العتاب بين الأصدقاء

أبو نصية التميمي

علي بن محمد ابو نصية التميمي، 1432 هـ حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م

الإهداء

الإهداء إلى الطَاهِرَةِ .. التي لقّنَتْنِي الحَيَاة .. أُمّي ..

"أَخَاكَ أَخَاكَ .. إِنّ مَن لا أخَا لَهُ ... كَسَاعٍ إِلى الهَيجَا بِغَيرِ سِلاحِ" (مِسكِينُ الدارِمِيّ) و .. "رُبَّ أخٍ لَكَ لَم تَلِدهُ أُمّكَ"! (العَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ)

المقدمة

المقدمة في مجريات حياتك اليومية ربما تلاقي يتيماً ليس له أب أو أم، أو مشرداً ليس له بيت أو وطن، أو عاطلاً ليست لديه وظيفة أو مهنة، ولكن هل سبق وأن لاقيت قط إنساناً بغير صديق؟! هذه المدنيّة التي وهبها الله للإنسان حتّمت عليه أن ينتخب من بني جنسه (¬1) أصدقاءَ يجدُ فيهم لذّته وأنسه، وهذه المدنيّة ذاتها جعلته نهبا لما يخلّ بحقوق أولئك الأصدقاء، وأيّ قارئ كريم يمتلك حصانة تحرسه دون الإخلال - أو على الأقل تهمة الإخلال - بحقوق الصديق؟! لقد أضجرني في إحدى الأماسيّ من بعض الأصدقاء أنّ ريبة امتزجت في إناء قلبه بتخيلاتهِ لأجل ¬

(¬1) أقول: "من بني جنسه" لا كما يفعل بعض الناس في كثير من الدول الأجنبية، يتخذون من الكلاب أوفى أصدقائهم، فهذا ليس من الفطرة السليمة في شيءٍ وإن قلنا بوفاء الكلاب ودعابة القطط. أمّا لو قيل بأن العرب كانت تفعله وجيء لنا ببيت الأُحيمر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير أو ببعض لاميّة العرب للشنفرى، فالحق أنْ لا برهان في ذلك ولا حجّة وما تلك الأشعار إلا كنايات عن الشجاعة أو العزلة والبُعد السحيق ونحو ذلك.

حكايةٍ لفّقها عليّ رُوّادُ التلفيق من دُعاة التفريق أنني هجوته! - تحسبُ أنه دعاني فعاتبني فضلاً عن أن يسامحني بله يباعد عنّي صحة دعواهم وحماقة نجواهم؟ كلاّ، ولا شَرُفَ على أقلّ أحوال الفضل أن يكون من كاظِميّ الغيظ، إنما شنّع بي على كل شرفة، وعبر كل نافذة، فلمّا أبَنْتُ له الصواب، واستبنت منه عن الأسباب، قال: الإقلالَ من معاتبة الإخوان! وهذا من قصورِ الرأي وإساءةِ الاستعمال لهذا الأسلوب من المعاملات الاجتماعية. ثمّ رأيتُ المتحابين، من بات منهم وهو لا يطيق جلوساً مع صديقه الذي يمطره بوابلٍ من عتاب الهون، ولومٍ من سجيّن، مختتماً ذلك كلّه بحجةِ (لا يعاتبك إلا من يحبك) فهل كان صادقاً فيما زعمه وادّعاه؟ (¬1) من أجلِ ذلك جاءت هذه الرسالة - بعد ما عدمت نظيرها، وافتقدت في المكتبات العربية والأجنبية مثيلها، جعلتها ميسورة في أبسط صورة، موْضِحاً فيها متى ¬

(¬1) يحكى أن الرازي سأل طلابه: أين الدليل من القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه؟ فسكتوا، فقال: قوله: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم}؟ وهل كان العتاب على هذا النحو إلاّ عذاباً!

يحسن العتاب ومتى لا يحسن ولا يفيد، وغيره من الإشارات والتلويحات في هذا الباب، ثمّ ألحقتُها بمقالةٍ للعلامة محمد الخضر حسين بعنوان (الصداقة) فإنّك لن تدرك معنى العتاب قبل أن تدرك معنى الصداقة، وحسبك أن الأستاذ محمد الخضر من أجود من تحدث عن الصداقة ومارسها (¬1). سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يَبسط للقارئ الكريم خيرها، وأن يكفّ عن أعين النقّاد خللها، والزيادة مطلوبة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وكتب؛ علي محمد أبونصيّة التميمي 16 - 3 - 1432 هـ ¬

(¬1) انظر في ذلك كتاب (الصداقة بين العلماء) للأستاذ الشيخ محمد إبراهيم الحمد.

ما هو العتاب؟

ما هو العتاب؟ من خلال الاستقراء لمواضيع هذه المفردة ومناسبات إطلاقها في كتب الأدب، وأبيات العرب، نجد أنّها مترددة بين؛ عتاب عدوٍ وعتاب صديق. فأمّا عتاب العدو كنحو قول بشّار: إذا الملك الجبار صعّر خدّه ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه ومن سياق البيت يظهر لك أنّ عتاب العدوّ يدخل فيه الاعتداء والمنازلة الحسيّة، بينما يعاتب المقنّعَ الكنديَ قومُه، بمعنى يلومونه على أمرٍ فعله (¬1) فهو يقول: يعاتبني في الدين قومي وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا وما نريد تناوله تحت هذا العنوان هو الصنف الثاني، الذي عرّفه الخليل بمخاطبة الإجلال، ومذاكرة الموجدة، وهو العتاب حينما يكون بين الأصدقاء. هل اللوم والعتاب من صفات الصديق الصادق؟ إنّ المحبّة في الله من أوثق عرى الصداقة، وأشرف مراتب الأخوّة، وأنفس كنوز الدنيا، ولها في الإسلام من العناية الحظ الوافر، والقدر الظاهر، فموعود أهلها الظلّ ¬

(¬1) قال ابن فارس - صاحب المقاييس - في مادة (عتب): العين والتاء والباء أصل صحيح يرجع كله إلى الأمر فيه بعض الصعوبة من كلامٍ وغيره.

والغرف والسرائر، ولما لها من هذه المنزلة الكبيرة، كانت من أهلها بالرعاية جديرة، فلا ترى المتحابين بجلال الله كثيريّ اللوم والعتاب، بل إنه يغلب عليهم في التعامل الصفح والتسامح، ولا غرابة في ذلك مادامت علاقاتهم عن شوائب الدنيا وصخبها ومصالحها خالصة وبعيدة. وليس اللوم والعتاب بشيمة لأهل النفوس الكريمة، ولا بمسلك ومذهب لأولي الألباب والأرب، ومن كان ذا طبع سليم، وخلق كريم، فإنه يربأ بالنفس عن كثرة اللوم والمعاتبة، لعلمه ما في ذلك من العواقب الموجبة لإيراث النفرة، وتوليد الرهبة، وإيجاب السآمة والملل. فَدَعِ العِتَابَ فَرُبَّ شَـ ... ــــــــــــرٍّ هاجَ أوّلُهُ عِتَاب وكما أنك لا تجد في عقد الصداقة عقدة هي أودى ببريقه من العتاب، فإنك لن تعدم في تلك العقدة شراً تكفه بله تصلُ طرفي العقد ليكتمل حسنه وينتظم رسمه، وبذلك تدرك أن تلك الأداة الحساسة جداً ذاتِ حدّين فتسأل حينئذٍ: متى أعاتب؟ وكيف أعاتب؟ وماذا بعد العتاب؟

"مَنْ شَدّدَ نَفّرَ، وَمَنْ تَرَاخى تَألّف، والشْرَفُ في التّغافُل" (أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيّ)

قبل أن تعاتب، تعلم درسا في التغاضي

قبل أن تعاتب، تعلم درساً في التغاضي. إنك وحينما تنظر في سيرة محمد الله صلى الله عليه وسلم، تدرك مراعاته لهذا الجانب في التعامل مع الآخرين، فلا ينتقم لنفسه، ولا يحمل في ثنايا فؤاده ما يدفعه إلى ذلك أو يدنس قلبه شيء من هذه القاذورات، وتأمل موقفه مع خادمه الصغير أنس بن مالك، وهو في ذلك العمر مظنّةٌ للوقوعِ في التقصيرِ والخطأ، ما قال له رسوله الله أُفٍ قط، ولا لشيء صنعه: لِمَ صنعتَه، ولا لشيء تركه: لِمَ تركتَه. (متفق عليه) والأمثلة من هذه السيرة في هذا الباب وفيرة، وبالاحتفاء والمطالعة للاقتداء جديرة. وفي كتبُ السيَرِ من الأمثلة البليغة ما حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع، أنّها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان أجود قريش في زمانه: ما رأيت قوماً ألأم من إخوانك! قال: مهْ، ولِمَ ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرتَ لزموك، وإذا أعسرتَ تركوك! فقال: هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوّة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عليهم!. فانظر كيف تأوّل بكرمه هذا التأويل، حتى جعل

قبيح فعلهم حسنا، وظاهر غدرهم وفاءً، وهذا محض الكرم، ولباب الفضل، وبمثل هذا يَلزم ذوي الفضل أن يتأوّلوا الهفوات من إخوانهم. وعلى هذا النحو كان خالد بن صفوان لمّا مر به صديقان، فعرج عليه أحدهما وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته. ولئن كان العتاب باب فضل وخير فما هو ببالغ مزيّة التغاضي والمغفرة، وهل العتاب إلا سبيل إلى المغفرة والصفح؟! قال أعرابي لصاحب له: قد درن ذات بيننا، فهلم إلى العتاب لنغسل به هذا الدرن، فقال له صاحبه: إن كان كما تصف فذاك لبادرة ساءتك مني، إما لك وإما لي، فهلا أخذت بقول القائل: إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا والله لا صفت مودتنا، ولا عذب شربها لنا إلا بعد أن يغفر كل واحد منا لصاحبه ما يغفره لنفسه من غير منّ ولا أذى. وسبب ذلك كون العتاب غير مأمون العواقب، ولا مضمون النتيجة، وهذا ما أدركه الشاعر الذي يقول:

أردت عتابكم فصفحت إني ... رأيت الهجر مبدؤه العتاب يقول الأستاذ محمد الخضر - رحمه الله - في مقاله البديع: "يرى الباحثون في طبائع البشر، أن ليس فيهم من يتخذ صديقاً ويرجّي منه أن يسير على ما يرضي صديقه في كل حال، ودلتهم التجارب على أن الصديق - وإن بلغت صداقته المنتهى - قد يظهر لك من أمره ما لا يلائم صلة الصداقة، فلو أخذتَ تَهجُرُ من إخوانك كل من صدرت منه هفوة، لم تلبث أن تفقدهم جميعا، ولا يبقى لك على ظهر الأرض صديقٌ غير نفسك التي بين جنبيك، عرف هذا المعنى الشاعر الذي يقول: ولست بمستبقٍ أخاً لا تُلمه ... على شعث أيّ الرجال المهذب والذي يقول: أُغمضُ للصديقِ عن المساوي ... مخافَة أنْ أعيشَ بلا صديقِ والذي يقول: ومن يتتبع جاهداً كلّ عثرةٍ ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحبُ وقد عبر عن هذا المعنى بشار: إذا كنتَ في كلِّ الأُمورِ مُعاتِباً ... صديقكَ لمْ تلقَ الذي لا تُعاتبه فعشْ واحداً أو صلْ أخاك فإنه ... مقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت؛ وأيّ الناس تصفو مشاربه

