جمرة العقبة يوم النحر، وهو مجمع عليه، وهو الذي عليه جمهور العلماء أنه واجب يجبر تركه بدم، فلو تركه، فحجُّه صحيح، وعليه دم، وهو قول الشافعي وغيره، وقال بعض أصحاب مالك: وهو ركن لا يصحُّ الحَجُّ إلَّا به. وحكي عن ابن جرير الطبري، عن بعض الناس: أن رمي الجمار إنَّما يشرع ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 121)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 363)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 299)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 111)، و "تهذيب الكمال" للمزي (18/ 12)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 78)، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 267).

حفظًا للتكبير، فلو تركه وكبر، أجزأه حجه. وروي نحوه عن عائشة - رضي الله عنها -، والصحيح ما ذكرناه أولًا. والرمي يوم النحر أحد أسباب التحلل، وهي ثلاثة: رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة مع سعيه إن لم يكن سعى، والثالث: الحلق عند من يقول: إنه نسك، وهو الصحيح، والله أعلم. ومنها: كون رمي جمرة العقبة بسبع حصيات، وهو مجمع عليه. ومنها: استحباب هذه الكيفية في الوقوف بجمرة العقبة لرميها، فيجعل مكَّةَ عن يساره، ومنًى عن يمينه، ويستقبل العقبة والجمرة، ويرميها بالحصيات السبع، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وهو قول جمهور العلماء. وقال بعض أصحاب الشافعي: يُستحبُّ أن يقف مستقبل الجمرة مستدبرًا مكة، وقال بعضهم: يستحبُّ أن يقف مستقبل الكعبة، وتكون الجمرة عن يمينه. وأجمع العلماء على أنه إذا رماها على أي حال من حيث رماها، جاز، سواء فوقها أو تحتها، وجعلها عن يمينه أو يساره، أو وقف في وسطها ورماها، والله أعلم. ومنها: جواز قول: سورة البقرة، وآل عمران، ونحو ذلك، وبلا كراهة، ونقل عن بعضهم: أنه لا يقال ذلك، بل يقال: السورة التي يُذكر فيها كذا، وهذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة يردُّ عليه، والله أعلم. ومنها: التنبيه على التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في جميع الحالات في المناسك وغيرها، ونقل ذلك وتبليغه. ومنها: التعلم بالرؤية للفعل من غير قول، والأخذ به من غير قول، وتبليغه، والله أعلم. * * *

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم المُحَلِّقِينَ" قَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ! وَالمُقَصِّرِيَن، قالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ! وَالمُقَصِّرِينَ، قَالَ: "وَالمُقَصِّرِينَ" (¬1). هذا الدعاء للمحلِّقين مكررًا، دون المقَصِّرين، قد وردت روايات في "صحيح مسلم" عن أمِّ الحُصَيْنِ - رضي الله عنها -: أنه كان في حجة الوداع (¬2)، وروي في غيره: أنه كان يوم الحديبية من رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قالت: حلق رجل يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ" ثلاثًا، قيل: يا رسول الله! ما بالُ المُحَلِّقينَ ظاهرتَ لَهُمْ بالرحم؟ قال: "لأنهم لم يَشُكُّوا" (¬3). قال ابن عبد البر: وكونه في الحديبية هو المحفوظ (¬4)، قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: ولا يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في الموضعين (¬5). وتكرير النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء للمحلِّقين؛ لأنهم بادروا إلى امتثال الأمر، وأتمُّوا فعل ما أمروا به من الحلق. وقد صرح بهذا المعنى في بعض روايات الحديث المروية عن ابن عباس - رضي الله عنه - حيث قال: "لأنهم لم يشكوا". واعلم: أن معنى فضيلة الحلق على التقصير؛ أنه أبلغ في العبادة، وأدلُّ على صدق النية في التذلل لله تعالى؛ لأن المقصِّر مبقٍ على نفسه الشعر الذي هو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1640)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، ومسلم (1301)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير. (¬2) رواه مسلم (1303)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير. (¬3) رواه ابن ماجه (3045)، كتاب: المناسك، باب: الحلق، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 353)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (13618)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 255)، وأبو يعلى في "مسنده" (2718)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 215). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 233 - 234). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 51).

زينة، والحاج مأمورٌ بترك الزينة، بل هو أشعث أغبر. وفي هذا الحديث أحكام: منها: الدعاء بالمغفرة لمن فعل ما شرع له. ومناسبةُ الدعاء بالمغفرة للمحلِّقين والمقصِّرين؛ حيث إن كل واحد من الحلق والتقصير والمغفرة إزالة في الصورة والمعنى، فالحلق والتقصير إزالة للشعث في الصورة، وهما سببان لغفر الذنب بإزالته أو ستره. ومنها: تكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الفعلين الجائزين. ومنها: التنبيه بالدعاء وتكريره على ترجيح الراجح. ومنها: سؤال الدعاء لمن فعل الجائز المرجوح. ومنها: أن جميع وصف الذكورة لا يدخل فيه الإناث؛ حيث إنهن لا يشرع لهن الحلق، بل المشروع لهن التقصير، قال أصحاب الشافعي - رحمه الله -: ويكره لهنَّ الحلق، فلو حلقن، حصل النسك. ومنها: جواز الاقتصار على أحد الأمرين؛ من الحلق أو التقصير. ومنها: تفضيل الحلق على التقصير في حقِّ الرجال، وقد نقل إجماع العلماء على ذلك. وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري: أنه قال: يلزمه الحلق أول حجِّه، ولا يجزئه التقصير، فإن صحَّ عنه، رُدَّ بالنصوص، وإجماعِ مَنْ قبله. ومذهب الشافعي في المشهور عنه: أن الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج والعمرة، ركن من أركانهما، لا يحصل كل واحد منهما إلا به، وبهذا قال العلماء كافة، وللشافعي قول ضعيف: أنه استباحة محظور؛ كالطيب واللباس، وليس بنسك، وهو شاذ، وسواء -في الاستحباب الحلق وترجيحه على التقصير- كان المحرم لبد رأسه أم لا، ولا يلزمه حلقه. وقال جمهور العلماء: يلزمه حلقه إذا لبَّد رأسه، واتفق العلماء على أن الأفضل -في الحلق أو التقصير- أن يكون بعد رمي جمرة العقبة، وبعد ذبح الهدي، وقبل طواف

الحديث الثامن

الإفاضة، وسواء كان قارنًا أو مفردًا، وقال ابن الجهم المالكي: لا يحلق القارن حتى يطوف ويسعى؛ لأنه يرى أن حجه وعمرته قد تداخلا، والعمرة باقية في حقه، وهي لا يجوز الحلق فيها قبل الطواف. وقد أشار إلى هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في القارن: "حتى يحلَّ منهما جميعًا" (¬1)؛ فإنه يقتضي أن الإحلال منهما يكون في وقت واحد، فإذا حلق قبل الطواف، فالعمرة قائمة؛ بهذا الحديث، فيقع الحلق فيها قبل الطواف، وردَّ عليه شيخنا أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى-، وقال: هذا باطل بالنصوص وإجماع من قبله، وقد ثبت الأحاديث؛ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق قبل طواف الإفاضة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قارنًا في آخر مرة (¬2)، قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: وهذا إنما ثبت بأمر استدلالي لا نصِّي؛ أعني: كونه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا في آخر أمره. وابن الجهم على مذهب مالك والشافعي، حيث قالا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردًا أولًا. وأما الإجماع، فبعيد الثبوت إن أراد الإجماع النقلي القولي، وإن أراد السكوتي، ففيه نظر، وقد ينازع فيه -أيضًا-، والله أعلم (¬3). * * * الحديث الثامن عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَضْنا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُريدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّها حَائِضٌ، قَالَ: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ "، قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قال: "اخْرُجُوا" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1481)، كتاب: الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 51 - 52). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 78). (¬4) رواه البخاري (1646)، كتاب: الحج، باب: الزيارة يوم النحر.

وفي لفظٍ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَقْرَى حَلْقَى، أفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قيل: نَعَمْ، قال: "فَانْفِرِي" (¬1). تقدم الكلام على عائشة وصفية. - رضي الله عنهما -. وأَمَّا قولهُا: "فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ"؛ فمعناه إلى مكة لطواف الإفاضة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عَقْرَى حَلْقَى"؛ هذان اللفظان بفتح أولهما، وآخرهما ألف تأنيث مقصورة، وتكتب بالياء من غير تنوين، وهو رواية المحدثين جميعهم، ونقله جماعات من أئمة اللغة وغيرهم، وهو صحيح فصيح، وقال بعضهم: عقرًا حلقًا -بالتنوين-؛ لأنه موضع دعاء أشعر به، فأجرى مجراه بألفاظ المصادر، فإنها منونة، كقولهم: سقيًا ورعيًا وجدعًا، ومن رواه مقصورًا؛ أي: إن ألف التأنيث فيهما نعت، لا دعاء. ومعنى عقرى: عقرها الله، وقيل: عقر قومَها، وقيل: جعلها عاقرًا لا تلد. ومعنى حلقى: حلق شعرها، أو أَصَابها وجع في حَلْقها، وبمعنى: يحلق قومها شؤمها. وهذا اللفظان لا يراد بهما أصل موضوعهما، بل كثر استعمالهما، فجريا على ألسنتهم من غير إرادة معناهما؛ كقولهم: تربت يداه، وقاتله الله ما أشجعه! وما أشعره! وأفلح وأبيه! إلى غير ذلك، والله أعلم (¬2). وفي هذا الحديث أحكام: منها: أن طواف الإفاضة لا بد منه. ومنها: فعله في يوم النحر، وهو السنَّة. ومنها: إباحة الجماع للأهل بعد الإتيان بأسباب التحلل في الحجِّ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1682)، كتاب: الحج، باب: الإدلاج من المحصّب، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 94)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 197)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 428)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 212)، و"شرح مسلم" له أيضًا (8/ 153).

الحديث التاسع

ومنها: الإخبار بالأعذار المانعة من الإجابة إلى ما تجب المبادرة إلى فعله ممن توجه الوجوب إليه ومن غيره. ومنها: أن الحائض لا تدخل المسجد. ومنها: سقوط طواف الوداع عن الحائض. ومنها: عدم سقوط طواف الإفاضة عنها؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "أحابستنا هي؟ "، فقيل: إنها أفاضت، إلى آخره. ومنها: عدم وجوب الدم بترك طواف الوداع من الحائض؛ حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر بأنها طافت للإفاضة، قال: "فَانفِرِي" من غير ذكر دم ولا غيره. وهذا قول كافة العلماء، وحكى القاضي عياض عن بعض السلف وجوب دم، وهو شاذ مردود، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِم بِالبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ المَرْأَةِ الحَائِضِ (¬1). هذا حكمه حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند العلماء من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الأصول. وفي هذا الحديث دليل: على أن طواف الوداع واجب؛ لظاهر الأمر. وفيه دليل: على سقوطه عن الحائض، ولم يتعرض في الحديث إلى وجوب الدم بتركه ولا عدمه. وأما وجوبه بالنسبة [إلى] غير الحائض، فقال به الشافعي، [و] منعه مالك؛ لعدم وجوب طواف الوداع عنده. وأما عدم وجوبه بالنسبة إلى الحائض، فقال به الشافعي، ومالك، وأحمد، والعلماء كافة، وحكى ابن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1668)، كتاب: الحج، باب: طواف الوداع، ومسلم (1328)، كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض.

الحديث العاشر

المنذر عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- وجوبه؛ حيث إنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع. وهذا الحديث مع حديث صفية حجَّة على ردِّ ذلك، وهو مقتضى التخفيف عنها، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: استَأْذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَياِليَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ (¬1). أما العبَّاسُ عَمُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فتقدم ذكره، وكانت السِّقاية له في الجاهلية، فأقره - صلى الله عليه وسلم -، وهي له ولعقبه إلى يوم القيامة. والسقاية: إعداد الماء للشاربين بمكة، يذهب أهلها القائمون بها ليلًا ليستقوا الماء من زمزم، ويجعلوه في الحياض مسبلًا للشاربين وغيرهم. وفي الحديث أحكام: منها: استئذان الكبار والعلماء فيما يطرأ من المصالح والأحكام. ومنها: أن المبيت ليالي منى نسك من مناسك الحج وواجباته؛ حيث أذن - صلى الله عليه وسلم - في ترك المبيت بمنى للعباس من أجل سقايته، فاقتضى ذلك الإذن لأجل هذه العلة المخصوصة، وأن الإذن لم يتعد إلى غيرها. واختلف العلماء في مبيت ليالي منى، هل هو واجب أم سنَّة؟ وللشافعي قولان: أحدهما: واجب، وبه قال مالك، وأحمد. والثاني: سنَّة، وبه قال ابن عباس، والحسن، وأبو حنيفة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1553)، كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج، ومسلم (1315)، كتاب: الحج، باب: وجوب البيت بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية.

الحديث الحادي عشر

ووجوب الدم وبتركه وسببه مرتب على القولين؛ إن قلنا: إن المبيت واجب، كان الدم واجبًا، وإن قلنا: سنَّة، فسنَّة. وفي قدر المبيت قولان للشافعي: أصحهما: معظم الليل، والثاني: ساعة. ومنها: ترك المبيت لأجل السقاية، ومدلول الحديث تخصيص الترك للمبيت بالسقاية، ويجوز لكل واحد ممن يتولى السقاية ترك المبيت لأجلها، وبه قال الشافعي، وكذا لو أحدثت سقاية أخرى، كان للقائم بشأنها ترك المبيت، وهو الأقرب؛ لاتباع المعنى في إعداد الماء للشاربين، ومنهم من منع ترك المبيت لسقاية أخرى، لكن الصحيح ما ذكرناه أولًا. ومنها: اختصاص السقاية بالعبَّاس، واتَّفق العلماء على أن الحكم في ترك المبيت لا يختصُّ به، واختلفوا في اختصاصها بآل العباس بعده، أم ببني هاشم من آل العباس وغيرهم؟ على وجهين: والصحيح: اختصاص ولاية السقاية بآل العباس بعده، وأن الرخصة في ترك المبيت لا تختص بهم، والله أعلم. ومنها: أنه ينبغي للكبير أو العالم إذا استؤذن في مصلحة، أن يبادر إلى الإذن فيها من غير توقف، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر وَعَنْهُ قَالَ: جَمَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بَجَمْعٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إِثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (¬1). أما "جَمْع"؛ فهو بفتح الجيم وسكون الميم، وهو اسم للمزدلفة، سُمِّيت جَمْعًا؛ لاجتماع الناس بها، وأيام جمع: أيام منى، ويوم الجمع: يوم القيامة. وقوله: "وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلا عَلَى إثْرِ واحِدَةٍ" إلى آخره، معناه: لم يُصلِّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1589)، كتاب: الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، ومسلم (1288)، كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، وهذا لفظ البخاري.

بينهما نافلة، ولا بعدهما. ومنه قوله في الحديث: "كنتُ أسبِّحُ، وأقضي سُبْحَتي" (¬1)، و"اجعلوا صلاتَكم معهُ سبحةً" (¬2)؛ أي: نافلة، وسُميت الصلاة سبحة وتسبيحًا؛ لما فيها من تعظيم الله تعالى، وتنزيهه، قال تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]؛ أي: المصلين. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز جمع التأخير بمزدلفة، وهو جمع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان وقت المغرب بعرفة، فما جمع بينهما بمزدلفة إلا وقد أخَّر المغرب، وهذا الجمع مجمع عليه، لكن اختلفوا في سببه، هل هو النسك أو السفر؟ وفائدة الخلاف: أن من ليس مسافرًا سفرًا يجمع فيه، هل يجمع بين هاتين الصلاتين، أم لا؟ فذهب أبو حنيفة إلى أن الجمع هنا بعذر النسك، وظاهر مذهب الشافعي أنه بعذر السفر، ولبعض أصحابه وجه كمذهب أبي حنيفة، ولم ينقل صريحًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الصلاتين في طول سفره ذلك، بل نقل من قول ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدَّ به السير، جمع بين المغرب والعشاء (¬3)، وهو ظاهر في جمع التقديم، محتمل في غيره من الجمع الصوري لا الشرعي المعروف، وإن كان خلاف الظاهر، فإن كان في نفس الأمر، لم يجمع، فيقوى أن الجمع هنا بسبب النسك، أو لأنه حكم متجدد، لأمر متجدد، فاقتضى إضافة الحكم إليه، وإن كان محمولًا على ما روى ابن عمر ظاهرًا في السفر، فقد اجتمع في هذا الجمع سببان؛ النسك، والسفر. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3375)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2493)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي هريرة الدوسي - رضي الله عنه -، عن عائشة - رضي الله عنها - من قولها بلفظ: " ... وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي ... ". (¬2) رواه مسلم (534)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (1055)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، ومسلم (703)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر.

فيرجَّح النظر بترجيح الإضافة إلى أحدهما، مع أن الاستدلال بحديث ابن عمر للجمع بمزدلفة بعيد؛ حيث إنه علق الجمع فيه على الجدِّ في السير، وهو هنا لم يكن في ابتداء السير مجدًا، بل كان نازلًا عند دخول وقت صلاة المغرب بعرفة، وإنشاء الحركة للسير كان بعد ذلك. وقد كان يمكن أن تُقام المغرب بعرفة، ولا يحصل جد السير بالنسبة إليها، فالحديث إنما تناول الجد والسير [و] وجودهما عند دخول وقتها، وهذا أمر محتمل. وقد اختلف العلماء في جواز الجمع بغير مزدلفة، كما لو جمع في الطريق أو بعرفة جمع تقديم، والأحاديث الصحيحة تدل صريحًا على جوازه بعرفة، والخلاف فيه هل هو بسبب النسك، أو السفر؟ ومن منعه، فالأحاديث الصحيحة حجة عليه، ومن جوزه في السفر مطلقًا، جوزه هنا. ومن علَّله بالنسك قال: لا يجمع إلا بالمكان الذي جمع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إقامة لوظيفة النسك على الوجه الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: شرعية الإقامة لكل واحدة من الصلاتين المجموعتين. ولم يتعرض للأذان لهما في هذا الحديث. وفي رواية في "صحيح مسلم": أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّاهما بإقامة واحدة" (¬1). وفي صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم": أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاهما بأذان واحد وإقامتين (¬2)، وهذا مقدم على رواية الكتاب، ورواية صلاتهما بإقامة واحدة؛ لأنها رواية معها زيادة علم، فهي مقدمة على غيرها إذا كانت من ثقة مقبولة، ولأن جابرًا - رضي الله عنه - اعتنى بنقل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضبطها أكثر من غيره، فكان أولى بالاعتماد والقبول، وتحمل رواية صلاتهما بإقامة واحدة على كل واحدة منهما؛ أنه صلَّاها بإقامة؛ جمعًا بين الروايات، ونفيًا للاختلاف. ومذهب الشافعي الصحيح أنه يؤذن للأولى منهما، ويقيم لكل واحدة إقامة، فيصليهما بأذان وإقامتين، ودلالة حديث الكتاب على عدم الأذان دلالة سكوت. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1288)، (2/ 937)، كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. (¬2) تقدم تخريجه.

ومنها: عدم التنفُّل بين الصلاتين المجموعتين، ويعبر عن ذلك بوجوب الموالاة بينهما. وفي ذلك تفضيل مذهب الشافعي؛ فإن جمع في وقت الأولى، لم يجز إلا بثلاثة شروط: تقديم الأولى، فإن قدم الثانية، بطل. وعدم الفصل بينهما، فإن فصل فصلًا طويلًا لم يتعلق بمصلحة الصلاة؛ كالتيمم والإقامة والأذان، على وجه ضعيف للشافعية، وقول في مذهب مالك، بطل الجمع، ولم تصح الثانية إلا في وقتها. ونية الجمع قبل فراغ من الأولى أو عند الإحرام بها. وإن جمع في وقت الثانية، استحبَّ عدم الفصل، ولم يشترط، فقوله: "لم يسبِّح بينهما ولا على إثرِ وَاحِدةٍ منهما" ليس فيه دليل على عدم الفصل، بل على عدم صلاة النفل بينهما فقط، ولا يلزم منه عدم الفصل؛ بدليل الرواية في "صحيح مسلم" أنه قال: "أقيمت الصلاة، فصلَّى المغرب، ثم أناخَ كلُّ إنسانٍ بعيرَهُ في منزلهِ، ثم أقيمت العشاء، فصلَّاها، ولم يصلِّ بينهما شيئًا" (¬1). ومنها: عدم صلاة النفل في السفر، لكنها دلالة بعدم الفعل، وهي بمجردها لا تدل على عدم الاستحباب، بل تدل على تأخير فعل النفل في ذلك الوقت. ومذهب الشافعي - رحمه الله - استحبابُ السنن الراتبة، لكنه يفعل التي قبل الصلاة قبلها، ولا يفعل بينهما شيئًا، بل يفعل الذي بعدها، وقبل الثانية بعدهما؛ بدليل صلاة النفل في السفر في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وهو صحيح، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1280)، كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، والبخاري أيضًا (1588)، كتاب: الحج، باب: الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه -.

باب المحرم يأكل من صيد الحلال

باب المُحْرِم يأكل من صيد الحلال الحديث الأول عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، وقَالَ: "خُذُوا بسَاحِلِ البَحْرِ [حَتَّى نَلْتَقِيَ"، فَأَخَذُوا بِسَاحِلِ البَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، أَحْرَمُوا كُلُّهُم إِلَّا أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ] (¬1)، فَبَيْنَما هُمْ يَسِيرُونَ، إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الحُمُرِ، فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا، فنَزَلْنا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأُكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟! فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِن لَحْمِهَا، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا" (¬2). وفي رواية: فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ مِنْ شَيءٍ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فنَاوَلْتُهُ العَضُدَ، فَأَكَلَهَا (¬3). أما أبو قتادة؛ فتقدم الكلام عليه وعلى اسمه ونسبه. وأما الأَتَان؛ فهي الأُنثى من الحُمُر. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح 2". (¬2) رواه البخاري (1728)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال، ومسلم (1196)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. (¬3) رواه البخاري (2431)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: من استوهب من أصحابه شيئًا.

فإن قيل: كيف ترك أبو قتادة الإحرام مع كونه خرج للحج ومرَّ بالميقات، ولا يجوز لمن أراد الحجَّ أو العمرة أن يجاوز الميقات غير محرم؟ فالجواب عن ذلك بوجوه: أحدها: أن المواقيت لم تكن وقتت بعد. الثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل؛ كما أشار إليه في هذا الحديث، وكان الالتقاء المأمور به بعد مضي مكان الميقات. الثالث: أنه لم يكن مريدًا الحج والعمرة، وهو ضعيف. الرابع: أنه لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وإنما بعثه أهلها فيما بعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلموه أن بعض العرب يقصدون الإغارة عليها، فأرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة إلى ساحل البحر، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أن الإمام وأصحابه إذا خرجوا في طاعة من حج أو غيره، وعرض لهم أمر يقتضي تفريقهم، فرقهم طلبًا للمصلحة؛ فإنَّ السنَّة عدم تفرق الرفقة في السفر. [ومنها: جواز اصطياد الحلال الصيد. ومنها: أن عقر الصيد ذكاته. ومنها: عدم الإقدام على الشيء حتى يعرف حكمه أو شرط حِلِّهِ] (¬1). ومنها: جواز الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أكلوا بعضه باجتهاد. ومنها: الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأدلة بالاشتباه أو الاحتمال. ومنها: إذا كان للمحرم سبب في اصطياد الصيد بإشارة، أو إعانة: إنه يمتنع من أكله، وإن لم يكن شيء من ذلك، حل له أكله. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ش".

ومنها: جواز هدية الحلال للمحرم من لحم الصيد. ومنها: تحريم لحم الصيد على المحرم إذا صاده هو، أو كان له في اصطياده تعلق؛ من دلالة عليه أو إعانة، واتفق العلماء على تحريم الاصطياد عليه. وقال الشافعي وآخرون: يحرم عليه تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوهما؛ وفي ملكه إياه بالإرث خلاف، وأما ما اصطاده الحلال من غير إعانة المحرم: فجمهور العلماء على حل أكله للمحرم بالهدية، وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد، وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه لحم ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلًا، بل هو حرام عليه مطلقًا، وهو محكيٌّ عن علي، وابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم-؛ لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. قالوا: والمراد بالصيد: المَصيد؛ ولرد النبي - صلى الله عليه وسلم - لحم الصيد في حديث الصعب بن جثامة الآتي عليه، وعلله بأنه محرم، دون شيء آخر؛ من قصد له - صلى الله عليه وسلم - به، ولا غيره، وحديث أبي قتادة هذا يرد على هذا المذهب؛ حيث قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فكلوه"، وفي رواية في "صحيح مسلم": "هو حلال، فكلوه"، وفي "سنن" أبي داوود والترمذي والنسائي عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "صَيْدُ البرِّ لكُمْ حَلاَلٌ ما لَمْ تصيدُوُه أو يُصادَ لكم" (¬1). والرواية فيه: يصاد -بالألف-، والقاعدة حذفها، لكن إثباتها جائز في لغة، ومنه قول الشاعر (¬2): ألم يأتيك والأنباءُ تَنْمي والجمع بين الأحاديث وتأليفها أولى من اختلافها، وإبطال بعضها، وهي ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1851)، كتاب: المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والنسائي (2827)، كتاب: مناسك الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، والترمذي (846)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 362). (¬2) هو عمرو بن كثوم؛ كما في "ديوانه" (ص: 109).

الحديث الثاني

ظاهرة في الدلالة لمذهب الشافعي - رحمه الله - ومتابعيه، والرد على أهل المذهبين الآخرين، ويكون حديث أبي قتادة هذا محمولًا على عدم قصدهم باصطياده، وحديث الصعب على قصدهم به، والآية الكريمة محمولة على تحريم الاصطياد عليه، وعلى أكل لحم ما صيد له؛ للأحاديث المبينة للمراد منها، ولا يحرم لحم ما صيد لأحد إلا بشرط كون كل واحد من الصائد والمصيد له محرمًا، فبيِّن في حديث الصعب الشرط الذي يحرم به، والله أعلم. ومنها: تبسُّط الإنسان في صاحبه بطلب ما يؤكل، وأكله. ومنها: تطييب قلوب الأتباع بأكل ما شكُّوا في أكله، أو كان عندهم وقْفة فيه، إذا كان عندهم علم من جوازه وحله، وموافقتهم في الأكل. وقد تقدم مثل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلتُ من أمري ما استَدْبَرتُ لما سقتُ الهديَ" إشارة إلى موافقتهم في الحلق، وتطييب قلوبهم. * * * الحديث الثاني عَنِ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ اللَّيثيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بالأَبْوَاءِ، أو بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَىَ ما فِي وَجْهِهِ، قَالَ: "إِنَّنا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ" (¬1). وفي لفظ لمسلم: رِجْلَ حِمَارٍ، وفي لفظ: شِقَّ حمار، وفي لفظ: عَجُزَ حمار (¬2). وجه هذا الحديث أنه ظنَّ أنه صِيدَ لأجله، والمُحرِمُ لا يأكل ما صيد لأجله. أما الصَّعْب؛ فهو -بفتح الصاد وسكون العين المهملتين، وبالباء ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1729)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا، لم يقبل، ومسلم (1193)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. (¬2) رواه مسلم (1194)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، لكن عن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل حمار، وفي رواية: عجز حمار.

الموحدة-، وأما أبوهُ جثامة، فهو -بفتح الجيم، وتشديد الثاء المثلثة، ثُم ألف، ثم ميم مخففة مفتوحة، ثم هاء التأنيث- ابنُ قيس بن عبد الله بن يعمر -وهو الشداخ، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه شدخ الدماء بين بني أسد بن خزيمة، وبين خزاعة؛ يعني: أهدرها- بنِ عوفِ بنِ كعب بن عامرِ بن ليثٍ، الحجازيُّ، أخو محلم بن جثامة. هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عداده في أهل الطائف، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد، وتفرق هذا الحديث ثلاثة أحاديث. روى عنه: عبدُ الله بن عباس - رضي الله عنهما -، وشريح بن عبيد الحضرمي، وكان ينزل وَدَّانَ من أرض الحجاز، روى له: أصحاب السنن والمساند، مات في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وقال ابن حبان: مات في خلافة عمر في آخرها، والمشهور الأول. وأما اللَّيْثِيُّ -بفتح اللام المشددة، والياء المثناة تحت، ثم الثاء المثلثة، ثم ياء النسب-، فنسبة إلى الليث، جد من أجداد المنتسب، والمراد به: ليث بن يكر، والله أعلم (¬1). وأَمَّا الأَبْوَاء؛ فهي -بفتح الهمزة، وسكون الباء الموحدة؛ والمد-، وهي قرية جامعة من عمل الفُرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، سُمِّيت بذلك لتبوُّء السيول بها، وقيل غيره، وبها توفيت آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودفنت، والله أعلم (¬2). أما وَدَّان -بفتح الواو والدال المهملة المشددة، ثم ألف، ثم نون-، فهي ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 195)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 739)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 19)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 237)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 166)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 426)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 369). (¬2) تقدم ذكر هذا عند المؤلف، فلا حاجة لذكره ثانية، والله أعلم.

قرية جامعة من عمل الفرع، بينها وبين هرشى نحو من ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة، وهي والأبواء بين مكة والمدينة، والله أعلم (¬1). وقد تقدم الكلام عليه، وعلى حديث أبي قتادة، والجمع بينهما قبله. وقوله: "أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "؛ الأصل أنَّ أهدى يتعدَّى بإلى، كما في هذا الحديث، وقد ثبت تعديه باللام في بعض الروايات، فيكون اللام بمعنى إلى، ويحتمل أن يكون بمعنى أَجْل، وهو ضعيف. وقوله: "حِمَارًا وَحْشِيًّا"؛ ظاهره أنه أهداه بجملته، وحمل على بعضه، وعلى ذلك دل تبويب البخاري، وقيل: إنه تأويل مالك، وعلى مقتضى هذا يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهبة، ويقاس عليها ما في معناها من البيع وغيره، ورد هذا بالروايات المذكورة في الكتاب عن مسلم - رحمه الله - من قوله: عَجُز حمار، وشِقّ، أو رِجْل حمار؛ فإنها مصرحة بالبعض دون الجملة، وبكونه مذبوحًا، فيحمل قوله: حمارًا وحشيًّا على المجاز من باب تسمية البعض بالكل، أو على حذف المضاف، ولا تبقى فيه دلالة على منع تملك بعض الصيد بالهبة، بل فيه دلالة على منعه من وجه آخر على هذا التقدير؛ لأنه إذا منع من تملك بعض الصيد بالهبة، فلأن يحرم الكل بطريق الأولى، ويكون من باب التنبيه بالأقل على الأكثر. والبحث في هذا راجع إلى معرفة حقيقة الهدية والهبة، فالهدية ما حملت إلى المهدى لقصد التودُّد وثواب الآخرة، بخلاف الهبة، فإن حقيقتها العطية مطلقًا، سواء حملت إلى الموهوب له، أم لا، وهي لا تقتضي التودُّد عرفًا، بل تقتضي طلب المكافأة والثواب الدنيوي عليها. فالاستيلاء على الصيد لغير المحرم بشرطه بطريق الهدية جائز، وبطريق الهبة غير جائز؛ لكونه صيدًا يقتضي عوضًا دنيويًّا عُرفًا وتمنعًا، والإحرام ينافي ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (5/ 365)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 302).

جميعه، ألا ترى أنه يحرم عقد النكاح على المحرم والمحرمة والولي، ولا ينعقد؛ لكونها حالة تنافي الإحرام؟ والله أعلم. وقوله: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ"؛ فهمزة "إنَّا" الأولى مكسورة؛ لكونها ابتدائية، وهمزة "أنَّا" الثانية مفتوحة؛ لأنها تعليلية بحذف لام التعليل منها، والأصل: إلا لأنا، والدال في قوله: "نردَّهُ عليك" مفتوحة عند الأكثرين، وهو المشهور عند المحدثين، وهو مخالف لمذهب المحققين من النحاة؛ كسيبويه وغيره، فإن عندهم أنها مضمومة، وذلك في كل مضاعف مجزوم اتصل به هاء ضمير المذكر، وهو معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي، فكأن الواو تالية للدال؛ لعدم الاعتداد بالهاء، وما قبل الواو يضم، وعبروا عن ضمها بالإتباع لما بعدها، وكذا الخلاف في ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدَّد، فإنه يصح باتفاق، وحكي في الأول لغتان أخريان: إحداهما: الفتح كما يقوله المحدثون، والثانية: الكسر، وأنشدوا فيه: قال أبو ليلى بحبلٍ مُدِّهْ ... حتى إذا مَدَدْتَه فشده إن أبا ليلى نسيجُ وَحْدِهْ (¬1) وحُرُمٌ: جمع حرام، وتعليله بذلك - صلى الله عليه وسلم - يقتضي منعَ أكل المحرمِ الصيدَ مطلقًا؛ حيث علل به مجردًا، والذين أباحوا أكله لا يكون مجرد الإحرام علة عندهم، بل العلة عندهم كونه صِيدَ لأجله؛ جمعًا بينه وبين حديث أبي قتادة كما تقدم. قوله: "فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وجهه" يريد: من التغير بسبب الكراهة، وقد صرح بذلك في بعض الروايات: "فلمَّا رَأَى مَا فِي وجهه من الكراهةِ". وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز الهدية وقبولها إذا لم يكن مانع يقتضي ردَّها. ¬

_ (¬1) انظر: "مجالس ثعلب" (2/ 621).

ومنها: منع وضع اليد على الصيد للمحرم بالبيع والهبة بشرطه السابق. ومنها: الاعتذار إلى المهدي إذا لم يقبل هديته، ويطيب قلبه بتبيين العذر. ومنها: جواز الاصطياد لغير المحرم. ومنها: حلُّ أكل حمار الوحش لغير المحرم، وحله للمحرِم إذا صاده الحلال، ولم يكن للمحرم في صيده إعانة ولا تسبُّب. ومنها: مراعاة جانب الشرع، وتقديمُه على جانب الخلق وحظوظ النفوس. ومنها: تبيين الأحكام الشرعية وإيضاحها. ومنها: أن جميع أجزاء الصيد حرام على المحرم: رجله، وشقه، وجانبه، وعجزه، وغيرها، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

كتاب البيوع

كتاب البيوع قال ابن قتيبة: بعت الشيء: اشتريته، وبعته، وشَرَيتُ الشيء: اشتريتُه وبعته. قال الأزهري: العرب تقول: بعت، بمعنى بعتُ ما كنت ملكته، وبعت بمعنى اشتريت، قال: وكذلك شَرَيت بالمعنيين، قال: وكل واحد بيع وبائع؛ لأن الثمن والمثمَّن كلٌّ منهما مَبيع، وكذا قال غيرهما من أهل اللغة، قالوا: ويقال: بعته أبيعه، فهو مبيع ومبيوع، قال الجوهري: كمخيط ومخيوط، قال الخليل: المحذوف من مبيع واو مفعول؛ لأنها زيادة، فهي أولى بالحذف، وقال الأخفش: المحذوف عين الكلمة، قال المازني: كلاهما حسن، وقول الأخفش أقيس. والابتياع: الاشتراء، وتبايعنا وبايعته، واستبعته: سألته أن يبيعني، وأبعته: عرضته للبيع، وبِيع الشيء -بكسر الباء وضمها إشمامًا-، وبُوعَ لغةٌ فيه، وكذلك القول في: كيل وقيل، وحكى الزجاج عن أبي عبيدة: أباع؛ بمعنى: باع، وهو غريب وشاذ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (2/ 265)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 24)، (مادة: بيع)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 153)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 175)، وعن المرجعين الأخيرين أخذ المؤلف مادته هذه كلها.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلاَنِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أو يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ" (¬1). أما معنى قوله: "أَوْ يُخَيِّرُ أحدُهما الآخَرَ"؛ أي: يقول له: اختر إمضاء البيع، فإذا اختار، أوجب البيع؛ أي: لزم وانبرم، فإن خير آحدهما الآخر، فسكت، لم ينقطع خيار الساكت، وفي انقضاء خيار القائل وجهان لأصحاب الشافعي: أصحهما: الانقطاع؛ لظاهر لفظ الحديث. وفي الحديث دليل لثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين بعد انعقاد البيع حتى يتفرقا من ذلك المجلس بأبدانهما، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من الفقهاء والمحدثين وغيرهم. وبه قال البخاري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن حبيب من المالكية، ونفاه مالك، وأبو حنيفة، وبه قال ربيعة، وحكي عن النخعي، وهي رواية عن الثوري، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، وليس لهم عنها جواب صحيح، والله أعلم. والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عن الحديث على أقوال: أحدها: أنه حديث خالفه راويه، ولم يقل به، فاقتضى ضعف الحديث عنده. قلنا: لأن مخالفته له إما أن تكون عن علم بصحته من غير معارض، وهو يقتضي القَدْحَ في الراوى، أو عن غير علم بصحة الحديث مع المعارض، وذلك يقتضي رجحان نفي الحكم، أو مع العلم بالصحة ووجود المعارض، فحينئذ تقع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2006)، كتاب: البيوع، باب: إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع، ومسلم (1531)، كتاب: البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين.

الترجيحات والرجوع إلى أصول الأدلة، ولا يلزم من ذلك القَدْح في الراوي ولا تقليده، إلا أنه لا يترك العمل بالحديث الصحيح لمجرد التوهم والاحتمال، مع أن المحدثين وغيرهم قالوا: إن مخالفة الراوي لروايته أو متابعتها بالعمل بها لا يدلان على صحة الحديث عنده، ولا ضعفه، ولا يلزم من بطلان مأخذ معنى بطلان الحكم في نفس الأمر، وهذا كله إذا ثبت أن حديث ثبوت خيار المجلس لم يرو إلا من جهة مالك - رحمه الله -، أما إذا ثبت أنه روي من جهة أخرى، فإنه لا يحتاج إلى اعتذار، ولا سماعه، بل يجب المصير إليه، خصوصًا عند عدالة النقلة وثبوتها، والله أعلم. الثاني من العذر عن الحديث: أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى، وهو غير مقبول. قلنا: لأن البياعات تتكرر من غير إحصاء، فالبلوى بمعرفة حكمه تعم، وبكون حكمه معلومًا عندَ الكافة، فانفراد الواحد به على خلاف العادة، فيردُّ. والجواب: كما أن ثبوت الخيار في البيع تعم به البلوى، فكذلك البيع تعم به البلوى. والحديث دلَّ على إثبات خيار الفسخ، وليس الفسخ مما تعمُّ به البلوى في البياعات؛ فإن الظاهر الرغبة من كل واحد من المتعاقدين بإقدامه على البيع فيما صار إليه، فالحاجة إلى الفسخ غير عامة. والمعتمد في الرواية على رواية الراوي، وجزمه بها، وقد وجد، وعدم نقل غيره لا يصح معارضًا لجواز عدم سماعه للحكم؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة، فلا يلزم تبليغ الحكم لجميع المكلفين؛ لتعذر سماعهم، فجاز عروض العذر لغير هذا الراوي، وإنما يكون الخفاء على أهل النقل في الأحكام الجزئية، وهذا منها. أما الأمور الكلية: فالعادة تقتضي عدم إخفائها؛ لتوفر الدواعي على الاطلاع عليها.

الثالث من العذر: أنه حديث مخالف للقياس الجلي، والأصول القياسية المقطوع بها إذا وجدت تمنع العمل به. قلنا: لأن مخالفة الأصول القياسية إنما تكون بما ثبت الحكم في أصله قطعًا، ويكون الفرع في معنى النصوص، والمخالفة لا تكون إلا فيما علم عراؤه عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم، وهاهنا كذلك؛ فإن منع الغير عن إبطال حق الغير ثابت بعد التفرق قطعًا، وما قبل التفرق في معناه، ولم يتفرقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة، والقاطع مقدم على المظنون لا محالة، وخبر الواحد مظنون. والجواب: عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما يعتبر من المصالح، فإن البيع يقع بغتة من غير ترو، وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه، فإثبات خيار المجلس لكل واحد من المتعاقدين مناسب؛ دفعًا لضرر الندم؛ فيما لعله يتكرر وقوعه، ولم يكن إثباته مطلقًا فيما بعد التفرق وقبله؛ فإنه رفع بحكمه العقد، فجعل التفرق حزيمًا لاتباع هذه المصلحة، وهو معنًى معتبر لا يستوي فيه ما قبل التفرق وبعده، ولا ينظر إلى القياس المخالف للأصول، ويرد؛ فإن الأصول تثبت بالنصوص، وهي ثابتة في الفروع المعينة، وغاية ما فيه أن يكون الفرع آخر الجزئيات من الكليات لمصلحة خصها، أو تعبدًا، فيجب اتباعه. الرابع من العذر عن الحديث: بمعارضة إجماع أهل المدينة على مخالفته قولًا وعملًا، فيقدم عليه العمل. قال مالك - رحمه الله - عقب روايته: وليس لهذا عندنا فقه معلوم، ولا أمر معمول به فيه، وقد اختص أهل المدينة بالسكنى في محل مهبط الوحي، ووفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ، فمخالفتهم لبعض الأخبار يقتضي علمهم بما يوجب ترك العمل به من ناسخ، أو تأويل راجح، ولا تهمة تلحقهم، فتعين اتباعهم، وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعلمهم.

والجواب عن ذلك: أنه ليس في لفظ مالك - رحمه الله - ما يقتضي التصريح بأن المسألة في ترك العمل به إجماع من أهل المدينة، والإجماع متردد بين إجماع سابق أو لاحق، والسابق باطل بقول ابن عمر - رضي الله عنهما -، وهو رأس المفتين في وقته بالمدينة بثبوت خيار المجلس، واللاحق مردود؛ فإن ابن أبي ذؤيب - رحمه الله - من أقران مالك ومعاصريه، وقد أغلظ على مالك لمَّا بلغه مخالفة هذا الحديث، فامتنع إجماع أهل المدينة على ترك العمل بخبر الواحد، مع أن إجماعهم ليس مانعًا من العمل بخبر الواحد؛ لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه، فلا يكون إجماعهم حجة فيما طريقه النظر والاجتهاد، وكيف يمكن أن يقال: بأن من كان في المدينة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يقبل خلافه ما دام مقيمًا بها، فإذا خرج عنها، لم يقبل خلافه؟! فإن هذا محال؛ فإن قبول خلافه باعتبار صفات قائمة به حيث حل، فيفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج عنها من الصحابة بعد استقرار الوحي وموت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكل ما قيل من ترجيح أقوال علماء المدينة، وما اجتمع لهم من الأوصاف، قد كان حاصلًا لهذا الصحابي، ولم يزل عنه بخروجه، وقد خرج من المدينة أفضلُ أهل زمانه في ذلك الوقت بالإجماع من أهل السنة، وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقال أقوالًا بالعراق، وكيف يمكن أن تهدر إذا خالفها أهل المدينة، وهو كان رأسهم؟! وكذلك ابن مسعود، ومحله من العلم معروف، وغيرهما، قد خرجوا وقالوا أقوالًا، على أن بعض الناس يقول: إن المسائل المختلف فيها خارجَ المدينة مختلفٌ فيها بالمدينة، وادعى العموم في ذلك. الخامس من العذر عن الحديث: أنه ورد في بعض طرقه: "ولا يحلُّ له أَنْ يُفارقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقيلَهُ"، وذلك يدل على عدم ثبوت خيار المجلس؛ لأنه لولا أن العقد لازم، لما احتاج إلى الاستقالة، ولا طلب الفرار منها.

والجواب: أن المراد من الاستقالة: فسخ البيع بحكم الخيار، وغاية ما في الباب: استعمال المجاز في لفظ الاستقالة، وجاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه؛ من حيث إنه علقه على التفرق، فإذا حملناه على خيار الفسخ، صح تعليقه على التفرق؛ لأن الخيار يتفرع بالتفريق، وإذا حملناه على الاستقالة، وهي لا تتوقف على التفرق، فلا اختصاص لها بالمحل، ومن حيث إنَّا إذا حملناه على خيار الفسخ، فالتفرق مبطل له قهرًا، فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه، أما إذا حملناه على الإقالة الحقيقية، فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الإقالة. السادس من العذر عن الحديث: تأويله يحمل المتبايعين على المتساومين؛ لمصير حالهما إلى البيع، وحمل الخيار على خيار القبول. والجواب: أن تسمية المتبايعين بالمتساومين لمصير حالهما إلى البيع مجاز، واعترض عليه بأن تسميتهما متبايعين بعد الفراغ من البيع مجاز أيضًا، فَلِمَ قلتم: إن الحمل على هذا المجاز أولى؟. وأجيب عنه: بأنه إذا صدر البيع، فقد وجدت الحقيقة، فصار هذا المجاز أقرب إليها من مجاز لم يوجد حقيقته أصلًا عند إطلاقه، وهو المتساومان. السابع من العذر عن الحديث: حمل التفرق بالأقوال، وقد عهد ذلك شرعًا في النكاح في قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]. وأجيب عنه: بأنه خلاف الظاهر؛ فإن السابق إلى الفهم التفرق عن المكان، و -أيضًا- فقد ورد في رواية قد ذكرها المصنف وغيره: "ما لم يتفرقا عن مكانهما"، وذلك صريح في المقصود، وربما اعترض على الأول: بأن حقيقة التفرق لا تختص بالمكان، بل هي عائدة الى ما كان الاجتماع فيه، وإذا كان

الاجتماع في الأقوال، كان التفرق فيها، وإن كان في غيرها، كان التفرق عنه بأن حمله على غير المكان بقرينة، فتكون مجازًا. الثامن من العذر عن الحديث: ما ذكره بعضهم من استحالة العمل بظاهره؛ لأنه أثبت الخيار لكل واحدٍ من المتبايعين على صاحبه، فلا يخلو إما أن يتفقا على الاختيار، أو يختلفا، فإن اتفقا: لم يثبت لواحدٍ منهما على صاحبه خيار، وإن اختلفا؛ بأن اختار أحدهما الفسخ، والآخر الإمضاء: فقد استحال أن يثبت لكل واحد منهما على صاحبه الخيار؛ إذ الجمعُ بين الفسخ والإمضاء مستحيل، فيلزم تأويل الحديث، ولا يحتاج إليه، ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر. والجواب عنه: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت مطلق الخيار، بل أثبت الخيار، وسكت عما فيه الخيار، فنحن نحمله على خيار الفسخ، فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه، وإن أبى صاحبه ذلك. التاسع من العذر عن الحديث: بأنه منسوخ، وذلك بطريقين: إما بأن إجماع أهل المدينة على خلافه، وهو يقتضي النسخ، وإما بحديث اختلاف المتبايعين؛ حيث إنه يقتضي الحاجة إلى اليمين، وذلك يقتضي لزوم العقد؛ فإنه لو ثبت الخيار، لكان كافيًا في رفع العقد عند الاختلاف، وكلٌّ ضعيفٌ جدًّا. وتقدم الكلامُ على ضعفِ القولِ بأَنَّ إجماعَ أهلِ المدينة حجة، واحتمالُ حُجَّيته لا ينسخ غيره، كيف والإجماع المجمع على القول بحجيته لا يَنسخ ولا يُنسخ، وإنما يدل على وجود ناسخ؟! وأما مجرد المخالفة، فلا يلزم منه الفسخ؛ لجواز دليل آخر متقدم راجح في الظاهر عند تعارض الأدلة عندهم. وأما حديث اختلاف المتبايعين، فالاستدلال به ضعيف جدًّا؛ لأنَّه مطلق بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المحل، فيحمل على ما بعد التفرق، ولا حاجة إلى النسخ، والنسخ لا يصار إليه إلا عند الضرورة.

العاشر من العذر عن الحديث: حمل الخيار على خيار الشراء، وخيار إلحاق الزيادة بالثمن أو المثمن، وإذا تردد، لم يتعين حمله على ما ذكرتموه. والجواب: بأن حمله على خيار الفسخ معهود استعماله في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في حديث حيان بن منقذ؛ فإن المراد به خيار الفسخ، فيحمل الخيار في هذا الحديث عليه؛ لأنه لما كان معهودًا في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كان أظهر في الإرادة، وتمتنع إرادة كل واحد من الخيارين المذكورين؛ فإن خيار الشراء أعم في ثبوته ممن صدر منه العقد منهما، وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء، فضلًا من أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق، وخيار إلحاق الزيادة بالثمن أو المثمن، فلا يمكن الحمل عليه؛ لأنه إن لم يكن لهما، فإنه يكون لهما إلى أوان التفرق، وإن كان، فيبقى بعد التفرق عن المحل، فكيفما كان لا يكون هذا الخيار لهما ثابتًا معينًا إلى غاية التفرق، وهو خيار الفسخ به؟! ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ما ذكر: أن مالكًا -رحمه الله تعالى- نسب إلى مخالفة الحديث، وذلك لا يصح إلا إذا حمل الخيار والمتبايعان والافتراق على ما ذكر، وضعف ذلك بأن نسبة مالك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم. أما الأول: فمسلم. وأما الثاني: فممنوع، فإن القائلين بثبوت خيار المجلس أكثر علماء الأمة أهل الفتوى، والله أعلم. وفيه دليل: على أن خيار المجلس ينقطع بالتخاير منهما، أو من أحدهما. وفيه دليل: على أنهما إذا تبايعا بشرط الخيار، ووقع التبايع عليه: أن البيع لازم من غير خيار مجلس، هذا ظاهر لفظ هذا الحديث؛ حيث عقب التخيير بالتبايع، وجعله أمرًا موجبًا للبيع، ولا معنى لوجوبه إلا عدم ثبوت خيار المجلس، فكان البيع لا بد فيه من ثبوت خيار، إما بأصل الشرع وبالاشتراط من

الحديث الثاني

المتبايعين، أو أحدهما، لكن الفقهاء فسروا انقطاع خيار المجلس بالتخاير، إما لإمضاء البيع، أو فسخه، ولم يذكروا أنه إذا شرط أنه يكون مسقطًا لخيار المجلس، بل قالوا: خيار المجلس ثابت بأصل الشرع، لا يسقطه شيء، حتى قالوا: لو تبايعا، وشرطا عدم الخيار مطلقًا، أن فيه ثلاثة أوجه للشافعي: أحدها: عدم صحة البيع، وهو الأصح عندهم. والثاني: صحة البيع، وثبوت الشرط؛ حيث إن ثبوته من جهة الشرع. والثالث: صحة البيع، وينتفي الشرط؛ حيث إن ثبوت الخيار إنما هو لحق المتبايعين، فإذا أسقطاه، سقط، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أو قال: حَتَّى يَتَفرَّقا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ برَكَةُ بَيْعِهِمَا" (¬1). أما حَكِيم: فهو -بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف-، ويشتبه بحُكيم -بضم الحاء المهملة وفتح الكاف-. وأَمَّا حِزَام: فهو -بكسر الحاء المهملة، وبالزاي المفتوحة-، ويشتبه بحَرام -بفتح الحاء المهملة وبالراء-، والله أعلم. وهو حَكِيمُ بنُ حِزَامِ بنِ خويلدِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العزى بنِ قصيِّ بنِ كلابِ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبٍ، كنيته: أبو خالد، أسلم عام الفتح، وشهد بدرًا مشركًا، وكان إذا اجتهد في يمينه يقول: والذي نجاني أن أكون قتيلًا يوم بدرٍ (¬2)! وروي عنهُ أنه قال: ولدت قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة، وأنا أعقل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1973)، كتاب: البيوع، باب: إذا بيّن البيعان ولم يكتما ونصحا، ومسلم (1532)، كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (3071)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/ 128).

حين أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله حين وقع نذره، وذلك قبل مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين (¬1). وولد حكيم في جوف الكعبة، ولا يُعرف من وُلد فيها غيره، ورُوي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولد فيها، وهو ضعيف لا يصح، وممَّن نصَّ على ضعفه الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في "مثير الغرام الساكن" (¬2). وعاش مئة وعشرين سنةً: ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، والمراد بالإسلام: من حين ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهورًا فاشيًا، واشتهرت دعوته إلى الإسلام دعاءً ظاهرًا، وبالجاهلية ما قبل ذلك، ولم يرد من حين أسلم حكيم؛ لأنه مات بالمدينة سنة أربع وخمسين، فلو أراد من حين أسلم، لكان عاش في الإسلام ستًّا وأربعين سنةً، لا ستين، ولو أراد من حين مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، لكان سبعًا وستين سنة، ولو أراد من الهجرة، لكان أربعًا وخمسين سنة، فتعين ما ذكرناه، والله أعلم. روي له عن رسول - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة منها، وروى عنه سعيد بن المسيب، وجماعة من التابعين، وروى عنه أصحاب السنن والمساند (¬3). وتقدم في الحديث قبله الكلام على ثبوت خيار المجلس وما يتعلق به. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا"؛ أي: بيَّن كلُّ واحد منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه، من عيب ونحوه في السلعة والثمن، وصدق في ذلك، وفي الإخبار بالثمن وما يتعلق بالعوضين، فالصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (6043)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/ 100). (¬2) انظر: "مثير الغرام الساكن الى أشرف الأماكن" لابن الجوزي (ص: 293). (¬3) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 70)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 419)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 202)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 549)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 362)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 93)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 58)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 169)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 170)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 44)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 112)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 384).

الجنة، ومعنى "بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا"؛ أي: حصل النماء والزيادة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإنْ كَتَمَا وَكَذَبا، مُحِقَتْ برَكَةُ بَيْعِهِمَا"؛ أي: ذهبت بركته، وهي الزيادة والنماء، وقد روي مرفوعًا: "التاجرُ الصَّدوقُ معَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء والصَّالحين" (¬1)، وقد تكلم العلماء على حقيقة الصدق وأقله ودرجاته، فحقيقته: السعي عن مطالعة النفس بحيث لا يحصل لها إعجاب بالعمل، وأقله ما قاله القشيري -رحمه الله تعالى-: استواء السر والعلانية (¬2)، وقال سهل التستري - رحمه الله -. لا يشم رائحة الصدق، عبدٌ داهن نفسه أو غيره (¬3)، ودرجاته غير منحصرة. وبعد ذلك كلِّه: فالصادق مسؤول عن صدقه، قال الله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]. وفي الحديث دليل: على ثبوت خيار المجلس. وفيه دليل: على وجوب الصدق في البيوع؛ بذكر مقدار أصل الثمن في الإخبار، وما في الثمن أو السلعة من عيب وغيره. وفيه دليل: على تحريم الكذب في ذلك. وفيه: الحث على تعاطي الصدق، وعلى منع تعاطي الكذب. وفيه: أنَّ الصدق سبب البركة، والكذب سبب لمحقها. وفيه دليل: على ذكر الصدق، وإن ضرَّ ظاهرًا، وعلى ترك الكذب، وإن زاد ظاهرًا؛ فإنه يضرُّ باطنًا وظاهرًا، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1209)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في التجَّار وتسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم، وقال: حسن، والدارمي في "سننه" (2539)، والدارقطني في "سننه" (3/ 7)، والحاكم في "المستدرك" (2143)، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الرسالة القشيرية" (ص: 211). (¬3) رواه السلمي في "آداب الصحبة" (ص: 74).

باب ما نهي عنه من البيوع

باب ما نُهي عنه من البيوع الحديث الأول عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْع إِلَى رَجُلٍ -قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ-، وَنَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ، وَالمُلاَمَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ" (¬1). تقدَّم الكلام على أبي سعيد الخدري ونسبته. أَمَّا المُنَابَذَةُ: فقد فسَّرها في الحديث: بعدم تقليبه ورؤيته، وفيه تأويلات ثلاثة أخر: أحدها: أن يُجعل نفس النبذ بيعًا، وهو تأويل الشافعي - رحمه الله -. والثاني: أن تقول: بعتك، فإذا نبذته إليك، انقطع الخيار، ولزم البيع. والثالث: المراد به نبذ الحصاة، فيجعل ما وقعت عليه مبيعًا، أو غاية للمساحة ما وقعت عليه من الأرض المبيعة، أو تعليق مدة الخيار المشروط على نبذها، والله أعلم. والمُلاَمَسَةُ: قد فسَّرها في الحديث بلمس الثوب لا ينظر إليه، وفيه أوجه أخر: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2037)، كتاب: البيوع، باب: بيع الملامسة، ومسلم (1512)، كتاب: البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة، وهذا لفظ البخاري.

أحدها: جعل نفس اللمس بيعًا، بأن تقول: إذا لمستَ ثوبي، فهو بيع منك بكذا وكذا، وهو باطل للتعلق في الصيغة، وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعًا، وقد قيل: إن هذا من صور المعاطاة. والثاني: أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب، فقد وجب البيع، وانقطع الخيار، وهو فاسد أيضًا بالشرط الفاسد. والثالث: هو تفسير الشافعي - رحمه الله -: بأن يأتي بثوب مطوي، أو في ظلمة، فيلمسه الراغب، فيقول صاحبه: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته، وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب، وكذا إن صححناه؛ لإقامة اللمس مقام النظر، وقيل: يتخرج على شرط الخيار، وهذان البيعان فاسدان على جميع التأويلات. واللفظ الذي ذكره المصنف في الكتاب يقتضي أن يكون الفساد من جهة عدم النظر والتقليب، فإن كان هذا التفسير من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرفوع حجةً يتعين المصير إليه دون غيره، وكذا إن كان من الصحابي يقتضي أن يكون راجحًا على غيره من تفسير التابعي وغيره، وحينئذٍ يستدل به من يمنع بيع الأعيان الغائبة عملًا بالعلَّة، ومن يشترط الصفة في بيع الأعيان الغائبة، لا يكون الحديث دليلًا عليه؛ لأنه لم يذكر فيه وصفًا، ثم في كل موضع مما ذكرناه يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين، فإذا علل بعدم الرؤية المشروطة، فالفرق ظاهر، وإذا فسرنا بأمر لا يعود إلى ذلك، احتيج إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة، عند من يجيزها، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنه-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْع بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا، فَهُوَ بِخير النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحلِبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ" (¬1). وفي لفظ: "وَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثًا" (¬2). أَمَّا تَلَقِّي الرُّكبَان: فهو أن يتلقَّى طائفةً يحملون متاعًا، فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد ويعرفوا الأسعار، وهو من البيوع المنهي عنها للتحريم. وأَمَّا قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يَبْع بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ"؛ فهو مفسرٌ عند الشافعية بأن تقول لمن اشترى شيئًا في مدة الخيار: افسخ هذا البيع، وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه، أو أجود منه بثمنه، ونحو ذلك، وهو حرام. وكذا الشراء على شراء أخيه، وهو أن يقول للبائع: افسخ البيع، وأنا اشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، ونحو ذلك. وإنما كان تفسير البيع على بيع أخيه في مدة الخيار دون ما بعده حيث يتصور فسخ البيع يكون الخيار لهما أو لأحدهما، فيكون عقد البيع جائزًا، فيكون الفعل حرامًا. والعقد صحيح عند من يرى: أن النهي الخارج عن ذات الشيء لا يقتضي فساده، أما إذا كان بعد انقضاء مدة الخيار، فالعقد لازم، والفعل حرام، ولا يصح البيع إجماعًا. وخصص بعض الفقهاء هذا بما إذا لم يكن في البيع غبن فاحش، أما إذا كان المشتري مغبونًا غبنًا فاحشًا، فله أن يعلمه ليفسخ ويبيع منه بأرخص، وفي معناه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2043)، كتاب: البيوع، باب: النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغم، مسلم (1515)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. (¬2) رواه البخاري (2041)، كتاب، البيوع: باب: النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم.

ما إذا كان البائع مغبونًا، فيدعوه إلى الفسخ، فيشتريه منه بأكثر. ومن الفقهاء من فسَّر البيع على البيع بالسوم على السوم، وهو: أن يتفق مالك السلعة والراغب فيها على البيع، ولم يعقداه، أو يكون المبيع في العرض عند المشتري بعد تقرير الثمن وقبل العقد، فيقول آخر للبائع: أنا اشتريته. وكل هذا حرام بعد استقرار الثمن، فلو لم يستقر الثمن، وكانت السلعة تباع فيمن يزيد، فليس بحرام، وبعد الرضا بين المتساومين صريحًا، فلو وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح، فوجهان، وليس السكوت من دلائل الرضا عند الأكثرين من الشافعية. وقولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَنَاجَشُوا"؛ النَّجْشُ: بفتح النون وسكون الجيم وبالشين المعجمة، وتناجشوا: تفاعلوا النجش، وهو عند الفقهاء: أن يزيد في ثمن السلعة، لا لرغبة فيها، بل ليخدع غيره ويغره؛ ليزيد ويشتريها، وأصل النجش: الاستثارة، ومنه نجشت الصيد أنجُشه -بضم الجيم- نجشًا: إذا استثرته، وسمي الناجش في السلعة ناجشًا؛ لأنه يثير الرغبة فيها، ويرفع ثمنها. وقال ابن قتيبة: أصل النجش: الختل؛ وهو الخداع، ومنه قيل للصائد: ناجش؛ لأنه يختل الصيد ويحتال له، وكل من استثار شيئًا فهو ناجش. وقال الهروي: قال أبو بكر: النجش: المدح والإطراء، وعلى هذا معنى الحديث: لا يمدح أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها بلا رغبة، والصحيح الأول (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ"؛ الحاضر: المقيم بالبلد، والبادي: المقيم بالبادية، وفي معناه القروي: وهو المقيم بالقرى المضافة إلى البلاد. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 199)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 5)، "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (20/ 5)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 315)، (مادة: نجش)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 159)، "تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 184).

وصورة بيع الحاضر للبادي المنهي عنه: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه، فيأتيه البلدي فيقول: ضعه عندي؛ لأبيعه على التدريج بزيادة سعر، وذلك إضرارٌ بأهلِ البلدِ، وحرامٌ إن علم بالنهي. وتصرف الفقهاء من الشافعية في ذلك، وقيدوا عدم التحريم بشروط: منها: ألا يكون المتاع المجلوب إلى البلد محتاجًا إليه في البلد، ولا يؤثر فيه لقلة ذلك المجلوب. ومنها: عدم علم البلدي بالنهي. ومنها: ألَّا يكون المتاع مما تعم به الحاجة إليه في البلد، دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرًا. ومنها: ألَّا يدعو البدوي البلدي إلى تأخير بيعه عند حاجة أهل البلد، فلو دعا البلدي البدوي، أو كان المجلوب مما بأهل البلد حاجة إليه في ذلك الوقت، أو كان عالمًا بتحريمه، أو كانت الحاجة إليه غالبة، أو كان المجلوب يؤثر في دفع ضرورة أهل البلد إليه لقلته، كان حرامًا، وإلا فلا يحرم. واعلم: أن المعنى في تحريم بيع الحاضر للبادي وسببه: الرفق بأهل البلد، واحتمل فيه غبن البادي، ومنع من تلقِّيه، نظرًا إلى المصلحة العامة للناس، واغتفار عدم مفسدة مصلحة واحد على الجماعة، فلما كان البادي إذا باع بنفسه انتفع ببيعه جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، قدَّمَ الشرع مصلحتهم على مصلحته، ولما كان المتلقي ينتفع هو خاصة دون الناس، حرم عليه التلقي، ومنع منه؛ نظرًا لمصلحة الناس عليه، فكل من البادي والمتلقي متفق في الحكمة والمصلحة، والله أعلم. واعلم: أن أكثر الأحكام تدور بين اعتبار المعنى، واتباع اللفظ، وينبغي أن ينظر في المعنى إلى ظهوره وخفائه، فإن ظهر ظهورًا كثيرًا، فلا بأس باتباعه، وتخصيص النص به، أو تعميمه على قواعد القياسيين، وإن خفي ولم يظهر ظهورًا قويًّا، فاتباع اللفظ أولى.

قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي - رحمه الله - (¬1): فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك، فلا يقوى؛ لعدم دلالة اللفظ عليه، وعدم ظهور المعنى فيه؛ فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البلدي وعدمه ظاهرًا، وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه، فمتوسط في الظهور وعدمه؛ لاحتمال أن يراعى مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا الناسَ يرزقُ اللهُ بعضَهم من بعضٍ" (¬2). وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعة في البلد، فكذلك -أيضًا- هو متوسط في الظهور؛ لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد. وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه؛ كشرطنا العلم بالنهي والإشكال فيه، ومنها ما يوجد باستنباط المعنى، فيخرج على قاعدة أصولية، وهي: أن النص إذا استنبط منه معنى يوعد عليه بالتخصيص، هل يصح أو لا؟ يظهر لك هذا باعتبار ما ذكرناه من الشروط، هذا آخر كلامه، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا تُصَرُّوا الغَنَمَ"؛ الذي عليه أهل التحقيق من الرواية وأهل اللغة والغريب في ضبط "تُصَرُّوا" أنه بضم التاء وفتح الصاد ونصب لفظة الغنم، مأخوذ من التصرية، وهي الجمع، يقال: صَرَّى يُصَرِّي تصرية، وصرَّاها يُصَرِّيها تصريةً، فهي مُصَرَّاة؛ كغشَّاها يغشِّيها تغشية فهي مُغَشَّاة، وزكاها يزكيها تزكية فهي مُزَكَّاة، وروي في غير الصحيح: "تَصُرُّوا" -بفتح التاء وضم الصاد- من الصرة، ورواه بعضهم "تُصَرُّ" بضم التاء من غير واو الجمع بعد الراء، وبرفع الغنم، على ما لم يُسمَّ؛ فاعله من الصَّرِّ -أيضًا-، وهذا لا يصح رفعه مع اتصال الفاعل، وإنما يصح مع اتصال الفعل، ولا يعلم رواية حذف فيها هذا الضمير. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (3/ 115). (¬2) رواه مسلم (1522)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للبادي، عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا بلفظ: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

والصواب المشهور في ضبطه هو الأول؛ ومعناه: لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعُها، فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة، ومنه قول العرب: صريت الماء [في] الحوض، وصرَّيته -بالتشديد والتخفيف-؛ أي: جمعته، وصرَّى الماءَ في ظهره؛ أي: حبسه فلم يتزوج. وقال الشافعي - رحمه الله -: التصرية: ربط أخلافها اليومين والثلاثة لجمع لبنها؛ ليزيد المشتري في ثمنها بسبب ذلك؛ لظنَّه أنه عادة لها. وقال أبو عبيد: هو من صَرَّى اللبنَ في ضَرعِها: إذا حبسه، وأصل التصرية: حبسُ الماء، قال أبو عبيد: ولو كانت من الربط، لكانت مصرورة، أو مُصَرَّرة. قال الخطابي: وقول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح، قال: والعرب تصرُّ ضروعَ المحلوبات، واستدل لصحة قول الشافعي بقول العرب: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلبَ والصرَّ، وبقول مالك بن نويرة: فَقُلْتُ لِقَوْمِي هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ ... مُصَرَّرَةٌ أَخلافُهَا لم تجرَّدِ قال: واحتمل أن أصل المصراة: مصرَّرة، أبدلت إحدى الراءين ألفًا؛ كقوله تعالى: {خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]؛ أي. دسَّسها، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس، والله أعلم. وإنما كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف، وإن كانت في الصورة حرفين؛ لكون الحرف المشدد عندهم بحرفين في اللفظ (¬1). وهذا الحديث الذي ذكره المصنف في تصرية الغنم خاصة، وفي "الصحيح" ذكر الإبل والغنم، ولا شك أنَّ كلًّا من الإبل والغنم محل للتصرية، فثبت بهما الخيار، وهل يتعدى ثبوته إلى باقي النعم خاصة، وهي البقر، أو إلى كل حيوان مأكول اللحم؟ ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 240 - 242)، "معالم السنن" للخطابي (6/ 84 - 85)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 43)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 27)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 160 - 161)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 166).

فيه وجهان لأصحاب الشافعي: أحدهما: لا يتعدى؛ جمودًا على ما ذكر في الحديث. والثاني: يتعدى إلى باقي النعم، وإلى كل مأكول اللحم؛ نظرًا إلى المعنى؛ فإن مأكول اللحم يقصد لبنه، فيفوت بالتصرية المقصود الذي ظنه المشتري بالخديعة، فثبت له الخيار. ومن أصحاب الشافعي - رحمه الله - من عداه إلى ما لا يؤكل لحمه؛ كالأتان، وقال: فيه وجهان: أحدهما: لا يتعدى. والثاني: يتعدى. من قال: يتعدى، نظر إلى أنه مقصود لزينة الجحش، فمن اعتبر هذا المعنى، صحح هذا الوجه، ومن قال: لا يتعدى، نظر إلى [أن] لبن الأتان غير مقصود لشرب الآدمي، لكن الأمر المقصود لا يتعين لشرب ولا غيره، بل هو المعنى عام في كل مقصود غير ممنوع شرعًا. وكذلك ذكروا الخلاف في لبن الآدميات لو حفلها، وإذا ثبت الخيار في الأتان، فالظاهر أنه لا يرد لأجل لبنها شيئًا، وهذا يبين أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث، وهو الإبل والغنم؛ إذ شرط القياس اتحاد الحكم، فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى، وفي رد شيء لأجل لبن الآدمية خلاف. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ابْتَاعَهَا، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا" هذا الحديث مطلق في الحلبات، لكنها مقيدة في الرواية التي ذكرها في الكتاب بالخيار إلى ثلاثة أيام، سواء حلبها مرةً أو مراتٍ، واتفق أصحاب مالك على أنه: إذا حلبها مرة ثانية: أن له الرد إن أراده، واختلفوا في حلبها الثالثة، هل يكون رضي بمنع الرد، أم لا يمنع الرد؟ ورجحوه؛ لإطلاق الحديث، ولأن التصرية لا تتحقق إلا بثلات حلبات؛ لجواز

أن يكون نقص الحلبة الثانية لاختلاف المرعى، أو لأمرٍ غير التصرية، فلا يتحقق إلا بعد الحلبة الثالثة، وإذا كانت لفظة "حلبها" مطلقة، فلا دلالة لها على الثانية والثالثة، وإنما يوجد ذلك من حديث آخر. ولك أن تقول: ثبوت الخيار في ذلك ثلاثة أيام، يدل على إثبات الخيار بعد ثلاث حلبات؛ لأن الغالب أن الحيوان يُحلب في كل يوم مرة، فجعل أمد الخيار ثلاثة أيام لأجل تبين التصرية بالحلب ثلاثًا في ثلاثة أيام. وقد تمسك العلماء بقوله: "وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا" على ثبوت الخيار بعيب التصرية، لكن اختلف أصحاب الشافعي، هل هو على الفور؛ قياسًا على خيار الرد بالعيب، ويتأول الحديث على تبين الحلبات في الأيام الثلاثة، أم تمتد إلى ثلاثة أيام؛ لظاهر الحديث، أو نصه في ثبوت الخيار ثلاثة أيام في التصرية؟ ولا شك أن الظاهر أو النص مقدم على القياس، خصوصًا إذا خولف القياس في أصل الحكم لأجل النص، فليتبع ذلك في جميع موارده. فإن قيل: الخيار ثابت بعد الحلب؛ للحديث في قوله: "بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا"، والخيار ثابت قبله بوجود التصرية قبل الحلب إذا علمت. والجواب: ثبوت الخيار والرد بالتصرية، أو الإمساك باختيار المشتري عدم الرد، وبعدمها لا يتحقق ثبوتُ ذلك إلا بعد الحلب؛ لتوقف الرد والإمساك عليه، والصاع عوض اللبن الذي من ضرورة، العوض عنه الحلب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ"؛ صريح في جواز الرد، ورد صاعًا من تمر معها، ومنع بعض المالكية ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراجُ بالضمان" (¬1)؛ لأن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهة يكون له بضمانه، فاللبن المحلوب إذا فات ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3508)، كتاب: فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا، والنسائي (4990)، كتاب: البيوع، باب: الخراج بالضمان، والترمذي (1285)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله، ثم يجد به عيبًا، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2243)، كتاب: التجارات، باب: الخراج بالضمان، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 189)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 49)، عن عائشة - رضي الله عنها -.

عليه، فليكن للمشتري، ولا يرد له بدلًا، لكن الصواب الرد؛ للحديث؛ إذ هو خاص لمعنى أن اللبن بعض المبيع، وليس من الغلة الحاصلة في يد المشتري، بل كان موجودًا عند البائع، وفي حال العقد، ووقع العقد عليه وعلى الشاة جميعًا، فهما مبيعان بثمن واحد، وتعذر اللبن؛ لاختلاطه بما حدث في ملك المشتري، فوجب رد عوضه، ثم لو سلم أنَّ اللبن غلة، لكان الخراج بالضمان عامًّا، والخاص يقضي على العام؛ على ما تقرر في أصول الفقه وغيره، والله أعلم. ورد الصاع من التمر مع الشاة يقتضي تصريحه ذلك، لكن يلزم منه عدم رد اللبن، سواء كان باقيًا أو تالفًا، لكن قال أصحاب الشافعي: لو كان اللبن باقيًا، وأراد أن يرده على البائع، هل يلزمه قبوله؟ وجهان: أحدهما: نعم؛ لأنه أقرب إلى مستحقه. والثاني: لا؛ لأن طراوته ذهبت، فلا يلزمه قبولها، لكن اتباع لفظ الحديث أولى في تعيين الرد فيما نص عليه. وزاد المالكية على ما قاله الشافعية، فقالوا: لو رضي البائع باللبن، هل يجوز له ذلك؟ فيه قولان، ووجهوا المنع؛ بأنه بيع للطعام قبل قبضه؛ من حيث إنه وجب له الصَّاع بمقتضى الحديث، فكأنه باعه اللبن قبل قبضه، وهو لا يجوز، ووجهوا الجواز بأنه بدل ليس بيعًا، بناء على عادتهم في اتباع المعاني دون اعتبار الألفاظ، ثم جنس التمر في المردود، و [هو] معتبر دون غيره من الأقوات، وهو الصواب؛ للنص عليه، كيف وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَصَاعًا مِنَ تَمْرِ لا سمراء"، وهي الحنطة، ومن العلماء من عداه إلى سائر الأقوات، ومنهم من عداه إلى غالب قوت البلد، والحديث رادٌّ عليهما، خصوصًا إن كانت السمراء غالب قوت أهل المدينة، دالٌّ على فساد قولهما، ثم تعيين الصاع مقدرًا في رده مطلقًا، سواء قل اللبن أو كثر، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان: أحدهما: هذا؛ لظاهر الخبر.

والثاني: بتعذر تقدر اللبن؛ اتباعًا لقياس الغرامات، وهو ضعيف. واعلم أن السنة إذا ثبتت، لم يعترض عليها بالمعقول، والفرق بين أهل السنة والبدعة: أن أهل السنة إذا سمعوها، علموا أنها حق، وإن قصرت عقولهم عن فهمها، ينسبون القصور عن فهمها إلى عقولهم، ويسعون في الوصول إلى فهمها بكل طريق إلى أن يصلوا إليه، بخلاف أهل البدعة؛ فإنهم: إذا سمعوا سنَّة تخالف عقولهم، بادروا إلى ردِّها، والطعن فيها من غير تدبر ولا سعي في فهم شيء مما يخالف عقولهم، والإجماع منعقد على أنه متى وجد نص في حكم من كتاب أو سنَّة، وجب المصير إليه، ولا تحل معارضته بالقياس، ولا الرجوع إليه إلا عند عدم النص، والله أعلم. إذا علمت هذا، فاعلم أن الحكمة فيما يقدره الشارع على خلاف ما يظهر لك مخالفته للأصول العقلية رفعُ النزاع والخصام بين الناس، والمنعُ من كل ما سبيله ذلك، فلما كانت المصراة يقع بيعها في المواضع التي لا يوجد فيها من يعرف القيمة، ولا من يعتمد قوله فيها، واللبن قد يتلف، وقد يتنازع في قلته وكثرته وفي عينه، فجعل الشارع لهم ضابطًا لا نزاع معه، وهو صاع التمر، ونظير ذلك الدية؛ فإنها مئة بعير، ولا تختلف باختلاف حال القتيل في شرفه وعدمه في الدين والدنيا، ومثله الغُرة في الجناية على الجنين، سواء كان ذكرًا أو أنثى، تام الخلق أو ناقصه، جميلًا أو قبيحًا، ومنه مسألة الجبران في الزكاة بين السنين، جعله الشارع بشاتين، أو عشرين درهمًا؛ قطعًا للنزاع، سواء كان التفاوت بينهما قليلًا أو كثيرًا، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تحريم تلقي الركبان بشرطين قالهما الفقهاء: أحدهما: أن يكون المتلقي قاصدًا له. والثاني: أن يكون عالمًا بالتحريم، فلو خرج لشغل، فوجد الركبان مقبلين، فاشترى، ففي تأثيمه للشافعية وجهان: أظهرهما عندهم: التأثيم؛ لعموم النهي،

ولو لم يعلم التحريم، لا يكون آثمًا، لكن ينبغي أن يكون في ذلك تفصيل: فإن كان يمكنه تعلم ذلك؛ بأن كان في بلدٍ فيه العلماء، ولم يتعلم حكم ذلك، كان آثمًا، وإلا فلا، ثم لو تلقى وباع، هل يكون البيع صحيحًا، والفعل حرامًا، أم يكون البيع فاسدًا من أصله؟ ينبني ذلك على أن النهي يدل على الفساد أم لا. فمذهب الشافعي في بيع الركبان أنه صحيح، وإن كان الإثم فيه، وعند غيره من العلماء أن النهي للفساد، ومستند الشافعي أن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما النهي لأجل الإضرار بالركبان، وذلك لا يقدح في نفس البيع. واعلم أن النهي الذي يقتضي التحريم في الشرع على ثلاثة أضرب: أحدها: يقتضي تحريمَ عين المنهي عنه بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الميتة، فذلك يقتضي: تحريم العين، وفساد العقد عليها. الثاني: يقتضي تحريم وصف في المنهي داخل في ذات المنهي عنه؛ كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الزنا، فذلك يقتضي: تحريم العقد، وفساده، ولا يقتضي تحريم المعقود عليه، بل يرجع كل واحد من المتعاقدين إلى أصل ماله. الثالث: يقتضي تحريم وصف في المنهي عنه خارج عن ذات المنهي عنه، إما لأجل البائع، أو المشتري، ونحوهما، وإما لأجل وصف في الآلة المستعملة؛ كالذهب والفضة إذا كانت آنية، والحرير إذا كان ملبوسًا لمن لا يجوز له لبسه، فتوضأ من الآنية، أو صلَّى في الحرير، وكبيع الركبان وما شاكله من العقود. فهل يقتضي ذلك الصحة في الفعل والعقد، والتحريم بمعنى الإثم أو بمعنى فساد الفعل والعقد؟ اختلف العلماء في ذلك: فمنهم: من حمل مطلق النهي على الفساد والتحريم.

ومنهم: من حمله على التحريم فقط، وقال: يصح الفعل والعقد، ويكون آثمًا بفعله وعقده. ومنهم: من فضَّل، فقال: إن كان الوصف لأجل ذات المنهي عنه؛ كالذهب والفضة والحرير، اقتضى التحريم، وفساد الفعل؛ لأن التحريم فيها للسرف والخيلاء، وما فيها من تغير الحكمة في الذهب والفضة عما وضعت له، وهو كونهما نقدًا قيمًا للأشياء، ومن تغير الحكمة في الحرير بجعله للإناث دون ذكورهم؛ حيث إن لبسه للرجال يورث الإتراف والخنوثة والكسل، وذلك جميعه مناف لصفة الرجال، وإن كان الوصف لأمرٍ خارج عن المنهي عنه؛ كبيع الركبان، والبيع وقت النداء، اقتضى التحريم وصحة العقد، والله أعلم. واعلم: أنه إذا قلنا بصحة بيع الركبان وعدم الإثم؛ حيث لعلها لا عذر للركبان؛ بأن كانوا عالمين بالسعر، فلا خيار لهم، وإن لم يكونوا عالمين، واشترى منهم بأرخص من السعر في البلد، سواء أخبرهم به كاذبًا أم لم يخبرهم، فلهم الخيار، وإن اشترى منهم مثل سعر البلد أو أكثر، ففي ثبوت الخيار لهم وجهان في مذهب الشافعي: منهم من نظر إلى انتفاء العذر لهم والضرر، وهو معنى عدم النهي، فلم يثبت الخيار، ومنهم من نظر إلى عموم حديث ورد في ثبوت الخيار، فجرى على ظاهره، ولم يلتفت إلى المعنى، وحيث أثبتا الخيار، فهل يكون على الفور، أم يمتد إلى ثلاثة أيام؟ وجهان للشافعية، أظهرهما: الأول. ومنها: تحريم البيع على بيع أخيه، وتقدم شرطه ومعناه وما يتعلق بذلك. ومنها: تحريم النجش، وتقدم اشتقاقه ومعناه. وأما إثبات الخيار للمشتري الذي غر بالنجش؛ فإن لم يكن عن مواطأة من البائع، فلا خيار عند أصحاب الشافعي، وإن كان عن مواطأة منه، فالفعل حرام من البائع والناجش؛ لما فيه من الخديعة، ويثبت للمشتري الخيار، ومن الفقهاء من قال: إن البيع باطل مطلقًا، وقال الشافعي: صحيح.

ومنها: تحريم بيع الحاضر للبادي، وتقدم الكلام على تفسيره وما يتعلق به مبسوطًا. ومنها: تحريم التصرية، وتقدم جميع ما يتعلق بها. واعلم أن أبا حنيفة لم يقل بحديث المصراة، ورُوي عن مالك قول -أيضًا- بعدم القول به، ورأيت جماعة اعتذروا عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - بأنه لم يبلغه حديث المصراة، ومقتضى مباحث الحنفية وكلامهم بلوغ الحديث إياه، حتى إن بعضهم طعن في حديث المصراة، وقال: أبو هريرة الذي روى هذا الحديث غير مقبول. روى السمعاني في "مذيله على تاريخ بغداد" عن أبي المعمر المبارك بن أحمد بن عبد العزيز الأزجي من لفظه، عن الفقيه الإمام أبي القاسم يوسف بن علي الزنجاني -رحمه الله- قال: سمعت شيخنا الإمام أبا إسحاق الشيرازي يقول: سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري -رحمه الله- يقول: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور، فجاء شاب خراساني، فسأل عن مسألة المصراة، وطالب بالدليل، فاحتجَّ المستدل بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الوارد فيها، فقال الشاب -وكان حنفيًّا-: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما استتمَّ كلامه حتى سقطت عليه حيَّة عظيمة من سقف الجامع، فوثب الناس من أجلها، وهرب الشاب من يدها وهي تتبعه، فقيل له: تُبْ، فقال: تبت! فغابت الحية، فلم يرَ لها أثرًا، وهذا إسناد جليل صحيح، رواته كلهم أئمة جلة مبرزون حفاظ علماء متقنون (¬1). ولا شك أن كلام الحنفية عن إمامهم متناقض في العمل بخبر الواحد، والقياس عند تعارضهما، فرجح بعضهم العمل بالقياس الجلي على خبر الواحد، إذا كان الخبر مخالفًا لقياس الأصول المعلومة، فإن ما كان كذلك، لم يلزم ¬

_ (¬1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 618 - 619).

العمل به عندهم، ورجح بعضهم العمل بالحديث المرسل، مع أن العلماء اختلفوا في قبوله على القياس، وذلك مناقضة ظاهرة، فلينظر فيها نظر عارف منصف خال من الهوى والتعصب للمذاهب، ووجه ترجيحهم القياس على خبر الواحد في هذه المسألة من وجوه: أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المتلفات بالمثل، وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين، وها هنا إن كان اللبن متلفًا، كان ينبغي على ما ذكروه ضمانة بمثله لبنًا، وإن كان متقومًا، ضمن بمثله من النقدين، وقد وقع هنا مضمونًا بالتمر، فهو خارج عن الأصلين جميعًا. الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي ضمان المضمون بقدر التلف، والمضمون هنا مختلف مقدر الضمان بمقدار واحد، وهو الصاع مطلقًا، فخرج عن القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها. الثالث: إن كان موجودًا عند العقد، فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد؛ كما لو أذهب بعض أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب، فإنه يمتنع الرد، وإن كان حادثًا بعد الشراء، فقد حدث على ملك المشتري، فلا يضمنه، وإن كان مختلطًا، فما كان منه موجودًا عند العقد، منع الرد، وما كان حادثًا، لم يجز ضمانه. الرابع: إثبات الخيار ثلاثًا من غير شرط مخالف للأصول؛ فإن الخيار الثابت بأصل الشرع من غير شرط لا يتقدر بالثلاث؛ لخيار العيب، وخيار الرؤية عند من يثبته، وخيار المجلس عند من يقول به. الخامس: يلزم من القول بظاهره الجمعُ بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور، وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعًا من تمر، فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها. السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور، وهو ما إذا اشترى شاة بصاع، فإذا استرد معها صاعًا من تمر، فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن،

فيكون قد باع شاة وصاعًا بصاع، وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم، فإنكم تمنعون مثل ذلك. السابع: إذا كان اللبن باقيًا، لم يكلف رده عندكم، فإذا أمسكه، فالحكم كما لو تلف، فيرد الصاع، وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها، والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها؛ كالغصوب وسائر الضمونات. الثامن: قال بعضهم: إذا ثبت الرد من غير عيب ولا شرط، فإن نقصان اللبن لو كان عيبًا، لثبت به الرد من غير تصرية، ولا يثبت في الشرع إلا بعيب أو شرط. وجه آخر من ترجيحهم القياس على خبر الواحد: وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفًا لقياس الأصول المعلومة، لم يجب العمل به؛ لأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع، وخبر الواحد مظنون، والمظنون لا يعارض المعلوم، أجاب القائلون بظاهر الحديث بالطعن في الوجهين جميعًا؛ أعني: أنه مخالف للأصول به، وأنه إذا خالف الأصول، لم يجب العمل به: أما الوجه الأول: وهو أنه مخالف للأصول، فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول، وخص الرد بخبر الواحد بالمخالفة في الأصول، لا بمخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول، وسلك آخرون تخريج هذه الاعتراضات، والجواب عنها: أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه؛ فإن الحر يضمن بالإبل، وليست بمثل له ولا قيمة، والجنين يضمن بالغرة، وليست بمثل له ولا قيمة، و -أيضًا- فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة، وهاهنا تعذرت. أما الأول: فمن أتلف شاة لبونًا، كان عليه قيمتها مع اللبن، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنا آخر؛ لتعذر المماثلة، وتعذرها؛ لأن ما يرده من اللبن عوضًا عن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار؛ لجواز أن يكون حال رده وعند العقد أكثرَ من اللبن الموجود أو أقل.

وأما الاعتراض الثاني: فقيل في جوابه: إن بعض الأصول لا تتقدر بما ذكرتموه؛ كالموضحة، فإن أَرْشَها مقدر مع اختلافِها بالكبر والصغر، والجنين مقدر، فأرشه لا يختص بالذكورة والأنوثة، واختلافِ الصفات، والحرُّ ديته مقدرة، وإن اختلفت بالصغر والكبر وسائر الصفات، والحكمة فيه إن ما يقع التشاجر فيه والتنازع بقصد قطع النزاع فيه بتقدير شيء معين، وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة، وتقدم معنى ذلك. وأما الاعتراض الثالث: فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص إذا كان لاستعلام العيب، وإذا لم يكن، والأول ممنوع، والثاني مسلم، وهذا النقص لاستعلام العيب، فلا يمتنع الرد. وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفًا لغيره إذا كان مماثلًا له، وخولف في حكمه، وهذه الصورة هاهنا مندفعة عن غيرها؛ بأن الغالب أن هذه المدة هي التي تبين بها أن اللبن المجتمع بأصل الخلقة جبلة، واللبن المجتمع بالتدليس، فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا، بخلاف خيار الرؤية والعيب؛ فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما، وخيار المجلس ليس للاستعلام. وأما الاعتراض الخامس: فقيل فيه: إن الخبر وارد على العادة، والعادة ألا تباع شاة بصاع، وفيه ضعف، وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن، لا عن الشاة، فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض. وأما الاعتراض السادس: فقيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود، لا في هذا الفسوخ؛ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبًا بفضةٍ، لم يجز أن يفترقا قبل القبض، ولو تقابلا في هذا العقد، جاز أن يفترقا قبل القبض. وأما الاعتراض السابع: فقيل في جوابه: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده؛ لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد، وأحدهما للبائع، والآخر للمشتري، وتعذُّر الرَّدِّ لا يمنع من الضمان مع بقاء العين، كما لو غصب عبدًا

فأبق، فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه؛ لتعذر الرد. وأما الاعتراض الثامن: فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس، كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها، ولم يعلم به المشتري. الوجه الثاني: في تقديم قياس الأصول لا تقديم الأصول على خبر الواحد، وهو أن خبر الواحد بنفسه يجب اعتباره؛ لأن الذي أوجب اعتبار الأصول نص صاحب الشرع عليها، وهو موجود في خبر الواحد، فيجب اعتباره. أما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع، وكون خبر الواحد مظنونًا يتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير المقطوع به؛ لجواز استثناء محل الخبر عن ذلك الأصل. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد الإمام -رحمه الله تعالى-: وعندي أن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن الأول، ومن الناس من سلك طريقةً أخرى في الاعتذار عن الحديث، وهي ادِّعاء النسخ، وأنَّه يجوز أن يكون ذلك حيث كانت العقوبة بالمال جائزة، وهو ضعيف؛ فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير، وهو غير سائغ، ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلًا، وشرطا الخيار، فالشرط فاسد، فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار، صحَّ العقد، وإن لم يتفقا، بطل. وأما فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت: وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية، وأما ما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط، سواء وجدت التصرية أم لا (¬1). ومنها: ثبوت الخيار للمشتري بالتصرية. ومنها: أن ثبوت الرد بها لا يكون إلا بعد حلبها إن اختاره المشتري. ومنها: أن البدل عن لبن المصراة مقدر من الشرع بصاع تمر، سواء كان اللبن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 133 - 134).

الحديث الثالث

قليلًا أو كثيرًا، وسواء كانت المصراة ناقة أو شاة أو بقرة، وهو قول الشافعي، وبه قال مالك، والليث، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، وأبو ثور، وفقهاء المحدثين، وهو الصحيح الموافق للسنَّة، وقد تقدم الكلام على ذلك، ومن خالف فيه. ومنها: أن الخيار في الردِّ بالتصرية يمتد إلى ثلاثة أيام، وتقدم الكلام على ذلك وتأويله، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ؛ وَكَانَ جميعًا يَبْتاعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِية؛ كَانَ الرَّجُل يَبْتَاعُ الجَزُورَ الَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ التِي في بَطْنِهَا" (¬1). قيل: إنه كان يبيع الشارف، وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته. أما حَبَل الحَبَلة؛ فهو بفتح الحاء والباء في الحَبَل والحَبَلة، ونقل القاضي عياض -رحمه الله- أن بعضهم روى قوله: "حَبْل" بإسكان الباء، قال: وهو غلط، والصواب الفتح، قال أهل اللغة: الحَبَلة هنا: جمع حابل؛ كظالم وظلمة، وفاجر وفجرة، وكاتب وكتبة، قال الأخفش: يقال: حَبلَتِ المرأة فهي حابل، والجمع نسوة حَبَلَة، وقال ابن الأنباري: الهاء في الحَبلة للمبالغة، ووافقه بعضهم، واتفق أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات، ويقال في غيرهن: الحمل، يقال: حَمَلت المرأة ولدًا، وحبلت بولدٍ، وحملت الشاة سخلة، ولا يقال: حبلت، قال أبو عبيدة: لا يقال لشيء من الحيوان حبل إلا ما جاء في هذا الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2036)، كتاب: البيوع، باب: بيع الغرر وحبل الحبلة، ومسلم (1514)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع حبل الحبلة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 208)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 175)، =

الحديث الرابع

واختلف العلماء في المراد بالنهي عن بيع حَبَل الحبلة: فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن يلد الناقة وتلد ولدها، وهذا التفسير نقله مسلم في "صحيحه" في هذا الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وبه قال مالك، والشافعي، ومن تابعهم، وقال آخرون: هو بيع ولد ولد الناقة الحابل في الحال، وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى، وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلام، وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، هذا أقرب إلى اللغة، لكن تفسير الراوي مقدم عند الشافعي ومحققي الأصوليين إذا لم يخالف الظاهر؛ لأن الراوي هو ابن عمر، وقد فسَّره بالتفسير الأول، وهو أعرف، والبيع باطل على تفسير المصنف وغيره من التفاسير، أما تفسير المصنف، وهو تفسير ابن عمر، فلأنه بيع إلى أجل مجهول. وأما الثاني: فهو بيعُ نتاجِ النتاجِ، وهو معدوم ومجهول، وغير مملوك للبائع؛ وغير مقدور على تسليمه، وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه، فأبطله الشارع؛ للمفسدة المتعلقة به، وللعلل التي ذكرناها، وكان السر فيه أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل، والتشاجر، أو التنازع المنافي للمصلحة الكلية، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بيعِ الثَّمَرةِ حَتى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى البَائعِ وَالمُشْتَرِيَ (¬1). ¬

_ = و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 344)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 177)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 58). (¬1) رواه البخاري (1415)، كتاب: البيوع، باب: من باع ثماره أو نخله أو إرضه أو زرعه، ومسلم (1534)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، إلا أن فيه: "نهى البائع والمبتاع، بدل "البائع والمشتري".

أمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا"؛ فمعنى يَبْدُوَ: يظهر -بفتح الواو غير مهموز، وليس بعد الواو ألف-، ووجدت الألف في كثير من كتب المحدثين وغيرهم، وهو خطأ، والصواب حذفها في مثل هذا الموضع للناصب، وهو "حتى"، ويقع مثله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حَتى يَزْهُوَ" (¬1)، واختلفوا في إثبات الألف فيها إذا لم يكن ناصب، مثل: زيد يبدو ويزهو. والمختار حذفها أيضًا (¬2)، وقد ثبت تفسير بدو الصلاح بأن تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ. وقولُه: "نَهَى البَائعِ وَالمُشْتَرِيَ"؛ تأكيد لبيان المنع، وهو أنه ليس المراعى في المنهي حق الآدمي، وهو المشتري مثلًا؛ بحيث إذا سقط حقه، جاز ما نهى عنه؛ لأن الحق له، وقد أسقطه، بل حقّ الشرع في المنهي عنه، سواء أسقطه صاحبه أم لا؛ بحيث لا يرتكب النهي، ألا ترى أن المنع في بيع الثمار قبل بُدوِّ صلاحها إنما هو في المعنى لأجل مصلحة المشتري؛ حيث إن الثمار قبل الصلاح معرضة للعاهات، فإذا حصل عليها شيء منها، أجحف بالمشتري في الثمن الذي بذله، ولهذا ورد في بعض الأحاديث الصحيحة: "بِمَ يأكلُ أَحَدُكُم مَالَ أَخِيهِ؟! "، وسيأتي في الحديث بعده عن أنس - رضي الله عنه -، فلذلك وقع المنع منه للبائع والمشتري؛ لأجل منع الشرع، وكأنه لقطع النزاع والتخاصم، والله أعلم. أما النهي في الحديث، فأكثر الأمة على أنه للتحريم، ولو باع الثمرة قبل بُدوِّ صلاحها بشرط القطع، صحَّ بالإجماع، قال الفقهاء من الشافعية: ولو شرط القطع، ثم لم يقطع، فالبيع صحيح، ويلزمه للبائع بالقطع، فإن تراضيا على إبقائه، جاز، وإن باعها بشرط التبقية، فالبيع باطل بالإجماع؛ لأنه ربما تلفت الثمرة قبل إدراكها، فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل، فإذا شرط القطع، فقد انتفى هذا الضرر. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2085)، كتاب: البيوع، باب: بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها، ومسلم (1555)، كتاب: المساقاة، باب: وضع الجوائح، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) قلت: وقد نبه إلى هذا شيخه النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (10/ 178).

الحديث الخامس

واختلف العلماء في بيعها مطلقًا من غير شرط قطع ولا إبقاء: فمذهب مالك، والشافعي، وجمهور العلماء: المنعُ منه؛ استدلالًا بعموم هذا الحديث وإطلاقه؛ فإنه إذا خرج عن العموم بيعها بشرط القطع، دخل باقي الصور التي من جملتها الإطلاق، ولأن العادة إذا بيعت الثمرة بعد بدو الصلاح الإبقاء، فصارت العادة كالمشروط، فجاز بيعها حينئذ مطلقًا، وبشرط القطع، وبشرط التبقية. وما بعد الغاية يخالف ما قبلها إذا لم يكن من جنسها، والغالب السلامة في بيعها بعد بدو صلاحها؛ بخلاف ما قبله، ثم إذا بيعت بعد بدو صلاحها بشرط التبقية، أو مطلقًا، لزم البيع بتبقيتها إلى أوان الجداد، وحيث هو العادة من غير منازعة ولا خصام، وبه قال مالك، والشافعي -رحمه الله تعالى-، وقال أبو حنيفة -رحمهم الله تعالى-: يجب بشرط القطع، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بيع الثِّمَارِ حَتى تُزْهِيَ، قِيل: وَمَا تُزْهِي؟ قال: "تَحْمَرُّ"، قَالَ:: "أَرَأَيْتَ إذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيه؟! " (¬1). أَمَّا قولُه: "حَتَّى تُزْهِيَ" فقد أنكر بعض أهل اللغة ذلك، وقال: لا يقال أزهت الثمرة تُزهي، وهذه الرواية تردُّ عليه، وورد في "صحيح مسلم": "حَتَّى تَزْهُوَ" من: زهت تزهو، وأنكرها بعضهم، وقال: لا يقال: زهت تزهو، وإذا يقال زهت تزهي، والصواب جوازه؛ لما ثبت في "صحيح مسلم"، فيكون حينئذ فيها لغتان: زَهَتْ وَأَزْهْت، قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو: إذا ظهرت ثمرته، وأزهى يُزهي: إذا احمرَّ أو اصفرَّ، وقال الأصمعي: لا يقال في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2094)، كتاب: البيوع، باب: بيع المخاضرة، ومسلم (1555)، كتاب: المساقاة، باب: وضع الجوائح.

النخل: أزهى، إنما يقال: زهى، وقال الخليل: أزهى النخل: بدا صلاحه، وحكاهما أبو زيد لغتين، وقال الخطابي: يروى: حتى يزهو، والصواب في العربية: حتى تزهي، والإزهاء في الثمر أن يحمرَّ أو يصفرَّ، وذلك علامة الصلاح فيها، ودليل صلاحها من الآفة، وقال الجوهري: الزَّهو بفتح الزاي، وأهل الحجاز يقولون بضمِّها، وهو البُسْر الملون، يقال: إذا ظهرت الحمرة أو الصفرة في النخل، فقد ظهر فيه الزهو، وقد زها النخل زهوًا، وأزهى لغةٌ، فالزيادة من الثقة مقبولة في الرواية والنقل، ومن نقل شيئًا لم يعرفه غيره، قبلناه إذا كان ثقة (¬1). ولا شك أن الإزهاء يغير لون الثمرة إلى حال الطيب، والعلة في منع بيع الثمار قبل الازهاء يعرضها للجوائح، وقد أشار إلى ذلك في هذا الحديث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَأَيتَ إذا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَستَحِلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيه؟! ". وفي هذا الحديث دليل: على منع بيع الثمرة قبل الإزهاء، وقد تقدم الكلام عليه مفصلًا في الحديث قبله. وفيه دليل: على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط مكاملة؛ لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي، وبأوله يحصل المسمى. وفيه دليل: على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث ينطلق عليها أنها أزهت بإزهاء بعضها مع حصول المعنى، وهو الأمن من العاهة غالبًا، ولولا وجود المعنى، كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها قد لا يكتفى به؛ لكونه مجازًا. وفيه دليل: على أن مال الغير لا يَحِلُّ ولا يُستحل إلا بالوجوه الشرعية لا بالحلية، ولا ببعض شروط الحل دون بعض. ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (4/ 73)، و"معالم السنن" للخطابي (5/ 41)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 312)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 156).

الحديث السادس

وفيه دليل: على وضع الجوائح بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَأَيْتَ اِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ" إلى آخره، وهو ثابت في حديث آخر. وفيه دليل: على السؤال على معنى اللفظ الغريب، والجواب عنه بتفسيره وعلته وحكمته، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانَ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضرٌ لِبَادٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لابنِ عَبَّاسِ: مَا قَوْلُهُ: حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لَا يكُونُ لَهُ سِمْسَارًا" (¬1). السِّمْسَار: الدلَّال، وأصله القَيِّمُ بالأمر الحافظُ له، ثم استُعمل في متولِّي البيوع والشراء لغيره، ويقال لجماعة السِّمْسَار: السَّمَاسِرة، وسمَّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التجَّار، والسَّمْسَرة: البيع والشراء، وتقدَّم الكلام على تحريم تَلَقِّي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، وما يتعلق به في هذا الباب. وفي هذا الحديث دليل: على تحريم تعاطي أسباب الشيء المنهي عنه؛ لأن الدلال لمَّا كان سببًا لتعاطي هذا البيع المحرم، حرم عليه الكلام فيه، والدخول فيه، وكما يحرم عليه السمسرة فيه، كذلك يحرم عليه أن يكون وكيلًا في بيعه تبعًا لسمسرة الحاضر له. وفيه: السؤال عما يجهله الإنسان. وفيه دليل: على الجواب عنه بمقتضى ما يعلمه المجيب، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2154)، كتاب: الإجارة، باب: أجر السمسرة، ومسلم (1521)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر لبادي.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُزَابَنةِ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ إنْ كَانَ نخلًا بِتَمْرٍ كَيلًا، وإنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا، أَوْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلٍ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (¬1). أما المُزَابَنة، فقد فسرها في الحديث، وهذا البيع على ما ذكر أصله، من الزَّبْنِ، وهو الدَّفْعُ، وحقيقته: بيعُ معلومٍ بمجهولٍ من جنسه، وكان كل واحد من المتبايعين يَزْبِن صاحبه عن حقِّه بما يزداد منه، فوقع النهي؛ لما يقع فيه من الغبن والجهالة، وذكر في الحديث أمثلة للمزابنة من بيع الرطب بالتمر، ومن بيع العنب بالزبيب، ومن بيع الزرع بمكيال طعام. وفي الحديث دليل: على تحريم ذلك، وقد اتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، على ما سيأتي في الباب بعده، واتفقوا على أنه رِبًا، وأجمعوا على تحريم بيع العنب بالزبيب، وأجمعوا -أيضًا- على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة، مأخوذ من الحقل: وهو الحرث، وموضع الزرع، وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر، أو مقطوعًا، وقال أبو حنيفة: إن كان مقطوعًا، جاز بيعه بمثله من اليابس، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: نَهَى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُخَابرَةِ والمُحَاقَلَةِ، وعن المُزَابَنةِ، وَعَنْ بيعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَأَلَّا يُبَاعَ إلَّا بِالدِّينَارِ وَالدِّرهَمِ إلَّا العَرَايَا" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2091)، كتاب: البيوع، باب: بيع الزرع بالطعام كيلًا، ومسلم (1542)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬2) رواه البخاري (2252)، كتاب: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو سرب في حائط أو في =

المُحَاقَلَةُ: بيعُ الحنطة في سنبلها بحنطة. تقدَّم الكلام على بيع المحاقلة والمزابنة والثمرة قبل بُدوِّ صلاحها. وأما المُخَابرَةُ، فهي والمزارعة متقاربتان في المعنى، وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع؛ كالثلث والربع، وغير ذلك من الأجزاء المعلومة، لكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرض، وفي المخابرة يكون البذر من العامل، هكذا قاله جمهور الشافعية، وهو ظاهر نص الشافعي -رحمه الله-، وقال بعض الشافعية وجماعة من أهل اللغة وغيرهم: هما بمعنًى، والمخابرة مشتقة من الخبير، وهو الأكار؛ أي: الفلاح، وهذا قول الجمهور، وقيل: مشتقة من الخبار: وهي الأرض اللينة، وقيل: من الخُبرة، وهي النصيب، وهي بضم الخاء، قال الجوهري: قال أبو عبيد: هي النصيب من سمك أو لحم، يقال: تخبروا خبرة: إذا اشتروا شاة فذبحوها واقتسموا لحمها، وقال ابن الأعرابي: مأخوذ من خيبر؛ لأن أول هذه كان فيها، والله أعلم (1). أما حكم المخابرة: وهي كراء الأرض بجزءٍ مما يخرج منها؛ كالثلث والربع، فقد اختلف العلماء فيه، وفي كراء الأرض مطلقًا، فقال الشافعي، وأبو حنيفة، وكثيرون: تجوز إجارتها بالذهب والفضة، وبالطعام والثياب، وسائر الأشياء، سواء كان بجنس ما يزرع فيها، أم من غيره، ولكن لا تجوز إجارتها بجزء مما يخرج منها؛ كالثلث والربع، ولا يجوز أن يشترط له زرع قطعة معينة، وقال ربيعة: يجوز بالذهب والفضة فقط، وقال مالك: يجوز بالذهب والفضة وغيرهما، إلا الطعام، وقال أحمد، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وجماعة من المالكية، وآخرون: تجوز إجارتها بالذهب والفضة، وتجوز المزارعة بالثلث والربع وغيرهما، وبهذا قال ابن شريح، وابن خزيمة، والخطابي، وغيرهم من محققي الشافعية، وهو الراجح المختار عند جماعة من المتأخرين، وقال ¬

_ = نخل، ومسلم (1536)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة وعن المخابرة. (1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 193)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 83).

الحديث التاسع

طاوس، والحسن البصري: لا يجوز بكل حال، سواء كراها بطعام أو ذهب أو فضة، أو بجزء من زرعها؛ لإطلاق النهي عن كراء الأرض، إلا أن يمنحها أخاه، واعتمد الشافعي ومن وافقه صريحَ رواية رافع بن خديج، وثابت بن الضحاك، وسيأتي في جواز الإجارة بالذهب والفضة ونحوهما، وتأولوا حديث النهي تأويلين: أحدهما: حمله على الإجارة بها على الماذيانات والجداول، أو على الإجارة بزرع قطعة معينة، أو بالثلث والربع ونحو ذلك كما فسره الرواة في الأحاديث. والثاني: حمله على كراهة التنزيه والإرشاد إلى عمارتها؛ كالنهي عن بيع الهر، فإنه محمول على التنزيه؛ حيث إن العادة أن الناس يتواهبونه، والله أعلم، وهذان لا بد منهما؛ جمعًا بين الأحاديث؛ فإنه أولى من إلغاء بعضها، وليس ثم دليل على نسخ بعضها، فتعين المصير إلى التأويل، لكن التأويل الثاني نقل معناه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأشار إليه البخاري وغيره، والله أعلم. وفي الحديث دليل: على منع المخابرة والمحاقلة والمزابنة. وعلى منع بيع الثمرة قبل بُدوِّ صلاحِها. وعلى منع بيعها بجنسها يابسًا، إلا في الرطب والعنب. وعلى جواز بيعها بعد بُدوِّ صلاحِها بالذهب والفضة مطلقًا، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَعَنْ مَهْرِ البَغيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ (¬1). تقدم الكلام على أبي مسعود واسمه ونسبته ونسبه وما يتعلق به. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2122)، كتاب: البيوع، باب: ثمن الكلب، ومسلم (1567)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي.

أمَّا نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب: فمقتضاه تحريم بيعه، والعموم في كل كلب، سواء المعلَّم وغيره، وسواء ما يجوز اقتناؤه وغيره، وهو صريح في أنه لا يحل ثمنه، ويلزم من ذلك أنه لا قيمة على متلفه، وقد ورد في بعض الأحاديث النهي عن ثمن الكلب: "إلَّا كَلْبَ صيدٍ" (¬1)، وفي رواية: "إلا كَلْبًا ضاريًا" (¬2)، وأن عثمان - رضي الله عنه -: غرم إنسانًا ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا (¬3)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أن التغريم فيما أتلفه، وكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث، والعلَّة في منع ثمنه عند الشافعي نجاسته مطلقًا، وهي قائمة في المعلَّم وغيره، ومن يرى طهارته اختلف قوله في المعلَّم منه، وعلة المنع غير عامَّة عنده. وأمَّا نهيُهُ - صلى الله عليه وسلم - مَهرِ البَغِيِّ: فهو ما تعاطاه على الزنا، وسُمِّي مهرًا على سبيل المجاز، إما مجاز التشبيه صورة، وإما المجاز اللغوي إن كان وضعه فيها ذلك، وإلا كان للتشبيه إن لم يكن في الموضع ما يقابل به النكاح، والإجماع قائم في تحريم ذلك؛ لما فيه من مقابلة الزنا بالعوض. وأَمَّا "حُلْوَانُ الكاهِنِ"؛ فهو ما يُعطاه على كهانته، وهو حرام؛ لما فيه من أخذ العوض على أمرٍ باطلٍ، وفي معنى ذلك ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب. والحلوان: مصدر حلوته حُلْوانًا: إذا أعطيتُه، قال الهروي وغيره: أصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو؛ من حيث إنه يأخذه سهلًا بلا كلفة، ولا في مقابلة مشقة، يقال: حلوته: إذا أطعمته؛ كما يقال: عسلته: إذا أطعمته العسل، قال أبو عبيد: ويطلق الحلوان -أيضًا- على غير هذا، وهو أن يأخذ الرجل مهر ابنته ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1574)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن ابن عمر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (5164)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه الإمام الشافعي في "الأم" (3/ 12)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 7).

لنفسه، وذلك عيبٌ عند النساء، قالت امرأة تمدحُ زوجها: لا يأخذ الحلوان عن بناتنا. ونقل البغوي، والقاضي عياض إجماعَ المسلمين على تحريم حلوان الكاهن؛ لأنه عوض عن محرم، ولأنه أكلُ مالٍ بالباطل، وكذلك أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء، والنائحة للنوح، وما ثبت في "صحيح مسلم" من النهي عن كسب الإماء، فالمراد به كسبهن بالزنا وشبهه، لا بالغزل والخياطة ونحوهما، قال الخطابي: قال ابن الأعرابي: ويقال لحلوان الكاهن: الشنع والصهميم (¬1). قال الخطابي: وحلوان العرَّاف أيضًا حرام، قال: والفرق بين الكاهن والعراف: أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف: هو الذي يدَّعِي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالَّة، ونحوهما من الأمور، هذا آخر كلامه في كتاب البيوع من "معالم السنن". ثم ذكره في آخر الكتاب أبسط من هذا، فقال: الكاهن: هو الذي يدَّعي مطالعة علم الغيب، ويخبر الناس عن الكوائن، قال: وكان في العرب كَهَنة يدَّعون أنهم يعرفون كثيرًا من الأمور، فمنهم من كان يزعم أنه له رئيًا من الجن، وتابعه يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يدَّعي أنه يستدرك الأمور بفهمه الذي أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافًا، وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسبابٍ يستدل بها على مواقعها؛ كالشيء يُسرق، فيعرف المظنونَ به السرقةُ، ويتهم المرأة بالزنية؛ فيعرف مَنْ صاحبُها، ونحو ذلك من الأمور، ومنهم من كان يسمي المنجم: كاهنًا، قال: وحديث النهي عن إتيان الكهان يشتمل على ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 12)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 649)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 435)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 231)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 66).

النهي عن هؤلاء كلهم، وعلى النهي عن تصديقهم والرجوع إلى قولهم، ومنهم من كان يدعو الطبيب: كاهنًا، وربما سموه: عرَّافًا، فهذا غير داخل بالنهي، هذا آخر كلام الخطابي -رحمه الله تعالى- (¬1). قلت: وكما أن الطب والطبيب لا يسمى كهانة ولا عرافًا، ولا يدخل في النهي، فكذلك أولياء الله تعالى الذين جَعل لهم نورًا وفراسة بطريق شرعية ظاهرة وباطنة، يخبرون بها أهلها غير مريدين بها الشهرة والكثرة والظهور والرفعة، قاصدين التحدث بنعم الله تعالى، أو حجة أو حاجة شرعية، لا يسمى هذا كهانة، ولا يسمى صاحبه عرَّافًا، ولا يدخل في النهي. وليحذر كل الحذر من إلباس الكاهن والعراف بالولي، والشيطان بالملَك، والصادق بالكاذب، ويعرف صاحب الحق من الباطل في ذلك بقرائن متابعة الكتاب والسنة في ظاهره وباطنه، وظهور محبته على قلوب خلق الله تعالى من أهل العلم والمعرفة، دون أهل الضلالة والفسق والحسدة، ومن استبرأ لدينه وعرضه في جميع ما ذكرنا، عرف ذلك، والله يعلم المفسد من المصلح، والمحق من المبطل، والموضح من الملبس، وهو سبحانه أعلم بكل شيء، ولا يعلم الغيب أحد إلا الله، ومن علمه من خلقه، فبإعلام الله -سبحانه وتعالى-. قال الإمام أبو الحسن الماوردي من الشافعية، في كتابه "الأحكام السلطانية" (¬2): ويمنع المحتسبُ مَنْ يكسب بالكهانة واللهو، ويؤدِّب عليه الآخذ والمعطي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (5/ 370 - 371). قلت: وهذه النقول التي ذكرها المؤلف - رحمه الله - هي بسياقها في "شرح مسلم" للنووي (10/ 232)، وكأني بالمؤلف -رحمه الله- يختصر عناء الرجوع إلى "معالم السنن"، و "غريب أبي عبيد" وغيرهما من الكتب التي يذكرها، فيسردها سردًا من كتب شيخه النووي -رحمه الله-، وغيره. (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 388).

الحديث العاشر

وفي الحديث دليل: على تحريم ثمن الكلب، وهو قول جمهور العلماء، وبه قال أبو هريرة، والحسن البصري، وربيعة، والأوزاعي، والحكم، وحماد، والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر، وغيرهم، وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على متلفها، وحكى ابن المنذر عن جابر، وعطاء، والنخعي: جواز بيع كلب الصيد دون غيره، وعن مالك روايات: أحدها: لا يجوز بيعه، لكن تجب القيمة على متلفه. والثاني: يصح بيعه، وتجب القيمة. والثالث: لا يصح، ولا تجب القيمة على متلفه. دليل الجمهور: هذا الحديث وغيره، وتقدم ما يتعلق به غير ذلك. وفيه دليل: على تحريم مهر البغي، وتقدم ذكر الإجماع عليه. وفيه دليل: على تحريم حلوان الكاهن، وما في معناه على ما أوضحناه، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عَنْ رَافع بنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ثَمَنُ الكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهرُ البَغيِّ خَبِيثٌ، وكَسبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ" (¬1). أَمَّا رَافعُ بنُ خَدِيِجٍ؛ فكنيته أبو عبد الله، ويقال: أبو رافع بنُ خَديِج -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة، وسكون الياء المثناة تحت ثم الجيم-، ويشتبه بحُدَيج، -بضم الحاء المهملة وبفتح الدال المهملة- في الأسماء وأسماء ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1568)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي. وقد رواه البخاري (2122)، كتاب: البيوع، باب: ثمن الكلب، لكن من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عه-.

الآباء، واسمُ جدِّ رافع بن خديج هذا: رافعُ بنُ عديِّ بنِ تزيدَ -بالتاء المثناة فوق وكسر الزاي- بنِ جُشَمَ بنِ حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأنصاريُّ، الحارثيُّ، شَهِد أحدًا والخندق، رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وسبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه: عبدُ الله بن عمر، والسائبُ بن يزيد من الصحابة، وغيرهم من التابعين، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين، وهو ابن ست وثمانين سنة، وروى له أصحاب السنن والمساند (¬1). وَأمَّا الخَبِيثُ؛ فهو الرديُّ من كل شيء، والمراد به في هذا الحديث: الحرام. وتقدم الكلام على ثمن الكلب، ومهر البغي في الحديث قبله، فهذا الحديث يقتضي تعميم تحريم ثمن الكلب في كل كلب، وإطلاقه فيه، وقد يقتضي تخصيصه في بعض ما أطلق عليه أنه خبيث بدليل أو قرينة؛ ككسب الحجَّام؛ فإنه عند جمهور العلماء محمول على كراهة التنزيه في حقِّ الحرِّ والعبد، وقالوا: لا يحرم كسب الحجَّام، ولا يحرم أكله مطلقًا، وبذلك قال أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وقال في رواية عنه -وبها قال فقهاء المحدثين-: يحرم على الحرِّ دون العبد؛ احتجاجًا بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في "الصحيحين": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم، وأعطى الحجَّام أجره (¬2)، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: ولو كان حرامًا، لم يعطه (¬3)، فإذا ثبت أن لقظة الخبيث ظاهرة ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 299)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 479)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 121)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 479)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 232)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 186)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 22)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 181)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 436)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 198). (¬2) رواه البخاري (5367)، كتاب: الطب، باب: السعوط، ومسلم (1202)، كتاب: المساقاة، باب حل أجرة الحجامة. (¬3) رواه البخاري (1997)، كتاب: البيوع، باب: ذكر الحجّام.

في الحرام، كان خروجها في كسب الحجَّام عن الظاهر بدليل، لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل، وحمل العلماء الأحاديث الواردة فيه على منع التنزيه، والارتفاع عن دنيء الاكتساب، والحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولو كان حرامًا، لم يفرق فيه بين الحر والعبد؛ فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبده ما لا يحل، والله أعلم. وأَمَّا الكلب، فلو قيل بثبوت حديث يدل على جواز بيع كلب الصيد دون غيره، لكان دليلًا على طهارته، وليس يدلُّ النهيُ عن بيعه على نجاسته؛ لأن علَّة المنعِ من البيع متعددة لا تنحصر في النجاسة، بخلاف غيره من الكلاب، والله أعلم. وفي الحديث دليل: على تحريم ثمن الكلب، وعلى تحريم مهر البغي. وفيه دليل: على الامتناع من كل كسب الحخام على ما بيِّن وفصل، لكن إذا وصف بالخبيث، وحمل على كراهة التنزيه في العبد، أو مطلقا، يكون من باب عطف المكروه على المحرم، وهو سائغ في القرآن والسنة، والله أعلم بالصواب. * * *

باب العرايا وغير ذلك

باب العرايا وغير ذلك العَرَايا: جَمْعُ عَرِيَّة؛ سُمِّيت بذلك؛ لأنها عريت من حكم باقي البستان، قال الأزهري: هي فعيلة بمعنى فاعلة، وقال الهروي: هي فعيلة بمعنى مفعولة، من عراه يعروه: إذا أتاه وتردَّد إليه؛ لأن صاحبها يتردَّد إليها، وقيل: سُميت عرية؛ لتخلي صاحبها الأول عنها من بين سائر نخله. والعريَّة -بتشديد الياء- كمطية ومطايا، وضحية وضحايا، مشتقة من التعرِّي، وهو التجرُّد، والله أعلم (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ زَيْدِ بن ثَابتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخصَ لِصَاحِب العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا (¬2). ولمسلمٍ: بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأكُلُونَهَا رُطَبًا (¬3). تقدم الكلام على زيد بن ثابت في كتاب: الصلاة. وأما العرية، فاختلف العلماء في تفسيرها، فقال الشافعي -رحمه الله-: هي ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 231)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 77)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 188)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 202). (¬2) رواه البخاري (2076)، كتاب: البيوع، باب: بيع المزابنة، ومسلم (1539)، (3/ 1169)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬3) رواه مسلم (1539)، (3/ 1169)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.

بيع الرُّطَب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خَرْصًا، فيما دون خمسة أوسق، وبهذا قال أحمد وآخرون، وقال مالك -رحمه الله-: هي أن يعري الرجل؛ أي: يهب ثمرة نخلة أو نخلات، ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له، فيشتريها منه بخرصها تمرًا، فلا يجوز ذلك لغير رب البستان. ويشهد لتأويل مالك شهرةُ تفسيرها بما قاله بين أهل المدينة وتداوله بينهم بذلك، وقد نقله مالك عنهم، وإن قوله في الحديث: "رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ" يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره، وهي الهبة الواقعة، وقد أنشدوا في تفسير العرايا بالهبة: لَيْسَتْ بسنهاءَ وَلاَ رُجَبِيَّة ... وَلَكنْ عَرَايا في السِّنِينَ الجَوَائحِ (¬1) وتأولها أبو حنيفة على غير هذا، وظواهر الأحاديث ترده. وقد تقدم في البيوع المنهي عنها تحريمُ بيع المزابنة، وتفسيرُها، وأن العرايا مستثناة من بيع المزابنة رخصة لحكمةِ حاجة الناس إلى ذلك، ولما كان التمر والزبيب مضبوطين بالكيل، والرطب والعنب بالخرص، فربين إلى الضبط وعدم الخطأ في مقداره غالبًا، ورخص فيه لضرورة الناس إليه، وصورته: أن يخرص الخارص ما على النخلة أو النخلات من الرُّطب إذا يبس، فيقول: هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجني منه ثلاثة أوسق من التمر مثلًا، ويبيعه صاحبه لإنسان بثلاثة أوسق تمر، ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشتري التمر، ويسلم بائع الرطب بالتخلية. وفي هذا الحديث دليل: على وقوع الرخصة في المزابنة في الرطب والعنب بالتمر والزبيب، وأنه لا يتعدى إلى غيرهما من الثمار، وللشافعي -رحمه الله تعالى- قول: إن الرخصة تتعدى إلى غيرهما، حيث إن العلة فيهما الحاجة، وهي موجودة في غيرهما، لكن الأصل عدم الجواز شرعًا، ووقت ¬

_ (¬1) انظر: "مجالس ثعلب" (1/ 76) ونسبه هناك إلى أبي العباس سويد بن الصامت الأنصاري. وانظر: "لسان العرب" (مادة: رجب).

الرخصة في نوع خاص، فيبقى فيما عداه على الأصل، وهو عدم الجواز، والله أعلم. وفيه دليل: على أن الرخصة عامة لجميع الناس؛ الأغنياء والفقراء؛ حيث أطلق الرخصة من غير تقييد بأحد، وهو الصحيح عند الشافعية، ولهم وجه أو قول: أنها تختص بالفقراء؛ لحديث ورد عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن رجالًا من الأنصار محتاجين شَكوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الفاقة، ولا نقدَ في أيديهم يتبايعون به رُطبًا يأكلونه مع النَّاسِ، وعندهم فضول قُوتهم من التمر، فرخَّص لهم أن يبتاعوا العَرَايا بِخَرْصها من التمر (¬1). وفيه دليل: على جواز بيع الرطب على النخيل بالرطب على النخيل خرصًا فيها، أو بالرطب على وجه الأرض كيلًا؛ حيث قال في الرواية الأولى: "رَخَّصَ لصاحبِ العرِيَّة أن يبيعها بِخَرصها"؛ فإنه مطلق فيما ذكرنا، لكن رواية مسلم بعدها مقيدة بجواز خرصها تمرًا يأكلونه رطبًا، فدل على أنه لا يجوز بيع العَرِيَّة بالرطب على الشجر ولا على الأرض، وفي المسألة ثلاثة أوجه لأصحاب الشافعي: أحدها: لا يجوز بيع الرطب على الشجر بالرطب على الشجر ولا على الأرض، وهو الأصح؛ لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب، وهذه الحاجة مفقودة في حق صاحب الرطب. والثاني: يجوز؛ نظرًا إلى عموم الحاجة إلى أنواع الرطب كأصله. والثالث: إن اختلف النوعان، جاز، وإلا فلا، ولو باع الرطب على وجه الأرض بالرطب على وجه الأرض، لم يجز، وجها واحدًا؛ لأن أحد المعاني في الرخصة كل الرطب على التدريج طريًّا، وذلك لا يحصل بما على وجه الأرض. وفيه دليل: على نظر الإمام للمحاويج وغيرهم، والفكر في مصالحهم، وما يحتاجون إليه من أمور دنياهم على وجه الشرع، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "الأم" (3/ 54) بإسناد منقطع.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَن أَبِي هُرَيرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-، عَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ في بيعِ العَرَايَا في خَمْسَةِ أَوسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمسَةِ أَوْسُقٍ (¬1). في حديث أبي هريرة هذا بيان مقدار ما تجوز فيه الرخصة في العرية من بيع المزابنة، ولا شك في جوازه فيما دون خمسة أوسق بلا خلاف عند الشافعية، من غير اختلاف عندهم في نص الشافعي عليه، ولم يختلفوا في عدم الجواز فيما زاد على خمسة أوسق، وفي جوازه في الخمسة أوسق قولان للشافعي، أصحهما: لا يجوز؛ لأن الأصل في ذلك التحريم، وجاءت العرايا رخصة، وشك الراوي في الخمسة الأوسق أو دونها، فوجب الأخذ باليقين، وهو دونها، وبقي ما زاد على التحريم والاعتبار فيما يجوز من قدر الرخصة في العرية إذا كان العقد عليه في صفقةٍ واحدة، فالزائد عليه في الصفقة لم يجز، والناقص عنه جائز، فلو كانت أكثر من خمسة أوسق في صفقات متعددة، فلا منع منه بلا خلاف، فلو باع في صفقة واحدة من رجلين القدر الجائز لكل واحد منهما، جاز، ولو باع رجلان من واحد، فكذلك الحكم في أصح الوجهين؛ لأن الصفقة تعددها بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري. وفيه وجه آخر: أنه لا تجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة؛ نظرًا إلى الربويات، فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة، والظاهر من الحديث أنه محمول على صفقة واحدة من غير تعدد بائع ومشتر؛ جريًا على العادة والغالب. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2078)، كتاب: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، ومسلم (1541)، كتاب: البيوع: باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن بَاعَ نَخْلًا قَد أُبِّرَت، فَثَمَرَتُها لِلبَائع إلَّا أَن يَشتَرِطَ المُبتَاعُ" (¬1). ولمسلم: "وَمَنِ ابتَاعَ عَبدًا، فَمَالُهُ للَّذِي بَاعَهُ، إلَّا أَنْ يَشترِطَ المُبتَاعُ" (¬2). أمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَاعَ نَخلًا قَد أُبِّرَت"؛ فمعنى أبرت؛ شُقِّقت، والتأبير: التلقيح، وهو تشقيق الكِمام عنه، ويقال له: الإبار، سواءٌ تشقق بحط ذكر شيء من ذكر طلع النخل فيها، أم بنفسها، لكن يسمى وضع الذكر فيها: تلقيحًا. قال أهل اللغة: أبَرْت النخلَ -بتخفيف الباء الموحدة المفتوحة- آبُرُه -بمد الهمزة وضم الباء- أَبْرًا، كَأكَلْتُهُ آكُلُهُ أَكْلًا، وأَبَّرته -بالتشديد- أُؤَبِّره تأبيرًا، كعلَّمته أُعلِّمه تعليمًا (¬3). واعلم أنه لا يلقح جميع النخل، بل يؤبر البعض، ويتشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل به تشقيق الطلع. إذا باع الشجر بعد التأبير، فالثمر للبائع في صورة الإطلاق، وقيل: تبقى الثمرة له مطلقًا، سواء أبرت أم لا، أما إذا شرط البائع أو المشتري، فالشرط متبع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَنِ ابتَاعَ عَبْدًا، فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ الَّا أَن يَشتَرِطَ المُبتَاعُ": هكذا روى البخاري ومسلم هذه الزيادة التي أضافها المصنف إلى مسلم خاصة، لكن روايتها لها من رواية سالم عن أبيه ابن عمر، ولم تقع هذه الزيادة في حديث ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2090)، كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا قد أبرت أو أرضًا مزروعة أو بإجارة، ومسلم (1543)، (3/ 1172)، كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر. (¬2) رواه مسلم (1543)، (3/ 1173)، كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر، والبخاري أيضًا (2250)، كتاب: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل. (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 350)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 13)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 190).

نافع عن ابن عمر، ولا يضر ذلك؛ لأن سالمًا ثقة، وهو أجل من نافع، فزيادته مقبولة، وقد أشار النسائي والدارقطني إلى ترجيح رواية نافع، وهي إشارة مردودة، فحينئذ المصنف معذور؛ من حيث إنه روى الحديث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، والزيادة عنه -أيضًا-، والذي خرجاه في "صحيحيهما" روايتهما له عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلاها من مسند عمر، لا من مسند ابنه، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: جواز الإبار للنخل وغيره، وقد أجمع العلماء على ذلك، أما في النخل، فللحديث، وأما ما في باقي الثمار، فإنه في معناه. ومنها: اعتبار التأبير في المبيع حقيقة، وهذا معتبر إذا كان في بستان واحد، واتحد النوع، وباعها صفقة واحدة، فأجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع، وجعل ذلك كالنخلة الواحدة، فلو اختلف النوع، ففيه وجهان لأصحاب الشافعي، الأصح: أن الثمر يبقى للبائع؛ كما لو اتحد النوع؛ دفعًا لضرر اختلاف [الأيدي] وسواء المشاركة. ومنها: أنه إذا باع ما لم يؤبر مفردًا بالعقد بعد تأبير غيره من البستان: أنه يكون للمشتري؛ لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر، فيقتضي مفهوم الحديث أنه ليس للبائع، وهو أصح الوجهين للشافعية، وكأنه قال: إذا لم يعتبر عدم التأبير إذا بيع مع المؤبر، فيجعل بيعًا، وفي هذه الصورة ليس فيها شيء مؤبر يجعل غيره بيعًا له، وأدخل في هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين، والأصح هاهنا: أن كل واحد منهما يفرد بحكمه. أما صحة بيعه مفردًا، ويكون للمشتري، فلظاهر الحديث، وأما إذا كانا في بستانين يفرد كل واحد منهما بحكمه؛ فلأن لاختلاف البقاع تأثيرًا في التأبير، ولأن في البستان الواحد يلزم ضرر اختلاف الأيدي وسواء المشاركة. ومنها: أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد جائز.

ومنها: جواز بيع النخل المؤبر بعد التأبير وقبله، وهل تدخل الثمرة فيها عند إطلاق بيع النخل من غير تعرض للثمرة بنفي ولا إثبات؟ قال مالك، والشافعي، والليث، والأكثرون: إن باع النخلة بعد التأبير، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المشتري؛ بأن يقول: اشتريت النخلة بثمرتها هذه، وإن باعها قبل التأبير، فثمرتها للمشتري، فإن شرطها البائع لنفسه، جاز عند الشافعي والأكثرين، وقال مالك: لا يجوز شرطها للبائع، وقال أبو حنيفة: هي للبائع قبل التأبير وبعده عند الإطلاق، وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري قبل التأبير وبعده، فأما الشافعي، ومالك، والأكثرون: فأخذوا في المؤبرة بمنطوق الحديث، وفي غيرها بمفهومه، وهو دليل الخطاب، وهو حجة عندهم، وأما أبو حنيفة: فأخذ بمنطوقه في المؤبرة، وهو لا يقول بدليل الخطاب، فألحق غير المؤبرة بالمؤبرة، واعترضوا عليه بأن الظاهر يخالف المستتر في حكم التبعية، كما أن الجنين يتبع الأم في البيع، ولا يتبعها الولد المنفصل، وأما ابن أبي ليلى: فقوله باطل، منابذ لصريح السنَّة، ولعله لم يبلغه الحديث، والله أعلم. ومنها: جواز بيع العبد ومن في معناه. ومنها: أن العبد إذا ملَّكه السيدُ مالًا، ملكه، وهو قول مالك، والشافعي في القديم، لكنه إذا باعه بعد ذلك، كان ماله للبائع، إلا أن يشترطه المشتري؛ لظاهر الحديث، وقال الشافعي في الجديد، وأبو حنيفة: لا يملك العبد شيئًا أصلًا، وتأوَّلا الحديث على أن يكون في يد العبد شيء من مال السيد، فأضيف ذلك المال إلى العبد للاختصاص والانتفاع، لا للملك، كما يقال: جل الدابة وسرج الفرس، قالا: فإذا باع السيد العبد، فذلك المال للبائع؛ لأنه ملكه، إلا أن يشترطه المبتاع، فيصح؛ لأنه يكون باع شيئين: العبد والمال الذي في يده، وبثمن واحد، وذلك جائز في الأول. قالا: ويشترط الاحتراز من الربا، وقال الشافعي: فإن كان المال دراهم لم يجز بيع العبد وتلك الدراهم بدراهم، وكذا إن كان دنانير، لم يجز بيعهما بحنطةٍ، وقال مالك - رحمه الله -: يجوز أن

الحديث الرابع

يشترطه المشتري، فإن كان دراهم، والثمن دراهم، وكذلك في جميع الصور؛ لإطلاق الحديث، قال: وكأنه لا حصة للمال من الثمن. ومنها: أنه إذا باع عبدًا، أو جارية وعليها ثياب، لا تدخل في البيع مطلقًا، بل تكون للبائع إلا أن يشترطها المبتاع؛ لأنه مال في الجملة، وفي ذلك أوجه لأصحاب الشافعي: أصحها: ما ذكرناه؛ لهذا الحديث؛ فإنه ظاهر في ذلك، ولأن اسم العبد لا يتناول الثياب. والثاني: يدخل. والثالث: يدخل ساتر العورة دون غيره، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَستَوفيهُ" (¬1). وفي لفظ: "حَتَّى يقْبِضَهُ" (¬2)، وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - مِثْلُه (¬3). أجمع العلماء على بطلان بيع الطعام قبل قبضه؛ بأن يشتري رجل طعامًا، ولم يقبضه، ولا استوفاه، فيبيعه لآخر، نقل الإجماع على ذلك أكثر العلماء، ونقل المازني، ثم القاضي عياض -رحمهما الله تعالى- عن عثمان الليثي: جوازَ مبيع كل مبيع قبل قبضه، ونقل عن أبي حنيفة جواز ذلك في كل شيء إلا العقار، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2019)، كتاب: البيوع، باب: الكيل على البائع والمعطي، ومسلم (1526)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬2) رواه البخاري (2026)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، ومسلم (1526)، (3/ 1161)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل قبضه. (¬3) رواه البخاري (2028)، كتاب: البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، ومسلم (1525)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل قبضه.

وقال مالك: لا يجوز في الطعام، ويجوز في كل ما سواه، وقال الشافعي -رحمه الله-: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا، سواء كان طعامًا، أو عقارًا، أو منقولًا، أو نقدًا، وغير ذلك، فحينئذ مذهب أبي حنيفة والبتي مخالف للإجماع المستند إلى الأحاديث الصحيحة، ويعتذر عن أبي حنيفة والبتي بأن الأحاديث لم تبلغهما، والله أعلم. وكان ولاة الأمر من السلف -رحمهم الله تعالى- يضربون من بيع الطعام قبل قبضه. وقد روى مسلم في "صحيحه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعامًا جِزافًا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه (¬1)، وفي رواية عنه: رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ابتاعوا الطعام جِزافًا، يُضربون أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤووه إلى رحالهم (¬2). ومقتضى ذلك جميعه: أنه لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه، إما بكيله، وإما بنقله من موضعه، سواء كان شراؤه جِزافًا، أو اشترى قدرًا معلومًا، فإن كان جزافًا، اشترط في جواز بيعه نقله من مكانه، وذلك قبضه واستيفاؤه، وإن كان قدرًا معلومًا من الصبرة، اشترط كيله، وذلك قبضه واستيفاؤه. ثم إن الحديث يقتضي المنع من البيع قبل القبض، إذا كان مملوكًا بجهة البيع، وأن يكون المنع من التصرف فيه هو البيع قبل القبض، فلو كان مملوكًا بغير البيع، كالصدقة والهبة، وهي بيع الصك قبل قبضه؛ بأن يكون دين لإنسان مكتوب في ورقة، فيهبه، أو يتصدق به على شخص، أو يأمر ولي الأمر لمستحق برزق من طعام أو غيره معين، فكتب له في صك؛ وهو الورقة المكتوبة به، فيبيعه صاحبه لإنسان قبل قبضه، وقد اختلف العلماء في ذلك، وللشافعية فيه وجهان: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1527)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬2) رواه مسلم (1527)، (3/ 1161)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، والبخاري أيضًا (2024)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة.

أصحهما عندهم: جواز بيع ذلك. والثاني: منعه، مستدلًا له بما رواه مسلم في "صحيحه": أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال لمروان: أحللت بيع الصكاك، وقد منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يستوفى؟! فخطب مروان في الناس، فنهى عن بيعها (¬1)، ومن قال بالأصح منهم، تأول قصة أبي هريرة على أن المشتري هو الذي اشتراه ممن خرج له الصك، وباعه هذا المشتري لثالث قبل أن يقبضه، فكان البيع المنهي عنه البيع الثاني لا الأول؛ لأن الذي خرج له الصك برزق، أو كان له دين في صك، ونحوهما مالك ملكًا مستقرًا، أو وليس هو بمشترٍ، فلا يمنع بيعه قبل القبض؛ كما لا يمنع بيع ما ورثه قبل قبضه. قال القاضي عياض -رحمه الله-: وكانوا يتبايعون ذلك، ثم يبيعه المشتري، فنُهوا عن ذلك، قال: وكذا جاء الحديث مفسَّرًا في "الموطأ": أن صكوكًا خرجت للناس في زمن مروان بطعام، فتبايع الناس تلك قبل أن يستوفوها (¬2). وفي "الموطأ" ما هو أبين من هذا، وهو أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -، فباع حكيم الطعام الذي اشتراه قبل قبضه (¬3)، والله أعلم (¬4). وقد تكلم الشافعية في جواز التصرف قبل القبض في عقود: منها: العتق قبل القبض، وفيه وجهان: أصحهما: يعود إن أدى المشتري الثمن، فلم يكن للبائع حق حبسه، فلو كان الثمن مؤجلًا، فهل للبائع حق الحبس؟ فيه وجهان؛ كعتق الراهن؛ فإن للمرتهن حق الحبس، والصحيح: أنه لا فرق. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1528)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 641)، بلاغًا. (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 641)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 315). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 171 - 172).

الحديث الخامس

وكذلك اختلفوا في الهبة والرهن قبل القبض، والأصح عند الشافعي -رحمه الله تعالى-: المنع، ولا يجوز عندهم التولية والشركة قبل القبض، وأجازهما مالك، ومنع الإقالة. ولا شك أن الشركة والتولية بيع، فيدخلان تحت الحديث، واستثنى مالك ذلك على خلاف القياس، وقد ذكر أصحابه في ذلك حديثًا يقتضي الرخصة فيه، واختلف الشافعية في تزويج الجارية المبيعة قبل قبضها على وجهين: والأصح عندهم: جوازه، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أنه سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ: "إن اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ والأَصْنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ؛ فَإنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، ويُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فقال: "لَا، هُوَ حَرَام"، ثُم قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ! إنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا، جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأكَلُوا ثَمَنَهُ" (¬1). تقدم الكلام على جابر وأبيه أوائل هذا الشرح. وأمَّا قولهُ: (عامَ الفتحِ): فالمراد بالفتح: فتح مكة -زادها الله شرفًا-، وكان في أواخر رمضان، سنة ثمان من الهجرة، وإنما يذكر الصحابة -رضي الله عنهم- قوله - صلى الله عليه وسلم - مقيدًا بعام الفتح؛ لأنه كان في آخر أمره ومدة نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ تنبيهًا على ما كانوا يعتمدونه في الأحكام من الأخذ [بالآخر فالآخر] منها، فما كان آخرًا، كان ناسخًا لما قبله مما كان مخالفًا للأحدث، وذلك باب كبير من العلم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2121)، كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، ومسلم (1581)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

وقوله: "جَملوه" يقال: أجملَ الشحمَ وجملَه، رباعي وثلاثي: إذا أَذَابَهُ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا، هُوَ حَرَامٌ" معناه: لا تبيعوا الشحوم؛ فإن بيعها حرام، فالضمير في "هو" يعود إلى البيع، لا إلى الانتفاع بها، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - أعاد تحريم البيع بعدما بيَّن القائل له - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ فيه منفعة، إهدارًا لتلك المصالح والمنافع التي ذكرت. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ" إلى آخره؛ هو تنبيه على تحريم هذه الأشياء، وأن العلة تحريمها فقط؛ حيث وجه - صلى الله عليه وسلم - اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم. حتى استدل المالكية بذلك على تحريم الذرائع؛ حيث إن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل، وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه، لكنه لما كان سببًا إلى كل الأصل بطريق المعنى، استحقوا اللوم به. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تحريم بيع الخمر، وهو مجمع عليه، وذلك دليل تحريم شربها، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة بسببها، وقال: "مَنْ شَرِبَها، لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا، (¬1) ومُدْمِنُ شربها كعابد وَثَن (¬2)، ومن شربها في الدنيا، لم يشربها في ¬

_ (¬1) رواه النسائي (5670)، كتاب: الأشربة، باب: توبة شارب الخمر، وابن ماجه (3377)، كتاب: الأشربة، باب، من شرب الخمر لم تقبل له صلاة، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 176)، وابن خزيمة في "صحيحه" (939)، وابن حبان في "صحيحه" (5357)، وغيرهم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه ابن ماجه (3375)، كتاب: الأشربة، باب: مدمن الخمر، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 229)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 272)، وابن حبان في "صحيحه" (5347)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12428)، وعبد بن حميد في "مسنده" (708)، وغيرهم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

الآخرة (¬1)، ومن شربها في الدنيا، ولم يتبْ منها، سقاه الله من طينة الخبال، وهو صَديدُ أهل النار وعصارتهم" (¬2). ولا فرق في ذلك في التحريم والإثم والحد بين القليل والكثير منها، وكذلك اللعن، ولا فرق بين أن تكون ممزوجة بماء، أو صرفًا، ولا يجوز قياس الممزوج منها بالماء على الحرير إذا خلط بكتان أو قطن، ونُسِج ولُبِس إذا كان مثلَه وأقل؛ لأن قليل الخمر وكثيرها منصوص على تحريمه من جهة الشارع؛ بخلاف الحرير؛ فإن الرخصة ثبتت من جهته - صلى الله عليه وسلم - أنه أرخص في أصبعين وثلاث وأربع من الحرير في "صحيح مسلم" (¬3). وأرخص فيه [للحكة] (¬4)، وكان [سجف جبته]- صلى الله عليه وسلم - حريرًا، ولم يثبت شيء من ذلك في الخمر. وليس تحريم الخمر في معنى تحريم الحرير؛ فإن المعنى في تحريم الخمر الإسكار، والمعنى في تحريم الحرير التنعم والتزين الخاص بالإناث دون الذكور، فاغتفر القليل منه؛ حيث لا يجر إلى مفسدةٍ عظيمةٍ؛ بخلاف الخمر؛ فإن المفسدة فيه عظيمة؛ حيث إنه يغطي العقل الذي به مَدْرَك كل خير من الإيمان والتوحيد، ويترتب على تعاطيه من المفاسد التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، وغيرها مما هو مشاهد ما لا يحصى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5253)، في أول كتاب: الأشربة، ومسلم (2003)، كتاب: الأشربة، باب: عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه مسلم (2002)، كتاب: الأشربة، باب: عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة، عن جابر - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه خطب بالجابية، فقال: نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع. (¬4) رواه البخاري (2762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحرير في الحرب، ومسلم (2076)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

ومنها: تحريم بيع الميتة، وأُخذ من تحريم بيعها نجاستُها، وكذلك أُخذ من بيع الخمر والخنزير نجاستُهما، وعدَّوا العلة فيهما بالنجاسة إلى تحريم بيع كل نجس؛ فإن الانتفاع بها لم يعدم، أما في الميتة والخنزير، فإنه ينتفع بهما في إطعام الجوارح، وأكل المضطرين إذا أشرفوا على الهلاك، وشرب الغاصِّ بلقمةٍ خمرًا يُسيغها بها إذا لم يجد غيرها، وكل ذلك جائز، ومع هذا يحرم بيعها، فدل على أن العلة في تحريم بيعهما النجاسة. وقد نقل ابن المنذر في كتابه "الإجماع" (¬1) إجماعَ العلماء على نجاسة الخنزير، وعن بعض المالكية فيه وفي الكلاب خلاف. وقال الرافعي -رحمه الله- في "الشرح الكبير"، وعن مالك -رحمه الله-: إن الكلب والخنزير طاهران، ويغسل من ولوغهما تعبدًا، وأخذ العلماء من تحريم بيع الميتة تحريم بيع جثة الكافر إذا [قتلناه]، وطلب الكفار شراءه أو دفع عوض عنه. وقد روى الترمذي حديثًا في منع بيع جثة الكافر (¬2)، وجاء في الحديث: أن نوفلَ بنَ عبد الله المخزوميَّ قتله المسلمون يومَ الخندق، فبذل الكفار في [جسده] عشرةَ آلاف درهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: فلم يأخذْها، ودفعه إليهم (¬3). ومنها: تحريم بيع الخنزير، وتقدم الكلام عليه قريبًا. ومنها: تحريم بيع الأصنام، والعلَّة في ذلك كونها ليس فيها منفعة مباحة، وذلك يمنع صحة البيع، وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها. قال أصحاب الشافعي -رحمه الله-: فلو كانت الأصنام بحيث إذا كسرت ¬

_ (¬1) انظر: "ص: 95". (¬2) رواه الترمذي (1715)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء: لا تفادى جيفة الأسير، وقال: حسن غريب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم إياه. (¬3) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (3/ 265).

ينتفع برضاضها، ففي صحة بيعها وجهان، وكذلك بيع آلات اللهو إذا كان ينتفع بها إذا كسرت وفصلت، فيه وجهان: الراجح: المنع؛ لظاهر النهي وإطلاقه في بيعها، ومنهم من جوزه اعتمادًا على الانتفاع بأجزائها، وتأول الحديث على ما لا ينتفع بمفصله، أو على كراهة [التنزيه] في الأصنام خاصة. ومنها: أن ما لا يحلُّ كله والانتفاع به، لا يجوز بيعه، ولا يحل أكل ثمنه؛ كما في الشحوم المذكورة في الحديث. واعترض بعض اليهود والملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان وطئها الأب، فإنها تحرم على الابن، ويحل له بيعها بالإجماع، ويأكل ثمنها، وهذا تمويه منهم على من لا علم عنده؛ لأن جارية الأب لا تحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من الناس، ويحل لهذا الابن الانتفاع بها في جميع الأشياء سوى الاستمتاع، ويحل لغيره الاستمتاع وغيره، بخلاف الشحوم؛ فإنها محرمة، [و] المقصود منها وهو الأكل منها على جميع اليهود، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل على كل أحد، فكان ما عدا الأكل تابعًا؛ بخلاف موطوءة الأب. ومذهب الشافعي -رحمه الله- الصحيح عند أصحابه: أنه يجوز الانتفاع بشحوم الميتة في طلي السفن، والاستصباح بها، وغير ذلك ما لم يؤكل، ولا يستعمل في بدن آدمي، وبذلك قال عطاء بن أبي رباح، ومحمد بن جرير الطبري، وقال الجمهور: لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلًا؛ لعموم النهي في الانتفاع بالميتة إلا ما خص بدليل، وهو الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ. وأما الزيت والسمن وغيرهما من الأدهان التي أصابها نجاسة، فهل يجوز استعمالها [بالاستصباح] وغيره في غير الأكل، وغير البدن، أو بجعل الزيت النجس صابونًا، أو يطعم العسل المتنجس للنحل، أو يطعم الميتة لكلابه، أو يطعم الطعام النجس لدوابه، وكل ذلك فيه وجهان لأصحاب الشافعي، [الصحيح عندهم: جواز جميع ذلك، ونقل فيه خلاف السلف -أيضًا-، ونقله

القاضي عياض عن مالك، وكثير من أصحابه، والشافعي] (¬1)، والثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، والليث بن سعد، قال: وروي نحوه عن علي، وابن عمر، وأبي موسى، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، قال: وأجاز أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بينه. وقال عبد الملك، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح: لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كله في شيء من الأشياء، وقد استدل بهذا الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن طلاء السفن ودهن الجلود والاستصباح بها: "لا، هو حرام" على منع ذلك كله، وقد بينا أن الضمير في "هو" عائد على البيع، لا على الانتفاع، والله أعلم. ومنها: جواز الدعاء على من فعل المحرم أو استباحه، أو تحيل على فعله؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - دعا على اليهود بالمقاتلة، لمَّا حُرمت عليهم الشحوم، فجمَلوها فباعوها فأكلوا ثمنها، وليس من تحيل على الخلاص من [المحرم] والخروج منه داخلًا في جواز الدعاء عليه وذمِّه؛ حيث تحيل على الخلاص منه، وقد ثبتَتْ الحِيلُ وفِعْلها في الكتاب العزيز والسنَّة النبوية -على قائلها أفضل الصلاة والتسليم-، ومنها: أمر أيوب - صلى الله عليه وسلم - بالضرب بشمراخ النخل -وهو الضغث- لما حلف على الضرب مئة سوط، وأقر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها: الأمر بوضع اليد على الأنف عند الخروج من الصلاة بالحدث الخارج من المصلي إيهامًا للرعاف والخلوص من الخجل بخروج الحدث الخارج من المصلي، بل من فعل ذلك وأشباهه يدعى له؛ حيث وفق للوقوف عند رخص الشرع. وقد فعل العلماء ذلك، وقالوا به، ومدحوا فاعله؛ بخلاف المحرم والحيلة عليه؛ فإن ذلك حرام إجماعًا، فإن الوسيلة إلى المحرم محرم. وقد ذكر العلماء بابًا آخر من هذا، وهو إذا تعارض مفسدتان في الشرع، ولم يمكن دفعهما، روعي أخفهما. ¬

_ (¬1) ما بينهما ساقط من "ح 2".

وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في ترك هدم الكعبة وخفضها إلى الأرض وجعل بابين لها، أحدهما للدخول، والآخر للخروج منها؛ مراعاةً للرجوع عن الإيمان إلى الكفر، أو تزلزل القلوب عنه، أو لتأليف القلوب عليه والدوام عليه، وقد فعل الإمام أحمد -رحمه الله- ذلك في جواز الاستمناء باليد، وسُمي عندهم الخضخصة، عند خوف الوقوع في المحرم من ذلك، وغلبة النفس عليه، مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]. والاستمناء باليد غيرهما، ولعن ناكح يده، وأنها تأتي يوم القيامة حبلى، في أحاديث رويت في ذلك، وما ذاك إلا مراعاة لأخف المفسدتين على أثقلهما، إلا أنه جائز بأصل الشرع، وقد فعل الإمام الشافعي -رحمه الله- ذلك في جواز الحيلة في التزويج يزوج عند وقوع الطلاق الثلاث، وعدم جواز تزويج المطلقة بمطلقها إلا بزوج غيره، إذا لم يشترط ذلك في العقد؛ بأنه إذا أحلها، طلقها، وكره ذلك كراهة شديدة عنده، وصح العقد، وحلت للأول بشرطه، مع لعن المحلل والمحلل له في حديث، وذلك مراعاة للأخف من المفسدتين على الأشد منهما، لا بأصل الشرع، وإن كان ثبت في الصحيح ما هو قريبٌ من هذا، إلا أنه غير مقصود به الدوام بعد العقد في قصة عبد الرحمن بن الزبير -بفتح الزاي- وامرأته: "أتحبين أن ترجعي إلى رفاعة؟ " -زوجها الأول-، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يذوقَ عسيلَتَكِ وتذوقي عسيلته" (¬1). قال العلماء: يحرم أن يتبع الإنسان رُخَصَ المذاهب؛ فإنه يؤدي ذلك إلى الانحلال في الدين، بل ينبغي له إذا اضطر إلى أمر محرم، أن يجاهد نفسه على تركه، ويتوجه إلى الله تعالى في دفعه، ويستعين به على دفعه بالمنذرات ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2496)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي، ومسلم (1433)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، عن عائشة - رضي الله عنها -.

