الظاهرة القرآنية

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة *************** الظاهرة القرآنية دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان دار الفكر-دمشق سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الظاهرة القرآنية

مالك بن نبي مشكلات الحضارة الظاهرة القرآنية ترجمة عبد الصبور شاهين تقديم محمد عبد الله دراز - محمود محمد شاكر بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر دمشق-سورية

جميع الحقوق محفوظة 1420 هـ =2000م ط4: 1987م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 هـ الموافق 10 حزيران 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والادبية. وتحملا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف " ندوة مالك بن نبي ". والتسمية هذه دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجما من قبل المترجمين أوغير مترجم. فقد حملني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادرمن قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979م عمر مسقاوي

الإهداء إلى روح أمي ... إلى أبي ... الوالدين اللذين قدما لي في المهد أثمن الهدايا ... هدية الإيمان مالك

تلبية لرغبة العديد من القراء، عمدنا إلى ترجمة المقدمة، التي صدر بها المرحوم فضيلة الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز، الطبعة الفرنسية من كتاب (الظاهرة القرآنية) عام 1947م. وحينما ننشر "لأول مرة" مقدمة الشيخ دراز للطبعة الفرنسية، نكون قد أتممنا نشر وثائق هذا الكتاب، الذي استقبله قراء العربية بالاهتهام والتقدير. والأستاذ الدكتور دراز من كبار العلماء الذين خدموا القرآن والفلسفة وعلم الأخلاق، ومن الرواد الأزهريين الأوائل، الذين اتصلوا بالثقافة الغربية، وأوسعوا لها فسيحاً من علمهم وعميقا من تأملهم. وهو من الذين بلغوا الفكر الإسلامي بوسائل الحضارة الحديثة لغة ومنهجا. لذا تبدو مقدمة الدكتور دراز، صدى لذلك التكوين الفكري المتأثر بالديكارتية بوصفها منهج تفكير. وهي من هذا الجانب، تبرز لنا ما للثقافة الغربية وما لفلاسفتها من نفوذ على مناهج التفكير ذي الأصول الأزهرية في تلك الفترة من الزمن. على أن أهمية هذه المقدمة تبدو في تلك الإيضاحات التاريخية، على هامش الفكرة الأساسية، التي تنتظم كتاب الظاهرة، وفي تلك الدعوة إلى تطوير وسائل تفكيرنا كلما تطورت وسائل العلم، وفي إبراز المنهج القرآني خطة موضوعية تستهدف الحقيقة المطلقة. وهي إذا أضفناها إلى مقدمة الأستاذ الكبير محمود محمد شاكر استقام لنا كتاب الظاهرة القرآنية خطة في إرساء العقيدة عن طريق العقل والإيمان معاً. عمر مسقاوي

مقدمة الطبعة الفرنسية للمرحوم الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز

مقدمة الطبعة الفرنسية للمرحوم الدكتور الشيخ محمد عبد الله دراز عزيزي السيد بن نبي فرغت لتوي من قراءة كتابك القيم (الظاهرة القرآنية)، ومما أعطى لموضوعك أهمية كبرى أنه قديم وحديث معاً. ففي ضوء العلم الحديث، ولجت قضية رئيسية ما فتئت تشغل المفسرين في كل زمن. ولعلي أنا لامستها في دراسات عديدة سابقة، سواء ما كان منها بالعربية أو الفرنسية. إن الغبطة التي شعرت بها وأنا أقرؤه، لهي من العمق بقدر ما أتاحت لي هذه القراءة أن أدرك من جديد، ذلك الجهد الجاد المستقل والمتجرد، يقود الباحثين عن الحقيقة إلى نتائج متماثلة بل موحدة على الرغم من المسافة التي يمكن أن تفصل بينهم في الم كان والزمان. وإذا نحينا جانباً أسلوبك الفني في الكتابة، وطريقتك الرائعة في عرض الأشياء، فإننا نجد طرقنا في الدراسة متشابهة بصورة بارزة. ليس هذا فحسب، بل من غير النادر أن يحمل تفحصنا للأمر المثل نفسه وأن يشير إلى المعنى ذاته. إن المسألة هي في البحث عن المصدر الحقيقي للقرآن. وأن نعرف ما إذا كان يمكن أن يكون هذا الكتاب قد استخرج من علم أو إدراك من أرسل به. أو من

معرفة بشرية على وجه العموم، أم أنه على العكس من ذلك، هنالك أسباب لا يمكن دفعها تحدونا للأعتقاد بمصدره العلوي الإلهي. تلك هي المسألة التي جئتَ بدورك تلزم نفسك بالعمل على حلها، بإيجاد الأسس الثابتة والعقلية، للإيمان بالمصدر الإلهي لهذا الكتاب، وتسليط الأضواء عليها. وإذا كان المفسرون التقليديون، توصلاً إلى الهدف نفسه، قد أكدوا بصورة خاصة على الجانب الأدبي من المسألة، فإن هذا الموقف على كل حال يجد تفسيره وما يسوغه في المسلمة الأعم للقرآن. تلك المسلمة التي تميز بها الأسلوب القرآني في جمال لا يضاهى وجلال مميز، وبالاعتراف الفوري بالعجز عن الإتيان بمثله، وهو الوجه الأقرب منالاً لسائر البلغاء من البدو. على أنه من الصحيح أيضاً أن هؤلاء المفسرين، وهم ينظرون في محتوى القرآن، قد رأوا في اتساع وعمق المعرفة التي يحملها للإنسانية، دليلاً في ذاته على خصائصه التي تتجاوز طاقة البشر، وأن التعارض بين توجيه بعض الآيات، كآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب 33/ 37] مثلاً، والمشاعر الشخصية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لشهادة لا تُرَدُّ على استقلالية القرآن عن النبي. فهل يمكن أن يقال إن هذه النتائج المستخلصة من قبل أجدادنا، تجعل كل محاولة لتفسير جديد عديمة الجدوى؟. هل يقال إن واجبنا يتحدد من الآن فصاعداً، بتدوين هذه النتائج الجاهزة، وبالنظر إليها كأنها الكلمة الأخيرة حول حقيقة الأشياء؟. كلا، ثم كلا. إذ أنه بقدر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سبباً جديداً يحملنا على أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة، فإن ذلك

يدعونا إلى أن نضع المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم. والمسألة القرآنية لا ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة. فإذا كان صحيحاً أن القرآن معجزة مستمرة، وإذا كانت علائم صدقه من ناحية أخرى لا تنحصر في عبارته فحسب، بل في عالمي الطبيعة والنفس أيضاً كما يقول القرآن نفسه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت 41/ 53]. إذا كان الأمر كذلك فإن واجباً يقع على كل مؤمن متصل بمعطيات العلم. إنه التقريب بين جانبي روحه: بين معتقده وعلمه. حين يواجه النصوص المنزلة، لا أقول بفرضيات العلماء التي لم تتحقق أو التي لا تقبل التحقيق، ولكن بالنتائج الثابتة والمستخرجة من تجاربهم، وأن يأخذ من تلك الواجهة ما ينتج عنها من دروس. وإذا كان في الواقع هنالك حقيقتان، فإنه لا يحق لواحدة منهما أن تنكر الأخرى، بل على العكس من ذلك، عليها أن تؤكدها وتشد من أزرها. وإذا اتفق لمؤمن متعلم أن ملك موهبة الكتابة فوق هاتين الصفتين من الإيمان والعلم، فإن واجباً آخر يقع على عاتقه: إنه إخراج ثمار علمه بلغة عصره، كما يفعل نبي يخاطب قومه بلغتهم. إنني أستطيع أن أؤكد بأنك قمت بكلا الواجبين. فقد تأملت بنضج، ذلك الاتصال بالعقل والتراث، بالعلم والعقيدة ة وأفرغت في عرض جميل واضح ومتماسك شرارة ما تفجر من ذلك اللقاء. فسداد حكمك، وحرارة عقيدتك، وحداثة مصطلحاتك، وجمال أسلوبك؛ هذه كلها ميزات بارزة لا أستطيع أن أفيك ما تستحق من تهنئة عليها.

ولكني أرى من الواجب أن أوجه كلمة إلى الشباب المثقف كيما يتفادى التباساً يمكن أن يقع فيه حول الهدف الحقيقي من هذه الدراسة. أريد أن أقول لهؤلاء الشباب: إن الأمر لا يعني هنا نشرة لجمع المعلومات وتخزينها في الذاكرة، ولكن نموذجاً حياً من نقاش جدلي، فائدته الحيوية الكبرى بما يذكي من الطاقة الروحية لسائر القراء القادرين على التفكير بمنهجية، كما يضع كل منهم بدوره قضية (الحقيقة) ويبحث بوسائله الذاتية عما يتعين عليه اتخاذه في سبيلها. فإذا استطاعت نشرة من هذا النوع أن تخدم بوصفها علاجاً للتشكك الديني فتلك زيادة في الخير، إنما يبقى الهدف الأساسي قبل كل شيء محاربة اللامبالاة حول مسألة (الحقيقة العلوية). على كل حال فإن دراسة كهذه، لا تفكر في أن تفرض نفسها على أنها نوع من العقيدة، نقبله بعيون مغمضة وبغير نقاش. فهذا على ما يبدو لي أبعد ما يكون عن فكر المؤلف، فضلاً عن أنه يتنافى مع المبادئ القرآنية التي يدافع عنها. فالقرآن لم يعلن فحسب بأن الإيمان لا يفرض من الخارج، ولكنه أدان بقوة كل اتباع أعمى يلقي بزمامه إلى سلطة لا تستند إلى العقل. وقد دعا دائماً باستمرار إلى التأمل الفردي المنسحب من تأثير الوسط الخارجي والأفكار المسبقة، ومن كل فكرة مستقاة بعفوية دون تمحيص. إن (ديكارت) لم يفعل غير ذلك، حينما رفض أسلوب الهيمنة، مطالباً بحق العقل، مؤكداً واجب كل امرئ بألا يأخذ بغير الثابت والبديهي الذي لامراء فيه. أكثر من هذا؛ ففي هذا الإطار يبدو لنا المذهب الديكارتي من هذه الناحية، أقل تشدداً وتمسكاً من القرآن.

فمن المعروف بأية عناية أوضح الفيلسوف الفرنسي تأملاته، وهو يضع تلك القاعدة المنهجية التي لا تقبل غير الأفكار الواضحة والمحددة. فهو لم يشأ بذلك التكلم عن الأمور التي تنظر إلى الإيمان والمثل، ولكن عن الحقائق المجردة التي لا يمكن معرفتها إلا بالضوء الطبيعي وحده. فإذا كان (ديكارت) قد اضطر إلى مثل هذا التحفظ، لأنه يعد الإيمان المسيحي تكتنفه أمور غامضة بوصفه موضوعاً، فمنذا الذي لا يرى أن هذا التحفظ لا محل له في العقيدة القرآنية؟. مهما يكن من أمر فإنني لا أرى جيداً السبب الذي يستطيع أن يسوغ التقليل من شأن الفكر الديكارتي. فهناك انطباع بأنك تضعف بطريقة منهجية من شأن هذا الفكر، كما لو أن ديكارت ذلك الوجه الكبير في الفلسفة الحديثة، كان كافراً أو متشككاً أو رجلاً يعتقد بسذاجة، بكمال الفكر الإنساني واستقلاليته المطلقة تجاه كل تحسس خارجي، مستمد من الطبيعة أو مما هو فوق الطبيعة. ولهذا أتمنى أن تحمل الطبعات القادمة ما يبدد بعناية هذا الالتباس. وهناك ملاحظة أخرى صغيرة. إنها تتعلق بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم -. يبدو لي أنك أخذاً بتأكيدات بعض المستشرقين، قبلت بدون صعوبة افتراضهم حول مدة اعتكاف النبي قبل نزول الوحي. فنحن نعلم موضوعهم المفضل في هذا الإطار. إنه يرتكز على القول إنها فترة احتضان وتخمر للأفكار الدينية التي سبقت وضوح القرآن في الوعي المحمدي. وبما أن فكرة تهدف لعمل واسع عظيم كالقرآن، لا يمكن التصور بأن تتحدد

معالمها بين ليلة وضحاها، ويقتضي لها الوقت الضروري والطبيعي لتحضيرها، فإن هؤلاء الكتاب قد التزموا جانب الافتراض، وافترضوا لهذا الاعتزال مدة تمتد عبر سنين عديدة. وهكذا تحتم على محمد أن يختفي منذ زواجه في سن الخامسة والعشرين، ليفرغ إلى تأملاته، ولا يعود للظهور إلا وهو يحمل رسالته ذات صباح. وعلى الرغم من أنك جهدت في تفنيد ورفض فكرة الاعتكاف هذه، فإنك تبدو مع ذلك قد أفسحت المجال لوجود خلفية وسند مادي لها، أعني بذلك انطواء الرسول لمدة خمسة عشر عاماً. إن فرضية غياب كهذا، ليست فحسب مجانبة لا سند لها، بل إنها غير صحيحة على الإطلاق من الوجهة التاريخية. فالمصادر الوثيقة جداً تحدد في الواقع تاريخ هذا الاعتكاف بالضبط بشهر قبل نزول القرآن. كما تحدد بدقة أكثر أن هذا الشهر تخللته عودة إلى منزله مرات عدة كليما يتزود. وقد سبقت هذا الشهر أيضاً رؤى واضحة كان يراها الرسول في منامه ثم ما يلبث أن يجدها حقيقة كفلق الصبح. لقد حدثت هذه الإرهاصات جميعها في الأربعين من عمره، أي في عام هبوط الوحي. وإذا ذهبنا بعيداً، وافترضنا جدلاً أن هذا الشهر من الاعتكاف، قد داوم عليه الرسول في كل عام، منذ زواجه وحتى نزول الوحي؛ يبقى أن نلاحظ بأن أحد عشر من اثني عشر شهراً من سني حياته في هذه الفترة قد قضاها في محيط اجتماعي، وأمام أعين مواطنيه. والقرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس 16/ 10] إنما يستخرج

بالضبط، حجة من استمرار إقامة الرسول بين قومه فترة واسعة وكافية، ليدرك الناس جميعاً ميزاته واهتماماته، وعجزه الشخصي عن القيام بوضع آيات القرآن. فماذا كانت أعماله في تلك المرحلة الانتقالية؟. هناك حدث محدد وأكيد على الأقل. ففي نحو الثلاثين من عمره شارك في إعادة بناء الكعبة. ومن المعلوم من ناحية أخرى أنه تحمل بكفاءة ونشاط أعباءه العائلية؛ إذ رزق أكثر أولاده قبل قيامه بالرسالة. وإذا كنا لا نملك تفاصيل أكبر حول أعماله اليومية قبل البعثة، فمرد ذلك بدون شك، إلى أنه فيما عدا المسلمة البارزة لعظيم أخلاقه، لا نجد في تلك الفترة من الزمن أمراً منفصلاً عن مألوف وسطه يمكن التحدث عنه. فسكوت سائر رجال السيرة، عن التفصيلات الإضافية في هذا الخصوص، نقطة نسجلها كما لاحظت بحق، لصالح التراث الإسلامي الذي تحلى دائماً بأمانة تاريخية متشددة إلى أقصى حد، حين عزف عن كل توسيع أو تقليص، للمعطيات الثابتة التي يجدها في متناوله، سواء كانت هذه المعطيات لصالح قضيته أو في غير صالحها. بعد هذا كله، أعود لأهنئك مرة أخرى على واسع الجهد، الذي به نجحت في إلقاء ضوء جميل حول المسألة الدينية في عمومها، وحول الفكر القرآني خاصة، كيما تسهم في دعم الأساس العقلاني للإيمان. فعساك تجد أعظم ثوابك في ذلك النجاح المعنوي الذي يستحقه كتابك. وعسى نداؤك المنطقي والشاعري الذي أطلقته ليلامس أصحاب العقول النيرة، يتسرب إلى عميق نفوسهم فيبعث فيهم من جديد حياة القلب والعقل معاً. باريس 15 أيلول (سبتمبر) 1946م محمد عبد الله دراز أستاذ في الأزهر الشريف

شكر وتنبيه

شكر وتنبيه كان من فضل الله أن تولى أستاذنا الكبير (محمود محمد شاكر) تقديم كتاب (الظاهرة القرآنية) إلى القراء، هذا التقديم الثمين، الذي يعد بحق من أروع ما كتب في مسألة اتصال بيان العرب في الجاهلية بقضية (إعجاز القرآن). وإني لأرجو الله مخلصاً أن يتولى عنا جزاء أستاذنا بقدر ما بذل من جهده، وما ضحى من وقته على عظيم تبعاته وخطر مسؤولياته. وإني لأتقدم بالشكر هنا إلى الأستاذ الدكتور (محمود قاسم) رئيس قسم الدراسات الفلسفية بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، على توجيهاته التي أفدت منها كثيراً، وإلى الأستاذ المحدث (محمد فؤاد عبد الباقي) على تفضله بتحقيق ما عسر علي تحقيقه من أحاديث الكتاب، وهي التي رمزنا إليها في الهامش بحرف (ف). والحمد لله الذي هدانا لهذا. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. المترجم

تقديم فصل في إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

تقديم فصل في إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر الحمد لله وحده لا شريك له، حمدا يقربنا إلى رضوانه، وصلاة الله وسلامه على نبيه المصطفى من أبناء الرسولين الكريمين إبراهيم وإسماعيل، صلاة تزلفنا إلى جنته. ... هذا كتاب (الظاهرة القرآنية) وكفى، فليس عدلا أن أقدم كتاباً هو يقدم نفسه إلى قارئه. وبحسب أخي الأستاذ مالك بن نبي وبحسب كتابه أن يشار إليه، وإنه لعسير أن أقدم كتاباً هو نهج مستقل، أحسبه لم يسبقه كتاب مثله من قبل. وهو منهج متكامل يفسره تطبيق أصوله، كما يفسره حرص قارئه على تأمل مناحيه. ولا أقول هذا ثناء، فأنا أعلم أن رجلا أثنى على رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " ويلك! قطعت عنق صاحبك "، قالها ثلاثا. ومالك أعزُّ عليَّ من أن أقطع عنقه بثنائي أو أهلكه بإطرائي. ولكن أحسبني من أعرف الناس بخطر هذا الكتاب، فإن صاحبه قد كتبه لغاية بيّنها، ولأسباب فصّلها. وقد صهرتني المحن دهراً طويلاً، فاصطليت

بالأسباب التي دعته إلى اتخاذ منهجه في تأليف هذا الكتاب ثم أفضيت إلى الغاية التي أرادها، بعد أن سلكت إليها طرقاً موحشة مخوفة. وقد قرأت الكتاب وصاحَبتُه، فكنت كما قرأت منه فصلا وجدت نفسي كالسائر في دروب قد طال عهدي بها، وخيل إليَّ أن مالكاً يؤلف هذا الكتاب إلا بعد أن سقط في مثل الفتن التي سقطتُ فيها من قبل، ثم أقال الله عثرته بالهداية فكان طريقه إلى المذهب الصحيح، هو ما ضمنه كتابه من بعض دلائل إثبات إعجاز القرآن، وأنه كتاب منزّل، أنزله الذي يعلم الخبء في المسلموات والأرض، وأن مبلغه إلى الناس، - صلى الله عليه وسلم -، رسول صادق قد بلغ عن ربه ما أمره بتبليغه، وأن بين هذا الرسول الصادق وبين الكلام الذي بلّغه حجازاً فاصلاً، وأن هذا الحجاز الفاصل بين القرآن وبين مبلغه حقيقة ظاهرة، لا يخطئها من درس سيرة رسول الله فاحصاً متأملاً، ثم درس كتاب الله بعقل يقظ غير غافل. وهذا المنهج الذي سلكه مالك، منهج يستمد أصوله من تأمل طويل في طبيعة النفس الإنسانية، وفي غريزة التدين في فطرة البشر، وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توسم بالتناقض أحياناً، ولكنها تكشف عن مستور التدين في كل إنسان. ثم هو يستمد أصوله من الفحص الدائب في تاريخ النبوة وخصائصها، ثم في سيرة رسول الله، بأبي هو وأمي، منذ نشأته إلى أن لحق بالرفيق الأعلى. ثم في هذا البلاغ الذي جاء ليكون بنفسه، دليلاً على صدق نفسه، أنه كلام الله، الفارق لكلام البشر من جميع نواحيه. وخلال هذا المنهج تستعلن لك المحنة التي عاناها مالك، كما عانيتها أنا، وكما عاناها جيل من المسلمين في هذا القرن. بل إنك لتجد المحنة ماثلة في (مدخل الدراسة) وهو الفصل الذي استفتح به كتابه، فقد صور لك مشكلة الشباب المسلم المتعلم في هذا العصر، وما كان قاساه وما يزال يقاسيه، من العنت في إدراك إعجاز القرآن، إدراكاً يرضاه ويطمئن إليه.