وإذا كان الصفح عن الزلاّت من أفضل خصال الحمد، فأحق الناس بأن تتغاضى عن هفواتهم، رجال عرفت منهم المودة، ولم يقم لديك شاهد على أنهم صرفوا قلوبهم عنها". وقديمًا قال الأوّل: تريد مهذّباً لا عيب فيه ... وهل عودٌ يفوح بلا دخان؟! ويقول الحسن بن وهب: من حقوق المودّة أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن التقصير إن كان. وقد روي عن عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَاصْفَح الصَفْحَ الجَمِيل}، قال: الرضا بغير عتاب. قال الأستاذ محمد الخضر - رحمه الله -: "وإذا كانت نفس الإنسان التي هي أخصّ النفوس به، ومدبّرة باختياره وإرادته لا تعطيه قيادتها في كلّ ما يريد، ولا تجيبه إلى طاعته في كلّ ما يحب، فكيف بنفس غيره؟! فحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره، وفي ذلك يقول ابن الرّومي: همُ الناس والدنيا ولابدّ من قذىً ... يلمُّ بعينٍ أو يُكدّر مشربا ومن قلّة الإنصاف أنّك تبتغي الـ ... مهذّب في الدنيا ولست المهذّبا" ويقول ابن حبّان رحمه الله: "من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون

من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب، كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء، أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء". "ثمّ ما أحسن أنْ يتغاضى المرء ويتغافل؛ فذلك من دلائل سموّ النفس وشفافيتها وأريحيتها، كما أنّه يعلي المنزلة، ويريح من الغضب وآثاره المدمّرة" (محمد إبراهيم الحمد). وتغافل عن أمورٍ إنه ... لم يفز بالحمد إلاّ من غفل (ابن الوردي) أغمض عيني عن صديقي تجسّما ... كأني بما يأتي من الأمر جاهلُ وما بي جهل غير أنّ خليقتي ... تطيق احتمال الكره فيما تحاولُ

(ثعلب) "قَد أكَلنا الطَيّبَ ولبسْنا اللّين وركِبنا الفارِهَ ولم يبقَ لي لذّة إلاّ صديقٌ أطرحُ مَعَهُ فيمَا بَيني وبَينه مُؤنةَ التحَفّظ". (سُلَيمَان بن عَبدالملك)

بعض الكلام؛ يشم ولا يفرك!

بعض الكلام؛ يشمّ ولا يفرك! "إنّ عدم التكلف، يجمع ويؤلف". (مقالةٌ اشتُهرت) إذا اعتبرنا أن الأمثال ليست على إطلاقها فالمقولة صحيحة، أمّا على الإطلاق .. كلاّ! فلقد علمتنا التجربة أن اطّراح الكُلفة بين الأب وأبنائه جعلتهم من أزهد الناس فيه - لو كان عالما، "فالعالم من بعيد تجده محتشماً - يعني - في الغالب عليه السمت، أمّا الأبُ فتراه على هيئات فيها شيء من ترك الحشمة، وذلك لوجوده بينهم في كل وقت وفي كل حين، فهم يشاهدون تصرفاته وتصرفاته تصرفات بشرية لا شك أنه يعتريها ما يعتريها من النقص" (العلامة عبد الكريم الخضير). ولئنْ كانت الجملة المشتهرة يراد بها التكلف في الكرم، فإن التكلف في سائر الشؤون يدخل فيه دخولا أولياً، ومتى كانت الكلفة في المحاورة مطّرحة بين الصديقين فذلك مظنة الوقوع في الزلل والخطأ. والواجب تجاه تلك الزلات أن تشمها ولا تفركها، تماما كما يفعل معاوية - رضي الله عنه -. قرأتُ في كتب أحد المعاصرين (¬1)، أنّ سفيهاً ¬

(¬1) وهو الكاتب المصري عبد الوهاب مطاوع، في مقاله الممتع (قل لي من فضلك).

تراهن مع صديقٍ له على أن يستثير غضب الداهية الأمير؛ معاوية بن أبي سفيان، وهو المعروف بحلمه وعبقريته، لكن السفيه قد أعد لذلك من الطيش وسوء الأدب ما يفوق حدود الحلم، فقد اتّجه إلى الأمير بعد أن فرغ من الصلاة ووضع يده على لحمه وسط ذهول الجميع ثمّ قال له بكل وقاحة: "مرحى يا معاوية لقد ضاهيت أمّك هنداً في لحمها وشحمها! " وحبس الحاضرون أنفاسهم انتظاراً لما سيفعل به الخليفة! لكنه فاجأهم بقوله وبصوتٍ هادئ: "رحمها الله رحمة واسعة .. لم تكن كذلك في أخريات أيامها! " ثمّ انصرف، وباخ السفيه. إنك في حال ما استوقفت الآخرين عند كل صغيرة وكبيرة، تضطرُّهم ليعاملوك بنفس تلك الطريقة، ولات حين مناص من الإدانة. وإذا ما أصبح التلاوم والعتاب صدر كل صالة، وفوق كل موقف، وجرس كل مجلس، تتصرمُ حبال الود، وتنسلّ لآلئ الحب من العقد، وليس يعود إلا الوبال حينها والندامة! أنا لا أقترح عليك في هذا السياق انتظارَ مثل ذلك السفيه - الذي قاده سوء الطالع للعبث مع الخليفة - حتى تُجيبه بهذا الأسلوب الذكي، فأحيانا ما تصدر مثل

هذه الحماقات عن الأصدقاء! - هل قال لك أحد إنّ الصديق لا يكون أحمق أحياناً؟ خذ على ذلك مثالاً: كان مصطفى النحاس أحد كبراء رجال السياسة في مصر، وهو الذي ساهم في تأسيس جامعة الدول العربية، وخلال أيام تزعمه لحزب الوفد أجرى عدة جولات على بعض القرى المصرية، وكان من عادته أن يلقي في كل مناسبة خطبةً يكتبها صديق له شاعرٌ وصحفيٌ معروفٌ بخفة دَمِه وحلمه، إلا أنه فوجئ بالجماهير في إحدى الجولات يطلبون منه أن يلقي عليهم خطبة - لم تكن مرسومة في الخطّة ولا مُعَدّاً لها - وبتلقائية كانت معروفةً في النحّاس قال وهو على شرفة القصر: "لا مانع من ذلك"، ثم همس لمن حوله في شرفة القصر: "قولوا للحمار الذي يكتب لنا الخطب أن يكتب خطبة جديدة وبسرعة! ". ففوجئ بالشاعر الصحفي بين الواقفين حوله وقد سمع مقالته يجيبه: "الحمار جاهز يا دولة الباشا!! ". هل تعلم ماذا حصل؟ لقد أُغرق الجميع في الضحك وكان دولة الباشا والشاعر الصحفيّ أعلاهم ضحكاً، وانتهى ذلك الموقف بأن اعتذر إليه - أمام الجميع - وقبّل رأسه.

إن التعامل مع هفوات الأصدقاء - خصوصا تلك التي يكون فيها إخلال بجوانب الأدب العام - بمثل هذه العبارات (جزاك الله خيرا)، (سامحك الله)، (هذا من حسن تعاملك)، (مقبولة منك)، يساعد على حفظ حق النفس وجانب الصداقة في آن واحد، فهي تحمل في طيّاتها رسائل معبّرةً تختصر كل عتاب.

"الصَّدِيقُ إنْسَانٌ هُوَ أَنْتَ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُك" (الْكِنْدِيُّ)

من آداب العتاب

من آداب العتاب "استبقاك من عاتبك". (ابن حزم) لا شك بأن المعاتبة من آكد ما يحفظ الوداد بين العباد وإنما المعنى المعنيّ بالذم والمنع، هو القدر الزائد الذي لا ينفك عن السمع، ومتى كان العتاب مقرونا بالآداب التي سأذكر منها نزرا يسيرا، فإنه بذلك يكون للحب وحفظ الود معينا وظهيرا. ادّخر عتابك للمواقف الحرجة. إذا كنت تغضب في غير ذنب ... وتعتب من غير جرمٍ عليّا طلبت رضاك؛ فإنْ عزّني ... عددتك ميتاً وإنْ كنت حيّا (ابن أبي فنن) "من لم يوآخِ إلاّ من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلاّ بالإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه". (رجاء بن حيوة) ادّخار العتاب أوّل الأمور التي ينبغي مراعاتها؛ قال الأستاذ الخضر -رحمه الله-: "إن الصديق لا يخلو وهو معرّض للغفلة والضرورة والخطأ في الرأي، أن يّخلّ بشيء من واجبات الصداقة؛ فإن كنت على ثقة من صفاء مودّة صديقك أقمت له من نفسك عذراً وسرت في معاملته على أحسن ما تقتضيه

الصداقة، فإن حام في قلبك شبهة أن يكون هذا الإخلال ناشئاً عن التهاون بحق الصداقة - فهذا موضع العتاب - والعتاب يستدعي جواباً، فإن اشتمل الجواب على عذر أو اعتراف بالتقصير، فاقبل العذر وقابل التقصير بصفاء الخاطر وسماحة النفس، وعلى هذا الوجه يحمل قول الشاعر: أُعاتب ذا المودّة من صديق ... إذا ما سامني منه اغترابُ إذا ذهب العتاب فلا ودادٌ ... ويبقى الودُّ ما بقي العتابُ" وذكر غير واحد، منهم الثعالبي وصاحب المستظرف، عن إياس بن معاوية قال: "خرجتُ ومعي رجلٌ من الأعراب، فلما كان ببعض المناهل لقيه ابن عمّ له فتعانقا وتعاتبا، وإلى جانبهما شيخٌ من الحيّ يفن، فقال لهما: انعما عيشاً، إنّ المعاتبة تبعث التجني، والتجني يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعثُ العداوة، ولا خير في شيء ثمرته العداوة". إذاً؛ فعندما يقول لك صديقك إنّ العتاب هو صابون القلوب، أخبره أنّ رغوة الصابون قد تحرق العيون!