والمبشرات في فعله وتركه، والأسباب الحاملة على تركه، ويأخذ ذلك من العلماء الربانيين؛ فإنه لا تتخلف عنه الإعانة على تركه، وعلى ما فيه من التوفيق والتسديد، ويحصل له من الأعمال أفضلها لا مكروهاتها، وهذا مع المداومة يتيح له منه الخير الكثير والدرجات العالية الرفيعة إلى ما لا يحصى، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا مقلِّبَ القلوبِ! ثَبِّتْ قلبي على ديِنك" (¬1)، "يا مُصَرِّفَ القلوبِ! صَرِّفْ قلبي على طاعتِكَ" (¬2)، والله أعلم. ومنها: أن المحرم إذا حرم، حرم عليه جميع ما يتعلق به مما هو سبب إلى تحليله؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - دعا على اليهود؛ حيث أذابوا الشحوم، وباعوها، وأكلوا ثمنها؛ لأن تحريم الشحوم عليهم لذات الشحوم، لا لوصفها؛ فإن التحريم للوصف يزول بزواله. ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال لعاثشة - رضي الله عنها -: "هل عندكِ من شيء؟ " قالت: ما عندي إلا لحم تُصدق به على بَريرة، وأنت لا تأكل الصدقة؛ حيث هي محرمة عليك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هو عليها صدقةٌ، ولنا هديةٌ" (¬3)، لما تغير الوصف من الصدقة إلى الهدية، صار حلالًا؛ بخلاف المحرم لعينه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2140)، كتاب: القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن، وابن ماجه (3834)، كتاب: الدعاء، باب: دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 112)، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (2654)، كتاب: القدر، باب: تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه البخاري (4809)، كتاب: النكاح، باب: الحرة تحت العبد، ومسلم (1075)، كتاب: الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

باب السلم

باب السَّلَمِ السَّلَم: اسم مصدر لسلم وأسلم، قال أهل اللغة: يقال: السَّلَمُ والسَّلَفُ، وأسلم وسلم، وأسلف وسلف، ويكون السلف قرضًا -أيضًا-، ويقال: استسلف، قال أصحاب الشافعي: ويشترك السلم والقرض في أن كلًّا منهما إثبات مالٍ في الذِّمة بمبذول في الحال، وذكروا في حد السلم عبارات كثيرة، أجودها: أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلًا، وسُمي سلمًا؛ لتسليم رأس المال في المجلس، وسُمي سلفًا؛ لتقديم رأس المال (¬1). * * * الحديث الأول عَن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينهَ وَهُم يُسْلِفُونَ في الثِّمَارِ السَّنَتَينِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: "مَن أَسْلَفَ في شَيْء، فَلْيُسْلِفْ في كَيلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" (¬2). أما السلم: فقد أجمع المسلمون عليه، لكنه بالشروط المعتبرة في الأحاديث ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 217)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 396)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 41)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 187). (¬2) رواه البخاري (2124)، كتاب: السلم، باب: السلم في كيل معلوم، ومسلم (1604)، كتاب: المساقاة، باب: السلم.

الصحيحة، وهي: أن يكون قدر المسلم فيه معلومًا بالكيل إن كان مكيلًا، والوزن إن كان موزونًا، أو غيرهما مما يضبط به، وتكون الواو في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَليُسلِف في كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزنِ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعلُومٍ" بمعنى (أو)، ولو أخذنا على ظاهرها من معناها -وهو الجمع-، لزم أن نجمع في الشيء الواحد بين السلم فيه مكيلًا وموزونًا، وذلك يفضي التي عزَّة الوجود، وهو مانع من صحة السلم، فتعين حمل الحديث على ما ذكرناه من التفصيل من جوازه في الكيل مكيلًا، وفي الموزون موزونًا، وكذلك المعنى في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" أنه إن أسلم إلى أجل، فليكن معلومًا لا مجهولًا، وإن أطلق السلم، حمل على الحلول؛ لأنه إذا جاز مع الأجل المعلوم، وفيه الغرر البين، فمع الحال أولى؛ لأنه أبعد من الغرر، وليس ذكر الكيل والوزن في الحديث دليلًا على الحصر؛ لجواز السلم في المكيل أو الموزون، دون المذروع والمعدود مما يضبطه قدر السلم فيه، بل ذلك جميعه جائز بلا خلاف بين العلماء. وفي الحديث أحكام: منها: جواز السلم المؤجل، وهو مجمع عليه. وأما الحالُّ: فجوزه الشافعي وآخرون، ومنعه مالك، وأبو حنيفة، وآخرون، مستدلين بتوجه الأمر في الحديث في قوله: "فليسلم إلى الأجل والعلم معًا". ودليل الشافعي وغيره: ما تقدم، وأجمعوا على اشتراط وصفه بما يضبط به. ومنها: جواز السلم المؤجل -وهو مجمع عليه- السنتين والثلاث إذا لم ينقطع المسلم فيه في أثنائها؛ بأن كانت الثمرة موجودة تلك المدة رطبة، فإن لم يوجد، لم يجز، بل يجوز في مدةٍ يؤخذ منها. ومنها: جواز السلم في الكيل وزنًا؛ حيث إنه أضبط، وهو جائز بلا خلاف. وفي جواز السلم في الموزون كيلًا وجهان للشافعية، أصحهما عندهم: جوازه؛ كعكسه.

واعلم أنه يلزم الشافعية ومن قال بقولهم في جواز السلم الحال جوازُ بيع العين الغائبة إذا وصفت بأوصاف السلم، وقد منعها الشافعي في قوله الجديد، ولهذا اختار المحققون من أصحابه جوازَ بيعها مع ثبوت خيار للمشتري إذا رأى ذلك، والله أعلم. * * *

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع الحديث الأول عَن عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عنهَا- قَالَت: جَاءَتنِي بَرِيرَةُ فَقَالَت: كَاتَبتُ أَهلِي عَلَى تِسعِ أَوَاقٍ، في كُلِّ عَامٍ أوقِيةٌ، فَأعِينِيني، فَقُلْتُ: إنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّها لَهُمْ، وَيكونَ وَلاَؤكِ لي، فَعَلتُ، فَذَهَبَت بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِها، فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبوْا عَلَيْها، فَجَاءَت مِنْ عِنْدِهِم، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيهِم، فَأبوْا إلَّا أَنْ يكُونَ لَهمُ الوَلاَءُ، فَأخْبرَتْ عَائشِةَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "خُذِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ؛ فَإنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أَعتَقَ"، فَفَعَلَتْ عَائشِةُ، ثُمَّ قَامَ الَّنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الناسِ، فَحَمِدَ اللهَ وأثنَى عَلَيه، ثُم قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: مَا بَالُ رِجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيسَت في كِتَابِ اللهِ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرطٍ لَيس في كِتَاب اللهِ -عَز وَجَل-، فَهُوَ بَاطِلٌ، وإن كَانَ مِئة شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أوْثَقُ، وإنما الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬1). اعلم أن حديث بريرة هذا حديث كثير الفوائد، قد كثر الناس من الكلام عليه، وذكروا فيه إشكالات على مواضع منه يقتضي ظاهرُها -على مقتضى القواعد ومفاهيمهم- المخالفةَ له، وأجاب العلماء عنها، وبينوها أحسنَ بيان، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2060)، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، ومسلم (1504)، كتاب: العتق، باب: إنما الولاه لمن أعتق.

وبلغوا بأحكامه عددًا كثيرًا، وقد صنف ابن جرير الطبري، وابن حزم الظاهري فيه تصنيفين كبيرين، وأنا أذكر -إن شاء الله تعالى- ما حضرني فيه، والله أعلم. أما بريرة: فهي مولاة عائشة - رضي الله عنها - كانت لعتبة بن أبي لهب، وقد روى النسائي بإسناده إلى يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن بريرة - رضي الله عنها -: أنها قالت: كان في ثلاث سنين، قال النسائي: حديث يزيد بن رومان خطأ، وقال أبو عمر بن عبد البر: كانت -يعني: بريرة- مولاة لبعض بني هلال، فكاتبوها، ثم باعوها من عائشة، وجاء الحديث في شأنها؛ بأن الولاء لمن أعتق، وعتقت تحت زوج، فخيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت سُنَّة (¬1). واختلف في زوجها، هل كان عبدًا أو حرًّا؟ قال: روى عبد الخالق بن زيد بن واقد قال: حدثني أبي، قال: أبو عمر زيد بن واقد -يعني: أباه- هذا ثقة من ثقات الشاميين، لقي واثلة بن الأسقع، قال أبوه: إن عبد الملك بن مروان حدثه، قال: كنت أجالس بريرة بالمدينة قبل أن أَلي هذا الأمر، فكانت تقول لي: يا عبد الملك! إني أرى فيك خصالًا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته، فاحذر الدماء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملء محجمه من دم يُريقه من مسلم بغير حَقّ" (¬2). وأما قولها: "كاتَبْتُ"، فهو على فاعَلْتُ؛ من الكتابة؛ وهو العقد المشهور بين السيد وعبده، فإما أن يكون مأخوذًا من كتابة الخط التي لا تلازم هذا العقد فيما بين السيد وعبده، وإما أن يكون مأخوذًا من معنى الإلزام؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 256)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 38)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1795)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 37)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 600)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 136)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 297)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 535)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 432). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 205)، وفي "مسند الشاميين" (1214).

كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء، وكان العبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي كاتبا عليه. وأما الأواق والأوقية: فتقدم الكلام عليها في الزكاة، ومقدار التسع الأواقي ثلاث مئة وستون درهمًا شرعًا. وأما الإشكالات على الحديث، ففي مواضع: الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة بأخذ بريرة من مواليها، واشتراط الولاء لهم، وجهه: أن يقال: كيف أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن لهم في وقوع البيع على هذا الشرط، ويدخل البائع عليه، ثم يبطل اشتراطه؟ وفي ذلك نوع خداع من عائشة لهم في ذلك، ولذلك أنكر بعض العلماء هذا الحديث، وهو منقول عن يحيى بن أكثم؛ فإنه أنكر لفظة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اشْتَرِطي لَهُمُ الوَلاَء"، وجعلها ساقطة من الحديث، ونقل عن الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه قال: هذه اللفظة تفرَّدَ بروايتها هشام بن عروة، عن أبيه دون غيره من الثقات الأثبات، فإنهم لم يثبتوها، والذي قاله الأكثرون من الفقهاء والمحدثين: قبول مثل هذا، وإثبات هذه اللفظة، ثم تأولوها، [و] خرَّجوها على وجوه كثيرة صحيحة، وبعضها فيه ضعف: أحدها: أن قوله: "اشترطي لهم"؛ أي: عليهم؛ كقوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] بمعنى: عليهم، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]؛ أي: فعليها، ونقل ذلك عن الشافعي، والمزني، وغيرهما، وهو ضعيف؛ حيث أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الاشتراط، وأقر عائشة - رضي الله عنها - على فعلها، وقال: "إنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، ولأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، وإذا دلت على المطلق، لم يبقَ فيها دليلٌ عليه، ولا على غيره؛ لأنه قد يكون، وقد لا يكون. الثاني: أن يكون الاشتراط المذكور بمعنى ترك المخالفة لما شرطه البائعون، وعدم إظهار النزاع فيما دعوا إليه؛ مراعاة لمصلحة الشرع في العتق.

وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل، ألا ترى أنه أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكن من الفعل، والتخلية بين العبد وبينه -سبحانه وتعالى-، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة والتجويز؟ وذلك موجود في كلام الله -سبحانه وتعالى- على ما قاله المفسرون في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وليس المراد بالإذن إباحة الله تعالى للإضرار بالسحر، ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار، أطلق عليه لفظ الإذن مجازًا، وهذا -وإن كان محتملًا- إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ. الثالث: أن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منها، يدل على الإعلام والإظهار، ومنه أشراط الساعة، والشرط اللغوي والشرعي، ومنه قول أوس بن حَجَر -بفتح الحاء والجيم-: فاشترط فيها نفسه؛ أي: أعلمها وأظهرها، وإذا كان كما ذكرنا: حمل "اشترطي" على معنى: أظهري حكم الولاء، وبينيه، واعلمي أنه لمن أعتق، على عكس ما أورده السائل وفهمه من الحديث. الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أخبرهم بأن الولاء لمن أعتق، ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه، فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل لمخالفتهم الحكم الشرعي الذي علموه، وغاية ما في هذا: أنه أخرج لفظة الأمر عن ظاهرها. وفي القرآن العزيز خروجها عن ظاهرها في غير موضع، وامتناعُ إجرائها عليه كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، و {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ومعلوم أنه ليس المراد إطلاق المشيئة منهم في عملهم وكفرهم، وعلى هذا لا يبقى في أمره - صلى الله عليه وسلم - غرر. الخامس: أن يكون إبطال الشرط عقوبة؛ لمخالفتهم حكم الشرع؛ فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية المسامح بها لأجل الشرط، ويكون هذا من باب العقوبة بالمال؛ كحرمان القاتل الميراث.

السادس: أن ذلك خاص بهذه القضية، لا عامٌّ في سائر الصور، وسبب التخصيص إبطال هذا الشرط مبالغة في الزجر عن اشتراطه؛ لمخالفته الشرع، كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصًّا بتلك الواقعة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج، صحح هذا ورجحه شيخنا أبو زكريا النواوي -رحمه الله- في تأويل الحديث، قال: وقد تُحتمل المفسدة اليسيرة لتحصيل مصلحة أرجح منها عظيمة، والله أعلم (¬1). الثاني من مواضع الإشكالات: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وهو يدل على أن كلمة "إنما" تقتضي الحصر؛ لأنها لو لم تكن له، لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم يعتق، وذكرت في الحديث لبيان نفيه عمن لم يعتق، فدل على أن مقتضاه الحصر. وقد أثبت العلماء الولاء في صور بغير العتق، لكنها في معناه؛ وهي: أنه لو باعه نفسه، أو أعتقه على مال، ثبت له عليه الولاء، وكذا لو كاتبه، أو استولدها وعتقت بموته، ثبت الولاء، لا نعلم في ذلك جميعه خلافًا، ويثبت الولاء للمسلم على الكافر وعكسه، وإن كانا لا يتوارثان في الحال؛ لعموم الحديث. وقد ذكروا صورًا مختلفة في إثبات الولاء بها، واستدلوا على إبطاله بالحصر في الحديث، مع اتفاقهم على إثباته للمعتق، حتى اختلفوا فيمن أعتق، وشرط أن لا ولاء له، وهو المسمى بالسائبة، ومذهب الشافعي وموافقيه: ثبوت الولاء، وأن الشرط لاغ؛ لثبوت الولاء بالشرع، فإذا شرطه، لغا؛ كالميراث، ولا شك في حصر الولاء للمعتق في الحديث، ويستلزم ذلك الحصر في السبيية، فيقتضي ذلك أن لا ولاء بالحلف والموالاة، ولا بالإسلام؛ وهو بأن يسلم الرجل على يدي الرجل، ولا بالتقاطه للقيط، وكل هذه الصور فيها خلاف بين العلماء، وسيأتي في الأحكام. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 140).

الثالث من مواضع الإشكالات: قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: "مَا بَالُ أَقوَامٍ يشتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيسَت في كِتَاب اللهِ؟ مَا كَانَ مِن شَرطٍ ليسَ في كِتَابِ اللهِ، فهُوَ بَاطِلٌ، وإنْ كَانَ مِئه شَرطٍ"؛ مقتضاه: أن كل شرط ليس في كتاب الله أنه باطل "ولو كان مائة شرط" مبالغة في إبطال جميع الشروط التي ليست في كتاب الله، ولا شك أن من الشروط ما هو صحيح، ومنها ما هو باطل، وكل شرط اقتضاه إطلاق العقد من غير شرط إذا شرطه، كان صحيحًا، وكذا ما كان للشارع طلب له وحث عليه وترغيب فيه إذا شرطه، وكذا ما كان فيه مصلحة تدعو إليه الحاجة؛ كاشتراط الرهن والضمين والخيار وتأجيل الثمن، وكل ذلك صحيح. ومعلوم أن ذلك جميعه ليس في كتاب الله، وظاهر لفظ الحديث يقتضي بطلانه، فحينئذ يجب تعريف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليست في كتابِ الله"، فذكر العلماء في ذلك احتمالين: أحدهما: أن المراد بكتاب الله: حكم الله، وهو أعم من أن يكون في كتاب الله أو مستنبطًا منه. والثاني: أن المراد به: ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سننه، أو استنبطه العلماء منها، فيكون المراد بالحديث: نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغيرها؛ حيث إن الشريعة كلها في كتاب الله، فالذي في كتاب الله تعالى هو المنصوص عليه فيه من الأحكام بغير واسطة، والذي هو بواسطة؛ كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] وقوله تعالي: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، والله أعلم. أما ما كان من الشروط منافيًا لمقتضى العقد؛ كشرط استثناء منفعة المبيع أو بيعه، أو إجارته، أو أن يبيعه شيئًا آخر، ونحو ذلك، فكل ذلك باطل مبطل

للعقد، فمتى قارن شرط واحد منها للعقد، أبطله عند جمهور العلماء، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: لا يبطله شرط واحد، وإنما يبطله شرطان، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام كثيرة: الأول: جواز الاستعانة على نجوم الكتابة بأهل الخير والفضل. الثاني: إعانة المكاتب في كتابته. الثالث: جواز حكاية ما يقع من ذلك، خصوصًا إذا قصد به تعريف الأحكام. الرابع: جواز تصرف المرأة في مالها بالشراء والاعتاق وغيرهما إذا كانت رشيدة. الخامس: أن الكتابة تكون على نجوم؛ حيث إن كتابتها كانت على تسع أواق، في كل عام أوقية. ومذهب الشافعي - رحمه الله - وغيره: أن الكتابة لا تجوز على نجم واحد، بل لا بد من نجمين فصاعدًا، وقال مالك والجمهور: يجوز على نجم، ويجوز على نجوم. وليس في هذا الحديث دليل على اشتراط تعداد النجوم؛ حيث إنه ورد من بريرة على حكاية الحال، لا على تقرير حكم، ولا عدمه ممن لا يعتبر فعله. السادس: جواز الكتابة واستحبابها. السابع: المبادرة إلى إجابة السائل، وعرض ما يفعل من الخير معه عليه وعلى من يتعلق به إمضاء ذلك الخير. الثامن: جواز فسخ الكتابة إذا عَجزَ المكاتَبُ نفسَه. التاسع: جواز بيع المكاتب، وقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها: جوازه، وهو قول عطاء، والنخعي، وأحمد، ومالك في رواية عنه؛

حيث إن بريرة كانت مكاتبة، وباعها الموالي، واشترتها عائشة - رضي الله عنها -، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعها. والثاني: منعه، وهو قول ابن مسعود، وربيعة، وأبي حنيفة، والشافعي، وبعض المالكية، ومالك في رواية عنه، وحملوا الحديث على أن بريرة عجَّزت نفسَها، وفسخوا الكتابة لعجزها وضعفها عن الأداء والكسب، ومنهم من حمل الحديث على أن عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة، مستدلًا على ذلك بقول عائشة - رضي الله عنها - في بعض الروايات: "فَإنْ أَحَبَّ أَهلُكِ أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ" (¬1)، وذلك يشعر بأن المشترى هو الكتابة لا الرقبة. والثالث: جوازه للعتق دون الاستخدام؛ لموافقة الحديث، فلا إشكال عنده؛ لأنه يقول: أنا أجيز بيعه للعتق. العاشر: جواز اكتساب المكاتب بالسؤال. الحادي عشر: احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما، واحتمال مفسدة يسيرة لتحصيل مصلحة عظيمة؛ على ما تقدم بيانه. الثاني عشر: جواز بيع العبد بشرط العتق، وقد اختلف العلماء فيه، وللشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه باطل، كما لو باعه بشرط ألَّا يبيعه ولا يهبه، وهو باطل. والثاني: -وهو الصحيح-: أن العقد صحيح، والحديث يدل عليه، ومن منعه، منع أن تكون عائشة مشترية للرقبة، ويحمل الحديث على قضاء الكتابة عنها، أو على شرائها خاصة، ويضعف حمله على قضاء الكتابة؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات لعائشة: "ابتاعي" (¬2)، وهو ظاهر في الشراء دون القضاء فقط، ويحتاج من حمله على شرائها خاصة، أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2422)، كتاب: العتق، باب: ما يجوز من شروط المكاتب، ومسلم (1504)، كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق. (¬2) انظر: تخريج الحديث المتقدم.

مع جواز بيع الكتابة، ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين. الثالث عشر: صحة شرط العتق في البيع، ولا يفسد الشرط، إلا إذا قلنا بصحة البيع، وفيه قولان للشافعي؛ أصحهما: الصحة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر إلا اشتراط الولاء، ولم يقع الانكار إلا للثاني، وهو عدم الولاء لمن أعتق، فينبغي أن يكون اشتراط العتق صحيحًا؛ لكونه مقررًا عليه، أو يكون مأخوذًا من لفظ الحديث؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اشتَرِطي لَهُمُ الوَلاَءَ" من اشتراط الولاء من ضرورته اشتراط العتق، فيكون من لوازم اللفظ، لا من مجرد التقرير، ومعنى صحة العتق: أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري، فإن امتنع، فهل يجبر عليه؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي، وإذا قلنا: لا يجبر، أثبتنا الخيار للبائع. الرابع عشر: صحة اشتراط الولاء للبائع، وهو ظاهر الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واشتَرطِي لَهُم الوَلاَء"، ولا يأذن - صلى الله عليه وسلم - في عقد باطل، وإذا صح العقد، فهل يفسد الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي، والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه، وموافق -أيضًا- للقياس من وجه، وهو أن القياس يقتضي أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب، والولاء من آثار العتق، فيختص بمن صدر منه، وهو المشتري المعتق، وتقدم الكلام على الاشكال في الأمر باشتراط الولاء مع عدم إمضاء حكمه إلا لمن أعتق، والله أعلم. قال العلماء: الشرط في البيع ونحوه أقسام: أحدها: شرط يقتضيه العقد عند إطلاقه؛ كتسليم المبيع إلى المشتري، أو تبقية الثمرة على الشجر إلى أوان الجِداد، أو الرد بالعيب. الثاني: شَرْط فيه مصلحة، وتدعو إليه حاجة؛ كاشتراط الرهن، والضمين، والخيار، وتأجيل الثمن، ونحو ذلك، فهذان القسمان جائزان، ولا يؤثران في صحة العقد، بلا خلاف. الثالث: اشتراط العتق في العبد المبيع أو الأمة، وهو جائز عند الجمهور؛ لهذا الحديث، وترغيبًا في العتق لقوته وشرايته.

الرابع: ما سوى ذلك؛ كاشتراط ما ينافي مقتضى العقد من عدم قبضه والتصرف فيه، ونحو ذلك، فهذا باطل، والله أعلم. الخامس عشر: ثبوت الولاء للمعتق، وقد أجمع المسلمون عليه، سواء كان عبدًا أو أمةً، إذا أعتقه عن نفسه، وأجمعوا على أنه يرث به، وأما العتيق، فلا يرث سيده عند الجماهير، وقال جماعة من التابعين: يرث به؛ كعكسه. السادس عشر: لا ولاء لمن أسلم على يديه رجل، ولا لملتقط لقيطة، ولا لمن خلف إنسانًا على المناصرة، وبهذا كله قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وداود، وجماهير العلماء، قالوا: وإذا لم يكن لأحد من هؤلاء المذكورين وارث، فماله لبيت المال، قال المحققون من الشافعية وغيرهم: بشرط أن يكون مصرف بيت المال مستقيمًا، والمتصرف فيه عادلًا، وقال ربيعة، والليث، وأبو حنيفة، وأصحابه: من أسلم على يديه رجل، فولاؤه له، وقال إسحاق: يثبت للملتقط الولاء على اللقيط، وقال أبو حنيفة: يثبت الولاء بالحلف، ويتوارثان به. والحديث يدل للجمهور على أن لا ولاء لأحدٍ من هؤلاء؛ حيث قال: "إِنما الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَق"، وتقدم ما يتعلق بذلك في الكلام على الإشكالات، والله أعلم. السابع عشر: ثبوت الولاء للمسلم على الكافر وعكسه؛ لعموم الحديث في كل من أعتق. الثامن عشر: ائتمار المأمور بأمر الآمر القدوة، والمبادرة إليه. التاسع عشر: شرعية الخطب للأئمة والكبار، للأمر يحدث من وقوع بدعة أو مخالفة للشرع؛ ليتبين ذلك للناس صوابه من خطئه منكرًا على ما يخالف الشرع. العشرون: استعمال الأدب في الخطبة وحسن العشرة، وجميل الموعظة؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا بَالُ أَقْوامٍ يَشْتَرِطُونَ شُروطًا لَيْسَتْ في كتابِ اللهِ؟! " ولم يواجه صاحب الشرط المخالف بعينه؛ حيث إن المقصود يحصل له ولغيره من غير فضيحة وشناعة عليه.

الحديث الثاني

الحادي والعشرون: تبدأ الخطب بحمد الله تعالى، والثناء عليه. الثاني والعشرون: شرعية قول: "أما بعد" في الخطب بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك سنة ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تكرر ذكرها في الأحاديث الصحيحة، وقد قيل: إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داود - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، وقد أهملها الخطباء في هذه الأزمان وغيرها، فينبغي أن يتفطن لها، ويعمل بها. الثالث والعشرون: التغليظ في إزالة المنكر، والمبالغة في تقبيحه. الرابع والعشرون: جواز السجع في الكلام غير المتكلف له؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "كَتابُ اللهِ أَوْثَقُ، وشرطُ الله أَحَقُّ"، ومعنى "كِتابُ اللهِ أَوْثَقُ، وَشرطُ اللهِ أحقُّ"؛ أي: أَحقُّ بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع، ومعنى "وشرط الله أوثق"؛ أي: باتباع حدوده، والوقوف عندها، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أنهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ، فَأعْيَا، فَأرادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، فَلَحِقَني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: "بِعْنِيه بِأوقِيَّةٍ"، قَالَ: لَا، ثم قَالَ: "بعْنِبهِ"، فَبِعْتُهُ بِأوقِيّةِ، واسْتثنَبْتُ حُمْلاَنَهُ إلَى أَهْلِي، فَلَما بَلَغتُ، أتينُهُ بِالجَمَلِ، فنقدَنِي، ثم رَجَعتُ، فَأرْسَلَ في إثْرِي، فَقَالَ: "أترَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ" (¬1). أمّا جابر بنُ عبد الله - رضي الله عنهما - فتقدم الكلام عليهما. وأمّا حديثه هذا: فقد وقع في لفظه اختلاف كثير في مقدار ما اشتراه به، وفي ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2569)، كتاب: الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى، جاز، ومسلم (715)، كتاب: المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه، وهذا لفظ مسلم.

اشتراط ركوبه إلى المدينة وعدمه، وجعل بعض الناس ذلك مانعًا من الاحتجاج به. وجمع القاضي عياض - رحمه الله - بينها، وذكر سبب اختلاف الرواة له، وبيَّن ذلك أحسنَ بيان، فمن أراد ذلك، فليأخذه من كتابه "إكمال المعلم لشرح مسلم"، أو ممن نقله عنه. وكانت قصة جابر وبيع جمله -في المحقق- غزوة ذات الرقاع، سنة خمس من الهجرة. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد المحقق المدقق - رحمه الله -: إذا اختلفت الروايات، وكانت الحجة ببعضها دون بعض، توقف الاحتجاج، قال: وهذا صحيح بشرط تكافؤ الروايات وتقاربها، أما إذا كان الترجيج واقعًا لبعضها؛ إما لأنه رواه أكثر أو أحفظ، فينبغي العمل بها؛ إذ الأضعفُ لا يكون مانعًا من العمل بالأقوى، والمرجوحُ لا يمنع التمسكَ بالراجح، فتمسك بهذا الأصل؛ فإنه واقع في مواضع عديدة: منها: أن المحدثين يعلِّلون الحديث بالاضطراب، ويجمعون الروايات العديدة، فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف، والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق، فما كان منها ضعيفًا، أسقط عن درجة الاعتبار، ولم يجعل مانعًا من التمسك بالصحيح القوي، قال: ولتمام هذا مواضع أخر. هذا آخر كلامه، وهو نفيس، والله أعلم (¬1). أَما قولُه: "بِعْنِيهِ بِوَقِيّةٍ"؛ فهكذا هو ثابت في الروايات في هذا الحديث وغيره، وهي لغة صحيحة سبق ذكرها، ويقال: أوقية، كما قاله جابر في هذا الحديث، وهي أشهر في اللفظة. قولُهُ: "واسْتثنيْتُ حُمْلاَنَهُ" -بضم الحاء- أي: الحمل عليه. قولُه: "فَأرْسَلَ في إثْرِي"؛ -هو بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحهما-: لغتان. قولُه: "أتراني مَاكَسْتُك؟ "؛ قال أهل اللغة: المماكسة: المكالمة في النقص ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 173 - 174).

من الثمن، وأصلها: النقص، ومنه: مكس الظالم، وهو ما ينتقصه ويأخذه من أموال الناس (¬1). وفي هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة، ومعجزة من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث إن جمل جابر لما أعيا، دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضربه، فسار أسرع ما كان بعد الإعياء. وفيه: تفقد الأمير والكبير والعالم أحوال أصحابه، وسؤالهم عن أحوالهم، وإعانتهم عليها بما تيسر من حال أو مال، أو دعاء في السفر والحضر. وفيه: استعمال مكارم الأخلاق في ذلك؛ بأن يجعل ما يفعله من الإعانة على سبيل المعاوضة، ليطيب خاطرَ من يفعل ذلك معه، ويكون قصده بذلك ثواب الآخرة؛ كما فعل - صلى الله عليه وسلم - مع جابر في جَمَلِه، وإعطائه إياه وثمنه. وفيه: جواز المحاورة في البيع وثمنه، والمناقصة حال المساومة، وأما بعد العقد واستقرار الثمن والمثمن، فلا تجوز المماكسة، وهي حرام بلا خلاف. وفيه: جواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته للبيع. وفيه: المبادرة إلى الوفاء، وإن كان وجب على سبيل المكارمة باطنًا. وفيه: تربية الأصحاب والأتباع بحسن المعاملة، وتنبيههم على ذلك بالقول في حسن فعله. وفيه: حجة لأحمد، ومن قال بقوله في جواز بيع الدابة بشرط ركوب البائع إياها بنفسه، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك: يجوز ذلك إذا كانت مسافة الركوب قريبة، وحمل هذا الحديث على ذلك، وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وآخرون: لا يجوز ذلك، سواء قلت المسافة [أو] كَثُرت، ولا ينعقد البيع، واحتجوا بنهيهِ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثنيا (¬2)، وعن بيع ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 379)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 349)، و "شرح مسلم" للنووي (11/ 31)، "تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 318). (¬2) رواه مسلم (1536)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة وعن المخابرة، عن=

الحديث الثالث

وشرط (¬1)، وأجابوا عن حديث جابر هذا: بأنه قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات، قالوا: ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعطيه الثمن، ولم يرد حقيقة البيع، قالوا: ويحتمل أن الشرط لم يكن في نفس العقد، والذي يضر من الشروط ما هو في نفس العقد، ولعل الشرط كان سابقًا، فلم يؤثر، ثم تبرع - صلى الله عليه وسلم - بإركابه. ومن أصحاب الشافعي - رحمه الله - من قال بالجواز؛ تفريعًا على جواز بيع الدار المستأجرة؛ فإن المنفعة فيها تكون مستثناة، ومذهب الشافعي هو الأول. وفيه: المبادرة إلى تسليم المبيع إلى البائع وقت تسليمه، ونقد المشتري الثمن عقب تسليمه. وفيه: أن الهبة لا تقع إلا على الأعيان بعد قبضها [و] تسليمها. وفيه: أن لفظ "خذ" صريح في الهبة. وفيه: أن إضافة الجمل والدراهم إلى جابر - رضي الله عنه - إضافة إحسان وتكرم؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَهُو لكَ"، وذلك يحتمل سببين: أحدهما: إما الإخبار عما كان في ضميره - صلى الله عليه وسلم -، واما إنشاء التمليك له، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَن يَبِيع حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تنَاجَشوا، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بيعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخطُبُ عَلَى خِطبةِ أَخِيهِ، وَلَا تَسألُ المَرأَةُ طَلاَقَ أخْتِهَا لِتكفأ مَا فِي إنَائِهَا (¬2). تقدَّم الكلام على بيع الحاضر للبادي، والنجش، والبيع على بيع أخيه. ¬

_ = جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-. (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4361)، وابن حزم في "المحلى" (8/ 415)، وابن البر في "التمهيد" (22/ 185 - 186)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه البخاري (2033)، كتاب: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه، ومسلم (1413)، (2/ 1033)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك.

أما الخِطبة؛ فهي بكسر الخاء، وأما الخُطبة في الجمعة، والعيد، والحج، وغير ذلك، وبين عقد النكاح، فبضمِّها. وتصرف الفقهاء في معنى التحريم للخطبة ووقته، ومن تحرم الخطبة عليه. أما التحريم، فلا يكون إلا بعد التراكن والتوافق بين الخاطب والمخطوب إليه. وأما المعنى الذي حرم لأجله الخطبة، فهو: وقوع العداوة والبغضاء المانعين من التقوى، الحاملين على القطيعة، وعدم المواصلة التي لا تقوم مصلحة الدِّين والدُّنيا إِلَّا بها. وأما وقته: فهو بعد التراكن الذي ذكرنا، ولا يمتنع قبله؛ نظرًا إلى المعنى الذي لأجله حرمت الخطبة. وأما ما تحرم عليه الخطبة؛ فخصصه الخطابي بالمسلم، وقال: هو ظاهر الحديث، فإن كان كافرًا، فلا تحريم، وبه قال الأوزاعي. وقال جمهور العلماء: تحرم الخطبة على تحريم خطبة الكافر -أيضًا-، ولهم أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بأخيه خرج على الغالب، فلا يكون له مفهوم يعمل به، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ونظائره. وأما الفاسق فظواهر الأحاديث وإطلاقها، ومفهوم قول جمهور العلماء في تحريم الخطبة على خطبة الكافر: أنه تحرم الخطبة على خطبته، وقال ابن القاسم المالكي: تجوز الخطبة على خطبة الفاسق، فلو كان الخاطب الأول فاسقًا، والثاني صالحًا، لم يندرج تحت النهي. واعلم أن مذهب الشافعي - رحمه الله -، وغيره من العلماء: أنه إذا ارتكب النهي، وخطب على خطبة أخيه، لم يفسد العقد، ولم يفسخ؛ لأن النهي مجانب لأجل العداوة والبغضاه، وذلك لا يعود على أركان العقد وشروطه بالاختلال،

ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد، والله أعلم. وأَمَّا نَهْيُ المَرأَةِ عَنْ سُؤَالِ طَلاَقِ أُخْتِهَا لِتكفَأ مَا فِي إنَائها؛ قال أهل اللغة: يقال: كفاتُ الإناءَ: إذا قلبته وفرغته، فلم يبقَ فيه شيء، واستعمل الشرع ذلك في سؤال طلاق المرأة أختها بعد عقد النكاح عليها مجازًا، وتشبيهًا لتفريغ الصحفة بعد امتلائها (¬1)، وفيه معنى آخر: وهو الإشارة إلى الرزق الذي يوجبه النكاح من النفقة؛ لأن الصحفة وامتلاءها من باب الأرزاق، فكان إكفاؤها وقلبها بمنزلة منعها ما وصل أختَها من الخير بسؤالها طلاقها، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام، تقدم بعضها وبقي بعضها: فمنها: تحريم الخطبة على الوجه المذكور، وهو مجمع عليه إذا صرح بالإجابة، فلو خطب محرمًا، وتزوج، صحّ النكاح، وكان عاصيًا، ولم يفسخ، كما تقدم. وبذلك قال جمهور العلماء، وقال داود: يفسخ النكاح، وعن مالك: روايتان؛ كالمذهبين، وقال جماعة من المالكية: يفسخ قبل الدخول لا بعده، فلو عرض له الإجابة من غير تصريح: ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي: أصحهما: لا يحرم، وقال بعض أصحاب مالك: لا يحرم حتى يرضوا بالزوج، ويسمى المهر، واستدلوا على ذلك: وهو أن التحريم، إنما هو متعلق بالتصريح بالإجابة دون التعريض بها؛ لحديث فاطمة بنت قيس؛ حيث قالت: خطبني أبو جهم ومعاوية (¬2)، فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة بعضهم على بعض، بل خطبها لأسامة، وقد يعترض على هذا الدليل فيقال: لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأشار بأسامة، لا أنه خطب لها. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 182)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 141)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 323). (¬2) رواه الترمذي (1135)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، وقال: صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 413)، عن أبي سلمة - رضي الله عنه -.

ومنها: تحريم السعي في التفريق بين المرأة وزوجها بالطلاق وغيره مما هو في معناه، أو أشد منه، إذا كان لمقصودٍ دنيوي، سواء كان الساعي رجلًا أو امرأة، فإن كان لمقصود ديني، كان مشروعًا. ومنها: الإشارة إلى تحريم الحسد للناس، والنظر إلى ما في أيديهم؛ للاستئثار به عنهم، أو زواله مطلقًا. ومنها: الإشارة إلى الرِّضا بالمقسوم، وإذا ابتلي بالطلب لما يجوز طلبه وعدم الرضا، فليسأل الله تعالى دون غيره، وإن كان لا بد سائلًا، فليسأل الصالحين. ومنها: الإشارة إلى النظر إلى من هو دونك في الدنيا، وقد أمر به - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انظر إلى مَنْ هو دونَكَ" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (94 - موارد الظمآن)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1651)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (60/ 137)، عن أبي ذر - رضي الله عنه -.

باب الربا والصرف

باب الرِّبَا والصرف الحديث الأول عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رَضيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "الذَّهَب بالوَرِقِ رِبًا إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بالْبرِّ رِبًا إلّا هَاءَ وَهَاء، والشَّعِيرُ بِالشَّعِيرُ رِبًا إلّا" (¬1). وتقدم الكلام على عمر أول الكتاب. أَمَّا الذهَب: فَلَهُ أسماء، نظمها شيخنا، حجةُ العرب، أبو عبد الله بنُ مالك الجياني - رحمه الله - في بيتين، وهما: نضرٌ نَضِيرٌ نُضارٌ زَبَرْجَد ... سيرا عسجدٌ عقيانُ الذهَبُ والتبرُ ما لم يذن وأَشْرَكوا ... ذَهَبًا وفِضّةً في نسيك هَكَذَا العَرَبُ (¬2) وأما الوَرِق: فهو بفتح الواو وكسر الراء، ويجوز إسكان الراء مع فتح الواو وكسرها، قال الأكثرون من أهل اللغة: وهو مختصّ بالدراهم المضروبة، وقال جماعة منهم: تُطلق على كلِّ الفضة، وإن لم تكن مضروبة، والمراد بالحديث جميعُ صنوفها، وكل مقدار منها (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2027)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، ومسلم (1586)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا. (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 9). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 281)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 113)، =

وأمّا البُرُّ: فهو اسم من أسماء القمح، ويقال له: الحنطة، والسمراء. وأما الشَّعِير: فهو بفتح الشين على المشهور، ويقال بكسرها، وقال ابن مكي الصقلي -رحمه الله تعالى-: يقال في كل ما كان وزنه على فعيل، وكان وسطه حرف حلق مكسورًا: بكسر أوله، وهي لغة لبني تميم، ثم قال: وزعم الليث أن قومًا من العرب يقولون في كل ما كان على فعيل مفتوح أوله: فعيل بكسره، وإن يكن حرف حلق، فيقولون: كِثير، وجِليل، وكِريم، بكسر أوّلها، وما أشبه ذلك، والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رِبًا": الرِّبا؛ مقصور يكتب بالألف؛ لأنه من ربا يربو، وتثنيته: [ربوان]، وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء، بسبب الكسرة في أوله، وغلّطهم البصريون، قال أهل اللغة: ويقال في الرّبا: الرِّما؛ بالميم والمد. والرُّبية -بالضم والتخفيف-: لغة في الربا. وأصل الربا: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو: زاد، وأربى الرجل وأرمى: عاملَ بالربا، وهو في الشرع: وجوبُ الحلول، وتحريمُ النساء، والتفاضل إذا كان في جنسٍ واحدٍ، فلو كان في غير جنسه، لكنه من نوعه؛ كالذهب والفضة، والحنطة والشعير، لم يعتبر إلا الحلول وتحريم النساء، دون التفاضل (¬2). وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا هَاءَ وَهَاءَ"؛ فيه لغتان: المدّ والقصر، والمدّ أفصح وأشهر، وأصله: هاكَ، فأبدلت مدة من الكاف، ومعناه: خذ هذا، ويقول صاحبه مثله، وغلَّط الخطابي وغيرُه المحدِّثين في رواية القصر، وقالوا: الصواب المدُّ والفتح، وليست بغلط، بل هي صحيحة، وإن كانت قليلة، لكن أكثر أهل اللغة ينكرون القصر فيها، ويقال في لغة: بالمد وكسر الهمزة للذكر، والأنثى (هائي) ¬

_ = و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 208). (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 108). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 111)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 306).

بزيادة ياء، قال القاضي عياض - رحمه الله -: وفيه لغة أخرى: هاءك، بالمد وبالكاف، واللفظة موضوعة للتقابض، والله أعلم (¬1). واعلم أن الرِّبا محرم في الجملة، وقد أجمع المسلمون عليه، وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وبينت السنَّة النبوية -على قائلها أفضل الصلاة والسلام- المحلّ الذي يجري فيه الربا، فذكر في هذا الحديث منها أربعة أشياء، وقد ذُكر في "صحيح مسلم" شيئان: فصارت ستة منصوصًا عليها، فالأربعة: الذهب، والفضة، والبُر، والشعير، والشيئان: التمر، والملح. فأمّا أهل الظاهر، فجمدوا على تحريم هذه الستة، وقالوا: لا رِبا في سواها؛ بناء على أصلهم في نفي القياس، وقال جميع العلماء سواهم: يتعدى التحريم إلى غير الستة مما في معناها، وهو ما يشاركها في العلة. واختلفوا في العلة التي هي سبب التحريم في الستة، فقال الشافعي: العلة في الذهب والفضة: كونهما جنس الأثمان، فلا يتعدى منهما الرّبا إلى غيرهما من الموزونات وغيرها؛ لعدم المشاركة، قال: والعلة في الأربعة الباقية: كونها مطعومة، فيتعدى الرّبا منها إلى كل مطعوم. وقال مالك في الذهب والفضة كقول الشافعي، وقال في الأربعة: العلّة فيها كونها تُدَّخَر للقوت وتصلُح له، فعدّاه إلى الزبيب؛ لأنه كالتمر، وإلى القطينة؛ لأنها في معنى البُرّ والشعير، وقال أبو حنيفة: العلّة في الذهب والفضة: الوزن، وفي الأربعة: الكيل، فيتعدى إلى كل موزون من نحاسٍ، وحديدٍ، وغيرهما، وإلى كل مكيل؛ كالجص والأشنان وغيرهما. وقال أحمد، والشافعي في القديم -وهو قول سعيد بن المسيب من التابعين-: العلّة في الأربعة: كونها مطعومة وموزونة، أو مكيلة، فشرطوا ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 263)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 236)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 12)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 188).

الأمرين، فعلى هذا: لا ربا في البطيخ والسفرجل ونحوه، مما لا يكال ولا يوزن. وأجمع المسلمون في جواز بيع الربوي بالربوي الذي لا يشاركه في العلة متفاضلًا ومؤجلًا؛ كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدُهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالًا؛ كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلّة؛ كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير، وعلى أنه لا يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس، إذا كان يدًا بيدٍ؛ كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا، إلا ما يروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تخصيص الربا في النسيئة. قال العلماء: إذا بيع الذهب بذهب، أو الفضة بفضة، سميت: مراطلة، وإذا بيعت الفضة بذهب، سُمِّي: صرفًا، وإنما سُمِّي صرفًا؛ لصرفه عن مقتضى البياعات، من جواز التفاضل وعدم التفرق قبل القبض والتأجيل، وقيل: من صريفهما، وهو تصويتهما في الميزان، والله أعلم. وتقدم أن: التحيُّل على الخلاص من المحرم، والوقوعِ فيه، مطلوبٌ للشرع، وقد حصلت تصرفات ليست من الربا في شيء، التبسها الجهال بعلم الشريعة، وجعلوها من المعاملات الربويات؛ تنطعًا وجهلًا، فإن قصد بها التحيل على الوقوع فيه، من غير أن تكون صورته صورة العقود المحرمة في الربا، فقد اختلف العلماء في ذلك وصحته، مع اتفاقهم على كراهة التنزيه فيه الشديدة؛ لأجل ما قصد به، فقال جماعة: وهو صحيح، وبالغ بعضهم فقال: هو مثاب عليه لأجل التنفيس عن الناس بإعانتهم بهذه الطريق، وهذا لو تجرد عن قصد التحيل على الربا، كان صحيحًا؛ لأنّ المقاصد الأخروية غير مقابلة بشيء من أمور الدنيا الجائزة وغيرها، بل هي مقابلة بثواب الآخرة شرعًا. وهذا بالنسبة إلى ما يتعلق بأحكام المكلفين، وأما بالنسبة إلى أفعال الله

تعالى، فلا؛ لأنه سبحانه يثيب من يشاء كيف يشاء في الدنيا والآخرة؛ حيث إنه -سبحانه وتعالى- يقضي ويحكم ويفعل ما يشاء، ولا يُقضى ولا يُحكم عليه، ولا يلزمه شيء، ولا يجب عليه شيء إلا بإيجابه، ولا يلزمه إلا بوعده، فهو سبحانه الحقُّ، وقوله حقٌّ، وحكمه حقٌّ، وقضاؤه ووعده حقٌّ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، نسأله المجازوة واللطف والعفو والرّأَف، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. وفي هذا الحديث دليل: على تحريم الربا في الجملة على ما ذكرنا. وفيه: اشتراط التقابض في بيع الربوي بالربوي، إذا اتفقا في علّة الربا، سواء اتفق جنسهما؛ كذهب بذهبٍ، أم اختلف؛ كذهب بفضة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - نبّه في هذا الحديث بمختلف الجنس على متفقه؛ حيث قال: "الذهَبُ بالوَرِق رِبًا"، واستدلّ المالكية بذلك على اشتراط التقابض عقب العقد، حتى لو أخره عن العقد، وقبض في المجلس، لا يصحّ عندهم، والمعتبر عند الشافعي - رحمه الله - وأصحابه: الحلولُ والتقابضُ في المجلس، وإن طال الزمان يومًا أو أيامًا لم يتفرقا، وبه قال أبو حنيفة، وآخرون. ولا دليل للمالكية في الحديث على ما ادّعوه؛ حيث لم يتعرض فيه على طول المجلس وقصره، وما ذكره مسلم فيه: من أن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- أراد أن يصارف صاحب الذهب، ويؤخر دفع الدراهم إلى مجيء الخادم، فإنَّما قاله ظنًّا اجتهاديًّا للجواز كسائر البياعات؛ حيث لم يبلغه حكم المسألة، فلما أبلغه عمر - رضي الله عنه - الحكم، ترك المصارفة. ولا شك أن مأخذ الشافعي أقربُ إلى حقيقة اللفظ، ومأخذ المالكية أدخلُ في المجاز. وقد جمع الحديث مختلفَ الجنس ومتفقَه بالذَّهب والفِضة، وبالبُرِّ بالبُرِّ، وبالشعير بالشعير، فاقتضى ذلك تحريم النّساء، لكنه لا يسمى نساء، إلا إذا تفرقا عن المجلس من غير قبض، والله أعلم.

الحديث الثاني

وفيه دليل: على أن البُرّ والشعير صنفان من المطعومات، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، وفقهاء المحدثين، وآخرون. وقال مالك، والليث، والأوزاعي، ومعظم علماء المدينة والشام من المتقدمين: إنهما صنف واحد، وهو محكي عن عمر، وسعد، وغيرهما من السلف -رضي الله عنهم-. وقال الليث بن سعد، وابن وهب: الدُّخنُ والأرز والشعير صنف واحد. واتفق العلماء غيرهما على أن كل واحد من الأرز والدخن والشعير صنف واحد، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا تبايَعُوا الذهَبَ بالذهَبِ إلا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غائبًا بِنَاجِزٍ" (¬1). وفي لفظٍ: "إلّا يَدًا بِيَدٍ" (¬2). وفي لفظ: "إلّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ" (¬3). تقدم الكلام على أبي سعيد واسمه ونسبته وما يتعلق به، أوائل الكتاب. وأَمّا قولُه: "وَلَا تُشِفُّوا"؛ هو بضم التاء وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء؛ أي: لا تفضلوا، والشِّفُّ -بكسر الشين-: الرّبَا، ويُطلق -أيضًا- على النقصان، فهو من الأضداد، يقال: شَفَّ الدرهم -بفتح الشين- يَشِفّ -بكسرها-: إذا زاد وإذا نقص، وأَشَفَّهُ غيرُه يُشِفُّه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2068)، كتاب: البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، ومسلم (1584)، كتاب: المساقاة، باب: الربا. (¬2) رواه مسلم (1584)، (3/ 1208)، كتاب: المساقاة، باب: الربا. (¬3) رواه مسلم (1584)، (3/ 1209)، كتاب: المساقاة، باب: الربا. (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 256)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 10)، =

وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وَلا تَبِيعُوا مِنهَا غَائبًا بِنَاجِزٍ"؛ الغائب: المؤجل، والناجز: الحاضر، ومعناه: لا تبيعوا مؤجلًا بحاضر من الذهب بالذهب، ولا من الذهب بالفضة. وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك، وكذلك حكم الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علّة الرّبا. أَمّا إذا باع دينارًا بدينار كلاهما في الذمة، ثم أخرج كل واحد الدينار، أو بعث من أحضر له دينارًا من بيته، وتقابضا في المجلس، فيجوز عند الشافعية بلا خلاف؛ حيث إن الشرط عندهم: ألّا يتفرقا بلا قبض، وقد حَصَل وتقدّم هذا في الحديث قبلَه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في اللفظ بعده: "إلّا يدًا بِيَد" بعد قوله: "لَا تَبِيعُوا غَائبًا بِنَاجِزٍ". وأمّا قول القاضي عياض - رحمه الله -: اتفق العلماء على أنه لا يجوز بيع أحدها بالآخر مؤجلًا أو غائبًا عن المجلس، فليس كما قال؛ لما ذكرنا من قول الشافعي فيه، واتفاق أصحابه من جواز ذلك، والله أعلم (¬1). وقولُه في الرواية الثالثة: "إلّا وَزنًا بِوَزن" إلى آخره؛ هذه الألفاظ: التي هي: الوزن، والمِثْل، والسواء، يحتمل الجمع بينها: التوكيدَ والمبالغة للإيضاح، والمراد: اعتبار التساوي وتوكيده من الشرع، واعتبره الفقهاء بمعيار الشرع وزنًا وكيلًا في الموزون والمكيول، وكذلك في المعدودات المتماثلات، والمذروعات، فيحتمل أن يكون الجمع بينها محمولًا على الكيل والعد فيما عدا الموزون، والله أعلم. وفي هذا الحديث: تحريم بيع جميع أنواع الذهب بعضها ببعض متفاضلًا. وفيه: تحريم بيع الغائب منها بالحاضر إذا تفرقا من غير قبض، كما ذكرنا. وفيه: اشتراط القبض في المجلس، وتقدم مذهب مالك في القبض عقيب ¬

_ = و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 181). (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 11).

الحديث الثالث

العقد، وإن طال المجلس، ووجد القبض فيه، وما ادّعاه القاضي عياض في ذلك من اتفاق العلماء، وجوَّز إسماعيل بن علية التفريق عند اختلاف الجنس، بأن أراد بذلك اختلاف الجنس بالنسبة إلى النقدين وغيرهما من المطعومات، فهو موافق للجماعة، وإلا، فهو محجوج بالحديث والاجماع، والله أعلم. وفيه: الحثُّ على التساوي في الربويات، بكل ما يمكن من الوزن أو الكيل أو العد. وإن حملنا الحديث على التوكيد والمبالغة، فتكون الدلالة على غير الموزون من باب التنبيه، لا من باب المراد، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْهُ، قالَ: جَاءَ بلاَلٌ إلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِتَمرٍ بَرنيٍّ، فَقَالَ لَه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ "، قَالَ بِلاَلٌ: كانَ عِندَنَا تَمر رَدِيء، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - عِندَ ذَلِكَ: "أَوّه! عَيْنُ الربا، لا تَفعَل! وَلَكِنْ إذَا أَرَدتَ أَن تَشتَرِيَ، فَبعِ التمْرَ بِبيع آخَرَ، ثم اشْتَرِ بِهِ" (¬1). تقدَّم الكلام على بلال وأبي سعيد. وأَمّا التمرُ البَرني؛ فهو ضرب من التمر، أصفر مدوّر، واحدته برنيَةٌ، وهو أجود التمر، قاله صاحب "المحكم"، وقال أبو حنيفة الدينوري: أصله فارسي. وأَمّا قول الشيخِ أبي إسحاق الشيرازي صاحب "التنبيه" فيه: إن المعقلي أجود من البرني، وليس كما قال: بل الصواب المشهور ما قاله صاحب "المحكم" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2188)، كتاب: الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا، فبيعه مردود، ومسلم (1594)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل. (¬2) انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 99)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 25) و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 85).

وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَوّه! عَيْنُ الرّبَا"، أَما أَوَّهْ: فقال أهل اللغة: هي كلمة توجُّع وتحزُّن، وأَمّا: "عَيْنُ الرِّبَا"؛ وتكرارها مرتين: فمعناه: أنه حقيقة الربا المحرم، وأَكَّده بالتكرار. وفي أَوهْ لغات: أفصحهن: فتح الهمزة والواو المشددة والهاء ساكنة، ويقال بالهاء منصوبة منونة، ويقال أَوه: بإسكان الواو وكسر الهاء منوَّنة وغير منوَّنة، ويقال: أَوٍّ: بتشديد الواو مكسورة منونة بلا هاء، ويقال: آهٍ، بمد الهمزة وتنوين الهاء مكسورة من غير واوٍ (¬1). وروى مسلم في "صحيحه"من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن اشترى صاعًا بصاعين: "هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ" (¬2)، وفي حديث الكتاب هذا: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بلالًا بردِّه، بل نَهاهُ عن فعله، وأمره أن يبيعَ التمر ببيع آخر، ثم يشتري به، فيحتمل أنهما واقعتان، أمر فيهما بأمرين، وليس بظاهر، بل الظاهر أنها واقعة واحدة، أمر فيها برده، فبعض الرواة حفظ الرد، وبعضهم لم يحفظه، والزيادة من الثقة مقبولة. وليس في حديث بلال في الكتاب ما ينافي الرد، بل مقتضى نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن فعله، يلزم منه الرد؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما أمره ببيع التمر ببيع آخر، ثم اشترائه، لزم منه ردُّه على بائعه، واسترداد ثمنه، وهي الصاعان من الرديء، ثم اشتراء التمر من البائع أو غيره ببيع آخر، إما في الذمة، وإما بتقويم الرديء بثمن غير ربوي، ثم اشترائه به، ولم يكن شيء من ذلك، ولم تثبت رواية الردِّ، فيحمل حديث بلال هذا على أنه جُهل بائعُهُ، ولا يمكن معرفته، فصار مالًا ضائعًا لمن عليه دين بقيمته، وهو التمر الرديء الذي قبضه عوضًا عن الصاعين الرديئين، وحينئذٍ لا يبقى فيه إشكال ولا معارضة، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 339)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 52)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 82)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 22). (¬2) رواه مسلم (1594)، (3/ 1216)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل.

وقولُه: "فَبعِ التَّمرَ بِبيعٍ آخَرَ"؛ الألف واللام في "التمر" للعهد في الرديء. وقولُه: "ثم اشْتَرِ بِهِ"؛ يعني "به": الصاع الجيد، ويكون المعنى: بِعْه على صفقة أخرى، وتكون الباء زائدة، كأنه قال: بِعْهُ بيعًا آخر، وعود المعنيين إلى محلين أولى من عودهما إلى محل، خصوصًا إذا استقام المعنى به، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام جليلة: منها: النصُّ على تحريم رِبا الفضل في التمر، والأمة كلها عليه، إلا ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهما -؛ فإنهما قالا بجوازه إذا كانا يدًا بيدٍ في جميع الربويات المتجانسة في أول أمرهما، فلما بلغهما حديث أبي سعيد، رجعا عن قولهما بإباحته إلى منعه، وذكر الراوي عنهما الإباحة الرجوعَ عنها لأبي سعيد. ومنها: اهتمام التابع بمتبوعه في أكله وجميع أموره، وطعامه الجيِّد الطيب دون الرديء. ومنها: السؤال عن تصرف المتبوع له عن كيفيته ليعلمه إياها، وليجتنبه المتبوع. ومنها: تعليم العلم، وتقبيح المحرم والمكروه لمن يعلمه؛ ليجتنبه ويعلمه غيره. ومنها: تعريف التابع للمتبوع اهتمامه به في المطعم، وعدم الرضا بالرديء له، إما لقصد دعاء المتبوع له، وإما لإقباله عليه، إما بظاهره، أو بباطنه، أو بمجموعهما. ومنها: ما احتج به أصحاب الشافعي ومَنْ وافقهم على استعمال الحيل في البياعات في مسألة العينة كما يفعله بعض الناس، توصلًا إلى مقصود الرِّبا، بأن يريد أن يعطيه مئة بمئتين، فيبيعه ثوبًا بمئتين، ثم يشتريه منه بمئة. وموضع الدلالة من هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "بِعْهُ واشْتَرِه ببِيع آخَرَ"، ولم يقصد بذلك سوى الخلاص من العقد الممنوع منه في الشرع، وهو

الحديث الرابع

عدم التماثل في الربويات من التمر، لا كثرة ولا غيرها، لا من البائع الأول ولا من غيره، وذلك يعم كل الربويات، وهذه الصورة وغيرها ليست بحرام عند الشافعي وغيره وآخرين، وقال مالك، وأحمد، وغيرهما: كلّ ذلك حرام، والحديث مطلق عندهم يصدق في صورة واحدة، فلا تعم، والله أعلم. ومنها: أن التفاضل في الصفات لا اعتبار به في تجويز الزيادة. ومنها: أن قومًا أخذوا من الحديث تجويز الذرائع؛ من حيث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بعِ التمْرَ بِبيعٍ آخَرَ ثم اشْتَرِ بِهِ"؛ فإنه أجاز بيعه وشراءه على الإطلاق، ولم يفصل بين أن يبيعه ممن باعه، أو من غيره، ولا بين أن القصد والتوصل إلى شري الأكثر أولًا، والمانعون من الذرائع يجيبون: بأنه مطلق لا عام، فيحمل على بيعه من غير البائع، أو على غير الصورة التي يمنعونها؛ فإنَّ المطلق يكتفى في العمل به بصورة واحدة، وقد بيَّنَّا أَن قوله: "فَبعِ التمْرَ" عائد على الرديء، لا على الجيد، وقوله: "ثم اشْتَرِ بِهِ" عائد على الجيد؛ تصحيحًا للمعنى فيهما، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَن أَبِي المِنهالِ قَالَ: سَألْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِب، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عَن الصرفِ، فكُل واحِدٍ مِنْهُما يقُولُ: هَذَا خَيْر مِني، وَكِلاهُمَا تقُولُ: نَهَى النبِي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بيعِ الذهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنًا (¬1). أما أَبُو المنهال، فهو سيار بن سلامة، وتقدم ذكرُه في أثناء باب: المواقيت، من كتاب: الصلاة، وأما البراء، وزيد بن أرقم، فتقدّما في الصلاة. وقولُه: "نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بيعِ الذهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنًا": يعني مؤجلًا، أما إذا باعه في الذمة حالًا، فإنه يجوز كما تقدم، وشرطه التقابض في المجلس. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2070)، كتاب: البيوع، باب: بيع الذهب بالورق نسيئة، ومسلم (1589)، كتاب: المساقاة، باب: النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا.

الحديث الخامس

وفي الحديث دليل: على السؤال عن العلم من أهله. وفيه دليل: على التورع عن الفتيا إذا وجد من يقوم بها. وفيه دليل: على الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، والتواضع لهم، إذا لم يترتب عليه مفسدة دينية. وفيه دليل: على موافقة أهل الحق ومعاضدتهم. وفيه دليل: نصًّا: على تحريم الربا نَساءً في الذهب والفضة؛ لاجتماعهما في علة واحدة، وهي النقدية، وكذلك في الأجناس الباقية، من البر والشعير والتمر وغيرها، باجتماعها في علة أخرى، فلا يباع بعضها ببعض نسيئة، والواجب فيما يمتنع فيه النساء أمران: أحدهما: التناجز؛ بحيث لا يكون مؤجلًا. والثاني: التقابض في المجلس، وهو الذي يؤخذ من قوله: "يدًا بيد". * * * الحديث الخامس عَن أَبِي بكرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن الفِضةِ بِالفِضةِ، وَالذهَب بالذهَب إلّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأمر أَنْ نَشْتَريَ الفِضةَ بِالذهبِ كَيْفَ شئنا، قَالَ: فَسألَه رَجلٌ فَقَالَ: "يَدًا بِيَدٍ"، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ (¬1). تقدم الكلام على أبي بكرة، وأن اسمه نفيع بن الحارث. قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إلّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ": يعني في عدم التفاضل، وفي وجود التساوي في الوزن، وعدم التفريق قبل القبض، وفي وجود الحلول في المجلس. وقولُه: "أَنْ نَشْتَريَ الذهَبَ بِالفِضةِ، كَيْفَ شِئْنَا"؛ يعني: بالنسبة إلى التفاضل والتساوي، لا بالنسبة إلى الحلول والتأجيل، وقد ثبت ذلك في "الصحيح" في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2071)، كتاب: البيوع، باب: بيع الذهب بالورق يدًا بيد، ومسلم (1590)، كتاب: المساقاة، باب: النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا، وهذا لفظ مسلم.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذَا اختَلَفَت هَذ الأجنَاس، فَبِيعُوا كيف شِئتم، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ" (¬1). وفي الحديث دليل: على وجوب التساوي في الربويات، إذا كانت من جنس واحد. وفيه دليل: على جواز التفاضل، إذا اختلفت أجناسها، إذا كانت مقبوضة في المجلس. وفيه دليل: على أن الفتيا في التوقيفيات، والتعبديات؛ كالربويات ونحوها، موقوفة على السماع، والله أعلم. * * * انتهى المجلد الثاني ويليه المجلد الثالث، وأوله باب الرهن وغيره من كتاب البيوع ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1587)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، إلا أنه قال: "الأصناف" بدل "الأجناس".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْعُدَّة فِي شَرْحِ الْعُمْدَة [3]

جَمِيع الْحُقُوق مَحفوظَة الطبعَةُ الأولى 1427 هـ - 2006 م جمعية الْإِصْلَاح 1360 هـ الْبَحْرين 1941 م مَشروعُ الْعلم النافع سلسلَة إصدارات لجنة الْأَعْمَال الْخَيْرِيَّة (15) شركَة دَار البشائر الإسلامية للِطِّباعَةَ والنشر والتوزيع ش. م م أسَّسها الشَّيْخ رمزي دمشقية رَحمَه الله تَعَالَى سنة 1403 هـ - 1983 م بيروت - لبنان ص. ب: 5955/ 14 هَاتِف: 702857 فاكس: 704963/ 009611 e-mail: [email protected]

باب الرهن وغيره

بابُ الرَّهْنِ وغيرِه الرَّهْنُ في اللغة: الثبوت، يقال: رَهَنَ بالمقام؛ أي: أقام به، وثبت فيه. وفي الشرع: جعلُ عينِ مال وثيقةً بدين؛ ليستوفى منها عند تعذر استيفائه ممن عليه. وجَمْعُ الرَّهْنِ: رِهان، كحَبْل وحِبَال، ويقال: رُهُنَ -بضم الهاء-. واختلفوا في رُهن، هل هو جمع رَهْن، أم جمع رِهَان، فيكون جمع الجمع؟ قال الأكثرون: جمعُ رِهان، وقال أبو عمرو بن العلاء: جمع رَهْنِ، كَسَقْفٍ وَسُقُفٍ. ويقال: رَهَنْت الشيء، وهو الأفصح المشهور، وأرهنته، رباعيًّا، ومنهم من منعه، وأَرْهَنْتهُ إياه، والرّاهِن: دافع الرهن، والمرْتَهِن: آخذه، والشيء: رَهْنٌ، ورَهين، والأنثى: رَهينة (¬1). * * * الحديث الأول عَن عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اشتَرَى من يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرعًا مِن حَدِيدٍ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 320)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 193 - 194). (¬2) رواه البخاري (1962)، كتاب: البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، ومسلم (1603)، =

أمّا اليهودي المرهونُ عنده درعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على طعام؛ فقد ذكر الخطيب البغدادي في "المبهمات" من رواية أنس حديثه، وقال: ويقال له: أبو الشحم (¬1). وقد نطق الكتاب العزيز بجواز الرَّهْنِ في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وفي الحديث أحكام: منها: جواز معاملة الكفار، وعدم اعتبار الجواز في معاملاتهم. ومنها: جواز الرهن في الحضر، وقد وقع التصريح به في غير هذه الرواية. واتفق العلماء على جواز الرهن في السفر عند عدم الكاتب، وقال مجاهد بن جبر التابعي: لا يجوز إلا في هذه الصورة؛ لظاهر الآية، وجوّزه الباقون في الحضر والسفر، وقالوا: الآية خرج الكلام فيها على الأعمّ الأغلب، لا على سبيل الشرط، والحديث يدل بمجموع طرقه على جوازه مطلقًا من غير سفر، ولا عند عدم كاتب، والله أعلم. ومنها: جواز الشراء بالثمن المؤجل المؤخر قبضه؛ لأن الرهن إنما يحتاج إليه حيث يكون الثمن مؤجلًا، أو حيث لا يتأتى إقباضه في الحال غالبًا. ومنها: جواز رهن السلاح. ومنها: جواز رهنه عند الكفار من أهل الذمة والمعاهدين. ومنها: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الفقر والحاجة والتقلل من الدنيا، والزهد فيها، مع تمكينه - صلى الله عليه وسلم - منها وعرضها عليه، وإعراضه عنها، والله أعلم. * * * ¬

_ = كتاب: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر. (¬1) وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 35).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَطْلُ الغَنِي ظُلْمٌ، فَإذَا أُتْبِعَ [أَحَدُكُمْ] عَلَى مَلِيءٍ، فَلْيتبعْ" (¬1). المَطْلُ في اللغة: مصدر مَطَلَهُ يَمْطُلُهُ -بضم الطاء- مَطْلًا، ومَاطَلَهُ مماطلةً، فهو مماطل، وهو مشتق من مطلتُ الحديدة: إذا ضربتها ومددتها لتطول، وكل ممدود ممطول (¬2). وهو في الشرع: منع أداء ما استحق أداؤه، فكأنه منع أداء الحق، فَمَطْلُ الغنيِّ ظُلْم وحَرَام، ومطلُ غيرِ الغني ليس بظلم ولاحرام؛ لمفهوم هذا الحديث؛ حيث إنه معذور؛ فلو كان غنيًّا، ولكنه ليس متمكنًا من الأداء؛ لغيبة المال، أو لغير ذلك، جاز له التأخير إلى الإمكان، وهذا مخصوص من مطل الغني، أو يقال: المراد بالغني: المتمكن من الأداء، فلا يدخل غير المتمكن في الحديث، والله أعلم. والغني عند الفقهاء: من لا تحل له الزكاة، واختلف فيه، فقيل: من ملك نصاب فضة، وقيل: من ملك أوقية خالصة منها، وهي أربعون درهمًا. وفيه حديث في "سنن أبي داود" (¬3): وقد نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح" الغنى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2166)، كتاب: الحوالات، باب: في الحوالة، ومسلم (1564)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم مطل الغني. (¬2) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 101)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 624)، (مادة: مطل). (¬3) رواه أبو داود (1628)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، والنسائي (2595)، كتاب: الزكاة، باب: من الملحف؟ والإمام أحمد في "المسند" (3/ 9)، وابن حبان في "صحيحه" (3390)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ: "من سأل وله قيمة أوقية، فقد ألحف"، فقلت: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية، قال هشام: خير من أربعين درهمًا -فرجعت فلم أسأله شيئًا- زاد هشام في حديثه: وكانت الأوقية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين درهمًا.

بكثرة العرض، ووصفه بغنى النفس، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ الغِنَى عَنْ كثرةِ العرضِ، وإنَّما الغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَصْبحَ آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في بَدَنِه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَقَدْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذافِيرِها" (¬2)، والله أعلم. والظُّلم: مجاوزة الحد، وقيل: التصرف في غير ملك، وكل منهما مستحيل في حق الله تعالى؛ فإنه -سبحانه وتعالى- محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء، ومالك كل شيء، ولا يملكه شيء، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 43]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذَا أتبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيتبعْ"؛ هو بإسكان التاء في "أُتْبِع" وفي "فَلْيتبع" مثل: أُخْرج، فلْيخْرُج، هذا هو الصواب المشهور في الروايات، والمعروف في اللغة وغريب الحديث، ونقل القاضي عياض - رحمه الله - عن بعض المحدثين في الكلمة الثانية: أنه يشددها، وليس بصواب، وهو مأخوذ من قولنا: أتبعت فلانًا، إذا جعلته تابعًا للغير، والمراد هاهنا: تبعته في طلب الحق بالحوالة، ومعناه: إذا أحيل بالدين الذي له على موسر، فليحتل. يقال منه: تبعت الرجل بحقي، أتبعه تباعة، فأنا تبيع: إذا طلبته، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (¬3) [الإسراء: 69]. ثم الأمر بقبول الحوالة على المليء معلل بكون مطل الغني ظلمًا لصاحب الحق بالحوالة على المحال عليه، ولعل السبب فيه بعد تقدير كون المطل ظلمًا من الغني، والمسلم الكامل يحترز عن الظلم، فيكون الأمر سببًا لقبول الحوالة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6081)، كتاب: الرقاق، باب: الغنى غنى النفس، ومسلم (1051)، كتاب: الزكاة، باب: ليس الغنى عن كثرة العرض، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الترمذي (2346)، كتاب: الزهد، باب: (34)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (4141)، كتاب: الزهد، باب: القناعة، والبخاري في "الأدب المفرد" (30)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (10362)، عن عبيد الله بن محصن - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 87)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 118)، و"النهاية في غريب الحديث" (1/ 179)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 228).

على المليِّ؛ لحصول المقصود من غير ضرر المطل، ويحتمل أن تكون العلة عدم الترافع إلى الحاكم عند المطل من الغني والأخذ منه قهرًا؛ لئلا يترتب على ذلك الحقد والعداوة، اللذان هما سبب للقطيعة والوقيعة، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -: عليكم بالصلح بين الخصوم، وإياكم وفصل الحكم بينهم؛ فإن الصلح أذهبُ للعداوة والأحقاد. ولما كان فيه قبول الحوالة على المليِّ يدفع مفسدة تأخير الحق من الغني عن مستحقه، أمره - صلى الله عليه وسلم - بقبوله، وهذا الاحتمال ظاهر، والأول قوي؛ لما فيه من بقاء معنى التعليل بكون المطل ظلمًا، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: ما ذكره بعضهم: أن المُعْسر لا يحل حبسه ولا ملازمته ولا مطالبته في الحال، حتى يوسر، وهذا مذهب مالك، والشافعي، والجمهور. وينبغي لمن عليه دَيْن ألا يضارَّ صاحب الدَّيْن بتعاطي أصحاب أسباب الإعسار، وألا يؤلمه بكلام، ولا أذى؛ فإن لصاحب الحق مقالًا، وليس لمن عليه الحق مقال، بل معاملته للناس بالإيلام والأذى سبب لقطع التنفيس والإحسان إليهم وإليه غالبًا، وما كل أحد ينظر إلى أن الأذى المترتب عليه بسبب إحسانه وتنفيسه حسنة. وقد اختلف أصحاب مالك وغيرهم في عدم قبول شهادة المماطل، وفسقه بها بمرة واحدة، أم لا ترد شهادته، ويفسق حتى يتكرر المطل منه؟ ومقتضى مذهب الشافعي: اشتراط التكرر، وكان من رد الشهادة، وأثبت الفسق بمرة واحدة، والظلمُ ذنبٌ من الكبائر، فاقتضى الفسق. ومن شرط التكرر في المطل، رأى أنه ذنبٌ صغير، والصغائر لا بدَّ في التفسيق بها من الإصرار، وهو لا يعلم إلا بالتكرار. وفي الحديث، في السنن وغيرها -وهو حديث حسن-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"ليُّ الوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" (¬1)، واللَّيُّ -بفتح اللام وتشديد الياء-: المَطْل، والواجِد -بالجيم-: الموسر، وإحلال عرضه: بأن يقول: ظلمني، مطلني، وعقوبته: تعزيره وحبسه. ومنها: تحريم مَطْلِ الغني وغيره، ممَّن عليه حقٌّ، وهو قادر على القيام به؛ كالزوجين فيما يتعلق بكل واحد منهما من الحق الذي عليه. وقد قال العلماء: يجب على كل واحدٍ من الزوجين بذلُ ما يجب عليه، من غير مطل، ولا إظهار كراهة، وكذلك الأولاد والوالدون، وكذلك السادات والعبيد، وكذلك الرعاة والرعايا، وكذلك الحكام والمتحاكمون، وكذلك النظار والمنظور عليهم، وكذلك المقدمون والمقدم عليهم، وكذلك كل من له سلطنة على شيء، ومن هم مسلطَنٌ عليهم، والله أعلم. ومنها: جواز الحوالة، وكل أمر فيه تنفيس وعدم شغب، بل ذلك جميعه مستحب، ومذهب الشافعي والجمهور: استحباب قبول الحوالة، إذا أحيل على مليء، وحملوا الحديث على الندب، وقال بعض العلماء: هو مباح لا مندوب، وقال بعضهم: هو واجب؛ لظاهر الأمر، وإليه ذهب داود الظاهري وغيره، والله أعلم. ومنها: ترك أسباب المقاطعات والوقيعات، وتعاطي أسباب المواصلات، وعدم القطيعات. ومنها: استعمال الأمور السهلة بالنسبة إلى نظر الشرع، لا بما يلائم النفوس وحظوظها المذمومة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3628)، كتاب: الأقضية، باب: في الحبس في الدين وغيره، والنسائي (4690)، كتاب: البيوع، باب: مطل الغني، وابن ماجه (2427)، كتاب: الصدقات، باب: الحبس في الدين والملازمة، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 22)، عن الشريد بن سويد - رضي الله عنه -.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عنه، قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَو قَالَ: سَمِعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "مَنْ أَدرَكَ مَالَه بِعَينِهِ عِندَ رَجُلٍ أَو إنسَانٍ قَد أَفلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِن غيره" (¬1). أما قوله: "قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَو قَالَ: سَمِعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فهذا شكٌ من الراوي عن أبي هريرة، وفيه مسألتان: إحداهما: اختلف في تغيير: "قال رسول الله" إلى "قال النبي"، وعكسه؛ هل يجوز؟ على مذهبين: قال الأكثرون: يجوز، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وحماد بن سلمة، والخطيب، وقال أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله -: الظاهر أنه لا يجوز، وإن جازت الرواية بالمعنى؛ لاختلافه (¬2)، واختار شيخنا أبو زكريا النووي - رحمه الله - الجواز، قال: لأنه لا يختلف به هنا معنى، ولما وقع الخلاف في هذه المسألة، ساغ للراوي التحرِّي في أي اللفظين سمع؛ ليرويه به (¬3). الثانية: أرفع عبارات الرواية: (سمعت) عند جماهير المحدثين، ثم (حدثنا)، ثم (حدثني)، وأما: (قال) ممن عرف لقاؤه؛ كالصحابي بالنسبة إلى رسول - صلى الله عليه وسلم -، فهي محمولة على السماع، لكنها دون (سمعت) في الرتبة، فلهذا حسن تحري الراوي عن أبي هريرة في أي اللفظين قال، والله أعلم. وكذلك الشك في قوله: عند رجل أو إنسان، لما كان بينهما تغاير في المعنى، أو في اللفظ، حسن التحري فيه، وروايتُه على الشك عند عدم التحقق لما سمعه من اللفظين، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2272)، كتاب: الاستقراض، باب: إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به، ومسلم (1559)، كتاب: المساقاة، باب: من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس فله الرجوع فيه. (¬2) انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 120). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (1/ 38).

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أدركَ مَالَهُ بِعَينِه عِندَ رَجُلٍ قد أَفلَسَ"، قال الأزهري: أفلس الرجل: إذا عَدِم، وتفالس: ادَّعى الإفلاس، وهو مأخوذ من الفلوس التي هي أحسن الأموال؛ كأنه إذا حُجِر عليه، مُنع التصرُّفَ في ماله، إلا في شيء تافه؛ فإنه لا يعيش إلا به، وهو مؤنته ومؤنة عياله. وقيل: لأنه صار ماله كالفلوس؛ لقلته بالنسبة إلى الديون، وقال صاحب الحاوي؛ هو باب الفلس والتفليس، وكره بعض الشافعية أن يقال: باب الإفلاس؛ لأنه مستعمل في الإعسار بعد يسار، والتفليس في حجر الحاكم على المديون (¬1). وفي الحديث أحكام: منها: رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفَلَس فقط، ولا تأويل لخلافه، حتى قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: لو قضى القاضي بخلافه، نقض حكمه، وقد اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب الشافعي - رحمه الله -: أن البائع يرجع إلى عين ماله عند تعذر الثمن بالفلس والموت. الثاني: مذهب أبي حنيفة: أنه لا يرجع إليه إلا في الموت، ولا في الفَلَس، وتأول الحديث على وجهين ضعيفين: أحدهما: حمل الحديث على الغصب والوديعة، وهو فاسد؛ حيث إن الحمل على ذلك يبطل فائدة تعليق الحكم بالفلس. والثاني: حمله على ما قبل القبض، وهو مستضعف بقوله: "أدرك ماله" أو وجد متاعه"؛ فإن ذلك يقتضي إمكان العقد بعد خروج السلعة من يده. المذهب الثالث: قول مالك: يرجع في الفَلَس دون الموت، ويكون في الموت أسوة الغرماء، والحديث حجَّة له، قوي فيه جدًّا. ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 226)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 195).

ومنها: رجوع المقرض إلى عين ماله، إذا كان باقيًا لم يتصرف فيه المستقرض، وأفلس بعد قبضه؛ لأن لفظ الحديث أعمُّ من أن يكون المال أو المتاع لبائع أولمقرض، وإن كان الفقهاء قاسوا القرض في ذلك على البيع. لكن التمسك بعموم اللفظ من حيث وضعُه أولى، ولا حاجة إلى القياس؛ لاندراجه تحته، وقد يقال: على الحكم دليلان: أحدهما: عموم اللفظ. والآخر: القياس، وهو مملوك ببدل بعذر تحصيله، فأشبه البيع. ومنها: الحجر على المفلس، ولا بد في الحديث من إضمار أمور [تحمل] عليه، مثل: كون السلعة مقبوضة موجودة عند المشتري دون غيره، والثمن غير مقبوض، ومال المفلس لا يفي بالديون، أو كان مساويًا، وقلنا: يحجر عليه في صورة التساوي. ومنها: أجرة الدار ونحوها من الدَّواب وغيرها، إذا أفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة ومضي المدة، فللمؤجر الفسخ، على الصحيح من مذهب الشافعي. ولا شك أن عقد الإجارة لا يتناول العين المأجورة، إنما يتناول منافعها، وإطلاق اسم المال على المنافع قوي، وهو أقوى من إطلاقه على المتاع؛ من حيث إنَّها مقابلة بعوض، وهي مقدرة الوجود عند العقد تصحيحًا له، واغتفر ذلك لحاجة الناس إلى الإجارات، فأشبه الأعيان، فحينئذٍ تكون الأجرة مندرجة تحت لفظ الحديث، موزعة على المدة؛ من حيث إن صاحب المال أحقُّ به من سائر الغرماء، فيكون ذلك من لوازم الرجوع في المنافع، لا بطريق الأصالة. ومنها: لو ألزم ذمته نقل متاع من مكان إلى مكان بطريق الإجارة، ثم أفلس، والأجرة في يده قائمة، ثبتَ حقُّ الفسخ والرجوع إلى الأجرة. والحكم مندرج تحت لفظ الحديث ظاهرًا إن أخذنا به، ولم نخصص الحكم

بالبائع، وإن خصصناه به، ثبت الحكم بالقياس، لا بالحديث. ومنها: إمكان الاستدلال بالحديث على حلول الديون المؤجلة بالحَجْر؛ من حيث إن صاحب الدين كأنه أدرك متاعه، فيكون أحق به، ولو لم يحل الدين بالحَجْر، لم يستحق المطالبة به قبل الحلول، فتكون الدلالة على حلوله بطريق اللزوم. ومنها: أن الغرماء لو قدموا البائع بالثمن، لم يسقط حقه من الرجوع بعين ماله؛ لاندراجه تحت لفظ الحديث، والفقهاء علَّلوا عدم السقوط وقبول التقديم بالثمن بالمنة. ومنها: الاستبداد برجوع صاحب المتاع بعين ماله عند الفَلَس من غير حاكم؛ فإن الشرع أثبت له الأحقية مطلقًا بالمتاع، من غير تعرض لكيفية أخذه، لكن قال بعض الفقهاء: لا بد من الحاكم، ولعله الراجح عندهم. ومنها: أنه قد يؤخذ من الحديث الرجوعُ بامتناع المشتري من التسليم مع اليسار، أو هربه، أو امتناع الوارث من التسليم بعد موته بطريق المفهوم في مثله، وقد ينفي هذا الحكم بدلالة المفهوم من لفظ الحديث؛ حيث إن الحكم معلق بالفلس، ولا يتناول غيره، ومن أثبت من الفقهاء الرجوع فيما ذكرنا، إنما يثبته بالقياس على العكس. ومنها: أنه لا يرجع البائع مع هلاك العين، بل يرجع مع بقائها بعد الفلس؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - شرط إدراك العين في الأحقية، وبعد الهلاك يفوت الشرط، وهذا ظاهر في الهلاك الحسي. وقد ترك الفقهاء تصرفات شرعية منزلة الهلاك الحسي؛ كالبيع، والهبة، والوقف، ولم ينقضوا بهذه التصرفات الهلاك الحسي، بل ألحقوا به تصرفات الشفيع، فإذا بين أنها كالهالكة شرعًا، دخلت تحت اللفظ؛ فإن البائع حينئذ لا يكون مدركًا لماله. واختلفوا فيما إذا وجد متاعه عند المشتري بعد أن خرج عنه، ثم رجع إليه

بغير عوض، فقيل: يرجع فيه؛ لأنه وجد ماله بعينه، فيدخل تحت اللفظ، وقيل: لا يرجع؛ لأن هذا المال يتلقى من غيره؛ لأنه تحللت حالة، لو صادفها الإفلاس والحَجْر لما رجع، فيستصحب حكمها، وهذا تصرف في اللفظ بالتخصيص بسبب معنى مفهوم منه، وهو الرجوع إلى العين؛ لتعذر العوض من تلك الجهة، كما يفهم ما قدمنا ذكره، أو يخصص بالمعنى، وإن سلم اقتضاء اللفظ له. ومنها: لو باع عبدين مثلًا، فتلف أحدهما، ووجد الثاني بعينه، رجع به عند الشافعي، والمذهب: أنه يرجع بحصته من الثمن، ويضارب بحصته ثمن التالف، وقيل: يرجع في الباقي بكل الثمن، فأما رجوعه في الباقي، فقد يدرج تحت قوله: "فوجد متاعه"؛ فإن الباقي متاعه، وأما كيفية الرجوع، فلا تعلق للفظ فيه. ومنها: لو تغير المبيع في صفته بحدوث عيب: فأثبت الشافعي الرجوع، إِنْ شاءه البائع بغير شيء يأخذه، وإنْ شاء ضاربَ بالثمن، وهذا يمكن دخوله تحت اللفظ؛ فإنه وجد بعينه، والتغير حادث في الصفة لا في العين. ومنها: لو قبض البائع بعض الثمن، رجع بالعين؛ لإطلاق الحديث، وللشافعي قول قديم: أنه لا يرجع؛ لحديث ورد فيه. ومنها: رجوع البائع في متاعه بعينه، ومفهوم الحديث: أنه لا يرجع في غير متاعه، والزوائد المنفصلة الحادثة على ملك المشتري ليست بمتاع للبائع، فلا رجوع له فيها. ومنها: أنه لا يثبت الرجوع إلا إذا تقدم سبب لزوم الثمن على الفلس، ويؤخذ ذلك من لفظة الأحقية على الفلس، مع الشرط بصيغته أو بعقيبه؛ فإن من ضرورة ذلك تقدم سبب لزوم الثمن على الفلس، والله أعلم. * * *

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَعَلَ (¬1) -وفي لفظ: قَضَى- النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعَة فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَم، فَإذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَة (¬2). الشُّفْعَة: مأخوذة من شَفَعْتُ الشيءَ: إذا ضَمَمْته وثبته. ومنه: شفع الأذان، وسميت شفعة؛ لضم نصيب إلى نصيب (¬3). ووقع في بعض روايات الحديث: "إنما الشفْعَةُ فِيما لَمْ يقسَم" (¬4)، و"إنما" دالة على الحصر بالوضع، فتكون دلالتها أقوى من دلالة مفهوم الحديث؛ حيث مقتضاه: أن جعل الشفعة فيما لم يقسم يقتضي أن الشفعة فيما قسم. ولا شك أن الحكمة في ثبوت الشفعة إزالة الضرر عن الشريك، والضرر تارة يتعلق بجواز المجاورة، وتارة يتعلق بشركته. أما الأول: فقد نبه - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح بالاستعاذة؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ جَارِ السوء فِي دَارِ المُقَامَةِ" (¬5)؛ حيث إنه في دار المقامة أشد منه في دار الترحال؛ فإن الضرر فيها يزول سريعًا؛ بخلاف دار الإقامة؛ يدوم. وأما الثاني: وهو تعلُّق الضَّرر بالمشاركة، وهو في العقار أكثر، فلهذا خصَّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2099)، كتاب: البيوع، باب: بيع الشريك من شريكه. (¬2) رواه البخاري (2100)، كتاب: البيوع، باب: بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم، ومسلم (1608)، كتاب: المساقاة، باب: الشفعة، وهذا لفظ البخاري. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 45). (¬4) لم أجده بهذا اللفظ فيما توافر لدي من المصادر المطبوعة، والله أعلم، وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 56 - 57)؛ حيث إنه ذكر روايات الشفعة هناك. (¬5) رواه النسائي (5502)، كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من جار السوء، والبخاري في "الأدب المفرد" (117)، وابن حبان في "صحيحه" (1033)، والحاكم في "المستدرك" (1951)، وغيرهم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الشارع ثبوته فيه دون غيره، ما لم يقسم، ونفاها عند وقوع الحدود، وتصريف الطرق، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: ثبوت الشفعة للشريك في العقار ما لم يقسم، وهذا مجمع عليه عند العلماء. ومنها: عدم ثبوتها في الحيوان والثياب والأمتعة وسائر المنقول، وهذا متفق عليه عند العلماء. قال القاضي عياض: وشذ بعض الناس، فأثبت الشفعة في العروض، وهي رواية عن عطاء، قال: يثبت في كل شيء حتى في الثوب، وحكى ذلك رواية عنه ابن المنذر -أيضًا-، وعن الإمام أحمد رواية: أنها تثبت في الحيوان، والبناء المفرد (¬1). ولا شك أن ذكر وقوع الحدود وتصريف الطرق يقتضي تخصيص ثبوتها بالعقار دون غيره؛ حيث إن ذلك لا يكون إلا في العقار، مع أنه ثبت التصريح بثبوتها في الحوائط والربوع، وهي العقار، فصدر الحديث المذكور يقتضي ثبوته في المنقولات وغيرها، وسياقه يقتضي عدم ثبوته فيها. ومنها: أن ثبوتها فيما ذكرنا إنما يثبت فيما يكون قابلًا للقسمة؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل مَا لَمْ يُقْسَمْ" يُشعر بأنه لا بدَّ أن يكون قائلًا لها مع رواية: "إنما الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ" المقتضية للحصر، وإن دلالة المفهوم مرجوحة بالنسبة إليها. ومنها: سقوط الشفعة بمجرد الجوار، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء، وقال به من الصحابة -رضي الله عنهم-: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وأبو الزناد، ومن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 45 - 46).

الحديث الخامس

غيرهم: ربيعة، والأوزاعي، والمغيرة بن عبد الرحمن، وإسحاق، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثوري: تثبت بالجوار؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفى سقوطها، ورتبه على أمرين: وقوع الحدود، وتصريف الطرق، وكل منهما يلزمه الجوار، وإن قسم. ومنها: ثبوت الشفعة بشرطها لكل أحد؛ من مسلم، وذمي، ومقيم حضري، وغائب بدوي؛ حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الشُّفعة في كُلِّ مَا لم يقسم" من غير بيان من تثبُت له، فدل على ثبوتها لمن ذكر، وثبوتها للذمي على المسلم كعكسه. قاله الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، والجمهور. وقال الشعبي، والحسن، وأحمد: لا شفعة للذمي على المسلم، وثبوتها للأعرابي على المقيم في البلد. قال الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، والجمهور. وقال الشافعي: لا شفعة لمن لا يسكن المصر، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: أَصابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبرَ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْتأمِرُهُ فِيها، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إني أَصبْتُ مَالًا بِخَيبَرَ، لَمْ أصبْ مَالًا هُوَ أَنْفَسُ عِندِي مِنهُ؛ فَمَا تَأمُرُني به؟ قَالَ: "إنْ شِئْتَ حَبَستَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قَالَ: فَتَصَدق بِهَا، غَيًر أنهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُها، وَلَا يُورثُ، وَلَا يُوهَبُ، قَالَ: فَتَصَدقَ به عُمَرُ فِي الفُقَرَاء، وَفي القُرْبَى، وَفِي الرِّقَاب، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابنِ السبِيلِ، والضَّيفِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَها أَنْ يَأكلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، أَوْ يُطعِمَ صَديقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فيهِ، وفي لفظ: غيْرَ مُتأثلٍ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2586)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الوقف، ومسلم (1632)، كتاب: الوصية، باب: الوقف.

أمَّا قولُ عُمَرَ - رضي الله عنه -: "هُوَ أَنفَسُ"؛ فمعناه: أجود، والنَّفِيس: الجيد، وقد نَفُسَ -بفتح النون وضم الفاء- نفاسة. واسم المال المذكور الذي وقفه عمر - رضي الله عنه -: (ثمغ) -بثاء مثلثة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم غين معجمة-. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شِئتَ حَبَستَ أَصلَهَا وَتَصَدَّقتَ بِهَا"، قال الأزهري: يقال: حبست الأرض، ووقفتُها، وحبستُ أكثرُ استعمالًا (¬1)، وقال الشافعي - رحمه الله -: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا ولا أرضا تَبَرُّرًا، قال: وإنما حبس أهل الإسلام (¬2). قال العلماء من الشافعية وغيرهم: الوقف: تحبيس مالٍ يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه؛ بقطع تصرف الواقف، وغيره في رقبته، يُصرف في جهة خير؛ تقربًا إلى الله تعالى. وأَمَّا قوله: "وتَصَدَّقْتَ بِهَا"، يحتمل أن يكون راجعًا إلى أصل المال المحبَّس، وهو ظاهر اللفظ، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى الثمرة، على حذف المضاف؛ أي: وتصدقت بثمرتها أو رَيْعها. وقوله: "فَتَصَدَّقَ بِهَا، غيرَ أنهُ لا يُباعُ أَصلُها، ولا يُورثُ، ولا يُوهَبُ". لا شك أن أسباب الدخول في الملك ثلاثة أنواع: أحدها: ما يدخل بعوض دنيوي؛ كالبيع. الثاني: ما يدخل في الملك قهرًا؛ كالإرث. والثالث: ما يدخل بغير عوض ولا قهر؛ كالهبة. ولمَّا كان الوقف خارجًا عن هذه الأسباب في رقبته، منع الشرع منه؛ حيث ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص:260) و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 237). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (4/ 52).

إنه منتقل في أصله عن الواقف، تقرُّبًا إلى الله تعالى بلفظ يدل عليه؛ كلفظ التحبيس المذكور في الحديث. وأما قوله: "فَتَصَدَّقَ بِهَا"، فهو راجع إلى الاحتمالين المذكورين، إن جعلناه بيانًا للتحبيس، وخبرًا عن معنى الوقف، فلا يحتاج إلى قرينة، ولا إلى نية، بل يكون بمجرده؛ كالتحبيس والتسبيل، وإن لم يجعله كذلك، احتاج إلى لفظ يقترن به، يدلُّ عليه؛ كقولنا: صدقة مؤبدة محرمة، أو لا تُباع ولا تُوهَب، لكن الفقهاء قالوا: لما كان لفظ الصدقة يحتمل الوقف، ويحتمل صدقة التطوع، قالوا: لا بد من نية أو لفظ يدل عليه، ويكون قوله: "لا يباع" إلى آخره إرشادًا إلى شرطه في الوقف، فيكون ثبوته بالشرط لا بالشرع. وقولُه: "قالَ: فَتَصدَقَ بِهَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في الفقراء" إلى آخره؛ المصارف التي ذكرها: مصارف خير وقربة، فهي جهة الأقارب، فلا بدَّ أن يكون معناها معلومًا، فلا يوقف على ما ليس بقربة من جهات العامة، ولا ما يكون مصرفه مجهولًا غير معلوم. والمراد "بالقُرْبى": قربى عمر - رضي الله عنه - ظاهرًا. "وفي الرِّقَابِ": إما الكتابة، وإما العتق، على ما هو مذكور في الزكاة. "وفي سَبيلِ اللهِ": الجهاد عند الأكثرين، ومنهم من عداه إلى الحجِّ وكل قربة. "وابن السَّبيلِ": المسافر، والقرينة تقتضي اشتراط حاجته. "والضَّيْف": من نزل بقوم، والمراد: قِراه، ولا تقتضي القرينة تخصصه بالفقراء. وقوله: "غير متأثل" معناه: جامع، وكل شيء له أصل قديم أو جمع حتى يصير له أصل فهو مؤثل، ومنه: مجد مُوَثَّل؛ أي: قديم، وأثلة الشيء: أصله، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: صحَّةُ أصل الوقف، وقد أجمع المسلمون على صحَّة وقف المساجد

والسقايات؛ وكذلك الوقف على جهات القربات، وهو مشهور متداول خلفًا عن سلف. ومنها: التقرُّب إلى الله تعالى بأَنْفَسِ الأموال وأطيبها، وعليه عمل أكابر الصالحين من السلف والخلف؛ كعمر، وغيره -رضي الله عنهم-. ومنها: استئمار العلماء فيما يعرض للإنسان من مقصد صالح وعمل وقول؛ ليكون ذلك جميعه على مقتضى العلم، والحكم الشرعي. ومنها: أن ذكر ذلك ليس من باب إظهار العمل للرياء والتسمع. ومنها: أن التحبيس صريح في ألفاظ الوقف. ومنها: أن لفظ الصدقة في الوقف لا بد فيها من نِيَّةٍ أو قرينة تدل عليه. ومنها: أن أصل الوقف ينتقل إلى الله تعالى قربة، بحيث يمتنع بيعه وإرثه، وهبته، إذا كان في الصحة، وجواز التصرُّف. ومنها: أن الوقف مخالف لشوائب الجاهلية؛ حيث إن المقصود منه التبرُّر، فلو قصد به مضارَّة أحد، أو منعَ حق، لم يصحَّ باطنًا، ولا ثوابَ فيه، وربما كان ملحقًا بشوائب الجاهلية في التحريم. ومنها: صحة شروط الواقفين المطابقة للكتاب والسنة. [ومنها: فضيلة الوقف على الصدقة الجارية] (¬1). ومنها: فضيلة الوقف على الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وسبيل الله، وابن السبيل، والضيف، وما شاكل ذلك من الأمور العامة. ومنها: جواز الوقف على الأغنياء؛ حيث إن بعض المذكورين في الحديث غير مقيد بالفقر، بل هو مطلق لذوي القربى والضيف. ومنها: وجوب اتباع شروط الواقفين المطابقة للشرع. ومنها: تحريم أخذ العمال، وغيرهم ممن يليها أكثر ما يستحقه شرعًا، وهو ¬

_ (¬1) ما بينهما ساقطة من "ح 2".

الحديث السادس

معنى الأكل على القيام بمصالح الأوقاف بالمعروف، وهو غير منضبط من جهة الشرع على التقدير، فيقدره الحاكم بطريقة؛ بعلمه أو ببينة. ومنها: جواز أكل الضيفان منها بالمعروف؛ بحيث لا يعكر أكلهم على تعطيل مقصود الشرع، وشرط الواقف. ومنها: كراهة التكثر و [التأثُّل] من مال الأوقاف، بل يأكل ما يعتاد شرعًا، ولا يتجاوزه. ومنها: فضيلة صلة الأرحام، وغيرهم من المحتاجين، والوقف عليهم. ومنها: منقبة وفضيلة ظاهرة لعمر - رضي الله عنه -. ومنها: قبول شور المشاور، والمبادرة إلى ما أشار به. ومنها: أن خيبر فتحت عنوة. ومنها: أن الغانمين ملكوها واقتسموها، واستقرت أملاكهم على حصصهم، ونفذت تصرفاتهم فيها. ومنها: استحباب المبادرة إلى فعل الخيرات المتعدية، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسِ في سَبيلِ اللهِ، فَأضَاعَهُ الَّذِي كانَ عنْدَهُ، فَأرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، وَظَنَنْتُ أنَّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَألتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لَا تَشْتره، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإنْ أَعْطَاكهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإن العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كالعَائدِ فِي قَيئهِ" (¬1). وفي لفظ: "فَإنَّ الذِي يَعُودُ في صَدَقتهِ كالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيئهِ" (¬2). وعن ابنِ عبَّاسِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "العَائِدُ في هِبَتِهِ كالعَائدِ في قَيْئهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2841)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا حمل على فرس فرآها تباع. (¬2) رواه البخاري (1419)، كتاب: الزكاة، باب: هل يشتري صدقته؟ ومسلم (1620)، كتاب: الهبات، باب: كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه. (¬3) رواه البخاري (2478)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته =

قولُه: "حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ في سَبِيلِ اللهِ"؛ هذا الحمل: حملُ تمليك لمن أُعطي الفرس، ويكون معنى كونه في سبيل الله، كونَ الرجل الذي أعطاه عمر - رضي الله عنه - كان غازيًا، فآل الأمر بتمليكه إياه إلى أنه في سبيل الله، أو نعته بذلك باعتبار المقصود؛ حيث إن المقصود من تمليك الفرس استعماله فيما العادة أن يستعمله فيه. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الذي كان عنده، أضاعه ببيعه، ولم ينكر عليه ذلك، فإنه لو كان حمل تحبيس، لامتنع بيعه، إلا أن ينتهي إلى حالة لا ينتفع به فيما حبس عليه، وليس في اللفظ ما يشعر بذلك، ولو ثبت أنه حمل تحبيس، لكان متعلقًا بمسألة وقف الحيوان، ويدل على أنه حمل تمليك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَا تَعُدْ فِي صدَقَتِكَ"، وسمي شراؤه برخص عودًا في الصدقة؛ حيث إن العوض فيها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص، فكأنه اختار عوض الدنيا على الآخرة، مع أن العادة تقتضي بيع مثل ذلك برخص لغير المتصدق، فكيف بالمتصدق أو المملك، بسبب تقدم إحسانه بذلك، فيصير راجعًا في ذلك المقدار الذي سومح به. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَشتَره وَلَا تَعُدْ فِي صدَقَتِكَ"؛ حَمل أكثرُ العلماء هذا النهي على كراهة التنزيه، وحمله بعضهم على كراهة التحريم، وسيأتي إيضاحه في أحكام الحديث. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَم"؛ هو مبالغة في رخصه الحامل على شرائه؛ حيث إن ثواب الله تعالى عظيم، فلا يضيع بشيء من الدنيا، قل أو كَثُر. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فَإن العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالعَائدِ فِي قَيْئه"، "فَإن الذِي يَعُودُ فِي صدَقَتهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيئه"، ذكر الكلب وعوده في القيء؛ ليكون ذلك مبالغة في التنفير عن العود في الهبة والصدقة، ولا شك في شدة كراهة ذلك، وهي من وجهين: ¬

_ = وصدقته، ومسلم (1622)، كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض.

أحدهما: وقوع التشبيه في الراجع في الهبة بالكلب. والثاني: تشبيه المرجوع فيه بالقيء، وكل منهما قذر نجس محرم، ثم وقوع التشبيه بالكلب -وهو غير مكلف- يقتضي عدم تشبيه العود بالهبة بالحرمة، فيكون التشبيه وقع بأمر مكروه في الطبيعة؛ لتثبت به الكراهة في الشريعة، وبذلك تمسَّك أبو حنيفة في جواز رجوع الأجنبي في الهبة. وفي الحديث أحكام: منها: الإعانة على الغزو بكل شيء، حتى بتملك فرس. ومنها: أنه يملكه من أعطيه. ومنها: جواز بيع الفرس ممن أعطيه، والانتفاع بثمنه. ومنها: منع من تصدق بشيء، أو أخرجه في زكاةٍ أو كفارةٍ أو نذرٍ، ونحو ذلك من القربات، أن يشتريه ممن تصدق به عليه، أو يَتَّهبه، أو يتملكه باختياره منه، فلو ورثه منه، فلا منع منه، ولا كراهة فيه، وكذا التمليك لو انتقل إلى ثالث، ثم اشتراه منه المتصدق، فلا كراهة، وهذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء؛ أن المنع للتنزيه، وقال جماعة من العلماء: النهي عن ذلك للتحريم. ومنها: تحريم الرجوع في الهبة، وفي معناه الرجوع في الصدقَة، وإنما يحرُم الرجوع فيهما بعد [إقباضهما]، والحديث عامٌّ في كل هبة، لكنه مخصوص بجواز رجوع هبة الوالد لولده، وأن ينتقل؛ لحديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - الآتي، ولا رجوع في هبة الإخوة والأعمام وغيرهم من ذوي الأرحام، وكل هذا مذهب الشافعي، ومالك، والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب في هبة الأجنبي، إلا الوالد، وكل ذي رحم محرم، والله أعلم، واتفقوا على كراهية الرجوع مطلقًا، تنزيهًا، لا تحريمًا. * * *

الحديث السابع

الحديث السابع عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُا- قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي -عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحةَ-: لَا أَرْضَى حَتَّى يَشْهَدَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيشْهِدَهُ عَلَى صدَقَتِي، فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَينَ أَوْلاَدِكمْ"، فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ (¬1). وفي لفظٍ قالَ: "فَلَا تُشْهِدْنِي إذَنْ؛ فَإنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" (¬2). وفي لفظٍ: "فأشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" (¬3). تقدَّم الكلام على النُّعمان بن بشير، في باب: الصفوف. وأَمَّا عَمْرَةُ بنْتُ رَوَاحةَ؛ فهي أختُ عبد الله بن رواحة، وزوجةُ بشير بن سعد الأنصاري، وأمُّ النُّعمان بن بشير -رضي الله عنهم-، لما ولدت النُّعمان، حملته إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فدعا بتمرة، فمضغها، ثم ألقاها في فيه، فحنَّكه بها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ اللهَ له أن يُكثر ماله وولده، فقال: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ يعيشَ كَمَا عاشَ خَالُه حَميدًا، وقُتل شَهيدًا، ودَخَلَ الجنة؟ " (¬4)، ومن حديثها عن النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أنه قال: "وَجَبَ الخُروج -يعني: في الجِهاد- عَلَى كلِّ ذاتِ نِطاقٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2447)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623)، (3/ 1242)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬2) رواه البُخاريّ (2507)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (1623)، (3/ 1243)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬3) رواه مسلم (1623)، (3/ 1243)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (62/ 120). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 358)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (2421)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3420)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (7152)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 163)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (4/ 63)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 306). =

وأمَّا الجَوْرُ لغة: فهو الميل عن السواءِ والاعتدالِ، فكل ما خرج عن ذلك، فهو جور، سواء كان حرامًا، أو مكروهًا (¬1)، وقد يكون في الشرع للحرام، وقد يكون للمكروه، وقد استعمل فيه بمعنى الضلال، وبمعنى الظلم، وكلاهما محرمان. وفي الحديث أحكام: منها: جواز تسمية الهبة صدقة. ومنها: شرعية الإشهاد عليها. ومنها: أن للأمِّ كلامًا في مصلحة الولد وماله بحضرة أبيه، وأنه مسموع. ومنها: أن المفتي والشاهد لا يفتي ولا يشهد إلَّا بما يسوغ في الشرع. ومنها: وجوب الرجوع في الأقوال والأعمال في المعاملات وغيرها إلى العلماء. ومنها: سؤال العالم والمفتي والشاهد عن شرط الحكم، وما يسوغ فعله، سواء كان الشرط واجبًا أو مندوبًا. ومنها: أمرُ مخالفِ ذلك بتقوى الله، والعدلِ بين الأولاد. ومنها: المبادرة إلى قبول قول الحق من غير تأخير، ولا حرج في النفس. ومنها: التسوية بين الأولاد في العطية من غير تفضيل، وقد ذكرت الحكمة ¬

_ = قلت: قول المؤلف - رحمه الله - شارحًا قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "وجب الخروج" -يعني: في الجهاد- غريب جدًّا، فقد صرّح في رواية أبي يعلى والخطيب أن ذلك في العيدين، وبوّب عليه البيهقي في "السنن" بقوله: باب خروج النساء إلى العيد. وقد روى ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3422) عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين، ولابن أبي شيبة في "المصنف" (5786) نحوه عن عليّ - رضي الله عنه -. * وانظر ترجمة عمرة بنت رواحة - رضي الله عنها - في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 361)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 324)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 198)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 31). (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 153)، (مادة: جور).

من الشارع في ذلك؛ بمحبة الوالدان أن يكون بِرُّهم له على السواء، فكذلك عطيته لهم على السواء. ولما كان التفضيل يؤدي إلى الأنجاش، والتباغض؛ بعدم برِّ الولد لوالده؛ لكونه فضل غيره عليه في العطية، منع الشارع منه، وأمر بالتسوية بينهم. واختلف العلماء في هذه التسوية: هل يسلك بها مسلك الميراث في أن للذكر مثل حظ الأنثيين؟ أم يسوي بين الذكر والأنثى من غير تفضيل؟ وظاهر الحديث يقتضي التسوية، وهو المشهور في مذهب الشَّافعي وغيره، فلو فضل بعضهم، أو وهب بعضهم دون بعض، فقد اختلف الفقهاء فيه، هل هو محرم أو مكروه؟ فقال طاوس، وعروة، ومجاهد، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وداود: هو حرام؛ لتسميته - صلى الله عليه وسلم - ذلك جورًا، ورجوع الواهب فيها، مع أن العائد في هبته كالعائد في قيئه، لا سيما وقد سمَّاها صدقة عليه، والصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها، فالرجوع حينئذ هنا يقتضي أنها وقعت غير الموقع الشرعي؛ فلهذا نقضت بعد لزومها. وقال الشَّافعي، ومالك، وأبو حنيفة: هو مكروه كراهة تنزيه، وقد استدلَّ على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيرِي"؛ فإنّه يقتضي إباحة إشهاد الغير، ولا يباح ذلك إلَّا في أمر جائز، ويكون امتناع النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - من الشهادة على وجه التنزيه. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: وليس هذا بالقوي عندي؛ لأنَّ الصيغة، وإن كان ظاهرها الإذن، إلَّا أنَّها مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل؛ حيث امتنع الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم - عن المباشرة لهذه الشاهدة؛ معللًا بأنها جور، فتخرج الصيغة عن ظاهرها في الإذن بهذه القرائن، وقد يستعمل مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير، ومما يستدلُّ به عن المنع أيضًا قوله عمر: "اتَّقُوا الله"؛ فإنّه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى الله، وأن التسوية تقوى، هذا آخر كلامه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 216 - 217).

الحديث الثامن

وقال شيخنا أبو زكريا النووي - رحمه الله -: فإن قيل: قاله تهديدًا، قلنا: الأصل في كلام الشارع غير هذا، ويحمل عند إطلاقه صيغة (افعلْ) على الوجوب، أو الندب، فإن تعذر ذلك، فعلى الإباحة. وأَمَّا قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ"؛ فليس فيه أنه حرام؛ لأنَّ الجَوْرَ هو: الميل عن الاستواء والاعتدال، فكل ما خرج عن الاعتدال، فهو جَوْر، سواءٌ كان حرامًا، أو مكروهًا، وقد وضح ما قدَّمناه: أن قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي": دليل على أنه ليس بحرام، فيجب تأويل الجَوْر على أنه مكروه كراهة تنزيه، هذا آخر كلامه (¬1)، لكن الكلام الأول أمتن، والله أعلم. ومنها: بداءة المشهود عليه الشاهد، بسؤال الشهادة عليه. ومنها: نهي الشاهد المشهود عليه، إذا كان مخالفًا لقواعد الشرع. ومنها: أنه إذا كان في إشهاد المشهود عليه وجه يجوز إشهاده مع مخالفة الأولى، فلا بأس أن يقول الشاهد: أَشْهِد على هذا غيري، إلَّا أن يكون الشاهد يعتقد التحريم، فلا يقول ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عَامَلَ أَهلَ خَيبَرَ بشِطْرِ مَا يَخرُجُ مِنهَا، مِن ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ (¬2). أمَّا خيبر؛ فهي اسم لحصونٍ كانت لليهود، بينها وبين المدينة نحو أربع مراحل، والسلوك إليها من وراء أحد، غزاها رسول - صلى الله عليه وسلم - في أواخر المحرم سنة سبع من الهجرة، ومررتُ بطرفها راجعًا من المدينة -على ساكنها أفضل الصَّلاة والسلام- في أواخر ذي الحجَّة سنة خمس وسبعين وست مئة. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 67). (¬2) رواه البُخاريّ (2203)، كتاب: المزارعة، باب: المزارعة بالشطر ونحوه، ومسلم (1551)، كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

ولمّا غزاها رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فتح الله -عزَّ وجلَّ- عليه من حصونهم: حصن ناعم، والقموص، والشق، ونطاة، والكتيبة، فحاز أموالهم، واشتدّ الحصار على حصنين، وهما: الوطيح والسُّلالم، حتَّى أيقنوا بالهلكة، وسألوا أن يسترهم ويحقِنَ دماءهم، ويحلوا له الأموال، ثم سألوا أن يعاملهم في الأموال على النصف، فعاملهم على ذلك، على أنه متى شاء، أخرجهم، ولما بلغ ذلك أهل فدك، أرسلوا يسألونه في ذلك، وكانت هذه الحصون فيئًا للمسلمين، وكانت فدك خالصة له - صَلَّى الله عليه وسلم -، واستمر اليهود على هذه المعاملة، إلى أن مضى صدر من خلافة عمر - رضي الله عنه -، فبلغه ما قاله النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في وجعه: "لا يجتمعن في جزيرةِ العربِ دينان" (¬1)، فجلاهم عنها. قال القاضي عياض - رحمه الله -: وقد اختلفوا في خيبر، هل فتحت صلحًا أو عنوة، أو بجلاء أهلها عنها بغير قتال، أو بعضها صلحًا، وبعضها عنوة؟ وبعضها جلا عنه أهله، أو بعضها صلحًا وبعضها عنوة؟ وهذا أصحُّ الأقوال، وهي رواية مالك ومن تابعه، وبه قال ابن عيينة، قال: وفي كل قول أثر مروي. وفي رواية لمسلم: أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لما ظهر على خيبر، أراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض -حين ظهر عليها- لله، ولرسوله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وللمسلمين، وهذا دليل على أنها فتحت عنوة؛ إذ حقُّ المسلمين إنَّما هو في العنوة، وظاهر قول من قال: صلحًا: أنهم صولحوا على كون الأرض للمسلمين، والله أعلم (¬2). وأمَّا معاملته - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر؛ فحمله بعضهم على أنها كانت مساقاةً على النخل، وأن البياض المتخلل بين النخيل كان يسيرًا، فنفع للزراعة تبعًا للمساقاة، وذهب غيره إلى أن صورة هذه صورة المساقاة، وليست لها حقيقتها، وأن الأراضي كانت قد ملكت بالاغتنام، والقوم صاروا عبيدًا، فالأموال كلها ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 274)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1066)، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 209).

للنبي - صَلَّى الله عليه وسلم -، والذي جعل لهم صرفًا بعض ماله لينتفعوا به على أنه على حقيقة المعاملة، وهذا يتوقف على أن أهل خيبر استرقُّوا؛ فإنّه ليس بمجرد الاستيلاء يحصل الاسترقاق للبالغين. وفي هذا الحديث دليل: على جواز المساقاة في الجملة، واختلفوا فيما يجوز من الأشجار، فقال داود: يجوز على النخل خاصة، وكأنه رأى المساقاة رخصة، فلم يتعدها إلى غير المنصوص عليه، وقال الشَّافعي: يجوز على النخل والعنب، فوافق داود في الرخصة، لكن قال: حكمُ العنب حكم النخيل في معظم الأبواب، وقال مالك - رحمه الله -: سبب الجواز الحاجة والمصلحة، وهذا يشمل جميع الأشجار، فيقاس عليها، والله أعلم. وفيه دليل: على وجوب بيان الجزء المساقى عليه؛ من نصف وربع وغيرهما من الأجزاء المعلومة، فلا يجوز على مجهول؛ كقوله: "على أن لك بعض الثمرة"؛ فإن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عاملهم على الشطر، والشطر معلوم، إما بالنصف، وإما بالجزء المعلوم، واتفق المجوزون للمساقاة على جوازها بما اتفق المتعاقدان عليه من قليل أو كثير. وفيه دليل: على جواز المزارعة، تبعًا للمساقاة، وهو مذهب الشَّافعي والأكثرين؛ كقوله: "مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ"، فإن كانت المزارعة عندهم لا تجوز منفردة، فتجوز تبعًا للمساقاة، فيساقيه على النخيل، ويزارعه على الأرض كما جرى في خيبر. وقال مالك: لا تجوز المزارعة، لا منفردة، ولا تبعًا، إلَّا ما كان من الأرض بين الشجر. وقال أبو حنيفة وزفر: المزارعة والمساقاة فاسدتان، سواء جمعهما، أو فرقهما، ولو عقدتا، فسختا. وقال ابنُ أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وسائر الكوفيين، وفقهاء المحدثين، وأحمد، وابن خزيمة، وابن شريح، وآخرون: تجوز المساقاة

الحديث التاسع

والمزارعة مجتمعتين، وتجوز كل واحدة منها منفردة، وهذا هو الظاهر المختار لهذا الحديث. ولا يقبل كون المزارعة في خيبر إنَّما جازت تبعًا للمساقاة، بل جازت مستقلة، ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة؛ قياسًا على القراض؛ فإنّه جائز بالإجماع، وهو كالمزارعة في كل شيء، ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة. وأمَّا حديث النَّهي عن المخابرة، فتقدم الكلام عليه في آخر باب: ما نهي عنه من البيوع، وقد صنف ابن خزيمة وغيره كتبًا في جواز المزارعة، واستقصوا وأجادوا، وأجابوا عن أحاديث النَّهي، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا أَكثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا؛ فَكُنَّا نكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَن لَنَا هَذِه، وَلَهُمْ هَذِه، فَرُبَّما أَخْرَجَتْ هَذِه، وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِه، فنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الوَرِقُ، فَلَمْ يَنْهَنَا عنه (¬1). ولِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَألْتُ رَأى بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأسَ بِهِ (¬2). إنَّما كان النَّاسُ يُؤاجِرونَ عَلَى عَهْدِ رسولِ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - بما على المَاذِيَانَاتِ، وأَقْبالِ الجَدَاولِ، وأشياءَ من الزَّرْع، فَيَهْلِكُ هَذَا، ويَسْلَمُ هَذَا، ويَسْلَمُ هَذَا ويَهْلِكُ هَذَا، ولَمْ يكُنْ للنَّاسِ كِرَاءٌ إلَّا هَذَا، فَلِذلكَ زَجَرَ عَنْهُ، فأمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأسَ بِه. الماذيانات: الأنهار الكبار، والجداول: النهر الصغير. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2573)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في المزارعة، ومسلم (1547)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق. (¬2) رواه مسلم (1547)، (3/ 1183)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق.

تقدَّم الكلاَمُ على رافع بن خديج قريبًا. وأَمَّا حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ؛ فهو زرَقيٌّ، أنصاريٌّ، مدنيٌّ، تابعيٌّ، ثقةٌ، وكان قليلَ الحديث، روي له البُخاريّ ومسلم وغيرهما، واسم جدِّه: عمرو بن حصن بن خلدة بن مخلد، -بضم الميم- بن عامر بن زريق، وروى حنظلة عن: عمر، وعثمان، وعبد الله بن الزُّبير، وأبي هريرة، ورافع بن خديج، وعبد الله بن عامر بن كريز، وروى عنه: يَحْيَى بن سعيد الأنصاري، وربيعةُ بن أبي عبد الرحمن، وعثمان بن محمد الأخنسي، والزهري، وقال: ما رأيت رجلًا أحزمَ ولا أجودَ رأيًا من حنظلةَ بن قيس، كأنَّهُ رجل من قيس (¬1)، والله أعلم (¬2). وأَمَّا الحقل: فهو الأرض التي تزرع، ويسمِّيه أهلُ العراق: القراح، وجمع الحقل: محاقل، وواحدها مَحْقَلَة، من الحقل، وهو الزرع، والمَبْقَلَة من البقل، وتقدم تفسير المحاقلة في باب: ما ينهى عنه من البيوع. وأَمَّا الكِرَاء: فهو ممدود؛ وهو الإيجار. والماذِيَانَات: بذال معجمة مكسورة، ثم ياء مثناة تحت، ثم ألف، ثم نون، ثم ألف، ثم، مثناة فوق، وحكى القاضي عياض عن بعض الرواة في غير مسلم: فتح الدال، وهو غريب، وهذه اللفظة معربة؛ ليست عربية، معناها: مَسايلُ المياه، وقيل: ما ينبت على حافَتي مَسيل، وقيل: ما ينبت حول السواقي، وقد فسرها المصنف بالأنهار الكبار (¬3). وأمَّا قوله: وأَقبال الجداول؛ فأقبال: بفتح الهمزة، ثم القاف، وهي أوائلها ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 73). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 73)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 88)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 173)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 453)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 155)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 55). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 376)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 198)، و "لسان العرب" لابن منظور (13/ 403)، (مادة: مذن).

ورؤوسها، والجَدَاولُ: جمع جَدْوَل، وقد فسَّره المصنِّف بالنهر الصغير، وهو كالساقية الكبيرة. ومعنى ذلك: أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده، على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، أو هذه القطعة، والباقي للعامل، فنُهوا عن ذلك؛ لما فيه من الغرر؛ فربما هلك هذا دون ذلك، وعكسه، والله أعلم. وأما أحكام الحديث: ففيه دليل: على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، وردٌّ على من منعه مطلقًا، والأحاديث المطلقة بالنهي عن كِرائها تفسِّر هذا الحديث؛ أن المراد: بما عدا الذهب والفضة، وتقدَّم اختلاف العلماء في هذه المسألة، في آخر باب: ما ينهى عنه من البيوع، والجواب عن اختلاف الأحاديث فيها، والله أعلم. وفيه دليل: على أنه لا يجوز أن تكون الأجرة شيئًا غير معلوم المقدار عند العقد؛ لمنعه ذلك على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، والزجر عنه بالإجارة، فدلَّ على أن الجهالة فيها لم تغتفر. وفيه دليل: على جواز كرائها بشيء معلوم مضمون في الذمَّة من الطعام؛ لقوله في الحديث: "فَأمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ"، وجواز ذلك هو مذهب الشَّافعي، ومنعه هو مذهب مالك، وقد أشعر بعض روايات الصحيح بالجواز؛ بقوله: نهى عن كراء الأرض بكذا، إلى قوله: أو بطعام يسمى. وفيه دليل: على أن فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وقولهم بالأمر في عهده - صَلَّى الله عليه وسلم - مرفوع حجة، يجب العمل به، والرجوع إليه. وفيه دليل: على وجوب الرجوع إلى ذلك بإخبار واحد ونحوه عنهم، وأنه لا يشترط المتواتر في ذلك. وفيه دليل: على وجوب الرجوع إلى الحق والعمل به من غير توقف ولا مناظرة، والله أعلم.

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ جَابر بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -[بالعُمرَى] لِمَن وُهِبَتْ له (¬1)، وفي لفظ: "مَن أُعْمِرَ عُمرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّها لِلَّذِي أُعْطِيهَا، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعطَاهَا؛ لأنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيِه المَوَارِيثُ" (¬2). وَقَالَ جَابِرٌ: إنَّما العُمرَى الَّتي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - أَن يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبكَ، فَأَمَّا إذا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشتَ، فَإِنَّها تَرْجعُ إلَى صاحِبِهَا" (¬3). وفي لفظِ: "أَمْسِكُوا عَلَيكُمْ أَموَالَكُمْ، وَلَا تُفسِدُوهَا؛ فَإنَّهُ مَن أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أُعمِرَهَا حَيًّا ومَيِّتًا، وَلِعَقِبِه" (¬4). أما العمرى: فهي مأخوذة من العمر، كالرُّقبى من المراقبة، كأنَّ كلَّ واحد منهما يراقب عمر صاحبه بموته، وفي العمر ثلاث لغات: ضم العين والميم، وضمها وإسكان الميم، وفتحُها وإسكان الميم. ومعنى العمرى: تمليكُ المنافع وإباحتها مدة العمر، لقوله: جعلت لك هذه الدار عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو حييت، أو بقيت، أو أعمرتكها، أو ما يفيد هذا المعنى (¬5). وقولُه: "وَلِعَقِبِكَ"؛ فالعَقِبُ: أولاد الإنسان ما تناسلوا، وهو بفتح العين وكسر القاف وإسكانها. وقولُه: "لأنَّه أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيه المَوَارِيثُ"؛ يريد أنها التي شرط فيها له ولعقبه. ولفظ الحديث يدل على التقييد بذلك، قال بعضهم: ويحتمل أن يكون ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2482)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: ما قيل في العمرى والرقبى، ومسلم (1625)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬2) رواه مسلم (1625)، (3/ 1245)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬3) رواه مسلم (1625)، (3/ 1246)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬4) رواه مسلم (1625)، (3/ 1246)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 87)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 70).

المراد صورة الإطلاق من غير تقييد بذكر العقب، ويؤخذ كونه وقعت فيه المواريث من دليل آخر، لكنه بعيد من تنصيص الحديث؛ بقوله: "مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ" إلى آخره. وقول جابر - رضي الله عنه -: "إِنَّما العُمْرَى الّتي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - "؛ أي: التي أمضى، وجعلها للعقب، لا تعود، ولا ترجع إلى صاحبها، وقد نصَّ على أنه إذا أطلق بمدة العمر، أنها ترجع، وهو تأويل منه، ويجوز أن يكون رواه عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من حيث اللفظ، فإن كان مرويًّا، فلا إشكال في العمل به، وإن لم يكن مرويًّا، فهو يرجع إلى تأويل الصحابي الراوي، هل يكون مقدمًا؛ من حيث إنه يقع له قرائن تورثه العلم بالمراد، لا يمكن تغييره عنها، والله أعلم. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوها" إلى آخره؛ المراد به: إعلامهم أن العمرى فيه صحيحة ماضية يملكها الموهوب له ملكًا تامًّا، لا يعود إلى الواهب أبدًا، فإذا علموا ذلك، فمن شاء أعمر ودخل على بصيرة، ومن شاء ترك؛ لأنهم كانوا يتوهمون أنها كالعارية، يرجع فيها. واعلم أن العمرى تقع على وجوه: أحدها: أن يصرح بأنها للمعمَر، فلورثته من بعده، فهذه هبة محققة يأخذها الوارث بعد موته، ولا تعود إلى الواهب المعمِر أصلًا، بل إن لم يكن لمن أعمرها وارث، كانت لبيت المال. وثانيها: أن يعمرها مدة حياته، ولا يشترط الرجوع إليه، ولا التأبيد، بل يطلق، وفي صحتها خلاف للعلماء، وهو قولان للشافعي: الجديد: صحته، وهو الصحيح عند أصحابه. والثاني: وهو القديم: أنه باطل. وقال بعض أصحاب الشَّافعي: القديم: أن يكون للمعمر حياته، فإذا مات عادت إلى الواهب، أو ورثته؛ لأنَّه خصَّه بها حياته فقط، وقال بعضهم: القديم: أنها عارية يستردها الواهب متى شاء، فإذا مات، عادت إلى ورثته.

ولا شك أن الصحة في هذه المُطْلقة أولى من المقيدة بعودها إليه بعد عود الموهوب له، أو إلى ورثته؛ لعدم اشتراط شرط يخالف مقتضى العقد، والذي ذكر في الحديث؛ من قوله: قضى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بالعمرى، يحتمل حمله على هذه الصورة من الإطلاق، وهو أقرب؛ إذ ليس في اللفظ تقييد، ويحتمل على أن يحمل على ما أعمره مدة حياته مقيدًا، برجوعها إليه بعد موته، وهو مبين بالكلام في الرواية الأخرى، ويحتمل أن يحمل على جميع الصور المطلقة والمقيدة، إذا قيل: إن مثل هذه الصيغة من الراوي تقتضي العموم، وفي ذلك خلاف بين الأصوليين. وثالثها: أن يعمرها ويشترط الرجوع إليه بعد موت المعمَر، وفي صحتها خلاف عند أصحاب الشَّافعي: الأصح عندهم: الصحة؛ لإطلاق الأحاديث في العمرى من غير تقييد، وعدلوا بذلك عن قياس الشروط الفاسدة؛ تقديمًا اقتضى الحديث على القياس، وإنَّما جرى الخلاف في هذه الصورة؛ لما فيها من تغيير وضع الهبة. وفي هذا الحديث أحكام: منها: صحة العمرى مطلقًا. ومنها: أن الموهوب له يملكها ملكًا تامًّا، يتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وبصحتها وملكها قال الشَّافعي وأصحابه، وقال أحمد: تصحُّ العمرى المطلقة دون المؤقتة، وقال أبو حنيفة: بنحو مذهب الشَّافعي، وهو قول الثوري، والحسن بن صالح، وأبي عبيد، وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الشيء المعمور دون رقبته؛ كمنافع الدار مثلًا، دون رقبتها. ومنها: الأمر بإصلاح الأموال باتِّباع الشرع في التصرف فيها قبضًا وصرفًا. ومنها: النَّهي عن إفسادها بمخالفة الشرع قبضًا وصرفًا. ومنها: أن الهبة يملكها الموهوب له مدة حياته، وتورث بعده، ولا يرجع فيها الواهب، لا في حياته، ولا بعد موت من وهبت له.

الحديث الحادي عشر

ومنها: أن الموت والإرث يقطع جميع الأملاك. ومنها: أن الحيل المحرمة والمكروهة مفسدة للأموال، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ"، ثمّ يقولُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللهِ لأَرْميَنَّ بِهَا بينَ أَكْتَافِكُمْ (¬1). وَأَمَّا قولُه - صَلَّى الله عليه وسلم -: "خَشَبةً"؛ فروي بالإفراد، والجمع؛ أما رواية الإفراد: فقال الطحاوي، عن روح بن الفرج: سألت أبا زيد، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى عنه، فقالوا كلهم: "خَشَبَةً" بالتنوين على الإفراد، وقال عبد الغني بن سعيد: كلُّ النَّاس يقولونه بالجمع، إلَّا الطحاوي، وقال القاضي عياض - رحمه الله -: روينا قوله: "خشبة" في "صحيح مسلم" وغيره من الأصول والمصنفات: "خشبةً" بالإفراد، و: "خَشَبَهُ" بالجمع (¬2). وقولُه: "لأَرْميَنَّ بِهَا بَينَ أكتَافِكُم"، الضمير في "بها" وبعده في "عنها"، عائد إلى غير مذكور لفظًا، بل معنى، وهو السنة، أو الخصلة، أو الموعظة، أو الكلمات، وفي "سنن أبي داود": فنكسوا رؤوسهم، فقال: ما لي أراكم أعرضتم؟! (¬3). وقوله: "أَكْتَافِكم": رُوي بالتاء المثناة فوق، وقال القاضي عياض - رحمه الله -: ورواه بعض رواة "الموطأ": أكنافكم -بالنون-؛ ومعناه: بينكم، والكنف: أيضًا الجانب، ومعنى رواية التاء المثناة فوق؛ أني أصرح بها بينكم، ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2331)، كتاب: المظالم، باب: لا يمنع جاره أن يغرز خشبه في جداره، ومسلم (1609)، كتاب: المساقاة، باب: غرز الخشب في جدار الجار، وهذا لفظ البُخاريّ. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 247)، و "شرح مسلم" للنووي (11/ 47). (¬3) رواه أبو داود (3634)، كتاب: الأقضية، باب: أبواب من القضاء.

وأوجعكم بالتقريع بها، كما يُضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه (¬1). وفي هذا الحديث أحكام: منها: مراعاةُ حقِّ الجار في كلِّ شيء، حتَّى في دخول الضَّررَ عليه فِي ملكه. ومنها: تقديمُ حق الشرعِ على حظِّ النفس في الأملاك. ومنها: قبول حكم الشرع، وإن كرهته النفس، والانشراح له من غير إعراض عنه. ومنها: عدم منع الجار من وضع خشبة على حائط جاره عارية، بشرط إلَّا يؤدي وضعها على الحائط إلى هدمه، فإن أدى وضعها عليه إلى هدمه، وجب منعه إجماعًا؛ لأنَّه ليس احتمال أحد الضررين بأولى من الآخر. واختلف العلماء في المنع، إذا لم يكن ضرر، هل هو للتحريم، أم للكراهة؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما: وهو نصُّه في "القديم"، وفي "البويطي" -وهو من كتب الشَّافعية الجديدة-: التحريم، قال البويطي في باب اختلاف مالك والشافعي: وقال مالك: للجار أن يمنع جاره أن يغرز خشبة في جداره، وقال الشَّافعي: ليس له أن يمنعه. والثاني: وهو نصُّه في الجديد: أنه لا يجب عليه تمكينه من وضعها على حائطه، بل الأمر بوضعها عليه للندب، وحمل الحديث إذا كان بصيغة النَّهي على كراهة التنزيه، أو الاستحباب، إذا كان بصيغة الأمر. ونقل الخلاف في مذهب مالك -أيضًا-، ورجح أصحابه الندب أو الكراهة، وهو قول أبي حنيفة، والكوفيين، وبالوجوب قال أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وأصحاب الحديث؛ لظاهر قول أبي هريرة، وإشعاره بالوجوب، فقوله: "ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم"، وهو يقتضي التشديد، ولحوق المشقة والكراهة لهم؛ لأنهم فهموا الندب من الحديث، لا الإيجاب، ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 335)، (1/ 343).

الحديث الثاني عشر

فقال لهم أبو هريرة - رضي الله عنه - ذلك ردًّا لِمَا فهموه من أنَّ الأمر للندب لا للإيجاب، والله أعلم. ومنها: المبادرة إلى العمل بالسُّنَّة ندبًا كانت أو وجوبًا. ومنها: وجوب إظهار العلم والتكلم به، سواء عمل به، أو لم يعمل به؛ فإن المطلوب منه إبلاغه، والعمل به، فإذا فات العمل، لم يفت الإبلاغ. ومنها: أن العالم إذا فهم من أصحابه الإعراض عن السنة والعمل بها، أن يعلمهم بما فهمه منهم، ويغلظ عليهم في القول، سواء كان الإعراض بالفعل، أو القول، أو بالحال. ومنها: إقامة الحجة على المخالفين، وإظهارها لهم؛ لبراءة الذمة منها، والله أعلم. * * * الحديث الثَّاني عشر عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طَوَّقَهُ اللهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" (¬1). أَمَّا قولُه - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ"؛ فالقِيد: بكسر القاف وإسكان الياء؛ أي: قدر شبر، يقال: قِيد وقَاد وقِيس وقاس، بمعنى واحد، وقيده بالشبر؛ للمبالغة والتنبيه على ما زاد عليه؛ فإنَّه أَولى منه (¬2). وقولُه: "طَوَّقَهُ"؛ أي: جعل له طوقًا في عنقه، كالغُلِّ، كما قال -سبحانه وتعالى-: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وقيل: معناه: أنه يطوق إثم ذلك، ويلزمه كلزوم الطَّوق في العنق، فعلى المعنى الأول، ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2321)، كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض، ومسلم (1612)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 50).

يطول الله في عنقه، كما جاء في غلظ جِلْد الكافر وعِظَم ضِرْسِه. وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"؛ الأَرَضُون: بفتح الراء، ويجوز إسكانها في لغة حكاها الجوهري وغيره، وهذا الحديث مصرِّح بأنَّ الأَرَضينَ سبعُ طبقات (¬1)، وهو موافق لقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. وأمَّا تأويل المثلية على الهيئة والشكل، فخلاف الظاهر، وكذا قول من قال: المراد بالحديث: سبع أرضين من سبع أقاليم؛ لا أن الأرضين سبع طبقات، وهو تأويل باطل أبطله العلماء بأنه لو كان كذلك، لم يطوق الظالم الشبر من هذا الإقليم شيئًا من إقليم آخر؛ بخلاف طباق الأرض؛ فإنَّها تابعة لهذا الشبر في الملك، فمن ملك شيئًا من هذه الأرض، ملكه وما تحته من الطباق. قال القاضي عياض - رحمه الله -: وقد جاء في غلظ الأرضين وطباقهن وما بينهن حديث ليس بثابت، والله أعلم (¬2). وفي هذا الحديث دليل: على تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته. وفيه دليل: على إمكان غصب الأرض، وهو مذهب الشَّافعي وجمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يتصور غصب الأرض. وفيه تنبيه: على أن من ملك أرضًا يملكها إلى قرارها، وهذا لا خلاف فيه، كما يملك الهواء تبعًا للملك. وفيه دليل: على أن بعض العقوبات تكون من جنس المعاصي في الصورة، أو أزيدَ؛ للتنفير عن المعصية، وهذه العقوبة مقيدة بعدم التوبة من هذه المعصية، فأمَّا من تاب منها بشروطها، وردَّ الظلامة، أو التحللَ من أربابها منها، فلا تطويقَ عليه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق: (11/ 48). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

باب اللقطة

بَابُ اللُّقَطَة عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالدٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اللُّقَطَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الوَرِقِ؟ فَقَالَ: "اِعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإنْ لَمْ تَعْرِفْ، فَاسْتنفِقْهَا، وَلْتكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِذا جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ"، وَسَأَلهُ عَنْ ضَالَّةِ الإبِلِ، فَقَالَ: "مَا لَكَ وَلَهَا؟! دَعْهَا؛ فَإنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَها، تَرِدُ المَاءَ، وَتَأكُلُ الشَّجَرَ، حتَّى يَجِدَهَا رَبُّها"، وَسَأَلَهُ عَنِ ضالَّةِ الشَّاةِ، فَقَالَ: "خُذْهَا؛ فَإنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ" (¬1). أَمَّا زيدُ بنُ خالدٍ الجهني: فهو من جُهينة، ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة، يكنى: أبا عبد الرحمن، ويقال: أبو طلحة. روي له عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أحد وثمانون حديثًا، اتفقا على خمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثلاثة أحاديث، روى عنه جماعة من التابعين، مات بالمدينة، وقيل: بالكوفة سنة ثمان وستين، وقيل: سنة ثمان وسبعين، وهو ابن خمس وثمانين سنة، ورى له أصحابُ السُّنَنِ والمساند (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (91)، كتاب: العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، ومسلم (1722)، في أول كتاب: اللقطة، وهذا لفظ مسلم. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 344)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 562)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 139)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 549)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 355)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 199)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 63)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 603)، =

وأمَّا اللقطة: فتقدمت لغاتها في كتاب الحج. وأَمَّا الأَمرُ بمعرفةِ وِكائِهَا وعِفاصِها: لِيُعلم صدقُ واصِفِها من كذبه؛ لتكون معرفته وسيلة إلى ذلك بذكر المالك لما عرفه الملتقطُ، وسُمِّي الملتقَط لقطةً -بفتح القاف-، وقياسه أن يكون لمن يكثر منه الالتقاطُ؛ كالهزأة والضُّحَكة وأمثاله. والوِكَاءُ: بالمدِّ وكسر الواو، وهو ما يُربط به الشيء، من صرة وغيرها، بخيط ونحوه. والعِفَاصُ: أصلُه: الجلدُ الذي يلبس رأس القارورة، ثم استعمل في الوعاء، فغلب فيه. وقوله: "فَإِن لَم تَعرِفْ، فاسْتنَفِقها"، الأمر باستنفاقها أمر إباحة لا وجوب، بلا خلاف. وقولُه: "ولْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ"، لفظ الوديعة مع الاستنفاق مجاز؛ فإن الوديعة تدل على الأعيان، وإذا استنفقت اللقطة، خرجت عن كونها عينًا، ويجوز ذكرها مع الاستنفاق بلفظ الوديعة؛ من حيث إنه إذا جاء ربها وطلبها، وجب ردُّها إليه كما يجب ردُّ سائر الأمانات. ويحتمل أن تكون الواو في قوله: "وَلتكُنْ وَدِيعَةً"؛ بمعنى "أو" فيكون حكمها حكم الودائع والأمانات إذا لم يتملكها؛ فإنَّها تكون أمانة عنده كالوديعة. وقولُه: "فَإنْ جَاءَ صَاحِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إلَيْهِ"؛ يعني: إذا تحقَّق صدقُ صاحبها أنها له، إما بوصفه لها، أو بأمارة، وإما ببينة -على اختلاف بين الفقهاء في ذلك-، فإنّه يجب ردُّها إليه بعد تعريف الملتقط إياها. وقولُه: "وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا! دَعْهَا؛ فَإنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّها"؛ لا تقع الضَالَّة إلَّا على ¬

_ = و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 354).

الحيوان، يقال: ضَلَّ البعير، والإنسان، وغيرهما من الحيوان، وهي الضوال، وأمَّا الأمتعة، فتسمى لقطة، ولا تسمى ضَالَّة، قاله الأزهري (¬1). ولما كانت الإبل مستغنية عن الحافظ والمتعهد والنفقة عليها؛ بما رُكَّب في طبعها من الجلادة على العطش والحفاء، عبر عنهما بالحذاء والسقاء مجازان؛ كأنها استغنت بقوتها عن الماء والحذاء، فلا حاجة إلى التقاطها؛ لعدم الجور عليها. وقوله: "وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ، فَقَالَ: خُذهَا؛ فَإنَّما هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ"؛ يريد: الشَّاةِ الضَّالة، ولمَّا كانت الشَّاةِ عاجزة عن القيام بنفسها بغير حافظ ومتعهد، وخيف عليها الضياع إن لم يلتقطها أحد، وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها، أو التساوي بين السائل عنها، وبين غيره من النَّاس إذا وجدها، اقتضى الإذن في التقاطها بأخذها؛ لأنَّه لا بد منه، إما لهذا الوجه، أو لغيره ممَّا ذكر، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: جوازُ أخذِ اللقطة، وهل هو مستحبٌّ أو واجب؟ فيه خلاف وتفصيل. ومنها: وجوب التعريف سنة، وظاهر الحديث: أنه لا فرق بين القليل والكثير في وجوب التعريف وفي مدته، وقد اختلف أصحاب الشَّافعي فيه، والمختار عند الأكثرين منهم: أنه يكفي تعريف القليل زمنًا يُظن أن فاقده يعرض عنه غالبًا، وأن هذا حد القليل. ومنها: إباحة استنفاقها بعد تملُّكها. ومنها: أن الملتقط أولى بذلك من غيره. ومنها: وجوب ردِّها إلى صاحبها بعينها، أو بما يقوم مقامه بعد تعريفها، وبعد استنفاقها أو تملُّكها إذا تحقق صدقه بطريقه، وقال الكرابيسي من الشَّافعية: ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 265)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 236).

لا يلزمه ردُّها ولا ردٌّ بدلها، وهذا منابذ للحديث، ليس بمذهب. ومنها: امتناع التقاط ضالَّة الإِبل، إذا امتنعت بقوتها عن حفظها، وقال أبو حنيفة: يجوز التقاطُها بكلِّ حال. ومنها: التقاطُ ضالَّة الشَّاةِ، إذا خِيف إتلاف ماليتها على مالكها. ومنها: أن الضالَّة لا يزولُ اسمُ ملكِ صاحبِها عنها بضلالها، وأَنَّهُ متى وجدها أخذها. * * *

باب الوصايا

بَابُ الوَصَايَا الوَصَايا: جَمْعُ وَصِيَّة؛ كهَدِيَّة وهَدَايا، وقَضِيَّة وقَضَايا، وهي مشتقة من وصيت الشيء أَصيه إذا وصلته. وسميت وَصِيَّة؛ لأنَّه وصل ما كان في حياته بما بعده، ويقال: وَصَّى وَأوْصَى -أيضًا-، والاسم: الوَصِيَّةُ والوصايا (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا حَقُّ امْرِىٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" (¬2). زاد مسلم: قَالَ ابنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ منذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذَلِكَ، إلَّا وَعِنْدِيِ وَصِيَّتي (¬3). أعلم أن لفظ الحديث دالٌّ على الحثِّ على الوصيّة لمن له شيء يوصي فيه، أَمَّا من عليه حقوق مالية، وله مال، ولم يبق له وقت في الحياة ما يسع وفاه بنفسه، ولا بغيره؛ فإن الوصيّة بذلك واجبة حتمًا متعينة، ولا يدخل ذلك في ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 394)، (مادة: وصي)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 365). (¬2) رواه البخاري (2587)، كتاب: الوصايا، باب: الوصايا، ومسلم (1627)، (3/ 1249)، في أول كتاب: الوصية. (¬3) رواه مسلم (1627)، (3/ 1250)، في أول كتاب: الوصية.

لفظ الحديث، إلَّا أن يتناول لفظة: "لَهُ شَيءٌ يُوصِي فيهِ" بمعنى: عليه، ويكون "فيه" بمعنى "به". وقد أجمع المسلمون على الأمر بالوصيَّة، لكن مذهب الشَّافعي، وجمهور العلماء: أن الأمر بها للندب، لا للوجوب، وقال داود، وغيره من الظاهرية وغيرهم: هو للوجوب؛ للحديث، ولا دلالة فيه لهم؛ لعدم التصريح به. وأَمَّا تأكيد الأمر بها، والحثُّ عليها، فهو ظاهر فيه، إلَّا أن يحمل على من عليه دين، أو عنده وديعة ونحوه، فإنّه يجب الإيصاء بذلك قطعًا، قال الشَّافعي -رحمه الله تعالى-: معنى الحديث: ما الحزم والاحتياط للمسلم، إلَّا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، فيستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحَّته، ويُشهد عليها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد له أمر يحتاج إلى الوصيَّة به، ألحقه، والله أعلم. قال العلماء: ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات، وجزئيات الأمور المتكررة؛ كالشيء الذي جرت العادة بتداينه ورده على قرب، وكأنهم راعوا في ذلك المشقة. أَمَّا الوصيَّة بالتطوعات في القربات، فإن ذلك مستحبٌّ الوصيَّةُ به قطعًا، فكأن الحديث يحمل على الوصيَّة بالواجبات، ورخَّص في الليلتين أو الثلاث ليال في رواية في "صحيح مسلم"؛ دفعًا للحرج والعسر فيها. وفي الحديث أحكام: منها: الحثُّ على الوصيَّة. ومنها: أنها لا تشرع لمن ليس له شيء يوصي فيه، ولا به. ومنها: جواز العمل بالكتابة فيها، وبه قال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحاب الشَّافعي - رحمه الله - قال: يكفي الكتابُ فيها من غير إشهاد؛ لظاهر الحديث، وقال الشَّافعي - رضي الله عنه -، وجمهور العلماء: يُشترط الإشهاد عليها؛ لئلا تردّ ولا يعمل بها، فإن أرادوا بالاشتراط لحق الشرع،

الحديث الثاني

فممنوع، وإن أرادوا به لخوف فوات العمل بها، وعدم نفوذها عند نزاع الورثة وغيرهم، فمسلم، وعلي ذلك ينزل الخلاف، والله أعلم. ومنها: منقبة ظاهرة لابن عمر - رضي الله عنهما -، وفضيلته؛ لمبادرته إلى امتثال أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومواظبته عليه. ومنها: جواز ذكر الإنسان عمله بالسنة، ومواظبته عليها؛ ليُقتدى به في ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودني عَامَ حَجَّةِ الوَدَاع، مِن وَجَع اشتد بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَد بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأنا ذو مَالٍ، وَلَا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ، أفأتصدق بِثُلُثَي مَالِي؟ قَالَ: "لا"، قُلتُ: فَالشطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَّا"، قُلْتُ: فالثُّلُثُ؟ قَالَ: "الثلُثُ، والثلُثُ كثير، إنكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتكفَّفُونَ النَّاسَ؛ فَإنكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ، إلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَل فِي فِي امْرَأَتِكَ"، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: "إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، إلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتَفعَ بكَ أَقْوامٌ، ويُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أًعْقَابِهِمْ، لَكِنِ البَائسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَة"؛ يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ مَاتَ بمكَّة (¬1). أَمَّا سعدُ بنُ أبي وَقاص؛ فكنيته: أبو إسحاق، واسم أبيه: مالكُ بن أهيب بن عبد منافِ بنِ زهرةَ بنِ كلابِ بن مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بن غالبٍ، القرشيُّ، الزهريُّ، يلتقي مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عند الأب الخامس، وهو كلابُ بنُ مرةَ. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (1233)، كتاب: الجنائز، باب: رثاء النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سعد بن خولة، ومسلم (1628)، كتاب: الوصية، باب: الوصيَّة بالثلث.

أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان سابع سبعة في إسلامه، أسلم بعد ستة، ورُوي عنه أنه قال: أسلمت وأنا ابن تسعَ عشرة سنة، وروي عنه أنه قال: أسلمت قبل أن تفرض الصلوات، وشهد بدرًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهو أحد الستة الذين جعل عمر - رضي الله عنه - الشورى بينهم، وأخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو عنهم راضٍ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان مجاب الدعوة، مشهورًا بذلك، تُخاف دعوته وتُرجى؛ لاشتهار إجابتها عندهم؛ وذلك لأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ، وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ" (¬1). وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، وذلك في سرية عبيدة بن الحارث، ويروى أنه قال في معنى ذلك: أَلا هَلْ جاءَ رسولَ اللهِ أَنِّي ... حَمَيْتُ صَحابَتي بِصُدُورِ نَبْلي أَذودُ بها عَدُوهُمُ ذِيادًا ... بِكُلِّ حُزُونَةٍ وبِكُلِّ سَهْلِ فَما يعتدُّ رامٍ من مَعَدٍّ ... بِسَهْمٍ مع رسولِ اللهِ قبلي (¬2) وجمع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - له وللزبير أبويه، فقال لكل واحد منهما: "ارمِ فداكَ أبي وأمي"، ولم يفعل ذلك لغيرهما، فيما يقولون. وروي أنه أقبل على عهد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقال له: "أنت خالي" (¬3)، وكان يقال له: فارس الإسلام، وكان أحدَ الفرسان الشجعان في قريش الذين يحرسون رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في مغازيه، وهو الذي كَوَّفَ الكوفةَ، ونفى الأعاجم، وتولَّى قتالَ ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 388)، عن أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 142)، والحاكم في "المستدرك" (6112)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 318). (¬3) رواه التِّرمذيُّ (3752)، كتاب: المناقب، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص، وقال: حسن غريب، وأبو يعلى في "مسنده" (2049)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (211)، والطبراني في "المعجم الكبير" (323)، والحاكم في "المستدرك" (6113)، وغيرهم، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

فارس، أمَّره عمر - رضي الله عنه - على ذلك، ففتح الله على يديه أكثر فارس، وله كان فتح القادسية وغيرها، وكان أميرًا على الكوفة، فشكاهُ أهلُها، ورموه بالباطلِ، فدعا على الذي واجهه بالكذب عليه دعوةً ظهرتْ إجابتها، وعزلَهُ عمرُ حين شكاهُ أهلُ الكوفة في سنة إحدى وعشرين، وولى عمارَ بنَ ياسر الصلاةَ، وعبدَ الله بنَ مسعود بيتَ المال، وعثمانَ بن حُنيف مساحةَ الأرضين، ثم عزل عمارًا، وأعاد سعدًا على الكوفة ثانية، ثم عزله، وولى جبيرَ بنَ مطعم، ثم عزله قبل أن يخرج إليها، وولَّى المغيرةَ بن شعبة، فلم يزل عليها حتَّى قتل عمر، فأقره عثمانُ يسيرًا، ثم عزله، وولى سعدًا، ثم عزله، وولى الوليد بنَ عقبة. وقيل: إن عمر لما أراد أن يعيد سعدًا - رضي الله عنه - على الكوفة، أبي عليه، وقال: أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن أصلي؟! فتركه، فلما طُعن عمرُ - رضي الله عنه -، وجعله أحدَ أصحاب الشورى، قال: إنْ وليها سعدٌ، فذاك؛ وإلا فليستعنْ به الوالي؛ فإني لم أعزلْه عن عجزٍ، ولا خيانة. وكان سعد ممن قعد ولزم بيته في الفتنة، وأَمَر أهله أَلَّا يخبروه من أخبار النَّاس بشيء حتَّى تجتمع الأمةُ على إمامِ، وسئل عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن الذين قعدوا عن بيعته، فقال: أولئك قوم خذلوا الحق، ولم يبصروا الباطل. رُوي له عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مئتا حديث، وسبعون حديثًا، اتفقا على خمسة عشر منها، وانفرد البُخاريّ بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، وروى عنه من الصحابة: ابن عمرو، وابن عباس، وجابر بن سمرة، والسائب بن يزيد، وعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنهم-، ومن التابعين: أولاده: محمد، وإبراهيم، وعامر، ومصعب، وابن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وخلق كثير سواهم، ورى له أصحاب السنن والمساند، مات بقصره بالعقيق، على عشرة أميال من المدينة، وحُمل على أعناق الرجال إلى المدينة، ودُفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم.

واختلف في تاريخ وفاته، فالأصح أنه: سنة خمسٍ وخمسين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: ثمان وخمسين، وله ثلاث سبعون سنة، وقيل: أربع وسبعون، وقيل: اثنتان وثمانون سنة، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وكان يقول: يوم بدر أنا ابنُ تسعَ عشرةَ سنة، ويقال: ابن أربع وعشرين، والله أعلم (¬1). وأَما تفدية النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - له بأبويه، فهو ثابت في "الصحيحين" من رواية عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: ما سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - جمعَ أبويه لأحد إلَّا لسعد (¬2)، وأمَّا تفديته - صَلَّى الله عليه وسلم - للزبير، وجمعُهما له، فذكرها الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "استيعابه" (¬3)، والله أعلم، ولا يلزم من عدم سماع عليّ - رضي الله عنه - جَمعَ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أبويه لغير سعد، ألا يكون جمعهما لغيره، والله أعلم. في الصحابة من اسمه سعد بن مالك، غيره: أبو سعيد الخدري، اسمه سعد بن مالك بن سنان، وسعد بن مالك بن خلد من بني ساعدة من الأنصار، وهو والد سهل بن سعد الساعدي، وسعد بن مالك العذري، قَدِم في وفد عذرة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا سعدُ بن خولة، فقال ابن عبد البر: من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 137)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 43)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 565)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 92)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 606)، و "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 144)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 280)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 452)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 207)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 309)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 92)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 73)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 419). (¬2) رواه البُخاريّ (3833)، كتاب: المغازي، باب: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران: 122] ومسلم (2411)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 607).

عند بعضهم، وقيل: هو حليف لهم، وقيل: مولى ابن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وقيل: هو من اليمن، حليف لبني عامر بن لؤي، وقيل: كان من عجم الفرس، وكان من مهاجرة الحبشة الهجرة الثَّانية، وذكر البُخاريّ: أنه هاجر، وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكّة ومات بها، وممن عده في البدريين: ابنُ عقبة، وقد ثبت في "الصحيحين" عن سبيعة: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهي في بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرًا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، ذكره المصنف في باب العدة، وقيل: لم تهاجر من مكّة حتَّى مات، وقال ابن هشام: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثَّانية، وشهد بدرًا وغيرها، توفي بمكة سنة عشر، وقيل: توفى بها سنة سبع في الهدنة، خرج مختارًا من المدينة إلى أرض مكّة، فعلى هذا سبب بؤسه موته بمكة، على أي حال كان، وإن لم يكن باختياره؛ لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه، الذي هجره لله تعالى (¬1). قال القاضي عياض - رحمه الله -: وقد روي في هذا الحديث: أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلًا، وقال له: "إن تُوفي بمكة، فلا تدفنْه بها" (¬2)، وذكر مسلم في رواية في "صحيحه": أنه كان يكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها (¬3)، وفي رواية أخرى لمسلم: قال سعد بن أبي وقاص: خَشيتُ أن أموت بالأرض التي هاجرت منها (¬4)، كما مات سعدُ بن خولة، وسعدٌ هذا، هو زوج سبيعة الأسلمية، والله أعلم (¬5). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 408)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 151)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 586)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 575)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 53). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 146)، وابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 392)، عن عبد الرحمن بن الأعرج. (¬3) رواه مسلم (1628)، (3/ 1252)، كتاب: الوصيَّة، باب: الوصيَّة بالثلث. (¬4) رواه مسلم (1628)، (3/ 1253)، كتاب: الوصيَّة، باب: الوصيَّة بالثلث. (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 80).