وهذا (العقل) الحديث الذي يفكر به شباب العالم الإسلامي، والذي يريد أن يدرك ما يرضيه ويطمئن إليه من دلائل إعجاز القرآن، هو لب المشكلة، فإن (العقل) هبة الله لكل حي، ولكن أساليب تفكيره كسب يكتسبه من معالجة النظر ومن التربية ومن التعليم، ومن الثقافة ومن آلاف التجارب التي يحياها المرء في هذه الحياة. فينبغي، قبل كل شيء، أن نتدبر أمر هذا (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، لأن فهم هذا (العقل)، هو الذي يحدد لنا طريقنا ومنهجنا في كل دراسة صحيحة، نحب أن نقدمها إليه حتى يطمئن ويرضى. فمنذ أول الإسلام، خاضت الجيوش الإسلامية معارك الحرب في جميع أنحاء الدنيا، وخاض معها العقل الإسلامي معارك أشد هولاً حيث نزل الإنسان المسلم. وتقوضت أركان الدول تحت وطأة الجند المظفر، وتقوضت معها أركان الثقافات المتباينة تحت نور العقل المسلم المنصور، وظلت الملاحم دائرة الرحى قروناً متطاولة، في ميادين الحرب وميادين الثقافة، حتى كان هذا العصر الأخير. انبعثت الحضارة الأوربية، ثم انطلقت بكل سلاحها لتخوض في قلب العالم الإسلامي، أكبر معركة في تاريخنا وتاريخهم. وهي معركة لم يحط بأساليبها وميادينها أحد بعد في هذا العالم الإسلامي ولم يتقص أحد آثارها فينا. ولم يتكفل بدراستها من جميع نواحيها من يطيق أن يدرس، ولست أزعم أني سأدرسها في هذا الموضع، ولكن سأدل على طرف منها، ينفع قارئ هذا الكتاب، إذا صح عزمه على معاناة دراسته دراسة الحريص المتغلغل. لم تكن المعركة الجديدة بين العالم الأوربي المسيحي، وبين العالم الإسلامي، معركة في ميدان واحد، بل كانت معركة في ميدانين: ميدان الحرب، وميدان الثقافة. ولم يلبث العالم الإسلامي أن ألقى السلاح في ميدان الحرب، لأسباب

معروفة. أما ميدان الثقافة، فقد بقيت المعارك فيه متتابعة جيلاً بعد جيل، بل عاماً بعد عام، بل يوماً بعد يوم. وكانت هذه المعركة أخطر المعركتين، وأبعدهما أثراً، وأشدهما تقو يضاً للحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. وكان عدونا يعلم ما لا نعلم، كان يعلم أن هذه هي معركته الفاصلة بيننا وبينه، وكان يعلم من خباياها ما لا نعلم، ويدرك من أسرارها ووسائلها ما لا ندرك، ويعرف من ميادينها ما لا نعرف، ويصطنع لها من الأسلحة ما لا نصطنع، ويتحرى لها من الأسباب المفضية إلى هلاكنا ما لا نتحرى أو نلقي إليه بالاً. وأعانه وأيده أن سقطت الدول الإسلامية جميعاً هزيمة في ميدان الحرب. فسقطت في يده مقاليد أمورها في كل ميدان من ميادين الحياة، وصار مهيمناً على سياستها واقتصادها وصحافتها، أي سقطت في يده مقاليد التوجيه الكامل للحياة الإسلامية، والعقل الإسلامي. وميادين معركة الثقافة والعقل ميادين لا تعد، بل تشمل المجتمع كله في حياته وفي تربيته وفي معايشه، وفي تفكيره وفي عقائده وفي آدابه وفي فنونه وفي سياسته، بل كل ما تصبح به الحياة حياة إنسانية، كما عرفها الإنسان منذ كان على الأرض. والأساليب التي يتخذها العدو للقتال في معركة الثقافة، أساليب لا تعد ولا تحصى، لأنها تتغير وتتبدل وتتجدد على اختلاف الميادين وتراحبها وكثرتها، وأسلحة القتال فيها أخفى الأسلحة، لأن عقل المثقف يتكون يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة، وهو يتقبل بالتربية والتعليم والاجتماع، أشياء يُسَلَّمها بالإلف الطويل وبالعرض المتواصل وبالمكر الخفي، وبالجدل المضلل وبالمراد المتلون وبالهوى المتغلب، وبضروب مختلفة من الكيد الذي يعمل في تحطيم البناء القائم، لكي يقيم العدو على أنقاضه بناء كالذي يريد ويرجو. وقد كان ما أراد الله أن يكون، وتتابعت هزائم العالم الإسلامي في ميدان الثقافة جيلا بعد جيل، وكما بقيت معارك الحرب متتابعة سراً مكتوماً

لا يتدارسه قادة الجيوش الإسلامية وجندها حتى هذا اليوم، بقيت أيضاً معارك الثقافة على تطاولها، سراً خافياً لا يتدارسه قادة الثقافة الإسلامية وجندها؛ بل أكبر من ذلك: فقد أصبح أكثر قادة الثقافة في العالم الإسلامي وأصبح جنودها أيضاً، تبعاً يأتمرون بأمر القادة من أعدائهم، عارفين أو جاهلين أنهم هم أنفسهم قد انقلبوا عدواً للعقل الإسلامي الذي ينتسبون إليه، بل الذي يدافعون عنه أحياناً دفاع غيرة وإخلاص. لم يكن غرض العدو أن يقارع ثقافة بثقافة، أو أن ينازل ضلالاً بهدى، أو أن يصارع باطلاً بحق، أو أن يمحو أسباب ضعف بأسباب قوة؛ بل كان غرضه الأول والأخير أن يترك في ميدان الثقافة في العالم الإسلامي، جرحى وصرعى لا تقوم لهم قائمة، وينصب في أرجائه عقولاً لا تدرك إلا ما يريد لها هو أن تعرف، ف كانت جرائمه في تحطيم أعظم ثقافة إنسانية عرفت إلى هذا اليوم، كجرائمه في تحطيم الدول وإعجازها مثلاً بمثل. وقد كان ما أراد الله أن يكون، وظفر العدو فينا بما كان يبغي ويريد. وقد فصل مالك في (مدخل الدراسة) محنة (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، على يد أمضى أسلحة العدو في تهديم بعض جوانب الثقافة، بل أهم جوانبها، وهو سلاح (الاستشراق)، سلاح لم يدرسه المسلمون بعد، ولم يتتبعوا تاريخه، ولم يكشفوا عن مكايده وأضاليله، ولم يقفوا على الخفي من أسرار مكره، ولم يستقصوا أثره في نواحي حياتهم الثقافية؛ بل في أكثر نواحي حياتهم الإنسانية، كيف؟ بل كان الأمر عكس ما كان ينبغي أن يكون، فهم يتدارسون ما يلقيه إليهم على أنه علم يتزوده المتعلم، وثقافة تتشربها النفوس، ونظر تقتفيه العقول، حتى كان كما قال مالك: ((إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين، قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها)) وتفصيل أثر هذا الإشعاع في تاريخنا الحديث، وفي سياستنا وفي عقائدنا، وفي كتبنا وفي

ديننا وفي أخلاقنا وفي مدارسنا وفي صحافتنا، وفي كل أقوالنا وأعمالنا، شيء لا يكاد يحيط به أحد. وهذا الإشعاع كما سماه مالك، كان من أعظم الأسباب وأبعدها خطراً في (العقل) الحديث، الذي يريد أن يدرك دلائل إعجاز القرآن إدراكاً يرضى عنه ويطمئن إليه. وهو الذي أوقع الشك في الأصول القديمة التي قامت عليها أدلة إعجاز القرآن، بل أكبر من ذلك، فإنه قد أتى أساليب غاية في الدهاء والخفاء، أفضت إلى تدمير الوسائل الصحيحة التي ينبغي أن يتذرع بها كل من درس نصاً أدبياً، حتى يتاح له أن يحكم على جودته أو رداءته، فضلاً عن بلاغته أو إعجازه. وقد ذكر مالك في (مدخل الدراسة) تلك القضية الغريبة التي عرفت بقضية (الشعر الجاهلي)، والتي أثارها المستشرق (مرجليوث) في بعض مجلات المستشرقين، ثم تولى كبرها (طه حسين) في كتابه (في الشعر الجاهلي)، يوم كان أستاذاً للأدب العربي بالجامعة المصرية. ولن أذكر هنا تلك المعارك التي أثارها كتاب (في الشعر الجاهلي)، ولكني أذكر، كما ذكر مالك، أن هذه القضية بأدلتها ومناهجها، قد تركت في (العقل) الحديث في العالم الإسلامي، أثراً لا يمحى إلا بعد جهد جهيد؛ والعجب أن (مرجليوث) قد أتى في بحثه بزيف كثير، كان هو الأساس الذي بنى عليه هذا (العقل)، وقد حاول مئات من رجال الفكر أن يزيفوا الأدلة والمناهج، ولكن هذا الزيف بقي بعد ذلك طابعاً مميزاً لأكثر ما ينشره الطلبة والأساتذة إلى يومنا هذا. ولا تحاكم مرجليوث وأشياعه إلى رأيك ونظرك، بل دع محاكمته إلى مستشرق مثله، هو (آربري)، يقول في خاتمة كتابه (المعلقات السبع) وقد ذكر أقوال مرجليوث وفندها: ((إن السفسطة- وأخشى أن أقول: الغش- في بعض الأدلة التي ساقها الأستاذ (مرجليوث)، أمر بيِّن جداً، ولا تليق البتة برجل كان، ولا ريب من أعظم أئمة العلم في عصره)).

وهذا حكم شنيع، لا على (مرجليوث) وحده، بل على كل أشياعه وكهنته وعلى ما جاؤوا به من حطام الفكر. ولكن العجب عندي بعد ذلك أن مالكاً ارتكز على ذكر هذه القضية، وعلى أثرها في العقل الحديث، ثم انطلق منها إلى نتيجة أخرى فقال: ((وعلى هذا فالمشكلة بوضعها الراهن تتجاوز في مداها نطاق الأدب والتاريخ، وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله، ذلك التفسير القائم على الموازنة الأسلوبية، معتمداً على الشعر الجاهلي بوصفه حقيقة لا تقبل الجدل؛ وعلى أية حال فقد كان من الممكن أن تثور هذه المشكلة تبعاً للتطور الجديد في الفكر الإسلامي، وإنما بصورة أقل ثورية، فمنهج التفسير القديم يجب أن يتعدل في حكمة وروية، لكي يتفق مع مقتضيات الفكر الحديث)). ثم قال: ((لقد قام إعجاز القرآن حتى الآان على البرهان الظاهر على سمو كلام الله فوق البشر. وكان لجوء التفسير إلى الدراسة الأسلوبية لكي يضع لإعجاز القرآن أساساً عقلياً. فلو أننا طبقنا نتائج فرض (مرجليوث)، لانهار ذلك الأساس، ومن هنا توضع مشكلة التفسير على أساس هام بالنسبة لعقيدة المسلم، أعني: برهان إعجاز القرآن في نظره)). ثم أفضى إلى هذا الحكم: ((والحق أنه لا يوجد مسلم، وخاصة في البلاد غير العربية- يمكنه أن يوازن موضوعياً بين آية قرآنية، وفقرة موزونة أو مقفاة من أدب العصر الجاهلي. فمنذ وقت طويل، لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية، ليمكننا أن نستنبط من موازنة أدبية نتيجة عادلة حكيمة)). وأنا أحب أن أناقش هذه المقالة حتى أعين القارئ على أن يضع كتاب (الظاهرة القرآنية) في مكانه الذي ينبغي له، وحتى تتبين له معالم الطريق الذي يسير فيه وهو يقرأ هذا الكتاب، وحتى يستفيد من أدلته وبراهينه قوة تعينه على أن يضع أساساً يقيم عليه عقيدته وإيمانه.

ولا أدري ما الذي ألجأ أخي مالكاً إلى ذكر (تفسير القرآن) ومنهجه القديم في هذا الوضع .. ؟ .. إنه إقحام لباب من علوم الإسلام قائم برأسه لا يمسه فرض (مرجليوث) من قريب أو بعيد. وعلم تفسير القرآن كما أسسه القدماء، لا يقوم على موازنة الأساليب، اعتماداً على شعر الجاهلية أو شعر غير الجاهلية، وإذا اقتضتنا الحاجة أن ندخل تعديلاً على منهج التفسير القديم، فإنه عندئذ تعديل لا علاقة له البتة بالشعر الجاهلي، لا من قبل الشك في صحته، ولا من قبل موازنة الأساليب الجاهلية بأسلوب القرآن. وكل ما عند القدماء من ذكر الشعر الجاهلي في تفسيرهم، فهو أنهم يستدلون به على معنى حرف في القرآن، أو بيان خاصة من خصائص التعبير العربي، كالتقديم والتأخير والحذف وما إلى ذلك، وهذا أمر يصلح له شعر الجاهلية، كما يصلح له شعر الإسلام؛ وغاية علم تفسير القرآن- كما ينبغي أن يعلم- إنما هي بيان معاني ألفاظه مفردة، وجمله مجتمعة، ودلالة هذه الألفاظ والجمل على المباني، سواء في ذلك آيات الخبر والقصص، وآيات الأدب وآيات الأحكام، وسائر ما اشتملت عليه معاني القرآن. وهو أمر عن (إعجاز القرآن) بمعزل. أما الأمر المرتبط بالشعر الجاهلي، أو بقضايا الشعر جميعاً، والمتصل بأساليب الجاهلية وغير الجاهلية، وأساليب العربية وغير العربية وموازنتها بأسلوب القرآن، فهو علم (إعجاز القرآن)، ثم (علم البلاغة). ولا مناص لمتكلم في (إعجاز القرآن)، من أن يتبين حقيقتين عظيمتين قبل النظر في هذه المسألة، وأن يفصل بينهما فصلاً ظاهراً لا يلتبس، وأن يميز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما: أولاهما: أن (إعجاز القرآن) كما يدل عليه لفظه وتاريخه، وهو دليل النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدق نبوته، وعلى أنه رسول الله يوحى إليه هذا القرآن، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف (إعجاز القرآن) من الوجه الذي عرفه منه سائر من آمن به

من قومه العرب، وأن التحدي الذي تضمنته آيات التحدي، من نحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود 11/ 13 و 14]. وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء17/ 88]. إنما هو تحدٍّ بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك. فما هو بتحدٍّ بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان. ثانيهما: أن إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من عند الله، كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من كتب الله سبحانه، لا يكون منها شيء يدل على أن القرآن معجز، ولا أظن أن قائلاً يستطيع أن يقول إن التوراة والإنجيل والزبور كتب معجزة، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن، من أجل أنها كتب منزلة من عند الله. ومن البين أن العرب قد طولبوا بأن يعرفوا دليل نبوة رسول الله، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه، بمجرد سماع القرآن نفسه، لا بما يجادلهم به حتى يلزمهم الحجة في توحيد الله، أو تصديق نبوته، ولا بمعجزة كمعجزات إخوانه من الأنبياء مما آمن على مثله البشر، وقد بيّن الله في غير آية من كتابه أن سماع القرآن يقتضيهم إدراك مباينته لكلامهم، وأنه ليس من كلام بشر، بل هو كلام رب العالمين وبهذا جاء الأمر في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة 9/ 6]. فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز القرآن.

والخلط بين هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة (إعجاز القرآن)، قد أفضى إلى تخليط شديد في الدراسة قديماً وحديثاً، بل أدى هذا الخلط إلى تأخير علم (إعجاز القرآن) و (علم البلاغة)، عن الغاية التي كان ينبغي أن ينتهيا إليها. وحسن أن أزيل الآن لبساً قد يقع فيه الدارس لكتاب (الظاهرة القرآنية)، ففي (مدخل الدراسة)؛ وفي بعض فصول الكتاب ما يوهم أن من مقاصده تثبيت قواعد في (علم إعجاز القرآن)، من الوجه الذي يسمى به القرآن معجزاً. وهو خطأ، فإن منهج مالك في تأليفه دالّ أوضح الدلالة على أنه إنما عني بإثبات صحة دليل النبوة، وبصدق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من عند الله، وأنه كلام الله لا كلام بشر، وليس هذا هو (إعجاز القرآن) كما أسلفت، بل هو أقرب إلى أن يكون باباً من (علم التوحيد)، استطاع مالك أن يبلغ فيه غايات بعيدة، قصر عنها أكثر من كتب من المحدثين وغير المحدثين: فجزاه الله عن كتابه ونبيه أحسن الجزاء. أما مسألة (إعجاز القرآن)، فقد بقيت خارج هذا الكتاب، وهي عندي أعقد مشكلة يمكن أن يعانيها (العقل) الحديث، كما يسمونه، حتى بعد أن يتمكن من إرساء كل دعامة يقوم عليها إيمانه بصدق نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبصدق الوحي وبصدق التنزيل. وأيضاً فهي المسألة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الشعر الجاهلي، وبالكيد الخفي الذي اشكلت عليه هذه القضية، بل إنها لترتبط ارتباطاً لا فكاك له بثقافتنا كلها، وبما ابتلي به العرب في جميع دور العلم، من فرض منهاج خال من كل فضيلة في تدريس اللغة وآدابها. بل إنها لتشمل ما هو أرحب من ذلك، تشمل بناء الإنسان العربي أو المسلم، من حيث هو إنسان قادر على تذوق الجمال في الصورة والفكر جميعاً. ومعرفة معنى (إعجاز القرآن)، وما هو وكيف كان، أمر لا غنى عنه لمسلم

ولا لدارس، وشأنه أعظم من أن يتكلم فيه أمرؤ بغير تثبت من معناه، وتمكن من تاريخه، وتتبع للآيات الدالة على حقيقته. وأنا لا أزعم أني مستقصيه في هذا الوضع، ولكني مستعين بالله، فذاكر طرفاً مما يعين المرء على معرفته. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأبي هو وأمي، حين فجأه الوحي في غار حراء، وقال له: ((اقرأ))، فقال: ((ما أنا بقارئ))، ثم لم يزل حتى قرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 96/ من الآية 1 - 5]. رجع بها وهو يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: ((زملوني زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. وذلك أنه قد أتاه أمر لا قِبَل له به، وسمع مقالاً لا عهد له بمثله، وكان رجلاً من العرب، يعرف من كلامها ما تعرف، وينكر منه ما تنكر؛ كان هذا الروع الذي أخذه، بأبي هو وأمي، أول إحساس في تاريخ البشر، بمباينة هذا الذي سمع، للذي كان يسمع من كلام قومه، وللذي كان يعرف من كلام نفسه. ثم حمي الوحي وتتابع، وأمره ربه أن يقرأ ما أنزل عليه على الناس على مُكثِ. فتتبع الأفراد من عشيرته وقومه، يقرأ عليهم هذا الذي نزل إليه. ولم يكن من برهانه ولا مما أُمِر به أن يلزمهم الحجة بالجدال حتى يؤمنوا أنما هو إله واحد، وأنه هو نبي الله، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويقروأ له بصدق نبوته، بدليل واحد هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه. ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة، إلا أن هذا المقروء عليهم، كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو، ولا من كلام بشر مثله. ثم أيضاً لا معنى لها البتة إلا أن يكون وكان في طاقة هؤلاء السامعين أن يميزوا تمييزاً واضحاً بين الكلام الذي هو من نحو كلام البشر، والكلام الذي ليس من نحو كلامهم.

وكان هذا القرآن يُنَزَّل عليه منجماً، وكان الذي نزل عليه يومئذ قليلاً كما تعلم، فكان هذا القليل من التنزيل هو برهانه الفرد على نبوته. وإذن، فقليل ما أوحي إليه من الآيات يومئذ، وهو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تتامَّت وتجمعت في القرآن جملة كما نقرؤه اليوم، منطوٍ على دليل مستبين قاهر، يحكم له بأنه ليس من كلام البشر. وبذلك يكون دليلا على أن تاليه عليهم، وهو بشر مثلهم، نبي من عند الله مرسل. فإذا صح هذا، وهو صحيح لا ريب فيه، ثبت ما قلناه أولاً من أن الآيات القليلة من القرآن، ثم الآيات الكثيرة، ثم القرآن كله، أياً ذلك كان، في تلاوته على، سامعه من العرب، هو الدليل الذي يطالبه بأن يقطع بأن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر، وذلك من وجه واحد، وهو وجه البيان والنظم. وإذا صح أن قليل القرآن وكثيره سواء من هذا الوجه، ثبت أن ما في القرآن جملة- من حقائق الأخبار عن الأمم السالفة، ومن أنباء الغيب ومن دقائق التشريع، ومن عجائب الدلالات على ما لم يعرفه البشر من أسرار الكون إلا بعد القرون المتطاولة من تنزيله- كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب، وهو أن يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم، من وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين. وههنا معنى زائد، فإنهم إذا أقروا أنه كلام رب العالمين بهذا الدليل، كانوا مطالبين بأن يؤمنوا بأن ما جاء فيه من أخبار الأمم وأنباء الغيب ودقائق التشريع، وعجائب الدلالات على أسرار الكون، هو كله حق لا ريب فيه، وإن ناقض ما يعرفون، وإن باين ما اتفقوا على أنه عندهم أو عند غيرهم حق لا يشكون فيه. وإذن فإقرارهم من وجه النظم والبيان أن هذا القرآن كلام رب العالمين، دليل يطالبهم بالإقرار بصحة ما جاء فيه من كل ذلك، أما صحة ما جاء فيه، فليست هي الدليل الذي يطالبهم بالإقرار بأن

نظم القرآن وبيانه، مباين لنظم البشر وبيانهم، وأنه بهذا من كلام رب العالمين. وهذا أمر في غاية الوضوح. فمن هذا الوجه كما ترى طولب العرب بالإقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم، تجده من جنس كلامها لأنه نزل بلسانهم، لسان عربي مبين؛ ثم تجده مبايناً لكلامها، فما تدري ما تقول فيه من طغيان اللدد والخصومة. وإنه لخبر مشهور، خبر تحير النفر من قريش فيه وعلى رأسهم (الوليد بن الغيرة). لقد ائتمرت قريش يومئذ حين حضر الموسم، لكي يقولوا في هذا الذي يتلى عليهم وعلى الناس قولاً واحداً لا يختلفون فيه، وأداروا الرأي بينهم في تاليه على أهل المواسم، وتشاوروا أن يقولوا: كاهن، أو مجنون، أو شاعر أو ساحر، فلما آلت المشورة إلى ذي رأيهم وسنهم وهو (الوليد بن المغيرة)، رد كل ذلك بالحجة عليهم، ثم قال: ((والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة؛ وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء بقول يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته)). فهذا التحير المظلم الذي غشَّاهم وأخذ منهم بالكظم، والذي نعته الوليد فاستجاد النعت، كان تحيراً لما يسمعون من نظمه وبيانه، لا لما يدركون من دقائق التشريع، وخفي الدلالات، وما لا يؤمنون به من الغيب، وما لا يعرفون من أنباء القرون التي خلت من قبل. وحمي الوحي وتتابع عاماً بعد عام، وأقبل - صلى الله عليه وسلم - يلح جهرة فيقرأ القرآن عليهم وعلى من طاف بهم من العرب في بطن مكة، وفي مواسم الحج والأسواق؛ وهبت قريش تناوئه وتنازعه، وتلج في اللدد والخصومة، وفي الإنكار والتكذيب، وفي العداوة والأذى؛ فلما طال تكذيبهم وإنكارهم، على ما يجدون

في أنفسهم من مثل الذي وجد الوليد، ومن مثل الذي آمن عليه مَن آمن مِن قومه العرب، صب الله عليهم من الوحي ما هالهم وأفزعهم؛ كانوا يتحيرون في هذا الذي يتلى عليهم، وظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاثة عشر عاماً والمسلمون قليل مستضعفون في أرض مكة، وظل الوحي يتتابع وهو يتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم بعشر سور مثله مفتريات. فلما انقطعت قواهم، قطع الله عليهم وعلى الثقلين جميعاً منافذ اللدد والعناد، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء 17/ 88]. وكذلك كان! فكان هذا البلاغ القاطع الذي لا معقب له، هو الغاية التي انتهى إليها أمر هذا القرآن، وأمر النزاع فيه، لا بين رسول الله وبين قومه من العرب فحسب، بل بينه وبين البشر جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، لا .. بل بينه وبين الإنس والجن مجتمعين متظاهرين. وهذا البلاغ الحق الذي لا معقب له من بين يديه ولا من خلفه، هو الذي اصطلحنا عليه فيما بعد، وسميناه (إعجاز القرآن). وهذا الذي اقتصصته لك، تاريخ مختصر أشد الاختصار، ولكنه مجزئ في الدلالة على تحديد معنى (إعجاز القرآن) بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ على إطلاقه، ومجزئ في الدلالة على هذا (الإعجاز). من أي وجوه الإعجاز كان إعجازاً، وإنه ليكشف عن أمور لا غنى لدارس عن معرفتها: الأول: أن قليل القرآن وكثيره في شأن (الإعجاز) سواء. الثاني: أن الإعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم بيان الثقلين جميعاً، إنسهم وجنهم متظاهرين.