"نحْنُ لا نَكْرَهُ الأَشْخاصَ بَلْ نَكرَهُ أَخْطاءَهم" (غانْدِي)

لا تذكره بأخطائه القديمة ولا تعاوده العتاب على الخطأ مرتين

لا تذكّره بأخطائه القديمة ولا تعاوده العتاب على الخطأ مرتين. "الإكثار من العتاب داعية إلى الملال". (أسماء بن خارجة) أحيانا يصدر من البعض أن يتغاضى عن أخطاء الصديق المتكررة، ويتحمل ذلك كله من باب ما ذكرناه في مزيّة التغافل، حتى إذا وقع ما لا يغتفر إلا بالعتاب، انفجر عليه وسامه بسوط من عذاب الحساب، فتراه يسرد تلك الأخطاء التي استحقت المغفرة، فإذا به يفسد المعذرة وقد أوشكت أن تكبره، وهذا من أثقل أنواع العتاب، وأقربها إلى تصريم حبال الود بين الأحباب. وفي نظري أنّ سبب ذلك النوع من العتاب الامتعاضي، عدم الصِدق في التغاضي، فتجد صاحب ذلك الصنيع، لا يذهبن تغاضيه ما يغيظ، ومتى صدق المرء في التغافل وأعقبه العفو والتسامح، استقر القلب بالطمأنينة والانشراح، ونعم البال بالهدوء واستراح، وقديماً قيل: "ما عتب من اغتفر". واعلم أنه في حال تذكيرك للصديق بالذنب القديم، فإنك تشعره بالمنة المستحقة لك عليه، وليس

ذلك من خصال الحمد، ولا من صنيع العقلاء، وما هكذا يحسن التعامل، ولا يحمد بهذا الأسلوب التغافل، ليس في رواق الصداقة وحسب، قال الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد في سياق الحديث عن عتاب الرجل لزوجته: "وإنْ أتت المرأة بما يوجب العتاب فلا يحسن بالزوج أنْ يكرّر العتاب، وينكأ الجراح مرّةً بعد مرّة؛ لأنّ ذلك يفضي إلى البغيضة، وقد لا يبقي للمودّة عينا ولا أثراً"، ليعلم أن هذا الأسلوب عقيم إلا عن إفساد الألفة.

" إذاَ أَحبَّ أحدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيخبِره" (حديثٌُ شريف)

أنصف المعاتب؛ وتخير له الوقت والأسلوب المناسب

أنصف المعاتَب؛ وتخيّر له الوقت والأسلوب المناسب. لا أدري لم يحتفظ كثير من الناس بمشاعره تجاه من يحب في نفسه، وقد نبهنا الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم كتمان شيء من ذلك الشعور، فقال: "إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره". (أخرجه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح). هل اغتروا بمن قال: لا تظهرنّ مودة لحبيب ... فترى بعينك منه كل عجيب أظهرت يوماً للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيبي مع أن ذلك محمول على الحب الذي تختلجه الشُبَه، كحُبّ كُثير عزّة، ومجنون ليلى، وقيس لُبنى (¬1)، ومن شاكلهم ونحا نحوهم، وهو بعيد كل البعد عما نحن بصدد حراسته والذود عنه، الحبُّ النّامي في مندوحَةِ الشّرف، المُحتَمَلُ مآلهُ إلى الغُرف، إذْ لا يفيده الكتمان، ولا يصونه الامتنان. (¬2) ¬

(¬1) شعراء التصقت أسماءهم بعشيقاتهم لما أفرطوا في التعريض بحبهن في قصائدهم، ومنهم أيضاً: عروة بن حزام وصاحبته عفراء، والصمّة القشيري وصاحبته ريّا، وذو الرمة وصاحبته ميّة، وجميل بن معمر وصاحبته بثينة، كلهم من شعراء العصر الأموي، عدا عروة بن حزام - توفي سنة 30هـ. (¬2) والشيء بالشيء يذكر، فإن معالجة العتاب في هذا النوع من الحب أمنية سحيقة، كيف لا وقد صار العتاب فيهم علامةً لصيقة!؟ علامة ما بين المحبين في الهوى ... عتابهم في كلّ حقّ وباطلِ وأثبت أحدهم هذا المعنى فقال: تواقف عاشقان على ارتقاب ... أرادا الوصل من بعد اجتنابِ فلا هذا يملّ عتاب هذا ... ولا هذا يملّ من الجواب!

إنّ إظهار مشاعر الحب للآخرين مما يساعد في حل الأزمات الاجتماعية على كافّة الأصعدة، فياليت شعري كيف اغتالت الأعرابيّة الجلفة هذه الحاجة الفطرية للتعايش والتكامل حتى أصبحَ القائلُ: (إني أُحبّك)، مجرما في حق الرجولة، منتهكاً لحرمة التقاليد والأعراف، وكأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقلها يوماً لمعاذ وغيره! ولو أنّ المتمثل بالمقولة الشائعة: "لا يعاتبك إلاّ من يحبك" أنصف حبيبه بإظهار مشاعره تجاهه، إذاً لما رأينا من العتاب ما يستحق الذم، وهذا الأسلوب هو الأسلوب الشرعي الذي له أصل من السنة المطهرة كما جاء في الحديث. وأمّا الوقت المناسب فبابه واسع، غير أنّه لا بد من تجنّب المعاتبة حال مواقعة الذنب، أو مسايرة الصحب، ووقت المساء أنسب من وقت الصباح، وساعة العشاء

أنسب من ساعة العصر، وربما تفاوتت الأوقات بحسب الظروف والأشخاص. كما يحسن - بل يوشك أن يجب - على المعاتِب أن لا يلجأ إلى عتاب الصديق إذا ما كان في ضيق من الوقت أو خطبٍ ملمٍ، فإن ذلك طوفانٌ هادم وسيلٌ جرّارٌ يقتلع شجرة الودّ من أصولها، وربما أفسد كل أرض خصبة تصلح لإعادة النماء، قال الأوّل: خليليّ لو كان الزمان مسالمي ... وعاتبتماني لم يضق عنكما صدري فأمّا إذا كان الزمان محاربي ... فلا تجمعا أن تؤذياني مع الدهر وباعتبار أحسن الأحوال فإنه سيجيبك كما قال هذا: أتاني عتاب لم أسغهُ وإن حلا ... وَكل لَذيذ لا مساغَ لَهُ مُر وفي الأسلوب تفصيل؛ فعتاب الكتاب أقرب للقبول، والإشارة بالفعل أنسب من القول، والهدية تجعل طريقك للعتْب مريح، والتلميح أنجع من التصريح، قال ابن مشرف السني في نغمة الأغاني: حافظ على الصديقِ ... في الوسع والمضيقِ وإن تردْ عتابهمْ ... فلا تُسئْ خطابهمْ عاتبْ أخاك الجاني ... بالبرِّ والإحسان وأحسن العتابِ ... ما كان في كتابِ

والعتْبُ بالمُشافَهة ... ضرْبٌ منَ المُسافهة ومتى جعلتَ الآخرين يتوّصلون إلى فكرتك، فمن ثم يتبين للمخطئ خطأه بالتلميح، فإن ذلك أبلغ في قبول العتاب، وأدعى إلى ترك الخطأ بالاجتناب، وكذلك فإنه مؤذن بتعجيل الاعتذار وطلب العفو. يُذكر أن رجلاً في الهند كان يعادي إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب عداءاً شديداً، ويحارب كتبه ومؤلفاته ويحذر منها، فاحتال أحد الفضلاء حيلة، غيّر بها اسم الشيخ من: محمد بن عبد الوهاب، إلى: محمد بن سليمان التميمي! وأهدى جملة كتب الشيخ لهذا العالم الهندي فلمّا قرأها أعجب بها، ووجدت في قلبه قبولاً وأثراً حسناً؛ فأعلمه هذه الحكيم أن هذه الكتب من مؤلفات محمد بن عبد الوهاب، فما كان من هذا العالم الهندي إلا أن جثا على ركبتيه من البكاء والحسرة والألم على ما كان منه من عداء للإمام، فصار من أكثر الناس دعوة وتوزيعا ونشرا لكتبه في محيطه. وقد وقعت بين يديّ حكاية تصلح لبعض ما ذكرناه من الأساليب المفيدة من الإشارة وتقديم الهديّة والكتابة، وهي ما حكاه ابن كثير وغيره من المؤرخيّن:

أنّ ابن الزبير كان له مزرعةٌ في المدينة، ولمعاوية مزرعة بجانب مزرعته، فدخل عمّال معاوية على مزرعة ابن الزبير، فغضب وكتب رسالة إلى معاوية يقول فيها: (يا ابن آكلة الأكباد! إمّا أنْ تمنع عمّالك من دخول مزرعتي أو ليكوننّ لي ولك شأن). فقرأ معاوية الرسالة، وإذا هي حارّة من رجل من الرعيّة وهو الملك. فقال لابنه يزيد: ماذا ترى؟ قال يزيد: أرى أنْ ترسل له جيشاً أوّله في المدينة وآخره عندك، حتى يأتوا لك برأسه. قال: بل أقرب من ذلك صلةً، وأقرب رحماً، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم .. من معاوية بن أبي سفيان إلى ابن حواريّ الرسول صلى الله عليه وسلم وابن ذات النطاقين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لو كانت الدنيا بيني وبينك لهانت عليّ، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ عمّالي إلى عمّالك، ومزرعتي إلى مزرعتك). فلما قرأها ابن الزبير، بكى حتى بلّها بالدموع، وسار من ساعته إلى دمشق فقبّل رأس معاوية، وقال: لا

أعدمك الله عقلاً أحلّك من قريش هذا المحلّ. فرحم الله معاوية ما كان أحكَمه وأحلَمه. ومما يحسن الإشارة إليه هاهنا، ونحن في سياق الحديث عن الأسلوب الأنسب للعتاب؛ التحذير من الإلحاح ومجاوزة الحد وإلقاء التهمة، فإنّ ذلك يضّر بالصديق ولا يجدي له شيئا، وفي الأوّل يقول ابن زُرَيق البغدادي في قصيدته اليتيمة: جاوزتِ في لوْمِهِ حدّاً أضرّ به ... من حيث قدّرت أنّ اللّومَ ينفعهُ ومنه قول المتنبي في مرثيّته: ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع أمّا توجيه التهمة إذا صاحبه عنف في الخطاب، ونبرةٌ حادّة في الصوت، فهو عين العتَب المذموم، ولربّما اضطره ذلك إلى تبرِئتِ نفسه فيقابل الحجر بالحجر، لتشتعل شرارة اللوم مضرمةً النار في وقود الكبرياء، فتتصعّد القضية وتوغر في صدره، ويتعسر حينها إطفاء الحريق.

"ما كان الرّفْقُ في شيءٍ إلاّ زانه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلاّ شانَه" (حدِيثٌ شَريف)

عليك بالرفق

عليك بالرفق جاء عن أنس بن مالك في الصحيحين أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله رفيقٌ يحبُّ الرّفق". وعنه عند مسلم: "ما كان الرّفْقُ في شيءٍ إلاّ زانه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلاّ شانَه". وفي حادثة الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله معتبر ومدّكر؛ حيثُ يَدْخُل ذلك الأعرابيّ إلى المسجد والصحابة جلوسٌ حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسر الأعرابي حسراً شديداً حتى أنه بال في ناحية من المسجد! فستشاطّ غضبُ الصحابة وهرعوا إليه يزجرونه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن فعلهم هذا، فلما فرغ من حاجته، ناداه فقال له: "يا هذا إن المساجد ما بنيت لهذا" كلمات لطيفة تخرج في رحمة وإشفاق تلامس شِغَافَ رجُلِ البادية، فيرفرفُ قلبُه حبُوراً لها، ويقول في ذهول: "اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا". لطالما أحاطت الندامة بصديقين خاضا غمار الحياة يجدفان على قارب الحبّ بمجاديف الوفاء والإخاء، وفي لحظة غضب تثور عاصفة المشاحنة وتهدر أمواج اللوم ويعظم الخطب بالقارب الجميل ليخرج عن المسار الصحيح ويرتطم بصخرة الخصومة غارقاً في

ظلمات القطيعة والجفاء! إنّ المجازفة في الإنسان سمة فطريّة، والاحتراس والتّأني عارضان، والله تعالى يقولُ: {إنّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلى السمَوَتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأشفَقنَ مِنها وَحَمَلَها الإِنسَنُ إِنّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً} الأحزاب (72). فالمجازفة ظلمٌ وجَهالةٌ، وأيّ شيءٍ أظلمُ وأجهلُ من المجازفة بالصّديق؟! - أما مرساة الرفق والاحتراس فحريّة بالاستعمال في مثل هذه الظروف وإلا أكلها الصدأ! يحكى أن إحدى السيدات ذهبت إلى صديقاتها في بعض مناسباتهن، وطلبت من زوجها أن يأتيها في موعد محدد، فتأخر عليها الزوج، حتى لم يبق أحد من الزائرات سواها، وأصبحت تشعر بالخجل من ذلك التأخر لما ترى على قسمات المضيفة من الإرهاق والتعب والمجاملة في تحمّلها، فلما عاد الزوج وانطلق بالسيارة قافلا إلى المنزل وقد أوشكت المرأة على البكاء من الخجل جرّاء ذلك الموقف، وهي تراود نفسها في البدء بالوابل الحارق من عبارات اللوم والعتاب على الزوج، بادرها قائلا: إنّي أمضيت الوقت كلّه في البحث عن الجهاز الذي طلبته منّي قبل فترة،

أطفئ الغضب!