وقولُه: "وَلَا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ": قال شيخنا الإمام أبو زكريا النووي - رحمه الله -: هذه البنت اسمُها عائشة، ولم يكن لسعد ذلك الوقت ولد إلَّا هذه البنت، ثم عوفي من ذلك المرض، ورُزق أولادًا كثيرين، ومعناه: لا يرثني من الولد، وخواص الورثة، وإلا فقد كان له عَصَبة، وقيل معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض (¬1). وقولُه: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثيِرٌ"؛ أما الثلث الأول: فقال القاضي عياض: يجوز نصبه ورفعه، فالنصب على الإغراء، وعلي تقدير فعل؛ أي: أعطِ الثلث، وأمَّا الرفع: فعلى أنه فاعل؛ أي: يكفيك الثلثُ، أو على أنه مبتدأ خبره محذوف، أو خبر محذوف الابتداء (¬2). وأَمَّا قولُه: "كَثيِرٌ"؛ فوقع في بعض الروايات بالمثلثة، وفي بعضها بالموحدة، وكلاهما صحيح. وقولُه: "أفَأَتصَدَّقُ بِثُلُثَي مَالِي؟ " يحتمل أنه أراد بالصدقة: الوصيةَ، ويحتمل أنه أراد الصدقةَ المنجزة، وهما عند العلماء كافة سواء، لا ينفذ ما زاد على الثلث، إلَّا برضاء الوارث. وخالف أهل الظاهر، فقالوا: للمريض مرض الموت أن يتصدَّق بكلِّ ماله، ويتبرع به؛ كالصحيح، لكنه مرجوح بظاهر قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الثلث، والثلث كثير"، مع حديث الذي أعتق في مرضه ستة أعبد؛ فأعتق - صلى الله عليه وسلم - اثنين، وأرقَّ أربعة (¬3). قولُه - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتكفَّفُونَ النَّاسَ". أَمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتكَ"؛ فهو بفتح الهمزة وكسرها، وكلاهما ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 76). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه مسلم (1668)، كتاب: الأيمان، باب: من أعتق شركًا له في عبد، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -.

صحيح، و "العَالَةُ": الفقراء. و "يتكَفَّفُون"؛ أي: يسألون النَّاس في كلهم. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنَّكَ لَن تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبتَغي بِهَا وَجهَ اللهِ إلَّا أُجِرتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امرَأَتِكَ": النفقات على ضربين؛ واجبة، ومندوبة، وكلا النفقتين لا بد من الأجر عليهما؛ من قصد الطاعة، وابتغاء الثواب عند الله تعالى، وهو بمعنى الاحتساب، ثم الثوابُ من الله تعالى قد يكون جزاءً على العمل، وقد يكون ابتداءَ فضلٍ منه -سبحانه وتعالى-، وكلاهما لا ينتقصان ثوابَ الله تعالى في الآخرة، إلَّا أن يقصد به حظوظ النفوس الدنيوية، فينقصانه في الآخرة، أو يذهبانه. فإذا قُصد بالأعمال المباحة نوعٌ من الطاعات؛ كالإحسان والمؤالفة، أو تقوية على طاعةٍ حثَّ الشرع عليها، ونحو ذلك، صارت عبادة وطاعة، مثاله: الأكل والشرب والنوم والجماع؛ فإن هذه كلها من حيثُ وجودُها مباحة، فإذا قُصِد بفعلها امتثالُ الأمر، أو ما يحصل بفعلها من الخير، ارتفعت بالقصد المذكور من الإباحة إلى الوجوب أو الندب على حسب محلهما من الفعل. وكلُّ هذا راجع إلى قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأعمال بالنيات" (¬1)، وأن العمل يثاب عليه بالنية، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرته بقوله: "حتَّى اللقمة تضعُهَا فِي في امْرَأَتِكَ"؛ حيث إن الإنسان لا يضع اللقمة في في امرأته؛ إلَّا عند ملاعبتها وملاطفتها والتلذذ بالمباح، كيف والمرأة من أخص حظوظ الإنسان الدنيوية، وشهواته وملاذه المباحة؟ فيتحقق أن هذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم -: أنه إذا قصد باللقمة ونحوها وجه الله تعالى، حصل له الأجر بذلك، فغيره من الحالات أولى بحصوله إذا أراد به وجه الله تعالى، مع أنه ثبت في الصحيح: أن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أَرأيتم لو وَضَعَها في حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيهِ وِزْر؟! فَكَذلكَ إذا وَضَعَها في الحَلاَلِ، كَانَ لَهُ أَجْر" لما ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

سمعوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي بُضعِ أَحَدِكُم صدقةٌ" (¬1)؛ فإن ذلك عند الإطلاق يقتضي حصولَ الأجر بمجرد إتيانه شهوته من غير قصد إلى شيء ممَّا ذكر، لكنه لما ثبت في الصحيح ذكرُ النفقة على الأهل والعيال يحتسبها، احتجنا إلى تقييدها بالنية؛ حيث إن الاحتساب لا يحصل إلَّا بالنية، والله أعلم. قولُه: "فقلت: يا رَسُولَ اللهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابي، قالَ: إنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عمَلًا تَبْتَغي بهِ وَجهَ اللهِ تعالى إلَّا ازددْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفعَةً"؛ معناه: أخلف بعد أصحابي بمكة، وإنَّما قال ذلك؛ إشفاقًا من موته بمكة؛ لكونه هاجر منها وتركها لله تعالى؛ خشية أن يقدح تخلفه بعذر المرض في هجرته، أو في ثوابه عليها، أو خشية بقائه بمكة بعد انصراف النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وتخلُّفه عنهم بسبب المرض؛ فإنهم كانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى، وقد جاء في رواية أخرى: "أخلف عن هجرتي؟ " (¬2)، قال القاضي عياض - رحمه الله -: قيل: كان حكم الهجرة باقيًا بعد الفتح؛ لهذا الحديث، وقيل: إنَّما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح، فأمَّا من هاجر بعده، فلا (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَعَلَّكَ أَنَّ نُخَلَّفَ حَتَّى يَتنَفعَ بِكَ أَقوَامٌ، أَوْ يُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ"؛ المراد بالتخلُّف الذي ذكره النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: طولُ العمر والبقاءُ في الحياة بعدَ جماعات من الصحابة، وكان كذلك، فعاش - رضي الله عنه -، وفتح العراقَ، وغيره، وانتفع به أقوامٌ في دينهم ودنياهم، وتضرَّر به الكفار في دينهم ودنياهم؛ فإنهم قتلوا على الكفر، وحُكم لهم بالنار، وسُبيت نساؤهم وأولادهم، وغُنمت أموالهم وديارهم، وولي العراقَ، فاهتدى على يديه خلائق، [و] تضرر به خلائق بإقامته الحق فيهم، وقد قال بعض العلماء من أهل المعرفة: لعل معناها: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1006)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، عن أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البُخاريّ (6352)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث البنات. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 78).

الترجِّي، إلَّا إذا وردت عن الله تعالى ورسله - صلى الله عليه وسلم -، وأوليائه -رضي الله عنهم-؛ فإن معناها التحقيق. وفي قولهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ" إلى آخره، إشارةٌ إلى ذلك، معجزة ظاهرة لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. ثم تخلف المهاجر بمكة، هل يحبط عمله إذا مات بها، سواء كان باختياره أم مطلقًا؟ قال القاضي عياض - رحمه الله -: لا يحبط أجره إلَّا إذا كان باختياره من غير ضرورة. قال: وقال قوم: موتُ المهاجر بمكة يحبط هجرته كيفما كان، قال: وقيل: إن لم تفرض الهجرة إلَّا على أهل مكّة خاصة (¬1). وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهَمْ، وَلَا تَرُدهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِم"؛ دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بإمضاء هجرتهم، دعاء عامٌّ، ومعنى إمضاء هجرتهم: إتمامها لهم من غير إبطال، ومعنى "لا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِم"؛ أي: تترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية، وليس في ذلك دليل على أن بقاء المهاجر بمكة قادح فيه كيف كان؛ فإن اللفظ لا يقتضيه. وقولُه - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لَكِنِ البَائسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ" البائسُ: الذي عليه أثر البؤس، وهو الفقر والعلة. وقولُه: "يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - أَنْ مَاتَ بِمكَّة"؛ هذا كلام الراوي لهذا الحديث، وتفسير لمعنى بؤسه وتوجعه - صَلَّى الله عليه وسلم - له، وترفقه عليه، جميع ذلك؛ لكونه مات بمكة. واختلف في كلام من هو من الرواة؟ فقيل: من كلام سعد بن أبي وقاص، وقد جاء مفسرًا في بعض الروايات، وقيل: من كلام الزُّهريّ، قال القاضي عياض: وأكثر ما جاء: أنه من كلام الزُّهريّ، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وقد نقل أبو عمر بن عبد البر قولًا، وغلطه، وبين الغلط فيه؛ وهو أن سعد بن خولة مات قبل أن يهاجر، وقال: لأنَّ ابنَ خولة لم يشهد بدرًا إلَّا بعد هجرته، وهذا ما لا يشك ذو لبٍّ فيه، والله أعلم (¬1). وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحبابُ عيادة المريض، واستحبابُ عيادةِ الإمام أصحابه، وأنها مستحبة في السفر كالحضر، وأولى. ومنها: جواز ذكر المريض ما يجده من شدّة المرض، لا في معرض التسخط والشكوى، فإن ذكره رجاء دعاء العابد، أو ليصف له ما يتداوى به، كان مستحبًا، ولم يكن ذلك قادحًا في صبره، وأجر مرضه. ومنها: إباحة جمع المال؛ لقوله: "وأنا ذو مال"؛ لأنَّ هذه الصيغة لا تستعمل في العرف إلَّا لمال كثير. ومنها: استحباب الصدقة لذوي الأموال. ومنها: العدل بين الورثة، ومراعاتهم في الوصيَّة. ومنها: تخصيص جواز الوصيَّة بالثلث، لكن قال العلماء: إن كان الورثة أغنياء، استُحبَّ أن يوصي بالثلث تبرعًا، وإن كانوا فقراء، استحب أن ينقص من الثلث. ومنها: أن الثلث في باب الوصيَّة في حدِّ الكثرة، وقد اختلف المالكية فيه في مسائل، ففي بعضها جعلوه داخلًا في حدِّ الكثرة بالوصيَّة؛ لقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "والثُّلُثُ كَثير"، وهذا يحتاج إلى عدم اعتبار دلالة السياق الذي يقتضي تخصيص كثرة الثلث بالوصيَّة، بل يوجد لفظًا عامًّا، وإلى دلالة دليل على اعتبار ممر الكثرة في الحكم، والثلث المذكور، فيحصل المقصود. ويقال: الكثرة معتبرة في هذا الحكم، والثلث كثير، فهو معتبر، ومتى لم ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 587 - 588).

يلمح كل واحد من هاتين المقدمتين، لم يحصل المقصود، وقد مثلوا ذلك بما ذهب إليه بعض المالكية أنه إذا مسح ثلث رأسه في الوضوء، أجزأه؛ لأنَّه كثير؛ للحديث، فيقال له: لِمَ قلت: إنَّ مسمَّى الكثرة معتبر في المسح؟ فإذا أثبته، لم قلت: إن مطلق الثلث كثير، وكل ثلث فهو كثير بالنسبة إلى كل حكم، وعلي هذا فقِسْ سائر المسائل، فيطلب منها تصحيح كل واحدة من المقدمتين. وقد أجمع العلماء في الأعصار المتأخرة: على أن من له وارث، لا ينفذ وصيته بزيادة على الثلث إلَّا بإجازته، وأجمعوا على نفوذ الزيادة في باقي المال بإجازته، وأمَّا من لا وارث له، فمذهبنا ومذهب الجمهور: لا تصحُّ وصيته فيما زاد على الثلث، وجوزه أبو حنيفة، وأحمد وأصحابه، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وإسحاق، وروي عن عليّ، وابن مسعود - رضي الله عنهما -. ومنها: أن طلب الغني للورثة الذين يكفهم عن السؤال والتطلع إلى ما في أيدي النَّاس، راجح على تركهم فقراء عبادة يتكفَّفُون النَّاس، ومن هذا أخذ بعضهم ترجح الغني عن الفقير، واستحباب الغض من الثلث، وقيل: ينظر إلى قدر المال في الكثرة والقلة، فتكون الوصيَّة بذلك اتباعًا للمعنى المذكور في الحديث من ترك الورثة أغنياء. ومنها: الحث على صلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب، والشفقة على الورثة. ومنها: أن صلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد. ومنها: أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحَّة النيَّةِ في ابتغاء وجه الله - عزَّ وجلَّ -، وهذا عسر دقيق إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة؛ فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب، حتَّى يبتغي به وجه الله، وشق تخليص هذا المقصود ممَّا يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة. ومنها: استحباب الإنفاق في وجوه الخير. ومنها: أن الأعمال الواجبة، أو المندوبة، أو المباحة، يزداد الأجر في فعلها

بقصد الطاعة، وأن المباح بالنية يصير طاعة يثاب عليه؛ فإنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتَّى ما تَجْعَلُ فِي فِي امرَأَتِكَ"؛ يقتضي المبالغة في تحصيل الأجر، لا تخصيص الثواب بالواجب والمندوب، كما يقال: جاء الحاجُّ حتَّى المشاةُ، ومات النَّاس حتَّى الأنبياءُ. ولا شكَّ أن الكلام في ذلك راجع إلى قاعدة كلية، وهي: أنَّ النيَّة هل تحتاج إليها في الجزئيات بالنسبة إلى كل جزء، أم يكتفى بنيَّة عامة؟ وقد ذكر الحارث بن أسد المحاسبي - رحمه الله - في ذلك مذهبين للسلف، وقال: الراجح عند أكثرهم الاكتفاء بنيَّة عامة؛ لما في الإتيان بها في كل جزء من الحرج والمشقة، مع أن الشرع حثَّ على الاكتفاء بأصلِ النيَّة، وعمومها في باب الجهاد والحج؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لو من أحدُكم بنهر جارٍ، وهو لا يريد أن يسقي دوابه، فشربتْ، كان له أجر". فيمكن أن يعدى هذا إلى سائر الأشياء، ويكتفى بنيَّة مجملة أو عامة، ولا يحتاج إلى الجزئيات في ذلك؛ حيث إن قصد طاعة الله تعالى تشمل جميع ذلك، وقد توهمت زينب الثقفية الاحتياج إلى ذلك في الجزئيات لما أرادت الإنفاق على من عندها، وقالت: لست بتاركتهم، فتوهمت أن ترك النيَّة وحث الطبع ممَّا يمنع الصدقة عليهم، فأزيل ذلك عنها برفع الوهم فيه، وأمرت بالإنفاق من غير نية وتقدير الأجر. ومنها: تسلية من كره حالةً يخالف ظاهرُها الشرع، ولا سببَ له فيها؛ فإن سعدًا - رضي الله عنه - خاف فوتَ مقام الهجرة، وموتَه بالأرض التي هاجر منها بسبب المرض الذي وقع فيه. ومنها: أن الإنسان قد يكون له مقاصد دينية حثَّ الشرع عليها، فيقع في مكاره تمنعه عن مقاصده، فينبغي له -في هذه الحالة- رجاءُ المصلحة من الله تعالى فيما يفعله. ومنها: سؤال الله تعالى في إتمام العمل الذي قصده الإنسان على وجه

لا يدخله نقص، ولا نقص لما ابتدئ به؛ لقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ أمضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، ولا تَرُدَّهُم عَلَى أَعْقَابِهِمْ". ومنها: تعظيمُ أمرِ الهجرة، وتفخيمها؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تردَّهُم على أَعْقَابِهم" يدلُّ على ذلك. ومنها: فضيلة طول العمر؛ للازدياد من العمل الصالح، ولا شكَّ أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَنْ يزيدَ المؤمنَ عمرُه إلَّا خيرًا، إن كانَ مُحْسِنًا، فيزدادُ خيرًا، وإن كانَ مُسيئًا، فَيُسْتَعْتَبُ" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنين أحدُكم الموتَ لضُرٍّ نزلَ بهِ، فإن كانَ لا بدّ فاعلًا، فَلْيقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني ما كانتِ الحياةُ خيرًا لي، وتوفني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي" (¬2). وقد سأل جماعة من السلف -رحمهم الله تعالى- النقلة إلى الله تعالى، واختار جماعة منهم الحياةَ وطولها، وجماعة منهم لم يكن لهم اختيار مع الله -عزَّ وجلَّ-، والأمر فيما نقل عنهم منزل على خوفهم على دينهم ورجائِهم فضلَ الله في طول العمر بكثرة الطاعة، والتفويض إليه -سبحانه وتعالى- من غير اختيار. ومنها: الحث على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال. ¬

_ (¬1) قلت: قد لفق المؤلف - رحمه الله - بين حديثين، فجعلهما حديثًا واحدًا، وإن كان مخرجهما واحدًا؛ فالشطر الأول منه، وهو قوله: "لن يزيد المؤمن عمره إلَّا خيرًا" رواه مسلم (2682)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: تمني الموت لضر نزل به، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنّه لا يزيد المؤمن عمره إلَّا خيرًا". والشطر الثَّاني منه: رواه البُخاريّ (5349)، كتاب: المرضى، باب: نهي تمني المريض الموت، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "لن يدخل أحدًا عملُه الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: "ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت؛ إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب". (¬2) رواه البُخاريّ (5347)، كتاب: المرضى، باب: نهي تمني المريض الموت، ومسلم (2780)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستنفار، باب: كراهة تمني الموت لضر نزل به، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

الحديث الثالث

ومنها: معجزات كثيرة لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ في قوله لسعد؛ من طول عمره، وفتح البلاد، وانتفاع أقوام به، وتضرر آخرين بحياته، ودعائه لهم وعليهم. ومنها: منقبةٌ ظاهرة لسعد - رضي الله عنه -، وفضائل عديدة. ومنها: كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - على جميع خلق الله تعالى؛ الأحياءِ منهم والأموات، على حسب مراتبهم، وتقيدها بالشرع، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إلَى الرُّبُعِ؛ فَإنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" (¬1). أما قولُ ابنِ عباس: "غَضُّوا"، فهو بالغين والضاد المعجمتين؛ أي: نقصوا. وقوله: "لو أَن النَّاسَ عضُّوا"، هي صيغة فيها ضعف ما بالنسبة إلى طلب الغضِّ إلى ما دون الثُّلث. وقد تقدم الكلام على قوله: "الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثيِرٌ" في حديث سعد بن أبي وقاص قبله. وفي الحديث دليل: على استحباب النقص عن الثُّلث مطلقًا، وتقدم ذكرنا لمذهب الشَّافعي: أنه إذا كان ورثته أغنياء، استحبَّ الإيصاء بالثُّلث، وإلا، فيستحب النقص. ومذهب جمهور العلماء: استحباب النَّقص مطلقًا، وعن أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: أنه أوصى بالخمس، وعن عليّ - رضي الله عنه - نحوه، وعن ابن عمر وإسحاق: بالربع، وقال آخرون: بالسدس، وآخرون بدونه، وقال ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2592)، كتاب: الوصايا، باب: الوصيَّة بالثُّلث، ومسلم (1629)، كتاب: الوصيَّة، باب: الوصيَّة بالثُّلث، وهذا لفظ مسلم.

آخرون: بالعشر، وقال إبراهيم النَّخعيُّ: كانوا يكرهون الوصيَّة بمثل نصيب أحد الورثة (¬1). وروي عن عليّ، وابن عباس، وعائشة وغيرهم -رضي الله عنهم-: أنه يستحبُّ لمن له ورثة وماله قليل، تركُ الوصيَّة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30795).

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض الحديث الأول عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬1). وفي رواية: "اقسِمُوا المَالَ بينَ أَهلِ الفَرَائِضِ عَلَى كِتَاب اللهِ، فَمَا تركَتِ الفَرَائِضُ، فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬2). أما الفرائض: فهي جمع فريضة، مأخوذة من الفرض، وهو التقدير، والمراد هنا: الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى؛ فإنَّ سهُمان أهلها تولى الله -سبحانه وتعالى- فرضَها دون غيره من بيان الأنبياء والمرسلين؛ وهي النصف، ونصفه: وهو الربع، ونصف نصفه: وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما، وهو الثُّلث، وثلث نصفهما، وهو السدس. وقوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"؛ المراد "بأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ": أقربُ رجل، وهو مأخوذٌ من الوَلْي؛ وهو القرب، والولْي: بإسكان اللام على وزن الرمي، وليس المراد بأولى هنا: أحق، بخلاف قولهم: الرجل أولى مسألة؛ حيث إنَّه لو حمل هنا على أحق، لخلا عن الفائدة؛ لأنَّا لا ندري من هو الأحق. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (6351)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه، ومسلم (1615)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها. (¬2) رواه مسلم (1615)، (3/ 1234)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها.

وقولُه: "رَجُلٍ ذَكَرٍ"؛ وصفُ الرجل بأنه ذكر تنبيهٌ على سبب استحقاقه، وهو الذكورية، التي هي سبب العُصوبة، وسبب الترجيح في الأثر، ولهذا جعل للذَّكَر مثلُ حظِّ الأُنثيين، وحكمته: أن الرجال يلحقهم مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، وغير ذلك، وقد أورد على ذلك إشكال، وهو أن الأخوات عصبة مع البنات، والحديث يقتضي اشتراط الذكورية في العصبة؛ لاستحقاق باقي التركة! والجواب: أن ما ذكر، وهو ما ذكر من طريق المفهوم، وأقصى درجاته أن يكون له عموم، فيختص بالحديث الدال على الحكم المذكور؛ من كون الأخوات مع البنات عصبة، والله أعلم. وفي الحديث دليل: على البداءة في قسمة التركات بالفرائض بين أهل الفرض. وفيه دليل: على أن العصبات لا يرثون إلَّا بعد استيفاء أهل الفرائض فرائضهم. وفيه دليل: على توريث العصبات، وتقدم الأقرب فالأقرب منهم، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، فإذا خلف بنتًا وأخًا وعمًّا، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخ، ولا شيء للعم. وفيه دليل: على الرجوع في قسمة الفرائض وأنصبائها إلى كتاب الله تعالى؛ حيث تولى الله تعالى قسمتها تنبيهًا على شدة أمر الأموال وصعوبته، وقد أكَّد -سبحانه وتعالى- ذلك بقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وكذا القول في أموال الصدقات؛ حيث قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} -إلى قوله تعالى-: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. وقد تولى الله -سبحانه وتعالى- قسمة أموال الغنيمة في سورة الأنفال، وأموال الفيء في سورة الحشر، وكل ذلك دليل على شدة تعظيم الأموال وحرمتها، وقطع المنازعة بسببها، والله أعلم.

وأعلم أن العصبة ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه؛ كالابن وابن الابن، والأخ وابنه، والعم وابنه، وعم الأب والجد وابنهما، ونحوهم، وقد يكون الأب والجد عصبة، وقد يكون لهما فرض، فمتى كان للميت ابن أو ابن ابن، لم يرث الأب إلَّا السدس فرضًا، ومتى لم يكن له ولد ولا ولد ابن، ورث بالتعصيب فقط، ومتى كان [له] بنت، أو بنت ابن، أو بنتان، أو بنتًا ابن، أخذ البنات فرضهن، وللأب من الباقي السدس فرضًا، والباقي بالتعصيب، والله أعلم. القسم الثَّاني: عصبة بغيره؛ وهو البنات بالبنين، وبنات الابن ببنتي الابن، والأخوات بالإخوة. والثالث: عصبة مع غيره، وهو الأخوات للأبوين أو للأب مع البنات وبنات الابن، فإذا خلف بنتًا وأختًا لأبوين أو لأب، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخت بالتعصيب، وإن خلف بنتًا وبنت ابن وأختًا لأبوين، أو أختًا لأب، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخت، وإن خلف بنتين وبنتي ابن، وأختًا لأبوين أو لأب، فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت، ولا شيء لبنتي الابن؛ لأنَّه لم يبق شيء من فرض جنس البنات، وهو الثلثان. وأعلم أنه حيث أطلق العصبة، فالمراد به العصبة بنفسه؛ وهو كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، ومتى انفرد العصبة، أخذ جميع المال، ومتى كان مع أصحاب فروض مستغرقة، فلا شيء، وإن لم يستغرقوا، كان له الباقي بعد فروضهم، وأقرب العصبات البنون، ثم بنوهم، ثم الأب، ثم الجد إن لم يكن أخ، والأخ إن لم يكن جد، فإن كان له أخ وجد، ففيهما خلاف مشهور، وهما قولان للشافعي: أحدهما: يقدم الأخ؛ لإدلائه بالأبوة بوصف البنوة، والبنوة أقوى من جهة العصبة. والثاني: يقسم بينهما؛ لتعارض الإدلاء بالأبوة بوصف الأبوة والبنوة، فالجد

أبو الأب، والأخ ابن الأب، ثم بنو الإخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم، ثم أعمام جد الأب، ثم بنوهم، وهكذا. ومن أدلى بالأبوين: يقدم على من يدلي بأب؛ فيقدم أخ من أبوين على أخ من أب، ويقدم ابن أخ من أبوين على ابن أخ من أب، ويقدم عم لأبوين على عم لأب، وكذا الباقي، ويقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين: لأنَّ جهة الأخوة أقوى وأقرب، ويقدم ابن الأخ لأب على عم لأبوين، ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين، وكذا الباقي، وإنَّما ذكرنا هذه الفروع لدخولها جميعها تحت قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فَمَا بَقِي: فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ، أَوْ لأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ" (¬1) كما ذكر في بعض الروايات، والله أعلم. وفيه دليل لمذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - في أنه لو خلف بنتًا وأختًا لأبوين وأخًا لأب: أن للبنت النصف، والباقي للأخ دون الأخت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، [فَمَا] بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"، ولم يكن رجل ذكر بعد البنت، إلَّا الأخ من الأب. فلم يكن للأخت من الأبوين شيء، لكن الله -سبحانه وتعالى- فرض للأخت من الأبوين النصف، كما فرض للبنت النصف بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]. وبقوله تعالى في البنت: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، فلم يبق بعد إلحاق الفرائض بأهلها شيء؛ فلم يكن للأخ شيء، وهذا مذهب الشَّافعي، وجمهور العلماء، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر: وقع في كتب الفقهاء كصاحب "النهاية" وتلميذه الغزالي: "فلأولى عصبة ذكر"، قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة. وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجميع لا للواحد، كذا قال. والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه حديث أبي هريرة في "الصحيح": "أيما امرئ ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا" فشمل الواحد وغيره. وانظر: "فتح الباري" (12/ 12)، و "تلخيص الحبير" (3/ 81).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أتَنْزِلُ غَدًا في دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ قال: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ؟! "، ثم قَالَ: "لَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ، وَلَا المُسْلِمُ الكَافِرَ" (¬1). أمَّا أسامةُ بنُ زيدٍ؛ فهو الحِبُّ وابنُ الحِبِّ، وتقدَّم ذكرهما. وأَمَّا عَقِيلٌ؛ فهو بفتح العين وكسر القاف، فهو ابنُ عمِّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان بنو أبي طالب أربعة: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي -رضي الله عنهم-، ومات طالب كافرًا، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين، وجعفر أسن من عليّ بعشر سنين. وكان عقيل من أنسب قريش، وأعلمهم بآبائها، كنيته: أبو زيد، وقيل: أبو عيسى بن أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، شهد بدرًا مع المشركين، وأُسِر يومئذٍ مكرهًا، ثم أسلم قبل الحديبية، وشهد غزوة مؤتة، ومات بعدما عمي في خلافة معاوية. وروى عنه الحسن بن أبي الحسن، وابنه محمد، وابن ابنه عبد الله، وموسى بن طلحة، وغيرهم، ورى له النَّسائيّ وابن ماجه (¬2). ¬

_ (¬1) قلت: هما حديثان في سياقين، وإن كان مخرجهما متحدًا، فالأول، وهو قوله: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ": رواه البُخاريّ (1511)، كتاب: الحج، باب: توريث دور مكّة وبيعها وشرائها، ومسلم (1351)، كتاب: الحج، باب: النزول بمكة للحاج وتوريث دورها. والثاني وهو قوله: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر": رواه البُخاريّ (6383) كتاب: الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ومسلم (1614)، كتاب: الفرائض في أوله، بلفظ: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 42)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 50)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1078)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (41/ 4)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 61)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 309)، و "تهذيب الكمال" للمزي (20/ 235)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 218)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 531)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 226).

وأَمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاع؟ "؛ فسببه؛ أن أبا طالب لمَّا مات، لم يرثه عليّ ولا جعفر، وورثه عقيل وطالب؛ لأنَّ عليًّا وجعفرًا كانا مسلمين حينئذٍ، لم يرثا أبا طالب. والرِّبَاع: جمع رَبعٍ، وهو المنزل ودار الإقامة، ورَبْعُ القومِ: محلَّتهم. وقول أسامة: "يا رَسُولَ اللهِ! أتنزل غَدًا في دَاركَ بِمَكَّة"؛ يحتمل إضافة الدار إليه - صلى الله عليه وسلم - لسكناه إياها، لا لأنها ملكه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أصلها كان لأبي طالب؛ لأنَّه الذي كفله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كان أكبر ولد عبد المطلب، فاحتوى عليها وعلي غيرها من أملاك عبد المطلب، وحازها وحده؛ لسنه، على عادة الجاهلية، ويحتمل أن الدار كان له - صَلَّى الله عليه وسلم - نصيب، فأخرجها عقيل عن أملاك بني عبد المطلب كما فعل أبو سفيان وغيره بدور من هاجر من المؤمنين، وقد قال الداودي: فباع عقيل ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن هاجر من بني عبد المطلب. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز سؤال الكبار والعلماء عن نزولهم أين يكون إذا قدموا بلدًا أو غيره؛ لسؤال أسامة - رضي الله عنه - عن ذلك، وتقرير سؤاله - صلى الله عليه وسلم - من غير نكير منه. ومنها: الجواب بأمر يلزم منه الامتناع ممَّا سئل عنه من النزول أو غيره. ومنها: الدلالة لمذهب الشَّافعي ومن قال بقوله: إن مكّة فتحت صلحًا، ودورها ورباعها مملوكة لأهلها، لها حكم سائر البلدان في ذلك، فتورث عنهم، ويجوز لهم بيعها، وإجارتها ورهنها وهبتها والوصية بها، وسائر التصرفات، وقال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وآخرون: فتحت عنوة، فلا يجوز شيء من هذه التصرفات. ومنها: أن الكافر لا يرث المسلم، وهو مجمع عليه. ومنها: أن المسلم لا يرث الكافر، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقالت طائفة: يرث المسلم الكافر، منهم: معاذ بن

جبل، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وروي عن إسحاق بن راهويه، وروي خلاف فيه عن أبي الدرداء، والشعبي، والزهري، والصحيح عن هؤلاء يقول الجمهور، واحتجَّ من قال بإرثه من الكافر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام يعلو ولا [يعلى] عليه" (¬1). ومن علوه إرثُ المسلم من الكافر دون عكسه، وكأنهم لمَّا رأوا أن الشرع جوز نكاح المسلم الكافرة الكتابية، قالوا بجواز إرثه من الكافر. وتأوله الجمهور على مجرد فضل الإسلام على غيره من الأديان دون غيره من الأحكام؛ كإرث وغيره؛ لوجود التصريح في الحديث -نصًّا- بعدم إرث المسلم من الكافر، فتعين المصير إلى التأويل، كيف ومن قال بإرثه لعلَّه لم يبلغه الحديث، والقياس لا يعارض النصَّ، والله أعلم. وهذا الذي ذكرناه في الكافر الأصلي، أما المرتدُّ: فلا يرث المسلم إجماعًا، وهل يرثه المسلم؟ قال الإمام الشَّافعي، وربيعة، ومالك، وابن أبي ليلى، وغيرهم: لا يرثه، بل يكون ماله فيئًا للمسلمين، وقال أبو حنيفة، والكوفيون، والأوزاعي، وإسحاق: يرثه ورثته من المسلمين، وروي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وجماعة من السلف، لكن قال الثوري وأبو حنيفة: ما كسبه في ردَّته فهو للمسلمين، وقال آخرون: الجميع لورثته المسلمين. أما توريث الكفار بعضهم من بعض؛ كاليهودي من النصراني، وعكسه، والمجوسي منهما، وهما منه، فقال الشَّافعي، وأبو حنيفة، وآخرون: يرث بعضهم من بعض، لكن قال الشَّافعي: لا يرث حربيٌّ من ذميٍّ، ولا ذميٌّ من حربيٍّ، ومنع إرث بعضهم من بعض مطلقًا مالكٌ، وقال أصحاب الشَّافعي: لو كانا حربيين في بلدين متجاورين، لم يرثا، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الروياني في "مسنده" (7836)، والدارقطني في "سننه" (3/ 252)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 205)، والديلمي في "مسند الفردوس" (395)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (8/ 240)، عن عائذ بن عمرو المزني - رضي الله عنه -.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الوَلاَءِ وَهِبَتِهِ (¬1). الوَلاَء؛ بفتح الواو وبالمد، وحقيقته: حقٌّ يثبت بوصف؛ وهو الإعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه؛ لأنَّ ما ثبت بوصف يدوم بدوامه، ولا يستحقه إلَّا من قام به ذلك الوصف. وقد شبَّه النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - الوَلاءَ بالنَّسَبِ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلاَء لُحْمَةٌ كلحمةِ النسبِ" (¬2)، فكما لا يقبل النسب النقلَ بالبيع والهبة، فكذلك الولاء. وفي الحديث دليل: على تحريم بيع الولاء، وفي معناه كل تصرَّف يقبل النقل، فلو باعه أو وَهَبَهُ، لم يصح، ولا ينتقل عن مستحقه، وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف، واختار بعض السلف نقله، ولعله لم يبلغهم الحديث، والله أعلم. ولَعنُ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - من تولى غيرَ مواليه، ونهيُه أن يتولى العتيقُ غيرَ مواليه يدلُّ ذلك جميعه على تأكيد التحريم في ذلك، سواء رضي الموالي بذلك، أم لم يرضوا؛ لأنَّه حقٌّ أثبته الشرع، فيحرم تضييعه؛ كالنسبة، وتقييده - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحاديث من تولى قومًا بغير إذن مواليه، هو تقييدٌ خرج على الغالب؛ لأنَّ التولي إلى غير الموالي غالبًا إنَّما يكون بغير إذنهم، فلا يكون له مفهوم يعمل به، وفي الكتاب العزيز من ذلك؛ لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (2398)، كتاب: العتق، باب: بيع الولاء وهبته، ومسلم (1506)، كتاب: العتق، باب: النَّهي عن بيع الولاء وهبته. (¬2) رواه الإمام الشَّافعي في "مسنده" (ص: 338)، وابن حبان في "صحيحه" (4950)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1318)، والحاكم في "المستدرك" (7990)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 292)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

الحديث الرابع

وغير ذلك من الآيات التي قيد فيها بالغالب، وليس لها مفهوم يعمل به، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أنها قَالتْ: كانَتْ في بَريَرةَ ثَلاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ على زَوْجِها حِينَ عَتَقَتْ، وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ، فَدَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - والبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فدعا بطعامٍ، فَأُتِيَ بخبزٍ وأُدْمِ مِنْ أُدْمِ البيتِ، فقال: "أَلَمْ أَرَ البُرْمَةَ عَلَى النَّارِ فِيها لَحْمٌ"، فَقَالوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ"، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فيها: "إنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬1). تقدم الكلام على بريرةَ وحديثِها، والكلامُ عليه وعلي أحكامه في أول حديث في باب الشرط في البيع. وكذلك تقدم الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الولاء لمن أعتق". وفي هذا الحديث دليل: على أن من عَتَقَت تحت عبد: أنه يثبت لها الخيار. وفيه دليل: على أن الفقير إذا ملك شيئًا على وجه الصدقة، فأهداه إلى غيره ممَّن لا تحلُّ له الصدقة، جاز له أخذه وأكله، سواء كان الذي لا تحل له الصدقة فقيرًا إلى الهدية، أو غنيًّا عنها؛ لأنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - خبر بأنَّ اللحم المتصدَّقَ به على بريرة بأنه صدقة عليها، وله ولأهل بيته هدية منها، مع كونه - صلى الله عليه وسلم - أتي من البيت بخبز وأُدم، فكان غنيًّا بذلك عن اللحم، ووصفه حينئذ بالهدية، فدلَّ على جواز قبوله، مع الغني عنه. وفيه دليل: على أن الشيء المحرم لو وصف، يزول تحريمه بزوال وصفه، ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (4809)، كتاب: النكاح، باب: الحرة تحت العبد، ومسلم (1504)، كتاب: العتق، باب: إنَّما الولاء لمن أعتق، وهذا لفظ سلم.

ويثبت بثبوته، وأن الأيدي واستيلاءها على الشيء بطريق يبيحه الشرع يغير حكمه، فيخرجه من تحريمه على ما كان حرامًا عليه، إلى إباحته له. وفيه دليل: على جواز الحيل المباحة والمستحبة بطريق الشرع. وفيه دليل: على جواز توسط الإنسان بالسؤال عما رآه في بيته، وعهدَه فيه، أو غير ذلك من أحواله؛ فإنّه - صلى الله عليه وسلم - سأل أهله عن البرمة، واللحم فيها على النار. وفيه: حسن الجواب بالصدق والخطاب. وفيه: استعمال الورع الذي لا يؤدي إلى مخالفة الشرع من الزوجة للزوج، وكذلك لكل متبوع من تابعه. وفيه: أنه إذا رأى العالم أن بتابعه حاجة إلى تعليم علم أو معرفة حكم، أن يذكره له مبتدئًا من غير سؤال. وفيه دليل: على حصر الولاء للمعتق، وتقدم الكلام عليه في الشرط في البيع. وفيه دليل: على أن أحكام الشرع تسمى سننًا. وفيه دليل: على فضل عائشة - رضي الله عنها -، وفقهها، وضبطها للأحكام والشرائع، ونقلها إلى النَّاس، وتعليمها إياهم، وإرشادهم إليها، والله أعلم. * * *

كتاب النكاح

كِتَابُ النِّكاحِ النِّكَاح في اللغة: الضَّمُّ، ويطلق على العَقْدِ، وعلي الوَطْءِ، فالأول ضمٌّ في المعنى، والثاني: ضم في الصورة. واختلف في أصله لغة: فقال الأزهري: الوَطْءُ، وقال غيره: التزوج؛ لأنَّه سبب الوطء، ويقال: نكح المطر في الأرض، ونكَحَ النُّعَاسُ عَيْنَهُ: أصابها، وموضع نكح في كلام العرب الصحيح: للزوم الشيء في الشيء راكبًا عليه. ومن العرب من فرَّق بين العَقْدِ والوَطْءِ بفرق لطيف؛ فإذا قالوا: نكح فلانة، أو بنتَ فلان، أو أخته، أرادوا: عقدَ عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجه، لم يريدوا إلَّا الوَطْء؛ لأنَّ بذكر امرأته أو زوجه يستغني عن ذكر العقد. ثم العرب تقول: نُكْحُ المرأة -بضم النون وسكون الكاف- يريدون البُضع؛ وهو كناية عن الفرج، فإذا قالوا: نكحَها، أرادوا: أصاب نُكْحها، وهو فرجُها، وقلما يقال: ناكَحَها، كما يقال: باضَعَها، ويقال: نكحتُها، ونكحَتْ هي؛ أي: تزوجت، وأنكحته زوجته، وهي ناكح؛ أي: ذات زوج، واستنكحها: تزوجها، هذا كلام أهل اللغة فيه. وحقيقته عند الفقهاء ومجازه، على أوجه ثلاثة: أحدها: حقيقة في العقد، مجاز في الوطء، وقطع به قاطعون، وبه جاء القرآن العزيز في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، وفي السنة النبوية كذلك.

الحديث الأول

والثاني: عكسه؛ حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، وبه قال أبو حنيفة. والثالث: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، والله أعلم (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُمُ البَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّج؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِ، ومَن لَم يَستَطعْ، فَعَلَيْه بِالصَّوْمِ؛ فَإنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬2). أما المعشر، فقال أهل اللغة: هم الطائفة الذين يشملهم وصف الشباب؛ فالشباب معشر، والأنبياء معشر، والشيوخ معشر، والنساء معشر، وكذا ما أشبه ذلك. فالشباب: جمع شاب، ويُجمع على شُبَّان، وشَبَبة (¬3). والشاب عند الفقهاء من الشَّافعية: من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنة. وأَمَّا الباءة؛ فأصلها في اللغة: الجِمَاع، وهي مشتقة من المباءة، وهي المنزل، ومن مباءة الإبل، وهي مواطنها، ثم قيل لعقد النكاح: باءة؛ لأنَّ من تزوَّج امرأةً، بَوَّأها منزلًا. وفي الباءة، أربع لغات: الفصيحة المشهورة: الباءة: بالمد والهاء، ¬

_ (¬1) وانظر في معاني النكاح لغة وشرعًا: "المُغرب" للمطرزي (2/ 327)، و"التعريفات" للجرجاني (ص: 315)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 171 - 172)، و "تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 249)، و "لسان العرب" لابن منظور (2/ 626)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 624)، و "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 318)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 103). (¬2) رواه البُخاريّ (4779)، كتاب: النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم (1400)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه. (¬3) انظر: "العين" للخليل (1/ 248)، و "لسان العرب" لابن منظور (4/ 572)، و "شرح مسلم" للنووي" (9/ 172 - 173)، وعنه أخذ المؤلف - رحمه الله - مادته هذه.

والثانية: الباءة، بلا مد، والثالثة: الباء، بالمد بلا هاء، والرابعة: الباهة، بهاءين بلا مد. ومعناها لغة: الجِماع (¬1)، وتقديره: من استطاع منكم الجِمَاعَ؛ لقدرته على مؤنه المتعلقة بالنكاح، فليتزوج، ومن لم يستطع؛ لعجزه عن مؤنه، فعليه بالصوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شر منيه، كما يقطعه الوِجاء. ووقع الخطاب للشباب؛ لكونهم مَظِنَّةَ شهوة النساء، فلا ينفكون عنها غالبًا؛ بخلاف الشيوخ ولكن المعنى معتبرًا، إذا وجد فيهم وفي الكهول، وقيل معناها: المؤن؛ تسمية لها باسم ما يلازمها، فيكون معنى الحديث: من استطاع مؤن النكاح، فليتزوج، ومن لم يستطعها، فليصُم؛ ليدفع شهوته؛ لأنه قال في الحديث: "ومَنْ لَمْ يَستَطِعْ، فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ"، والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن. وأَمَّا الوِجَاء: فهو بكسر الواو وبالمد، وهو رَضُّ الخصيتين. والمراد بالحديث: أن الصوم يقطع الشهوة وشرَّ المني، كما يفعله الوِجاء وأحصن. وأما تعليله - صلى الله عليه وسلم - الأمر للمستطيع بالتزويج بقوله: فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ للفرج"؛ فيحتمل أن يكون قوله: "أَغضُّ" و "أَحْصَنُ" استُعمل لغير المبالغة، بل إخبار عن الواقع، ويحتمل أن يكون: (أفعل) على بابها؛ فإن التقوي بالتزويج سبب لغضِّ البصر، وتحصين للفرج، وهو أبلغ من غضِّه وتحصينه بمجرد الصوم؛ فإن الداعي إلى النكاح مع وجوده وتقيده يضعف؛ فإنه قبلهما معارض بوجود الشهوة والداعي إلى النكاح، وإذا لم يستطع القيام بما يلزمه بسببه، أحيل على الصوم؛ لِمَا فيه من كسرِ الشهو؛ حيث إنَّ شهوةَ النكاح تابعةٌ لشهوهِ الأكل؛ يقوى بقوتها، ويضعف بضعفها؛ بخلاف التزوج ووجود النكاح؛ فإن الشهوةَ ¬

_ (¬1) انظر: "المُغرب" للمطرزي (1/ 89)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 159 - 160)، و "لسان العرب" لابن منظور (1/ 36)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 173)، وعنه أخذ المؤلف - رحمه الله - مادته هذه.

تزولُ به أو تضعفُ، فيكون (أفعل) فيهما على بابها، ووجود كثرتها في بعض الأشخاص بمباشرة الفعل نادر، والأحكام تناط بالغالب. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ"؛ اختلف النحاة في جواز الإغراء بالغائب، فمنعه بعضهم، وهذا الحديث حجة عليهم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: مراعاة الشهوات وحظوظ النفوس؛ بحيث لا تقدم على أحكام الشرع، بل تكون مقيدة بها، غير مطلقة. ومنها: الأمر بالنكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه، أَمًا من لم يستطعه ولم تَتُقْ إليه نفسه، فهو مكروه في حقه، وظاهر الأمر للمستطيع الوجوب. وقد قسم بعض الفقهاء النكاح إلى أحكام الشرع الخمسة؛ وهي: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقدر على النكاح، وكلامه محمول على تعذر التسري؛ فإن النكاح حينئذ يتعين وجوبه؛ للتعذر، لا بأصل الشرع. والأمر بالنكاح مجمع عليه، لكنه عند الشافعية وجمهور العلماء أمر ندب لا إيجاب، فلا يلزم عندهم التزوج ولا التسري، سواء خاف العنت أم لا، وأوجبه داود الظاهري، ومن وافقه من الظاهرية، والإمام أحمد في رواية عنه؛ فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت: أن يتزوج أو يتسرى، وقالوا: لا يلزمه في العمر إلا مرة واحدة. وقال أهل الظاهر: يلزمه التزوج فقط، ولا يلزمه الوطء، ولم يشترط بعض من قال بوجوبه خوف العنت، وتمسكوا بظاهر الأمر به في هذا الحديث وغيره من الأحاديث، مع قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وغير ذلك من الآيات، لكن تخييره - سبحانه وتعالى - في آخر الآية بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]؛ فإنه دال على التخيير بين النكاح والتسري، والتسري غير واجب بالاتفاق.

والتخيير لا يكون بين واجب وغيره، ولا يصح عند جميع الأصوليين؛ حيث يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب؛ وأن تاركه لا يكون آثمًا، وكان من أوجبه مطلقًا، جعله تعبدًا من الشرع لحكمة التنزيه له - سبحانه وتعالى - بالانفراد بالوحدانية، وعدم اتخاذ الصاحبة والولد - تبارك الله وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا -، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكنِّي آتي النِّسَاء، فَمَنْ رَغبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1)، وقد حمله الجمهور على الرغبة عن السنة إعراضًا عنها وعدم اعتقاد لما هي عليه، أما من أعرض عنها لمعارض لها من السنة أرجحَ منها، فلا، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - في عدم هدم الكعبة، وجعل بابين لها متواطئين؛ مراعاة لمعارض أرجحَ منه في نظره - صلى الله عليه وسلم -. وقسمه أصحاب الشافعي - رحمهم الله - في فعله وتركه، أيهما أفضل؟ إلى أربعة أقسام: أحدها: من تتوق إليه نفسه، ويجد مؤنته، فيستحب له فعله. الثاني: عكسه: لا تتوق إليه، ولا يجد مؤنته، فيكره له. الثالث: لا تتوق، ويجد المؤن؛ فقال الشافعي، وجمهور أصحابه: ترك النكاح والتخلي للعبادة له أفضل، ولا يقال: النكاح له مكروه، بل تركه أفضل، وقال أبو حنيفة وبعض الشافعية والمالكية: النكاح له أفضل. الرابع: عكسه: تتوق إليه نفسه، ولا يجد المؤن، فيكره له، ويؤمر بالصوم؛ لتوقانه إليه. وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5 - 6] على أن ترك النكاح أفضل مطلقًا. قال: لأنه لا يقال لمن تزوج أو تسرى بعد وصفه - سبحانه وتعالى - المؤمنين الحافظين فروجهم بالفلاح: غير ملومين؛ لرجحان التزوج أو التسري؛ ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا.

الحديث الثاني

فإن الأفضل راجح على الفاضل، فكيف بما دونه؟ لكن السنة بينت الأفضلية. واستدلَّ الشافعي - رحمه الله - بهذه الآية على تحريم الاستمناء؛ حيث إنه غير داخل في الاستثناء من المحافظين لفروجهم؛ فإنه تعالى لم يستثن إلا الأزواج والسراري، دون خضخضة بيد وغيرها، والله أعلم. ومنها: الأمر بالصوم للعاجز عن القيام بمأمورت النكاح. ومنها: شرعية تعليل الحكم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - علَّل الحكمة في الأمر بالصَّوْم له: فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء"؛ أي: قاطع لمشقة المكابدة لشهوة النكاح. ومنها: الحثُّ على غضِّ البصر، وقد أمر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 30 - 31]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "غضوا أبصارَكُم واحفظُوا فُرُوجَكُم" (¬1). ومنها: الحثُّ على تحصينِ الفرج بكل طريق أمر الشرع به. ومنها: عدم التكليف بغير المستطاع، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْواجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ - عَنْ عَمَلِهِ في السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتزوَّجُ النِّساءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فبلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا: كَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتزَوَّج النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8018)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 204)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 21)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 392)، والسمعاني في "أدب الأملاء والاستملاء" (ص: 39)، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (4776)، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، ومسلم (1401)، =

لما تحقق الصحابة - رضي الله عنهم - أمر الله - سبحانه وتعالى - لهم بالرجوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سرًّا وجهرًا، وكانوا قد عملوا أعماله الجهرية مدة صحبته، سألوا أزواجه عن عمله في السرِّ؛ ليقتفوا آثاره السرية كما اقتفوا ما أمكنهم من الجهرية، ثمَّ ظنُّوا أن ترك التزوج، وأكل اللحم، والنوم على الفراش من آثاره - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فخطب الناس [من] غير مواجهة لمن قال ذلك بالإنكار عليه؛ ليحصل الجمع بين مصلحتي بيان أحكام الله تعالى، وإبلاغها من غير تعيين مَنْ خالفها، وقال ما قاله جهلًا؛ ليرجع إلى الحق من غير تأنيب له بالتعيين لحصول المقصود، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: وجوب تتبع آثاره - صلى الله عليه وسلم - في الجملة، فما كان منها واجبًا، فعل على الوجوب، وما كان منها مندوبًا، فعل على الندب، وقد يكون واجبًا عليه - صلى الله عليه وسلم -، مندوبًا في حقنا، وقد يكون عكسه. ومنها: التوصل إلى العلم والخير بكل أحد من النساء والعبيد، إذا تعذر أخذه من أصل محله. ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يذكر ما اعتاده من الأعمال الشاقة التي يظنُّ أنها طاعة؛ ليتبين أمرها، ويرجع عنها إلى السنَّة فيها. ومنها: البيان بأفعال العلماء وأقوالهم، وأحوالهم. ومنها: أن ملاذ النفس والبدن، إذا فعلها لامتثال الشرع؛ فيما امتنَّ به وأباحه؛ تصير طاعات مثابًا عليها. ومنها: تحريم فعل الشيء الجائز أو الامتناع عنه رغبة عن السنة، بل إن فعله بغير مقصود شرعي عنادًا لمقصود الشرع، اقتضى أن يكون كفرًا، وقد تقدم تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" في الحديث قبله، وإن كان ¬

_ = كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، وهذا لفظ مسلم.

جماعة من السلف قالوا: يجرى كما ورد من غير تأويل؛ حيث إنه أبلغ في الردع عن مخالفة السنة. وقد استدلَّ بالحديث من رجَّح النكاحَ على التخلي لنوافل العبادات؛ حيث إن النفر الذين قالوا هذه الأقوال في الحديث من عدم التزوج، وأكل اللحم، والنوم على الفرش، وقصدوها، ورد ذلك عليهم - صلى الله عليه وسلم - وأكده بأن خلافه رغبة عن السنة، ويحتمل أن يكون من باب كراهة التنطع والغلو في الدين، ويختلف ذلك باختلاف المقاصد؛ فمن ترك اللحم لمقصود شرعي محمود، متورع عن أكله لشبهةٍ شرعية في عينه أو وصفه في ذلك الوقت؛ لاختلاط الحلال بالحرام، أو مقصود عادي صحيح؛ لخوف ضرر في بدن، أو زيادة مرض، لم يكن ذلك ممنوعًا، ومن تركه للغلو والتنطع والدخول في الرهبانية؛ لكونه من ذوات الأرواح في أصله، وغير ذلك، فهو ممنوع مخالف للشرع. لكن ظاهر الحديث تقديم النكاح؛ كما يقوله أبو حنيفة ومن وافقه. ولا شك أن الترجيح يتبع المصالح، ولم يستحضر أعدادها غالبًا، فالأولى اتباع اللفظ الوارد في الشيء. ومنها: التنبيه على قاعدة عظيمة في باب التوحيد والتنزيه؛ وهي: أن الدوام وعدم الزوال ثابت لله، والتغيير وعدم الديمومة ثابت لما سواه. فلما كان الأمر كذلك، أجرى - سبحانه وتعالى - الموجودات كلها على وصفها، وشرع الشرائع على ذلك رحمة بنا؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لكنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأفْطِرُ، وأَتزوَّجُ النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي"؛ تنبيهًا على ما ذكرنا، ولله أعلم. ومنها: استحباب الخُطَب لأمور المسلمين الحادثة العامة النفع. ومنها: استحباب الثناء على الله تعالى فيها. ومنها: عدم تعيين من هو مقصود بالوعظ والتذكير والزجر؛ فإنه ينبغي أن يقول في ذلك: ما بال أقوام قالوا كذا، وفعلوا كذا؟

الحديث الثالث

ومنها: الحثُّ على متابعة السنَّة، والتحذير من مخالفتها، والله أعلم. وقد يستدل به على قبول خبر الواحد؛ لأنه ما عدا المتواتر. ولم يثبت في الحديث أن النفر السائلين، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - المسؤولات بلغوا حدَّ التواتر، فلو لم يكن مقبولًا عند الصحابة، لما حسن سؤالهم لهنَّ، ولما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبارهن عنهم، مع أن العلماء اختلفوا في حدِّ التواتر، والمختار عند الأصوليين أن حدَّه: خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم، وأن العدد في المخبرين غير محصور للتواتر، لكن قال القاضي أبو بكر: اعلم أن قول الأربعة لا يفيد العلم أصلًا، وأتوقف في الخمسة (¬1)، واختلف غيره على ستة أقوال: اثنا عشر، وعشرون، وأربعون، وسبعون، وثلاث مئة وبضعة عشر، وعدد بيعة الرضوان، وقيل: يشترط فيهم ألَّا يحصيهم عدد، ولا يحويهم بلد، وقيل: لا يكونوا من نسب ولا من بلد واحد، وشرط بعض من لا يجوز اعتماده اشتمالهم على المعصوم، وهذا في التواتر في الأخبار. وأما التواتر في المعاني؛ كالكرم والشجاعة والبخل والجبن والفسق والعدالة، فإذا وقع الاتفاق عليها، مع وجود الاختلاف في كميتها وكيفيتها، لا يقدح فيه؛ فإن راوي الجزئي مطابقة راو للكلي المشترك فيه تضمنًا، ولأن امتناع الكذب عليهم يوجب صدق واحد منهم جزمًا، وهو المطلوب. * * * الحديث الثالث عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لاخْتَصَيْنَا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "نظم المتناثر في الحديث المتواتر" للكتاني (ص: 15)؛ حيث نسبه إلى القاضي أبي بكر الباقلاني. (¬2) رواه البخاري (4786)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ومسلم (1402)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه.

أما سعد بن أبي وقاص؛ فتقدَّم ذكره قريبًا في باب: الوصايا، مستوفى. وأَمَّا عُثمانُ بنُ مَظْعُون؛ فهو قرشيٌّ، جمحيٌّ، كنيته: أبو السائب، وكان من فضلاء الصحابة - رضي الله عنهم -، وعُبَّادهم ومجتهديهم، أسلم - رضي الله عنه - بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، لا خلاف في ذلك. قال ابن عبد البر - رحمه الله -: قد كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وعثمان بنُ مظعون، وأبو ذر، هَمُّوا أن يختصوا ويتبتلوا، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ونزلت فيهم: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية [المائدة: 93]. وكان أحدَ مَنْ حرَّم الخمر في الجاهلية، وقال: لا أشرب شرابًا يُذهب عقلي، ويُضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي، فلمَّا حُرِّمت الخمر، أُتي وهو بالعوالي، فقيل: يا عثمان! قد حُرِّمت الخمر، فقال: تبًّا لها، قد كان بصري فيها ثاقبًا (¬1). ولا شك أن تحريم الخمر عند الأكثرين بعد أُحُد، وهذا إنما يتجه على قول من قال: إن عثمان بن مظعون توفي بعد ثلاثين شهرًا بعد شهوده بدرًا، فيكون تحريم الخمر، والقول له بتحريمها بعدَ أحد؛ لأن أُحُدًا كانت في السنة الثالثة من الهجرة، ووفاته على هذا القول بعد ثلاثة أشهر من أول السنة الخامسة من الهجرة، والله أعلم. وكان عثمان بن مظعون أوَّلَ من مات من المهاجرين بالمدينة، بعد رجوعه من بدر، وأول من تبعه إبراهيمُ بن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمانَ بعدما مات، فلما غُسِّل وكُفِّن، قَبَّلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه، فلمَّا دُفِن قال: "نِعْمَ السلفُ هو لنا عثمانُ بنُ مظعون" (¬2)، ولمَّا تُوفي إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3943). (¬2) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1053).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحقْ بالسلفِ الصالحِ عثمانَ بنِ مظعونِ" (¬1)، ولمَّا تُوفيت زينبُ بنتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحقي بسلفنا الصالح الخير، عثمانَ بنِ مظعون"، وأعلم قبره بحجر، وكان يزوره، ووضع الحجر عند رأسه، وقال: هذا قبر فَرَطِنا (¬2)، وكان أول من دفن بالبقيع في قول مصعب الزبيري. ولما مات أكبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، وجرت دموعه، وقال: "اذهبْ أبا السائب، فقد خرجتَ منها -يعني: الدنيا- ولم تلتبسْ منها بشيء" (¬3)، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخصاء لمشقة العزوبة في المغازي، فقال: "لَا، وَلَكن عَلَيْكَ يا بن مظعون بالصِّيَامِ، فإنَّه مجفّر" (¬4) وروي [مَجْفَرة] (¬5). ولما مات، قالت امرأته: هنيئًا لك الجنة عثمان بن مظعون، فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة غضب، وقال: "ما يدريك"؟!، قالت: يا رسول الله! فارسك وصاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي رسولُ اللهِ، ومَا أَدْرِي ما يُفْعَل بي"، فأشفق الناس على عثمان، فلما ماتت زينب بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحقي بسلفِ الخير عثمانَ بنِ مظعونٍ"، فبكى النساء (¬6). واختُلف في تاريخ وفاته، مع اتفاقهم على شهوده بدرًا، فقيل: سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهرًا من مقدمه - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وقيل: على رأس ثلاثين شهرًا من الهجرة بالمدينة، ورَثَتْه امرأته، وقالت: ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 378)، والطبراني في "المعجم الكبير" (837)، عن الأسود بن سريع قال: لما مات عثمان بن مظعون أشفق المسلمون عليه، فلما مات إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون". (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4867)، عن أبي رافع - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 105)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1055). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 396). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8320). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 237)، والطيالسي في "مسنده" (2694)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 398)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8317)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 105).

يَا عَيْنُ جُودِي بِدَمْعٍ غَيْرِ مَمْنُونِ ... عَلَى رَزِيَّةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ على امْرئٍ باتَ في رِضوانِ خَالِقِهِ ... طُوبى لَهُ مِنْ مقيد الشخصِ مَدْفُونِ طابَ البقيعُ لَهُ سُكْنَى وغَرْقَدُهُ ... وأَشْرَقَتْ أَرْضُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيينِ وأَوْرَثَ القلبَ حُزْنًا لَا انقطَاعَ لَهُ ... حتَّى المَمَاتِ فَمَا ترقى لَهُ شُوني (¬1) وأمَّا التَّبَتُّل: فهو ترك النكاح انقطاعًا إلى عبادة الله تعالى. وأصل التبتل: القطع، ومنه قيل لمريم: البتول، ولفاطمة - عليها السلام -: البتول؛ لانقطاعهما عن نساء زمانهما؛ دينًا وفضلًا ورغبة في الآخرة، ومنه: صدقة بتلة؛ أي: منقطعة عن تصرف مالكها. وقال الطبري: التبتل: هو ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاعُ إلى الله تعالى، بالتفرغ لعبادته، ومعنى رد عليه التبتل: نهاه (¬2). ولا شك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ردَّه عليه؛ لأمور زائدة على مجرد التخلي للعبادة مما هو داخل في باب التنطع والتشبيه بالرهبانية؛ لا أن ظاهر الحديث، يقتضي تعليق الحكم بمسمى التبتل؛ فإن التبتل القاطع عن الحقوق الواجبة؛ من حقِّ زوجة وغيرها، أو المضر بالشخص، فإنه ممنوع. وأما التَّبتل الحامل على الأغراض من الشهوات واللذات من غير إضرار بنفسه، ولا تفويت حق لزوجة، ولا غيرها، ففضيلة لا منع منه، بل هو مأمور به، وهو معنى قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]؛ أي: ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 106). وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 393)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 210)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 260)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 209)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 102)، و" الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1053)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 449)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 589)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 300)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 153)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 461)، و "تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 283). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 176).

انقطع إليه انقطاعًا حسنًا على وفق أمرنا ونهينا. وبهذا يحصل الجمع بين الآية والحديث، فيكون المقصود: الإشارة إلى كثرة العبادات غير الشاقة، وملازمتها؛ لدلالة السياق في الآية؛ من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن والذكر، لا ترك النكاح والأمر بتركه؛ فإنه كان موجودًا مع الأمر بما ذكرنا في الآية الكريمة؛ لما في ترك النكاح والاختصاء من الغلو في الدين، والتشديد على النفوس، والإجحاف بها؛ كما يفعله كثير من جهال المتزهدين وعباد المتنطعين. وفي هذا الحديث أحكام: منها: عدم الإقدام على ما تحدثه النفوس من غير سؤال العلماء عنه. ومنها: ترك التنطع وتعاطي الأمور الشاقة على النفس. ومنها: أن العلماء لا يأخذون الناس إلا بالشرع السهل، ورد المشاق عليهم. ومنها: أن الإنسان قد يجتهد في أمور دينية، فلا يجوز له العمل باجتهاده من غير استناد إلى دليل شرعي، لكنه غير مأثوم في الاجتهاد، إذا كان مقصده صحيحًا، ويكون مخطئًا إذا خالف الشرع، مثابًا عليه إذا لم يجد فيه نصًّا، ولا من يرشده إلى الصواب. واعلم أن الإخصاء في الآدمي حرام قطعًا، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، وكذا يحرم خصاء كل حيوان غير مأكول، وأما المأكول: فيجوز خصاؤه في صغره، ويحرم في كبره؛ لعدم طلب اللحم في خصاء الكبير، ووجوده في الصغير. ومنها: عدم المنع من ملاذ الدنيا، خصوصًا إذا قصد بها وجه الله تعالى؛ من تلذذ بنعم الله تعالى، أو تعرف لذة ما وعد الله تعالى به في الدار الآخرة، أو تعريف النفس افتقارها وحاجتها إلى غيرها، أو الوقوف مع امتثال أمر الله تعالى، واجتناب نهيه، أو غير ذلك، والله أعلم. * * *

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أُمِّ حَبِيبةَ بنْتِ أَبي سُفْيَانَ: أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ! انكحْ أُخِتي ابنةَ أَبي سُفْيَانَ، فَقَالَ: "أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيةِ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَني في خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي"، قَالَتْ: فَإنَّا نُحَدَّثُ أنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟! "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ رَبِيبِتي في حَجْرِي، لَمَا حَلَّتْ لِي، إنَّها لاَبْنهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَة ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ". قَالَ عُروةُ: ثُويبةُ مولاةٌ لأَبي لَهَبٍ، كانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَها، فَأَرْضَعَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بعضُ أَهْلِه بشِرِّ حِيبَةٍ، قالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْرًا، غيرَ أَنِّي سُقِيت في هَذِه بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ (¬1). الحيبة: الحالة، بكسر الحاء. أَمَّا أُمُّ حَبيبة: فاسمها رملة، وقيل: هند بنت أبي سفيان صخرِ بن حرب بن أمية، أمُّ المؤمنين، الأمويةُ، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتوفي عنها، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي هناك، وكان تزوجه بها سنة ست، وقيل: سبع، وكُنِّيت: أم حبيبة بابنتها حبيبة بنت عبد الله بن جحش، وكانت من السابقين إلى الإسلام. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بحديثين، روى عنها: أخواها: معاوية، وعتبة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير، وأبو المليح عامر بن أسامة الهذلي، وزينب بنت أبي سلمة، وغيرهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4813)، كتاب: النكاح، باب: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، ومسلم (1449)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، وهذا لفظ البخاري.

توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين، وقبل موت معاوية بسنة، وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين، وروى لها أصحاب السنن والمساند (¬1). وأما أختها المذكورة في الحديث: فاسمها في الحديث: عَزَّة -بفتح العين المهملة وبالزاي المشددة-، وهي مسماة في رواية في "صحيح مسلم"، والله أعلم. وأَمَّا بنت أُمِّ سَلَمة؛ فاسمها: دُرَّة، واحدةُ الدرُّ، بنتُ أبي سلمةَ بن عبد الأسد، القرشيةُ المخزوميةُ، ربيبةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، بنتُ امرأته أم سلمةَ زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبناتُها ربائب له - صلى الله عليه وسلم -، وكذا الذكور من أولادها، وضبط بعض رواة مسلم اسمها: ذَرَّة -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- واحدة الذر، وهو تصحيف لا شك له. وأَمَّا أبو سلمة؛ فاسمه: عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزوميُّ، كان أخًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أرضعتهما ثُويبةُ مولاة أبي لهب بن عبد المطلب، أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أيامًا، قبل أن تأخذه حليمة السعدية - رضي الله عنها - مع ابن لها يقال له: مسروح، وأرضعت قبله حمزةَ بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة هذا. وأُمُّ أبي سلمة برة بنت عبد المطلب بن هاشم. كان ممن هاجر بامرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم شهد بدرًا بعد أن هاجر الهجرتين، وجرح يوم بدر جرحًا اندمل ثم انتقض، فمات منه، وذلك لثلاث مضين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث من الهجرة، وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأته أم سلمة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 96)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 461)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 131)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1843)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 181)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 42)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 303)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 175)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 218)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 651)، و "تهذيب الهذيب" له أيضًا (12/ 448).

أَمَّا أَبُو لَهَب، فاسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، عمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانَ يكنى بأبي لهب؛ لحسنه وإشراق وجهه، ويقال: لهَب، بفتح الهاء، وإسكانها، وهي قراءتان: ابن كثير: بالإسكان، والباقون: بالفتح، مثل نَهْر ونَهَر، لغتان، مع اتفاق القراء على أن: {ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] ذات لَهَب مفتوحة الهاء؛ لوفاق الفواصل. وثُويبة: -بثاء مثلثة مضمومة، ثم واو مفتوحة، ثم ياء التصغير، ثم باء موحدة، ثم هاء-. والخير الذي لقيه أبو لهب من سقيه بعد موته، لعتاقته ثويبة؛ لكونها أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الأيام القلائل، قيل: إنها ثلاثة أيام؛ جزاء له لرضاع النبي - صلى الله عليه وسلم - منها، كما جوزي أبو طالب بذبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن جُعل في ضَحْضاح من نار؛ إكرامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في إرضاعه، وتربيته، والذب عنه، واختلف في إسلامها، والله أعلم. وقولُ أُمِّ حبيبة: "لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَة"؛ هي بضم الميم وإسكان الخاء المعجمة، وكسر اللام؛ أي: لست أخلي لك بغير ضرة، ولا منفردة بدوام الخلوة بك، يقال: خلوت به، إذا انفردت به. وقولها: "وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ"، وفي رواية في "صحيح مسلم": "شَرِكني" (¬1) -بفتح الشين وكسر الراء-؛ معناه: شاركني في صحبتك والانتفاع بك في مصالح الدنيا، وذلك هو الخير لا يقابله خير. وسؤالها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نكاحَ أختها؛ لاعتقادها خصوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإباحة هذا النكاح، لا لعدم علمها بما دلت عليه الآية؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - أُبيح له في باب النكاح خصوصيات لم تُبَح لغيره؛ فاعتقدت أن نكاح أختها من ذلك؛ لكمال رتبته - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا اعترضت بنكاح دُرَّة بنت أبي سلمة، فكأنها تقول: كما جاز نكاح درة، ثم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4817)، كتاب: النكاح، باب: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، وتقدم تخريجه عند مسلم.

تناول الآية لها، فليجز نكاح الأخت مع تناول الآية لها؛ للاجتماع في الخصوصية، وذلك مناسب. وكونها غير عالمة بمدلول الآية؛ لاشتراكهما في أمر أخص، وهو التحريم العام، واعتقاد التحليل الخاص؛ فإن إخبارها من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتحريم نكاح الأخت على الأخت، لا يلزم منه أن يرد عليه تجويز نكاح الربيبة لزومًا ظاهرًا؛ لأنهما إنما يشتركان حينئذ في أمر أهم من المراد، وهو قطع الرحم الذي أمر بوصله، وحرم قطعه، ومن قطعه قطعه الله، ومن وصله وصله الله. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "بنتُ أُمِّ سَلَمَة؟! قُلْتُ: نَعَمْ"؛ يحتمل أن يكون سؤال استثبات ونفي إرادة غيرها، ويحتمل أن يكون لإظهار حجة الإنكار عليها، أو على من قال ذلك. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي"؛ الربيبة: بنت الزوجة مشتقة من الربِّ، وهو الإصلاح؛ لأنه يربُّها ويقوم بأمورها وإصلاح حالها، ومن ظنَّ من الفقهاء أنه مشتق من التربية، فقد غلط؛ لأن شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية، والاشتراك؛ فإن آخر (رَبَّ) باء موحدة، وآخر (ربي) ياء مثناة من تحت (¬1). والحَجْر: بفتح الحاء وكسرها، والفتح أفصح. وقولُه: "بِشَرِّ حِيبَةٍ"؛ قد ضبطها المصنف بكسر الحاء المهملة؛ وفسرها بالحالة، فكأنه قال: بشرِّ حال، والحيبة والحوبة: الهمُّ والحزن، والحيبة -أيضًا-: الحاجة والمسكنة. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ" هذا إشارة إلى أم حبيبة وبنت أم سلمة وأخت أم حبيبة عزة، ولما استندت أم حبيبة إلى اجتهادها دون ¬

_ (¬1) انظر: "المُغرب" للمطرزي (1/ 315)، و "لسان العرب" لابن منظور (1/ 402)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 25).

ما صرحت به الآية من تحريم نكاح الأخت على الأخت، ونكاح الربيبة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبتي في حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لي، إِنَّها لاَبْنَهُ أَخِي مِن الرَّضَاعَةِ"؛ ومعناه: أنها حرام عليَّ بسببين: كونها ربيبة، وكونها بنت أخ، فلو فقد أحد السببين، حرُمت بالآخر. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تحريم نكاح الأختين في عقد واحد، وعلى الترتيب، وهو محرَّم باتفاق العلماء، وأما بملك اليمين، فهو كذلك عند علماء الأمصار. ونقل عن بعض الناس فيه خلاف، وقع الإجماع بعده على خلافه من أهل السنة، غير أن تحريم الجمع بينهما، إنما هو في وَطْئهما، لا في ملكهما؛ فإن ملكهما غير ممتنع اتفاقًا، قال الفقهاء: فإذا وَطئ إحداهما، لم يطأ الأخرى حتى تحرم الأولى ببيع أو عتق أو كتابة؛ لئلا يكون مستبيحًا لفرجيهما معًا. ومنها: تحريم نكاح الربيبة، وهو منصوص عليه في كتاب الله تعالى، لكن يحتمل أمر أم حبيبة في سؤالها نكاح أختها معها: أنها لم يبلغها هذا الحكم من أمر نكاح الربيبة؛ حيث إن لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشعر بتقدم نزول الآية "لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبتي في حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي". وقد يحتجُّ بذلك من يرى اختصاص الربيبة، بكونها في الحَجْر، وهو داود الظاهري؛ قال: فإن لم تكن في حجره أمها، فهي حلال له، وذلك موافق لظاهر قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ومذهب العلماء كافة سواه على التحريم مطلقًا، سواء كانت في حجر أم لا، وحملوا التخصيص على أنه خرج مخرج الغالب، وإذا كان كذلك، لم يبق له مفهوم يعمل به، فلا يقصر الحكم عليه. قال العلماء: ونظيره قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] ومعلوم أنه يحرم قتلهم مطلقًا؛ لكنه قيد بالإملاق لأنه الغالب، ومثله قوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، ومعلوم تحريم

الحديث الخامس

إكراههن عليه مطلقًا، سواء أردنه أم لا، لكنه لما كان الغالب أن البغاء لا يحصل إلا بالإكراه، قيد به. قال شيخنا الحافظ المدقق أبو الفتح بن دقيق العيد: وعندي نظر في أن الجواب المذكور في الآية، هل يرد في لفظ الحديث أو لا؟ (¬1) ومنها: أن تحريم الجمع بين الأختين شامل لصفة الجمع في عقد واحد، ولصفة الترتيب فيه. ومنها: أن الزوجة وغيرها من الألزام يجوز لها الفكر والنظر في مصلحة نفسها ومن يتعلق بها من أقاربها، ولا يجوز لها ولا لغيرها العمل به واعتقاده، إلا بعد عرضه على العلم والعلماء، كما جرى لأم حبيبة وأختها. ومنها: وجوب البيان على العلماء، إذا سُئلوا عنه. ومنها: أن المنع مما سئلوا عنه، لو كان بوجه غير المسؤول عنه، وجب ذكره وبيانه. ومنها: جواب المفتي أو المستشار أو من عرض عليه أمر، فكان ممتنعًا في الشرع، بأنه لا يحل لي أو لك، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا" (¬2). اعلم أن الجمعَ بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، محرَّم بالإجماع، ولا فرق بين أن تكون خالة أو عمَّة حقيقية أو مجازية؛ فالحقيقية كأخت الأم، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 31). (¬2) رواه البخاري (4820)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح.

وأخت الأب، والمجازية: كأخت أبي الأب، أو أب الجد وإن علا، وأخت أم الأم، وأم الجدة من جهتي الأم والأب وإن علت، فكلهنَّ يحرم نكاحهنَّ بصفة الجمع، بإجماع العلماء، وجوَّزه جماعة من الخوارج والشيعة. ولا شك أن تحريم هذا الجمع مما أخذ من السنَّة؛ إذ هي مبينة للكتاب؛ لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وإطلاق الكتاب العزيز، يقتضي إباحته؛ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بعد تحريمه تعالى نكاح الأختين جمعًا؛ بقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ما يقتضي ذلك الإباحة مجردًا عن بيان السنة. لكن الأمة خصت عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو قول جمهور الأصوليين، ثم إن ظاهر الحديث يقتضي التسوية بين الجمع بينهما على صفة المعية، والجمع على صفة الترتيب. لكن النهي إذا ورد، كان وروده على مسمى الجمع، مع حمله على الفساد، فيقتضي أنه إذا نكحهما معًا: أن النكاح باطل؛ حيث إنه حصل فيه الجمع المنهي عنه، فيفسد، وإن حصل الترتيب، فالثاني هو الباطل؛ لأن مسمى الجمع حصل به, كيف وقد روى أبو داود في "سننه" صحيحة: "ولا تُنكحُ الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى" (¬1)، وذلك مصرح بجمع الترتيب، والعلَّة في النهي عنه ما يقع بسببه المضارةُ من التباغض والتنافر، فيؤدي ذلك إلى قطيعة الرحم، وقد ورد إشعار بهذه العلة. وأما الجمع بينهما بملك اليمين، فهو حرام عند العلماء كافة، ومباح عند ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2065)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، والترمذي (1126)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 426)، وابن حبان في "صحيحه" (4118)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 166)، وغيرهم.

الشيعة، وقالوا: وتحريم الجمع في الأختين في الآية الكريمة، إنما هو في النكاح. وقاس العلماء الجمع بينهما بملك اليمين على النكاح، وقاسوا الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها بملك اليمين على الأختين. واختصاص الجمع بين المذكورات كلهن بالنكاح غير مقبول، بل جميع المذكورات في الآية الكريمة محرمات بالنكاح وبملك اليمين جميعًا، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]؛ فإن المراد بالمحصنات: المزوجات، وبملك اليمين: كل ملك حصل ببيع أو شراء أو بسبي ونحو ذلك، فإنه لا يجوز وطؤهن بالنكاح، بل بملك اليمين، بعد الاستبراء. فلو أراد وطأهن بالنكاح، لم يجز إلا بعد عتقهن، أو مع عدم طول حرة، وألَّا يكون مزوجًا بحرة، والاستثناء بقوله تعالى عائد إلى المحصنات، لا إلى جميع من ذكر في الآية من المحرَّمات إجماعًا، فدل على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين، قياسًا وعمومًا من الحديث، وإجماعًا من العلماء، فلا التفات إلى من أباحه، والله أعلم. وأمَّا الجمع بين باقي الأقارب؛ كابنتي العم، أو ابنتي الخالة، ونحوهما، فجوزه العلماء كافة، إِلَّا ما حكي عن بعض السلف أنه حرمه، وكأنه نظر إلى المعنى في المنع من الجمع بين الأختين؛ في قطيعة الرحم، واستدلَّ العلماء بعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وأما الجمع بين زوجة الرجل وابنته من غيرها، فجوزه مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والجمهور، وقال الحسن، وعكرمة، وابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. والله أعلم. ومن حرمنا الجمع بينهما - ممن ذكرنا - إنما هو في العقد عليهما بالنكاح، والوطء، لا في مجرد الملك كما تقدم ذكره في الأختين، فلو عقد النكاح على إحداهما بعد الأخرى، كان الأول صحيحًا، والثاني باطلًا، والله أعلم.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَن تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ" (¬1). أَمَّا عقبة بن عامر؛ فاختلف في كنيته على أقوال، أشهرها: أبو حماد، ويقال: أبو سعاد، ويقال: أبو أسد، ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الأسود، ويقال: أبو عبس، وهو عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وخمسون حديثًا، اتفقا على تسعة، وللبخاري حديث، ولمسلم تسعة، روى عنه من الصحابة: جابر، وابن عباس، وأبو أمامة، ومسلمة بن مخلد، وجماعة من التابعين كثر، وروى له أصحاب السنن والمساند، وكان يقال له: عقبة بن عامر الجهني، وكان واليًا بمصر من قبل معاوية بن أبي سفيان، ثم عزله بمسلمة بن مخلد، وكان من الرماة، وكان يخضب بالسواد، ويقول: نسوِّدُ أعلاها، وتأبى أصولها (¬2). وابتنى بمصر دارًا، وكان له بدمشق دار بناحية قنطرة سنان من باب توما، ومات بمصر في آخر خلافة معاوية، سنة ثمان وخمسين، ودفن بمقبرتها العظمى، وقبره مشهور بها، وزرته في سنة سبع مئة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2572)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في المهر عند عقد النكاح، ومسلم (1418)، كتاب: النكاح، باب: الوفاء بالشروط في النكاح. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (25025)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 343)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 268)، وابن عبد البر في "التمهيد" (21/ 85)، وقال: هو بيت محفوظ له: نسود أعلاها وتأبى أصولها ... ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 343)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 430)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 313)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 280)، =

وأَمَّا ما حكاه الحافظ أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله - في "استيعابه" عن خليفة بن خياط: أنه قال: قتل عقبة بن عامر يوم النهروان شهيدًا، سنة ثمان وثلاثين، فقال: وهذا غلط منه، وفي كتابه بعد: وفي سنة ثمان وخمسين توفي، وقوله - رحمه الله - موافق للحفاظ، وتغليطه لخليفة، وكتابه صحيح. والله أعلم. وأخذ بظاهر هذا الحديث: الإمامُ أحمد، وجماعة، وألزموا الوفاء بالشروط، وإن لم يكن مقتضى العقد؛ كأن لا يتزوج عليها، ولا يتسرى، ولا يخرجها من البلد، ولا يسكن بها إلا في بيت معين، ولا يقسم لها، ولا ينفق عليها، ونحو ذلك. وحمل الإمام الشافعي وأكثر العلماء هذا الحديث على شروط لا تنافي مقتضى النكاح ومقاصده؛ كاشتراط العِشْرة بالمعروف، والإنفاق عليها، وكسوتها، وسكناها بالمعروف، وأنه لا يقصر في شيء من حقوقها، ويقسم لها كغيرها، وأنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تنشز عليه، ولا تصوم تطوعًا بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه، ونحو ذلك. فأَمَّا شرط ينافي مقتضاه؛ كشرط ألَّا يقسم لها، أو لا يتسرى عليها، أو لا ينفق عليها، فلا يجب الوفاء به، ويلغو الشرط، ويصح النكاح بمهر المثل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ شرط ليسَ في كتابِ اللهِ فهو باطل" (¬1). قال شيخنا أبو الفتح الإمام - رحمه الله -: وفي حمل الحديث على ما هو من مقتضيات العقد، ضعف، قال: لأنها أمور لا تؤثر الشروط في إيجابها، فلا تستند الحاجة إلى تعليق الحكم بالاشتراط فيها، ومقتضى الحديث: أن لفظ: ¬

_ = و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1073)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 486)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 51)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 308)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 202)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 467)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 520) , و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 216). (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث السابع

"أحق الشروط" يقتضي أن تكون بعض الشروط تقتضي الوفاء، وبعضها أشد اقتضاء له. والشروط التي تقتضيها العقود مستوية في وجوب الوفاء، وتترجح عليها الشروط المتعلقة بالنكاح، من جهة حرمة الأبضاع، وتأكيد استحلالها. هذا آخر كلامه (¬1). فحينئذ، كأنه - رحمه الله تعالى - يجعل الشروط، نفس استحلال الفروج بالعقد عليها، بعد أن كانت محرمة لا غير، والله أعلم. * * * الحديث السابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الشِّغَار. والشِّغَارُ؛ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل ابنتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابنتَهُ، ولَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاق (¬2). هذا التفسير للشغار مُدْرَج في الحديث، وليس هو مذكورًا في بعض الروايات، وقد بين في بعضها: أنه من كلام نافع. وأَمَّا الشِّغَار؛ فهو -بكسر الشين، وبالغين المعجمتين-، واختلف أهل اللغة في أصله، فقال ثعلب: هو مأخوذ من شَغَر الكلبُ برجلِه: إذا رَفَعها فَبَال. كأن العاقد يقول: لا ترفع رجلَ ابنتي حتى أرفعَ رجلَ ابنتك، وقيل: هو مأخوذ من شَغَر البلدُ: إذا خَلاَ؛ كأنه سمي بذلك للشغور من الصداق، وقيل: الشغار: البُعْد، وكأنه بعد عن طريق الحقِّ، ويقال: شَغَرت المرأة: رفعتْ رجلها عند الجماع. قال ابن قتيبة: كل واحد منهما يشغر عند الجماع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" له (4/ 33). (¬2) رواه البخاري (4822)، كتاب: النكاح، باب: الشغار، ومسلم (1415)، كتاب: النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه. (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 128)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 206 - 207)، و "الزاهر" للأزهري (ص: 314)، و "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 256)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 482)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 200)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 253).

وكان الشغار من نكاح الجاهلية، ولا شك أن الحديث صريح في النهي عنه. وأجمع العلماء على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمات، وبنات الأعمام، والإماء، كالبنات في هذا. وصورة العقد عليه الواضحة: زوجتُكَ ابنتي على أن تزوجني ابنتك، وبُضع كل واحدة صداق الأخرى، فيقول: قبلت. وتفسير الشغار من الراوي، يشعر بأن جهة الفساد فيه [من] وجوه: أحدها: تعليق العقد. الثاني: التشريك في البضع. الثالث: اشتراط العرو عن الصداق، وهو مفسد عند مالك، وتفسير نافع يشعر به، لكنه لملازمته لجهة الفساد، لا أن عدم ذكر الصداق يقتضي بمجرده فسادَ العقد، فلا يكون له حينئذ مدخل في النهي. وأجمع العلماء على النهي عن نكاح الشغار، فلو عقد، فهل يكون باطلًا أم صحيحًا، ويجب به مهر المثل؟ فذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: إلى أن النهي يقتضي إبطاله، وقال مالك: يفسخ قبل الدخول، وبعده، والفسخ يقتضي صحته، وفي رواية عنه: يفسخ قبله، لا بعده. وقال شيخنا أبو الفتح الإمام - رحمه الله -: وعند مالك فيه تقسيم؛ ففي بعض صور: العقد باطل عنده، وفي بعض صور: العقد يفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده؛ وهو: ما إذا سمى الصداق في العقد؛ بأن يقول: زوجتك ابنتي بكذا، على أن تزوجني ابنتك بكذا، فاستحق ملك هذا؛ لذكر الصداق. والله أعلم (¬1). وقال أبو حنيفة: يصح بمهر المثل، وهو محكي عن عطاء، والزهري، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 34 - 35).

الحديث الثامن

والليث، وهو رواية عن أحمد، وإسحاق، وبه قال أبو ثور، وابن جرير. والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عِنْ نِكَاحِ المُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ (¬1). أما علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فتقدَّم الكلام عليه. وأَمَّا نِكَاحُ المتعة؛ فهو أن يتزوج إلى مدة مؤقتًا، لا مطلقًا، ولا شك أنه إن كان جائزًا في أول الإسلام، وروى إباحته من الصحابة - رضي الله عنهم -: ابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وسلمة بن الأكوع، وسبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنهم -، لكنهم لم يذكروا في رواياتهم إباحته في الحضر، وإنما كان في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم إليه؛ لعدم وجود نسائهم معهم، وبلادهم حارَّة، وصبرهم عنهن قليل. وقد ذكر مسلم في حديث ابن عمر: أنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها؛ كالميتة (¬2)، وعن ابن عباس نحوه، ثم حرمت تحريم تأبيد لا تحريم تأقيت، بعد أن أبيحت ثم حرمت. ولا شك أن الإجماع منعقد على تحريمه، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة، وروي عن ابن جريج؛ فإنهم قالوا بجوازه، وتعلقوا بأحاديث الإباحة، وبقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]، وروي في قراءة ابن مسعود: (إلى أجل)، وهي شاذة لا يحتجُّ بها قرآنًا ولا خبرًا، ولا يلزم العمل بها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4825)، كتاب: النكاح، باب: نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخرًا، ومسلم (1407)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة. (¬2) رواه مسلم (1406)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة، لكن عن ابن أبي عمرة الأنصاري.

وما نقل عن ابن عباس من القول بجوازه، رجع عنه إلى منعه. ونقل عن زفر من الحنفية أنه قال: من نكح نكاح متعة، تأبد نكاحه، وكأنه جعل ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح؛ فإنها تلغى، ويصح العقد، وما نقل بعض الحنفية عن مالك من جوازه، فهو خطأ قطعًا، وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت، وعداه مالك بالمعنى إلى توقيت الحل، وإن لم يكن في عقد، كما إذا علق طلاق امرأته بوقت لا بد من مجيئه، وقع عليه الطلاق الآن، وعلله أصحابه: بأن ذلك ثابت للحل، وجعلوه في معنى نكاح المتعة. وأما تقييد النهي عنها في الحديث بيوم خيبر؛ فهكذا هو في "الصحيحين" من رواية علي - رضي الله عنه -، وهو الصحيح. وذكر مسلم من رواية سلمة بن الأكوع إباحتها يوم أوطاس (¬1)، ومن رواية سَبْرة بن معبد إباحتها يوم الفتح (¬2)، وهما واحد. ثم حرمت يومئذ، وفي حديث الكتاب تحريمهما يوم خيبر، وهو قبل الفتح. وروي في غير الصحيح عن علي - رضي الله عنه - رواية شاذة: أن النهي كان في غزوة تبوك، وهو غلط ممن رواه عن الزهري -وهو إسحاق بن راشد-؛ لأن مالكًا - رحمه الله - رواه في "الموطأ" (¬3)، وسفيان بن عيينة، والعمْري، ويونس، وغيرهم، كلهم رووه عن الزهري، وفيه: يوم خيبر، وقد روى أبو داود النهي عنها من حديث سبرة في حجة الوداع، قال أبو داود: وهذا أصح. وقد روى عن سبرة -أيضًا-، إباحتها في حجَّة الوداع، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها حينئذ، إلى يوم القيامة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1405)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة. (¬2) رواه مسلم (1406)، (2/ 1024)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة. (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 542). (¬4) رواه أبو داود (2072)، كتاب: النكاح، باب: في نكاح المتعة، عن ربيع بن سبرة, قال: =

وروى عن الحسن البصري: أنها ما حلت قط إلا في عمرة القضاء، وروي هذا عن سبرة -أيضًا-، ولم يذكر مسلم من روايات حديث سبرة تعيين وقت، أما في رواية محمد بن سعيد الدارمي، وإسحاق بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، فإنه ذكر فيها يوم فتح مكة (¬1). قال العلماء: ذكر الرواية بإباحتها يوم حجة الوداع خطأ؛ لأنه لم يكن يومئذ ضرورة ولا عزوبة، بل أكثرهم حجُّوا بنسائهم، والصحيح أن النهي عنها كان في حجة الوداع مجردًا عن الحاجة إلى المتعة؛ كما جاء في غير رواية. ويكون تجديده يومئذ النهي عنها؛ لاجتماع الناس فيه؛ ليشتهر في الأقطار بتبليغ الشاهد الغائب، ولتمام الدين وتقرير الشريعة، كما قرر - صلى الله عليه وسلم - غير أمر من قواعد الدين، وبين الحلال والحر أم، وبتَّ حينئذ تحريم المتعة إلى يوم القيامة. قال بعض العلماء: نسخ الله تعالى القبلة مرتين، ونكاح المتعة مرتين، وتحريم لحوم الحمر الأهلية مرتين، قال: ولا أحفظ رابعًا. وقال آخرون: إنما نسخت المتعة مرة واحدة يوم خيبر، وتحريمها في الفتح كان إشاعة لما تقدم من التحريم وشهرًا له، وكذلك تحريمها في حجة الوداع لهذا المعنى، وفي هذا نظر؛ من حيث إنه صحَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن فيها يوم الفتح، ثم حرمها بعد ذلك، وكان سفيان بن عيينة يزعم أن تاريخ خيبر في حديث إنما هو في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، لا نكاح المتعة. ولا شك أن الرخصة فيه وقعت بعد خيبر لسبب؛ وهو ما ثبت في "الصحيحين"، من رواية ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخَّص ¬

_ = أشهد على أبي أنه حدث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها في حجة الوداع، ورواه أيضًا (2073)، عن سبرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم متعة النساء. (¬1) انظر: "صحيح مسلم" (2/ 1024 - 1025 - 1027).

لنا أن ننكح المرأة بالثوب، إلى أجل (¬1)، ولولا معرفة علي بن أبي طالب بذلك، وأن النهي وقع بعد الرخصة آخرًا؛ لما أنكر الإباحة على ابن عباس. وقد جمع القاضي عياض - رحمه الله - بين الروايات، في الإباحة والتحريم، فقال: يحمل ما جاء من تحريم المتعة يوم خيبر، وفي عمرة القضاء، ويوم الفتح، ويوم أوطاس: أنه جدد النهي عنها في هذه المواطن؛ لأن حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مطعن فيه، بل هو ثابت من رواية الثقات الأثبات، لكن في رواية سفيان بن عيينة: أنه نهى عن المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فتكون الإباحة لها بعده للضرورة بعد التحريم، ثم حرمت تحريمًا مؤبدًا، ويكون تحريمها يوم حجة الوداع تأكيدًا وإشاعة له، لا تحريم نسخ؛ لضرورة الإباحة يوم فتح مكة؛ فإنه صحَّ أنه أباحها فيه، ثم حرمها. وتكون رواية إباحتها يوم حجة الوداع ساقطة؛ لما ذكرنا من عدم الاحتياج إليها؛ حيث إن أكثرهم كان معهم نساؤهم، وقول الحسن: إنها كانت في عمرة القضاء، لا قبلها ولا بعدها، مردود؛ بالأحاديث الثابتة في الكتاب وغيره، من تحريمها يوم خيبر، وهي قبل عمرة القضاء. وما روي من الإباحة يوم فتح مكة ويوم أوطاس، فهي مختلفة عن راو واحد، وهو سبرة بن معبد، فيترك ما خالف الصحيح منها، ويثبت ما وافقه. وهذا بعض معنى كلام القاضي، وقال أيضًا: وقد قال بعضهم: هذا مما تداوله التحريم والإباحة والنسخ مرتين. وقال شيخنا الإمام أبو زكريا النووي - قدس الله روحه -: والصواب المختار: أن التحريم والإباحة كانا مرتين: فكانت حلالًا قبل خيبر، ثم حُرمت يوم خيبر، ثم أُبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوطاس؛ لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، واستمر التحريم، ولا يجوز ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4787)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره من التبتل والخصاء، ومسلم (1404)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة.

أن يقال: الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد، وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم، من غير تقدم إباحة يوم الفتح؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحة صريحة في ذلك، فلا يجوز إسقاطها، فلا مانع يمنع تكرير الإباحة. والله أعلم (¬1). قال القاضي عياض: واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل لا ميراث فيه، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق، ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض، قال: وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن، حكم ببطلانه، سواء كان قبل الدخول، أو بعده، إلا ما حكي أولًا عن زفر. واختلف أصحاب مالك، هل يحد الواطئ فيه؟ ومذهب الشافعي - رحمه الله - أنه لا يحد الواطئ فيه؛ لشبهة العقد، والخلاف فيه، ومأخذ الخلاف: اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف، وتصير المسألة مجمعًا عليها؟ والأصحُّ عند الشافعية أنه لا يرفعه، بل يدوم الخلاف، ولا تصير المسألة مجمعًا عليها أبدًا، وبه قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني. قال القاضي عياض - رحمه الله -: وأجمعوا على أن من نكح نكاحًا مطلقًا، ونيته ألَّا يمكث معها إلا مدة نواها، فنكاحه صحيح حلال، ليس نكاح متعة، وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور، ولكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. وشذَّ الأوزاعي، وقال: هو نكاح متعة، ولا خير فيه. والله أعلم (¬2). وفي الحديث: تحريم لحوم الحُمُر الأهليَّة، وهو مذهب الشافعي، والعلماء كافة، إلا طائفة يسيرة من السلف، فروي إباحته وتحريمه عن ابن عباس، وعائشة، وبعض السلف، وروى مالك كراهته وتحريمه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 180 - 181). (¬2) المرجع السابق، (9/ 181 - 182).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حتَّى تُسْتَأْذَنَ"، قَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ! فكَيْفَ إِذنُها؟ قَالَ: "أَنْ تَسْكُتَ" (¬1). المراد بالأَيِّم هنا: الثيِّبُ، فكأنه أطلق بإزائه، وقد فسرته في الروايات الصحيحة؛ وهو استعمال أكثر أهل اللغة، ولهذا جعلت مقابلة للبكر، وهو قول علماء الحجاز والفقهاء كافة، وينطلق على امرأة لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرًا أو ثيبًا، باتفاق أهل اللغة. والأَيمة في اللغة: العزوبة، ورجل أَيِّم وامرأة أَيِّم. وحكى أبو عبيد: أيمة أيضًا، وقال الكوفيون من الفقهاء، وزفر: الأَيِّم: كلُّ امرأةٍ لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا، كما هو مقتضاه في اللغة (¬2). قالوا: فكل امرأة بلغت، فهي أحقُّ بنفسها من وليها، وعقدها على نفسها النكاح صحيح، وبه قال الشعبي والزهري، قالوا: وليس الولي من أركان صحة النكاح، بل هو من تمامه، وقال الأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد: يتوقف صحة النكاح على إجازة الولي. وقولُه: "حَتَّى تُسْتَأْمَرَ"؛ أي: يُطلبَ الأَمْرُ منها، وأصل الاستئمار: طلب الأمر. وقولُه: "وَكَيْفَ إِذْنُها؟ "؛ هو راجع إلى البِكْر. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4843)، كتاب: النكاح، باب: لا يُنكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، ومسلم (1419)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 46)، و "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 55)، و "المُغرب" للمطرزي (1/ 52)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 85)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 203)، و "لسان العرب" لابن منظور (12/ 40)، (مادة: أيم).

وقولُه في البكر: "حَتَّى تُسْتَأْذَنَ"؛ أي: يُطلبُ الإِذن منها، وأصل الاستئذان: طلب الإذن. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْ تَسْكُتَ"؛ إنما جعل السكوت إذنًا؛ لأنها قد تستحيي أن تُفصح بالإذن، وأن تُظهر الرغبةَ في النكاح، فيُستدلَّ بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح، لا يعلمه غيرها. واعلم أن لفظ النهي في الأيم والبكر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُنْكَحُ"؛ إما أن يحمل على التحريم، أو على الكراهة، فإن حُمل على التحريم، تعين أحد أمرين في البكر: أما اليتيمة، إذ لا يجب على الأب استئذان كل بكر؛ لتمكنه من إجبار الصغيرة والبالغة مع البكارة عند الشافعي. وأما البِكْر الصغيرة، فلا تجبر عند أبي حنيفة، وتمسكه بالحديث قوي؛ لأنه أقرب إلى الَعموم في لفظ البكر. وربما يُزاد على ذلك بأن يقال: الاستئذان إنما يكون في حقِّ من له إذن، ولا إذن للصغيرة، فلا تكون داخلة تحت الإرادة، ويختص الحديث بالبوالغ، فيكون أقرب إلى التناول. وفي الحديث دليل: على اشتراط استئمار الثيب في نكاحها، ولا يعرف أمرها في ذلك إلَّا بالنطق بالإذن، بخلاف البكر، وتعين ذلك؛ لما صحَّ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ" (¬1)، وهو يقتضي نفيَ الصحة، والنطقُ في الثيب واجب بلا خلاف، سواء كان الولي أبًا، أو غيره؛ لأنه زال كمال حيائها بممارسة الرجال، وسواء زالت بكارتها بنكاح صحيح أو فاسد، أو بوطء شبهة، أو بزنا، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2085)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1101)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1881)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، وابن حبان في "صحيحه" (4077)، وغيرهم، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

فلو زالت بوثبه، أو بإصبع، أو بطول التعنيس، أو وطئت في دبرها؛ فلها حكم الثيب على أصح الوجهين عند الشافعية، نظرًا إلى الثيوبة، وقيل: حكمها حكم البكر، فيكون إذنها السكوت؛ نظرًا إلى العلة في وجوب النطق في الثيب، وهي ممارسة الرجال، وهذه لم تمارسهم. نعم، من وطئت في دبرها، فقد وجدت هذه الممارسة في غير محل الثيوبة، وزوال حيائها به، أكثر من وقوعه في محله، فينبغي أن يكون اشتراط نطقها بالإذن راجحًا بحثًا ونقلًا. وفيه دليل: على شرعية استئذان البكر، سواء كان الولي أبًا أو جدًّا أو غيرهما؛ فإن الحديث عام بالنسبة إلى لفظ البكر، وهو عام -أيضًا- بالنسبة إلى كل ولي، وهذا هو الصحيح عند الشافعية. وقال بعضهم: إن كان الولي أبًا أو جدًّا، فاستئذانه إياها مستحب، وإن كان غيرهما، فلا بد من النطق؛ لأنها تستحيي من الأب والجدِّ أكثرَ من غيرهما. وفيه دليل: على أن السكوت في البكر كاف في الإذن لجميع الأولياء؛ لعموم الحديث، ولوجود الحياء، سواء قلنا باستحبابه؛ أو وجوبه. وفيه وجه: أنه كاف في الأب والجدِّ دون غيرهما. واختلف قول الشافعي - رحمه الله - في اليتيمة: هل يكتفى فيها بالسكوت؟ والحديث يقتضي الاكتفاء به، وقد ورد مصرحًا به في حديث آخر، ومال إلى ترجيح هذا القول: من يميل إلى الحديث من أصحابه، وقيل: لا بد من النطق، ورجحه أهل الفقه منهم؛ أعني: أصحاب الشافعي، ومذهبُ الشافعي والجمهور أنه لا يشترط إعلام البكر بأن سكوتها إذن، وشرطه بعض المالكية، واتفق أصحاب مالك على استحبابه. واختلف العلماء في اشتراط الولي في صحة النكاح: فقال مالك والشافعي: يشترط، ولا يصح نكاح إلا بولي، وقال أبو حنيفة: لا يشترط في الثيب، ولا في البكر البالغ، بل لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها، وقال أبو ثور: يجوز أن

تزوج نفسها بإذن وليها، ولا يجوز بغير إذنه، وقال داود: يشترط الولي في تزويج البكر، دون الثيب. احتج مالك والشافعي بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما امرأةٍ نُكِحَتْ بغيرِ إذنِ مَوَاليها، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ" ثلاث مرات، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن (¬1)، وبحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلي" أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: هو عندي حسن (¬2)، وصححه ابن المديني، وقبله البخاري، وإن روي مرسلًا، وقال: الزيادة من الثقة مقبولة، وكل ذلك يقتضي نفيَ الصحة. واحتج داود بحديث في "صحيح مسلم"، في الفرق بين البكر والثيب، وأن الثيب أحقُّ بنفسها، والبكر تستأذن (¬3)، وأجاب أصحاب الشافعي عنه: بأنها أحق، بمعنى شركها في الحق؛ بمعنى عدم إجبارها عليه، وأنها أحق في تعيين الزوج، واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره؛ فإنها تستقل فيه بلا ولي، وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الأمة الصغيرة، وخص عمومها بهذا القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثيرين من أهل الأصول. واحتجَّ أبو ثور بالحديث الذي ذكرناه عن عائشة - رضي الله عنها -: "أَيُّما امرأة نكحت بغير إِذنِ وَليِّها، فَنِكَاحُها بَاطِل"؛ ولأن الولي إنما يراد ليختار كفؤًا، ولدفع العار، وذلك يحصل بإذنه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2083)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1102)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1879)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 165)، وابن حبان في "صحيحه" (4074)، وغيرهم. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) رواه مسلم (1421)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

الحديث العاشر

وأما داود، فقال العلماء: ناقض داود مذهبه في شرطه الولي في البكر دون الثيب؛ لأنه إحداث قول في مسألة مختلَف فيها، لم يسبق إليه؛ ومذهبه: أنه لا يجوز إحداث مثل هذا. * * * الحديث العاشر عَنْ عَائشِةَ - رَضِيَ الله عَنْها - قالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي رفَاعَةَ القُرَظِيِّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاَقِي، فتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّما مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: "تُرِيدينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟! لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، قَالَتْ: وَأَبُو بكرٍ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بْنُ سَعيدٍ بِالبَاب يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلاَ تَسْمَعُ هَذِهِ وما تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟! (¬1). أما عائشة؛ فتقدَّم الكلام عليها. أَمَّا امرأةُ أَبي رِفاعة؛ فهي صحابية، واختُلف في اسمها على أربعة أقوال، والمشهور: أنها تَميمة -بفتح التاء-، والثاني: تُميمة -بضمها-، والثالث: سهيمة، والرابع: عائشة. ذكر القول الأول والثالثَ: الخطيبُ البغدادي في "مبهماته"، وقال: بنت وهب بن عبيدة، وذكر الثاني، والرابع: شيخُنا الحافظ أبو زكريا النووي، ولم يذكر ابن بشكوال في "مبهماته" غير الثاني، وهي تُميمة، -بضم التاء-، وقال: بنت وهب، كذا في "الموطأ". وقال أبو عمر النمري الحافظ: تميمة بنت وهب، لا أعلم لها غير قصتها مع رفاعة بن شموال؛ حديث العسيلة من رواية مالك في "الموطأ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2496)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي، ومسلم (1433)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره. (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 457)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر =

وأَمَّا رِفَاعَة القُرَظيُّ: فهو صحابي، وهو ابن شموال، ويقال: ابن رفاعة، من بني قريظة، روي عنه أنه قال: نزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} الآية [القصص: 51] في عشرة، أنا أحدهم، وهو مذكور في الحديث (¬1). وأَمَّا القُرَظي: بضمِّ القاف وفتح الراء وبالظاء المعجمة، ثم ياء النسب، فهي نسبة إلى قُريظة، وهي اسم رجل ترك أولادُه قلعة حصينة بقرب المدينة، فنسبت إليهم، وقُريظة والنضير أخوان من ولد هارون النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم (¬2). وأَمَّا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ الزَّبِيرِ، فهو صحابي، وأبوه الزبِير: بفتح الزاي، وكسر الباء، بلا خلاف، قُتل كافرًا يهوديًّا في غزوة بني قريظة. والزَّبير هو ابن باطا، وقال ابن عبد البر: ابن باطيا، وهو الذي قالت فيه امرأته تميمة: إنما معه مثل هُدبة الثوب، وكان تزوجها بعد رفاعة بن شموال، وأعرض عنها، ولم يستطع أن يمسها، فشكته في الحديث. كذا ذكره غيره من المحققين، وذكر عبدَ الرحمنِ بنَ الزبير: ابنُ منده، وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما "معرفة الصحابة"، وقالا: إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، قال شيخنا الحافظ أبو زكريا النووي - رحمه الله -: والصواب: الأول (¬3). ¬

_ = (4/ 1798)، و"غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 622)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 43)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 631)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 545). (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (9/ 2987)، والطبراني في "المعجم الكبير" (4564). (¬2) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 492)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 125)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 500)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 283)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 189)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 491). (¬3) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 833)، و "الإكمال" لابن ماكولا (4/ 166)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 442)، و "تهذيب الأسماه واللغات" للنووي =

وأَمَّا خَالِدُ بنُ سَعيد؛ فكنيته: أبو سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، القرشيُّ، الأمويُّ، أسلم قديمًا بعد أبي بكر الصديق. وقال ضمرة بن ربيعة: كان إسلام خالد مع إسلام الصديق، وقيل: كان ثالثًا أو رابعًا، وقيل: خامسًا، قالت أم خالد: تقدمه ابن [أبي] قحافة، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وسعد بن أبي وقاص. وقال ابن حبان: وقد قيل: إنه أسلم قبل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -؛ لرؤيا رآها في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأمُّه من خزاعة، هاجرَ إلى أرض الحبشة هو وأخوه عمرو بن سعيد، وأقام خالد بها بضع عشرة سنة، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلم المسلمين، فأسهموا له ولمن معه، ثم رجعوا معه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وأقاموا بها، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القضية، وفتح مكة، وحنينًا، والطائف، وتبوك، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات اليمن، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو باليمن، وكان قدومه من أرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات مذحج، وعلى صنعاء اليمن. وقال ابن حبان: واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني زبيد، وهو أول من كتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وكان سبب إسلامه أنه رأى في النوم: أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به، وكان أباه يدفعه فيها، ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذ بحقويه لا يقع فيها، ففزع، وقال: أحلف بالله! إنها لرؤيا، ولقي أبا بكر بن أبي قحافة، فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أُريد بك خير، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه، وإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك أن تقع فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأجناد، فقال: يا محمد! إلى من تدعو؟ قال: "أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، ¬

_ = (1/ 276)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 94)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 305)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 155).

وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر، ولا يضرُّ ولا ينفع، ولا يدري من عَبدَه ممَّن لم يعبده"، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، في قصة جرت له مع أبيه، وتغيب عنه، والله أعلم. قتل خالد بأجنادين، قبل وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - بأربع وعشرين ليلة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وقيل: قتل بمرج الصفر، في خلافة عمر، سنة أربع عشرة شهيدًا (¬1). وأَجنادين: بفتح الهمزة, وقيل: بكسرها، والله أعلم. قولُها: "فَطَلَّقَنِي فبَتَّ طَلاَقِي"؛ معناه طلقني ثلاثًا، ويحتمل من حيث اللفظ أن يكون قولها: فبت طلاقي: أن يكون بانقطاع آخر طلقة، ويحتمل أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث، ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء، وليس في اللفظ عموم، ولا إشعار بأخذ هذه المعاني، وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد. ومن احتجَّ بهذا الحديث على شيء من هذه الاحتمالات، لم يصب؛ لأنه إنما دل على مطلق البتِّ، والدليل على المطلق لا يدل على أحد قيديه بعينه، لكن سياق الحديث يدلُّ على أنه طلقها ثلاثًا؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتُحِبِّينَ أَنْ تَرْجِعي إِلَى رِفَاعَةَ؟! لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ" الحديث. وقولُها: "إِنَّما مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ"؛ الهُدْبة -بضم الهاء، وإسكان الدال-، وهو طرفه الذي لم ينسج، شبهوا الهدبة بهدب العين، وهو شعر جفنها. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته فيِ: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 94)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 152)، و "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 387)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 334)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 103)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 277)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 420)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 67)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 124)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 259)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 236).

وقال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: فيه وجهان: أحدهما: أن تكون شبهته بذلك لصغره. والثاني: أن تكون شبهته لاسترخائه وعدم انتشاره، والله أعلم (¬1). وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَتَحِبيِّنَ أَنْ تَرْجِعي إلَى رِفَاعَةَ؟ " لما ذكرت زوجها عبدَ الرحمن بنَ الزبير، وما يتعلق به من هدبة الثوب، فهم عنها إرادة فراقه؛ حيث إن المرأة ذكرت بالكناية بما يمنعها من الدوام معه، والرجوع إلى رفاعة، فقال - صلى الله عليه وسلم - "لا"؛ أي: ذلك لا يحصل لك، على تقدير أن يكون الأمر كما ذكرت. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"؛ في تأنيث العُسيلة أربعة أقوال: أحدها أن العسل يذكر ويؤنث، فمن أَنَّثه قال في تصغيره: عُسيلة. وقيل: أُنِّثَ على معنى النطفة، أو على نية اللذة، أو أراد قطعة من العسل، واستعمال لفظ العسيلة فيما ذكرنا مجاز، إما من اللذة، وإما من مظنتها، وهو الإيلاج على مذهب جمهور الفقهاء، الذين يكتفون بتغييب الحشفة. وأضعف الأقوال قول من قال: العسيلة على أنها أنثت على معنى النطفة؛ حيث إن الإنزال لا يشترط (¬2). وتبسُّمه - صلى الله عليه وسلم - تعجُّب من جهرها وتصريحها بأمر تستحيي النساء من ذكره في العادة، أو لرغبتها في زوجها الأول، وكراهة الثاني. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أن المبتوتة بالطلاق الثلاث لا تحلُّ لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، وهو صريح القرآن العزيز. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" له (4/ 40). (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 330)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 101)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 237)، و "لسان العرب" لابن منظور (11/ 445)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 2 - 3).

ومنها: أن المراد بنكاح الثاني: العقد والوطء، هذا قول جميع العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وانفرد سعيد بن المسيب، فلم يشترط الوطء، كما حمل قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، على العقد دون الوطء، وكما حمل قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] على العقد؛ وقال: النكاح حقيقة في العقد، وتقدم اختلاف الفقهاء في ذلك في أول كتاب النكاح، وهذا الحديث حجة عليه، ومخصص بعموم الآية، ومبين للمراد بها، ولعل سعيدًا لم يبلغه الحديث، فأخذ بظاهر القرآن، وشذ في ذلك. ولم يقل أحد من العلماء بقوله، إلا طائفة من الخوارج. كما شذ الحسن في قوله: لا يحلها إلا وطء فيه إنزال التفاتًا إلى معنى العسيلة. ومنها: أنه قد يُستدلُّ به على أن إحلال الزوج الثاني يتوقف مع الوطء في شرطه على الانتشار؛ فإن قولها: وإنما معه مثل هدبة الثوب: يدل على الاسترخاء وعدم الانتشار أن يكون العضو قد بلغ في الصغر إلى حد لا تغيب فيه الحشفة، أو مقدارها الذي يحصل به، وقد اتفق العلماء على أن تغييب ذلك في ذلك كاف في ذلك، من غير إنزال المني، إلا ما حكيناه في شذوذ عن الحسن البصري في اشتراطه، ولو وطئها في نكاح فاسد، لم تحل للأول؛ لأنه ليس بزوج، ولا بد في حلها للأول من انقضاء عدتها من الثاني، ولا يحل للثاني نكاحها حتى تنقضي عدتها من الأول. والله أعلم. ومنها: إظهار ما في النفس مما يخالف الشرع والعادة، ولا يستحيا من ذكره؛ لتعرف حكم الله تعالى وما يجب منه. والأصل في ذلك قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، ولو كان الله - سبحانه وتعالى - كاتمًا شيئًا على أحد، لكتم هذا، ولم يبين حكمه، بل جعله قرآنا يُتلى إلى يوم القيامة. وقد تمسك العلماء بهذا وأمثاله؛ على أن الشرع ليس له باطن يخالف ظاهره، ولا ظاهر يخالف باطنه، بل باطنه وظاهره سواء في حكم الله تعالى،

ويجب تقريبه والوصول إليه بكل طريق ممكن، والحكمة في كونه كذلك؛ لأجل معرفة الدرجات، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، وهذا كلُّه بالنسبة إلى حكم الشرع مجردًا. وأما العمل به للثبوت عند الحكام، وترتيب الحكم عندهم بالثبوت بالأقارير والبينات، فإن علموا ما ثبت مخالفًا لحكم الله تعالى، حرم عليهم ثبوتُه وترتيبُ حكمهم عليه، وإن لم يعلموا ذلك، ولم يحصل في قلوبهم ريبة فيه، شاع لهم الثبوت والحكم بالطلب الصحيح من غير أولي الرتب. واعلم أن الله تعالى لما أرسل الرسل، وأنزل الكتب عليهم، وأمر الأمم بطاعتهم، واتباع ما في الكتب، ضلَّت اليهود، وغيرَّت وكتمت وبدَّلت، وقالت: لم نكلَّف إلا ما ظهر لنا منها، ولم نكلف بما يظن منها، وكفروا بذلك، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]. ولما تكرر ذلك منهم، بعث الله تعالى عيسى - صلى الله عليه وسلم - بالإنجيل؛ مصدقًا للتوراة، وحكمًا ومواعظ وأحكامًا قلبية ملينة للقلوب، وأمرهم بالعمل بالتوراة، فضلَّت النصارى، واعتمدت على العمل بالقلوب دون الجوارح، وهو المراد بقول العلماء: علم الباطن، وأهملوا أحكام الظواهر، وكفروا بذلك، فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن العظيم، تبيانًا لكل شيء، وجعل - سبحانه وتعالى - إليه - صلى الله عليه وسلم - البيانَ ظاهرًا وباطنًا، وأمره - سبحانه وتعالى - وأمته بالاستقامة، فقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل قال له: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: "قُلْ آمنتُ باللهِ ثم استقم" (¬1)؛ أي: استقم على أمر الله ظاهرًا وباطنًا. فقول الفقهاء: يشترط ثبوت العدالة في الظاهر والباطن، ويقول: نفذ الحكم في الظاهر دون الباطن، وعكسه، ومن أنكر وجوب أمر الله تعالى في الظاهر أو ¬

_ (¬1) رواه مسلم (38)، كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه -.

الحديث الحادي عشر

في الباطن، كفر، والله يعلم المفسد من المصلح، وهو - سبحانه وتعالى - أعلم بكل شيء. ومنها: التبسُّم؛ تعجبًا أو فرحًا بمن سأل عن أحكام الشرع، وأظهر ما في نفسه مما يخالف العادة في إظهاره، خصوصًا النساء؛ فإنهنَّ محلُّ الحياء، فالتعجب منهن في ذلك أكثر من الرجال؛ لشهامتهم، وجبنهن. ومنها: ملازمة أبي بكر الصديق - صلى الله عليه وسلم -؛ ليعرف الأحكام وسماع العلم، وهذه منقبة له - رضي الله عنه -؛ فإنه كان أكثرَ الصحابة - رضي الله عنهم - مواظبةً ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا. ومنها: حياء أهل مكة ونسائهم من الجهر بمثل ما ذكرته امرأة رفاعة. ولا شكَّ أن الحياء في مثل ذلك مذموم، أو غير محمود؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ النِّسَاءُ، نِساءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحياءُ أَنْ يتَفَقَّهْنَ في الدِّينِ" (¬1). وكان خالد بن سعيد مكيًّا، ولهذا أنكر رفعَ صوتها بما ذكرته من أمرها وأمر رفاعةَ وعبدِ الرحمن بن الزبير، وقال بالنداء لأبي بكر: ألا تسمع هذه وما تجهر به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ومنها: الأدب مع العلماء والحكام بعدم رفع الصوت بين أيديهم، وعند سؤالهم، خصوصًا من النساء؛ فإن رفع الصوت أقبحُ منهن من الرجال، ولهذا أنكر خالد بن سعيد جهرها، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلابَة: فَلَو شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (4916)، كتاب: النكاح، باب: إذا تزوج الثيب على البكر، ومسلم (1461)، =

تقدَّم الكلام على أنس وأبي قلابة. واعلم أن قول الصحابي: من السنة كذا، حكمه حكم المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا اختيار أكثر الأصوليين والفقهاء والمحدثين؛ قالوا: لأن الظاهر أنه ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يحتمل أن ذلك قاله عن اجتهاد رأي؛ ولهذا جعله بعضهم موقوفًا، ولكن الأظهر خلافه. أَمَّا قولُ أَبي قِلابَةَ: "وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ" إلى آخره، يحتمل قول أبي قلابة أمرين: أحدهما: أن يكون ظنَّ ذلك مرفوعًا لفظًا من أنس، فتحرز عن ذلك تورعًا. والثاني: أن يكون ظنَّ قولَ أنس: من السنة، في حكم المرفوع، فلو شاء لعبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده أنه في حكم المرفوع. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: والأول أقرب؛ لأن قوله: من السنة، يقتضي أن يكون مرفوعًا بطريق اجتهادي محتمل. وقوله: إنه رفعه، نص في رفعه، وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر محتمل، إلى ما هو نص غير محتمل (¬1). وقال شيخنا أبو زكريا النواوي - رحمه الله تعالى -: معنى قوله: من السنة كذا: التصريح بالرفع؛ فلو شئت أن أقوله بناء على الرواية بالمعنى، لقلته، ولو قلته، كنت صادقًا. والله أعلم (¬2). فحينئذ؛ يرجع عدم تصريحه بالرفع إلى التورع. وأما قول شيخنا أبي الفتح: إنه يقتضي أن يكون مرفوعًا بطريق اجتهادي محتمل، فهو صحيح إذا لم يكن اصطلاحهم في قولهم: من السنة كذا، صريحًا ¬

_ = كتاب: الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، وهذا لفظ البخاري. (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 41). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 46).

في الرفع، وأنه بمنزلة قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعله، أما إذا كان اصطلاحهم كذلك، وصرحوا به، فلا ينفي لاحتمال اقتضاء الرفع، والاجتهاد فيه وجه. والله أعلم. والحديث يقتضي أن هذا الحق في البكر والثيب، إنما هو إذا كانا متجددين على نكاح امرأة قبلها. ولا يقتضي أنه ثابت لكل متجددة، وإن لم يكن قبلها غيرها، وكذا استمر عمل الناس على هذا، وإن لم يكن قبلها امرأة في النكاح، والحديث لا يقتضيه. واختلف العلماء في الحق للجديدة هل هو للزوج أو للزوجة؟ فمذهب الشافعي، والجمهور: أنه حقٌّ للمرأة على الزوج؛ لأجل إيناسها، وإزالة الحشمة عنها؛ لتجددها، وقال بعض المالكية: هو حقٌّ للزوج على جميع نسائه، وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، سواء كان عنده زوجة أم لا؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا تَزَوَّجَ البكْرَ، أَقَامَ عِنْدَها سَبْعًا، وإذا تَزَوَّجَ الثيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا"، ولم يخص من لم يكن لَه زوجة. وقالت طائفة: الحديث إنما هو فيمن له زوجة أو زوجات غير هذه؛ لأن من لا زوجة له، هو مقيم عندها كل دهره، مؤنس لها، متمتع بها، مستمتعة به، فلا قاطع، بخلاف من له زوجات؛ فإنه جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيسًا لها متصلًا لتستقر عشرتها وتذهب حشمتها منه ووحشتها، ويقضي كل واحد لذته من صاحبه، ولا ينقطع الدوران على غيرها، ورجح القاضي عياض هذا القول. وقال البغوي من الشافعية في "فتاويه": وهذا الحق إنما يثبت للجديدة؛ إذا كان عنده أخرى يبيت عندها، فإن لم يكن له أخرى، أو كان لا يبيت عندها، لم يثبت للجديدة حق الزفاف، كما لا يلزمه أن يبيت عند زوجاته ابتداءً. قال شيخنا أبو زكريا النووي - رحمه الله تعالى -: والأول أقوى؛ لعموم الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (10/ 45).

قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي - رحمه الله تعالى -: وأفرط بعض الفقهاء المالكية؛ فجعل مقامَهُ عندها عذرًا في ترك الجمعة، إذا جاءت في أثناء المدة. قال: وهذا ساقطٌ، منافٍ للقواعد؛ فإن مثل هذا من الآداب والسُّنَن، لا، يُترك له الواجب. ولما شعر بهذا بعض المتأخرين، وأنه لا يصلح أن يكون عذرًا، توهم أن قائله يرى الجمعة فرض كفاية، وهو فاسد جدًّا؛ لأن قول هذا القائل متردد محتمل أن يكون جعله عذرًا. وأخطأ في ذلك، وتخطئته في هذا أولى من تخطئته فيما دلَّت عليه النصوص؛ من وجوب الجمعة على الأعيان. هذا آخر كلامه (¬1). قلت: والكلام في أنَّ مقامَهُ عندها عذر في ترك الجمعة، ينبني على أن المقام عند البكر والثيب إذا كان له زوجة أخرى واجب أم مستحب؟ ومذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - وأصحابِه وموافقيهم: أنه واجب، وهي رواية ابن القاسم عن مالك. وروى عنه ابن عبد الحكم: أنه على الاستحباب، فإذا قلنا: إنه واجب، وإنه حق للزوجة على الزوج، اقتضى ذلك أن يكون عذرًا في ترك الجمعة، كما يعذر في تركها مَنْ له قريب يخاف موته، ونحو ذلك. كيف والجمعة في وجودها وحكمها إذا فاتت تُصلَّى ظهرًا، كيف وحقوق الآدميين إذا تعارضت مع حق الله تعالى قُدمت عليه، عند جماعة من العلماء. وربما هو الراجح عند بعضهم، وإن أدى إلى ترك حق الله تعالى بالكلية؛ حيث إن حقه - سبحانه وتعالى - مبني على المسامحة، وحق الآدمي مبني على المشاحة، وينبغي أن يكون المقام عندها عذرًا في ترك الجمعة، إذا لم ترض بترك حقها، فأما إذا رضيت بتركه، فلا يكون عذرًا في تركها قطعًا. وقد أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، معنى ترك الواجب ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 42).

عينًا، لأجل حدثان، بأن العهد بالعرس في حديث قتل الحية بالرمح، من رجل هو ابن عم أبي سعيد الخدري، وأنه كان أسرع موتًا من الحية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بتحذيرها ثلاثًا، ثم إن بدا لكم بعد أن تقتلوه فاقتلوه بعد الثلاث. وقالوا فيه: إن أبا السائب مولى هشام بن زهرة أتى أبا سعيد الخدري، ووجد حية تتحرك تحت سريره، وإن أبا سعيد قال: إن ابن عم لي كان في هذا البيت، فلما كان يوم الأحزاب، استأذن إلى أهله، وكان حديث عهد بعرس، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث (¬1)، ولا شك أن الجهاد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضَ عين، خصوصًا يوم الأحزاب مع مصابرة الكفار لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر المدينة، ومصابرته لهم، ومع هذا أذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تركه لأجل أهله، وكونه حديث عهدٍ بعرس، فلو لم يكن ذلك راجحًا على جهاد فرض العين، لما أذن له، فالجمعة أمرها أخفُّ من ذلك، والله أعلم. وفي هذا الحديث: العدل بين الزوجات. وفيه: أن حقَّ الزفاف بالإقامة عند المزفوفة ثابت، وأنها تقدم به على غيرها. وفيه: أنها إذا كانت بكرًا، كان لها سبع ليالي بأيامها بلا قضاء، وإن كانت ثيبًا؛ كان لها الخيار، إن شاءت سبعًا، ويقضي السبع لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثًا، ولا يقضي، وهذا مذهب الشافعي وموافقيه، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وابن جرير، وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة، والحكم، وحماد: يجب قضاء الجميع في الثيب والبكر، واستدلُّوا بالظواهر الواردة في العدل بين الزوجات. وحجة الشافعي: هذا الحديث، مع غيره من الأحاديث، وهي مخصصة للظواهر العامة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2236)، كتاب: السلام، باب: قتل الحيات وغيرها، وأبو داود (5257)، كتاب: الأدب، باب: في قتل الحيات، والنسائي في "السنن الكبرى" (10809)، والترمذي (1484)، كتاب: الأحكام والفوائد، باب: ما جاء في قتل الحيات.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عَنِ ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَن أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا، فَإِنَّهُ إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا" (¬1). أَمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا"؛ فقال القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: لم يحمل أخذ الحديث في نفي ضرره على العموم في نفي جميعه، من الوسوسة والإغراء (¬2)، قال: وقيل المراد: بـ "لَمْ يَضرَّهُ الشَّيْطَانُ": أنه لا يصرعه، وقيل: لا يطعن فيه عند ولادته، بخلاف غيره. هذا معنى كلامه. فالحديث يحتمل أن يؤخذ عامًّا يدخل تحته الضرر الديني، ويحتمل أن يؤخذ خاصًّا بالنسبة إلى الضرر البدني، بمعنى: أن الشيطان لا يتخبطه، ولا يداخله فيما يضرُّ عقلَه أو بدنَه، هذا أقرب، وإن كان التخصيص على خلاف الأصل؛ لأنَّا إذا حملناه على العموم، اقتضى ذلك أن يكون الولد معصومًا من المعاصي كلها، وقد لا يتفق ذلك، ويعز وجوده، ولا بد من وقوع ما أخبر عنه - صلى الله عليه وسلم -. أَمَّا إذا حملناه على الضَّرَر في العقل أو البدن، فلا يمنع ذلك، ولا يدلُّ دليل على وجود خلافه، والله أعلم. وفي الحديث دليل: على استحباب التسمية والدعاء المذكور في ابتداء الجماع. وفيه: الاعتصام بذكر الله تعالى ودعائه من الشيطان. وفيه: الحثُّ على المحافظة على تسميته ودعائه في حال لم يَنْهَ الشرع عنه، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6025)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا أتى أهله، ومسلم (1434)، كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع. (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (2/ 269).

الحديث الثالث عشر

حتى في حال شهوات الإنسان وألذها، والله أعلم. وفيه: إشارة على ملازمة الشيطان لابن آدم، مِنْ حِينِ خروجه من ظهر أبيه إلى رَحِم أُمِّهِ إلى حين يموت، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عشر عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قال: "الحَمْوُ: المَوْتُ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبي الطَّاهِرِ، عَنْ ابنِ وَهَبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُولُ: الحَمْوُ: أَخو الزَّوْجِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أقَارِبِ الزَّوْجِ، ابنِ العمِّ وَنَحْوِهِ (¬2). تقدَّم الكلام على عقبة بن عامر قريبًا. وأَمَّا الرجل المبهم من الأنصار، فلا أعلم اسمه. وأَمَّا أبو الطاهر، فاسمُه: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح، قرشيٌّ، أمويٌّ، مولاهم مضريٌّ، مولى نَهيك، مولى عتبةَ بن أبي سفيان، وروى عنه جماعة من الأئمة وغيرهم. روى عنه مسلم دون البخاري، وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ويعقوب بن سفيان وغيرهم من الأئمة، قال أبو حاتم: لا بأس به. وتوفي في سنة تسع وأربعين ومئتين (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4934)، كتاب: النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، ومسلم (2172)، كتاب: السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها. (¬2) رواه مسلم (2172)، (4/ 1711)، كتاب: السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها. (¬3) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 65)، و "الثقات" لابن حبان (8/ 29)، و "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 415)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 55).

وأَمَّا ابنُ وَهَبٍ؛ فاسمه عبد الله بن وهب بن مسلم، وكنيته أبو محمد: مصريٌّ، قرشيٌّ، فهريٌّ، مولى يزيد بن رمانة، مولى أبي عبد الرحمن بن يزيد بن أنيس الفهري. سمعَ الأئمة الأعلام، وحفَّاظَ الإسلام وغيرَهم. وسمع منه الليث بن سعد، أحدُ شيوخه، وخلقٌ سواه. وكتب إليه مالك كتابًا، وعنونه نعتًا له بالفقيه، ولم يكتب بذلك معنونًا بالفقيه إلا إليه، وهو في طبقة مالك في الفقه، اتفقوا على علمه وتوثيقه، وورعه وعبادته. ومات بمصر سنة سبع وتسعين ومئة، روى له البخاري ومسلم (¬1). وأَمَّا اللَّيْثُ؛ فكنيته: أبو الحارث بن سعد بن عبد الرحمن: مصريٌّ، فَهميٌّ، مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وقيل: مولى خالد بن ثابت بن طاعن الفهمي. وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس، من أهل أصبهان، قال ابن يونس: وليس لما قالوه من ذلك عندنا صحة، والمشهور أنه فهمي، وفهم من قيس عيلان. سمع جماعة من التابعين وخلقًا من أتباعهم، وروى عنه من شيوخه: محمد بن عجلان، وهشام بن سعد، وخلق سواهم. قال الشافعي: كان الليث أفقه من مالك، إلا أنه ضَيَّعَهُ أصحابه، واستقل بالفتوى بمصر، اتفقوا على علمه وورعه وتوثيقه ونبله وسخائه، ولد سنة ثلاث أو أربع وتسعين، ومات في شعبان سنة خمس وستين ومئة. وقيل: ست أو سبع وسبعين ومئة، وقيل: سنة خمس وسبعين ومئة، وقد استكمل إحدى وثمانين سنة. روى له البخاري ومسلم (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 218)، و"الثقات" لابن حبان (8/ 346)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 277)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 304)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 65). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 517)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 246)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 179)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم =

وقد فسَّر الليث بن سعد "الحَمْوَ"، وقال أهل اللغة: الأحماء: أقارب الزوج، والأختان: أقارب الزوجة، والأصهار: يعمها، والحمو: أحد الأحماء، وفيه أربع لغات: حمًا مثل قفًا، وحَمُو مثل أَبُو، وحَمٌ مثل أَبٍ، وحَمْءٌ بإسكان الميم مهموز، وأصله: حَمَوٌ: بفتح الحاء والميم. وحماةُ المرأة: أُمُّ زوجها، قال الجوهري: لا لغة فيها غيرها. والمعنى في ذلك: أنه إذا كان رأيه هذا في أب الزوج، وهو محرم، فكيف الغريب؟ أي: فليمت ولا يفعلن، فهذه الكلمة تقولها العرب، كما تقول: الأسد الموت، والسلطان النار؛ أي: لقاؤهما مثل الموت والنار؛ يعني: أن خلوةَ الحَمُو معها أشدُّ من خلوة غيره من الغرباء؛ لأنه ربما حسن لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج من التماس ما ليس في وسعه، أو سوء عشرة، أو غير ذلك، ولأن الزوج لا يؤثر أن يطلع الحمو على باطن حاله بدخول بيته. ولما كان الحمو يُستعمل عند الناس في أب الزوج، وهو محرم من المرأة، ويمنع دخوله عليها، فسره الليث بما يزيل هذا الإشكال، وحمله على من ليس بمحرم؛ فإنه لا يجوز له الخلوة بالمرأة (¬1). والحديث دالٌّ على تحريم الخلوة بالأجانب، فحينئذ تأويل قوله: "الحَمْوُ المَوْتُ" يختلف بحسب اختلاف الحمو؛ فإن حمل على محرم المرأة: كأبي زوجها، احتمل قوله: "الحَمْوُ المَؤتُ" أن يكون بمعنى: أنه لا بد من إباحة دخوله كما أنه لا بد من الموت، وإنْ حُمل على من ليس بمحرم، احتمل على أن ¬

_ = (7/ 318)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (3/ 13)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 341)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 382)، و "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 532)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 136)، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 412). (¬1) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 71)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 199)، و"النهاية في غريب الحديث" (1/ 447 - 448)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 154)، و "لسان العرب" لابن منظور (14/ 197)، (مادة: حما).

يكون هذا الكلام خرج مخرج التغليظ والدعاء، أو كراهته لدخول؛ حيث فهم من قائله طلب الترخيص، فغلظ عليه بوصفه بالموت، أو الدعاء بأن من قصد ذلك، فليكن الموت في دخوله عوضًا من دخول الحمو الذي قصد دخوله، أو تشبيه كراهة دخوله بكراهة دخول الموت. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إِيَّاكُم والدُّخُول عَلَى النِّسَاءِ"؛ مخصوص بغير المحارم، وعامٌّ بالنسبة إلى غيرهن، ولا بد من اعتبار أمر آخر، وهو: أن يكون الدخول لأجل الخلوة، أما إذا لم يقتض ذلك، فلا يمتنع؛ كالدخول للتطبيب والتعليم ونحوهما. وفي الحديث: تحريم الدخول على النساء لغير حاجة شرعية، والخلوة بهنَّ، وفي معنى ذلك: الخلوة بالأمرد الحسن الذي يُفتتن به، وكل من في الخلوة به إفساد على زوج أو أب أو ولي لليتيم، أو مالك، فإن الخلوة بالزوجة والولد واليتيم والمملوك وإفسادهم على من ذكر حرام؛ لحقهم، بخلاف المرأة غير المحرم، والأمرد الحسن؛ لأن التحريم فيهما لأجل من خلا بهما، ويتضمن ذلك الإفساد عليهما وعلى وليهما، والله أعلم. وفيه: السؤال عما يلزم أن يكون داخلًا في عموم الكلام؛ فإن قوله: "إِيَّاكُم والدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ" يعمُّ الحموَ وغيره، فسأل عنه. وفيه: الجواب بأمر يلزم منه التغليظ في النهي، والتحذير من ارتكابه، والله أعلم. * * *

باب الصداق

بَابُ الصَّداق الصَّدَاق -بفتح الصاد وكسرها-: مَهْرُ المثل، وكذلك الصَّدُقَةُ -بفتح الصاد وضم الدال-، ومنه قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، والصَّدْقة: -بضم الصاد وتسكين الدال-، أربع لغات مشهورات، وأصدقتُ المرأة، سَمَّيتُ لَها صداقًا. وللصَّداق أسماء: المَهْرُ، والنِّحْلَة، والفَرِيضة، والأجر، والغليقة، والعقر (¬1). * * * الحديث الأول عَن أَنَسِ بْنِ مَالكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْتَقَ صَفِيَّة، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (¬2). أَمَّا صَفِيَّة؛ فتقدَّم الكلام عليها في باب الاعتكاف. اعلم أَنَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصائصَ في النكاح ليست لغيره، خصوصًا في النكاح بلا عوض؛ بقوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 164)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 197)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 151)، (مادة: صدق). (¬2) رواه البخاري (4798)، كتاب: النكاح، باب: من جعل عتق الأمة صداقها، ومسلم (1365)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها.

يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. ولمَّا كان العِتْق قربة محضة إلى الله تعالى، وأن القربة لا يجوز جعلها عوضًا من أعواض الدنيا، فإن الصَّداق مقابل بالعقد، مجردًا مع الموتِ أو بالاستمتاع بالعقد. استشكل العلماء حديث صفية: "وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقها"، وقالوا: إنَّما سُمِّي العتق صداقًا على سبيل المجاز، وتزوَّجها - صلى الله عليه وسلم - بغير صداق على سبيل الخصوصية؛ حيث إن العِتْقَ قام مقام الصداق إن لم يكن ثم عوض غيره، وقيل: أعتقها وتزوجها على قيمتها، وكانت مجهولة، وكان ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: معناه أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها، فقبلت، فلزمها الوفاء به؛ لأن العقد وقع على النكاح، والعتق، ولا شك أن ظاهر الحديث يقتضي لزوم العقد على شرط ذلك، وصحة الصداق، وإن كان شرطه لا يجوز؛ لتشوف الشارع إلى العتق، فيصحُّ العِتْق لأجله، ولا يجوز شرطه لمخالفته. وهو قول جماعة: منهم: الزهري، والثوري، ونقل عن أحمد، وإسحاق -أيضًا-، قالوا: لا يجوز أن يعتقها على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها، لكنه يلزمها ذلك، ويصحُّ الصداق. لكن القياس يمنع ذلك؛ فحينئذ يتردد الحال بين ظن العمل بظاهر الحديث أو احتمال الخصوصية في الواقعة، وإن كانت على خلاف الأصل، ويتأنس في ذلك بما ذكرنا أولًا من كثرة خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في النكاح، والله أعلم. واختلف الفقهاء فيمن أعتق أَمَتَهُ على أن يتزوجها، ويكون عتقها صداقها، فقال الجمهور، منهم: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة: لا يلزمها أن تتزوج به، وهو إبطال للشرط. قال الشافعي: فإن أعتقها على هذا الشرط، فقبلت، عتقت، ولا يلزمها الوفاء بأن تتزوجه، بل عليها قيمتها؛ لأنه لم يرض بعتقها مجازًا، وصار ذلك كسائر الشروط الباطلة، وما يلزم من الأعواض، لمن لم يرض بالمجاز، فإن

الحديث الثاني

تزوجته على مهر يتفقان عليه، كان لها ذلك المسمى، وعليها قيمتها للسيد، وإن تزوجها على قيمتها، فإن كانت القيمة معلومة له ولها، صحَّ الصداق، ولا يبقى له عليها قيمة، ولا لها عليه صداق، وإن كانت مجهولة، فالأصح وجهان للشافعية: أنه لا يصحُّ الصداق، ويجب مهر المثل، والنكاح صحيح. ومنهم من صحح الصداق بالقيمة المجهولة، على ضرب من الاستحسان، وأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف. وتقدم مذهب الزهري، والثوري، وما نقل عن أحمد، وإسحاق من لزوم ذلك بالنسبة إليها دون جواز شرطه. وظاهر الحديث مع هؤلاء، والقياس مع الأولين، ويؤولون الحديث على أن عتقها قائمٌ مقامَ الصداقِ، وأنه سمَّاه باسمه، كما تقدم، والله أعلم. وقد يؤخذ من الحديث: استحباب عتق الأمة وتزوجها، وقد جاء التصريح به والحثُّ عليه في حديث آخر في الصحيح، لكنها إذا كانت موطوءة له بالملك، وأعتقها وتزوجها، هل يحتاج إلى استبراء؟ فيه وجهان للشافعية: أصحهما عندهم: لا يحتاج إليه؛ لعدم المحذور من اختلاط المياه. والثاني: يحتاج إليه تعبدًا، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَتْهُ امْرَأَةْ فَقَاَلَتْ: إني وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! زَوِّجْنِيهَا إنْ لَمْ يكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْء تُصْدِقُهَا؟ "، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إلَّا إزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إزَارُكَ إنْ أَعْطَيتهَا إيَّاهُ، جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا"، فَقَالَ: مَا أَجِدُ، قَالَ: "فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتمًا

مِنْ حَدِيدٍ"، فَالتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَبهًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "زَوَّجتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (¬1). تقدَّم الكلام على سهل بن سعد أول باب الجمعة. وأَمَّا المرأةُ الواهبةُ نفسَها؛ فاختلف العلماء في اسمها: فقال أبو القاسم خلفُ بن بشكوال - رحمه الله -: قيل: إنها خولة بنت حكيم، كذا في "صحيح البخاري"، وقيل: أم شريك، وقيل: ميمونة، حكى ذلك إسماعيل القاضي. هذا آخر كلامه (¬2). وقال شيخنا الحافظ أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى-: قال الأكثرون: هي أم شريك، واسمها غزية، وقيل: غريلة بنت دودان، وقيل: بنت حبار، وقيل: اسمها خولة بنت حكيم، هذا آخر كلامه (¬3). وقال أبو محمد البغوي في "معالم التنزيل": واختلفوا في التي وَهبتْ نفسَها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، هل كانت امرأة منهن، يعني: أزواجه؟ فقال عبد الله بن عباس، ومجاهد: لم تكن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين. وقولُه تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50] على طريق الشرط والجزاء، قال: وقال آخرون: بل كان عنده موهوبة، واختلفوا فيها، فقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، يقال لها: أم المساكين، وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين، ومقاتل: هي أم شريك بنت حارثة من بني أسد، وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم، من بني سليم. هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4842)، كتاب: النكاح، باب: السلطان ولي، ومسلم (1425)، كتاب: النكاح، باب: الصداق. (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 668 - 670). (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 632). (¬4) انظر: "تفسير البغوي" المسمّى: "معالم التنزيل" (3/ 574 - 575).

وليس في هذا الحديث ما يدلُّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عنده موهوبة ولا عدمه، بل يدلُّ على أن امرأة وهبت نفسها منه، وأن رجلًا سأله تزويجها إياه، إن لم تكن له إليها حاجة، وأنه زوجها إياه. وأَمَّا الرجل الذي سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزوجها منه، فلم أظفر به، ولا علمته، والله أعلم. وأَمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "زَوَّجْتكهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ"؛ اختلفت الروايات في لفظة: "زَوَّجْتُكهَا"، فالذي رواه الأكثرون منهم البخاري ومسلم: "زوجتكها". قال القاضي عياض، عن رواية الأكثرين لمسلم: قال الدارقطني: والصواب رواية من روى: "زوجتكها"، قال: وهم أكثر وأحفظ. ورويت في "صحيح مسلم": مُلِّكْتَها -بضم الميم وكسر اللام المشددة، على ما لم يُسمَّ فاعله-، وكذا هي في معظم النسخ منه. ونقلها القاضي عياض عن رواية الأكثر لمسلم، قال: وفي بعض النسخ "مَلَّكْتُكَها" بكافين. وكذا رُويت في البخاري. قال: وقال الدارقطني: رواية من روى "ملكتها" وَهْمٌ. قال شيخنا الحافظ أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى-: ويحتمل صحة اللفظين، ويكون جرى لفظ التزويج أولًا، فملكها، ثم قال له: اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق. والله أعلم (¬1). قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: وهذا قد يعكسه الخصم على قائله، ويقول: جرى أولًا لفظ التمليك، فحصل به التزويج، ثم عبر عن هذا التزويج آخرًا بقوله: فقد زوجتكها. قال: هذا بعيد أولًا؛ فإن سياق الحديث يقتضي تعيين موضع هذه اللفظة التي اختلف فيها، وإنها التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر يعقد به النكاح، واختلاف كل واحدة من اللفظتين، وهو بعيد جدًّا. و-أيضًا- فلخصمه أن يعكس الأمر ويقول: كان انعقاد النكاح بلفظ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 214).

التمليك، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "زوجتكها" إخبار عما مضى بمعناه، فإن ذلك التمليك هو تمليك نكاح. و -أيضًا- فإن رواية من روى: "ملكتها" التي لم يتعرض لتأويلها، ويبعد فيها ذلك إلا على سبيل الإخبار عن الماضي، وهو بمعناه، ولخصمه أن يعكسه. وإنما الصواب في مثل هذا أن ينظر إلى الترجيح، والله أعلم (¬1). قلت: إنما قصد شيخنا أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى- بما ذكره من الاحتمال: الائتلاف بين الروايات؛ حيث إنه أولى من الاختلاف إذا أمكن، فأما إذا لم يمكن، فإن الترجيح متعين، والله أعلم. وأَمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ"؛ فقد اختُلف في الباء في "بما"، فمنهم من يرى أنها التي تقتضي المقابلة في العقود؛ كقولك: بعتك كذا بكذا، وزوجتك بكذا، ومنهم من يراها جاء السببية؛ أي: بسبب ما معك من القرآن، إما بأن يخلي النكاح عن العوض، على سبيل التخصيص بهذا الحكم بهذه الواقعة، وإما بأن يخلي عن ذكره فقط، ويثبت فيه حكم الشرع في أمر الصداق، والروايات مختلفة في لفظ هذا، أعني: "بما معك"، ويتسارع إلى تأويله. وفي هذا الحديث أحكام: منها: عَرْضُ المرأة نفسها على الرجل الصالح، الذي ترجى بركته. ومنها: جوازُ هبة المرأة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونكاحها له؛ كما في الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]. فإذا تزوجها على ذلك، صحَّ النكاح من غير صداق، لا في الحال، ولا في المآل، ولا بالدخول، ولا بالوفاة. وهذا هو موضع الخصوصية له - صلى الله عليه وسلم - من الآية، والحديث؛ بخلاف غيره؛ فإنه لا بد من المهر في نكاحه، إما مسمى، وإما مهر المثل. ومنها: استدلال بعض الشافعية به على انعقاد نكاحه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الهبة، ومنهم ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 49).

من منعه إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج؛ كغيره - صلى الله عليه وسلم -، وجعل الخصوصية في عدم لزوم المهر فقط. واختلف العلماء في انعقاد النكاح لكل أحد بلفظ التمليك على التأبيد، أم لا بد من لفظ التزويج والإنكاح؟ فقال أبو حنيفة بانعقاده بلفظ التمليك، وعن مالك -رحمه الله تعالى- رواية: أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع، إذا قصد به النكاح، سواء ذكر الصداق أم لا. وقال الشافعي، والثوري، وأبو ثور، وكثيرون من أصحاب مالك، وغيرهم، ومالك في إحدى الروايتين عنه: لا ينعقد إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح، ولا يصحُّ النكاح بلفظ الرهن والإجارة والوصية، ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ الإحلال والإباحة، حكاه القاضي عياض -رحمه الله تعالى-. ومنها: جواز طلب الصداق في النكاح، وتسميته فيه. ومنها: إرشاد كبير القوم رعيته إلى المصالح، والرفق بهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إزَارُكَ هَذَا إنْ أَعْطَيْتَها [إيَّاهُ]، جَلَسْتَ وَلَا إزَارَ لَكَ". ومنها: استحباب أن لا يُخلى العقد من ذكر الصداق؛ حيث إنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة؛ فإنه لو حصل الطلاق قبل الدخول، وجب لها نصف المسمى، فلو لم يكن تسمية، لم يجب صداق، بل تجب المتعة، فلو عقد بلا صداق، صحَّ؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر. ثم يجب لها المهر، وهل يجب بالعقد أم بالدخول؟ فيه خلاف مشهور للشافعي وغيره، وهما قولان: أصحهما: بالدخول، وهو ظاهر الآية. ومنها: جواز نكاح المرأة من غير أن تسأل، هل هي في عدَّة أم لا؟ حملًا على ظاهر الحال، قاله الخطابي، قال: وعادة الحكام يبحثون عن ذلك احتياطًا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 50).

قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: لا يزوج القاضي من جاءته تطلب الزواج، حتى يشهد عدلان أنه ليس لها ولي حاضر، وليست في زوجية، ولا عدة (¬1)؛ فمن أصحابه من قال: هذا شرط واجب، والأصحُّ عندهم: أنه استحباب واحتياط، وليس بشرط. ومنها: جواز الصداق، بما قلَّ أو كثر مما يُتَمَوَّلُ إذا تراضى به الزوجان، وكانا ممن يجوز تصرفهما؛ حيث إن خاتم الحديد في نهاية من القلَّة، وهذا هو مذهب الشافعي، وجماهير السلف والخلف؛ منهم: ربيعة، وأبو الزناد، وابن أبي ذئب، ويحيى بن سعيد، والليث بن سعد، والثوري والأوزاعي، ومسلم بن خالد الزنجي، وابن أبي ليلى، وداود، وفقهاء أهل الحديث، وابن وهب من أصحاب مالك، وهو مذهب العلماء كافة من الحجازيين، والبصريين، والكوفيين، والشاميين، وغيرهم، قالوا: يجوز ما تراضى به الزوجان، من قليل وكثير؛ كالسوط والنعل وخاتم الحديد، ونحوه، وقال مالك: أقله ربع دينار؛ كنصاب السرقة. قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: وهذا مما تفرد به مالك (¬2). وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله عشرة دراهم، وقال ابن شبرمة: أقله خمسة دراهم؛ اعتبارًا بنصاب السرقة عندهما، وكره النخعي أن يتزوج بأقل من أربعين درهمًا. وقال مرة: عشرة. وكل هذه المذاهب مخالفة للسنَّة، وأهلها محجوجون بهذا الحديث الصحيح الصريح. ومنها: جواز اتخاذ خاتم الحديد، وفيه خلاف للسلف، وللشافعية فيه وجهان: أصحهما عندهم: عدم الكراهة، قالوا: والحديث في النهي عنه ضعيف. ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 22)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 212). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 213).

الحديث الثالث

والثاني: الكراهة؛ لكون الحديد من لباس أهل النار، فكأن هذا الوجه يقول: يجوز اتخاذه، ويكره لبسه، والله أعلم. ومنها: جواز كون تعليم القرآن صداقًا، ويلزم منه: جواز الاستئجار لتعليم القرآن، وكل منهما جائز عند الشافعي، وبه قال عطاء، والحسن، وابن أبي صالح، ومالك، وإسحاق وغيرهم، ومنعه جماعة، منهم: الزهريّ، وأبو حنيفة، وهذا الحديث مع الحديث الصحيح: "إن أحق ما أَخَذْتُمْ عليهِ أجرًا كِتابُ الله" (¬1) يردُّ قولَ من منع ذلك. ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة، سوى أبي حنيفة، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ له النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْيَمْ؟ "، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! تَزَوَّجْتُ امْرأةً، فَقَالَ: "مَا أَصْدَقْتَهَا؟ "، قَالَ: "وَزْن نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ"، قَالَ: "فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" (¬2). تقدم الكلام على أنس غير مرة، وتكلمنا عليه. وأَمَّا عبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؛ فكنيته: أبو محمدِ بنُ عوفِ بنِ عبدِ عوفِ بنِ عبدِ الحارثِ بنِ زهرةَ بنِ كلابِ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيٍّ القرشيُّ الزهريُّ. كان ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5405)، كتاب: الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، عن ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (6023)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء للمتزوج، ومسلم (1427)، كتاب: النكاح، باب: الصداق، إلا أن عندهما: "أثر صفرة" بدل "ردع زعفران"، قلت: ولفظ "ردع زعفران" لم يقع في "الصحيحين"، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 233)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 216).

اسمه في الجاهلية: عبد عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الرحمن. وُلد بعد الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم على يد أبي بكر الصديق، وكان من المهاجرين الأولين. جمع بين الهجرتين جميعًا، هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم قبل الهجرة، وهاجر إلى المدينة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع. وذكر ابن أبي خيثمة من حديث زيد بن أبي أوفى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين عثمان، وعبدِ الرحمن بن عوف. وهذا الإخاء كان بمكة، والأولُ بالمدينة. وشهد بدرًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت معه يوم أُحد، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل، وعمَّمه بيده، وأسدَلَها بين كتفيه، وقال له: "سِرْ باسْمِ الله"، وأوصاه بوصاياه لأمراء سراياه، وقال له: "إِنْ فتَحَ اللهُ عليكَ فتزوَّجْ بِنْتَ مَلِكِهِم"، أو قال له: "شَريفِهِمْ" وكان الأصبغ بن ثعلبةَ بنِ ضمضم الكلبيُّ شريفَهم، فتزوَّج بنته تماضرَ بنت الأصبغ؛ فهي أم ابنه أبي سلمة الفقيه (¬1). وكان عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى، وأحد الذين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، وصلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خلفَه في سفره في غزوة تبوك، وأتمَّ ما فاته، ورُوي أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "عبدُ الرحمن بنُ عوفِ سيِّدٌ من ساداتِ المسلمين"، وأنه قال: "عبد الرحمن بنُ عوفِ أمينٌ في السماء، وأمينٌ في الأرض" (¬2)، وكان أمينَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نسائه، وجُرح يوم أُحُد إحدى وعشرين جراحة، وجُرح في رجله، فكان يعرج منها، وكان كثير المال، كان ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 80). (¬2) رواه البزار في "مسنده" (466)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1415)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

تاجرًا، وكان له ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة، ومئة فرس ترعى بالنقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا، وكان يدخر من ذلك قوت أهله سنته. وقال صالح بن إبرهيمَ بنِ عبد الرحمن بن عوف: صالحنا امرأة عبدِ الرحمن بن عوف التي طلقها في مرضه، من ثلثِ الثمن بثلاثة وثمانين ألفًا. وروي عن غيره: أنها صولحت بذلك عن ربع الثمن من ميراثه، وروي عنه: أنه كان يدعو وهو يطوف بالبيت: يقول: اللهمَّ قِني شُحَّ نفسي (¬1). وروي عنه أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا. ولما حضرته الوفاة، بكى بكاء شديدًا، فسئل عن بكائه، فقال: مات مُصعب بن عمير على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان خيرًا مني، ولم يَكُن له ما يكفن فيه، وإن حمزةَ بنَ عبد المطلب كان خيرًا مني، ولم نجد له كفنًا، وإني أخشى أن أكون ممن عُجِّلت له طيباتُه في حياته الدنيا (¬2)، وأخشى أن أُحبس عن أصحابي بكثرة مالي، وتزوَّج نساء كثيرة، وكان له من البنين يومَ مات عشرةٌ سوى بنات كنَّ له، وهم: محمد، وإبراهيم، وحميد، وزيد، وأبو سلمة، ومصعب، وسهل، وعثمان، وعمرو، والمسور. وروى عنه من الصحابة: ابنُ عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأنس، وجبير بن مطعم، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة. ومن التابعين: بنوه: إبراهيم، وحميد، ومصعب، وغيرهم. ورُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة، وروى له أصحاب السنن والمساند. ومات بالمدينة، ودفن بالمدينة، وصلَّى عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، أوصى عبدُ الرحمن بذلك، واختلف في تاريخ وفاته: فقال ابن حبان الحافظ: مات لست بقين من خلافة عثمان، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقال ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 294). (¬2) رواه البخاري (1215)، كتاب: الجائز، باب: الكفن عن جميع المال.