الثالث: أن الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر، والذي هو ليس من كلامهم. الرابع: أن الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الإتيان بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في أنفسهم أنه خارج من جنس بيان البشر. الخامس: أن هذا التحدي لم يقصد به الإتيان بمثله مطابقاً لمعانيه، بل أن يأتوا بما يستطيعون افتراءه واختلاقه، من كل معنى أو غرض، مما يعتلج في نفوس البشر. السادس: أن هذا التحدي للثقلين جميعاً إنسهم وجنهم متظاهرين، تحدّ مستمر قائم إلى يوم الدين. السابع: أن ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند الله تعالى، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وأنه بهذه الباينة كلام رب العالين، لا كلام بشر مثلهم. فهذه أمور تستخرجها دراسة تاريخ نزول القرآن، ومدارسة آياته في جدال المشركين من العرب في صحة الآيات التي جاءتهم من المسلماء، كما جاءت سائر آيات الأنبياء ومعجزاتهم، وحسبك في بيان ذلك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إليّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة))، فالقرآن هو آية الله في الأرض، آيته المعجزة من الوجه الذي كان به معجزاً للعرب، ثم للبشر، ثم للثقلين جميعاً.

وكل لبس يقع في ضبط هذه الأمور المتعلقة بمعنى (إعجاز القرآن)، وكل اختلال في تمييزها وتحديد ما تقتضيه في العقل والنظر، سبيل إلى انتشار أغمض اللبس، وأبلغ الخلل في فهم معنى (إعجاز القرآن)، من الوجه الذي صار به القرآن معجزاً للعرب، ثم لسائر البشر على اختلاف ألسنتهم، ثم للثقلين جميعاً متظاهرين. **** هذا بعض ما أدى إليه النظر المجرد في استخراج المعنى الذي هو مناط التحدي ومفصل الإعجاز؛ وأرجو أن أكون قد بلغت في كشفه مقنعاً ورضى. ولكنه بقي ما لا بد منه: أن نستنبط بهذا الأسلوب من النظر المجرد، صفة القوم الذين تحداهم، وصفة لغتهم. فإذا صح أن (الإعجاز) كائن في رصف القرآن ونظمه وبيانه بلسان عربي مبين، وأن خصائصه مباينة للمعهود من خصائص كل نظم وبيان تطيقه قوى البشر في بيانهم، لم يكن لتحديهم به معنى إلا أن تجتمع لهم وللغتهم صفات بعينها: أولها: أن اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً، قادرة بطبيعتها هي، أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين: كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى، وكلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه. ثانيها: أن أهلها قادرون على إدراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين. وهذا إدراك دالّ على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان ومن العلم بأسراره ووجوهه، قدراً وافراً يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن، وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه، أن تاليه عليهم نبي من عند الله مرسل. ثالثها: أن البيان كان في أنفسهم أجلَّ من أن يخونوا الأمانة فيه، أو

يجوروا عن الإنصاف في الحكم عليه. فقد قرَّعهم وعيرهم وسفَّه أحلامهم وأديانهم، حتى استخرج أقصى الضرورة في عداوتهم له. وظل مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته ومناقضته وكان أبلغ ما قالوه: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال 31/ 8]، ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئا؛ هذه واحدة. وأخرى: أنه لم ينصب لهم حكماً، بل خلّى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له، ثقة بإنصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الإنصاف لا تدانيها مرتبة. رابعها: أن الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأوتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم بأسراره، ومن الأمانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا قد بلغوا في الإعراب عن أنفسهم بألسنتهم المبينة عنهم، مبلغاً لا يدانى. وهذه الصفات تفضي بنا إلى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان بقي من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضاً، يوجب أمرين في نعت ما خلفوه: الأول: أن يكون ما بقي من كلامهم، شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء، حتى لا تعجزها الإبانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم. الثاني: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها، بل على سجاحتها أيضاً، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم. فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا ودليلاً. نعم، بقي (الشعر الجاهلي)!

وإذن! ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصويرها. فإن النظر المجرد والمنطق المتساوق والتمحيص المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا إلى تجريد معنى (إعجاز القرآن) مما شابه وعلق به، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان، ثم ساقنا الاستدلال إلى تحديد صفة القوم الذين تحداهم وصفة لغتهم، ثم خرج بنا إلى طلب نعت كلامهم، ثم التمسنا الشاهد والدليل على الذي أدانا إليه النظر، فإذا هو (الشعر الجاهلي). وإذن، فالشعر الجاهلي هو أساس مشكلة (إعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها العقل الحديث؛ وليس أساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم كما ظن أخي مالك، وكما يذهب إليه أكثر من بحث أمر إعجاز القرآن على وجه من الوجوه. ولكن الشعر الجاهلي قد صُبَّ عليه بلاء كثير، آخرها وأبلغها فساداً وإفساداً ذلك المنهج الذي ابتدعه (مرجليوث) لينسف الثقة به، فيزعم أنه شعر مشكوك في روايته، وأنه موضوع بعد الإسلام؛ وهذا المكر الخفي الذي مكره (مرجليوث) وشيعته وكهنته والذين ارتكبوا له من السفسطة والغش والكذب ما ارتكبوا، كما شهد بذلك رجل من جنسه هو (آربري)، كان يطوي تحت أدلته ومناهجه وحججه، إدراكاً لمنزلة الشعر الجاهلي في شأن إعجاز القرآن، لا إدراكاً صحيحاً مستبيناً، بل إدراكاً خفياً مبهماً، تخالطه ضغينة مستكينة للعرب وللإسلام. وهذا المستشرق وشيعته وكهنته، كانوا أهون شأناً من أن يحوزوا كبيراً بمنهجهم الذي سلكوه، وأدلتهم التي احتطبوها لما في تشكيكهم من الزيف والخداع؛ ولكنهم بلغوا ما بلغوا من استفاضة مكرهم وتغلغله في جامعاتنا، وفي العقل الحديث في العالم الإسلامي، بوسائل أعانت على نفاذهم، ليست من العلم ولا من النظر الصحيح في شيء؛ وقد استطاع رجال من أهل العلم، أن يسلكوا

إلى إثبات صحة الشعر الجاهلي مناهج لا شك في صدقها وسلامتها، بلا غش في الاستدلال وبلا خداع في التطبيق؛ وبلا مراء في الذي يسلم به صريح العقل وصريح النقل، إلا أنهم لم يملكوا بعد من الوسائل ما يتيح لهم أن يبلغوا بحقهم ما بلغ أولئك بباطلهم. وقد ابتليت أنا بمحنة (الشعر الجاهلي)، عندما ذرَّ قرن الفتنة أيام كنت طالباً في الجامعة؛ ودارت بي الأيام حتى انتهيت إلى ضرب آخر من الاستدلال على صحة (الشعر الجاهلي)؛ لا عن طريق روايته وحسب، بل عن طريق أخرى هي ألصق بأمر (إعجاز القرآن). فإني محصت ما محصت من الشعر الجاهلي، حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة صحته وثبوته. إذ تبينت فيه قدرة خارقة على (البيان)، وتكشف لي عن روائع كثيرة لا تُحَد، وإذا هو علم فريد منصوب لا في أدب العربية وحدها، بل في آداب الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام. وهذا الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب أنفسهم، هو وحده دليل كاف على صحته وثبوته. ولقد شغلني (إعجاز القرآن) كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضاً هذا (الشعر الجاهلي)، وشغلني أصحابه فأدى بي طول الاختبار والامتحان والمدارسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت إليه، حتى صار عندي دليلاً كافياً على صحته وثبوته. فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم، رأيتهم في هذا الشعر أحياناً يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله، وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق، وغاضبهم تربدّ سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون؛ كل

ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس وبُحة المستكين، وزفرة الواجد وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني، كأني لم أفقدهم طرفة عين، ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم، ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض، ولا مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا، ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حياً في هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب). وهذا الذي أفضيت إليه من صفة الشعر الجاهلي كما عرفته، أمر ممكن لن اتخذ لهذه المعرفة أسبابها، بلا خلط ولا لبس ولا تهاون ولا ملل. وهذه المعرفة هي أول الطريق إلى دراسة شعر أهل الجاهلية، من الوجه الذي يتيح لنا أن نستخلص منه دلالته على أنه شعر قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل الإسلام. فإذا صح ذلك- وهو عندي صحيح لا أشك فيه- وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة، ملتمسين فيه هذه القدرة البيانية التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم، ومستنبطين من ضروب البيان المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم وألسنتهم. فإذا تم لنا ذلك، فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه، خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر. وههنا أمر له خطر عظيم، فلا تظنن أن الشأن في دراسة (الشعر الجاهلي)، هو شأن المعاني التي تناولها، والأغراض التي قيل فيها، والصور التي انطوى عليها، واللغة التي استخدمها من حيث الفصاحة والعذوبة وما يجري مجراهما، بل الشأن في ذلك أبعد وأعمق وأعوص، إنه تمييز القدرة على البيان، وتجريد ضروب هذا (البيان) على اختلافها، واستخلاص الخصائص التي أتاحت للغتهم أن تكون معدناً للسمو، بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سمواً يجعل للكلام حياة كنفخ الروح في الجسد القائم، وكقوة الإبصار في العين الجامدة، وكسجية النطق في البضعة المتجلجلة المسماة باللسان.

فإذا اتخذنا لهذه الدراسة أهبتها، وأعددنا لها من الصبر والجد والحذر ما ينبغي لها، واللسان لساننا، والقوم أسلافنا، والسلائق مغروزة في أعماق طباعنا، ثم أصّلنا للدراسة مناهج تعين عليها، واستحدثنا لها أسلوباً يلائمها، فعندئذ يدنو الذي نراه بعيداً، ويتجلى لنا ما كان غامضاً، ويكشف لنا (الشعر الجاهلي) عن أروع روائعه، ويبذل لنا ما استكن فيه واستتر من أصول (البيان) الإنساني، بغير تخصيص للغة العرب، فنراها ماثلة على أدق وجوهه وأغمضها، وفي أتم صوره وأكملها. وهذا الذي أفضت فيه من ذكر الشعر الجاهلي، وما وجدته فيه في نفسي باب عظيم، أسأل الله أن يعينني بحوله وقوته، حتى أكشف عنه وأجليه، وحتى أؤيده بكل برهان قاطع على تميزه عن كل شعر العرب بعده، وبذلك يكون نفسه دليلاً حاسماً على صحة روايته، وعلى أن الرواة لم ينحلوه الشعراء افتراء عليهم. وغير خافٍ أن الذي وصلنا إلى هذا اليوم من شعر الجاهلية، قليل مما روته الرواة منه، والرواة القدماء أنفسهم لم يصلهم من شعرها إلا الذي قال أبو عمرو بن العلاء، في أوائل القرن الثاني من الهجرة: ((ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير)). ومع ذلك فهذا القليل مجزئ إن شاء الله في الدلالة على ما نريد من الإبانة عن تميز شعرهم عن شعر من جاء بعدهم، وفيه جمّ واف من خصائص البيان التي امتاز بها أهل الجاهلية. ولكن كيف بقي هذا الشعر إلى يومنا هذا؟ .. بقي مادة للغة العرب، وشاهداً على حرف من العربية، وعلى باب من النحو، وعلى نكتة في البلاغة. وبقي ذخراً للرواة، وركازاً يستمد منه شعراء الإسلام، ومنبعاً لتاريخ العرب في الجاهلية، بل بقي كنزاً لعلوم العرب جميعاً، لكل علم منه نصيب على قدره. ولكن غاب عنا أعظم ما بقي له هذا الشعر: أن يكون مادة لدراسة البيان المفطور في طبائع البشر، مقارناً بهذا البيان، الذي فاق طاقة بلغاء الجاهلية،

وكانت له خصائص ظاهرة، تجعل كل مقتدر بليغ مبين، وكل متذوق للبلاغة والبيان، لا يملك إلا الإقرار له، بأنه من غير جنس ما يعهده سمعه وذوقه، وأن مبلغه إلى الناس نبي مرسل، وأنه لا يطيق أن يختلقه أو يفتريه لأنه بشر لا يدخل في طوقه إلا ما يدخل مثله في طوق البشر، وأنه إن تقوَّل غير ما أمر بتبليغه وتلاوته، بان للبشر كذبه، وحقّ عليه قول منزله من المسلماء سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [سورة الحاقة 69/ 44 - 47]. ولسائل أن يسأل: فحدثني إذن، لم بقي شعر الجاهلية بهذه المنزلة لم يتجاوزها؟ وكيف غاب هذا الذي زعمت عن أئمة العلم من قبلك؟ وكيفط أخطأه علماء البلاغة، وهم الذين قصدوا بعلمهم قصد الإبانة عن إعجاز القرآن، وهم أقرب بالتنزيل عهداً منا ومنك؟. وما الذي صدَّ العقول البليغة عن سلوك هذا المنهج، وما نهضت إلا للمراماة دون إعجاز القرآن، في القديم والحديث؟. وحق علي أن أجيب، ولكن يقتضيني جواب هذه المسألة أن أقتص قصة أخرى، لا أستوعب القول في حكايتها تفصيلاً، بل أوجز المقال فيها إيجازاً مدفوعاً عنه الخلل ما أطقت، وعلى سامعها أن يدفع عن نفسه الغفلة ما أطاق؟. فأهل الجاهلية هم من وصفت لك منزلتهم من البيان، وقدرتهم على تصريفه بألسنتهم، وتمكنهم من تذوقه بأدق حاسة في قلوبهم ونفوسهم، وعلمهم بأسراره، وتغلغلهم في إدراك الحجاز الفاصل بين ما هو من نحو بيان البشر، وما ليس من بيانهم؛ أهل الجاهلية هؤلاء، هم الذين جاءهم كتاب من المسلماء بلسانهم؛ هو في آيات الله بمنزلة عصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص في آيات أنبيائه، لتكون تلاوته على أسماعهم برهاناً قاهراً يلزمهم بالإقرار له بصحة تنزيله من المسلماء على قلب رجل منهم، وأن هذا الرجل نبي مرسل، عليهم أن يتبعوه وأن يستجيبوا لما

دعاهم إليه، فما كذبوه وأنكروا نبوته، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الذي يسمعون في نظمه وبيانه، وألح عليهم يتحداهم في آيات منه كثيرة، ولكنهم وجدوا في أنفسهم مفارقته لبيان البشر، وجداناً ألجأهم إلى ترك المعارضة إنصافاً للبيان أن يُجار على حقه، وتنزيهاً له أن يزري به جورهم عن هذا الحق. وعلى الذي تلقوه به من اللدد في الخصومة والعناد لم يلبث أن استجاب له النفر بعد النفر إقراراً وتسليماً بأن الكتاب كلام الله، وأن الرجل نبي الله، ثم تتابع إيمان المؤمنين منهم، حتى لم تبق دار من دور أهل الجاهلية إلا دخلها الإسلام أو عمَّها، وألقوا إليه المقادة على أنه لا يتم إيمان أحدهم حتى يكون هذا الرجل، بأبي هو وأمي؛ أحب إليه من أهله وولده. وهذه أعمالهم تصدق ذلك كله. فأقبل كل بليغ منهم مبين، وكل متذوق للبيان ناقد يتحفظ ما نزل من القرآن ويتلوه ويتعبد به، ويتتبع تنزيله تتبع الحريص المتلهف، ويصيخ له وينصت حين يتلى في الصلوات وعلى المنابر يوماً بعد يوم؛ وشهراً بعد شهر؛ وعاماً بعد عام، وكلهم مخبت خاشع لذكر الله وما نزل من الحق، يصدق إخباتهم وخشوعهم ما قال الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الزمر 23/ 39]. ثم صار للقرآن في جزيرة العرب دوي كدوي النحل، وخشعت أسماع للجاهلية كانت بالأمس، للذي يتلى عليهم من كلام الله الذي خلقهم، وجعل لهم المسلمع والأبصار والأفئدة، وأخبتت ألسنة للجاهلية كانت بالأمس، إقراراً لهذا القرآن بالعبودية، كما أقروا هم للذي اصطفى لغتهم لكلامه سبحانه بالعبودية، وماجت بهم جزيرة العرب مهللين مكبرين مسبحين، كلما علوا شرفاً أو هبطوا وادياً، وأقاموا تالين للقرآن بالغدو والآصال، وبالليل والأسحار وانطلقوا يتتبعون سنن نبيهم ويتلقفونها، وخلعوا عن قلوبهم ونفوسم وعقولهم وألسنتهم

ظلمة الجاهلية، ودخلوا بألسنتهم وعقولهم ونفوسهم وقلوبهم في نور الإسلام. ثم طار بهم هذا القرآن في كل وجه، يدعون الناس أسودهم وأحمرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحملون إليهم هذا الكتاب المعجز بيانُه لبيان البشر، والذي نزل بلسانهم حجة على الخلق، وهدى يخرجهم من الظلمات إلى النور. فكان من أمرهم يومئذ ما وصفه ابن سلام في كتاب (طبقات فحول الشعراء) حين ذكر مقالة عمر بن الخطاب في أهل الجاهلية: ((كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه)). فقال ابن سلام تعليقاً على ذلك: ((فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير)). ولا يغررك ما قال (ابن سلام)، فتحسب أن أهل الجاهلية الذين هداهم الله للإسلام، طرحوا شعر جاهليتهم دبر آذانهم، فانصرفوا عنه صماً وبكماً، وخلعوه عن عقولهم وألسنتهم كما خلعوا جاهليتهم، فهذا باطل تكذبه أخبارهم، وينقضه منطق طبائع البشر وتاريخ حياتهم، بل كان أكبر ما لحقه من الضيم: أن نازعه القرآن فصرف همهم إليه، فكان نصيبه من إنشادهم وتقصيدهم القصائد أقل مما كان في جاهليتهم، ولكنه بقي مع ذلك هو الذي يؤوبون إليه إذا شق عليهم طول مدارسة القرآن، وهو الذي يستريحون إليه إذا فرغوا مما فرض عليهم ربهم، وسن لهم نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. وظل ذلك دأبهم في أول إسلامهم، ونشأ أبناؤهم يسمعون منهم شعر جاهليتهم ويستمعون إلى مكنون بيانهم في ألسنتهم، فيخرجون أيضاً مركوزاً ذلك البيان في طباعهم، وينتقل ذلك بما يشبه العدوى إلى مُسْلمَةِ الأعاجم وأبنائهم.