ولم أدع محلاً ولا بائعاً إلا سألت فيه عن ذلك الجهاز، ألم تلحظيه في المقعد الخلفي!؟ فعلمت الزوجة أن العتاب في هذا الموقف ليس له وجه من المناسبة، وقررت إظهار الفرح بصنيعه وشكره على إحسانه، ولك أن تتخيل لو أنها انقضت عليه بمخالب اللوم وأنياب العتاب، كيف ستنقلب العاقبة؟ أطفئ الغضب! عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال: "لا تغضب، فردد مراراً فقال: لا تغضب") (¬1) (- (رواه البخاري). شكراً لك يا صديقي! طلب مني أحد الأصدقاء مساعدته للتخلص من هذه العادة السيئة، وكلنا ذاك الصديق نرغب في طرد الغضب) (¬2) (، - حتى أشرس الرجال غضباً يستعمل ¬

(¬1) وقد تكررت تلك الوصية عن رسول الله لغيره من الصحابة، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: (قلت يا رسول الله دلّني على عمل يدخلني الجنة قال: لا تغضب) - (رواه الطبراني بإسناد حسن). (¬2) هذا المطلب النفسي مما يرد ذكره كثيراً لفشوه ورغبة الجمهور في التخلص منه، وقد عني العلم الشرعي والنفسي بموضوعه وأفردت له مؤلفات كثيرة، إلا أنك لن تجد طريقة أقوم لدفعه من إتباع الهدي النبوي - فالحمد لله رب العالمين.

المسكنات الطبية من أجل ذلك - ولقد جعلني هذا الطلب من ذلك الصديق أتنبه لضرورة إطفاء الغضب حال معاتبة الأصدقاء، فشكرا لك يا صديقي؛ ولا يعزب عنك مثقال ذرّة التفكّر في آثار الغضب الضارية بالنفس والجسد، والندامة الموالية لتصرفات الغضوب، حتى لقد اعتبرها الفقهاء من قبيل تصرفات المخمورين والمجانين، ولك أن تقول: هو الجنون الأصغر! وإذا ما علمت أن الرفق الذي نتحدث عنه، هو طرد الغضب في بعض معانيه، وجب عليك دفعه بالوسائل المتاحة لك، ومنها: 1. التعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إذا اعترتك من موجة الغضب فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فعن سليمان بن صُرد قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمرّ وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: "أعوذ بالله كم الشيطان الرجيم" - (متفق عليه). 2. الجلوس أو الاضطجاع: روي عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه كان يسقي على حوض له فجاء رجل يرد الحوض فدقه، وكان أبو ذر قائماً فجلس، ثم اضطجع، فقيل له:

يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "إذا غضب أحدكم وهو قائِم، فليَجلِس، فإن ذهب عنه الغضَب، وإلا فَليَضطَجِع" - (سلسلة الأحاديث الضعيفة: الألباني). 3. الوضوء: فعن عطية السعدي - رضي الله عنه - قال: "إن الغَضَبَ من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النّار وإنما تطفَأُ النّار بالماء، فإذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ" - (أخرجه أبو داود). فهذه أربعة (¬1) وسائل تساعدك على التكيف مع حالة الغضب، ثم أرجو أن لا تغترّ بمن يزعم أن الغضب حالةٌ نفسيةٌ طَبَعِيّة لا مناص للهروب منها، فإن ذلك لو لم يكن ممكناً لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تغضب"، وقد تقرر لدينا أن الشريعة لا تكلف بما لا يطاق، وعلى كل حال؛ عندما تكون غاضباً حاول أن لا تعاتب من أغضبك، لأنك ولا ريب ستتحول إلى المعنى الأول من العتاب (¬2) وربما تخسر النزال. ¬

(¬1) الوسيلة الأولى هي التفكر في آثار الغضب السيئة. (¬2) انظر (مفهوم العتاب) ص: 13.

وأحْلى العَتْب يَصْدرُ مِنْ حَبِيبٍ ... "ويبْقى الودُّ ما بَقِيَ العِتَابُ" (الأدِيب الوالد محمّد أبونصيّة)

استعطاف المعاتب

استعطاف المعاتب. "إذا جاءتك خادم المطعم تحمل صحناً من البطاطس المسلوقة وكنت قد طلبت بطاطس محمرة، فقل لها: (آسف إذا أزعجتك، ولكني أُفضّل البطاطس المحمرة على الطريقة الفرنسية) فستجيب: (لا إزعاج إطلاقاً) وستسرّ بخدمتك لأنك أظهرت احتراماً لها". (ديل كارنيجي: كيف تكسب الأصدقاء) إنّ من الجفاء أن لا يمتزج بالمعاتبة تهللٌ بادئ اللقاء، أو دعابة في المنطق وتجمّلٌ بالثناء، وغير ذلك مما يبهج الصديق، ويدفع الضيق، ويمهد الطريق، وفي خبر عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار الذي سنورده في آخر الباب، تصويرٌ لأثر ما أشرنا إليه. وكنت إذا استبطأت ودّك زرته ... بتفويف شعر كالرداء المحبّر عتابٌ بأطراف القوافي كأنّه ... طِعانٌ بأطراف القنا المتكسّر (البحتري) حدّثني والدي عن بعض مواقفه مع أخيه الشيخ عبد الله أبونصيّة لمّا كان مشرفاً على النشاط الطلاّبي في إحدى المدارس الابتدائية، فقد حصدت المدرسة جوائز متتالية من الأنشطة لعدّة سنوات، وفي أحد المواسم

قررت اللجنة - التي يتصدّرها والدي - حجب مشاركة المدرسة مما أحدث أثرةً في مدير المدرسة ومعلّميها وطلاّبها، وقد عرضت المدرسة استنكارها وعتابها على ذلكم الصنيع في فقرة مسرحيّة تخللت حفل نهاية العام الدراسي، فاستأذن أبي في المشاركة وأجابهم على منبر الحفل بأبيات كان مطلعها: حنانكِ أمّنا وضَحَ الصوابُ ... وعفوكِ إنّهُ انْقشَعَ الضَبَابُ فتَحْتِ الصَدْرَ أعْواماً عِجافاً ... فذلّ لنا منَ العلمِ الصعابُ وفيها: عِتابكم هو الشَهْدُ المصفّى ... وبعضُ العتْبِ مهْلَكَةٌ وصابُ وأحلى العتْب يصدر من حبيبٍ ... "ويبقى الودُّ ما بقيَ العِتَابُ" * * * لئنْ حُجبَتْ مساهَمَةٌ لعَمْري ... سماءُ الله يحْجُبها سحابُ وتلك الغادةُ الحسْناء يدنو ... لها الخطّابُ والأدبُ الحجابُ فهذا عتاب لطيف استوجب جواباً حسناً، عادت به المياه إلى مجاريها، والقلوب إلى تصافيها، بل وأحسن وزيادة، وهكذا العواطف حينما تتحرك في جوانح النفوس الكريمة، يأسرها التلطف ويستميلها التودد، من أجل ذلك تدرك عناية الشريعة بحسن التعامل مع الآخرين.

تحدث للقلوب

إن أساليب الاستعطاف لا تكاد تحصى، وإن كنت أعرض عليك قواعد عامة تخلُق العطف في مشيمة الصداقة، إلا أني سأذكر لك مثالاً واحداً ربما غفل عنه الكثيرون أو ظنوه غير مجدٍ وهو عظيم الجدوى، جرب مرّة أن تنادي صديقك نداء استعطاف باسمٍ خلاف الذي اعتاده منك كأن تنادي: (أبا محمد) بصريح اسمه: (عليّ) من المؤكد أن ذلك سيثير اهتمامه ولابد أن يكون تأثيره مذهلاً. تحدث للقلوب: إن للقسوة موروث بغيض على القلب، ثقيل على النفس، يتأبطه الصديق فيحرج به الآخرين، وقد انطبعت تلك القسوة وإرثها على أعراب الصحراء القاسية تكيفاً غير مجذوذ، حتى جاء الإسلامُ يجذ كل بذاءة، ويتلف كل رذيله، ويتمم مكار الأخلاق، فكان مماحض عليه الهدوءَ واللين، ففي الحديث الذي في الصحيحين: "كل سلامى من الناس عليه صدقة ... " قال: "والكلمة الطيبة صدقة"، وقد تعلم الصحابةُ هذا الدرس التربوي فكانوا: {رحماء بنيهم} الفتح: (29). إلاّ أن أحسن الأحوال أن يستغنى في التسامح عن الكلام فـ"تبسمك في وجه أخيك صدقة"، وكم اختصرت

الابتسامات كثيراً من العبارات! يغفل كثير من الناس عن محاسن هذا الهدي النبوي فيفعل بالأصدقاء فعل الحميم في الصيف والجليد في الشتاء - من العبوس والحدّة والأنَفة، أما البِشرُ والبشاشة فهما الربيع بذاته - وتعلم يا محبّ كيف يفعل الربيع! قال الأستاذ الخضر - رحمه الله -: ومما يدلك على أنّ صداقة صاحبك قد تنبت في صدر سليم؛ أن يجد في نفسه ما يدعوه إلى عتابك، حتى إذا لقيته بقلبك النقي، وجبينك الطلق، ذهب كل ما في نفسه، ولم يجد للعتاب داعيا، قال أحد الأدباء: أزورُ مُحمّداً فإذا التقينا ... تكلّمَتِ الضّمَائِرُ في الصّدورِ فأرجعُ لمْ ألمْهُ ولمْ يلمْني ... وقدْ رضِيَ الضَميرُ عن الضميرِ"

"أُعَاتِبُ من يحلو بِقَلْبي عِتابُه ... وأترُكُ من لا أشتَهي لا أُعَاتِبُه" (عبيد الله بن الطاهر)