الحافظ أبو عمر بن عبد البر: توفي سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: ابن اثنتين وسبعين سنة. قال: وقال ابن سعد: كان سنُّ عبد الرحمن بن عوف ثمانيًا وسبعين سنة (¬1). وأَمَّا المرأة التي تزوَّجها، فلا أعلمها مسماة، والله أعلم. وأَمَّا قولُه: "رَدْعٌ مِن زَعْفَرانٍ"؛ فالرَّدْعُ -براء ودال وعين مهملات-، وهو أثر لونه، ومعناه: أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس لم يقصده، ولا تعمد التزعفر، وإنما كان معناه ما ذكرناه؛ حيث ثبتَ النهيُ عن التزعفر للرجال، وكذا -أيضًا- نهي الرجال عن الخلوق؛ لأنه شعار النساء، وقد نهي الرجال عن التشبُّه بالنساء، فهذا اختيار المحققين في معناه، وقد قيل: إنه يرخص فيه للرجل العروس. وقد ذكر أبو عبيد أثرًا: أنهم كانوا يرخصون فيه للشاب أيام عرسه. قال: وقيل: لعله كان يسيرًا فلم ينكر، وقيل: كان في أول الإسلام من تزوَّج لبس ثوبًا مصبوغا علامةً لسروره وزواجه، قال: وهذا غير معروف، وقيل: يحتمل أنه كان في ثيابه دون بدنه (¬2). ومذهب مالك وأصحابه: جواز لبس الثياب المزعفرة، وحكاه مالك عن علماء المدينة، وهو مذهب ابن عمر وغيره. وقال الشافعي، وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 124)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 240)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 173)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 247)، و"الثقات" لابن حبان (2/ 342)، و "المستدرك" للحاكم (3/ 345)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 98)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 844)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 475)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 280)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 324)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 68)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 346)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 221). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 191)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 216).

وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْيَمْ؟ "؛ هذه كلمة يمانية، ومعناها: ما أمرك وما شأنك؟ وقيل: يحتمل أنها مركبة. قولُه: "تزوَّجتُ امرأةً، فَقَالَ: مَا أَصْدَقْتَهَا؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَب": النواة: اسم لمقدار معروف عندهم، وفسرها أكثر العلماء: بخمسة دراهم من ذهب، وقال أحمد بن حنبل: هي ثلاثة دراهم وثلث. ومنهم من قال: المراد نواة التمر؛ أي: وزنها من ذهب، وقال بعض المالكية: النواة: ربع دينار عند أهل المدينة. وظاهر كلام أبي عبيد أنه دفع خمسة دراهم. قال: ولم يكن هناك ذهب، إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة، كما تسمى: الأربعون: أوقية. وقول من قال: نواة التمر مرجوح، ولا يتحرر الوزن به؛ لاختلاف نوى التمر في المقدار، والذي قال: إنها من ذهب، يجعله متعلقًا بوزن، ومن قال: إنها فضة، يجعلها متعلقة بنواة. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْلِمْ وَلَوْ بشِاةٍ"؛ الوَليمة: مشتقة من الوَلْم، وهو الجمع؛ لأنَّ الزوجين يجتمعان، قاله الأزهري، وغيره، قال ابن الأعرابي: أصلها: تمام الشيء واجتماعه، والفعل منها: أَوْلَم، وهي الطعام المتخذ للعرس. قال الشافعية وغيرهم: الضيافات ثمانية أنواع؛ الوليمة: للعرس، والخُرس -بضمِّ الخاء وبالسين المهملة، ويقال بالصاد-: للولادة، والإعذار: بكسر الهمزة وبالعين المهملة والدال المعجمة: للختان، والوكيرة: للبناء، والنقيعة: لقدوم المسافر، مأخوذة من النَّقْع، وهو الغبار، ثم قيل: إن المسافر يصنع الطعام، وقيل: يصنعه غيره له، والعقيقة: يوم سابع الولادة، والوَضِيمة: بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة: للطعام عند المصيبة، والمأدُبة -بضم الدال وفتحها-: الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 258)، و "شرح مسلم" له أيضًا (9/ 216 - 217)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 327)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 643)، (مادة: ولم).

ولما كان شهر النكاح مطلوبًا للشرع؛ مخالفة للسفاح؛ شُرع إعلانه بسبب الوليمة وجمع الناس لها، وكذلك ضرب الدف له، والله أعلم. وأما قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وَلَوْ بشِاةٍ"؛ فإنه يفيد معنى التعليل، و (لو) هذه، ليست التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره، وقيل: هي التي تقتضي معنى التمني، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أنه يستحبُّ للإمام والفاضل تفقُّد حال أصحابه، والسؤال عما يختلف منها. ومنها: استحباب تسمية الصداق، إما قبل العقد على ما تقتضيه العادة، أو في نفس عقد للنكاح؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - سأله عمَّا أصدقها بما يقتضي أن يكون أصل الصداق متقررًا، وإلا لما احتاج إلى السؤال عنه، بخلاف السؤال بـ: (هل). ومنها: ما كانت الصحابة -رضي الله عنهم- عليه من عدم التغالي في صُدُق النساء، مع أن عبد الرحمن بن عوف كان من مياسير الصحابة وأغنيائهم، وعمل بالسنَّة في قلَّة المهر، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ "خَيْرُ النكَاحِ أَيْسَرُهُ" (¬1)، وفي حديث آخر: "خيرُ النساء أيسرُهن مَهْرًا" (¬2). ومنها: استحباب الدعاء للمتزوج، ويقول: بارك الله لك، أو نحوه. ومنها: شرعية الوليمة للعرس، واختلف العلماء هل الأمر بها للوجوب أم للاستحباب؟ والأصحُّ عند الشافعية: أنه سنَّة مستحبة، وحملوا الأمر على الندب، وهو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2117)، كتاب: النكاح، باب: فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات، وابن حبان في "صحيحه" (4072)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (724)، والشهاب القضاعي في "مسنده" (1226)، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4034)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11100)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 61)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "خيرهن أيسرهن صداقًا".

قول مالك وغيره، وأوجبها داود وغيره، واختلف في وقت فعلها عند المالكية، والأصح عند مالك وغيره: أنه يستحبُّ فعلُها بعد الدخول، وعند جماعة من المالكية: استحبابها عند العقد، وعن ابن حبيب المالكي استحبابها عند العقد وعند الدخول. ومنها: أنه يستحب للموسر ألا يُولم بأقلَّ من شاة، ونقل القاضي عياض، الإجماع على أنه لا حد لقدرها المجزي، بل بأي شيء أَوْلَم من الطعام حصلت الوليمة. وقد ثبت في: "صحيح مسلمًا": أن وليمة عرس صفية كانت بغير لحم، ووليمة زينب: أشبعنا خبزًا ولحمًا (¬1)، وهذا كلُّه جائز تحصل الوليمة به، لكن يستحبُّ أن يكون على قدر حال الزوج. واختلف السلف في تكرارها أكثر من يومين، وكرهه طائفة، ولم تكرهه طائفة، واستحب أصحاب مالك -رحمه الله تعالى- أن تكون أسبوعًا للموسر، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4516)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش - رضي الله عنه -، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

كتاب الطلاق

كِتَابُ الطَّلاَقِ الطَّلاقُ مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، ومنه: طَلَّقتُ البلاد؛ أي: تركتُها. ويقال: طلَقت المرأة، وطلُقت، -بفتح اللام وضمها-، والفتح أفضل (¬1). * * * الحديث الأول عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَر ذَلِكَ عُمَرُ - رضي الله عنه - لرسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَغَيَّظَ فيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: "لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكهَا حَتَّى تَطهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ، فَإنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ، كَمَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬2). وفي لفظٍ: "حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِها الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا" (¬3). وفي لفظٍ: فَحُسِبَت مِنْ طَلاَقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 60)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 227)، (مادة: طلق). (¬2) رواه البخاري (4625)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة التغابن. (¬3) رواه مسلم (1417)، (2/ 1095)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. (¬4) انظر: تخريج الحديث المتقدم.

أما ذِكرُ عمر - رضي الله عنه - طلاقَ ابنهِ عبدِ الله امرأتهَ وهي حائض، فالظاهر أنه لمعرفة الحكم فيه. وأَمَّا تَغيُّظُه - صلى الله عليه وسلم - فيه؛ فيحتمل أمرين: أحدهما: لكونه فَعَلَ ما يقتضي المنع ظاهرًا من غير تثبت. والثاني: لتركه المشاورة له - صلى الله عليه وسلم - في فعله ذلك إذا عزم عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَر: "لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُمْسِكهَا حَتى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ"؛ ظاهره الأمر بالمراجعة لمن طلَّق امرأته في الحيض، وأن امتداد المنع من الطلاق إلى أن تطهر من الحيضة الثانية؛ لأن صيغة (حتى) للغاية. ولا شكَّ أن الأمر بالرجعة في ذلك ليس هو لأجل الطلاق في الحيض، إنما هو لأجل استمرار استباحة وطئها؛ حيث إن دوام المعاشرة لها في الحيض سبب للوطء في الطهر بعده، فبالدوام على حكم الطلاق يمتنع الوطء فيه، والتلذذ بها قبله، إما بالمباشرة في غير الفرج، أو فيما فوق الإزار، وإما بغيره، فتكون الرجعة سببًا لدوام العشرة وعدم الطلاق، فنبه - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالمراجعة، على أنها ليست لغرض الطلاق، بل لظهور فائدتها. ومن العلماء من أجاب بأن فائدتها: العقوبة له؛ ليكون سببًا لتوبته من معصيته، واستدراك خيانته، لكن ما ذكرناه أولًا أظهر؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان جاهلًا بحكم الطلاق في الحيض؛ ولهذا سأل أبوه عمر - رضي الله عنه -. ومعلومٌ أنه ليس من فعل معصية جاهلًا كمن فعلها عالمًا، خصوصًا قبل حكم الشرع. مع أن نظر الشرع دائرٌ بين موافقة الأمر ودوام النكاح وحسن العشرة، فالمراجعة بعد الطلاق في الحيض، أقرب مما ذكر، والله أعلم. ثم من العلماء من علَّل امتناع الطلاق في الحيض؛ بتطويل العدة، فإنَّ الحَيْضَة التي طلقت فيها لا تحسب من العدة، فيطول زمان التربُّص، ومنهم من علَّله بوجود الحيض فقط وصورته، وبنوا على العلتين مسألتين: إحداهما: إذا طلقها في الحيض وهي حامل، وقلنا: إن الحامل تحيض،

فمن علَّل بتطويل العدة، لم يحرم؛ لأن انقضاءها هنا بوضع الحمل على كل حال. ومن علَّل بالحيض، وأراد الحكم عليه، حرم الطلاق فيه، وهو الظاهر من إطلاق الحديث؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمراجعة من غير استفصالٍ ولا سؤال عن حالِ المرأة في الحملى والحيال، وترك الاستفصال في مثل هذا ينزل منزلة عموم المقال عند جميع أرباب الأصول. المسألة الثانية: إذا سألت المرأة الطلاق في الحيض: فإن علَّلنا بتطويل العدَّة عليها، لم يقتض تحريمه فيه؛ لأنها رضيت بإدخال الضرر عليها بسؤالها الطلاق فيه، وإن علَّلنا بصورة الحيض ووجوده، حرمه، والعمل بظاهر الحديث أولى في ذلك؛ لترك الاستفصال فيه. وقد يجاب في المسألتين بالأصل؛ فإن الأصل عدم السؤال وعدم الحمل. واعلم أن الأمَّة أجمعت على تحريم الطلاق في الحيض بغير رضا الزوجة، فلو طَلَّقها، أَثِمَ، ووقعَ طلاقُه، ويؤمر بالرجعة، وإن شذَّ بعضُ أهلِ الظاهر، وقال: لا يقع طلاقه؛ لأنه غير مأذونٍ له فيه، فأشبه طلاقَ الأجنبية، وذلك باطل؛ للأمر بمراجعتها؛ لأنه لو لم يقع، لم يكن رجعةٌ، فإن قيل: المراد بالمراجعة في الحديث: الرجعة اللُّغوية، وهي الردُّ إلى حالها الأول، من غير احتساب طلقةٍ، قلنا: هذا غلط؛ حيث إن الحقيقة الشرعية مقدَّمة على اللُّغوية باتفاق أهل أصول الفقه. كيف وابن عمر قد صرَّح بأنها حُسِبت من طلاقِها، وراجعها كما أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ واعلم أن الطلاق يقع في الشرع على أربعة أقسام: حرام، ومكروه، وواجب، ومندوب، ولا يكون مباحًا مستوي الطرفين. فأمَّا الواجب: ففي صورتين: إحداهما: في الشقاق بين الزوجين، إذا ترافعا إلى الحاكم وبعثهما إلى حكمين، ورأيا المصلحة في الطلاق، وجب عليهما الطلاق.

الثانية: في المؤلي إذا مضت عليه أربعة أشهر، وطالبته المرأة بحقِّها، فامتنع من الفيئة والطلاق، فإنَّ الصحيح من القولين للشافعي: أنه يجب على القاضي أن يطلق عليه طلقة رجعية. وأما المكروه: فإن يكون الحال مستقيمًا بينهما، فيطلق بلا سبب، وعليه يُحمل قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "أبغضُ الحَلالِ إِلَى اللهِ تَعالى الطَّلاقُ " رواه أبو داود، وغيره (¬1). وأما الحرام؛ ففي ثلاث صور: إحداها: في الحيض بلا عوض منها، ولا سؤالها. والثانية: في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل. والثالثة: إذا كان عنده زوجات، فقسم لهن، فطلَّق واحدة منهن قبل أن يوفيها قسمها. وأما المندوب: فهو ألا تكون المرأة عفيفة، أو يخافا، أو أحدهما ألا يقيما حدود الله، أو نحو ذلك، والله أعلم. وأما جمع الطلقات الثلاث دفعةً، فليس بحرام عند الشافعية، لكن الأَوْلى تفريقها، وبه قال أحمد، وأبو ثور. وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والليث: هو بدعة. وهذا كله فيما إذا طلق من غير أن يجعله يمينًا يمتنع به ويمنع به؛ فإنه مكروه قطعًا، ولو قيل: إنه حرام، لم يمتنع، والله أعلم. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لِيُراجِعْهَا" وفي لفظ مسلم: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"؛ يتعلق بذلك مسألة أصولية، وهي: أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمر بذلك الشيء، أم لا؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا"، وفي لفظ الكتاب: "لِيُرَاجِعْهَا"، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2178)، كتاب: الطلاق، باب: في كراهية الطلاق، وابن ماجه (2018)، كتاب: الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد، والحاكم في "المستدرك" (2794)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 322)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

فالأمر لعبد الله كان من عمر بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى كل حال، فلا ينبغي أن ينظر في الأحكام المتعلقة بالأمر أنها أمر أم لا. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا"؛ معناه: قبل أن يطأها. وإنما كان الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه بدعيًّا حرامًا؛ لخوف الندم، حيث إن المسيس سبب الحمل، وحدوث الولد، وذلك سبب للندامة على الطلاق، بخلاف ما إذا تبين الحمل، وطلقها بعد ذلك؛ فإنه يكون من أمره على تصبره، فلا يندم؛ فلا يحرم. وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فَتِلْكَ العِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللهُ"؛ بعدَ قوله: "ثم لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرَ، فَإنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا" تصريح بأن الأقراء المذكورة في القرآن هي الأطهار؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها" بعد قوله: "ثُمَّ تَحِيضُ فتَطْهُرُ" مع أن الله تعالى لم يأمر بطلاقهن في الحيض بل حرمه، فدل ذلك جميعه على أن الأقراء: الأطهار، وأن الإشارة بقوله به - صلى الله عليه وسلم -: "فتلك العدةُ" إليها، فإن قيل: الضمير في قوله: "فتلك" يعود إلى الحيضة، قلنا: هذا فاسد؛ حيث إن الطلاق في الحيض غير مأمور به، بل محرم، وإنما الإشارة بها عائد إلى الحالة المذكورة، وهي في حالة الطهر، أو إلى العدة. وأجمع العلماء من أهل الفقه والأصول واللغة، على أن: القُرْءَ في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر. واختلفوا في الأَقراء المذكورة في القرآن في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وفيما تنقضي به العدَّة، فقال مالك، والشافعي، وآخرون: هي الأطهار، وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، وآخرون: هي الحيض، وهو مروي عن عمر، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم-، وبه قال الثَّوريُّ، وزفر، وإسحاق، وآخرون من السلف، وهو أصحُّ الروايتين عن أحمد؛ قالوا: لأن من قال بالأطهار، يجعلها قرأين وبعض الثالث، وظاهر القرآن: أنها ثلاثة.

والقائل بالحيض يجعلها شرطًا، فيكون ثلاث حيضات كوامل، فيكون أقرب إلى موافقة القرآن، ولهذا الاعتراض صار ابن شهاب الزهريّ إلى أن الأقراء هي: الأطهار، قال: ولكن لا تنقضي العِدَّة إلا بثلاثة أطهار كاملة، ولا تنقضي إلا بطهرين وبعض الثالث، وهو مذهب تفرد به، بل القائلون بالأطهار اتفقوا على أنها تنقضي بقرأين وبعض الثالث، حتى لو طلقها، وقد بقى من الطهر لحظة يسيرة، حُسب ذلك قرءًا، ويكفيها طهران بعده. وأجابوا عن الاعتراض بأن الشيئين وبعض الثالث، يطلق عليهما اسم الجمع في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ومعلوم أنها شهران وبعض الثالث، وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] المراد: في يوم وبعض الثاني. واختلف القائلون بالأطهار، متى تنقضي عدتها؟ فالأصحُّ عند الشافعية: أنه بمجرد رؤية الدَّم بعد الطهر الثالث، وفي قول: لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة. والخلاف في مذهب مالك كهُوَ عند الشافعية. واختلف القائلون بالحيض -أيضًا-، فقال أبو حنيفة وأصحابه: حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، أو يذهب وقت صلاة، وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، والثوري , وزفر، وإسحاق، وأبو عبيد: حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وقال الأوزاعي وآخرون: حتى تنقضي بنفس انقطاع الدم. وعن أبي إسحاق رواية: أنه إذا انقطع الدم، انقطعت الرجعة، ولكن لا تحل للأزواج حتى تغتسل؛ احتياطًا وخروجًا من الخلاف، والله أعلم. وقولُه: "فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاَقِها"؛ يعني: أن الطلقة الواقعة في الحيض مُنقِصة لعدد الطلاق، محسوبةٌ منه. وفي الحديث أحكام: منها: تحريم الطلاق في الحيض. ومنها: أنه إذا طلَّق فيه، وقع.

ومنها: الأمر بمراجعة المطلقة الحائض، واختلف فيه، فقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وسائر الكوفيين، وأحمد، وفقهاء المحدثين، وآخرون: الأمر بها للاستحباب، وقال مالك وأصحابه: للوجوب، ويجبر الزوج على الرجعة إذا طلق في الحيض. ومنها: تحريم الطلاق في الطُّهر الذي جامعها فيه. ومنها: أنَّ الطلاق في غير زمن الحيض لا إِثْم فيه؛ وكذلك في الطهر الذي يجامعها فيه، لكنه مكروه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْغَضُ الحَلاَلِ إلى اللهِ تعالى الطَّلاق" (¬1) فيكون حديث ابن عمر هذا لبيان عدم التحريم، وهذا الحديث لبيان كراهة التنزيه. ومنها: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا وليِّها، ولا تجديد عقد. ومنها: أن الأقراء في العِدَّة هي الأطهار، وتقدم اختلاف العلماء فيه وتقريره والاعتراض عليه والجواب عنه. ومنها: الاعتداد بالطلقة الواقعة في زمن الحيض من عدد الطلاق، وهو مذهب الجمهور. ومنها: الأمر بإمساك المرأة المراجَعة بسبب الطلاق في الحيض, بعده. ومنها: أن الأمر المعلق على شرط عدم عند عدم الشرط؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أَذِن في الطلاق قبل مسيسها، وقيده به، وفي ذلك دليل على امتناعه في الطهر الذي مسَّها فيه؛ لأنه شرط في الإذن عدم المسيس لها. ومنها: عدم الإقدام على شيء قبل مراجعة الشرع فيه. ومنها: الغيظ لأجل المخالفةِ، وعدمِ المراجعة للكبار والمقتدى بهم، خصوصًا الأقرباء والأصحاب. ومنها: التثبُّت في الأمور لأجل مراعاة مصالحها ودفع مفاسدها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

الحديث الثاني

ومنها: السؤال عن العلم بغيره، خصوصًا إذا كان المسؤول من أجله ولدًا أو قريبًا. ومنها: مراعاة كتاب الله تعالى في الأحكام الشرعية، والرجوع إليه. ومنها: المبادرة إلى امتثال أمره، واجتناب نهيه. * * * الحديث الثاني عَنْ فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ أَبَا عَمْرِو بنَ حَفْصٍ طَلَّقَها البَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ، وَفي رِوَايةٍ: طَلَّقَهَا ثلاثًا، فَأَرْسَلَ إلَيهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "لَيْسَ لَكِ عَلَيهِ نَفَقَةٌ". وفي لفظ: "وَلَا سُكنَى"، فأمرها أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أمِّ شَرِيكِ، ثُمَّ قَالَ: "تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغشَاهَا أَصْحَابِي، اعتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكتُومٍ؛ فَإنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ، فَإِذَا حَلَلتِ فآذنِيني"، قَالَت: فَلَمَّا حَلَلَّتُ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَأَنَّ مُعَاوِيةَ بْنَ أَبِي سُفيَانَ، وَأبا جَهمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَن عَاتِقهِ، وَأمَّا مُعَاوِية، فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكحِي أسَامَةَ بْنَ زَيدٍ"، فَكَرِهَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: "انكحِي أسَامَةَ بنَ زَيدٍ"، فنكَحَتهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيه خَيرًا، واغتبَطَت بِهِ (¬1). أمَّا فاطمة بنت قيس؛ فهي أختُ الضحاكِ بن قيس بن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهو بن مالك بن النضر بن كنانة، القرشيةُ، الفهريةُ، وكانت أكبر من أخيها هذا بعشر سنين فيما قيل، وكانت من المهاجرات الأول، لها عقل وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى عند قتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وخطبوا خطبتهم المشهورة المأثورة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1480)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. قلت: وهو مما انفرد به مسلم عن البخاري، وفات المؤلف - رحمه الله - التنبيه على ذلك.

قال الزبير: وكانت امرأة نجودًا، أو: النجود النبيلة، وقَدِمت الكوفة على أخيها الضحاك، وكان أميرًا، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وثلاثون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديث لها في مسند عائشة - رضي الله عنها -، ولمسلم ثلاثة أحاديث، وروى عنها جماعة من التابعين، منهم: عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة، والشعبي، وكل هؤلاء فقهاء، وروى لها أصحاب السنن والمساند (¬1). وأَمَّا عَمْرو بنُ حَفْص؛ فالأكثرون على أنه أبو عمرو بن حفص، ويقال: أبو حفص بن عمرو، وقيل: أبو حفص بن المغيرة، ويقال: أبو عمرو بن حفص بن عمر بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشيُّ المخزوميُّ، واختلف في اسمه، فقيل: عبد الحميد، وقيل: أحمد، وقيل: بل اسمه كنيته، وذكره البخاري فيمن لا يُعرف اسمه. بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - إلى اليمن حين بعثه، فطلَّق امرأته هناك، فاطمةَ بنتَ قيس، وبعث إليها بطلاقها، ثم مات هناك. وأبو عمرو هذا الذي كلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مواجهة في عزل خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، فاعتذر عمر يوم الجابية، وقال: أعتذر إليكم من خالد؛ فإني أمرته أن يحبس هذا الْمالَ على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا اليسار وذا الشرف، ونزعه، وأثبت أبا عبيدة بن الجراح، فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: والله! لقد نزعت غلامًا -أو قال: عاملًا- استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأغمدت سيفًا سلَّه الله، ووضعت لواءً نصبَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبفات الكبرى" لابن سعد (8/ 273)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 336)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1901)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 224)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 617)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 264)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 319)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 69)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 471).

ولقد قطعت الرحم، وحسدت ابن العم! فقال عمر - رضي الله عنه -: أما إنك قريب القرابة، حديث السن، تغضب لابن عمك، أخرجه النَّسائيُّ عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (¬1)، عن وهب بن زمعة، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن يزيد، سمع الحارث بن يزيد يحدث عن علي بن رباح عن ناشرة بن سمي اليزني، قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول يوم الجابية، فذكره، وهو إسناد صحيح مليح (¬2)، والله أعلم (¬3). وأَمَّا أمُّ شَريك هذه، فقيل: إنها التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم ذكرها قريبًا في الحديث الثاني من باب الصداق. قال أبو عمر بن عبد البر الحافظ -رحمه الله تعالى-: أم شريك القرشيةُ العامريةُ، اسمها غزية بنت دودان بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن حجر -ويقال: حجير- بن عبد معيص بن عامر بن لؤي. وقيل في نسبها: أمُّ شريك بنت عوف بن جابر بن ضباب بن حجير بن عبد معيص بن عامر بن لؤي. يقال إنها: التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلف في ذلك، وقيل في جماعة سواها ذلك. روى عنها سعيد بن المسيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأوزاغ. وقد روى عنها جابر بن عبد الله، يقال: إنها المذكورة في حديث فاطمة بنت قيس. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعْتَدِّي فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيك"، وقد قيل في اسم أُمِّ شريك: أم غزيلة. وقد ذكرها بعضهم في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصحُّ من ذلك شيء؛ لكثرة ¬

_ (¬1) في "ح": "الجوجزاني". (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8283)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 475)، والبخاري في "التاريخ الأوسط" (1/ 57)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 299). (¬3) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن عبد البر (4/ 1719)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 221)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 500)، و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 116)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 287)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 196).

الاضطراب فيه. ومن زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكحها، قال: كان ذلك بمكة، وكانت عند أبي العكر بن سمي بن الحارث الأزدي، فولدت له شريكًا. وقيل: إن أمَّ شريك هذه كانت تحت الطفيل بن الحارث، فولدت له شريكًا. والأول أصحُّ. وقيل: أم شريك الأنصارية، تزوَّجها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدخل بها؛ لأنه كَرِه غيرة الأنصار. هذا كلامه بحروفه، والله أعلم (¬1). اتفق البخاري ومسلم لها على حديث واحد، وروى لها مسلم حديثًا آخر. وروى لها جماعة من أصحاب السنن والمساند. وأَمَّا ابنُ أُمِّ مكتوم، فتقدَّم ذكره في الأذان. وأمّا معاوية وأسامة؛ فتقدَّما أيضًا. وأما أبو الجهم هذا؛ فقال شيخنا أبو زكريا النواوي الحافظ - رحمه الله -: واعلم أن أبا الجهم هذا -بفتح الجيم، مكبر-، وهو أبو الجهم المذكور في حديث الأنبجانية، وهو غير أبي الجهم المذكور في التيمم، وفي المرور بين يدي المصلي؛ فإن ذلك -بضم الجيم، مصغر-، والله أعلم (¬2). وقد بسطت الكلام في هذا، في أول باب: المرور بين يدي المصلي من هذا الكتاب، والله أعلم. وأَمَّا قولُه: "إنَّهُ طَلَّقَهَا البَتَّة": يحتمل أنه طلقها ثلاثًا، ويحتمل أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات، وكل منهما يصدق عليه أنه طلَّقها البتة، وروي في "الصحيح"، لكنه ظاهر في أنه كان طلَّقها قبل هذا طلقتين، ثم طلَّقها طلقة كانت بقيت من عدد الثلاث، وروي هذا في "الصحيح" -أيضًا-، وروي في "صحيح مسلم" رواية في حديث الجساسة (¬3) يوهم أنه مات عنها، وهي ليست على ظاهرها، بل قال العلماء: إنها وهم، أو مؤولة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1942 - 1943). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 97)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (2/ 493). (¬3) رواه مسلم (2942)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجسّاسة.

وقوله: "وهو غائبٌ"؛ قد ذكرنا في ترجمته أنه كان غائبًا مع علي - رضي الله عنه - باليمن، وذكرنا: أنه مات هناك، وأنه واجه عمر - رضي الله عنه - بكلام في حقِّ خالد بن الوليد، لمَّا عزله بالجابية، ويلزم من ذلك رجوعه من اليمن، فلعلَّه رجع إليه، ومات به، والله أعلم. وقولُه: "فَأَرْسَلَ إلَيهَا وَكِيُلُه بِشَعِيرٍ"؛ وكيلُه: مرفوعٌ على أنه هو المُرسِل، ويحتمل أن يكون منصوبًا، ويكون الضمير في (وكيله) عائدًا على أبي عمر بن حفص، ويكون: (وكيله) مُرسَلًا من جهته بالشعير إليها. وقولُه: "فَسَخِطَتْهُ"، معناه: كرهته ولم ترض به. وقولُه: "فَأَمَرَهَا أَن تَعْتَدَّ في بيتِ أمِّ شَرِيكٍ"، ثمّ قال: "تِلْكَ امْرأَةٌ يَغشَاهَا أَصْحَابِي"؛ معناه: أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يزورون أمَّ شريك، ويُكثرون التردُّدَ إليها؛ لكثرة صَلاحِها، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن على فاطمة من الاعتداد عندها حَرَجًا؛ من حيث إنَّه يلزمها التحفظ من نظرهم إليها، ونظرها إليهم، وانكشاف شيء منها. وفي التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وتردُّدِهم مشقَّةٌ ظاهرة، فأَمرها بالاعتداد عند ابنِ أُمِّ مكتوم؛ لأنَّهُ لا يُبصرها، ولا يتردَّدُ إلى بيته مَنْ يتردَّد إلى بيتِ أم شريك، ولا يلزم من إذنه لها - صلى الله عليه وسلم - بالاعتداد في بيته، الإذنُ لها في النظر إليه، بل فيه: أنها تأمن عنده من نظر غيره إليها، وهي مأمورة بِغضِّ بصرها، فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة؛ بخلاف مكثها في بيت أم شريك. قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: وهذا القول إعراض عن التعليل بعمى ابن أم مكتوم، وكان يقوى لو تجرد الأمر بالاعتداد عنده عن التعليل بعماه، وما ذكر من المشقة موجود في نظرها إليه، مع مخالطتها له في البيت، ويمكن أن يقال: إنه إنما علل بالعمى، كونها تضع ثيابها من غير رؤيته لها، فحينئذ يخرج التعليل عن الحكم باعتدادها عنده، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 57).

قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "فَإذَا حَلَلْتِ فآذنِيني"؛ معناه: إذا انقضت العدَّة من الطلاق، فأعلميني، وآذنيني -بهمزة ممدودة -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ العَصَا عَنْ عَاتِقِه"؛ العَاتِقُ: ما بين العنق والمنكب، وفي معناه تأويلان: أظهرهما: أنه كثير الضَّرب للنساء؛ بدليل رواية في "صحيح مسلم" قال فيها: إنه ضرَّاب للنساء (¬1). والثاني: أنه كثير الأسفار. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ"؛ هو بضمِّ الصاد؛ أي: فقير، يعجزُ عن القيام بحقوق الزوجة. قولُها: "واغْتبَطَتْ"؛ معناه: أنها لما امتثلت أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح أسامة - رضي الله عنه -، اغتبطت به، وقد ضبطوا (اغتَبَطت) بفتح التاء والباء، ووقع في بعض روايات مسلم لفظه به، ولم يقع في أكثرها. والغبطةُ: تمني مثل حال المغبوط من غير إرادة زوالها عنه، وليس هو بحسد عند أهل اللغة، قالوا: يُقال: غبطته بما نال، أغبِطه، -بكسر الباء- غَبْطًا وغبْطةً، فاغتبط، وهو كَمَنَعْته فامتَنَع، وحَبَسْتُه فاحتَبَس (¬2). وأَمَّا إشارته - صلى الله عليه وسلم - عليها بنكاح أسامة؛ فَلِما عَلِمه من دينهِ وفضله وحسن طرائقه، وكرم شمائله، فَنصَحَها بذلك، فكرهته لكونه مولى، ولكونه كان أسود جدًّا، فكرَّر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - الحث على زواجه لِماَ عَلِم من مصلحتها في ذلك، فكان كذلك، ولهذا قالت: "فجعل الله لي فيه خيرًا، واغتبطت"، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في رواية في "صحيح مسلم ": "طاعةُ اللهِ وطاعةُ رَسُوله خيرٌ لك" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1480)، (2/ 1119)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 127 - 128)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 98)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 360)، (مادة: غبط). (¬3) تقدم تخريجه في الرواية السابقة لمسلم.

وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز إيقاع الطلاق الثلاث دفعة؛ لعدم إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية: طلَّقها ثلاثًا. وفيه الاحتمال الظاهر في كونه أوقع عليها طلقة، هي آخر الثلاث كما تقدم. ومنها: أنه لا نفقة للمطلَّقة البائن الحائل، ولا سكنى. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -، وأحمد بن حنبل بظاهر هذا الحديث، وأوجب النفقةَ والسكنى: عمرُ بن الخطاب، وأبو حنيفة، وأوجب مالك، والشافعي، وآخرون السكنى دون النفقة؛ لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6]. وأما سقوط النفقة، فأخذوه من المفهوم في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، فمفهومه: أنه إذا لم يكنَّ حوامل، لا ينفق عليهن. وقد تورعوا في تأول الآية للبائن، في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] ويحتاج من قال: لها السكنى إلى الاعتذار عن حديث فاطمة هذا، فمنهم من اعتذر بما حكي عن سعيد بن المسيب وغيره: أنها كانت امرأة لَسِنة، واستطالت على أحمائها، فأمرها بالانتقال، وقيل: لأنها خافت في ذلك المنزل، وقد روى مسلم في "صحيحه": أنها قالت: أخاف أن يقتحم علي (¬1)، وساق الحديث على خلاف هذين التأويلين، فإنه يقتضي أن سبب اختلافها مع الوكيل، وسخطها الشعير، وذكر الوكيل أن لا نفقة لها، حتى حملها ذلك على سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وجوابه لها بعدم النفقة عليه: أن ذلك الاختلاف سبب لبيان عدم وجوب النفقة، لا ما ذكر من الاعتذار، فإن قام دليل أقوى من هذا وأرجح، عمل به، وأما عمر - رضي الله عنه -، فقال: لا ندع كتابَ ربِّنا وسنَّة نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، بقول امرأة جهلت أو نسيت (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1482)، (2/ 1121)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. (¬2) رواه مسلم (1480)، (2/ 1118)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.

قال العلماء: الذي في كتابِ ربِّنا إنما هو إثبات السكنى، قال الدارقطني: قوله: وسنَّة نَبِيِّنا - صلى الله عليه وسلم - هذه زيادة غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات، واحتجَّ من لم يوجبها بهذا الحديث (¬1). وأما البائن الحامل: فتجب لها النفقة والسكنى. وأما الرجعية: فتجبان لها بالإجماع. وأما المتوفى عنها: فلا نفقة لها بالإجماع، والأصحُّ عند الشافعية وجوب السكنى لها، فلو كانت حاملًا؛ فالمشهور أنه لا نفقة لها كما لو كانت حائلًا، وقال بعض أصحاب الشافعي: تجب، وغلطوه، والله أعلم. ومنها: وقوع الطَّلاق في غيبة المرأة. ومنها: جواز الوكالة في أداء الحقوق، وقد أجمع العلماء على هذين الحكمين. ومنها: جواز زيارة الرجال المرأة الصالحة، إذا لم تؤدِّ إلى فتنتهم وفتنتها. ومنها: تحريمُ نظر المرأة الأجنبية إلى الرجل الأجنبي، وتحريم نظره إليها، وقد احتجَّ بحديث فاطمة على جواز نظرها إلى الأجنبي، والذي عليه جمهور العلماء، وأكثر الشافعية: تحريمُ نظرها إلى الأجنبي؛ كما يحرم نظره إليها. وقد علَّل جواز اعتدادها في بيت ابن أُمِّ مكتوم؛ بأنه رجل أعمى، وهو مقتض لعدم رؤيته لها، لا لعدم رؤيتها. وقد استدلَّ من قال بالتحريم بقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، ولأن الفتنة مشتركة؛ فكما يخاف الافتتان بها، يخاف افتتانها به، ويدلُّ على ذلك ما رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما بإسناد حسن، من حديث نبهان مولى أُمِّ سلمة، عن أم سلمة: أنها كانت هي وميمونة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل ابن أم ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الدارقطني" (4/ 27).

مكتوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احْتَجِبَا مِنْهُ"، فقالتا: إنه أعمى لا يبصرنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفَعَمْيَاوانِ أنتما؟! ألَسْتُمَا تُبْصِرَانهِ؟! "، قال الترمذي: حديث حسن (¬1). ولا يلتفت إلى قَدْحِ مَنْ قَدْحَ فيه بغير حجَّة معتمدة. قال شيخنا أبو الفتح القاضي -رحمه الله تعالى-: وفي الاستدلال بالآية للتحريم نظر؛ لأن لفظة (من) للتبعيض، ولا خلاف أنها إذا خافت الفتنة، حرم النظر عليها، فإذًا هذه حالة يجب فيها الغضُّ، فيمكن حمل الآية عليها، ولا يَدلُّ حينئذ على وجوب الغضِّ مطلقًا، أو في غير هذه الحالة. وهذا وإن لم يكن ظاهر الآية، فهو محتمل له احتمالًا جيدًا، يتوقف معه الاستدلال على محل الخلاف (¬2). ومنها: جواز التعريض بخطبة البائن، وفيه خلاف عند الشافعية. ومنها: جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة، ولا يكون من الغيبة المحرمة، وقد ذكر العلماء ما يباح من الغيبة في ستة مواضع، الاستنصاح من جملتها. ومنها: جواز استعمال المجاز للمبالغة، وجواز إطلاق مثل هذه العبارة؛ فإن أبا جهم لا بدَّ وأنْ يضعَ عصاه حالة نومه، أو أكله، وكذلك معاوية، لا بدَّ وأن يكون له ثوبٌ يلبسه مثلًا، لكن اعتبَرَ حال الغلبة، وهَجَر النادر اليسير. والمجاز في أبي جهم أظهرُ منه -فيما قيل- في معاوية؛ لأنَّ لنا أن نقول: إن لفظة المال انتقلت في العرف عن موضوعها الأصلي إلى ما له قدر من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4112)، كتاب: اللباس، باب: في قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]، والترمذي (2778)، كتاب؛ الأدب، باب: ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 296)، والنسائي في "السنن الكبرى" (9241) وأبو يعلى في "مسنده" (6922)، وابن حبان في "صحيحه" (5575)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 302)،، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 91). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 57).

المملوكات، وذلك مجاز شائع، يتنزل منزلة النقل، فلا يتناول الشيء اليسير جدًّا، بخلاف ما قيل في أبي جهم. ومنها: التصريح بأنَّ أحد الخاطبين: معاوية بن أبي سفيان، خلافًا لما قيل: إنه معاوية غيره، وهو غلط. ومنها: أنَّ الحقَّ في الكفاءة في النكاح حقٌّ للزوجة والأولياء، خاصٌّ بهم. ومنها: أن كفاءة الدِّين والعلمِ والفضلِ لا يعارضها غيره من المال والنَّسب. ومنها: جواز نكاح القرشية للمولى، بلا كراهة شرعية. ومنها: نصيحة الكبار أتباعَهم، وتكريرُها عليهم، ورجوعُ الأتباع إلى قولهم، وتركهم حظوظهم العادية، والله أعلم. ومنها: جواز خروج المعتدَّة من بيت زوجها للحاجة من الاستفتاء وغيره. ومنها: جواز سماع كلام المرأة الأجنبية للحاجة. ومنها: جواز الخطبة على خطبة الغير، إذا لم تحصل للأول إجابة؛ لأنها ذكرت أن معاوية وأبا الجهم خطباها، ولم تجبهما، وذكر لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بعد خطبتهما، وقبلَ إجابتِها لهما. ومنها: إرشاد الإنسان إلى مصلحته وإن كرهها، وتكرير ذلك عليه. ومنها: الحرص على مصاحبة أهل التقوى والفضل، وإن دنت أنسابهم، والله أعلم. * * *

باب العدة

باب العِدَّة الحديث الأول عَنْ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْها-: أَنَّها كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ. فَلَمَّا تَعَلَّت مِنْ نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ [-رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ-] (¬1)، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُريدين النِّكَاحَ، وَاللهِ مَا أَنْتِ بِنَاكحٍ حتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأفْتَانِي بِأنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَني بِالتزوُّجِ إنْ بَدَا لي. قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأسًا أَنْ تَتَزوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، إنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أنَّهُ لَا تقْرَبُها زَوْجُهَا حَتى تَطْهُرَ (¬2). أما سبيعة، فهي بضم السين المهملة، وفتح الباء الموحدة. وهي بنت الحارث الأسلمية. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح". (¬2) رواه البخاري (3770)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا، ومسلم (1484)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، وهذا لفظ مسلم.

روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر حديثًا. روى عنها عمر بن عبد الله بن الأرقم. قال أبو عمر بن عبد البر: روى عنها فقهاء أهل المدينة، وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا؛ يعني: حديثها هذا المذكور: أنها كانت تحت سعد بن خولة. قال: وروى عنها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ استطاعَ منكُمْ أَنْ يموتَ بالمدينةِ، فَلْيَمُتْ؛ فَإنَّهُ لا يموتُ بِها أَحَدٌ؛ إلا كُتِبَ له شَهيدًا، أو شَفيعًا يومَ القِيَامَةِ" (¬1). قال: وزعم العقيلي أن سبيعة التي روى عنها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - هي غير الأولى، ولا يصح ذلك عندي. هذا آخر كلامه. روى لها البخاري ومسلم، وجماعة من أصحاب السنن والمساند، ولم يرو لها الترمذي، والله أعلم. وأما وضعُها حملَها، فكان بعد وفاة زوجها بليالٍ؛ قيل: إنها شهر، وقيل: خمس وعشرون ليلة، وقيل دون ذلك، والله أعلم (¬2). وأما سعد بن خولة؛ فتقدم ذكره في باب الوصية. وأما أبو السنابل -بفتح السين-، فاسمه لبيد، ربه، سُئل يحيى بن معين عن اسمه، فقال: بغيض سئل عن بغيض لبيد ربه، وقيل: اسمه عمرو، وقيل: حبه -بالباء الموحدة، وقيل: بالنون- ابن بعكك -بفتح الموحدة وسكون العين المهملة ثم كافين، الأولى مفتوحة- بن الحجاج بن الحارث بن السباق بن ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3275)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 294)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4184). (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 287)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 2859)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 138)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 612)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 193)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 690)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 453).

عبد الدار بن قصي، القرشي العبدري. أسلم يوم الفتح، وقيل: إنه سكن الكوفة، روى عنه الأسود بن يزيد النخعي. قال الترمذي: لا نعرف للأسود سماعًا من أبي السنابل. وسمعت محمدًا -يعني: البخاري- لا أعرف أن أبا السنابل عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر ابن سعد أنه بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى له الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال ابن عبد البر الحافظ: كان شاعرًا، ومات بمكة (¬1). وأما ابن شهاب؛ فهو منسوب إلى جد جده، وهو أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب القرشي الزهريّ المدني، سكن الشام، سمع أنسًا، وسهل بن سعد، وأبا الطفيل عامر بن واثلة، والسائب بن يزيد، وسنينًا أبا جميلة، وعبد الرحمن بن أزهر، وربيعة بن عباد الديلي، ومحمود بن الربيع، ورجلًا مزيلي صحبة. ورأى عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وعبد الله بن ثعلبة بن صغير، وأبا أمامة بن سهل بن حنيف، وخلقًا كثيرًا من التابعين وغيرهم. قال عراك بن مالك: أعلمهم جميعًا -يعني: ابن المسيب، وعروة، وعبيد الله بن عبد الله- عندي: محمد بن شهاب؛ لأنه جمع علمهم إلى علمه، وكان إمامًا جليلًا فقيهًا فاضلًا، ناشرًا للعلم باذلًا له، مات ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، سنة أربع وعشرين ومئة في ناحية الشام، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق بضيعة له، يقال لها: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 449)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 387)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 89)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1684)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 152)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 522)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 190)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 132).

شَغْب، وبدا، وشغب: بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين، وبدا: بالباء الموحدة والدال المهملة. وروى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمساند (¬1). أما ما ذكر [عن] سعد بن خولة: وهو في بني عامر بن لؤي، فهو هكذا في جميع النسخ: في بني عامر، وهو صحيح، ومعناه: ونسبه في بني عامر؛ أي: هو منهم. وذكر الحافظ أبو القاسم بن بشكوال: أن زوج سبيعة كان أبا البداح بن عاصم بن عدي الأنصاري. قال: حكى ذلك أبو عمر النمري عن ابن جريح والخُطاب: كهل، وشابّ، فالكهل: أبو السنابل، والشاب: أبو اليسر، والله أعلم (¬2). وقوله: "فلم تَنْشَب"؛ أي: لم تمكث. "فلما تَعَلَّتْ من نِفاسِها"؛ معناه: طهرت من نفاسها. وفي الحديث أحكام: منها: أن عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا، بوضع الحمل، حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله، انقضت عدتها، وحلت في الحال للأزواج. وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلماء كافة، إلا رواية عن علي، وابن عباس، وسحنون المالكي: أن عدتها بأقصى الأجلين؛ فإن تقدم وضع الحمل على تمام أربعة أشهر وعشر، انتظرت وضع الحمل. وروي عن ابن عباس الرجوع عنه. وتصحيح ذلك: أن أكابر أصحابه ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 220)، و"الجرح والعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 349)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 360)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 105)، و "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 419)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 326)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 108)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 395). (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 167).

يقولون يقول العلماء: حتى لو وضعت بعد موته بساعة، انقضت؛ كعطاء، وعكرمة، وجابر بن زيد. وسبب هذا الخلاف تَعارُضُ عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية [البقرة: 234] مع قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]؛ فإن كل واحد من الاثنين: عام من وجه، خاص من وجه. فعموم الأولى، وهو المتوفى عنها زوجها، سواء كانت حاملًا أم لا. والثانية وهي: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] سواء كانت المرأة متوفى عنها زوجها أم لا. فلعل هذا التعارض، هو السبب لاختيار من اختار أقصى الأجلين؛ لعدم ترجيح أحدهما على الآخر عنده، وذلك يوجب ألا يرفع تحريم العدة السابق إلا بيقين الحل، وذلك بأقصى الأجلين. لكن فقهاء الأمصار اعتمدوا على هذا الحديث؛ فإنه مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234]، مع ظهور المعنى في حصول المراد بوضع الحمل. ومنها: أن المعتدة تنقضي عدتها بوضع الحمل، إن لم تطهر من النِّفَاسِ؛ كما صرح به الزهريّ، وهو مقتضى قولها: فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي. وقال الشعبي، والحسن، وحماد، وإبراهيم النخعي -فيما روي عنهم-: لا يصح زواجها حتى تطهر من تفاسها؛ متعلقين بقوله: "فلما تعلَّتْ من نِفاسها"؛ أي: طهرت، قال لها: قد طهرت، انكحي من شئت. رتب الحل على التعلِّي، فتكون علة له، وهو ضعيف؛ لتصريح الرواية بأنه أفتاها بالحل بوضع الحمل على أي وجه كان؛ من مضغة أو علقة، أو استبان فيه الخلق أم لا؛ حيث رتب الحل على وضع الحمل من غير استفصال، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال. قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: وهذا -ها هنا- ضعيف؛ لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع المضغة والعلقة

نادر، وحمل الجواب على الغالب ظاهر، وإنما يقوي تلك القاعدة؛ حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض، ويختلف الحكم باختلافها (¬1). قلت: والقائلون بانقضاء العدة بوضع الحمل لم يختلفوا في انقضائها بوضع الحمل، سواء كان كاملًا، أم ناقص الخلق، أم مضغة، أو علقة، أو كان فيه صورة خلق آدمي، سواء كانت خفية تختص النساء بمعرفتها، أم جلية يعرفها كل أحد، بخلاف القطعة من اللحم إذا لم يتصور فيها خلق آدمي؛ ففيها خلاف، والله أعلم. وقول ابن شهاب: "غيرَ أنه لا يطؤها زوجها حتى تطهر"؛ معناه: أن زواجها بعد وضع الحمل صحيح، وأن وطأها حال النفاس حرام؛ كغيرها، وهو مجمع عليه، والله أعلم. ومنها: جواز تجمل المرأة للخطاب، بشرط ألَّا يكون فيه زور في ملبس أو خلق؛ من تفليج سن، أو وصل شعر، أو تحمير وجنة، أو كثرة مال، أو غير ذلك مما يُرَغِّب في نكاحها عادة؛ فإنه كذب وغش، والله أعلم. ومنها: أن النكاح لا يجب على المرأة؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة به إن بدا لها، فلو كان محتمًا من جهة الشرع، لم يقيده باختيارها. ومنها: التوقف عن الأمر حتى تراجع الشرع والأمر به. ومنها: الفتيا في العلم، وأنها واجبة إذا تعينت. ومنها: أن الإنسان إذا رأى من غيره ما يخالف العادة، وكان في ظنه أنه لا يجوز، لا بأس أن يتكلم بما في ظنه، وإن كان الشرع على خلافه؛ حيث إنه قصد خيرًا. ومنها: أن المرأة تخرج في حاجتها ليلًا ونهارًا، إذا لم يكن لها من يقوم مقامها فيها، وأن الليل أولى لذلك إن لم يترتب عليه مفسدة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" (4/ 60).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَن زَيْنَبَ بِنْتِ أمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَت: تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لأمِّ حَبِيبة، فَدَعَت بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتهُ بِذِرَاعَيْهَا، وَقَالَت: إنَّما أَصْنَعُ هَذَا؛ لأنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ أَن تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرِ وَعَشْرًا" (¬1). الحميم: القرابة. أما زينبُ بنتُ أم سلمةَ، فهي ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشيةُ المخزوميةُ. ولدت بأرض الحبشة، وكان اسمها برة، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زينب. روى لها البخاري حديثًا، ومسلم آخر، وقد رويا لها عن أمها وغيرها. روى عنها من التابعين من فقهاء المدينة وغيرهم. وروى لها: أبو داود، والترمذي، والنسائي (¬2). وأما أم حبيبة؛ فتقدم ذكرها. وأما الحميم المتوفى؛ فلا أعرفه مسمى في "المبهم"، ولا غيره. ومعنى الحميم في الأصل: الماء الحار. ويقال لحامة الإنسان وخاصته ومن يقرب منه: حميم -أيضًا-، وكأنه لما كان القرب من الشخص حاملًا على حرارة الحمية له، والشفقة عليه، سُمي: حميمًا؛ لمشابهة الماء الحار في المعنى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1222)، كتاب: الجنائز، باب: حد المرأة على غير زوجها، ومسلم (1486)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك، إلا ثلاثة أيام. (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 461)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 145)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1854)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 132)، و "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 185)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 200)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 675)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 450).

قولها: "فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ"؛ الصفرة: خَلُوق -بفتح الخاء-: طيبٌ مخلوط. وإنما دعت به؛ لتدفع صورة الإحداد بمسحها به بذراعيها، وفي مسلم: بعارضيها. أما الذراعان، فهما عظما المرفقين إلى الرصغ من اليدين. وأما العارضان، فهما جانبا الوجه فوق الذقن إلى ما دون الأذن، فيحتمل أنها مسحت بعارضيها وذراعيها؛ لكون ذلك أظهر ما في بدن الإنسان؛ ليكون أبلغ في ظهور العمل بالشرع في ترك الإحداد على الميت غير الزوج. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلَّا عَلى زَوْجٍ أربعةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا". قال أهل اللغة والغريب: يقال: أَحَدَّت المرأة، تُحد إحدادًا -رباعيًّا-، وحَدَّتْ تَحُدُّ -بضم الحاء وكسرها- حِدًّا -بكسر الحاء-. هكذا قاله الجمهور: أنه يقال: أَحَدَّتْ، وحَدَّتْ -رباعيًّا وثلاثيًّا-. وقال الأصمعي: لا يقال إلا رباعيًّا. ويقال: امرأة حادٌّ، ولا يقال: حادة. ومعنى ذلك في اللغة: الحزن، ولبسُ ثيابه، وترك الزينة، وهو عند الفقهاء: تركُ الطيب والزينة (¬1). والحكمة في شرعية الإحداد في عدة الوفاة دون الطلاق: أن الطيب والزينة يدعوان إلى النكاح، ويوقعان فيه، فنهيت عن ذلك؛ ليكون الامتناع منه زاجرًا عن النكاح؛ لكون الزوج ميتًا لا يمنع معتدته عن النكاح، ولا يراعيه ناكحها، ولا يخاف منه، بخلاف المطلق الحي؛ فإنه يستغني بوجوده عن زاجر آخر. ولهذه العلة وجبت العدة على كل متوفى عنها زوجُها، وإن لم يكن مدخولًا بها، بخلاف الطلاق، فاستظهر للميت وجوب العدة، وجعلت أربعة أشهر ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 315)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 352)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 111)، و"مختار الصحاح" (ص: 53)، (مادة: حدد).

وعشرًا؛ لأن الأربعة فيها ينفخ الروح في الولد، إن كان، والعشرُ احتياط، وفي هذه المدة يتحرك الولد في البطن. قال العلماء: ولم يوكل ذلك إلى أمانة النساء، ويجعل بالأقراء كالطلاق؛ لما ذكرناه من الاحتياط للميت. ولما كانت الصغيرة من الزوجات نادرة، ألحقت بالغالب في حكم وجوب العدة والإحداد، والله أعلم. وأما تقييده - صلى الله عليه وسلم - تحديدَ تحريمِ الإحداد على غير الزوج بما فوق الثلاث، فليس فيه الإذن بفعله في الثلاث وما دونها، وإنما هو تقييد خرج مخرج العادة للنفوس، وغلبة طبعها؛ كما جعل في الهجرة بين المسلمين فوق ثلاث، لكن مفهومه في الثلاث: الإباحة؛ لأجل حظ النفوس ومراعاتها؛ ولهذا دعت أم حبيبة - رضي الله عنها - بالخلوق، وتمسحت به؛ لعلمها بأن الشارع لم يأذن في الإحداد على غير الزوج مطلقًا، من غير أن يفعل ذلك بعد الثلاث؛ حيث علمت أن قوله - صلى الله عليه وسلم - مقيدًا بالثلاث إنما هو مراعاة للعادة في حظ النفوس، لا لأجل الإذن في الإحداد في الثلاث، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: وجوب الإحداد على المعتدة من وفاة زوجها، ولا خلاف فيه في الجملة؛ وإن اختلفوا في التفاصيل. ومنها: وجوبه على كل زوجة، سواء كانت مدخولًا بها، أو قبله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا على زَوْجٍ". ومنها: وجوبه على كل امرأة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو كافرة، وهذا مذهب الشافعي والجمهور؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ لامرأة"، وهو عام في جميع النساء، يدخل فيه جميع من ذكرناه، لكن في دخول الصغيرة تحت لفظ المرأة نظر، فإن وجب من غير دخوله تحته، فبدليل آخر. قال أبو حنيفة، وغيره من الكوفيين، وأبو ثور، وبعض المالكية: لا يجب

على الزوجة الكتابية؛ حيث لا مدخل له في اللفظ، من وصف المرأة بالإيمان بالله واليوم الآخر، فيختص بالمسلمة دونها. لكن الوصف الذي له سبب مخصوص لفائدة غير اختلاف الحكم، لم يدل على اختلاف الحكم. فالتقييد بالإيمان بالله واليوم الآخر ليس كتقييد الحكم به، بل لتأكيده، مثل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]؛ فإنه يقتضي توكيدًا من التوكل بربطه بالإيمان. فكذلك المسلمة لما كانت هي التي تستثمر خطاب الشارع، وتنتفع به، وتنقاد له، قيد الحكم به؛ للتوكيد، لا للإثبات، فكما يقال: إن كنت ولدي، فافعل كذا، لذلك يكون المعنى: التقييد بالإيمان؛ لتأكيد التحريم؛ لما يقتضيه سياقه ومفهومه، والله أعلم. وقال أبو حنيفة: لا إحداد على الصغيرة، ولا على الزوجة الأمة. وأجمعوا على أنه لا إحداد على أم الولد، ولا على الأمة، إذا توفي عنهما سيدهما، ولا على الزوجة الرجعية. وقد يؤخذ ذلك من الحديث؛ حيث إن المستولدة والأمة ليستا بزوجتين، والحكم متعلق بالزوجية. والرجعية: متضمنة لمن لم يمت عندها زوجها، والحكم مقيد بمن مات. واختلف العلماء في المطلقة ثلاثًا: فقال عطاء، وربيعة، ومالك، والليث، وابن المنذر: لا إحداد عليها. وقال الحكم، وأبو حنيفة، والكوفيون، وأبو ثور، وأبو عبيد: عليها الإحداد، وهو قول ضعيف للشافعي. وحكى القاضي عياض قولًا شاذًّا غريبًا عن الحسن البصري: أنه لا يجب الإحداد على المطلقة، ولا على المتوفى عنها زوجها، وأنه استدل من قال: لا إحداد على المطلقة ثلاثًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا على ميتٍ"، فخص الإحداد بالميت بعد تحريمه في غيره. مع اتفاق العلماء على وجوبه على من توفي عنها زوجها.

الحديث الثالث

وليس في لفظ الحديث ما يدل على وجوبه على المطلقة ثلاثًا، والله أعلم. ومنها: أن مدة العدة للمتوفى عنها: أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها. وبهذا قال كافة العلماء. وحكي عن يحيى بن أبي كثير، والأوزاعي: أنها أربعة أشهر وعشر ليال، وأنها تحل في اليوم العاشر. والذي عليه العلماء -غير من ذكرنا-: أنها لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر، ثم التقييد بالمدة المذكورة خرج على غالب المعتدات: أنهن يعتددن بالأشهر. أما الحامل: فعدتها بالحمل، ويلزمها الإحداد في جميع المدة حتى تضع، سواء قصرت المدة، أم طالت، فإذا وضعت، فلا إحداد بعده. وقال بعض العلماء: فلا إحداد عليها بعد أربعة أشهر وعشر، وإن لم تضع الحمل، والله أعلم. ومنها: منقبة لأم حبيبة - رضي الله عنها -؛ حيث بادرت إلى امتثال أمر الشرع بتركِ الإحداد، وفعلِ ما ينافيه من الطيب وغيره، وترك عادة الناس في ذلك، والرياء والتسميع، وغير ذلك، والله أعلم. ومنها: ذكر الدليل للفعل المخالف لعادة الناس، وأن أمر الشارع فوق كل أمر، وأنه يجب متابعته، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أُمِّ عَطِيَّة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمسُّ طِيبًا، إلَّا إذَا طَهُرَتْ؛ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ، أَوْ أَظْفَارٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5028)، كتاب: الطلاق، باب: تلبس الحادة ثياب العصب، ومسلم (938)، =

العَصْبُ: ثِيابٌ مِنَ اليَمَنِ، فِيها بياضٌ وَسَوَادٌ. تقدم الكلام على أم عطية، وتقدم الكلام على الإحداد وحكمِه وجملتِه وحدِّ آخرِ وقته في الحديث قبله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تَلْبَسُ ثوبًا مَصْبوغًا، إلَّا ثوبَ عَصْبٍ"؛ أما المصبوغ: فالمراد به: الثوب المصبوغ للزينة. وأما الثوب العَصْب: فهو -بفتح العين وسكون الصاد المهملتين-، وهو نوع من بُرود اليمن، يُعصب غزلها، ثم يصبغ معصوبًا، ثم ينسج، وقد فسره المصنف بغير هذا، ومرَّ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تكتحلُ"؛ هو نهي للحادة عن الاكتحال. وفي "الموطأ" من حديث أم سلمة: الإذنُ فيه بالليل، ومنعُه ومسحُه بالنهار (¬1). وحمله العلماء على أنها كانت محتاجة إليه، فأذن لها في الليل، ومنعه بالنهار؛ بيانًا لجوازه عند الحاجة ليلًا، مع أن الأولى تركه، فإن فعلته، مسحته بالنهار. فحديث الإذن فيه؛ لبيان أنه غير حرام بالليل؛ للحاجة. وحديث النهي محمول على عدم الحاجة. وأما حديث التي اشتكت عينها، فنهاها، فهو في "صحيح مسلم" (¬2)، وهو محمول على أنه نهي تنزيه، وتأوله بعضهم على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتحقق الخوفَ على عينها. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تمسُّ طيبًا إلَّا إذا طَهُرَتْ نُبْذَةً من قُسْطٍ أَوْ أَظْفارٍ". النبذة -بضم النون-: القطعة والشيء اليسير. والقسط؛ بضم القاف، ويقال فيه: كُست -بكاف مضمومة بدل القاف، ¬

_ = كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة. (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 600)، بلفظ: "اجعليه في الليل، وامسحيه بالنهار". (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا عند البخاري ومسلم.

وبتاء بدل من الطاء-: الأظفار، وهو والأظفار: نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب (¬1). وخص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة من المحل، تتبع به أثر الدم، لا للتطيب، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: نهي الحادَّةِ عن لبس المصبوغ للزينة، وفي معناها المعصفرة، وهذان مجمع عليهما، فلو صبغ بسواد، فرخص فيه عروة بن الزبير، ومالك، والشافعي، وكرهه الزهري. فمن كرهه: علل بكونه مصبوغًا، ومن رخص فيه، وهو الجمهور، قال: لأنه غير مراد للزينة. ومنها: جواز لبس الثوب العصب للحادة، وهو مذهب الزهريّ، وقال مالك: يجوز الغليظ منه فقط، واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين؛ أصحهما عندهم: التحريم مطلقًا، والحديث حجة عليهم. قال ابن المنذر: ورخص جميع العلماء في الثياب البيض، وقد يؤخذ من مفهوم الحديث، ومنع بعض متأخري المالكية جيدَ البياض والسواد الذي يتزين به. قال أصحاب الشافعي: وَيَجُوزُ للحادة لبسُ ما صُبغ، ولا يقصد منه الزينة. وهل يجوز لها لبس الحرير؟ فيه وجهان؛ أصحهما عندهم: الجواز. قالوا: ويحرم عليها حلي الذهب والفضة، وكذا اللؤلؤ. وفي وجه: يجوز اللؤلؤ. ومنها: تحريم الاكتحال على الحادة للزينة. وقد اختلف العلماء فيه، مع اتفاقهم على تحريمه لغير الحاجة لقصد الزينة. فقال سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، ومالك في رواية عنه: يجوز إذا خافت على عينها بكحلٍ لا طيبَ فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 1)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 118).

الحديث الرابع

وجوزه بعضهم عند الحاجة، وإن كان فيه طيب. ومذهب الشافعي: جوازه ليلًا عند الحاجة بما لا طيب فيه. ومنها: جواز تطييب محل الحيض للحادة عند انقطاع الدم بالقسط والأظفار؛ لإزالة الرائحة الكريهة، لا لقصد التطيب، وهو من باب الرخص، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ أمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إن ابْنَتي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُها، وَقَدِ اشْتكتْ عَيْنُهَا، أفَتكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "إنما هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ في الجَاهِلِية تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ". فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ المَرْأَةُ إذًا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمسَّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا حَتى تَمُرَّ بها سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّة؛ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بشِيءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْد مَا شَاءَتْ مِنْ طِيب أَوْ غَيْرِهِ (¬1). الحِفْش: البيت الصغير، وتفتض: تدلك به جسدها. أما أم سلمة، فتقدم ذكرها، وأما المرأة المبهمة وزوجها، فقد سماهما الحافظ أبو القاسم خلفُ بنُ عبد الملك بن بشكوال في كتابه "الأسماء المبهمة"، وقال: المرأة السائلة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: عاتكة بنتُ عبد الله بن نعيم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5024)، كتاب: الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومسلم (1488)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وهذا لفظ البخاري.

العدوي، والمتوفى -رحمه الله تعالى- هو المغيرة المخزومي، كذا في "موطأ ابن وهب" (¬1). وقوله: "فقالتْ زينبُ"؛ القائلُ: فقالتْ زينبُ، هو حُميد بن نافع، الراوي عن زينب. وزينب: هي بنت أبي سلمة، وهي راوية هذا الحديث عن أمها أم سلمة، والله أعلم. قولها: "وَقَدِ اشتكت عَيْنُها"، ضبطنا عينها -برفع النون ونصبها- عن أبي محمد المنذري وغيره، فالرفع على الفاعلية: بأن تكون العين هي المشتكية، وهو المجزوم به عند شيخنا الحافظ أبي زكريا النووي - رحمه الله تعالى - (¬2). وأما النصب، فعلى أن تكون في اشتكت ضمير الفاعل، وهي ابنة المرأة. ورجح هذا الحافظُ المنذري -رحمه الله تعالى-، لكنه وقع في بعض روايات مسلم: عيناها، فيقتضي ترجيح الرفع (¬3). قولها: "أفتكحُلُها؟ فقال: لا" أما أفتكحلها: فهو بضم الحاء. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا": وجهان؛ أحدهما: أنه منع تنزيه. والثاني: تأويل النهي المذكور على أنه لا يتحقق الخوف على عينها. وقد ذكرنا في الحديث قبله الجمعَ بين الروايات فيه، واختلافَ العلماء، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي أربعةُ أشهرٍ وعَشْرٌ"؛ وهو تعليل للمدة، وتهوين للصبر عما مُنعت منه، وهو الاكتحالُ في العدة، بعد أن كانت المدة سنةً. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقَدْ كانَت إحداكُنَّ في الجاهليةِ تَرْمي بالبعرة على رأسِ الحول"؛ قد فسرته زينبُ بنتُ أم سلمة في الحديث، ولم يدرج فيه. ¬

_ (¬1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 353 - 354). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 113). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488).

واختلف العلماء في الإشارة به إلى ماذا؟ فقيل: هو إشارة إلى العدة، كأنها رمت بها بعد انقضائها؛ كرميها بالبعرة المذكورة، وانفصالها منها. وقيل: هو إشارة فعلها في السَّنة التي كانت تعتدُّ بها، من دخولها الحِفْشَ، ولبسِها شرَّ ثيابها، وصبرِها على ذلك، وعلى ترك الطيب، كأنه يقول: إن تركَ إحداكن الاكتحالَ في مدة أربعة أشهر وعشر، هينٌ بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقُّه من المراعاة، كما يهون الرميُ بالبعرة. وقولها: "دخلتْ حِفْشًا"؛ الحفش: بكسر الحاء المهملة، وسكون الفاء، وبالشين المعجمة؛ أي: دخلت بيتًا صغيرًا حقيرًا قريبَ السَّمْكِ، وجمعُه أحفاش، والتحفُّش: الانضمامُ والانجماع. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: هو البيت الذليل الشعثُ البناء، القريبُ السمكِ. وقال مالك -رحمه الله تعالى-: هو الصغير الخرب. وقيل: والحفش يشبه القفة يُصنع من خوص تجمع فيه المرأة غزلها وسقطَها كالدرج، فشبه به البيت الصغير (¬1). وقولها: "ثم تُؤتى بدابَّةٍ؛ حمارِ أو شاةٍ"، هو بدل من دابة. قولها: "فتفتضُّ به": هو -بفتح التاء ثالث الحروف، وسكون الفاء، وبعدها تاء مثناة فوق، ثم ضاد معجمة-، ومعناه: أن المعتدة كانت لا تغتسل، ولا تمس ماء، ولا تقدم ظفرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض؛ أي: تكسر ما هي فيه من العدة، بطائر تمسح به قُبلها، وتنبذه، فلا يكاد يعيش، هكذا قاله القتيبي: عن الحجازيين فيما سألهم عنه. وقال غيره: فتموتُ؛ لقبح ريحها وقذارتها، وسمي فعلها ذلك تتفرج به مما ¬

_ (¬1) انظر: "مسند الإمام الشافعي" (ص: 300)، و"الأم" له أيضًا (5/ 231)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 196)، و"غريب الحديث" للخطابي (2/ 584)، و"التمهيد" لابن عبد البر (17/ 311)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 208)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 407)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 114)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 286).

كانت فيه، وتزيله عنها، أو تزول بذلك من مكانها وحفشها الذي اعتدت فيه. والفضُّ: التفرق، ومنه: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، و {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11]. وقال مالك: تمسح به جلدها كالنشرة. وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه أو على ظهره. وقيل: هو مشتق من الفضة؛ كأنها تتنظف بما تفعله بذلك مما كانت فيه، وتغتسل بعده، وتتنقى من درنها حتى تفسير كالفضة. والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب للإنقاء وإزالة الوسخ. قال الأزهري: وروى الشافعي -رحمه الله تعالى- هذه اللفظة بالقاف والباء الموحدة والصاد المهملة. وفسره غيره بأنها: تأخذه بأطراف أصابعها. وقرأ الحسن: فقبصت قبصة. وفسره آخر: بأنها تغدو بسرعة نحو منزل أبويها؛ لأنها كالمستحية من قبح منظرها. وقال الأخفش: معناه: تتنظف، وتتنقى من الدرن؛ تشبيهًا لها بالفضة في نقائها وبياضها (¬1). وفي هذا الحديث دليل صريح: على نسخ الاعتداد بسنة المذكور في الآية الثانية من سورة البقرة. ولا شك أن عدة الوفاة كانت في ابتداء الإسلام حولًا، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة، ما لم تخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها، سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 496)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 348)، و"التمهيد" لابن عبد البر (17/ 322)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 161)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 454)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 115)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 209).

وكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر. وفيه: السؤال عن العلم من المرأة لغيرها، خصوصًا إذا كانت ممن ليست له عادة في الخروج من البيت، أو كان اللبث في البيت واجبًا عليه. وفيه: المنع من الاكتحال للحادة مطلقًا، وتقدم الكلام عليه ودليله الجمع بين الأحاديث فيه، واختلاف العلماء في الحديث قبله. وفيه: تكرير الجواب في الفتوى بلا؛ تأكيدًا للمنع. وفيه: تخفيف العمل على السائل والمسؤول له بذكر ما كلفه في الجاهلية من المشقة. وفيه: حصر عدة الوفاة في أربعة أشهر وعشر لغير الحامل؛ حيث لم تذكر حملًا في السؤال، وأطلق الجواب بالحصر بإنما، فلما لم تذكره، دل على أنها كانت غير حامل؛ بدليل بيان حديث سبيعة الأسلمية في الحمل، وانقضاء عدة المتوفى به، والله أعلم. * * *

كتاب اللعان

كتاب اللِّعان اللَّعن والمُلاعَنة والتَّلاعُن: ملاعنةُ الرجل امرأتَه، يقال: تلاعَنا، والْتَعَنا، ولاعنَ القاضي بينهما، وسُمِّي لعانًا؛ لقولِ الزوج: وعليَّ لعنةُ الله إن كنتُ من الكاذبين. وإنما اختير لفظ اللعن على الغضب، وإن كانا موجودين في الآية الكريمة في صورة اللعان؛ حيث إنه متقدم في التلاعن في الآية عليه، ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها؛ لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها، ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها، ولا ينعكس. وسمي لِعانًا؛ من اللَّعن، وهو: الطرد والإبعاد؛ لأن كلًّا منهما يبعد عن صاحبه، ويحرم النكاح بينهما على التأبيد، بخلاف المطلِّق وغيرِه. واللعانُ عند جمهور أصحاب الشافعي يمينٌ. وقيل: شهادة. وقيل: يمين فيها ثبوت شهادة. وقيل: عكسه. قال العلماء: وليس من الأيمان شيء متعدد إلا اللعان والقسامة، ولا يمين في جانب المدعي إلا فيهما، والحكمة لتجويزه: لحفظ الأنساب، ودفع المعرَّة عن الأزواج (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 304)، و"شرح مسلم" له أيضًا (10/ 119)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 388)، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1589)، (مادة: لعن).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ، تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ! قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَؤُلاَءِ الآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]، فَتَلاَهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ، وَأَخْبرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا، وَأَخْبرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَاب الآخِرَةِ. قَالَتْ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! إنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنةَ اللهِ عَلَيهِ إنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالمَرْأَةَ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ، وَالخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: "اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنكُمَا تَائِبٌ؟ ثَلاَثًا" (¬1). وفي لفظ: قال: "لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْها". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَالي. قَالَ: "لَا مَالَ لَكَ، إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كنتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا" (¬2). اعلم أن قصة اللعان هذه كانت في شعبان سنة تسع من الهجرة. ومن نقل ذلك: القاضي عياض - رحمه الله - عن ابن جرير الطبري، والحافظ أبو حاتم بن حبان البستي قال: سنة تسع من الهجرة (¬3). ثم قال: ثم لاعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1493)، في أول كتاب: اللعان. (¬2) رواه البخاري (5006)، كتاب: الطلاق، باب: قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟. (¬3) انظر: "الثقات" لابن حبان (2/ 104).

عُويمر بن الحارث بن عجلان -وهو الذي يقال له: عاصم- وبين امرأته، بعد العصر، في مسجده في شعبان. قال: وذلك أنه أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! لو أن أحدنا، وساق الحديث بكماله. وقد اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات في اللعان، هل هي بسبب عُويمر العجلاني، أو بسبب هِلال بنِ أمية؟ وكل من القولين ثابت في "الصحيح". لكن: قال جمهور العلماء: إنها نزلت بسبب هلال بن أمية، وقد ثبت التصريح بذلك في "صحيح مسلم"، قال: وكان أولَ رجل لاعنَ في الإسلام. قال الماوردي في كتابه "الحاوي" من الشافعية: الأكثرون قالوا: قصة هلال بن أمية أسبقُ من قصة العجلاني. قال: والنقل فيهما مشتبه مختلف (¬1). وقال ابن الصباغ من الشافعية في كتابه "الشامل" (¬2): قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولًا. قال: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لعويمر: إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك، فمعناه ما نزل في قصة هلال؛ لأن ذلك حكم عام لجميع الناس. قال شيخنا الحافظ أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى-: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعًا؛ فلعلهما سألا في وقتين متقاربين، فنزلت الآية فيهما، وسبق هلال باللعان، فيصدق أنها نزلت في ذا وفي ذاك، وأن هلالًا أولُ مَنْ لاعنَ (¬3). واعلم أن الخطيب أبا بكر البغدادي الحافظ -رحمه الله تعالى- قد بين في كتابه "المبهمات" اسمَ الملاعِنِ لهذه المرأة، والذي رُميت به، فقال: الرجلُ الملاعنُ لهذه المرأة: هلالُ بن أميةَ بنِ عامر بن قيسِ بنِ عبدِ الأعلى، شهد ¬

_ (¬1) انظر: "الحاوي" للماوردي (11/ 5). (¬2) تقدم ذكر كتاب "الشامل" لابن الصباغ والتعريف به. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 119 - 120).

بدرًا. والرجلُ الذي رُميت به: شريكُ بنُ السحماء، والسحماء أمه، وهي -أيضًا-، أم البراء بن مالك. وأما هو: فشريك بن عبدة بن معتب بن الجد بن عجلان، شهد أبوه بدرًا، ثم روى الخطيب القصة، ثم قال: وقد روينا لعويمر العجلاني قريبًا من هذه القصة في اللعان. وإسناد كل واحدة من القصتين صحيح، فلعل القصتين اتفق كونهما معًا في وقت واحد، أو في ميقاتين، ونزلت آية اللعان في تلك الحال، لا سيما وفي حديث عويمر: كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل، يدل على أنه كان سبقَ بالمسألة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك غير مرة. فهذا يصحح القصتين معًا، مع ما رويناه عن جابر، قال: ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال. هذا آخر كلام الخطيب. وأما المرأة؛ فاسمها خولة بنتُ قيس بن محصن. وأما عاصم؛ الذي قال ابن حبان: في عويمر الذي يقال له: عاصم، فليس هو، بل هو ابن عمه، وهو عاصم بن عدي، وشريك، وخولة، وعويمر كلهم بنو عم عاصم، والله أعلم. وقال الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي في كتابه "التعريف مما أبهم في القرآن" (¬1) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية [النور: 6] نزلت في هلال بن أمية الواقفي، قذف امرأته بشريك بن سحماء. وقيل: نزلت في عويمر العجلاني، وأنه هو القاذف لامرأته. والحديث في كل واحد منهم صحيح، فيحتمل أن تكونا قصتين نزل القرآن في إحداهما، وحكم في الأخرى بما حكم في الأولى. وقال المهلب: إنما الصحيح أنه عويمر بن أبيض العجلاني. ويقال فيه: ابن أشقر. وذكر هلال في هذا الحديث غلط، والله أعلم. هذا آخر كلامه. ¬

_ (¬1) لم أره في المطبوع من كتابه هذا، والله أعلم.

قوله: "أرأيتَ أَن لو وجدَ أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ"؛ المراد بالفاحشة والفحشاء: الزنا. وكل ما في القرآن العزيز من الفاحشة والفحشاء، فالمراد به الزنا، إلا في موضع واحد، في قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، فالمراد به: البخل ومنع الزكاة. قال الكلبي: كل فحشاء في القرآن فهو الزنا، إلا هذا، والله أعلم. وأما سؤاله: فيحتمل أن يكون سؤالًا عن أمر لم يقع، ويحتمل أنه وقع، لكن أراد إبهامه استحياء من إظهاره، ويتعرف المخرج من إعضاله. وقول الراوي: "فلما كانَ بعدَ ذلكَ أتاه فقالَ: إن الذي سألتُكَ عنهُ قدِ ابْتُلِيتُ به"؛ يحتمل أن الحكم المسؤول عنه إنما تأخر جوابه - صلى الله عليه وسلم - أولًا عنه؛ ليتبين ضرورة السائل إلى معرفة الحكم عند وقوعه؛ حيث إن الجواب لا يجب عليه بيانه إلا عند الحاجة إليه. ويحتمل أنه إنما أخره؛ لأنه لم يكن عنده - صلى الله عليه وسلم - علم منه، فتثبَّت في الجواب عنه حتى نزل القرآن، فتلاه عليه؛ لتعريف الحكم، والعمل بمقتضاه، ويكون قوله: قد ابتليتُ به: إخبارًا عما كان وقع وقتَ سؤاله أولًا، والله أعلم. وأما بدأته - صلى الله عليه وسلم - بوعظه، وتذكيرِه قبلها؛ فتأسيًا بالقرآن العزيز، في ذكر حكم الرجل قبل المرأة في اللعان، فيناسب وعظه وتذكيره قبلها. ويحتمل أن الوعظ كان عامًّا، وقع الخطاب به لهما متكررًا. ولا شك أن كلًّا من الرجل والمرأة متعرض للعذاب، لكن عذاب الرجل في الدُّنيا أخف؛ لأن عذابه فيها: حدُّ القذف. وعذاب المرأة فيها أشد؛ لأنه فيها الرجم، والله أعلم. ثم ظاهر لفظ الحديث والكتاب العزيز يقتضي تعيين لفظ الشهادة في لعانهما ولا تبدل بغيرها، وأُخر لعانُ المرأة عن الرجل؛ حيث إن مقتضاه: درء العذاب عنها، ولا يشرع لها للدرء، إلا بعد وجود سببه، وهو لعان الزوج. واختصت بلفظ الغضب؛ لعظم الذنب بالنسبة إليها على تقدير وقوعه؛ لما

فيه من تلويث الفراش، والتعرض لإلحاق نسب بالزوج لم يكن، وهو أمر عظيم، يترتب عليه مفاسد كثيرة؛ كانتشار المحرمية وثبوت الولاية على الإناث، واستحقاق الأموال بالتوارث، فاختصت به؛ لأنه أشد من اللعنة، وكذلك لو بدلت لفظه باللعنة، لم يكتف به. وأما عرضُه - صلى الله عليه وسلم - التوبةَ عليهما بقوله: "فهلْ منكُما تائبٌ"؟ يحتمل أنه إرشاد إلى التوبة بينهما وبين الله تعالى؛ حيث لم يحصل اعتراف منهما أو من أحدهما. ويحتمل أنه إرشاد للزوج؛ حيث إنه لو رجع، وكذب نفسه، كان توبة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبيلَ لكَ عليها" يحتمل أن يكون راجعًا إلى التفرق بعد اللعان؛ لعموم دخوله في عدم السبيل. ويحتمل أن يكون راجعًا إلى المال. وفي هذا الحديث أحكام: منها: كراهة السؤال عما لم يقع، وقد وقع في "صحيح مسلم" في هذا الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره المسائل وعابها، وعدمُ جوابه السائلَ في هذا الحديث على الفور يحتمل ذلك؛ من حيث إن القضية لم تقع، ولم يحتج إليها، ولو وقعت، لكان فيها هتك ستر مسلم أو مسلمة، أو إشاعة فاحشة، أو شناعة على أمر الشرع يستره، مع ما فيه في ذلك الوقت من الشناعة على المسلمين والمسلمات، وتسليط اليهود والمنافقين، ونحوهم على الكلام في أعراض الْمُسْلِمِينَ وفي الإسلام؛ ولأن من المسائل ما يقتضي جوابه تضييقًا. وفي الحديث "أعظمُ الناسِ جُرْمًا مَنْ سألَ عَمَّا لم يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ من أجلِ مَسْأَلتِهِ" (¬1)؛ ولهذا كان من السلف من يكره الحديث في الشيء قبل أن يقع، ويراه من ناحية التكلف. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6859)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم (2358)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم -، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.

وسياق هذا الحديث يقتضي أن جوابه - صلى الله عليه وسلم - للسائل إنما كان بعد وقوع الواقعة، دون ما قبلها، ومن حمل الحديث على احتمال وقوع المسؤول عنه: أخذ منه جواز مثل ذلك، والاستعداد للوقائع بعلم أحكامها قبل أن تقع، وعليه استمر عمل الفقهاء، فيما فرعوه وقرروه من النوازل قبل وقوعها، والله أعلم. وأما ما كان من المسائل ما تدعو الحاجة إليه لأمر الدين، وقصد بالسؤال عنه التبيين والتعلم؛ فلا بأس به؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُسأل عن الأحكام، فلا يكره ذلك؛ بحيث لا يكثر السؤال، ولهذا نهى - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة السؤال، إما سدًّا لباب سؤال الجهلة والمنافقين وأهل الكتاب، أو لما يخشى منه من التضييق عليهم في الأحكام التي لو سكتوا عنها، لم يلزموها. ويحتمل أن النهي عن كثرة السؤال؛ لعدم ضبط السائل عما سأل بسببها؛ لأن المقصود إنما هو الضبط والفهم، ومع الكثرة لا يحصل ذلك. وقد نبه الله -سبحانه وتعالى- على هذا المعنى في حكايته على الكفار في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، فكل ما قل وفُهم كان خيرًا مما كثر ونُسي أو لم يفهم، والله أعلم. ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع له خاطر في أمر معضل، ألَّا يتكلم به، وأن يصرفه عن خاطره، فإن استمر ولم ينصرف، أنزله بالله تعالى أولًا، ثم سأل عنه العلماء بالله تعالى وبأحكامه، ولا يبادر بالتكلم به وإبرازه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عنه بالسكوت وعدم الجواب. ومنها: الرجوع إلى الله تعالى، ورسوله في الأمور المعضلة، ولا يجتهد في أحكامها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجتهد في حكم سؤاله، بل صبر حتى نزل القرآن به. ومنها: التثبت في أحكام الشرع، ولا يعمل بالاجتهاد فيها حتى يفقد النص، فإذا فقد، عمل بالاجتهاد، ولا يجوز الإقدام على العمل إلا بعد ذلك؛ حيث إن الله تعالى جعل في كل واقعة حكمًا.

ومنها: وعظ المستفتي والمدعي، وذكرُ الدليل له، وتذكيرُه بالله تعالى، وبالآخرة وعذابها، وتفخيم أمر الآخرة، وكذلك المستفتى عليه والمدعى عليه يعمل به. ومنها: إجراء الأحكام على الظاهر. ومنها: عرض التوبة على المذنبين. ومنها: أن الزوج لو أكذب نفسه، كان توبة؛ لجوابه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا والذي بعثك بالحق! ما كذبت عليها، بعد وعظه وتذكيره إياه، وإرشادهما إلى التوبة بعد تلاعنهما، وهي لا تحصل بإكذابه نفسه عند الحاكم، وعند الله بباقي الشروط من الندم والإقلاع وعدم العود إلى الذنب. ومنها: البداءة بالزوج في اللعان؛ حيث إن الله تعالى بدأ به، ولأنه يسقط عن نفسه حد قذفها، وينفي النسب إن كان. والبداءة بلعانه؛ مجمَع عليه، ونقله القاضي عياض وغيره، فلو لاعنت المرأة قبله، لم يصح لعانها. وصححه أبو حنيفة وطائفة. ومنها: أن ألفاظ اللعان هي التي ذكرها الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهي مجمع عليها. ومنها: أن لفظة أحد، يجوز استعمالها في الإثبات، وأنها تقع موقع واحد، وهو مذهب المبرد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحدَكما كاذبٌ"، ويؤيده قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6]، وذلك رد على [من] (¬1) منع ذلك جميعه، وقال: لا تستعمل إلا في النفي. ومنهم من قال: لا تستعمل إلا في الوصف، ولا تقع موقع واحد؛ فإنها قد وقعت في هذا الحديث في غير نفي ولا وصف، ووقعت موقع واحد. ومنها: أن الخصمين المتكاذبين، لا يعاقب واحد منهما حدًّا ولا تعزيرًا، وإن علمنا كذب أحدهما على الإبهام. ¬

_ (¬1) ساقطة من "ح".

ومنها: أن اللعان يكون بحضرة الإمام أو القاضي، وأنه يلاعن بينهما. ومنها: وقوع الفرقة بينهما بعد لعانهما. ومنها: أن التفرقة بينهما لا تقع بنفس التلاعن، بل لا بد من تفريق الحاكم بينهما؛ لقوله: ثم فرق بينهما، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، والشافعي، والجمهور: تقع الفرقة بينهما بنفس التلاعن، وتحرم على التأبيد، لكن قال الشافعي وبعض المالكية: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده، ولا يتوقف على لعان الزوجة، وقال بعض المالكية: يتوقف على لعانها. قالوا: ولا تفتقر إلى قضاء القاضي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى: "لا سبيلَ لكَ عليها"، وفي رواية في "صحيح مسلم": "ففارقْها"، وقال الليث (¬1): لا أثر للعان في الفرقة، ولا يقع به فراق أصلًا، وهو مخالف لكافة العلماء. ثم فرقةُ اللعان فرقةُ فسخ عند كثير من أهل العلم، وهي متأبدة كما ذكرنا، حتى لو أكذب الزوج نفسه قبل ذلك، فيما عليه دون ما له، لزمه الحد، ولحقه الولد، ولكن لا يرتفع تحريم التأبيد. وعند أبي حنيفة: فرقة اللعان فرقة طلاق، فإذا كذب الزوج نفسه، جاز له أن ينكحها. ومنها: أن الفرقة لا تقع بلعانهما، إلا بالإيتان بجميع ألفاظه المذكورة في الحديث، ولو أتى ببعضها، لا يتعلق به حكم اللعان، وهو مذهب العلماء كافة. وقال أبو حنيفة: إذا أتى بأكثر كلمات اللعان، قام مقام الكل في تعليق الحكم به. ومنها: أن اللعان لا يجوز إلا بين مسلمين حرين غير محدودين، فلو كان الزوجان أو أحدهما رقيقًا، أو ذميًّا، أو محدودًا في قذف، فلا لعان بينهما؛ حيث إن اللعان الذي كان بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان بين مسلمين حرين غير ¬

_ (¬1) في "ح": "النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وهو خطأ.

الحديث الثاني

محدودين، وبه قال الزهري، والأوزاعي، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، لكن ظاهر القرآن حجة لجمهور العلماء في صحة اللعان بين الأحرار والعبيد والمسلمين وأهل الذمة، وجريانه بينهم؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6]، ولم يفصل بين الحر والعبد، والمحدود وغيره؛ كما قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3]؛ فإنه يستوي فيه الحر والعبد. وممن قال بجريان اللعان بين من ذكرنا: سعيدُ بن المسيب، وسليمانُ بن يسار، والحسن، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأكثر أهل العلم. ومنها: ثبوت مهر الملاعنةِ المدخولِ بها. ومنها: استقرار المهر جميعِه بالدخول، وكل من المسألتين في المهر مجمع عليه؛ لنصه - صلى الله عليه وسلم - على ثبوته، ولتعليله في مهر الملاعنة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهو بما استحلَلْتَ من فَرْجِها". ومنها: أن الملاعنة لو أكذبت نفسها، لا يسقط شيء من مهرها؛ لوجود العلة، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنِ ابْنِ عُمَرَ أيضًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أَن رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَتَلاَعَنَا كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ قَضَىَ بِالوَلَدِ لِلْمَرْأَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ المُتَلاَعِنَيْنِ (¬1). هذا الحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أضاف ابن عمر الصحابي القضيةَ إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وقضائِه وأمرِه. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما الخلاف فيما يذكره الصحابي مضافًا إليه، أو إلى غيره، وإضافته إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4471)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} [النور: 9]، ومسلم (1494)، كتاب: اللعان، وهذا لفظ البخاري.

والصحيح أنه مرفوع، أما ما لم يضفه إلى زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فهو موقوف. وقوله: "فَتَلاعَنا كما قالَ اللهُ تعالى" دلالة كتاب الله تعالى تقتضي أن يشهد إنه لمن الصادقين، وهو راجع إلى ما لاعنا عليه، وهو مشتمل على نفي الولد، فلا يشعر ذلك بعدم ذكر نفي الولد في اللعان. وقوله: "وفَرَّقَ بينَ المتلاعِنَيْنِ" يقتضي أن اللعان موجب للفرقة ظاهرًا، وتقدم الاختلاف فيه، وأن التفريق لا يحتاج إلى إذن الحاكم عند الجمهور، وأن أبا حنيفة قال: لا تحصل الفرقة إلا بقضاء القاضي. وفي الحديث أحكام زائدة على الحديث قبله: منها: نفي الولد. ومنها: إلحاقه بالمرأة. ومنها: أنه يرثها بالبنوة، وتثبت أحكامها بالنسبة إلى المرأة. ومنها: اقتضاء انقطاع النسب إلى الأب مطلقًا؛ لمفهوم إلحاقه بالمرأة، وعدم ذكر حكم الملاعن فيه في مقام التبيين. وتردد العلماء فيما لو كانت الملاعنة ثيبًا، هل يحل للملاعن تزوجها؟ ومنها: جواز لعان الحامل. ومنها: أنه إذا لاعنها، ونفي عنه بسبب الحمل، انتفى عنه. وأما صفة إرثه من الأم وإرثها منه؛ فإنها ترث ما فرض الله تعالى للأم، وهو الثلث إن لم يكن له ولد، ولا ولد ابن، ولا اثنان من الإخوة أو الأخوات، وإن كان شيء من ذلك، فلها السدس. وقد أجمع العلماء على حرمان التوارث بينه وبين أمه، وبينه وبين أصحاب الفروض من جهة أمه، وهو وإخوته وأخواته من أمه وجداته من أمه. ثم إذا دفع إلى أمه فرضها، أو إلى أصحاب الفروض، وتبقى شيء، فهو لموالي أمه، إن كان عليها ولاء، ولم يكن هو عليه ولاء، بمباشرة إعتاقه، فإن لم يكن لها موال،

الحديث الثالث

فهو لبيت المال. هذا تفصيل مذهب الشافعي، وبه قال الزهري، ومالك، وأبو ثور. وقال الحكم، وحماد: يرثه ورثة أمه. وقال آخرون: عصبته عصبة أمه، وروي هذا عن علي، وابن مسعود، وأحمد بن حنبل. قال أحمد: فإن انفردت الأم، أخذت جميع ماله بالعصوبة. وبه قال أبو حنيفة: إذا انفردت، أخذت الجميع، لكن الثلث بالفرض، والباقي بالرد؛ على قاعدة مذهبه في إثبات الرد، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُريرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي وَلدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ لَكَ إِبِلٌ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟ "، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "فَهَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ "، قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: "فَأنَّى أتاهَا ذَلِكَ؟ "، قَالَ: عَسَى أَن يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ" (¬1). أما الرجل المبهم الذي أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فاسمه ضمضم بن قتادة، قال ابن بشكوال: ذكره عبد الغني، والله أعلم (¬2). وأما امرأته والغلام الأسود؛ فلا أعرف اسميهما، والله أعلم. وأما الأورق: فهو الذي فيه سواد ليس بِصافٍ، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة: ورقاء، وجمعه وُرْق -بضم الواو وإسكان الراء-؛ كأحمر وحمر (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4999)، كتاب: الطلاق، باب: إذا عرض بنفي الولد، ومسلم (1500)، كتاب: اللعان، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 281 - 282). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 283)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير =

والمراد بالعرق هنا: الأصل من النسب، تشبيهًا بعرق التمر. ومنه قولهم: فلان مُعْرِق في الحسب والنسب، وفي اللؤم، والكرم. ومعنى نزعه: أشبهه واجتذبه إليه، وأظهر لونه عليه، وأصل النزع: الجذب، فكأنه جذبه إليه؛ لشبهه. يقال منه: نزع الولد لأبيه، وإلى أبيه، ونزعه أبوه، ونزعه إليه (¬1). وفي الحديث أحكام: منها: التعريض بنفي الولد في محل الاستفتاء والضرورة لا توجب حدًّا ولا تعزيرًا؛ حيث إن الضرورة داعية إلى ذكره، وإلى عدم ترتيبهما على المستفتين. ومنها: أن الولد يلحق بأبيه، وإن خالف لونه لونه، سواء كانت المخالفة من سواد إلى بياض، أو عكسه، في الزوجين، أو أحدهما؛ لعموم احتمال أنه نزعه عرق من أسلافه. ومنها: الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الإمكان والاحتمال. ومنها: إثبات القياس والاعتبار بالأشباه، وضرب الأمثال؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل منه التشبيه لولد هذا الرجل المخالف للونه، بولد الإبل، المخالف لألوانها، وذكر العلة الجامعة، وهي نزوع العرق، لا أنه تشبيه في أمر وجودي، وأقر - صلى الله عليه وسلم - العمل به في الشرعيات. ومنها: استفسار المفتى من المستفتي ما يقرب به الحكم الشرعي إلى ذهنه؛ بحيث يدفع عنه الشك والريبة فيما سأل عنه، وهذا معنى قولهم: تعليل المقدمات مطلوب للشارع. ولهذا المعنى امتن وامتدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه اختصر له الكلام اختصارًا؛ تنبيهًا على تحصيل المعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة العذبة. ¬

_ = (5/ 74)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 133). (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 133 - 134)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 351).

الحديث الرابع

حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - جعل عي اللسان لا عي القلب من الإيمان، وجعل عكسه من النفاق، أما عيُّهما، فإنه من البيان الذي امتن الله تعالى به، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "البيانُ منَ الله، والعيُّ من الشيطان، ليسَ البيانُ كثرةَ الكلام، ولكنَّ البيانَ الفصلُ في الحق، وليسَ العيُّ قلةَ الكلام، ولكن من سفه الحق" حديث صحيح، أخرجه ابن حبان عن أحمد بن عمير بن يوسف، يعني: ابن حوصا، قال: وكان أحفظ من رأيت بالشام، عن موسى بن سهل الرملي، عن عتبة بن السكن، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذكره (¬1)، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ ابْنُ زَمْعَةَ فِي غُلاَمٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بنِ أَبِي وَقَّاصِ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابنُهُ، انْظُرْ إلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللهِ! وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ. فنَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ (¬2). تقدم الكلام على سَوْدة وسعد. وأما عبد بن زمعة: فهو قرشيٌّ عامريٌّ؛ وأبوه زمعة -بإسكان الميم، وهو الأكثر، وبفتحها- بنُ قيس بن عبد شمس بن عبد ود بنِ نضرِ بنِ مالكِ بنِ حسل بن عامر بن لؤيِّ بن غالب. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5796). (¬2) رواه البخاري (2105)، كتاب: البيوع، باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، ومسلم (1457)، كتاب: الرضاع، باب: الرلد للفراش وتوقي الشبهات، وهذا لفظ البخاري.

كان عبدٌ شريفًا سيدًا من سادات الصحابة، وهو أخو سودةَ زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيها، وأخوه لأبيه: عبدُ الرحمن بن زمعة بن وليدة أبيه زمعة المبهم في هذا الحديث، وأخوه لأمه: قرظة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف (¬1). وأما سودة بنت زمعة: فهي أخت عبدٍ لأبيه؛ تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موت خديجة. كنيتها: أم الأسود، وهي أم المؤمنين. واختلفوا هل تزوجها قبل العقد على عائشة أو بعده؟ والأكثرون على أنه تزوجها قبله، وكانت قبلُ تحت ابن عم لها كان مسلمًا يقال له: السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي. وكانت امرأة ثقيلة ثبطة، وأسنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهمَّ بطلاقها، فقالت له: لا تطلقني، وأنت في حلٍّ من شأني، فإنما أريد أن أُحشر في أزواجك؛ فإني قد وهبتُ يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريدُ النساء، فأمسكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي عنها مع سائر من تُوفي عنهن من أزواجه. وفي سودة نزلت: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الآية [النساء: 128]. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما منَ الناس أحدٌ أحبَّ إلي أن أكون في مِسْلاخِه من سودةَ بنتِ زمعة، إلا أن بها حِدَّة (¬2). أسلمت سودة قديمًا، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلم زوجها السكران، وخرجا جميعًا مهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان سنة عشر من النبوة، ودخل بها بمكة. وقال أبو عمر النمري: قال أحمد بن زهير: توفيت سودة بنت زمعة في آخر زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 305)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 820)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 510)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 288)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 386). (¬2) رواه مسلم (1463)، كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها.

وقال الواقدي: ماتت في شوال سنة أربع وخمسين بالمدينة، في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وذكرها بقي بن مخلد فيمن روى خمسة أحاديث. روى لها البخاري حديثًا واحدًا. وروى عنها عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -. وروى لها أبو داود والنسائي (¬1). وأما تخاصم سعد وعبد؛ فقال القاضي عياض - رحمه الله -: كانت عادة الجاهلية إلحاقَ النسب بالزنا، وكانوا يستأجرون الإماء للزنا، فمن اعترفت أنه له، ألحقوه به، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وبإلحاق الولد بالفراش الشرعي. فلما تخاصم عبد بن زمعة، وسعد بن أبي وقاص، وقام سعد بما عهد إليه أخوه عتبة، من سيرة الجاهلية، إما لعدم الدعوى، وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة. واحتج عبد بن زمعة: أنه ولد على فراش أبيه، فحكم له به النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا آخر كلام القاضي (¬2). واعلم أن حديث عبد بن زمعة محمول على ثبوت مصير أمة أبيه زمعة أبيه فراشًا له؛ لإثباته - صلى الله عليه وسلم - الفراش، إما بعلمه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإما ببينة على إقرار عتبة بن أبي وقاص بذلك في حياته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هو لكَ يا عبدُ بنَ زمعةَ"، الصفة إذا كانت لاسم علم منادى، جاز فيها الرفع والنصب، فالرفعُ على النعت، والنصب على الموضع. فيجوز في [ابن] زمعة: الوجهان. والمراد بقوله: "هو لكَ"؛ الأخ؛ أي: بطريق الأخوة، لا الملك. ومعناه: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 52)، و "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (5/ 413)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 183)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1867)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 157)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 613)، و "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 200)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 265)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 720)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 455). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 39).

بالطريق الذي ادعيت به، وهو كونه ولد على فراش أبيه من وليدته، ونحو ذلك. "الولدُ للفِراشِ"؛ أي: تابعٌ أو محكومٌ به للفِراش. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وللعاهر الحجر"؛ العاهر: الزاني. وعهر: زنى، وعهرت: زنت. ومعنى له الحجر: له الخيبة، ولا حقَّ له في الولد. وعادة العرب أن تقول: له الحجر، وبفيه الأثلب، وهو التراب؛ كما جاء في الحديث: "وإن جاءَ يطلبُ ثمنَ الكلب، فاملأْ كفيه ترابًا" (¬1) تعبيرًا بذلك عن خيبته وعدم استحقاقه لثمن الكلب. وإنما لم يُجروا اللفظ على ظاهره، ويجعلوا الحجر -هاهنا- عبارة عن الرجم المستحق في حق الزاني؛ لأنه ليس كل عاهر يستحق الرجم، وإنما يستحقه المحصن، فلا يجرى لفظ العاهر على ظاهره في العموم. فإذا حملناه على الخيبة، كان عامًّا في حق كل زان، والأصل العملُ بالعموم فيما تقتضيه صيغته، كيف والحديثُ إنما ورد في نفي الولد عنه، لا في رجمه، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: إلحاق الولد بالفراض، سواء كان الفراش بطريق الزوجية، أو الملكية؛ فإن الولد يلحق بصاحب الفراش بشرط إمكانه منه، ويجري بينهما التوارث، وغيره من الأحكام، سواء كان موافقًا له في الشبه، أم مخالفًا، ومدة الإمكان ستة أشهر من حين أمكن اجتماعهما، فالزوجة تصير فراشًا بالعقد، بالإجماع، وإلحاق الولد بصاحبه مشروط بإمكان الوطء بعد ثبوت الفراض، عند كافة العلماء، إلا أبا حنيفة؛ فإنه اكتفى بمجرد العقد. قال: حتى لو طلق عقب العقد من غير إمكان وطء، فولدت لستة أشهر من العقد، لحقه الولد. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3482)، كتاب: الإجارة، باب: في أثمان الكلاب، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 278)، وأبو يعلى في "مسنده" (2600)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 6)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

وقال مالك، والشافعي، وجمهور العلماء: لو نكح المغربي مشرقية، ولم يفارق واحد منهما وطنه، ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر، لم يلحقه؛ لعدم إمكان كونه منه. قالوا: وما قاله أبو حنيفة ضعيفٌ ظاهرُ الفساد؛ لأنه خرج على الغالب في إطلاق الحديث، وهو حصول الإمكان بالوطء، لا وجود سبب الإمكان، وهو العقد، هذا حكم الزوجة. وأما الأَمة، فتصير فراشًا بالوطء، لا بمجرد الملك، حتى لو بقيت في ملكه سنين، وأتت باولاد، ولم يطأها، ولم يقر بوطئها، لا يلحقه أحدٌ منهم، فإذا وطئها، صارت فراشًا، فإذا أتت بعدَ الوطء بولد، أو أولاد لمدة الإمكان؛ لحقوه. وبهذا قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تصير فراشًا إلا إذا ولدت ولدًا، واستلحقه، فما تأتي به بعد ذلك، يلحقه، إلا أن ينفيه. قال: لأنها لو صارت فراشًا بالوطء، لصارت بعقد الملك كالزوجة. قال أصحاب الشافعي: والفرق بين الزوجة والأمة: أن الزوجة تراد للوطء خاصة، فجعل الشرع العقد عليها كالوطء، لما كان هو المقصود، بخلاف الأمة؛ فإنها تراد لملك الرقبة وأنواع المنافع غير الوطء. ولهذا يجوز أن يملك أختين وأمها وبنتها، ولا يجوز جمعهما بعقد النكاح، فلم تصر الأمة بنفس العقد عليها فراشًا، فإذا حصل الوطء، صارت كالحرة، فصارت فراشًا، والله أعلم. ومنها: استدلال بعض المالكية به على قاعدة من قواعد أصول مذهبهم، وهو الحكم بين حكمين، بأن يكون فرع قد أخذ مشابهة من أصول متعددة؛ فتعطى أحكامًا مختلفة، ولا تمحص لأحد الأصول، وبيانه من الحديث: أن الفراش مقتض لإلحاق الولد بزمعة، والشبه البين مقتضٍ لإلحاقه بعتبة، فأعطى النسب حكمه لمقتضى الفراش، وألحق بزمعة، وروعي أمر الشبه بأمر سودة

بالاحتجاب منه، فأعطى الفرع حكمًا بين حكمين، ولم يمحص أمر الفراش، فثبتت المحرمية بينه وبين سودة، ولم يراع أمر الشبه مطلقًا، فيلحق بعتبة. قالوا: وهذا أَولى التقديرات؛ فإن الفرع إذا كان بين أصلين، فألحق بأحدهما مطلقًا، فقد أبطل شبهه الثاني من كل وجه. وكذلك إذا فعل بالثاني، ومحض إلحاقه به، كان إبطالًا لحكم شبهه بالأول، فإذا ألحق بكل واحد منهما من وجه، كان أولى من إلغاء أحدهما من كل وجه. قال شيخنا العلامة أبو الفتح -رحمه الله تعالى-: ويعترض على هذا بأن صورة النزاع ما إذا ذكر الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل واحد منهما؛ من حيث النظر إليه، وها هنا لا يقتضي الشرع إلا إلحاق هذا الولد بالفراش (¬1). والشبه هاهنا غيرُ مقتض للإلحاق شرعًا، فيحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "احْتَجِبي مِنْهُ يا سَوْدَةُ" على سبيل الاحتياط والإرشاد لمصلحة وجودية، لا على سبيل بيان وجوب حكم شرعي. ويؤكده أنه لو وجدنا شبهًا في ولد بغير صاحب الفراش، لم يثبت لذلك حكمًا. وليس في الاحتجاب هاهنا إلا ترك أمر مباح على تقدير ثبوت المحرمية، وهو قريب. ومنها: جواز استلحاق النسب بشروط: أحدها: أن يكون المستلحق حائزًا للإرث، أو كل الورثة. الثاني: إمكان كون الولد المستلحق من الميت. الثالث: ألَّا يكون معروف النسب من غيره. الرابع: تصديق الولد المستلحق إن كان بالغًا عاقلًا. وكل هذه الشروط موجودة في الولد المختصَم فيه، وقد ألحقه - صلى الله عليه وسلم - بزمعةَ حين استلحقه ابنه عبد، وحينئذ إما أن يكون عبدًا تفرد بإرثه؛ لكون زمعة مات ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 71).

كافرًا، وكانت سودة حين موته مسلمة، أو يكون استلحقه عبد، ووافقته سودة في استلحاقه، حتى يكون كل الورثة مستلحقين. وبجواز استلحاق النسب قال الشافعي وموافقوه، وبمنعه قال مالك وموافقوه. ومنها: استعمال الورع في الأمر الثابت في ظاهر الشرع، والأمر به للاحتياط؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالاحتجاب من ولد أبيها الذي حكم بإلحاقه به لما رأى الشبه البين بعتبة بن أبي وقاص، وخشي أن يكون من مائه، ويكون أجنبيًّا منها باطنًا، فحكم بظاهر الشرع في إلحاق النسب، وبالورع في الاحتجاب. وزعم بعض الحنفية أن أمرها بالاحتجاب منه، حيث جاء في رواية "واحتجبي منه؛ فإنه ليسَ بأخٍ لكِ"، وهي رواية باطلة مردودة (¬1). بل الثابت: الأمرُ بالاحتجاب دون التعليل بأنه ليس بأخ لكِ، والله أعلم. ومنها: أن الشبه وحكم القافة لا يجوز استعماله والعمل به، إلا عند عدم ما هو أقوى منه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرجع إليه، والعمل بحكم القافة مع وجود حكم الفراش؛ إلا لكونه أقوى منه، ولذلك لم يحكم بالشبه في قصة المتلاعنين، مع أنه جاء على الشبه المكروه. ومنها: أن حكم الحاكم بالظاهر لا يحل الأمر في الباطن عما هو عليه، وإذا حكم بشهادة شاهدي زور، أو نحو ذلك من الأسباب الظاهرة، لم يحل المحكوم به للمحكوم له؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - حكم به لعبد بن زمعة، وأنه أخ لسودة، واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة. فلو كان الحكم يحيل الباطن، لما أمرها بالاحتجاب. واحتج بعض الحنفية وموافقيهم بهذا الحديث على أن الوطء بالزنا (¬2) له حكم الوطء بالنكاح، في حرمة المصاهرة، وبذلك قال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 39). (¬2) ساقطة من "ح".

الحديث الخامس

وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وغيرهم: لا أثر لوطء الزنا، بل للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها. بل زاد الشافعي: يجوز نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا؛ نظرًا إلى حكم الشرع في إثبات ذلك ونفيه، لا إلى الأمر الصوري فيه. قالوا: ووجه الاحتجاج به من الحديث: أن سودة أُمرت بالاحتجاب، وهو احتجاج باطل، وعجب ممن ذكره؛ فإنه على تقدير كونه من الزنا، يكون أجنبيًّا من سودة لا يحل الظهور له، سواء لحق بالزاني أم لا، فلا تعلق له بالمسألة المذكورة، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ لَمِن بَعْضٍ؟! " (¬1). وفي لفظ: "كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا" (¬2). أما أسامة وأبو أسامة، فتقدم ذكرهما. وأما مجزز: فبميم مضمومة، ثم جيم مفتوحة، ثم زاي مشددة مكسورة، ثم زاي أخرى، هذا هو الصحيح المشهور في ضبطه. وحكى القاضي عياض عن الدارقطني وعبد الغني: أنهما حكيا عن ابن جريج: أنه بفتح الزاي الأولى، وعن ابن عبد البر، وأبي علي الغساني: أن ابن جريج قال: إنه مُحْرِز -بإسكان الحاء المهملة، وبعدها راء-. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6388)، كتاب: الفرائض، باب: القائف، ومسلم (1459)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف بالولد. (¬2) رواه مسلم (1459)، (2/ 1082)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف بالولد.

والصواب الأول، وهو مجزز المدلجي القائف، من بني مدلج، وكانت القِيَافَةُ فيهم، وفي بني أسد، تعترف لهم العرب بذلك (¬1). وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة؛ لكونه أسودَ شديدَ السواد، وكان زيدٌ أبيضَ، كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح، وقال غير أحمد بن صالح: كان زيدٌ أزهرَ اللون. قال النمري: كان أسامة وأبوهُ زيدٌ نائمين في المسجد قد تغطَّيا، ولم يبدُ منهما غيرُ أقدامهما، ولم تُرَ وجوهُهما، فقال: إن هذه الأقدامَ بعضُها من بعض، فاستحسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولَه، ودخل على عائشة - رضي الله عنها - مسرورًا. قال مصعب الزبيري: إنما سمي مجززًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا، جَزَّ ناصيتَه، ولم يكن اسمه مجززًا (¬2). قال المازري: لما قضى مجزز إلحاق نسبه مع اختلاف اللون، وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف، فرح النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه زاجرًا لهم عن الطعن في النسب. وأم أسامة: هي أم أيمن، واسمها بركة، وكانت حبشية سوداء، وهي بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمر بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، والله أعلم. قولها "تَبْرُقُ" -بفتح التاء، وضم الراء-؛ أي: تضيء وتستنير من السرور والفرح. والأَساريرُ: هي الخطوط التي في الجبهة، واحدُها سرير، وسِرَر، وجمعه أسرار، وجمع الجمع أسارير، وقال الأصمعي: الخطوط التي تكون في الكف مثلها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 40 - 41). (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1461). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 359)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 40)، =

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نَظَرَ آنِفًا"؛ أي: قريبًا، وهو بمد الهمزة على المشهور، ويجوز قصرها، وقرئ بهما في السبع، وقد تركَ في هذه الرواية ذكرَ تغطية أسامة وزيد رؤوسهما وظهور أقدامهما، وهي زيادة مفيدة؛ لما فيها من الدلالة على صدق القيافة. وكان يقال: من علوم العرب ثلاثة: السيافة والعيافة والقيافة. فأما السيافة، فهي شَمُّ تراب الأرض؛ ليعلم بها الاستقامة على الطريق، أو الخروج منها. قال المعري: أَوْدَى فليتَ الحادثاتِ كفافِ .... مالُ المُسِيفِ وعَنْبرُ المُسْتَافِ (¬1) المستفاف: هو القاص. وأما العيافة: فهو زجر الطير، والتفاؤل بها، وما قارب ذلك. وأما السانح والبارح: في الوحش. وفي الحديث: "العافية والطِّيَرَةُ والطرقُ مِنَ الجِبْتِ". وأما القيافة: فهي ما نحن فيه، وهو اعتبار الأشباه بإلحاق الأنساب. وفي الحديث دليل على العمل بالقيافة. يقول القائف بالشبه في إلحاق الولد باحد الرجلين، ولا يكون ذلك إلا فيما أشكل من واطئين محترمين؛ كالمشترى والبائع، يطأان الجارية المبيعة في طهر، قبل الاستبراء من الأول، فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدًا من وطء الثاني، ولدون أربع سنين من وطء الأول، وأثبت العمل بها: الشافعي، وفقهاء الحجاز، وجماهير العلماء، ونفاه أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وإسحق. والمشهور عن مالك: إثباته في الإماء، ونفيه في الحرائر، وفي رواية عنه: إثباته فيهما. ¬

_ = و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 518)، (مادة: سرر). (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 78).

ووجه الدلالة من الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - سُرَّ بذلك، ولكون في أمته من يميز الأنساب عند الاشتباه. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ولا يسر - صلى الله عليه وسلم - بباطل. واعتذر أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- ومن قال بقوله عن الحديث: بأنه لم يقع فيه إلحاق متنازع فيه، ولا هو وارد في محل النزاع؛ فإن أسامة كان لاحقًا بفراش زيد من غير منازع له فيه، وإنما كان الْكُفَّارُ يطعنون في نسبه؛ للتباين بين لونه ولون أبيه في السواد والبياض، فلما غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، وألحق مجزز أسامةَ بزيد، كان ذلك إبطالًا لقول الْكُفَّار بسبب اعترافهم بحكم القيافة، وإبطال طعنهم في حقٍّ لم يثبته النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بحق، والأولون يجيبون بأنه، وإن كان ذلك واردًا في صورة خاصة، إلا أن له جهة عامة، وهي دلالة الأشباه على الأنساب، فنأخذ هذه الجهة من الحديث، ونعمل بها. وهذا معنى قول أصحاب أصول الفقه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. واتفق القائلون بالعمل بالقائف على اشتراط عدالته، واختلف أصحاب الشافعي في اشتراط العدد فيه، أم يكفي قول واحد من غير عدد؟ والراجح عندهم: الاكتفاء بواحد، وكأنهم يلتفتون إلى أن القيافة منزلة منزلة الحكم أم الشهادة؟ فإن كان حكمًا، اكتفي بواحد؛ وإن كان شهادة، فلا بد من اثنين. وأما اكتفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجزز في ذلك منفردًا يدل للراجح، وأنه قائم مقام الحكم لا الشهادة، والله أعلم. وقال مالك: لا بد فيها من اثنين، وبالراجح قال ابن القاسم من المالكية. واختلف أصحاب الشافعي في اختصاص القيافة ببني مدلج، والأصح: عندهم الاختصاص. واتفق العلماء القائلون بها على أنه يشترط خبيرًا بها مجربًا، ثم إذا رجعنا إلى قوله، فألحقه بأحدهما، لحق به، فإن أشكل عليه، أو نفاه عنهما، ترك الولد

الحديث السادس

حتى يبلغ، فينتسب إلى من تميل إليه نفسه منهما، وإن ألحقه بهما، فمذهب عمر بن الخطاب، ومالك، والشافعي: أنه يترك حتى يبلغ، فينتسب إلى من يميل إليه منهما، وقال أبو ثور، وسحنون: يكون ابنًا لهما. وقال الماجشون ومحمد بن مسلمة المالكيان: يلحق بأكثرهما له شبهًا. قال ابن مسلمة: إلا أن يُعلم الأول، فيلحق به. واختلف النافون للقائف في الولد المتنازَع فيه، فقال أبو حنيفة: يلحق بالرجلين المتنازِعين فيه، ولو تنازع فيه امرأتان، لحق بهما، وقال أبو يوسف، ومحمد: يلحق بالرجلين، ولا يلحق إلا بامرأة واحدة، وقال إسحاق: يقرع بينهم، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ذُكِرَ العَزْلُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ "، ولم يَقُلْ: فَلا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؛ "فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلَّا اللهُ خَالِقُهَا" (¬1). اعلم أن العزلُ أن يُجامِعَ، فَإِذَا قَارَبَ الإِنْزَالَ، نَزَعَ، وأَنْزَلَ خَارِجَ الفَرْجِ، وتَتَأَذَّى المَرْأَةَ بِهِ. والحكمة في إنكار فعله؛ كونه قطع للنسل، ويلزم من فعله الأذى المتعدي إلى مَنْ أُمرنا بعشرته بالمعروف، وفعلُ الأذى ليس بمعروف. وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوَأْدَ الخَفِيَّ؛ حيث إنه قطع طريق الولادة، كما يقتل المولود بالوأد. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإنهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللهُ خالِقُها"؛ معناه: أن ترك العزل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6974)، كتاب: التوحيد، باب: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، ومسلم (1438)، كتاب: النكاح، باب: حكم العزل، وهذا لفظ مسلم.

ليس فيه ضرر كما يتوهمون من عدم إرادة الولد؛ فإن الله تعالى قدر خلقه، سواء عزلتم أم لا، وما لم يقدر الله خلقه، لم يقع، سواء عزلتم أم لا، فلا فائدة في عزلكم، سواء قطع النسل، أو إيصال الأذى إلى غير محله؛ فإن الله تعالى إذا قدر شيئًا، هيأ أسبابه، فإذا قدر خلق نفس، سبقكم الماء إلى محله، فلم ينفع حرصكم في منع الخلق اللازم عنه قصد الإيذاء، والله أعلم. وفي هذا الحديث: دليل على منع العزل مطلقًا، أما التحريم، فلم يقل به أحد، إلا في صورة على وجه لبعض أصحاب الشافعي، وهو العزل عن الحرة بغير إذنها؛ فإن فيه وجهين: الأصح: عدم التحريم، وللسلف خلاف؛ كنحو ذلك، وإن أذنت، لم يحرم؛ لأنه إذا جاز ترك أصل وطئها بغير رضاها، فلأن يجوز العزلُ برضاها أولى. ولو كانت أمة، لم يحرم، بلا خلاف. أما في المملوكة: فلما عليه من الضرر [في التعريض] (¬1) من إتلاف ماليتها بالإنزال في صيرورتها أم ولد، وامتناع بيعها عليه. وأما في الزوجة الرقيقة، فيضمن ولده رقيقًا تبعًا لأمه. لكن اختلف العلماء في الأحاديث الواردة في النهي عنه، هل هي محمولة على كراهة التنزيه، دون الحمل على أصل النهي، مع الإباحة جمعًا؛ بين أحاديث النهي والإذن؟ ولا شك أن ذلك يرجع إلى أصل، وهو أن الحق في وجود الولد هل يرجع إلى الواطئ والموطوءة مع عدم معارض له شرعي؛ أو يرجع إلى الله تعالى؟ فإن عللنا بأنه حق لهما، فإذا لم تأذن الحرة، امتنع. وإن عللناه بأنه حق لله تعالى، فينبغي أن يمتنع أيضًا. لكن حق الله تعالى في ذلك لا يعرف إلا بطريق الشرع من طلب الولد ومنعه. وقد وردت أحاديث في الصحيح في طلبه ومنعه، وهي محمولة على طلبه، لحظ ديني أو دنيوي. ¬

_ (¬1) ليست في "ح".

فإن الولد الذكر موصوف هو والمال بأنهما زينة الحياة الدنيا، وبأنهما زُين حبُّهما للناس في القرآن العزيز في سياق التنفير منهما لطلب ما هو أولى منهما. فإن عارض ذلك في طلبهما مقصد صالح، هل يرجح على ذلك؟ فيه نظر، فإن لم يعارضه مقصد صالح، فينبغي المنع من طلبه، والإذن في تعاطي أسبابه، مع اعتقاد نفوذ قضاء الله تعالى وقدره في كل شيء، والله أعلم. واعلم أن الوطء بطريقه الشرعي مجردًا عن قصد ولد، قد يكون عبادة لقصد غض البصر، وكسر الشهوة لهما. وقد يكون مجرد شهوة، فهو مباح شرعًا، لكنه موصوف بأنه عمل بهيمي، ولهذا قالوا: الأعمال البهيمية ما عُملت بغير نية. لكن ظاهر السنة يقتضي أن الوطء في الفرج الحلال بمجرده مأجور عليه؛ بسؤال الصحابة -رضي الله عنهم-؛ حيث قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتُمْ لو وضعَها في حَرامٍ، أكانَ عليهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذا وَضَعَها في الحَلالِ كانَ لَهُ أَجْرٌ" (¬1). فرتب - صلى الله عليه وسلم - الأجرَ والوزرَ على مجرد الوضع، من غير قصدِ شيءٍ آخر، فيكون فعلهُ بمجرده في محله نية، والله أعلم. وفيه: إشارة إلى إلحاق الولد، وإن وقع العزل، وهو قول أكثر الفقهاء. وفيه: إشارة إلى أنه لا حكم قبل وجود وقوع الشرع، وهو قول أكثر العلماء. وفيه: إرشاد إلى الإيمان بالقدر، وسكون النفس إليه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ، وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ القُرْآنُ (¬1). هذا الحديث: دليل لقاعدة عظيمة، نبه عليها جابر - رضي الله عنه -، وهي أنه إذا حدث أمر في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يعلمه، فإنه يجوز فعله؛ حيث إن الله تعالى لم ينزل فيه شيئًا، وأقره. لكن علم الصحابة بالنزول لا يعلم إلا من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا استغرب استدلال جابر جواز العزل مطلقًا بتقرير الله تعالى دون الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لما كان علم النزول وعدمه لازمًا لعلمه - صلى الله عليه وسلم -، لم يبق فيه غرابة. وقد أنزل الله تعالى حكم المجادلة لزوجها، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه سمع مجادلتها في زوجها، إلى غيرها من الوقائع. وذلك جميعه دليل لما قاله جابر - رضي الله عنه -؛ فإنه يقتضي الاستدلال بتقرير الله تعالى اللازم علمه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان تقرير الله تعالى بالنسبة إلينا مشروطًا عند العلماء بتقريره - صلى الله عليه وسلم -، والكتاب العزيز دال على ذلك في التبيين، والتقييد، والنسخ، وغير ذلك، والله أعلم. وفي الحديث: دليل بمجرده على جواز العزل مطلقًا، فلعل جابرًا - رضي الله عنه - لم يعلم بأحاديث النهي والإذن، وأخبر عما علمه هو، وأخبر عما كان قبلها. وفيه دليل: لما كانت الصحابة -رضي الله عنهم- عليه من التمسك بكتاب الله تعالى في كل شيء، حتى في العزل عن النساء؛ حيث علموا أن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حث عليه؛ وعلى استخراج الأحكام منه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4911)، كتاب: النكاح، باب: العزل، ومسلم (1440)، كتاب: النكاح، باب: حكم العزل.

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كَفَر، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلكَ، إلا حَارَ عَلَيْهِ" (¬1). كذا عند مسلم والبخاري، [وورد عن الترمذي نحوه] (¬2). تقدم الكلام على أبي ذر. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ من رجلٍ ادَّعى لغيرِ أبيهِ وهو يعلمُه إلَّا كفرَ"؛ أما "من": فهي زائدة في المعنى، والتقييد بالرجل: خرج مخرج الغالب، وإلا فالمرأة كذلك. ولا شك أن الانتفاء من النسب المعروف والاعتزاء إلى نسب غيره كبيرة؛ لما يتعلق به من المفاسد العظيمة. وقد تقدم ذكر بعضها قريبًا. وشرطه - صلى الله عليه وسلم -: العلم؛ لأن الأنساب قد تتراخى فيها مدد الآباء والأجداد، ويتعذر العلم بحقيقتها، وقد يقع إخلال في النسب في الباطن من جهة النساء، فلا يشعر به. فشرط العلم لذلك؛ حيث إن الإثم إنما يكون في حق العالم بالشيء، والكفر هنا متروك الظاهر عند الجمهور، فيحتاجون إلى تأويله، وقد يؤوَّل بكفر الإحسان والنعمة، أو بأنه قاربَ الكفر؛ لعظم الذنب فيه؛ تسميةً للشيء باسم ما قاربه، أو يقال بتأويله على فاعل ذلك مستحلًا له. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومَنِ ادَّعى ما ليسَ له": يدخل فيه الدعاوى الباطلة كلُّها من المال والعلم والنسب وغير ذلك. وقد نفى - صلى الله عليه وسلم - عنه ذلك بأنه ليس منا، وجعل الوعيد عليه بالنار؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3317)، كتاب: المناقب، باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل، ومسلم (61)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. (¬2) ما بين معكوفين ليست في "ح".

قال: "فليتبوأْ مقعدَه من النَّار"، اقتضى ذلك تعيينَ دخوله النَّار. ويدخل تحته أيضًا: ما ذكره بعض الفقهاء في الدعاوى؛ من نصب مسخر يدعي في بعض الصور، حفظًا لتمام الدعوى. والجواب: وهذا المسخر يدعي ما يعلم أنه ليس له، والقاضي الذي يقيمه عالم بذلك أيضًا، وليس حفظ ذلك من المنصوصات في الشرع حتى يختص بها هذا العموم. والمقصود في القضاء: إيصال الحق إلى مستحقه. فالحرام هذه المراسيم الحكيمة مع تحصيل مقصود القضاء، وعدم تنصيص صاحب الشرع على وجوبها أولى من مخالفة هذا الحديث، والدخولِ تحت الوعيد العظيم الذي دل عليه. ولا شك أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليسَ مِنَّا" أخفُّ مما مضى من الادعاء إلى غير أبيه؛ فإنه أخف مفسدة، إذا كانت الدعوى بالمال مثلًا، فإنه ليس فيه أكثر من الزيادة على الدعوى بأخذ المال المدعى به مثلًا، يدخل تحته -أيضًا- الدعاوي الباطلة في المعلوم، خصوصًا إذا ترتب عليها مفاسد. وقد تأوله بعض المتقدمين على أنه معناه: ليس مثلنا، أو على هدينا؛ فرارًا من القول بكفره. ومنهم من قال: إبهام معناه أولى من تأويله؛ حيث إنه أبلغ في الزجر عن الأمر المخرج له عنه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كما يقول الأب لولده إذا أنكر منه أخلاقا أو أعمالًا: لست مني. وكأنه من باب نفي الشيء لانتفاء ثمرته؛ فإن المقصود المطلوب أن يكون الابن مساويًا للأب فيما يريده من الأخلاق الحميدة، فلما انتفت هذه الثمرة، انتفت البنوة مبالغة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومَنْ دَعا رَجُلًا بِالكفرِ، أو قالَ عَدُوَّ اللهِ، وليسَ كذلكَ، إلا حارَ عليهِ".

ويجوز في "عدو الله": الرفعُ والنصب، ورجحوا النصبَ على النداء. تقديره: يا عدو الله، والرفع: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عدوُّ الله. وفي "إلا" وجهان: أحدهما: أنها واقعة على المعنى؛ أي: ما يدعوه أحد إلا حار عليه. والثاني: على اللفظ في قوله "ليسَ من رجل". و"حار عليه" هو بالحاء المهملة؛ أي: رجع عليه الكفر، وحار ورجع بمعنى واحد. قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14]؛ أي: يرجع حيًّا. وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدًا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لما اختلفوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة مما ذكرنا. وهذا الوعيد لاحقٌ بهم، إذا لم يكن خصومُهم كذلك. وقد اختلف الناس في التكفير وسببه، حتى صنف بعضهم فيه كتابًا مفردًا، ولا شك أن ذلك راجع إلى قاعدة كبيرة وهي: أن لازم الشيء الذهني اللاحقي ليس بلازم، ويسمى هذا عندهم: القول بالمآل، وهو أن لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ والذي نعتقده، وقال به أكثر العلماء، وهو الراجح عند المحققين: إنه ليس بمذهب، وهذا الذي يسميه أهل الكلام: المعنى الساذج؛ يعني: المقتصر على مجرد معناه المطابق له من غير إلزام، وأما اللازم السابقي، وهو المسمى بالتضمن، فهو لازم قطعًا. إذا عرف هذا، فاعلم أن كلًّا منهم في العقائد يقال: هي إثبات مطلق في مقابلة نفي مطلق. فيلزم أهل النفي المطلق أهل الإثبات المطلق الذي يفهمونه على وفق

مواجيدهم بالتجسيم، ويجعلونهم كفارًا؛ حيث إنهم عبدوا جسمًا، وهو غير الله تعالى، ومن عبد غير الله، كفر؛ حيث إنهم ألزموهم بأذهانهم غير ما يلزم تسميةً ولا معنى، ولا مرادًا لقائله، ويقابلهم هؤلاء بإلزامهم في النفي المطلق مثلما ألزموهم بالتعطيل العاري عن الوجود، ويكفرونهم بذلك؛ للزومه في الذهن عندهم. ويقولون لهم: قد اعترفتم بأحكام الصفات، وأنكرتم الصفات، ويلزم من إنكار الصفات إنكارُ أحكامها، ومن أنكر أحكامها، فقد كفر، فيكفرونهم بطريق المآل الذي كفروهم به أهل الإثبات المطلق. والحق أن الكلام في ذلك إثبات مقيد بالتنزيه عن مشابهة المخلوقين، فلا يسمى إثباته تجسيمًا، ولا يسمى نفيه عن مشابهة المخلوقين تعطيلًا. فلا يكفر أحدًا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فكأنه حينئذ يكون مكذبًا للشرع، ولم يؤاخذه بالتكفير بنفي مأخذ القواطع، وإنما يؤاخذه به بنفي أحكام القطعيات السمعيات طريقًا. ودلالة مثاله من أنكر الطريق إثبات الشرع لم يكن كمن أنكر الإجماع، ومن أنكر الشرع بعد الاعتراف بطريقه كفر؛ لأنه مكذب له، وقد نقل عن بعض المتكلمين أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني. ولما خفي ما ذكرته على بعض الناس، كان ذلك سببًا لتكفير بعضهم بعضًا، واحتاج كل من الفريقين إلى حمل ما يذكره على غير محمل صحيح، ويتأوله بتأويلات مخالفة لما ينبغي أن يحمل عليه هذا الحديث، الذي يقتضي أن من دعا رجلًا بالكفر، وليس كذلك، رجع عليه الكفر. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ لأخيهِ: يا كافرٌ، فَقَدْ باءَ بِها أَحَدُهما" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5753)، كتاب: الأدب، باب: من أكفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، ومسلم (60)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.

ونهى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه -رضي الله عنهم- عن الرجوع بعده إلى الكفر، فقال: "لا تَرْجِعوا بَعْدي كُفَّارًا يضربُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ" (¬1)، إلى غير ذلك من الأحاديث ورعًا عن التكفير. وكأن المتكلم في تأويل الحديث في رجوع الكفر إلى الكفر، يقول: الحديث دل على تحصيل الكفر لأحد الشخصين، إما المكفِّر أو المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس، فالكفر واقع بأحدنا قطعًا، وأنا قاطع بأني لست بكافر، فالكفر راجع إليه. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليتبوأْ مقعدَه من النَّار"؛ فمعناه: فليتركْ منزله منهما، أو فليتخذ منزلًا بها، وهو دعاء أو خبر بلفظ الأمر؛ ليكون أبلغ في الزجر. ومعناه: هذا جزاؤه، فقد يجازى، وقد يُعفى عنه، وقد يوفَّق للتوبة فيسقط عنه ذلك. وفي الحديث دليل: على تحريم الادعاء في الأنساب إلى غير الآباء. وفيه: أنه لا يأثم بالانتساب إلى غير أبيه إلا إذا كان عالمًا بأبيه أو بتحريمه، فأما الجاهل، فلا يأثم، ويجب عليه التعرف والتعلم. وفيه: دليل على جواز إطلاق الكفر على أصحاب المعاصي والبدع؛ لقصد الزجر، لا لأنه كفر حقيقة؛ إلا أن تعلم اعتقاده تحليل المحرم أو تحريم المحلل، فيجوز إطلاقه عليه حقيقة. وفيه: تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء، سواء تعلق به حق لغيره، أم لا. وفيه: أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم، إذا كان لا يستحقه. وفيه: تحريم دعاء المسلم بالكفر. وفي ظاهره: أن من دعاه بالكفر أنَّه يكفر بمجرد دعائه به. وقد ذكر صاحب "التتمة" في المسألة وجهين: أصحهما: هذا، والثاني: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

لا يكفر، ويتأول على كفر النعمة، أو الاستحلال له. لكن ظاهر الحديث يقتضي أنه لا يكفر إلا بشرط أن يكون الكفر كما دعاه به فيرجع ما دعاه به إليه، والله أعلم. ويدخل تحت معنى الحديث: من انتسب في علم، أو صلاح، أو نعمة، ونحو ذلك، من تولي غير مواليه، أو وصف من الأوصاف المحمودة إلى غير من أخذه عنه، أو انتفع به، فإن ذلك كله محذور، منهي عنه. وقد ثبت اللعن على فاعل بعض ذلك، وإن كان البعض الباقي يدخل تحت معناه في جواز لعنه، والله أعلم. * * *

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع الحديث الأول عَن ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بِنْتِ حَمْزَةَ: لا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ" (¬1). أما ابنةُ حمزةَ، فلم يحضرني اسمُها، ولم أرهُ في أسماءِ المبهَماتِ (¬2). وسبب هذا الحديث: أن ابنة العم من النسب حلال، وحمزة هو عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعرضت عليه - صلى الله عليه وسلم - ابنته، فقال: "إنها لا تحلُّ لي"؛ حيث إن حمزة عمه من النسب، أخٌ له - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، أرضعتهما ثُويبة؛ فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وتقدم ذكر بعض ذلك أوائل كتاب النكاح. وأما الرضاع؛ فهو -بفتح الراء وكسرها-، والرضاعة فيها اللغتان. وقد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2502)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، ومسلم (1446)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) قلت: قد ذكر اسمها الحافظ أبو القاسم بن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (2/ 709 - 710)، ففال: ابنة حمزة هذه اسمها: عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب، وقيل: هي أمامة بنت حمزة، وتكنى أم الفضل.

رضِع الصبي أمه، -بكسر الضاد في الماضي- يرضَعها -بفتحها- رَضاعًا، قال الجوهري: وأهل نجد تقول: رَضَع يَرْضِع -بفتح الضاد في الماضي، وكسرها في المضارع- رَضْعًا؛ كضرب يضرب ضربًا، وأرضعته أمه، وامرأة مرضع؛ أي: لها ولد ترضعه، فإن وصفتهما بإرضاعه، قلت: مرضعة -بالهاء-، والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرُمُ من الرضاعِ ما يحرُمُ من النسبِ"؛ نكاح المحرمات بالنسب سبع: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، فيحرمن بالرضاعة كما حَرُمْنَ بالنسب. فأمك: كلُّ من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدتك بواسطة، أو بغير واسطة، وكذلك كل امرأة ولدت المرضعة والفحل. وكل امرأة أرضعت بلبنك، أو أرضعتها امرأة ولدتها، أو أرضعت بلبن من ولدته، فهي بنتك، وكذلك بناتها من النسب والرضاع. وكل امرأة أرضعتها أمك، وأرضعت بلبن أبيك، فهي أختك. وكذلك كل امرأة ولدتها المرضعة أو الفحل وأخوات الفحل، وأخوات من ولدهما من النسب والرضاع، عماتك وخالاتك. وكذلك كل امرأة أرضعتها واحدة من جداتك، أو أرضعت بلبن واحد من أجدادك من النسب أو الرضاع. وبنات أولاد المرضعة والفحل في الرضاع والنسب، بنات أخيك وأختك. وكذلك كل أنثى أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن أخيك، وبناتها وبنات أولادها من الرضاع والنسب، بنات أخيك. وبنات كل ذكر أرضعته أمك، أو ارتضع بلبن أخيك، وبنات أولادهن من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 18)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 125)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 103)، (مادة: رضع).

الرضاع والنسب، بنات أخيك وبنات كل امرأة أرضعتها أمك، أو أرضعت بلبن أبيك، وبنات أولادها من النسب والرضاع أولاد أخيك. وقد استثنى الفقهاء من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرمُ من الرضاع ما يحرمُ من النسب" أربعَ نسوة يحرمن من النسب، وقد لا يحرمن من (الرضاع): الأولى: أم أخيك وأم أختك من النسب هي: أمك أو زوجة أبيك، وكلاهما حرام، ولو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك، لم تحرم. الثانية: أم نافلتك، إما بنتك أو زوجة أبيك، وهما حرامان. وفي الرضاع قد لا تكون بنتك، ولا زوجة أبيك؛ بأن ترضع أجنبية نافلتك. الثالثة: جدة ولدك من النسب: إما أمك، أو أم زوجتك، وهما حرامان، وفي الرضاع قد لا تكون أمًّا ولا أم زوجة؛ كما إذا أرضعت أجنبية ولدك,؛ فإنها جدة ولدك، وليست بأمك ولا أم زوجتك. الرابعة: أخت ولدك في النسب حرام؛4 لأنها إما بنتك أو ربيبتك. ولو أرضعت أجنبية ولدك، فبنتها أخت ولدك، وليست ببنت ولا بربيبة. فهذه الأربعة، مستثنيات من عموم الحديث: "يحرمُ من الرضاعِ ما يحرمُ من النسب". وأما أخت الأخ، فلا تحرم، لا من النسب، ولا من الرضاعة، وصورته: أن يكون لك أخ من أب، وأخت من أم، فيجوز لأخيك من الأب نكاحُ أختك من الأم، وهي أخت أخيه. وصورته من الرضاع: أرضعتك وأرضعت صغيرةً أجنبية منك، يجوز لأخيك نكاحُها، وهي أختك، وفي معنى هذا الحديث، حديثُ عائشة - رضي الله عنها - الذي بعده، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة" (¬1). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا.

واعلم أن الأمة اجتمعت على ثبوت الحرمة بين الرضيع والمرضعة، وأنه يصير ابنها، يحرم عليه نكاحها أبدًا، ويحل له النظر إليها والخلوة بها، والمسافَرة، ولا يترتب عليها أحكام الأمومة من كل وجه، ولا يتوارثان، ولا يجب على كل واحد منهما نفقة الآخر، ولا تعتق عليه بالملك، ولا ترد شهادته لها، ولا يعقل عنها، ولا يسقط عنها القصاص بقتله؛ فهما كالأجنبيين في هذه الأحكام. وأجمع العلماء على انتشار الحرمة بين المرضعة وأولاد الرضيع، وبين الرضيع وأولاد المرضعة، وأنه في النكاح كولدها من النسب. وأما الرجل المنسوب ذلك الابن إليه؛ لكونه زوج المرضعة، أو وطئها بملك أو شبهة، فمذهب الشافعي والعلماء كافة: ثبوت حرمة الرضاع بينه وبين الرضيع، ويصير ولدًا له، وأولاد الرجل إخوة الرضيع وأخواته، ويكون إخوة الرجل أعمام الرضيع، وأخواته عماته، ويكون أولاد الرضيع أولادًا للرجل. ولم يخالف في هذا إلا أهل الظاهر، وابن علية، فقالوا: لا تثبت حرمة الرضاع بين الرجل والرضيع. ونقله المازري عن ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم-، واحتجوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، ولم يذكر البنت والعمة كما ذكرها في النسب، واحتج الجمهور بالأحاديث الآتية وغيرها من الأحاديث الصحيحة في عم عائشة وعم حفصة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - مع إذنه فيه: "إنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة". وأجابوا عما احتجوا به من الآية: أنه ليس له فيها نص بإباحة البنت والعمة ونحوهما؛ لأن ذكر الشيء لا يدل على سقوط الحكم عما سواه، ولم يعارضه دليل آخر، كيف ومع هذه الأحاديث الصحيحة؟ والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرَّضَاعَةَ تُحرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلاَدَةِ" (¬1). وَعَنْهَا: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا آذَنُ لَهُ، حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَإِنَّ أَبَا القُعَيْس لَيسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، قَالَ: "إِئْذَني لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكَ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ". قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب (¬2). وفي لفظ: استأذن عليَّ أفلحُ، فلم آذنْ له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلتُ: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأةُ أخي بلبن أخي، قال: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "صَدَقَ أَفْلَحُ، ائْذَني لَهُ" (¬3). أما أفلحُ عمُّ عائشةَ - رضي الله عنها -؛ فكنيته أبو الجعد، وهو أخو أبي القعيس -بضم القاف وفتح العين المهملة، ثم المثناة تحت ساكنة، ثم السين المهملة-، واسمه: وائل بن أفلح. رواه الدارقطني، وأبو عمر النمري الحافظان. وحكى أبو عمران: أفلح أخو أبي القعيس، من الأشعريين. قال: وقد قيل: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2503)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، ومسلم (1444)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. (¬2) رواه البخاري (4518)، كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]، ومسلم (1445)، (2/ 1069)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل. (¬3) رواه البخاري (2501)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم.

إن أبا القعيس اسمه الجعد، ويقال: أفلح، يكنى: أبا الجعد. وقيل: اسم أبي الجعد وائل بن أفلح. قال: وأفلح ابن أبي القعيس. ويقال: أخو أبي القعيس، لا أعلم له خبرًا ولا ذكرًا إلا في حديث عائشة - رضي الله عنها - في الرضاع. وقد اختلف فيه، فقيل: أبو القعيس، وقيل: أخو أبي القعيس، وقيل: ابن أبي القعيس، وأصحها: ما قاله مالك ومن تابعه عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: جاء أفلح أخو أبي القعيس، هذا كلام أبي عمر النمري. وظاهر أول هذا الحديث المذكور في الكتاب وغيره من الأحاديث الصحيحة أن أفلح وأبا القعيس كانا أخوين لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من الرضاعة، فيكونان عمين لعائشة - رضي الله عنها - كانا صحابيين، ذكرهما في الصحابة أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"، ويقتضي ذلك أن يكون أبو بكر ارتضع من أمهما. لكن ظاهر آخر هذا الحديث: أن أبا القعيس أبو عائشة من الرضاع، وأفلح عمها، فيكون عمًّا واحدًا لعائشة، لا عمين. وهو الصواب، والله أعلم (¬1). وقولها: "استأذنَ عليَّ بعدَما أُنزلَ الحجابُ"؛ لا شك أن الحجاب نزل سنة خمس من الهجرة في أواخرها؛ فإن أفلح استأذن على عائشة بعد ذلك، وكان حيًّا. وذكر القاضي عياض - رحمه الله -: أن أبا القعيس كان ميتًا (¬2)، فيبعد ما قاله بعضهم: إن أبا القعيس كان عمًّا لعائشة موجودًا وقت الاستئذان عليها، ولأنه لو كان هو المسؤول عنه، لكانت اكتفت بمعرفتها تحريم الدخول لغير العم من الأحاديث في النسب والرضاع عليها، والظهور عليه، فلم تحتج إلى السؤال عنه، لكن لما سألت، دل على أنه أفلح، وأنه غير أبي القعيس. ¬

_ (¬1) وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 102)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 134)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 597). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 20).

وذلك جميعه دليل على أن أفلح عمها، وأبا القعيس أبوها، وأن أمه أرضعت عائشة - رضي الله عنها -، وأنهما لم يكونا أخوين لأبي بكر من الرضاع. وذكر بعضهم: أن عم أبيك من الرضاع عمك. قلنا: صحيح لو لم تذكر عائشة عن أفلح: ليس هو أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدل على صحة ما ذكرناه، والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَرِبَتْ يَمينك"؛ فمعناه: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل؛ ولا تريد وقوع الأمر به. يقال: ترب الرجل: إذا افتقر، وأترب: إذا استغنى (¬1). في الحديث دليل: على ثبوت حكم الرضاع بين الرضيع وبين الرجل المنسوب إليه ذلك اللبن، وأن الحرمة تنتشر إلى أولاده وإخوته وأخواته، فيصير أولاد الرجل إخوة الرضيع، وإخوته وأخواته أعمامه وعماته، وتكون الدلالة من باب التنبيه بالأبعد على الأدنى؛ فإن الإخوة أبعد من الأولاد، فإذا كان الأبعد أذن له في الدخول، وحرم عليه النكاح، فالأقرب بطريق الأولى، وتقدم الاختلاف فيه. وهذا مذهب العلماء كافة، إلا اليسير منهم؛ كعائشة، وابن عمر، وابن الزبير، وأهل الظاهر، وابن بنت الشافعي. وقيل: لم يصح عن عائشة. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: نشر الحرمة إلى الفحل خارج عن القياس؛ فإن اللبن ليس ينفصل منه، وإنما ينفصل منها؛ للحديث، والله أعلم. وفيه دليل: على أن من ادعى رضاعًا، وصدقه الرضيع، ثبت حكم الرضاع بينهما من غير إقامة بنية؛ لأن أفلح ادعاه، وصدقته عائشة - رضي الله عنها -، وأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. وفيه دليل: على أن من جهل شيئًا من حكم الشرع، لا يفعل شيئًا من تلبس ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 120)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 184).

الحديث الثالث

شيء ولا ضده، حتى يسأل العلماء عنه، ويفعل ما يفتونه به؛ فإن عائشة - رضي الله عنها - جهلت الحكم، وعللته بإرضاع المرأة دون الرجل، وأعطت ذلك حكمه من الاحتجاب وغيره، وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأبدت مستندها في المنع، فعرفها - صلى الله عليه وسلم - الحكم، فعملت به. وفيه دليل: على أن العالم إذا سئل عن مسألة قد قال فيها بعض أصحابه ما هو الصواب، أن يصدقه؛ ويقر قوله. وفيه دليل: على جواز قول: تربت يمينك، أو يداك، لا بقصد الدعاء ولا غيره. وفيه دليل: على وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب، وأنه كان مباحًا أول الإسلام. وفيه دليل: على شرعية استئذان الرجال المحارم على محارمهم، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَائِشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أَيْضًا، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ: "يَا عَائشِةُ! مَنْ هَذَا؟ " قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: "يَا عَائشِةُ! انْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" (¬1). الرجل المبهم الذي هو أخو عائشة، لا أعلم اسمه. واعلم! أن معنى هذا الحديث: أن الرضاعة التي تقع بها الحرمة هي ما كان في زمن الصغر، والرضيع طفل يقوته اللبن ويسد جوعه، أما ما كان منه بعد ذلك، في الحال الذي لا يسد جوعه اللبن، ولا يشبعه إلا الخبز واللحم، وما في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2504)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، والموت القديم، ومسلم (1455)، كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة.

معناهما، فلا حرمة له، ولهذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا رضاع إلا ما شدَّ العظمَ وأنبتَ اللحم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "انْظُرْنَ مَنْ إخْوانُكُنَّ" تنبيه على الزمن الذي يثبت للمرضع فيه حكم الرضاع، وتترتب أحكامُه عليه خشيةَ أن تكون رضاعة ذلك الشخص وقعت في حالة الكبر، فلا تترتب عليه أحكامه. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز دخول من اعترفت المرأة بالرضاع معه عليها، وأنه يصير أخًا لها. ومنها: أن الزوج إذا رأى من تتكشف عليه امرأته بعدم الحجاب، أن يسألها عنه. ومنها: الأمر بالاحتياط في ذلك، والنظر فيه، وفيما يبيح عدم الاحتجاب. ومنها: قبول قول المرأة، ومن اعترفت برضاعه مجردًا، والإرشاد إلى الاحتياط لذلك. ومنها: أن الرضاع المحرم: هو ما كان بلبن المرأة، في زمن يستقل الرضيع به دون غيره من الأغذية به، وهو حولان، فما دونهما. ومنها: أن كلمة "إنما": للحصر؛ لأن المقصود حصر الرضاعة المحرمة من المجاعة، لا بمجرد إثبات الرضاعة في زمن المجاعة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2059)، كتاب: النكاح، باب: في رضاعة الكبير، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 461).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحارِثِ بْنِ الحارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: تَزَوَّجْتُ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي الحارثِ إهَابٍ، فجاءتني أَمَةٌ سَودَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قال: فَتنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: "وَكَيْفَ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ " (¬1). أما عقبة بن الحارث؛ فكنيته أبو سِرْوَعة -بكسر السين المهملة-. قال أبو عمر النمري: قال الزبير -يعني: ابن بكار-: وهو قول أهل الحديث. وأما أهل النسب، فإنهم يقولون: إن عقبة هذا هو أخو أبي سروعة، وإنهما أسلما جميعًا يوم الفتح. قال ابن الأثير: وهو أصح. قال النمري: عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، قرشي نوفلي، وهو حجازي مكي، له حديث واحد، ما أحفظ له غيره في شهادة امرأة على الرضاع. قال: وقيل: بل كان أبو سروعة أخاه لأمه، وهو أثبت عند مصعب. وأصح من هذا كله ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: الذي قتل خبيبًا: أبو سروعة عقبةُ بن الحارث بن عامر بن نوفل. وقال أبو محمد عبد الغني المقدسي الحافظ: روى له البخاري ثلاثة أحاديث، وروى له أبو داود، والترمذي، والنسائي. وقال أبو حاتم بن حبان البستي الحافظ: وكان أبوه -يعني: الحارث- أحدَ المطعمين يوم بدر مع المشركين، وأمه درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2516)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة الإماء والعبيد، قلت: وهو مما انفرد به البخاري عن مسلم، وفات الشارح - رحمه الله - التنبيه على ذلك. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 447)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 430)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 309)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 279)، =

وأما التي تزوجها أم يحيى بنت أبي إهاب؛ فاسمها غنية بنت أبي إهاب بن عزيز بن قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم، قاله أبو القاسم خلف بن بشكوال الحافظ. وقال: حكى ذلك في "المؤتلف والمختلف" الدارقطني عن الزبير بن بكار (¬1). وأما الأمة السوداء؛ فلا أعلم اسمها، والله أعلم. أما إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عن عقبة لما ذكر ما قالت المرأة السوداء له؛ فلأنه حكاية مجردة تهوش عليه نكاحه من غير تثبت، فلما ذكرت له المرأة السوداء أنها قد أرضعتهما، قوي ما حكاه قوة توجب التوقف عن النكاح، والأخذ بالاحتياط له؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ وقد زعمَتْ أن قد أرضعَتكما". وفي هذا الحديث دليل: على سؤال أهل العلم عن الوقائع الحادثة. وفيه: دليل على التثبت فيها، والإعراض عن السائل عنها أول وهلة. وفيه دليل: على الأخذ بالورع والإرشاد إليه. وفيه دليل: على الاحتياط للأعراض من الأقوال التي لم تتثبت. وقد تمسك به بعض الناس على قبول شهادة المرضعة وحدها على الرضاع، ويحتاج ذلك إلى قبول شهادة الأمة في ذلك وجوازه. والعلماء يحملون الأمر في ذلك على الورع والاحتياط للأبضاع دون التحريم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ وقد قيلَ" (¬2). * * * ¬

_ = و"المستدرك" للحاكم (3/ 490)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1072)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 48)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 308)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 192)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 518)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 212). (¬1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 453 - 454). (¬2) رواه البخاري (1947)، كتاب: البيوع، باب: تفسير المشبهات.