وحيث نزل أهل الجاهلية الذين أسلموا نزل معهم الذكر الحكيم، ونزل شعر الجاهلية وتدارسوه وتناشدوه، وقوموا به لسان الذين أسلموا من غير العرب. وأصبح زاد المتفقه في معرفة معاني كتاب ربه، هو مدارسة الشعر الجاهلي، لأنه لا يستقل أحد بفهم القرآن حتى يستقل بفهمه وحسبك أن تعرف مصداق ذلك قول الشافعي فيما بعد، في القرن الثاني من الهجرة: ((لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه ومحكه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به. ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وما يحتّاج إليه للسنة والقرآن)). فليس يكفي أن يكون عارفاً بالشعر، بل بصيراً به أشد البصر، كما قال الشافعي رحمه الله، والذي قاله الشافعي بعد قرن، هو الذي جرى العمل عليه في أول الإسلام. واستفاضت بالمسلمين الفتوح، واستفاض معهم شعر جاهليتهم، وأسلمت الأمم ودخلت في العربية كما دخلت في الإسلام، ونزل بيان القرآن كالغيث على فطرة جديدة، فطرة أهل الألسنة غير العربية، بعد أن رويت من بيان الجاهلية في الشعر الجاهلي. وامتزجت العرب من الصحابة والتابعين وأبنائهم، بأهل هذه الألسنة التي دخلت في العربية، فنشأ من امتزاج ذلك كله بيان جديد، ظل ينتقل ويتغير ويتبدل جيلاً بعد جيل، ولكن بقي أهله بعد ذلك كله، محتفظين بقدرة عتيدة حاضرة، هي تذوق البيان تذوقاً عليماً، يعينهم على تمييز بيان البشر كما تعهده سلائقهم وفطرهم، وبيان القرآن الذي يفارق خصائص بيانهم من كل وجه. ثم فارت الأرض بالإسلام من حد الصين شرقاً إلى حد الأندلس غرباً، ومن حد بلاد الروم شمالاً إلى حد الهند جنوباً، وسمع دوي القرآن العربي في أرجاء الأرض المعمورة. وقامت المساجد في كل قرية ومدينة وازدحمت في ساحاتها

صفوف عباد الرحمن، وعلا منابرها الدعاة إلى الحق، وتحلقت الحلق في كل مسجد، وتداعى إليها طلاب العلم، فطائفة تتلقى القرآن من قرائه، وطائفة تدرس تفسير آياته، وطائفة تروي حديث رسول الله عن حفاظه، وطائفة تأخذ العربية عن شيوخها، وطائفة تتلقف شعر الجاهلية والإسلام عن رواته، طوائف بعد طوائف في أنحاء المساجد المتدانية، طوائف من كل لون وجنس ولسان، كلهم طالب علم، وكلهم يتنقل من مجلس شيخ إلى مجلس شيخ آخر، فكل ذلك علم لا يستغني عنه مسلم تال للقرآن. لا بل حتى أسواقهم قام فيها الشعراء ينشدون شعرهم، أو يتنافرون به ويتهاجون، والرواة تحفظ، والناس يقبلون ينصتون، وينقلبون يتجادلون، وعجَّت نواحي الأرض بالقرآن وباللسان العربي، لا فرق بين ديار العجم كانت وديار العرب. وبعد دهر نبتت نابتة الشيطان في أهل كل دين، وجاؤوا بالمراء والجدل، وباللدد والخصام، وشققوا الكلام بالرأي والهوى، فنشأت بوادر من النظر في كل علم، وعندئذ نجم الخلاف، وانتهى الخلاف إلى الجرأة، وأفضت الجرأة يوماً إلى رجل في أواخر دولة بني أمية يقال له (الجعد بن درهم)، وكان شيطاناً خبيث المذهب، تلقى مذهبه عن رجل من أبناء اليهود، يقال له: (طالوت)، فكذب القرآن في اتخاذ إبراهيم خليلاً، وفي تكليم موسى، إلى هذا وشبهه، وكان من قوله: إن فصاحة القرآن غير معجزة، وإن الناس قادرون على مثلها وأحسن منها!! .. فضحى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، في نحو سنة 124 من الهجرة. وكلام (الجعد) كما ترى، استطالة رجل جريء اللسان خبيث النبت، بلا حجة من تاريخ أو عقل. ولم تكد دولة بني العباس ترسي قواعدها حتى دخلت بعض العقول إلى فحص (إعجاز القرآن)، من باب غير باب السفه والاستطالة، فقام بالأمر كهف

المعتزلة ولسانها: (أبو اسحق إبراهيم بن سيار النظام). فأتاه من قبل الرأي والنظر، حتى زعم أن الله قد صرف العرب عن معارضة القرآن، مع قدرتهم عليها، ف كانت هذه الصرفةُ هي المعجزة؛ أما معجزة القرآن فهي في إخباره بكل غيب مضى وكل غيب سيأتي. وهذه مقالة لا أصل لها إلا الحيرة والابتهار من هذا الذي أعجز أهل الجاهلية وأسكتهم. وهب قوم يعارضونه ويجادلونه، منهم صاحبه أبو عثمان الجاحظ، فألف كتابه في (نظم القرآن)، وأنه غاية في البلاغة، وقال الجاحظ وغيره ومن يليهم، ولكن ظل الأمر محصوراً في إثبات (الصرفة) وإبطالها، وفي طرف من الاستدلال على بلاأغة القرآن وسلامته مما يشين لفظه، وخلوه من التناقض، واشتماله على المعاني الدقيقة، وما فيه من نبأ الغيب، إلى آخر ما تجده مبسوطاً في كتب القوم، والذي عرفت قولنا فيه فيما مضى من كلامنا. ثم كثرت اللجاجة بين هذه الفئات ممن عرفوا باسم المتكلمين، وكان أمرهم أمر جدال وبسطة لسان وغلبة حجة ومناهضة دليل بدليل، حتى إذا صارت مسألة (إعجاز القرآن) مسألة تستوجب أن ينبري لها رجل صادق، انبرى لهؤلاء المتكلمين (أبو بكر الباقلاني) المتوفى سنة 403 هـ، والناس يومئذ بين رجلين، كما قال هو نفسه: ((ذاهب عن الحق، ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته مكدود في صنعته؛ فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين، وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه، وليس هذا ببدع من ملحدة هذا العصر، وقد سبقهم إلى عُظْمِ ما يقولون إخواخم من ملحدة قريش وغيرهم)) (كتابه إعجاز القرآن ص5، 6) فهذا هو الذي حفزه وأهاجه، حتى كتب كتابه المعروف (إعجاز القرآن). وكتب الباقلاني كتابه وأهل اللسان العربي يومئذ هم الناس، ولم يزل

تذوقهم للبيان ما وصفت لك، تذوق ملتبس بالطباع مردود إلى السلائق، مشحوذ بمدارسة الشعر وسماعه وروايته؛ ولكن لم يضر جمهور هذا الطباع شيئاً أن استفاض الجدل وظهر سلطانه، وأن صارت كل فرقة تمضغ كلاماً، تناضل به عن رأيها، وتقطع به حجة خصمها، طلباً للغلبة لا تمحيصاً للرأي، وفحصاً عن الحق. ورضي الله عن أبي بكر الباقلاني، فقد جمع في كتابه خيراً كثيراً، واستفتح بسليم فطرته أبواباً كانت قبله مغلقة، وكشف عن وجوه البلاغة حجاباً مستوراً. ولكنه زل زلة كان لها بعد ذلك آثار متلاحقة، وإن لم يقصد بها هو قصد العاقبة التي انتهت إليها. كان الباقلاني حقيقاً أن ينهج النهج الذي أدناه إليه تمحيص مسألة (الإعجاز)، ويومئذ يجعل الشعر الجاهلي أصلاً في دراسة بيان عرب الجاهلية، من ناحية تمثله لخصائص بيان البشر، والباقلاني رضي الله عنه كان يجد في نفسه وجداناً واضحاً أن خصائص بيان القرآن مفارقة لخصائص بيان البشر، وقد ألح إلى ذلك في كتابه، كما ألح إليه من سبقه. بيد أن جدل المتكلمين قبله وعلى عهده، وخوض الملحدين في أصول الدين كما قال، ومنهجهم في اللجاجة وطلب الغلبة، كل ذلك لم يدَعْه حتى استغرقه في الرد عليهم، على مثل منهاجهم من النظر. ثم دارت به الدنيا، لما بلغه أن بعض جهالهم يعدل القرآن ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام. وأنت تستطيع أن تقرأ كتابه فصلاً فصلاً لتجد مصداق ما أقول لك. حتى إذا انتهى إلى الذي هاجه، من موازنة القرآن ببعض الأشعار، هب إلى تسفيه هذه الموازنة، فدعاك في أوسط كتابه أن تعمد معه إلى ما لا تشك في جودته من شعر امرئ القيس، وما لا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، كما قال في كتابه [ص:241]، فطرح بين يديك هذه القصيدة، وجعل يفصلها وينقدها

ويمحو من محاسنها ويثبت، ويقف بك على مواضع خللها، ويفضي بك إلى مكامن ضعفها، ولم يزل يعريها حتى كشف الغطاء عن عوارها، ثم ختم ذلك بقوله: ((وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها، تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والاستصعاب، والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها)). فلما انتهى من ذلك افتتح فصلاً شريفاً نبيلاً، ذكر فيه آيات من القرآن، وحاول أن يقف بك على بدائع نظمها وبيانها، وهذا الفصل هو أدل الدليل على أن الباقلاني، لو كان استقام له المنهج الذي ذكرناه، لبلغ فيه غاية يسبق فيها المتقدم، ويكد فيها جهد المتأخر. ولكنه لم يزد في هذا الفصل على أن جعل يقف بك على بيان شرف الآيات لفظاً ومعنى، ولطيف حكايتها، وتلاؤم رصفها وتشاكل نظامها، وأن نظم القرآن لا يتفاوت في شيء، ولا يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الأعلى والفضل الأسنى (كتابه ص 302، 305)؛ وذكر تناسب الآيات في البلاغة والإبداع، وتماثلها في السلاسة والإعراب؛ وانفرادها بذلك الأسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب. أما غيرها من الكلام، فهو يضطرب في مجاريه ويختل تصرفه في معانيه، وهو كثير التلون دائم التغير والتنكر، ويقف بك على بديع مستحسن، ويعقبه بقبيح مستهجن، ويأتيك باللفظة المستنكرة، بين الكلمات هي كاللآلئ الزهر، (كتابه ص 313، 314). ثم انتهى إلى قوله في القرآن: ((وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام، وما له من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه المسلماء، ولا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها إلا قصرت، ولا تظهر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا قد أخللت. إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس، لأضل من حمار باهلة، وأحمق من هبنقة)) (كتابه ص 321، 322).

وصدق الباقلاني في كل ما قال، إلا أنه لم يزد على أن بيَّن خلو القرآن من الاختلاف والتغير، وبراءته من كل ما يلحق كلام الناس من عيب وخلل، وكل ما هو قرين لضعف طبائعهم، وإن استحكمت قواهم، ودالّ على عماهم عن كثير من الحق، وإن استنارت بصائرهم. ولعمري إنه الحق لا ينال منه الباطل، ولكنه غير الذي ينبغي أن نتطلبه من كشف أصول البيان التي يفارق بها بيان القرآن بيان البشر من الوجه الذي فصلناه. وليس هذا موضع بحثنا الآن، ولكن بحثنا عن الشعر الجاهلي، وما كان من أمره. فهذه الموازنة التي هاجت الباقلاني كما ذكر هو، حملته على هتك الستر عن معلقة امرئ القيس، ليكشف للناس عيبها وخللها، لا ليستخرج منها خصائص بيانهم، وكيف كانت هذه الخصائص مفارقة لخصائص بيان القرآن، فلما زلّ الباقلاني هذه الزلة وأخطأ الطريق، زلّ به من بعده وأخطأه، وأخذوا الشعر الجاهلي كله هذا المأخذ، ولكن العجب بعد ذلك أن (الشعر الجاهلي) ظل عند البلغاء وجمهور الناس هو مثقف الألسنة والحجة على اللغة، والشاهد على النحو وما إلى ذلك. ولكنهم إذا جاؤوا لذكر القرآن وإعجازه، اتخذوه هدفاً للنقد والتفلية وإظهار العيب وتبيين الخلل، بإزاء كلام بريء من كل عيب وخلل؛ فيبقى الأمر أمر موازنة لا عدل فيها. وكان حسبهم من الدليل أن أهل الجاهلية بتركهم معارضة القرآن بشعرهم أو كلامهم، هو إقرارٌ لا معقب عليه بفضل هذا القرآن على شرهم وكلامهم، فلم تكن بالباقلاني حاجة إلى سلوك هذا الطريق الذي سلكه، إلا ما حمله عليه ما نعق به جاهل من جهال المتلحدة، من الموازنة بين الكلامين، وتفضيل شعرهم على القرآن. وكان قد نازع ذلك بابٌ آخر من اللجاجة، في الموازنة بين شعر الجاهلية، وشعر المحدثين من شعراء الإسلام، وظل الجدال في تفضيل أحدهما على الآخر باباً تقتحمه الألسنة طلباً للمغالبة والظهور، وداخل ذلك من الإزراء على الشعر

الجاهلي وعيبه ما داخل، فكان هذا أيضاً صارفاً عن مدارسته على الوجه الذي طلبناه في صدر حديثنا. وفي خلال ذلك كله، تجمعت على فهم الشعر الجاهلي أخطاء شديدة الخطر، غَشَّت حقيقته بحجاب كثيف من الغموض، زاده كثافة ما لحق الشعر الجاهلي من التشتيت والضياع، وما أصابه من اختلال الرواية بالزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، حتى اختلطت فيه المعاني أحياناً اختلاطاً، سهّل لكل عائب أن يقول فيه ما عنَّ له. ومع كل ذلك أيضاً بقي الشعر الجاهلي مثقفاً للألسنة، ومعدناً لشواهد اللغة والنحو والبلاغة. فليت شعري أي بلاء ترى أصاب هذا الشعر!! ثم تتابعت العصور على ذلك وعلى ما هو أشنع منه، حتى أفضينا به في هذا العصر الحديث إلى أقبح الشناعة، يوم فرض الاستعمار الغربي الغازي، على مدارسنا منهجاً من الدراسة لا يقوم على أصل صحيح، كان يرمي في نهايته إلى إضعاف دراسة العربية إضعافاً شائناً، لا مثيل له في كل لغات العالم التي يتلقاها الشباب في معاهد التعليم على اختلاف درجاتها. ثم طمت الشناعة بعد سنين، حين عزلت اللغة العربية كلها عزلاً مقصوداً عن كل علم وفن، وأصبح الشباب يتعلم لغته على أنها درس محدد، هو ثقيل بهذا التحديد المجرم على كل نفس، وخاصة نفوس الشباب الغض. ثم لما أنشئت الجامعة، ودخلها هؤلاء الشباب على ما هم فيه من الملل بلغتهم، ومن الاستهانة بأمرها، طلع قرن الشيطان بفتنة (الشعر) والتشكيك في صحة روايته، وطار الشر إلى الصحافة، فاتخذت اللغة القديمة كلها لا الشعر الجاهلي وحده، مادة للهزء والسخرية، وللنكتة والزراية، لا بل تندروا بكل من بقي علما شيء من المحافظة على سلامة اللغة، سلامة هي كإبراء الذمة لا أكثر ولا أقل. هذا تاريخ مختصر للأسباب التي وقفت بالشعر الجاهلي حيث وقف قديماً، فحالت بين علماء البلاغة والمنهج الذي كشفته وبينته، وكان لزاماً عليهم وعلينا

أن نسلكه لدراسة إعجاز القرآن، دراسة صحيحة سليمة من الآفات. وهو تاريخ أشد اختصاراً للذي تبع ذلك في العصر الحديث، لما صار (الشعر الجاهلي) ملهاة يتلهى بها كل من ملك لساناً ينطق، حتى ألقى ذلك كله ظلاً من الكآبة والظلمة على دراسات المحدثين في الجامعة وغير الجامعة، حين يدرس أحدهم هذا الشعرَ. هذا الشعرُ الذي كان حين أنزل الله القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، نوراً يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله لبيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط. فقد كانوا عبَدة البيان قبل أن يكونوا عبدة الأوثان! وقد سمعنا بمن استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط بأحد منهم استخف ببيانهم. وأنت خليق أن تعرف أن الشيء الذي طلبته واحتججت له، وحاولت أن أكشف عن منهاجه ومذهبه، إنما يتعلق بخصائص البيان على القرآن، وخصائص بيان البشر على اختلاف ألسنتهم، وأن مخرج هذا غير مخرج هذا، وأن الشعر الجاهلي، إنما هو مادة الدراسة الأولى، لأن القرآن نزل بلسان العرب، والذين نزل عليهم ثم تحدّاهم وأعجزهم، هم أصحاب هذا الشعر والمفتونون به وببيانه. وهذا باب غير الباب الذي افتتحه الباقلاني، ثم فجر عيونه إمام البلاغة (عبد القاهر الجرجاني) المتوفى سنة 474 هـ في كتابيه (دلائل الإعجاز)، و (أسرار البلاغة)، ثم أبدع فيه العلماء ما أبدعوا، وزادوا فيه عليه ونقصوا. وكان ذلك بعد أن أغلق الباب الذي فصلنا القول فيه، كان هو الجدير بأن يفتتحه الباقلاني وعبد القاهر. فإذا تم ما دعونا إليه لأهل هذا اللسان العربي يوماً ما، وعسى أن يكون ذلك بتوفيق الله، فسيكون ذلك فتحاً مبيناً لا في تاريخ البلاغة العربية وحدها، بل في تاريخ بلاغة الجنس الإنساني كله. وسيكون أيضاً مقنعاً، ورضي لهذا (العقل الحديث) الذي يتطلب في معرفة (إعجاز القرآن) ما يرضى عنه

ويطمئن إليه، وليس هذا فحسب، بل إن أهل الحق من أهل الإسلام، سيجدون يومئذ وسيلة لا تدانيها وسيلة، تسهل لهم ما استغلق عليهم من دعوة الناس إلى كتاب الله الذي خصّ به العرب، وجعل فيه ذكرهم على الدهر حين أنزله بلسانهم، ولكنه جعله هدى للبشر جميعاً عربهم وعجمهم. ويومئذ ستبطل فتنة (ترجمة القرآن) من أصلها، لسبب ظاهر أشد الظهور. فإن البشر إذا لم يكن في طاقتهم بألسنتهم التي يبدعون في شعرها ونثرها، أن يأتوا ببيان كبيان القرآن، تدل تلاوته على أنه بيان مفارق لبيان البشر، فمن طول السفه وغلبة الحماقة، أن يدعي أحد أنه يستطيع أن يترجم القرآن، فيأتي في الترجمة ببيان مفارق لبيان البشر. فإذا لم يكن ذلك في طاقة أحد، لم يكن لهذه الترجمة معنى بل سيكون فيها من القصور والتخلف، ما يجعل القرآن كلاماً كسائر الكلام، لا آية فيه ولا حجة على أحد من العالمين، ولا توجب ترجمته على أحد أن يؤمن بما فيه، وإن خالف ما جرى عليه اعتقاده أو علمه، إلا إذا آمن من قبل أنه كتاب منزل من المسلماء. وهذا عكس لآية القرآن، وهي أن بيانه هو الدليل القاطع على أنه ليس من كلام البشر، وأنه كتاب منزل من المسلماء، وأنه هو كلام رب العالين الذي تعبدنا بتلاوته، والذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)). وقال أيضاً: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول {ألم} حرف، ولكن أقول ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)). ... وأما بعد، فعسى أن يكون الله قد ادخر لآخر هذه الأمة، بعض ما يلحقها بفضل أولها، فتفتح بالقرآن آذاناً صماً وعيوناً عمياً وقلوباً غلفاً، وتخرج بهديه الناس من ضلالتهم، وتذودهم به عن اتباع خطوات الشيطان، إلى اقتفاء

الصراط المستقيم، والله تعالى يقول لنبيه: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون 73/ 23 و 74]. وعسى أن يتم على يد آخرها ما خبأه الله عن أولها، وعسى أن يكون ذلك مخبوءاً في هذا الفصل الذي نجده في أنفسنا بين بيان الله سبحانه، وبيان عباده من البشر. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الأنعام 149/ 6]. ورحم الله مالك بن أنس إذ يقول: ((لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها))، فإذا كان أولها لم يصلح إلا بالبيان، فآخرها كذلك لن يصلح إلا به، وإن امرأ يقتل لغته وبيانها، وآخر يقتل نفسه لمثلان، والثاني أعقل الرجلين!. وشكر الله لأخي مالك بن نبي، وقد دعاني إلى كتابة مقدمة لكتابه: (الظاهرة القرآنية)، ففتح لي به باباً من القول في (إعجاز القرآن) كنت أتهيب أن ألجه، وباباً آخر من القول في (الشعر الجاهلي) كنت أماطل نفسي دونه، وأنا أعلم أني قد قصرت في ذلك كله واختصرت، وإن كنت قد أطلت، وأخشى أن أكون قد أمللت، ولكن عذري أن الرأي فيهما كان قد شابه ما كدره، فبذلت جهدي أن أمحص القول فيهما، حتى أنفي عنهما القذى، وأخلصهما من الأذى، مبتغياً بذلك وسيلة إلى ربي سبحانه، طلبت القربة عنده، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل 111/ 16]. والحمد لله وحده، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا فضل إلا من عنده. محمود محمد شاكر ***

مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية

مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية

مدخل إلى دراسة الظاهرة القرآنية

مَدْخَلٌ إِلَى دِرَاسَةِ الظَّاهِرَةِ الْقُرْآنِيَّةِ (1) لم يُتَح لهذا الكتاب أن يرى النور في صورته الكاملة، فالواقع أننا قد أعدنا تأليف أصوله التي أحرقت في ظروف خاصة. وهو كما هو الآن، لا يكفي في علاج فكرتنا الأولى عن المشكلة القرآنية؛ فإن الموضوع يتطلّب عملاً شاقاً طويل الأنفاس، ومراجع ذات أهمية قصوى؛ لم يكن بوسعنا الحصول عليها في محاولتنا الثانية. غير أننا لا زلنا نشعر بقيمة الفكرة التي ساقتنا إلى هذه الدراسة، حتى لقد آمنا بضرورة بذل ما نستطيع من الجهد في سبيل تحقيقها، مهما تكن صعوبات المشروع، ومهما تكن المعوقات دون تحقيقه. ولذا حاولنا أن نجمع العناصر التي بقيت من الأصل مكتوبة في قصاصات، أو مسجلة في الذاكرة، فأنقذنا بذلك- على ما نعتقد- جوهر الموضوع، وهو الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية، وهو منهج يحقق من الناحية العملية هدفاً مزدوجاً هو: 1 - أنه يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين. 2 - وأنه يقترح إصلاحاً مناسباً للمنهج القديم في تفسير القرآن. وهذه المهمة وتلك ترجعان إلى أسباب مختلفة، يتصل بعضها بالتطور الثقافي الذي حدث في العالم الإسلامي بصورة عامة، وبعضها يرجع إلى عنصر

_ (1) هذا المدخل منشور في رسالة مستقلة.