العتاب للخاصة

العتاب للخاصّة. "عاتب من ترجو رجوعه". (الأصمعي) لم يزل الناس منذ أن عرف الناسُ الناسَ، يصطفي أحدهم من الآخرين أصدقاء يحفظون عليه حاجتهُ إلى المدنية، ومتى كان صديق الفضيلة فاضلاً؟ إلا أن تختصَه عن غيره بمزيد ودّ وتقدير واحترام، يشعر حينها بأفضليته ويبادلك الشعور الذي يعز له النظير، وهؤلاء هم الخاصة المعنيون بالرسالة، المستحقون للعتاب الإيجابي، أما من سواهم فلن يزيدهم العتاب إلاّ فراراً: وقد أدرك هذا المعنى الشاعر الساخر إبراهيم المازني فقال: خليلي ما يغني العتاب إذا انطوى ... على البغض قلبٌ كالزمان حؤول إذا لم يكن صدقي الوداد بنافعي ... فكل مقالات العتاب فضول لم تزل العامة تقول: (غلطة الشاطر بعشر) أي تعادل عشر أغلاط من غيره، والذي يستدعي العتاب فيما بين الأصدقاء هي تلك الغلطة التي تصدر من الشاطر! أما من استربت ودّهُ لحداثة العهد بالصداقة أو غيرها، فعتابه ومن شاكله معدود من البوائق العائدة على صاحبها بالوكسة، والملول من جنس ذلك، قال ابن الروميّ:

إذا أنت عاتبت الملول فإنما ... تخط على صحف من الماء أحرفاً وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن ... مودته طبعاً فصارت تكلّفا وعلى ذلك يحمل قول منصور النَّمرريّ: أقلل عتاب من استربت بوده ... ليست تنال مودة بعتاب

ظَواهِرُ العَتْبِ لْلإخْوانِ أَحْسَنُ مِنْ ... بواطِنِ الحِقْدِ في التّسْدِيدِ للْخَلَلِ (اِبْنُ المُقرِي)

الخطورة في كتمان العتاب

الخطورة في كتمان العتاب. عتابي أخي في كلّ ذنبٍ أتى به ... مخُوفٌ على حال الأخوّة في الودّ ولست أرى وجهاً لترك عتابه ... على ما جنى إذْ كان خيراً من الحقدِ (ابن وكيع) وربما وجد المرء في نفسه ما لا بد منه على صديقه، فأحسن أحوال العتاب، صيانة الحال من أن يجري فيها شيء من الاختلال، وأي اختلال في المودة يكون بعد كتمان العتاب عن ما لا بد منه؟! بل العتاب حينئذٍ دليلٌ على صدق الأخوة، ومتانة الصلة، وهذا خطْبٌ مُريع في دار الأخوّة، وطبق من ضريع على مائدة الصداقة، لا دواء له ولا شفاء منه إلاّ بالمُكاشفة والمُصارحة بما يحوم في مكنون الضمير، فإن امتنع المُصَابُ عن شرْبِ الدّواء، انتشر الدّاء، وكان الموت الزؤام. قال بعضهم: "الصبر على مضَضِ الأخ خيرٌ من معاتبته، والمعاتبة خيرٌ منَ القطيعة، والقطيعة خيرٌ منَ الوقيعة". وقال آخر: "ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد". وعلى هذا المعنى يصدق قول محمد بن داود: "من

لم يعاتب على الزلّة، فليس بحافظٍ للخلة". وقد وقع لي من بعض من أحبّ، أنْ اتُهمْتُ عنده بذنب ما قارفتُه طرفة عين، فحام ذلك في نفسه طويلاً، حتى صرت حديث سوء على لسانه، وجانياً بما لم أقارفه لسوء ظنه وعمى إمعانه، ولو أنّه توجّه إليّ بالعتاب والملامة، لأبصرته الحقيقة بابتسامة، فزال الدّاء واتّصَلَ الرّجَاء وعمّ الهَناء، "ففي العتاب حياة بين أقوام"، ولكنّه التجليح وركوب الرأس، منّ الله علينا بالعافية: ظواهر العتب للإخوان أحسن من ... بواطن الحقد في التسديد للخلل (ابن المُقَري) ومثله أو أجودَ منه للمتنبي: لعلّ عتبك محمودٌ عواقبه ... وربّما صحّت الأجساد بالعللِ وقال آخر: ترك العتاب إذا استحق أخٌ ... منك العتاب ذريعة الهجران! "معاتبة الأخ خيرٌ من فقده، ومن لك بأخيك كلّه؟ " (أبو الدرداء - رضي الله عنه -) فربما كان في العتاب كشف للبسٍ جرى بين الصديقين، وهذا لا سبيل إلى معرفته إلا بمثل ما أشرنا

إليه من المعاتبة والمحاورة، ومن ذلك أنه لمّا قدم معاوية المدينة سنة تسع وخمسين، عزل مروان بن الحكم وحجبه، ثم أذن له فقال: يا أمير المؤمنين لم عزلتني وحجبتني؟ قال عزلتك أنّي رأيتك تخطرفت فوق ما أردت بك، وقد شكت رملة بنت أمير المؤمنين أنّك ضلعت عليها مع زوجها عمرو بن عثمان أن كان أقرب إليك منها بأبٍ، وظننتُ أن ذلك لشيء تسرّه في نفسك وتصنع له، وحجبتك لأني أردت أن أغضب عليك لئلا تغضب علي. قال مروان: أمّا ما زعمت أني تخطرفت فوق ما أردت بي، فوالله لو جهدت ما بلغت الذي أردت بي. وأمّا رملةُ فإنها أرادت أن تأخذ بقدر فضلها على زوجها، فعلمت أن ذلك فراق بينهما، فقصرتها على الحق، فلم تره يلزمها، والله لقد بذلت العدل بالحجاز حتى من نفسي، فكيف أضلع على بنت أمير المؤمنين؟ قال معاوية: ما أراك إلاّ صادقاً، فدع هذا اليوم فليذهب بعتابه، فإنّ لك يوماً لا عتاب فيه. ولك أن تتخيل لو أنّ أمير المؤمنين حجب مروان بن الحكم ولم يأذن له بالدخول، إذاً؛ لتهدمت أواصر

القرابة بينهما، ولسَخِطَ لسَخَطِ ابن الحكم أقوامٌ ما كان يغني أمير المؤمنين سخطهم، فالعتاب باب خير إن شاء الله، متى ما أحسن استعماله جيداً.

"ومِمْا يَنبَغي عَلَيكَ؛ أَن تُحسِنَ جَوابَ العِتابِ بالإيابِ وَعدَمِ التّعَسّفِ والتّأجِيل، فَمَن حَالُه كَهذا لا يُؤمَنُ علَيه مِثلُ عَاقِبَةِ صَاحِبِ الحْيص بيص إذ يَقولُ فيه: وجوهٌ لا يُحَمِّرُها عِتابٌ ... جديرٌ أنْ تُصَفَّرَ بالصَّغارِ فما دانَ اللِّئامُ لغير بأسٍ ... ولا لانَ الحديدُ بغيرِ نار" (أبوهِلالٍ العَسْكَرِيّ)

متى تعلم بأنك نجحت في عتابك؟

متى تعلم بأنك نجحت في عتابك؟ احتجتُ مرّةً إلى أحد الأصدقاء كي يسعفني في صيانة بعض الأجهزة الالكترونية، ثمّ إني تأخرت في استعادتها بعد تمام الصيانة مما دعاه إلى الاتصال بي ليقول بكلّ حدّة: "إن لم تحضر الآن لاستلامها فسأمنعك من استعادتها لاحقاً"! فمضيت ذاهباً إليه - والله يعلم ما يلمّ بي من ضائقة تمنعني من الحضور في ذلك الوقت - واستعدتها وشكرته، ثمّ أرسلت بعد هنيهة على هاتفه: (إني لا أفهم الغرض المنشود وراء تصرفك بهذه الحدّة؟ ولكن العرب كانت تقول: "إذا عزّ أخوك فهن"! كيف إذاً وأنت أخٌ عزيز، ومسكٌ وإبريز). فلمّا كان من اليوم التالي - اتّصل بي واعتذر عمّا بدر منه بالأمس، وحينها - فقط - علمت بأنّ عتابي قد تكلل بالنجاح. إنّ أبرز نتائج العتاب وأولاها (الاعتذار)، وهل العتاب إلا وسيلة لجلب الاعتذار؟ يطالب كثيرٌ من علماء الاجتماع - وخبراءِ فنونِ التعامل - بعدم إلجاء الآخرين إلى الاعتراف بأخطائهم تجاهنا، وهذه مطالبة تخالف طباع البشر السويّة، فكانوا كمن يتطلب في الماء جذوة اللهب!

والأولى من ذلك، مطالبة المخطئ بسرعة الاعتراف، فإنك عندما تكون مخطئاً وتلاقي صديقك بهذه العبارة: "آسف، لقد أخطأت في حقك" تجده ولابد يجيبك بقوله: "لا عليك، لم يكن ذلك بشيء" وهو - بلا شك - أخف على النفس من توبيخ العتاب، وقد أدرك هذا المعنى أخوة يوسف - عليه السلام - عندما قابلوه بالذنب الذي لا يغتفر - ألقوه في البئر وهو ذلك الطفلُ الصغير - فـ {قَالُواْ تَاللهِ لَقَدءَاثَرَكَ اللهُ عَلَينَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، ليأتي الجواب سريعاً ومباغتاً وبلا عتاب: {لا تَثرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوم}! " .. كلّ مغفل يسعه أن يدافع عن أخطائه - ومعظم المغفلين يفعلون! - أمّا أن تسلم بأخطائك فهو سبيلك إلى الارتفاع درجاتٍ فوق الناس والإحساس بالرقي والسمو" (ديل كارنيجي) إنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة كبرى، والمطالبة بذلك الاعتراف قوّة فطرية، فلا شيء أدعى إلى الضجر والسخط من إنكار المخطئ لأخطائه الفادحة، ومن أجل ذلك احتجنا للعتاب الذي يؤدي في أصح استعمالاته إلى الاعتراف والاعتذار، فإذا وجدت على أعقاب عتابك أحد هذين المطلبين تكون حينها قد تحققت من النجاح.