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنِ البرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يَعْنِي: مِنْ مَكَّةَ-، فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ! فَتنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةُ عَمِّكِ، فَاحْتَمَلَهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وخَالَتُهَا تَحتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: بنتُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ"، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ"، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي"، وَقَالَ لِزَيْدٍ: "أَنْتَ أَخُوَنا وَمَوْلاَنَا" (¬1). أما البراء بن عازب؛ فتقدم ذكره. وأما ابنة حمزة هذه؛ فيحتمل أنها عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إنها لا تَحِلُّ لي؛ إنها ابنةُ أخي من الرَّضاعة"، ولهذا إذًا كان نداؤها النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عم! لأخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيها حمزة من الرضاعة. وكان خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة بعد موت أبيها واستشهاده في غزوة أحد، إما في عام الحديبية، وإما في عمرة القضاء، والله أعلم. واعلم أن هذا الحديث أصل في باب الحضانة؛ وهو القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره وتربيته بما يصلحه، وبوقايته عما يهلكه. وهي نوع ولاية وسلطنة، لكنها بالإناث أليق؛ لأنهن أشفق، وأهدى إلى التَّربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخالةُ بمنزلةِ الأمِّ"؛ معناه: أنها بمنزلة الأم في الحضانة؛ لأن سياق الحديث يدل على ذلك؛ حيث إنه طريق إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات، وتنزيل الكلام على المقصود منه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2552)، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان؟ وهر مما انفرد به البخاري عن مسلم.

وفي الحديث دليل على أحكام: منها: صلة الأرحام والحثُّ عليها وإلزامها. ومنها: الاختصام في طلب صلتها، والقيام بها إلى الحكام وأهل الفتوى. ومنها: القضاء بالحق، وتبيين الحكم للخصوم؛ وذكر علَّته، وقد قال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: ينبغي للحاكم أن يعلل الحكم للخصوم؛ لأنه أبعد عن الشحناء بينهم ودوام العداوة، والله أعلم. فلا التفات إلى من منع ذلك. وقال: ينبغي له الجزم بالحكم من غير تعليل؛ لئلا يؤدي ذلك إلى استدلال الحاكم، والطمع فيه؛ فإن تَرْك ذلك يؤدي إلى ما ذكر، مع مخالفة الكتاب والسنة في الأمر في البيان المطلوب من الشرع، والله أعلم. ومنها: إدلاء كل واحد من المستفتين والخصوم للمفتي والحكم بحجته؛ لينظر في الصواب منها. ومنها: أن للخالة حقًّا في الحضانة. ومنها: أنها إذا كانت متزوجة بمن له حق في الحضانة، ولا تسقط حضانتها؛ كبنت العم عند عصبتها؛ فإن لهم حقًّا في الحضانة، إذا لم يكن محظور شرعي من خلوة ونحوها يسقطها. وكذا حكم كل مستحقة للحضانة إذا نكحت من له حق في الحضانة، أو كانت في نكاح مثله. ومنها: ما استدل بإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخالةُ بمنزلة الأم" على أنها ترثُ عند عدم الوارثين. من يرى مذهب أهل التنزيل، فينزلها منزلة الأم في الإرث. وقد نبهنا على أن دلالة السياق تنفي ذلك، والله أعلم. واعلم أن دلالة السياق، قد نبه عليها بعض المتأخرين من أهل أصول الفقه، وهي قاعدة عظيمة، لكنها ذات شعب على المناظر، والله أعلم.

ومنها: استعمال مكارم الأخلاق للحاكم والمفتي ونحوهما، وتطييب قلوب المستفتين والمتحاكمين؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكل واحد؛ من علي، وزيد، وجعفر، ما يطيب قلبه من الكلام. ولا شك في مناسبة ذلك، بالنسبة إلى علي وزيد، حيث حُرما مرادهما؛ فإنه مناسب جبرهما وتطييب قلوبهما. أما جعفر، فإنه أخذ الصبية، وحصل له مراده، فكيف ناسب خبره بما قيل له؟ وأجيب عن ذلك: بأن الصبية لم تحصل له حضانتها، وإنما حصلت لمستحقها، وهي الخالة، فناسب ذلك جبره بما قيل له، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

كتاب القصاص

كتاب القصاص القصاص: بكسر القاف، قاله الأزهري، القصاص: المماثلة، وهو مأخوذ من القَصّ، وهو القطع، وقال الواحدي وغيره من المحققين: هو من اقتصاص الأثر، وهو تتبعه؛ لأن المقتص يتبع جناية الجاني، فيأخذ مثلها. يقال: اقتص من غريمه، وأقصَّ السلطانُ فلانًا من فلان؛ أي: أخذ له قصاصه. ويقال: استقصَّ فلان فلانًا: طلب منه قِصاصه (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِىٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" (¬2). أما ابن مسعود؛ فتقدم الكلام عليه. وأما هؤلاء الثلاثة؛ فإنهم مباحو الدم بالنص. ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 293)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 73)، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي (809)، (مادة: قصص). (¬2) رواه البخاري (6484)، كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]، ومسلم (1676)، كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يشهُد أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأَنِّي رسولُ اللهِ" هو كالتفسير لقوله: "امرئٍ مسلمٍ". واعلم أن الإسلام لا يصح إلا بالتلفظ بهما، مع اعتقاد صحتهما ومعناهما، ومن قام بذلك، كان مؤمنًا مسلمًا، فكل مؤمن مسلمٌ، وكل مسلمٍ مؤمنٌ، وإنما يختلفان باختلاف معناهما في لفظهما، وباختلاف تعلقهما. فالإسلام في اللغة: الانقياد، وفي الشرع: انقيادٌ مخصوص على وجه مخصوص. والإيمان: التصديقُ في وضعه. وفي الشرع: قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجَنان، وعملٌ بالجوارح والأركان. ومتعلق الإسلام والإيمان بالظاهر والباطن، لمن آمن بلسانه، وصدق بقلبه، فهو مؤمن مسلم، ومن صدق بقلبه ولم يؤمن بلسانه، فإن كان لعذر، نفعه ذلك في عدم الخلود في النَّار، ولهذا يقال يوم القيامة: "أَخْرِجُوا مَنْ في قَلْبهِ أَدْنى أَدْنى ذَرَّةٍ منْ إيمانٍ" على ما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وإن أكره على ترك الإسلام بعد وجوده، مع اطمئنان قلبه به، لم يضره ذلك في الدُّنيا والآخرة. ومن صدق بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، جرى عليه حكم الإسلام في الدنيا؛ من عصمة دمه وماله وحريمه، وكان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن المنافقين. وجميع ما ذكرناه من ذلك في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهدت به العقول، وبصرت به القلوب، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيبُ الزاني"؛ معناه: المحصَن إذا زنى، وهو من وطئ في نكاح صحيح، وهو حر بالغ عاقل. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (22)، كتاب: الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ومسلم (184)، كتاب: الإيمان، باب: إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

والإحصان: أصله: المنع. وله معان: أحدها: الموجب رجم الزاني، ولا ذكر له في القرآن، إلا في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]؛ أي: مصيبين بالنكاح لا بالزنا. ويطلق بمعنى: العفة والحرية والتزوج والإِسلام، وكلها مذكورة في كتاب الله تعالى. والجامع لأنواع الإحصان: المنعُ، فكل واحد ممن ذكرنا يمنع مما ينافيه، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المفارقُ للجماعةِ"؛ هو كالتفسير له ولقوله: "التاركُ لدينهِ". وكل من فارق جماعةَ من المسلمين، في قولٍ أو عمل أو اعتقاد، فهو تارك لدينه، لكن تختلف صفات الترك المفارقة. فكل مرتد عن الإِسلام بأي ردة كانت، وجب قتله، وكل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي، أو كان من الخوارج، قوتل حتى يرجع إلى الجماعة، وليس بكافر، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا. والمراد بفراق الجماعة: المخالفة لأهل الإجماع. وهذا الحديث عام، وقد خص بعضهم الصائلَ؛ حيث يُباح قتله للدفع، ولم يذكر في الثلاثة، وهو داخل فيمن فارق الجماعة. ويحتمل أن يحمل الحديث على من يحل تعمد قتله قصدًا من الثلاثة المذكورين، دون غيرهم، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: أن المسلم لا يصير مسلمًا إلا بالتلفظ بالشهادتين؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعلهما كالتفسير والوصف للمسلم، وذلك لا يعرف إلا بالتلفظ، والاتصاف. ومنها: عصمة دم المسلم، إلا فيما ذكر. ومنها: وجوب القصاص في النفس بشرطه.

ومنها: إباحة دم الزاني المحصن بصفته المعروفة في الأحاديث الصحيحة, وهو الرجم بالحجارة. ومنها: إباحة دم المرتد بشرطه في الرجل، واختلف في المرأة، فالجمهور على أنها تقتل بالردة كالرجل، وقال أبو حنيفة: لا تقتل. ومنها: استدلال أصحاب أبي حنيفة على أن المسلم يقتل بالذمي، ويقتل الحر بالعبد؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والنفس بالنفس"، وجمهور العلماء على خلافه، منهم: مالك، والشافعي، والليث، وأحمد. ومنها: أن مخالف الإجماع يكفر، فيقتل، وهو قول العلماء المتقدمين. ومعناه: إذا خالفه معتقدًا جواز مخالفته. ولا شك أن التكفير ليس بالهين، وقد تقدم التكفير وطريقه في المسائل الإجماعية قريبًا من هذا الكتاب، ويزيده وضوحا. ولا شك أن المسائل الإجماعية، قد يصحبها التواتر بالنقل من صاحب الشرع، كوجوب الصّلاة مثلًا، وقد لا يصحبها. فالأول: يكون جاحدُه مخالفا للتواتر، لا مخالفا للإجماع؛ لعدم انعقاده على تكفير تاركها، غير جاحد وجوبها. وقد ظن بعض من يميل إلى الفلسفة، ويدعي الحذق في المعقولات: أن المخالف في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع، وأخذ من قول من قال: لا يكفر مخالف الإجماع: ألَّا يكفر هذا المخالف في هذه المسألة. قال شيخنا الإِمام أبو الفتح -رحمه الله-: وهذا كلام ساقط بمره إما عن عمًى في البصيرة، أو تعام؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة، فيكفر المخالف بسبب مخالفة النقل المتواتر، لا بسبب مخالفة الإجماع. ومنها: ما استدل به شيخ والد شيخنا الإِمام أبي الفتح الإِمام الحافظ، أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي -رحمه الله تعالى-: على أن تارك الصلاة،

لا يقتل بتركها، في قصيدة له نظمها استخراجًا من هذا الحديث؛ من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - حصر حل دم المرء المسلم في هذه الثلاثة؛ وهي زنا المحصن، وقتل النفس، والردة بلفظ النفي العام والاستثناء منه لهذه الثلاثة. ومن جمله القصيدة أبيات، وهي: خسرَ الذي تركَ الصلاةَ وخابا ... وأَبى مَعادًا صالحا ومَآبا إنْ كانَ يجحدُها فحسبُك أنه ... أَمْسى بِربِّكَ كافرًا مُرْتابا أو كانَ يتركُها لنوعِ تكاسُلٍ ... غَشَى على وجهِ الصوابِ حِجابا فالشافعي ومالكٌ رأيا له ... إنْ لم يتبْ حد الحسامِ عِقابا وأبو حنيفةَ قالَ يترَكُ مرةً ... هَمَلًا ويُحْبَسُ مَرةً إيجابا والظاهرُ المشهورُ من أقوالِه ... تعزيرُه زَجْرًا له وعَذابا إلى أن قال: والرأيُ عندي أَنْ يؤدبه ... الإمامُ بكلِّ تأديبٍ يراهُ صوابا ويكفّ عنه القتل دونَ حياتِه ... حتى يلاقيَ في المآبِ حِسابا فالأصلُ عصمتُه إلى أَنْ يمتطي ... أحدَ الثلاثِ إلى الهلاكِ رِكابا الكفرُ أو قتلُ المكافئِ عامِدًا ... أو مُحْصَنْ طلبَ الزنا فأصابا فأبو الحسن علي بن الفضل المقدسي في قصيدته هذه، قد اختار خلاف مذهب مالك في ترك قتله، وهو من المنسوبين إلى أتباع مالك (¬1). واستشكل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني قتله من مذهب الشافعي أيضًا. وقوى بعض المتأخرين إزالةَ الإشكال في عدم قتله؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتلَ الناسَ حَتَّى يَشْهدوا أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأَنِّي رَسولُ اللهِ، ويُقيموا الصلاةَ، ويُؤْتوا الزكاةَ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 85 - 86). (¬2) تقدم تخريجه.

فرتب - صلى الله عليه وسلم - الأمرَ بالقتال على أشياءَ بالغاية على وجودِها جميعًا، وذلك يثبت بحصول مجموعها, ولا ينتفي إلا بانتفائها جميعها. فإن قصد بها الاستدلال من الحديث المذكور الدلالة المنطوقية، وهي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد وَهِلَ وسَها؛ فإن المقاتلة تقتضي المفاعلة من الجانبين، ولا يَلْزَمُ من ذلك إباحة القتل على ترك الصَّلاة، إذا لم يقاتل. ولا إشكال بأن قومًا لو تركوا الصّلاة وقاتلوا عليها، قوتلوا، بدليل مناظرة عمر والصديق - رضي الله عنهما - في قتال مانعي الزكَاةِ، وقول الصديق لعمر - رضي الله عنهما -: أرأيت لو تركوا الصلاة، أكنت تقاتلهم؟ فقال: نعم، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن مَنْ فرق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيتُ الله قد شرح صدرَ أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق، فقاتلهم (¬1). وإن قصد به الدلالة المفهومية في ترتيب القتال على فعل المعصية الواحدة منها دون المجموع، فالخلاف في دلالة المفهوم معروف. وبعض من ينازع في هذه المسألة لا يقول بها, ولو قال بها، رجح عليها دلالة المنطوق في هذا الحديث. واعلم أن قتل تارك الصلاة كسلًا، وعدمه: مبني على تكفيره، وقد ثبت في كفره ثلاثة أحاديث: الأول: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن جابر - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن بينَ الرجلِ وبينَ الشرِك والكفرِ، تَرْكَ الصلاةِ" (¬2). الثاني: عن بريدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العهدُ الذي بيننا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1335)، كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة، ومسلم (20)، كتاب: الإيمان, باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه.

وبينَهم الصلاةُ، فمن تركَها، فقدْ كفرَ" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (¬1). الثالث: عن شقيق بن عبد الله التابعي، المتفق على جلالته -رحمه الله تعالى- قال: كان أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال، تركُه كفر، غيرَ الصلاة. رواه الترمذي في كتاب "الإيمان" بإسناد صحيح (¬2). فهذه الأحاديث ظاهرها تكفير تارك الصلاة، بوصفه بالكفر. وهو في الشرع: الخروج من الإِسلام، ويؤيد ذلك ما رواه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر الصلاة يومًا، فقال: "مَنْ حافظَ عَلَيْها، كانَتْ لَهُ نُورًا وبُرْهانا ونَجاةً يومَ القيامةِ، ومَنْ لمِ يحافظْ عليها, لَمْ يَكُنْ لَهُ نور ولا بُرهان ولا نَجاةٌ، وكانَ يومَ القيامةِ مَعَ قارون وهامانَ وفرعونَ، وأُبَيٍّ بْنِ خَلَفٍ" (¬3). ولا شك أن ترك المحافظة عليها يدل على عدم جحد وجوبها، وأنه يقتضي التهاون والكسل عنها, ولا يحشر يوم القيامة مع صناديد الكفر، الذين أخبر الله عنهم بالخلود في النار إلا كافر. وبكفره، قال المحدثون، ومنصور الفقيه من الشافعية في كتابه "المستعمل" (¬4)، وأحمد في المشهور عنه، وبعض أصحاب مالك، وقالوا: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2621)، كتاب: الإيمان, باب: ما جاء في ترك الصلاة، والنسائي (463)، كتاب: الصلاة، باب: الحكم في تارك الصلاة، وابن ماجه (1079)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 346)، وابن حبان في "صحيحه" (1454). (¬2) رواه الترمذي (2622)، كتاب: الإيمان" باب: ما جاء في ترك الصلاة، وابن أبي شيبة في "المصنف" (30446)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 905). (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1467)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 169)، والدارمي في "سننه" (2721)، والطبراني في "مسند الشاميين" (245)، وعبد بن حميد في "مسنده" (353)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2823). (¬4) كتاب: "المستعمل في الفروع" لأبي الحسن منصور بن إسماعيل التميمي الشاعر المتوفى سنة =

الحديث الثاني

يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كفرًا، وقال الشافعي ومالك: يقتل حدًّا. وحمل الشافعي الكفر في الأحاديث، على كفر النعمة، دون الكفر المطلق المخرِج من الإِسلام. واستدل لذلك بما رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، بإسناد صحيح ثابت، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمسُ صلواتٍ كتبهن اللهُ على العبادِ، فمنْ جاءَ بهن، ولم يُضَيِّعْ منهن شيئًا استخفافًا بِحَقِّهِنَّ، كانَ لهُ عندَ اللهِ عهدٌ، أَنْ يُدْخِلَه الجنةَ، ومن لم يأتِ بهن، فليسَ له عندَ اللهِ عهدٌ، إن شاءَ عذبَهُ، وإنْ شاءَ أدخلَه الجنَةَ" (¬1). فلما كان مَنْ تركَ الصلاة غيرَ مستحل لتركها, ولا مستخفا بها، داخلاَ تحت المشيئة، دل على عدم كفره المطلق، فلا يكون قتله كفرًا، بل حدًّا. واستدل على قتله حدًّا؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نُهيت عن قَتلِ المُصَلين" (¬2) وهو حديث ضعيف عند المحدثين، وبتقدير ثبوته، لا دلالة له فيه لقتلهم إذا تركوها؛ لأنه دلالة مفهوم العكس، وهو ضعيف عند أرباب أصول الفقه، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَيضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَا يقضِي اللهُ بينَ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ في الدمَاء" (¬3). ¬

_ = (306 هـ)، شرحه أبو محمَّد الحسن بن أحمد الإصطخري الشافعي المتوفى سنة (328 هـ). انظر: "كشف الظنون" (2/ 1674). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو داود (4928)، كتاب: الأدب، باب: في الحكم في المخنثين، والدارقطني في "سننه" (2/ 54)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 224)، وفي "شعب الإيمان" (2798)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفي الباب: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (6168)، كتاب: الرقاق، باب: القصاص يوم القيامة، ومسلم (1678)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة، وهذا لفظ مسلم.

لا شك أن أمر الدماء عظيم، وخطرها كبير، والبداءة إنما تكون بالأهم فالأهم، وهي حقيقة بذلك؛ فإن الذنوب تعظم بحسب المفسدة الواقعة بها، أو بحسب ذوات المصالح المتعلقة بعدمها. وعدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد، ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر بالله تعالى أعظم منه. ولهذا نص الشافعي -رحمه الله تعالى- على أن أكبر الكبائر بعد الشرك القتل. وهذا إذا تجرد عن اعتقاد حله في غير محله. وقد ثبت في حديث صحيح في "السنن" عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أولُ ما يُحاسَبُ عليهِ العبدُ صلاتُه" (¬1)، فيحتمل الأولية في حديث الدماء: أنها بما يقع فيه الحكم بين الناس فيما بينهم. ويحتمل أن تكون عامة في أولية ما يُقضى فيه مطلقا. لكن الاحتمال الأول أقوى، ويكون حديث المحاسبة على الصلاة محمولًا على الأولية؛ فيما بين العبد وبين الله تعالى. وفي الحديث: التنبيه على غلظ تحريم الدماء. وفيه علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور الآخرة كما يعلم أحكام الدنيا, ولا شك أن الأمر كذلك؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- أطلعه على ما كان [وما يكون] (¬2) وما هو كائن، ولم يكتم - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من ذلك. وفيه: القضاء بين الناس يوم القيامة، وأوليته، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (864)، كتاب: الصلاة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه"، والنسائي (465)، كتاب: الصلاة، باب: المحاسبة على الصلاة، والترمذي (413)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، وابن ماجه (1425)، كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح".

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، وَمُحَيصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إلَى خَيْبرَ وَهِيَ يَومَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفرَّقا، فَأتى مُحَيِّصَةُ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهلٍ، وَهُوَ يَتشحَّطُ في دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفنَهُ، ثُمَّ أتى المَدِينةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرحْمَنِ بنُ سَهْلٍ وَمُحَيصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتكلمُ، فَقَالَ: "كَبِّرْ كبِّرْ! "، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتكلمَا، فَقَالَ: "أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أَوْ صاحِبكُمْ؟ " قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ وَلَمْ نَرَ؟ قَالَ: "فَتبرِئكمْ يَهُودُ بخَمْسِينَ يَمينًا؟ "، فَقَالُوا: كَيْفَ نأخذُ بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كفارٍ؟ فَعَقَلَهُ النبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ (¬1). وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنكمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ؟ " قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ، كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ: "فَتبرئكمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَوْمٌ كفارٌ (¬2). وَفي حَدِيثِ سَعِيدِ بنِ عُبيدٍ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِئةٍ مِنْ إبِلِ الصدقَةِ (¬3). الكلام على أسماء هذا الحديث: أما سهلُ بنُ أبي حَثْمَةَ؛ فتقدم ذكره في باب صلاة الخوف. وأما عبد الله بن سهل؛ فهو أنصاريٌّ حارثيٌّ، أخو عبد الرحمن، وابن أخي حويصة ومحيصة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3002)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، ومسلم (1669)، (3/ 1294)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه مسلم (1669)، (3/ 1292)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة. (¬3) رواه البخاري (6502)، كتاب: الديات، باب: القسامة، ومسلم (1669)، (3/ 1294)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة.

قال النمري: هو المقتول بخيبر الذي وردت في قصته القسامة (¬1). وأما مُحَيِّصةُ؛ فهو -بضم الميم وفتح الحاء المهملة، وبالياء المثناة تحت، المشددة المكسورة والمخففة ساكنة- لغتان مشهورتان، ذكرهما القاضي عياض -رحمه الله تعالى-، أشهرهما التشديد (¬2). وحُوَيِّصَةُ؛ -بضم الحاء المهملة وفتح الواو، وفي الياء اللغتان؛ التشديد والتخفيف-. وكنية محيصة: أبو سعد بنُ مسعود بن كعب بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج، أنصاري حارثي، يعد في أهل المدينة. وكان إسلامه قبل الهجرة، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل فدك، يدعوهم إلى الإِسلام. وشهد أحدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد، وهو أخو حويصة بن مسعود، وكان حويصة أكبر منه، وكان محيصة أنجب وأفضل. وكان سبب إسلام محيصة: ما ذكره ابن إسحاق في "المغازي" عن ثور بن زيد عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشِعره وسعيه، ويحرض عليه العرب، وهو رجل من بني نبهان من طيئ، فلما قتل كعب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ظفرتم به من رجالِ يهودَ، فاقتلوه"، فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة -رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم-، فقتله. وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسن من محيصة، فلما قتله، جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله! قتلته! أما واللهِ لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت له: أما والله لقد أمرني بقتله مَنْ لو أمرني بقتلك، لضربت عنقك. قال: اللهِ لو أمرك بقتلي لقتلتني؟! قلت: نعم، واللهِ لو أمرني بقتلك لقتلتُك. قال: والله إن دينًا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 924)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 255)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 123). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 399).

وكان ذلك أولَ إسلامه. فقال محيصة: يلومُ ابنُ أمي لو أُمِرْتُ بقتلِه ... لَطَبَّقْتُ ذِفْراهُ بأبيضَ قاضِبِ حسامٌ كلونِ الملحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ ... متى ما أُصَوِّبْهُ فليسَ بكاذبِ وما سَرَّني أَنِّي قتلتُك طائِعًا ... وَأَن لنا ما بينَ بُصرى ومَارِبِ وروى محيصة في كسب الحجام؛ روى عن ابن سعد بن محيصة، وابن أبيه حرام بن سعد بن محيصة، ومحمد بن سهل بن أبي حثمة، ومحمد بن زياد. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وحويصة يكنى: أبا سعد -أيضًا-. وهو أخو محيصة لأبيه وأمه. وفي حقه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد الله بن سهل المقتول لأخيه عبد الرحمن لما أراد أن يتكلم: "كبِّرْ كبِّر"؛ لمكانه من أخيه محيصة. شهد حويصة أُحدًا، والخندقَ، وسائر المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنه محمدُ بن سهل بن أبي خثمة، وحرام بن سعد بن محيصة (¬1). وأما حماد بن زيد؛ فكنيته: أبو إسماعيل، واسم جده: درهم، ويقال لحماد: الأزرق، وهو أزديٌّ، جهضميٌّ، بصريٌّ، مولى جرير بن حازم. سمع خلقًا من التابعين وغيرهم. وروى عنه خلائق من الأئمة والعلماء. قال ابن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمة محيصة في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 53)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 426)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 404)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1463)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 411)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 392)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 312)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 60). * وانظر ترجمة أخيه حويصة في: "الثقات" لابن حبان (3/ 91)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (10/ 409)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 97)، و"تهذيب الأسماء واللغات، للنووي (1/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 143).

وفي حماد أنشد ابن المبارك -رحمة الله تعالى عليه-: أَيُّها الطالبُ علمًا ... ائتِ حَمَّادَ بْنَ زَيدِ فَخذِ العلمَ بحلمٍ ... ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْد وَدَعِ البدعَةَ من ... أَشْعار عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ وقال عبيد الله بن الحسن: إنما هما الحمَّادان، فإذا طلبتم العلم، فاطلبوه من الحمَّادَيْن. فقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حماد بن زيد. وقال أبو زرعة: هو أثبت من حماد بن سلمة بكثير، وأصح حديثًا وأتقن. وقال يزيد بن زريع: هو أثبت من ابن سلمة، وكان ابن سلمة رجلًا صالحا. وقال يحيى بن يحيى: ما رأيت أحدًا من الشيوخ أحفظَ من حماد بن زيد. وقال ابن سعد: كان ثقة، ثبتا، حجة، كثير الحديث. ولد حماد بن زيد سنة ثمان وتسعين، وتوفي في رمضان سنة تسع وتسعين ومئة، ابن إحدى وثمانين سنة، وصلى عليه إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي، وهو يومئذ والٍ على البصرة. روى له البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند (¬1). وأما سعيد بن عبيد؛ فكنيته: أبو الهذيل، طائيٌّ كوفيٌّ. روى عن بشير بن يسار، وعلي بن ربيعة الوالبي. وروى عنه: الثوري، وابن المبارك، ووكيع، ويحيى بن سعيد، وغيرهم. وقال ابن حنبل وابن معين: ثقة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 286)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 25)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 176)، و"الثقات" لابن حبان (6/ 217)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 364)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 170)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 239)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (7/ 456)، و "تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 228)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 9).

وقال يحيى القطان: ليس به بأس. وروى له البخاري، ومسلم، وغيرهما (¬1). أما قوله: فذهبَ عبدُ الرحمن يتكلّم، فقال: "كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ فاعلم أن عبد الرحمن هذا هو أخو عبد الله المقتول بخيبر، كما ذكرناه. وهو ابن سهل، كان له علم وفهم. ويقال: إنه شهد بدرًا، وهو الذي قال لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما جاءته جدتان أم أم، وأم أب، فأعطى السدس أم الأم دون أم الأب، فقال له عبد الرحمن بن سهل -رجل من الأنصار من بني حارثة، قد شهد بدرًا-: يا خليفة رسول الله! أعطيته التي لو ماتت له لم يرثها، وتركت التي لو ماتت ورثها! فجعله أبو بكر بينهما (¬2). وروى عنه محمَّد بن كعب القرطبي عنه: أنه غزا، فمرت به روايا تحمل خمرًا، فشقها برمحه، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نُدخل الخمر بيوتَنا وأسقيتَنا (¬3). وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بقوله: "كَبِّرْ كَبِّرْ"؛ معناه: ليتكلمِ الأكبرُ، وأكده بالتكرير؟ تنبيها على شرف السنِّ. فإن قيل: الحق في المطالبة بالدم لعبد الرحمن؟ فإن المقتول أخوه، ومحيصة وحويصة ابنا عم لا حقَّ لهما في المطالبة به مع وجوده، وقد أمر برد الكلام إليهما، فالجواب: أن كلام عبد الرحمن لم يكن حقيقة دعوى يترتب عليها الحكم، وإنما هو بيان وشرح للواقعة، والأكبرُ أفقهُ وأعلم بذلك، خصوصًا في مخاطبة الكبار. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 497)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 46)، و"الثقات" لابن حبان (6/ 466)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 549)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 55). (¬2) رواه الإِمام مالك في "الموطأ" (2/ 513)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1/ 73)، وعبد الرزاق في "المصنف" (19084)، عن القاسم بن محمَّد. (¬3) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 836).

أو يقال: إن عبد الرحمن وكَل الأكبرَ المتكلِّم في الدعوى والمساعدة له؛ حيث أمر بالتفويض في المطالبة إلى الأكبر، ولذلك يُقال في عرض اليمين عليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحلفون وتستحقون قاتلَكُم أو صاحبكُم؟ "، مع أن المستحق الوارث للحق في القتيل عبد الرحمن دونهما. والجواب: أن الخطاب وقع لهم، والمراد من يختص باليمين والاستحقاق، وذلك مغتفر؛ للعلم به. وإنما اغتفر؛ حيث إن الكلام وسماعه كان من الجميع ثلاثتهم في صورة القتل، وكيفية ما جرى فيه، وإن كانت حقيقته [الدعوى] (¬1) واليمين، إنما يتصوران من الوارث أو وكيله فيما يجوز التوكيل فيه، والله أعلم. ومعناه: ثبت حقكم على من حلفتم عليه. قوله: "فتبرئكمْ يهودُ"؛ يهودُ مرفوع لا ينصرف؛ لأنه اسم للقبيلة والطائفة، ففيه التأنيث والعلمية. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقسمُ خمسونَ منكم على رجلٍ منهم فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ؟ "؛ الرمَّة: بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة؟ ومعناه: تسليم القاتل بجملته إلى ولي القتيل للقتل، وأصل الرمة: الحبل الذي يكون في عنق البعير؛ ليسلم به إلى من يقوده به، شُبه به القاتل في تسليمه للقتل، والله أعلم (¬2). وهذا الحديث أصل في القَسامة وأحكامها، والقَسامة -بفتح القاف وتخفيف السين- مشتقة من القَسَم أو الأَقسام؛ وهي اليمين التي يحلف بها المدعي للدم عند اللَّوْثِ، وقيل: إنها اسم للأولياء عند أهل اللغة، وعند الفقهاء: اسم للأيمان. وقد نقل عن جماعة من أهل اللغة، وهو الصحيح. ثم اعلم أن موضع جريان القسامة: أن يوجد قتيل لا يُعرف قاتله، ولا تقوم عليه بينة، ويدعي أهل القتيل قتلَه على واحد أو جماعة مع قرينة الحال، بما ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقطت من "ح". (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 267)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 149).

يشعر به صدق الولي. ويقال له: اللوث، فيحلف على ما يدعيه. وفي هذا الحديث أحكام: منها: إثبات القسامة، وهو أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم، وإن اختلفوا في كيفيَّة الأخذ به. وأبطل القسامة جماعة، وقالوا: لا حكمَ لها, ولا عمل بها، منهم: سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار، والحكم بن عتيبة، وقتادة، وأبو قِلابة، ومسلم بن خالد، وابن علية، والبخاري، وغيرهم. وعن عمر بن عبد العزيز رِوَايَتَانِ كالمذهبين، والله أعلم. ومنها: ما ذكرنا أن القسامة إنما تكون عند اللوث، وله صور: إحداها: وجدانُ القتيلِ في محلة أو قرية، بينه وبين أهلها عداوة ظاهرة، ووصف بعضهم القرية هنا: أن تكون صغيرة، واشترط ألَّا يكون معهم ساكن غيرهم؛ لاحتمال القتل من غيرهم حينئذ. الثانية: ثبوتُه من غير بينة على معاينة القتل، وهو قول مالك، والليث، والشافعي. ومن اللوث: شهادةُ العدل وحدَه. وكذا قول جماعة ليسوا عدولًا. الثالثة: لا يشترط في ثبوته قولُ المقتول في حياته: دمي عند فلان، وهو قتلني، أو ضربني، وإن لم يكن به أثر، وفعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي، أو جرحني. ولا يشترط ذكر القتل عمدًا عند فقهاء الأمصار جميعهم، والعلماء كافة. واشترط ذلك جميعَه: الليثُ، ومالك؛ وادعى مالك: أنه مما أجمع عليه الأئمة قديما وحديثا.

وردَ ذلك القاضي عياض، وقال: لم يقل بهذا أحد غيرهما, ولا روي إلا عنهما, ولم ير أحد غيرهما فيه قسامة (¬1). الرابعة: لا يشترط وجود الدم ولا جراحة عند الشافعي وأصحابه. قالوا: لأن القتل قد يحصل بالخنق، وعصر الخصية، والقبض على مجرى النفس، فيقوم أثرها مقام الجراحة. واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح فيه، واحتج مالك بقصة بني إسرائيل على عدم الاشتراط في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] قالوا: فأحيي الرجل، فأخبر بقاتله، فلو اشترط ذلك، لم يحتج إلى قوله: وإحيائه. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن هذا شرعُ مَنْ قبلنا، وردَ شرعُنا بحكم غيره. الثاني: أن ذلك أجراه الله تعالى آية لهم؛ لما ادَّارؤُوا في قتل النفس؛ للحجة عليهم، لا لبيان الحكم الشرعي. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن جراحة ولا دم، فلا قَسامة، وإن وجدت الجراحة، ثبتت القسامة، وإن وجد الدم دون الجراحة: فإن خرج من أنفه، فلا قسامة، وإن خرج من الأنف والأذن، ثبتت القسامة، هكذا حكي عنه. الخامسة: إذا شهد عدلان بالجرح، فعاش بعده أياما، ثم مات قبل أن يفيق منه، لا يكون قسامة، بل يجب القصاص في ذلك عند الشافعي، وأبي حنيفة. وقال مالك، والليث: هو لوث. السادسة: إذا وجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، أو آتيًا من جهته، ومعه آلة القتل، وعليه أثره؛ من لطخ دم وغيره، وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لَوْثٌ موجب للقسامة ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 144).

عند مالك، والشافعي. وكذا لو اقتتل طائفتان، فوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وعن مالك رواية: أنه لا قسامة، بل فيه دية على الطائفة الأخرى، إن كان من الطائفتين، وإن كان من غيرهما، فعلى الطائفتين ديته، فلو وجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت فيه القسامة، وتجب بها الدية. وقال مالك: هو هدر. وقال الثوري، وإسحاق: تجب ديته في بيت المال. وروي مثله عن عمر وعلي - رضي الله عنهما -. ولو وجد في محلة أقوم، أو قبيلتهم، أو مسجدهم، فقال مالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وداود، وغيرهم: لا تثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتيل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل، ويلقيه في محلة طائفة؛ لينسب إليهم. قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه، لا يخالطهم غيرهم، فيكون كالقضية التي جرت بخيبر، فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة لورثة القتيل؛ لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم. وعند أحمد نحو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة، والثوري، ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية، توجب القسامة، ولا تجب القسامة في شيء من الصور عندهم إلا هنا؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالقسامة. ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر. قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد، خلف أهل المحلة، وجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة، وإن لم يكن عليه أثر، ونحوه عن داود، والله أعلم. ومنها: اشتراط وجود الدم في إيجاب القسامة صريحًا، والجراحة ظاهرًا. وقد ذكرنا الاختلاف فيه، وأن الشافعية لا يقولون بذلك، وأن غيرهم يقولون به؛

لوجود عبد الله بن سهل يتشحط في دمه قتيلًا، والحكم بالقسامة بسببه. ومنها: فضيلة السن عند التساوي في الفضائل. وله نظائر؛ تقدم بها في الإمامة، وفي ولاية النكاح ندبًا، وغير ذلك. ومنها: البداءة في القسامة بيمين المدعي، وهو مذهب أهل الحجاز، ونقل عن أبي حنيفة خلافه. وهو مخالف لما اقتضاه الحديث. وقدم المدعي هنا باليمين خلافًا لسائر الخصومات؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينةُ على المدعي واليمينُ على مَنْ أنكَر" (¬1)؛ لما انضاف إلى دعواه من شهادة اللوث مع عظم قدر الدماء. وكل واحد من هذين المعنيين جزء علة لا علة مستقلة. ومنها: أن الأيمان في القسامة المستحقة خمسون يمينًا. والحكمة في تعددها: أن تصديق المدعي على خلاف الظاهر بالعدد؛ ولتعظيم شأن الدم، فلو كانت الدعوى في غير محل اللوث، وتوجهت اليمين على المدعى عليه، فهل تجب خمسين يمينا؟ فيه قولان للشافعي -رحمه الله-. ومنها: أن المدعي في محل القسامة، إذا نكل، غلظت اليمين بالتعداد على المدعى عليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتبرئكم يهودُ بخمسينَ يمينًا؟ ". وفي هذه المسألة طريقان للشافعي: أحدهما: إجراء قولين؛ لأن نكوله يبطل اللوث، وكأنه لا لوث. والطريق الثاني، وهو الأصح: القطع بالتعدد؛ للحديث؛ فإنه جعل أيمان المدعى عليهم كأيمان المدعين. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 157)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 252)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقد رواه البخاري (4277)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، ومسلم (1711)، كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: " ... ولكن اليمين على المدعى عليه".

ومنها: صحة يمين الكافر والفاسق. ومنها: أن القسامة يثبت بها القصاص؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحلفونَ وتَستحقُّون قاتلَكم أو صاحبكُم؟ ". وفي رواية في "الصحيح": "دمَ صاحبكُم" (¬1) وهو قول الشافعي في القديم، وهو مذهب مالك وأصحابه، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وبه قال الزهري، وربيعة، وأبو الزناد. وروي عن أبي الزبير، وعمر بن عبد العزيز، قال أبو الزناد: قبلنا بالقسامة، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل، فما اختلف منهم اثنان (¬2). والذي قال بهذا، جعل له شرطين: أحدهما: ما يقتضي القصاص في الدعوى. والثاني: المكافأة في القتل، وشبهوا القتل بها باليمين المردودة في استحقاق ما ادعى به. وقال الشافعي في الجديد من قوليه، والكوفيون: لا يجب بها القصاص، وإنما تجب الدية. وروي عن أبي بكر، وعمر، وابن عباس، ومعاوية -رضي الله عنهم-، وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، والحسن بن صالح، واستدل [لذلك] (¬3) من الحديث الصحيح بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أَنْ تَدُوا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6769)، كتاب: الأحكام، باب: كتاب الحاكم إلى مسألة والقاضي إلى أمنائه، ومسلم (1669)، (3/ 1294)، كتاب: القسامة، باب: القسامة. (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 127). قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (12/ 235)، قلت: إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة، فضلًا عن ألف. (¬3) ما بين معكوفين ليست في "ح".

صاحِبكُم، وإمَّا أَنْ تُؤذِنُوا بِحَرْبٍ"؛ فإنه يدل على أن المستحق دية لا قود؛ ولأنه لم يتعرض للقصاص، لكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فبدفع بِرُمَّتِهِ" أقوى من قوله: "وتستحقون دمَ صاحبِكم"؛ لأن قولنا: "يدفع برمته" مستعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل، أو لأن الواجب الدية، ويبعد استعمال هذا اللفظ فيها، وهو أظهر في استعماله في تسليم القاتل. والاستدلال بقوله: "دمَ صاحِبكم" أظهرُ من الاستدلال بقوله: "وتستحقون قاتلَكم أو صاحبَكُم" احتمالًا ظاهرًا، لكن بعد التصريح بالدم، يحتاج إلى تأويل لفظه، بإضمار بدل دم صاحبكم، والإضمار على خلاف الأصل، ولو احتيج إلى الإضمار، لكان أقرب إلى اقتضاء حمله على إراقة الدم. وأشار بعض المخالفين إلى احتمال أن يكون المراد بقوله: "دمَ صاحبِكم" هو القتيل، لا القاتل، ورد ذلك قولُه: "دمَ صاحبِكم أو قاتلَكُم". ومنها: أن القسامة إنما تكون على واحد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم"، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على ما شاؤوا, ولا يقتلون إلا واحدًا، وقال الشافعي: إن ادعوا على جماعة، حلفوا عليهم، وتثبت عليهم الدية، على الصحيح عند الشافعي. وعلى قول: يجب القصاص عليهم، وهو قول المغيرة بن عبد الرحمن من أصحاب مالك، فإنه لو قتل أكثر من واحد، لم يتعين أن يقسم على واحد منهم، قال: وإن حلفوا على واحد، استحقوا عليه وحده. ومنها: أن لو تعدد المدعون في محل القسامة، حلف كل واحد منهم خمسين يمينًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقسمُ خمسون منكم على رجل منهم"؛ ومعناه: يقسم كل واحد من الخمسين القسمَ المشروع في ذلك، وهو خمسون يمينًا. وقد نقل عن الشافعي -رحمه الله تعالى- في كيفية أيمانهم قولان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: أن الجميع يحلفون خمسين يمينًا، وتوزع الأيمان عليهم، وإن وقع

كسر، تُمم؛ فلو كان الوارث اثنين مثلًا، حلف كل واحد خمسة وعشرين يمينًا، وإن اقتضى التوزيع كسرًا في صورة أخرى؛ كما إذا كانوا ثلاثة، كملنا الكسر، فيحلف كل واحد سبعة عشر يمينًا. ثم الحالفون: هم ورثة الدم، فلا يحلف غيرهم من الأقارب، سواء كان الوارثون ذكورًا أو إناثًا، وسواء كان القتل عمدًا أو خطأ، وهذا هو مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، ووافق مالك فيما إذا كان القتل خطأ، أما إذا كان عمدًا، فقال: فيحلف الأقارب خمسين يمينًا، فلو كان المدعون أكثر من خمسين، لم يحلف منهم إلا خمسون، وهو ظاهر الحديث. قال مالك: ولا يحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة، والليث، والأوزاعي، وأحمد، وداود، وأهل الظاهر. واحتج الشافعي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحلفونَ خمسينَ يمينًا، فتستحقونَ صاحبكُم"؛ فجعل الحالف هو المستحق للدية أو القصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئًا، فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية. ومنها: أن القسامة إنما تجري في قتل الحر، فلو كان المقتول عبدًا، فهل تجري فيه القسامة؟ فيه قولان للشافعي: مأخذهما شرف الحرية أو الدماء، فمن نظر إلى شرف الحرية، لم يعده إلى العبد، ومن نظر إلى الاحتياط للدماء، عَدَّاه؛ حيث إنه يشمل الحر والعبد. ومنها: أن القسامة تجري في قتل النفس الكاملة؛ لظاهر الحديث. وهل تجري فيما دون النفس من الأطراف والجراحات؟ قال المالكية: لا، وعند الشافعية قولان، منشؤهما: أن وصف كونها نفسًا، له أثر أم لا؟ وكون الحكم بالقسامة على خلاف القياس يقوي الاقتصار على مورده.

الحديث الرابع

ومنها: جواز الحكم على الغائب، وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم. ومنها: جواز اليمين بالظن الراجح، وإن لم يوجد القطع اليقيني. ومنها: أن الحكم بين المسلم والكافر، يكون بحكم الإِسلام. ومنها: نظر الإِمام في المصالح العامة، والاهتمام بإصلاح ذات البين، والله أعلم. ومنها: جواز دفع الدية إلى أولياء المقتول من بيت المال، ويجعل قول الراوي: "فوداه من عنده" محمولًا على بيت المال المعد لمصالح المسلمين، مع احتمال أنها من خالص ماله - صلى الله عليه وسلم -. واستدل به الإِمام أبو إسحاق المروزي من الشافعية على جواز صرفها من إبل الزكاة. وجعل بعض العلماء ذكرَ إبلِ الصدقة غلطًا من الرواة؛ حيث إنها مستحقه لأصناف الزكاة، وحمله جمهور الشافعية على أنه اشتراها من أصل الصدقات، بعد أن ملكوها، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن جَارِيةً وُجِدَ رَأسُهَا مَرْضُوخًا بينَ حَجَرَين، فَقيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ؟ فُلاَنٌ، فُلاَنٌ، حتى ذُكِرَ يَهُودِيٌّ، فَأَومَأَتْ بِرَأسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُوديُّ، فَاعترَفَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرَضَّ رَأسُهُ بين حَجَرَينِ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2282)، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهودي، ومسلم (1672)، (3/ 1300)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات.

وَلَمُسْلِم والنَّسَائي عَنْ أنسٍ - رضي الله عنه -: أَن يَهُودِيًّا قَتلَ جَارِيةً عَلَى أَوْضَاحٍ، فأقادَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1) الجارِيةَ المَرضُوضَ رَأسُها، وَقَاتِلُهَا اليَهُودِيُّ لَا يُعْرَف اسْمُهُ، واللهُ أَعْلَمُ. أما الأوضاحُ -بالضاد المعجمة- فهي قطع فضة، والمراد: قطع فضة، وقال الجوهري: الأوضاح: حلي من الدراهم الصحاح والعين. قتلها اليهودي؛ ليأخذ ذلك منها (¬2). والرضُّ: الرضخ. ومعنى "بين حجرين"؛ أي: وضع رأسها على حجر، ورمى بحجر آخر. وفي هذا الحديث أحكام: منها: قتل الرجل بالمرأة، وهو إجماع من يُعتَدُّ به. ومنها: وجوب قتل الذمي بالمسلم. ومنها: جواز سؤال الجريح: من جرحك؟ لفائدة تعرف الجارح من بين المتهمين؛ ليطالب، فإن أقر، ثبت عليه القتل؛ كما جرى لليهودي من أخذه واعترافه، فلو أنكر، فالقول قوله مع يمينه، ولا يلزمه شيء بمجرد قول المجروح، وهو قول جمهور العلماء. وقال مالك: يثبت القتل بمجرد قول المجروح على المتهم؛ تعلقا بهذا الحديث، وهو تعلق باطل؛ فإن اليهودي لم يُقتل إلا باعترافه، لا بمجرد قول المجروح. ومنها: التوصل إلى معرفة القاتل بتعديد الأشخاص عليه؛ لقصد معرفة الحق، ودفع الريبة فيه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1627)، (3/ 1299)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، والنسائي (4740)، كتاب: القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة. ورواه البخاري أيضًا (6485)، كتاب: الديات، باب: من أقاد بالحجر، دون قوله: "فأقاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". (¬2) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (3/ 61)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 289)، و "شرح مسلم" للنووي (11/ 158)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 635)، (مادة: وضح).

ومنها: أن الإشارة بالرأس ونحوه في ذلك قائمة مقام النطق. ومنها: وجوب القصاص بالقتل بالمثقل عمدًا، وهو ظاهر من الحديث، وقوي في المعنى؛ حيث إنه صيانة للدماء من الإهدار، وهو مطلوب الشرع. والقتل بالمثقل كالقتل بالمحدد في إزهاق الأرواح؛ فلو لم يجب القصاص بالقتل بالمثقل، لأدى ذلك إلى إيجاد القتل به ذريعة إلى إهدار القصاص، وهو خلاف المقصود من حفظ الدماء، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء. وقال أبو حنيفة: لا قصاص إلا في القتل بمحدَّد؛ من حديد أو حجر أو خشب، أو كان معروفًا بقتل الناس؛ كالمنجنيق، والإلقاء في النار، واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد؛ كالدبوس. واعتذر الحنفيون عن الحديث بأعذار ضعيفة: منها: أن قتل اليهودي إنما كان سياسة لا قصاصًا، قالوا: فإن اليهودي كان ساعيًا في الأرض فسادًا، وكان من عادته قتل الصغار بذلك، وهذا كله مردود يقول أنس - رضي الله عنه - في رواية مسلم والنسائي في الكتاب: فأقاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم أن الإقادة لا تقال في القتل سياسة، فإن كانت الجناية شبه عمد؛ بأن قتل بما لا يقصد به القتل غالبًا، فتعمد القتل به، كالعصا والسوط واللطمة والقضيب والبندقة ونحو ذلك، فقال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمَنْ بعدهم من أئمة المذاهب وغيرهم؛ كالشافعي، وأبي حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور: لا قصاص فيه، وقال مالك، والليث: يجب فيها القود. ومنها: اعتبار المماثلة في استيفاء القصاص بالقتل بالمثقل؛ فيقتل على الصفة التي قتل، فإن قتل بالسيف، قتل هو بسيف، وإن قتل بحجر أو خشب، أو نحوهما، قتل بمثله؛ لأن اليهودي رضخَها، فَرُضخ هو، وهذا هو مذهب

الحديث الخامس

الشافعي، ومالك، فإن اختار الوالي العدول إلى السيف، فله ذلك. وقال أبو حنيفة: لا قودَ إلا في القتل بالسيف، والحديثُ يرد عليه، وهو دليل لمالك والشافعي؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رضَّ رأس اليهودي بين حجرين كما فعل هو بالجارية، فلو كان الذي وقع به القتل محرمًا؛ كالسحر، فإنه لا يقتل به. واختلف أصحاب الشافعي فيما لو قتل باللواط، وبإيجار الخمر، فمنهم من أسقط المماثلة؛ حيث إنها محرمة كالسحر، ومنهم من قال: تدس فيه خشبة مثل الذكر، ويوجر الماء بدل الخمر. والقتل بالسيف في هذه الصورة، قيل: هو أشد من فعله، والخنق يغيب الحس، فهو أسهل من فعله، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَما فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكةَ، قَتَلَتْ هُذَيْل رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ في الجَاهِلِيةِ، فَقَامَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إن اللهَ -عَز وَجل- قَدْ حَبَس عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤمنينَ، وإنَّهَا لَا تَحِل لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وإنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وإنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وإنَّها سَاعَتِي هَذه حَرَامٌ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا أَنْ يقتلَ، وإمَّا أَنْ يُفْدَى"، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ يقالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكتبوا لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اكْتبوا لأَبِي شَاهٍ"، ثُمَّ قَامَ العَباسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إلَّا الإذْخِرَ؛ فَإنا نَجْعَلُهُ في بيوتنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا الإذْخِرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6486)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم (1355)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة.

تقدم الكلام على فتح مكة وتاريخه، ومعظم ما يتعلق بهذا الحديث من المعاني، وشرح الألفاظ والأحكام في باب: حرمة مكة، من كتاب: الحج، ونتكلم الآن على ما يتعلق بهذا الحديث بما زاد علي ذلك، والله أعلم. أما هذيل؛ فهي قبيلة كبيرة، والنسبة إليها: هُذلِيٌّ -بضم الهاء وفتح الذال المعجمة-، وهي هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، تفرقت في البلاد، وأكثر أهل نخلة -قرية على ستة فراسخ من مكة، على طريق الحاج- من هذيل، والله أعلم (¬1). وأما بنو ليث، فهو ليث بن كنانة، حليف بني زهرة، وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة (¬2)، ولا أدري المقتول من أيهما، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ -عزَّ وجلَّ- حبسَ عن مكةَ اللَّيلَ، وسلَّطَ عليها رسولَه والمؤمنين". أما الفيل: فهو بالفاء والياء آخر الحروف، وشك بعض الرواة فيه، فقال: القيل، أو القتل: بالقاف والتاء المثناة فوق (¬3). وقد قابل التسليط الذي وقع له - صلى الله عليه وسلم - بالحبس الذي وقع للفيل، وهو الحبس عن القتال، وقصة الفيل وحبسه عن مكة مشهورة في كتب التفاسير والتواريخ. وقد اختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقال مقاتل: كان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين سنة، وقال الكلبي بثلاث وعشرين سنة، والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن قُتل له قتيل، فهو بخير النَّظَرين: إما أن يقتل، وإمَّا أن يُفْدَى"؛ معناه: أن ولي المقتول بالخيار، إن شاء قتل القاتل، وإن شاء أخذ فداءه، وهي الدية. ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (5/ 631). (¬2) انظر: "الأنساب" للسمعاني (5/ 151). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 166). (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 49 - 50).

وقوله: "فقامَ رجلٌ من أهلِ اليمن، يُقال له: أبو شاهٍ، فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي": أما أبو شاه: فهو بهاء تكون هاءً في الوقف والدَّرْج، ولا يقال بالتاء، وصحفه بعض الفضلاء والمتأخرين، فقاله: وبالهاء المنطوق بها تاء وقفًا ووصلًا؛ كشاة الغنم، وأنكر عليه. قال العلماء بالكنى: ولا يعرف اسم أبي شاه هذا، وإنما يعرف بكنيته (¬1). والذي أراد أبو شاه كتابته: هو خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة بمكة. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تذكير الناس في المجامع والفتوحات بأيام الله تعالى، وما من به فيها من الآيات البينات، وتعليمهم الأحكام الشرعيات. ومنها: استدلال بعضهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وسَلطَ عليها رسولَه والمؤمنين" على أن فتح مكة كان عنوة، وقد تقدم ذلك، والكلام عليه. ومنها: أن ولي القتيل بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل، وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء ولي القتيل، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والشافعي وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك: ليس للولي إلا القتل أو العفو، وليس له الدية إلا برضا الجاني، وهو خلاف نص هذا الحديث. ومنها: أن القاتل عمدًا يجب عليه أحد الأمرين من القصاص أو الدية؛ وهو أحد القولين للشافعي، والثاني: أن الواجب القصاص لا غير، وإنما تجب الدية بالاختيار، فليس للولي أخذها بغير رضا القاتل، وتظهر فائدة الخلاف في صورتين: منها: عفو الولي عن القصاص، إن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين، يسقط ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1687)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 202).

الحديث السادس

القصاص، وتثبت الدية، وإن قلنا: الواجب القصاص بعينه، لم يجب قصاص ولا دية، ويحمل الحديث على قتل العمد؛ حيث إنه لا يجب القصاص في غير العمد. الصورة الثانية: موت القاتل، فعلى قول التخيير: يأخذ الدية، أو على قول التعيين: تسقط الدية. ومنها: الإذن في كتابة العلم غير القرآن. وقد ورد في الصحيح حديث علي - رضي الله عنه -: "ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة" (¬1)، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: كان عبد الله بن عمرو يكتب ولا أكتب (¬2). وجاءت أحاديث في النهي عن كتابة غير القرآن، عمل بها السلف، وأكثرهم على جوازها، ثم وقع بعد ذلك إجماع الأمة على استحبابها. وأجابوا عن حديث النهي بجوابين: أحدهما: أنها منسوخة؛ لأن النهي كان خوفًا من اختلاط غير القرآن به، فلما اشتهر، وأمنت مفسدة الاختلاط، وقع الإذن فيها. والثاني: أنه نهي تنزيه، لمن وثق بحفظه وخيف اتكاله على الكتابة. فأما من لم يشق بحفظه؛ فإنه تستحب له الكتابة، والإذن محمول عليه، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّهُ اسْتشارَ النَّاسَ في إمْلاَصِ المَرْأَةِ، فَقَالَ المُغِيرَةُ: شَهِدْتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِيهِ بغُرَّةٍ عَبدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ: لتأتِيَنَّ بمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (6509)، كتاب: الديات، باب: جنين المرأة، ومسلم (1681)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، وهذا لفظ البخاري.

أما عمر والمغيرة، فتقدم ذكرهما. وأما محمَّد بن مسلمة: فهو حارثي أنصاري أوسي، كنيته: أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال له: أبو سعيد، وهو حليف بني عبد الأشهل، واسم أبي أبيه: سلمة بن مالك بن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو النبيت بن مالك بن الأوس. شهد محمَّد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إنه استخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عام تبوك. وروى عنه من الصحابة: جابر بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة، والمسور بن مخرمة، وسهل بن أبي حثمة، وغيرهم، وجماعة من التابعين. وروى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومات بالمدينة، وصلى عليه مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، في صفر سنة ثلاث وأربعين، وقيل: سنة سبع وأربعين، وهو ابنُ سبع وسبعين سنة، والله أعلم (¬1). وأما الإملاص؛ وهي -بكسر الهمزة-، وهو جنين المرأة، يقال: أملصَتْ به، وأزلقتْ به، وأمهلت به، وكله بمعنى، وهو إذا وضعته قبل أوانه، وكل ما زلق من اليد، فقد مَلِص -بفتح الميم وكسر اللام- مَلَصًا -بفتحهما-، وأملص -أيضًا-، لغتان، وأملصته أنا، هذا كلام أهل اللغة، ووقع في "صحيح مسلم": مِلاص المرأة، وهو صحيح على لغة مَلِصَ، مثل: لِزم لزامًا، يقال: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 443)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 11)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 362)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1377)، و "تاريخ دمشق" لابن عساكر (55/ 250)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 106)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 107)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 456)، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 369)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 33)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (9/ 401).

ملص الشيء: إذا أفلت، والمراد به الجنين (¬1). وقول المغيرة: "قَضى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بِغُرَّةٍ عبدٍ أو أَمَةٍ"، وفي "صحيح البخاري" عن المغيرة بن شعبة، قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة عبدٍ أو أمة. أصل الغرة: بياضٌ في الوجه، قال أبو عمرو: والمراد بالغرة: الأبيضُ خاصة، فلا يجزئ الأسودُ، قال: ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بالغرة معنى زائدًا على شخص العبد والأمة، لما ذكرها, ولاقتصر على قوله: "عبد أو أمة"، هذا قول ابن عمر، وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء: أنه يجزئ فيها البيضاء والسوداء، ولا تتعين البيضاء. قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله، كما قالوا: عتق رقبة. وغرةٍ -منون-، وعبدٍ أو أمةٍ بدلٌ منه، وهو هكذا عند جميع الرواة وأهلِ الفقه من المصنفين وغيرهم. قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: ورواه بعضُهم بالإضافة، والأول أوجه وأقيس. وقال صاحب "المطالع": والصوابُ روايةُ التنوين، وفيما يؤيد ذلك رواية البخاري: بالغرة عبدٍ أو أمةٍ، و"أو" في قوله: "أو أمة" للتقسيم، لا للشك، والمراد بالغرة: عبد أو أمة، وهو اسم لكل واحد منهما. قال أهل اللغة: الغرة عند العرب أنفسُ الشيء، وأُطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلقه في أحسن تقويم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 377)، و"العين" للخليل (7/ 131)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 380)، و"المُغرب" للمطرزي (2/ 273)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 356)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 180)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 94)، (مادة: ملص). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 222)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 130)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 353)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 239)، و"شرح مسلم" له أيضًا (11/ 175)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 14).

وجاء في رواية في غير الصحيح: "بغرةِ عبدٍ أو أمةٍ، أو فرسٍ أو بغلٍ" (¬1) وهي رواية باطلة قد أحدثها بعض السلف، وسيأتي ذكرهم في الأحكام. وللفقهاء تصرف في سن العبد بالتقييد، وليس ذلك من مقتضى الحديث، والله أعلم. وقول عمر - رضي الله عنه - للمغيرة: "لتأتينَّ بمن يشهدُ معكَ"؛ وهذا كان في أول الأمر يفعله عمر - رضي الله عنه - للاحتياط في ضبط الشريعة؛ لئلا يتساهل في رواية الأحاديث، ويدخل في الشريعة ما ليس منها، خصوصًا في الأمور الجزئية؛ مثل هذا الحكم، فكيف بالأمر الكلي؟ وإلا فخبر الواحد مقبول معمول به عند الصحابة والتابعين وهلم جرًّا، خصوصًا عند استقرار القواعد ومعرفة الأحكام، وتقرير الأدلة. ولا شك أنه لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستُخلف أبو بكر، وارتد من ارتد، وتفرقت الصحابة -رضي الله عنهم- في البلاد، واشتغلوا بالغزو وفتح البلاد، وكان عمر - رضي الله عنه - حزورًا خشي من التبديل في الشرع والتحريف؛ فشدد في ذلك؛ لينضبط الناس في البلاغ والتكلم في العلم إلا ببينة وتثبت؛ خوفًا من أن يدخل في الشرع ما ليس فيه، والله أعلم. وقد فعل ذلك عمر مع أبي موسى - رضي الله عنهما - في حديث الاستئذان، وصرح عمر - رضي الله عنه - فيه: بأنه أراد الاستثبات لأمر أوجبه من استبعاد عدم العلم به، أو شكه فيه؛ أو لزيادة الاستظهار، أو للتثبت في الأشياء، واتخاذ ذلك عادة، ونحو ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4579)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين، وابن حبان في "صحيحه" (6022)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8101)، والدارقطني في "سننه" (3/ 114)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 115)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال أبو داود: روى هذا الحديث حماد بن سلمة، وخالد بن عبد الله عن محمَّد بن عمرو, لم يذكرا: "أو فرس أو بغل". وزاد البيهقي فقال: ولم يذكره أيضًا الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب.

وفي الحديث أحكام: منها: استشارة الإِمام في الأحكام إذا لم تكن معلومة له. ومنها: أن العلم الخاص معفو عنه عن الأئمة والكبار تعلمه، فيتعلمونه ممن دونهم؛ فالحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها التقطها. ومنها: الرد على من يغلو من المقلدين في أنه إذا استدل عليه بحديث، فيقول: لو كان صحيحًا، لعلمه فلان مثلًا؛ فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة، وجاز عليهم، فهو على غيرهم أجوز. ومنها: ما تمسك به بعض من اعتبر العدد في الرواية, وهو مذهب غير صحيح؛ فإنه قد ثبت قبول خبر الواحد العدل، وهو قاطع بعدم اعتبار العدد فيها. وأما طلب العدد في حديث جزئي لا يدل على اعتباره أمر كلي، فلا مانع منه؛ لجواز أن يحال المانع في العام على مانع خاص بتلك الصورة، فيقع الشك فيها، فيحتاج إلى الاستظهار بزيادة العدد فيها، خصوصًا إذا قامت قرينة ظاهرة؛ مثل: عدم علم عمر - رضي الله عنه - بهذا الحكم. ومنها: أن دية الجنين غرة عبد أو أمة، وهو إذا ألقته ميتًا بسبب الجناية، وهذا الحديث أصل في إثباتها، واعتبر الفقهاء أن تكون قيمتها عُشْر دية الحرّ، أو نصف عشر دية الأب، ولا يشترط فيها أن تكون بيضاء ولا سوداء، بل أيهما دفع أجزأ، ولا يجزئ غيرهما من الحيوانات. وحكي عن طاوس وعطاء ومجاهد: أنها تكون فرسًا، وقال داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يجزئ، وهذا المذهبان مخالفان لصريح الحديث في العبد والأمة. واتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة، سواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى، والحكمة في ذلك أنه قد يخفى، فيكثر النزاع فيه، فيضبطه - صلى الله عليه وسلم - بضابط يقطع النزاع. ثم لا فرق بين أن يكون الجنين كامل الأعضاء أم ناقصها، أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرةُ بالإجماع.

الحديث السابع

ثم الغرة تكون لورثة الجنين على مواريثهم الشرعية، وهذا شخص يورث ولا يرث، ولا يعرف له نظير إلا مَنْ بعضُه حر وبعضه رقيق؛ فإنه لا يرث عند الشافعية. وهل يورث؟ فيه قولان للشافعي: أصحهما: يورث، وهو مذهب جماهير العلماء. وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء: أن الجنين كعضو من أعضاء الأم، فتكون ديته لها خاصة، فلو انفصل الجنين حيًّا ثم مات، وجب فيه كمال الدية، فإن كان ذكرًا، وجب فيه مئة بعير، وإن كان أنثى، فخمسون، وهذا مجمع عليه، وسواء في هذا الخطأ والعمد. ومتى وجبت الغرة، فهي على العاقلة، لا على الجاني، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وسائر الكوفيين، وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني، قال الشافعي وآخرون: يلزم الجاني الكفارة، وقال بعضهم: لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، والله أعلم. * * * الحديث السابع عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: اقْتَتَلَتِ امرَأتانِ من هُذَيْلِ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتهَا وَمَا في بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَن دِيةَ جَنِينِهَا: غرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ المَرأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَها وَلدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَامَ حَمَلُ بنُ النَّابِغَةِ الهُذَلِيُّ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ! كيفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَل، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما هُوَ مِنْ إخْوَانِ الكُفانِ"؛ مِنْ أَجلِ سَجعِهِ الذِي سَجَعَ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5426)، كتاب: الطب، باب: الكهانة، ومسلم (1681)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، وهذا لفظ مسلم.

أما المرأتان؛ فالضاربة، يقال لها: أم عفيف بنت مسروح. واسم المرأة ذات الجنين مليكة بنت عويمر، ذكر ذلك الحافظ أبو القاسم خلف بن بشكوال، وقال: ذكر ذلك عبد الغني، وفي حديثه: فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله! أنغرم من لا شرب ولا أكل، الحديث. وقيل: إن المتكلم بذلك حَمَلُ بن مالك بنِ النابغة، وأنه كان له امرأتان؛ مليكة وأم عفيف، كذا في "مسند" الحارث بن أبي أسامة، وكذا في "المنتقى" لابن الجارود: أن المتكلم حَمَلٌ المذكور، هذا آخر كلام ابن بشكوال (¬1). وكون المتكلم حملَ بنَ النابغة: هو الصحيح؛ لثبوته في "الصحيحين"، كما ذكره المصنف، والله أعلم. وأما حمل: فهو بفتح الحاء المهملة والميم، وهو في غالب كتب المحدثين منسوب إلى جده دون أبيه؛ فإن النابغة جده، واسم أبيه: مالك، وهو هذلي من هذيل بن مدركة بن إلياس، نزل البصرة، وله بها دار، وذكره مسلم فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وغيره يعُده في البصريين لكن مخرج حديثه في الجنين عند المدنيين، وهو عند البصريين -أيضًا-. وكنيته: أبو نضلة، ويقال في اسمه: حملة -بزيادة هاء-، ذكره النمري في "الاستيعاب"، وهو غريب. روى له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬2). وقوله: "اقتتلتِ امرأتانِ من هُذَيْل"، وفي روايات في "الصحيح" وغيره: من بني لحيان (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 220 - 222). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 33)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 108)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 303)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 94)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 376)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 75)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 172)، و "تهذيب الكمال" للمزي (7/ 349)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 125)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 32). (¬3) رواه البخاري (6359)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره، =

قد يظن من لا معرفة له أنهما متناقضتان، وأن أحدهما غلط، وليس كذلك، فإنهما صحيحتان. ولِحْيان -بكسر اللام، وقيل بفتحها-: بطن من هذيل. وقد روي في "الصحيح": أن إحداهما كانت ضرة الأخرى (¬1)، والضرتان: زوجتا الرجل، سميت كل واحدة ضرة؛ لحصول المضارة بينهما، وتضرر كل واحدة بالأخرى عادة. والعاقلة: جمع عاقل، وجمع الجمع: عواقل. والمعاقل: الديات، والعقل: الدية، سمي بذلك؛ لأن مؤديها يعقلها بفناء أولياء المقتول. يقال: عقلت فلانًا: إذا أعطيت ديته، وعقلت عن فلان: إذا غرمت عنه دية جنايته، ويقال لدافع الدية: عاقل؛ لعقله الإبل بالعُقُل، وهي الحبال التي تثنى بها أيدي الإبل إلى ركبها فتشد بها. وعقلت البعير أعقله -بكسر القاف- عقلًا (¬2). والعاقلة عند الفقهاء: العصبات ما عدا الآباء والأبناء، والله أعلم. وقوله: "فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها"، معناه: رمتها بحجر صغير لا يقصد به القتل غالبًا، فيكون شبهَ عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني، وبذلك قال الشافعية وجمهور العلماء. وليس في الحديث المذكور ما يشعر بانفصال ما في بطنها, ولا يفهم من لفظه؛ بخلاف حديث عمر الماضي في إملاص المرأة، فإنه مصرح فيه بالانفصال، وهو مشروط عند الشافعية في وجوب الغرة كما تقدم أنه ينفصل ميتًا بسبب الجناية. ¬

_ = ومسلم (1681)، (3/ 1309)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين. (¬1) رواه مسلم (1682)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 278)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 216)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 462)، (مادة: عقل).

وفي "صحيح مسلم" في بعض طرق هذا الحديث: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان، سقط ميتًا: بغرةٍ: عبدٍ أو أمة (¬1)، فدل على انفصال الجنين، فهو موافق لحديث عمر، والله أعلم. فلو ماتت الأم، ولم ينفصل جنين، لم يجب شيء؛ قالوا: لأن المقصود المعتبر نفس الانفصال، فلو لم يحصل الانفصال، فهل يشترط أن ينكشف، أو أن يتحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان: أصحهما: الثاني، وينبني على هذا ما إذا قُدَّتْ بنصفين، وشوهد الجنين في بطنها, ولم ينفصل، وما إذا خرج رأس الجنين بعدما ضرب وماتت الأم لذلك، ولم ينفصل، وبمقتضى هذا يحتاجون إلى تأويل هذه الرواية, وحملها على أنه انفصل، وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه، وقد ذكرناه عن "صحيح مسلم"، وقد علق الحكم في الحديث بلفظ الجنين. فالشافعية فسروه بما ظهر فيه صورة الآدمي؛ من يد أو إصبع أو غيرهما, ولو لم يظهر شيء من ذلك، وشهدت البينة بأن الصورة خفية يختص أهل الخبرة بمعرفتها، وجبت الغرة -أيضًا-، وإن قالت البينة: ليست فيها صورة خفية، ولكنه أصل الآدمي، ففيه اختلاف. والظاهر عند الشافعية: أنه لا تجب الغرة. وإن شكت البينة في كونه أصل الآدمي، لم تجب، بلا خلاف. وحظ هذا الحديث أن الحكم مرتب على اسم الجنين مما تخلق، فهو داخل فيه، وما كان دون ذلك، فلا يدخل تحته إلا من حيث الوضع اللغوي؛ فإن الجنين مأخوذ من الاجتنان، وهو الاختفاء، فإن خالفه العرف العام، فهو أولى منه، وإلا اعتبر الوضع. وقوله: "فقامَ حملُ بنُ النابغة الهذليُّ، فقالَ: يا رسولَ الله! كيف أغرمُ مَنْ ¬

_ (¬1) قلت: هو في "الصحيحين"، وقد تقدم تخريجه عندهما، برقم (6359)، عند البخاري، و (1681) عند مسلم.

لا أكلَ ولا شربَ ولا نطقَ ولا استهلَّ، فمثلُ ذلكَ يُطَلُّ؟ ": استهل: رفع الصوت بالصياح ونحوه. وأما يطل؛ فمعناه: يُهدر؛ أي: يُلغى، قال أهل اللغة: يقال: طُلَّ دمه -بضم الطاء-، وأطل؛ أي: أهدر، وأطله الحاكم، وطله: أهدره، وجوز بعضهم: طل دمه: بفتح الطاء في اللازم، وأباها الأكثرون. واختلف في ضبط الياء من يُطل، على وجهين: أحدهما: بالياء المثناة المضمومة وتشديد اللام؛ أي: لا يضمن. والثاني: بطل، بفتح الباء الموحدة، وتخفيف اللام، فعل ماض من البطلان، وهو بمعنى الأول، والأكثرون على ضبطه بالمثناة، وقال القاضي عياض: جمهور رواة "صحيح مسلم" ضبطوه بالموحدة (¬1). قوله: "فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّما هو من إخوانِ الكهانِ؛ من أجلِ سجعهِ الذي سجعَ": الكهَّان: جمع كاهن، وهو تخيل كالسحر، وكلاهما من الجِبْت، واله أعلم. والسَّجع في الكلام: الذي يأتي في أواخره على نسق واحد، وأصله: القصد المستوي على نسق واحد في كل شيء، وإنما ذم سجعه؛ لما فيه من التكلف لإبطال حق أو تحقيق باطل، أو لمجرد التكلف. ولا شك أن كل واحد مما ذكرنا مذموم تحقيق، وأما مطلق السجع الذي ليس كذلك، فليس بمذموم، بل ممدوح، خصوصًا إذا كان أدعى إلى قبول الحق أو فهمه أو حفظ لفظه؛ لوروده في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كلام السلف؛ حيث إنه لا يعارض به حق، ولا يتكلف؛ ولهذا شبه - صلى الله عليه وسلم - سجع حَمَلٍ بسجع الكهان؛ ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 167)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 88)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 178)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 178)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 405)، (مادة: بطل).

حيث إنهم كانوا يروَّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق للسامعين، فيستميلون إليها القلوب، ويستصغون إليها الأسماع، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: وقوع الجنايات والخصام فيها إلى الحكام، خصوصا من الضرائر والألزام. ومنها: وجوب الغرة بالجناية على الجنين وانفصاله ميتا. ومنها: أنه لا فرق في الغرة بين الذكر والأنثى، وأن مستحقها يجبر على قبولها من أي نوع كان الرقيق المخرَج فيها, لكن يشترط فيه السلامة من العيوب المبينة في الرد بالعيب في البيع، ويمكن الاستدلال على سلامتها من العيوب بمعنى لفظها، وهو الخيار، والمعيب ليس من الخيار. ومنها: أن في إطلاق الحديث: أنه لا يتقدر للغرة -عبدًا كان أو أمةً- قيمةٌ، وهو وجه للشافعية، وتقدم تقديرها على الأظهر عندهم، هو بنصف عشر دية الأب (¬1)، وهو خمس من الإبل. ومنها: أن الغرة إذا وجدت بصفاتها المعتبرة، لا يلزم المستحق قبولُ غيرها؛ لتعينها في الحديث دون شيء آخر، فلو عدمت، هل يلزمه خمس من الإبل أو القيمة؟ فيه خلاف، وليس في الحديث ما يدل على ذلك. ومنها: أن في إطلاق الحديث ما يقتضي عدم تخصيص سن من دون سن بالغرة، وأصحاب الشافعي قالوا: لا يجبر على قبول من لم يبلغ سبع سنين؛ لحاجته إلى التعهد وعدم استقلاله بنفسه. وجعل بعضهم: أن الغلام لا يؤخذ بعد خمس عشرة سنة، ولا الجارية بعد عشرين سنة، وجعل بعضهم الحد فيها عشرين سنة. والأظهر: أنهما يؤخذان، وإن جاوزا السنين، ما لم يضعفا ويعجزا عن ¬

_ (¬1) في "ح": "الأم".

الاستقلال بالهرم؛ لأن من أتى بما دل عليه الحديث ومسماه، فقد أتى بما وجب، ولزم قبوله، إلا أن يدل دليل على خلافه، كيف والحديث بالإطلاق ليس فيه تقييد بسن، ولا يقتضيه لفظه؟ ومنها: أن وجوب الغرة مقيد بالجناية على جنين الحرة دون الأمة، بخلاف حديث إملاص المرأة؛ فإنه ليس فيه التقييد بالحرة ولا الأمة؛ حيث إن المرأة تطلق عليهما, وليس تقييده بالحرة من عموم لفظ الحديث، بل هو حكم وارد في حكم جنين الحرة لا يدخل تحته جنين الأمة، فيؤخذ حكمه من محل آخر. وعند الشافعي -رحمه الله تعالى-: أن الواجب في الجناية على جنين الأمة: عشرُ قيمة الأم، ذكرًا كان أو أنثى، لكن الحديث وارد في جنين محكوم بإسلامه، غير متعرض فيه للحكم عليه باليهودية ولا النصرانية تبعًا، وبنى الفقهاء على ذلك القيمة في جنين الأمة تبعًا، وذلك مأخوذ من القياس لا من الحديث. ومنها: أن دية المرأة الميتة من ضربٍ شبهِ عمدٍ على عاقلتها؛ إجراء حكمها مجرى القتل غير العمد، لا من الحديث. ومنها: ذم الكهان وسجعهم والتشبه بهم. ومنها: بيان الأحكام في المنطق وغيره من الأعمال. ومنها: أن العقل والكلام بالذهن لا مدخل له في الأحكام الشرعية، بل هو مركزها وقالب لها ولفهمها. ومنها: أنه لا حكم إلا للشرع. ومنها: جواز السجع غير المتكلف، لا لإبطال حق، ولا لترويج باطل، وإباحة غير ذلك منه، والله أعلم. * * *

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن رَجُلاَ عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتاهُ، فَاخْتَصَمُوا إلَى النبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ؟ لَا دِيةَ لَكَ" (¬1). أما الرجل العاضُّ والمعضوض؟ ففي رواية في "صحيح مسلم": أن المعضوض هو: يعلى بن منية، أو أمية. وفي روايتين فيه: أنه أجير يعلى، لا يعلى (¬2)، وهو الصحيح المعروف عند الحفاظ. قال شيخنا أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى- الحافظ: ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين (¬3). وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كما يعضُّ الفحلُ"؛ فهو بالحاء المهملة؛ أي: الفحلُ من الإبل وغيرها. وفي الحديث: إشارة إلى تحريم العض. وفيه دليل: على أنه ترتب بسبب العض جناية بسقوط سن؛ لتخليص نفسه من عض العاض، فلا ضمان على المعضوض، وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة وغيرهما، وينبغي أن يكون ذلك بشرط ألَّا يمكنه تخليص يده بغير ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6497)، كتاب: الديات، باب: إذا عضّ رجلًا فوقعت ثناياه، ومسلم (1673)، كتاب: القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، إذا دفعه المصول عليه، فأتلف نفسه أو عضوه، لا ضمان عليه. (¬2) انظر: "صحيح مسلم" (3/ 1300 - 1301). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 160). قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (12/ 220): وتعقبه شيخنا -يعني: العراقي- في "شرح الترمذي" بأنه ليس في رواية مسلم ولا رواية غيره في الكتب الستة ولا غيرها أن يعلى هو المعضوض، لا صريحًا ولا إشارة، وقال شيخنا: فيتعين على هذا أن يعلى هو العاض، والله أعلم.

الحديث التاسع

من ضرب في شدقيه، أو فك في لحييه؛ ليرسلها، فلو أمكن تخليصها بأيسر ما يقدر عليه، فينبغي أنه يضمن. وخالف مالك في ذلك، وقال: يجب الضمان في السن مطلقا، والحديث صريح لمذهب الشافعي ومن قال بقوله. والتقييد بعدم الإمكان لغير هذا الطريق، مأخوذ من القواعد الكلية. فلو لم يمكن التخليص إلا بضرب عضو آخر، كبعج البطن، وعصر الأنثيين، فقد قيل: له ذلك، وقيل: ليس له قصد غير الفم. وإذا كان القياس وجوب الضمان، فقد يقال: إن النص ورد في صورة التلف بالنزع من اليد، فلا يقيس عليه غيره، لكن إذا دلت القواعد على اعتبار الإمكان في الضمان، وعدم الإمكان في غير الضمان، وفرضنا أنه لم يكن الدفع إلا بالقصد إلى غير الفم، قوي بعد هذه القاعدة، أن يسوى بين الفم وغيره. وفيه دليل على: الاختصام إلى الحكام عند وقوع الحوادث. وفيه: تشبيه فعل الآدمي بفعل الحيوان الذي لا يعقل؛ للتنفير عن مثل فعله. وفيه: أن المتعدي بالجناية، إذا ترتب عليه جناية بسبب جنايته توجب ضمانًا بمجردها: أنه لا يجب له ضمان تلك الجناية بدية ولا قيمة. * * * الحديث التاسع عَنْ الحَسَنِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ البَصْرِيّ قَالَ: حَدَّثنَا جُنْدُبٌ في هَذَا المَسْجِدِ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَديثًا، وما يُخْشَى أَنْ يكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُل بِهِ جُرْحٌ، فَجَرحَ، وَأَحَدَّ سِكِّينًا، فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَل-: عَبْدِي بَادَرَنِي بنفْسِهِ، فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنةَ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3276)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم (113)، =

أما الحسن: فكنيته: أبو سعيد بن أبي الحسن يسار البصري -بفتح الياء وكسرها-، نسبة إلى البصرة البلدة المعروفة، -بفتح الباء، وكسرها، وضمها- الأنصاريُّ، مولاهم، مولى زيد بن ثابت، وقيل: غيره. ويقال: إنه من سبي ميسان، وقع إلى المدينة، فاشترته الرُّبيع بنتُ النضر، عمةُ أنس بن مالك، فأعتقته، ويقال غيره. وهو تابعي من سادات المسلمين وأكابر التابعين، ومشاهير العلماء والزهاد والمذكرين ذوي الحكم والفصاحة والآراء السديدة والملاحة. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. ورأى طلحةَ بنَ عبيد الله وعائشةَ أم المؤمنين، ولم يصح له سماع منهما، وسمع خلقا من الصحابة والتابعين. قال هشام بن حسان: أدرك الحسن ثلاثين ومئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصح له سماع من بعضهم إلا القليل، بل رؤية، ومرسلاته صحيحة. قال أبو زرعة: كل شيء قال الحسن: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجدت له أصلًا ثابتا، ما كان ما خلا أربعة أحاديث. وقال ابن أبي حاتم: ولا يصح له السماع من جندب. وقد قال في هذا الحديث الثابت: حدثنا جندب في هذا المسجد، وهو صريح في السماع، فهو أولى من قول ابن أبي حاتم، قاله المصنف في "الكمال في أسماء الرجال"، والله أعلم. قال أيوب -يعني: السختياني-: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث سنين، فلا يسأله عن شيء؛ هيبة له. وقال أبو قتادة العدوي: ما رأيت رجلًا أشبه رأيًا بعمر بن الخطاب من الحسن بن أبي الحسن. ¬

_ = كتاب: الإيمان, باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وهذا لفظ البخاري.

وتوفي سنة عشر ومئة، وتوفي بعده ابن سيرين بمئة يوم. وروى له البخاري ومسلم، وأصحاب السنن (¬1). وأما جندب؛ فهو -بضم الدال وفتحها- ابنُ عبدِ الله بنِ سفيان البجليُّ العَلَقِيُّ -بفتح العين واللام-، وكنيته: أبو عبد الله، وكان بالكوفة، ثم صار إلى البصرة، وعلقة: حيٌّ من بَجيلة، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينسب تارة إلى أبيه، وتارة إلى جده. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثًا، اتفقا منها على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. وروى عنه جماعة من التابعين، مات سنة أربع وستين، وروى له أصحاب السنن والمساند (¬2). وقوله: "فَحَزَّ بِها يَدَهُ": فقطعها، أو بعضها؛ وتقدمت لغات السكين، وأنه يجوز فيها التذكير والتأنيث، ويقال في لغته: سكينة -بالهاء-، ويقال فيها: الدية -بضم الميم وفتحها، وكسرها-، ست لغات. وقوله: "فَما رَقَأَ الدَّمُ حتى ماتَ": رقأ، -بفتح الراء والقاف وبالهمز-: ارتفع وانقطع. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 156)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 286)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 40)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 122)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 131)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 233)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 165)، و"تهذيب الكمال" للمزي (6/ 95)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 563)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 71)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 231). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 35)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 221)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 510)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 56)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 256)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 566)، و "تهذيب الكمال" للمزي (5/ 137)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 174)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 509)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 101).

وقوله: "بادَرَني عبدي بنفسه": فيه إشكال أصولي، يتعلق بالآجال، ولا شك أن أجل كل شيء حينه ووقته، يقال: بلغ أجله؛ أي: تمَّ أمدُه، وجاء حينُهُ، وليس كل وقت أجلًا، ولا يموت أحد بأي سبب كان إلا بأجله، وقد علم الله أنه يموت بالسبب المذكور، وأما علمه، فلا يتغير. فعلى هذا: يبقى قوله: "بادرني عبدي بنفسه" محتاجًا إلى التأويل؛ فإنه قد يوهم أن الأجل كان متأخرًا عن ذلك الوقت، فقدم عليه. واعلم أن الكلام في هذا المحل على ضربين: أحدهما: ما يتعلق بعلم الله تعالى، وعلمُ الله لا يتصور أن يقع الأمر فيه على خلاف ما وقع به علمه -سبحانه وتعالى-. والثاني: ما يقع بحكمه الطلبي مما وقع به علمه -سبحانه وتعالى-، وهو ألَّا يكون وقوعه بسبب فعلي من العبد على خلاف حكمه الطلبي، فعلى هذا يتأول قوله: "بادرني عبدي بنفسه"، فيكون لله -عَزَّ وَجَلَّ - فيه علمان؛ علم سابق، وعلم حادث، فالمبادرة وقعت لعلمه الحادث، لا لعلمه السابق، وأن كل واحد منهما معلوم عنده -سبحانه وتعالى- والله أعلم. وقوله: "حرمتُ عليه الجنةَ": قد يستشكل ذلك؛ من حيث إن تحريم دخول الجنة يقتضي تحريم الأبد، فيتعلق به من يرى وعيد الأبد. وجوابه: أنه يُؤوَّل عند غيرهم: على تحريم الجنة بزمان مخصوص، كما يقال: لا يدخلها مع السابقين، أو بحالة مخصوصة، بأن يكون فعل ذلك مستحلا له، فيكفر به، فيكون مخلدًا بكفره، لا بقتله نفسه. وفي الحديث أحكام: منها: تحريم قتل النفس، سواء كانت نفس الإنسان أو غيره؛ فإن نفس الإنسان ليست ملكه؛ فيتصرفَ فيها على حسب ما يراه، بل على حسب الأمر والنهي الشرعيين. ومنها: بيان صفة التحديث بصيغته ومكانه، وحال المحدث في ضبطه وعدم

نسيانه، والمحدث عنه؛ فإن الحسن البصري ذكر الرواية بلفظ: "حدثنا"، و"في مسجد البصرة"، وعدم نسيانه لما رواه، وعدم كذب المحدث عنه. ومنها: التحديث عن الأمم الماضية؛ كاليهود والنصارى وغيرهما؛ للاعتبار وتقرير الأحكام. ومنها: الصبر على البلاء من المؤلمات والجراحات، وعدم الجزع عليها، بل من ابتلي بشيء منها، يلزمه الصبر والرضا، وعدم الجزع عليها، وسؤال الله تعالى العافية، والحمد له في البأساء والضراء، والشدة والرخاء، فسبحان من لا يُحمد على المكروه سواه، ولا يُعرف في جميع الحالات إلا هو. ومنها: تحريم الأسباب المؤدية إلى إزهاق روح الإنسان. ومنها: رحمة الله تعالى لخلقه؛ حيث حرم قتل النفوس وأسبابه. ومنها: الوقوف عند حدوده؛ بحيث لا يقدم أمرًا قبل وقته المحدود في علمه، بتعاطي نفسه وجزعها، والله أعلم. * * *

كتاب الحدود

كتاب الحدود الحديث الأول عَنْ أنسٍ بْنِ مَالِكٍ -رَضي اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ من عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنةَ فَاجتَوَوا المَدِينةَ، فأمَرَ لَهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ، وَأمرَهُم أَنْ يَشرَبُوا من أَبْوَالِهَا وَألبَانِهَا، فَانطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَاستَاقوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ في أَوَّلِ النهَارِ، فَبَعَثَ في آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ، جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ أَيدِيهِم وَأَرْجُلِهِم، وسُمرَت أَعينهم، وَتُرِكُوا في الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، قَالَ أَبُو قِلابة: فَهَولاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ (¬1). اعلم أن قصة العرنيين كانت في شوال سنة ست من الهجرة. أما أبو قِلابة؛ فاسمه: عبد الله بن زيد الجرمي، تابعيٌّ بصريٌّ ثقة، روى له البخاري ومسلم، وقلابة: بقاف مكسورة ولام ألف مفتوحة وبعدها باء موحدة وتاء تأنيث (¬2). وأما عُكْل؛ فهي بضم العين المهملة وسكون الكاف وبعدها لام: قبيلة نسبت إلى عكل: امرأةٍ حضنت ولدَ عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناة بن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (231)، كتاب: الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، ومسلم (1671)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، وهذا لفظ البخاري. (¬2) تقدمت ترجمته.

أد بن طابخة، فغلبت عليهم، ونسبوا إليها (¬1). وأما عرينة؛ فهي بضم العين المهملة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها نون مفتوحة، وتاء تأنيث: بطنٌ من بجيلة (¬2). "واجْتَووا المدينةَ"؛ بالجيم والمثناة فوق؛ ومعناه: استوخموها كما جاء مفسرًا في رواية أخرى في الصحيح، واجتوى مشتق من الجوى، وهو داء الجوف إذا تطاول، فكأنهم كرهوها واستوبؤُوها؛ للمرض الذي أصابهم بها. ومنهم من فرق بين اجتووا واستوبؤوا، فجعل اجتووا: كرهوا الموضع وإن وافق، واستوبؤوا: إذا لم يوافقهم، وإن اجتووه (¬3). وأما اللِّقاح؛ فهي ذوات الألبان من الإبل، واحدها لِقْحة، بكسر اللام وفتحها، وقيل: إنما يقال: لقحة بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة بقرب ولادتها، ثم هي بعد ذلك لَبون. وفي "صحيح مسلم" في بعض طرق هذا الحديث: أنها إبل الصدقة (¬4)، وفي "الصحيحين": أنها لقاح النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وكلاهما صحيح، فكان بعضها للصدقة، وبعضها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "فلما صَحُّوا، قتلوا راعيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أما العرنيون الذين قتلوا الراعي، فكان عددهم ثمانية، رويناه في "مسند أبي يعلى الموصلي، بإسنادنا ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (4/ 223)، و"الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 40)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 152). (¬2) انظر: "الأنساب" للسمعاني (4/ 182). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 165). (¬4) رواه مسلم (1671)، (3/ 1296)، كتاب. القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، والبخاري أيضًا (6417)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، في أوله. (¬5) رواه البخاري (6419)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة، باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا، بلفظ: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... "، ولم أره في "صحيح مسلم" مصرّحًا بنسبة الإبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.

إليه (¬1)، وهم ناس من بني سليم وبني عكل وعرينة كما في الحديث. وأما الراعي؛ فاسمه: يَسار، وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان نوبيًّا، وقيل: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصابه في غزوة محارب وبني ثعلبة، فجعله في لِقاح له ترعى ناحية الحمى (¬2). وكانت قصة العرنيين سنة ست من الهجرة. وقوله: "واستاقوا النَّعَمَ": النعم -بالنون والعين المهملة المفتوحتين-: الإبل خاصة، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وقيل: هما لفظان بمعنى واحد يطلق على الجميع. وقوله: "فأمرَ بقطعِ أيديهم وأرجلِهم، وسُمِرَت أعينُهم"؟ سُمرت -بالميم المخففة، وقيدها بعضهم بالتشديد، والأول أوجه- يعني: كحلت بمسامير محماة. وروي في "الصحيح": وسُمِل -باللام مخففة الميم-، فقيل: هما بمعنى واحد، والراء تبدل من اللام، وقيل: باللام: فقأها بشوك أو غيره، وأذهب ما فيها، وقيل: بحديدة محماة تدنى من العين حتى يذهب ضوءها. وعلى هذا يتفق مع رواية من قال بالراء، وقد تكون هذه الحديدة مسمارًا، وأيضًا -فقد يكون فقأها بالمسمار، وسملها؛ به كما يفعل ذلك بالشوك (¬3). وإنما فعل ذلك جميعه بهم؛ لأنهم فعلوا بالرعاة كذلك، كما ثبت في "صحيح مسلم" في بعض طرق الحديث. ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (2816). قلت: وعجيب أن يعزو الشارح هذا إلى أبي يعلى، وهو مصرح به في "صحيح البخاري" و"مسلم"؛ فقد رواه البخاري (2855)، كتاب: الجهاد والسير، باب: هل للأسير أن يقتل ويخدع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة؟ ومسلم (1671)، (3/ 1296)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين. (¬2) انظر: في "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 283). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 220)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 403)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 155).

ورواه -أيضًا- ابن إسحاق وموسى بن عقبة، وأهل السير، والترمذي، فيكون قصاصًا. وقال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود وآية المحاربة والنهي عن المُثلة، فهو منسوخ، وقيل: ليس بمنسوخ. وفي قصة العرنيين نزلت آية المحاربة، وهي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. وقال بعضهم: النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام. وقوله: "وتُرِكوا في الحرّة"؛ الحرةُ: كل أرض ذات حجارة سود بين جبلين. وأما قوله: "يَستسقون فلا يُسْقوْن"؛ فهو إخبار عن الواقع، لا يقتضي نهيًا عن سقيهم ولا غيره. وقد نقل القاضي عياض -رحمه الله تعالى- إجماعَ المسلمين على أن: من وجب عليه القتل، فاستسقى الماء: أنه لا يمنع منه؛ لئلا يجتمع عليه عذابان. وقد روي في بعض طرق هذا الحديث الصحيح في "سنن أبي داود والنسائي" من رواية ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنهم قتلوا الرعاة، وارتدوا عن الإِسلام (¬1)، وحينئذ لا يبقى لهم حرمة في سقي الماء ولا غيره. وقد اتفق أصحاب الشافعي -رحمهم الله أجمعين- على أنه لا يجوز لمن معه ماء يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العطش، ويتيمم، ولو كان ذميًّا أو بهيمة، وجب سقيه، ولم يجز الوضوء به حينئذ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4369)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في المحاربة، والنسائي (4041)، كتاب: تحريم الدم، باب: تأويل قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]. قلت: وقد صرّح في رواية مسلم، عن أنس (1671)، (3/ 1296): أنهم قتلوا الرعاة، وارتدوا عن الإِسلام.

وفي هذا الحديث أحكام: منها: قدوم القبائل والغرباء على العلماء والكبار. ومنها: نظر الإِمام في مصالح الوافدين عليه، وأمره لهم بما يناسب حالهم في إنزالهم مكانا، وإصلاحهم أبدانا. ومنها: دلالة لمالك وأحمد في أن بولَ ما يؤكل وروثَه طاهران، وأجاب المخالفون من الشافعية وغيرهم القائلون بنجاستها: بأن شربهم الأبوال كان للتداوي، وهو جائز بكل النجاسات، سوى شربِ الخمر والمسكرات. واعترض عليهم بأنها لو كانت نجسة محرمة للشرب، ما جاز التداوي بها؛ لأن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. ومنها: ثبوت أحكام المحاربة في الصحراء؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث في طلب العرنيين لما بلغه فعلهم بالرعاء. واختلف العلماء في ثبوت أحكامها في الأمصار: فقال مالك والشافعي: تثبت، وقال أبو حنيفة: لا تثبت. ومنها: شرعية المماثلة في القصاص، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة في غير القصاص مع شرعية عدم المماثلة فيه استحبابًا. ومنها: أن فعل الإِمام بالمحاربين وأهل الفساد ما يفعله في المثلة والقطع وسمر الأعين ونحو ذلك، ليس هو من عدم الرحمة؛ لما فيه من كف العادية عن الخلق، فيكون فعله حينئذ رحمة بهذا الاعتبار، ولا شك أن من صفة الأئمة الرحمة برعاياهم، فإذا فعلوا مثل ذلك، فلا يظن أنه مخالف لوصف الرحمة الذي هو مشروط في حقهم على الرعايا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن لي على قريش حَقًّا، ولقريشٍ عليكم حَقًّا، ما إذا حكموا فعدلوا، وائتمنوا فأدوا، واستُرْحِموا فرحموا" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 270)، وعبد الرزاق في "المصنف" (19902)، وابن =

الحديث الثاني

ومنها: عقوبة المحاربين، وهو موافق للآية الكريمة. واختلف العلماء في المراد من الآية الكريمة في القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف: هل هو للتخيير أو للتقسيم؟ وهو راجع إلى الاختلاف في "أو"، فقال مالك: هي على التخيير، فيتخير الإِمام بين الأمور الثلاثة المذكورة، إلا أن يكون المحارب قد قَتل، فيتحتم قتله، وقال أبو حنيفة، وأبو مصعب المالكي: الإمام بالخيار، وإن قَتلوا، وقال بعض الحنفية: هذا النقل عن بعض الحنفية غلط؛ لأن مذهبه فيمن أخذ المال، وقتل: أن الإِمام بالخيار، إن شاء قطعه وقتله أو صلبه، وإن شاء قتله ابتداء أو صلبه. وقال الشافعي وآخرون: هي على التقسيم، فإن قتلوا, ولم يأخذوا المال، قُتلوا، وإن قتلوا وأخذوا، قُتلوا وصُلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبيل، ولم يأخذوا شيئًا، ولم يقتلوا، طلبوا حتى يُعَزَّروا، وهو المراد بالنفي عند الشافعية. وقالوا: لأن ضرر هذه الأفعال مختلف، فكانت عقوباتها مختلفة، فلم تكن للتخيير، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن عُتبَةَ بْنِ مَسْعُودِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدِ الجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أنهُمَا قَالَا: إن رَجُلًا مِنَ الأعْرَابِ أتى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْشُدُكَ اللهَ، إلا قَضَيْتَ بينَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائذنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "قُلْ"، قَالَ: إن ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وإنِّي أخْبِرتُ أَن عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةِ، فَسَأَلْتُ ¬

_ = حبان في "صحيحه" (4581)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2988)، وفي "الدعاء" (2123)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

أَهْلَ العِلْمِ فَأَخْبَرونِي: أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِئة وَتَغرِيْبُ عَامٍ، وأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ: الوَليدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئه وَتَغرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَم- إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَت، فَارْجُمْهَا"، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَت، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرُجِمَت (¬1). العسيف: الأجير. أما عُبيد الله بنُ عبد الله بنِ عتبةَ بنِ مسعود؛ فكنيته: أبو عبد الله، الفقيه الأعمى، هذليٌّ مدنيٌّ تابعيٌّ، أحد فقهاء المدينة السبعة، سمع عبدَ الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبا سعيد الخدري، وأبا واقد الليثي، وزيدَ بن خالد الجهني، والنعمان بن بشير، وعائشةَ أم المؤمنين، وفاطمةَ بنت قيس، وأم قيس بنتَ محصنٍ، وروى عن أبي طلح، وسهيل بن حنيف. وروى عنه جماعة من التابعين، اتفقوا على توثيقه وإمامته وجلالته وأمانته وكثرة علمه وفقهه وحديثه وصلاحه، وكان معلمَ عمرَ بنِ عبد العزيز. قال الزهري: ما جالست أحدًا من العلماء، إلا وأرى أني قد أتيت على ما عنده، ما خلا عبيدَ الله بنَ عبد الله بنِ عتبة، فإني لم آته إلا وجدت عنده علمًا طريفًا. وروى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند. مات سنة تسعٍ، وقيل: سنة ثمان، وقيل: خمس أو أربع وتسعين، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2575)، كتاب: الشروط، باب: الشروط التي لا تحل في الحدود، ومسلم (1697)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى. (¬2) وانظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 250)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 385)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 319)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 63)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 188)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 290)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 73)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 475)، و"تذكرة=

وأما أبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني؛ فتقدم ذكرهما. وأنيس هذا صحابي مشهور، وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، معدود في الشاميين، وقال ابن عبد البر: أنيس بن مرثد، والأول: هو الصحيح المشهور (¬1)، والمرأة شامية -أيضًا-، والله أعلم. وأما الرجلُ الأعرابيُّ وابنه، والمرأة المزنيُّ بها وزوجُها؛ فلا أعرف لهم ذكرًا في الأسماء المبهمات. وقوله: "أَنْشُدُكَ اللهَ إلَّا قضيتَ بيننا بكتاب الله"؛ معنى أنشدك: أسألك رافعًا نَشيدي، وهو صوتي، وأنشدك: بفتح الهمزة وضم الشين. وقوله: "إِلا قضيتَ بيننا بكتاب الله"؛ ينطلق ذلك على القرآن خاصة، وقد ينطلق كتاب الله على حكم الله مطلقًا، والأولى حمله على ذلك؛ لأنه ذكر في الحديث الحكم بالتغريب، وليس هو منصوصًا في القرآن إلا بواسطة أمر الله -عزَّ وجلَّ- باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته. وقوله: "إن ابني كان عَسيفًا على هذا"، هو بالعين والسين المهملتين؛ أي: أجيرًا، وجمعه عُسفاء، كأجير وأجراء، وفقيه وفقهاء. وقوله: "فافتديتُ منهُ"؛ أي: من الرجم. وقوله: "لأقضينَّ بينكما بكتاب الله"؛ يحتمل أن المراد: بحكم الله، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء: 15]. وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - السبيل بالرجم في حق المحصن. وقيل: هو إشارة إلى آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)، وهي مما نسخت تلاوته وبقي حكمه، فعلى هذا، يكون الجلد قد أخذه من قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2]. ¬

_ = الحفاظ" له أيضًا (1/ 78)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 22). (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 114)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 138).

وقيل: المراد: نقضُ صلحهما الباطلِ على الغنم والوليدة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الوليدةُ والغنمُ رَدٌّ"؛ أي: مردودة، ومعناه: يجب ردها إليك. وأطلق المصدر على اسم المفعول. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وعلى ابنِك جلدُ مئةٍ وتغرببُ عام"؛ هذا متضمن: أن ابنه كان بِكرًا، وعلى أن ابنه اعترف بالزنا؛ فإن إقرار الأب عليه لا يقبل إلا أن يكون هذا من باب الفتوى، فيكون معناه: إن كان ابنك زنى وهو بكر، فحده ذلك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغدُ يا أُنَيْسُ على امرأةِ هذا، فإنِ اعترفت، فارجمها، فغدا عليها، فاعترفتْ، فأَمرَ بها فَرُجمت"؛ معناه عند العلماء: إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه؛ لتعلم أن لها حد القذف، ويجب عليها حد الزنا، وهو الرجم؛ لأنها محصنة. فذهب أنيس، واعترفت بالزنا، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها، فرجمت، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن ظاهره أنه بعث لطلب إقامة حد الزنا، وهو غير مراد؛ لأنه لا يحتاط له بالتجسس والتنقير عنه، بل لو أقر به مقر، استحب أن يلقن الرجوع عنه، فتعين التأويل، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: استحباب صبر الحاكم والمفتي ونحوهما على جفاة الناس من الخصوم والمستفتين، إذا قالوا: احكم بيننا بالحق، وأَفتنا بالحق. ومنها: حسن المخاطبة للحكام والمفتين؛ حيث وصف الخصم الآخر بأنه أفقه من الأول؛ لأنه أتى بالقضية على وجهها، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكلام؛ حذرًا من وقوعه في النهي في قوله -عزَّ وجلَّ-: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - صلى الله عليه وسلم -[الحجرات: 1]؛ بخلاف خطاب الأول. ومنها: جواز استفتاء غير النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنه؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ذلك عليه لما قال: فسألت أهل العلم. ومنها: جواز الاستفتاء المفضول مع وجود أفضل منه. ومنها: أن الصلح الفاسد يرد.

ومنها: أن أخذ المال فيه باطل، يجب رده. ومنها: أن الحدود لا تقبل الفداء. ومنها: شرعية التغريب مع الجلد، والحنفية يخالفون فيه؛ بناء على أن التغريب ليس مذكورًا في القرآن، وأن الزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز عندهم، وغيرهم يخالفهم في تلك المقدمة، وهي أن الزيادة على النص نسخ، والمسألة مقررة في علم الأصول، وقد أجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مئة، ورجم المحصن، وهو الثيب، ولم يخالف فيه أحد من أهل القبلة، إلا الخوارج وبعض المعتزلة، والنظام وأصحابه، فإنهم لم يقولوا بالرجم. واختلف العلماء في جلد الثيب مع الرجم: فقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه-، والحسن البصري، وابن راهويه، وداود، وأهل الظاهر، وبعض الشافعية: يجلد، ثم يرجم، وقال جمهور العلماء: الواجب الرجم. ومن أهل الحديث من فصل فقال: يُجمع بينهما إن كان شيخًا ثيبًا، فإن كان شابًا ثيبًا، اقتصر على الرجم، وهو مذهب باطل مردود لا أصل له بالأحاديث الصحيحة، ومنها: قصة ماعز والغامدية، وحديث الكتاب: "واغد يا أنيس"، وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ؛ فإنه كان في أول الإسلام، والله أعلم. ومنها: الرجوع إلى العلماء عند اشتباه الأحكام والشك فيها. ومنها: استصحاب الحال والحكم بالأصل في استمرار الأحكام الثابتة، وإن كان يمكن زوالها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسخ. ومنها: أن المتعاوضين بالعقد الفاسد إذا أذن كل واحد للآخر في التصرف [في] ملكه لم ينفذ ذلك؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الوليدة والغنم مردودًا. ومنها: أن ما يوجب الحد والتعزير من الألفاظ في محل الاستفتاء يسامح به، لكنه إذا تضمن وجوب حد على الغير، وجب إعلامه به؛ ليقر، أو يطلب إقامة الحد على من تلفظ بما يوجبه، أو يعفو عنه.

الحديث الثالث

ومنها: عدم الجمع بين الجلد والرجم، وتصريح بحكم الرجم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعرِّفْ أنيسًا عدم الجمع بين الجلد والرجم، بل أمره بالرجم بعد الاعتراف بالزنا. ومنها: استنابة الإمام في إقامة الحدود. ومنها: الاكتفاء بالاعتراف بما يوجب الحد مرة واحدة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - رتب رجمها على مجرد اعترافها، ولم يقيده بعدد. ومنها: أن الحاكم إذا قُذف إنسان معين في مجلسه، وجب عليه أن يبعث إليه ليعرفه بحقه من القذف، وقد اختلف أصحاب الشافعي -رحمه الله تعالى- في وجوب ذلك على الحاكم على وجهين؛ والأصح عندهم: الوجوب. ومنها: أن المحصَن يُرجم ولا يُجلد مع الرجم. ومنها: جواز إيجار الآدمي نفسَه واستئجاره. ومنها: الرجوع إلى كتاب الله -عزَّ وجلَّ- في الأحكام، إما بالنص، وإما بالاعتبار والاستنباط، ونحو ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأقضينَّ بينكما بكتاب الله". ومنها: القسم على الأمر بفعله تفخيمًا له وتعظيمًا، وقد كثر في الأحاديث قسمهُ - صلى الله عليه وسلم - بالذي نفسي بيده؛ تنبيهًا على تعظيم الرب -سبحانه وتعالى-، وأن العبد متصرِّف فيه، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، والله أعلم. الحديث الثالث عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الأَمَةِ إذَا زنَتْ وَلَمْ تُحْصِنْ، قَالَ: "إِنْ زنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِظَفِيرٍ". قَالَ ابنُ شِهَابٍ: ما أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثة أَو الرَّابِعة (¬1)، وَالظَّفِيرُ: الحَبْلُ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6447)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر، باب: إذا زنت الأمة، ومسلم =

تقدم الكلام على عبيد الله في الحديث قبله. الظفير: فعيل بمعنى مفعول. والحكمة في بيعها وكونه بثمن حقير: تنفيرُها وكسرُ نفسها عن الفاحشة، والتنفير عن مثل فعلها بعدم مخالطتها، والله أعلم. وقوله: "ولم تحصن"، ذكر الطحاوي: أن لفظة "ولم تحصن"، تفرد بها مالك، إشارة إلى تضعيفها، وأنكر ذلك الحفاظ عليه، وقالوا: بل روى هذه اللفظة: ابن عيينة، ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب، كما قال مالك: تحصل صحة هذه اللفظة، وليس في ثبوتها حكم مخالف؛ فإن الأمة تجلد على النصف من الحرة، سواء كانت الأمة محصنة بالتزويج، أم لا (¬1). لكن فيه بيان من لم يحصن، وقول الله -عزَّ وجلَّ-: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فيه بيان من أحصنت، فحصل من الآية الكريمة. والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغيرَ المحصنة تُجلد، وهو معنى ما ثبت في "صحيح مسلم": أن عليا - رضي الله عنه - خطب، فقال: يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحدَّ؛ من أحصنَ منهم ومن لم يحصن (¬2). فإن قيل: فما الحكمة في التقييد في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}، مع أن عليها نصف جلد الحرة، سواء كانت الأمة محصنة أم لا؟ فالجواب: أن الآية نبهت إلى أن الأمة المزوجة، لا يجب عليها إلا نصف جلد الحرة؛ لأنه الذي يتنصَّف، وأما الرجم فلا يتنصَّف، ولا هو مراد في الآية؛ لإجماعهم على عدم رجمها، وإن كانت متزوجة، وإنما الواجب نصفُ جلد الحرة؛ لهذا الحديث وغيره من الأحاديث المطلقة: "إذا زنت أمةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها"، وهو يتناول المزوجة وغيرها. ¬

_ = (1703)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا. (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 135)، و"التمهيد" لابن عبد البر (9/ 94)، وما بعدها، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 213)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 162). (¬2) رواه مسلم (1705)، كتاب: الحدود، باب: تأخير الحد على النفساء.

وبوجوب نصف الجلد عليها، قاله مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وجماهير علماء الأمة. وقال جماعة من علماء السلف: لا حد على من لم تكن مزوجة من النساء والعبيد، منهم: ابن عباس، وطاوس، وعطاء، وابن جريج، وأبو عبيد، وهو مفهوم الكتاب العزيز، وهو قوله -عزَّ وجلَّ-: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} الآية. لكن مذهب الجمهور راجح؛ حيث إن هذا الحديث نص في إيجاب الحد على من تحصن، وهو مقدم على المفهوم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أن الزنا عيب في الرقيق، يرد به؛ ولذلك حط من قيمته، في الأمر ببيعه ولو بظفير. قال أصحاب الشافعي: لو زنى مرة واحدة، ثم تاب وصار رجلًا صالحًا، وباعه، ثبت الرد به. ولا أعلم فيه خلافًا عندهم. ومنها: أن الزاني إذا حُد، ثم زنى ثانيًا، يلزمه حد آخر، وهكذا كلما زنى وحُد ثم زنى يلزمه حد آخر. فلو زنى مرات، ولم يحُد لواحدة منهن، حُدَّ حدًّا واحدًا للجميع. ومنها: ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي وفراقهم. ومنها: الأمر ببيع الأمة الزانية، وفي معناها العبد الزاني بعد المرة الثالثة، لكن اختلف العلماء فيه، هل هو أمر ندب أو إيجاب؟ ذهب الشافعي، والجمهور إلى الندب، وذهب داود، وأهل الظاهر إلى الوجوب. ومنها: الأمر بحدها في كل مرة، وهو للوجوب. فإن قيل: كيف يكون الأمر في الحد للوجوب، والأمر بالبيع للندب عند الجمهور، والأصل في المعطوف على الشيء بـ (ثم) أو (بالواو) أن يعطى حكمه وصفته ما لم يدل دليل على مخالفته فيه؟؛!

قلنا: قد عطف غير المندوب على المندوب في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وفي قوله -عزَّ وجلَّ-: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، فالإيتاء في الآيتين واجب، وهو معطوف على غير واجب من الأكل والكتابة، وإذا جاز ذلك، جاز خلافه؛ وهو عطف غير الواجب على الوجوب؛ حيث إن الوجوب أشد وأقوى، فليكن عطف الضعيف، وهو الندب، على الأقوى، وهو الوجوب، أولى، وهذا من باب المناسبات، لا من باب الأدلة الظاهرات. ومنها: جواز بيع الشيء الثمين بثمن حقير، إذا كان البائع عالمًا به، وهو مجمع عليه. فلو كان جاهلًا به، فكذلك عند الشافعية وجمهور العلماء، ولأصحاب مالك فيه خلاف. واعلم أنه يجب على البائع إذا علم بالمبيع عيبًا خِلقيًّا أو وصفيًّا أن يبينه للمشتري، فيجب على بائع الجارية أو العبد الزانيين أن يبين زناهما للمشتري. وقد يقال: كيف يكره شيئًا ويحبه أو يرتضيه لأخيه المسلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه" (¬1)؟ والجواب: أن الحرج في ذلك يزول بإعلام البائع للمشتري بزناها، فلعلها تستعفُّ عند المشتري؛ بأن يعفها بنفسه، أو يصونها؛ لهيبته، أو بالإحسان إليها والتوسعة عليها، أو يزوجها، أو غير ذلك. ومنها: أنه لا يجب عليها تعزير ولا تأديب مع الحد؛ لأن - صلى الله عليه وسلم - أمر بالجلد دون غيره، فدل على عدم وجوبه وشرعيته. ومنها: أن السيد يقيم الحد على عبده أو أمته؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - للسادات بفعله بعد ما يوجبه؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زنتْ أمةُ أحدِكم فتبيَّنَ زناها، فليجلدْها الحدَّ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (13)، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (45)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

الحديث الرابع

ولا يُثَرِّبْ عليها"، رواه مسلم في "صحيحه" (¬1)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكتاب "إن زنت فاجلدوها". وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة في طائفة: ليس له ذلك في هذه الأحاديث، وغيرُها يصرح بخلاف قوله. ومنها: أنه لا فرق في إيجاب الحد بين أن تكون الأمة أو العبد مزوجين، أم لا؛ لإطلاقه - صلى الله عليه وسلم - بجلدها من غير تفصيل. وتقدم الكلام عليه قبل ذكر الأحكام في هذا الحديث، والله أعلم. ومنها: أن من ارتكب معصية من زِنا وغيره، أن يقام عليه الحد إن كان في معصيته حد، وألَّا يفارق ببيع وهجران ونحوهما إلا بعد تكرار ذلك منه ثلاث مرات، أو مرتين، والله أعلم. الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمينَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فنَادَاهُ: يَا رَسُوِلَ اللهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إني زنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَبِكَ جُنُونٌ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ"، قالَ ابنُ شِهاب فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمعَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1703)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، والبخاري أيضًا (2119)، كتاب: البيوع، باب: بيع المدبّر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كنتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ، هَرَبَ، فَأَدْرَكنُاهُ بِالحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ (¬1). الرجل هو: ماعز بن مالك. وروى قصته: جابرُ بن سمرة، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي -رضي الله عنهم-. تقدم الكلام على كل رجاله من الصحابة والتابعين، خلا ماعز بن مالك؛ وجابر بن سمرة، وأبا سلمة بن عبد الرحمن. أما ماعز بن مالك، فهو أسلمي معدود في المدنيين، كتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا بإسلام قومه، وهو الذي اعترف بالزنا على نفسه، وكان محصنًا، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تائبًا منيبًا، فرجم -رحمه الله-. وروى عنه ابنه عبد الله بن ماعز حديثًا واحدًا (¬2). وأما جابر بن سمرة؛ فكنيته: أبو عبد الله، ويقال: أبو خالد، واختلف في اسم جده، فقيل: جنادة بن جندب، وقيل: عمرو بن جندب بن حجير بن رباب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر السوائي، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، واسمها خلدة بنت أبي وقاص. ونزل جابر بن سمرة الكوفة، وابتنى بها دارًا في بني سواءة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وسبعة وأربعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6439)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر، باب: سؤال الإمام المقر: هل أحصنت؟، ومسلم (1691)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وهذا لفظ مسلم. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 324)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1345)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 6)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 383)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 705)، و"تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 384).

روى عنه جماعة من التابعين، ومات سنة ست وستين أيام المختار، وروى له أصحاب السنن والمساند (¬1). ومن الأحاديث التي رواها في غير "الصحيحين" قوله: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مقمرة، وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فَلَهُوَ في عيني أحسن من القمر (¬2)، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المستشارُ مُؤْتَمَنٌ" (¬3). وأما أبو سلمة بن عبد الرحمن؛ فاسمه: عبد الله، ويقال: إسماعيل، ويقال: لا يعرف له اسم، وهو تابعي قرشي زهري مدني، متفق على توثيقه وأمانته وفقهه وكثرة حديثه. وروى عن جماعة من الصحابة، منهم؛ أبوه عبدُ الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت. وقيل: سمع حسان بن ثابت، وسمع جماعة من الصحابة غيره، وسمع خلقًا من التابعين. وروى عنه جماعة منهم، ومات بالمدينة سنة أربع وتسعين، في خلافة الوليد، ابنَ اثنتين وسبعين سنة. وحديثه مخرج في "الصحيحين"وغيرهما. وكان رجلًا صَبيحًا، كأن وجهه دينار هرقليٌّ -رحمه الله تعالى- (¬4). قوله: "حتى ثنَى ذلكَ عليه أربعَ مرات"، هو بتخفيف النون؛ أي: كرره أربع مرات. ¬

_ (¬1) قلت: قد تقدمت ترجمة جابر بن سمرة - رضي الله عنه - في الجزء الأول من هذا الكتاب، فلا حاجة لإعادته ثانية، ولعلّه قد فات المؤلف ذكره له، والعصمة لله وحده. (¬2) رواه الترمذي (2811)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الرخصة في لبس الحمرة للرجال، وقال: حسن غريب. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (1879)، وفي "المعجم الأوسط" (5879)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 253). وفي الباب: عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-. (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 155)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 290)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 370)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 287)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 63)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 127).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبِكَ جُنونٌ؟ "؛ إنما قاله تحقيقًا لحالة تبيين العقل؛ فإن الإنسان -غالبًا-، لا يصر على الإقرار بما يقتضي قتله من غير سؤال، مع أن له طريقًا إلى سقوط الإثم بالتوبة. وفي رواية في "صحيح مسلم": أنه سأل قومه عنه، فقالوا: ما نعلم به بأسًا، وكل ذلك مبالغة في تحقيق حاله، وفي صيانة دم المسلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهل أَحصنتَ؟ "؛ أي: تزوجت. وإنما سأله عن ذلك؛ حيث إن حد الزاني متردد بين الجلد والرجم، ولا يمكن الإقدام عليهما إلا بعد تبين سببه. وقد يسأل هنا سؤال فيقال: إن إقرار المجنون غير معتبر، فلو كان مجنونًا لم يفد قوله: إنه ليس به جنون. فأوجه الحكمة في سؤاله عن سؤاله، لو لم يَرِدْ سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيره عنه؛ فإن سؤال غيره عنه مؤثر كما ذكرناه عن "صحيح مسلم". والحكمة في ذلك: أنه يتبين بسؤاله - صلى الله عليه وسلم - له ثبوت عقله ودينه، فينبني الأمر عليه، لا على مجرد إقراره بعدم الجنون. وقوله: "فلما أَذْلقَتْهُ الحِجارة"؛ هو بالذال المعجمة وبالقاف؛ أي: أصابته بحدها فأوجعته، فبلغ به الجهد، وأوجعته وأوهنته. وفي الحديث أحكام: منها: جواز الإقرار بالزنا عند الحكام؛ لإقامة الحد عليه. ومنها: أن الحدود إذا وصلت إلى الإمام، إما بإقرار المقر على سببها، وإما ببينة، لا يتركها، بل يقيمها، إما بنفسه، أو بنائبه. ومنها: جواز الإقرار والاعتراف بالحقوق عند الحكام في المساجد، بخلاف الخصومات ورفع الأصوات فيها وارتكاب المحذورات، وشغل المصلين وأهل الطاعات عما هم بصدده فيها؛ فإن ذلك محرم، ولا يجوز فعله فيها، والكتاب العزيز والسنة النبوية ناطقان بمنع ذلك، والتحذير منه عمومًا وخصوصًا. ومن

علم ما يجب لله -عزَّ وجلَّ- من التعظيم والخشية، عرف عظمة ما يضاف إليه -سبحانه وتعالى- من بيت أو علم أو اتصاف وغير ذلك. والشيء قد يضاف إلى بعض أهل الدنيا الحسيبين، فيعظم عادة مجردة عن مقصود شرعي، فما ظنك بما أضيف إليه -سبحانه وتعالى- إضافة خاصة تشريفية للعباد مجردة؟!. فينبغي للفقيه أن ينصف من نفسه، ويعرض عن حظها ومغالبتها؛ بعدم اتباع المباحث اللفظية والبقابق الكلامية المذمومة عند علماء الإسلام والفاهمين عن الله تعالى، ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنام، إلى الحق وأهله، ولا يخرجه حظ النفس عن سلوك سبله إلى اتباع بطله. ومنها: نداء الكبار من العلماء وأهل الدين بأعلى نعوتهم التي شرفهم الله تعالى بها؛ فإن الرجل نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! وهي أعظم نعوته - صلى الله عليه وسلم -، وأقره - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وهي أحد ركني الإسلام، فإن ركنيه: الإقرارُ بالوحدانية له -سبحانه وتعالى-، وبرسالته - صلى الله عليه وسلم -، وحكمُ ورَّاثه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الدين والعلم في تعظيمهم وتوقيرهم، وحكمه على قدر مرتبتهم من ذلك. ومنها: إعراض الإمام عمن أقر بما يوجب عليه حدًّا؛ ليرجع عن إقراره، أو يثبت على إقراره. ومنها: وجوب استثبات الحاكم الواقعة وشروطها الوجوبية أو الحكمية؛ ليرتب الحكم عليها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أولًا عن الجنون، ثم عن الإحصان اللذين هما ركنا وجوب الحد. ومنها: أن إقرار المجنون باطل، وأن الحدود لا تجب عليه، وأنه يحتاط للدماء أكثر من غيرها، وكل ذلك مجمع عليه. ومنها: التعريض للمقر بالزنا بأن يرجع، فيقبل رجوعه بلا خلاف بين العلماء. ومنها: مؤاخذة الإنسان بإقراره، إذا لم يكن مُلْجأً ولا مكرهًا. ومنها: دليل لأبي حنيفة، والكوفيين، وأحمد، أنه: يشترط لوجوب إقامة

الحد بالإقرار بالزنا: تكراره أربع مرات؛ قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخر إقامة الحد إلى تمام الأربع مرات؛ لكونه لم يجب قبل ذلك؛ لأنه لو وجب قبله، لما أخره - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أنه لا يجب إلا بعدها، ويقوى ذلك بقول الراوي: "فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، إلى آخره، ففيه إشعار بأن الشهادة أربعًا هي العلة في الحكم. وقال مالك، والشافعي، وموافقوهما، وآخرون: يثبت الإقرار به بمرة واحدة، ويرجم قياسًا على سائر الحقوق. وكأنهم رأوا تأخر الحد إلى تمام الإقرار أربعًا ليس للوجوب كما ذكره الحنفية، بل للاستثبات والتحقيق لوجوب السبب؛ حيث إن الحد مبني على الاحتياط في تركه ودرئه بالشبهات. واحتجوا أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغدُ يا أُنَيْسُ على امرأةِ هذا، فإنِ اعترفتْ فارجمها"، فلم يشرط عددًا، وحديث الغامدية، ليس فيه إقرارها أربع مرات، واشترط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء إقراره أربع مرات في أربعة مجالس. ومنها: تفويض الإمام الرجم إلى غيره؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا فارجموه" إشعار بعدم حضوره إياه، فيؤخذ منه عدمُ حضورِ الإمام الرجمَ، وإن كان الفقهاء استحبوا بداءة الإمام بالرجم، إذا ثبت الزنا بالإقرار، وبداءة الشهود به، إذا ثبت بالبينة. وكأن الإمام، لما كان عليه التثبت والاحتياط، أمر بالبداءة؛ ليكون ذلك زاجرًا عن التساهل في الحكم بالحدود، وداعيًا إلى غاية التثبت. وأما في الشهود، فظاهر؛ لأن قتله بقولهم. ومنها: عدم الحفر للمرجوم؛ حيث إنه هرب لما أذلقته الحجارة، ولو كان له حفيرة، لم يتمكن من الهرب. وقد اختلف العلماء في الزاني المحصن إذا أقر بالزنا، فشرعوا في رجمه، ثم هرب، هل يترك، أم يتبع فيقام عليه الحد؟ فقال الشافعي، وأحمد وغيرهما: يترك ولا يتبع، لكن يقال له بعد ذلك:

ارجع، فإن رجع عن الإقرار، ترك، وإن عاد، رجم. وقال مالك في رواية، وغيره: يتبع ويرجم. واحتج الشافعي ومن وافقه بما جاء في رواية في "سنن أبي داود": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا تركتُموه حتى أنظرَ في شأنِهِ؟ " (¬1)، وفي رواية: "هَلَّا تركتموه، فلعلَّه يتوبُ، فيتوبُ اللهُ عليه" (¬2). واحتج الآخرون؛ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمهم ديته، مع أنهم قتلوه بعد هربه، وأجاب الشافعي -رحمه الله- وموافقوه عن هذا، بأنه لم يصرح بالرجوع، وقد ثبت إقراره، فلا نتركه حتى يصرح بالرجوع، قالوا: وإنما قلنا: لا يتبع في هربه، لعله يريد الرجوع، ولم نقل: إنه يسقط الرجم بمجرد الهرب، والله أعلم. ومنها: ما استدل به البخاري وغيره من العلماء، على أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يكن قد وقف مسجدًا، لا يثبت له حكم المسجد؛ إذ لو كان له حكم المسجد، لجنب الرجم فيه وتلطخه بالدماء والميتة. قالوا: والمراد بالمصلى في الحديث: مصلى الجنائز، ولهذا قال في رواية "صحيح مسلم": من بقيع الفرقد، وهو موضع الجنائز بالمدينة. وذكر أبو الفرج الدارمي من الشافعية: أن المصلى الذي للعيد ولغيره إذا لم يكن مسجدًا، هل يثبت له حكم المسجد؛ فيه وجهان: أصحهما: ليس له حكم المسجد، والله أعلم. وقاعدة مذهب الحنفية وغيرهم تأبى جعلَه غير مسجد؛ فإن مذهبهم بمجرد الإذن للناس في الصلاة في مكان يصير مسجدًا، سواء قصد جعله مسجدًا، أم لا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (28781)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7206)، ولم أو هذه الرواية في "سنن أبي داود"، والشارح -رحمه الله- لا ينقل هذا عن الأصول، وإنما حكى هنا كلام شيخه النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (11/ 194). (¬2) رواه أبو داود (4419)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، والنسائي في "السنن الكبرى" (7274)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 219).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ امْرَأةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا زَنَيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ في شَأْنِ الرَّجْمِ؟ "، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم، وَيُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلام: كَذَبْتُمْ، إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتوْا بِالتَّوْرَاةِ، فنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأ مَا فِيهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيةُ الرَّجْم، فَقَالَ: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَرُجِمَا، قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى المَرْأَةِ يَقِيهَا الحِجَارَةَ (¬1). الذي وضع يده على آية الرجم: عبد الله بن صوريا. أما عبد الله بن عمر، فتقدم الكلام عليه. وأما عبدُ الله بن سَلام -بتخفيف اللام-، فكنيته: أبو يوسف، واسم جده: عبد الله بن الحارث، وهو من بني إسرائيل من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وهو أنصاري، حليف القواقلة من بني عوف بن الخزرج، وكان اسمه في الجاهلية حصينًا، فلما أسلم، سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله بن سلام، وكان إسلامه عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة. قال عبد الله بن سلام: خرجت في جماعة من أهل المدينة لننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخوله المدينة، فنظرت إليه وتأملت وجهه، فعلمت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته منه: "يا أيها الناس! أَفْشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام، تدخُلوا الجنةَ بسلام" (¬2). شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3436)، كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، ومسلم (1699)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، وهذا لفظ البخاري. (¬2) تقدم تخريجه.

قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعبد الله بن سلام: إنه عاشرُ عشرة في الجنة (¬1). قال أبو عمر النمري: حديث حسن الإسناد صحيح. وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام (¬2)، قال النمري: وهذا حديث صحيح ثابت لا مقال فيه لأحد. وأنزل الله -عزَّ وجلَّ- فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10]، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، وأنكر ذلك بعض المفسرين، مستندًا إلى أن كل واحدة من سورتي الرعد والأحقاف مكية، وإسلام عبد الله بن سلام كان بعد ذلك بالمدينة، لكن وإن كانت السورتان مكيتين، فقد شهد لمعنى الآيتين في الرعد والأحقاف بالاعتبار، قوله تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، وقد تكون السورة مدنية وفيها آيات مكية مدنية، كالأنعام وغيرها. وقد رجعت الصحابة إلى معرفة عبد الله بن سلام في معرفة أشياء ماضيات مستقبلات؛ واعتمادًا على علمه ومعرفته. وروى عنه من الصحابة: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن معفَّل المزني، وعبد الله بن حنظلة بن الراهب، وابناه: محمد، ويوسف، وجماعة من ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3804)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، والنسائي في "السنن الكبرى" (8253)، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 242)، وابن حبان في "صحيحه" (7165)، والحاكم في "المستدرك" (335). (¬2) رواه البخاري (3061)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، ومسلم (2483)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -.

كبار التابعين، وشهد مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فتح بيت المقدس والجابية، وروى له البخاري، ومسلم، وأهل السنن والمساند. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرون حديثًا، اتفقا على حديث واحد، وانفرد البخاري بآخر، ومات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين في خلافة معاوية (¬1). وأما الرجل الزاني من اليهود؛ فلا أعلم اسمه. وأما المرأة الزانية؛ فاسمها: بسرة، فيما نقله الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي في "أعلام المبهم" عن شيخه الإمام أبي بكر بن العربي في "أحكام القرآن" له، فيما أخبره به. وأما اليهود؛ فسموا أنفسهم بذلك، نسبة إلى يهود بن يعقوب، انتسبوا إليه عند بعض الملوك، ثم عربته العرب بالدال، وقيل: سموا به لقولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]؛ أي: ملنا إليك، وقيل: لأنهم هادوا؛ أي: تابوا عن عبادة العجل، وقيل: لأنهم مالوا عن الإسلام وعن دين موسى - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: لأنهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة، ويقولون: إن السماوات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة. وأما عبد الله بن صوريا؛ فيقال له: ابن صوري، بحذف الألف، وكان أعور، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 352)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (4/ 109)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 228)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 467)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 921)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 97)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 718)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (هم 265)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 255)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 74)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 413)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 26)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 118)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 219).

وقوله: "فقالوا: نفضحُهم"؛ أي: نكشف مساوئهم. والاسم: الفضيحة والفضيح. وقوله: "فرأيت الرجلَ يَجْنَأُ عليها"؛ القائل الرائي: هو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. ويجنأ: رويت هذه اللفظة على أوجه في "الصحيحين" وغيرهما: الأول: يجنأ -بفتح الياء المثناة تحت وسكون الجيم وبعدها نون مفتوحة وهمزة- يقال: جنأ الرجل على الشيء، وجانأ عليه، وتجانأ عليه: إذا أكبَّ عليه. والثاني: يُجْني -بضم الياء أوله، وبالجيم الساكنة وكسر النون، وبالياء-، يقال: أجنى يُجني إجناءً: إذا كب عليه يقيه شيئًا. الثالث: يُجانئ عليها، مفاعلة من جانأ يجانئ. الرابع: يَحْني -بفتح الياء المثناة تحت، وسكون الحاء المهملة-؛ أي: يكبُّ عليها. الخامس: يَجْبَأُ -بفتح الياء وسكون الجيم وبالباء الموحدة وبالهمزة-؛ أي: يركع عليها. السادس: يُحَني عليها -بضم الياء وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مكسورة ثم الياء-. ومعناها كلها: وقايتها الحجارة، كما فسره ابن عمر - رضي الله عنه -، والله أعلم. والرواية الأولى هي المشهورة الراجحة (¬1). وفي هذا الحديث أحكام: منها: علو الإسلام على غيره من الأديان؛ حيث إن الله -عزَّ وجلَّ- جعل ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 302)، (1/ 310)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 129).

جميعهم يرجعون إليه في وقائعهم، ويتحاكمون إلى حاكمهم، ويلتزمون بها، وتنفذ عليهم، وذلك من أعظم الآيات الباهرات له - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: منقبة ظاهرة لعبد الله بن سلام، وحث على إظهار العلم وبيانه، وتحريم كتمانه، وتوبيخ مبدليه ومحرفيه. ومنها: الرجوع إلى النصوص قبل الاجتهاد. ومنها: إقامة الدليل على الخصم من قبل نفسه. ومنها: المبادرة إلى قبول الحق وتصديقه. ومنها: وجوب إقامة حد الزنا على الكافر، وأنه يصح نكاحه؛ لأنه لا يجب الرجم إلا على محصن؛ فلو لو يصح نكاحه، لم يثبت إحصانه، ولم يرجم. ومنها: أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع، وهو الصحيح، وقيل: لا يخاطبون، وقيل: يخاطبون بالنهي دون الأمر. ومنها: أن الكفار إذا تحاكموا إلينا، حكم القاضي بينهم بحكم شرعنا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رجمهما. وقد اختلف العلماء في أن الإسلام، هل هو شرط في الإحصان، أم لا؟ فمذهب الشافعي وأصحابه: أنه ليس بشرط، فإذا حكم الحاكم علي الذمي المحصن، رجمه، ومذهب أبي حنيفة: أن الإسلام شرط في الإحصان، وقال مالك: لا يصح إحصان الكافر. واستدل الشافعية بهذا الحديث برجم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين. واعتذر الحنفية عنه؛ بمن قالوا: رجمهما بحكم التوراة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن ذلك عند قدومه المدينة، وادعوا أن آية حد الزنا نزلت بعد ذلك، فكان ذلك الحديث منسوخًا. وهذا الذي ذكروه من النسخ يحتاج إلى تحقيق للتاريخ.

وادعى مالك -رحمه الله تعالى-: أن رجمهما لكونهما أنهما ليسا أهل ذمة، وهو تأويل باطل؛ لأنهما كانا أهل عهد؛ فإنه رجم المرأة، والنساءُ لا يجوز قتلهن مطلقًا. وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ بحضور ابن سلام ليس ليعرف الحكم منهم، ولا ليقلدهم فيه، وإنما هو لإلزامهم ما يعتقدونه في كتابهم الموافق لحكم الإسلام؛ تركيبًا للحجة عليهم، وإظهارًا لما كتموه وغيروه وبدلوه منه، إما بوحي من الله -عزَّ وجلَّ- إليه؛ في أنه موجود فيما بأيديهم من التوراة لم يغير كما غير أشياء، وإما بإخبار من أسلم منهم، ولهذا يخفَ ذلك عليه - صلى الله عليه وسلم - حين كتموه. وقد يقال: كيف رجمهما - صلى الله عليه وسلم -، أببينة أم بإقرار؟ فإن كان ببينة، فلا يخلو إما أن يكون الشهود كفارًا أو مسلمين، فإن كانوا كفارًا، فلا اعتبار بشهادتهم، وإن كانوا مسلمين، فهو ظاهر. وقد جاء في "سنن أبي داود" وغيره أنه شهد عليها أربعة بالزنا، وأنهم رأوا ذكره في فرجها (¬1). فإن صح هذا، حمل على أن الشهود كانوا مسلمين، وإلا يتعين أنهما أقرا بالزنا، اللهم إلا أن يكون قبول شهادتهم بعضهم على بعض مذهبًا، كما نقل عن رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، فيحمل الحديث عليه إن صح، ولا يكون رجمهما بإقرارهما؛ لصحة الحديث، والله أعلم. ويكون ترك بيان صفة الشهود بالإسلام أو الكفر من باب ترك الاستفصال في حكاية الأحوال، فإنه ينزل منزلة العموم في المقال، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4452)، كتاب: الحدود، باب: في رجم اليهوديين، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2529)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 231)، وابن عبد البر في "التمهيد" (14/ 401)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ أَن امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ" (¬1). اعلم أن دفع الصائل جائز بالإجماع مطلقًا، ويجب عن الحريم بالإجماع، بخلاف النفس والمال؛ فإن العلماء اختلفوا في جواز الاستسلام في النفس، واختلفوا في أن الأفضل الاستسلام فيهما، أم تركه، أم يحرم، أم يفرق بين من للمسلمين به نفع؟ على أوجه للشافعية -رحمهم الله تعالى-. وأما المال، فلا يجب الدفع عنه إجماعًا، لكن يجوز. إذا ثبت هذا، فاعلم أن لفظ الحديث شامل للاطلاع عليك في بيتك، وهو يقتضي أن يكون فيه أنت أو حريمك غير المحارم، على المطلع عليك. وقد أخذ الشافعي -رحمه الله تعالى- بظاهر الحديث، وحكمته الاحتياط للحريم والعورات بالستر وعدم الاطلاع عليها، لكن في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فحذفته بحصاة" ما يقتضي أنه لا يعدل إلى الدفع بالأشد مع وجود الدفع بالأخف من غير إنذار ونهي. ومنعت المالكية ذلك، وقالوا: لا يجوز قصدُ عينه ولا غيرها؛ حتى قيل عندهم: إنه يجب القود فيه، وهو مخالف للحديث، وقالوا في تعليل المنع: المعصية لا تدفع بالمعصية. وهو ضعيف جدًّا، فإنه والحالة هذه لا تكون معصية، ويلحق بدفع الصائل، فإن أرادوا مجرد المعصية بالتعدي بالحذف مع قطع النظر عن النظر في بيته بغير إذن، فهو صحيح، لكنه لا يفيدهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6506)، كتاب: الديات، باب: من اطلع في بيت قوم ففقؤا عينه فلا دية له، ومسلم (2158)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره.

وقد أوجب الشارع بسبب الحريم أحكامًا وتكاليف لم توجد في غيرهن من متعلقات المتكلفين: منها: الدفع عنهن بالقتال وغيره. ومنها: فقء العين بالنظر في بيوتهن. ومنها: الإنفاق عليهن، وإسكانهن، وكسوتهن، ومعاشرتهن بالمعروف، والوصية بهن، إلى غير ذلك. وما ذاك كله إلا لعظم حقهن؛ لما يترتب من مصالحهن الدنيوية والأخروية، من جزيل الثواب ورفع الدرجات في المآب. وقد تصرف الفقهاء في حكم هذا الحديث بأنواع من التصرفات، وذكروا فيها أحكامًا كثيرة: منها: أنه لا يجوز النظر إلى حريم الناس، سواء كان الناظر واقفًا في الشارع، أو في ملك المنظور إليه، أو في سكة منسدة الطريق. ويجوز فقء عين من فعل ذلك برميه بشيء؛ لإشعار الحديث به. ولأصحاب الشافعي وجه: أنه لا يقصد فقء العين بالنظر، إلا لمن وقف في ملك المنظور إليه. ومنها: أنه يجوز رميه قبل نهيه وإنذاره؛ لإطلاق الحديث، وللشافعية في ذلك وجهان: أحدهما: يشترط نهيه وإنذاره قبل رميه. والثاني: لا يشترط. وقد ثبت في "الصحيح" ما يدل على عدم الاشتراط، وأقوى من إطلاق هذا الحديث: وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في يده مِدرى، ورجل ينظر في بيته، فقال النبي عنه: "لو أعلمُ أنكَ تنظرُ نجنا لفقأتُ بهِ عينَكَ" (¬1)، وذلك دليل على عدم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5887)، كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر، ومسلم =

اشتراط الإنذار، ويدل على اشتراط النظر لقصد مفسدة. ومنها: أنه لا يلحق غير النظر بحكمه، كالتسمع، وفيه خلاف. ومنها: أنه لا يُرمى الناظر إلا بشيء خفيف؛ كمدرى، وبندقة، وحصاة، ولفظ الحديث يشعر بذلك؛ حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فخذفته"، والخذف لا يكون إلا بشيء خفيف، فلو رماه بحجر ثقيل، أو رشقه بنشاب فقتله، تعلق برميه القصاص أو الدية. ومنها: أن الناظر لو كان له في الدار محرم أو زوجة أو متاع، لم يجز قصد عينه؛ لأن له شبهة في النظر. وقيل: لا يمتنع قصد عينه إلا إذا كان جميع من في الدار محارمه. ومنها: أنه لو كان في الدار صاحبها فقط، وهو مكشوف العورة، فنظر إليه، فهل يلحق الحكم فيه بالنظر إلى المحارم؛ وجهان للشافعية؛ أظهرهما: أنه لا يجوز رميه. ومنها: أن المحارم لو كن في الدار مستترات، أو في بيت منها، لم يجز قصد عينه بالرمي في وجه؛ لأنه لا يطلع على شيء. والأظهر عند جماعة من الفقهاء الجواز؛ لإطلاق الأحاديث، ولأن أوقات التستر والكشف لا تنضبط، فالاحتياط حسم الباب. ومنها: اشتراط عدم تقصير صاحب الدار في كف نظر الناظر، فإن جعل بابه مفتوحًا، أو كانت كوة واسعة في الدار، أو ثلمة مفتوحة لم يسدهما، والناظر مجتاز، فإنه لا يجوز قصد رميه، فلو تعمد النظر، ووقف له، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز قصده بالرمي؛ لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسع الكوة. والثاني: يجوز؛ لتعديه بالنظر. ¬

_ = (2156)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - بلفظ: "لو علمت أنك تنظر، لطعنت بها في عينك".

وأجري هذا الخلاف فيما لو نظر من سطح نفسه، أو نظر المؤذن من المئذنة. والأظهر هنا: جواز الرمي؛ لأنه لا تقصير من صاحب الدار. وهذه الأحكام كلها، إن كانت داخلة تحت إطلاق الأحاديث، كانت مأخوذة منها، وإن لم تكن داخلة، كان بعضها مأخوذًا من فهم المعنى المقصود بالأحاديث، وبعضها مأخوذًا بالقياس، وهو قليل فيها، والله أعلم. * * *

باب حد السرقة

باب حد السرقة الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ -وفي لَفظٍ: ثمنُهُ- ثَلاثَةُ دراهِمَ (¬1). اعلم أن الله -عزَّ وجلَّ- صان الأموال بإيجاب قطع السارق؛ حرمةً لها، ولم يجعل ذلك في غير السرقة؛ كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع ذلك بالاستعداء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة؛ فإنه يندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها؛ لتكون أبلغ في الزجر عنها. وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه. أما المجن -بكسر الميم وفتح الجيم وبالنون-، فهو: الترس، مِفْعَل من الاجتنان، وهو الاستتار والاختفاء ونحو ذلك. ومنه: الجن. وكسرت ميم المجن؛ لأنه آلة من الاجتنان، كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6411)، كتاب: الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ومسلم (1686)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 308)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 183)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 400).

قال الشاعر (¬1): فكانَ مِجَنِّي دونَ مَن كنتُ أَتَّقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعبان ومُعْصِرُ وأما القيمة والثمن؛ فلأنهما مختلفان في الحقيقة، لكن المعتبر: القيمة، وذكر الثمن في بعض روايات الحديث، إما لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت، أو في ظن الراوي، أو باعتبار الغلبة، وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه، لم تعتبر إلا القيمة، وتقدم الإجماع على قطع السارق، واختلف العلماء في اشتراط النصاب وقدره، فالجمهور على اشتراط النصاب في القطع. وقال أهل الظاهر، وابن بنت الشافعي من الشافعية، وحكي عن الحسن البصري والخوارج: لا يشترط النصاب، بل يقطع في القليل والكثير. والاستدلال لاشتراطه بهذا الحديث فيه ضعف؛ فإنه حكاية فعل لا يلزم به وجوب القطع في هذا المقدار، فضلًا عما دونه نطقًا. وأما قدر النصاب: فقال الشافعي: النصاب ربع دينار، أو ما قيمته ربع دينار، سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم، أو أقل أو أكثر، ولا تقطع في أقل منه. وهو قول كثير من العلماء والصحابة والتابعين وغيرهم، منهم: عائشة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والليث، وأبو ثور، وإسحاق، وروي عن داود. ودليلهم حديث عائشة - رضي الله عنها - الآتي، ويقوَّم ما عدا الذهب بالذهب. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق في رواية عنه: يقطع في ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته أحدهما، ولا قطع فيما دون ذلك. وجعل هؤلاء كل واحد قدر من الذهب والفضة المذكورين أصلًا لوجوب ¬

_ (¬1) هو عمر بن أبي ربيعة، كما في "خزانة الأدب" للبغدادي (7/ 394).

القطع، زاد أبو حنيفة وقال: يقوم ما عداهما بالدراهم، وكلا حديثي الكتاب وعائشة يدلان على خلاف ذلك. أما حديث الكتاب، فقال الشافعي -رحمه الله-: بين أنه لا يخالف حديث عائشة؛ فإن الدينار كان اثني عشر درهمًا، وربعه ثلاثة دراهم مصروفاتها، وبها قومت الدية اثني عشر ألفًا من الوَرِق بألف دينار من الذهب. وبهذا الحديث استدل المالكية على أن الفضة أصل في التقويم دون الذهب، قالوا: فإن المسروق لما كان غير الذهب والفضة، وقوم بالفضة دون الذهب، قالوا: دل على أنها أصل في التقويم، وإلا كان الرجوع إلى الذهب الذي هو أصل التقويم أولى وأوجب عند من يرى التقويم به. والحنفية ومن قال بقولهم، قالوا في هذا الحديث وحديث عائشة: إن القطع في ربع دينار فعلًا، تأولوه على أن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة - رضي الله عنها - ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، ويكون عند غيرها أكثر. وضعف هذا التأويل غيرهم؛ بأن عائشة - رضي الله عنها - لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق؛ لعظم أمر القطع. وقال سليمان بن يسار، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والحسن في رواية عنه: لا يقطع إلا في خمسة دراهم. وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قطع إلا في عشرة دراهم، أو ما قيمته ذلك، وحكى القاضي عياض عن بعض الصحابة: أن النصاب أربعة دراهم، وعن النخعي: أربعون درهمًا، أو أربعة دنانير. وحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُقطع يدُ السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" (¬1). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا.

الحديث الثاني

الصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - حصر عدم القطع إلا في ربع دينار. وحديث المجن الذي قيمته أو ثمنه ثلاثة دراهم محمول على ربع دينار كما ذكرنا. وهي قضيّة عين لا عموم لها، فلا يجوز ترك صريح لفظه - صلى الله عليه وسلم - في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة، بل يجب حملها على موافقة لفظه - صلى الله عليه وسلم -. وانظر إلى كرم الله تعالى على المكلفين من عباده، ونوعهم؛ حيث جعل في قطع اليد إذا لم يقتص منها نصف الدية؛ تعظيمًا لقدرها، وجعل للسارق قدر ربع دينار، أو ربع دينار بقطع يده؛ تحقيرًا لها بسبب المعصية المتعلقة بحق الله تعالى في المخالفة وحق المسلم في ماله، والله أعلم. والروايات المروية في التقديرات الزائدة على ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار، كلها ضعيفة لا يعمل بها، لو انفردت، كيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة، مع أنه يمكن تأويلها عليها؛ بأن ما زاد على التقديرين المذكورين، كان قيمة لهما، والله أعلم. الحديث الثاني عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "تُقْطَعُ اليَدُ فِي ربع دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬1). أما ما تقطع فيه اليدُ من المال المسروق، فقد ذكرناه في الحديث قبله، لكن يشترط أن تكون السرقة من حِرْز، عند جميع العلماء، إلا داود الظاهري، فلم يشترطه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6407)، كتاب: الحدود، باب: قوله الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ومسلم (1684)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها.

والمعتبر في الحرز الذي يقطع بالسرقة منه: ما عدَّه أهلُ العرف حِرزًا لذلك الشيء. ويشترط للقطع -أيضًا-، ألَّا يكون للسارق شبهة في المسروق؛ فإن كانت شبهة، لم يقطع. ويشترط -أيضًا- مطالبة المسروق منه بالمال. واعلم أن هذا الحديث هو اعتماد الشافعي في مقدار النصاب، وقد ثبت ذلك من فعله؛ لأنه لا يلزم من قطع السارق في مقدار معين وقع على سبيل الاتفاق ألَّا يقطع فيما دونه، بخلاف القول، فإنه دال على اعتبار معين في القطع، وذلك يدل على عدم اعتبار ما زاد عليه في إباحة القطع. ولو اعتبر في الزيادة عليه، لاعتبر فيما دونه، و -أيضًا- فإن دلالة الفعل هي باب الظن في المقصود، فأشبهت المتقومات، والله أعلم. وهذا الحديث قوي في الدلالة على أصحاب أبي حنيفة؛ فإنه صريح بمقتضاه في القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به. وأما دلالته على الظاهرية ومن قال بقولهم؛ في أنه يقطع في كل قليل وكثير، فليست من حيث النطق، بل من حيث المفهوم، وهو داخل في مفهوم العدد، ومرتبته أقوى من مفهوم اللقب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تقطع اليد"؛ المراد بها: القطع من الرسغ؛ وهو المفصل بين الكف والذراع، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء، وقال بعض السلف: تقطع اليد من المرفق، وقال بعضهم: من المنكب؛ والمراد به اليد اليمنى، وكذلك هو في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]؛ أي: أيمانهما، وهو موجود في مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه -. * * *

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَن قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَخْزُوميَّة الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَن يُكَلِّمُ فِيها رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِىَ عَلَيهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: "أتشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ "، ثُمَّ قامَ فَاختَطَبَ فَقَالَ: "إنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ. وَايْمُ اللهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (¬1). وَفِي لَفظٍ: كَانَتِ امْرَأَةٌ [مَخْزُوميَّةٌ] تَسْتَعيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَطْعِ يَدِهَا (¬2). أما المرأة المخزومية السارقة؛ فاسمها فاطمةُ بنتُ أبي الأسد بنِ عبد الأسد، بنت أخي أبي سلمةَ زوجِ أُمِّ سلمةَ المخزومية. وكانت سرقتها هذه في غزوة الفتح، على ما ذكره ابن وهب في "موطئه" عن مالك، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها -. وقال أبو القاسم بن بشكوال: وقيل: هي أم عمرو بنت أبي الأسد بن عبد الأسد. وذكر ذلك عن عبد الرزاق عن ابن جريج، والله أعلم (¬3). وأما المخزومية، فنسبة إلى بني مخزوم بن يقظة بن مرة -يقظة وتيم وكلاب إخوة- بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3288)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم (1688)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود. (¬2) رواه مسلم (1688)، (3/ 1316)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود. (¬3) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 415 - 417).

وأما قريش فهم أولاد النضر بن كنانة، على المشهور، وقيل: أولاد فهو، والله أعلم (¬1). وأما ما أَهَمَّهم من شأنها؛ فلِما خافوا من لحُوق العار الجاهلي في قطع يدها، وافتضاحهم بين القبائل به، وظنوا أن الشفاعة والسعي في إسقاط الحدود يفيدان فيه، فلما أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه لو سرقت ابنته فاطمة لقطع يدها، علموا أن ذلك حتم لا مندوحة عنه، والله أعلم. وأما قوله في الرواية الثانية: أنها "كانت تستعيرُ المتاعَ وتجحدُه" وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقطع يدها؛ فلا شك أن سياقها عقب هذا الحديث الذي فيه أنها سرقت، يقتضي أن المعبر عنه بالسرقة وجحد المتاع بعد الاستعارة، امرأة واحدة، لكن لا يقتضي أن العارية وجحدها تسمى سرقة موجبة لقطع اليد؛ فإن الإعارة مخرجة لوضع اليد على العين عن السرقة والغصب. ومن جحد شيئًا، لا يجب به القطع. وقد روى مسعود بن الأسود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا الخبر فيما قاله أبو داود، قال: سرقت قطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التعليق قد أخرجه ابن ماجه في "سننه" بإسناد فيه محمد بن إسحاق، وهو متكلم فيه (¬2). وروي من حديث جابر: أن امرأة سرقت، فعاذت بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (5/ 225). (¬2) ذكره أبو داود في "سننه" (4/ 132) تعليقًا، ورواه موصولًا: ابن ماجه (2548)، كتاب: الحدود، باب: الشفاعة في الحدود، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 409)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 333)، والحاكم في "المستدرك" (8147)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 281). (¬3) ذكره أبو داود في "سننه" (4/ 132) تعليقًا، ورواه الحاكم في "المستدرك" (8145) موصولًا.

وروى مسلم والنسائي عن جابر -أيضًا-، قال: فعاذت بأم سلمة زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فهذا كله يدل على أن هذه المرأة كان لها عادات في التحيُّل على أخذ أموال الناس، وأنها كانت تسرقها مرة، وتستعيرها مرة وتجحدها، وأنها كانت تعوذ ببنت النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة، وتارة بزوجته، وأن الرواة كان أحدهم يذكر حالة من حالاتها في أخذ الأموال والتوصل إلى دفع العقوبة فيها. وقد تأول العلماء رواية استعارة المتاع وجحده على أن ذلك إنما ذكر لتعريف المرأة، ووصفها بما ذكر، لا بكونها سببًا للقطع؛ لأن سببه السرقة لا الاستعارة والجحد؛ حيث إن الأحاديث في معظم طرقها مصرحة بالسرقة، وأنها سبب القطع. قالوا: فتعين حمل هذه الرواية عليها؛ جمعًا بين الروايات؛ حيث إن القضية في المرأة وقطع يدها واحدة. ومن أئمة الحديث من جعلها شاذة مخالفة لجماهير الرواة، والشاذ لا يعمل به. قال بعض العلماء: وإنما لم تذكر السرقة فيها؛ حيث إن المقصود عند الراوي: ذكر منع الشفاعة في الحدود، لا الإخبار عن السرقة. ولا شك أن الحديث واحد اختلف فيه، هل كانت المرأة المذكورة فيه سارقة أو جاحدة؟ وقد أوجب أحمد وإسحاق القطع في صورة جحود العارية؛ عملًا بهذه الرواية، وهذا يقتضي أنها عندهما غير شاذة ولا مخالفة، لكن قول جمهور العلماء وفقهاء الأمصار: في أنه لا قطع في جحود العارية؛ لما بينا. فإن أخذناها بما ذكرنا من العمل الصناعي لأهل الحديث من الشذوذ، ضعفت الدلالة منها على مسألة الجحود لمن أوجب القطع فيه قليلًا؛ حيث إنه ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1689)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود، والنسائي (4891)، كتاب: قطع السارق، باب: ما يكون حرزًا وما لا يكون.