آخر، يمكن أن نسميه (تطور نظرتنا في مشكلة الإعجاز) بصورة خاصة، ولا بد إذن من عرض هذه الأسباب بترتيبها: أولاً: الأسباب التاريخية: ينبغي أن ندرك أن التطور الثقافي في العالم الإسلامي يمر برحلة خطيرة، إذ تتلقى النهضة الإسلامية أفكارها واتجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية، وخاصة من طريق مصر. هذه الأفكار الفنية لا تقتصر على أشياء الحياة الفكرية الجديدة التي يتعودها الشباب المسلم شيئاً فشيئاً، بل إنها تمس أيضاً وبطريقة غامضة، ما يتصل بالفكر وما يتصل بالنفس؛ وفي كلمة واحدة: ما يتصل بالحياة الروحية. وإنه لمما يثير العجب أن نرى كثيراً من الشباب المسلم المثقف يتلقون اليوم عناصر ثقافة تتصل بمعتقداتهم الدينية، وأحيانا بدوافعهم الروحية نفسها، من خلال كتابات المتخصصين الأوربيين. إن الدراسات الإسلامية التي تظهر في أوربا بأقلام كبار المستشرقين واقع لا جدال فيه، ولكن هل نتصور المكانة التي يحتلها هذا الواقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية؟ إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين قد بلغت في الواقع درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلاً على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالماً فرنسياً. وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا عدد رسالات الدكتوراه، وطبيعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كل عام إلى جامعة باريس وحدها، وفي هذه الرسالات كلها يصرون - وهم أساتذة الثقافة العربية في الغد وباعثو نهضة الإسلام- يصرون كما أوجبوا على أنفسهم، على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذهم الغربيون.

وعن هذا الطريق أوغل الاستسراق في الحياة العقلية في البلاد الإسلامية، محدداً بذلك اتجاهها التاريخي إلى درجة كبيرة. تلكم هي الأزمة الخطيرة التي تمر بها ثقافتنا الآن، مثيرة هنا وهناك صدى مناظرات مدوية، كما حدث في مصر بين الدكتور زكي مبارك والدكتور طه حسين، فقد عبرت مناظرتهما في أنشودة أدبية تهزها الحماسة عن المأساة الحديثة للفكر الإسلامي. ولكن لهذه الأزمة العامة مظهراً يهم موضوع دراستنا هذه، وأعني به تأثير دراسات المستشرقين على الفكر الديني لدى شبابنا الجامعي، الشباب الذي يتجه إلى المصادر الغربية، حتى فيما يخص معارفه الإسلامية الشخصية، سواء أكان هذا الاتجاه ناشئاً عن افتقار مكتباتنا أم لمجرد التجانس والقرابة العقلية. لقد نضبت فعلاً المصادر المحلية من كنوزها الثقافية، مولية وجهها شطر المكتبات الأهلية في أوربا، والحق أن مصر قد بذلت جهداً عظيهاً كيما تضع في متناول الفكر الإسلامي أدوات جديدة للعمل وذلك بما أتيح لها من مطابع حديثة، وعمل جاد اضطلع به شبابها الفتي المتعلم. ولكن هذا الجهد نفسه يعيش في كنف الدهاء الإداري الموروث من عهد الاستعمار. وأياً ما كان الأمر، فإنما الشباب المسلم المثقف في بعض ديار الإسلام يرى نفسه مضطراً إلى أن يلجأ إلى مصادر المؤلفين الأجانب خضوعاً لمقتضيات عقلية جديدة، ولعله يقدر إلى حد كبير منهجها الوضعي الديكارتي، حتى إننا نجد قضاة وشيوخاً معممين يتذوقون فيها رشاقتها الهندسية. وهذا كله لا غبار عليه لو اقتصر الاستشراق بمناهجه على الموضوع العلمي، ولكن الهوى السياسي الديني كشف عن نفسه أحياناً بكل أسف في تآليف هؤلاء المتخصصين الأوربيين في الدراسات الإسلامية، على الرغم من أنها تدعو إلى الإعجاب حقاً.

فلم يكن الأب (لامانس R,P,Lamance) المثل الفريد للمستشرق الطاعن على الإسلام ورجاله، والحالة الوحيدة التي يمكن أن نلحظ فيها العمل الصامت لتقو يض دعائم الإسلام، فقد كان لهذا الرجل (الشاطر) على الأقل، فضل في الكشف عن بغضه الشديد للقرآن، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن العمل في ظل هذا التعصب الصاخب خير من تلك الميكيافيلية الصامتة المستهجنة التي اتبعها مستشرقون آخرون، متسترين بستار العلم. ومن العجيب أن نذكر ما تتمتع به هذه الأفكار الحمقاء من مجاملة، ولا سيما في مصر عندما تصدرها جامعات الغرب، وأصدق مثال على ذلك بلا جدال، الفرض الذي وضعه المستشرق الإنجليزي (مرجليوث) عن (الشعر الجاهلي)، فقد نشر هذا الفرض في تموز عام 1925م في إحدى المجلات الاستشراقية؛ وفي خلال عام 1926م نشر (طه حسين) كتابه المشهور (في الشعر الجاهلي)، فهذا التسلسل التاريخي معبر تماماً عن تبعية أفكار بعض قادة الثقافة العربية الحديثة للأساتذة الغر بيين (1). وربما لم يكن فرض (مرجليوث) ليحتوي على شيء خاص غير عادي لو أنه حين نشر لم يصادف ذلك الترحيب الحار من المجلات المستعربة، ومن بعض الرسالات التي تقدم بها دكاترة عرب محدثون، حتى لقد كسب هذا الفرض قيمة (المقياس الثابت) في دراسة الدكتور (صباغ) عن (المجاز في القرآن)، فقد رفض هذا الدكتور رفضاً مقصوداً مغرضاً الاعتراف بالشعر الجاهلي بوصفه حقيقة موضوعية في تاريخ الأدب العربي.

_ (1) ذكرنا هنا فرض (مرجليوث) لكي نبرز أمام القارئ المسلم ضرورة تطبيق منهج تحليلي جديد في تفسير القرآن، ويستطيع القارئ أن يدرك قيمة هذا المنهج القائم على دراسة الظواهر ( La Phénoménologie) وعلى طرق التحليل النفسي، وسيدرك أيضا أننا لا ندرس أراء (مرجليوث) أو من تتلمذ عليه مثل (طه حسين). وإنما نريد به دراسة (الظاهرة القرآنية).

فالمشكلة بوضعها الراهن إذن تتجاوز نطاق الأدب والتاريخ، وتهم مباشرة منهج التفسير القديم كله، ذلك المنهج القائم على الموازنة الأسلوبية معتمداً على الشعر الجاهلي بوصفه حقيقة لا تقبل الجدل. وعلى أية حال، فقد كان من الممكن أن تثور هذه المشكلة تبعاً للتطور الجديد في الفكر الإسلامي، وإنما بصورة أقل ثورية لأن ضرورات التطور تقضي بتعديل منهج التفسير القديم تعديلاً، يناسب في حكمة وروية مقتضيات الفكر الحديث. ولكن يخيل إلينا أن (مرجليوث) أراد بفرضه أن يفرض على المشكلة تطوراً ثورياً، حين أدخل في الوقت المناسب ما يشبه (الديناميت) الذي قد ينسف كل مناهج التفسير القديم. لقد قام إعجاز القرآن حتى الآن على البرهان الظاهر على سمو كلام الله فوق كلام البشر، وكان لجوء التفسير إلى الدراسة الأسلوبية لكي يضع لإعجاز القرآن أساساً عقلياً ضرورياًت فلو أننا طبقنا نتائج فرض (مرجليوث) كما فعل الدكتور (صباغ) لانهار ذلك الأساس. ومن هنا توضع مشكلة التفسير في صورة خطيرة بالنسبة لعقيدة المسلم، أعني بالنسبة إلى إعجاز القرآن في نظر هذا المسلم. وربما لم يكن التطور العقلي ليقصر عن دفع شبابنا الجامعي إلى ملاحظة تقادم القياس القديم إن آجلاً أو عاجلاً، ذلك القياس الذي كان يقدم حتى ذلك الحين الدليل القاطع على المصدر الغيبي للقرآن. أما بالنسبة للعقل ذي الصبغة الديكارتية فأية قيمة تبقى لبرهان يبدو منذئذ وقد فقد موضوعيته، وأصبح ذاتياً محضاً. وهذا الموضوع لا يتصل ببيان القرآن الذي بقي على ما هو عليه حين نزوله، ولكن بوضع المسلم نفسه. والحق أنه لا يوجد مسلم وخاصة في البلاد غير العربية، يمكنه أن يوازن موضوعياً بين آية قرآنية، وفقرة موزونة أو مقفاة من أدب العصر الجاهلي، فمنذ وقت طويل لم نعد نملك في أذواقنا عبقرية اللغة العربية، ليمكننا أن نستنبط

من موازنة أدبية نتيجة عادلة حكيمة، ومنذ وقت طويل أيضاً تكتفي عقائدنا في هذا الباب بالتقليد الذي لا يتفق وعقول المتعلقين بالموضوعية. فمشكلة التفسير توضع إذن في ضوء جديد، وربما نظر إليها المصريون المحدثون في هذا الضوء الجديد. ولكن يبدو أن جهود هؤلاء العلماء على الرغم من أنها لا تغفل الجانب الاجتماعي في علم التفسير لم تحدد منهجها الكامل، فالتفسير الكبير الذي ألفه الشيخ (طنطاوي جوهري) إنتاج علمي أشبه بدائرة معارف، ولا ينطوي على أقل اهتمام بتحديد منهج، أما تفسير الشيخ (رشيد رضا) الذي اتبع فيه إمامه الشيخ (محمد عبده) فلم يضع هو الآخر هذا المنهج، فقد كان همه أن يخلع على المنهج القديم صبغة عقل جديد. ومع أنه لم يعدل طريقة التفسير القديم تعديلاً جوهرياً، فإنه قد خلق في الصفوة المسلمة التي تعشق التجديد الأدبي اهتماماً بالنقاش الديني. ومع ذلك فمشكلة التفسير تظل خطيرة بالنسبة لاعتقاد الفرد الذي شكلته مدرسة ديكارت من جهة، وبالنسبة لمجموع الأفكار الدارجة التي هي أساس الثقافة الشعبية من جهة أخرى. ومن المعلوم أن كل مجتمع يحتوي مشكلة أفكار دارجة محرك الجماهير، كما يحتوي مشكلة أفكار علمية تخص المثقفين، وكما أن هذه تحدد لدى القادة والعلماء حلولاً نظرية لبعض المشكلات، فإن تلك تحدد السلوك العملي للجماعات إزاء هذه المشاكل التي تصادفهم في الحياة، ففي العالم الإسلامي توجد الآن طبقة مثقفة مقتنعة بحركة الأرض، ولكن هناك جمهوراً كبيراً من الدراويش، وشعباً من الجهال من كل نوع يصر على اعتقاده ((بأن الأرض ساكنة تحملها العناية على قرن ثور)). وهذه الفكرة الدارجة قد تؤثر في توجيه التاريخ أكثر من الفكرة العلمية، لأنها تستند إلى خرافة مفسر غير موفق يرى الأرض على قرن ثور. ولنأخذ على ذلك مثلاً: (البوصلة ومقياس الزاوية)، فعلى الرغم من أنهما من

إنتاج أفكار المسلمين الفنية، فإن العالم الإسلامي لم يستخدمهما مثلاً في اكتشاف أمريكا، لأنه كان مشلولاً آنذاك عن التقدم العقلي والاجماعي بأفكار شعبية ميتة. أليست هذه هي المأساة التي أراد الغزالي أن يعبر عنها في بيته المشهور: غَزَلْتُ لَهُمْ غَزْلاً رَقِيقًا فَلَمْ أَجِدْ ... لِغَزْلِيَ نَسَّاجًا فَكَسَّرْتُ مِغْزَلِي إن مشكلة التفسير القرآني على أية حال هي مشكلة العقيدة الدينية لدى التعلم، كما أنها مشكلة الأفكار الدارجة لدى رجل الشارع. ومن هاتين الوجهتين ينبغي أن يعدل منهج التفسير في ضوء التجربة التاريخية التي مر بها العالم الإسلامي. وبالتالي فإذا كانت هذه الأسباب التي قدمناها تدل على ضرورة هذا التعديل فهناك أسباب أخرى تدل على محتواه، أعني على صورة المنهج الذي يجب أن نسلكه في مشكلة الإعجاز. ثانياً: الأسباب العائدة إلى المنهج: ذكرنا فيما تقدم من هذا المدخل الأسباب التي دعت إلى هذه الدراسة، نظراً لما حدث في العالم الإسلامي من تطورات اجتماعية وثقافية، تؤثر في موقف المسلم المثقف إزاء الإسلام بصورة عامة. وينبغب الآن أن نذكر الأسباب التي حددت المنهج المتبع في هذه الدراسة، نظراً إلى إدراك هذا المسلم للقرآن بوصفه كتاباً منزلاً على وجه الخصوص، ولأنه لا يمكن فصل هذه الأسباب عن تاريخ الأديان السماوية بصورة عامة. إننا نجد هذه الصورة في الحديث الذي أورده أخي الأستاذ شاكر في مقدمته حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إلي فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة))، يجب إذن أن نحدد الإعجاز في القرآن بالنظر إلى مفهوم الإعجاز في الأديان عامة. وإذن لابد من تحديد هذه الكلمة لغة واصطلاحاً وفي حدود التاريخ، لأن

عنصر الزمن ذو دخل في هذه القضية إذا ما اعتبرناها من دين إلى آخر، أعني في اتجاه تطورها. أهل اللغة يرون أن الإعجاز هو الإيقاع في العجز. وأهل الاصطلاح يرون أن الإعجاز هو الحجة التي يقدمها القرآن إلى خصومه من المشركين ليعجزهم بها. فأما حين نريد تحديد هذا المصطلح في حدود التاريخ أي في تطور إدراك البشر لـ (حجة) الدين، وإدراك المسلم لـ (حجة) الإسلام خاصة، فلابد من مراجعة القضية في ضوء تاريخ الأديان. وهذا هو الإعجاز من نواحيه الثلاث. أما الآيات التي تدل عليه في القرآن، بل تلفت النظر إليه متعمدة، فهي كثيرة مثل قوله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء17/ 88]. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود 13/ 11 و 14]. وقوله جل شأنه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة 23/ 2 و 24]. ويجب أن نلاحظ أن هذه الآيات الثلاث لم يسقها القرآن لتنشئ الحجة، وإنما جاءت إعلاناً هنا، وإشهاراً لوجودها في سائر القرآن. كيم تؤتي تأثيرها في العقول المتربصة، وتنتج أثرها في القلوب التي لا زالت في أكنتها. فإلى أي مدى بلغ هذا التأثير في الوسط الجاهلي؟

إن لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاقة، طبقاً لعبقريته ومزاجه. فالفراعنة مثلاً كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيهة؛ تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم، مثل الأب (مورو) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصيم الهرم الأكبر، وما يتضن من نظريات هندسية غريبة، وخصائص رياضية وميكانيكية عجيبة. كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال، على ما أبدعه فن (فيدياس)، وبآيات المنطق والحكمة على ما جادت به عبقرية (سقراط). أما العرب في الجاهلية، فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى، وإنما كان العربي يفتن في استخدام لغته، فينحت منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً مما كان ينحته (فيدياس) في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليونار دوفانسي) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى. فالشعر العربي كما قال أخي الأستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب: ((كان حين أنزل الله القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - نوراً يضيء ظمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان، قبل أن يكونوا عبدة الأوثان، وقد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم)). هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن، فكان لإعجازه أن ينفذ إلى الأرواح- بصفة عامة في زمن النزول- على هذا السبيل، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق بياني. ثم تغيرت هذه الظروف مع تطورات التاريخ الإسلامي، وفاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية والعهد العباسي. فصار إدراك جانب الإعجاز في

القرآن بالمعنى الذي حددناه- لغة واصطلاحاً- من طريق التذوق العلمي، أكثر من أن يكون من طريق الذوق الفطري. وهذا يعني أن الإعجاز كما أدركته العرب وقت النزول، أصبح من أختصاص طائفة قليلة من المسلمين، بيدها وسائل التذوق العلمي. ومن الممكن أن نتتبع هذا التطور في مرحلتيه في مراجع التاريخ الإسلامي: 1 - فمن ذلك أن السيرة تروي لنا بعض المواقف التاريخية، التي يظهر فيها أثر الإعجاز على الذوق الفطري عند العرب في الجاهلية، ويظهر ذلك في صورتين: أولاهما: إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما تأثر بآيات سمعها من أخته، أو قرأها في صحيفتها. وثانيتهما: حكم الوليد بن المغيرة حين يقول في القرآن ((والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة)). وهنا نرى الوليد يقف على قيد شبر من الإيمان، وقد هزه بيان القرآن، ولكن ما كان للحجة أن تغير أمراً أراده الله، فترى الوليد ينتكس، ويختم كلامه منكراً صدق الرسالة بقوله: " وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر جاء يفرق بين المرء وأبيه .. الخ .. ". وهذا هو صدى الإعجاز في فطرة العرب في صورتين مختلفتين. حتى إذا تقدم الزمن وتغيرت الظروف الاجمتاعية، وتقدمت العلوم، صار الإعجاز موضوع دراسة قائم بذاته، فكتب فيه أئمة البيان، من أمثال الجاحظ في كتابه (نظم القرآن) (وعبد القاهر) صاحب (دلائل الإعجاز). ومن هذا الأخير نستعير نبذة لتوضيح المقام والمقال؛ نستعيرها على سبيل

المثال، من تعليق له على قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ... } [مريم 19/ 5]. يقول معلقاً: ((إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من طريق العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته، ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجباً سواها. هكذا ترى الأمر في كلامهم، وليس الأمر على ذلك ... )). ولا لزوم لذكر النص بأكله، وإنما أوردته فقط لأبين مباشرة عجزي عن إدراك (الإعجاز) من هذا الوجه، أي بوسائل التذوق العلمي، بعد أن اعترفت بعجزي عن إدراكه من طريق الذوق الفطري. وهكذا أراني حيران، فاقد الحيلة والوسيلة في قضية هي أمس القضايا بالنسبة لي بصفتي مسلماً. وهنا تواجهنا مشكلة (الإعجاز) في صورتها الجديدة بالنسبة لهذا المسلم، أعني بالنسبة لأغلبية المسلمين المثقفين ثقافة أجنبية، بل ربما بالنسبة لذوي الثقافة التقليدية، في ظروفهم الثقافية والنفسية الخاصة، فلابد إذن من أعادة النظر في القضية في نطاف الظروف الجديدة التي يمر بها المسلم اليوم، مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة والروح. وعلى الرغم مِما يبدو في القضية من تعقد، بسبب موقفنا التقليدي إزاءها، فإني أعتقد أن مفتاحها موجود في قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف 46/ 9]. فإذا اعتبرنا هذه الآية على أنها حجة يقدمها القرآن للنبي كي يستخدمها في جداله مع المشركين، فلا بد أن نتأمل محتواها المنطقي من ناحيتيها: فهي تحمل، أولاً، إشارة خفية إلى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، أي أن سوابقه في سلسلة معينة تدعم حقيقته بوصفه (ظاهرة

بالمعنى الذي يسبغه التحديد العلمي على هذه الكلمة: فالظاهرة هي: ((الحدث الذي يتكرر في الظروف نفسها، مع النتائج نفسها)). وهي تحمل في مدلولها، ثانياً، ربطاً واضحاً بين الرسل والرسالات خلال العصور، وأن الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات. ومن هذا نستخلص أمرين: 1 - أنه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات. 2 - كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، على قاعدة أن ((حكم العام ينطبق على الخاص قياساً، وحكم الخاص ينطبق على العام استنباطاً)). ولا مانع إذن من أن نعيد النظر في معنى (الإعجاز) في ضوء منطق الآية الكريمة. وحاصل هذا أننا إذا عددنا الأشياء في حدود الحدث المتكرر، أي في حدود الظاهرة، فالإعجاز هو: 1 - بالنسبة إلى شخص الرسول: الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها. 2 - وهو بالنسبة إلى الدين: وسيلة من وسائل تبليغه. وهذان المعنيان للإعجاز يضفيان على مفهومه صفات معينة: أولاً: أن الإعجاز- بوصفه (حجة) لابد أن يكون في مستوى إدراك الجميع، وإلا فاتت فائدته، إذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق إدراك الخصم، فهو ينكرها عن حسن نية أحياناً. ثانياً: ومن حيث كونه وسيلة لتبليغ دين: أن يكون فوق طاقة الجميع.