"إذا واخَيْتَ أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه، فإنّك لا تأمن من أنْ يُرى في جوابه ما هو شرٌّ من الأوّل" (أبوسُلَيْمانِ الدْارانيّ)

كيف يفعل من وقع في العتاب المذموم

كيف يفعل من وقع في العتاب المذموم. قال الكاتب الأستاذ محمد إبراهيم الحمد: "ومن وقع في شدّة العتاب، وإسراف في اللوم، فيحسن به إذا وقع منه ذلك أن يبادر إلى الاعتذار أو الهديّة، وإظهار الأسف والاعتراف بالخطأ، دون أن تأخذه العزّة بالإثم، فما هو إلاّ بشر، وما كان لبشر أن يدّعي أنه لم يفعل إلاّ صوابا". ما يعينك على ترك العتاب المذموم. ومما يعين على ترك المعاتبة، أنْ تتذكّر بأنّك ربما ألجأت الصديق إلى أنْ يواجهك بما هو شرّ مما هو فيه، فيصار لما عرّفه أبو علي اليمامي: صار العتاب يزيدني بعدا ... ويزيد من عاتبته صدّا فقد نقل عن أبي سليمان الداراني أنّه قال لأحمد بن أبي الحواريّ: "إذا واخَيْتَ أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه، فإنّك لا تأمن من أنْ يرى في جوابه ما هو شرٌّ من الأوّل"، قال: "فجرّبته فوجدته كذلك". وتذّكر أنّ العتاب غير مأمون العاقبة، وأنّ السلامة في ترك غيرِ ما استثنيناه، وأنّه لربما استحالت الصلة هجراً وحال دون الوصل بعد ذلك الفراق، وفي ذلك

يقول ابن حزم: "وهل هَجَسَ في الأفكار، أو قام في الظنون، أشنع وأوجع من هجر عتاب وقع بين محبّيْن، ثمّ فاجأهم النّوى قبل حلول الصلح وانحلال عقدة الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نسي العتاب وجاء ما طمّ على القُوى وأطار الكرى ... إلخ"

"لعمري إنّ فيه - أي العتاب - إذا كان قليلاً للذة، وأمّا إذا تفاقم فهو فألٌ غير محمود، وأمارةٌ وبيئة المصدر، وعلامة السوء، وهي بجملة الأمر مطيّة الهجران، ورائدة الصّريمة، ونتيجة التجنّي، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القِلى، ومقدّمة الصدّ، وإنما يُسْتَحْسَنُ إذا لَطُفْ وكان أصله الإشفاق". (ابن حزم)

صورة من العتاب

صورة من العتاب. بل من أرقى صور العتاب، وأمثَلِ أساليب الخطاب، عتابٌ حلو المذاق، بديع السياق، ممزوج بالتأديب المعتدلِ ما بين التأنيب والتطييب، دونك إياه، تحسسه وتأمله، تفهم الدرس بإذن الله. خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار عقب حُنين (المعركة): _ إن غنائم المسلمين التي غنموها في معاركهم مع رسول الله ليست بشيء في مقابل ما غنموه من حُنين وحدها، فلقد كانت تلك المعركة أمراً استثنائياً له حساباته الخاصة. _ وها هو الرسول الأعظم - وهو أعدلُ الناسِ على الإطلاق - يقسم الغنائم فيعطي أبا سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية، وحكيم بن حزام والنضر بن الحارث بن كلدة والعلاء بن حارثة الثقفي والعباس بن مرداس وغيرهم من رجالات قريش والعرب، إلا ذلك الحي من الأنصار لم يكن لهم من القسمة حظوة ولا نصيب! _ إن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وحيٌ يجلّ عن الخطأ والحَيدة، وعندما يظهر لنا أنها على

خلاف الرأي والحكمة، فذلك لقصور مداركنا وعجزها عن استيعاب القرار الحكيم، كما حصل من عمر رضي الله عنه في صلح الحديبية - قبل أن يتبين له وللآخرين أنّ ذلك الصلح هو الفتح المبين-، وهو الذي صدر من نبي الله موسى مع الخضر - عليهما السلام - وها هو الآن يتكرر على أعقاب قسمةِ غنائم حنين. _ فلقد وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم لما ما نالهم من القسمة الذي نال غيرهم، فكثرت منهم القالةُ حتى قال قائلهم: لقيَ واللهِ رسولُ الله قومَه، وفي ذلك قال شاعر الإسلام الأوّل حسّان بن ثابت: دعْ عنك شمّاءَ إذْ كانت مودتها ... نزرا وشرّ وصالِ الواصل النزرُ وأت الرسول فقل: يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدد البشرُ علام تُدعى سليم وهي نازحة ... قدّام قوم همْ آووا وهم نصروا سمّاهم الله أنصارا بنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعرُ _ إن الأنصار يقدمون في الإسلام على رأس الهرم - واللهُ اختصهم على العالمين ليكونوا شركاءَ في تبليغ الدعوة الإسلامية الخالدة، أفلا يجدوا اليوم في أنفسهم من هذه القسمة شيئا؟! _ دخل سعد بن عبادة على رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمتَ في قومك وأعطيتَ عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة. فخرج سعد وجمع الأنصار، وبعد قليلٍ ستُعقد جلسةُ عتابٍ تاريخيةٍ يتحادث الناس عنها دهراً طويلاً. _ لما اجتمعوا أتى سعدٌ رسول الله مخبراً باجتماع القوم، فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، وجدَةٌ وجدّتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلاّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءَ فألّف الله بين قلوبكم"؟ قالوا: "بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل". قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار"؟

قالوا: "بم نجيبك يا رسول الله، للهِ ولرسوله المن والفضل". قال صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم ولصُدّقتم: أتيتنا مكذَّباً فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فواسيناك؛ أَوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصارِ في أنفسكم على لِعَاعَةٍ من الدنيا تألّفتُ بها قوماً لِيُسْلِموا (¬1)، ووكلتُكُمْ إلى إسلامكم. ألا ترضَون يا معشَرَ الأنصار، أن يذهبَ الناسُ بالشّاةِ والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفسُ محمّدٍ بيده لولا الهجرة لكنتُ امرءً منَ الأنصار، ولو سلَكَ الناسُ شعباً وسلكت الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار. ¬

(¬1) عن أنسٍ -رضي الله عنه- أَن رجلاً سأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- غنماً بين جبلينِ فأعطاه إياه، فأتى قومه فقالَ: أي قومِ: أسلمُوا فوَاللَّهِ إنّ محمداً ليعطِي عطاءً ما يخَافُ الفقرَ، فقالَ أنسٌ: إن كان الرجل ليُسلِمُ ما يريد إلاّ الدُّنيَا، فما يُسلمُ حتى يكُونَ الإسلام أَحبَّ إليه من الدنيا وما عليها). صحيح مسلم: (4276).

اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". لقد كانت الأنصار أبرّ وأوفى من أن يجدوا في أنفسهم شيئاً على تلك اللعاعة، فلا عجب إذاً إذا بكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله قسماً وحظاً".

الصداقة بقلم العلامة محمد الخضر حسين - رحمه الله -

الصداقة بقلم العلامة محمد الخضر حسين - رحمه الله - عاطفة سامية القدر، غزيرة الفائدة، تلك هي الصداقة، والشارع رغب في أن تكون المعاملة بين المسلمين معاملة الصديق للصديق، ألا ترونه كيف أمر المسلم بأن يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه،؟ بل استحب للمسلم أن يؤثر أخاه المسلم وإن كان به حاجة، وذلك أقصى ما يفعله الصديق مع صديقه. هذا الأدب الإسلامي نبهني لأن أتحدث إليكم في هذه الليلة عن الصداقة: ما هي الصداقة؟ المحبة إما أن تكون للمنفعة، وإما أن تكون للذة، وإما أن تكون للفضيلة، وقد يطلق على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة اسم الصداقة. صداقة المنفعة: هي أن يحب الإنسان شخصاً لما يناله منه من منافع، وشأنُ هذه الصداقة أن تبقى معقودة بين الشخصين ما دامت المنافع جارية، فإن انقطعت المنافع انقطعت هذه الصداقة. صداقة اللذة: هي المحبة التي تثيرها الشهوة، وقد تشتد فتسمى عشقاً، وشأن هذه الصداقة - أيضاً - أن تنقطع عندما

الصداقة فضيلة

تنصرف النفس عن اللذة التي بعثتها. صداقة الفضيلة: هي المحبة التي يكون باعثُها اعتقادُ كلٍّ من الشخصين أن صاحبه على جانب من كمال النفس، وهذه هي الصداقة التي يهمنا الحديث عنها في هذا المقام. الصداقة فضيلة: ليست صداقة المنفعة ولا صداقة اللذة بمعدودة في خصال الشرف، وإنما الذي يصح أن يعد خصلة شريفة هو الصداقة التي يبعثها في نفسك مجردُ اعتقادِ أن صاحبك يتحلى بخلق كريم. وهذه الصداقة تشبه سائر الفضائل في رسوخها في النفس، وإيتائها ثمراً طيباً في كل حين، وهي التي توجد من الجبان شجاعة، ومن البخيل سخاءً؛ فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر؛ ليحمي صديقه من نكبة، والبخيل قد تدفعه قو ة الصداقة إلى أن يبذل جانباً من ماله لإنقاذ صديقه من شدة؛ فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة؛ فالمتكبر تنزل به الصداقة إلى أن يتواضع لأصدقائه، وسريع الغضب تضع الصداقة في نفسه شيئاً من كظم الغيظ، ويجلس لأصدقائه في حلم وأناة، وربما اعتاد التواضع والحلم، فيصير بعدُ متواضعاً حليماً. والفضل

الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء

في خروجه من رذيلتي الكبر وطيش الغضب عائد إلى الصداقة. وإن شئت فقل: إن حب الشخص لك لفضيلتك علامة على كمال أصل خلقه؛ فإنك لا ترجو من شخص أن يحبك لفضيلتك إلا أن يكون صاحب فضيلة. وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي ... إلا امرؤ كان ذا فضل وذا أدب الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء: في اتخاذِ صديقٍ حميمٍ لذةٌ روحية يدركها من يَسَّر الله له أن انعقدت بينه وبين رجل من ذوي الأخلاق النبيلة، والآداب العالية مودة، ولا منشأ لهذه اللذة الروحية إلا الشعور بما بينه وبين ذلك الرجل النبيل المهذب من صداقة. وصديق الفضيلة هو الذي يجد في لقاء صديقه ارتياحاً وابتهاجاً، ويعد الوقت الذي يقضيه في الأنس به من أطيب الأوقات التي لا تسمح بها الأيام إلا قليلاً. ثم إن الصداقة - وإن قامت على أساس الفضيلة، ولم يكن للمنفعة أثر في تكوين رابطتها - تستدعي بطبيعتها جلب المنفعة أو دفع الضرر؛ فإنها تبعث الصديق على أن يدفع عن صديقه الأذى بما عنده من قوة، وتهزه لأن يسعده في الشدائد بما أوتي من جاه أو سطوة. ولمثل هذا أوصى بعض الحكماء باتخاذ الأصدقاء

الاستكثار من الأصدقاء

فقال: "أعجز الناس من فرط في طلب الأخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم". وقال الشاعر الحكيم: لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكن إخوان الثقات الذخائر الاستكثار من الأصدقاء: متى حظي الإنسان بأصدقاء كثيرين فقد ساقت له الأقدار خيراً كثيراً، ففي الصداقة ابتهاج القلب عند لقاء الصديق، وفيها لذة روحية ولو في حال غيبة الصديق، وفيها عون على تخفيف مصائب الحياة. وكذلك أوصى بعض الحكماء ابنه فقال: "يا بني إذا دخلت المصر، فاستكثر من الصديق أما العدو فلا يهمنك". وقال بعض الأدباء: ولن تنفك تُحسد أو تُعادى ... فأكثر ما استطعت من الصديق ومبنى هذه النصيحة على أن شأن حساد الرجل وأعدائه تدبير الوسائل للكيد له، وطَرْقُ كلِّ باب يحتمل أن يكون من ورائه ما يشفي صدورهم؛ فإذا ساعده القدر على أن يُكْثِر من الأصدقاء فقد أكثر من الألسنةِ التي تدحض ما يُرمى به من المزاعم، والأيدي التي تساعده على السلامة من الأذى. علامة الصداقة الفاضلة: ليس من علامة الصداقة الفاضلة أن يقوم لك الرجل مُبْتَدراً، أو يلاقيك باسماً، أو يثني عليك في