اختلاف في واقعة واحدة، فلا يثبت الحكم في الجحود حتى يتبين ترجيح رواية من روى أنها كانت سارقة، وقد تبين، والله أعلم. وقد يقال: كيف يكون الحديث واحدًا، ويعبر عنه تارة بالسرقة، وتارة بالجحود؟! وكيف يجوز للراوي التعبير بأحدهما عن الآخر؟ قلنا: قد استعمل مثل هذا في قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربع دينار فعلًا، واعتمادًا على قطعه فيه قولًا، لكن يخرج عنه صورة التقويم به، ويكون اختلاف الحديث في اللفظ، لا في المعنى، ويتأول أحد اللفظين على الآخر، فكذلك في حديث سرقة المتاع، واستعارته، وجحوده -كما ذكرنا- يتنزل على ذلك، والله أعلم. وقولهم: "ومَنْ يجترىَ عليه إلا أسامةُ حِبُّ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ "؛ الاجتراء: التجاسر بطريق الإدلال، والحِبُّ -بكسر الحاء-؛ هو المحبوب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وايم الله"؛ اعلم! أن ايم الله معناها: القسم، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الله -عزَّ وجلَّ-. وفيها لغات: ايم الله -بفتح الهمزة، وكسرها-، وايمن الله -بفتح الهمزة، وكسرها أيضًا- وزيادة نون في آخرها، وإم الله -بكسر الهمزة وحذف الياء والنون-، وم الله -بحذف الهمزة والياء والنون-، وأومن الله -بضم الهمزة وسكون الواو وضم الميم والنون-، وأيمن الله -بفتح الهمزة وسكون الياء وضم الميم والنون- (¬1). فهذه ثمان لغات فيها كتبناها عن شيخنا العلامة: أبي عبد اللهِ محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني -رحمه الله تعالى-، وأجاز لنا روايته، وقد نظمها في بيتين من أبيات له في "لغات الألفاظ": همز أيمٍ وأيمنٍ فافتحْ واكسر ... وإم قل أو قل م أو من بالتثليثِ قَدْ شُكِلا وأيمن اختم به والله كلا أضفْ ... إليه في قَسَمٍ تبلغْ بهِ الأَملا ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 406)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 55 - 56)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 85)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 462).

وفي الحديث أحكام: منها: قطع السارق، رجلًا كان أو امرأة، وتمسك أحمد وإسحاق بالرواية في الكتاب بقطع مجحد المتاع، وقد بسطنا القول فيها أتم بسط. ومنها: منقبة ظاهرة لأسامة - رضي الله عنه -. ومنها: جواز الحلف من غير استحلاف، وهو مستحب إذا كان فيه تفخيم لأمر مطلوب، وقد اختلف العلماء في جواز الحلف به، وهذا الحديث دليل لجوازه. ومنها: المنع من الشفاعة في الحدود، وهو مجمع عليه بعد بلوغه إلى السلطان، فأما قبل بلوغه إليه، فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه صاحبَ شر وأذى للناس، فإن كان، لم يشفع فيه، أما المعاصي التي لا حد فيها، فواجبها التعزير، فتجوز الشفاعة والشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون. ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحبَ أذى ونحوه. ومنها: أنه يحرم التشفيع في صاحب الحد. ومنها: تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله -عزَّ وجلَّ- وحدوده، وأنها سبب للهلاك، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بهلاك من قبلنا من الأمم بذلك بالحصر بـ "إنما"، والظاهر أنها ليست هنا للحصر المطلق، مع احتماله؛ فإن بني إسرائيل كانت فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص، وهو الإهلاك بسبب المحاباة في حدود الله -عزَّ وجلَّ-، فينحصر ذلك في هذا الحد المخصوص بـ "لو". ومنها: جواز تعليق القول بـ "لو" بتقدير أمر آخر لا يمتنع، خصوصًا إذا كان فيه تنبيه على أمر شرعي، والتنفير عن مخالفته، وقد شدد قوم في المنع من قول: "لو"، وأنها تفتح عمل الشيطان، وليس المنع على إطلاقه، بل: هو منزل على فعل أمر قد فات، أو فعل محذور ونحوه، والله أعلم.

ومنها: مساواة الشريف والمشروف في أحكام الله -عزَّ وجلَّ- وحدوده. ومنها: أن من راعى الشريف فيها مذمومٌ يُخشى عليه الهلاك. ومنها: عدم مراعاة الأهل والأقارب والأصحاب في مخالفة الدين. وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالكون والحث على ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] وقال -عزَّ وجلَّ-: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. * * *

باب حد الخمر

باب حَدّ الخمر الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن: أَخَفَّ الحُدُودِ؛ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (¬1). أما الرجل المجلود في الخمر، فلا أعلم اسمه. وأما "جلدُه بجريدٍ نحوَ أربعينَ"؛ فهكذا هو في الكتاب: بجريد نحو أربعين، وفي "صحيح مسلم": جلده بجريدتين نحو أربعين. وفي رواية: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر بالجريد والنعال (¬2). وفي رواية: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين (¬3). وهذه الرواية الأخيرة مبينة للروايات كلها من أن الأربعين هو حد الخمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلافًا لمن تأول ضربه بالجريدتين على أنهما كانتا مفردتين، وأنه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6391)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، ومسلم (1706)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر، وهذا لفظ مسلم، إلا أنه قال فيه: "بجريدتين". (¬2) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها. (¬3) رواه مسلم (1706)، (3/ 1331)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر.

جُلد بكل واحدة أربعون، أو أقل أو أكثر حتى كمل مبلغهما ضربًا ثمانين. والأحاديث الصحيحة مصرحة بخلاف هذا التأويل، وظاهر رواية الكتاب: أن الأربعين للتقريب، حتى لو كانت تسعة وثلاثين، جاز بقوله: نحو أربعين، فإن مقتضاه: التقريب لا التحديد، وهو خلاف الإجماع؛ فإن الحدود والتقديرات الشرعية كلها للتحديد، فحينئذ لا بد من تأويل قوله: نحو أربعين على عدم التساوي في الضرب والآلة المضروب بها، والله أعلم. وقوله: "فلما كانَ عمرُ، استشار الناسَ، فقال عبدُ الرحمن: أَخَفَّ الحدودِ ثمانين". أما عبد الرحمن؛ فهو ابن عوف، أحد العشرة -رضي الله عنهم-، وهكذا هو في الصحيح: أنه الذي أشار على عمر بالثمانين، ووقع في "الموطأ": أنَّ الذي أشار بها علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه - (¬1)، والجمع بينهما صحيح ممكن، فلعلهما أشارا به، والذي بدر بالمشورة أولًا عبد الرحمن، فنسبت إليه؛ لسبقه بها، ونسبت في رواية إلى علي - رضي الله عنه -؛ لفضيلته وكثرة علمه ورجحانه على عبد الرحمن - رضي الله عنهما -. لكن رواية من قال: إنه علي منقطعة؛ فإنها من رواية ثور بن زيد الديلي عن عمر، وثور لم يدرك عمر، والله أعلم. وقوله: "أَخَفَّ الحدودِ"، هو منصوب بفعل محذوف تقديره: فقال عبد الرحمن: اجلده، أو: حده أخفَّ الحدود المنصوص عليها في القرآن؛ فإن الحدود في القرآن: حد السرقة بالقطع، وحد الزنا بمئة جلدة، وحد القذف بثمانين جلدة، فاجعل حد الخمر ثمانين كأخف الحدود. وإنما استشار عمرُ الناسَ في ذلك؛ لأن في زمنه - رضي الله عنه - فتح الشام والعراق، وسكن الناس في مواضع الخصب وسعة العيش وكثرة الأعناب والثمار، وأكثروا من شرب الخمر، فزاد عمر - رضي الله عنه - في حدها؛ زجرًا ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 842).

لشاربيها، وتغليظًا عليهم، وكان ذلك سُنَّةً ماضية؛ فإنه موافق للعمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فعليكُمْ بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديِّيينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ" (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقْتَدُوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكرٍ وعمرَ" (¬2)؛ أي: بكل واحد منهما. ولهذا عمل عثمان - رضي الله عنه - بفعل كل واحد منهما، فجلده مرة ثمانين، ومرة أربعين. وقال علي - رضي الله عنه -: كُلٌّ سُنَّةٌ (¬3)؛ حيث إن الأربعين فعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، والثمانين فعلُ عمر بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم-، وإن اعتقاده - رضي الله عنه - أنهما كانا خليفتين، وأن فعلهما سنة، وأمرَهما حق، خلاف ما يكذب عليه - رضي الله عنه -. وروي عن علي - رضي الله عنه -: أنه ضرب في الخمر ثمانين، وهو المعروف من مذهبه، والله أعلم. واعلم أنه وقع في لفظ الكتاب: أن الضرب كان بالجريد فقط، وفي غيره: بالجريد والنعال كما ذكرنا. وفي رواية الزهري عن عبد الرحمن بن أزهر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اضربوه" فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب (¬4). وفي حديث قال: فلما كان أبو بكر، سأل عن ذلك من حضر ذلك المضروب، فقومه أربعين، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين (¬5)، ففسر بعضهم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه مسلم (1707)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر، عن حضين بن المنذر. (¬4) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 285)، وفي "الأم" (6/ 180)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 319). (¬5) انظر تخريجه في: رواية عبد الرحمن بن الأزهر المتقدمة؛ إذ هو قطعة منه.

التقويم بالتقدير؛ أي: قدر الضرب الذي ضربه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، فبلغ قدره أربعين عصًا. وهو بعيد؛ لقوله: كان - صلى الله عليه وسلم - يجلد في الخمر أربعين؛ فإنه لا ينطلق على عدد كثير من الضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، لا على التقويم بمعنى التقدير؛ فإن قوله: أربعين أقربُ صدقًا حقيقة من التقدير الذي هو معنى التقويم. ولهذا قال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين، وجعل بعضهم: أن رواية قول عبد الرحمن: أخفُّ الحدود ثمانون، على أنه مبتدأ وخبر، فيكونان مرفوعين، وما أعلمه منقولًا رواية، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: تحريم شرب الخمر، وهو إجماع المسلمين، والحد لا يكون إلا على محرّم كبيرة. ومنها: وجوب الحد على شاربها، سواء شرب قليلًا أو كثيرًا. وأجمع العلماء على أنه لا يقتل بشربها، وإن تكرر منه، وممن حكى الإجماع على ذلك: الترمذي في "جامعه"، وخلائق من العلماء. وحكى القاضي عياض عن طائفة شاذة: أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات؛ للأحاديث الواردة في ذلك، وهو قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمَنْ بعدهم في أنه لا يقتل، وإن تكرر منه أربع مرات، والأحاديث المروية في قتله منسوخة؛ بدلالة الإجماع على نسخها؛ حيث إن الإجماع إنما استقر بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون بذاته ناسخًا ولا منسوخًا. ومنهم من قال: هي منسوخة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دمُ امرىٍ مسلم إلَّا بإحدى ثلاثٍ؛ النفسُ بالنفسِ، والثَّيِّبُ الزاني، والتاركُ لديِنِهِ المفارِقُ للجماعةِ" (¬1). وأجمع العلماء على أن شارب الخمر يجلد، سواء سكر أم لا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

واختلف العلماء على أن شارب النبيذ، وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة، فقال الشافعي، ومالك، وأحمد، وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو حرام، يُجلد فيه كجلد شارب الخمر الذي هو عصير العنب، سواء كان يعتقد إباحته أو تحريمه. وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا يحرم، ولا يحد شاربه. وهذا الذي قاله أبو حنيفة وموافقوه، إن أرادوا عدم تحريم الأنبذة؛ لكونها غير مسكرة، فمسلَّم، وإن أرادوا به لكونها مسكرة، فممنوع؛ فإن جماعة من العلماء نقلوا الإجماع على أن المسكر حرام؛ بأي شيء كان، من عصير عنب، أو نبيذ زبيب، أو تمر، أو مزر؛ وهو ما يعمل مسكرًا من لبن الخيل، مع أن لبن الخيل حرام عندهم مطلقًا، سواء إن أسكر أم لا؛ حيث إنه عندهم تبع للحم الخيل في تحريمه؛ فلبن الخيل كلحمه في الحل والحرمة. وقال أبو ثور: النبيذ المسكر حرام، يجلد بشربه من يعتقد تحريمه دون من يعتقد إباحته، والله أعلم. ومنها: أن قدر حد الخمر أربعون، وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وداود، وأهل الظاهر، وغيرهم. وقال الشافعي -رحمه الله-: وللإمام أن يبلغ به ثمانين؛ لفعل عمر والصحابة -رضي الله عنهم-. قال: والزيادة على الأربعين تقريرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل وأنواع الإيذاء، وترك الصلاة، وغير ذلك. وقال القاضي عياض -رحمه الله-، وجمهور العلماء والفقهاء من السلف والخلف، منهم: مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق: أنهم قالوا: حده ثمانون، واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة -رضي الله عنهم-، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن للتحديد، ولهذا قال في الرواية التي في الكتاب: نحو أربعين.

وحجة الشافعي -رحمه الله-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد أربعين؛ كما صرح به في "صحيح مسلم" وغيره. وزيادة عمر تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام، إن شاء فعله، وإن شاء تركه؛ بحسب المصلحة في فعله وتركه، فرآه عمر، ففعله، ولم يره أبو بكر ولا علي - رضي الله عنهما -، فتركاه، ولو كانت الزيادة حدًّا، لم يتركها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر، ولا تركها علي بعد فعل عمر، ولهذا قال علي: وكُلٌّ سنة؛ أي: الاقتصار على الأربعين والبلوغ إلى الثمانين. وهذا الحد هو حدٌّ الحر، وأما العبد، فهو على النصف من الحر في الخمر والزنا والقذف. والله أعلم (¬1). ومنها: حصول الحد في الخمر بالجلد بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وهو مجمع عليه، لكنه بحيث يسمى ضربًا، فلا يكتفى بالوضع المجرد، بل برفع ذراعه رفعًا معتدلًا، ولا يبالغ في الضرب؛ بأن يرفع يده فوق رأسه. قال الشافعية: إذا ضربه بالسوط، فليكن متوسطا معتدلًا في الحجم بين القضيب والعصا، فإن ضربه بجريدة، فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة، واختلفوا في جوازه بالسوط على وجهين؛ أصحهما: الجواز، وهما مذهبان للعلماء. وشذ بعض الشافعية، فشرط فيه السوط، وقال: لا يجوز فيه الضرب بالثياب والنعال، وهو غلط فاحش مردود على قائله؛ لمنابذته صريح الأحاديث الصحيحة، ومخالفتها، والله أعلم. ومنها: مشاورة الإمام والقاضي والمفتي أصحابه وحاضري مجلسه في الأحكام. ومنها: أن قول العلماء بالاجتهاد يجوز إطلاقُ السنة عليه، وأنه يجب العمل به. ومنها: جواز القياس والعمل به، وبالاستحسان عند الحاجة إليه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 217 - 218).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، هَانِئِ بْنِ نِيارٍ البَلَويِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْواطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ" (¬1). أما أبو بردة هذا؛ فهو ممن غلبت عليه كنيته. واختلف في اسمه على أقوال؛ أصحها ما ذكره في الكتاب: هانئ بن نيار بن عمرو بن عبيد، وقيل: الحارث بن عمرو، ويقال: مالك بن هبيرة بن عبيد، وهو حليف للأنصار، مدني، كان حليفًا لبني حارثة بن الحارث بن الخزرج، وهو خال البراء بن عازب. شهد العقبةَ وبدرًا والمشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت معه راية بني حارثة في غزوة الفتح. اتفق البخاري ومسلم على الرواية له، رويا له حديثًا واحدًا، وروى له أصحاب السنن والمساند. وروى عنه جابر بن عبد الله، وجماعة من التابعين. وتوفي أوائل خلافة معاوية سنة خمس، وقيل: إحدى، وقيل: اثنتين وأربعين، لا عقب له بعد شهوده مع علي -كرم الله وجهه- حروبه كلها. وأما البلوي، بفتح الباء الموحدة واللام وكسر الواو ثم ياء النسب، فلم يختلفوا أنه نسبة إلى بلي بن عمرو بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة. قال أبو عمر النمري: يقولون: أبو بردة هانئ بن نيار بن عبيد بن كلاب بن غنيم بن هبيرة بن ذهل بن هانئ بن بلي بن عمرو بن حلوان بن إلحاف بن قضاعة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6456)، كتاب: المحاربين، باب: كم التعزير والأدب؟ ومسلم (1708)، كتاب: الحدود، باب: قدر أسواط التعزير.

قلت: وكون اسمه هانئ بن نيار، هو قول أهل الحديث، وقيل فيه: هانئ بن عمرو، وهذا قول ابن إسحاق. وذكر النمري الأقوال التي ذكرناها فيه، وأضافها إلى قائلها، والله أعلم (¬1). واعلم أن حديث أبي بردة هذا، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبي بردة (¬2). أما البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، فذكروا رواية عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبي بردة. وأما البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، فذكروا روايته عن أبيه عن أبي بردة، فيدخل في رواية المزيد في متصل الأسانيد؛ لزيادة جابر بن عبد الله بين أبيه عبد الرحمن، وأبي بردة، ويحتمل أن عبد الرحمن سمعه من أبي بردة، ثم سمعه من أبيه عن أبيه، ويحتمل عكسه، فيكون متصلًا، ولا يكون منقطعًا في إحدى الروايتين. وإنما ذكرت هذا؛ لأن ابن المتذر قال: إن في إسناد هذا الحديث مقالًا، وقال الأصيلي: اضطرب إسناد حديث عبد الرحمن بن جابر، فوجب تركه؛ لاضطرابه. وقول ابن المنذر يرجع إلى ما ذكره الأصيلي من الاضطراب؛ فإن رجال إسناد هذا الحديث ثقات. كيف وقد رواه البخاري ومسلم والأئمة؟ والاضطراب الذي ذكره الأصيلي ¬

_ (¬1) قلت: قد ترجم الشارح -رحمه الله- لأبي بردة بن نيار - رضي الله عنه - من قبل، ثم أعادها هنا، فلعلّ هذا كان سهوًا منه -رحمه الله-. (¬2) رواه أبو داود (4419)، كتاب: الحدود، باب: في التعزير، والنسائي في "السنن الكبرى" (7330)، والترمذي (1463)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في التعزير، وابن ماجه (2601)، كتاب: الحدود، باب: التعزير.

هو ما ذكرناه من زيادة رواية جابر بن عبد الله بين أبيه عبد الرحمن، وأبي بردة، وروي -أيضًا- عن عبد الرحمن بن جابر عمن سمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يضر ذلك جميعه كما بيناه، ولا تضر جهالة الصحابي. كيف وقد ذكر الصحابي في بعض طرقه، وكلها في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد؟ وروي -أيضًا- عن عبد الرحمن بن جابر، عن رجل من الأنصار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الاختلاف لم يؤثر عند البخاري ومسلم؛ لما بيناه أولًا من احتمال أن يكون من نوع المزيد في متصل الأسانيد، واحتمال سماعه من كل واحد منهما، ويكون الذي سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والرجل من الأنصار واحدًا، وهو أبو بردة؛ فإنه وإن كان قضاعيًّا، فإنه أنصاري بالحلف، فنسب إليهم، وهو مشهور بذلك. وذكر الحافظ أبو الحسن الدارقطني: أن حديث عمر بن الحارث المقري الذي قال فيه: عن أبيه، صحيح؛ لأنه ثقة، وقد زاد رجلًا، وتابعه أسامة بن زيد. فهذا الدارقطني قد صحح الحديث بعد وقوعه على الاختلاف، وجنح إلى ما جنح إليه صاحبا الصحيح -رحمهما الله- والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا في حَدٍّ من حدودِ الله -عزَّ وجل-"؛ الحدُّ في اللغة: المنع مطلقًا. وسميت الحدود المقدرة في الشرع بذلك؛ لأنه يمنع من معاودة معاصيها؛ ولأنه مقدر محدود. واختلف في تفسيره في هذا الحديث: فقيل: المراد به حق من حقوقه، وإن لم يكن من المعاصي المقدرة وحدودها؛ لأن المحرمات كلها من حدود الله تعالى، وهذا أولًا: خروج عن العرف في لفظ الحد، وثانيًا: أن ما ليس بمحرم يقتضي جواز الزيادة على العشرة ¬

_ (¬1) وانظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 222).

أسواط، وأن الزيادة مختصة به؛ إذ لم يبق لنا شيء غيره مما تجوز فيه الزيادة، وأصل التعزير ممنوع فيه، ولا تبقى لخصوصية منع الزيادة معنى، والذي تقتضيه الأدلة: أن المراد به فعل الماضي الذي لا حد فيها ولا كفارة. وقد قال بظاهر هذا الحديث في عدد الزيادة على العشرة الأسواط: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وإليه ذهب من الشافعية صاحب "التقريب"، وأشهب من المالكية؛ فإن الحديث متعرض للمنع من الزيادة عليها، وما دونها لا تعارض للمنع فيه. وفي هذا الحديث دليل: على إثبات التعزير، ومعناه في اللغة: التأديب، وأما في الشرع، فقال الماوردي: هو تأديب على ذنب ليس فيه حد (¬1)، فتوافق الحد في أنه زجر وتأديب للصلاح، يختلف بحسب الذنب، ويخالفه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تعزير أهل الهيبات أخف من تعزير غيرهم، ويستوون في الحد. والثاني: تجوز الشفاعة في التعزير والعفو عنه، دون الحد. والثالث: لو تلف من التعزير، ضُمن، ولو تلف من الحد، فهدر. وفيه: تقدير الضرب فيه بعدم الزيادة على العشرة، وأما بالنقص عنها، فلا. وقد ذكرنا من قال به قريبًا. وقد اختلف العلماء فيه، فالمنقول عن مالك -رحمه الله-: أنه لا يتقدر بعشرة ولا غيرها، ويُجيز العقوبات فوق العشرة وفوق الحدود على قدر الجريمة وصاحبها، ويجعل ذلك موكولًا إلى رأي الإمام واجتهاده، فحينئذ يحتاج من قال بجواز الزيادة على العشرة، وإن لم تبلغ أدنى الحدود، إلى العذر عن الحديث، فبعضهم طعن فيه بما ذكرنا، وقد بينا بطلانه، وبعضهم ادعى نسخه بعمل الصحابة -رضي الله عنهم- على خلافه، وأن عمر - رضي الله عنه - ضرب ¬

_ (¬1) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 357).

صَبِيغًا، -بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة وسكون المثناة تحت، وبالعين المعجمة آخره- أكثر من الحد، أو من مئة. وفعلُ بعضهم أو فتواه لا يدل على النسخ، إلا أن يقع الإجماع عليه، فيدل على وجود ناسخ، فيكون نسخًا، ولا إجماع. وتأوله بعض المالكية على أنه مقصور على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وهذا ضعيف جدًّا؛ لأنه ترك للعموم بغير دليل شرعي على الخصوص والمناسبة التي ذكرها ضعيفة -أيضًا-؛ لأنها لا تصلح لإثبات التخصيص. واعلم أن العلماء حيث جعلوا التخيير إلى رأي للإمام؛ في شيء من الأشياء، ليس المراد به تخيير نسبة، بل لا بد عليه من الاجتهاد الشرعي. وقد نقل عن بعض المالكية: أن مؤدب الصبيان لا يزيد على ثلاثة أسواط، فإن زاد، اقتص منه. وهذا -أيضًا- بعيد بتعدد إقامة الدليل عليه، ولعله أخذه من أن الثلاث اعتبرت في مواضع كثيرة من الشرع، وأنها حد الكثرة، وهو ضعيف. وظاهر مذهب الشافعي -رحمه الله- جوازُ الزيادة على العشرة، إلا أنه لا يبلغ بالتعزير الحد. وقال بعض الشافعية: الأظهر جواز الزيادة على العشرة. واختلف أصحابه على هذا في المعتبر على وجهين: أدنى الحدود في حق المعزر، فلا يزاد في تعزير الحر على تسع وثلاثين ضربة؛ ليكون دون حد الأحرار، ولا في تعزير العبد على تسعة عشر سوطًا. الثاني: يعتبر أدنى الحدود على الإطلاق، فلا يزاد في تعزير الحر -أيضًا- على تسعة عشر سوطًا -أيضًا-. وفيه وجه ثالث: أن الاعتبار فيه بعد الأحرار مطلقًا، فيجوز أن يزاد تعزير العبد على عشرين.

ولا شك أن التعزيرات فرع الحدود؛ ولهذا سماها غير واحد: حدودًا؛ كما أن نوافل الصلاة فرع فرائضها، وهي تبع لها في أحكامها وهيئاتها، وقد جعلها الشارع - عليه السلام - جوابر لما نقصَ من الفرائض، وكذلك التعزيرات مع الحدود، لكنها لا ترتفع عليها، وكذلك الكرامات مع المعجزات فرعها، فلا ترتفع عليها، والله أعلم. * * *

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور الحديث الأول عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ! لَا تَسْأَلِ الإِمَارَة؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْت إلَيْها، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فكَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وَائتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (¬1). أما عبد الرحمن بن سمرة؛ فكنيته: أبو سعيد بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، قرشيٌّ عبشميٌّ، أسلم يوم الفتح، وصحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، ثم غزا خراسان في زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وهو الذي افتتح سجستان، وكابل، وكان اسمه: عبدَ كلاب، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الرحمن. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على هذا الحديث، وانفرد مسلم بحديثين. روى عنه: عبدُ الله بن عباس، والحسنُ، ومحمدُ بنُ سيرين، وسعيدُ بن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6727)، كتاب: الأحكام، باب: من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها، ومسلم (1652)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.

المسيب، وجماعة من التابعين، ومات بالبصرة سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين. وقال الحاكم أبو عبد الله حكاية عن بعضهم: إنه توفي، ودفن بمرو، وإنه أول من توفي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بمرو. وروى له أصحاب السنن والمساند (¬1). أما "الإمارة"؛ فهي تعمُّ كلَّ ولاية عامة أو خاصة. والحكمة في ألَّا يُولاها من سألها، أنه يوكَل إليها، ولا تكونُ له من الله إعانة، وإذا كان كذلك، لا يكون كفؤًا، وغير الكفؤ لا يُولى، وإنما تحصل الإعانة لمن أعطيها عن غير مسألة؛ لأنه لا يسأل عن الولاية إلا من أجمعت القلوب على أهليته، واعترفت بالعجز عن القيام برتبته، فصار ذلك باعثًا لهم على تسديده وإعانته، ويلزم من حاله وعدم تعرضه إليها اعترافُه بالعجز والتقصير، وذلك سببٌ حامل على الاجتهاد والتشمير، بخلاف من سألها؛ فإنه لا يفعل ذلك إلا وقد حدثته نفسه بالأهلية والرجحان، وذلك سبب لعدم الإعانة والنقصان؛ فإن النفوس مجبولة بطبعها على عدم إعانة من هذا وصفُه، وإيكاله إلى نفسه وولايته؛ لنقصه عندهم، فاعتماده على حديث نفسه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا نُوَلِّي عَمَلَنا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ" (¬2)؛ حيث إن التهمة متطرقة إلى الطالب الحريص، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 242)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 238)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 835)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (34/ 414)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 450)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 276)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 157)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 571)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 310)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 173). (¬2) رواه البخاري (6730)، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة، ومسلم (1733)، كتاب: الإمارة، باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، بلفظ: "إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه".

وقوله: "وُكِلْتَ إلَيْها"؛ هو بالواو؛ ومعناه: أُسْلِمْتَ إليها، ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة. ووقعت الرواية في "صحيح مسلم" للفظة: أُوكلت -بالهمزة والواو-، [وجهان، قال القاضي عياض: هو في أكثرها بالهمزة، والصواب بالواو] (¬1)، والله أعلم (¬2). وفي هذا الحديث أحكام: منها: أن من تعاطى أمرًا، وسولت له نفسه أنه أهل له، قائم به: أنه يغلب فيه في أغلب الأحوال؛ لأن من سال الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها (¬3)، فيوكل إليها؛ حيث إنه تعاطاها، والمتعاطي أبدًا مخذول، بخلاف من لم يحدث نفسه بشيء من ذلك؛ فإنه لم يسأله لرؤيته نفسه بالعجز والتقصير عنه؛ حيث إنه تواضع، واعترف بوصفه، وهو النقصان أبدًا، ومن تواضع لله، رفعه الله. ومنها: كراهة طلب الولاية مطلقًا، وقد ثبتت أحاديث في المنع، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: "لا تأمرنَّ على اثنين" (¬4)، ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولايةُ حَسْرَةٌ ونَدامة" (¬5)، ومنها: حديث الكتاب: "لا تسألِ الإمارةَ". وقد تصرف الفقهاء في هذه المسألة بالقواعد الكلية، والذي تقتضيه الأدلة من الأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة -رضي الله عنهم-: أنه من تعين عليه أمر من الأمور، وعلم من نفسه القيام به على ما يقدر عليه من الاستطاعة فيه، أو ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ح". (¬2) وانظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 116). (¬3) في "ح": "إليها". (¬4) رواه مسلم (1826)، كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 476)، والنسائي في "السنن الكبرى" (3/ 463)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (32542)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (7 /)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 129)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

كان يرتزق به، أو علم تضييع القائم بها حقوقها، أو حصولها في غير مستوجبها، ونيته إقامة الحق فيها، جاز له الدخول فيها، ووجب عليه قبولها إذا عُرضت عليه، وطلبها إن لم تُعرض؛ لأنه فرض كفاية لا يتادى إلا به، فتعين عليه القيام به. وكذا إن لم يتعين عليه، وكان أفضل من غيره. ومنعنا ولاية المفضول مع وجود الأفضل، وإن كان غيره أفضل منه، ولم يمنع تولية المفضول مع وجود الفاضل، فهاهنا يكره له الدخول في الولاية، وأن يسألها. وجوز بعضهم الطلب، وكره للإمام أن يوليه، وقال: إن ولاه، انعقدت ولايته، وقد خطئ في ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن وَلَّى رَجُلًا مِن عِصابَةٍ، وفي تلكَ العصابةِ مَن هو لله أَرْضى منهُ، فقدْ خانَ اللهَ، وخانَ رسولَه، وخانَ المؤمنين"، ورواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (¬1). وكره بعض العلماء تولية القضاء مطلقا؛ لأحاديث وردت فيه؛ منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "القُضاةُ ثلاثة؛ واحدٌ في الجنةِ، واثنانِ في النار" (¬2) ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وليَ القضاءَ، فقدْ ذُبِحَ بغيرِ سِكِّين" (¬3). مع أن بعض العلماء تأوله على المدح، وقال: لاجتهاده في طلب الحق، وبعضُهم على الذم؛ لعجزه غالبًا عن القيام به، وعدمِ المعين له على الحق. ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 352)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 247)، والحاكم في "المستدرك" (7023)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1462)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه أبو داود (3537)، كتاب: الأقضية، باب: في القاضي يخطئ، والنسائي في "السنن الكبرى" (5922)، والترمذي (1322)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، وابن ماجه (2315)، كتاب: الأحكام، باب: الحكم يجتهد فيصيب الحق، والحاكم في "المستدرك" (7512)، عن بريدة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (3571)، كتاب: الأقضية، باب: في طلب القضاء، والنسائي في "السنن الكبرى" (5923)، والترمذي (1325)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2308)، كتاب: الأحكام، باب: ذكر القضاة، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 230)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ولا شك أن معظم السلف في الصدر الأول لم يمتنعوا منه، وإنما كان ذلك لعلمهم يقينًا أو ظنًّا بالقيام به، ووجودِ المعين للحق في الحق. ومعظم السلف من الصدر الثاني والثالث امتنعوا منه، وتحيلوا على الامتناع منه، حتَّى بأسباب توهم الجنون أو قلة المروءة؛ لما علموا في توليته من الخطر العظيم، وعدم براءة الذمة فيه، فارتكبوا أمرًا مباحًا، وخلاف الأولى؛ للخلاص من المحرم أو المكروه. وقد اعتمد الفقهاء مثل ذلك في أحكام كثيرة في أبواب من العلم يطول ذكرها، والله أعلم. والسلامة لا يعدلها شيء في الدنيا والآخرة، وثنيات الطرق لا تسلك، فإنَّها مفضية إلى الهلاك حسًّا، والله أعلم. ومنها: لطف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالعبد فيما قضاه وقدره وأوجبه عليه بالإعانة على إصابة الصواب في فعله وقوله: لطفا وتفضلًا زائدًا على مجرد التكليف والهداية، وتحديد ذلك له. فإنَّه لما كان خطر الولايات عظيمًا بسبب أمور خارجة عنه، كان طلبها تكلفًا ودخولًا في غرر عظيم، فهو جدير بعدم العون. ولما كانت إذا أتت عن غير مسألة، ولم يكن فيها تكلف، كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها، دل ذلك جميعه على لطف الله تعالى بالعبد وفضله عليه في كل أمره، والله أعلم. فهذا ما يتعلق به الحديث من ذلك، وهذا الكلام داخل في علم الأصول، ويكفي ما أشرنا إليه فيه. واعلم أن من نظر إلى ما تعلق به من أوامر الشرع ونواهيه في الولاية وغيرها، وعلم أنَّه مسؤول عن الفتيل، والكثير والقليل، وأنه يؤتى يوم القيامة بمثقال حبَّة من خردل، علم أن ترك الولاية وقطع العلائق أولى به، واقتصر على ما لا بد منه ضرورة.

ودخول السادات من الصدر الأول في الولايات إنما كان دينًا محضًا، لا يشوبه شيء من الحظوظ. ولهذا كان الولاة منهم أفضلهم وأقواهم دينًا لذلك، ومع هذا كان خوفهم شديدًا، حتَّى نقل عن عمر -رَضِيَ الله عَنْهُ-: أنَّه قال: ليتَ أمَّ عمرَ لم تلدْه (¬1). وأقوال السلف في ذلك كثيرة؛ ومنها: أن من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، من فعل أو ترك؛ بأن كان التمادي على اليمين مرجوحًا في نظر الشرع، والحنث خير منه: أنَّه يستحب له الحنث، وتجب الكفارة، وقد يكون الحنث واجبًا، وهذا متفق عليه. وأجمعوا على أنَّه لا تجب عليه كفارة قبل الحنث، وعلى أنَّه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنَّه لا يجوز تقديمها قبل اليمين. ولا شك أن قوله لجمنم في هذا الحديث: "فكَفِّر عن يمينِكَ وائْتِ الذي هو خيرٌ" ما يقتضي تقديم التكفير على الحنث؛ من حيث الاهتمامُ بذكره. وقد اختلف العلماء في جواز ذلك، فقال مالك والشافعي: يجوز، ونقل عن أربعة عشر صحابيًّا، وجماعات من التابعين، وبه قال الأَوْزَاعِيّ، والثوري، وجماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث. واستثنى الشَّافعيّ التكفير بالصوم، فقال: لا يجوز قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها؛ كالصلاة وصوم رمضان، وأما التكفير بالمال، فيجوز تقديمه، كما يجوز تعجيل الزكاة. واستثنى بعض أصحابه حنث المعصية، فقال: لا يجوز تقديمه على كفارته؛ لأن فيه إعانة على المعصية، والجمهور على إجزائها لغير المعصية. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 83)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (9/ 425).

وقال أبو حنيفة وأصحابه، وأشهب المالكي: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث بكل حال. وتعلق من قال بالبداءة بالتكفير قبل الحنث بهذا الحديث؛ حيث قدمه عليه، وهو ضعيف من حيث إن الواولا تقتضي الترتيب، والمعطوف والمعطوف عليه بها كالجملة الواحدة، وليس بالجيد طريقة من يقول في مثل هذا: إن الفاء تقتضي الترتيب والتعقيب، فيقتضي ذلك أن يكون التكفير مستعقبًا؛ لرواية الخبر في الحنث، وإذا استعقبه التكفير، تأخر الحنث ضرورة. وإنما قيل: ليس بجيد؛ لما بُين في حكم الواو، فلا فرق بين قولنا: فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير، وبين قولنا: فافعلْ هذين، ولو قال كذلك، ولم يقتض ترتيبًا ولا تقديما، فكذلك إذا أتى بالواو. وقد ذكرت هذه الطريقة عن بعض الفقهاء في اشتراط الترتيب في الوضوء، وقال: إن هذه الآية تقتضي تقديم غسل الوجه بسبب الفاء، وإذا وجب غسل الوجه، وجب الترتيب في بقية الأعضاء اتفاقًا، وهو ضعيف لما بُيِّن. ومنها: أنَّه إذا لم هي الحنث خيرًا، اقتضى تأخير مصلحة الوفاء بمقتضى اليمين؛ فإن الحديث علق الحنث على رؤية غيرها خيرًا منها، وذلك مطلوب. والآية الكريمة في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] تأبى التأخير عن مصلحة الوفاء، وقد حملها بعضهم على ما دل عليه الحديث، فقال: {عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}؛ أي: مانعًا، و {أَنْ تَبَرُّوا} بتقدير: من {أَنْ تَبَرُّوا}. ومنها: بيان كرم الله تعالى على عبادة في عدم الوقوف عند الأيمان، وبأنه يحنث فيها؛ لئلا يؤدي ذلك إلى المنع من الخير وترك البر، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي وَاللهِ إنْ شَاءَ اللهُ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأرَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا أَتيْتُ الَّذِي هُوَ خيرٌ وَتَحَللْتُهَا" (¬1). تقدم الكلام على أبي موسى، وأنه عبد الله بن قيس الأَشْعريّ. وهذا الحديث ورد على سبب، وهو أنَّه - صلى الله عليه وسلم - الحِمْلانَ، فحلف ألا يحملهم، ثم حملهم، فكرهوا تحلُّلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وخافوا عقوبةَ ذلك، فقال ذلك، ولا شك أن معناه ما تقدم في الحديث قبله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني واللهِ إنْ شاءَ الله"؛ تنبيه على تأكيد ما يخبر به الإنسان عن نفسه في المستقبل بالقسم، وبالاستثناء بـ "إن شاء الله"، تبركًا وأدبًا؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أحلفُ على يمينٍ"، وذلك لا يكون إلَّا مستقبلًا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحللتُها"؛ يعني: تحللتها بالتكفير عنها، ويحتمل أنَّه إتيان ما يقتضي الحنث؛ فإن التحلل يقتضي العقد، والعقد هو ما دلت عليه اليمين من موافقة مقتضاها، فيكون التحللُ الإتيانَ بخلاف مقتضاها، وهذا مستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلَّا أتيتُ الذي هو خيرٌ"؛ يعني: ما كان خلافَ مقتضى اليمين، فلا يبقى لهذا الاحتمال فائدة زائدة عليه من حيث مقتضاه، اللهمَّ إلَّا أن تكون الفائدة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحللتها"، التنصيصَ والتصريح بما يناسب الجواز والحلَّ صريحًا؛ فإنَّه أبلغ مما إذا أتى به بطريق الاستلزام. كيف وقد أكد - صلى الله عليه وسلم - الحكمَ المذكور باليمين بالله تعالى عليه، وهو يقتضي المبالغةَ في ترجيح الحِنْث على الوفاء بما حلف عليه، وذلك يرجع إلى مصالح ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (6302)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: اليمين فيما لا يملك وفي المعصية وفي الغضب، ومسلم (1649)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.

الحديث الثالث

الحنث المتعلقة بالمفعول المحلوفِ على تركه مثلًا، وسببُ الحديث الذي ذكرناه يبينه، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَن تَحْلِفُوا بآبَائِكُم". وَلِمُسلِمٍ: "فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَليَحْلِفْ باللهِ أَوْ لِيَصُمت" (¬1). وَفِي رِوَاية: قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا حَلَفتُ بهَا مُذ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا (¬2)؛ يَعنِي: حَاكِيًا عَنْ غَيرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا. واعلم أن سبب النهي: أن قريشًا كانت تحلف بآبائها، وأدرك - صلى الله عليه وسلم - عمرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- في ركب وهو يحلفُ بأبيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ ينهاكم"، الحديث. والحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى: أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقةُ العظمةِ لله تعالى، لا يشاركه فيها أحد، ولهذا قال -سبحانه وتعالى- في الأحاديث الصحيحة المروية عنه -سبحانه-: "العَظَمَةُ إِزاري، والكِبْرِياءُ رِدائي، فَمَنْ نازَعَني فيها، عَذَّبْتُهُ" (¬3)، وإذا كان كذلك، فلا يضاهى بالتعظيم غيرُه -سبحانه وتعالى-. وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لأَنْ أحلفَ بالله مئة مرة فآثم، خيرٌ من أن أحلفَ بغيره فَأَبَرَّ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (5757)، كتاب: الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأَولًا أو جاهلًا، ومسلم (1646)، (3/ 1267)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى. (¬2) رواه البُخَارِيّ (6271)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم (1646)، (3/ 1266)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 203)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 105)، و"فتح =

ولا شك أن الله -سبحانه وتعالى- له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ تنبيهًا على شرفها، فقد أقسم الله -سبحانه وتعالى- بعمر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، وأقسم بالعصر، وبالشمس وضحاها، وبالقمر، وبغير ذلك مما في الكتاب العزيز؛ وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- العظيم المطلق، يحكم ولا يُحكم عليه، فله أن يقسم بما شاء، والعباد متصرَّفٌ فيهم مقيدون، فلا يقسمون إلَّا بما أذن لهم فيه، وهو الحلف بأسماء الذات والصفات العلية كما قاله العلماء. فإن قيل: هذا الحديث مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ" (¬1) فقد أقسم بأبيه. والجواب: أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يُقصد بها اليمين. وأما معنى قول عمر -رَضِيَ الله عَنْهُ-: فوالله ما حلفت بها بعد النهي ذاكرًا؛ أي: قائلًا لها من قبل نفسي، ولا آثرًا -بمد الهمزة-؛ أي: أروي عن غيري أنَّه فعله. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمنْ كانَ حالِفًا، فليحلف بالله أو ليصمُتْ"؛ معناه: أن الحلف لا يكون إلَّا بالله، فمن أقسم، فليقسم به -سبحانه وتعالى-، وإلا فليصمت. وظاهر الأمر بالصُّمات: الوجوب، ومخالفته التحريم، ويؤيد ذلك ما رواه التِّرْمِذِيّ وغيره: أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: قال: "من حلفَ بغيرِ اللهِ فقدْ أشركَ" (¬2)، لكن قال أصحاب الشَّافعيّ وغيره: هو مكروه، ليس بحرام، وقال غيرهم: هو حرام، والخلاف في ذلك موجود عند المالكية، والله أعلم. ¬

_ = الباري" لابن حجر (11/ 535). (¬1) تقدم تخريجه في حديث طلحة بن عبيد الله -رَضِيَ الله عَنْهُ- في قصة الرَّجل الذي وإن يسأل عن الإِسلام. (¬2) رواه التِّرْمِذِيّ (1535)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وقال: حسن، وأبو داود (3251)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والامام أَحْمد في "المسند" (2/ 69)، وابن حبان في "صحيحه" (4358)، والحاكم في "المستدرك" (7814)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وفي هذا الحديث أحكام: منها: المنع من الحلف بغير الله -عَزَّ وَجَلَّ-، واليمينُ منعقدة عند الفقهاء باسم الذات والصفات العلية. ومنها: إباحة الحلف بالله تعالى. قال العلماء: إلَّا أن يقترن به مقصود شرعي؛ من تفخيم لأمر، أو تنبيه عليه بفهم أو معرفة رتبة، أو نحو ذلك، فيكون مستحبا، وعلى هذا ينزل ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من الحلف، والله أعلم. ومنها: منع الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، وكلٌّ مجمع عليه، والله أعلم. واعلم أن الأقسام ثلاثة أنواع: الأول: ما يباح به اليمين من أسماء الله -عَزَّ وَجَلَّ- وصفاته، كما ذكرنا. الثاني: ما يحرم به اليمين بالاتفاق؛ كالأنصاب، والأزلام، واللات، والعزى، وكذلك الحلف بنعمة السلطان، وحياتك، وتربة الشَّهيد، وكذلك إذا حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكعبة، قاصدًا بذلك التعظيم، كله حرام. وقال بعض المالكية في اللات والعزى والأنصاب والأزلام: إن قصد تعظيمها، فهو كفر، وإلا فحرام، ولا شك أن القسم بالشيء تعظيم له، وسيأتي حديث يدل على إطلاقه على الكفر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلفَ على يمينٍ بملَّةٍ غيرِ الإِسلامِ كاذبًا متعمَّدًا، فهو كما قالَ" (¬1). وقد روى مسلم في "صحيحه": أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلفَ فقالَ في حلفِه: باللَّاتِ والعزَّى، فليقلْ: لا إلهَ إلَّا الله" (¬2). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في أحاديث باب الأيمان. (¬2) رواه مسلم (1647)، كتاب: الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلَّا الله، والبخاري أَيضًا (6274)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت، عن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ-.

وإنما أمر بقوله: إلَّا إله إلَّا الله"؛ لأنه تعاطى بحلفه صورة تعظيم الأصنام حتَّى حلف بها. قال أصحاب الشَّافعيّ: إذا حلف باللات والعزى، أو غيرها من الأصنام، أو قال: إن فعلت كذا، فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإِسلام، أو بريء من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو نحو ذلك، لم تنعقد يمينه، بل عليه أن يستغفر الله تعالى، ويقول: لا إله إلَّا الله، ولا كفارةَ عليه، سواءٌ فعله أم لا. وبعدم الكفارة في ذلك قال الشَّافعيّ ومالك وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة: تجب الكفارة في كل ذلك، إلَّا في قوله: أنا مبتدع، أو بريء من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو حلف باليهودية. واحتج بأن الله -عَزَّ وَجَلَّ-أوجب على المظُاهِرِ الكفارةَ؛ لأنه منكَر من القول وزور، والحلفُ بهذه الأشياء منكَر وزور. واحتج الشافعية والجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - الحديث: "فليقلْ: لا إله إلَّا الله"، ولم يذكر كفارة، والأصلُ عدمُها حتَّى يثبت بها شرع. وأما قياسه على الظاهِر، فهو منتقض بما استثناه من قوله: أنا مبتدع، أو أنا بريء من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو حلف باليهودية، فإنَّه لم توجب فيها كفارة، والله أعلم. النوع الثالث: ما يختلف فيه التحريم والكراهة، وهو ما عدا ذلك؛ مما لا يقتضي تعظيمه كفرًا، والله أعلم. ومنها: المبالغة في الاحتياط في الكلام، بألَّا يحكي قول الغير الذي منع الشرع منه؛ لئلا يجري على اللسان ما صورته صورة الممنوع شرعًا، ومن هذا حكاية المذاهب الباطلة من غير ذكر الدليل على بطلانها، وتقبيح قولها واعتقادها، خصوصًا إذا هجرت ونسيت وماتت، فلا تحكى؛ فإنَّها تنبه أهل الباطل على مضاهاتهم لأهل الحق، وأن لهم صورة ومقابلة، فليتفطن لما نبهت عليه؛ فإنَّه جليل عزيز. ومن عرف الأشياء وأضدادها، وما يترتب عليها من الفساد، ودخول الشبه

الحديث الرابع

والتشعيبات والتشغيبات، تحقق ما ذكرته! واتضح بما نبه عليه أمير المُؤْمنين -رَضِيَ الله عَنْهُ- فيما أوضحته، والله يرشدنا إلى الصواب في القول والعمل، ويحمينا من الخطأ والزلل. * * * الحديث الرابع عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عليهما السلامُ-: لأَطُوفَنَّ الليلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأةً تَلِدُ كُل امْرَأَةِ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إنْسَانٍ"، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ" (¬1). قوله: "قيلَ له: قلْ: إنْ شاءَ اللهُ" يعني: قالَ لهُ الملَكُ. أما سليمان - عليه السلام -؛ فهو أحد المؤمنينِ اللذينِ ملكهما الله تعالى الدنيا كلها -فيما نقل-. قال الشيخ أبو عبد الله الحسين بن خالويه -رحمه الله-: وقد قيل: إن الدنيا ملكها الله -عَزَّ وَجَلَّ- أربعةً؛ مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: نمرود، وبخت نصر. والله أعلم. وقال أبو عبد الله بن محمَّد بن سلامة بن جعفر القضاعي -رحمه الله تعالى-: إن سليمان بن داود -عليه ما السلام - ملك بعد أَبيه، وله اثنتا عشرة سنة من عمره، وسخر الله تعالى معه الجن والإنس والطير والرياح، وآتاه النبوة، وكان إذا جلس في مجلسه، عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن، وكان إذا أراد سفرًا لغزو، أمر، فنُصب له خشب، وحُمل عليه ما يريد ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (6341)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: الاستثناء في الأيمان، ومسلم (1654)، كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء.

من النَّاس والدواب وآلة الحرب، ثم يأمر العاصفَ من الريح، فيدخل تحت ذلك الخشب، فتحمله، فهذا استقل، أمر الرخاء فمدته شهرًا في غدوةٍ، وشهرًا في روحة إلى حيث شاء. ولما مضى من ملكه أربع سنين، بدأ ببناء بيت المقدس، وفرغ منه في سبع سنين، ولما مضى من ملكه خمس وعشرون سنة، جاءته ملكة سبأ، وهي بلقيس، وكان من قصته معها ما قصه الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّه قال: إن سليمان - عليه السلام - تزوجهًا. وقال وهب: زوَّجها ذا تبع ملكَ همذان، وردها إلى اليمن، وسلَّط زوجَها على اليمن. قال السدي: إن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وجلس على كرسيه أربعين صباحًا، وخرج سليمان هاربًا على وجهه يستطعم النَّاس، فكانت هذه فتنته التي ذكرها الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ثم إن الشيطان هرب وطرح الخاتم في البحر، وتُصدق على سليمان بحوت، فشق بطنه، فوجد الخاتم فيه، فرده الله إلى ملكه (¬1). وروى ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: "بينما سليمان يصلي ذات يوم، رأى شجرة، فقال: ما اسمك؟ فقالت: الخرُّوب، فقال: لأي شيء أَنْتَ؟ قالت: لخرابِ هذا البيت، فقال سليمان: اللهمَّ عَمِّ على الجنِّ موتي، حتَّى تعلم الإنس أنَّهم لا يعلمون الغيب، ونحتَ من الخروب عصًا، وتوكأ عليها حَوْلًا وهو ميت، والجن لا تعلم، فأكلتها الأَرَضَة، فسقط" (¬2)، وكان جميع عمره اثنين وخمسين سنة، وملك بعده ابنه رخيعم سبع عشرة سنة، ثم افترقت ممالك بني إسرائيل، فملك بعده ابنه إيثائر بعض بني إسرائيل ثلاث ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 9)، و"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 180). (¬2) رواه الطَّبْرَانِيّ في "المعجم الكبير" (12281)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 296). قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 530): وفي رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفًا.

سنين، وملك بعده ابنه امنا إحدى وأربعين سنة، وكان رجلًا صالحًا، وكان أعرج من عرق النساء، ولم يزل الملك في ولده إلى صاحب شعيا، واسمه صديقة، فيما قاله ابن إسحاق، وقال غيره: حزقيا (¬1). وأما أبوه داود - عليه السلام -؛ فهو ابن آشي بن عويد من ولد يهوذ ابن يعقوب - عليه السلام -. قال وهب بن منبه: كان قصيرًا أزرق قليل الشعر، طاهر القلب، نقيه، ورثه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ملكَ طالوت، ونبوةَ شموئيل، وأطاعه بنو إسرائيل، وفتح لهم الفتوحات الكثيرة، وأنزل الله عليه الزبور، وعلمه صنعة الحديد، وأمر الجبال والطير أن يسبحن معه إذا سبح، وأعطاه من حسن الصوت ما لم يعطه أحدًا من خلقه، وكان له تسعة وتسعون زوجة، ولما بلغ ثمانيًا وخمسين سنة من عمره، ابتلي بقصة أوريا، وتزوج زوجة أوريا وولدت له سليمان، وبكى على خطيئته أربعين صباحًا حتَّى نبت العشب من دموع عينيه، فتاب الله عليه. وقيل: إنه أخذ في عُدة بناء بيت المقدس، ومات ولم يبنهِ، وقيل: إنه شرع في بعض بنائه، ومات ولم يتم، وكان عمره مئة سنة. ويزعم أهل الكتاب أنَّه عاش سبعًا وسبعين سنة، وقيل: سبعين سنة، ويقال: إن جنازته شيعها أربعون أَلْف واهب، وأن ملكه كان أربعين سنة (¬2). وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَطوفَنَّ الليلةَ"، فهكذا هو في الروايات كلها "لأَطوفنَّ"، ووقع في بعض نسخ "صحيح مسلم": "لأطيفنَّ الليلة"، وهما لغتان فصيحتان. يقال: طاف بالشيء، وأطاف به: إذا دار حوله، وتكرر عليه، فهو طائف ومُطيف. وهو هنا كناية عن الجِماع (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر خبر سليمان بن داود -عليه ما السلام - في: "تاريخ الطبري" (1/ 287)، و"الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/ 175). (¬2) وانظر خبره - عليه السلام - في: "تاريخ الطبري" (1/ 281)، و"الكامل في التاريخ" لابن الأثير (1/ 169). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 323).

واللام في قوله: "لأطوفن" يحتمل أن تكون جوابًا لقسم تقديره: والله لأطوفن، وهو الظاهر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قالَ: إنْ شاءَ اللهُ لم يحنَثْ"؛ لأن عدم الحنث ووجوده لا يكون إلَّا عن قسم. ويحتمل أن يكون حكاية عن قول سليمان من غير قسم، فتكون اللام ابتدائية، وهو خلاف الظاهر. وقوله: "على سبعين امرأةً" وقد روى مسلم: كان لسليمان ستون امرأة (¬1)، وفي رواية: له سبعون (¬2)، وفي رواية: تسعون (¬3)، وفي غير "صحيح مسلم": تسع وتسعون، وفي رواية: مئة (¬4). وكل ذلك ليس بمتعارض؛ لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير، كيف وهو من مفهوم العدد، وهو غير معمول به عند جماهير الأصوليين (¬5)؟ قوله: "تلدُ كلُّ امرأةٍ منهنَّ غلامًا يقاتلُ في سبيل الله"؛ هذا إنما قاله على سبيل التمني للخير، وقصد به الآخرة، والجهاد في سبيل الله تعالى، لا لعرض الدنيا، ولا يجوز أن يكون قاله عن وحي، وإلا لوجب وقوعُ مخبره، والله -سبحانه- أعلم. وقوله: "فقيلَ له: قلْ: إنْ شاءَ اللهُ"؛ وقال المصنف: يعني: قال له الملَكُ؛ فهكذا هو الظاهر على ما رواه مسلم في ""صحيحه" مرفوعًا: "فقال له صاحبه أو الملك"، وقيل: المراد به: القرين، وقيل: المراد: صاحبٌ له آدمي. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1654)، (3/ 1275)، كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء، والبخاري أَيضًا (7031)، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة. (¬2) تقدم تخريجها في حديث الباب. (¬3) رواه البُخَارِيّ (6263)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ ومسلم (1654)، (3/ 1276)، كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء. (¬4) رواه البُخَارِيّ (2664)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من طلب الولد للجهاد، بلفظ: "لأطوفن الليلة على مئة امرأة، أو تسع وتسعين". (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 120).

وقوله: "فلم تلد منهن إلَّا امرأةٌ واحدةٌ نصفَ إنسان"؛ قيل: هو الجسد الذي ذكره الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنَّه ألقي على كرسيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قالَ: إن شاءَ اللهُ، لم يحنثْ، وكان دَرَكًا لحاجته"؛ هذا محمول على أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -أوحي إليه بذلك في حق سليمان - عليه السلام -؛ لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا. وقوله: "وكانَ دَرَكًا لحاجته"؛ هو بفتح الراء: اسمٌ من الإدراك؛ أي: لحاقًا، قال الله تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه:77] والمعنى: أنَّه كان يحصل له ما أراد. وفي هذا الحديث أحكام: منها: قصد للخيرات وأسبابها. ومنها: أن السنة لمن قال: سأفعل كذا، أن يقول: إن شاء الله، والكتاب العزيز يدل على ذلك، -أَيضًا - في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]. ومنها: ما خص به الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يطوف على إحدى عشرة في الساعة الواحدة، كما ثبت في "الصحيح" (¬1)، وهذا كله من زيادة القوة. ومنها: أن إتباعَ المشيئةِ لليمين بالله يرفعُ حكمها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يحنث". قال القاضي عياض -رحمه الله-: أجمع المسلمون على أن "إن شاء الله" تمنع انعقاد اليمين؛ بشرط كونِه متصلًا، قال: ولو جاز منفصلًا كما روي عن بعض السلف، لم يحنث أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة، قال: واختلفوا في الاتصال: فقال مالك، والأوزاعي، والشافعي، والجمهور: هو أن ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (4781)، كتاب: النكاح، باب: كثرة النساء، ومسلم (309)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب .. ، عن أنس بن مالك -رَضِيَ الله عَنْهُ-: أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة، وله تسع نسوة.

يكون قوله: "إن شاء الله" متصلًا باليمين من غير سكوت بينهما، ولا تضر سكتة التنفس (¬1). وشرط أصحاب الشَّافعيّ مع الاتصال نيةَ قولِ المشيئة قبلَ الفراغ من اليمين، وبعضهم شرط أن ينوي قولَها من أول اليمين، وما أعلم وَجْههما؛ من حيث إن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد قولها بنية ولا غيرها، بل لولا المعنى في انفصالها عن اليمين ولو بعد مدة أنَّه يوجب عدم عقد الأيمان ووجوب الكفارة، وإلا لما كان اتصالها بها يشترط من حيث الحديث؛ فإنَّه لم يقيده بالاتصال لفظًا -أَيضًا-. وقد تمسك به من قال بجواز تأخير المشيئة أبدًا، ومن قال: ما لم يقم من المجلس، ومن قال: أربعة أشهر، لكنها مذاهب مرجوحة، والله أعلم. واعلم أن المشيئة ترد على أحوال: الأول: أن ترد إلى الفعل المحلوف عليه؛ كقوله مثلًا: لأدخلنَّ الدار إن شاء الله، وأراد تعليق المشيئة بالدخول؛ أي: إن شاء الله دخولها، فهذا الذي ينفعه الاستثناء بالمشيئة، ولا يحنث إن لم يفعل. الثاني: أن يرد الاستثناء بالمشيئة إلى نفس اليمين، ولا ينفعه؛ لوقوع اليمين، وتبين مشيئة الله تعالى. الثالث: أن يذكر على سبيل الأدب في تفويض الأمور إلى مشيئة الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وامتثالًا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، لا على قصد معنى التعليق، وهذا لا يرفع حكم اليمين، ولا تعلق للحديث بتعليق الطلاق بالمشيئة. والفقهاء مختلفون فيه، قالوا: فلو قال: أَنْتَ طالق إن شاء الله، أو: أَنْتَ حر إن شاء الله، أو: أنتِ علي كظهر أمي إن شاء الله، أو: لزيد في ذمتي أَلْف درهم إن شاء الله، أو: إن شفى الله مريضي، فلله عليَّ صوم شهر إن شاء الله، أو ما أشبه ذلك، فمذهب الشَّافعيّ، والكوفيين، وأبي ثور، وغيرهم: صحةُ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 119).

الاستثناء في جميع الأشياء، كما أجمعوا عليها في اليمين بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، فلا يحنث في طلاق ولا عتق، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ولا إقراره، ولا غير ذلك فيما يتصل به قوله: إن شاء الله تعالى، وهو مشكل جدًّا. وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلَّا باليمين بالله تعالى، واختلف السلف في أن الاستثناء بالمشيئة في اليمين بالله، هل يشترط اتصاله أم لا؟ ومن قال: لا يشترط اتصاله، اختلفوا في المدة التي يجوز انفصاله إليها؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: له الاستثناء أبدًا متى تذكره، وعن بعضهم: له الاستثناء سنة أو سنتين، وروي عن مجاهد، وعن سعيد بن جبير: يجوز بعد أربعة أشهر، وعن طاوس، والحسن، وجماعة من التابعين: له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم، وقال عطاء: قدر حَلْبِه ناقة. وهذه المذاهب كلها مرجوحة متأولة على جواز التبرك باستحباب قول: إن شاء الله، لمن حلف على فعل مستقبل؛ لقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث. ومنها: أن الاستثناء لا يكون إلَّا باللفظ، ولا يكفي فيه النية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قالَ: إنْ شاءَ اللهُ، لم يحنثْ"، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأَحمد، والعلماء كافة. وحكي عن بعض المالكية أن قياس قول مالك صحةُ الاستثناء بالنية من غير لفظ. ومنها: أن الكناية في اليمين مع النية، كالصريح في حكم اليمين؛ لأن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - حكى عن سليمان - - عليه السلام - -: أنَّه قال: "لأطوفنَّ"، وليس فيه التصريح باسم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولكنه مقدر لأجل اللام التي دخلت على قوله "لأطوفنَّ"، فإن كان قد قيل بذلك، وأن اليمين تنعقد بمثله، فالحديث حجة لمن قاله، وإن لم يكن، فيحتاج إلى تأويله، وتقدير التلفظ باسم الله -عَزَّ وَجَلَّ- في المحكي، وإن كان ساقطًا في الحكاية.

وهذا ليس بمستبشع فيها؛ فإن من قال: والله لأطوفن، فقد قال: لأطوفن؛ فإن اللافظ بالمركب لافظ بالمفرد. ومنها: جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على الظن؛ فإن إخبار سليمان - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "تلدُ كلُّ امرأةٍ منهنَّ غلامًا" لا يجوز أن يكون عن وحي، وإلا لوجب وقوع مخبره. والله أعلم. وأجاز بعض فقهاء الشافعية الحلف على الظن الماضي، وقالوا: يجوز أن يحلف على خط أَبيه، وجوزوا العمل به واعتماده، في أصح الوجهين عندهم، وجوز بعضهم العمل بالقرينة وإن كانت ضعيفة. وذكر بعض المالكية ذلك احتمالًا، وترددوا في نقل خلاف في اليمين على الظن، وهو محتمل لوجهين. وقد يتمسك بالحديث على أن الاستثناء إذا اتصل باليمين في اللفظ: أنَّه يثبت حكمه، وإن لم ينو من أول لفظ اليمين؛ حيث إن الملك قال له: "قل إن شاء الله" بعد فراغه من اليمين، فلو لم يثبت حكمه، لما أفاد قوله. لكن يمكن جعلُ قوله تأدبًا، لا لرفع اليمين، فلا يكون حجة. ومتى وجد الاحتمال، سقط الاستدلال، والله أعلم. ومنها: جواز استعمال "لو" و"لولا"؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قالَ: إن شاء الله، لم يحنث" إلى آخره. وقد ترجم البُخَارِيّ عليه فقال: باب ما يجوزُ من اللَّو، وأدخل فيه قولَ لوط - عليه السلام -: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80]، وقولَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنتُ راجمًا بغير بينة، لرجمتُ هذه" و"لو مُدَّ لي الشهرُ لواصلتُ"، "ولولا حدثانُ قومِكِ بالكفرِ، لأتممتُ البيتَ على قواعدِ إبراهيم" و"لولا الهجرةُ، لكنت امرأً من الأنصارِ"، وأمثال هذا (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البُخَارِيّ" (6/ 2644 - 2646).

قال القاضي عياض -رحمه الله-: والذي ينفهم من ترجمة البُخَارِيّ وما ذكره في الباب من القرآن والآثار: أنَّه يجوز استعمال لو ولولا فيما يكون من الاستقبال مما امتنع من فعله لا متناع غيره، وفيما هو من باب الممتنع فعله لوجود غيره، وهو من باب لولا؛ لأنه لم يدخل في الباب سوى ما هو للاستقبال، أو ما هو حق صحيح مستيقن؛ كحديث: "لولا الهجرةُ لكنتُ امرأً من الأَنصار" (¬1)، دون الماضي والمنقضي، أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق (¬2). وقد ثبت في الحديث الصحيح قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ولو أصابَكَ شيءٌ فلا تقلْ: لو أَنِّي فعلتُ كذا لكانَ كذا، ولكنْ قلْ: قَدَّرَ اللُّهُ وما شاءَ فعلَ" (¬3). قال القاضي: قال بعض العلماء: هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب، أنَّه لو كان كذا، لكان كذا من ذكر مشيئة الله تعالى، والنظر إلى سابق قدره، وخفي علمُه علينا، فأما إذا قاله على التسليم، وردَّ الأمرَ إلى المشيئة، فلا كراهة فيه. قال القاضي: وأشار بعضهم إلى أن (لولا) بخلاف (لو)، قال القاضي: والذي عندي أنهما سواء إذا استعملتا فيما لم يُحط به الإنسانُ علمًا، ولا هو داخل تحت مقدور قائلهما؛ مما هو يحكم على الغيب، أو اعتراض على القدر؛ كما نبه عليه في الحديث. ومثل قول المنافقين: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] و {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، و {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ} [آل عمران: 154]، فرد الله عليهم باطلهم، فقال: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]، فمثل هذا هو المنهي عنه، أما هذا الذي نحن فيه، فإنما أخبر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فيه عن يقين نفسه: أن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 122)، و "فتح الباري" لابن حجر (13/ 228). (¬3) تقدم تخريجه.

الحديث الخامس

سليمان لو قال: "إن شاءَ الله"، لم يحنث، ولجاهدوا؛ إذ ليس فيه مما يدرك بالظن والاجتهاد، وإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى بها، وهو نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا بنو إسرائيلَ لم يَخْنَزِ اللحمُ، ولولا حَوَّاءُ لم تَخُنْ أنثى زوجَها" (¬1)، فلا معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن (لو). وقد قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ} [آل عمران: 154]، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا} [الأنعام:28] وكذا ما جاء من (لولا)؛ لقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68]، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33]، {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} [الصافات: 143 - 144]؛ لأن الله تعالى مخبر في كل ذلك عما مضى، أو يأتي عن علم خبرًا قطعيًّا، فكل ما يكون من (لو) و (لولا) ما يخبر به الإنسان عن علمه امتناعه من فعله، مما يكون فعله في قدرته، فلا كراهة فيه؛ لأنه إخبار حقيقة عن امتناع شيء لسبب شيء، أو حصول شيء لامتناع شيء. وتأتي (لولا) غالبًا لبيان السبب الموجب، أو النافي، فلا كراهة في كل ما كان من هذا الأمر، إلَّا أن يكون كاذبًا في ذلك؛ كقول المنافقين: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]، والله أعلم (¬2). * * * الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلفَ عَلَى يَمينٍ صَبْرٍ يَقْتَطعُ بِها مَالَ امْرِيٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (3152)، كتاب: الأنبياء، باب: خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، ومسلم (1470)، كتاب: الرضاع، باب: لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر، عن أبي هريرة -رَضِيَ الله عَنْهُ-. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 122 - 123).

غَضْبَانُ"، ونَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية (¬1). أما اليمين الصَّبْر؛ فهي التي يحبسُ الحالفُ نفسَه عن اليمين بها كاذبةً غيرَ مبال بها، وكأنه يحبس نفسه على أمر عظيم، وهي اليمين الحانثة، ويقال لمثلها: اليمين الغَموس -أَيضًا-. وأما الآية الكريمة؛ فاختلف في سبب نزولها على روايات، أشهرها: ما ذكره المفسرون: أنها نزلت في رؤوس اليهود لما كتموا ما عَهِدَ الله إليهم في التوراة في شأن محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وبدلوه، وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنَّه من عند الله؛ لئلا يفوتهم المأكل والدعوة والرشا التي كانت عليهم من أتباعهم، وهذا قول عطاء. ولما كان من حلف على مال الغير، وأكلَه بالباطل ظلمًا وعدوانًا، واستخفافًا بحرمة اليمين بالله تعالى، كان ذلك أبلغَ في الوعيد الشديد لفاعله. وهذا الحديث بهذا المعنى يترجح به قول من ذهب من المفسرين إلى نزول الآية فيه. ولا شك أن بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر يحصل للصحابة -رضي الله عنهم- بقرائن تختلف بالقضايا، حتَّى قال بعض العلماء: تفسير الصحابي مرفوع مطلقًا؛ لأنهم أعلم بتنزيل الوحي ومواقعه وأسبابه. والصحيح: أن ما كان متعلقًا من التفسير بسبب نزول آية، أو تقديم حكم أو تأخيره، فهو مرفوع، وغيره موقوف، والله أعلم. وفي هذا الحديث: تعظيم المنع من اليمين الكاذبة والفجور بها، والوعيد الشديد لفاعلها. وفيه: تعظيم حرمة مال المسلم وإن قل، وعصمته. ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث الآتي؛ إذ هو قطعة منه.

الحديث السادس

وفيه: تفخيم حرمة المسلم؛ فإن أعراضه إذا كانت بهذه المثابة، فما ظنك بحرمة بدنه ودينه وغير ذلك؟! وفيه: تعظيم للقسم باللهِ مطلقًا، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنِ الأَشْعَثِ بنِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ"، قُلْتُ: إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ لِيَقْتَطعَ بِهَا مَالَ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (¬1). [أما] الأشعثُ بن قيس؛ فكنيته أبو مُحَمَّد بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مربع بن معاوية بن ثور بن غفير بن عدي بن مرة بن أدد بن زيد الكندي. وكندة هم ولد ثور بن غفير. قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر في وفد كندة في ستين راكبًا من كندة، وكان رئيسهم، فأسلم وأسلموا، وكان في الجاهلية رئيسًا مطاعًا في كندة، وكان في الإِسلام وجيهًا في قومه. وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: شهدت جنازة فيها جرير والأشعث، فقدَّم الأشعثُ جريرًا، وقال: إنِّي ارتددت ولم يرتدَّ، وتزوج أم فروة بنةَ أبي قُحافة أختَ أبي بكر الصديق، وهي أم محمَّد بنِ الأشعث الذي كني به، وكان سبب تزوجه بها، أنَّه لما مات النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ارتد عن الإِسلام، ثم راجعه ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (2379)، كتاب: الرهن، باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، ومسلم (138)، كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.

في خلافة أبي بكر الصديق، وأتى به أبو بكر أسيرًا في الحديد، وهو يكلمه، وهو يقول له: فعلت وفعلت، وآخر ما قال الأشعث لأبي بكر: استبقني لحربك، وزوجني أختك، ففعل أبو بكر، وكان من خبره لما قدم هو وقومه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهم قالوا: يَا رسول الله! نحن بنو آكل المراد، وأنت ابنُ آكل المراد، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "نحن بنو النَّضْرِ بنِ كِنانةَ لا نقفو أمَّنا، ولا ننتفي من أَبينا" (¬1). وخرج إلى العراق في خلافة عمر مع سعد، وشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، واختط بالكوفة دارًا في كندة، ونزلها، وشهد تحكيم الحكمين، وكان آخر شهود الكتاب. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعةُ أحاديث، اتفق البُخَارِيّ ومسلم على هذا الحديث. وروى عنه: أبو وائل شقيقُ بن سلمة، وقيس بن أبي حازم، والشعبي، وجمع من التابعين. وروى له: أصحاب السنن والمساند. ومات بالكوفة بعد مقتل علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- بأربعين ليلة سنة أربعين، وقيل: مات قبل قتل علي بيسير، وقيل: مات سنة اثنتين وأربعين، ودفن بداره بالكوفة. قال الهيثم بن عدي: صلى عليه الحسن بن عليّ -رَضِيَ الله عَنْهُ - (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2612)، كتاب: الحدود، باب: من نفى رجلًا من قبيلة، والإمام أَحْمد في "المسند" (5/ 211)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 23)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (897)، والطبراني في "المعجم الكبير" (645). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 22)، و"الثِّقات" لابن حبان (3/ 13)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 133)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 116)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 249)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 133)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 286)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 37)، و"الإصابة في تمييز =

وأما الرَّجل الذي بينه وبينه خصومة؛ فاسمه: الجفشيش، بالجيم، وقيل: بالحاء المهملة، وقيل: بالخاء المعجمة، ثم بالفاء ثم بالشينين المعجمتين بينهما ياء مثناة تحت، وبفتح أوله على الأوجه كلها. وهو صحابي فيما ذكره الطَّبرَانِيّ (¬1)، وكنيته أبو الخير، فيما ذكره أبو حاتم الرَّازيّ (¬2). وتقدم الكلام في الحديث قبله على ما يتعلق به. وفي الحديث هذا قول رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "شاهداكَ أو يمينُه"، ولا شك أنَّه يقتضي حصرًا أنَّه ليس للمدعي على المدعى عليه من الإنكار إلَّا اليمين، ولا يستحق عليه بعدها شيئًا إلَّا ببينة يقيمها المدعي، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى أن يكون لإثبات الحق طريق غير البينة أو اليمين، فاقتضى حصر الحجة فيهما، إلَّا أن قوله: "شاهداكَ أو يمينُه" يقتضي ذكرهما بأو أن أحد السببين هو المثبت على الانفراد، لا على الاجتماع بالنسبة إلى كل واحد من الخصمين. وهذا الكلام قليل النفع بالنسبة إلى المناظرة، وفهم مقاصد الكلام قاعدة صحيحة نافعة للناظر في نفسه، غير أن المناظر جدلًا قد ينازع في المفهوم، ويعسر تقريره عليه. وقد تعلق بهذا الكلام مسألتان: إحداهما: ترك العمل بالشاهد واليمين، وهو مذهب أبي حنيفة ومن وافقه. وخالفهم الشَّافعيّ ومن قال بقوله. الثَّانية: إذا ادعى على غريمه شيئًا، فأنكره، وأحلفه، ثم أراد إقامة البينة بعد الإحلاف، فله ذلك عند الشافعية، وعند المالكية؛ ليس له ذلك إلَّا أن يأتي بعذر في ترك إقامة البينة يتوجه له، متمسكين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "شاهداكَ أو يمينُه"، وفي ¬

_ = الصَّحَابَة" لابن حجر (1/ 87)، و"تهذيب التهذيب" له أَيضًا (1/ 313). (¬1) انظر: "المعجم الكبير" للطبراني (2/ 285). (¬2) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 550).

الحديث السابع

حديث آخر: "ليسَ لهُ إلَّا ذلكَ، أو يمينُه"، وهو راجع إلى ما ذكرناه. وفي الحديث دليل؛ على أن الخصم إذا قال في خصمه كلامًا يلزم منه عدم مبالاته بالقسم باللهِ للحاكم، أنَّه لا يُعزر، وإنما يُذكر له عقوبةُ من فعل ما قاله له في الآخرة من غضب الربِّ -سبحانه وتعالى-. وفيه دليل: على أن أحكام الدنيا المتنازَعَ فيها متعلقُها الظاهر، دون بواطنها، والله أعلم. وفي دليل: على أن الحاكم أو المفتي إذا ذكر حكمًا من أحكام الشرع الدنيوية والأخروية، أن يستوفي شرائطَ الحكم بذكرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلفَ على يمينٍ صبرٍ يقتطعُ بها مالَ أمريءٍ مسلمٍ، هو فيها فاجرٌ، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ"، فذكر - صلى الله عليه وسلم - في الشروط الاقتطاع بغير حق، وكونه مال معصوم، وكون الحالف فاجرًا في يمينه، ثم ذكر الحكم، وهو غضب الله تعالى، يعني: عليه، نعوذ بالله من غضب الله. وهذا الحكم مشروط بعدم التوبة الشرعية، أما إذا تاب بشروطها؛ من الندمِ، والإقلاع، والعزمِ على عدمِ العود إلى المعصية، والاستحلالِ منها إن كان صاحبها موجودًا، والكفارةِ إن كان لها كفارة، فإن ذلك كله سبب لرضا الرب -سبحانه وتعالى-، والله أعلم. * * * الحديث السابع عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ الشجَرة، وَأَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسْلَامِ كَاذِبًا مُتعمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتل نَفسَهُ بشِيءٍ، عُذِّبَ بِهِ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَملِكُهُ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (110)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.

وَفي رِوَايةٍ: "ولَعنُ المُؤمنِ كَقَتلِهِ" (¬1). وَفِي رِوَايةٍ: "مَنِ ادَّعَى دَعوَى كَاذِبةً لِيَتَكثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ بِهَا إلَّا قِلَّةً" (¬2). أما ثابت بن الضحاك؛ فكنيته: أبو زيد، اتفقوا على أنَّه أنصاريُّ من الخزرج، واختلف في نسبه إليهم، فقال أبو عمر النمري في "استيعابه": ثابت بن الضحاك بن أمية بن ثعلبة بن خيثم بن مالك بن سالم بن عمرو بن عوف بن الخزرج. وقال أبو حاتم بن حبان: ثابت بن الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل بن خيثم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج. وقد ذكر أبو عمر ما ذكره ابن حبان، صحابيًّا آخر، فكأنه التبس على ابن حبان؛ لأنهما اتفقا على أنَّه أخو أبي جبيرة بن الضحاك، وأنه من أصحاب الشجرة. قال أبو عمر: وكان ممن بايع تحت الشجرة بيعةَ الرِّضوان وهو صغير، وأردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الخندق، وكان دليله إلى حمراءِ الأسد، هذا آخر كلامه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا، اتفقا على حديث واحد، ولمسلم آخر، روى عنه أبو قلابة الجرمي، وعبد الله بن معقل بن مقرن المزني، وكان ممن سكن البصرة، وروى عنه أهلها. روى له أصحاب السنن والمساند، ومات سنة خمس وأربعين، وقيل: مات في فتنة ابن الزُّبير، وقال الحاكم أبو أَحْمد: إنه قتل بمرج راهط في الفتنة، سنة أربع وستين (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (5754)، كتاب: الأدب، باب: من أكفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، ومسلم (110)، (1/ 104)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. (¬2) انظر تخريج هذه الرواية عند مسلم في الحديث المتقدم. (¬3) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 165)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم =

أما حقيقة الحلف، فهي القسم بالشيء بإدخال بعض حروف القسم عليه؛ كقوله: والرحمنِ، والله أعلم. وقد أطلق الفقهاء اليمين على التعليق بالشيء؛ كقولهم: حلف بالطلاق على كذا، ومرادهم: تعليق الطلاق به، وهو مجاز؛ لشبهة اليمين في اقتضاء الحنث أو المنع، فلما كان التعليق باليمين مقتضيًا ذلك، أطلق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلفَ على يمينٍ بملةٍ غيرِ الإِسلامِ كاذبًا متعمدًا فهو كما قالَ". فقوله: "بملةٍ غيرِ الإِسلام" يحتمل الإنشاء؛ كقوله: واليهودية، والنصرانية! ويحتمل التعليق؛ كقوله: إن فعلت كذا، فأنا يهودي أو نصراني، وهو الظاهر؛ لقوله: "كاذبًا متعمدًا"؛ إذ الكذب يدخل تحته القضية الإخبارية التي قد يقع مقتضاها وقد لا يقع. وأما الإنشائية؛ كقوله: والله!، وما أشبهه، فلا يتعلق بها كذب سوى تعظيم اليهودية أو النصرانية مثلًا بإنشاء الحلف بهما. وتقدم الكلام على ذلك في الحديث الثالث من هذا الباب في النهي عن الحلف بالآباء مفصلًا، والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن قتلَ نفسَه بشيءٍ، عُذِّبَ بهِ يومَ القيامةِ". أعلم أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا تقاس أفعالُ العباد على أفعاله، ولا أحكامهم على أحكامه الخاصة به -سبحانه وتعالى-، والله -عَزَّ وَجَلَّ- له حكمان: أحدهما: تعلق العباد بذلك الحكم أمرًا ونهيًا، طلبًا ومنعًا. والثاني: إيجادًا وتوقيفًا وقضاء وقدرًا. فالأول متعلق بالمكلفين. والثاني: خاص برب المكلفين. إذا ثبت هذا، فالخاص باللهِ لا مدخل لأحدٍ فيه، والمتعلق بالمكلفين لا مدخل لهم فيه سوى الوقوف عنده. ¬

_ = (2/ 453)، و"الثِّقات" لابن حبان (3/ 44)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 205)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 446)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 359)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (1/ 391)، و"تهذيب التهذيب" له أَيضًا (2/ 8).

ثم المتعلق بالمكلفين الذي يجب الوقوف عنده من الأمر والنهي، إنما تعلقه بهم في الدنيا، لا مدخل له في الآخرة سوى الجزاء عليه والمقابلة به، أو العفو عنه. وقد يسمى المتعلق بالدنيا دينًا بالنسبة إلى وجوده فيها، بالنسبة إلى كونه غير طاعة، ولا يثاب عليه، وهو الذي قال فيه الصَّحَابَة -رضي الله عنهم- في حق أبي بكر الصديق -رَضِيَ الله عَنْهُ- لما ارتضوه من الخلافة: من ارتضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا، وهو التقديم في الصلاة، أحرى أن نرتضيه لدنيانا، وهو الخلافة والقيام بأعباء الأمة وسياستها. وقد يسمى المتعلق بالدنيا دينًا أخرويًّا بالنسبة إلى كونه طاعة مثابًا عليه صاحبه. فهذا النوع تقاس عليه أمور الدنيا كما فعل الصَّحَابَة -رضي الله عنهم- في استخلاف الصديق؛ قياسًا على التقديم في الصلاة. أما ما كان من أمور الآخرة محضًا؛ كالعذاب والثواب، والمقابلة والعفو، ونحو ذلك، فلا مدخل للقياس فيه، وإنما يجب الوقوف عنده على مورد النصوص والتوقيف. إذا عرفت ذلك جميعه، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن قتلَ نفسَه بشيءٍ عُذِّبَ به يومَ القيامة" هو من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، لا من باب القياس للأمور الأخروية على الدنيوية؛ لأن أفعال الله تعالى المتعلقة بأحكامه في الأخرى تباين أفعالنا المتعلقة بأحكامه في الدنيا، فلا تشرع لنا في الدنيا أن نفعلها في الدنيا؛ كالتحريق بالنيران، والعذاب بالسباع والعقارب والحيات، وسقي الحميم المقطِّع للأمعاء، والذي يشرع لنا في الدنيا، إنما هو بطريق النصوص التي تدل عليها أحكامها، أو القياس على النصوص عند العلماء بالقياس الذي من شرطه أن يكون حكمًا مقيسًا عليه أصلًا، أما ما كان فعلًا لله -عَزَّ وَجَلَّ- في الدنيا، فلا يباح لنا، فإن لله تعالى أن يفعل ما يشاء بعبادة،

ولا يحكم عليه، وليس لنا أن نفعل بهم إلَّا ما أذن لنا فيه بواسطة، أو بغير واسطة، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليسَ على رجلٍ نذرٌ فيما لا يملكُ": عدم الملك تارة يكون لعدم تصور (¬1) دخوله في الملك شرعًا، وتارة يكون لعدم تصور دخوله في الملك الآن حسًّا. فالأول: لا يتعلق به النذر اتفاقًا؛ لأن الملك لا يتصرف فيه في وقت من الأوقات، ولا في حال من الحالات. والثاني: مختلف فيه؛ نظرًا إلى وجود النذر وعدم الملك في تعلق النذر به وعدمه. مثال الأول: لله عليَّ أن أتصدق بثمن خمر أو ميتة بيده، أو ما ربحته بسبب الربا، ونحو ذلك، فهذا لا يصح نذره، ولا يتعلق بالمنذور به وجوب؛ حيث نفى الشارع أن يكون على الرَّجل نذر فيما لا يملك، فيحمل النفي على عدم الصحة في النذر؛ لكونه لا يملك؛ ذلك لعدم دخوله في الملك شرعًا. ومثال الثاني: في التصرفات الواقعة قبل الملك: كما لو نذر نذرًا متعلقًا بما لا يملكه في الحال، كما لو نذر عتق عبدِ غيرِه، أو باعه مثلَا قبل ملكه، فهذا لاغٍ بالاتفاق. وحكي عن بعض العلماء أنَّه يصح في العتق إذا كان موسرًا، ويقوَّمُ عليه، ويعتق عليه، وقيل: إنه رجع عنه. وبنى العلماء على هذه التصرفات المتعلقة بالملك؛ كتعليق الطلاق بالنكاح مثلًا قبل وجود النكاح، فالشافعي يلغي ذلك كالأول، ومالك وأبو حنيفة يعتبرانه. وقد يستدل للشافعي بهذا الحديث وما يقاربه، ومخالفوه يحملونه على ¬

_ (¬1) ساقطة من "ح".

التخيير، أو يقولون بموجب الحديث؛ فإن التقييد إنما يقع بعد الملك، فالطلاق -مثلًا- لم يقع قبل الملك، فمن ها هنا يجيء القول بالموجب. ولا شك أن الوفاء بالنذر قربة يجب الوفاء به عند وجود المعلق عليه، وهو الشرط؛ بخلاف الطلاق المعلق بالنكاح، وغير المعلق؛ فإنَّه في أصله غير قربة، بل هو مكروه، وتعليقه قبل النكاح أشد كراهة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أبغضُ الحلالِ إلى الله تعالى الطلاقُ" (¬1)، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولعنُ المؤمنِ كقتلِهِ" اللعنُ: هو دعاء بالقطع عن رحمة الله تعالى، والقتلُ: هو موتٌ وقطعٌ عن التصرفات، فقوله: "كقتله"، إما أن يراد به في أحكام الدنيا؛ من حيث إن القتل يوجب القصاص، وليس الأمر في لعنه المؤمنَ موجبًا للقصاص، فيحمل على أنَّه كقتله في الإثم، وهو من أحكام الآخرة، فإن أريد به التساوي في الإثم أو العقوبة، لم يتجه؛ لأن الإثم يتفاوت بتفاوت مفسدة الفعل، وليس إذهاب الروح في المفسدة كمفسدة الأذى باللعنة، وكذلك العقاب بحسب الجرائم. قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة:7 - 8]، وذلك دليل على التفاوت في العقاب والثواب، بحسب التفاوت في المصالح والمفاسد، فالخيور مصالح، والشرور مفاسد. وإن أريد باللعن قطعَ منافعه الأخروية عنه، وبعدَه منها بإجابة لعنته، فهو مثل من قُتل في الدنيا وقُطعت عنه منافعه فيها، وإن أريد استواء اللعن بالقتل في أصل التحريم والإثم، [فهو يحتاج إلى تلخيص ونظر. ولا شك أن التحريم والإثم] (¬2) متقاربان في المعنى؛ من حيث إن الإثم مترتب على فعل التحريم، فإن أريد الاستواء في أصل التحريم والإثم، فكل معصية قلت أو عظمت، مستويةٌ مع القتل فيه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ما بين معقوفين من "ح".

لكن المفهوم من الحديث تعظيم أمر اللعنة؛ بتشبيهها بالقتل؛ للزجر عنها، وإن أريد الاستواء في المقدار، فقد تبين امتناعه؛ بدليل التفاوت في العقاب والثواب. واعلم أن اللعنة قد تطلق على نفس الإبعاد، الذي هو فعل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهو الذي تقع به السُّبَّة، وقد يطلق على فعل اللاعن، وهو طلبه لإبعاد الله -عَزَّ وَجَلَّ- للشخص المسلم بقوله: لعنه الله -مثلًا-، أو بوصفه له بالإبعاد، بقوله: لعنه الله -مثلًا-، أو فلان ملعون. وكل هذا ليس يقطع عن الرحمة بنفسه ما لم تتصل به الإجابة، فتكون تسببًا إلى قطع التصرف، فيكون نظير التسبب إلى القتل، فمباشرة القتل بالسبب الغامض؛ كالحز وغيره من مقدمات القتل، مفضٍ إلى القتل بمطرد العادة، فلو كان مباشرة اللعن مفضيًا إلى الإبعاد الذي هو اللعن دائمًا، لا يستوي اللعن مع مباشرة مقدمات القتل، أو زاد عليه، وليس كذلك، فافترقا. وقد يقتضي اللعن له قصده إخراجه عن جماعة المسلمين؛ فإن الجماعة رحمة؛ كما لو قتله، فإن قصدَه إخراجه لا يستلزم إخراجه كما تستلزم مقدمات القتل، وذلك يقتضي قطعَ منافعه الأخروية عنه بإجابة دعوته؛ فإن ذلك لا يحصل إلَّا بها، وقد لا يجاب في كثير من الأوقات، فلا يحصل انقطاعه عن منافعه كما يحصل بها، ولا يستوي القصد إلى القطع بطلب الإجابة مع مباشرة مقدمات القتل المفضية إليه في مطرد العادة، لكن الممكن في تقرير الحديث ظاهرًا واستوائهما في الإثم: أن مجرد أذاه باللعنة مع قصد إجابة الدعاء فيه؛ بموافقة ساعة الإجابة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدْعُوا على أنفسِكم، ولا تَدْعوا على أموالِكم، ولا تَدْعوا على أولادِكْم، لا توافِقوا ساعة" (¬1) الحديث هو المساوي للقتل أو أعظم منه؛ لأن القتل تفويت الحياة الفانية قطعًا، والإبعاد من رحمة الله ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3009)، (4/ 2304)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطَّويل، وقصة أبي اليسر، عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ الله عَنْهُ-.

تعالى أعظمُ ضررًا بما لا يحصى، وقد يكون أعظمُ الضررين -على سبيل الاحتمال- مساويًا أو مقاربًا لأخفهما على -سبيل التحقيق-، ومقادير المصالح والمفاسد، وأعدادهما أمرٌ لا سبيل إلى البشر إلى الاطلاع على حقائقه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ادَّعى دَعْوى كاذبةً ليتكثَّرَ بها لم يزدْهُ اللهُ إلَّا قِلَّةً": أعلم أن الادعاء لغير حاجة دينية صادقًا لا يُفعل؛ لأنه عبث لا مصلحة فيه، ويؤدي إلى التكثر، وهو ممنوع شرعًا؛ لأن التكثر لا يُشرع إلَّا على الكفار والمنافقين والمعاندين بالحق أو للحق، وما شاكل ذلك، فإن كان كاذبًا في دعواه متكثرًا، كان إثمه حرامًا شديد التحريم، وإثمه أشد، وكان مع ذلك سببًا لقلة فاعله، مراغمة لقصده وكذبه وتكثره، وقد تكون القلة لمجرد الإثم الحاصل له بسبب دعواه كذبًا وتكثرًا، وقد يكون أمرًا زائدًا على ذلك؛ حيث إن النفس حقيرة مزدولة مقامها ذلك، فهذا قصدت ضد ذلك، حصل لها الإثم المترتب على التحريم بالكذب والتكثر الموجبين للقلة الشرعية، وحصلت الزيادة عليها في القلة بقصد ذلك، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: تحريم الحلف بملة غير الإِسلام؛ كاليهودية والنصرانية ونحوهما مطلقًا، وكذلك تعليق الحلف بهما. وتقدم ذكر الكفارة فيه وعدمها، وسواء في التعليق بهما تعليقه بالمستقبل أو الماضي في التحريم. وأما الكفارة، فإن كان مستقبلًا، لم تتعلق به كفارة عند المالكية والشافعية، ويتعلق به عند الحنفية. وأما في الكفر، فإن قصد الحلف بها تعظيمًا، فهو كفر عندهم؛ حيث أقدم على الحلف بها، وذلك متضمن الرضا بالكفر فيكون كفرًا. وقد اختلف الحنفية في الكفر بالحلف معلقًا على الماضي، فقيل: لا يكفر

اعتبارًا بالمستقبل، وقيل: يكفر؛ لأنه يتخير معنى، فصار كما لو قال: هو يهودي أو نصراني. والصحيح عندهم: أنَّه لا يكفر فيما قاله بعضهم فيهما: إن كان يعلم أنَّه يمين، وإن كان عنده أنَّه يكفر بالحلف به، كفر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر؛ حيث أقدم على الفعل، والله أعلم. ومنها: تحريم الجناية على نفسه بالقتل، وأنه يأثم بذلك؛ حيث إنها ليست ملكًا [له] وإنما هي ملك لله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يتصرف فيها إلَّا بما أذن له فيه. وقد تعلق المالكية بهذا الحديث على المماثلة في القصاص، فيُقتل بما قُتل به، محددًا كان أو غيره، خلافًا للحنفية، اقتداء بعقاب الله تعالى يوم القيامة لقاتل نفسه. وقد تقدم تقرير ما يتعلق بذلك قريبًا. ومنها: منع النذر فيما لا يملك، لكن هل تجب عليه فيه كفارة يمين؛ فيه خلاف للعلماء: قال الشَّافعيّ، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، وجمهور العلماء: لا تلزمه كفارة يمين ولا غيرها. وقد روى مسلم في "صحيحه": أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا وفَاء لنذرٍ في معصيةٍ، ولا فيما لا يملكُ العبدُ" (¬1)، وهو محمول على ما إذا أضاف النذرَ إلى معين ولا يملكه، بأن قال: [إن] شفى الله مريضي، فلله علي أن أعتق عبد فلان، أو أتصدق بثوبه، أو بداره، أو نحو ذلك. فأما إذا التزم في الذمة شيئًا لا يملكه، فيصح نذره، بأن قال: [إن] شفى الله مريضي، فلله علي عتق رقبة، وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها، فيصح نذره، وإذا شفى مريضه، ثبت العتق في ذمته. وقال أَحْمد: يجب في النذر في المعصية ونحوها كفارةُ يمين؛ لحديث روي ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1641)، كتاب: النذر، باب: لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد، عن عمران بن حصين -رَضِيَ الله عَنْهُ-.

عن عمران بن الحصين وعائشةَ -رضي الله عنهم- عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "لا نذرَ في معصيةٍ، وكفارتُه كفارةُ يمين" (¬1)، وهو حديث ضعيف باتفاق المحدثين، وتقدم عدم الملك في النذر، والكلام عليه قريبًا، والله أعلم. وفي "صحيح مسلم": أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: قال: "كفارةُ النذرِ كفارةُ اليمينِ" (¬2). وهذا مطلق في كل نذر، ولم يقل به أحد فيما روي عنه، وهو محمول عنده، وعند بعض أصحاب الشَّافعيّ على نذر المعصية. وحمله جمهور الشافعية على نذر اللِّجاج، وهو أن يقول: إن كلمتُ زيدًا -مثلًا- فلله على كذا، فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه. وحمله مالك وكثيرون أو أكثرون، وجماعة من فقهاء أصحاب الحديث على النذر المطلق، فيدخل فيه جميع أنواع النذر، وقالوا: هو غير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزمه، ويين كفارة يمين، وهذا هو الراجح المختار، والله أعلم. ومنها: تغليظ التحريم في لعن المؤمن ووجوب احترامه ورعايته؛ حيث إن الأيمان سبب للقرب من الله تعالى، وتقريب المؤمن هو سبب إيمانه، فمن قصد بعده من الله -عَزَّ وَجَلَّ-، أو دعا به عليه، فقد راغم ما جعله الله تعالى سببًا لقربه. ومن راغم جعل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فأقلُّ درجاته أن يكون فعلُه محرَّمًا، وإن لم يكن كفرًا مطلقًا، فهو مقيد، والله أعلم. ومنها: تحريم الدعوى تكثرًا كاذبًا، وذمُّ التكثر والكذب، وتحريم تعاطي أسباب القلة المعنوية؛ حيث إن من لم يفعل ذلك، يزيده الله بسبب فعله القلة؛ مراغمة لقصده الكثرةَ غيرَ المأذون فيها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3290)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، والنَّسائيّ (3835)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر، والتِّرمذيّ (1525)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نذر في معصية، وقال: غريب، وابن ماجه (2125)، كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية. (¬2) رواه مسلم (1645)، كتاب: النذر، باب: في كفارة النذر، عن عقبة بن عامر -رَضِيَ الله عَنْهُ-.

باب النذر

باب النذر النذر: واحد النذور، يقال: نذرت أنذِر وأنذُر -بكسر الذال وضمها - (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي كنتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلِيّةِ أَنْ أَعْتكفَ لَيْلَةً -وَفِي رِوَايةٍ: يَوْمًا- في المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬2). تقدم أن الجاهلية ما قبل الإِسلام. وقوله: "نذرتُ ليلة، وفي رواية: يومًا" لا اختلاف بينهما، فإن العرب تعبر بالليلة عن اليوم، لا سيما وقد ثبت التعبير بها في هذه الرواية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْفِ بنذركَ"؛ استدل به على صحة نذر الكافر، وهو قول في مذهب الشَّافعيّ، والمشهور: أنَّه لا يصح؛ لأن الكافر ليس من أهل التزام القربة. ويتأول هذا القائل الحديث على أنَّه إنما أمره أن يأتي بعبادة مشابهة لما لزم في الصورة، وهو اعتكاف يوم، فأطلق عليها وفاء النذر؛ لمشابهتها إياه، ولأن المقصود قد حصل، وهو الإتيان بهذه العبادة. ¬

_ (¬1) انظر: "مختار الصحاح" (ص: 272)، (مادة: نذر). (¬2) رواه البُخَارِيّ (1927)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف ليلًا، ومسلم (1656)، كتاب: الأيمان، باب: نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم.

وفي هذا التأويل نظر؛ من حيث إن لفظ الشارع يحمل على الحقيقة الشرعية، لا على ما يشبهها في الصورة؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْفِ بنذركَ"؛ المراد به: نذرك السابق، والوفاء أن يكون فيما شرع أو لزم. وتقدم الكلام على هذا الحديث وتأويله وأحكامه وما يتعلق به في الاعتكاف مبسوطًا واضحًا. واعلم أن أَبا داود، والنَّسائيّ رويا في هذا الحديث الأمر بالاعتكاف والصوم (¬1)، وذكر الصوم فيه ضعيف باتفاق الحفاظ والأئمة. قال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن بديل، وهو ضعيف الحديث، وقال: سمعت أَبا بكر النَّيْسَابُورِيّ يقول: هذا حديث منكر؛ لأن الثِّقات لم يذكروا الصوم، وابن بديل ضعيف (¬2). ويدل على صحة هذا الذي قالوه واتفقوا عليه: أن البُخَارِيّ ومسلما روياه في "صحيحيهما"، وليس فيه: وصوم، والله أعلم. وفي الحديث: الوفاء بالنذر. واعلم أن النذر على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علق على وجود نعمة أو دفع نقمة، فوجد ذلك، فيلزم الوفاء به. والثاني: ما علق على شيء لقصد المنع أو الحث؛ كقوله: إن دخلت الدار، فعلي كذا. وقد اختلفوا فيه، والشافعي يقول: إنه غير بين الوفاء بما نذر، وبين كفارة يمين، وهذا الذي يسمى: نذرَ اللجاج والغضب. الثالث: ما ينذر من الطاعة من غير تعليق بشيء؛ كقوله: علي كذا، فالمشهور: وجوب الوفاء به، وهو المراد بقولهم: النذر المطلق، كقوله: لله ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2474)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف بعود المريض، والنَّسائيّ في "السنن الكبرى" (3355). (¬2) انظر: "سنن الدارقطني" (2/ 200).

الحديث الثاني

علي نذر، وهو الذي يقول فيه مالك وكثيرون وبعض الفقهاء المحدثين: إنه مخير بين الوفاء بما يعينه، وبين كفارة يمين. وفيه دليل على: أن الاعتكاف قُربة تلزم بالنذر، وفقهاء الشافعية تصرفوا فيما يلزم بالنذر المطلق من العبادات، وليس كل ما هو عبادة مثاب عليه، لازما بالنذر عندهم، ففائدة هذا الحديث من هذا الوجه: أن الاعتكاف من القسم الذي يلزم بالنذر. وفيه دليل على: عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف؛ حيث قال: نذرت أن أعتكف ليلة. وقد تقدم أنَّه مذهب الشَّافعيّ، وأن مالكًا وأبا حنيفة خالفاه فيه، وقالا باشتراطه، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: "إنَّهُ لا يَأتِي بِخَيْرِ، وإنَّما يُستَخرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" (¬1). نص الشَّافعيّ -رحمه الله- على كراهة ابتداء النذر في الطاعة، وعلى وجوب الوفاء به. أما كراهته؛ فللنهي عنه في هذا الحديث وغيره، وهو مذهب المالكية أَيضًا؛ لعموم النهي، ولأن النذر التزام إيجاب على نفسه من غير إيجاب الشرع، فكره؛ حيث إنه لا إيجاب إلَّا بالشرع، ولا التزام إلَّا به، فالالتزام نهى الشرع عنه، والوفاء وجب بالشرع؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نذرَ أن يطيعَ اللهَ فليطِعْهُ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (6234)، كتاب: القدر، باب: إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم (1639)، (3/ 1261)، كتاب: النذر، باب: الأمر بقضاء النذر، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه البُخَارِيّ (6318)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة، عن عائشة - رضي الله عنها -.

وحمل بعضهم النهي على نذر يُقصد به تحصيل غرض، أو دفع مكروه؛ حيث إنه قال - صلى الله عليه وسلم - في سياق الحديث: "وإنَّما يُستخرجُ به من البخيل"؛ نظرًا إلى أن المنذورات ودفعها إلى مواضعها إنما يكون لقصد ابتداء الشرع بها، وفي إخراجها، لا لما للناذر فيه حظ؛ فإن الذي يستخرج منه الشيء لإلزامه نفسه إياه بسبب هو أنشأه ليس هو كمن كان ابتداؤه وانتهاؤه أمر الشرع. ولا شك أن القواعد التي ذكرها العلماء تُشْكل على هذا؛ حيث قالوا: إن وسيلة الطاعة طاعة، ووسيلة المعصية معصية، ويعظم قبح الوسيلة بحسب عظم المفسدة، وكذلك تعظم فضيلة الوسيلة بحسب عظم المصلحة. ولما كان النذر وسيلة إلى التزام قربة، اقتضى أن يكون قربة، إلَّا أن الحديث دل على خلافه، لكن لما دلت القواعد على أن الوسائل تُعطى حكمَ المقاصد، اقتضى النهي في الحديث أن يكون مكروهًا لا محرمًا؛ لأنه إذا اجتمع في الوسائل والمقاصد الطاعة المحضة، اقتضى الطلب المحض؛ إما للوجوب، وإما للندب؛ على حسب موارد الشرع فيه، وإذا كان في الوسائل منع، وفي المقاصد طلب، اقتضى الكراهة في الوسائل دون المقاصد، وإذا كان فيها كلها المنع، اقتضى التحريم، فلا إشكال في القواعد، ولا في الحديث. وفي الشرع كذلك نظائر في المناهي التي يترتب عليها الوجوب من الكفارات والغرامات، ونحو ذلك، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملًا، أثبته؛ حيث إن عمله كان بالشرع لا بالالتزام؛ لأن ما كان لله تعالى، ثبت، وشرع ثبوته، وما كان للحظ والنفس، لم يثبت، ولم يشرع ثبوته، وما كان بعضه بالحظ الشرعي، وبعضه بالنفس، كان مطلوبًا من حيث الحظ الشرعي، ممنوعًا من حيث النفس، فافهم ما حققته لك تجدْ ثمرته -إن شاء الله تعالى-، والله أعلم. وقد ذكر المازري في سبب النهي عن النذر احتمالين: أحدهما: كون الناذر يصير ملتزمًا له، فيأتي به على سبيل التكلف من غير نشاط.

الثاني: إتيانه به على سبيل المعاوضة، لا على سبيل القربة، فينتقص أجره للأمر الذي طلبه؛ فإن العبادة شأنها أن تكون لله -عَزَّ وَجَلَّ- متمحضة. وذكر القاضي عياض احتمالًا ثالثًا؛ من حيث إن بعض الجهلة قد يظن أن النذر يرد القدر، ويمنع من حصول المقدَر، فنهى عنه؛ خوفًا من اعتقاد جاهل ذلك، وهذا يؤيده سياق الحديث الذي في "صحيح مسلم" في بعض طرقه: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: "إنه لا يردُّ من القدر شيئًا"، وفي رواية: "فإنَّ النذَر لا يُغني من القدر، وإنما يُستخرجُ به من البخيل" (¬1)، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّه لا يأتي بخير"؛ الباء في قوله: "بخير،: يحتمل أن تكون باء السببية؛ كأنه قال: لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه؛ فإن طلب القربة والطاعة من غير عوض، يحصل له وإن ترتب عليه خير، وهو فعل الطاعة التي نذرها، لكن سبب ذلك الخير: حصول غرضه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يُستخرجُ به من البخيل"، معناه: أنَّه لا يأتي بهذه القربة التي هي الوفاء بالنذر تطوعًا محضًا مبتدأَ به، وإنما يأتي به في مقابلة ما قصده؛ من طلب حاجته مما علق النذر عليها، وهذه صفة البخلاء أنَّهم لا يعوضون إلَّا في مقابلة معوض دنيوي، بخلاف الكرماء: فإنهم لا يفعلون أمرًا من إعطاء ومنع، إلَّا لمعوض أخروي، وقد جعل الشارع مقام ذلك الصدقات أمام الحاجات، والاستشفاء بالصدقات والرقى والدعوات، ومعلوم أن ذلك لا يكون معاوضة لله -عَزَّ وَجَلَّ- على مطلوب فاعله، وإنما يكون تقربًا بطريقة في طلب حاجته، نعم يجوز التعويض للآدميين في الرقى المشروعة ونحوها، وليس هذا من النذر في شيء، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل: على كراهة النذور، وأنها للتنزيه. وفيه دليل: على إخلاص العمل وأسبابه لله تعالى، سواء كان بدنيًّا أو ماليًّا. ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح مسلم" (3/ 1261).

الحديث الثالث

وفيه دليل: على أن العمل الذي ليس بمخلص لله تعالى لا يأتي بخير مطلقًا، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وفيه دليل: على ذم البخل والبخلاء. وفيه دليل: على أن من توقف مع الشرع في أعماله ونياته لا يسمى بخيلًا، بل هو الكريم حقيقة وشريعة، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عُقبةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرَت أُختِي أَنَّ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ حَافِيةً، فَأَمَرَتنِي أَن أَسْتَفتيَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ: "لِتَمْشِ وَلتَرْكَبْ" (¬1). أما عقبة بن عامر؛ فتقدم ذكره. وأما أخته؛ فهي: أم حِبان -بكسر الحاء المهملة-، بنتُ عامر بن نابي، وأسلمت وبايعت، ذكر ذلك الأمير أبو نصر علي بن ماكولا في "المختلف والمؤتلف" عن مُحَمَّد بن سعد، وحكاه عنه أبو القاسم بن بشكوال في "مبهماته"، قال: ولم يذكرها أبو عمر بن عبد البر في الصَّحَابَة، وهي من شرطه، والله أعلم (¬2). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لِتمشِ ولتركبْ"؛ فمعناه: تمشي في وقت قدرتها على المشي، وتركب إذا عجزت عن المشي، ولحقتها مشقة ظاهرة، فتركب، وعليها دم، وقد روى أبو داود في "سننه" من رواية عكرمة عن ابن عباس: أن أخت ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (1767)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: من نذر المشي إلى الكعبة، ومسلم (1644)، كتاب: النذر، باب: من نذر أن يمشي إلى الكعبة. (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 837)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 395)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 186).

عقبة بن عامر -رضي الله عنهم- نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديًا (¬1). وفي رواية في "سنن أبي داود" -أَيضًا-، عن عقبة بن عامر قال: إن أختي نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ لغنيٌّ عن مشيِ أختِكَ، فلتركبْ ولِتُهْدِ بَدَنَةً" (¬2). وفي الحديث أحكام: منها: صحة النذر إلى الذهاب إلى بيت الله -عَزَّ وَجَلَّ- الحرام، فإن نذره ماشيًا، لزمه الذهاب ماشيًا، لكن هل يلزمه الذهاب ماشيًا من المكان الذي نذر منه، أو من الميقات؛ فيه وجهان: أحدهما: من المكان الذي نذر منه، إذا كان أبعد من الميقات؛ لأنه من نذر الذهاب إليه، لزمه قصده بحج أو عمرة بلا خلاف، فيلزمه الإحرام من ميقاته. والثاني: يلزمه الذهاب ماشيًا من الميقات، إن لم يحرم قبله، وهو الأصح، فيحرم -أَيضًا- منه، إما بحج أو عمرة، ولا يجوز -على الوجهين- أن يترك المشي إلى أن يرمي في الحج ويفرغ من العمرة. ومذهب مالك: أن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لازم، سواء أطلقه أو علقه، فيحتاج إلى تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولتركبْ"، فيمكن أن يحمل على حالة العجز عن المشي؛ فإنَّها تركب، فلو ركب من غير عذر، فقد أساء، وعليه دم، لأن كان لعذر، جاز. وهل يلزمه دم؟ فيه قولان: أصحهما: يلزمه، والثاني: لا يلزمه، بل يستحب الدم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3296)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. (¬2) رواه أبو داود (3303)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية.

الحديث الرابع

وأما نذر المشي إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى المسجد الأقصى، فلا ينعقد على أصح القولين في مذهب الشَّافعيّ. ولو نذر المشي إلى ما سواهما من المساجد، لم يلزمه، بلا خلاف. وأما المشي حافيا، فلا يصح نذره، ولا يلزم، اتفاقًا؛ حيث لم يقع التعبد به، والله أعلم. ومنها: جواز النيابة والاستنابة في الاستفتاء، خصوصًا إذا كان المستنيب معذورًا؛ لعدم بروزه للنَّاس، أو مخالطته لهم، ونحو ذلك. ومنها: أن من نذر الحج ماشيًا، فلم يطقه في بعض الأحوال: أنَّه يركب، وعليه دم؛ للحديث الذي ذكرناه عن أبي داود. وأما البدنة؛ فإنَّها تطلق في اللغة على البعير والبقرة والواحد من الغنم، ولهذا؛ لو نذر أن يهدي شيئًا، لزمه ما يجزئ في الأضحية. أما إذا نذر المشي إلى بيت الله، ولم يقل: الحرام، فإنَّه لا يلزمه المشي على المذهب، وقيل: يلزمه، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: أنَّهُ قَالَ: استَفتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أمِّهِ، تُوُفِّيَت قَبْلَ أَنْ تَقْضِيهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَاقضِهِ عَنْهَا" (¬1). أما أم سعد بن عبادة؛ فاسمها: عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وكانت من المبايعات، توفيت ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (6558)، كتاب: الحيل، باب: في الزكاة، وأن لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة، ومسلم (1638)، كتاب: النذر، باب: الأمر بقضاء النذر.

- رضي الله عنها - في سنة خمس من الهجرة (¬1). وأما ابنها سعد بن عبادة؛ فكنيته: أبو ثابت، وقيل: أبو قيس، ويقال: أبو الحباب: أنصاريٌّ خزرجيٌّ ساعديٌّ، وهو سيد بني الخزرج، ويقال له: سعد الخزرج، ابن عُبادة -بضم العين وتخفيف الباء- ابنِ دُليم -بضم الدال المهملة وفتح اللام ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم ميم- بنِ حارثة- بالحاء المهملة والثاء المثلثة- بن أبي حَزِيمة -بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي-، ويقال: أبي حليمة -باللام بدل الزاي- بنِ ثعلبةَ بنِ طريف بنِ الخزرج بن ساعدة بن كعبِ بنِ الخزرج أكبر. كان -رَضِيَ الله عَنْهُ- عفيفًا تقيًّا سيدًا جوادًا، وكان في الْأَنصار مقدمًا وجيهًا ذا سيادة ورئاسة، يعترف قومه له بها، ولم يكن في الخزرج والأوس أربعة مطعمون متوالدون يتوارثون في بيت واحد إلَّا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم. شهد سعدٌ العقبةَ وبدرًا في قول الأكثرين، وقيل: لم يشهدها، وشهد المشاهد كلها، وكان صاحب راية الْأَنصار في مشاهده كلها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزوره، ويدعو له، ويأكل طعامه. روى عنه من الصَّحَابَة -رضي الله عنهم-: ابنه قيس، وعبد الله بن عباس، وابنه سعيد -على قول من جعله صحابيًّا، وهو المشهور-، وأبو أُمامة أسعد بن سهل بن حنيف، ومن التابعين: سعيد بن المسيّب، والحسن البَصْرِيّ، وروايتهما عنه منقطعة؛ لتقدم وفاته، وتأخر مولدهما. وروى له: الإِمام أَحْمد في "مسنده"، وأبو داود، والتِّرمذيّ، والنَّسائيّ، وابن ماجه. وأجمعوا على أنَّه مات بالشَّام بحوران، واختلفوا في تاريخ وفاته: فالمشهور: أنَّه مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: إحدى ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 200)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (8/ 33).

عشرة من الهجرة، في خلافة الصديق -رَضِيَ الله عَنْهُ-، وأجمع أهل دمشق الآن على أن قبره بغوطة دمشق بقرية يقال لها: المنيحة، وزرته مرارًا لقصد زيارة الموتى من الصَّحَابَة -رضي الله عنهم- اقتداءً بزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه المدفونين ببقيع الغرقد وأحد، ولم يعرف أحد بحوران قبرًا لسعد بن عبادة، فيحتمل أنَّه مات بحوران، ودفن في المنيحة المذكورة، ويحتمل أن المنيحة كانت قديمًا داخلة في حدود حوران، ثم هجرت تلك الحدود، وصارت اليوم هذه الناحية مسماة بالغوطة؛ كالجولان والسواد من أرض حوران (¬1). وذكر لي شيخنا العارف القدوة: أبو إسحاق إبراهيمُ بن الشيخ العارف أبي إبراهيم بن عبد الله المعروف والده بابن الأرمني -رحمهما الله تعالى-: أنَّه زار سعدًا مرارًا، وأنه اختلج في نفسه بعض المرات: هل هذا قبر سعد أم لا؟ فأخذته سِنَة، فإذا القبر قد انشقَّ من أعلاه، وإذا برجل طُوالٍ بدويٍّ ملثَّمٍ على كتفه رمحٌ، قد طلع من أعلاه وهو يقول: أنا سعد، قال: فأفقت، وعلمت أنَّه قبره، فقرأت شيئًا من القرآن العظيم، ودعوت وانصرفت، والله أعلم. قوله: "في نذرٍ كانَ على أُمه"؛ هو نكرة في الإثبات، وهو لا يعم، ولم يبين في هذه الرواية ما كان النذر؟ ولا شك أن العبادات مالية وبدنية؛ فالمالية؛ كالزكاة والكفارة والنذر، والبدنية؛ كالصلاة والصوم، ومشترك بين البدنية والمالية؛ كالحج والجهاد، فاعلم أن المالية يجب قضاؤها من مال الميت، وتدخلها النيابة إجماعًا، وأما البدنية، ففيها خلاف، وهو مشكل دخول النيابة فيها. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 389)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 44)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (3/ 451)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 88)، و"الثِّقات" لابن حبان (3/ 148)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 281)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 594)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 237)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 503)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 441)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 207)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 277)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 270)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (3/ 65)، و"تهذيب التهذيب" له أَيضًا (3/ 412).

قال القاضي عياض -رحمه الله-: واختلفوا في نذر أم سعد هذا، فقيل: كان نذرًا مطلقًا، وقيل: كان صومًا، وقيل: كان عتقًا، وقيل: صدقة، واستدل كل قائل بأحاديث جاءت في قصة أم سعد، قال: والأظهر أنَّه كان نذرًا في المال، أو نذرًا مبهمًا، ويعضده ما رواه الدارقطني من حديث مالك، فقال له: -يعني النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اسق عنها الماء" (¬1). وحديث الصوم معلل بالاختلاف في سنده ومتنه وكثرة اضطرابه، وذلك موجب ضعفه، وحديث من روى: "فاعتق عنها" (¬2) موافق -أَيضًا -؛ لأن العتق من الأموال ليس فيه قطع بأنه كان عليها عتق، والله أعلم. ووقع الإجماع على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة، فإن نذر معصية، أو مباحًا؛ كدخول السوق، لم ينعقد نذره، ولا كفارة عليه، وعند الشَّافعيّ وجمهور العلماء كما تقدم. وقال أَحْمد وطائفة: فيه كفارة يمين. وفي هذا الحديث دليل لقضاء الحقوق الواجبة عن الميت، فإن كانت مالية، وجبت بلا خلاف عند الشافعية وطائفة. وتقدم ذلك، سواء أوصى بها أم لا؛ كديون الآدمي، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا يجب قضاء شيء من ذلك، إلَّا أن يوصي به، ولأصحاب مالك خلاف في الزكاة إذا لم يوص بها، والله أعلم. واستدل أهل الظاهر بحديث سعد هذا: على أن الوارث يلزمه قضاء النذر والواجب على الميت إذا كان غير مالي، وإذا كان ماليًّا، ولم يخلف تركة. ومذهب الشَّافعيّ وجمهور العلماء: أنَّه لا يلزمه ذلك، لكن يستحب، وأن الوارث لا يلزمه ذلك إلَّا بالتزامه، وحديث سعد محتمل لقضائه به متبرعًا، أو من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 97). والحديث: رواه الإِمام أَحْمد في "المسند" (5/ 284)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (24230)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1/ 148)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5383)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3379). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 779)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 279)، مرسلًا.

الحديث الخامس

تركتها، أو على طريق الاستحباب في برها، وليس فيه تصريح بالتزامه ذلك، فلا يبقى فيه دليل للوجوب، والله أعلم. وفيه دليل: على بر الوالدين والأقارب بعد وفاتهم، والتوصل إلى إبراء ذممهم. وفيه دليل: على سؤال أهل العلم عما يجهله الإنسان، أو لا يجهله، فيسأل للاستثبات، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ مِنْ تَوْبَتي أَنْ أَنْخِلَعَ من مَالِي صَدَقَةً إلَى اللهِ وَإِلى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيرٌ لَكَ" (¬1). أما كعب بن مالك؛ فكنيته: أبو عبد الرَّحْمَن، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو محمَّد، ويقال: أبو بشير بنُ مالك بنِ أبي كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأَنْصَارِيّ السلمي، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، وأنزل فيهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]. شهد العقبة، واختلف في شهوده بدرًا، والصحيح: أنَّه لم يشهدها، وشهد أحدًا والمشاهد كلها، حاشا تبوك؛ فإنَّه تخلف عنها، ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، آخى بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأَنْصار، وكان أحد شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يردون الأذى عنه، وكان مجودًا مطبوعًا، قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر، وعرف به، ثم أسلم، وهو معدود في المدنيين. ¬

_ (¬1) رواه البُخَارِيّ (2606)، كتاب: الوصايا، باب: إذا تصدق أو أوقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه، فهو جائز، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: توبة كعب بن مالك وصاحبيه.

ولما قال كعب بن مالك -رَضِيَ الله عَنْهُ-: جاءتْ سخينةُ كي تغالبَ ربَّها ... ليغلبنَّ مغالبُ الغَلَّابِ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد شكركَ اللهُ يَا كعبُ على قولكَ" (¬1). وكان شعراء المسلمين ثلاثة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكان كعب يخوف الكفارَ الحرب، وعبدُ الله يعيرهم بالكفر، وكان حسان يقبل على الأنساب، فيما روي عن ابن سيرين، قال ابن سيرين: وأما شعراء المشركين، فعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزِّبَعْرَى، وأبو سفيان بن الحارث. وروي لكعب عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثمانون حديثًا، اتفق البُخَارِيّ ومسلم على ثلاثة أحاديث، وللبخاري حديث واحد، ولمسلم حديثان، روى عنه من الصَّحَابَة: عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو أُمامة الباهليّ، وروى عنه: بنوه: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرَّحْمَن، ومحمَّد؛ بنو كعب، وجماعة من التابعين، وروى له أصحاب السنن والمساند، وكان قد عمي في آخر عمره، مات بالمدينة في خلافة معاوية سنة خمسين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وهو ابن سبعين سنة، وقيل: ابن سبع وسبعين، وقيل: مات قبل الأربعين، والله أعلم (¬2). أعلم أن هذا الحديث مختصر من قصة كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة ¬

_ (¬1) رواه ابن قانع في "معجم الصَّحَابَة" (3/ 75)، عن معاوية بن معبد. ورواه الحاكم في "المستدرك" (6065)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/ 405)، عن البراء بن عازب -رَضِيَ الله عَنْهُ-. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 219)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 160)، و"الثِّقات" لابن حبان (3/ 350)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 498)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1323)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 176)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 461)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 378)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 194)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 523)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (5/ 610)، و"تهذيب التهذيب" له أَيضًا (8/ 394).

تبوك وتوبة الله عليه، وأنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وهذا القول من كعب إخبار عن نية قصد سيفعله ولم يقع بعد، فمنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قبل إيقاع ما عزم عليه بإمساك بعض ماله مبهمًا، على ما ثبت في "الصحيحين" في الكتاب وغيره، وروى أبو داود في "سننه" تعيين ذلك البعض بالثلث (¬1)، لكن في إسناده محمَّد بن إسحاق، وهو متكلم فيه، والأكثرون على ضعفه. ولا شك أن الصدقة برهان لصاحبها في الوثوق بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، والتقرب إليه، والتعين بالحلف، ويترتب عليها هو الذنوب، ولهذا شرعت الكفارات المالية؛ لما فيها من صلاحية هو الذنوب، ويترتب عليها الثواب الحاصل بسببها، وقد تحصل الموازنة بامتحاء أثر الذنب، ودعاء من يتصدق عليه؛ فقد يكون دعاؤه سببًا لمحو الذنب. ثم اعلم أن المأثور في الصدقات بالأموال على أنحاء: أقر كل واحد من الصَّحَابَة -رضي الله عنهم- على نحو قدر صبره ووثوقه بما يطلبه ويتعلق به، فكان الصديق -رَضِيَ الله عَنْهُ- يأتي بجميع ماله، فيقبل منه، ولا يمنع من ذلك، وكان الفاروق -رَضِيَ الله عَنْهُ- يؤمر بإمساك بعض ماله وإخراج بعضه، وكذلك كعب بن مالك فيما عزم عليه وقصده، وكذلك صاحب الحديقة والسحابة، اسقِ حديقة فلان، وأنه كان يتصدق بثلث ما يخرج منها، وينفق ثلثًا على نفسه وعياله، ويرد ثلثًا في أرضه، وقد فعل سعيد بن المسيّب ذلك فيما كان يأخذه من عطائه، لكنه قال في الثلث الثالث: وهذا أحفظ به مروءتي، أقامه مقام الثلث الذي رده صاحب الحديقة في أرضه، وكان رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يدخر لغد شيئًا، فلما كثر العيال، ادخر لهم قوت سنة طمأنينة لهم وسكونًا لقلوبهم، وما ذاك جميعه إلَّا لاختلاف الأحوال والمقاصد في الإنفاق والإمساك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3319)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن نذر أن يتصدق بماله، والإمام أَحْمد في "المسند" (3/ 452)، والحاكم في "المستدرك" (6658)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 181).

وفي هذا الحديث دليل لقصد الخيرات والتصدق بجميع المال. وفيه دليل: على المشاورة في النيات والمقاصد لأهل العلم والدين، والشفقة. وفيه دليل: على أن التقريب إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجوز إضافته إليهما، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]. وفي الحديث: "مَنْ يطعِ اللهَ ورسولَه فقدْ رَشَد" (¬1)، وقول كعب في هذا الحديث: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. وفيه دليل: على أن إمساك ما يحتاج إليه من ماله أولى من إخراجه كله في الصدقة، وقد قسم العلماء ذلك بحسب اختلاف حال الإنسان في صبره، وما يجب عليه من نفقة العيال وغيرهم فيه، فإن كان لا يصبر على الإضاقة، كره له أن يتصدق بكل ماله، وإن كان ممن يصبر، لم يكره، وكذلك إن كان له عيال أو غيرهم ممن تجب نفقتهم، حرم عليه الصدقة بجميع ماله وإضاعتهم، وإلا فلا يحرم. وفيه دليل: على أن الصدقة محبوبة في محو الذنوب، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بعض أصحاب الذنوب التي لا حد فيها ولا كفارة بالصدقة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والصدقةُ تطفىَ الخطيئةَ كما يطفىَ الماءُ النارَ" (¬2). واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على أن من نذر التصدق بكل ماله: أنَّه يكتفى منه بالثلث، والاستدلال به على هذا صعب؛ حيث إن اللفظ الذي أتى به ¬

_ (¬1) رواه مسلم (870)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، عن عدي بن حاتم -رَضِيَ الله عَنْهُ-. (¬2) رواه التِّرْمِذِيّ (614)، كتاب: الصلاة، باب: ما ذكر في فضل الصلاة، وقال: حسن غريب، وابن حبان في "صحيحه" (1723)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 1058)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5761)، عن كعب بن عجرة -رَضِيَ الله عَنْهُ-. وفي الباب عن غير واحد من الصَّحَابَة -رضي الله عنهم-.

كعب ليس فيه نذر، ولا تقييد لما يخرجه بثلث ولا غيره، بل قاله له - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليكَ بعضَ مالِكَ فهو خيرٌ لك"، ومجرد القصد إلى فعل الخير لا يوجب شيئًا، ولا يصير نذرًا، ولا هو تنجيز صدقة ولا إطلاق لحكم، ولا تعليق على أمر، كيف والتقيد بالثلث في الإذن في الحديث الذي ذكرناه ضعيف؛ كما بيناه؟ والله أعلم. * * *

باب القضاء

باب القضاء القضاء في أصل اللغة: إحكام الشيء، والفراغ منه. ويكون القضاء إمضاء الحكم، ومنه قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4]. وسمي الحاكم: قاضيًا؛ لأنه يمضي الأحكام ويحكمها، ويكون قضى بمعنى: أوجب، فيجوز أن يكون سمي قاضيًا؛ لإيجابه الحكم على من يجب عليه، وسمي حاكمًا؛ لمنعه الظلماء من الظلم. والقضاء -بالمد-: الولاية المعروفة، وجمعه أقضية؛ كغطاء وأغطية، واستقضي فلان: جُعل قاضيًا، وقَضَّى السلطانُ قاضيًا؛ أي: ولاه؛ كما يقال: أَمَّرَ أميرًا (¬1). * * * الحديث الأول مَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 419)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 331)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 219)، (مادة: قضى). (¬2) رواه البخاري (2550)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم (1718)، كتاب: الأقضية، باب: نفض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.

وَفِي لَفْظٍ: "مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيْه أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ" (¬1). اعلم أن هذا الحديث رواه البخاري ومسلم. وأما قوله: وفي لفظٍ: "من عملَ عملًا ليسَ عليه أمرنا فهو رَدٌّ"؛ فظاهره أنه للبخاري ومسلم -أيضًا-، وقد أضافه شيخنا الحافظ أبو زكريا النواوي -رحمه الله- في "الأربعين" له إلى مسلم خاصة، وأنكر عليه بعض المتأخرين ذلك، وقال: بل رواه -أيضًا- البخاري. ولا شك أن البخاري ذكره في "صحيحه" معلقًا، والمعلق لا يطلق عليه رواية للبخاري؛ لأن الرواية لا تطلق إلا على المتصل، ولهذا قال شيخنا أبو زكريا -رحمه الله تعالى-: وفي رواية لمسلم، ولم يقل: وفي لفظ، ونحوه من العبارات التي تشعر بوجوده فيه من غير رواية متصلة؛ فإن ذكر اللفظ في الشيء غير ذكر الرواية فيه، فصح ما ذكره تحقيقًا, ولا يصح الإنكار، وعبارة الكتاب محررة في ذلك، لكنها غير مبينة للمراد على إصطلاح المحدثين؛ حيث ان المقصود من ذكره لها: الدلالة لإثبات الروايات، والله أعلم. وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، أو هو نصف الإِسلام، أو ثلثه على ما ذكر فيه؛ لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام التي لا تنحصر. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهو رَدٌّ"؛ هو بمعنى المردود؛ إطلاقًا للمصدر على اسم المفعول؛ كأنه قال: فهو باطل غيرُ معتدّ به. وفي اللفظ الثاني: "من عملَ عملًا" زيادة على مدلول الأول؛ فإنه يشتمل صريحًا على أن إحداث جميع البدع والمخترعات مردود، وهو من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا عاند بعض المعاندين بفعل بدعة سبق إليها, لم يكن إثمه كإثم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1718)، (3/ 1343)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، وقد ذكره البخاري في "صحيحه" (6/ 2675) معلقًا.

من أحدثها، وإن كانا اشتركا في الإثم؛ لأن إثم الأول بالإحداث من غير ذكر عمل، وإثم الثاني بالعمل من غير إحداث؛ حيث إن قوله: أنا ما أحدثت شيئًا، صحيح، فيحتج عليه باللفظ الثاني الذي فيه التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سبق بإحداثها. والله أعلم. وفي الحديث دليل: على إبطال جميع العقود الممنوعة، وعدم وجود ثمراتها. وفيه دليل لمن يقول من أهل أصول الفقه: إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال منهم: ليس فيه دلالة على ذلك، قال: لأنه خبر واحد، فلا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة، وهو قول فاسد، نعم، قد يقع الغلط في بعض المواضع لبعض الناس فيما يقتضيه الحديث من الرد؛ فإنه قد يتعارض أمران، فينتقل من أحدهما إلى الآخر، فيكون العمل بالحديث في أحدهما كافيًا، ويقع الحكم به في الآخر في محل النزاع، فللخصم أن يمنع دلالته عليه، فينبغي أن يتنبه لذلك، والله أعلم. وإنما أدخل المصنف هذا الحديث في باب القضاء؛ حيث إن القضاء في المحاكمات لا ينضبط ولا ينحصر، وهي مردودة إلى الشرع، وفي العادة والغالب لا يجري على مقتضاه، ذنبه بذكره الحديثَ على أن كل ما يجري منها على هذا النحو مردود، إحداثًا وعملًا، والله أعلم. وفيه دليل: على التمسك بشريعته - صلى الله عليه وسلم - وسنته؛ حيث إن ذلك أمره الذي جاء به، وقام به، وما عداه ليس هو أمره، فهو مردود. وفيه دليل: على رد الأعمال الباطلة، وإن لم يقصد فعلها, ولا علم حكمها، والله أعلم. * * *

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَيضًا، قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتبةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ أبا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِيني مِنَ النَّفَقَةِ مَا يكْفِيني وَيكْفِي بَنِيَّ، إلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغيرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ" (¬1). أما هند بنت عتبة؛ فهي أم معاوية، أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان بن حرب، فأقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نكاحهما. وهي هند بنت عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبد شمس بن عبد مناف، وكانت امرأة لها ذِكْرٌ ونفسٌ وأنَفَة، شهدت أحدًا كافرة مع زوجها أبي سفيان، ثم ختم الله لها بالإِسلام، فأسلمت يوم الفتح، فلما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعة على النساء -ومن الشرط فيها: ألا يسرقن ولا يزنين-، قالت له هند بنت عتبة: وهل تزني الحرة وتسرق يا رسول الله؟ فلما قال: "ولا تقتلن أولادكن"، قالت: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم أنت ببدر كبارًا، أو نحو هذا من القول (¬2)، وشكت حينئذ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن زوجها أبا سفيان ... الحديث. توفيت - رضي الله عنها - في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والدُ أبي بكر الصديق، ومات أبو قحافة في المحرم سنة أربع عشرة، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5049)، كتاب: النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل، فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ومسلم (1714)، كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (4754)، عن عائشة - رضي الله عنها -. ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 237)، عن ميمون بن مهران، ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/ 177)، عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه -. (¬3) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 235)، و"الثقات" لابن حبان =

وأما أبو سفيان؛ فاسمه: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويُّ، القرشي، والد معاويةَ ويزيدَ وعتبةَ وإخوتهم، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، وكان تاجرًا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكانت لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب، اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس، ويقال: أفضل قريش في الجاهلية ثلاثة: عتبة، وأبو جهل، وأبو سفيان، فلما أتى الله بالإِسلام، أدبروا في الرأي، وكان أبو سفيان صديق العباس ونديمَهُ في الجاهلية. أسلم أبو سفيان يوم الفتح، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُنينا، وأعطاه من غنائمها مئة بعير وأربعين أوقية وزنَها له بلال، وأعطى ابنيه يزيدَ ومعاوية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِن" (¬1). مات أبو سفيان في خلافة عثمان - رضي الله عنه - سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: إحدى، وقيل: أربع وثلاثين، وصلى عليه ابنه معاوية، وقيل: بل صلى عليه عثمان بموضع الجنائز، ودفن بالبقيع وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل: ابن بضع وتسعين سنة، وممن قتل من أولاده يوم بدر كافرًا: ابنه أبو حنظلة، وبه كانت كنيته كنية ثانية، والله أعلم (¬2). ¬

_ = (3/ 439)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1922)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (70/ 166)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 281)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 620)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 155). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 310)، و "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 363)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 426)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 193)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 714)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (23/ 421)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 9)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 119)، و"سير أعلام النبلاء" للذهيي (2/ 105)، و"الإصابة في تمييز =

قولها: "إن أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ" شحيح؛ فعيل: مبالغة في الشح، وهو أشد البخل، وقيل: الشح والبخل سواء. وفي الحديث أحكام: منها: وجوب نفقة الزوجة. ومنها: وجوب نفقة الأولاد الصغار. ومنها: أن النفقة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد. وقال أصحاب الشافعي: نفقة القريب مقدرة بالكفاية كما في هذا الحديث، ونفقة الزوجة مقدرة بالأمداد على الموسر، كل يوم مُدانِ، وعلى المعسر مُدٌّ، والمتوسط: مد ونصف. وهذا الحديث يرد عليهم. ومنها: جواز سماع كلام الأجنبية عند الإفتاء والحكم، وكذا ما في معنى ذلك. ومنها: ذكر الإنسان بما يكرهه إذا كان للاستفتاء والشكوى ونحوهما، وهذا مستثنى من المنع من الغيبة. ومنها: أن من له على غيره حق، وهو عاجز عن استيفائه، يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهذا مذهب الشافعي وأصحابه، ومنع ذلك أبو حنيفة ومالك. ومنها: جواز إطلاق الفتوى من غير تعليق بثبوت؛ كما أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحتاج في فتواه أن يقول المفتي: إن ثبت، كان الحكم كذا وكذا, ولو قاله، فلا بأس، والتحرير: أن يقول: الحكم كذا وكذا، وحكم الحاكم به لصاحبه يتعلق بالثبوت. وقد اختلف أصحاب الشافعي في إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند امرأة أبي سفيان هذه هل كان إفتاء أم قضاء؟ ¬

_ = الصحابة" لابن حجر (3/ 412)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 361).

والأصح: أنه كان إفتاء، وأن هذا يجري في كل امرأة أشبهتها، فيجوز. والثاني: كان قضاء، فلا يجوز لغيرها إلا بإذن القاضي، وطريق الثبوت البينة أو الإقرار، أو علمُ الحاكم به على قول من يرى الحكم بالعلم. ومنها: أن للمرأة مدخلًا في كفالة أولادها والإنفاق عليهم من مال أبيهم. قال أصحاب الشافعي: إذا امتنع الأب من الإنفاق على الولد الصغير, أو كان غائبا، أذن القاضي لأمه في الأخذ من مال الأب أو الاستقراض عليه، والإنفاق على الصغير بشرط أهليتها، وهل لها الاستقلال بالأخذ من ماله بغير إذن القاضي؟ فيه وجهان مبنيان على الوجهين اللذين ذكرناهما آنفا في أمر هند امرأة أبي سفيان، هل كان إفتاءً أم قضاءً؟ ومنها: جواز اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي. ومنها: جواز خروج المرأة المزوجة من بيتها لحاجتها من المحاكمة والاستفتاء وغير ذلك. ومنها: أن ما يذكر في الاستفتاء لأجل ضرورة معرفة الحكم، إذا تعلق به أذى الغير، لا يوجب تعزيرًا، وقد استدل به جماعة من أصحاب الشافعي على جواز القضاء على الغائب، وفيه ضعف، وربما لا يصح الاستدلال به لذلك؛ من حيث إن القضية كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وكان السؤال على سبيل الفتوى لا في معرض الدعوى، ولا يقضى على الغائب الحاضر في البلد مع إمكان إحضاره وسماعه للدعوى عليه إلا في وجه ضعيف، فلو كان مستترًا لا يُقدر عليه، أو متعززًا، جاز القضاء عليه، وأبو سفيان لم يوجد في قصته هذه شيء من ذلك. وقد أخذ من الحديث الاستدلال على مسألة الظفر بالحق وأخذه من غير مراجعة من عليه، وليس في الحديث تعرض لجواز الأخذ من الجنس أو من غير الجنس، ومن يستدل بالإطلاق في مثل هذا، يجعله حجة في الجميع، والله أعلم.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَمعَ جَلَبةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتهِ، فَخَرَجَ إلَيهِمْ فَقَالَ: "أَلاَ إنَّما أَنا بَشَرٌ، وإنَّما يَأتِيني الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فيحسِبُ أنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإنَّما هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَليَحْمِلَها أَوْ يَذَرْها" (¬1). أما أم سلمة؛ فتقدم ذكرها. قولها: "سمعَ جَلَبَةَ خصمٍ ببابِ حجرته"؛ الجلبة -بفتح الجيم واللام-، وفي رواية في "صحيح مسلم": لجبة (¬2) -بتقديم اللام على الجيم مع فتحهما-، وهما لغتان صحيحتان، ومعناهما: اختلاط الأصوات. والخصم هنا: الجماعة، وهو من الألفاظ التي تقع على الواحد والجمع (¬3). وهذه الحجرة، هي بيت أم سلمة - رضي الله عنها -كما ثبت في "صحيح مسلم": بباب أم سلمة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إنما أَنا بشرٌ"؛ معناه: التنبيه على حالة البشرية، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئًا، إلا أن يطلعهم الله على شيء من ذلك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بما ظهر، والله تعالى متولي السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك. لكنه - صلى الله عليه وسلم - إنما كلف بالظاهر، وهذا نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6762)، كتاب: الأحكام، باب: القضاء في كثير المال وقليله، ومسلم (1713)، كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه مسلم (1713)، (3/ 1338). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 355)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 6).

بحقها، وحسابهم على الله تعالى" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المتلاعنين: "لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن" (¬2). ولو شاء الله لأطلعه - صلى الله عليه وسلم - على باطن أمر الخصمين، فحكم بيقين نفسه، من غير حاجة إلى شهادة ويمين، ولكن لما أمر الله تعالى أمته باتباعه، والاقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه، أجرى له - صلى الله عليه وسلم - حكمهم في عدم الاطلاع على باطن الأمور؛ ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه، فأجرى الله تعالى أحكامه على الظاهر الذي يستوي هو وغيره فيه؛ ليصح الاقتداء به، وتطيب نفوس العباد للانقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن. فإن قيل: هذا الحديث ظاهره أنه يقع منه - صلى الله عليه وسلم - حكم في الظاهر مخالف للباطن، وقد اتفق الأصوليون على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على خطأ في الأحكام. فالجواب: أنه لا تعارض بين الحديث وقاعدة الأصوليين؛ لأن مرادهم أنه لا يقر على خطأ فيما حكم فيه باجتهاده، ولهذا اختلفوا: هل يجوز أن يقع منه - صلى الله عليه وسلم - خطأ فيه؟ فالأكثرون على جوازه، لكن قالوا: لا يقر على إمضائه، بل يُعْلِمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- به، فيتداركه، ومنهم من منع وقوعه. وأما الذي في الحديث، فالمراد به الحكم بغير الاجتهاد بطريق البينة واليمين إذا وقع فيه ما يخالف باطنه ظاهره، أو عكسه؛ فإن ذلك لا يسمى الحكم به خطأ، بل هو صحيح بناء على ما استقر به التكليف، وهو وجوب العمل بشاهدين مثلًا، وإن كانا شاهدي زور ونحو ذلك، فالتقصير منهما، أو من الحاكم؛ حيث لم يحتط في أمرهما، أو ممن ساعدهما، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد؛ فإن الحكم بالخطأ ليس هو حكم الشرع، وإن كان يثاب عليه ويؤجر أجرًا واحدًا لا أجرين، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن قضيتُ له بحقِّ مسلمٍ": التقييد بحق المسلم خرج على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

الغالب، وليس المراد الاحترازَ من الكافر؛ فإن مال الذمي والمعاهَد والمرتد في هذا كمالِ المسلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنما هي قطعةٌ من النار"؛ الضمير في قوله: "هي" عائد إلى القضية، أو الحالة، وفي "صحيح مسلم": "فإنما أقطعُ له قطعةً من النار"؛ معناه: من قضيت له بظاهر يخالف الباطن، فهو حرام يؤول به إلى النار. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليحملْها أو يَذَرْها"؛ التخيير هنا للتهديد والوعيد والإنذار؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] و {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وكقوله تعالى فيما صيغته للأمر ومعناه التهديد: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 40] ونظائره في الكتاب والسنة كثير، وليس المراد التخيير في الفعل والترك؛ لإن حمل الشيء والإعراض عنه لا يستعمل في ذلك. وفي الحديث دليل: على أن حكم الحاكم لا يحيل الباطن ولا يحل حرامًا، فهذا شهد شاهدا زور لإنسان بمال، فحكم به الحاكم، لم يحل للمحكوم له ذلك المال، ولو شهدا عليه بقتل، لم يحل للولي قتله مع علمه بكذبهما، وإن شهدا بالزور أن زيدًا طلق امرأته، لم يحل لمن علم كذبهما أن يتزوجها بعد حكم القاضي بالطلاق، وقال أبو حنيفة: يُحل حكمُ الحاكم الفروجَ دون الأموال، فقال: يحل نكاح المذكورة. قال صاحب "شرح المختار" للفتوى، على مذهب الإِمام أبي حنيفة -رحمه الله- (¬1): والقضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرًا وباطنا في العقود والفسوخ؛ كالنكاح والطلاق والبيع، وكذلك الهبة والإرث، وقالا: لا ينفذ باطنًا؛ يعني: محمدًا، وأبا يوسف -رحمهما الله تعالى-. قال: وصورته: شهد شاهدان بالزور بنكاح امرأة لرجل، فقضى بها القاضي، نفذ عنده -يعني: أبا حنيفة- حتى حل للزوج وطؤها؛ خلافًا لهما، ولو شهدا بالزور على رجل أنه طلق امرأته ثانيا، فقضى القاضي بالفرقة، ثم ¬

_ (¬1) انظر: "الاختيار لتعليل المختار" لابن مودود الموصلي (2/ 350 - 352).

تزوجها آخر، جاز، وعندهما: إن جهل الزوج الثاني ذلك، حل له وطؤها اتباعًا للظاهر؛ لأنه لا يكلف علم الباطن، وإن علم بأن كان أحد الشاهدين لا يحل، ولو وطئها الزوج الأول، كان زانيًا ويحد. وقال محمَّد: يحل له وطؤها، وقال أبو يوسف: لا يحل له وطؤها؛ لأن قول أبي حينفة أورث شبهة، فيحرم الوطء احتياطا, ولا ينفذ في معتدة الغير ومنكوحته بالإجماع؛ لأنه لا يمكنه تقديم النكاح على القضاء، وفي الأجنبية أمكن ذلك، فيقدم تصحيحًا له؛ قطعا للمنازعة. وينفذ بيع الأمة عنده، حتى يحل للمشتري وطؤها، وينفذ في الهبة والإرث، حتى يحل للمشهود له أكل الهبة والميراث، وروي عنه -يعني: أبا حنيفة-: أنه لا ينفذ فيهما لهما. قال: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضَكم أَنْ يكونَ ألحنَ بحجَّته من بعض، وإنما أنا بشر" الحديث، وأنه عام، فيعم جميع العقود والفسوخ وغير ذلك، فينبغي أن يكون الحكم في الباطن كهو عند الله، أما الظاهر، فالحكم لازم على ما أنفذه القاضي. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر" (¬1)، قال: وله -يعني: أبا حنيفة- ما روي أن رجلًا خطب امرأة، وهو دونها في الحسب، فأبت أن تتزوجه، فادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين عند علي -كرم الله وجهه-، فحكم عليها بالنكاح، فقالت: إني لم أتزوجه، وإنهم شهود زور، فزوجني منه، فقال علي -كرم الله وجهه-: شاهداك زَوجاك، وأمضى عليها النكاح، وأنه قضى بأمر الله تعالى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء؛ فيجعل ¬

_ (¬1) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 162): اشتهر بين الأصوليين والفقهاء، بل وقع في "شرح مسلم" للنووي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" ما نصه معناه: "إني أمرت بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر" كما قال - صلى الله عليه وسلم -. انتهى ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره.

إنشاء تحرزًا عن الحرام، وحديثهما صريح في المال، قال: ونحن نقول به؛ فإن قضاء القاضي في الأملاك المرسلة لا ينفذ بشهادة الزور؛ بهذا الحديث، ولقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] , وروي أنها نزلت فيه؛ ولأن القاضي لا يملك إثبات الملك بدون السبب، فإنه لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو، وأما العقود والفسوخ، فإنه يملك إنشاءها، فإنه يملك بيع أمة زيد وغيرها من عمرو حال غيبته، وخوف الهلاك؛ فإنه يبيعه للحفظ، وكذلك لو مات ولا وصي له، ويملك إنشاء النكاح على الصغير, وعلى الصغيرة، والفرقة في العنين، وغير ذلك، فثبت أن له ولاية الإنشاء في العقود والفسوخ، فيجعل القضاء إنشاء؛ احترازًا عن الحرام، ولا يملك ذلك في الأملاك المرسلة بغير أسباب، فتعذر جعله إنشاء، فبطل. ثم نقول: لو لم ينفذ باطنًا، فلو قضى القاضي بالطلاق، لبقيت حلالًا للزوج الأول باطنًا, وللثاني ظاهرًا، ولو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي الأول به، حلت للثالث -أيضًا-، وهكذا رابع وخامس، فتحل للكل في زمان واحد، وفيه من الفحش ما لا يخفى. ولو قلنا بنفاذه باطنًا، لا تحل إلا لواحد، ولا فحش فيه. هذا آخر كلام صاحب "شرح المختارا للفتوى في مذهب أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-. ولا شك أن قول أبي حنيفة مخالف؛ لهذا الحديث الصحيح، ولإجماع من قبله، ولقاعدة وافق هو وغيره عليها، وهي: أن الأبضاع أولى بالاحتياط من الأموال، والقول بأن حكم الحاكم لا يحيل الباطن، ولا يحل حراما، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، وجماهير علماء الإِسلام وفقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، والله أعلم. وفيه دليل: على إجراء الأحكام على الظاهر. وفيه دليل: على إعلام الناس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكم بالظاهر كغيره، وإن كان يفترق مع الغير في اطلاعه على ما يطلعه الله عليه من الغيوب الباطنة، وذلك

في أمور مخصوصة، لا في الأحكام العامة. وعلى هذا دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر"، ولا شك أن الحصر يكون عامًّا وخاصًّا، وهذا من الخاص الذي يتعلق بالحكم بالنسبة إلى الحجج الظاهرة. وفيه: أن الحاكم لا يحكم إلا بالظاهر؛ مما طريقه الثبوت بالبينة أو الإقرار، ولا يحكم بما يعلمه في الباطن مخالفًا لما ثبت في الظاهر، ولا عكسه، وقد نقل الإجماع فيه، فلو علم شيئًا بطريقه الشرعي خبرًا يقينًا أو ظنًّا راجحًا، أو شاهده من غير بينة، أو إقراره في حال الدعوى أو قبلها، فهل يحكم بعلمه؟ فيه أوجه في مذهب الشافعي: رجح مرجحون أنه يحكم بعلمه في غير حدود الله دونها، وقيل: يحكم، ورجح آخرون: أنه لا يحكم بعلمه أصلًا، وهذا مما عمل فيه بالظن مع وجود القطع فيه، وله نظائر؛ منها: إن كان معه ماء طاهر بيقين، ومعه إناء [فيه ماء نجس]، إن اشتبه الطاهر بالنجس منهما، جاز له الاجتهاد، والطهارة بما أدى إليه اجتهاده، وهو ظني مع وجود الطاهر بيقين توسعةً، إلا أن حكم الحاكم بعلمه مفسدة زائدة، وهي بطريق الظنون الفاسدة إلى غرضه، وقد تنجر المفسدة إلى تشبيه غير المتيقن به، وكلاهما تطلع الشرع إلى تركها، فلهذا جوز الحكم بالظن مع وجود القطع، بخلاف ما إذا كان الظن مخالفًا للعلم، فإنه لا يحكم إجماعًا، والله أعلم. واعلم أن لله -عَزَّ وَجَلَّ- أحكامًا شرعية في ظاهرك، وأحكامًا شرعية في باطنك، وأحكاما مشتركة في ظاهرك وباطنك. فاليهود نفت الأحكام الباطنة، فضلوا، والنصارى نفت الأحكام الظاهرة، فضلوا، والمسلمون أثبتوا الأحكام كلها جمعًا وإفرادًا، فاهتدوا، فما كان في ظاهرك أثبتوه في محله، وما كان في باطنك أثبتوه في محله، وما كان فيهما أثبتوه فيهما. مثاله: العدالة لا تثبت إلا ظاهرًا وباطنا، فلا يكون عدلًا إلا من اتصف بها ظاهرًا وباطنا، فمن اتصف بها في ظاهره دون باطنه، وعكسه، لا يكون عدلًا، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على هذه القاعدة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلعل بعضَكم أن يكونَ أبلغَ من بعضٍ فأحسبُ أنه صادقٌ فأقضي له" إلى آخره.

الحديث الرابع

ومثال الأحكام في الباطن: المأمور بها والمنهي عنها وجوبا وندبا وتحريما وكراهة: النيات والعرفان والاعتقادات والإيمان والكفر والطغيان والكبر والعجب والحسد ونحو ذلك. ومثال الأحكام في الظاهر: آثار الأحكام الباطنة، وما يتعلق ببصرك ومنطقك، وبطشك وفعلك بيدك ورجلك وفرجك منها، والله أعلم. وقد ذكر أصحاب الشافعي: أن القاضي الحنفي إذا حكم بشفعة الجار: أنه ينفذ في الظاهر، واختلفوا في نفوذه وحكمه في الباطن على وجهين. وهذا الحديث عام بالنسبة إلى سائر الحقوق، والذي اتفق عليه أصحاب الشافعي: أن الحجج إذا كانت باطلة في نفس الأمر؛ بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها: أن ذلك لا يؤثر في منع الحكم بها، بخلاف الأمور الاجتهادية، إذا خالف اعتقاد القاضي اعتقاد المحكوم له؛ كما في شفعة الجار، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَتَبَ إلَيَّ، وكَتبتُ لَهُ -إلَى ابْنِهِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِستانَ-: أَنْ لَا تَحْكُمْ بينَ اثْنينِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَا يحكُمْ أَحَدٌ بينَ اثْنَينِ وَهُوَ غَضبَانُ". وَفي رواية: "لَا يقْضِيَنَّ حَكَمٌ بينَ اثنيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬1). أما عبد الرحمن بن أبي بكرة؛ فكنيته: أبو عمرو بن نفيع بن الحارث، ثقفيٌّ بصريٌّ تابعيٌّ ثقة، وهو أول مولود في الإِسلام بالبصرة، وله إخوة خمسة: عبيد الله، ومسلم، ووزاد، ويزيد، وعبد العزيز. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6739)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ ومسلم (1717)، كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان.

سمع أباه، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص. وروى عنه جماعة من التابعين وغيرهم، وروى له البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمساند (¬1). وأما أخوه عبيد الله؛ فكنيته: أبو حاتم، تابعي، وثقه أحمد بن عبد الله، كان أحدَ الكرام المذكورين، والسمحاء المشهورين، وكان قليل الحديث، وكان عبد الرحمن أكبر منه، وولي القضاء بالبصرة، وإمرة سجستان، روى عن أبيه، وعن علي بن أبي طالب. روى عنه: ابنه زياد بن عبيد الله، ومحمدُ بن سيرين، وغيرهما، ومات في سنة سبع وسبعين (¬2). وأما أبوهما؛ فاسمه: نفيع بن الحارث بن كَلَدة، ويقال: نفيع بن مسروح، وقيل: كان ابن عبد الحارث بن كلدة، وإنما بني أبا بكرة؛ لأنه تدلَّى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببكرة، فكني بها، وأعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من الفضلاء الصالحين، وما زال على كثرة العبادة حتى مات - رضي الله عنه -، وكانت أولاده أشرافًا بالبصرة؛ في كثرة الصلة والمال والولايات. قال الحسن البصري: لم يسكن البصرة من الصحابة -رضي الله عنهم- أفضلُ من عمرانَ بن حُصَين، وأبي بكرة. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، واثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث، روى عنه: ابناه: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 190)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 260)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 77)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (36/ 10)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 275)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 5)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 134). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 190)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 375)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 64)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 129)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 138)، و"تعجيل المنفعة" لابن حجر (ص: 214).