ثالثاً: ومن حيث الزمن: أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة إليه. وهذه الصفة الثالثة تحدد نوع صلته بالدين، الصلة التي تختلف من دين إلى آخر، باختلاف ضرورات التبليغ كما سنبين ذلك. فهذا هو القياس العام الذي نراه ينطبق على معنى الإعجاز، في كل الظروف المحتملة بالنسبة إلى الأديان المنزلة. فإذا قسنا به في نطاق رسالة موسى عليه السلام، مثلاً، نرى أن الله اختار لهذا الرسول معجزتي اليد والعصا، وإذا تأملناهما وجدناهما ((بوصفهما حجة)) يدعم الله بها نبيه- تتصفان بأنهما: 1 - ليستا من مستوى العلم الفرعوني الذي كان من اختصاص أشخاص معدودين، يكونون هيئة الكهنوت، بل كانت المعجزة في صورتيهما كلتيهما، من مستوى السحر الذي يقع أثره في إدراك الجميع عن طريق المعاينة الحسية، دون إجهاد فكر. 2 - هاتان المعجزتان تتصلان بتاريخ الدين الموسوي لا بجوهره، إذ ليس لليد أو العصا صلة بمعاني هذا الدين ولا بتشريعه، فهما على هذا مجرد توابع للدين، لا من صفاته اللازمة له. 3 - ودلالة هاتين المعجزتين على صحة الدين محدودة بزمن معين، إذ لا نتصور مفعول اليد والعصا (حجة) إلا في الجيل الذي شاهدهما، أو الجيل الذي بلغته تلك الشهادة بالتواتر من التابعين وتابع التابعين، أي أن مفعوله لا يكون إلا في زمن محدد، لحكمة أرادها الله. ولو فكرنا في هذه الحكمة لوجدنا أنها تتفق مع حقائق نفسية، وحقائق تاريخية سجلها الواقع فعلاً، هي:

أولاً: أن القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى- أي اليهود- يفقدون، لأسباب نفسية لا سبيل لشرحها هنا، نزعة التبليغ، فلا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم إلى غيرهم من الأمم، أي: الأميين- كما يقولون- حتى إننا إذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا: إن (الإعجاز) قد ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة إليه. ثانياً: إن مشيئة الله قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى، وأتى الدين الجديد لينسخ الدين السابق، فينسخ طبعاً جانب الإعجاز فيه، وتزول الحجة بزوال ضرورتها التاريخية. ثم أتى عيسى بالدين الجديد، وبما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه، أي بما يتطلب من حجة، فأتى بإعجازه الخاص، بالمعنى المحدد لغة واصطلاحاً كما سبق، فكان لعيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. ولسنا بحاجة أن نكرر بالنسبة إلى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة إلى خصائص (الإعجاز) في الدين السابق، لأن القضية تتعلق هنا وهناك بالتركيب النفسي الذي عليه الإنسان، من جهة أنه إنسان يدرك الأشياء بعقله، مع ما في عقله من عجز عن إدراك حقيقة الدين مباشرة إن لم يكن هنا حجة خاصة، تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة (إعجاز). فالأسباب تتكرر، وإنما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية والاجتماعية حول الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة اليونانية والرومانية. ولكن دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها، للأسباب نفسها التي ألغت جانب الإعجاز في دين موسى، لأنه يأتي بعد عيس رسول جديد ودين جديد يلغيان الدين السابق، دين عيسى عليه السلام، فيلغي ضرورة التدليل على صحة الإنجيل.

وهكذا تأتي رسالة الرسول الأمين، ولكنها تتسم بصفة خاصة تميزها عما سبقها من الرسالات، إذ أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة البعث. ويأتي محمد (خاتم الأنبياء) كما ينوه بذلك القرآن، ويشهد به مرور الزمن منذ أربعة عشر قرناً. وما كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه، وفي نوع إعجازه على وجه الخصوص، فإن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه، سواء من الناحية النفسية، لأن كل مسلم- بعكس اليهودي- يحمل في نفسه (مركب التبليغ)، أم من الناحية التاريخية لأن الدين الجديد- الإسلام- سيكون دين آخر الزمن، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي آخر، بل لا يأتي دين بعده بصورة مطلقة كما تشهد بذلك القرون، حتى إن حاجة الإسلام إلى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له، من جيل إلى جيل، ومن جنس إلى جنس، لا يلغيها شيء في التاريخ، وهذا يعني أن هذه الوسائل يجب ألا تكون- مثل الأديان الأخرى- مجرد توابع يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ، مثل اليد عند موسى أو عصاه التي لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم، كما بقيت عصا (توت عنخ آمون) المذهبية. وعليه يجب أن يكون (إعجاز) القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال، وهي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر رضي الله تعالى عنه أو الوليد، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده. ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وإمكانيات عالم اللغة في العصر العباسي، وعلى الرغم من هذا فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب (الإعجاز) لأنه ليس من توابعه بل من جوهره؛ وإنما أصبح المسلم مضطراً إلى أن يتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى، فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي، أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرقاً للتحليل الباطن، كما حاولنا أن نطبقها في هذا الكتاب.

وإذا كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم، الذي حاول تعقيد عقيدته على أساس إدراك شخصي لقيمة القرآن بوصفه كتاباً منزلاً، فإنها أكثر إلحاحاً بالنسبة لغير المسلم الذي يتناول القرآن بوصفه موضوع دراسة أو مطالعة. فهذه في مجملها الأسباب التي دعتنا إلى تطبيق التحليل النفسي خاصة لدراسة القرآن بوصفه ظاهرة. بيد أن تنفيذ هذه المهمة قد أظهر نقائص جهازنا الفني دونما تواضع، بل عن معرفة تامة بالقضية التي نعدّ تنفيذها مجرد إرشاد لما سيتلوها من دراسات، نحتاج للقيام بها أن نحشد وسائلنا الفنية ووثائقنا التي لم نستطع بكل أسف أن نجمعها للقيام بهذه الدراسة. ومن المفيد هنا أن نذكر كم سيكون مفسر الغد بحاجة إلى معرفة لغوية وأثرية واسعة، فإن عليه أن يتتبع الترجمة اليونانية السبعينية للكتاب المقدس، والترجمة اللاتينية الأولى من خلال الوثائق العبرية، وبصورة أعم عليه أن يتتبع جميع الوثائق السريانية والآرامية ليدرس مشكلة الكتب المقدسة. هذه مهمة جليلة لا يمكننا الشروع فيها، على الرغم من رغبتنا الحارة في تحقيق هذا الأمل والله يوفقنا. مصر الجديدة 1/ 11/ 1961 ... مالك بن نبي

الظاهرة الدينية

الظَّاهِرَةُ الدِّينِيَّةُ كما أوغل المرء في الماضي التاريخي للإنسان، في الأحقاب الزاهرة لحضارته، أو في المراحل البدائية لتطوره الاجتماعي، وجد سطوراً من الفكرة الدينية. ولقد أظهر علم الآثار دائماً- من بين الاطلال التي كشف عنها- بقايا آثار خصصها الإنسان القديم لشعائره الدينية، أياً كانت تلك الشعائر. ولقد سارت هندسة البناء من كهوف العبادة في العصر الحجري، إلى عهد المعابد الفخمة، جنباً إلى جنب مع الفكرة الدينية التي طبعت قوانين الإنسان بل علومه، فولدت الحضارات في ظل المعابد كمعبد سليمان أو الكعبة. من هنالك كانت تشرق هذه الحضارات لكي تنير العالم، وتزدهر في جامعاته ومعامله، بل لكي تجلي المناقشات السياسية في برلماناته. فقوانين الأمم الحديثة لاهوتية في أساسها، أما ما يطلقون عليه قانونهم المدني فإنه ديني في جوهره، ولا سيما في فرنسا فقد اشتق من الشريعة الإسلامية (1). وعوائد الشعوب وتقاليدها تتشكل بصورة يمليها اهتمام ميتافيزيقي يدفع

_ (1) في أثناء حملة نابليون على مصر تعرف على الشريعة الإسلامية، وهذا القول لا يحتاج إلى دليل، وهو ليس سوى تفصيل على هامش الفكرة التي نتفق فيها بصفة عامة مع علماء الاجتماع، ومع مؤرخي القانون. والقانون الروماني نفسه لا يشذ عن هذه القاعدة كما بينه الدكتور صوفي أبو طالب في كتابه (النظم الاجتماعية والقانونية [ص:128] وما بعدها) أما فيما يخص ملاحظتنا على قانون نابليون فإنا نحيل القارئ على كتاب (كريستيان شرفيس Christian Cherfils) الذي كتبه بعنوان (نابليون والإسلام).

أقل القرى الهمجية، التي تشيد كوخاً بسيطاً في مركزها، تتجه نحوه الحياة الروحية القبلية، وهي حياة تتفاوت في بدائيتها إلى حد كبير. وما التوتمية والأساطهير واللاهوت إلا حلول مقترحة للمشكلة نفسها التي تساور الضمير الإنساني كلما وجد نفسه مأخوذاً بلغز الأشياء وغاياتها النهائية. ومن جميع الضمائر ينطلق السؤال نفسه الذي يصوره في خشوع هذا المقطع من أغنية (الفيدا) الهندوسية: ((من يعرف هذه الأشياء؟ ... ومن يستطيع الحديث عنها؟)) ((من أين تأتي هذه الكائنات؟ ... وما حقيقة هذا الإبداع؟)) ((هل (هو) قدخلق الآلهة ... ولكن من يعرف كيف وجد الخالق (1)؟)) هل الذي يفصح عن نفسه هكذا ضمير يؤمن بتعدد الآلهة؟ ولماذا يلمح الضمير فيما وراء هياكل آلهته وجود من خلقها؟ وتردُّد المشكلة الغيبية- هكذا بانتظام- على الضمير الإنساني في جميع مراحل تطوره، هو في حد ذاته مشكلة أراد علم الاجتماع حلها حين وصف الإنسان بأنه في أصله (حيوان ديني). ومن هذا التعريف الموضوعي تنبع نتيجتان نظريتان مختلفتان: 1 - هل الإنسان (حيوان ديني) بشكل فطري غريزي، وبسبب استعداد أصيل في طبيعته؟ 2 - أو أنه اكتسب هذه الصفة إثر عارض ثقافي مفاجئ لدى مجموعة بشرية معينة، شمل مفعوله الإنسانية كلها، بنوع من الامتصاص النفسي؟

_ (1) من تقديم شعري للشاعر طاغور.

فهناك إذن نظريتان رئيسيتان متضادتان بصدد المشكلة التي تعرضها علينا الظاهرة الدينية. وسيكون من السذاجة طبعاً أن نزيل هذا التعارض الفلسفي بحل رياضي، كما أراد ذلك بعض مفكرينا المغرمين بالطريقة العلمية. ربما لأنهم تناسوا المبادئ الأولية للعلم الوضعي نفسه. ومع ذلك يجب ألا ننسى أن هندسة إقليدس ذاتها الموغلة في الدقة العلمية لا تعتمد إلا على فرض، لا على برهان رياضي. وإن الأمر لكذلك بالنسبة إلى جميع النظريات الهندسية التي نشأت بعد إقليدس. وأياً ما كان الأمر، فإن ما يطلب من أي مذهب- حين يضع مبدأه الأساسي- أن يكون دقيقاً متواثقاً مع نفسه، متوافقاً في جميع نتائجه. وهذه هي الطريقة العلمية الوحيدة للحكم على القيمة العقلية لأي مذهب في ذاته، وعلى قيمته بالنسبة لأي مذهب آخر. وليس التناقض في المسألتين اللتين قررناهما بوصفهما نتيجتين للظواهر الدينية، قائماً بين الدين والعلم على غرار ما يوحي به بعضهم، إذ أن العلم لم يبرهن على عدم وجود الله أو وجوده- كما نسلم بذلك مبدئياً- بل النزاع هنا بين دينين، بين الألوهية والمادية، بين الدين الذي يسلم بوجود الله! وذلك الذي (افترض) المادة!! والهدف من هذا الفصل هو الموازت بين هذين المذهبين الفلسفيين: ذلك الذي يعد الضمير الديني للإنسان ظاهرة أصلية في طبيعته، ظاهرة معترفاً بها بوصفها عاملاً أساسياً في كل حضارة ة والآخر الذي يعد الدين مجرد عارض تاريخي للثقافة الإنسانية، ومع ذلك فإن نتائج هذا الفصل ستعتمد على نتائج الفصول التالية، التي ستقدم نوعاً من البرهان اللاحق المدعم بما يسمى (الظاهرة

النبوية) و (الظاهرة القرآنية) التي تضع الدين في سجل الأحداث الكونية بجانب القوانين الطبيعية. وعلى ذلك فإن موازنة مذهبين، أحدهما مادي في جوهره، يرى أن كل شيء متوقف على المادة، والثاني غيبي (ميتافيزيقي) يعد المادة في ذاتها محددة محكومة، هذه الموازنة لا تكون قاطعة مقنعة إلا إذا اعتبرنا عناصرهما المتجانسة المتقابلة التي تكمن في فكرتهما عن الكون، والتكوين. وبناء على هذه النظرة يجب أن نبدأ في دراسة موازنة للمذهبين المذكورين. ***

المذهب المادي

الْمَذْهَبُ الْمَادِّيُّ من حيث المبدأ: المادة هي العلة الأولى لذاتها، وهي أيضاً نقطة البدء في ظواهر الطبيعة؛ وبديهي أنه لا يحق لنا أن نعد المادة شيئاً عرضياً (حادثاً)، إذ أنها حينئذ ستكون منبثقة عن بعض الأشياء، أي عن سبب خالق مستقل، وهذا يتنافى مع الفرض. وإذن بكل بساطة: هي موجودة، وهي أيضاً غير مخلوقة. وهكذا نتفق على أصل المادة مبدئياً، ونهتم فقط بتطورها (1) في حالاتها المتعاقبة بادئين من نقطة التسليم هذه. فيمكن القول: إن الخاصة الوحيدة للمادة في مبدأ الأمر هي أنها كانت (كماً) معيناً أو كتلة. وبناء عليه يجب أن نعد جميع الخواص الأخرى نتائج لهذه (الخاصة الوحيدة)، ولها وحدها. ويجب على الأخص أن نعد هذه المادة من حيث الأصل في حالة بساطة وتجانس تام، لأن كل تنوع في ذاتها يستتبع تدخل عوامل متنوعة بالضرورة، مما يتنافى مع المؤثر الوحيد، وهو خاصة (الكم). هذا الشرط يستتبع حالة مبدئية

_ (1) على الرغم من أن ملاحظاتنا عن تطور المادة المحتمل مفيدة من الناحية المنهجية، في عرض يتصل بالموازنة بين مذهبين متعارضين، يقوم كلاهما على أساس مناف للآخر: (الله أو المادة)، فهي ليست ملازمة لاستخلاص الفكرة الجوهرية في هذا الفصل. ويكفي القارئ الذي لم يتمرس بمسائل العلوم، أن يتابغ العرض ابتداء من العهد الحيوي (البيولوجي) في تطور المادة. أي من التطور الذي صورناه في حدود المعادلة: مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيميائية = مادة حية

لا يمكننا فيها أن نتصور المادة منظمة بأية طريقة، وإلا فإن التركيب الذري - الذي اكتشف العلم تنظيمه وتركيبه- يوحي بتدخل جزيئات نووية متنوعة منذ البدء، مما يتنافى أيضا مع شرط البساطة والتجانس التام. وبالتالي فإن المادة بالضرورة من حيث أصلها في حالة تحلل كلي وهي- كهربياً- متعادلة، أي لا توصف بأنها سالبة أو موجبة. فهي- مثلاً- (كمية) من (النترونات) لا توجد بينها في ذاتها سوى علاقة تجاذب، فتنظيمها الذري في المستقبل سيكون مرحلة لتطورها، وتطورها هو الذي يؤدي إلى إظهار الجزيئات النووية: (البوزيترون Positrons) ، و (الميزوترون Mesotrons) ، و (الألكترون Electrons) .. الخ .. والقوى الكهربية الاستاتيكية المقابلة. ومن غير أن نتسرع في الحكم على هذا التنوع الجزيئي، فإن هناك سؤالاً يفرض نفسه عن إمكان تكوين الذرة الأولى، وهو تكوين يمكن إدراكه بصعوبة، وهو أيضاً غريبا في نظر قانون (كولب Coulomb) الذي يحكم الظاهرة ضرورة. وفي الحق إنه لمن الصعب أن نتصور كيف تكونت النواة الأولى من أجزاء من النوع نفسه، وتسمى بالاسم نفسه، وتتنافر بفعل قانون الكهربا الأستاتيكية الأساسي. ومع ذلك فإننا سنسلم بإمكان ذلك، ولكن هل تبدأ دورة الاندماج بين الجزيئات بالنسبة للنواة الأولى في وقت واحد للعناصر الاثنين والتسعين (1) التي رتبها (ماندليف)؟ أم أن ذلك يحدث بالتتابع من عنصر لآخر؟ فإن كان هناك ما يسمى (بالاقتران الزمني) فإن عنصراً واحداً فقط يمكن أن يوجد

_ (1) بلغ عدد العناصر المكتشفة عنصرين ومائة عنصر (102)، وقد اشترك في اكتشاف العنصر الأخير العالم البريطاني الدكتور (ميلستبد). (المترجم)

طبيعياً بواسطة تدخل مؤثر واحد، أي حالة المادة في بساطتها وخلوها من التكهرب. ولكن ستبقى إحدى وتسعون حالة شاذة عن القاعدة، لا يمكن أن يوجدها المؤثر نفسه في الوقت نفسه. وعلى العكس من ذلك إذا كان هناك تتابع في خلق المادة لعناصر الطبيعة، فمن الواجب تفسير تكون هذه العناصر على أنه مجموعة من واحد وتسعين تحولاً عنصرياً، ابتداء من عنصر واحد أولي، وليكن (الإيدروجين). وهنا يمكن أن تحتل الظاهرة مكانها سواء أكان ذلك بواسطة سلسلة وحيدة: تخلق المادة الأولى العنصر الأول، بم تتوالد العناصر الباقية منه في سلسلة واحدة، أم كان بسلاسل متعددة: تخلق المادة الأولى العنصر الأول (الإيدروجين)، ومن هذا العنصر الأول تتولد عائلة من الأجسام البسيط ولتكن أربعة مثلاً، يتسلسل من كل منها مجموعة من العناصر الباقية والكل ناتج، عن عنصر أولي. ففي الحالة الأولى: تتطلب السلسلة الوحيدة واحداً وتسعين تحولاً عنصرياً محدداً؛ إن كل عنصر يتشكل في الوقت الذي تبقى فيه العناصر التي سبقته، وهي على ذلك تتعرض لإحدى وتسعين حالة من التعادل الطبيعي الكيماوي المختلف، الذي يتضن تدخل عامل مختلف أيضاً عن قانون الاندماج الأولي. ولكننا افترضنا أصلاً أن هذا القانون وحيد، وأنه مستقل عن الزمان وعن سائر العوامل الحرارية الديناميكية. فلدينا إذن سلسلة مكونة من واحد وتسعين تحولاً عنصرياً تتولد من العنصر الأول، وهذه السلسلة لم تحظ بتفسير طبقاً لقانون واحد. وعلى هذا ففي كلتا الحالتين لا يجد جدول (ماندليف) تفسيراً كافياً في نظر المبدأ الذي نسلم به، وهذا يثبت ضعف المذهب المادي. ثم يزيد هذا الضعف وضوحاً- في نظرنا- إذا نحن تتبعنا تطور المادة في

الحالة الثانية، فهي بعد أن أصبحت في حالة منظمة غير عضوية، ستصل إلى تحول عنصري حيوي، وستصبح كمية منها مادةً عضويةً حية هي (البروتوبلازم). وعندما تتطور هذه المادة بدورها خلال سلسلة حيوانية معينة تصبح بناء على تحول عنصري جديد مادة مفكرة، هي الإنسان. فعندنا معادلة (1) معينة هي: مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيمائية = مادة حية >> الإنسان وهذه المعادلة صحيحة طوال العهد الجيولوجي المطابق للعوامل أو المؤثرات الحرارية الديناميكية التي تبدو في الجزء الأول من معادلتنا (مؤثرات حرارية ديناميكية + عوامل كيمائية)، فإذا نحن سلّمنا جدلاً بمدة هذا العهد، وكذلك بمدة الدورة الحيوانية التي تنتقل بالمادة الحية من حالة عدم التشكل (للبروتوبلازم) إلى الحالة المنتظمة الفكرة للإنسان، فإن هناك بالضرورة عدداً من الأجيال مطابقاً للنسبة بين هاتين الفترتين، وعليه فإن الجيل الأول يكون قد سبق بالنسبة لما أعقبه بمدة طويلة معادلة لطول العصر الجيولوجي الذي تصح فيه شروط المعادلة. وفي نهاية ذلك السباق يكون الجيل الأول قد وعى حقيقة دنياه، والظواهر التي مرت عليه. وينبغي خصوصاً أن يكون الجيل السابق قد سجل في ذاكرته ظاهرة الأجيال التي تليه، ولكن الجيل الإنساني الحالي لم يسجل في مفكرته حدثاً

_ (1) هذه المعادلة يفرضها المبدأ الذي سلمنا به في هذا الفصل وهو ((أن المادة تخلق نفسها)) فهي صحيحة محتمة علمياً على حين تناقضها بعض نتائجها كما هو ظاهر من التحليل التالي.