وجهك مسهباً ومكرراً؛ فذلك شيء يفعله كثير من الناس مع من يحملون له أشدَّ العداوة والبغضاء، وأصبح كثير منهم يعدونه من الكياسة، ويخادعون به من إذا أسمعوه مدحاً فكأنما سقوه خمراً. وربما استثقلوا من لم يسلك هذه الشعبة من النفاق، ونسبوه إلى جفاء الطبع، وقلة التدرب على الآداب الجارية في هذا العصر. وقد ذكر الأدباء للصداقة الخالصة علامات منها أن يدفع عنك وأنت غائب عنه. قال العتابي: وليس أخي مَنْ ودَّني رأي عينِه ... ولكن أخي من صدَّقْتهُ المغائب ومنها أن تكون مودته في حال استغنائك عنه واحتياجك إليه سواء. قال الأحنف بن قيس: "خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها". ومنها أن ينهض لكشف الكربة عنك ما استطاع كشفها، لا يحمله على ذلك إلا الوفاء بعهد الصداقة، قال بعضهم في صديق له: وكنت إذا الشدائد أرهقتني ... يقوم لها وأقعد أو أقوم والألمعي يَعْرف الصداقة من نظرات العيون، ويحسها من في أساليب الخطاب، ويلمحها من وراء

أحرف الرسائل: والنفس تدرك من عيني محدثها ... إن كان من حِزْبها أو مِنْ أعَاديها ومن الْمُثُل العالية للصداقة المتينة صداقة الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم للوزير هاشم بن عبد العزيز. نقرأ في تاريخ الأندلس أن الوزير هاشماً بعثه السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي على رأس جيش، فوقع هذا الوزير أسيراً في يد العدو، وجرى ذكره يوماً في مجلس السلطان محمد بن عبد الرحمن، فاستقصره السلطان، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد بالرأي، فلم ينطق أحد الحاضرين في الاعتذار عنه بكلمة، ما عدا صديقه الوليد؛ فإنه قال: "أصلح الله - تعالى - الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيدهِ، فخذله مَنْ وثق به، ونَكَل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى مُلِكَ مقبلاً غير مدبر، ملبياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه؛ فإنه لا طريق للملامة عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم. وأيضاً فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضاً للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب

التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ". وقع هذا الاعتذار من السلطان موقع الإعجاب، وشكر للوليد وفاءه لهاشم، وترك تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه. ووصل خبر هذا الاعتذار إلى هاشم، فكتب خطاب شكر للوليد ومما يقول في هذا الخطاب: "الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد، والوفي من وفى لك إذا خانك زمان". ومما جاء في هذا الخطاب من الشعر: أيا ذاكري بالغيب في محفل به ... تَصَامَتَ جَمْعٌ عن جوابٍ به نصري أتتني والبيداءُ بيني وبينها ... رُقَى كلماتٍ خَلَّصَتْني من الأسر لئن قَرَّب الله اللقاء فإنني ... سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر فكتب إليه الوليد جواباً يقول فيه: "وصلني شكرك على أن قلتُ ما علمتَ، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما ذكرته للسلطان من ذلك، والله - تعالى - شاهد على أني أتيت ذلك في مجالس غير المجلس المنقول إلى سيدي، إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق، ما أردت بها إلا أداء بعض ما اعتقده لك، وكم سهرتَ وأنا نائم، وقمتَ في حقي وأنا قاعد، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً".

الصداقة تقوم على التشابه

الصداقة تقوم على التشابه: لا تنعقد الصداقة الصافية بين شخصين إلا أن يكون بين روحيهما تقارب، وفي آدابهما تشابه، قال عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة: وما يلبث الإِخوان أن يتفرقوا ... إذا لم يُؤلِّف روحُ شكلٍ إلى شكل فإن وجدت صحبة بين بخيل وكريم، أو جبان وشجاع، أو غبي وذكي، أو مهتد ومبتدع - فاعلم أن الصحبة لم تبلغ أن تكون صداقة بالغة، قال الطائي: عصابةٌ جاورتْ آدابُهم أدبي ... فهم وإن فُرِّقُوا في الأرض جيراني أرواحنا في مكان واحد وغدت ... أبدانُنا بشآم أو خُراسان البعد من صداقة غير الفضلاء: ينبغي للرجل أن يتخير لصداقته الفضلاء من الناس، فهؤلاء هم الذين تجد الصداقة فيهم قلوباً طيبة، فتنبت نباتاً حسناً، وتأتي بثمر لذيذ، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: عزيزٌ إخائي لا ينال مودتي ... من القوم إلا مسلمٌ كاملُ العقل وقال آخر: وبغضاء التقىِّ أقلُّ ضيراً ... وأسلم من مودة ذي الفسوق وكثيراً ما يقاس الرجل بأصدقائه، فإن رآه الناس يصاحب الفساق والمبتدعين سبق إلى ظنونهم أنه راضٍ عن الابتداع ولا يتحرج من الفسوق. وقد صرح أحد الشعراء بأنه ترك مودة رجل من

الاحتراس من الصديق

أجل أنه يصاحب الأراذل من الناس، فقال: يزهدني في ودك ابن مساحق مودتُك الأرذال دون ذوي الفضل الاحتراس من الصديق: قد يوصي بعض الأدباء بالاحتراس من الصديق، كما قال أحدهم: أما العداة فقد أروك ظنونهم ... وأقصد بسوء ظنونك الإخوانا وأتى على هذا المعنى آخر، وأبدى له وجهاً، هو الخوف من أن ينقلب الصديق إلى عدو، فيكون أدرى بوجه الضرر، فقال: احذر عدوك مرة ... واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديـ ... ــــــــق فكان أعلم بالمضرة والقول الفصل في هذا أن صديق المنفعة متى عرف الإنسان وجه صداقته كان له أن يحترس منه، ويكون هذا موضع الأشعار التي تنصح بالاحتراس مع الأصدقاء. أما من انعقدت بينك وبينه صداقة الفضيلة، وكنت على يقين من أن هذا وجه صداقتكما - فلا موضع للاحتراس منه. فإن اجتهدت أيها الألمعي رَأْيَك في صداقة شخص، وبدا لك أنها صداقة فضيلة، ثم رأيت منه ما لم تكن تحتسب - فلا يَحْمِلْك هذا الخطأُ في الاجتهاد

هل الصداقة اختيارية؟

على الاحتراس من كل صداقة؛ فإن ما وقع إنما هو أمر نادر، والأمور النادرة لا تتخذ مقياساً في معاملة الأصدقاء، ولا تستدعي أكثر من أن تستعيذ بالله من شرها، ثم تمضي مع أصدقائك الفضلاء في وداعه خلق، وسماحة نفس. هل الصداقة اختيارية؟ إذا كانت الصداقة الشريفة ترجع إلى محبة الشخص لفضيلته، كانت غير اختيارية؛ لأنها ترتبط بسبب هو الفضيلة. وقد أشار بعض الأدباء إلى أنه لا منة له في الصداقة حتى يستحق عليها الحمد، فكتب إلى صديق له: "إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام؛ لأن النفس يتبع بعضها بعضاً". والواقع أن الاختيار يرجع إلى فتح الصدر لها، وربط القلب عليها، والسير في الأقوال والأفعال على مقتضى عاطفتها؛ فإذا حمدت الرجل على صداقته فإنما تحمده على أنْ أَقرَّها في صدره مغتبطاً بها، ثم جرى على ما تستدعيه من نحو المواصلة والمؤانسة. دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة: يزعم بعض الأدباء أن الصداقة الخالصة من كل شائبة مفقودة، ومن هؤلاء من ينفيها من الدنيا بإطلاق

الصديق المخلص عزيز

كما قال أبو الجوائز الحسن ابن علي: دعِ الناسَ طرَّاً واصرف الودَّ عنهمُ ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح ولا تبغ من دهرٍ تظاهرَ رَنْقُهُ ... صفاء بنيه والطباع جوامح وشيئان معدومان في الأرض: درهمٌ ... حلالٌ، وخلٌّ في الحقيقة ناصح وقال آخر: زمانٌ كلُّ حبٍّ فيه خِبٌ ... وطعم الخِلِّ خَلٌّ لو يذاق له سوق بضاعته نِفَاق ... فنافِقْ فالنِّفَاقُ له نَفَاق ومنهم من يشكو أهل زمانه، ويخبر بأنه لم يجد من بينهم من يصطفيه للصداقة، كما قال بعضهم: خَبَرْتُ بني الأيام طُرَّاً فلم أجد ... صديقاً صدوقاً مسعداً في النوائب وأصفيتهم مني الودادَ فقابلوا ... صفاءَ ودادي بالنَّوى والشوائب وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته ... فأحمدته في فعله والعواقب وكما قال الطُّغرائي: فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي والحق أن صاحب الفضيلة لا يعدم الصديق الفاضل، وتُحْمَل هذه الأشعار وأمثالها على أن أصحابها قد نظموها في أحوال خاصة، كأن يروا من بعض من كانوا يعدونهم أصدقاء أموراً يكرهونها، أو يروا منهم سكوناً حيث يجب عليهم أن يتحركوا لإسعادهم. الصديق المخلص عزيز: إن كان أصدقاء المنفعة كثيراً فإن الذي يحبك لفضلك، وتحبه لفضله حباً يبقى ما بقيت الفضيلة -

عزيزُ المنال. قال يونس: "اثنان ما في الأرض أقل منهما ولا يزدادان إلا قلة: درهم يوضع في حق، وأخ يُسْكن إليه في الله". وهذا الصديق هو الذي حثك الشاعر على التمسك به فقال: وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ ... فاشددْ عليه وعِشْ بذاك الواحدِ وكلما قضى الإنسان مرحلة من عمره في الاعتبار والتجارب ازداد علماً بأن أصدقاء الفضيلة لا تسمح بهم الأيام إلا قليلاً. وإذا بدا لك أن أصدقاءك في وقت الشباب أكثر من أصدقاءك وأنت شيخ - فإن الشاب مقبل على الحياة في شيء كبير من النشاط والارتياح؛ فيكون أسرع إلى اتخاذ الأصدقاء من الشيخ الذي ترك طولُ السنين في عظامه فتوراً، وأبقت الحوادث في صدره ضيقاً. وإن شئت فقل: إن الشباب لم يزل على الفطرة، فيقيم صداقته على الظواهر، ولا يبالغ في نقد الناس مبالغة الشيخ الذي يحمله طول التجارب على أن يتريث في اختيار الأصدقاء. ويضاف إلى هذا أن الشيخ لا يبلغ السن الذي يبلغه حتى يأخذ الموت من أصدقائه فوجاً أو أفواجاً. وفَقْد الأصدقاء يترك في نفس الرجل وحشة، وربما