عبد الرحمن، ومسلم، والحسن البصري، وغيره، وروى له أصحاب السنن والمساند. كان ممن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين، مات بالبصرة سنة إحدى، وقيل: اثنتين وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي (¬1). وأما سجستان؛ فهي بفتح السين المهملة، قاله "صاحب المطالع" (¬2)، وقال السمعاني في "أنسابه" (¬3): بكسر السين والجيم وسكون السين الأخرى بعدها تاء مثناة فوق مفتوحة: إحدى البلاد المعروفة بكابل، كان بها ومنها جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين، والله أعلم. وهذا الحديث نص في المنع من القضاء حالة الغضب؛ وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التشويش الموجب لاختلال النظر، وعدم حصوله على الوجه المطلوب، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال؛ كالشبع المفرط، والجوع المقلق، والهم والفرح البالغ، ومدافعة الحدث، وتعلق القلب بأمر، ونحو ذلك، فكل واحد مما ذكر مشوش للذهن، حامل على الغلط، ولو قضى مع واحد من الجوع والغضب، نفذ إذا ساق الحق، وكان مكروهًا؛ للنهي. وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج الحرة، وقال في اللقطة في ضالة الإبل: "ما لَكَ ولها؟ " (¬4) في حال الغضب، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما خص الغضب بالنهي عن ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 15)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 112)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 489)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 411)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1530)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 201)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 334)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 486)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 5)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 5)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 467)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 418). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 234). (¬3) انظر: "الأنساب" للسمعاني (3/ 225). (¬4) تقدم تخريجه.

الحديث الخامس

القضاء فيه؛ لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته. وفيه دليل: على العمل بالكتابة. وفيه دليل: على أن الكتابة بالحديث؛ كالسماع من الشيخ؛ في وجوب العمل، وأما في الرواية, فقد اختلفوا فيه. والصواب الذي عليه المحققون، وقاله المتقنون: أنه يجوز إذا أداه في الرواية بعبارة مطابقة للواقع؛ كقوله: كتب إلى فلان بكذا وكذا، وأخبرني مكاتبة أو كتابة، ونحو ذلك. وفيه: نشر العلم للعمل به والابتداء به من غير سؤال. وفيه: ذكر الحكم مع دليله في الفتوى والتعليم. وفيه: تعدية الحكم إلى ما في معناه، وأنه معمول به، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ أَبِي بكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "أَلاَ أُنَبِّئكُمْ بِأكبَرِ الكَبَائِرِ؟ " ثَلاَثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: "الإِشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ"، وكَانَ مُتكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: "أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزورِ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا؛ حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ (¬1). تقدم الكلام على أبي بكرة آنفًا، في الحديث قبله. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا"؛ معناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلام ثلاث مرات؛ تنبيهًا للسامعين على حضور قلوبهم وأفهامهم، لما يخبرهم به مما استفتحه - صلى الله عليه وسلم - لهم من التعليم والبيان؛ لئلا يغفلوا عن ذلك، فيهلكوا؛ لتشبههم في ذلك بالكفار والمنافقين، أو اللائمين واللاعنين. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2511)، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، ومسلم (87)، كتاب: الإيمان, باب: بيان الكبائر وأكبرها.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بأكبرِ الكبائر"؛ فهو قال على عظم الذنوب، وأنها تنقسم في ذلك إلى كبير وأكبر، ويلزم من ذلك انقسامها إلى صغائر وكبائر؛ فإن (أفعل) التفضيل يدل على وجود مفضول غالبًا، وهو قسمان؛ فعيل، وفعيل يدل على ما دونه، وهو الصغائر، وهو القسم الثاني، ويدل على ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. ولا شك أن الكلام في ذلك على نوعين: أحدهما: في درجاتها. والثاني: في انحصارها في أعدادها وعدم قسيم لها. أما الأول، فلا شك في وجوده في السنة، وقد ذكره العلماء. قالوا: أكبر المعاصي: الشرك بالله تعالى، ويليه: قتل النفس بغير حق، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزالُ ابنُ آدمَ في فسحةٍ من دينه، ما لم يُصِبْ دمًا حراما" (¬1). قال الشافعي -رحمه الله- في "مختصر المزني": أكبر الكبائر بعد الشرك: القتل، واتفق أصحابه على ذلك، وأما ما سواها من الزنا واللواط وعقوق الوالدين، والسحر، وقذف المحصنات، والفرار يوم الزحف، وأكل الربا، وغير ذلك من الكبائر، فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها، ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المترتبة عليها. وعلى هذا، يقال في كل واحدة منها: هي من أكبر الكبائر، وإن جاء في موضع: هي أكبر الكبائر؛ كقوله في هذا الحديث: "وعقوق الوالدين"، كأن المراد: من أكبر الكبائر؛ كما يقال في أفضل الأعمال (¬2). وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كل ما نهى الله - عَزَّ وَجَلَّ - عنه، فهو كبيرة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6469)، كتاب: الديات، في أوله، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 81). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 40)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (292).

وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإِمام في علم الأصول والفقه وغيره. وحكى القاضي عياض -رحمه الله- هذا المذهب عن المحققين، واحتج القائلون بهذا؛ فإن كل مخالفة، فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة، ولهذا قال السلف -رحمهم الله-: لا تنظر إلى الذنب، ولكن انظر إلى مَنْ عصيت، وهذا كله يدل على عدم قسيم الكبائر من الصغائر، وقد بينا دليل وجودها: وأما الثاني: فهو انحصارها في عدد. ولا شك أنه ثبت في الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائر سبع" (¬1)، وهذه الصيغة، وإن كانت تقتضي الحصر، فهو غير مراد بلا شك. وإنما وقع الاقتصار على السبع في هذا الحديث، وفي رواية في "صحيح مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائر ثلاث"، وفي أخرى: "أربع" (¬2)؛ لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها, لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وذلك يدل على أن المراد: البعض، ويكون التقدير: من الكبائر. ولهذا ثبت في الصحيح: "من الكبائر شتم الرجل والديه"، وثبت في عدم الاستبراء من البول، وفي النميمة: أنهما من الكبائر. وجاء في غير الصحيح من الكبائر: اليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام. وتقدم مذهب ابن عباس وأبي إسحاق وغيرهما: أن الكبائر كل ما نهى الله عنه. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه سئل عن الكبائر، أسبع هي؟ فقال: هي إلى ............................................................. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2615)، كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ومسلم (89)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "اجتنبوا السبع الموبقات ...... " الحديث. (¬2) انظر: "صحيح مسلم" (1/ 91 - 92).

السبعين (¬1)، ويروى: إلى سبع مئة أقرب (¬2)، والله أعلم. [وقد بين - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه: أنه لو أعطي بها، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح ذلك، ولا يمكن للمدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي؛ فيمكنه صيانتها بالبنية. وفي هذا الحديث دليل لمذهب الشافعي وجمهور العلماء من سلف الأمة وخلفها: أن اليمين على المدعي] (¬3). إذا ثبت هذا، فاعلم أنه لا بد من معرفة الكبيرة وتمييزها, ولا بد من ذكر الفرق بين الكبيرة والصغيرة. أما تعريف الكبيرة؛ فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: الكبائر: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب (¬4)، ونحو هذا عن الحسن البصري، وقال آخرون: هي ما أوعد الله - عَزَّ وَجَلَّ - عليه بنار، أو حَدٍّ في الدنيا. وقال أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في "البسيط": والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة: أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها، والمستجرئ عليها اعتيادًا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة. وقال الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله- في "فتاويه": الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق اسم الكبيرة، ووصف بكونه عظيما على الإطلاق، قال: فهذا حد الكبيرة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (19702)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 41)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (294). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 41). (¬3) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬4) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 41)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (290). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 85).

ثم لها أمارات: منها: إيجاب الحد. ومنها: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب والسنة. ومنها: وصف فاعلها بالفسق. ومنها: اللعن؛ كلعنِ الله مَنْ غيَّرَ مَنارَ الأرض، وقال غيره: تغيير منار الأرض كبيرة؛ لاقتران اللعن به، وكذا قتل المؤمن؛ لاقتران الوعيد به، والمحاربة، والزنا، والسرقة، والقذف كبائر؛ لاقتران الحدود بها، واللعنة ببعضها، فهذا ما يتعلق بتعريف الكبيرة وحَدِّها. وأما الفرق بينها وبين الصغيرة: فقال الغزالي في "البسيط" في المذهب: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقه، وقد فهما من مدارك الشرع. قال شيخنا أبو زكريا النووي -رحمه الله-: وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدًّا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة, إلى ما لا يكفره ذلك، كما ثبت في الصحيح، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لم تُغشَ كبيرةٌ" (¬1). فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها: صغائر، وما لا تكفره: كبائر، ولا شك في حسن هذا, ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها, لكنها أقل قبحًا, ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم، هذا آخر كلامه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (228)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بلفظ: "ما لم يؤت كبيرة". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 85).

فإن قيل: اجتناب الكبائر مكفر للصغائر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]، فإن اجتنبت الكبائر، وكفرت الصغائر، فما تكفر الصلوات الخمس ورمضان والحج والعمرة والوضوء وغير ذلك مما ذكر؟ قلنا: إنما جعلت مكفرة إن وجدت ما تكفره، فإذا لم تجد ما تكفره، كانت رفع درجات لصاحبها، والله أعلم. وقال الشيخ الإِمام أبو محمد بن عبد السلام -رحمه الله- في كتابه "القواعد": إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة، فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر، فهي صغيرة من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر، أو ربت عليه، فهي من الكبائر، فمن شتم الرب -سبحانه وتعالى-، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو استهان بالرسل، أو كذب واحدًا منهم، أو ضمخ الكعبة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة (¬1). قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي -رحمه الله-: وهذا الذي قاله عندي داخل فيما نص عليه الشرع بالكفر، إن جعلنا المراد بالاشراك بالله تعالى مطلقَ الكفر على ما سنبينه عليه، ولا بد مع هذا من أمرين: أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر، فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن: أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل؟ فإن أخذنا هذا بمجرده، لزم منه ألَّا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة؛ لخلائها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة؛ لأنها، وإن خلت عن المفسدة المذكورة، إلا أنه تقترن بها مفسدة التجرؤ على شرب الخمر الكثير الموقع في المفسدة، فبهذا الاقتران يصير كبيرة. الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك، فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى ¬

_ (¬1) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 19).

بعض الكبائر، مساويًا لبعض الكبائر، أو زائدًا عليها، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلمًا معصومًا لمن يقتله، فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال اليتيم، وأكل مال اليتيم منصوص عليه، وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تفضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، كان ذلك أعظم من فراره من الزحف، والفرار من الزحف منصوص عليه دون هذه. وكذلك يفعل على ذلك القول الذي حكيناه، من أن الكبيرة: ما رتب عليه اللعن أو الحد أو الوعيد، فتعتبر المفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك، فما ساوى أقلها، فهو كبيرة، وما نقص عن ذلك، فليس بكبيرة. هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬1). قال أبو محمَّد بن عبد السلام -رحمه الله-: أما إذا كذب عليه كذبا يوجد منه بسببه ثمرة، فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر؛ فإن وقعا في مال خطير، فهذا ظاهر، وإن وقعا في حقير، فيجوز أن يجعلا من الكبائر؛ فطامًا عن هذه المفاسد؛ كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر، وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة. قال: والحكم بغير الحق كبيرة؛ فإن شاهد الزور متسبب، والحاكم مباشر، فهذا جعل السبب كبيرة، فالمباشرة أولى. قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر: بأنها كل ذنب قُرن به وعيد أو حد أو لعن، فعلى هذا، كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قُرن به الوعيد أو الحد أو اللعن، أو أكبر من مفسدته، فهو كبيرة، ثم قال: الأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في ذنبه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 171 - 172). (¬2) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 19 - 20).

وقال الإِمام أبو الحسن الواحدي المفسر، وغيره: الصحيح: أن حد الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم توصف، وهي مشتملة على كبائر وصغائر. والحكمة في عدم بيانها: أن يكون العبد ممتنعًا من جميعها؛ مخافة أن تكون من الكبائر. قال العلماء: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء في الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أُخفي، والله أعلم. قالوا: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة (¬1). وروي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما -رضي الله عنهم-: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار (¬2)؛ ومعناه: أن الكبيرة تُمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار. قال أبو محمَّد بن عبد السلام -رحمه الله-: الإصرار هو أن تتكرر منه الصغيرة تكررًا يشعر بقلة مبالاته بذنبه إشعارَ ارتكاب الكبيرة بذلك. قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع؛ بحيث يشعر مجموعها ما تشعر به أصغر الكبائر (¬3). وقال أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله تعالى-: المصرُّ: مَنْ تلبس من أضداد التوبة باستمرار العزم على المعاودة، أو باستدامة الفعل؛ بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق عليه الوصف، بصيرورته كبيرًا عظيمًا, وليس لزمان ذلك وعدده حصر، والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 86). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 41)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 934)، عن ابن عباس، موقوفًا عليه من قوله. ورواه الشهاب القضاعي في "مسنده" (853)، عن ابن عباس مرفوعًا. (¬3) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 22 - 23). (¬4) انظر: "فتاوى ابن الصلاح" (1/ 148 - 149). =

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإشراكُ بالله"؛ يحتمل أن يراد به مطلقُ الكفر، وخصص الإشراك بالذكر؛ لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب؛ تنبيهًا على غيره، ويحتمل أن يراد به: خصوصية الإشراك، لكنه بعيد؛ لكون بعض الكفر أعظمَ قبحًا من الإشراك؛ كالكفر بالتعطيل؛ فإنه نفي مطلق، والإشراك إثبات مقيد، فهو أخف قبحًا من التعطيل، فحينئذ يكون ذكر الإشراك على الاحتمال الثاني من باب التنبيه بالقبيح على الأقبح، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وعقوقُ الوالدين"؛ العقوقُ مأخوذ من العَقّ، وهو القطع، وذكر الأزهري: أنه يقال: عن والده يعُقه -بضم العين- عقًّا، وعقوقا: إذا قطعه، ولم يصل رحمه، وجمع العاق: عَقَقَة -بفتح الحروف كلها-، وعُقُق -بضم العين والقاف-. وقال صاحب "المحكم": رجل عقق وعقق وعق وعاق: بمعنى واحد، وهو الذي شق عصا الطاعة لوالده، هذا قول أهل اللغة (¬1). ولا شك أن حق الوالدين عظيم، فعقوقهما عظيم، ورتبة مختلفة، لكن ضبط المحرم والواجب من الطاعة لهما فيه عسر؛ ولا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه، باتفاق العلماء، بل طاعتهما تبع لطاعة الشرع، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الطاعةُ في المعروفِ" (¬3). وقد حرم على الولد السفرَ الذي لا يتعين شرعًا ¬

_ = قلت: وجميع ما ذكره الشارح -رحمه الله- في بحث (الكبيرة والصغيرة) إلا ما قاله عن ابن دقيق العيد، قد استفاده من كتاب شيخه النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم". (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 163). (¬2) رواه الإمام أحمد في " المسند" (5/ 66)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (602)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 170)، وفي "المعجم الأوسط" (4322)، والشهاب القضاعي في "مسنده" (873)، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (6830)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (1840)، كتاب: الأمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.

إذا توقع فيه قتله أو هلاكه، أو قطع عضو من أعضائه؛ لشدة تفجعهما عليه، إلا إذا أذنا فيه. وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى بشرطها. قال بعض المتأخرين: ولم أقف في عقوق الوالدين، ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، لكن ما يحرم في حق الأجانب، فهو أشد تحريمًا في حقهما، وما يجب للأجانب، فهو أشد وجوبا لهما. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله- في "فتاويه": العقوق المحرم: كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه، تأذيًا ليس بالهين، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعة الوالدين في كل ما ليس بمعصية واجب، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات، قال: وليس قول من قال من علمائنا: يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير إذنهما، مخالفًا لما ذكرته؛ فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، والله أعلم (¬1). وقال شيخنا الإِمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله-: والفقهاء قد ذكروا صورًا جزئية، وتكلموا فيها منثورة لا يحصل منها ضابط كلي، فليس يبعد أن يسلك في ذلك من أن تقاس المصالح في طرق الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها، والمفاسد في طرق العلم بالمفاسد التي حرمت لأجلها. هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬2). وقوله: وكان متكئًا فجلس فقال: "ألا وقول الزور" إلى آخره: أما جلوسه - صلى الله عليه وسلم -؛ فللاهتمام بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريم شهادة الزور وعظم قبحها، وقبح كل قول زور. ¬

_ (¬1) انظر: "فتاوى ابن الصلاح" (1/ 201). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 172 - 173).

وأما قولهم: "ليته سكت"؛ فإنما قالوه وتمنوه شفقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكراهة لما يزعجه ويغضبه، والله أعلم. وأما اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بقول الزور وشهادة الزور؛ فلأن وقوعهما على الناس أسهل، والتهاون بهما أكثر، والحوامل على فعلهما كثيرة؛ من العداوة والبغضاء والحسد وغيرها، فاحتيج إلى الاهتمام بها لذلك، وتعظيم أمرهما، بخلاف الإشراك بالله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ فإنه لا يقع فيه مسلم، وعقوق الوالدين؛ فإن الطبع صارف عنه، وليس العقوق وقول الزور مساويًا للإشراك باللهِ قطعًا، إلا إذا فعل ذلك معتقدا حله، فإنه يصير كافرًا، ومعلوم أن الكافر شاهد بالزور وقائل به، وقد تقدم حمل ذلك على أنه من أكبر الكبائر لا أكبرها، وهو الظاهر، وضعف غيره من التأويلات، وقد تقدم أن المراد بشهادة الزور: إنما هو في الحقوق الكبيرة والعظيمة والحقيرة، لا فرق بينهما؛ لانجرار الشهادة بالحقير إلى العظيم؛ كما في تحريم الخمر، ونقلنا الاحتمال فيه عن أبي محمد بن عبد السلام في كل ثمرة من مال يتيم، والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وقولُ الزور وشهادةُ الزور"؛ فيحتمل أو يحمل قول الزور على شهادة الزور؛ حيث إنه لو حمل على الإطلاق في كل قول زور، لكان كبيرة، وليس كذلك؛ فإن الفقهاء نصوا على أن الكذبة الواحدة وما يقاربها لا تسقط العدالة، ولو كانت كبيرة، لأسقطت، وقد نص الله - عَزَّ وَجَلَّ - على عظم بعض الكذب، فقال: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 112]. وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده، وقد نص في الحديث على أن الغيبة بالقذف كبيرة؛ لإيجابها الحد، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلًا، أو قبح بعض الهيئة في الناس مثلًا، والله أعلم. وفي الحديث: إثبات الكبائر، وأن منها ما هو كفر، ومنها ما ليس بكفر. وفيه: تحريم الإشراك بالله - عَزَّ وَجَلَّ -، وهو كفر بالإجماع.

الحديث السادس

وفيه: تحريم عقوق الوالدين في محاله. وفيه: الاهتمام بذكر الشيء للتنبيه على وعيه ومنعه. وفيه: تحريم شهادة الزور، وفي معناها كل ما كان زورًا؛ من لبس وتبع وتعاطي أمر ليس هو له أهلًا. وفيه: الشفقة على الكبار من أهل العلم والدين، وتمني عدم غضبهم وتعبهم. وفيه: التحريض على مجانبة الذنوب، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "وَلَوْ يُعْطَى الناسُ بدَعوَاهُم، لاَدَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَال وَأَموَالَهُمْ، وَلَكِن اليَمِينَ عَلَى المُدعَى عَلَيه" (¬1). هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد أحكام الشرع، وهو حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الكتاب، وهكذا ذكره أصحاب كتب السنن, وقال بعضهم: لا يصح مرفوعًا، إنما هو قول ابن عباس، والصحيح أنه مرفوع. وروى البيهقي وغيره بإسناد حسن أو صحيح زيادة عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يُعطى الناس بدعواهم، لادعى قومٌ دماءَ قوم وأموالهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" (¬2)، وهذا الحديث يدل على أن الحكم لا يجوز إلا بالقانون الشرعي الذي رتب من الدعوى، وإقامه بينة، أو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4277)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، ومسلم (1711)، كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، وهذا لفظ مسلم. (¬2) تقدم تخريجه عند البيهقي وغيره.

تصديق المدعى عليه. وإن طلب يمين المدعى عليه، فله ذلك، وإن غلب على الظن صدق المدعي، وقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه أنه لو أعطي بها, لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح ذلك، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي: فيمكنه صيانتها بالبينة. وفي هذا الحديث دليل لمذهب الشافعي وجمهور العلماء من سلف الأمة وخلفها أن اليمين على المدعى عليه مطلقا في كل حق، سواء كان بينه وبين المدعي اختلاط، أم لا. وقال مالك وجمهور أصحابه وفقهاء المدينة السبعة: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خلطة؛ لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم إياهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطة؛ دفعًا لهذه المفسدة. واختلفوا في تفسير الخلطة؛ فقيل: هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو بشاهدين، وقيل: تكفي التشبهة، وقيل: هي أن تليق به الدعوى أن يعامله بمثلها على مثله، وقيل: أن تليق به أن يعامله بمثلها. وهذا كله من التصرفات بالتخصيصات لعموم الحديث، ولا أصل لاشترطها في كتاب ولا سنة ولا إجماع. ومن تصرفاتهم أيضًا: أن من ادعى شيئًا من أسباب القصاص، لم تجب به اليمين إلا أن يقيم على ذلك شاهدًا، فيجب اليمين. ومنها: إذا ادعى الرجل على امرأته نكاحا، لم يجب له عليها اليمين في ذلك. ومنها: أن بعض الأمناء ممن يجعل القول قوله، لا يوجبون عليه يمينًا. ومنها: دعوى المرأة الطلاق على الزوج لا تجب عليه اليمين، وكل من خالفهم في شيء من ذلك يستدل عليهم بعموم هذا الحديث، والله أعلم. * * *

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة الحديث الأول عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضيَ اللهُ عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ -وَأَهوَى النُّعْمانُ بِإصْبَعَيهِ إلَى أُذُنيْهِ-: "إن الحَلاَلَ بينٌ، وَإن الحَرَامَ بينٌ، وَبينَهُمَا أمُورٌ مُشتَبِهَات، لَا يَعلَمُهُن كثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتقَى الشُبُهَاتِ، استبَرَأَ لِدِينهِ وَعِرضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَرْتَع فِيهِ، أَلاَ وإنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إذَا صَلحَتْ، صلَحَ الجَسَدُ كُلهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ" (¬1). تقدم الكلام على النعمان بن بشير. قوله: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: -وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه-" إنما قال ذلك ردًّا على من لم يصحح سماع النعمان من النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل المدينة؛ حيث إنه كان صغيرًا، ولا شك أن عمره يوم مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثماني سنين، ومن كان في هذا السن كان مميزًا صحيح السماع. وكذا من هو أصغر سنًّا منه، ولهذا صرح بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكده بإشارته بإصبعيه إلى أذنيه، وهو مذهب أهل العراق وجماهير العلماء، وهو الصواب. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال، وترك الشبهات، وهذا لفظ مسلم.

وحكاية القول عن أهل المدينة بعدم صحة سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ضعيفة أو باطلة، والله أعلم. وهذا الحديث عظيم الموقع كثير الفوائد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، وقد وصفه العلماء بأنه ثلث الإِسلام أو ربعه، ويمتاز عليها بأنه أصل كبير في الورع وترك المتشابهات. وللشبهات مثارات؛ منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحامل أو التحريم وتعارض الإمارات والحجج؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يعلمها كثير من الناس" إشارة إلى ما ذكرنا، مع أنه يحتمل أنه لا يعلم عينها، وإن علم حكمها أصلًا في التحليل والتحريم، وهذا -أيضًا- من مثار الشبهات. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنها ينبغي أن تكون حلالًا، وأرشد إلى معرفة الحلال، وأنه ينبغي ترك الشبهات؛ فإنه سبب لحماية دينه وعرضه، وحذر من مواقعة الشبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحمى، ثم بين أهم الأمور، وهو مراعاة القلب؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة ... " إلى آخره، فتبين أن بصلاح القلب يصلح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحلالُ بينٌ"؛ معناه: "بيِّنٌ حلُّه في عينه ووصفه، واضحٌ لا يخفى على أحد؛ كالمأكولات من الفواكله والحبوب والزيت والعسل والأسمان والألبان من مأكول اللحم والبيض وغير ذلك، وكالكلام والنظر والمشي والتصرفات الحلال التي لا شك فيها، وكالأكساب بالعقود الصحيحة الواضحة شرعًا، وبالتبرعات المأذون فيها شرعًا، ونحو ذلك. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن الحرامَ بين"؛ يعني: في عينه ووصفه بين واضحٌ؛ كالخمر والميتة والخنزير والبول والدم المسفوح، وكذلك المأخوذ بعقد نهى الشرع عنه على عينه، وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية، وشبه ذلك.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس" معناه: ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، لا يعلم كثير من الناس حكمها، وأما العلماء، فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب ونحو ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة، ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد، فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه بأحدهما، صار حلالًا. وقد يكون دليله غيرَ خالٍ عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، فيكون داخلًا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمنِ اتقى الشبهاتِ، فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء؛ فهو مشتبه، فهل يوجد بحل هذا أم بحرمته أم يتوقف فيه؛ فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض -رحمه الله-، وغيره. قال شيخنا الإِمام أبو زكريا النووي -رحمه الله-: والظاهر، أنها مخرجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب: الأصح: أنه لا حكم بحل ولا حرمة ولا إباحة ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع. والثاني: أن حكمها التحريم. والثالث: الإباحة. والرابع: التوقف، والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمنِ اتقى الشبهاتِ فقدِ استبرأَ لدينه وعرضه"؛ ويعني: اتقى الشبهات على الوصف الذي ذكرنا من التوقف عن الأشياء حتى يعلم حلها وحرمتها، فيعمل بها، أو يمسك عنها، فقد صان نفسه عن الذم الشرعي المتعلق بدينه في أولاه وعقباه، وعرضه عن كلام الناس فيه من دنياه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن لكل ملكٍ حِمًى، ألا وإن حمى الله محارمُه" معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكل منهم حمى يحميه عن الناس، ويمنعهم دخوله، فمن دخله منهم، أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه، لا يقارب ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 28).

الحمى؛ خوفًا من الوقوع في عقوبته، فكذلك لله تعالى حمى، وهو محارمه التي حرمها، التي هي المعاصي؛ كالقتل والزنا والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه هذا، فكل هذا حمى الله تعالى، من دخله باعتقاد حله، أو ارتكابه من غير اعتقاد حله، استحق العقوبة، ومن قارب، أوشك أن يقع فيه. ومن احتاط لنفسه بعدم المقاربة لشيء من الاعتقاد أو أسباب المعصية، لم يدخل في شيء من الشبهات، ويسمى هذا العدم: عدم الاستدراج. ولا شك أن النفس مركز الشيطان وميدان الأحزان، فتستدرج الإنسان من المباحات إلى المكروهات، ومن المكروهات إلى المحرمات، استدراجا لطيفا على حسب قوة الإنسان وضعفه في إيمانه ويقينه وشهوته، فينبغي للعبد أن يراقب ذلك، ويقطع الأسباب الحاملة عليه، ونسأل الله تعالى التوفيق والتسديد والإعانة، ولا بد في ذلك جميعه من توقفٍ تقي يؤمن باللهِ واليوم الآخر، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام". وقد ذكروا فيه احتمالين، وهما وجهان ذكرهما العلماء: أحدهما: أنه من كثر تعاطيه الشبهات، فإنه يصادف الوقوع في الحرام، وإن لم يتعمده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير في المراقبة للخلاص منه. والثاني: أنه من كثر تعاطيه الشبهات، اعتاد التساهل، وتمرن عليه، فيجسُرُ بفعل الشبهة على فعل شبهة أغلظ منها، ثم أخرى أغلظ، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السلف: المعاصي بريد الكفر؛ أي: تسوق إليه، عافانا الله أجمعين من الشر. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يرتع فيه"؛ يقال: أوشك يوشك -بضم الياء وكسر الشين-؛ أي: يشرع ويقرب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كالراعي يرعى حول الحمى"؛ هذا من باب التمثيل والتشبيه. والحمى: المحمي: أطلق المصدر على اسم المفعول، والمحارم تطلق على

المبهمات قصدًا، وعلى ترك المأمورات استلزامًا، وإطلاقها على الأول أشهر. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن في الجسد مضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ"؛ المضغة: القطعة من اللحم، سميت بذلك؛ لأنها تمضع في الفم لصغرها، والمراد: تصغير جرم القلب بالنسبة إلى باقي الجسد، مع أن صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، وقد عظم الشارع أمر القلب؛ لصدور الأفعال الاختيارية عنه، وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم، ورتب الأمر فيه على المضغة، والمراد: المتعلق بها، فلا شك أن صلاح الأعمال باعتبار العلم والاعتقاد بالمفاسد، فيتعين حماية مركزهما من الفساد وإصلاحه، وهو القلب. وقد اختلف العلماء من المتكلمين وغيرهم في العقل، هل هو في القلب، أو في الرأس؟ مذهب الشافعي وجماهير المتكلمين أنه في القلب، ومذهب أبي حنيفة: أنه في الدماغ، وقد يقال: في الرأس، والأول محكي عن الفلاسفة، والثاني: عن الأطباء. واستدل القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. وبهذا الحديث، فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل صلاح الجسد وفساده تابعين للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد، فيكون صلاحه وفساده تابعًا للقلب، فعلم أنه ليس محلًا للعقل. واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ، فسد العقل، ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن الله -سبحانه- أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع من ذلك، لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكا، والله أعلم.

وفي هذا الحديث أحكام: منها: الحث على الحلال وتبينه. ومنها: الحث على اجتناب الحرام وتبينه. ومنها: الإمساك عن الشبهات. ومنها: الاحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي الأمور الموجبة لسوء الظن بالإنسان؛ لما فيها من تأذية وجر الأذى إلى الناس بوقوعهم فيه بسبب عدم احتياطه لنفسه. ومنها: الأخذ بالورع والعمل به، وهذا الحديث أصل فيه. وقد روى الترمذي حديثًا حسنًا من رواية عائذ بن عمرو الصحابي - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبلُغ أحدٌ أن يكونَ من المتقين حَتَّى يدع ما لا بأسَ بهِ، حذرًا لِما به بَأسٌ" (¬1). وهذا الحديث -أيضًا- أصل أصيل في الورع وترك الشبهات، قال شيخنا الإِمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: وكان في عصر شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة، وصنفوا فيها تصانيف، وكان بعضهم سلك طريقا من الورع، فخالفهم بعض أهل عصره، وقال: إن كان هذا الشيء مباحا؛ والمباح ما استوى طرفاه، فلا ورع فيه؛ فإن الورع ترجيح لجانب الترك، والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال، وجمع بين المتناقضين، وبنى ذلك تصنيفًا. قال: والجواب عندي من وجهين: أحدهما: أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله، وإن لم يتساو طرفاه، وهذا أعم من المباح المتساوي الطرفين، فهذا الذي رد فيه القول. وقال: إما أن يكون مباحا أو لا؛ فإن كان مباحًا، فهو مستوي الطرفين، فنمنعه؛ فإن المباح قد ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2451)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (19)، وابن ماجه (4215)، كتاب: الزهد، باب: الورع والتقوى، والحاكم في "المستدرك" (7899)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 335)، عن عطية السعدي - رضي الله عنه -.

صار مطلقًا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين، فلا بد أن اللفظين على غير التساوي؛ إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه. الثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار أنه لا يتناقض حينئذ الحكمان، وعلى الجملة، فلا يخلو هذا الموضع من نظر؛ فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبًا لضرر ما في الآخرة، وإلا فيتعين ترجيح تركه، إلا أن يقال: إن تركه محصل لثواب، أو زيادة درجات، وهو على خلاف ما نفهم من أفعال الورعين؛ فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا، وبه يشعر لفظ الحديث، والله أعلم (¬1). ومنها: ضرب الأمثال للمعاني الشرعية العلمية. ومنها: التنبيه على عظمة الله -سبحانه وتعالى-، واجتناب محارمه التي مصالحها ونفعها عائد علينا؛ لأنه الغني المطلق، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. ومنها: التنبيه بما يشاهده العبد على ما غاب عنه لتقريب المعاني إلى ذهنه. ومنها: التنبيه على مرتبة العلم والعلماء وشرفهما. ومنها: إلحاق المشتبه بالممنوع منه، إلى أن يستبين أمره. ومنها: أن ارتكابه سبب للوقوع في الممنوع منه. ومنها: تبيين مرتبة القلب من الجسد، وأن بصلاحه يصلح الجسد، وبفساده يفسد؛ فهو كالملك إذا صلح صلحت الرعية، وإذا فسد فسدت الرعية. ومنها: أن الأعمال القلبية أفضل من الأعمال البدنية، وأنها لا تصلح الأعمال البدنية إلا بالقلبية. ومنها: أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فيما كان العمل مقيدًا بهما؛ فإنه قد يختص بأحدهما أحكام دون الآخر، وقد يلزم عن أحدهما أعمال بسبب الآخر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 182 - 183).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَنفَجنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظهرَانِ، فَسَعَى القوم فَلَغَبُوا، وَأَدرَكْتُهَا فَأَخَذتُهَا، فأتيْتُ بِهَا أبا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَرِكِهَا وَفَخِذِهَا، فَقَبِلَهَا (¬1). أما أبو طلحة؛ فاسمه: زيد بن سهل بن الأسود بن حَرام بن عمرو بن زيد مناة ابن عديِّ بن عمرِو بن مالكِ بن النجار، أحدُ النقباء، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نقيب، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وتسعون حديثًا، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. وروى عنه: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهم-، وابنه عبد الله بن أبي طلحة، وابن ابنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وسعيد بن يسار أبو الحباب. مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وهو ابن سبعين سنة، وقيل: توفي بالشام، وغزا البحر، فمات فيه، وعاش بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة يسرد الصوم، وروى له أصحاب السنن والمساند. وأبو طلحة هذا، هو القائل: أنا أبو طلحةَ، واسمي زيدُ ... في كلِّ يومٍ في سلاحي صَيْدُ وهو ربيب أنسِ بن مالك، خلفَ بعد أبيه مالكِ بن النضر على أمه أمِّ سليم بنت ملحان، فولد له منها عبد الله بن أبي طلحة والد إسحاق وإخوته، والله أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2433)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: قبول هدية الصيد، ومسلم (1953)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الأرنب. (¬2) قلت: قد تقدم للشارح -رحمه الله- ذكر أخبار أبي طلحة - رضي الله عنه - في أوائل الجزء =

ومَرُّ الظهران -بفتح الميم وتشديد الراء-، والظهران: -بفتح الظاء المعجمة؛ مثل تثنية الظهر-، ويقال له: مر ظهران، ويقال له: الظهران من غير إضافة مر إليه: اسم موضع على بريدين من مكة، وقيل: على إحدى وعشرين ميلًا، وقيل: على ستة عشر ميلًا (¬1). وقوله: "أَنْفَجْنا أرنبًا"؛ يقال: أَنْفَجْتُ الأرنب -بفتح الهمزة وسكون النون، وبفتح الفاء وسكون الجيم-، فنفج؛ أي: أثرته فثار، كأنه يقول: أثرناه، ودعوناه، فعدا (¬2). والأرنب؛ حيوان معروف. وقوله: "فسعَوا عليه فَلَغَبوا"؛ معناه: عدوا عليه وطلبوه فَأَعْيوا, ولغبوا؛ بفتح الغين المعجمة على المشهور الفصيح من اللغتين، وحكى الجوهري وغيره كسرها، وهي ضعيفة. وفي الحديث: جواز إثارة الصيد والعدو في طلبه. وفيه: أنه يملك بأخذه ووضع اليد عليه. وفيه: هدية الصيد وقبوله. وفيه: جواز أكل الأرنب وحله؛ حيث إنه ذبح وأهدي، ولو لم يكن حلالًا، لما ذبح، وقيل: هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والعلماء كافة، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن أبي ليلى: أنهما كرهاها. ودليل الجمهور هذا الحديث مع أحاديث مثله، ولم يثبت في النهي عنها شيء، والله أعلم. ¬

_ = الأول من هذا الكتاب، فلا حاجة لذكره ثانية، إلا إن كان للسهو في ذكره نصيب، والعصمة لله وحده. (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 63)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 326). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 392)، و "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 20).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ (¬1). وَفِي رِوَايةٍ: وَنَحْنُ بِالمَدِينةِ (¬2). أما أسماء بنت أبي بكر؛ فهي أم عبد الله بن الزبير بن العوام، وهي أخت عائشة - رضي الله عنهما - أمِّ المؤمنين لأبيها، وهي أسن من عائشة، وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها، وأمهما قتلة -بفتح القاف وسكون التاء المثناة فوق-، وربما قيل: قتيلة بنتُ عبد العزى بن عبد أسعد بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وتقدم نسبها في مواضعه. أما في ذكر أبيها، أو أخيها عبد الرحمن، أو أختها، فلا حاجة إلى إعادته. واختلف في إسلام أمها، وأكثر الروايات أنها ماتت مشركة. أسلمت أسماء قديمًا بمكة، وقيل: كان إسلامها بعد إسلام سبعة عشر إنسانًا، وهاجرت إلى المدينة، وقيل: كانت حاملًا بابنها عبد الله بن الزبير، فوضعته بقباء. وقيل غير ذلك. وكانت تسمى: ذاتَ النطاقين، وإنما قيل لها ذلك؛ لأنها صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - سفرة حين أراد الهجرة إلى المدينة، فعسر عليها ما تشدُّها به، فشقت خمارها، وشدت السفرة بنصفه، وانتطقت النصف الثاني، فسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذات النطاقين، وقيل: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "أبدلكِ اللهُ بنطاقِكِ هذا نِطاقَينِ في الجنةِ" (¬3). روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وخمسون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على أربعة عشر حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5191)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، ومسلم (1942)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في كل لحوم الخيل. (¬2) رواه البخاري (5192)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح. (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (69/ 6).

وروى عنها: عبد الله بن عباس، وابناها عبد الله، وعروة، وغيرهم من أنسالها وأقاربها وغيرهم. وتوفيت بمكة بعد ابنها عبد الله بيسير، واختلف في تعيينه، وذلك في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وبلغت من العمر مئة سنة لم يسقط لها سن، ولم ينكر من عقلها شيء، والله أعلم (¬1). وأما قولها: "نحرْنا على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وفي رواية للبخاري: ذبحنا فرسًا (¬2). فقد اختلف في ذلك، فمنهم من حمل الروايتين على قضيتين، فمرة نحروها، ومرة ذبحوها، وهو الصحيح المرجح عندهم؛ حيث إنه حملهما على الحقيقة فيهما مع فائدة جواز نحر المذبوح وذبح المنحور، وهو مجمع عليه، وإن كان فاعله مخالفًا للأفضل، ومنهم من حمل النحر على الذبح؛ جمعًا بين الحقيقة والمجاز. والفرس تطلق على الذكر والأنثى بالاتفاق. وقولها: "ونحن بالمدينة"، إشارة إلى أن النحر كان آخر الأمر لا في أوله، لئلا يدعي المخالف أن هذا كان في أول الأمر، وأنه منسوخ، فذكر المدينة إزالة للشك؛ لأن ما كان فيها كان آخر أمره - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل: على إباحة نحر الخيل، وأكل لحمها، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وجمهور السلف والخلف، لا كراهة فيه، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين، منهم: عبد الله بن الزبير، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 249)، و "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 55)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1481)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 9)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 58)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 7)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 597)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 123)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 287)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 486)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 426). (¬2) رواه البخاري (5192)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح.

وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء بنت أبي بكر، وسويد بن غفلة، وعلقمة، والأسود، وعطاء، وشريح، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، وإسحاق وأبو يوسف، ومحمد، وداود، وغيرهم، وكره ذلك ابن عباس، والحكم، ومالك، وأبو حنيفة، واختلف عن أبي حنيفة، فقال في رواية عنه: يأثم, ولا يسمى حرامًا، وقال بعض أصحابه: هو مكروه كراهة تنزيه، والصحيح عندهم: أنها كراهة تحريم. واعتذر بعضهم عن هذا الحديث بأن قال: فعل الصحابة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون حجة إلا إذا علمه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مشكوك فيه، مع أنه معارض برواية رواها أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه، عن جده المقدام بن معدي كرب، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنهما -: أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، وأن اليهود شكوا أن الناس قد انتزعوا حظائرهم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا لا تحل أموالُ المعاهدين إلا بحقها، وحرم الله عليهم لحومَ حمرِ الأهليةِ وخيلها وبغالها، وكل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلبٍ من الطير" (¬1). وهذا الاعتذار ضعيف أو باطل؛ إذ يبعد فعل مثل هذا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهو ممنوع ولم يعلم به، إما بإخبار الصحابة - رضي الله عنه -، وإما بوحي من الله تعالى، مع أنهم توقفوا عن أكل أشياء دون هذا هي حلال في الشرع، حتى سألوه - صلى الله عليه وسلم - عنها، أو أذن لهم فيها. وقد نزل الوحي في أشياء دون هذا بالإذن أو المنع. كيف والحديث الآتي من رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - مصرح بالإذن فيها وفي خيبر بالأكل من لحوم الخيل؟ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3806)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن أكل السباع، والنسائي (4332)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الخيل، وابن ماجه (3198)، كتاب: الذبائح، باب: لحوم البغال، وهذا لفظ أبي داود.

كيف وحديث خالد بن الوليد ضعيف منكر باتفاقهم؛ وبتقدير صحته يكون منسوخًا، وقال الإِمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: هو حديث منكر، وقال الحافظ أبو داود في "سننه": هذا منسوخ، وقال النسائي: حديث جابر: أنه - صلى الله عليه وسلم - أذن في لحوم الخيل أصح من هذا الحديث، قال: ويشبه -إن كان هذا صحيحًا-، أن يكون منسوخًا؛ لأن قوله: أذن - صلى الله عليه وسلم - في لحوم الخيل دليل على ذلك. وقال أيضًا: لا أعلمه رواه غير بقية بن الوليد. وقال البخاري: صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب الكندي الشامي عن أبيه، فيه نظر. وقال الخطابي: حديث جابر إسناده جيد، قال: وأما حديث خالد بن الوليد، ففي إسناده نظر، وصالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده، لا يعرف سماع بعضهم من بعض. وقال الحافظ موسى بن هارون: لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده. وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف، وقال أيضًا: وهذا إسناد مضطرب. وقال الواقدي: لا يصح هذا؛ لأن خالدًا أسلم بعد فتح خيبر، وقال البخاري: خالد لم يشهد خيبر. وقال الإِمام أحمد بن حنبل: لم يشهد خيبرًا، إنما أسلم بعد الفتح. وقال أبو عمر النمري: ولا يصح لخالد بن الوليد مشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الفتح. وقال البيهقي: إسناده مضطرب؛ ومع اضطرابه مخالف لحديث الثقات (¬1). وحديث جابر سيأتي في الكتاب بعد هذا الحديث، ولفظ البخاري: ورخص في لحوم الخيل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وانظر أقوال أهل العلم هذه وغيرها عن الحديث: "سنن أبي داود" (3/ 352)، و "سنن الدارقطني" (4/ 287)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 292)، و "التمهيد" لابن عبد البر (10/ 128) وما بعدها، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 96).

قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله-: ثم لو سلم -يعني: الاعتذار الذي ذكروه- عن المعارض، ولكن لا يصح التعلق به في مقابلة دلالة النص، وهذا إشارة إلى ثلاثة أجوبة: أما الأول: فإنما يرد على هذه الرواية والرواية الأخرى لجابر، وأما الرواية التي فيها: وأذن في لحوم الخيل، فلا يرد عليها. وأما الثاني: وهو المعارضة بحديث التحريم، فإنما نعرفه بلفظ النهي، لا بلفظ التحريم؛ من حديث خالد بن الوليد، وفي ذلك الحديث كلام ينقص عن هذا الحديث عند بعضهم. قلت: وقد ذكره أبو داود وغيره بلفظ التحريم كما ذكرناه وبينا ضعفه من جميع وجوهه عن جميع الحفاظ المتقنين الذين إليهم المرجع في هذا الشأن، والله أعلم. قال: وأما الثالث: فإنه أراد؛ يعني: الإشار إلى دلالة الكتاب العزيز قوله -تعالي-: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]. ووجه الاستدلال: أن الآية خرجت مخرج الامتنان بذكر النعم على ما دل سياق الآيات التي في سورة النحل؛ فذكر الله -سبحانه وتعالى- الامتنان بنعمة الركوب والزينة في الخيل والحمير، وترك الامتنان بنعمة الأكل كما ذكر في الأنعام، ولو كان الأكل ثابتًا، لما ترك الامتنان به؛ لأن نعمة الأكل في جنسها فوق نعمة الركوب والزينة؛ فإنه يتعلق بها البقاء بغير واسطة، ويحسن ترك الامتنان بأعلى النعمتين، وذكر الامتنان بأدناهما بدل الامتنان بترك الأكل على الامتناع منه، لا سيما وقد ذكرت نعمة الأكل في نظائرها من الأنعام. وهذا، وإن كان استدلالًا حسنًا، إلا أنه يجاب عنه من وجهين: أحدهما: ترجيح دلالة الحديث على الإباحة على هذا الوجه من الاستدلال من حيث قوته بالنسبة إلى تلك الدلالة. الثاني: أن يطالب بوجه الدلالة على غير التحريم، فإنما يشعر به ترك الأكل،

الحديث الرابع

وهو أعم من كونه متروكًا على سبيل الحرمة، أو على سبيل الكراهة. هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬1). وقال شيخنا الإِمام أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر الكلام على تضعيف حديث تحريم لحوم الخيل، ونسخه، واحتجاجهم بالآية الكريمة في قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}: وأما الآية، فأجابوا عنها: بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك؛ وإنما خص هذان بالذكر؛ لأنهما معظم المقصود من الخيل؛ كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فذكر اللحم؛ لأنه معظم المقصود، وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه وسائر أجزائه، قالوا: ولهذا سكت عن ذكر حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]، ولم يلزم من هذا تحريم الأثقال على الخيل. هذا آخر كلامه، والله أعلم (¬2). * * * الحديث الرابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهلِيةِ، وَأَذِنَ في لحُوُمِ الخَيلِ (¬3). وَلِمُسْلِم وَحْدَهُ قَالَ: أكلنَا زَمَنَ خَيْبرَ الخَيلَ وَحُمُرَ الوَحْشِ، وَنَهَى النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الحِمَارِ الأَهْلِيِّ (¬4). أما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر؛ فلأنها كانت مباحة في أول الأمر، ثم حرمت في آخره. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 185 - 186). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 96). (¬3) رواه البخاري (5201)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الخيل، ومسلم (1941)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، وهذا لفظ مسلم. (¬4) رواه مسلم (1941)، (3/ 1541)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل.

وخيبر كانت في السنة السابعة من الهجرة. وقال بعضهم: نسخ الله تعالى القبلة مرتين، ونكاح المتعة مرتين، وتحريم الحمر الأهلية مرتين، ولا أحفظ رابعًا. وقوله: "أكلنا زمنَ خيبرَ الخيلَ وحُمُرَ الوحشِ"؛ هو تنبيه على ما كانت قريش تفعله في الجاهلية من ذبح الخيل وأكلها، فقرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بعد أن كان منعه، على ما ذكر نحو هذا الكلام الإِمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث، ونبه بذكر حمر الوحش وأكلها على منع الحمر الأهلية بطريق المفهوم. وأما حكم لحوم الخيل والكلام عليه، فتقدم في الحديث قبله. والخيل؛ اسم جنس لا واحد له من لفظه، كالقوم، والنفر، والرهط، والنساء، وواحده من غير لفظه: فرس، يطلق على الذكر والأنثى. وحكى أبو البقاء في "البيان" قولًا شاذًا: أن واحده خائل؛ كطائر وطير، قالوا: والخيل مؤنثة، جمعها خيول، قال السجستاني: تصغيرها: خييل، قال الواحدي: سميت خيلًا؛ لاختيالها في مشيها بطول أذنابها (¬1). وفي الحديث دليل على تحليل حمر الوحش. وفيه: دليل على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وهو مذهب الجماهير من الصحابة -رضي الله عنهم-، والتابعين ومن بعدهم، وقال ابن عباس: ليست بحرام. وعن مالك: ثلاث روايات: أشهرها: أنها مكروهة كراهة تنزيه شديدة. والثانية: حرام. والثالثة: مباحة. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 96).

الحديث الخامس

والصواب: التحريم كما قاله الجمهور. وأما الحديث في إباحته، الذي رواه أبو داود عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سنة، فلم يكن لي في مالي شيء أطعم أهلي إلا شيء من حمر، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم لحوم الحمر الأهلية، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! أصابتنا السنة، ولم يكن لي في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، فقال: "أطعمْ أهلكَ من سمينِ حمركَ، فإنَّما حرمتها من أجلِ جوال القرية" (¬1). يعني بالجوال: التي تأكل الجلة: وهي العذرة، فهو حديث اختلف في إسناده اختلافًا كبيرًا. قال البيهقي: إسناده مضطرب، ثم لو صح، لكان محمولًا على حال الاضطرار، والأكل منها للمضطر جائز بالاتفاق، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَصَابَتنا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيبرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبرَ، وَقَعنَا في الحُمُرِ الأَهلِيةِ، فنحَرنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا القُدُورُ، نَادَى مُنَادِي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِ: اكْفَؤوا القُدُورَ، وَلَا تَأكلُوا مِنْ لُحُوم الحُمُرِ شَيئًا (¬2). أما عبد الله بن أبي أوفى؛ فهو أسلميٌّ، كنيته: أبو إبراهيم، وقيل: أبو محمَّد، وقيل: أبو معاوية بن أبي أوفى، علقمةَ بنِ خالدِ بن الحارث بن أبي ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3809)، كتاب: الأطعمة، باب: في لحوم الحمر الأهلية، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 48)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1131)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 203)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 266)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 332). (¬2) رواه البخاري (3983)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1937)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، وهذا لفظ مسلم.

أسيد -بفتح الألف- بن رفاعةَ بن ثعلبةَ بن هوازن بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرِو بن عامر، وهو أخو زيد بن أبي أوفى. شهد الحديبية، وهي بيعة الرضوان، وخيبر، وما بعدها من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تحول إلى الكوفة، وابتنى بها دارًا في أسلم. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وتسعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث. وروى عنه: طلحة بن مصرف، وغير واحد، وروى له أصحاب السنن والمساند. ومات بالكوفة سنة ست، وقيل: سنة سبع وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة -رضي الله عنهم- بالكوفة، وكان قد كف بصره، والله أعلم (¬1). وأما قوله: "نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن: اكفؤوا القدور"؛ ضبطوا: اكفؤوا بألف وصل، وفتح الفاء، من كفأت، ثلاثي، ومعناه: اقلبوا وكبوا وفرغوا ما فيه، ويصح في اللغة أن يقال بهمزة قطع وكسر الفاء، من أكفأت، رباعي، وهو لغتان بمعنى، عند كثير من أهل اللغة، منهم الخليل، والكسائي، وابن السكيت، وابن قتيبة، وغيرهم، وقال الأصمعي: يقال: كفأت، ولا يقال: أكفأت (¬2). وهذه الرواية تشتمل على لفظ التحريم، وهو أبلغ من لفظ النهي. وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإكفاء القدور محمول على أنه سبب التحريم لأكل لحومها عند ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 21)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 24)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 120)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 870)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 30)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 181)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 247)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 317)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 428)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 18)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 132). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 344)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 182)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 92 - 93)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 141)، (مادة: كفأ).

جماعة، وهو المشهور السابق إلى الفهم، وقد ورد فيه علتان أخريان: إحداهما: لأنها أخذت قبل المقاسم. والثانية: لأجل كونها من جوال القرية. فإن صحت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، تعين الرجوع إليه، والله أعلم. وفي الحديث دليل: على جواز ذبح الحيوان أو نحوه للمجاعة بشرط جواز أكله. وفيه دليل: على أنه ينبغي لأمير الجيش إذا فعل فيه شيء على خلاف الشرع، أن يأمر مناديه أن ينادي بإتلافه والمنع من تعاطيه، وقد كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل ذلك حالتان: إحداهما: الأمر بالنداء كما ذكرنا. والثانية: جمع الناس يخطبهم، ويذكر ما يحتاجون إليه من حكم الله تعالى في ذلك، والله أعلم. وفيه دليل: على تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية قليلًا كان أو كثيرًا. وفيه دليل: على إكفاء القدور المطبوخة فيها. وقد روى مسلم في "صحيحه" في رواية: الأمر بإهراقها وكسرها، وأن رجلًا قال: أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك" (¬1)، وهذا تصريح بنجاستها وتحريمها، وتؤيده الرواية الأخرى في مسلم: "فإنها رجس" (¬2). وفي أخرى: "ركس أو نجس" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1802)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، والبخاري أيضًا (3960)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (5208)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1940)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (1940)، (3/ 1540)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.

الحديث السادس

وتقدم حكم غسل النجاسة وتكرارها في الطهارة. وأمره - صلى الله عليه وسلم - أولًا بكسرها، ويحتمل أنه كان بوحي أو باجتهاد، ثم نسخ وتعين الغسل، ولا يجوز اليوم الكسر؛ لأنه إتلاف مال. وهذه الروايات تدل على أنه إذا غسل الإناء النجس, فلا بأس باستعماله، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ أَبِي ثَعْلَبةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الحُمُرِ الأَهْلِية (¬1). أما أبو ثعلبة، فسيأتي ذكره في أول باب الصيد، وفيه: التصريحُ بتحريم لحوم الحمر الأهلية. * * * الحديث السابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بنُ الوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيتَ مَيمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إلَيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ بَعْضُ النِّسْوَة اللَّاتِي في بيتِ مَيْمُونةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأكُلَ، فَرَفَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنهُ لَمْ يكُنْ بِأَرْضِ قَوْمي، فَأَجِدُنِي أَعَافُه" فَقَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأكَلْتُهُ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5206)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1936)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية. (¬2) رواه البخاري (5217)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الضب، ومسلم (1945)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب.

المحنوذ: المشويُّ بالرضف، وهي الحجارة المحمَّاة. أما عباس وميمونة، فتقدم ذكرهما، وتقدم ذكر خالد بن الوليد في الزكاة. والذي أتى بالضب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي أم حُفَيد -بضم الحاء وفتح الفاء-، ويقال: أم حميد -بالميم بدل الفاء-، ويقال: أم حميدة -بزيادة هاء بعد الدال-، ويقال: أم حفيرة، ويقال: أم عفير. والأصوب الأشهر: الأول، واسمها: هزيلة، وهي صحابية (¬1). وميمونة، وأم خالد لبابةُ الصغرى، وأم ابن عباس لبابةُ الكبرى، وأم حفيد، كلُّهن أخوات، وأبوهم الحارث. وميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس وخالد بن الوليد، والله أعلم. وقوله: "فأجدُني أَعافُهُ": قال أهل اللغة: معنى أعافه: أكرهه تقذُّرًا. والضب: دويبة تشبه الحرذون، لكنه كبير القد، يقال: ضبّ وأَضُبّ؛ مثل: كَفّ وأَكُفّ. ورأيته في الحجاز، وأكلته ضرورة في المحرم سنة ست وسبعين وست مئة. وأكلُ خالد له، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينظر من غير استئذان، هو من باب الإدلال، والأكل من بيت القريب والصديق الذي لا يكره ذلك؛ فإن خالدًا أكله في بيت خالته، وبيت نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وصديقه، فلا يحتاج إلى الاستئذان، لا سيما والمهدية خالته أم حفيد، ولعله أراد جبرَ قلبها؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عافه ولم يأكله. وقد فسر المصنف المحنوذ. وفي هذا الحديث دليل على أن: الضب حلال ليس بمكروه، إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكى القاضي عياض عن قوم: أنهم قالوا: هو حرام. ¬

_ (¬1) وقد جاءت رواية البخاري (2436)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: قبول الهدية، ومسلم (1946)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب، مصرّحًا باسمها أم حفيد بنت الحارث من نجد.

الحديث الثامن

وما أظن أنه يصح عن أحد، فإن صح عن أحد، فمحجوج بالنصوص وإجماع مَنْ قبلَه. وقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أكله مع العلم به، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - أحد الطرق الشرعية، وهي: فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله، وتقريره مع العلم. وفيه دليل: على الإعلام بما يشك في أمره؛ ليتضح الحال فيه؛ لأنهم قصدوا ذلك؛ ليكونوا على يقين من إباحته، إن أكله، أو أقر عليه. وفيه دليل: على أن مطلق النفْرة وعدم الاستطابة دليل على التحريم أو أخص منه. وفيه دليل: على جواز دخول أقارب الزوجة بيتها، وتبسُّطهم فيه، إذا علموا أن الزوج لا يكره ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الجَرَادَ (¬1). تقدم الكلام على عبد الله بن أبي أوفى قريبًا. وفي الحديث دليل: على إباحة أكل الجراد، ونقل الإجماع على إباحته. لكن قال الشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، والجماهير: يحل، سواء مات بذكاة، أو باصطياد مسلم أو مجوسي، أو مات حتف أنفه، سواء قطع بعضه، أو أحدث فيه سبب. وقال مالك في المشهور عنه، وأحمد في رواية: لا يحل إلا إذا مات بسبب، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5176)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: أكل الجراد، ومسلم (1952)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الجراد، وهذا لفظ مسلم.

الحديث التاسع

بأن يقطع بعضه، أو يسلق، أو يلقى في النار حيًّا، أو يشوى، فإن مات حتف أنفه، أو في وعاء، لم يحل. وليس في هذا الحديث ما يدل على اشتراط شيء من ذلك ولا عدمه، ولا صيغة للعموم فيه، ولا بيان كيفية أكلهم. وفيه دليل: على جواز ذكر طاعات الإنسان في معرض بيان الأحكام والتأسي، والله -عزَّ وجلَّ- أعلم. * * * الحديث التاسع عَنْ زَهْدَمِ بْنِ مُضَرِّب الْجَرْمِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، فَدَعَا بِمَائِدَتِهِ، وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِن بَنِي تَيْمِ اللهِ، أَحْمَرُ، شَبيهٌ بِالمَوَالي، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَتلَكَّأَ، فَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ؛ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْكُلُ مِنْهُ (¬1). تقدم الكلام على أبي موسى، وهو الأشعري، وعلى الجرمي، وأنها نسبة إلى جرم، في الصلاة. أما زَهْدَم -بفتح الزاي، وسكون الهاء، وفتح الدال المهملة ثم الميم- بن مُضَرِّب -بضم الميم وفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء المشددة ثم الباء الموحدة-، فكنيته: أبو مسلم، تابعيٌّ، جرميٌّ أزديٌّ بصريٌّ، ثقة. رويا له في "الصحيحين". سمع ابن عباس، وأبا موسى، وعمران بن حصين -رضي الله عنهم-. روى عنه جماعة من التابعين وغيرهم (¬2). وأما الرجل المبهم، فلا أعرف اسمه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5199)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحم الدجاج، ومسلم (1649)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وهذا لفظ مسلم. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 448)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 269)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 396)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 294).

الحديث العاشر

وقوله: "هلم": معناه: تعال، وهو استدعاء، وأصله: ثُمَّ؛ أي: ثُمَّ بنا، والهاء في أوله هي: هاء التنبيه، وحذفت الألف منها للتركيب طلبًا للتخفيف. وتستعمل للواحد والجماعة والذكر بصيغة واحدة. وقوله: "فتلكَّأ": معناه: تردد وتوقَّف، والدجاجُ يقع على الذكر والأنثى، وهو بفتح الدال وكسرها، والفتح أفصح باتفاقهم، الواحد دجاجة. وفي الحديث دليل: على استحباب الدعاء بالمائدة للضيفان والأصحاب. وفيه دليل: على إباحة أكل الدجاج، وكرهه جماعة، وهذا الحديث يرد عليهم. وفيه دليل: على أن المرجع في الأحكام كلها، الظاهرة والباطنة، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل: على البناء على الأصل؛ لأن الرجل المذكور الداخل؛ إما أن تكون علة تأخره؛ لأنه رآهم يأكلون شيئًا، فقذره بناء على الأصل في أن ما يستقذر يكون مكروهًا، فيكون الدجاج الذي يأكل القذر مكروهًا. ويحتمل أن يكون دليلًا: على أنه لا اعتبار بأكل النجاسة، لكنه قد جاء النهي عن أكل الجلَّالة. وقد كره الفقهاء أكل لحم الجلالة إذا تغير لحمها بأكل النجاسة، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَها أو يُلْعِقَها" (¬1). أما يلعقها الأول، فهو -بفتح الياء- فعل لازم، وأما الثاني، فهو -بضم الياء- فعلٌ متعدّ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5140)، كتاب: الأطعمة، باب: لحق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل، ومسلم (2031)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة.

وهو معلل في الحديث الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَإِنَّهُ لا يَدْري في أَيِّ طَعامِهِ البَرَكَةُ" (¬1). وقد علله بعضهم بأنه زيادة تلويث لما يمسح يده به قبل اللعق مع الاستغناء عنه بالريق. وإذا صح الحديث بتعليل شيء، لم يعدل عنه. وفي الحديث دليل: على استعمال التواضع. وفيه دليل: على استحباب لعق الأصابع بعد الأكل قبل مسحها أو غسلها. وفيه دليل: على استعمال السنة، والأمر بها في كل شيء حتى ما يعده الناس في العرف دناءة. وفبه دليل: على عدم إهمال شيء من فضل الله تعالى مأكولًا أو مشروبًا كان أو غيرهما، وإن كان تافهًا حقيرًا في العرف، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2033)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

باب الصيد

باب الصيد الحديث الأول عَنْ أَبِي ثَعْلَبَة الخُشَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أتيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أفنَأْكُلُ في آنِيَتِهم؟ وَفِي أَرْضٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِيَ المُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ -يَعْنِي: مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الكِتَابِ-، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا، فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بكَلْبِكَ المُعَلَّمِ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ المُعَلَّمِ، فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْ" (¬1). أما أبو ثعلبة: فاختلف في اسمه وفي اسم أبيه اختلافًا كبيرًا، فقيك: اسمه جرثوم، وقيل: جرهم، وقيل: جرثومة، وقيل: عمرو، وقيل: لاشر، وقيل: الأشق، وقيل غير ذلك. وأما أبوه، فقيل: اسمه ناشر، وقيل: اسمه ناشب، وقيل: ناشم، وقيل: لاشر، وقيل: جرثوم، وقيل: جرهم، وقيل: ناشج، وقيل: جرثومة، لم يختلف في صحبته. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5161)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: صيد القوس، ومسلم (1930)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة.

وهو ممن غلبت عليه كنيته، وكان ممن بايع تحت الشجرة، ثم نزل الشام ومات أيام معاوية، وقيل: إنه توفي سنة خمس وسبعين، ومات في ولاية عبد الملك بن مروان. قال ابن الكلبي: بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان، وضرب له بسهم يوم حنين، وأرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فأسلموا، وأخوه عمرو بن جرهم أسلم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهما من ولد ليوان بن مر بن خشين بن النمر بن وبرة. وروى عنه: أبو إدريس الخولاني، ومسلم بن مشكم. وروى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند. وأما الخُشني -بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين، ثم النون ثم ياء النسب-، فنسبة إلى خشين: بطن من قضاعة. قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: لم يختلفوا في نسبه إلى خشين، وهو وائل بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن خلوان بن عمران بن الحارث بن قضاعة. وهكذا ذكر نسبته إلى خشين: بطنٍ من قضاعة: البيهقي، وعبد الغني بن سعيد، وابن ماكولا، والسمعاني، والحازمي، وغيرهم. وقال البيهقي: روي عن ابن عمر: أن نفرًا من خشين قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة. وقال غيره: إن نفرًا من خيشان، في رواية جابر بن عبد الله. هذا آخر كلام البيهقي. وذكر نحوه السمعاني، وقال: قال ابن حبيب: في قضاعة: خشين بن النمر بن وبرة، وفي فزارة: خشين بن عصيم ابن لأبي شمخ بن فزارة. وذكر ابن الأثير الجزري في كتابه "معرفة الصحابة" -رضي الله عنهم- في حرف الجيم منه: جرثوم بن ناشب، وقيل: ناشم: أبو ثعلبة الخشني منسوب إلى خشين بطن من قضاعة، كما ذكره الحفاظ. وقال في آخر الكتاب في الكنى منه: لم يختلفوا في نسبه إلى خشينة.

قال: واسمه وائل بن النمر بن وبرة بن ثعلب. وهذا مناقض لما ذكره هو في أول كتابه في الأسماء، ومخالف لما ذكره الأئمة والحفاظ في الأنساب الذين قدمنا ذكرهم. وإنما بسطت الكلام في ذلك، واعتنيت به؛ لأن شيخنا الحافظ أبا زكريا النووي -رحمه الله- ذكره في آخر "كتاب الأربعين" له في: مباني الإسلام، وقال: هو منسوب إلى خشينة؛ كجهينة، وهم قبيلة من قضاعة. وكان -رحمه الله- أَذِنَ لي في إصلاح ما أجده في مصنفاته، فأصلحته على الصواب على ما ذكره الجماعة وابن الأثير في "الأسماء". والذي ذكره الشيخ -رحمه الله- أخذه من كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح -رحمه الله-. ونقله أبو عمرو عن الحافظ أبي محمد بن عطاء الإبراهيمي، قال: وقال: وخشينةُ: بطنٌ من قضاعة، وكذا نقله الحاكم أبو أحمد في "الأسماء والكنى". لكن لا يقاوم ذلك قولَ من ذكرنا من الأئمة والحفاظ، والله أعلم (¬1). وأما قوله: "يا رسولَ اللهِ! إنا بأرضِ قومٍ أهلِ كتابٍ، أفنأكلُ في آنيتهم؟ ". أما أهل كتاب: فقد يراد بهم: كلُّ من دان بدين الله بكتاب منزل على نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه- عليهم، وقد يراد بهم: اليهود أو النصارى، أو هما فقط، وهو الظاهر. وأما الآنية: جمع إناء؛ كسقاء وأسقية، ورداء وأردية. وجمع الآنية: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 416)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 250)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 543)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 63)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 29)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1618)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (66/ 84)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 43)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 487)، وقد ذكر هنا أنه منسوب إلى خشين بطن من قضاعة، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 167)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 567)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 58)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 52).

الأواني، ولا يصح إطلاق الآنية على المفرد، وإطلاقه ليس بصحيح. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ وجدتُم غيرَها، فلا تأكلوا فيها، فإنْ لم تجدوا غيرَها، فاغْسِلوها، وكلوا فيها"؛ اعلم أن الفقهاء أطلقوا القول بجواز استعمال أواني المشركين إذا غُسلت، ولا كراهة فيها بعد الغسل، سواء وجد غيرها أم لا، وسواء كانوا يتدينون باستعمال النجاسة أم لا. وللشافعي قول: إنه لا يجوز استعمال أوانيهم إذا كانوا ممن يتدين باستعمالها من المشركين، وأهل الكتاب كذلك؛ فإن منهم من يتدين باستعمال الخمر. ومن النصارى من لا يجتنب النجاسات، ومنهم من يتدين بملابستها؛ كالرهبان، فحينئذ لا وجه للتفرقة بين من يتدين بها ومن لا يتدين. وهذا الحديث يقتضي التعطيل في استعمالها وكراهته بين أن يجد غيرها وبين أن لا يجده، ويغسلها ويستعملها إذا لم يجد غيرها. ولا منافاة بين قول الفقهاء والحديث؛ فإن الاستعمال قد يكون كراهية في الأكل فيها خاصة؛ لأجل الاستقذار والعيافة لا للنجاسة. وقد صرح بذلك في رواية أبي داود قال: وإنما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل؛ للاستقذار، وكونها معتادة للنجاسة. وقد قال الفقهاء: يكره الأكل في المحجمة المغسولة. وقد تكون كراهته لكون الآنية مضافة إلى الكفار من غير استعمال منهم لها قبل غسلها، لكن إذا غسلت، فلا يكره استعمالها؛ لأنها طاهرة، وليس فيها استقذار. ولم يرد الفقهاء نفي الكراهة عن آنيتهم المستعملة في الخنزير وغيره من النجاسات، ولا شك أن آنيتهم قد تعارض فيها الأصل والغالب. والحديث جار على مقتضى غلبة الظن؛ فإن الظن المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وما صِدْتَ بقوسِكَ، فذكرتَ اسمَ اللهِ، فَكُلْ، وما صِدْتَ بكلبِك المعلَّمِ، فذكرتَ اسمَ اللهِ، فكلْ".

قد ساوى بين الاصطياد بالقوس والكلب المعلم، من غير تبيين التعليم المشترط في هذا الحديث ولا غيره. وقد تكلم الفقهاء في معرفة الكلب المعلم من غيره، فقالوا: المعلم: ما ينزجرُ بالانزجار، وينبعث بالإشلاء، وإذا أخذ الصيد، أمسكه على صاحبه، وخلى بينه وبينه. وقد يستنبط ما ذكروه أو بعضه من ألفاظ هذا الحديث، إذا جمعت ألفاظه. والقاعدة تقتضي أن ما رتب عليه الشارع حكمًا، ولم يجد فيه حدًّا: أن يحتاط فيه، خصوصًا المأكولات بالتذكية ونحوها، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وما صدتَ بكلبكَ غيِر المعلم، فأدركتَ ذكاتَه، فكلْ" قد شرط - صلى الله عليه وسلم - في الكلب غير المعلَّم إذا صادَ أن يدرك ذكاة الصيد. وهذا الإدراك يتعلق بأمرين: أحدهما: الزمن الذي فيه الذبح، فإن أدركه ولم يمكن ذبحه، فهو ميتة. ولو كان كذلك لأجل عجزه عما يذبحه به، لم يكن ذلك عذرًا في إباحته. والثاني: أن يكون فيه حياة مستقرة، فلو أدركه ولم يبق فيه حياة مستقرة؛ بأن أخرج حشوته، أو أصاب نابه مقتلًا، ونحو ذلك، فلا اعتبار بالذكاة حينئذ، هكذا قاله الفقهاء. والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: السؤال عما يحتاج إليه من الأمور المستقبلة. ومنها: جمع المسائل والسؤال عنها دفعة واحدة. ومنها: تفصيل الجواب بأما وما. وفي الكتاب العزيز: في قصة ذي القرنين في آخر الكهف قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف: 87 - 88] الآية.

وقد تفصل الجواب بأما وما، كما في الحديث. ومنها: كراهة الأكل من آنية أهل الكتاب من غير غسل، وجواز استعمالها مع الغسل، وإن كان الأولى تركها عند عدم الضرورة إلى استعمالها. ومنها: إباحة الاصطياد بالقوس، والكلب المعلم، وهو مجمع عليه، ودل الكتاب العزيز عليه أيضًا إذا اصطاد للاكتساب والحاجة، والانتفاع به بالأكل وثمنه. واختلف العلماء فيمن اصطاد للهو واللعب، لكن قصد تذكيته والانتفاع. فقال مالك: يكره، وأجاز ذلك ابن عبد الحكم. قال مالك: فإن فعله بغير نية التذكية، فهو حرام؛ لأنه فساد في الأرض، وإتلاف نفس عبثًا. قال القفال المروزي من الشافعية: والحكمة في تحريم الصيد البري على المحرم دون البحري: أن الصيد البري إنما يفعل غالبًا للتنزه والتفرج، فحرم في حالة الإحرام صيده، وتعاطيه؛ لأن الإحرام حالة تنافي ذلك، بخلاف صيد البحر؛ فإنه يصطاد غالبًا للاضطرار والمسكنة، فأحل مطلقًا. ومنها: الأمر بالتسمية عند إرسال السهم والكلب المعلم، وفي معناه عند إرسال الجوارح من الطير، وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال على الصيد وعند الذبح والنحر. واختلف العلماء في أنها واجبة أم سنة. فمذهب الشافعي، وطائفة، ورواية عن أحمد، ومالك: أنها سنة، لو تركها سهوًا أو عمدًا، حل الصيد والذبيحة. وقال أهل الظاهر: إن تركها عمدًا أو سهوًا، لم يحل، وهو الصحيح عند أحمد في صيد الجوارح، وهو مروي عن ابن سيرين، وأبي ثور، قالوا: لأنها علق وصف الجواز للأكل عليها، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه، عند القائلين بالمفهوم.

وفيه هاهنا زيادة على كونه مفهومًا مجردًا، وهو أن الأصل تحريم أكل الميتة وما أخرج الإذن فيها إلا ما هو موصوف بكونه مسمى عليه، فغير المسمى عليه يبقى على أصل التحريم داخلًا تحت النص المحرم للميتة. وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وجماهير العلماء: إن تركها سهوًا، حلت الذبيحة والصيد، وإن تركها عمدًا، فلا. قال الشافعية: إن تركها عمدًا، ففيه ثلاثة أوجه: يكره، وهو الصحيح، ولا يكره، والثالث: خلاف الأولى. واحتج من أوجبها بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، وبهذا الحديث وأمثاله. واحتج الشافعية ومن وافقهم بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، فأباح ذلك بالتذكية من غير اشتراط التسمية، ولا وجوبها، فإن قيل: التذكية لا تكون إلا بالتسمية، قلنا: التذكبة في اللغة: الفتح والشق. وقد أحل الله تعالى طعام الذين أوتوا الكتاب بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وهم لا يسمون، وثبت في "صحيح البخاري" من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنهم قالوا: يا رسول الله! إن قومًا حديث عهد بالجاهلية يأتون بلحمان، لا ندري أذكروا اسم الله، أم لم يذكروا، أفنأكل منها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَمَّوا وكُلوا" (¬1). فهذه التسمية هي المأمور بها عند أكل الطعام والشرب، لا التسمية عند التذكية والإرسال. وأجابوا عن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]: أن المراد به ما ذبح للأصنام؛ كقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]؛ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6963)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها.

لأن الله تعالى قال فيه: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. وقد أجمع المسلمون على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، فوجب حملها على ما ذكرناه؛ ليجمع بينها وبين الآيات السابقات وحديث عائشة. وحملها بعض الشافعية على كراهة التنزيه، وأجابوا عن أحاديث التسمية بأنها للاستحباب. ومنها: إباحة الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيره، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وجماهير العلماء. وقال الحسن البصري، والنخعي، وقتادة، وأحمد، وإسحاق: لا يحل صيد الكلب الأسود؛ لأنه شيطان. ومنها: اشتراط كون الكلب الذي يُصطاد به أن يكون معلمًا؛ ليحل أكل ما صاده، وإنه شرط في إرساله أيضًا، فلو أرسل غير معلم، أو استرسل المعلم بلا إرسال، لم يحل ما قتله، وهذا مجمع عليه. أما المعلم إذا استرسل من غير إرسال، فلا يحل أكل ما قتله عند جميع العلماء؛ إلا ما حكي عن الأصم من إباحته، وإلا ما حكاه ابن المنذر عن عطاء، والأوزاعي: أنه يحل إن كان صاحبه أخرجه للاصطياد. ومنها: حل ما اصطاده بالكلب المعلم من غير ذكاة؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - فرق في إدراك الذكاة بين غير المعلم والمعلم، فإذا قتل الصيد بظفره أو نابه، حل، وإن قتله بثقله، ففيه قولان للشافعي: أصحهما: أنه حلال، وقد يؤخذ ذلك من إطلاق الحديث بقوله؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وما صدتَ بكلبك المعلم"، ولم يذكر كيفيةً من قتلٍ بظفر أو ناب أو ثقل. وقيل: في الاستدلال بلفظ الحديث على هذا الحكم ضعف. ومنها: حل ما أدرك ذكاته إذا كان الكلب غير معلم، وهذا مجمع عليه، وما نقل مخالفًا لذلك عن الحسن، والنخعي، فباطل، وما أظنه يصح عنهما.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أُرْسِلُ الكِلاَبَ المُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكنَ عَلَيَّ، وَأَذكُرُ اسْمَ اللهِ، فَقَالَ: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُل مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ"، قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكهَا كَلْبٌ لَيْسَ منها"، قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمي بالمِعْرَاضِ الصَّيْدَ، فَأُصِيبُ، فَقَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ بالمِعْرَاضِ، فَخَزَقَ، فَكُلْهُ، وَإِنْ أصَابَهُ بِعَرْضٍ، فَلَا تَأْكُلْهُ" (¬1). وحديث الشعبي عن عدي نحوه، وفيه: "إلا أن يأكل الكلبُ، فإن أكلَ، فلا تأكلْ؛ فإني أخاف أن يكونَ إنما أمسك على نفسه، وإن خالطَها كلابٌ من غيرها، فلا تأكلْ؛ فإنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره" (¬2). وفيه: "إذا أرسلت كلبك المكلَّبَ، فاذكرِ اسمَ الله، فإن أمسكَ عليك، فأدركته حيًّا، فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكلْ منه، فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته" (¬3). وفيه أيضًا: "إذا رميت بسهمك، فاذكر اسم الله" (¬4). وفيه أيضًا: "وإن غابَ عنك يومًا أو يومين"، وفي رواية: "اليومين والثلاثة، فلم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت، فإن وجدته غريقًا في الماء، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري الماءُ قتلَه أو سهمُك" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5160)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما أصاب المعراض بعرضه، ومسلم (1929)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وهذا لفظ مسلم. (¬2) رواه البخاري (5166)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا أكل الكلب، ومسلم (1929)، (3/ 1529)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة. (¬3) رواه مسلم (1929)، (3/ 1531)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة. (¬4) انظر: رواية مسلم المتقدمة؛ إذ هذه جزء منها. (¬5) انظر: رواية مسلم المتقدمة.

أما هَمَّامُ بنُ الحارث، فهو تابعيٌّ نخعيٌّ كوفيٌّ، ثقة، وثَّقه ابن معين، وروى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند. سمع: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعبدَ الله بن مسعود، والمقداد بن الأسود، وعمارَ بن ياسر، وحذيفةَ بن اليمان، وعائشةَ أم المؤمنين -رضي الله عنهم-. روى عنه: سليمانُ بن يسار، وإبراهيمُ النخعي، وغيرهما (¬1). وأما عَدِيُّ بن حاتمِ: فكنيته أبو طريف بنُ حاتم بنِ عبدِ الله الطائي، مهاجريٌّ، وهو منسوب إلى طيِّيء بن أدد بن زيد بن كهلان، ويختلفون في بعض الأسماء من جده عبد الله إلى طيِّئ، فيما بينهما. قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة سبع من الهجرة، وقيل: في شعبان سنة عشر. قال أبو عمر بن عبد البر: وخبره في قدومه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان خبر عجيب، وهو حسن صحيح من رواية قتادة عن ابن سيرين. ثم قدم على أبي بكر بصدقات قومه في حين الردة، ومنع قومه وطائفة معهم من الردة بثبوته على الإسلام وحسن رأيه. وكان سريًّا شريفًا في قومه، خطيبًا، حاضر الجواب، فاضلًا، كريمًا. روي عنه أنه قال: ما دخل وقت صلاة قط، إلا وأنا أشتاق إليها (¬2). وقال: ما دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قَطُّ إلا وَسَّع لي أو تحرَّك، ودخلت عليه يومًا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 118)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 236)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 106)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 510)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 178)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 35)، و "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 297)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 283)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 58). (¬2) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 169)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 86 - 87).

في بيته، وقد امتلأ من أصحابه، فوسع لي حتى جلست إلى جنبه (¬1). وقال له عمر - رضي الله عنه - لما قدم عليه: ما أظنك تعرفني، أعرفك آمنت إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفيتَ إذ غدروا (¬2). ونزل عديٌّ الكوفة وسكنها، وشهد مع على يوم الجمل، وفُقئت عينه يومئذ، ثم شهد معه صِفِّين والنهروان. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وستون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة أحاديث، وانفرد مسلم بحديثين، وروى له جماعة من كبار التابعين. ومات بالكوفة زمن المختار سنة تسع، وقيل: ثمان وستين، وقيل: سنة سبع وستين، وهو ابن مئة وعشرين سنة، وروى له أصحاب السنن والمساند (¬3). وأما الشَّعْبي -بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وباء موحدة، ثم ياء النسب-، فنسبة إلى شعب همذان، واشتهر بها، واسمه عامر بن شراحيل، وقيل: ابن عبد الله بن شراحيل، وقيل: ابن شراحيل بن عبد بن أخي قيس بن عبد، أبو عمرو، تابعي، كوفي، ثقة، جليل، فقيه، عالم. روى عن علي بن أبي طالب، وابنيه: الحسن والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن جعفر، والعبادلة، وخلق كثير من الصحابة -رضي الله عنهم-. ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1058). (¬2) رواه البخاري (4133)، كتاب: المغازي، باب: قصة وفد طيئ، من حديث عدي بن حاتم. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 22)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 43)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 2)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1057)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 189)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 66)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 7)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 301)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 524)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 162)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 469)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 150).

روي عنه أنه قال: أدركت خمس مئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: علي وطلحةُ والزبير في الجنة (¬1). وقال أحمد بن عبد الله العجلي: سمع الشعبي من ثمانية وأربعين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومرسله صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحًا. وروى عنه خلق من التابعين وغيرهم، وكان كثير العلم والحفظ والفقه، في أعلى طبقة من ذلك جميعه. وقال الحسن -أعني: البصري- لما نعاه: وكان واللهِ كثير العلم، عظيمَ الحلم، قديم السلم، من الإسلام بمكان (¬2). وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - وقد مرَّ علي الشعبي: هو أعلم بالمغازي وأحفظ لها. ووثقه أبو زرعة، وابن معين، وغيرهما، وروى له البخاري، ومسلم، والأئمة. وولد لست سنين مضين من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومات بعد المئة بثلاث سنين، وقيل: بأربع، وقيل: بخمس، وقيل: بست، وقال بعضهم: بلغ اثنتين وثمانين سنة (¬3). وأما المعراض -بكسر الميم، وسكون العين المهملة، وبالراء ثم الضاد ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 450)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 349). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 323)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 422). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 246) و"التاربح الكبير" للبخاري (6/ 450)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 323)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 185)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 310)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (12/ 227)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (25/ 335)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 75)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 28)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 294)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 79)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 57).

المعجمة بعد الألف-، فهو عصا محدد رأسُها بحديدة، وقد يكون بغير حديدة، هذا هو الصحيح المشهور في تفسيره. وقال الهروي: هو سهم لا ريش فيه ولا نصل. وقال ابن دريد: هو سهم طويل، له أربع قذذ رقاق، فإذا رمي به، اعترض، وهو منقول عن الخليل ونحوه عن الأصمعي. وقيل: هو عود رقيق الطرفين، غليظ الوسط، إذا رُمي به، ذهب مستويًا (¬1). وقوله: "فخزق": هو بالخاء المعجمة، والزاي، ومعناه: نفذ. وتقدم الكلام في الحديث قبله على اشتراط التسمية، والخلاف في وجوبها، لكن هذا الحديث أقوى في الدلالة على اشتراطها من الأول؛ حيث إنه مفهوم وصف، ودلالته على حل مصيد الكلب إذا قتل صريحة، بخلاف الحديث الماضي؛ فإنه إنما يؤخذ هذا الحكم منه بطريق المفهوم، وكذلك دلالته على أكل ما قتله الجارح بثقله؛ فإنه أصرح دلالة من الأول. وفي هذا الحديث [من] (¬2) جميع طرقه أحكام: منها: أنه لا يحل كل ما شاركه كلب آخر في اصطياده إذا استرسل بنفسه، أو أرسله من ليس هو من أهل الذكاة، أو شككنا في ذلك، فإن تحققنا أنه إنما شاركه كلب، أو أرسله من هو من أهل الذكاة على ذلك الصيد، حلَّ. وذلك معلل في الرواية التي في بعض طرق هذا الحديث التي في الكتاب، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإِنَّما سَمَّيْتَ على كلبِك، ولم تُسَمِّ على غيرِه"، وهو ظاهر في اشتراط التسمية. ومنها: أنه إذا اصطاد بالمعراض، فقتل الصيد بحدهِّ، حل؛ لأنه كالسهم، وإن قتله بعرضه، لم يحل، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 73)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 75). (¬2) ليست في "ح".

وقد علل ما قتل بعرضه بأنه وقيذ في الحديث الصحيح، وذلك لأنه ليس في معنى السهم، بل هو في معنى الحجر وغيره من المثقلات. وقال الأوزاعي، ومكحول، وغيرهما من فقهاء الشام: يحل مطلقًا، حتى قالا وابن أبي ليلى: يحل ما قتله بالبندقة، وهو محكي عن سعيد بن المسيب. وجمهور العلماء على أنه لا يحل صيد البندقة مطلقًا؛ لحديث المعراض هذا؛ لأنه كله رض ووقذ، وهو معنى قوله: "فإنه وقيذ"؛ أي: مقتول بغير محدد. والموقوذة: المقتولة بالعصا ونحوها، وأصله من الكسر والرضِّ. ومنها: تحريم أكل الصيد الذي أكل الكلب المعلَّم منه؛ لتصريح المنع منه في هذا الحديث، وتعليله بخوف الإمساك على نفسه بأكله منه. وبهذا قال أكثر العلماء، منهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والشعبي، والنخعي، وعكرمة، وقتادة، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود، وبه قال الشافعي في أصح قوليه، محتجين بحديث عدي هذا، وبقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، وهذا لم يمسك علينا، بل على نفسه. وقال سعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وابن عمر، ومالك: يحل، وهو قول ضعيف للشافعي، واحتجوا برواية في "سنن أبي داود" وحَسَّنه، عن أبي ثعلبة الخشني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "كلْ وإن أكلَ الكلبُ" (¬1). وحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وربما عللوه على أنه كان من المياسير. فاختير له الحمل على التنزيه، بخلاف أبي ثعلبة؛ فإنه كان بخلاف ذلك، فأخذ له بالرخصة، وذلك ضعيف؛ فإنه قد علل في الحديث بأنه إنما أمسك على نفسه، وهي علة تناسب التحريم، لكنه قد قيده بخوف الإمساك لا بحقيقته. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2852)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 237).

والجواب: أن الأصل التحريم فيه، وقد شككنا في السبب المبيح له، فيرجع إلى الأصل. وتأولوا حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه، وفارقه، ثم عاد فأكل منه، فهذا لا يضر. وأما جوارح الطير إذا أكلت مما صادته، فالأصح عند الشافعية من قولين للشافعي -رحمه الله-: تحريمه، وقال سائر العلماء بإباحته؛ لأنه لا يمكن تعليمها ذلك، بخلاف السباع، وأصحاب الشافعي يمنعون هذا الدليل. ومنها: أن أخذ الكلب الصيد وقتله إياه ذكاةٌ شرعية، بمنزلة ذبح الحيوان الإنسي، وهذا مجمع عليه. ولو لم يقتله الكلب، ولكن تركه، ولم يُبق فيه حياة مستقرة، أو بقيت ولم يبق زمان يمكن صاحبه لحاقه وذبحه، فمات، حل؛ لهذا الحديث: "فإنَّ أخذَ الكلبِ ذَكاتهُ". ومنها: إذا جرحه بالسهم، فغاب عنه فوجده ميتًا، وليس فيه أثر غير سهمه، حلَّ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا غابَ عنك يومًا أو يومين، فلم تجدْ فيه إلا أثرَ سهمِك، فكلْ إن شئت". وفي هذه اختلاف مذهب مالك والشافعي في أحد الأقوال: أنه يحل في الصيد والسهم، وهو أقوى وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة، وما ورد من الأحاديث المخالفة لها الآثار، فكلها ضعيفة ومحمولة على كراهة التنزيه. ومنها: التنبيه على قاعدة مهمة، وهي: أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان، لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن قتلنَ، ما لم يشرَكْها كلب ليسَ منها" ما يدل على ذلك، وقد ثبت في "صحيح مسلم" زيادة على هذا: "فلا تأكلْ؛ فإنك لا تدري أَيُّهما قتله". وفي ذلك تنبيه أيضًا على أنه لو وجده حيًّا وفيه حياة مستقرة، فذكَّاه، حلَّ، ولا يضر كونُه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره، ولأن الاعتماد حينئذ في الإباحة على تذكية الآدمي، لا على إمساك الكلب، وإنما تقع الإباحة بإمساك الكلب إذا قتله.

الحديث الثالث

ومنها: أن لحوم الصيود وغيرها من اللحوم والأطعمة إذا بقيت يومًا أو يومين أو ثلاثة يحل أكلها. وقد ثبت في "صحيح مسلم!: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رميتَ بسهمكَ فغابَ عنك فأدركتَه ما لم ينتنْ" (¬1). وفي رواية تقييد الأكل بعد الثلاث ما لم ينتن، فرواية الكتاب مطلقة في الأكل إذا وجد أثر سهمه وشاء أكله بعد الثلاث من غير تقييد. فحمل الشافعيون التقيد بعدم النتن على التنزيه لا على التحريم، وقالوا: يجوز أكل جميع اللحوم المذكاة والأطعمة المنتنة، ولا يحرم إلا أن يخاف منها الضرر خوفًا معتمدًا. وقال بعض أصحاب الشافعي: يحرم اللحم المنتن، وهو ضعيف عندهم. ومنها: أنه إذا وجد الصيد غريقًا، أو كان طائرًا وخبط على الأرض، وجوز أن يكون غرقه أو تردي الصيد من جبل وموته من سبب آخر، لم يحل أكله، فإنه لا يدري ما مات بسببه من التردي والغرق أو بالاصطياد، ومتى لم يتحقق سبب الإباحة، فإنه يحرم. وهذا داخل تحت القاعدة المستنبطة من الحديث، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنِ اقْتنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ". قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلبَ حرثٍ، وكانَ صاحبَ حرثٍ (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1931)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده. (¬2) رواه البخاري (5164)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو =

أما سالم: فكنيته: أبو عمر، ويقال: أبو عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، القرشيُّ العدويُّ، المدنيُّ، التابعيُّ، الجليل، المتفق على علمه وصلاحه وزهده وفضله وورعه. سمع: أباه، وأبا هريرة، وأبا أيوب الأنصاري، ورافع بن خديج، وعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهم من التابعين. وروى عنه جماعة منهم ومن أتباعهم. وكان أشبهَ ولدِ عبد الله به. وقال مالك بن أنس: ولم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين (¬1). ووثقه الإمام أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أصح الأسانيد كلها: الزهريُّ عن سالم عن أبيه. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث، عال من الرجال، ورع، مات سنة خمس، وقيل: ست، وقيل: ثمان ومئة. روى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند (¬2). وتقدم الكلام على أبيه أوائل الكتاب. وأما قول سالم: "وكان أبو هريرة يقول: أو كلبَ حرث، وكان صاحب حرث"؛ فليس معناه أنه قاله بالاجتهاد والرأي، ولكنه لما؛ من صاحب حرث وزرع، اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه، ورواه؛ حيث إن العادة أن المبتلى بشيء ¬

_ = ماشية، ومسلم (1574)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، وهذا لفظ مسلم. (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 55). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 195)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 115)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 184)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 305)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 193)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 48)، و "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 90)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 145)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 203)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 457)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 88)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 378).

يتقنه ما لا يتقنه غيره، ويتعرف من أحكامه ما لا يعرفه غيره. قال العلماء: وليس قول سالم توهينًا لرواية أبي هريرة، ولا شكًّا فيها. وقد ذكر مسلم -رحمه الله- هذه الرواية من اتخاذ الكلب للزرع، من رواية غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- من رواية ابن المغفل وسفيان بن أبي زهير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواها أيضًا في "صحيحه" من رواية أبي الحكم، واسمه: عبد الرحمن بن أبي نعيم البجلي، عن ابن عمر، فيحتمل أن سالمًا سمعها من أبي هريرة، وتحققها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواها عنه بعد ذلك، وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها، ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرواها، ونسيها في وقت، فتركها، فحصل مما ذكرنا جميعه: أن أبا هريرة ليس منفردًا بهذه الرواية، بل وافقه غيره من الصحابة في روايتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو انفرد بها، كانت مقبولة، مرضية، مكرمة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتنى كلبًا إلا كلبَ صيدٍ أو ماشية"، فاعلم أن الكلاب في أصل الشرع ممنوعة الاقتناء، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلها أولًا كلها، ثم نسخ ذلك، ونهى عن قتلها إلا الأسود البهيم. ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها، سواء الأسود وغيره. وهذا الذي ذكرته ثبت في الصحيح من رواية ابن المغفل، قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالُهم وَبال الكلاب؟ "، ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم (¬1). وأجمع العلماء: على قتل الكلب الكَلِب، والكلب العقور، ثم اختلفوا فيما عداها، فقال القاضي عياض -رحمه الله-: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب، إلا ما استثني من كلب الصيد وغيره. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (280)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب.

قال: وهذا مذهب مالك وأصحابه، قال: واختلف القائلون بهذا في كلب الصيد [من] وجوه: هل هو منسوخ من العموم الأول في الحكم بقتل الكلاب؟ وأن القتل كان عامًّا في الجميع، أم كان مخصوصًا بما سوى ذلك؟ قال: وذهب آخرون إلى جواز اتخاذ جميعها، ونسخ الأمر بقتلها، والنهي عن اقتنائها إلا الأسود البهيم. قال القاضي عياض: وعندي أن النهي أولًا كان نهيًا عامًّا عن اقتناء جميعها، وأنه أمر بقتلها جميعها، ثم نهى عن قتل ما سوى الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها إلا كلب الصيد أو الزرع أو الماشية (¬1). وهذا الذي ذكره القاضي هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، ويخص حديث ابن المغفل الذي ذكرته بما سوى الأسود؛ فإنه عام، فيخص بالحديث الآخر لما نهى عن قتلها. قال: "عليكم بالأسودِ البهيمِ ذي النقطتين؛ فإنه شيطان" (¬2). إذا ثبت ما ذكرناه، فاعلم أن سبب المنع من اقتنائها غير المذكور في الأحاديث من الصيد والماشية والحرث، هو ما فيها من الترويع، وإيذاء المار، ومجانبة الملائكة لمحلها. ولا شك أن مجانبتهم أمر شديد؛ لما في مخالطتهم من البركات من الإلهام إلى الخير والدعاء إليه. ولهذا حذر الشارع من كل حالة يلابسها الشيطان من الأمكنة والأزمنة والأفعال والأقوال؛ لما فيها من مجانبة الملائكة وبركتهم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنه ينقصُ من أجره كلَّ يوم قيراطان"؛ أما النقصان: فذى الروياني في في "البحر": أنهم اختلفوا في المراد بما ينقص منه، قال: فقيل: ينقص مما مضى من عمله. وقيل: من مستقبله. وقال: واختلفوا في محل نقص ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 235). (¬2) رواه مسلم (1572)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

القيراطين، فقيل: ينقص قيراط من عمل النهار، وقيراط من عمل الليل. وقيل: قيراط من عمل الفرض، وقيراط من عمل النفل، والله أعلم (¬1). واعلم أنه ثبت في الصحيح في روايات: "نقص من عمله كلَّ يوم قيراطان" كما في الكتاب. وفي روايات: "قيراط" (¬2). ولا شك أن المراد من النقصان نقصان الأجر، لا نقصان نفس العمل؛ فإنه وجد واستقر، ويحتمل أنه يعاقب بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط مما كان يعمل من الخير، فيكون النقص من العمل على حقيقته، ويلزم من تركه ترك الأجر الذي عليه، والله أعلم. وأما اختلاف الروايات في قيراطين وقيراط، فيحتمل أنه يختلف باختلاف اقتناء الكلاب من شدة الأذى وخفته. ويحتمل أنه يختلف باختلاف البقاع وفضلها، فيكون اقتناؤها في المدينة خاصة يوجب نقص قيراطين، وفي غيره قيراط، والقيراطين في المدن ونحوها من القرى، والقيراط في البوادي. أو يكون ذكر ذلك في زمنين، فذكر القيراط أولًا، ثم زاد التغليظ، فذكر القيراطين، والله أعلم. واعلم أن سبب نقص الأجر أو العمل: إنما هو عقوبة لمن اقتناها، إما لارتكابه المنهي عنه وعصيانه به، أولما يبتلى به من ولوغها في غفلة صاحبها، وعدم غسل ما ولغت فيه بالماء والتراب، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تحريم اقتناء الكلب لغير حاجة. ومنها: جواز اقتنائه للصيد والزرع والماشية. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 239). (¬2) رواه البخاري (3146)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ومسلم (1575)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وهل: يقاس عليها غرض حراسة الدروب ونحوها؟ اختلف أصحاب الشافعي في ذلك على وجهين: أحدهما: المنع؛ حيث إن الأصل فيها المنع، ورفعت الرخصة في المذكورات، فلا يتعدى. وأصحهما: الإذن؛ حيث إن العلة في الرخصة معقولة، فتعدى. ولهذا قال العلماء: الرخصة إذا عرفت، عمت، وإذا وقعت، عمت، فعمومها يكون في حكمها ومعناها، والله أعلم. ومنها: جواز اقتناء جرو الكلاب المذكورات وتربيته لها، ويكون القصد لذلك قائمًا مقام وجود المنفعة بها لها؛ كبيع ما لا ينتفع به في الحال للانتفاع به في المآل. وقد اختلف أصحاب الشافعي -رحمه الله- في هذه المسألة على وجهين: أصحهما: الجواز؛ لدخوله تحت اسم الكلب، فإنه يقال: كلب كبير وكلب صغير، وإن كان مخصوصًا باسم الجرو، والله أعلم. واستدل المالكية بجواز اتخاذه للمذكورات على طهارته، قالوا: فإن ملابسته مع الاحتراز منه وعن شيء منه شاق، والإذن في الشيء إذن في مكملات مقصودهِ، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه. وقد يستدل بإطلاق لفظ الكلب على أن الأسود كغيره في الرخصة. وبه قال مالك، والشافعي، وجماهير العلماء، قالوا: لأنه غير خارج عن جنس الكلاب، ولو ولغ في إناء وغيره، وجب غسله؛ كما يغسل من ولوغ غيره من الكلاب؛ كالأبيض وغيره. وقال أحمد، وبعض أصحاب الشافعي: لا يحل صيده، ولا يحل أكله إذا قتله؛ لأنه شيطان، وإنما أحل صيد الكلب، والله أعلم. ومنها: الحث على تكثير الأعمال والتحذير من تنقيصها، والتنبيه على أسباب الزيادة والنقص؛ لتجتنب أو لترتكب لأجل زيادتها، والله أعلم.

الحديث الرابع

ومنها: بيان لطف اللهِ تعالى بخلقه في ترخيصه لهم ما منعهم منه لحاجتهم إليه في أموالهم ومواشيهم ومنافعهم، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنْ رَافِعٍ بنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذِي الحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إبلًا وَغَنَمًا، وَكَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُخْرَيَاتِ القَوْمِ، فَعَجلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا القُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأُكْفِئَت، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الغَنَمِ ببِعِيرٍ، فنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُم، وَكَانَ فِي القَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللهُ؛ فَقَالَ: "إِنَّ لِهَذهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبكُمْ مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا لاَقُو العَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَت مَعَنَا مُدًى، أفنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثكُمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ، فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ، فَمُدَى الحَبَشَةِ" (¬1). أوابد: التي قد توحشت ونفرت من الإنس. يقال: قد أبدت تأبدُ أبودًا. أما رافع بن خديج؛ فتقدم الكلام عليه في أثناء البيوع. وأما قوله: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة": أما ذو الحُلَيفة هذه: وهي بضم الحاء المهملة وفتح اللام، وبالفاء بعد الياء المثناة تحت، ثم هاء التأنيث، قال الداودي: هذه ليست المهل الذي بقرب بالمدينة. وقال الحازمي في كتابه "المؤتلف في أسماء الأماكن": الحليفة: مكان من تهامة بين حاذة وذات عرق، وليست بذي الحليفة التي هي ميقات أهل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2372)، كتاب: الشركة، باب: من عدل عشرًا من الغنم بجزور في القسم، ومسلم (1968)، كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظام.

المدينة، وذكرها بغير لفظة "ذي" الذي في "صحيح البخاري ومسلم". وذكره صاحب الكتاب عنهما بذي الحليفة، فكأنه يقال بالوجهين، والله أعلم (¬1). وقوله: "فأصابَ الناسَ جوعٌ، فأصابوا إبلًا وغنمًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أُخريات القوم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأكفئت": معنى أكفئت؛ أي: قلبت وأريق ما فيها. واختلف في سبب الأمر بإكفاء القدور: فالذي قاله الجمهور: لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإسلام، والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة؛ حيث إن الأكل من الغنائم قبل القسمة إنما يباح لهم في دار الحرب. وقال المهلب بن أبي صفرة المالكي: إنما أمروا بإكفائها عقوبة لهم لاستعجالهم في السير وتركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات القوم متعرضًا لمن يقصده من عدو ونحوه. وهذا ليس بظاهر، ولا يقتضيه سياق الحديث، بل الصحيح والصواب: الأول. ثم إن المأمور به من إكفاء القدور إنما هو إتلاف لنفس المرق، عقوبة لهم في استعجالهم أخذ المال المشترك بين الغنائم. ومن جملة من يستحق من الغنيمة أصحاب الخمس، ومن الغانمين من لم يطبخ، وأما نفس اللحم، فلم يتلفوه، بل يجب حمل الحديث على أنهم جمعوه وردوه إلى المغنم، ولا يظن أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإتلافه؛ لما ذكرنا. فإن قيل: فلم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم، قلنا: ولا نقول: إنهم أحرقوه وأتلفوه، وإذا لم يأت فيه نقل صريح، وجب تأويله على وفق القواعد الشرعية، وهو ما ذكرناه. ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (2/ 296)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 221)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 126).

وهذا بخلاف إكفاء قدور لحم الحمر الأهلية يوم خيبر، فإنها أتلف ما فيها من لحوم ومرق؛ لأنها صارت نجسة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: "وإنها رجسٌ أو نجس" كما سبق في بابه. وأما هذه اللحوم، فكانت طاهرة منتفعة بها بلا شك، ولا يظن إتلافها. كيف وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال؟ مع أن الجناية بطبخ اللحم لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة كما ذكرنا، والله أعلم. قوله: "ثم قسم فعدل عشرةً من الغنم ببعير" لا شك أن الشرع عدل في باب الأضحية كلَّ سبعة من الغنم ببدنة، بعيرًا كان أو غيره، وهاهنا جاء التعديل عشرة من الغنم ببعير، فلا بد من حمله على معنى يليق به: وهو أن الإبل كانت نفيسة دون الغنم؛ بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه في هذه الواقعة، فتكون قضية عين؛ بخلاف الغالب فيها في نظر الشرع؛ فإنه السبع ببعير. وقوله: "فنَدَّ منها بعير"؛ أي: شرد وذهب نافرًا. وقد ذكر المصنف -رحمه الله- الأوابد، ونزيد الكلام عليها، ولا شك أن معناها النفور والتوحش، وهي جمع آبدة بالمد وكسر الباء المخففة، يقال منه: أبدت بفتح الباء تأبُدُ بضمها، وتأبِد بكسرها، وتأبدت، معناه: نفرت من الإنس وتوحشت، ويقال: جاء فلان بأبدة؛ أي: بكلمة، أو بخصلة منفرة للنفوس عنها. والكلمة لازمة، وقد تأتي فاعلة بمعنى مفعولة (¬1). قوله: "قلتُ: يا رسولَ الله! إنا لاقو العدوِّ غدًا، وليست معنا مُدًى، أفنذبح بالقَصَب؟ ". وفي رواية مسلم: "فَنُذَكِّي باللِّيط" باللام المكسورة، والياء المثناة تحت الساكنة ثم الطاء المهملة، وهي قشور القصب. وليطُ كلِّ شيء: قشوره، والواحدة ليطة؛ وهي معنى: أفنذبح بالقصب؛ على تقدير حذف المضاف في اللفظ. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 55)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 11)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 13)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 125)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 68)، (مادة: أبد).

وفي رواية "سنن أبي داود" وغيره: "أفنذبح بالمروة؟ " (¬1). وهذه الروايات محمولة على أنهم قالوا هذا وهذا وهذا، فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - بجواب جامع لما سألوه كله ولغيره نفيًا وإثباتًا، فقال: "كلُّ ما أنهرَ الدمَ وذُكِر اسمُ الله عليه، ليسَ السنَّ والظفرَ". والمُدَى -بضم الميم وفتح الدال المهملة-: جمع مدية -بضم الميم وكسرها وفتحها، ثلاثُ لغات-؛ وهي السكين، وهي مشتقة من المدى، وهو الغاية؛ لأن بها مدى الأجل (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهرَ الدمَ وذُكر اسمُ الله عليه فكلوه، ليسَ السنَّ والظفرَ". أما "أنهر" فمعناه: أسال وصبَّ بكثرة، وهو مشبه بجري الماء في النهر. يقال: نهرَ الدمُ أو أنهرتهُ. ونقل القاضي عياض عن بعضهم: أن أنهز -بالزاي-، والنهز: بمعنى الدفع. قال: وهو غريب. والمشهور الذي ذكره العلماء كافة، منهم الحربي: أنه بالراء، والله أعلم (¬3). والحكمة في إنهار الدم في الذبح تمييزُ حلال اللحم والشحم من حرامهما. أما السنن والظفر؛ فهما منصوبان بالاستثناء بـ (ليس). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما السنُّ، فعظمٌ"؛ أي: فهو عظم، وهو زادُ إخوانِكم من الجنِّ، وقد نُهيتم عن الاستنجاء بالعظام لذلكَ؛ لئلَّا يتنجَّسَ بالاستنجاءِ، فلذلكَ ينجُس بدمِ المذبوح، فلا تذبحوا به. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2821)، كتاب: الضحايا، باب: في الذبيحة بالمروة. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 375)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 310). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 30)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 123).

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأما الظُّفرُ، فمُدى الحبشةِ"؛ فمعناه: أن الذبح بالظفر شعار لهم، وهم كفار، وقد نُهيتم عن التشبه بالكفار. وفي هذا الحديث أحكام: منها: تحريم التصرف في الأموال المشتركة؛ كالغنيمة وغيرها من غير إذن أربابها، وإن قلَّت، ووقع الاحتياج إليها. ومنها: بيان مرتبة الصحابة -رضي الله عنهم-، وما كانوا عليه من الرجوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقيدهم بأمره وقبوله في كل حالة، حتى في ترك مصالحهم؛ تقربًا إلى الله تعالى. ومنها: أن للإمام عقوبة الرعية بما فيه مضرتهم؛ من إتلاف منفعة ونحوها، إذا كان فيه مصلحة شرعية. ومنها: أن قسمة الغنيمة لا يُشترط فيها قسمةُ كل نوع على حدة. ومنها: مقابلة كل عشرة من الغنم ببعير في قسمة الغنيمة وغيرها تعديلًا بالقيمة، وأنه لا يلزم الرجوع في ذلك إلى تعديل الشرع كما في البدنة أنها عن سبعة. ومن الناس من أوجب حمله على ذلك، وهذا الحديث يرد عليه. ومنها: أن ما توحَّش من المستأنس يكون حكمُه حكمَ الوحش، كما أن ما تأنس من الوحش حكمُه حكم المستأنس. ومنها: جواز الذبح بكل ما يحصل به المقصود من غير توقف على كونه حديدًا بعد أن يكون محددًا. ومنها: اشتراط التسمية في ذلك أيضًا؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - علق الإذن بمجموع أمرين: إنهار الدم، والتسمية، والمعلق على شيئين ينتفي بانتفاء أحدهما. ومنها: جواز عقر الحيوان النادِّ إذا عجز عن ذبحه ونحوه. قال أصحاب الشافعي وغيرهم: الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان: مقدور على ذبحه، ومتوحش.

فالمقدور عليه: لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللَّبَّة، وهذا مجمع عليه، وسواء فيه الإنسي والوحشي إذا قدر على ذبحه؛ بأن أمسك الصيد، أو كان مستأنسًا. وأما الوحشي؛ كالصيود والنادِّ من الإنسي، فجميع أجزائها مذبَحٌ ما دامت متوحشة، فإذا رماها بسهم، أو أرسل عليها جارحة فأصاب شيئًا منها ومات، حلَّ بالإجماع، وكذا لو تردَّى منها شيء في بئر، ولم يكن قطع حلقومه ومريُه، فهو كالنادِّ في حله بالرمي بلا خلاف في مذهب الشافعي. وفي حله بإرسال الكلب وجهان: أصحهما: لا يحل. واعلم أنه ليس المراد بالتوحش مجردَ الإفلات، بل تيسر لُحوقه بِعَدْوٍ، أو استعانة بمن يمسكه، ونحو ذلك. فإذا كان كذلك، جاز رميه. ولا يكلف الصبر على القدرة عليه، سواء كانت الجراحة في فخذه، أو خاصرته، أو أي موضع كان من بدنه. وممن قال بجواز عقر النادِّ: علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، وابن مسعود، وابن عمر، والحكم، وحماد، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وداود، والجمهور. وقال سعيد بن المسيب، وربيعة، والليث، ومالك: لا يحل إلا بذكاته في حلقه؛ كغيره، وحديثُ رافع حجة عليهم، والله أعلم. ومنها: جواز ذبح المنحور ونحر المذبوح، وقد منعه داود، وعن مالك ثلاث روايات: يكره، ويحرم، ويجوز ذبح المنحور دون نحر المذبوح. وأجمع العلماء على أن السنة في الإبل النحرُ، وفي الغنم الذبحُ، وفي البقر كالغنم عندنا وعند الجمهور، وقيل: يتخير بين ذبحها ونحرها. ومنها: التنبيه على أن تحريم الميتة إنما هو لبقاء دمها. ومنها: التصريح بمنع الذبح بالسن والظفر مطلقًا، ويجوز الذبح بكل ما له حد يقطع غيرهما؛ كالسيف والسكين والسنان والحجر والخشب والزجاج

والخزف والنحاس، وسائر الأشياء المحددة. ولا يجوز بظفر الآدمي وغيره من الحيوانات، سواء المتصل والمنفصل، والطاهر والنجس. وكذلك لا يجوز بسن الآدمي وغيره الطاهر والنجس والمتصل والمنفصل. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على العلة فيهما وبينهما، فكل ما صدق عليه اسمهما لا تجوز الذكاة به. وبهذا قال جمهور العلماء، وبه قال فقهاء الحديث، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وهو قول النخعي، والحسن بن صالح، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين. وعن مالك روايات: أشهرها: جوازه بالعظم دون السنن كيف كانا. والثانية: كمذهب الجمهور. والثالثة: كمذهب أبي حنيفة. والرابعة: حكاها عنه ابن المنذر: يجوز بكل شيء حتى بالسن والظفر. وعن ابن جريح، جواز الذكاة بعظم الحمار دون القرد، وهذا مع ما قبله باطلان منابذان للسنة. واعلم أن الذكاة في المذبوح لا تحصل إلا بقطع الحلقوم والمريء بكمالهما، ويستحب قطع الودجين، ولا يشترط، وهذا أصح الروايتين عن أحمد. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم والمريء والودجين، وأسال الدم، حصلت الذكاة. قال: واختلفوا في قطع بعض هذا،

فقال الشافعي: يشترط قطع الحلقوم والمريء، ويستحب الوَدَجان، وقال الليث، وأبو ثور، وداود، وابن المنذر: يشترط الجميع. وقال أبو حنيفة: إذا قطع ثلاثة من هذه الأربعة، أجزأه. وقال مالك: يجب قطع الحلقوم والودجين، ولا يشترط المريء، وهذه رواية عن الليث أيضًا، وعن مالك رواية: أنه يكفي قطع الودجين، وعنه: اشتراط قطع الأربعة، كما قال الليث، وأبو ثور. وعن أبي يوسف ثلاث روايات: إحداها: كأبي حنيفة. والثانية: إن قطع الحلقوم واثنين من الثلاثة الباقية، حلَّت، وإلا فلا. والثالثة: يشترط قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال محمد بن الحسن: إن قطع من كل واحد من الأربعة أكثره، حلَّ، وإلا فلا. وكل هذه المذاهب داخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهرَ الدمَ فكلْ"، والله أعلم. ومنها: التصريح بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويُجري الدم، ولا يكفي رضُّها ولا دَمْغُها بما لا يُجري الدم. * * *

باب الأضاحي

باب الأضاحي هو جمع أضحية -بضم الهمزة وكسرها-، لغتان. ويقال لها: ضحية -بلا همز-، وجمعها: ضحايا، ويقال: أَضحاة؛ وجمعها أضحى؛ كأَرطاة وأرطى. ففي المفرد أربع لغات، وفي الجمع ثلاث لغات على لغات المفرد. وباللغة الثالثة من الجمع سمي يوم الأضحى (¬1). * * * عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكَبْشَبْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَينِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا (¬2). الأملح: الأغبر، وهو الذي فيه سواد وبياض. هذا الذي ذكره المصنف -رحمه الله- في تفسير الأملح هو قول الكسائي، إلا أنه زاد فيه: والبياض أكثر، وزاد المصنف فيه على قول الكسائي: الأغبر، ولم أره لغيره. وقال ابن الأعرابي وغيره: الأملح: هو الأبيض الخالص البياض. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 55)، و"النهاية في غريب الحديث" (3/ 76)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 109)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 477)، (مادة: ضحا). (¬2) رواه البخاري (5245)، كتاب: الأضاحي، باب: التكبير عند الذبح، ومسلم (1966)، كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية.

وقال الأصمعي: هو الأبيض، ويشوبه شيء من السواد. وهذا الذي قاله كأنه معنى قول المصنف: الأغبر. وقال أبو حاتم: هو الذي يعلو بياضه حمرة. وقال بعضهم: هو الأسود تعلوه حمرة. وقال الخطابي: هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود. قال الداودي: هو المتغير الشعر ببياض وسواد (¬1). وكأن المعنى في الأضحية الجامع لها: أن تكون مليحة في المنظر، وطيبِ اللحم، وكثرته. وقوله: "أقرنين"؛ أي: لكل واحد منهما قرنان حسنان. وقوله: "ووضعَ رجلَه على صِفاحِهما"؛ أي: صفحة عنقِ كل واحد منهما، وهي جانبه. وإنما فعل هذا؛ ليكون أثبت له وأمكن؛ لئلا تضطرب الذبيحة برأسها، فتمنعه من إكمال الذبح، أو تؤذيه. وورد النهي في بعض الأحاديث عن هذا، لكن حديث الكتاب أصح منه، والعمل عليه. وفي هذا الحديث أحكام: منها: شرعية الضحية، ولا خلاف أنها من شرائع الدين، وهي سنة مؤكدة، وهي مذهب الشافعي وأصحابه، وبه قال أحمد، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: هي واجبة على المقيمين من أهل الأمصار، ويعتبر في وجوبها النصابُ، وهو قول مالك، والثوري، ولم يعتبر مالكٌ الإقامةَ. ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 206)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 120)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 602)، (مادة: ملح).

والمالكية يقدمون فيها الغنم على الإبل، بخلاف الهدايا؛ فإن الإبل فيها مقدمة. والشافعية تقدم الإبل فيها. وقد يستدل المالكية باختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - للغنم في الأضاحي، وباختيار الله تعالى الغنم في فداء الذبيح. ومنها: استحباب تعداد الأضحية؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين. ومنها: استحباب التضحية بالأقرن، وأجمع العلماء على جوازها بالأَجَمِّ الذي لم يخلق له قرنان. واختلفوا في مكسور القرن: فجوزه الشافعي، وأبو حنيفة، والجمهور، سواء كان يَدْمى أم لا. وكرهه مالك إذا كان يدمى، وجعله عيبًا. ومنها: استحباب أحسنها وأكملها، واختيار ذلك لها، وهو مجمع عليه، وعلى عدم إجزاء المعيبة منها بالعيوب الأربعة الثابتة في الحديث الصحيح في "سنن أبي داود"، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من حديث البراء -رضي الله عنه-، وهي: المرض، والعجف، والعور والعرج البينان (¬1)، وكذا ما كان في معناها. ومنها: استحباب استحسان لون الأضحية، وهو مجمع عليه. وقد [قال] أصحاب الشافعي -رحمهم الله تعالى-: وأفضلها البيضاء، ثم الصفراء، ثم الغبراء: وهي غير الصافية البياض، ثم البلقاء، وهي ما كان بعضها أبيض، وبعضها أسود، ثم السوداء. وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح في وصف الكبش المضحّى به: "يَطَأُ في سَوادٍ وَيبْرُكُ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2802)، كتاب: الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا، والنسائي (4369)، كتاب: الضحايا، باب: ما نهي عنه من الأضاحي العوراء، والترمذي (1497)، كتاب: الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي، وابن ماجه (3144)، كتاب: الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحي به.

في سَوادٍ، وينظرُ في سوادٍ" (¬1)؛ معناه: أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود. ومنها: استحباب أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بنفسه، ولا يوكّل فيها إلا لعذر، وحينئذ يستحب أن يشهد ذبحها. وإن استناب فيها مسلمًا، جاز بلا خلاف، وإن استناب كتابيًّا، كره كراهة تنزيه، وأجزأه، ووقعت التضحية عن الموكِّل. وبهذا قال الشافعي والعلماء كافة، إلا مالكًا في إحدى الروايتين عنه، فإنه لم يجوزها، ويجوز أن يستنيب صبيًّا، وامرأة حائضًا، لكن يكره توكيل الصبي. وفي كراهة توكيل الحائض وجهان، لكنها أولى من الصبي، والصبي أولى من الكتابي. والأفضل أن يوكِّل مسلمًا فقيهًا بباب الذبائح والضحايا؛ لأنه أعرف بشروطها وسننها. ومنها: شرعية التسمية عليها، وكذا على سائر الذبائح، وهو مجمع عليه، لكن الخلاف وقع في أنها شرط أم مستحبة، وتقدم ذلك ودليله في الصيد. ومنها: استحباب التكبير مع التسمية عند الذبح، فيقول: باسم الله والله أكبر. ومنها: استحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية اليمنى (¬2). واتفق العلماء وعمل المسلمين على أن إضجاعها يكون على جانبها الأيسر، وإذا كان كذلك، كان وضع الرجل على الجانب الأيمن. قالوا: لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين وإمساك رأسها باليسار. ويستحب للإنسان أن يضحي عن نفسه وعن أهل بيته، وإشراكهم معه في الثواب. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1967)، كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) في "ح": "الأيمن".

وبهذا قال الشافعي، وجمهور العلماء، وكرهه الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وزعم الطحاوي أن الحديث المروي في جواز الإشراك في النية فيها منسوخ أو مخصوص. وغلطه العلماء في ذلك، وقالوا: إن النسخ والتخصيص لا يثبتان بمجرد الدعوى، والله أعلم. * * *

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ! إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ؛ مِنَ العِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالعَسَلِ وَالحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ: مَا خَامَرَ العَقْلَ، وَثَلاثٌ -أَيُّها النَّاسُ-، وَدِدْتُ أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا ننتَهِي إلَيْهِ: الجَدُّ، والكَلاَلَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوابِ الرِّبَا (¬1). اعلم أن الخمر نزل تحريمها بعد نزول سورة الأحزاب، في سورة المائدة. ولما قدم الدارميون من لخْمٍ عشرة أنفس في ربيع الأول سنة تسع من الهجرة: هانئ بن حبيب، والفاكه بن النعمان، وجبلة بن مالك، والوهيد بن برة، وأخوه الطيب بن برة، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، وزيد بن قيس، وعروة بن مالك، وأخوه برة بن مالك، وأهدوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله قد حرم الخمر"، فأَمروا ببيعها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الذي حرَّمَ شُربها حَرَّمَ بيعَها" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5266)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب، ومسلم (3032)، كتاب: التفسير، باب: في نزول تحريم الخمر. (¬2) رواه مسلم (1579)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

ولما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [البقرة: 219]، وكان سبب نزولها سؤال عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وجماعة من الأنصار أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: يا رسول الله! أَفْتنا في الخمر والميسر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ} الآية (¬1). قال المفسرون: أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات نزلت بمكة: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67]، فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ. ثم نزلت في مسألة عمر ومعاذ - رضي الله عنهما -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يقدم في تحريم الخمر" (¬2)، فتركها قوم لقوله تعالى: {إِثْمٌ كَبِيرٌ}، وشربها قوم لقوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}. إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتاهم بخمر، فشربوا وسكروا، فحضرت صلاةُ المغرب، فقدَّموا بعضَهم ليصلي بهم، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. .، هكذا إلى آخر السورة، بحذف "لا"، فأنزل الله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فحرم المسكر في أوقات الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، تركها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة (¬3)، فتركها قوم في أوقات الصلاة، وشربوها في غير حين الصلاة، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء، فيصبح وقد زال منه السكر، ويشرب بعد الصبح، فيصحو إذا جاءت الظهر. واتخذ عينان بن مالك ضيفًا، ودعا له رجالًا من المسلمين فيهم سعد بن أبي ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في "تخريج الأحاديث الآثار" (1/ 131): غريب بهذا اللفظ، وذكره الثعلبي هكذا من غير سند. (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 363)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12907). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 95).

وقاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا، وتناشدوا الأشعار، وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار، وفخر لقومه، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَ البعير فضربَ بها رأس سعد، فشجه موضِحَةً، فانطلق به سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشكا إليه الأنصاري، فقال عمر؛ اللهم بَيِّنْ لنا رأيك في الخمر بيانًا شافيًا، فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 90 - 91]، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام، فقال عمر: انتهينا يا رب (¬1). قال أنس: حرمت الخمر، ولم يكن للعرب عيشٌ أعجبُ منها، وما حرم عليهم شيء أشدّ من الخمر، والله أعلم. واعلم أن الآية في تحريمها فيها عشرة أوجه من الأدلة على تحريمها: الأول: وصفُها بأنها رجس من عمل الشيطان. الثاني: ضمها إلى الميسر والأنصاب والأزلام. الثالث: ترجي الفلاح لمُجتنبها. الرابع: إرادة الشيطان إيقاع العداوة بين المؤمنين بسببها. الخامس: إرادته إيقاع البغضاء فيها. السادس: صدها عن ذكر الله تعالى. السابع: صدها عن الصلاة. الثامن: كونها من عمل الشيطان. التاسع: إرادة الشيطان لما يترتب عليها بمجرده يقتضي تحريمها. العاشر: استفهام الانتهاء عنها بهل، يقتضي أمرين: أحدهما: البلاغة في النهي. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2/ 125)، والحاكم في "المستدرك" (7224).

الثاني: اللطف في طلب النهي، ويتضمن ذلك فضل ربنا علينا من جميع الوجوه، اللهم أوزعنا شكر نعمتك، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، والله أعلم. قوله: "نزلَ تحريمُ الخمرِ وهي من خمسةٍ؛ من العنبِ، والتمرِ، والعسلِ، والحنطةِ، والشعيرِ"؛ هذا إشارة من عمر - رضي الله عنه - إلى أن القرآن نزل أمره ونهيه على وفق اصطلاح الناس فيما يفعلونه ويجتنبونه؛ فإن الخمر كانت حينئذ من هذه الأشياء، فلا يحملونها على واحد متخذ من هذه الخمسة، بل منها ومن غيرها، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -: والخمرُ: ما خامرَ العقل، وقال ذلك في خطبته بمشهد من الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، ولم يردَّ ذلك عليه أحد، بل أقروه، ونقلوه، وعملوا به، وصار ذلك إجماعًا. وإنما حمل عمرَ - رضي الله عنه - على ذلك، وقوله في الخطبة: فإن أهل الحجاز قالوا: الخمر ما اعتصر من العنب فقط، وخَصُّوه به، فأراد -رضي الله عنه- أن يعرفهم أن القرآن إنما نزل على وَفْق العادة فيما يتخذ منه، لا بالنسبة إلى لغتكم يا أهل الحجاز. وقوله: "وهي من خمسة"، وذكرَها، هي جملة في موضع الحال. وقوله: "والخمرُ: ما خامرَ العقلَ" ثلاث مجاز تشبيه، وهو من باب تشبيه المعنى بالمحسوس. واعلم أن العقل معنى قائم بإدراك الموجودات، وهو في الإنسان قائم ببدنه ونفسه وروحه، فإذا سكر واحد من هذه الثلاثة، سكر الباقيان، وزال العقل المدرك. والإدراك هو مطلوب لله تعالى من العباد؛ ليقوموا بسببه بالعبودية، وإذا كان ذلك كذلك، كان فقدُ العقل سببًا لفقد الإدراك المطلوب، فلذلك حرم ما خامره مخامرة محاله؛ وهي البدنُ والنفسُ والروحُ، فجميع المشروبات المسكرات تخامر بدن الإنسان، فتخامر نفسه وروحه، وجميعُ الشهوات؛ كالعشقِ واللهو

والطرب وغيرِها تخامر النفس، فتخامر البدنَ والروح، وجميعُ النغمات تخامر الروح، فتخامر النفس والبدن. فإن كان مأذونًا فيها؛ كطيب الصوت بالقرآن والذكر، والنظم الذي فيه معنى يناسبهما، كان [ذلك] (¬1) سببًا لإنعاش العقل ومزيد إدراكه، وإن كان غير مأذون فيه؛ كالشعر بغير الحكمة، وبالهجاء والغزل ووصف المحرمات والشهوات والملهيات؛ حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الشعر: "إنه نفثُ الشيطان" (¬2)، كان سببًا لإنعاش الروح والنفس، لكنه بسبب غير مأذون فيه، فتسكر الروح به، وتستلذ به، فيحصل لها السكون، فيظن أن ذلك السكون هو المشاهدات والمكاشفات، فتسكن إليه إلى ظنها، فيفوتها المقصود، وذلك عين الجنون، فلذلك جميعِه حرم الشرعُ جميعَ أنواع السكر. ومن هاهنا رحل الشيطان على المتقفرة والمتصوفة؛ حيث سكنت أرواحهم ونفوسهم إلى طيب الأنغام المضافة إلى المعاني الشعرية، فاشتغلت به عن المعاني الذكرية والحكمية بواسطة الملاهي والمطربات، والله أعلم. وقولُه - رضي الله عنه -: "ثلاث وددتُ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عهدَ إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه": إنما ودَّ ذلك؛ حيث إنه أبعد عن الشبهة بالاجتهاد وعدم الإصابة، وإن كان مأجورًا عليه أجرًا واحدًا، بخلاف النص فيه؛ فإنه إصابة محضة لا مدخل للاجتهاد فيه، بل هو عبودية محضة، وانقياد، وعدم تقلد، بل هو تقليد، والله أعلم. وقوله: "الجدُّ" يريد: ميراثَه؛ وقد كان للسلف المتقدمين فيه خلاف كثير، ومذهب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أنه بمنزلة الأب عند عدم الأب. وقوله: "والكَلالةُ"؛ هي من لا أب له ولا ولد له عند الجمهور، وآية الكلالة ¬

_ (¬1) ليست في "ح". (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 403)، وأبو يعلى في "مسنده" (5077)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. وفي الباب عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-.

نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريق مكة في حجة الوداع، وتسمى: آيةَ الصيف. وقوله: "وأبوابٌ من أبواب الربا"؛ حيث إن تفاصيله كثيرة، والاشتباه يقع بينه وبين البيع كثير، فيحتاج العالم والحاكم في النظر والفصل بينهما إلى تعب وكلفة. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أن الخطب مشروعة لتبيين الأحكام للناس، خصوصًا إذا وقع الاشتباه والاختلاف فيها من الإمام والعالم ونحوهما. ومنها: استحباب قول: "أما بعد" في الخطبة بعد الثناء على الله تعالى، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبل الكلام في المقصود. ومنها: التنبيه للناس بالنداء، وأيها. ومنها: ذكر الدليل على المقصود فيها. ومنها: تحريم الخمر. ومنها: التصريح بتحريم جميع الأنبذة المسكرة، وأنها كلها تسمى خمرًا، وسواء في ذلك نبيذ التمر والزبيب والعسل والحبوب وأنواع ذلك جميعه ممّا ينبذ، فكلها محرمة، وتسمى خمرًا. وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء من السلف والخلف. وقال قوم من أهل البصرة: إنما يحرم عصير العنب ونقيع الزبيب النِّيء، فأما المطبوخ منهما، والنيء، والمطبوخ مما سواهما، فحلال، ما لم يشرب ويُسكر. وقال أبو حنيفة: إنما يحرم عصير ثمرات النخل والعنب، قال: فسلاقة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها. قال: وأما نقيع التمر، فقال: يحل مطبوخها، وإن مسته النار شيئًا من غير

اعتبار لحد، كما اعتبر في سلاقة العنب. قال: والنِّيء منه حرام، قال: ولكن لا يحد شاربه. هذا كله ما لم يشرب ويسكر، فإن سكر، فهو حرام بإجماع المسلمين. واحتج الجمهور بالقرآن والسنة. أما القرآن: فهو أن الله تعالى نبه على أن علة تحريم الخمر كونُها تصدُّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهذه العلة موجودة في جميع المسكرات البدنية والنفسية والروحية، فوجب طردُ الحكم في الجميع من المسكر في جميع محاله. فإن قيل: إنما يحصل هذا المعنى في الإسكار، وهو مجمع عليه. قلنا: وقد أجمعوا على تحريم عصير العنب وإن لم يسكر، وقد علل تحريمه بما سبق، فإذا كان ما سواه في معناه، وجب طرد الحكم في الجميع، ويكون التحريم للجنس المسكر، وعلل بما يحصل من الجنس في العادة. وهذا إنما يقع التحريم فيه إذا عصر لقصد الخمرية، أما إذا عصر لقصد الخَلِّيَّة، فالتحريم فيه حالَ كونه خمرًا، أما في حال عصره، فلا يحرم؛ حيث لم يسكر، ولم يقصد بعصره الخمرية، وأما في حال كونه يصير خلًّا؛ فلأنه قصد بعصره له دون الخمرية. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الإدامُ الخلُّ"، ولو كان حرامًا، لم يقل ذلك؛ حيث إنه لا يتصور وجود خل إلا بعد تخميره. ولما كان الأمر كما ذكرنا، وأن كان الأحكام تتبدل بحسب الصفات والمقاصد، قام ذلك مقام التصريح بالنطق وأبلغ، وجب أن يجعل الإسكار هو علة التحريم. وأما السنة: فهذا الحديث في خطبة عمر - رضي الله عنه -، والحديث الآتي: "كُلُّ شَرابٍ أَسْكَرَ فَهوَ حَرامٌ" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "كلُّ مُسْكِرٍ حرام" (¬2)، ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) رواه البخاري (4087)، كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل =

الحديث الثاني

ونهيُه عن كلِّ مسكر، وكلُّ مسكرٍ حَرامٌ، "وكُلُّ مسكرٍ خَمْرٌ" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر أسكر عن الصلاة (¬2)، والله أعلم. ومنها: التنبيه على شرف العقل وفضله. ومنها: استحباب أن يود الإنسان الخيرَ وعدمَ الاشتباه، والبيانَ الواضح؛ لعدم وقوع الاختلاف، ولإرادة الوفاق. ومنها: إبراز ذلك وإيضاحه للناس. ومنها: أن المعتبر في الأحكام الشرعية مفاهيم الصحابة -رضوان الله عليهم- ولغاتهم وحالهم؛ حيث إن القرآن العزيز نزل عليهم بلغتهم وفَهْمهم، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ عَائشِةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أُنَّهُ سُئِلَ عَنِ البِتْعِ، فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ" (¬3). البِتْعُ: نَبِيذُ العَسَلِ. البتع -بكسر الباء الموحدة بلا خلاف، وسكون التاء المثناة فوق، ويقال بفتحها أيضًا؛ كقِمْع وقِمَع-. وقد فسره المصنف بنبيذ العسل، وكذا قاله غيره. ¬

_ = -رضي الله عنهما- إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم (1733)، (3/ 1586)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، عن أبي موسى - رضي الله عنه -. (¬1) رواه مسلم (2003)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه مسلم (1733)، (3/ 1586)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، عن أبي موسى - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (5263)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العسل وهو البتع، ومسلم (2001)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام.

الحديث الثالث

وقال غيره: هو شراب العسل، وهو خمر أهل اليمن (¬1). وفي الحديث دليل: على تحريمه، وتحريم كل مسكر. وأهل الحجاز يرون أن المراد بالشراب: الجنس والعين، والكوفيون يحملونه على القدر المسكر. وعلى قول الأكثرين الأولين؛ يكون المراد بكونه أنه مسكر بالقوة؛ أي: فيه صلاحية ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاَنًا! ألَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ! حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا" (¬2). جملوها: أذابوها. فلان المبهم في هذا الحديث الذي باع الخمر، وقال عمر - رضي الله عنه -: قاتله الله؛ هو: سمرةُ بنُ جندب. قاله الخطيب البغدادي في "مبهماته"، وابن بشكوال، والله أعلم (¬3). وتقدم الكلام على الشحوم وأحكامها وما يتعلق بذلك من الأدهان في آخر باب: العرايا، من كتاب: البيوع. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 77)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 94)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 169)، و"لسان العرب" لابن منظور (8/ 4)، (مادة: بتع). (¬2) رواه البخاري (2110)، كتاب: البيوع، باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع وَدَكُه، ومسلم (1582)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. (¬3) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 604). قلت: قد جاء مصرّحًا باسم سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في رواية مسلم، فعزو ذلك إلى الخطيب وابن بشكوال من الغرابة بمكان، والله أعلم.

وفي الحديث دليل: على تحريم الخمر وبيعها. وفيه دليل: على تحريم بيع ما حرمت عينه مطلقًا. وفيه دليل: على استعمال الصحابة -رضي الله عنهم- القياسَ في الأمور من غير نكير؛ لأن عمر - رضي الله عنه - قاس بيعَ الخمر عند تحريم عينها على بيع الشحوم عند تحريمها، وهو قياس من غير شك. وفيه دليل: على تأكيد جواز استعمال القياس؛ حيث دعا عمر -رضي الله عنه- على مَنْ خالفه فباعها بقوله: قاتل الله فلانًا. وفيه دليل على تحريم الحيل المحرمة، والدعاء على فاعلها، والله أعلم. * * *

كتاب اللباس

كتاب اللباس الحديث الأول عَن عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ؛ فَإنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَة" (¬1). أما الحرير؛ فهو اسم جنس، واحدته هريرة، ذكره الجوهري. وقال أبو هلال العسكري: ويقال له: الدِّمَقْسُ، والسَّرَقُ، والسيَراء. [وقيل: السيراء] (¬2): ضربٌ من البرود مسير مخطط، وهو عربي، وقيل: فارسي معرب، وهو ضعيف. وإنما سمي حريرًا؛ لأنه من خالص الإبْرِيسَم. وأصل هذه الكلمة الخلوص، ومنه قولهم: طين حر؛ لأنه لم يخالطه رمل أو حمأة. وقيل للحر خلاف العبد: حر؛ لأنه خالص لنفسه، وحررتُ الكتاب: خَلَّصته من التسويد. هذا آخر كلامه، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلبَسُوا الحريرَ"؛ هذا خطاب للذكور، فلا يدخل فيه الإناث، كما قال عبد الله بن الزبير في خطبته: لا تُلْبِسوا نساءكم الحرير، مستدلًا بهذا الحديث على تحريمه عليهن، وهو مذهبه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5496)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحربر وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، ومسلم (2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وهذا لفظ مسلم. (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح".

لكنه وقع الإجماع على إباحته لهن، وخطاب الذكور لا يتناول النساء عند الإطلاق عند محققي الأصوليين، والأحاديث الصحيحة في "صحيح مسلم" مصرحة بإباحته لهن؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليًّا وأسامة أن يكسوا الحرير نساءهما، والحديث مشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحرير والذهب: "إن هَذَيْنِ حَرامٌ على ذُكور أُمَّتي، حِلٌّ لإنِاثها" (¬1)، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنه من لبسَه في الدنيا، لم يلبسْهُ في الآخرة"؛ هذا علَّة منه - صلى الله عليه وسلم - للمنع من لبسه، وكأنه إشارة إلى ما فيه من التنعم والتزيين، فقوبل من لبسه في الدنيا بمنعه إياه في الآخرة؛ كما مُنع مَنْ شرب الخمر في الدنيا، [بمنعِه] (¬2) شربَها في الآخرة، وكذلك من طرب في الدنيا بغير مأذون فيه صورة ومعنى، لم يطرب في الآخرة؛ فالطرب في الشرع: هو عبارة عن فكر يطرأ عند التدبر فيما يسمعه، والمأذون فيه: هو القرآن، والحديث النبوي، وغيرهما من الأحكام والحكم والمواعظ، نثرًا ونظمًا، فمن طرب بغير ذلك بغير صورة الطرب شرعًا، لم يطرب في الآخرة. ولفظ هذا الحديث بذكر هذه العلة، عامٌّ في الرجال والنساء، لكنه مخصوص في النساء بأحاديثِ الإذن لهن في لبسه، فيبقى على منعه في الرجال. ولا نقول: إن عموم هذا الحديث ناسخ؛ لخصوص الإذن في النساء؛ لعدم معرفة التاريخ، والمتقدم منها والمتأخر. نعم، لو قيل بكراهته لهن، لم يبعد، لكني لا أعلم من قال به الآن، فإنهم قالوا: هو مباح لهن بالإجماع، وهو مستوي الطرفين، والكراهة ترجيحُ جانب ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4057)، كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء، والنسائي (5144)، كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه (3595)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 96)، وابن حبان في "صحيحه" (5434)، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬2) ليست في "ح".

المنع على الإباحة، لكنه قد يكون الشيء مكروهًا بالنسبة إلى تنقيص الثواب في الآخرة، لا للإذن فيه في الدنيا. ومثل هذا في أحكام الدنيا امتناعُ الملائكة من دخول البيت الذي فيه صورة، مع الإذن في جواز افتراش الذي فيه الصورة؛ جلوسًا ونومًا وحذاء. وكذلك من يُجوِّز شرب الخمر للتداوي؛ فإن مقتضى الحديث منعُ من شربها في الآخرة مطلقًا، له ولغيره. وبالجملة، فالكراهة لهن غير بعيدة، ولو لم تكن لشيء إلا لكون الخلاف قد حكي في تحريمه عليهن قبل الإباحة. كيف وقد روى النَّسائيُّ بإسناد حسن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمنع أهله الحلية والحرير، ويقول: "إن كنتم تحبون حِلْيَةَ الجنةِ وحريرَها، فلا تَلْبَسوها في الدنيا" (¬1). وهذا يقوي ما فهمه ابن الزبير من المنع، والإجماع مع الأحاديث الصحيحة يمنع التحريم عليهن، فيحملى حديث عقبة بن عامر، ومنعُ ابن الزبير وغيره: على كراهة التنزيه؛ جمعًا بين الأدلة، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل: على تحريم مطلق الحرير، وهو محمول عند جمهور العلماء على الخالص منه في حق الرجال، والنهي عندهم للتحريم. والممتزج بغيره اختلف الفقهاء فيه اختلافًا كثيرًا: فمنهم: من منعه مطلقًا للرجال؛ لأجل مسمى الحرير، إلا فيما خرج عنه بالإجماع، فيحل، ويبقى فيما عداه على التحريم. ومنهم: من اعتبر في التحريم الغلبة، فمنهم من اعتبرها بالظهور وفي الرؤية؛ كالعتابي؛ فإن الظهور فيه أغلب من الوزن، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه النَّسائيُّ (5136)، كتاب: الزينة، باب: الكراهية للنساء في إظهار الحلي والذهب، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 145)، وابن حبان في "صحيحه" (5486)، والحاكم في "المستدرك" (7403).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَن حُذَيفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ، وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشرَبُوا فِي آنِية الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّها لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَة" (¬1). تقدم الكلام على حذيفة. وأما الديباج؛ فهو بكسر الدال وفتحها عجمي معرب، جمعه ديابيج ودبابيج؛ وهو ما غَلُظَ وثَخُنَ من ثياب الحرير. وذكره بعد الحرير، وإن كان نوعًا منه، هو من باب ذكر الخاص بعد العام. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تأكلوا في صحافِها". الصِّحافُ: جمع صَحْفَة، وهي دون القصعة، قال الجوهري: قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنةُ، ثم القصعةُ تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المُكيلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنها لهم في الدنيا"؛ أي: للكفار، ومعناه: أن الكفار إنما يحصل لهم ذلك في الدنيا، وأما الآخرة، فما لهم فيها من نصيب، وأما المسلمون، فلهم في الجنة الحرير والذهب، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وليس في الحديث حجة لمن يقول: الكفار غير مخاطبين بفروع الشرع؛ لأنه لم يصرح بإباحتها لهم، وإنما أخبر عن الواقع في العادة أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا، وإن كان حرامًا عليهم كما هو حرام على المسلمين، وإنما ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5110)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكْل في إناء مفضض، ومسلم (2067)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 37)، و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 187).

ذكر ذلك تنبيهًا على تحريم التشبه بهم فيما يعانونه من أمور الدنيا؛ تأكيدًا للمنع منه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكم في الآخرة"؛ أي: يوم القيامة، وإنما ذكر ذلك؛ لئلا يظن أنه يحصل ذلك بمجرد الموت، وأنه يصير في أحكام الآخرة في هذا الإكرام، فبين - صلى الله عليه وسلم - أنما ذلك في يوم القيامة وبعده في الجنة أبدًا، فتكون لهم يوم القيامة حكمًا، وتستمر في الجنة أبدًا، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل: على تحريم لبس الحرير والديباج مطلقًا. وذكر أصحاب الشافعي أنه يجوز لبس الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح حالة القتال، وكأنهم يجعلون ذلك من الأمور المحتاج إليها أنها كإذنه - صلى الله عليه وسلم - في لبس الحرير للحكة، والله أعلم. وفيه دليل: على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة مطلقًا، وتخصيص الشرب والأكل بالنهي دون غيرهما من الحالات؛ لكونهما الغالب في الاستعمال، لا لتقييده بهما. وللشافعي قول ضعيف: أن المنع منهما للتنزيه، وهو متفق على ضعفه. واختلف في تعليل المنع منهما، فقيل: للسرف والخيلاء. وقيل: لتعليل النقدين؛ حيث إن الحكمة اقتضت الانتفاع بهما في المعاملات، فلا يُضيَّق على الناس في ذلك؛ بجعلهما في غيره، والله أعلم. وفيه: التنبيه على منع التشبه بالكفار. وفيه: التحضيض على الصبر عن ذلك احتسابًا لنيله في الآخرة؛ حيث إنها الباقية، وما عداها فانٍ، والتعلق بالباقي خير من التعلق بالزائل الفاني، والله أعلم. * * *

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنِ البرَاء بْنِ عَازِب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ، فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنكبَيْهِ، بَعِيد ما بينَ المَنكِبَيْنِ، لَيْسَ بِالقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ (¬1). تقدم الكلام على البراء بن عازب. وأما اللِّمَّة -بكسر اللام وتشديد الميم وتاء التأنيث المكتوبة هاء-، وهي من شعر الرأس دون الجمة، سميت بذلك؛ لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زادت، فهي الجمة (¬2). وأما الحلة؛ فهي ثوبان غير لفقين، رداءٌ وإزارٌ، سميا بذلك حلة؛ لأن كل واحد منهما يحل على الآخر، والحلة واحدُ الحلل. قال الخليل: ولا يقال حلة لثوب واحد، وقال أبو عبيد: الحلل: برود اليمن، وقال بعضهم: ولا يقال لها حلة حتى تكون جديدة؛ لحلها عن طيها (¬3). وفي الحديث: أنه رأى رجلًا عليه حلة؛ اتزر بأحدهما، وارتدى بالأخرى (¬4)، وهذا يدل على أنهما ثوبان. وقوله: "وله شعرٌ يضربُ مَنكِبيه"؛ المنكب: ما بين الكتف والعنق، والمراد: أن شعره - صلى الله عليه وسلم - مسترسل غير مضفور ولا مكفوف. وفي الحديث دليل: على جواز لبس الأحمر. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3358)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2337)، كتاب: الفضائل، باب: في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 273)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 233)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 551)، (مادة: لمم). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 228)، و"العين" للخليل (3/ 28)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196)، و"النهاية في غريب الحديث"لابن الأثير (1/ 432). (¬4) تقدم تخريجه.

الحديث الرابع

وأما الأحاديث الواردة في المنع من الثياب الحمر للرجال في "سنن أبي داود" وغيره (¬1)، ففي أسانيدها مقال، ولو ثبتت، لكانت محمولة على خلاف الأولى، والله أعلم. وفيه دليل: على اعتناء الصحابة -رضي الله عنهم- بضبط أحواله - صلى الله عليه وسلم - وهيئاته، ونقلِها إلى الناس تبركًا وتأسيًا. وفيه: استحبابُ إرسال شعر الرأس للرجل. وكان لشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حالان؛ أحدهما: إلى المنكبين إذا طال. والثاني: إلى شحمة أذنيه إذا قصره، والله أعلم. ويستحب الاقتداء به في هيئاته، وأموره الخلقية، وما كان منها ضروريًّا لم يتعلق به استحباب على وضعه. والله أعلم. * * * الحديث الرابع عَنِ البرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيضًا، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازةِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإبْرَارِ القَسَمِ أوِ المُقْسِم، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِجَابةِ الدَّاعِي، وَإفْشَاءِ السَّلاَمِ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ تَخَتُّم بالذهَبِ، وَعَنِ الشُّرْبِ بِالفِضَّةِ، وَعَنِ المَيَاثِرِ، وَعنِ القَسِّيِّ، وَلُبْسِ الحَرِيرِ وَالإسْتبرَقِ وَالدِّيبَاجِ (¬2). قوله: "وعن المياثر"؛ هي جمع مئثرة بكسر الميم، والمياثر بكسر الثاء ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4070)، كتاب: اللباس، باب: في الحمرة، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 463)، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -. وفي الباب: عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه البخاري (4880)، كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، ومسلم (2066)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وهذا لفظ مسلم.

المثلثة، قبل الراء، وهي أوطية كانت النساء تضعها لأزواجهن على السُّرج، وكانت من مراكب المعجم، وتتخذ من الحرير ومن الصوف وغيرهما. وقيل: هي أغشية للسروج تتخذ من الحرير، وقيل: هي سروج من الديباج. وقيل: هي شيء كالفراش الصغير تتخذ من حرير يحشى بقطن أو صوف، ويجعلها الراكب تحته فوق الرجل. والمئثرة، مهموزة، وهي مِفْعلة من الوثارة. ويقال: وثر: بضم الثاء، وثارة بفتح الواو، فهو وثير؛ أي: وطيء لين. وأصلها: مؤثرة، فقلبت الواو ياءً للكسرة قبلها، كما في ميزان وميقات وميعاد؛ من الوزن، والوقت، والوعد، وأصله: مِوْزان، ومِوْقات، ومِوْعاد (¬1). فالمئثرة إن كانت من الحرير؛ كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام؛ لأنه جلوس على حرير، والجلوس على الحرير حرام على الرجال. وفي "صحيح البخاري" عن يزيد بن رومان: أن المراد بالمئثرة: جلود السباع (¬2)، وهو قول باطل مخالف لما أطبق عليه أهل اللغة والحديث وسائر العلماء (¬3)، والله أعلم. وأما القَسِّي؛ فهو بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، قال أبو عبيد: أهل الحديث يكسرون القاف، وأهل مصر يفتحونها. وهذا الذكره قاله هو قول بعض أهل الحديث. والصحيح المشهور فتحها. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 279)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 33)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 278)، (مادة: وثر). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (5/ 2195) معلقًا بصيغة الجزم. (¬3) وهذا قول النووي -رحمه الله- في "شرح مسلم" (14/ 33). قال ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 293): قلت: وليس هو بباطل، بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت المئثرة وطاء صنعت من جلد ثم حشيت، والنهي حينئذ عنها إما لأنها من زي الكفار، وأما لأنها لا تعمل فيها الذكاة، أو لأنها لا تذكى غالبًا، فيكون فيه حجة لمن منع لبس ذلك ولو دبغ، لكن الجمهور على خلافه، وأن الجلد يطهر بالدباغ. اهـ.

واختلف في تفسيره: فقال مسلم بن الحجاج: فأما القسط، فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه. وقال البخاري: فيها حرير أمثال الأترج. وقال أهل اللغة وغريب الحديث: هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس، -بفتح القاف- وهي قرية على ساحل البحر قريبة من "تنيس". وقيل: هي ثياب كتان مخلوط بحرير. وقيل: هي ثياب من القز، وأصله القزي بالزاي، منسوب إلى القز، وهي رديء الحرير، فأبدل من الزاي سين (¬1). وهذا القسي، إن كان حريره أكثر من الكتان، فالنهي عنه للتحريم، وإلا فلكراهة التنزيه. وأما الإِستبرق؛ فغليظ الديباج. وتقدم ذكر الديباج في الحديث الثاني من هذا الباب. والإستبرق والديباج حرام؛ لأنهما من الحرير. وذكر الديباج بعد الإستبرق، إما من باب ذكر العام بعد الخاص؛ ليستفاد بذكر الخاص: فائدة التنصيص، ومن ذكر العام: زيادة إثبات الحكم في النوع الآخر، أو يكون ذكر الديباج من باب التعبير بالعام عن الخاص، ويراد به: ما رقَّ من الديباج ليقابل ما غلظ وهو الإستبرق. وقد قيل: الإِستبرق لغة فارسية، انتقلت إلى لغة العرب، وذلك الانتقال لضرب من التعبير، كما العادة عند التعريب. ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2195)، و "صحيح مسلم" (3/ 1659)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 226)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 193)، و "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 59).

وفي هذا الحديث أحكام: منها: شرعية عيادة المريض، وهي سنة بالإجماع، وسواء فيه من تعرفه ومن لا تعرفه، والقريب والأجنبي. واختلف العلماء في الأوكد والأفضل منهما. وقد تجب العيادة؛ حيث يضطر المريض إلى من يتعاهده، وإن لم يُعَدْ، ضاعَ. وأوجبها الظاهرية من غير هذا القيد؛ لظاهر الأمر. واختلف الأصوليون في الاعتذار يقول داود الظاهري وأتباعه في الإجماع والخلاف. والمحققون يقولون: لا يُعتد به؛ لإخلالهم بالقياس، وهو أحد شروط المجتهد الذي يعتد به، والله أعلم. ومنها: شرعية اتباع الجنائز، وهي سنة بالإجماع، وسواء فيه من يعرفه وقريبه وغيرهما. ويحتمل أن يراد به: اتباعُها للصلاة عليها، فإن كان ذلك هو المراد، فهو من فروض الكفايات عند الجمهور، ويكون التعبير بالاتباع عن الصلاة من باب مجاز الملازمة في الغالب؛ لأنه ليس من الغالب أن يصلى على الميت ويدفن في محل موته. ويحتمل أن يراد به: الرواحُ إلى محل الدفن لمواراته، والمواراة -أيضًا- من فروض الكفايات عند الجمهور لا تسقط إلا بمن تتأدى به. ومنها: شرعية تشميت العاطس؛ وهو قول سامع العاطس: "يرحمك الله"؛ بشرط حمدِ العاطسِ اللهَ تعالى، وإسماعِه المشمتَ حمدَه، وكونِه مسلمًا. والتشميتُ بالشين المهملة والمعجمة لغتان. قال الليث: ومعناه: ذكرُ الله تعالى على كل شيء، ومنه قولك للعاطس: يرحمك الله.