كهذا، ولا نجد لديه إلا أثراً يتعلق بالجيل الآدمي الحاضر. فمن الضروري إذن أن نقر أن المعادلة البيولوجية المشار إليها لم تحدث سوى مرة واحدة، ومن أجل جيل وحيد فريد؛ وبعبارة أخرى: هنالك حتمية بيولوجية لا تستطيع العوامل المادية وحدها أن تبرهن عليها، وهذا يلفت انتباهنا إلى نقص في المذهب المادي، وهو نقص يثبت ضعف مبدئه الأساسي، وسيزيد هذا النقص في نظرنا إذا ما اعتبرنا أن المعادلة المذكورة لا تعطينا تفسيراً لظاهرة التوالد الحيواني. وهناك في الواقع مشكلة جديدة تخص وحدة النوع التي لا يمكن أن ترى في الفرد، وإنما في الزوج: الذكر والأنثى؛ ولذلك فإن النظرية المادية لا تقدم أي تسويغ لهذا الازدواج الذي يعد شرطاً لوظيفة التوالد الحيوانية. فإذا كان هناك حدث (بيولوجي) عرضي فيما يخص الرجل، فإن المشكلة تظل تواجهنا على الرغم من ذلك فيما يتعلق بالمرأة، إلا إذا قررنا حدثا مزدوجاً في الأصل، نتج عنه الزوج المتوالد الضروري لتناسل النوع الإنساني، وإذا نحن قررنا على الرغم من كل شيء هذا الحدث المزدوج للمادة، يكون من الصعب أن نقرر أن نتيجته كانت متسقة تماماً مع هدف وظيفة التناسل الواحدة المشتركة بين الذكر والأنثى. وعلى كل فإن حتمية المادة يمكن أن تصح إذا كانت تتحقق في صورة خنوثة زوجية لنوعين متماثلين مستقلين: نوع الرجل ونوع المرأة، وبهذا يوجد أيضاً بقية نقص تثير عدم التوافق في المبدأ. ومن وجهة النظر الآلية: من الثابت أن المادة تخضع لمبدأ (القصور الذاتي) خضوعاً تاماً، فالمادة الحية على هذا تعد استثناء من القاعدة: فإن الحيوان مزود بميزة تعديل وضعه بنفسه، وهنا يظهر أيضاً ضعف المذهب المادي. وهناك ظواهر أخرى لا تقل عن السابقة في إثارة الاهتمام بغرائب المذهب

المادي، ومن ذلك ظهور بقع في بشرة الزنوج، فهل يمكن أن يعزى هذا إلى تأقلم عضوي في بيئات يؤثر عامل الشمس فيها تأثيراً كبيراً؟ ومع ذلك ففي المستوى نفسه نجد البشرة البيضاء والصفراء أو النحاسية، فهل يمكن أن يعزى هذا إلى الغابة العذراء؟ وفي هذه الحالة يجب أن تتلون بشرة الإنسان في البرازيل مثلاً. وأخيراً ففي علم الفلك نصادف أيضاً غرائب غامضة في نطاق المذهب المادي، فقد كشف تحليل ألوان الطيف عام 1939م لعالم الطبيعة (هابل) اتجاه حركة النجوم السديمية الخارجية عن سمائنا بالنسبة لعالمنا، فإن هذه السديميات تبتعد عن كوكبنا، فيما عدا ستاً تقترب منه على عكس سالفاتها. وهكذا تحتمل المادة في مجموعها- بالنسبة لنا- تفسيرين متعارضين، فإذا وضح أحدهما في ضوء قانون أساسي معين، فإن معنى الآخر يظل معلقاً، وكل هذا الشذوذ الذي يتنافى مع الحتمية المادية المحضة- أساساً- يحتم إعادة النظر في بناء المذهب كله، فإن المبدأ الأساسي نفسه يبدو عاجزاً عن تزويدنا بنظرية متسقة عن الخلق وعن تطور المادة. ** *

المذهب الغيبي

الْمَذْهَبُ الْغَيْبِيُّ من الضروري هنا أن نفرض مبدأ متميزاً عن المادة، فالله خالق ومدبر للكون، وسبب أول ينبثق عنه كل موجود، وهذا هو مبدأ المذهب الجديد. وسيتولى هذا المبدأ بيان أصل المادة، وقد وجدناه غامضاً موغلاً في الإبهام في المذهب السابق: فهي مخلوقة بواسطة حتمية مستقلة عن جميع خواصها. وهذه الحتمية الغيبية (الميتافيزيقية) تسعفنا حين تعجز القوانين الطبيعية عن إعطاء تفسير واضح للظواهر. وبذلك ينتج عنها مذهب كامل متسق متجانس لا نقص فيه ولا تعارض، مما لزم المذهب المادي. وفي الوقت الذي يعبر فيه المذهب الغيبي عن المطالب الفلسفية للعقل، الذي يرمي إلى ربط الأشياء والظواهر ربطاً منطقياً في تأليف متسق، نجده ينصب علاوة على ذلك جسراً يتجاوز حدود المادة إلى مثال أعلى للكمال الروحي، إلى الهدف الأساسي الذي لم تكف الحضارة عن الاتجاه نحوه، فحلق المادة هنا ينتج من الأمر القاهر لإرادة عليا، تقول لكل شيء حسب كلمة سفر التكوين: (كن). وتطور هذه المادة سيكون طبقاً لأوامر إرادة، توزع التوازن والاتساق اللذين قد يلاحظ علم البشر قوانينهما الثابتة. ولكن بعض مراحل هذا التطور ستخفى على الملاحظات المألوفة لرجال العلم، دون أن ينطوي المذهب من أجل هذا على نقص ما، ففي هذه الحالات الاستثنائية نستعين بالحتمية الغيبية التي لا تعارض بينها وبين طبيعة المبدأ.

فحيثما يوجد نقص في المذهب السابق، يوجد تدخل سبب خاص خالق، عالم بخلقه، ومريد. ولقد نجهل مؤقتاً القانون الذي يسيطر على ظاهرة ما زالت تخفى علينا طريقة حدوثها، ومع ذلك فإن المذهب يظل منسجماً منطقياً مع مبدئه الأساسي، لأن مثل هذه الظاهرة يمكن تسويغها في التحليل النهائي بناء على حتمية مطلقة، فإرادة الله هي التي تتدخل هنا، بينما كانت الصدفة هي التي تتدخل هناك، تلك الصدفة التي تُعَدّ الإله القادر على كل شيء في المذهب المادي. ولا يغيبن عن نظرنا أن الأمر لا يتعلق هنا- كما سبقت الملاحظة- بالموازنة بين نوعين من العلم، بل بين عقيدتين: عقيدة تؤله المادة، وأخرى ترجع كل شيء إلى الله تعالى. وليس من نافلة القول أن نقرر أن عالماً كبيراً يستطيع أن يكون مؤمناً كبيراً، على حين أن مسكيناً جاهلاً يمكنه أن يكون جاحداً كبيراً أيضاً؛ والأمر هكذا غالباً. وعندما نصادف حالة عجيبة لعالم يقول إن القرد جد للإنسان، فيجب أن نفكر أيضاً في ذلك الوثني المتواضع على شاطئ نيجيريا، الذي يعتقد تماماً أنه قد انحدر من جَدٍ تمساح، فليس لدى كل من هذين الرجلين، العالم والبدائي، سوى فكرة غيبية يعبر عنها كل منهما بطريقته. إن عصور الاضطرابات الاجتماعية، والاختلال الروحي هي وحدها التي تخلق الصراع بين الدين والعلم. ولكن كما تواردت أحداث التاريخ، في روسيا مثلاً إبان الحرب الأخيرة، وفي فرنسا عقب ثورة 1789م، وجدنا أن آلهة العلم قد انهارت على نحو يدعو إلى الرثاء، لتفسح مجالاً للعلم وحده، ذلك الخادم المتواضع للتقدم الإنساني، ومع

ذلك فمنذ الاستكشافات الأخيرة لعلم الفلك فطن العلم إلى نطاقه المنتهي المحدود؛ وفيما وراء السديميات السحيقة في البعد، وراء ملايين السنين الضوئية، وربما ملياراتها، تمتد الهاوية التي لا قرار لها، إلى اللانهائية التي يستحيل الوصول إليها، أو حتى إدراكها بالنسبة للفكر العلمي، إذ لا يجد هذا التفكير موضوعه الخاص وهو: الكم والعلاقة والحالة. فأي كم؟ وأية علاقة؟ وأية حالة؟ كل هذه الأسئلة لا معنى لها خارج حدود المادة، والعلم نفسه لا معنى له وراء السديميات الأخيرة التي تقف على الحدود بين عالم الظواهر، واللانهاية اللامادية. وراء هذه الحدود يستطيع الفكر الدينى وحده أن يقول شيئاً واضحاً بيناً: (الله يعلم). ***

الحركة النبوية

الحركة النبوية

الحركة النبوية

الحركة النبويّة إن الدراسة الموجزة، لا تؤدي إلى فهم الظاهرة الدينية المعقدة، لأن لها مظاهر متنوعة ومتعددة في مختلف البيئات الإنسانية، ولقد قامت نظريات غريبة عن طبيعة هذه الظاهرة وتاريخها. فالمؤلفون المعاصرون يحاولون شرحها في ضوء تفسير تاريخي مجرد، تبعاً لمنهج (ديكارت) الذي يرجع كل شيء إلى معيار أرضي. كذلك قرر (شوريه) Shurré مؤلف كتاب (كبار الواصلين) Grands Initiés أن الفكرة الدينية ظلت سراً تحفظه صدور بعض أولئك الواصلين، يكشفه بعضهم لبعض، من جيل إلى جيل، بواسطة انكشاف باطني، تضل ذكراه مع ما يحتوي من سر ية في أعماق التاريخ. هذه الفكرة البسيطة تزيد في تعقيد موضوع سبق أن قررنا أنه معقد، وهم يدَّعون مع ذلك أنهم إنما أرادوا توضيح أركانه بهذا الفرض الخاطئ المضحك؛ وهو الفرض الذي يزعم حدوث انكشاف دوري للسر الديني، بواسطة جمعية سرية غامضة يرأسها بعض (اللاأمات) في أحد جبال التبت البعيدة!! ... ولم يعبأ (شوريه) في نظريته هذه بالتفسير التاريخي للسلسلة التي تربط مثلاً حدثين مختلفين تماماً، كالبوذية والإسلام، ولم يعبأ أيضاً بأن يعرض علينا في هذه الحالة القاسم المشترك الذي كان من المفروض أن يعكسه ضمير (بوذا) من ناحية، وضمير بدوي كمحمد - صلى الله عليه وسلم - من ناحية أخرى.

وإنه ليبدو حقاً أن تعقيد الظاهرة الدينية قد أضل الأفكار الديكارتية، وأننا ما زلنا- بلا شك- مزعزعين أمام المشكلة التي تشتمل على ربط أحداث متباينة، كمذهب وحدة الوجود والشرك والوحدانية في نطاق واحد. ولقد لاحظنا في الفصل السابق ضرورة وضع فرض هو التسليم بوجود (الله)، وسنبحث هنا واقعاً خاصاً هو (التوحيد) الذي قدم لنا برهانه الأسمى على ألسنة الأنبياء، وبذلك أصبح فيصلاً في مجموع الظاهرة الدينية. والواقع أن تتابع ديانات التوحيد دليل يمكن فحصه دائماً من الناحية الاعتقادية فحصاً يقوم على أساس النقد، ويتمثل هذا التتابع في ظهور النبوة وجميع المظاهر الأدبية والروحية التي تصحبها. ومنذ (إبراهيم) عليه السلام تتابع أفراد مدفوعون بقوة لا تقاوم، جاؤوا يخاطبون الناس باسم (حقيقة مطلقة) يقولون إنهم يعرفونها معرفة شخصية، وخاصة، بوسيلة سرية هي الوحي. ويقول هؤلاء الرجال إنهم مرسلون من (الله) ليبلغوا كلمته إلى البشر، هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يسمعوها مباشرة. وخصوصية هذا الوحي ومضونه، هما الأمارتان الميزتان المثبتتان لرسالة النبي. هذا إلى أنها هي السمة المميزة للنبوة، وهي الحقيقة الجوهرية في مذهب التوحيد وبرهانه الواقعي. ***

مبدأ النبوة

مبدأ النبوة إن مبدأ النبوة يعرض نفسه بفضل شاهده الوحيد- النبي- بوصفه ظاهرة موضوعية مستقلة عن الذات الإنسانية التي تعبر عنه. والمشكلة على وجه التحديد هي معرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بأشياء ذاتية محضة، أو بظاهرة موضوعية كالمغناطيسية مثلاً؛ إن وجود المغناطيسية ينكشف لنا بواسطة الإبرة الممغنطة التي تجسم لنا كماً وكيفاً الحقائق النوعية؛ لكننا لا نستطيع ملاحظة ظاهرة النبوة إلا من خلال شهادة النبي، وفي محتويات رسالته المتواترة المنزلة، فالأمر يتعلق إذن بمشكلة نفسية من ناحية وتاريخية من ناحية أخرى، ولنا أن نلاحظ أولاً وقبل كل شيء أن بعث نبي ما ليس حدثاً فرداً، ليكون غريباً نادراً، بل هو على العكس من ذلك ظاهرة مستمرة تتكرر بانتظام بين قطبين من التاريخ، منذ إبراهيم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. واستمرار ظاهرة تتكرر (1) بالكيفية نفسها، يعدّ شاهداً علمياً يمكن استخدامه لتقرير مبدأ وجودها؛ بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل، ومع طبيعة المبدأ. ومن المعلوم بناء على وجهة نظر (هيجل) - التي تعتمد على ملاحظة الظواهر- أننا إذا وجدنا حالة نبوية خاصة لا تفسر شيئاً ولا تثبته، فإن تكررها في ضل بعض الشروط يبرهن على الوجود العام للظاهرة بطريقة علمية، ويبقى علينا أن نبحث في ماهية هذا التكرار، لكي نستخلص من صفاته الخاصة القانون العام الذي يمكن أن يسيطر على الظاهرة في جملتها. فليس هناك من

_ (1) يتصل بهذا المعنى الآية الكريمة: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف 9/ 46].

سبب وجيه لكي نسلم مقدماً بالنبوة بالممعادلة الشخصية (1) للنبي، وهو يقرر أن الأمر يتعلق أو يمكن أن يتعلق بالأعصاب الثائرة، والخيال الشاطح، والفكر الذي أزاغته ظواهر ذاتية محض. إن حياة الأنبياء وتاريخهم يمنعاننا من أن نعدهم مؤمنين مندفعين دون تعقل وبكل بساطة، إلى الخوارق والمعجزات، أو أن نحكم بأنهم معتوهون بأصل خلقتهم، اختلت عقولهم وبصائرهم بنقائص مزمنة؛ فهم يمثلون- على العكس- الإنسان في أسمى حالات كماله البدني والخلقي والعقلي، وشهاداتهم الإجماعية تحظى في نظرنا بالثقة التي تستحقها. وإذن فمن الواجب في المقام الأول أن نلجأ إلى هذه الشهادة لكي نثبت القيمة التاريخية للوقائع التي نخضعها لنقدنا، ثم يبقى علينا أن نحلل مجموع هذه الوقائع في ضوء العقل المتحرر من ربقة الشك المطلق الذي لا هدف له. ولذا فسنحاول أن نبحث حالة النبي (أرمياء) الذي اخترناه من أجل الضمانات التاريخية، التي تخول كتابه وتاريخه الشخصي قيمة الحقيقة الموضوعية، والواقع أن البروفسور (مونتيه، Montet) قد توصل في دراسته للوثائق الدينية إلى تجريد الكتاب المقدس من كل صفات الصحة التاريخية، فيما عدا كتاب (أرمياء) (2)، ومع ذلك فنحن نريد أن نتحاشى مساوئ النقد الحديث للكتاب المقدس، الذي يبدو لنا أنه قد أخطأ في فهم طبيعة الموضوع بهذا التعميم المفرط للشك الديكارتي، والذي يؤدي غالباً إلى تفسير متعسف للحقائق النفسية التي هي الأساس في هذا الموضوع.

_ (1) المعادلة الشخصية هي مجموعة من الطاقات والإمكانيات الشخصية تكون (الأنا). (المترجم) (2) تضم الحركة النبوية الإسرائيلية سبعة عشر نبيا منهم أربعة أكابر هم: أشعياء وأرمياء وحزقيال ودانيال، وقد قيل لهم ذلك لأنهم ذوو أسفار أكبر من أسفار غيرهم. وقد وزعت نبوتهم على أربعة قرون بعثوا خلالها في أعقاب بعض (830 - 435 ق. م) وأولهم (يونى ويوئيل) (830 ق. م). وآخرم (ملاخى) (435 ق. م). ثم جاء بعده (يوحنا المعمدان) الذي ظهر على إثره المسيح عليه السلام. ((المترجم))

ادعاء النبوة

ادعاء النبوة إن التعميم الؤسف الذي وصفناه قد أدى إلى وضع (مبدأ النبوة) بين مجموعة ظواهر نفسية تدرس تحت اسم (الظواهر الباطنة) Phènomènes Pneumaiques، ويبدو لنا أن هذا التعميم منسوب إلى المصدر العبري خاصة، لأن النقد الحديث يستقي منه أسانيده عن الموضوع. هذه الأسانيد هي في الواقع الخطوطات الإسرائيلية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهي التي كانت مصدراً للمعلومات الرئيسية عن الحركة النبوية. على حين أن هذه الحقبة من التاريخ الإسرائيلي لم تكن فترة ارتقاء روحي، بل هي الأخرى فترة تدهور خلقي وديني، ناتج عن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وهذا التدهور هو على وجه التحديد موضوع دعوة الأنبياء منذ (عاموس) Amos ومعاصريه (ميخا) Michée و (هوشع) Osée الذين لم يأتوا ليعلنوا وعد البشارة والغفران، بل ليبلغوا وعيد العقوبة والبلاء. وتفسير ذلك من وجهة نظر التاريخ هو أنه حدث في ذلك العصر أمران هامان هما: هبوط درجة (رب العالمين) إلى مجرد إله قومي- من ناحية-، ودخول كثير من الشعائر والطقوس الآشورية الكلدانية في العبادة من ناحية أخرى، حتى أصبحت الشمس تتمتع بتقديس حار في بيت المقدس، فقد كان هناك (رجال يعبدون الشمس المشرقة، وفي أيديهم غصن، بالقرب من هيكل الرب نفسه) كما يقول مؤرخو تلك الفترة.

ولكن إذا كان المستوى الروحي قد انحط تبعاً لهذا التلفيق والتأميم لفكرة الإله الواحد، فإن النشاط الديني الذي التزمته طقوس العبد أو نمّته، كان يغذي في روح إسرئيل المتصوفة حمية واندفاعاً تمسك الإسرائيليون بمظاهرهما العامة على أنهما أجزاء مكلة للحركة الدينية. فقد تكاثر الكهان والعرافون وأهل الكشف في بيت المقدس، وكانوا موضع احترام الشعب أو خوفه، لما خصهم به من المقدرة الخارقة. ولا كان من الضروري إطلاق اسم على هؤلاء الذين يحظون بهذا الاحترام، فقد أطلق عليهم جميعاً اسم (الأنبياء) نظراً لعدم وجود مصطلح اشتقاقي مناسب لهم (1). ونحن نعرف في إفريقيا الشمالية مثالاً لتطور المفردة ذات المعنى الأصلي االخاص إلى مضمون عام، فإن لفظ (المرابط) كان يطلق في الأصل على عضو في إحدى جمعيات الأخوة الدينية العسكرية، الذي كان من مهمتهم السهر على حدود (دار الإسلام)، وما حدث لهذه اللفظة فيما بعد معروف (2). وعلى كل حال فإن الاستعمال الدارج لهذا اللفظ لم يقتصر على الاستعمال الشعبي، فقد كان له أيضاً حق التطرق إلى الأدب الديني في هذا العصر. وكان يطلق خاصة على الموظف الكهنوتي المكلف رسمياً بالتبشير في العهد.