الإغماض عن عثرات الأصدقاء

وقع في ظنه، وجرى على لسانه استبعاد أن يجد بعد أولئك الأصدقاء من يماثلهم في إخلاص المودة والوفاء بالعهد. الإغماض عن عثرات الأصدقاء: يرى الباحثون في طبائع البشر أن ليس فيهم من يتخذ صديقاً، ويُرْجَى منه أن يسير على ما يُرْضِي صديقه في كل حال، ودَلَّتْهُمُ التجارِبُ على أنَّ الصديق - وإن بلغت صداقته المنتهى - قد يظْهر لك من أمره ما لا يلائم صلة الصداقة؛ فلو أخذت تهجر من إخوانك كلَّ مَنْ صدرت منه هفوةٌ لم تلبث أن تفقدهم جميعاً، ولا يبقى لك على ظهر الأرض صديق غير نفسك التي بين جنبيك. عرَّف هذا المعنى الشاعر الذي يقول: ولست بمستبق أخاً لا تُلِمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذبُ والذي يقول: أُغْمِّض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق والذي يقول: ومن يتتبعْ جاهداً كل عثرة ... يجدْها ولا يَسْلمْ له الدهرَ صاحبُ وقد عبر عن هذا المعنى بشار بن برد إذ قال: إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أَوْصِلْ أخاك فإنه ... مُقَارِفُ ذنبٍ مرة ومُجَانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأيُّ الناسِ تصفو مشاربه

معاملة الأصدقاء بالمثل

وإذا كان الصفح عن الزلات من أفضل خصال الحمد - فأحق الناس بأن تتغاضى عن هفواتهم رجالٌ عرفت منهم المودة، ولم يقم لديك شاهد على أنهم صرفوا قلوبهم عنها. معاملة الأصدقاء بالمثل: يذهب بعض الناس إلى أن يسيروا مع الأصدقاء على مثل سيرتهم معهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وأشار إلى هذا المذهب أبو القاسم الحريري في مقاماته بمثل قوله: "بل نتوازن بالمقال وزن المثقال، ونتحاذى في الفعال حذو النعال". والقول الفصل في هذا أنَّ ما يصدر من الصديق إن كان من قبيل العثرة التي تقع في حال غفلة، أو خطأ في اجتهاد الرأي - فذلك موضع الصفح والتجاوز، ولا ينبغي أن يكون له في نقض الصداقة أثر كثير أو قليل. أما إن كان عن زهد في الصحبة، وانصرافٍ عن الصداقة، فلك أن تزهد في صحبته، وتقطع النظر عن صداقته. وهذا موضع الاستشهاد بمثل قول الكُميت: وما أنا بالنِّكس الدنيء ولا الذي ... إذا صدَّ عني ذو المودةِ يقرب ولكنه إن دام دمت وإن يكن ... له مذهب عني فلي فيه مذهب ألا إن خير الودِّ ودٌّ تَطَوَّعت ... له النفس لا ودٌّ أتى وهو مُتْعَب والفرق بين عثرة قد تصدر من ذي صداقة، وبين

عتاب الأصدقاء

جفاء لا يكون إلا من زاهد في الصداقة - يَرْجِعُ فيه الرجلُ إلى الدلائل التي لا يبقى معها ريب. والتفريط في جانب الصديق ليس بالأمر الذي يستهان به؛ فلا ينبغي الإقدام عليه دون أن تقوم على قصده لقطع المودة بَيِّنةٌ واضحةٌ. عتاب الأصدقاء: لا يخلو الرجل - وهو معرض للغفلة والضرورة والخطأ في الرأي - أن يُخِلَّ بشيء من واجبات الصداقة؛ فإن كنت على ثقة من صفاء مودة صديقك أقمت له من نفسك عذراً، وسرت في معاملته على أحسن ما تقتضيه الصداقة. فإن حام في قلبك شُبْهةٌ أن يكون هذا الإخلال ناشئاً عن التهاون بحق الصداقة - فهذا موضع العتاب؛ فالعتاب يستدعي جواباً، فإن اشتمل الجواب على عذر أو اعتراف بالتقصير، فاقبل العذر، وقابل التقصير بصفاء خاطر، وسماحة نفس. وعلى هذا الوجه يُحْمَل قول الشاعر: أعاتبُ ذا المودةِ من صديقٍ ... إذا ما سامني منه اغتراب إذا ذهب العتابُ فلا وداد ... ويبقى الود ما بقي العتاب ومما يدلك على أن صداقة صاحبك قد نبتت في صدر سليم أن يجد في نفسك ما يدعوه إلى عتابك، حتى إذا لقيته بقلبك النقي، وجبينك الطلق ذهب كلُّ ما في نفسه، ولم يجد للعتاب داعياً.

قال أحد الأدباء: أزور محمداً وإذا التقينا ... تكلمت الضمائر في الصدور فأرجع لم أَلُمْهُ ولم يلمني ... وقد رضي الضميرُ عن الضمير فإن أكثر صاحبك من الإجحاف بحق الصداقة، ولم تجد له في هذا الإجحاف الكثير عذراً يزيل من نفسك الارتياب في صدق مودته فذلك موضع قول الشاعر: أَقْلِلْ عتابَ مَن اسْتَرَبْتَ بودِّه ... ليست تُنَال مودةٌ بعتاب كتم السر عن الأصدقاء: من المعروف أن الإنسان لا يكتم عن أصدقائه سراً يخشى من إفشائه ضرراً، وقد يجد الرجل في نفسه شيئاً متى شعر بأن صديقه قد كتم عنه بعض ما يعلم من الشؤون. وأشار إلى هذا بعضهم فقال: والْخِلُّ كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر ومن الأدباء من ذهب في النصح بكتم السر الذي يُخْشى من إذاعته ضررٌ إلى حدِّ أَنْ نَصَح بكتمه حتى عن الأصدقاء. ووجه هذا الرأي إنما هو الخوف من أن يكون لصديقك صديق لا يكتم عنه حديثاً، وإذا انتقل السر إلى صديق لم يؤمن عليه أن يصبح خبراً مذاعاً، قال محمد بن عبشون:

أثر البعد في الصداقة

إذا ما كتمت السرَّ عمَّن أَوَدُّهُ ... توهم أنَّ الودَّ غيرُ حقيقيْ ولم أُخْفِ عنه السرَّ مَنْ ظنَّةٍ به ... ولكنني أخشى صديقَ صديقيْ والقول الفصل في هذا أن الأمر يرجع إلى قوة ثقتك بصديق الفضيلة، وذكائه، وفهمه قصدَك لأن يكون هذا السرُّ في صدره، لا يتجاوزه إلى غيره؛ فإن كان صديقك على هذا المثال فأطلعه على ما في نفسك؛ فإنما أنت وهو روح واحدة، ولكنها في بدنين، فإن كان مع صداقته الخالصة لا تأمن أن يجري على لسانه بعض ما أفضيت به إليه فذلك موضع قول الشاعر: ولكنني أخشى صديق صديقي ومن الأذكياء من يحرص على كتم سرِّ صديقه، فلا يفضي به إلى صديق له آخر، ولا سيما صديقاً ليس بينه وبين الذي أودع عنده السر صلة صداقة، قال مسكين الدارمي: أواخي رجالاً لست مُطلعَ بَعْضِهم ... على سرِّ بعضٍ غير أني جِماعُها يَظلَّون شتى في البلاد وسرُّهم ... إلى صخرة أعيا الرجالَ انصداعُها أثر البعد في الصداقة: شأن الصداقة أن تنعقد بين شخصين يقيمان في موطن، وتبقى حافظة المظاهر ما دام الصديقان يتمتعان بأنس القرب والتزاور، فإن فرَّقت الأيام بين داريهما، وبدَّلَتْهما بالقرب بعداً، وبالأنس شوقاً بقيت الصداقة في قوتها، وإنما يكون للبعد أثر في مظاهرها.

الصداقة صلة بين الشعوب

وذكر أرسطو أن الغَيْبَة الطويلة من شأنها أن تنسي الصداقة، وساق على هذا المثل الذي يقول: "كثيراً ما أودى بالصداقة سكوت طويل". ونحن نرى أن صداقة الفضيلة متى بلغت منتهاها لا تأخذ الغَيبة الطويلة شيئاً أكثر من مظاهرها. وربما عُقِدَت الصداقة بين شخصين لم يتجاورا ولم يلتقيا، وإنما عرف كلٌّ منهما فضل الآخر على بعد، ولم يكن بينهما اتصال إلا من طريق المراسلة: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق وكثيراً ما تأتي هذه الصداقة بثمار طيبة غزيرة، وإن كان مسلكها في الروح غير مسلك الصداقة الناشئة عن لقاء ومشاهدة. الصداقة صلة بين الشعوب: لا غنى للشعوب أن ترتبط بصلات تجعلها كأمة واحدة، تسير إلى غاية واحدة، وهذه الرابطة تتحقق بالصداقات التي تستوثق بين علمائها وزعمائها الناصحين. فالصداقة التي تنتظم بين طائفة من علماء الصين وطائفة من علماء المغرب الأقصى مثلاً - تجعل القطرين في اتحاد أدبي، وللاتحاد الأدبي غايات سامية لا يستهان بها. وإذا دلنا التاريخ أو المشاهدة على صداقة كانت

بين علماء متباعدي الأقطار، ولم تعد على تلك الأقطار بفائدة - فإن هذا الزمن يدعونا إلى أن نعمل على تقوية روابط الصداقة بين علماء الشرق والغرب، ونوجه جانباً من هذه الصداقات إلى خدمة المصالح العامة، والتعاون على أسباب السعادة المشتركة في الحياة.

النتائج والتوجيهات

النتائج والتوجيهات: أولا؛ يعلم بأن العتاب في الغالب لأحد أمرين: أ- إمّا لخصومة. ب- أو لهجران وتقصير. وفي كلا الحالين: 1. استوثق من سبب الخصومة قبل العتاب - فإن اللبس وارد على كل حال. 2. إذا ما أمكنك التحقق من سبب الخصومة إلا بالمعاتبة - فبالتصريح ما لم ينجح التلميح. 3. كتم العتاب على هذه الحال بادرة سيئة. 4. اعتمد على الوضوح في موضوع عتابك. 5. ركز على موضوعك الذي أردت علاجه بالعتاب ولا تستطرد إلى مواضيع أخرى. 6. استعمل بعض مسهلات العتاب؛ مثل - الهدية - التلطف - المدح "المعقول" ... 7. لا تعاتب من يستريبك وده. 8. لا تكن لوّاماً على كل بادرة خاطئَة فإن كثرة العتاب أولى بالتخطئة! 9. لا تذّكره بالأخطاء القديمة ولا تعاوده على الخطأ مرتين. 10. الإغضاء والمسامحة من أبر ما يقابل به الصديق

الصادق. 11. كن متسامحاً راضياً، ولا تكن متسامحاً ساخطاً. 12. إذا سامحت فكن جاداً في مسامحتك ولا تدندن حول داعي تلك المسامحة فإنّ الراجع في مسامحته أعظم جرما من الراجع في هبته. 13. أحسن صور العتاب ما يحقق الاعتذار. 14. قد يكون الاعتذار إشارياً (مثل: الكف عن مواصلة الخطأ). 15. بعض الكلام يشمّ ولا يفرك. 16. الابتسامة وطلاقة الوجه والبشاشة تكفيك أحيانا عن الكلام. 17. ادّخر عتابك للمواقف الحرجة. 18. أنصف المعاتب وتخيّر له الوقت والأسلوب المناسب. 19. عليك بالرفق. 20. إذا كنت غاضباً فلا تفكر في عتابِ من أغضبك.

§1/1