وقال: ثعلب: يقال: سَمَّتُّ العاطسَ، وشَمَّتُّهُ: إذا دعوت له بالهدى والطريق المستقيم. قال: والأصل فيه: السين المهملة، فقلبت شينًا معجمة. وقال صاحب "المحكم": تشميت العاطس معناه: هداك الله إلى السمت، قال: وذلك لما في العطاس من الانزعاج والقلق. وقال أبو عبيدة وغيره: الشين المعجمة أعلى اللغتين. وقال ابن الأنباري: يقال: منه شمَّته، وسمَّتُّ عليه: إذا دعوت له بخير، وكل داع بخير فهو مشمِّت، ومسمِّت (¬1). قال العلماء من الشافعية وغيرهم: تشميت العاطس سنة على الكفاية، إذا فعله بعضُ الحاضرين، سقط الأمر عن الباقين. قالوا: ولكن الأفضل أن يشمته كل واحد من الحاضرين؛ لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "كانَ حَقًّا على كُلِّ مسلمٍ سَمِعَهَ أَنْ يقولَ لهُ: يَرْحَمُكَ الله" (¬2). وأوجب ذلك على كل من سمعه: ابن مزين من المالكية. وأجازه ابن العربي المالكي، وهو ظاهر الحديث، والله أعلم. ومنها: شرعية إبرار القسم والمقِسم؛ ومعناه: إبراره بالوفاء بمقتضاه وعدم التحنيث فيه. فالمُقسِم بضم الميم وكسر السين، فيكون في الكلام حذف مضاف تقديره: وإبرار يمين المقسم، والقَسَم بفتح القاف والسين، فيكون قوله: القسم أو المقسم شكًّا من الراوي، ويحتمل أن يكون المَقْسَم بفتح الميم والسين بمعنى، ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 499)، و"شرح مسلم" للنووي (18/ 120)، و"القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 198)، (مادة: شمت). (¬2) رواه البخاري (5872)، كتاب: الأدب، باب: إذا تثاوب فيضع يده على فيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

القسم، فيكون اللفظان بمعنى كرر لتغاير الألفاظ، فلا تكون "الواو" للشك، وهو سنة مؤكدة، إذا لم يكن على المقسَم عليه ضرر ولا مفسدة في دين ولا دنيا، فإن كان شيء من ذلك، لم يبر قسمه. كما ثبت أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما عبر الرؤيا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا"، فقال: أقسمتُ عليكَ يا رسولَ الله لتخبرني، فقال: "لا تُقْسِمْ" ولم يخبره (¬1). ثم القسم يكون تارة على سبيل اليمين؛ كقوله: "والله لتفعلن كذا"، فهو آكد من غيره في إبراره القسم، وتارة يكون على سبيل التحليف؛ كقوله: "بالله افعل كذا"، فهو دون الأول في تأكيد الإبرار للقسم؛ لأن فيه إيجاب الكفارة على المقسم، وهي تغريم المال، وذلك إضرار به، بخلاف الثاني، فإنه عارٍ عن ذلك، والله أعلم. ومنها: شرعية نصر المظلوم، وهو من الفروض اللازمة لمن علم ظلم المظلوم وقدر على نصره، ولم يخفْ ضررًا؛ لما فيه من فعل المعروف معه، وإزالة المنكر عن ظالمه. وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل: يا رسول الله! أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؛! قال: "تمنعُه من الظلم، فذاك نَصْرُكَ إياه" (¬2)، وذلك دفع الضرر عن المظلوم في الدنيا، والظالم في الآخرة، والله أعلم. ومنها: شرعية إجابة الداعي؛ وهي عامة، والاستحباب شامل، ما لم يقم مانع. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6639)، كتاب: التعبير، باب: من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب، ومسلم (2269)، كتاب: الرؤيا، باب: في تأويل الرؤيا، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه البخاري (6552)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

وقد توسع الفقهاء من الشافعية وغيرهم في الأعذار المرخصة لتركها، وعدم الإجابة، وجعل بعضها مخصصا لهذا العموم في إجابة الداعي. ولا شك أن منها ما يجب أن يكون عذرًا، ومنها ما لا ينبغي أن يكون عذرًا؛ كقولهم: لا تجب إجابة من لا يليق بالمدعو مجالسته؛ لما فيه من نقص مرتبته وتبذله بإجابته؛ لفضله، وهذا إن نقص فضله وعدم قبوله، فالأمر كما قالوه، وإن نقص مجرد الرتبة عادة، لكنه حصل خير وتواضع ومزيد خير أخروي للداعي من غير نقص أخروي أو ضرر دنيوي للمدعو، فلا شك أن هذا مشروع مسنون مؤكد، ولا يكون ذلك عذرًا في عدم الإجابة، ولا مخصصًا للعموم، والله أعلم. وتقدم الاختلاف في وجوب وليمة العرس، وعدد الولائم الإسلامية في النكاح. ومنها: إفشاء السلام، وهو إشاعته وبذله والإعلان به لكل مسلم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "وتقرأُ السلامَ على مَنْ عرفتَ ومن لم تعرف" (¬1)، وتعلقت بذلك مصلحة المودة المطلوبة للشرع في إشارته - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح في قوله: "أولًا أَدُلُّكُمْ على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاَببْتُم؟ أَفْشُوا السلامَ بَيْنَكُمْ" (¬2). والإفشاء يكون: في الابتداء بالسلام ورده، فالابتداء به سنة بالإجماع، والرد فرض بالإجماع، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا، تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة، كان فرضَ كفاية في حقهم، إذا ردَّ أحدُهم، سقط الحرج عن الباقين. واعلم أنه قد وقع الأمر بهذه الأمور السبعة بصيغة واحدة، وبعضها للإيجاب وبعضها للندب. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (12)، كتاب: الإيمان، باب: إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم (39)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه مسلم (54)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ولا شك أن أصل الأمر للإيجاب، وهو حقيقة فيه. فإذا حملنا بعضه على الندب، وبعضه على الإيجاب، كنا قد استعلمنا اللفظة الواحدة في الحقيقة الواحدة والمجاز معًا، وذلك ممنوع على مذهب من يمنع ذلك، لكنه وقع في الكتاب العزيز عطف الواجب على غير الواجب في غير موضع بصيغتين مختلفتين في لفظهما ومعناهما، وهاهنا اتفق لفظ الأمر، واختلف معنى المأمور به، فتكون الصيغة في الأمر موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب من رجحان الفعل، ومطلق الطلب، ولا يكون دالًا على أحد الخاصتين؛ الوجوب والندب، فتكون اللفظة مستعملة في معنى واحد، والله أعلم. ومنها: تحريم التختُّم بالذهب على الرجال، وهو مجمع عليه، وكذا لو كان بعضه ذهبًا وبعضه فضة، فإنه حرام. قال أصحاب الشافعي -رحمهم الله-: ولو كان سن الخاتم ذهبًا، أو كان مموهًا بذهب يسير، فهو حرام؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر في الحرير والذهب: "إِن هَذَينِ حرامٌ على ذُكور أُمَّتي" (¬1). وقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- في "مسنده": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تحلَّى ذهبًا، أو حلَّى ولدَه مثلَ خربصيصة، لم يدخلِ الجنةَ" (¬2). والخربصيصة: هي الجنة التي تتراءى في الرمل، لها بصيصٌ كأنها عينُ جرادة. ومنه الحديث: "إن نعمَ الدنيا أقلُّ وأصغرُ عند اللهِ من خربصيصةٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 182)، والخطابي في "غريب الحديث " (1/ 594)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (69/ 36)، عن أسماء بنت يزيد بن السكن. ولم أجده في "مسند الإمام أحمد"، والله أعلم. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" (2/ 19). قلت: ولم أجد الحديث بهذا اللفظ مسندًا في كتب الحديث التي بين يدي، ولعل المؤلف -رحمه الله- قد أخذه من "النهاية" لابن الأثير، ولنا في الأحاديث التي يذكرها ابن الأثير في =

ومنها: تحريم الشرب في إناء الفضة، ولا فرق بين الأكل والشرب وسائر الاستعمال في التحريم، ولا فرق بين الرجال والنساء في ذلك. وأجمع المسلمون على ذلك، إلا ما حكاه بعض أصحاب الشافعي العراقيين عند قول قديم للشافعي: أنه يكره ولا يحرم، إلا ما حكي عن داود الظاهري من تحريم الشرب دون غيره، وهما نقلان باطلان؛ لمخالفتهما الأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك جميعه، وللوعيد عليه بالنار كما بيناه، ولمخالفتهما الإجماع. وداود الظاهري لا تعد مخالفته خارقة للإجماع عند المحققين من الأصوليين كما قدمنا ذكره. والقول القديم للشافعي مرجوع عنه، إذا خالفه قوله الجديد، فلا يكون قولًا له، ولا تحل نسبته إليه إلا للبيان. كيف ولم يثبت عنه هذا قولًا قديمًا؟ قال صاحب "التقريب"-وهو من متقدمي الشافعية، وهو أتقنهم لنقل نصوصهم-: سياق كلام الشافعي في القديم يدلُّ على أنه أراد نفس الذهب والفضة الذي اتخذ منه الإناء، وأنه ليس حرامًا، ولهذا لم يحرم الحلي على المرأة. هذا آخر كلامه (¬1). والمجتهد لو قال قولًا صريحًا، ثم رجع عنه، لم تحلَّ نسبته إليه، ولا يبقى قولًا له، وإنما يُذكر ويُنسب إليه مجازًا باسم ما كان عليه، لا أنه قول له الآن، فثبت انعقاد الإجماع على تحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الأكل والشرب وسائر الاستعمالات، حتى يحرمُ الأكلُ بملعقة من أحدهما، والتجمُّر بِمْجمرة ¬

_ = "نهايته" كلام عزيز الوجود، لعلنا أن نبسطه في موضع آخر، والله أعلم بالصواب. (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 29). و"صاحب التقريب" هو الإمام أبو الحسن القاسم ابن الإمام أبي بكر محمد بن علي القفال الشاشي، وهو القفال الكبير، وكتابه عزيز عظيم الفوائد، من شروح مختصر المزني، وقد يتوهم من لا اطلاع له على أن المراد بالتقريب تقريب الإمام أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي صاحب الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وذلك غلط، بل الصواب ما ذكرنا أنه تصنيف أبي الحسن بن القفال. وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 553).

منهما، والبولُ في إناء منهما، والمكحلة، والميل، وظرف الغالية، وغير ذلك، وسواء فيه الإناء الكبير والصغير. ويستوي في التحريم الرجلُ والمرأة بلا خلاف، وإنما يفترقان في التحلي للمرأة؛ لما يقصد منها؛ مثل التزين للزوج والسيد؛ حيث إن الزينة لها أدعى إلى النكاح المطلوب للشرع. ويحرم استعمال ماء الورد والادهان من قارورة الذهب والفضة. فلو ابتلي بطعام في إناء منهما، أو من أحدهما، فليخرجِ الطعامَ إلى شيء آخر، ويأكل منه، ولو ابتلي بدهن في قارورة من فضة، فليصبَّه يزيده اليسرى، ثم يصبه من اليسرى في اليمنى ويستعمله. ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس والقبور والمدارس بأواني الذهب والفضة، وقناديلهما، ويحرم الاغتسال والوضوء منهما، ولو فعلهما، عصى، وصح وضوءه واغتساله عند مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والعلماء كافة، إلا رواية عن أحمد، وقال بها داود: لا يصح وضوءه واغتساله. والصواب: صحتهما، وكذلك: لو أكل أو شرب منهما، عصى بالفعل، ولا يكون المأكول والمشروب حرامًا، وهذا كله في حال الاختيار. أما إذا اضطر إلى استعمال إناء منهما، ولم يجد غيره، فله استعماله للضرورة؛ بلا خلاف؛ كما يباح أكل الميتة للضرورة. ويصح بيع إناء الذهب والفضة؛ لأنه عين طاهرة يمكن الانتفاع به بالسبك، ويحرم اتخاذ أواني الذهب والفضة على الأصح من مذهب الشافعي. ومنهم من قال: يكره، فيستحق صانعه الأجرة، ويجب على كاسره أَرْشُ النقص. ولا يحرم الإناء من الزجاج النفيس بالإجماع. وفي الياقوت، والزمرد، والفيروزج وغيرها وجهان:

الحديث الخامس

أصحهما: يجوز استعمالها. والثاني: يحرم. ومنها: تحريم مياثر الحرير على الرجال، سواء كانت على رحل أو سرج أو غيرهما، وإن كانت من غيرهما، فليست بحرام. ومذهب الشافعي وغيره: لا كراهة فيها، سواء كانت حمراء أم لا؛ فإن الثوب الأحمر لا كراهة فيه، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لبس حلة حمراء. وحكى القاضي عن بعض العلماء كراهتها؛ لئلا يظنه الرائي من بعيد حريرًا. ومنها: تحريم استعمال القَسِّيِّ إن كان حريرًا، أو أكثر [هـ] حريرًا، وإلا كان مكروهًا كراهة تنزيه. ومنها: تحريم الإستبرق والديباج، وسائر أنواع ثياب الحرير على الرجال. والله أعلم. * * * الحديث الخامس عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَهُ، فَصَنَعَ النَّاسُ، ثُمَّ إنَّهُ جَلَسَ فنَزَعَهُ وَقَالَ: "إني كنتُ أَلْبَسُ هَذَا الخَاتَمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخلٍ"، فَرَمَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَاللهِ لَا أَلْبَسُهُ أبدًا"، فنبذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ (¬1). وفي لفظ: جَعَلَهُ فِي يَدِهِ اليُمْنَى (¬2). أما الخاتم؛ ففيه أربع لغات: فتح التاء، وكسرها، وخيتام، وخاتام. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6275)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من حلف على الشيء وإن لم يحلف، ومسلم (2091)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال والنساء. (¬2) رواه البخاري (5538)، كتاب: اللباس، باب: من جعل فص الخاتم في بطن كفه، ومسلم (2091) (3/ 1655)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال والنساء.

وأما الفَصَّ؛ فبفتح الفاء وكسرها. وجعلُ فصِّ الخاتم مما يلي كفه؛ لأنه أصونُ لفصه، وأسلم له، وأبعد من الزهو والإعجاب. وقد عمل السلف بالوجهين في خاتم الفضة، فيمن اتخذه في ظاهر الكف: ابن عباس - رضي الله عنهما -، قالوا: ولكن الباطن أفضل؛ اقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث دليل: على تحريم لبس خاتم الذهب على الرجال، وهو مجمع عليه، وقد كان مباحًا في أول الإسلام. وحكي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه أباحه للرجال، وعن بعضهم: أنه مكروه لا حرام. وهما نقلان باطلان، ولو صحا، لكان قائلهما محجوجًا بالأحاديث الصحيحة، مع إجماع من قبله على تحريمه على الرجال. وأجمع المسلمون على إباحته للنساء. وأما خاتم الفضة؛ فأجمع المسلمون على جواز لبسه للرجال. وكره بعض العلماء المتقدمين من أهل الشام لبسه لغير ذي سلطان، ورووا فيه أثرًا، وهذا شاذ مردود. قال الخطابي: ويكره للنساء خاتم الفضة؛ لأنه من شعار الرجال. قال: فإن لم تجد خاتم ذهب، فلتصفره بزعفران وشبهه. قال شيخنا الإمام أبو زكريا النووي -رحمه الله-: وهذا الذي قاله ضعيف، أو باطل لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة في لبسها خاتم الفضة (¬1). قلت: إلا أن يصير في العادة لبسهن إياه تشبهًا بالرجال، فينبغي أن يكون حرامًا، والله أعلم. وفيه دليل: على إطلاق لفظة اللبس على التحريم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 67).

وفيه دليل: على مسألة التأسي بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - كما يقوله الأصوليون؛ فإن الناس نبذوا خواتيمهم لما رأوه - صلى الله عليه وسلم - نبذ خاتمه. قال شيخنا القاضي أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله-: وهذا عندي لا يقوى في جميع الصور التي تمكن في هذه المسألة؛ فإن الأفعال التي يطلب فيها التأسي على قسمين: أحدهما: ما كان الأصل أن يمنع لولا التأسي؛ لقيام المانع فيه، فهذا يقوي الاستدلال به في محله. والثاني: ما لا يمتنع فعله لولا التأسي كما نحن فيه. فإن أقصى ما في الباب: أن يكون لبسه حرامًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون الأمة، ولا يمتنع حينئذ أن يطرحه من أبيح له لبسه، فمن أراد أن يستدل بهذا على التأسي، فيما الأصل منعه لولا التأسي لو لم يفعل، لم يكن جيدًا؛ لما ذكرته من الفرق، والله أعلم (¬1). وفيه دليل: على التختم في اليد اليمنى، ولا يقال: إنه منسوخ؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - رمى به؛ لأن الرمي نسخ لجواز لبسه لكونه ذهبًا، لا لكون التختم في اليمين بغير الذهب لا يسوغ، فالمنسوخ: الحكم، لا وصف الحكم، وقد ثبت في "صحيح مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تختم في اليمين واليسار في الخنصر، ونهى عن التختم في الوسطى والتي تليها. وفي غير "مسلم": السبابة والوسطى. وأجمع المسلمون على أن السنة جعلُ خاتم الرجل في الخنصر؛ وأما المرأة فينها تتخذ خواتيم في أصابع. قال العلماء: والحكمة في كونه في الخنصر: أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد؛ لكونه طرفًا، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها، بخلاف غير الخنصر، ويكره للرجل جعله في الوسطى والتي تليها كراهة تنزيه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 220). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 71).

الحديث السادس

قلت: وينبغي أن يقال: إن غلب في العادة التشبه بالنساء في ذلك أن يكون حراما، والله أعلم. وأما جعله في اليد اليمنى، فمجمع عليه، وعلى جواز جعله في اليسار، ولا كراهة في واحدة منهما. واختلف السلف في أيتهما أفضل؟ ففعله كثيرون منهم في اليمين، وكثيرون في اليسار، واستحب مالك -رحمه الله- اليسار، وكره اليمين. ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان؛ الصحيح: أن اليمين أفضل؛ لأنه زينة، واليمين أشرف وأحق بالزينة والإكرام، والله أعلم. * * * الحديث السادس عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لَبُوسِ الحَرِيرِ، إلَّا هَكَذَا، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةَ وَالوُسْطَى (¬1). وَلِمُسْلِم: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ، إلَّا مْوِضعَ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ أَوْ أَرْبَعٍ (¬2). وهذا الحديث جمع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النهي عن لبس الحرير، وما رخص منه، ومقداره، وفيه: الرد على من توسع فيه بالزيادة على أربع أصابع. والمراد بالأصابع: أصابع الآدمي، لا أصابع الذراع القاسمي؛ بدليل إشارته - صلى الله عليه وسلم - برفعه إصبعيه: السبابة والوسطى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5490)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير وافتراشه للرجال، وقدر ما يجوز منه، ومسلم (2069)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬2) رواه مسلم (2069)، (3/ 1643)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء.

ولا شك أن الرخصة بالإصبعين والثلاث والأربع من الحرير، أعمُّ من كونها سدًى ولحمة، أو بعضها من هذا حريرًا، ومن الآخر غيره مما يصدق عليه اسم الحرير. وقد توسع الفقهاء فيه باعتباره بالوزن أو الظهور، إذا كانا مختلطين، ونسج منهما، ويحتاجون إلى الاعتذار عن هذا الحديث، إما بتأويل وبعدم معارض. ويدخل في الإباحة العَلَمُ في الثوب والعِمامة وغيرهما، إذا لم يزد على أربع أصابع، وهو مذهب الشافعي وجمهور العلماء. وعن مالك رواية بمنعه، وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العَلَم بلا تقدير أربع أصابع، بل قالوا: يجوز وإن عظم. وهما قولان مردودان بصراحة هذا الحديث، والله أعلم. ويدخل في النهي عن لبوس الحرير: جميعُ الملبوسات من القبع والكلوتة والقباء والجبة والدراعة والفرجية، وسائر وجوه استعماله، إلا فيما استثناه الشرع في محاله وضروراته ورخصه. وقد ذكرت ذلك جميعه مع أحكام الذهب في كتاب، "الإيضاح"، وبينته أحسن بيان، فمن أراد معرفة شيء من ذلك، فليطلبه منه، والله أعلم بالصواب. * * *

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ، حَتَّى إِذا مَالَتِ الشَّمْسُ، قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلوا اللهَ العَافِيةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجِنة تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ مُنْزِلُ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ! اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" (¬1). أما عبد الله بن أبي أوفى؛ فتقدم الكلام عليه قريبًا. وأما انتظاره - صلى الله عليه وسلم - حتى مالت الشمس، وأنه قام فيهم، فقال: "يا أيها الناس ... " وفي رواية في غير هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يقاتل أول النهار، انتظر حتى تزول الشمس (¬2). فقال العلماء: سببه أنه أمكنُ للقتال؛ فإنه وقتُ هبوب الرياح ونشاط النفوس، وكلما طالَ ازدادوا نشاطًا وإقدامًا على عدوهم. وفي "صحيح ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2861)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء. (¬2) رواه أبو داود (2655)، كتاب: الجهاد، باب: في أي وقت يستحب اللقاء، والترمذي (1613)، كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 444)، وغيرهم، عن النعمان بن مقرن - رضي الله عنه -.

البخاري": آخر: حتى تهبَّ الأرواحُ وتحضرَ الصلوات (¬1)، وذلك لفضيلة أوقات الصلاة والدعاء عندها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية"؛ إنما نهى عن ذلك؛ خشيةَ ألا تكون الأمور المقدرة في النفس، كالأمور المحققة عند التحقيق، فكره تمني لقاء العدو لذلك، ونهى عنه خوفًا من إعجاب النفس والاتكال عليها والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي؛ وقد ضمن الله تعالى لمن بُغي عليه أن ينصره، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا كله يخالف الاحتياط والحزم. وقد ثبت في الصحيح النهيُ عن تمني الموت؛ فإن قوله المطلع شديد، وفي الجهاد زيادة على مطلق الموت، وتأول بعضهم النهي عن التمني على صورة خاصة، وهي: إذا شك في المصلحة فيه، وحصول ضرر، وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة. والصحيح: الأول؛ ولهذا نبه - صلى الله عليه وسلم - عقب نهيه عن التمني بسؤال العافية؛ فينها لا يعدلها شيء، والسلامة الدنيوية والأخروية مطلوبة للشرع، ولهذا حذر من الفتن والاختلاف ومواضعها ومواقعها؛ طلبًا للسلامة. فالتمني منهي عنه؛ لما يخشى فيه من عدم الثبات والافتتان. وطلبُ النصر والشهادة مأمور بهما؛ لما فيهما من إعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله تعالى، والجزاء عليهما. وسؤالُ العافية مطلوب من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في الظاهر والباطن، في البدن والدين، والدنيا والآخرة. وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العافية في ذلك جميعه، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا لقيتموهم فاصبروا"؛ لما كان ملاقاة العدو محلًا للتزلزل، وعدم الثبات على المطلوب، أمر الشرع فيه بالصبر؛ وهو كظم ما يؤلم. والصبر ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2989)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، عن النعمان بن مقرن - رضي الله عنه -.

المأمور به أن يكون جميلًا، فلا يكون فيه شكوى ولا جزع. وهذا أحد أركان القتال. وقد جمع الله تعالى آداب القتال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 45 - 47]. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واعلموا أنَّ الجنةَ تحتَ ظلالِ السيوف"؛ معناه: أن السبب الموصل إلى الجنة ورفع درجاتها: هو الضربُ بالسيوف في سبيل الله، مع المشي إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، فينبغي لكم أن تحضروا فيه بصدق، وتثبتوا. وهذا اللفظ الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو من باب البلاغة وحسن المجاز، فيكون من باب التشبيه مع حذف المضاف؛ فإن الظل لما كان ملازمًا للشيء القائم، جعل ثواب الجنة واستحقاقها عن الجهاد وإعمال السيوف لازمًا لذلك؛ كما يلزم الظل. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازمَ الأحزاب! اهزمْهم وانصرْنا عليهم!؛ هذا الدعاء إشارة إلى ثلاثة أسباب تطلب بها الإجابة؛ وهي: الإنزال، والقدرة بالإجراء، والهزم، وفي كل شيء سبب معنى يصلح السؤال به، فكأنه طلب النصر للكتاب المنزل بقوله: "منزل الكتاب"، فكما أنزلته، فانصره وأَعْلِه، وطلبَ بالقدرة على إجراء السحاب وهزم الأحزاب هزمَ الأعداء والنصرَ عليهم، وذلك إشارة إلى تفرده -سبحانه وتعالى- بالفعل، وتجريد التوكل واطراح الأسباب، واعتقاد أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الفاعل، وهذه الأسباب توسل بالنعمة السابقة إلى نعمه اللاحقة، وقد ضمن الله ذلك في كتابه العزيز حكاية عن يحيى - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]، وعن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: 47].

الحديث الثاني

وقال الشاعر: لقدْ أحسنَ اللهُ فيما مَضَى ... كذلكَ يحسنُ فيما بقي (¬1) وقال آخر: لا والذي قد مَنَّ بالإسلام ... يثلج في فؤادي ما كانَ يختمُ بالإساءةِ ... وهو بالإحسانِ بادي وفي هذا الحديث دليل: على كراهة تمني الموت [و] لقاء العدو. وفيه دليل: على الصبر عند اللقاء. وفيه: استحباب القتال بعد زوال الشمس، واستحباب أن الإمام يعلم الناس ما يحتاجون إليه وقت حاجتهم. وفيه: سؤال الله تعالى العافية. وفيه: التنبيه على أسباب الجنة بالضرب بالسيوف. وفيه: التحريض على القتال. وفيه: سؤال الله تعالى بنعمته السابقة؛ لطلب نعمته اللاحقة. وفيه: استحباب الدعاء عند القتال والاستنصار عند اللقاء. وفيه: مراعاة انشراح النفوس وانبساطها لفعل الطاعات، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ فِي سَبِبلِ اللهِ أَوْ الغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" (¬2). ¬

_ (¬1) من شعر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، كما نسب إليه في "ديوانه" (ص: 135)، لكن فيه (كما أحسن) بدل (لقد أحسن). (¬2) رواه البخاري (2735)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، ومسلم=

أما الرباط؛ فهو المقام في الثغور المتاخمة لبلاد العدو، وهي في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها، وقد يطلق الرباط على كل مقيم على طاعة؛ كالطهارة والصلاة وغيرهما من العبادات. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة: "فَذَلِكُمُ الرِّباطُ فَذَلِكُمُ الرِّباط". والرباط؛ مصدر رابطت؛ أي: لازمت. وقيل: هو اسم لما يُربط به الشيء؛ أي: يُشد. فكأن المرابط في الثغور وغيرها، ربطَ نفسه عن الاشتغال بغيرها من المخالفات، وحظوظ النفس. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رِباطُ يومٍ في سبيل الله"؛ السبيلُ في الأصل: الطريق، وتؤنث وتذكر، والتأنيث فيها أغلب، وسبيل الله يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقريب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق، فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه. والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرٌ من الدنيا وما فيها"؛ هذا تنزيل للمغيَّب منزلةَ المحسوس المحقَّق، تحقيقًا وتثبيتًا في النفوس؛ فإن نعم الدنيا وملكها ولذاتها محسوسة مستعظمة في طباع النفوس، محقق عندها: أن ثواب اليوم الواحد في الرباط -وهو من المغيبات- خير من المحسوسات التي عهدتموها من لذات الدنيا. وقد استبعد بعضهم أن يوازى شيء من نعيم الآخرة بالدنيا كلها، فحمل الحديث على الثواب المرتب على اليوم في الرباط في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها موازنة بين ثوابين أخرويين؛ لاستحقاره الدنيا في مقابلة شيء من الأخرى، ولو على سبيل التفضيل. ¬

_ = (1881)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، وهذا لفظ البخاري.

قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله-: والأول عندي أوجبُ وأظهر، والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وموضعُ سوطِ أحدِكم في الجنة، خيرٌ من الدنيا وما عليها"؛ لما كان جزاء أعمال الناس الصالحة في الدنيا الجنةَ ونعيمها، نبه - صلى الله عليه وسلم - أن موضع السوط وقلةَ مساحته مما عقلتموه في الدنيا، أنه قليل جدًّا، ومع هذا؛ فهو من الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ تنبيهًا على عظم الجنة التي هي ثواب الله تعالى، وحقارةِ الدنيا وخساستها واجتناب حظوظها ولذاتها، وعدم الاغترار بها؛ فإن كل عاقل يقدم الباقي الآجل على الفاني العاجل، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والروحةُ يروحُها العبدُ في سبيلِ الله، أو الغدوةُ، خيرٌ من الدنيا وما عليها": الرَّوحة بفتح الراء: المرة من الرواح؛ أيَّ وقت كان. والمراد به هاهنا: مرة في وقت الزوال إلى غروب الشمس. والغَدوة بفتح الغين: المرة من الغدو، وهو: من أول النهار إلى الزوال. و"أو" للتقسيم لا للشك. ويقع الفعل من الغدو والرواح على اليسير والكثير من الفعل الواقع في الوقتين من أول النهار إلى الزوال، ومنه إلى غروب الشمس. وفي ذلك زيادة ترغيب وفضل وتعظيم، والله أعلم. ولا تختص الغدوة والروحة بالذهاب من بلدته، بل يحصل الثواب المذكور بكل واحدة منهما في طريقه إلى الغزو، وفي موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله. وفي هذا الحديث: حث على الرباط في سبيل الله، وتنبيه على فضله. وفيه: تنبيه على فضل الله تعالى، وما أعده للطائعين في الجهاد وغيره في الجنة وإن قل. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 225).

الحديث الثالث

وفيه: حث على الغدو والرواح في سبيل الله. وفيه: التصريح بحقارة الدنيا ونعيمها وما فيها. وفيه: التنبيه على فناء الدنيا وزوالها، وبقاء الآخرة ودوامها، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "انْتَدَبَ اللهُ" (¬1)، وَلِمُسْلِم: "تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخرِجُهُ إلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي، وإيمَانٌ بي وَتَصْدِيقُ رَسُولي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (¬2). ولمسلم: "مَثَلُ المُجاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ -واللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجاهِدُ في سَبيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ القائِمِ، وتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجاهِدِ في سَبِيلِهِ بِأن تَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّة، أَوْ يَرْجِعَهَ سالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (¬3). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "انتدبَ اللهُ لمن خرجَ في سبيله"؛ معناه: سارع بثوابه وحُسن جزائه، وقيل: أجاب. وقيل: تكفل. وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى: "لا يخرجُه إلا جهادٌ في سبيلي وإيمانٌ بي وتصديقُ رسولي"؛ معناه: حصر حصول الثواب المسارع به فيمن صحت نيته وخلصت من شوائب الأغراض الدنيوية؛ فإنه ذكر بصيغة النفي والإثبات المقتضية للحصر، كأنه قال: لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى وتصديق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (36)، كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان. (¬2) رواه مسلم (1876)، (3/ 1495)، كتاب: الأمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. (¬3) رواه مسلم (1878)، كتاب: الأمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، والبخاري أيضًا (2635)، كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، وهذا لفظ البخاري.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر عن الله تعالى في الحث على الجهاد والإخلاص، والجزاء على ذلك، والله أعلم. وقوله تعالى: "فهو عليَّ ضامنٌ"؛ فيه وجهان: أحدهما: أنه فاعل بمعنى مفعول؛ أي: مضمون؛ كماءٍ دافقٍ؛ أي: مدفوق، وعيشة راضية، أي: مَرْضِيَّة. والثاني: أنه بمعنى ذو؛ أي: صاحب ضمان. كَلابِنٍ وتامرٍ؛ أي: صاحب لبنٍ وتمرٍ. ويكون الضمانُ ليسَ منه، وإنما نُسب إليه؛ لتعلقه به؛ والعربُ تضيف بأدنى ملابسة. واعلم أن الضمان والكفالة هاهنا عبارة عن تحقيق هذا الموعود من الله -سبحانه وتعالى-؛ فإن الضمان والكفالة والوكالة مؤكدة لما تضمن وتكفل وتوكل به، وتحقيق ذلك من لوازمها. وقوله تعالى: "أَنْ أدْخِلَهُ الجنَّةَ، أو أَرْجِعَهُ"، أما قوله: "أَنْ أدخلَه الجنةَ"، فهو موافق لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الآية [التوبة: 111]، ويحتمل إدخاله الجنة عند موته، كما قال تعالى في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وفي الحديث: "أرواحُ الشهداءِ في الجنةِ" (¬1)، ويحتمل أن يكون المراد: دخوله الجنة عند دخول السابقين والمقربين بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب، وبكون الشهادةِ مكفرةً لذنوبه، كما صرح [به] (¬2) في الحديث الصحيح. وأما قوله: "أَرْجِعَه"؛ فهو بفتح الهمزة وكسر الجيم، من رجع ثلاثيًّا متعديًا، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1887)، كتاب: الإمارة، باب: بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: " ... أرواحهم -يعني: الشهداء- في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ..... " الحديث. والشارح -رحمه الله- يحكي كلام القاضي عياض، كما ذكره السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/ 295). (¬2) ليست في "ح".

ولازمه ومتعديه واحد، قال الله تعالى {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83]. وقوله: "إلى مسكنِه نائِلًا ما نالَ من أجرٍ أو غَنيمةٍ"؛ أما المسكن؛ فهو بفتح الكاف وكسرها. وأما قوله: "نائلًا ما نالَ"؛ فهو اسم فاعل من نال. والنيل: العطاء. وقد فسره في الحديث بالأجر والغنيمة. وأما قوله: "من أجرٍ أو غنيمةٍ"؛ "أو" هنا للتقسيم بالنسبة إلى الغنيمة وعدمها، فيكون معناه: أنه يرجع إلى مسكنه مع نيل الأجر إن لم يغنموا، أو معه إن غنموا. وقيل: "أو" هنا بمعنى الواو؛ أي: مع أجر وغنيمة. وقد روى مسلم في "كتابه" من رواية يحيى بن يحيى، وأبو داود في "سننه": بالواو دون أو (¬1). ومعنى الحديث: أن الخارج للجهاد ينال خيرًا بكل حال؛ فإما أن يستشهد فيدخل الجنة، وإما أن يرجع بأجر، وإما بأجر وغنيمة. وقد عورض هذا الحديث بحديث آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: وإما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم، إلا كانوا قد تَعَجَّلوا ثُلثي أجرهم"، و"ما من غازية أو سَرِيَّةٍ تخفقُ أو تُصاب، إلا تَمَّ لهم أجرُهم" (¬2). والإخفاق: أن يغزو فلا يغنم شيئًا. قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه الله-: وهذه [المعارضة] (¬3) ذكر القاضي -يعني به: عياضًا- معناها عن غير واحد، وعندي: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1876)، (3/ 1496)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. وقد رواه أبو داود (2494)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الغزو في البحر، عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (1906)، كتاب: الإمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬3) في "ح": "العارضة".

أنه أقرب إلى موافقته منه إلى معارضته، ويبعد جدًّا أن يقال بتعارضهما. نعم كلاهما مشكل؛ أما ذلك الحديث، فلتصريحه بنقصان الأجر بسبب الغنيمة. وأما هذا، فلأن "أو" تقتضي أحد الشيئين، لا مجموعهما، فيقتضي إما حصول الأجر، أو الغنيمة. وقد قالوا: لا يصح أن تنقص الغنيمة من أجر أهل بدر، وكانوا أفضل المجاهدين، وأفضلهم غنيمة. ويؤكد هذا، تتابعُ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده على أخذ الغنيمة وعدم التوقف عنها. وقد اختلفوا بسبب هذا الإشكال في الجواب: فمنهم من جنح إلى الطعن في ذلك الحديث، وقال: إنه لا يصح، وزعم أن بعض رواته ليس بمشهور. وهذا ضعيف؛ لأن مسلمًا أخرجه في "كتابه". ومنهم من قال: إن الذي يعجل من أجره بالغنيمة: هو في غنيمة أخذت على غير وجهها. قال بعضهم: وهذا بعيد لا يحتمله الحديث. وقد قيل: إن هذا الحديث -أعني: الذي نحن في شرحه- شرط فيه: ما لا يقتضي الإخلاص. والحديث في نقصان الأجر يحمل على من قصد مع الجهاد طلب المغنم، فهذا شرك بما لا يجوز له التشريك فيه، وانقسمت نيته بين الوجهين، فنقص أجره، والأول أخلص، فكمل أجره. قال القاضي: وأوجه من هذا عندي في استعمال الحديثين على وجههما أيضًا: أن نقص أجر الغانم بما فتح الله -عزَّ وجلَّ- عليه من الدنيا، وحساب ذلك عليه بتمتعه من الدنيا، وذهاب شظف عيشه في غزوه وبعده إذا قوبل بمن أخفق ولم يصب منها شيئًا، وبقي على شظف، وصبر على حاله في غزوه وجد أجر هذا أبدًا في ذلك وافيًا مطردًا، بخلاف الأول. ومثله قوله في الحديث

الآخر: فَمِنَّا مَنْ ماتَ ولم يأكلْ من أجرهِ شيئًا، ومِنَّا مَنْ أينعتْ له ثمرتُه، فهو يهديها (¬1). وأقول: أما التعارض بين الحديثين، فقد نبهنا على بعده، وأما الإشكال في الحديث الثاني، فظاهره جارٍ على القياس؛ لأن الأجور قد تتفاوت بحسب زيادة المشقات، لا سيما ما كان أجره بحسب مشقته، أو بمشقته دخل في الأجر، وإنما يشكل عليه العمل المتصل يأخذ الغنائم. فلعل هذا من باب تقديم بعض المصالح على بعض؛ فإن ذلك الزمان كان الإسلام فيه غريبًا -أعني: ابتداء زمن النبوة-، وكان أخذ الغنائم عونًا على علو الدين وقوة للمسلمين وضعفاء المهاجرين. وهذه مصلحة عظمى قد يغتفر بها النقص في الأجر من حيث هو هو. وأما ما قيل في أهل بدر، فقد يفهم منه أن النقصان بالنسبة إلى الغير، وليس ينبغي أن يكون كذلك، بل ينبغي أن يكون التقابل بين كمال أجر الغازي نفسه إذا لم يغنم، وأجره إذا غنم؛ فيقتضي هذا أن يكون حالهم عند عدم الغنيمة أفضلَ من حالهم عند وجودها، لا أفضلَ من حال غيرهم، وإن كان أفضل من حال غيرهم قطعًا من وجه آخر. لكن لا بد مع هذا من اعتبار المعارض الذي ذكرناه، فلعله مع اعتذاره لا يكون ناقصًا، ويستثنى حالهم من العموم الذي في الحد الثاني، أو حال من يفارقهم في المعنى. وأما هذا الحديث الذي نحن فيه، [فإشكاله من كلمة "أو" أقوى من ذلك الحديث] (¬2)؛ فإنه يشعر بأن الحاصل إما أجر، وإما غنيمة، فيقتضي أنه إذا حصلت الغنيمة يكتفى بها له، وليس كذلك. وقيل في الجواب عن هذا: بأن "أو" بمعنى الواو، وكأن التقدير: بأجر وغنيمة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ما بين معكوفين ليس في "ح".

الحديث الرابع

وهذا وإن كان فيه ضعف من جهة العربية، ففيه إشكال؛ من حيث إنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين، كان ذلك داخلًا في الضمان، فيقتضي: أنه لا بد من حصول أمرين لهذا المجاهد، إذا رجع مع رجوعه، وقد لا يتفق ذلك بتلف ما حصل من الغنيمة، اللهم إلا أن يجوز في لفظه الرجوع إلى الأهل. ومنهم من أجاب: بأن التقدير: أو يرجعه إلى أهله مع ما نال من أجر وحده، أو غنيمة وأجر، فحذف الأجر من الثاني. هذا آخر كلامه بحروفه، والله أعلم (¬1). وفي هذا الحديث دليل: على فضل الجهاد والحث عليه. وفيه دليل: على الإخلاص فيه. وفيه: بيان وجوه الإخلاص فيه. وفيه دليل: على أن الجهاد يعدل درجة الصيام والقيام. وفيه: بيان تولي الله -سبحانه وتعالى- جزاءه كيف شاء. وفيه: إشارة إلى أن الإخلاص في الجهاد وغيره، هو قصد امتثال أمر الله تعالى فيه، وتصديق ما وعد به عليه على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير قصد شيء آخر، والله أعلم. * * * الحديث الرابع وعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أيضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرَّيحُ رِيحُ مِسْكٍ" (¬2). أما المكلوم؛ فهو المجروح. والكَلْم: الجرح، وهو بفتح الكاف وإسكان اللام. ويُكْلَم بإسكان الكاف؛ أي: يُجرح. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 227 - 229). (¬2) رواه البخاري (5213)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: المسك، ومسلم (1876)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، وهذا لفظ البخاري.

ومجيئه يوم القيامة وهو يدمى؛ ليشهد على ظالمه بالقتل، وليظهر شرفه لأهل المشهد والموقف بما فيه من رائحة المسك المشاهدة بالطيب. وفي هذا الحديث دليل: على فضل الجراحة في سبيل الله. وفيه دليل: على أن الشهيد لا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره؛ للحكمة التي ذكرناها. وفيه دليل: على أن أحكام القيامة وصفاتها، غيرُ أحكام الدنيا وذواتها؛ فإن الدم في الآخرة يتغير حكمه من النجاسة والرائحة الخبيثة التي في الدنيا، إلى الطهارة والرائحة الطيبة يوم القيامة، وبذلك يقع الإكرام له والتشريف. ولا يلزم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللونُ لونُ دم" أن يكون دمًا نجسًا حقيقة، كما لا يلزم من كونِ ريحِه ريحَ مسك أن يكون مسكًا حقيقة، بل يجعله الله تعالى شيئًا يشبه هذا، ويشبه هذا، ناشئًا عما فارق الدنيا عليه، كما أن إعادة الأجسام مما كانت عليه في الدنيا، وإن اتصفت بصفات أخر من البقاء والدوام بعد أن كانت غير دائمة ولا باقية، ولهذا يأتون طولًا واحدًا، وسنًّا واحدًا، جُرْدًا مُرْدًا غيرَ مختونين. فعلمنا أن الإعادة حق مما انتقلت عليه، وإن اكتسب أوصافًا لم تكن، فكذلك دم الشهيد يعاد للحكمة التي ذكرناها، وإن اكتسبت أوصافًا لم تكن، ليس حكمه حكمها، ولا فضله فضلها. وكذلك أهل الوضوء، يبعثون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء؛ إكرامًا لهم، وشهادة لهم في الموقف لأهل المشهد بما كان يعمل في الدنيا من التطهر في تلك الأعضاء، والله أعلم. وقد يستنبط منه: أن الماء المتغير بالنجاسة وغيرها، إذا زال تغيره بنفسه، انتقل من حكمه حالَ تغيره إلى حكمه حالَ زواله، فينتقل من القذارة إلى الطيب، ومن النجاسة إلى الطهارة، وحُكم له بحكم المسك والطيب للشهيد، بخلاف ما إذا زال بغيره بوضع شيء ومعالجة، والله أعلم. * * *

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي أَيوبٍ الأنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشمْسُ وَغَرَبَتْ". أخرجه مسلم (¬1). * * * الحديث السادس عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا". أخرجه البخاري (¬2). تقدم الكلام على معنى هذين الحديثين في الحديث الثاني من كتاب الجهاد هذا. * * * الحديث السابع عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأنصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى حُنَيْنٍ، وَذَكَر قِصَّة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَتلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بيِّنَة، فَلَهُ سَلَبُهُ" قالها ثلاثًا (¬3). أما أبو قتادة؛ فتقدم الكلام عليه، وأن اسمه الحارثُ بن رِبْعي. واعلم أن هذا الحديث قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من غزوة حنين، وهو وادٍ قريبٌ من الطائف، بينَه وبين مكة بضعةَ عشر ميلًا، وكانت بينها وبين فتح مكة خمسَ عشرة ليلة، تقصر الصلاة فيها، وكانت في خامس شوال سنة ثمان من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1883)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله. (¬2) رواه البخاري (6199)، كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار. (¬3) رواه البخاري (2973)، كتاب: الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، ومن قتل قتيلًا فله سلبه، ومسلم (1751)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.

الهجرة؛ لأن الفتح كان في اليوم العشرين من شهر رمضان، والله أعلم. وروى مسلم في "صحيحه" تصريحًا بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قتلَ قتيلًا لهُ عليه بينة فله سَلَبُهُ"، كان بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "له عليه بينةٌ"؛ البينة في الأصل: العلامة. والمراد هنا: علامة توضح أنه القاتل؛ إما إخبار واحد، أو ظن راجح برؤية سهم القاتل أو سيفه، أو معرفة ضربه في القتل، أو نحو ذلك يرجح جانبه فيما يدعيه من استحقاق السلب، والله أعلم. واعلم أن السَّلَبَ منسوب إلى جميع الجيش، فلا يُقبل إقرار مَنْ هو في يده أنه للقاتل على الباقين إلا إذا كان مختصًا به، فيؤاخذ بإقراره، والله أعلم. واعلم أن تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الواقعة، هل هي من باب التشريع، أو من باب تصرفات الإمام؛ نظرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أمر أن يعطى السلب قائلًا: "يا خالد! لا تعطِه إياهُ" بسبب كلام جرى بين القاتل وبين خالد؟ (¬1) والأغلب: حملُه على التشريع العام، ويكون إعطاؤه ذلك في ذلك الوقت لغير القاتل لمصلحة أو شرط فائت اقتضى منعَ القاتل إياه، ونَفَّله خالدًا؛ عقوبةً للقاتل، ويكون واقعةَ عين لا تقتضي العموم. والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد: منها: أن السلب للقاتل؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا، فله سلبه"، ولا ينفي هذا أن يكون السلب للجيش أولًا، ثم أعلم - صلى الله عليه وسلم - أنه للقاتل تنفيلًا. واختلف العلماء فيه: فقال الشافعي، والأوزاعي، والليث، والثوري، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وابن جرير، وغيرهم: يستحق القاتل سلبَ القتيل في جميع الحروب، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: من قتلَ قتيلًا فله سلبه، أم لم يقل ذلك. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1753)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق الفاتل سلب القيل، عن عوف بن مالك - رضي الله عنه -.

قالوا: وهذا الحديث فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإخبار عن حكم الشرع، فلا يتوقف على قول واحد. وقال أبو حنيفة، ومالك، ومن تابعهما: لا يستحق القاتل ذلك بمجرد القتل، بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة، إلا أن يقول قبل القتال: من قتل قتيلًا، فله سلبه، وحملوا الحديث على هذا، وقد بينا ضعفه آنفًا. واشترط الشافعي في استحقاق السلب للقاتل: أن يغرر بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال، حتى لو كان الكافر ممن رضخ، فلا سهم له؛ كالمرأة والصبي والعبد، استحق السلب في الأصح. وقال مالك: لا يستحقه إلا المقاتل، وقال الأوزاعي والشاميون: لا يستحق السلب إلا في قتل قتله قبل التحام الحرب، فأما من قتل في حال التحام الحرب، فلا يستحقه. واختلف العلماء في تخميس السلب: فقال الشافعي في الصحيح من قوليه، وأحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وآخرون: لا يخمس. وقال مكحول، ومالك، والأوزاعي، والشافعي في أضعف قوليه: يخمس. وقال عمر بن الخطاب، وإسحاق بن راهويه: يخمس إذا كثر. وعن مالك رواية اختارها إسماعيل القاضي: أن الإمام بالخيار إن شاء خمسه، وألا يخمس. ومنها: أن السلب لا يعطى إلا لمن بينه بأنه قتل، ولا يقبل قوله بغير بينة. وهو مذهب الشافعي، والليث، ومن وافقهما من المالكية وغيرهم. وقال مالك والأوزاعي: يعطاه بقوله بلا بينة، قالا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى السلب بقولِ واحدٍ في بعض روايات هذا الحديث، ولم يحلِّفه، والجواب: أن هذا محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه القاتل بطريق من الطرق، وقد صرح بالبينة، فلا تلغى.

الحديث الثامن

وقد يقول من يعطى السلب بغير بينة: إن هذا مفهوم لا حجة فيه. وقد يجاب عنه: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها بينة، وعمل بها في السلب، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يُعطى الناسُ بدعواهم، لكن البينة على المدعي" الحديث (¬1). والله أعلم. ومنها: استحباب إعادة المفتي أو العالم قولَه ثلاثًا؛ لقصد البيان والإبلاغ، وتأكيد القول وفهمه عنه، والله أعلم. ومنها: جواز تقطيع الحديث الواحد من العارف باللفظ والمعنى، إذا لم يكن للجملة المقطوعة تعلق بما قبلها، واستقل الفهم بها في مدلولها. وقد فعل هذا البخاري وغيره من العلماء المحققين، والله أعلم. ومنها: التنبيه على اختصار تلك الجملة من الحديث بلفظ يدل عليه؛ كقوله: وذكر قصة، أو حديثًا قال فيه كذا، ونحو ذلك، فيجمع بين الاختصار والتنبيه على أنه بعض حديث، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِي سَفرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انتقَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اطْلُبُوهُ وَاقْتلُوهُ"، فَقَتَلْتُهُ، فنفَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَلَبَهُ (¬2). وَفِي رِوَاية فَقَالَ: "مَنْ قَتلَ الرَّجُلَ؟ "، فَقَالُوا: ابنُ الأكَوَعِ، فَقَالَ: "لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ" (¬3). أما سلمة بن الأكوع؛ فتقدم الكلام عليه في الصلاة، وهو سلمة بن عمرو بن الأكوع، منسوب إلى جده، وتقدم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (2886)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان. (¬3) رواه مسلم (1754)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل.

وأما العين؛ فهو الجاسوس ونحوه. والسَّلَبُ؛ هو الشيء المسلوب، سمي به؛ لأنه يسلب كالخيطة بمعنى المخيوط. وأما التنفيل؛ فهو مصدر نَفَّل. والأنفال: العطايا من الغنيمة، غير السهم المستحق بالقسمة، واحدها نَفَل؛ بفتح الفاء على المشهور، وحُكي إسكانها (¬1). وفي الحديث أحكام: منها: أنه يستحب للإمام الجلوس عند أصحابه لإيناسهم بالحديث وتعليم العلم، خصوصًا في الأسفار، ووقت الحاجة إلى ذلك. ومنها: الأمر بطلب الجاسوس الكافر الحربي وقتله. وأجمع المسلمون على ذلك. واختلف العلماء في الجاسوس المعاهد والذمي، هل ينتقض عهده ويقتل؟ فقال مالك، والأوزاعي: يصير ناقضًا للعهد، فإن رأى الإمام استرقاقه، أرقه، ويجوز قتله. وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك، وقال أصحاب الشافعي: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك. أما الجاسوس المسلم، فقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وبعض المالكية، وجماهير العلماء: يعزره الإمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز قتله. وقال مالك: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسر الاجتهاد. قال القاضي عياض -رحمه الله-: قال كبار أصحابه: يقتل. قال: واختلفوا ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 55)، و"لسان العرب" لابن منظور (11/ 672)، (مادة: نفل).

الحديث التاسع

في تركه بالتوبة. وقال الماجشون: إن عرف بذلك، قتل، وإلا، عزر (¬1). ومنها: دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه: أن القاتل يستحق السلب، وأنه لا يخمس، وتقدم ذلك، والكلام عليه. ومنها: استحباب سؤال الإمام عمن فعل فعلًا جميلًا؛ ليثني عليه، ويعطيه ما يستحق عليه. ومنها: استحباب مجانسة الكلام، إذا لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إبلًا وَغَنَمًا، فَبَلَغَتْ سُهْمانُنا اثْنَي عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعِيرًا بَعِيرًا (¬2). أما نجد؛ فهو ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحَدُّهُ مما يلي المغرب: الحجاز، وعن يسار الكعبة: اليمن. ونجد كلها من عمل اليمامة، هكذا ذكره صاحب "مطالع الأنوار". وقال ابن الأثير الجزري في "الغريب": والنجد: ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق (¬3). قلت: والمراد به في هذا الحديث: مكانٌ من هذه الناحية معين، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 67). (¬2) رواه البخاري (4083)، كتاب: المغازي، باب: السرية التي قبل نجد، ومسلم (1749)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال، وهذا لفظ مسلم. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 34)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 18)، و"معجم البلدان" لياقوت (5/ 261)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 350).

ولا شك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعث جيشًا فيهم عبد الله بن عمر قبل نجد، وانبعثت سرية من ذلك الجيش إلى جهة أخرى، فكان التنفيل لتلك السرية قبل قدومهم جميعهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الغنيمة، هكذا جاء مبينًا في روايات أبي داود لهذا الحديث (¬1)، وأن الذي أصاب كل واحد من السرية المنبعثة من الجيش المبعوث ثلاثة عشر بعيرًا: بعير نفلًا، واثنا عشر مع قسم عامة الجيش من أصل الغنيمة، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: أنه إذا فعل أمير الجيش شيئًا من المصالح التي تتعلق بالجيش من نفل؛ غنيمة ونحوها، أن يمضيه الإمام ولا يغيره، بل يزيده إن أمكنه ذلك. ومنها: أن السرية إذا انفصلت من الجيش، فجاءت بغنيمة، فإنها تكون مشتركة بينها وبين الجيش؛ لأنهم ردءٌ لهم. ومنها: إثبات النفل، وهو مجمع عليه. واختلف العلماء في هذه الزيادة التي هي النفل أين محلها من الغنيمة؟ فقال سعيد بن المسيب: إنما أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها من الخمس من سهمه من الغنيمة، وهو خمس الخمس منها. وهو قول أبي عبيد، ومالك، وأبي حنيفة، والطبري وآخرين، وهو أصح أقوال الشافعي -رحمه الله-. وقيل: إنما كان ينفلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصل الغنيمة التي يغنمونها كما نفل القاتل السلب من جملة الغنيمة، وهو قول الشافعي، وبه قال الحسن البصري، وأبو ثور، وآخرون، وهي رواية عن الأوزاعي، وأحمد. قال أصحاب الشافعي: ولو نفلهم الإمام من أموال بيت المال العتيدة دون الغنيمة، جاز. وقيل: هي من أربعة أخماس، وهو مذهب الأوزاعي، والشاميين، وأحمد، وإسحاق. وهو أيضًا قول للشافعي. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2743)، كتاب: الجهاد، باب: في نفل السرية تخرج من العسكر.

وأجاز النخعي وبعض العلماء أن تنفل السرية جميعَ ما غنمت دون باقي الجيش، وهو مخالف لما قاله كافة العلماء. وقال بعضهم: يحتمل أن جميع الغنيمة كانت اثني عشر. وهو بعيد جدًّا؛ لأنه لو كان هذا جملة السهام غير الخمس، كان خمسها ثلاثة أبعرة. وقد قال في الحديث: ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا. فيأتي من هذا الاحتمال أن السرية من الجيش كانت ثلاثة بعد استيفاء الخمس في النفل. وهذا بعيد أن تكون سرية النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نجد هذا العدد. وقد قال في بعض طرق الحديث: فأصبنا إبلًا كثيرة، ولا يقال في خمسة عشر: كثيرة، وأيضًا: فإن هذه السرية إنما توجهت من جيش، وإنما كانت الاثنا عشر بعيرًا سهمًا لكل واحد من أهل الجيش، ونفل أصحاب السرية بعيرًا بعيرًا كما بيناه، والله أعلم. واعلم أن التنفيل إنما يكون لمن صنع صنعًا جميلًا في دار الحرب انفرد به، ولهذا قال ابن عمر - رضي الله عنهما - في بعض طرق الحديث: فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرًا، بعد الخمس، وما حاسبنا ببعير النفل، فيكون النفل لسرية الجيش، لا لكل واحد من الجيش كما بيناه آنفًا، والله أعلم. ومنها: استحباب بعث السرايا من الجيوش المرسلة للجهاد، ومشاركة الجيش لها فيما غنمت. أما إذا كان الجيش في البلد، فتختص الغنمية بالسرية، ولا يشاركها الجيش فيها. ومنها: إثبات التنفيل للترغيب في تحصيل مصالح القتال، وبعدم ذكر الإجماع فيه آنفًا، ثم الجمهور على أن التنفيل يكون في كل غنيمة، سواء كانت أول غنيمة، أو غيرها، وسواء كانت الغنيمة ذهبًا أو فضة، أو غيرهما. وقال الأوزاعي: لا تنفيل في أول غنيمة، ولا في ذهب ولا فضة. ومنها: وجوب القسمة في الغنائم، وهو إجماع، والله أعلم. * * *

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنِ ابْنِ عُمَرَ أيضًا، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إذَا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ , فَيُقَالُ: هَذه غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" (¬1). أما اللواء؛ فهو الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحبُ جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا. ومعنى: "يُرفع لكلِّ غادر لواءٌ، فيقال: هذه غدرةُ فلانِ بنِ فلانٍ"؛ أي: تجعل علامة يُشهَرُ بها في الناس يوم القيامة في مجمع يظهر ذلك فيه للأولين والآخرين؛ مقابلةً للذنب بما يناسب ضدَّه في العقوبة؛ حيث إن الغادر أخفى جهة غدره ومكره، فعوقب بنقيضه، وهو شهرته على رؤوس الأشهاد. وعبر برفع اللواء؛ حيث إن موضوعه لشهرة مكان الرئيس علامة. وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة (¬2) لغدرة الغادر؛ لتشهره بذلك، فعومل الغادر في الآخرة بمثل معاملة العرب الغادرَ في الدنيا، والله أعلم. وأما الغادر؛ فهو الذي يواعد على أمر ولا يفي به. يقال: غدَرَ يغدِر: بكسر الدال في المضارع. وهذا الحديث ونحوه، وارد في نهي الإمام عن الغدر في عهوده لرعيته، أو للكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي قلدها لرعيته، والتزم القيام بها والمحافظة عليها؛ حيث أنزل الله تعالى في حق الإمام وغيره من ولاة الأمور: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58]. فمتى خانهم، أو ترك الشفقة عليهم، أو الرفق بهم، فقد غدر بعهده، ولم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3016)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر، ومسلم (1735)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، وهذا لفظ مسلم. (¬2) في "ح": "الحلفة".

يؤد الأمانة المأمور بها؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم" في رواية من هذا الحديث: "ولا غادِرَ أعظمُ غدْرًا من أميرِ عامَّةٍ" (¬1). ويحتمل أنه ورد في نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يشقوا عليه العصا، ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه، وإذا صدر من الأئمة والولاة ما يشق عليهم، صبروا عليهم ما أقاموا الصلاة فيهم، كما ثبت في الصحيح. ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]، والله أعلم. وفي الحديث دليل: على غلظ تحريم الغدر من صاحب الولاية العامة وغيره؛ لأنه غدره يتعدَّى ضرره إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر؛ لقدرته على الوفاء، كما ثبت في الحديث الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم اللهُ يومَ القيامة ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليم: ملكٌ كذاب، وشيخٌ زانٍ، وعائلٌ مستكبِرٌ" (¬2). ولا شك أن الغدر في الحروب والاغتيال فيها وغيرها، ممنوع شرعًا، خصوصًا إن تقدم ذلك عهد أو أمان، وقلنا: إن الدعوة إلى الإسلام واجبة قبل القتال، وذلك كله متعلق بالإمام. ولفظ الحديث عام في الإمام وغيره، لكن غدر الإمام أعظم، ولهذا عوقب الغادر بالفضيحة العظمى. وفيه دليل: على شهر الناس، والتعريف بهم في القيامة، لكنه بالنسبة إلى أمهاتهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1738)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (107)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

الحديث الحادي عشر

وفيه: تنبيه على اجتناب الأخفِّ خوفًا من الأشدِّ؛ فإن فضيحة القيامة أشدُّ فضيحة من فضيحة الدنيا؛ حيث إن الأمر يشهده الأولون والآخرون فيها، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر عَنْهُ أيضًا: أَنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَقْتُولَةً، فَأنكرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلَ النِّسَاء وَالصِّبْيَانَ (¬1). أعلم أن النساء جمعٌ لا واحدَ له من لفظه، وكذلك النسوان والنسوة. وأما الصِّبيان؛ فبكسر الصاد وضمها؛ جمع صَبِيّ، ومثل الصبيان في اللفظ: قضيب وقضبان، ورغيف ورُغفان. وفيهما اللغتان. ولا شك أن النساء والصبيان ليس في نفوسهم من إحداث الضرر والميل إليه ما في نفوس الرجال المقاتلين، والأصل عدمُ إتلاف النفوس، إنما أبيح من إتلافها ما يقتضيه رفع المفسدة، والغالب عدم القتال من النساء والصبيان، فرفع عنهم القتل؛ لعدم مفسدة المقاتلة في الحال الحاضر، ورجاء هدايتهم عند بقائهم، ولعدم ميل نفوسهم إلى التشبث الشديد بما يكون عليه الرجال كثيرًا وغالبًا من المنع والممانعة حال المقاتلة، والله أعلم. وأجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فلو قاتلوا، قال جماهير العلماء: يُقتلون. وأما شيوخ الكفار؛ فإن كان فيهم رأي، قُتلوا، وإلا، ففيهم وفي الرهبان خلاف: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2851)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل الصبيان في الحرب، ومسلم (1744)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب.

الحديث الثاني عشر

والأصح عند الشافعية: قتلُهم؛ لما رواه أبو داود وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقتلوا شيوخَ المشركينَ واسَتْبقُوا شَرْخَهُمْ" (¬1). وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقتلون، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عشر عَنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، شَكَيَا القَمْلَ إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غزَاةٍ لَهُمَا، فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الحَرِيرِ، وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا (¬2). أعلم أن الرخصة في الشيء تدل على المنع منه، ولا شك أن الأصل في الشرع تحريمُ الحرير على الرجال؛ كما تقدم في كتاب اللباس، وثبتت الرخصة في إصبعين منه وثلاث وأربع. وجوز العلماء لبس الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح. وهذا الحديث يدل على الرخصة فيه؛ لدفع القمل، وثبتت الرخصة فيه أيضًا لابن عوف، والزبير؛ للحكة -بكسر الحاء المهملة وتشديد الكاف-؛ وهي: الجرب أو نحوه. وكذلك يجوز لبسه لمن خاف من حر أو برد، ولم يجد غيره، وكذلك يجوز لمن فاجأته الحرب ولم يجد غيره. أما لبسه للقمل والحكة؛ فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، وبه قال الشافعي وموافقوه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2670)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء، والترمذي (1583)، كتاب: السير، باب: ما جاء في النزول على الحكم، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 12)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 92)، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (2763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحرير في الحرب، ومسلم (2076)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها.

الحديث الثالث عشر

والحكمة في جوازه: ما فيه من البرودة، والبرودة تدفع القمل، وتمنع من الحكة، فالرخصة وقعت للمداواة؛ بخلاف غيرهما؛ فإنها وقعت للضرورة. وقال مالك: لا يجوز لبسه للحكة والقمل، والأحاديث في الكتاب وغيره حجة عليه، حتى عدوها إلى غيرهما. ولا شك أن الراوي سمى لبس الحرير رخصة في هذا الحال مع قيام دليل الحظر. واختلف أصحاب الشافعي في جواز لبس الحرير للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعًا، وعدم جوازه، فجمهورهم على الجواز، وقال بعضهم: يختص بالسفر، وهو ضعيف؛ حيث إن الرخصة معقولة متعدية عند العلماء، وصادف السؤال عنها والترخيص في السفر والغزو, لا لتقييدها بهما، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عشر عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَني النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَالِصًا، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْزِلُ نَفَقَةَ أهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - (¬1). كانت غزوة بني النضير في سنة أربع من الهجرة. وقريظة والنضير: قبيلتان من اليهود، وكان صاحب عهد بني قريظة كعب بن أسد، وكان حيي بن أخطب من سادات بني النضير، ونقض العهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمون، وقال: "حاربَتْ يَهودُ" في قصة طويلة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4603)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6]، ومسلم (1757)، كتاب: الجهاد والسير، باب: حكم الفيء. (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 57).

وقوله: "مما لم يُوجِفِ المسلمونَ عليه بخيلٍ ولا رِكاب"؛ الإيجاف: الإسراع. يقال: وجفَ الفرسُ والبعير، بجف وَجِيفًا: أسرع. وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير (¬1). والركاب: الإبل خاصة. وقوله: "وكانتْ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خالصًا"؛ معناه: أن أموال بني النضير كان معظمها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا كلها؛ حيث إن له - صلى الله عليه وسلم - مما أفاء الله عليه أربعة أخماسه، وخمس الخمس الباقي، فيكون له أحد وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين سهمًا، والأربعة الباقية لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقوله: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعزلُ نفقةَ أهلِه سنةً"؛ يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - لما كانت أموال بني النضير له خالصًا، واتسع عليه الحال، ادخر لعياله قوت سنة، أو نفقة سنة؛ تطييبًا لقلوبهم، ولاتساع الحال عليه وعلى المسلمين في سنة أربع من الهجرة. وإلا فقد كان حاله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أنه لا يدخر لغد شيئًا؛ ثقة بالله -عزَّ وجلَّ-، وتوكلًا عليه، ولضيق الحال عليه وعلى المسلمين. وهذا كله دليل على مراقبته - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربه -سبحانه وتعالى- في خلقه، من العيال الأقارب والأتباع الأجانب. وكان حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنى الصوري المعنوي، وكان صابرًا لأحكام الله تعالى غنيًّا به - صلى الله عليه وسلم -سبحانه وتعالى-، [شاكرًا] (¬2) حامدًا له على البأساء والضراء، والشدة والرخاء، ولهذا كان يحمد ربه -سبحانه وتعالى- على كل حال، لما علم أنه ملطوف به مختار له مربوب، وأن اختيار الحق له - صلى الله عليه وسلم - خير من اختياره لنفسه، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - عُرضت عليه كنوزُ الأرض فأباها، فكان فقره - صلى الله عليه وسلم - اختيارًا لا اضطرارًا أصليًّا، بل اضطرارٌ عن اختيار. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 156)، و"لسان العرب" لابن منظور (9/ 352)، (مادة: وجف). (¬2) ليست في "ح".

وهذا هو الغنى الذي وصفه - صلى الله عليه وسلم -، وأثبته في الصحيح؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ الغِنى عن كثرة العَرَضِ؛ إنَّما الغِنى غِنى النفس" (¬1). فافهم ما تحقق في هذه المسألة من الشرع الصحيح والتحقيق المليح، ودع عنك ترهات التحقيق، وتعويجات الطريق! والله أعلم. وقوله: "ثم يجعلُ ما بقي في الكُراع والسلاح عدةً في سبيل الله -عزَّ وجلَّ-": الكُراع بضم الكاف، والأكارع من ذوات الظلف خاصة؛ كالأوظفة من الخيل والإبل، ثم أكثر ذلك استعمالًا، حتى سميت الخيل كراعًا. قال صاحب "المجرد": والكراع: اسم لجميع الخيل، إذا قلت: الكراع والسلاح، وقال غيره: ثم استعمل ذلك في الخيل خاصة (¬2). وأما السلاح؛ فقال الجوهري: هو مذكر، ويجوز تأنيثه، وقال غيره: هو ما أعددته من السلاح للحرب؛ من آلة الحديد مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحًا (¬3). والعدة في سبيل اله تعالى: إعداد الشيء بقصد الطاعة لله تعالى في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. فكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل ما فَضَلَ مما كان خالصًا به من الفيء في الخيل والسلاح؛ إعدادًا للجهاد في سبيل الله تعالى، والله أعلم. وفي هذا الحديث أحكام: منها: ما أكرم الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من خصائص الدنيا والآخرة، وتقديمه - صلى الله عليه وسلم -. بها في جميع الخلق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 339)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 167)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 292). (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 486)، (مادة: سلح).

ومنها: أن حكم أموال الفيء كان خاصًّا به - صلى الله عليه وسلم - في حياته، يضعه حيث شاء، وكان ينفق منه على أهله نفقة سنتهم، ويجعل ما بقي في سبيل الله تعالى إلى أن توفي - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماء في مصرف الفيء بعده - صلى الله عليه وسلم -: فقال قوم: هو للأئمة بعده. واختلف قول الشافعي على قولين: أحدهما: للمقاتلة. والثاني: لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة، ثم بالأهم فالأهم من المصالح. وهل يخمس كالغنيمة؟ فيه خلاف: والأكثرون: أنه لا يخمس، بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق، والله أعلم. ومنها: جواز الادخار للنفس والعيال قوت سنة؛ فإن ذلك غير قادح في التوكل، وفعلُه - صلى الله عليه وسلم - ذلك لم يكن لنفسه، بل كان للعيال؛ تطييبًا لقلوبهم وسكونها، وجمعِها على ما هم بصدده، حتى إنه لم يدم ما يدخره عنده سنة، بل كان ينفد قبل انقضائها؛ بصرفه في وجوه الخيرات، ولهذا توفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعُه مرهونة على شعير استدانه لأهله، ولم يشبع ثلاثة أيام تباعًا. وقد ثبت في "الصحيحين" كثرةُ جوعه - صلى الله عليه وسلم - وجوع عياله. وأجمع العلماء على جواز ادخار ما يستغله الإنسان من أرضه وزراعته مما لم يشتره من السوق، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يستغله من مزارعه. واختلفوا في ادخار قوت سنة من السوق: فأجازه قوم، واحتجوا بهذا الحديث، ولا حجة فيه، ومنعه الأكثر، إلا على قدر ما لا يضر بالسعر. وهذا الاختلاف إذا كان وقت السعة، أما في وقت ضيق الطعام على المسلمين؛ فتتعين المواساة في الادخار وغيره، بيعًا وشراء وإباحة، والله أعلم.

الحديث الرابع عشر

ومنها: مراقبة الله تعالى في الأموال أخذًا وصرفًا، منعًا وعطاءً. ومنها: البداءة بالإنفاق على العيال والتوسعة عليهم، وما فضل يصرف في الأهم من المصالح العامة. وأما الإنفاق على النفس، فيجوز تقديمها بالنفقة المتوسطة على العيال وغيرهم، ثم يصرف ما بقي على العيال وما ذكرنا، لكن الأفضل، إن كانت ممن تصبر وتحتسب أن تؤثر وتحتسب، وإن كانت لا تصبر، فالأفضل تقديمها. وأما حال الاضطرار المفضي إلى الهلاك، فيتعين تقديم النفس، والله أعلم. ومنها: إعداد الأئمة والسلاطين والأمراء والأجناد، وكل من شرع له الغزو، وكان له سعة، الخيلَ والسلاحَ، وتأكيد ذلك بقصد الطاعة وعدم الرياء، وذلك سبيل الله تعالى، والله - عزَّ وجلَّ - أعلم. * * * الحديث الرابع عشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيْلِ مِنَ الحَفْياءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ. قَالَ ابنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَّنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الحَفْياءِ إِلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَمنْ ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَني زُرَيْقٍ مِيلٌ (¬1). قوله: "أجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ضُمِّرَ من الخيل". معنى أجرى: سابَقَ؛ كما ثبت في روايات في الصحيح. والمجاراة في العِلْم: المناظرةُ والجدالُ؛ ليظهر علمه للناس رياء وسمعة. وتتجارى بهم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2713)، كتاب: الجهاد والسير، باب: السبق بين الخيل، ومسلم (1870)، كتاب: الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها، وهذا لفظ البخاري.

الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه: أي: يتداعَوْن في الأهواء الفاسدة يسببها مجرى الفرس. وضُمِّر: معناه تقليل علفها مدة، وإدخالهُا بيتًا كنينًا، وتُجلَّلُ فيه لتعرق ويجف عرقها، فيخفُّ لحمها، وتقوى على الجري. وقال بعضهم: وتُعلف الحبَّ والقضيم حتى تسمن وتقوى، ثم تُدخل بيتًا كنينًا وتُجلل فيه لتعرق ويجفَّ عرقها، فيصلب ويخف لحمها، ثم ترد إلى القوت، فلا تعلف إلا قوتًا، وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمى: المضمار. والموضع الذي تضمر فيه الخيل أيضًا: مِضْمار، ومن العرب من يطعمها اللحم واللبن في أيام التضمير. وقيل: تضميرها: أن تُشَدَّ عليها سروجُها وتُجلل بالأجلة، حتى تعرق تحتها، فيذهب رهلها، ويشتد لحمها. ويقال: ضُمِّر بالتشديد، وأُضمر بالهمزة والتخفيف، والضُّمْر بسكون الميم وضمها؛ مثل العشر، والعشر: خفة اللحم والهزال. وقد ضمَر الفرس بفتح الميم يضمر ضمورًا، وضَمُر بالضم لغة فيه. ويقال: ضمرت الفرس، وأضمرته (¬1). والحَفياء؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، وتمد، وتقصر، الأشهر: المد، والحاء مفتوحة بلا خلاف، قال صاحب "المطالع": وضبطه بعضهم بضمها. قال: وهو خطأ. قال الحازمي في "المختلف والمؤتلف": ويقال -أيضًا-: الحيفاء بتقديم، الياء على الفاء، والمشهور في كتب الحديث وغيرها: الحفياء. وقوله: "قال سفيان -يعني: ابن عيينة - وبين الحفياء والثنية خمسة أميال أو ستة". ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 59)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 491)، (مادة: ضمر).

هذا قول الأكثرين. وقال عقبة: ستة أميال أو سبعة (¬1). والثنية: الطريق في الجبل. وسميت ثنية الوداع؛ لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة، يودعهم مشيعوهم بها. وقيل: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودع بها بعض من خَلَّفَه على المدينة في إحدى خرجاته. وقيل: بعض سراياه المبعوثة. والصحيح: الأول؛ فإنه اسم قديم جاهلي لهذه الثنية. وقد قال نساء الأنصار حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع (¬2). وقوله: "من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل"، زريق -بتقديم الزاي وضمها، وبعدها راء-: بطن من الأنصار من الخزرج، نسب إليه جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم. والميل؛ حيث أطلق المراد به في المسافات: ألف باع، والباع: أربعة أذرع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، والأصبع ستُّ شعيرات، بطنُ حبة إلى ظهر أخرى، والشعيرة ست شعرات من شعر البغل، أو ما قام مقامه، والله أعلم. وفي الحديث أحكام: منها: جواز المسابقة بين الخيل. ومنها: تضميرها. وهذان الحكمان، لا خلاف فيهما. واختلف الناس في المسابقة بين الخيل، فقيل: هي سنّة، وقيل: من باب المباح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 220)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 14)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 411). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 261)، والتعليق على هذه الرواية.

ومنها: جواز تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وليس هو من باب تعذيب البهائم، بل هو من باب تدريبها للحرب، وإعدادها لحاجتها للطلب وللكر. ومنها: بيان الغاية التي يسابق إليها، ومقدار أمدها. ومنها: إطلاق الفعل على الأمر به والمسوغ له. وليس في الحديث دلالة على العوض في المسابقة، ولا على جوازها على غير الخيل، ولا على غير ذلك من الشروط التي اشترطت في عقد المسابقة؛ فإنه لم يصرح فيه بشيء من ذلك. وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض بين جميع أنواع الخيل، قويها مع ضعيفها، وسابقها مع غيره، سواء كان معها ثالث أم لا. فأما المسابقة بعوض، فجائزة بالإجماع، لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين، أو يكون منهما، ويكون معهما محلل، وهو ثالث على فرس مكافئ لفرسيهما، ولا يخرج المحلل من عنده شيئًا؛ ليخرج هذا العقدَ عن صورة القمار. ومنها: جواز إضافة المساجد إلى البانين لها، والمصلين فيها. وفي ذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها، وليس في ذلك تزكية لهم. وليست إضافة المسجد إلى بني زريق إضافةَ تمليك، وإنما هي إضافة تمييز. وقد ترجم البخاري لهذه المسألة، قال: باب: جواز قول: مسجد بني فلان (¬1). وروي عن إبراهيم النخعي: أنه كان يكره أن يقال: مسجد بني فلان، ولا نرى بأسًا أن يقال: مصلى بني فلان. وهذا الحديث يرد قوله، ولا فرق بين مصلى ومسجد، ولكن قد يقع الفرق ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 162)، وقد بوّب البخاري بقوله: هل يقال: مسجد بني فلان؟

الحديث الخامس عشر

بينهما من حيث إطلاق الكتاب العزيز في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فقد أضافها إليه - سبحانه وتعالى -، فلا ينبغي أن تضاف إلى غيره، إلا على جهة التعريف، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: عُرِضْتَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَني (¬1). اعلم أن غزوة أحد كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وغزوة الخندق كانت في شوال، وقيل: في جمادى الآخرة، وقيل: في ذي القعدة سنة خمس، وهو يوم الأحزاب، ومقتضى هذا: أن يكون ابن عمر في الخندق ابن ست عشرة سنة. وهذا الحديث في "الصحيحين" مصرح بأنه ابن خمس عشرة، فإما أن تكون الخندق في السنة الرابعة من الهجرة، فيكون ذلك صحيحًا، أو تكون في الخامسة كما ذكره أصحاب المغازي وغيرهم، فيحتمل أن ابن عمر كان في يوم أحد ابن ثلاث عشرة سنة وأشهُر، فعبر عنها بأربع عشرة، وكان في الخندق ابنَ خمس عشرة سنة وأشهُر، فعبر عنها بخمس عشرة، والله أعلم. قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري في كتابه "الدرر في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ": الذين ردهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2521)، كتاب: الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ.

قال: وأجازهم يوم الخندق. قال: وقد قيل: إن بعض هؤلاء إنما رده يوم بدر، وأجازه يوم أحد، وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة، وأجاز من بلغها. هذا آخر كلامه (¬1). قلت: وممن رُدَّ يوم أحد عقيبُ بن عمرو، [وأخوه] (¬2) سهيل بن عمرو، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حَبتة، استُصغروا يوم أحد. وسعد بن حَبتة: هو جد أبي يوسف القاضي، واسمه يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حَبتة، أنصاريُّ، وحَبْتَة: أم سعد، وهي بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة فوق، ثم هاء التأنيث، والله أعلم. وقوله: "لم يجزني، وأجازني" معناه: جعلني يوم الخندق رجلًا لي حكم الرجال المقاتلين. وفي الحديث دليل: على أن البلوغ بالسن محدد بخمس عشرة سنة، وهو مذهب الشافعي، والأوزاعي، وابن وهب، وأحمد، وغيرهم. قالوا: وباستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفًا، وإن لم يحتلم، فتجري عليه الأحكام؛ من وجوب العبادات، وغيرها، ويستحق سهم الرجل من الغنيمة، ويقتل إن كان من أهل الحرب. وقال بعضهم: لا يحكم ببلوغه بالسن إلا بعد سبع عشرة سنة، وقيل: بعد ثمان عشرة سنة. واعتذر عن هذا الحديث بأن الإجازة في القتال حكم منوط بإطاقته والقدرة عليه؛ فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر في الخمس عشرة؛ لأنه رآه مطيقًا للقتال، ولم يكن ميقاتًا؛ لأنه أراد الحكم على البلوغ وعدمه. ¬

_ (¬1) انظر: "الدرر في اختصار المغازي والسير" لابن عبد البر (ص: 147). (¬2) في "ح": "وأخو".

الحديث السادس عشر

وكان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - لما بلغه هذا الحديث جعله حدًّا، وكان يجعل من دون الخمس عشرة في الذرية، وعمل به الصحابة والتابعون وهلم جرًّا. قال شيخنا الإمام أبو زكريا النووي - رحمه الله -: وفيه دليل على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة، وهو الصحيح، قال: وجماعة من أهل السير والتواريخ يقولون: كانت سنة خمس، وهذا الحديث يرده؛ لأنهم أجمعوا على أن أحدًا كانت سنة ثلاث، فتكون الخندق سنة أربع؛ لأنه جعلها في هذا الحديث بعدها بسنة. هذا آخر كلامه (¬1). وقد ذكرنا الاحتمال فيه على ما قاله أهل السير والمغازي آنفًا، والله أعلم. وفيه دليل: على أنه ينبغي للإمام استعراض الجيش قبل الحرب، فمن وجده أهلًا، أجازه، ومن وجده غير أهل، رده، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، والله أعلم. * * * الحديث السادس عشر وعَنْهُ أيضًا: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسَمَ فِي النَّفَلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا" (¬2). أما النَّفَل -بفتح النون والفاء معًا-، فيطلق، ويراد به الغنيمة، وهو المراد هنا، وقد يراد به الزيادة والعطية غير الغنيمة، لكن لما كانت الغنيمة عطية من الله تعالى؛ حيث أحلها - سبحانه وتعالى - لهذه الأمة دون غيرها، سميت: نفلًا، وعلى ذلك حمل قوله - تعالى -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، وقد يراد به ما ينفله الإمام لسرية أو لبعض الغزاة خارجًا عن السهام ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 12). (¬2) رواه البخاري (3988)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين.

المقسومة، إما من أصل الغنيمة، أو من الخمس، على الاختلاف بين الناس كما قدمناه في حديث ابن عمر في سرية نجد، وإن سهامهم كانت اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا. قوله: "قسمَ للفرس سهمين، وللراجِلِ سهمًا" معناه: أنه أسهم للرجل وفرسه ثلاثة أسهم: سهمٌ له، وسهمان لفرسه. وقد روي هذا من حديثين؛ أحدهما: ما رواه مسلم في بعض طرقه: "للفرس سهمان، وللرجل سهم". من غير ألف في الراجل. واللام في قوله: للفرس؛ للتعليل، لا للملك أو الاختصاص؛ أي: أعطى الرجل سهمين لأجل فرسه؛ أي: لكونه ذا فرس، وللرجل سهمًا مطلقًا، وهذا معنى متعين الحمل عليه؛ للموافقة، والجمع بين الروايتين. وقد روي مفسرًا في غير رواية ابن عمر - رضي الله عنهما -، من رواية أبي معاوية، وعبد الله بن نمير، وأبي أسامة، وغيرهم، بإسنادهم عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه (¬1). ومثله من رواية ابن عباس، وأبي عمرة الأنصاري، والله أعلم. فقوله: أسهم، دليل على أنه ليس خارجًا عن السهمان، وقوله: ثلاثة أسهم، صريح في العدد المخصوص. وهذا الحديث صحيح الإسناد؛ فإنه مروي عن أبي معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم، فذكره. لكنه قد اختلف فيه على عبيد الله بن عمر؛ ففي رواية بعضهم عنه كرواية الكتاب، وقيل: إن هذا الراوي عنه ذلك وهمَ فيه. ولحديث أبي معاوية هذا عاضد من غيره ومعارض له لا يساويه في الإسناد: أما المعاضد: فرواية المسعودي: حدثني أبو عمرة عن أبيه، قال: أتينا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2733)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في سهمان الخيل، وأبو عوانة في "مسنده" (6691)، عن أبي معاوية، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهمًا، وأعطى الفرس سهمين (¬1). لكن المسعودي، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فيه مقال، وقد استشهد به البخاري. وعن رجل من آل أبي عمرة عن أبي عمرة بمعناه، إلا أنه قال: ثلاثة نفر. زاد: فكان للفارس ثلاثة أسهم (¬2). وأبو عمرة صحابي، واختلف في اسمه، فقيل: بشير بن عمرو، وقيل: ثعلبة بن عمرو، وقيل: عمرو بن محصن، وقيل غيره. رواهما أبو داود. وفي لفظ للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا (¬3). وفي لفظ آخر: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر للفرس سهمين، وللراجل سهمًا. قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس، فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس، فله سهم (¬4). ولفظ ابن ماجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم؛ للفرس سهمان، وللرجل سهم (¬5)، والله أعلم. وأما المعارض الذي لا يساويه في الإسناد، فمنه ما روى عبد الله بن عمر، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2734)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في سهمان الخيل، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 138)، وأبو يعلى في "مسنده" (922)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 326). (¬2) رواه أبو داود (2735)، كتاب: الجهاد والسير، باب: في سهمان الخيل، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 326). (¬3) رواه البخاري (2708)، كتاب: الجهاد والسير، باب: سهام الفرس. (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬5) رواه ابن ماجه (2854)، كتاب: الجهاد، باب: قسمة الغنائم، وابن حبان في "صحيحه" (4811).

وهو أخو عبيد الله الذي قدمنا ذكره، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم يوم خيبر، فذكر الحديث الذي ذكرنا آنفًا عن البخاري، وفسره نافع. قال الشافعي - رحمه الله -: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ. وقال في التقديم: فإنه سمع نافعًا يقول: للفرس سهمين، وللرجل سهمًا (¬1). ولا شك في تقدمة عبيد الله على عبد الله عند أهل العلم. وهما ابنا عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. وقد عضد رواية عبيد الله ما رواه أبو داود في "سننه" من حديث مجمع بن يعقوب بن مجمع، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري - رضي الله عنه -، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، فذكر شهوده الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الناس: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر على أهل الحديبية على ثمانية عشر سهمًا؛ وأن الجيش كان ألفًا وخمس مئة؛ فيهم ثلاث مئة فارس, فأعطى للفارس سهمين، وللراجل سهمًا (¬2). قال أبو داود: وحديث أبي معاوية أصح، والعمل عليه، والوهم في حديث مجمع ممن قال: ثلاث مئة فارس، وكانوا مئتي فارس، قال الشافعي - رحمه الله -: مجمع بن يعقوب شيخ لا يعرف. قال: فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله، ولم نرَ له خبرًا مثله يعارضه، ولا يجوز رد خبر إلا بخبر مثله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 325). (¬2) رواه أبو داود (2736)، كتاب: الجهاد، باب: فيمن أسهم له سهمًا، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 420)، والحاكم في "المستدرك" (2593)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 325). (¬3) قلت: العبارة فيها خلل واضح، فكلام أبي داود في "سننه" (3/ 76): قال أبو داود: حديث =

وقال البيهقي: والذي رواه مجمع بن يعقوب بإسناده في عدد الجيش وعدد الفرسان قد خولف فيه، ففي رواية جابر وأهل المغازي: أنهم كانوا ألفًا وأربع مئة، وهم أهل الحديبية. وفي رواية ابن عباس، وصالح بن كيسان، وبشير بن يسار: أن الخيل مئتا فارس، وكان للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، ولكل راجل سهم، والله أعلم (¬1). واعلم أنه إذا كان الجيش فرسانًا كلهم، أو رجالة كلهم، قسمت الغنيمة بينهم بالتسوية؛ فإن كان بعضهم فرسانًا، وبعضهم رجالة، جعل للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم: سهمان بسبب فرسه، وسهم بسبب نفسه، وبهذا قال عامة العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم؛ منهم: ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وابن جرير، وآخرون. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط: سهم لها، وسهم له. وحكي عنه أنه قال: لا أفضل بهيمةً على مسلم. وقال بعضهم: لم يتابع أحد أبا حنيفة على قوله إلا شيئًا روي عن علي وأبي موسى - رضي الله عنهما -. والجواب عن قوله: لا أفضل بهيمةً على مسلم، أن يقال له: فلا تساو بينهما، وقد قيل: إن السهم مستحق بما يلزم من المؤنة والتأثير في القتال، ¬

_ = أبي معاوية أصح، والعمل عليه، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال: "ثلاث مئة فارس"، وكانوا مئتي فارس. وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 325): قال الشافعي في القديم: مجمع بن يعقوب شيخ لا يعرف، فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله ... فلعل هذا سقط من الناسخ، إذ جُعلت عبارة أبي داود والشافعي عبارة واحدة منسوبة لأبي داود فقط، والحال ما قدمنا. (¬1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 325 - 326).

الحديث السابع عشر

ومؤنة الفرس أكثر من مؤنة الفارس، وتأثيره في القتال أكثر، ولو حضر بأفراس، لم يسهم إلا لفرس واحد. هذا مذهب الجمهور؛ منهم: الحسن، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي، ومحمد بن الحسن. وقال الأوزاعي، والثوري، والليث، وأبو يوسف: يسهم لفرسين. وروي مثله -أيضًا- عن الحسن، ومكحول، ويحيى الأنصاري، وابن وهب، وغيره من المالكيين. قالوا: ولم يقل أحد: إنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئًا روي عن سليمان بن موسى: أنه يسهم، والله أعلم. * * * الحديث السابع عشر وعَنْهُ أيضًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الجَيْشِ (¬1). اعلم أن للإمام نظرًا ومدخلًا في المصالح المتعلقة بالمال، أصلًا وتقديرًا، على حسب المصلحة، لا بحسب التشهي، والله أعلم. وحيث أطلق العلماء النظر للإمام أو نائبه أو غيرهما، إنما يعنى به هذا، لا التشهي، والله أعلم. وقد تقدم ذكر النفل بمعنى إعطاء الإمام لسرية أو لبعض الجيش خارجًا عن السُّهمان، وهو المراد في هذا الحديث. لكنه ليس مبينًا أنه من رأس الغنيمة أو من الخمس؛ فإن اللفظ محتمل لهما جميعًا، والناس مختلفون في ذلك. وقد تقدم ذلك وذكر قائله، ومذاهبهم فيه في الحديث التاسع من كتاب الجهاد هذا. وقد وردت أحاديث تدل على أن هذا النفل من أصل الغنيمة، رواها أبو داود ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2966)، كتاب: الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (1750)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال.

وغيره، وأحاديث تدل على أنه بعد إخراج الخمس منها. وترجم عليها أبو داود أيضًا، فقال: باب فيمن قال: الخمس قبل النفل (¬1)، وتأوله بعضهم على أنه بعد إقرار الخمس، لا إخراجه، فيبقى محتملًا له ولغيره. وبالجملة: فالتنفيل له تعلق بمسلك الإخلاص في الأعمال؛ حيث إن التنفيل للترغيب في زيادة العمل؛ من المخاطرة والمجاهدة، فينبغي أن يتفطن لما يضر من المقاصد الداخلة فيها، وما لا يضر، وهو موضع صعب دقيق المأخذ. ولا شك أن التنفيل له مداخله في قضاء الجهاد لله تعالى، ولكن لا يضر قطعًا بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لهم. وذلك دليل على أن بعض المقاصد الخارجة عن محضر التعبد لا تقدح في الإخلاص، لكن المشكل ضبط قانونها، وتمييز ما تضر مداخلته من المقاصد، وتقتضي الشركة فيه المنافاة للإخلاص، وما لا تقتضيه، ويكون تبعًا لا أثر له، وتتفرع عنه غير ما مسألة. والضابط الكلي لهذا المسلك: مراعاة أمر الله تعالى الطلبي، مع مراعاة المشقة المحصلة للمصلحة الموافقة للأمر في اجتهاده مع الصبر والاحتساب، فكل ما كان أقرب إلى ذلك، وحصل بسببه نقل من غير قصده بالوضع الأول، كان مخلصًا فيه غير قادح في إخلاصه، ولا تنقيص أجره، ويكون نظر الإمام في تكثير التنفيل وتنقيصه على هذا النمط، وهذا هو النظر بحسب المصلحة الشرعية، لا بحسب التشهي، ومراعاة عمر - رضي الله عنه - في ابنه عبد الله وغيره في العطاء يبين ذلك، والله أعلم. واختلف العلماء في حد النفل، فقال الشافعي: ليس فيه حد لا يتجاوز، وإنما هو لاجتهاد الإمام. وقال مكحول، والأوزاعي: لا يتجاوز به الثلث؛ حيث إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قفل، والله أعلم. واعلم أن الأنفال لله والرسول؛ حيث سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء منها، ¬

_ (¬1) انظر: "سنن أبي داود" (3/ 79).

الحديث الثامن عشر

فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، ثم أنزل الله تعالى حكم الغنائم. واختلف العلماء في آية الأنفال: فقيل: هي منسوخة بآية الغنائم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، وأن مقتضى آية الأنفال والمراد بها: أن الغنائم كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة كلها، ثم جعل أربعة أخماسها للغانمين بالآية الأخرى. وهذا قول ابن عباس وجماعة. وقيل: هي محكمة، وأن التنفيل من الخمس. وقيل: محكمة وأن للإمام أن ينفل ما شاء لمن شاء بحسب ما يراه. وقيل: محكمة مخصوصة، والمراد: إنفال السرايا، ولعل هذا الحديث يدل عليه، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عشر عَنْ أَبِي مُوْسَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1). تقدم الكلام على أبي موسى، هو الأشعري. واعلم أن حمل السلاح في دار الإسلام؛ لإرهابهم عن غير قصد القتل به، مكروه ممنوع منه؛ فإنَّ أمنَ المسلمين مطلوب للشرع؛ حيث إنهم استسلموا لله تعالى، وانقادوا لأمره، وحملُ السلاح منافٍ لذلك. وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى بقوله: "من حملَ علينا السلاحَ فليسَ مِنَّا"، فإذا حمله لإرعاب المفسدين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6660)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح فليس منا"، ومسلم (100)، كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح فليس منا".

والمخالفين بإذن الإمام، لم يكن حمله عليهم، بل لهم. ثم إن الحمل للسلاح بين المسلمين، إن كان لمقصود شرعي؛ من إظهار قوة الإسلام؛ لإرهاب العدو وإعلامهم بقوتهم واهتمامهم بقتالهم، فهذا مندوب لا شك فيه. وإن كان لعبًا ولهوًا وبطرًا، وتخييلًا وجردًا، فهو محذور من وجوه يعلمها أهل المعرفة والبصائر، والله أعلم. وقد يعبر بحمله عن مقصود السلاح، وهو القتل؛ لملازمته بالحمل له غالبًا، وعليه تدل قرينة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حملَ علينا السلاحَ"، وقد يعبَّر به عن الحمل حالَ القتال والقصد للضرب بالسيف على كل حال للمسلمين، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليس منا"، وقد ثبت مثله: "من غَشَّ فليسَ مِنَّا" (¬1)، و"ليسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخدودَ، وشَقَّ الجيوبَ .. " (¬2) في أحاديث كثيرة من ذلك. والمراد: ليس مثلنا، أو ليس على طريقنا أو هدينا، وما شابه ذلك. وإن كان المراد به الخروج عن المسلمين ودينهم، احتجنا إلى تأويله بالاستحلال لحمله على المسلمين بالمعنى الممنوع منه ونحوه، أو غيرهم ممن منع الشرع حمل السلاح عليه. وقد نقل عن السلف - رحمهم الله تعالى -: أنهم قالوا في مثل هذا الحديث وأشباهه: أن الأولى إطلاق لفظه، كما أطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير بيان ولا تأويل. قالوا: لأن إطلاقه أبلغُ في الزجر، وأوقعُ في النفوس من التأويل والبيان، والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل: على تحريم قتال المسلمين، وتغليظ الأمر فيه. وفيه دليل: على كراهة حمل السلاح لغير مصلحة شرعية. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (101)، كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا"، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه.

الحديث التاسع عشر

وقد نهى الشرع عن تعاطي السيف مسلولًا، وأمر بالإمساك على النصال، ومنع من الإشارة بالحديد ونحوه، خوفَ نزغ الشيطان من يده إلى أخيه المسلم، وكل ذلك دليل على احترام المسلمين، وتحريم تعاطي الأسباب الحاملة على أذاهم؛ لكرامتهم عند الله تعالى، وتعريف مقامهم، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عشر وعَنْهُ أيضًا، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلكَ في سَبِيلِ الله؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " (¬1). أما الشجاعة؛ فهي ضد الجبن. ثم القتال للشجاعة على أنواع: أحدها: أن يقصد به المقاتل إظهار الشجاعة، فيكون في الحديث إضمار تقديره: قاتل لإظهار الشجاعة، على حذف المضاف، وهذا مناف لسبيل الله. والثاني: أن يكون قتاله شجاعة، علة لقتاله من غير قصدٍ لشيء بالقتال، فهذا بمجرده، من حيث هو هو، لا يجوز أن يكون مرادًا؛ حيث إن الشجاع المجاهد في سبيل الله تعالى إنما قاتل لكونه شجاعًا، لا لقصد إظهار الشجاعة، ولا لكونه علة له. وهذا كما يقال: أعطى لكرمه، ومنع لبخله، وآذى لسوء خلقه؛ فكأنه قاتل لشجاعته، وهذا غير مناف لسبيل الله. الثالث: أن يكون قتاله للشجاعة فقط، وهو غير المعنى الذي قبله؛ حيث إن الأحوال ثلاثة: حال يقصد بها إظهار الشجاعة، وحال يقصد بها إعلاء كلمة الله تعالى: وحال يقاتل فيها لأنه شجاع، لا يقصد إعلاء كلمة الله تعالى، ولا يقصد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7020)، كتاب: التوحيد، باب: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، ومسلم (1904)، (3/ 1513)، كتاب: الإمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.

إظهار الشجاعة، وهذا ممكن؛ فإن الشجاع الذي دهمته الحرب وطبيعته مسارعة إلى القتال، يبدأ بالقتال لطبيعته، وقد يستحضر أنه لغير الله، أو لإعلاء كلمة الله، وقد لا يستحضرهما، ولا واحدًا منهما. ويوضح الفرق بينهما أن يقال: قاتل لإعلاء كلمة الله لأنه شجاع، فلا ينافي ذلك وجود الشجاعة، ويقال: قاتل للرياء، ولأنه شجاع؛ حيث إن الجبن منافٍ للقتال مع كل فرض يقصد بخلاف المعنى في إيجاده في القتال بقيد التجرد عن غيره، فإنه منافٍ للقصد. ومفهوم الحديث: أنه في سبيل الله، إذا قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وليس في سبيل الله إذا لم يقاتل لذلك. فعلى الوجه الأول: تكون فائدته بيان أن القتال لهذه الأغراض: مانع. وعلى الوجه الآخر: أن تكون فائدته أن القتال لأجل إعلاء كلمة الله: شرط. والفرق بينهما بيِّنٌ، ومفهوم الحديث يقتضي الاشتراط، لكن لا ينبغي أن يضيق بحيث يشترط مقارنته لوقت شروعه في القتال، بل يكون أوسع من هذا، وينبغي وجوده بالقصد العام؛ لتوجهه إلى القتال، وقصده بالخروج إليه لإعلاء كلمة الله تعالى. ويشهد لذلك: الحديث الصحيح: أنه يكتب للمجاهد استنانُ فرسِه وشربُها في النهر (¬1) من غير قصدٍ لذلك، لما كان القصد الأول واقعًا على الجهاد، لم يشترط كونه في الجزئيات، بل لا يشترط اقتران القصد بأول الفعل المخصوص، بعد كون القصد صحيحًا في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى؛ دفعًا للحرج والمشقة، فإن حالة الفزع حالة دهش، وقد تأتي غفلة، فالتزام خطور أو حضور النيات في ذلك الوقت حرج ومشقة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) روى البخاري في "صحيحه" (2698)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من احتبس فرسًا؛ لقوله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ} [الأنفال: 60]، عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من احتبس فرسًا في سبيل الله؛ إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة".

وأما الحمية؛ فهي الأَنَفَة والغيرة عن عشيرته، وهي من فعل القلوب، ولا تقتضي أن يكون القتال لها مقصودًا للفاعل، إما مطلقًا، وإما في مراد الحديث مما فسرت به إلا بالقصد، ودلالة السياق حينئذ تقتضي أن يكون قد جاء للقتال في سبيل الله، إما لانصرافه إلى هذا الغرض وخروجه عن القتال لإعلاء كلمة الله، وإما لمشاركته المشاركة القادحة في الإخلاص. والمراد بالحمية: الحمية لغير دين الله تعالى، وبهذا يظهر ضعف الظاهرية في مواضع كثيرة. وأما الرياء؛ فهو ضد الإخلاص، وحقيقتُه: ترك العمل المطلوب لأجل الناس، وهو يقتضي بداية العمل لأجل الناس، وهو مستحيل أن يجتمع العمل لأجل الله تعالى ولأجل الناس، فيكون القتال بعينه مخلصًا وغير مخلص في حال واحدة، وهذا محال، بل يقتضي ذلك أن يكون شركًا في القتال وغيره؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: تركُ العملِ لأجل الناس رياء، والعملُ لأجل الناس شرك، والإخلاصُ أن يعافيك الله منهما (¬1). وقال غيره: لا يعمل للناس شيئًا، ولا يترك لهم شيئًا. قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: فإن قلت: فإذا حملت قوله: قاتل للشجاعة؛ أي: لإظهار الشجاعة، فما الفائدة في قوله بعده: ويقاتل رياء؟ قلت: يحتمل أن يراد بالرياء: إظهارُ قصده للرغبة في ثواب الله تعالى، والمسارعة للقربات، وبذل النفس في مرضاة الله تعالى، والمقاتل لإظهار الشجاعة مقاتل لغرض دنيوي، وهو تحصيل المحمدة من الناس، والثناء عليه بالشجاعة، والمقصدان مختلفان. ألا ترى أن العرب في جاهليتها كانت تقاتل للحمية وإظهار الشجاعة، ولم يكن لها في المراءاة بإظهار الرغبة في ثواب الله تعالى والدار الآخرة؟ فافترق القصدان. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 95).

ولذلك القتالُ حميةً مخالفٌ للقتالِ شجاعة، والقتالِ للرياء؛ فإن الأول قتال للمحمدة مخلق الشجاعة وصفتها، وأنها قائمة بالمقاتل، وسجية له. والقتال للحمية قد لا يكون لذلك، وقد يُقاتلُ الجبانُ حميةً لكفره، أو لحريمه مكره لئلا يطل، والله أعلم (¬1). وفي هذا الحديث دليل: على وجوب الإخلاص في الجهاد. وفيه: تصريح بأن القتال للشجاعة والحمية والرياء خارجٌ عن الإخلاص لله تعالى. وفيه دليل على أن الإخلاص لله تعالى هو العمل لأجل امتثال أمره، واجتناب نهيه؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، فهو في سبيلِ الله"، وكلمة الله تعالى هي أمره ونهيه. وفيه دليل: على أن المجاهد في سبيل الله تعالى مؤمن، فلو قاتل لطلب ثواب الله تعالى، أو للنعيم المقيم، كان في سبيل الله تعالى أيضًا، ويشهد له فعل الصحابي الذي سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قوموا إلى جنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ"، فألقى تمرات كُنَّ في يده، وقاتل حتى قُتل (¬2) - رحمه الله تعالى -، وظاهر هذا أنه قاتل لثواب الجنة. والشريعة كلها طافحة بأن الأعمال لأجل الجنة أعمال صحيحة غير معلولة؛ لأن الله تعالى ذكر صفة الجنة، وما أعدَّ فيها للعاملين؛ ترغيبًا للناس في العمل، ومحال أن يرغبهم في العمل للثواب، ويكون ذلك معلولًا مدخولًا، اللهم إلا أن يدعي أن غير هذا المقام أعلى منه، فهذا قد يسامح فيه. وأما أن يكون علة في العمل، فلا، إذا ثبت أن كلمة الله أمرُ الله ونهيه، وأن المطلوب إعلاؤها بالامتثال أو الانتهاء، وأن الموعود عليها حثًّا على الامتثال ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 248). (¬2) رواه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

والانتهاء حق، كان المقاتل للموعود به على الفعل أو الترك مقاتلًا في سبيل الله تعالى، ولا يكون المقاتل لثواب الله تعالى والجنة منافيًا للقتال لإعلاء كلمة الله؛ لأن طلب الفعل وتركه والجزاء عليه والترغيب على الفعل، والترهيب من الترك كله ثبت بكلمة الله، فمن قاتل لواحد منهما، فقد قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى، وهو في سبيل الله، فيكون القتال لإعلاء كلمة الله تعالى؛ التي هي الأمر بالقتال وطلبه والمقصود منه في سبيل الله لا على سبيل الحصر، فلا يكون القتال لغيره من الثواب والجزاء، خارجًا عن سبيل الله؛ حيث إنه ثابت بوعد الله تعالى، والحث على القتال به. فلا يضاد ذلك الإخلاص لله تعالى، بل يكون من فعل فعلًا لطلب ثواب الله تعالى، أو تركه خوفًا من عقاب الله تعالى، مخلصًا له - سبحانه وتعالى -؛ حيث إن الثواب والعقاب من المضاف إلى الله تعالى، إيجادًا وحكمًا وجزاءً، والله أعلم. وفيه دليل: على تحريم الفخر بالشجاعة على الناس، فإن فَخَرَ بها لكونها فضْلًا من الله تعالى، فليس بحرامٍ؛ فإن التحدثَ بنعم الله تعالى مطلوب، وهو شكر لها. وفيه دليل: على تحريم الحَمِيَّةِ غيرِ الدينية؛ فإن الحميَّةَ للدين مطلوبةٌ شرعًا، وتسمى الحُرْقة على الدين والخير، وذلك مُجمَعٌ عليه، وهو من أفضلِ القُربات، وبه امتاز أهل العنايات على غيرهم من أهل الطاعات. وفيه دليل: على تحريم الرياء، وقد ثبت في الصحيح: "مَنْ راءى، راءى اللهُ به" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6134)، كتاب: الرقاق، باب: الرياء والسمعة، ومسلم (2987)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله، عن جندب العلقي - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (2986)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله، عن ابن عباس - رضي الله عنه -، وهذا لفظه.

وفيه: السؤال عن الأعمال القلبية والقصد إليها. وفيه: وجوب الجواب عنها لمن عنده علم على الفور. واعلم أن الرياء لا يدخل في الأعمال القلبية إلا بالإصرار على إرادته، وكذلك لا يدخل في الأعمال المأمور بإظهارها؛ كالجمعة والجماعات، وأداء الزكوات الواجبات، ونحو ذلك، إلا أن يقصده ويصرَّ عليه، فيكون بقصده له وإصراره عليه مرائيًا فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أظهر قصده للناس وإصراره، كان مرائيًا فيما بينه وبينهم، ولا يتصور الرياء فيما أمر بإظهاره بمجرده، والله أعلم. * * *

كتاب العتق

كتاب العتق العتقُ: الحريةُ. قال صاحب "المحكم": يقال: عتق يعتق عِتقًا وعَتقًا -بكسر العين وفتحها-، وعتاقًا وعتاقة، فهو عتيق، وهم عتقاء وأعتقة، فهو معتَق وعَتيق، وهم عُتقاء، وأمة عتيق وعتيقة، وإماء عَتائق، وحَلَفَ بالعِتاق؛ أي: الإعتاق. وزاد الجوهري، فقال: عتق؛ فهو عتيق وعاتق. قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عَتَقَ الفرسُ: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: طار واستقلَّ، والعبدُ بالعتقِ يتخلَّصُ ويذهبُ حيثُ شَاء (¬1). * * * الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيْمَةَ عَدْلٍ، فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 427)، و"المُغرب" للمطرزي (2/ 41)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 135)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" له أيضًا (ص: 243)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 234)، (مادة: عتق). (¬2) رواه البخاري (2386)، كتاب: العتق، باب: إذا أعتق عبدًا بين اثنين أو أمة بين الشركاء، ومسلم (1501)، في أول كتاب: العتق.

اعلم أن صيغة "من" للعموم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركًا"، فتقتضي دخول أصناف المعتقين في الحكم والشرك. والشقيص: الشريك. فقال: هو شركي وشقيصي: أي شريكي في شِقص من الأرض، والله أعلم. ومما يدخل في عموم المعتِقين: المريض. وقد اختلف في عتقه شقصًا من عبدٍ: فالشافعية يرون أنه [إذا] (¬1) خرج من الثلث جميعُ العبد، قُوِّمَ عليه نصيبُ الشريك، وعتقَ عليه؛ لأن تصرف المريض في ثلثه كتصرف الصحيح في كله. ونقل عن أحمد - رحمه الله -: أنه لا يقوم في حال المرض. وذكر أبو الوليد بن رشيد قاضي الجماعة عن الماجشون من المالكية فيمن أعتق حصة من عبد بينه وبين شريكه في المرض: أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه، إلا من رأس ماله، إن صح، وإن لم يصح، لم يقوَّم في الثلث على كل حال، وعتق في حصته وحده. والعموم -كما ذكرنا- يقتضي التقويم، وتخصيصه بما يحمله الثلث مأخوذ من الدليل الدال على اختصاص تصرف المريض في التبرعات. ومما يدخل في عموم المعتقين: المسلم والكافر. وللمالكية في ذلك تصرف؛ فإن كان الشريكان والعبد كفارًا، لم يلزموا بالتقويم، وإن كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا، فإن أعتق المسلم، حمل عليه، مسلمًا كان العبد أو ذميًّا. وإن أعتق الكافر، فقد اختلفوا في التقويم على ثلاثة مذاهب: الإثبات، والنفي، والفرق بين أن يكون العبد مسلمًا، فيلزمه التقويم، وبين أن يكون ذميًّا، فلا يلزم. وإن كانا كافرين والعبدُ مسلمًا؛ فروايتان. ¬

_ (¬1) ليست في "ح".

وللحنابلة أيضًا وجهان فيما إذا عتق الكافر نصيبه من مسلم وهو مسلم، هل يسري إلى باقيه؟ وهذا التفصيل يقتضي تخصيص صور من هذا العموم: أحدها: إذا كان الجميع كفارًا، وسببه ما دل عندهم على عدم التعرض للكفار في خصوص الأحكام الفرعية. وثانيها: إذا كان المعتق هو الكافر على مذهب من يرى ألا يقوم، أو لا يقوم إذا كان العبد كافرًا. فأما الأول: فرأى أن المحكوم عليه بالتقويم هو الكافر، ولا إلزام له بفروع الأحكام الإسلامية. وأما الثاني: فرأى أن التقويم إذا كان العبد مسلمًا؛ لتعلق حق المعتق بمسلم. وثالثها: إذا كانا كافرين والعبد مسلمًا على قول، وسببه ما ذكرناه من تعلق حق المسلم بالعتق. وهذه التخصصات إن أخذت من قاعدة كلية لا يستند فيها إلى نص معين، فيحتاج إلى الاتفاق عليها، وإن استندت إلى نص معين، فلا بد من النظر في دلالته مع دلالة هذا العموم. ووجه الجمع بينهما والتعارض قوله: "شركاء": الشرك في الأصل: مصدر لا يقبل العتق، وأطلق على متعلقه، وهو المشترك، فلا بد من إضمار جزء وما يقاربه؛ حيث إن المشترك في الحقيقة هو جملة العين، أو الجزء المعين منها إذا أفرد بالتعيين؛ كاليد والرجل مثلًا، وأما النصيب المعين، فلا اشتراك فيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قُوِّمَ عليهِ قيمةَ عَدْلٍ"؛ هو بفتح العين؛ أي: لا زيادة ولا نقص. وقوله: "وإلَّا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ"؛ اختلف في هذا، هل هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أم من كلام الراوي عن ابن عمر -وهو نافع-؟

والذي رواه مالك وغيره من المحققين والحفاظ الضابطين: أنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن مالكًا وعبيد الله العمري، روياه ووصلاه بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعلاه منه من غير بيان لكونه مدرجًا من كلام غيره، مع شدة تحريهما وبسطتهما. وهذا هو الظاهر. ورواه أيوب عن نافع، فقال: قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، ففصله من الحديث، وجعله من قول نافع. قال القاضي عياض - رحمه الله -: وما قاله مالك، وعبيد الله العمري، أولى، وقد جوداه، وهما في نافع أثبتُ من أيوب عند أهل هذا الشأن. كيف وقد قال أيوب مرة: لا أدري هو من الحديث، أم هو شيء قاله نافع؟ فقد شك فيه. وقد رواه يحيى بن سعيد عن نافع، وقال في هذا الموضع: وإلا فقد جاز ما صنع، فأتى به على المعنى، قال: وهذا كله يرد قول من قال بالاستسعاء، والله أعلم (¬1). وفي هذا الحديث أحكام مستنبطة، وأحكام مصرح بها: أما المصرح بها؛ فمنها: أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك، قوم عليه باقيه إذا كان موسرًا بقيمة باقيه، سواء كان العبد مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان الشريك مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان العتيق عبدًا أو أمة، ولا خيار للشريك في هذا، ولا للعبد، ولا للمعتق، بل ينفذ هذا الحكم وإن كرهوه كلهم؛ مراعاة لحق الله تعالى في الحرية. وأجمع العلماء على أن نصيب المعتِق يعتق بنفس الإعتاق، إلا ما حكي عن ربيعة أنه قال: لا يعتق نصيب المعتِق، موسرًا كان أو معسرًا، وهذا قول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة كلها، وللإجماع. ¬

_ (¬1) وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 265)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 139)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 154).

وأما نصيب الشريك، فاختلف العلماء في حكمه إذا كان المعتق موسرًا على ستة مذاهب: أحدها: وهو الصحيح في مذهب الشافعي، وبه قال ابن شبرمة، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وبعض المالكية: أنه عتق بنفس الإعتاق، ويقوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق، ويكون ولاء جميعه للمعتِق، وحكمه من حين الإعتاق حُكم الأحرار في الميراث وغيره من الأحكام، وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قبله. قال هؤلاء: ولو أعسر المعتق بعد ذلك، استمر نفوذ العتق، وكانت القيمة دينًا في ذمته، ولو مات، أخذت من تركته، فإن لم تكن له تركة، ضاعت القيمة، واستمر عتق جميعه. قالوا: فلو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه، كان إعتاقه لغوًا؛ لأنه قد صار كله حرًّا. المذهب الثاني: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، وهو المشهور من مذهب مالك، وبه قال أهل الظاهر، وهو قول الشافعي. والمذهب الثالث: أن الشريك بالخيار، إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق نصيبه، والولاء بينهما، وإن شاء قُوم نصيبه على شريكه المعتق، ثم يرجع المعتق بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك، والولاء كله للمعتق، والعبدُ في مدة السعاية بمنزلة المكاتب في كل أحكامه، هذا مذهب أبي حنيفة. المذهب الرابع: مذهب عثمان البتي: لا شيء على المعتق، إلا أن تكون جارية رابعة تراد للوطء، فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر. الخامس: حكاه ابن سيرين: أن القيمة في بيت المال. السادس: محكي عن إسحاق بن راهويه: أن هذا الحكم للعبيد دون الإماء.

وهذا القول شاذ مخالف للعلماء كافة، والأقوال الثلاثة قبله فاسدة مخالفة لصريح الأحاديث، فهي مردودة على قائلها. هذا كله إذا كان المعتق لنصيبه موسرًا، فأما إذا كان معسرًا حال الإعتاق، ففيه أربعة مذاهب: أحدها: مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي عبيد، وموافقيهم: ينفذ العتق في نصيب المعتق فقط، ولا يطالب المعتق بشيء، ولا يستسعى العبد، بل يبقى نصيب الشريك رقيقًا كما كان، وبهذا قال جمهور العلماء علماء الحجاز؛ للحديث. المذهب الثاني: مذهب ابن شبرمة، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وسائر الكوفيين، وإسحاق: يستسعى العبد في حصة الشريك. واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدى العبد في سعايته على معتقه: فقال ابن أبي ليلى: يرجع عليه، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يرجع، ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب، وعند الآخرين هو حر بالسراية. المذهب الثالث: مذهب زفر، وبعض البصريين: أنه يقوم على المعتق، ويؤدي القيمة إذا أيسر. الرابع: حكاه القاضي عياض عن بعض العلماء: أنه إن كان المعتق معسرًا، بطل عتقه في نصيبه أيضًا، فيبقى العبد كله رقيقًا كما كان، وهذا مذهب باطل. أما إذا ملك الإنسان عبدًا بكماله، فأعتق بعضه، فيعتق كله في الحال بغير استسعاء، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، والعلماء كافة. وانفرد أبو حنيفة فقال: يستسعى في نفسه لمولاه. وخالفه أصحابه في ذلك، فقالوا بقول الجمهور. وحكى القاضي أنه روي عن طاوس، وربيعة، وحماد، ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة، وقاله أهل الظاهر.

وعن الشعبي، وعبيد الله، عن الحسن العنبري: أن للرجل أن يعتق من عبده ما شاء، والله أعلم (¬1). فلو كان نصيب الشريك مرهونًا، فهل يمنع الرهن سراية العتق إلى نصيب شريكه؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي - رحمهم الله -، وظاهر عموم الحديث يقتضي عدم المنع من السراية، وكأنه يؤدي إلى تعارض حق الله تعالى في عتق المرهون، وحق المرتهن في الوثيقة؛ حيث إن ملك الشريك لم يزل عن نصيبه المرهون، كيف وحق المرتهن غير متعين في المرهون، فإنه يرجع إلى قيمته، فلا يمنع سراية العتق، فيقوى العمل بعموم اللفظ، ويلغى المانع من إعماله. وأجمع العلماء على أن الراهن لو أراد أن يوفي من غير العين المرهونة، كان له ذلك، ولا يتعين الوفاء منها، والله أعلم. ولو كاتبا عبدًا، ثم أعتق أحدهما نصيبه، فقد تعارض عموم لفظ الحديث والتخصيص بعدم المانع، وهو: صيانة الكتابة عن الإبطال. وغاية ما في تنجيز عتقه بالسراية إلى نصيب الشريك المكاتب، إبطال حق الولاء له في نصيبه. لكن لفظ الحديث يتناوله؛ من حيث إنه عبدٌ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهمٌ، فيتناول لفظ عموم الحديث إليه أقرب، فيسري العتق إلى نصيب الشريك المكاتب، ويعتق؛ لما فيه من تنجيز العتق في الحال على تأخر العتق بالكتابة، والشارع متشوف إلى العتق بوصف التنجيز. وكذلك لو كان العبد مدبَّرًا، فأعتق أحدُهما نصيبه فيه، فإن كان الحكم فيه كالكتابة وأولى، وتناول لفظ العموم هاهنا أقوى من الكتابة؛ حيث إنه يجوز بيع المدبر. ولهذا الأصح من قولي الشافعي عند أصحابه: أنه يقوم على المعتق نصيب الشريك. وغاية ما في هذا المدبر: أن العتق وسرايته وإليه أبطل حقه من قربه، وهي ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 138).

تدبير النصيب الذي له، والذي يجوز له إبطاله بالبيع، والله أعلم. فلو أعتق نصيبه من جارية، ثبت الاستيلاد في نصيب شريكه منها، فمنع السراية هنا قوي؛ لأنها تتضمن نقل الملك، وأم الولد لا تقبل نقل الملك من مالك إلى مالك عند من يمنع بيعها، وهو أصح الوجهين عند الشافعية - رحمهم الله -. ومن يُجري عموم لفظ الحديث يُلغي هذا المانع بأن الإعتاق وسرايته كالإتلاف، وإتلاف أم الولد يوجب قيمتها، والتقويم سبيله سبيل غرامة المتلفات، وذلك يقتضي تخصيص العموم لصدور أمر جُعل إتلافًا، والله أعلم. ومنها: أنه يشترط في المعتق أن يكون مختارًا للعتق في العبد المشترك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتقَ شركًا له"؛ فإنه يقتضي صدور العتق منه، واختياره له، فيثبت الحكم حيث كان مختارًا، وينتفي حيث لا اختيار، إما من حيث المفهوم، وإما لأن السراية على خلاف القياس، فيختص بمورد النص، وإما لإبداء معنى مناسب يقتضي التخصيص بالاختيار. ولا شك أن إصدار العتق بصيغة مقتضية له بنفسها داخلة في مدلول الحديث. فلو ورث بعضَ قريبه، عتقَ عليه ذلك البعض من غير اختيار، ولا يسري إلى باقيه، ولا يقوم عليه عند الشافعية، ونص عليه بعض المالكية؛ لعدم اختيار العتق وسببه معًا. وعن أحمد - رحمه الله - رواية: أنه يعتق عليه نصيب الشريك إذا كان موسرًا، وكأنه يجعل العتق الشرعي الناشئ عن الملك القهري قائمًا مقام الملك والعتق الاختياريين. ومن أمثلة إرث بعض قريبه وعتقه عليه: إذا عَجَّزَ المكاتب نفسَه بعد أن اشترى شقصًا يعتق على سيده، فإن الملك والعتق يحصلان بعد اختيار السيد، فهو كالإرث، فلو وجد سبب العتق باختياره كقبوله بيع بعض قريبه أو هبته أو الوصية له به.

وقد نزل ذلك الشافعي منزلة المباشرة، ونص عليه بعض المالكية في الشراء والهبة، فيسري إلى باقيه. ومن ذلك: لو عجَّز السيد مكاتبه، بعد أن اشترى شقصًا ممن يعتق على سيده، فانتقل إليه الملك بالتعجيز الذي هو سبب العتق لما أجازه، فهو كاختياره بسبب العتق بالشراء وغيره. وفيه اختلاف لأصحاب الشافعي - رحمهم الله -، ويضعف هذا عن الأول؛ لأنه لم يقصد التمليك، وإنما قصد التعجيز، فحصل العتق ضمنًا بخلاف الأول؛ فإنه منزل منزلة المباشرة باختيار التمليك بالقبول، فهو أقوى من التعجيز الذي حصل العتق فيه ضمنًا، والله أعلم. ولا فرق بين الاختيار في الملك وبين الاختيار في سببه، فلو أكره على العتق بحق حكم عليه به شرعًا، نفذ مكان ذلك خارجًا عن حكم الإكراه، ولم يدخل تحت اختياره سبب العتق، ففرق بين اختياره ما يوجب العتق في نفس الأمر، وهو سبب العتق، وبين اختياره ما يوجبه ظاهرًا. فعلى هذا، إذا قال أحد الشريكين لصاحبه: قد أعتقت نصيبك، وهما معسران عند هذا القول، ثم اشترى أحدهما نصيب صاحبه، فإنه يحكم بعتق النصيب المشترى عنده؛ مؤاخذة للمشتري بإقراره، فهل يسري إلى نصيبه بمقتضى ما قررناه؟ إنه لا يسري؛ لأنه لم يختر ما يوجب العتق في نفس الأمر وإنما اختار ما يوجب الحكم به ظاهرًا. وقال بعض القدماء من الحنابلة: يعتق جميعه، وهو ضعيف، والله أعلم. ومنها: لو علق عتق نصيبه من العبد المشترك على صفة، فوجدت الصفة، عتق، وكان ذلك قائمًا مقام العتق المنجز في السراية والتقويم. وأما العتق إلى أجل، فاختلف المالكية فيه: والمنقول عن مالك وابن القاسم - رحمهم الله -: أنه يقوم عليه الآن، فيعتق إلى أجل، وقال سحنون: إن شاء الممسك، قومه الساعة، فكان عتقه إلى سنة

مثلًا جزاء، وإن شاء تماسك، وليس يبيعه قبل السنة إلا من شريكه، وإن أتت السنة، قوم على مبتداء التقويم. ومنها: أن الشريك المعتق لو كان نصيبه قليلًا أو كثيرًا، عتق، وتعلق به حكم السراية بشرطه؛ حيث إن الشرك منكَّر، وهو واقع في سياق الشرط؛ فيقع على كل قليل وكثير. فلو أعتق عضوًا معينًا؛ كاليد أو الرجل مثلًا، اقتضى الحديث ثبوتَ الحكم فيه. وخلاف أبي حنيفة في الطلاق جارٍ هاهنا، وتناول لفظ الحديث لهذه الصورة أقوى من تناولها للجزء المشاع؛ لما قيدناه؛ لأن الجزء الذي تفرد بالتعيين مشترك حقيقة، فلو أعتق نصيبه، اقتضى الحديث مصادقته لنصيبه. فعلى هذا، لو قال: أعتقت نصيب شريكي، لم يؤثر في نصيبه، ولا في نصيب الشريك، على المذهبين، فلو قال للعبد الذي يملك نصفه: نصفك حر، وأعتقت نصفك، فهل يحمل على النصف المختص به، أو يحمل على النصف شائعًا؟ فيه اختلاف لأصحاب الشافعي. وعلى كل حال، فقد عتق، إما كل نصيبه، أو بعضه، فهو داخل تحت الحديث. ومنها: ثبوتُ الحكم في العبد المشترك، وهو مقتضى الحديث، والأمةُ مثلُه، وهو قياس بالنسبة إلى هذا الأصل، وفي معناه الذي لا ينبغي أن ينكره منصف، غير أنه ورد ما يقتضي دخول الأمة في اللفظ. فقد روى البيهقي عن مالك عن نافع، عن ابن عمر: "من أعتقَ شِرْكًا له في مملوك"، وروى أيوب عن نافع مثله (¬1)، وروى بشر بن المفضل عن عبيد الله: ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 277)، من طرق عدة، ليس فيها مالك، والحديث قد رواه البخاري في "صحيحه" (2369)، كتاب: الشركة، باب: الشركة في الرقيق، بهذا اللفظ، ورواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 772)، بلفظ: "من أعتق شركًا له في عبد".

"في عبد"، وهو لفظ الكتاب، وفي بعض هذه الروايات عموم. وجاء في رواية موسى بن عقبة عن نافع، عن ابن عمر ما هو أقوى من ذلك: أنه كان يرى في العبد والأمة تكون بين الشركاء، فيعتق أحدهم نصيبه منه، يقول: قد وجب عليه عتقه كله. وفي آخر الحديث يخبر بذلك ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وكذلك جاء في رواية صخر بن جويرية عن نافع، يذكر العبد والأمة قريبًا مما ذكرناه من رواية موسى، وفي آخره رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: اعتبار يسار المعتق في وقت العتق؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فكانَ له مالٌ يبلغُ ثمنَ العبد" بالفاء، سواء اقتضى ذلك اليسار وقت العتق، أو حاله، فلو كان معسرًا لم يسرِ. وتقدم الاختلاف في المذاهب فيه قريبًا. وبه قال الشافعية - رحمهم الله -، قالوا: إذا أوصى أحد الشريكين بعتق نصيبه بعد موته، فلا سراية، وإن خرج كله من الثلث؛ لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث، ويبقى الميت لا مال له، فلا يقوم على من لا يملك شيئًا وقت نفوذ العتق في نصيبه، وكذلك لو كان يملك كل العبد، فأوصى بعتق جزء منه، فأعتق منه جزءًا، لم يسر. وكذلك لو دبر أحدُ الشريكين نصيبه فقال: إذا متُّ فنصيبي منك حُرٌّ، فكله جارٍ على ما ذكرناه عند من قال به (¬2). وظاهر مذهب المالكية في هذه المسألة في التدبير: أنه لا يسري، وقيل: إنه يقوم في ثلثه، وجعله موسرًا بعد الموت. ومنها: أن قيمة الشيء تسمى ثَمَنًا؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "فكانَ له مالٌ يبلغُ ثمنَ العبدِ"، والمراد بالثمن: قيمةُ العبد؛ فإن الثمنَ ما اشتريت به العينَ، وإنما تلزم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2389)، كتاب: العتق، باب: إذا أعتق عبدًا بين اثنين، أو أمة بين الشركاء. (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (12/ 115).

السراية بوجود القيمة، لا بالثمن، وقد تبين المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قُوِّمَ عليه قيمةَ عدلٍ". وفي رواية عمرو بن دينار عن سالم، عن أبيه: "أَيُّما عَبْدٍ كانَ بينَ اثنينِ، فأعتقَ أحدُهما، فإنْ كانَ موسِرًا، فإنه يُقَوَّمُ عليه بأعلى القيمةِ"، أو قال: "قيمةً لا وَكْسَ ولا شَطَطَ" (¬1). وفي رواية أيوب: "وكانَ له من المالِ ما يبلغُ ثمنَهُ بقيمةِ العدلِ" (¬2)، وفي هذا كله ما يبين أن المراد بالثمن: القيمة، فلو كان المال لا يبلغ كمال القيمة، ولكن قيمة بعض النصيب، فمقتضى الحديث تعليق الحكم بمال يبلغ ثمن العبد. وقد ذكر أصحاب الشافعي - رحمهم الله - في السراية بذلك وجهين. فيمكن استدلال من لا يرى السراية بمفهوم لفظ الحديث، ويعضده أن في السراية تبعيض ملك الشريك عليه، والأصح عندهم السراية إلى القدر الذي هو موسر به تحصيلًا للحرية بقدر الإمكان، والمفهوم في هذا ضعيف؛ فلو كان عليه دين يساوي القيمة، أو يزيد عليها، فهل يمنع السراية والتقويم؟ فيه الخلاف في منع المدين الزكاة؛ حيث اشترك هو والعتق في كونهما حقًّا لله - تعالى - تعلق بآدمي، والمالكية يرون أن من عليه دين بقدر ماله، فهو معسر، فيقضى هنا على أصلهم منع السراية. وظاهر الحديث أن الدين لا يكون مانعًا هاهنا؛ تخصيصًا لهذه الصورة بالمانع الذي يقيمه في العتق والزكاة، فلو ملك ما بقي بنصيب شريكه، ولم يملك غيره، فهل يقوم عليه مقتضى الحديث التقويم؟ والشافعية أخرجوا قوتَ يومه، وقوتَ من تلزمه نفقته، ودستَ ثوبٍ، وسكنى يوم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 194)، وفي "اختلاف الحديث" (ص: 562)، ومن طريقة البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 275). (¬2) تقدم تخريج هذه الرواية عند البخاري في "صحيحه".

والمالكية اختلفوا: فقيل باعتبار قرب الأيام، وكسوة ظهره؛ كما في الديون التي عليه، ويباع منزله الذي يسكن فيه، وسوار بيته. قالوا: وإنما يترك له ما يواريه لصلاته. واختلف العلماء في وقت حصول العتق عند وجود شرائط السراية إلى الباقي: وللشافعي - رحمه الله - ثلاثة أقوال: أحدها -وهو الأصح عند أصحابه-: أنه يحصل بنفس الإعتاق، وهي رواية عن مالك - رحمه الله -. الثاني: أن العتق لا يحصل إلا إذا أدي نصيب الشريك، وهو ظاهر مذهب مالك. والثالث: التوقُّف، فإن أدى القيمة، بان حصولُ العتق من وقت الإعتاق، وإلَّا، بانَ أنه لم يعتق. وألفاظ الأحاديث في ذلك مختلفة عند الرواة، فبعضها يدل على الإعتاق بعد التقويم والإعطاء، فيكون عتق الباقي للتقويم مرتبًا، وذلك يدل على ترتيب في الوجود أو في المرتبة، وهو باطل؛ حيث إن عتق النصيب الباقي على قول السراية بنفس إعتاق الأول، إما معه، أو عقبه. واعلم أن التقويم إن أريد به تقويم الحاكم، فهو متأخر في الوجود عن عتق النصيب والسراية معًا، ولا يكون عتق الشريك مرتبًا على التقويم مع ما فيه من المجاز، فالتقويم بهذا التفسير مع العتق الأول يتقدم على الإعطاء وعتق الباقي، فلا يكون عتق الباقي متأخرًا عن التقويم على هذا التفسير، لكنه متأخر على ما دل عليه ظاهر اللفظ. وإذا بطل الثاني، تعين الأول؛ وهو أن يكون عتق الباقي راجعًا إلى الترتيب في الوجود؛ أي: يقع أولًا التقويم، ثم الإعطاء وعتق الباقي، وهو مقتضى مذهب مالك - رحمه الله -.

إلا أنه يبقى على هذا احتمال أن يكون "وعتقَ عليه العبدُ" معطوفًا على "قُوِّمَ قيمةَ عدل"، لا على "أعطي شركاؤه حصصهم"، فلا يلزم تأخر عتق الباقي عن الإعطاء، ولا كونه معه في درجة واحدة تعليل بالنظر في راجح الاحتمالات؛ من حيث عطفه على "أعطي" أو على "قوم". وأقوى منه رواية عمرو بن دينار عن سالم، عن أبيه؛ إذ فيها: "فكانَ موسرًا؛ فإنه يقوَّمُ عليه بأعلى القيمة، أو قال: قيمةً لا وكسَ ولا شَطَطَ، ثم يقوم لصاحبه حصته، ثم يعتق" (¬1)، فجاء بلفظة (ثم) المقتضية لترتيب العتق على الإعطاء والتقويم. وأما ما يدل ظاهره للشافعي؛ فرواية حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "من أعتقَ نصيبًا له في عبدٍ، فكان له من المالِ ما يبلغُ ثمنَهُ بقيمة العدلِ، فهو عتيقٌ" (¬2). وأما في رواية بشر بن المفضل عن عبيد الله، مما جاء فيها: "من أعتقَ شركًا له في عبدٍ، فقد عَتَقَ كلُّه، إنْ كان الذي عتقَ نصيبهُ من المالِ ما يبلغُ ثمنَهُ، يقوَّمُ عليه قيمةَ عدلٍ، فيدفعُ إلى شركائه أنصباءَهم، ويُخلي سبيلَه" (¬3)؛ فإن في أوله ما يستدل لمذهب الشافعي - رحمه الله - بقوله: "فقد عتقَ كلُّه"؛ فإن ظاهره يقتضي تعقيب عتق كله، لا عتق النصيب. وفي آخره ما يشهد لمذهب مالك - رحمه الله -؛ فإنه قال: يقوم قيمة عدل، فيدفع إلى الشركاء النصيب بعد إعتاق النصيب للتقويم، ودفع القيمة عقب التقويم إلى الشركاء، وذكر تخلية السبيل بعد ذلك بالواو. قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: والذي يظهر في هذا أن ينظر إلى هذه الطرق ومخارجها، فإذا اختلفت الروايات في مخرج واحد، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجها قريبًا. (¬2) تقدم تخريجها. (¬3) تقدم تخريجها.

أخذنا بالأكثر، أو بالأحفظ فالأحفظ، ثم نظرنا في أقربها دلالة على المقصود، فيعمل بها. وأقوى ما ذكرناه لمذهب مالك لفظة "ثم". وأقوى ما ذكرناه لمذهب الشافعي - رحمه الله - رواية حماد، وهي قوله: "من أعتقَ نصيبًا له في عبد" إلى قوله: "فهو عتيقٌ". لكنه يحتمل أن يكون المراد أن مآله العتق، أو أن العتق قد وجب له وتحقق. وأما قضية وجوبه بالنسبة إلى تعجيل السراية أو توقفها على الأداء، فمحتمل. فإذا آل الأمر إلى هذا، فالواجب النظر في أقوى الدلالتين وأظهرهما دلالة "ثم" على تراخي العتق عن التقويم والإعطاء. ودلالة لفظة "فهو عتيق": على تنجيز العتق هذا بعد أن يجري ما ذكرناه من اختلاف الطرق، أو إبقائها على مدلولها، والله أعلم (¬1). وقد يستدل بالحديث من يرى السرايةَ بنفس الإعتاق، على عكس ما قررناه في الوجه قبله، وطريقُه أن يقال: لو لم تحصل السراية بنفس الإعتاق، لما تعينت القيمة جزاء للإعتاق، لكن تعينت، فالسراية حاصلة بالإعتاق، بيان الملازمة: أنه إذا تأخرت السراية عن الإعتاق، وتوقفت على التقويم، عتق الشريك نصيبه، ونفذ، وإذا نفذ، فلا تقويم، فلو تأخرت السراية، لم يتعين التقويم، لكنها متعينة بالحديث. واختلف الحنفية في مجرد الإعتاق، بعد اتفاقهم على عدم تجزيء العتق؛ فأبو حنيفة: يرى بالتجزيء في الإعتاق، وصاحباه لا يريانه. وأثبتا على مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - أن للسالب أن يعتق؛ إبقاء للملك، ويضمن لشريكه؛ لأنه جنى على ملكه بالإفساد واستسعاء العبد؛ لأنه ملكه رجاء يسار المعتق، فلو كان في حال إعساره، سقط التضمين، ونفي الأمران الآخران. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 257).

وعند أبي يوسف، ومحمد: لما لم يتجزأ الإعتاق، عتق كله، ولا يملك إعتاقه. ولهما أن يستدلا بالحديث من جهة ما ذكرناه من تعيين القيمة فيه، ومع تجزيء الإعتاق لا تتعين القيمة. ومنها: وجوب قيمة نصيب الشريك على المعتق نصيبه؛ للحديث: "أنه يقوم عليه قيمة العدل"، فيدفع لشركائه حصصهم، فإن دلالة سياقه لا شك فيها على هذا الحكم، وذلك يرد مذهب من يرى أن باقي العبد يعتق من بيت مال المسلمين، وهو مروي عن ابن سيرين - رحمه الله تعالى -، ومقتضاه التقويم على الموسر. وذكر بعضهم قولًا آخر: أنه ينفذ عتق من أعتق، ويبقى من لم يعتق على نصيبه يفعل فيه ما يشاء. وروي في ذلك عن عبد الرحمن بن زيد قال: كان بيني وبين الأسود غلامٌ شهد القادسية، وأبلى فيها، أرادوا عتقه، وكنت صغيرًا، فذكر ذلك الأسود لعمر - رضي الله عنه -، فقال: أعتقوا أنتم، ويكون عبد الرحمن على نصيبه حتى يرغب في مثل ما رغبتم فيه، أو يأخذ نصيبه (¬1). وفي رواية عن الأسود قال: كان لي ولإخوتي غلام أبلى يوم القادسية، فأردت عتقه، فذكرت ذلك لعمر، فقال: أتفسدُ عليهم نصيبهم حتى يبيعوا؟! فإن رغبوا فيما رغبت فيه، وإلا لم يفسد عليهم نصيبهم، فقال بعضهم: لو رأى التضمين، لم يكن ذلك إفسادًا لنصيبهم (¬2). قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد - رحمه الله -: والإسناد صحيح، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (21729)، ومن طريقة البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 278). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 191)، وقوله: فقال بعضهم: لو رأى التضمين لم يكن ذلك إفسادًا لنصيبهم. هو من كلام ابن حزم في "المحلى".

غير أن في إثبات قوله بعدم التضمين عند اليسار بهذا نظر، أما على كل تقدير، فالحديث يدل على التقويم عند اليسار المذكور فيه، والله أعلم (¬1). ومنها: العمل بالظنون في باب القيم، وهو متفق عليه؛ لامتناع النص على الجزئيات من القيم في مدة الزمان، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قُوِّمَ عليهِ قيمةَ عدلٍ" يدل على ذلك. ومنها: أن ضمان المتلَفات التي ليست من ذوات الأمثال بالقيمة، لا بالمثل صورة. ومنها: اعتبار الصفات التي تختلف بها القيم عرفًا عند الناس، واشتراط قيمة العدل في الحديث تدل على ذلك. ومنها: الرد على ربيعة؛ حيث قال: إذا أعتق أحدُهما نصيبه من العبد، فإنه مردود، وصريحُ الحديثِ والإجماعُ يردُّ عليه، وقد حُمل قوله على منع عتق المُشَاع. ومنها: تعليق العتق بإعطاء الشركاء حصصهم؛ حيث رتب على العتق التقويم بالفاء، ثم على التقويم بالفاء للإعطاء والعتق، وعلى قولنا: إنه يسري بنفس العتق لا بتوقف العتق على التقويم والإعطاء، وقد تقدم ذكر ثلاثة أقوال في ذلك، ثالثها: أنه موقوف، فإن أعطى القيمة، ثبتت السراية وقت العتق، ولا ينافي هذا القول لفظ الحديث. ومنها: عتق نصيب الموسر جميعه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإلا فقد عَتَقَ منه ما عتقَ": فيقتضي أنه إذا كان معسرًا، لا يعتق نصيب الشريك، ويبقى على الرق، أو يستسعى العبد. وفي ذلك نظر، ويؤخذ حكمه من حديث آخر، وسيأتي - إن شاء الله تعالى -، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 258).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ مَمْلُوكٍ، فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ؛ قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ استسعى غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيهِ" (¬1). اعلم أن هذا الحديث قد روياه في "الصحيحين"، لكن في لفظ الاستسعاء خلاف بين الرواة، فمنهم من فصله من الحديث، وجعله من رأي قتادة. قال الدارقطني: روى هذا الحديث شعبة، وهشام عن قتادة، وهما أثبت، فلم يذكر فيه الاستسعاء، ووافقهما همام، ففصل الاستسعاء من الحديث، فجعله من رأي قتادة، قال: وعلى هذا أخرجه البخاري، وهو الصواب (¬2)! قال الدارقطني: وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول: ما أحسن ما رواه همام وضبطه! ففصل قول قتادة عن الحديث (¬3). وقال القاضي عياض - رحمه الله -: قال الأصيلي، وابن القصار، وغيرهما: من أسقط السعاية من الحديث، أولى ممن ذكرها، ولأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر (¬4). وقال ابن عبد البر: الذين لم يذكروا السعاية أثبتُ ممن ذكرها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2370)، كتاب: الشركة، باب: الشركة في الرقيق، ومسلم (1503)، كتاب: العتق، باب: ذكر سعاية العبد. (¬2) انظر: "سنن الدارقطني" (4/ 125). قلت: وقوله: "وعلى هذا أخرجه البخاري، وهو الصواب" ليس من كلام الدارقطني، وإنما هو من كلام القاضي عياض، كما نقله عنه النووي في "شرح مسلم" (10/ 135)، والشارح -كما أسلفنا- يعوّل في عزوه على "شرح مسلم" وغيره، دون الرجوع في غالب الأحيان إلى المصادر الأم. (¬3) انظر: "سنن الدارقطني" (4/ 127). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 136). (¬5) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 277).

وقال غيره: وقد اختلف فيها عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، فتارة ذكرها، وتارة لم يذكرها. فدل على أنها ليست عنده من متن الحديث، كما قال غيره، والله أعلم. أما معنى الاستسعاء في هذا الحديث، فالذي عليه جمهور القائلين بجواز الاستسعاء: أن العبد يكلَّف الاكتسابَ والطلبَ حتى يحصل قيمة نصيب الشريك الآخر، فإذا دفعها إليه، عَتَقَ، وقال بعضهم: هو أن يخدم سيدَه الذي لم يعتق بقدر ما له من الرق، فتتفق الأحاديث على هذا. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "غيرَ مشقوقٍ عليه": أي: لا يكلَّف المملوك ما يشقُّ عليه في السعاية. وأما الشِّقْص: فهو النصيب، قليلًا كان أو كثيرًا، ويقال له: الشقيص أيضًا بزيادة ياء، ويقال له: الشِّرك -أيضًا- بكسر الشين، وتقدم بعض ذلك. وأما لفظ المملوك: فيتناول الذكر والأنثى معًا، وتعسف بعضهم وقال: لا يطلق على الأنثى، بل يقال لها: مملوكة. وأما لفظ العبد: فلا يطلق إلا على الذكر، وادعى بعضهم أنه يتناول الذكر والأنثى، وعبد وعبدة، والله أعلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فعليه خلاصُهُ": هذا اللفظ يشعر باستقبال خلاصه، وقد يقدر فيه محذوف؛ أي: فعليه عوض خلاصه ونحوه، وقد يشعر بعدم السراية بنفس العتق إلى نصيب الشريك، والمراد: فعليه خلاص كله يعتق تتمته. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في ماله": ردٌّ على من قال: إنه يعتق من بيت مال المسلمين، وهو ابن سيرين؛ فإن إضافة المال إلى السيد المعتِق ينافي بيت مال المسلمين. وقد يستدل به لمن يقول: إن الشريك الذي لم يعتق أولًا، ليس له أن يعتق بعد الأول، إذا كان الأول موسرًا؛ لأنه لو أعتق، ونفذ، لم يحصل الوفاء بكون خلاصه من ماله. لكنه رد عليه الحديث قبله، فإنه من لوازم عدم صحة عتق الثاني: أنه يسري بعتق الأول عليه بفراغه من لفظه؛ فيكون دليلًا على السراية بنفس العتق.

ويبقى الترجيح بين هذه الدلالة وبين غيرها، من قوله: "قُوِّمَ عليه، وأُعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد"؛ حيث إن ظاهره يرتب العتق على إعطاء القيمة، فأي الدليلين كان أظهرَ، عمل به. ثم قوله: "فعليه خلاصُه من مالِه": يقتضي عدم استسعاء العبد عند يسار المعتق. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ لم يكنْ له مالٌ": يقتضي ظاهرُه النفيَ العامَّ للمال، والمراد به: المال الذي يؤدي إلى خلاص المملوك. وفي هذا الحديث أحكام: منها: جواز عتق العبد المملوك المشترك من بعض الشركاء. ومنها: أنه إذا كان له مال أنه يلزمه خلاص باقيه من ماله. ومنها: أنه إذا لم يكن له مال، واستسعى العبد فيما يفك به رقبته: أنه لا يكون سعيًا شاقًّا على العبد، بل يعمل فيه بالاجتهاد، والظن الراجح؛ كما قلنا في القيمة. ومنها: تعظيم حق العتق، وأنه مطلوب مؤكد للشرع. ومنها: استسعاء العبد عند عسر المعتق نصيبه، وتقدم الاختلاف فيه في الحديث قبله، والمخالفون في الاستسعاء يعارضونهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإلَّا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ". قال شيخنا الإمام أبو الفتح - رحمه الله -: والنظر المنحصر في تقديم أحد الدلالتين على الأخرى، في قوله: "فقد عتق منه ما عتق" على رقِّ الباقي، ودلالة الاستسعاء على لزومه في هذه الحالة، قال: والظاهر ترجيح هذه الدلالة على الأولى، والله أعلم (¬1). قلت: إنما حمل الشيخ - رحمه الله - ترجيحَ دلالة الاستسعاء على دلالة ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 261).

الحديث الثالث

قوله: "فقد عتقَ منه ما عتقَ"؛ حيث إنها ثابتة في الحديث عنده، ولم ينظر فيما عللها به الأئمة الذين ذكرناهم، وإنها من قول قتادة، لا من الحديث، بخلاف قوله: "وإلَّا فقدْ عتقَ منه ما عتقَ"؛ فإنها ثابتة عند المحققين من الحفاظ، وإن كان بعضهم عللها وجعلها من قول نافع، لكنه قولٌ مرجوح كما بيناه في الحديث قبله، فتعين ترجيح دلالة "فقد عتقَ منه ما عتق" على الاستسعاء، وأنه ضعيف، والله أعلم [بالصواب، وإليه المرجع والمآب] (¬1). * * * الحديث الثالث وقد بوب عليه بعضُهم: باب المدبَّر، وليس هو في معظم نسخ الكتاب. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ غُلاَمًا (¬2)، وَفِي لَفْظٍ: بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلاَمًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِ مِئَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ (¬3). أما الرجل المعتق عن دبر؛ فهو أبو مذكور، والغلام المعتق اسمه: يعقوب، والذي اشتراه نعيم بن عبد الله النحام، ذكر ذلك الخطيب البغدادي. وذكر المعتقَ والغلامَ فقط ابنُ بشكوال، وقال: والمعتق اسمه يعقوب (¬4)، كذا في "صحيح مسلم" (¬5)، وفي "النسائي" أيضًا (¬6) اسم المعتق. وقد روى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن إسماعيل بن إبراهيمُ عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلًا من الأنصار يقال ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ليس في "ح". (¬2) رواه مسلم (997)، باب: الأيمان، باب: جواز بيع المدبر. (¬3) رواه البخاري (6763)، كتاب: الأحكام، باب: بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم، ومسلم (997)، (3/ 1289)، كتاب: الأيمان، باب: جواز بيع المدبر. (¬4) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 474 - 475). (¬5) انظر: "صحيح مسلم" (3/ 693). (¬6) انظر: "سنن النسائي" (4653)، (7/ 304).

له: أبو مذكور أعتق غلامًا له يقال له: يعقوب، عن دبر، لم يكن له مال غيره، فدعا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من يشتريه؟ " فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام بثمان مئة درهم، فدفعها إليه، وقال: "إذا كانَ أحدُكم فقيرًا، فليبدأْ بنفسه، فإن كان فيها فضلٌ، فعلى عيالِه، فإن كان فضلٌ، فعلى ذي قرابته، أو ذي رَحِمِهِ" (¬1). وهكذا رواه جماعة عن أبي الزبير، عن جابر؛ منهم: الليث بن سعد، وحماد بن سلمة، وابن جريح، وغيرهم، والله أعلم. وفي رواية النسائي والدارقطني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دفع إليه ثمن الدبر، قال له: "اقضِ بهِ دَيْنَكَ" (¬2)، والله أعلم. وقوله: "دُبُرٍ، وأعتقَ غُلامًا له عن دُبُر"؛ معناه: أعتقه بعد موته؛ أي: قال: أنت حر بعد موتي، فكأنه علَّق عتقه بموته، والموتُ دبرُ الحياة، وبه سمي التدبير. ولا يقال التدبير في غير الرقيق؛ كالخيل وغيرها، مما يوصي به. قال الإمام أبو القاسم الرافعي - رحمه الله -: وقيل: سمي تدبيرًا؛ لأنه دبر أمر دنياه، باستخدامه واسترقاقه، وأمر آخرته بإعتاقه، قال: وهذا مردود إلى الأول -أيضًا-؛ لأن التدبير في الأمر مأخوذ من لفظ الدبر أيضًا؛ لأنه نظر في عواقب الأمر وإدباره، والله أعلم (¬3). وفي الحديث أحكام: منها: جواز التدبير وصحته، وقد أجمع المسلمون عليه. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 305)، وأبو داود (3957)، كتاب: العتق، باب: في بيع المدبر، والنسائي (4653)، كتاب: البيوع، باب: بيع المدبر، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 309). (¬2) رواه النسائي (5418)، كتاب: آداب القضاة، باب: منع الحاكم رعيته من إتلاف أموالهم، وبهم حاجة إليها، والدارقطني في "سننه" (4/ 139)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 311). (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 98).

ثم مذهب الشافعي - رحمه الله -، ومالك، والجمهور: أنه يحسب عتقه من الثلث، وقال الليث، وزفر: هو من رأس المال. ومنها: جواز بيع المدبر قبل موت سيده؛ لهذا الحديث، وقياسًا على بيع الموصي بعتقه؛ فإنه جائز بالإجماع، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، وممن جوزه: عائشة، وطاوس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود. وكما يجوز بيع المدبر، تجوز هبته والوصية به، وغيرُها من التصرفات المزيلة للملك، سواء كان التدبير مطلقًا، أو مقيدًا، خلافًا لأبي حنيفة في المطلق، ولمالك في المطلق والمقيد معًا. وعن أحمد روايتان؛ إحداهما: كمذهبنا، والأخرى: أنه له بيعه للدين فقط، ويمنع بيع المدبر. قال جمهور العلماء والسلف من الحجازيين، والشاميين، والكوفيين: وتأولوا بيعه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما باعه في دين كان على سيده، كما رواه النسائي والدارقطني، وروي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باعه، وقضى منه دينه، ودفع الفضل إليه. وروي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها باعت مدبرة لها سحرتها (¬1). ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا خالفها، وهذا يدل على جواز بيعه مطلقًا. قالوا: ولا تعليق للعتق بصفة انفرد السيد بها فيتمكن من بيعه كالمعلق عتقه بدخول الدار، وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره، فرد تصرفه. قال هذا القائل: وكذلك يرد تصرف كل من تصدق بكل ماله، وهذا ضعيف باطل، والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 40)، وعبد الرزاق في "المصنف" (16667)، والبخاري في "الأدب المفرد" (162)، والدارقطني في "سننه" (4/ 140)، والحاكم في "المستدرك" (7516)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 137).

ومنهم من يقول: أنا أقول بجواز بيعه في صورة كذا، والواقعة واقعة حال لا عموم لها، فيجوز أن تكون في الصورة التي أقول بجواز بيعه فيها، فلا تقوم عليَّ الحجة في المنع من بيعه في غيرها، كما يقول مالك - رحمه الله - في جواز بيعه في الدين، على التفصيل المذكور في مذهبه، والله أعلم. قال القاضي عياض - رحمه الله -: والأشبه عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك نظرًا له؛ إذ لم يترك لنفسه مالًا. والصحيح: ما قاله أصحاب الشافعي ومن وافقهم: أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبر بكل حال ما لم يمت السيد، والله أعلم (¬1). ومنها: نظر الإمام في مصالح رعيته، وأمرُه إياهم بما فيه الرفق بهم، وبإبطالهم من تصرفاتهم التي يمكن نسخها، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. وقد يسر الله تعالى في تأليف هذا الشرح المسمى بـ "العُدَّة في شرح العُمْدَة"، ما تقرُّ به عيونُ الطالبين، وتنشرح له صدور العلماء العارفين، وتستنير له قلوب الألباء الفَطِنين؛ لما احتوى عليه من العلوم الباهرة، والفنون الزاهرة؛ من علوم الحديث، واللغة، والفقه، والأحكام، وأسماء الصحابة والتابعين ورواياتهم، وما تيسر من مناقبهم وآثارهم، وتبيين المبهم من الأسماء، والتنبيه على دقائق واضحة، وجليات رائقة فائحة، وتفسير آيات محكمات، وإيضاح معانٍ مشكلات، وذكر أصول ثابتات، وفروع نَضِرة نيّرات. فله الحمدُ على ما يسَّر وهدى، وأنعم وأولى، وجاد وأعطى، وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا، ويعم النفعُ به كلَّ طالب حارصًا، وأن يعصمنا أجمعين من الزيغ والزلل، وأن يوفق من وجد عيبًا لسد الخلل، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، والحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وصلواتُه وسلامه ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 141 - 142).

على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمامِ المتقين، المرسلِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وأزواجه وذريته وصحابته الطاهرين، وعلى سائر الخلق من الملائكة والأنبياء والمرسلين وآلِ كلٍّ والصالحين من سكان السموات والأرضين، وحسبي الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم. قال مؤلفه - رحمه الله -: فرغت من تأليفه صبيحة يوم السبت، السابع عشر من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث عشر وسبع مئة، [والحمد لله على نعمه التي لا تحصى] (¬1). نسخ العبد الفقير إلى الله تعالى: موسى بن إبراهيم النابلسي مولدًا، الأشعري معتقدًا، الشافعي مذهبًا، الأندلسي والدًا، عفا الله عنه وعن والديه، ومستنسخه، والناظر فيه، ومن كان السبب فيه، وجميع المسلمين، آمين. وكان الفراغ منه: اليوم الثاني من مستهل جمادى الآخرة سنة ستين وسبع مئة، أحسن الله تقضيها بمنِّه وكرمه، آمين، وصلى الله على سيدنا محمد كلَّما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون. * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ليست في "ح".

§1/1