_ (1) جاء في الحاشية على الجزء الثاني من الكتاب المقدس طبعة اليسوعيين صفحة 863 ((يطلق النبي عند اليهود على كل كاتب ملهم فيدخل في ذلك (موسى وصموئيل). أما في عرف الكنيسة فيراد به من صدق عليه وصف النبوة من جهة معناها الوضعي أي الإنباء اليقين بحوادث آتية لا يمكن أن يهتدى إليها بأسبابها ومقدهاتها بمجرد استدلال العقل)). (المترجم) (2) قصد بلفظ (مرابط) في التاريخ أحد معان ثلاثة على التوالي فهو في البداية كان المعنى المذكور ثم أطلق عنواناً على الدولة المعروفة في تاريخ المغرب والأندلس ثم أخيراً صار عنواناً على الدراويش أهل ((الزردة)) أي الولائم المعتادة في أذكار المتصوفة الآن. (المترجم)

وسيطلق لفظ (النبي) أيضاً على كاهن الإله (بعل)، كما يلاحظ ذلك في كتاب (يونان) أو يونس. وعندما جاء الأنبياء مثل (عاموس وأرمياء) ليقلبوا هذا المجتمع البدعي بصرخاتهم وتنبؤاتهم المروعة التي خلقت جواً مضطرباً، وأستحوذ على الجماهير لون من المحاكاة أو التقليد تبعاً للموقف الجديد، بدأ جميع (الأنبياء) في التنبؤ، كلٌّ من ناحيته، وبذلك نشأت حركة التنبؤات المزعومة، فوجدنا كلا الوجهين: رجل الدعوة الصادق ومدعي النبوة، يتطوران معاً في تاريخ هذه الحقبة التي منحت إقبالها أحياناً لنبي مدّعٍ هو (حنانيا)، بينما تصاممت عن الدعوة اليائسة المروعة للنبي (أرمياء). وعلى كل، فإن هذا العصر قد خلط بين شخصيتين متميزتين، وغالباً متخاصتين، وتمثلان تيارين مختلفين للفكر متعارضين غالباً. ولقد تجلى هذا الخلط في التعميمات المفرطة في الدراسات الحالية للظاهرة النبوية، وهي التعميمات التي تقحم الصفات الخاصة بالنبي في نموذج مطرد هو: (العراف). ومن خلال هذا النموذج يريد النقد الحديث أن يكشف حقيقة النبوة التي سبق أن اعتبرها ظاهرة ذاتية، وهو بذلك يعطل منذ البداية دراسة الظاهرة حين يؤكد (أن ما يراه العراف ويسمعه في حالات انجذابه وغيبوبته رهن بشخصيته، وربما يكون هذا ثمرة ناضجة في اللاشعور، من تأملاته ومن أحواله الدينية السابقة، ومن ميوله الداخلية المتعمقة في وجوده كله، التي تتجلى حينئذ أمام ضميره كأشياء تبدو له خارجة عنه). هذا النص يهدف بوضوح إلى جعل النبوة من المجال الذاتي للنبي، دون أن يهتم بشهادة هذا الأخير الذي يؤكد بكل قوة أنه يرى ويسمع موضوعه خارج مجاله الشخصي. ***

النبي

النبي لو أتيح لعلماء الطبيعة أن يحملوا قطعة من الحديد على الكلام عندما تكون متعرضة للتأثير المغناطيسي، لأسعدهم دون ريب أن يسألوها عن مجموعة من المعلومات الخاصة بحالتها الباطنة، بدلاً من أن تتحول معلوماتهم آخر الأمر- كما هو الواقع- إلى فروض لا يبرهن عليها الحساب بشكل قاطع. ومع ذلك فإن النبي (ذات) يمكن أن تحدثنا عن حالتها الداخلية، ويمكن أن تبرهن عليها: أولاً لاقتناعه وتحققه الشخصي، وثانياً من أجل ما يسمى بالاقتصاد الخارجي، أو السياسة الخارجية لرسالته. فإذا حدث أن جاءت نبوة فيجب أولاً أن تعد سبباً يثير الاضطراب في ذات إنسانية، ويدفعها دفعاً لا سبيل إلى مقاومته نحو رسالة ما، لا تتضح دوافعها وأهدافها بوصفها حقائق محددة لهذه الذات. ولهذا فإن معرفة النبي الظاهرة أساس لأية دراسة نقدية للموضوع، فيونس وأرمياء ومحمد عليه الصلاأة والسلاأم أفراد أرادوا أولاً أن يتملصوا طواعية من دعوة النبوة فقاوموا، ولكن دعوتهم استولت عليهم أخيراً، فمقاومتهم تدل على التعارض بين اختيارهم والحتمية التي تطوق إرادتهم، وتتسلط على ذواتهم، وفي هذه الدلائل قرينة قوية للنظرية الموضوعية عن الحركة النبوية. ***

أرمياء

أرمياء هذا هو أنصع مثال يمكن استخلاصه من الحركة النبوية الإسرائيلية ليعرض علينا الأفكار العامة عن النبوة، وعن نفسية النبي. ولقد سبق أن اتخذنا الصحة التاريخية المقررة لكتاب هذا النبي أحد بواعث اختيارنا لحالته. وهناك باعث آخر هو أننا نريد أن نعقد موازنة علمية بين النبوة وادعاء النبوة. ولقد سبق أن بيّنا مصير كلمة (النبي) في الآداب الدينية الإسرائيلية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. وإذن فإذا كان هناك مقياس يسمح بالتمييز بين نوعين من الفكرة الدينية في ذلك العصر متمثلين في أرمياء وحنانيا، فهو استمرار فكرة التوحيد خلال الحركة النبوية كلها، منذ (عاموس) إلى (أشعياء الثاني). ويتميز النبي الموحى إليه عن منافسه المحترف، بمقاومته العنيفة ضد الألوهية القومية، التي صارت لب العقيدة الشعبية، فجميع الاتجاهات الخلقية للنبي الموحى إليه قائمة على أساس الفكرة المتسلطة الملازمة: فكرة إله واحد عام، يريد النبي أن يثبت فرائضه الخاصة في شعائر قومه. ولم تكن آيات الوعيد المرعب، وإنذارات السيطرة الخارجية والتهديد بهدم المعبد، إلا توابع لهذه الفكرة على الرغم من أنها كانت أكثر إثارة لاهتمام الشعب، كما هي اليوم أكثر إثارة لاهمام النقد الحديث بكل أسف. وفي مقابل ذلك يقف مدعي النبوة موقف أحد الانتهازيين الذين يتبعون

التيار الشعبي، فهو بهذا لا أثر له أخلاقياً وليس ملهماً، بل إن موقفه تجاه عقائد عصره هو موقف المبالغة في التساهل تساهلاً يصل إلى درجة التملق والملاينة. ومع ذلك فإذا لم يكن هناك مجال للحديث بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الحركة النبوية بمعنى الكلمة في التاريخ الديني للإنسانية، فقد استمرت حركة ادعاء النبوة في الظهور في جميع العصور وفي كل مكان تقريباً. فهناك كثير من المنقذين في الهند، وهناك الأب الرباني في أمريكا قبل سنوات الحرب، كما ظهر (الباب) في فارس، فمتى ميزنا بين هاتين الوظيفتين: النبوة وادعاء النبوة، بناء على صفاتهما التاريخية ومبادئهما الفلسفية، فبديهي أن نميز بين العاملين اللذين يؤديانهما، وهما النبي ومدعي النبوة؛ فمهمة الأول في سماتها الخالصة: أن لها مبدأ وثيق الصلة بالأفكار العامة للحركة النبوية، ولها زمن يتناسب مع عرض هذا المبدأ وتبليغه، وهذه حالة (عاموس) الذي عاد يرعى كباشه في (تكوا) (1) في هدوء بعد تبليغ دعوته وتحذيراته المروعة. على حين لا يبشر مدعي النبوة بمبدأ شخصي بالمعنى الصحيح، بل يكتفي إما بأن يطنب في شرح رسالة النبي، وإما بأن يبشر بنوع من المعارضة في مقابل رسالة النبي: فعندما حمل أرمياء النير الرمزي، وبالغ في إنذاره بالتشاؤم، جاء حنانيا المتنبئ ليحطم هذا النير ويبشر بالتفاؤل، حتى أثّر على النبي المتشائم نفسه مؤقتاً؛ هذه الموازنة الموجزة تبين تياري الفكرة الدينية، والرجلين اللذين يعبران عنها، وهكذا نرى الأسباب التي توجب عدم الخلط بينهما. ...

_ (1) قرية اندثرت من قرى فلسطين.

الظاهرة النفسية عند أرمياء

الظاهرة النفسية عند أرمياء لقد قدم لنا (أرمياء) على الظاهرة النبوية شهادة من أقيم الشهادات وأصرحها، فقد أورد تفصيلاً وصفياً ذا أهية قصوى لسلوكه الخاص حيال الظاهرة، وأشركنا في تأملاته المرة أحياناً، تلك التأملات التي توحي بها إليه حالته، فقال: ((لقد صرت محور سخرية طيلة النهار، فالجميع يهزؤون بي، لأني كلما تكلمت وجدتني مضطراً لأن أصرخ، وأعلن الجبروت والخراب؛ لقد صارت كلمة الله بالنسبة لي مصدر عار واستهزاء مستمر، فإذا قلت: لم أعد أذكره، أو أتكلم باسمه، وجدت في قلي كالنار المضطرمة المستكنة في عظامي، فأحاول أن أطفئها، ولكني لا أستطيع)) (1). وإذن فـ (أرمياء) يرسم بطريقة ما الخطوط الداخلية لذاته، ونحن نجد في وصفه هذا ثلاثة عناصر مترتبة متميزة: أولها: الاحتراق العميق لمشاعره المضطربة، من جراء الاستهزاء الذي يلقاه. وثانيها: إرادته أن يتخلص من دعوته، بامتناع ناتج عن تأمل وإعمال فكر. وثالثها: عنصر ثابت يبدو أنه يطبع هذه الحالة النفسية كلها، ويطوق إرادة ذات النبي، وهو الذي يشير إليه ما يجده في قلبه (كالنار المضطرمة). هذا العنصر الأخير هو الذي نعده العنصر الجوهري في الحالة الداخلية للنبي،

_ (1) أنبياء بني إسرائيل ص 192 - 193 بالفرنسية لـ (أندريه لودز).

إذ هو يحدد بصفة نهائية سلوكه في المستقبل، وهذا السلوك يعد قطعاً جوهر حياة النبي. ولنا أن نعد هذا العنصر عاملاً دائماً مطلقاً عند النبي، فإن (أرمياء) كان يستطيع أن يعطينا سمات أخرى لذاته متمثلة في أحوال أخرى للضمير، ربما لا نصادف فيها عوامل (الحساسية) و (الميل إلى الامتناع)، وإنما نلقى (النار المضطرمة) نفسها مسهمة في عوامل نفسية جديدة، تحذف من السلوك الأساسي للنبي في النهاية. ولنأخذ على ذلك مثلاً: حينما جاء (حنانيا) (ليحطم الطوق الخشبي الذي كان في عنق النبي) قائلا: (هاك ما قال الله، وسأحطم هكذا نير ملك بابل) .... لقد أجابه (أرمياء) في براءة وحسن طوية مدفوعأ بمحض اختياره: (آمين .... حقق الله ما تقول). ثم لم يروه عدة أيام ينشر دعوته، ومع ذلك فإنه لم يلبث أن ظهر في الأماكن العامة وليس معه هذه المرة طوق خشب، بل طوق من حديد، إمارة على تصميمه القاطع النهائي على الاستمرار في دعوته العابسة. وأياً ما كانت الأسباب النفسية التي حتمت هذا التوقف المؤقت لنشاط النبي، فإنه مما له دلالته الكبرى أنه عاد أخيراً إلى رسالته. فالعنصر الدائم الذي وصفناه ينفي أخيراً ودائماً جميع العوامل النفسية عند النبي، ذلك العنصر الذي ينظم له نهائياً سلوكه في المستقبل. فهذا العامل له إذن بعض القهر بالنسبة لذات (أرمياء)، إذ هو ينتصر تماماً على مقاومته، فيذل حساسيته، وينفي ثقته الشخصية في تنبؤ (حنانيا)، وإن كانت تلك إلى أجل. وهذا العامل هو الذي قمع ألمه عندما وضعه كاهن المعبد في (الفلقة) بتهمة التحريف، قمع ألمه قمعاً محا لديه الغريزة الأولية للمحافظة على النفس، عندما كبدته تنبؤاته المشؤومة أن يلقى به ذات يوم في (الجب) حتى كاد يهلك.

إلى جانب هذا القهر الذي رأيناه في الإطار النفسي للنبي، والذي يقهره على قضائه بصورة لا تقاوم، يجب أن نضم قهراً من نوع آخر، ذلك الذي يتجلى في أحكام (أرمياء) على أحداث عصره. والحق أن النبي قد حكم على هذه الأحداث على نحو يختلف تماماً عن أحكام معاصريه، وطريقته الفذة في النظر إلى الأشياء صدقتها الأحداث بشكل عجيب. هل يجب أن تعزى هذه (النظرة العميقة) إلى مواهب شخصية، أي إلى مقدرة هائلة على الاستنتاج، وذوق نقدي نادر لمجرى التاريخ؟! إن النقد الحديث يفسر لغز النبوة بهذه الطريقة، حين يخص الأنبياء بهبة معينة، تخول لهم الحكم العميق على التاريخ، ولكن يبدو أن هذا الرأي العقلي (المنكر للوحي) قد فاته أن ما ينقص (أرمياء) - مثلاً- بصفة موضوعية هو الأساس العقلي لأحكامه على أحداث التاريخ. وأكثر من ذلك، فإن الأنبياء باعتبارهم مصادر لنبوءاتهم لم يرجعوا إلى منطق الأحداث، بل لقد تجاوزوا هذا المنطق. ولهذا يظهرون أحياناً في نظر معاصريهم بمظهر عدم الاتساق في التفكير، فإن هؤلاء المعاصرين يبرهنون بطريقة أكثر اتفاقاً مع العقل ويجعلون لنظراتهم أساساً مستمداً من أحداث التاريخ. ولنأخذ مثلاً: حالة الإسرئيليين أثناء أسرهم ببابل. لقد كانوا يأملون العودة القريبة إلى وطنهم. وهم ينظرون- في دهشة وأمل- ارتقاء حاميهم (إميل مردوخ Emel Mardoukh) على العرش، فقد كان ارتقاؤه غير متوقع!! أي شيء يمكن أن يكون مطابقاً للعقل أكثر من أمل كهذا؟. وكان ملك بابل في ذلك الوقت قد انتهج فعلاً (سياسة يهودية جديدة) يإطلاق سراح (جيكونياس Jeconias) ملك (جودا Juda) الأسير الذي أصبح الجليس المبجل لمعتقه. فالأمل إذن كان المنطق بعينه!!.

لكن (أرمياء) قد ذهب منذ البداية إلى نقيض هذا الأمل الذي حقر من شأنه بمواعظه التشاؤمية، فقد حذر الأمة من نير أقسى. ولقد صدق التاريخ بطريقة عجيبة تشاؤم (أرمياء) الرهيب، فقد هلك (مردوخ) في الواقع مقتولاً. ويمكن أن يقال: إن المفاجآت قد صدقت تشاؤم النبي، ولكن لا يمكن القول: إنه قد تنبأ بالصدفة. ومع ذلك فإن هذا التشاؤم لم يبدأ في الدعوة النبوية بـ (ـأ رمياء) المعاصر للأحداث، فمنذ (عاموس) وصوت الأنبياء يردد النذير فوق رأس الأمة اليهودية: (فليهدم بيت المقدس Delunda est jérusalem) حسب تعبير (لودز A.Lods) ، فلم يفعل (أرمياء) إلا أن شدد عليهم النذير، ورأى وقوعه فعلاً. ***

خصائص النبوة

خصائص النبوة وهكذا تسمح دراسة حالة (أرمياء) بوضع صفات تحدد بوجوه مختلفة، وبطريقة موضوعية مبدأ النبوة، فهناك: أولاً: صفة القهر النفسي الذي يقصي جميع العوامل الأخرى للذات، بإلزام النبي في النهاية بسلوك معين ودائم. وثانياً: حكم فذ على أحداث المستقبل، يمليه نوع من القهر الذي ليس له أي أساس منطقي. وثالثاً: استمرار مظاهر السلوك النبوية، وتماثلها الظاهر والخفي عند جميع الأنبياء. هذه الصفات المميزة، لا يمكن أن تلقى ببساطة تفسيراً نفسياً، قائماً على الحوادث التي تخضع لها ذات النبي، تلك الذات التي يبدو أنها لا تبرز هنا إلا في مجرد صورة مترجم مرهف الحس- متمنع أحياناً- لظاهرة مستمرة تلزمه بقانونها، كما ألزمت ذوات جميع الأنبياء، كما يثبت المجال المغناطيسي، اتجاه جميع الإبر الممغنطة. فمن الصعب أن نفسر ظاهرة- هذا وصفها- تفسيراً ذاتياً شخصياً. فهناك لغز فسره النقد- المولع بإرجاع كل شيء إلى أفكار ديكارت مهما كلف الأمر- تفسيراً عجيباً هو: أن النبي شخص مزدوج، مزود بذاتين تسأل إحداهما الأخرى، وتتأثر بانكشافاتها!

ولكنهم لم يهتموا بتحديد موضع هذه الذات الثانية في الفرد، الذي يعده علم النفس التحليلي منقسماً إلى ميدانين: اللاشعور، والشعور. فهل الذات الثانية موضعها الشعور أو اللاشعور؟ أو كلا المجالين في وقت واحد ... ؟. لم يقل أحد شيئاً كهذا. وهل هذا يستدعي منا فرضا آخر؟ فإذا كانت الذات الإنسانية الواحدة لا تقدم تفسيراً كافياً للظاهرة، فلن يتحقق هذا بمزاوجة هذا الكيان النفسي أو تضعيفه، لكي يقدّم للظاهرة تفسير أفضل. وحينئذ يبدو أنه لم يعد هناك تفسير آخر ممكن إلا أن نضع الظاهرة خارج الذات، ومستقلة عنها استقلال المغناطيس عن الإبرة. ومما يدعم هذا الرأي: شهادة الأنبياء على أنفسهم، تلك الشهادة الوحيدة، والمباشرة على الظاهرة، فقد وضعوها بالإجماع خارج كيانهم الشخصي. فإذا صلح هذا الرأي لأن يكون فرضاً، فإن هذا الفرض لن يكون أقل صحة من افتراض النقد الحديث. وهذا هو الفرض الذي نريد أن نجعله- أساساً- ختام هذا الفصل، محتفظين بالتوسع فيه خاصة في الفصول التالية. ***

أصول الإسلام - بحث المصادر

أصول الإسلام بحث المصادر

أصول الإسلام بحث المصادر

أصول الإسلام بحث المصادر في دراسة نقدية للإسلام، لا نستطيع أن نغفل أهمية فحص الوثائق المدونة أو التاريخية، التي يمكن أن تلقي ضوءاً على الظاهرة القرآنية. على أن هذه المشكلة التاريخية قد حلت بالنسبة للإسلام بصفة استثنائية: فهو الوحيد من بين جميع الأديان الذي ثبتت مصادره منذ البداية، وعلى الأقل فيما يختص بالقرآن. ولقد امتاز القرآن الكريم بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ أربعة عشر قرناً، دون أن يتعرض لأدنى تحريف أو ريب، وليست هذه حال العهد القديم (التوراة)، الذي لم تعترف له بالصحة الدراسة النقدية للشراح المحدثين، فيما عدا واحداً من كتبه هو كتاب (أرمياء) (1). وليس العهد الجديد (الإنجيل) بأسعد حالاً، فقد ألغى مجمع أساقفة (نيقية) كثيراً من أخباره، مما زرع الشك حول ما تبقى منه، وهو (الإنجيل). وهذا الأخير بدوره لا يعد الآن من الصحاح: لأن النقد أثبت أنه قد (وضع) بعد المسيح بأكثر من قرن، أي بعد عصر الحواريين الذين تنسب إليهم التعاليم المسيحية. وعلى هذا فإن شكوكاً كثيرة تحوم حول القضية التاريخية للوثائق اليهودية والمسيحية.

_ (1) (مونتيه Montet) ( تاريخ الكتاب المقدس) طبعة جنيف.

هذا التحديد الكامل للنص القرآني على عهد النبي نفسه، يعد ظاهرة جديرة بالملاحظة من وجهة علم الاجتماع وعلم النفس بخصوص الوسط العربي في العصر المحمدي. فتلك نقطة جوهرية تستحق البحث والوقوف أمامها، إذ ليست هنا مشكلة تدوين بالنسبة للقرآن، كما هو الأمر بالنسبة للكتاب المقدس؛ وهي أيضاً مؤيدة بحقائق التاريخ التي ينبغي أن نلفت إليها انتباه القارئ ليلاحظ هو أيضاً توافق واقع التاريخ مع هذه الآية القرآنية {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف 12/ 12]، ومع ذلك فإن لهذا (الحفظ) تاريخه: فكلما كان الوحي يتنزل، كانت آيات القرآن تثبت في ذاكرة الرسول وصحابته، وتسجل فوراً بأيدي أمناء الوحي، فقد كانوا يستخدمون من أجل ذلك كل ما يصلح للكتابة كعظام الكتف أو قطع الجلد ... الخ .. حتى إذا قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن محفوظاً في الصدور، مدوناً في الصحف، فكان من الممكن كما دعت الحاجة موازنة الآيات بعضها ببعض، ولا سيما حين يعرض اختلاف من نوع صوتي أو لهجي. وفضلاً عن ذلك فسنجد أن هذه الموازنة تحدث مرتين، والطريقة التي نفذت بها هي في ذاتها حدث فذ في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، فللمرة الأولى تتجلى صفات الطريقة المنهجية في عمل عقلي، كما تتجلى الدقة التي هي الآن وقف على التفكير العلمي. فقد اختار الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لجنة يرأسها زيد بن ثابت، الذي كان أميناً للوحي على عهد الرسول، كتبت القرآن منظماً لأول (1) مرة. ويبدو ان زيدا أحجم أولا عن القيام بهذه المهمة لأمرين:

_ (1) المقصود هنا أن الكتابة المنظمة للقرآن لم تحدث إلا على عهد أبي بكر، أما ترتيب الآيات والسور فقد كان توقيفاً من جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين كان يعارضه بالقرآن وخاصة بعد حجة الوداع. (المترجم)

أولهما: أنه لا يريد بوصفه صحابياً أن يقوم بمحاولة لم يقم بها النبي، أو يأمر بها. وثانيهما: أنه بوصفه مؤمناً يتحاشى مثل هذا العمل، لأنه يخشى مقدماً أبسط الأخطاء المتوقعة في تنفيذ مهمته، وعلى الرغم من هذا فقد تمت هذه المهمة بفضل الجهود المتعاونة الواعية لأعضاء اللجنة. وكانت الطريقة التي اتبعت بسيطة، ولكنها مدققة، لأنهم كانوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب، بالنظام نفسه الذي تعلموه في صحبتهم بإرشاد الرسول لهم، فإن حدث اختلاف رجعوا إلى القطع التي كتبت فيها الآيات عند نزولها؛ حتى يرفعوا الشك عن موضوعها. ولم يكتفوا بكل هذه الاحتياطات الملحوظة، فإن زيداً وعمر رضي الله عنهما قد ذهبا إلى باب مسجد المدينة، وهنالك أشهدا بقية الصحابة لتوثيق الرواية المكتوبة بواسطة اللجنة نفسها. بيد أن هذه الجهود قد أجازت نص القرآن مع بعض الاختلاف في اللهجات الشائعة بين عرب الجاهلية. لم يسترح عثمان- الخليفة الثالث- لهذا الاختلاف، وأمر بأن تكتب رواية موحدة فريدة بلغة قريش. فاختيرت لجنة ثانية على رأسها زيد أيضاً، وكلفت أدء هذه المهمة الجديدة، وكان عليها هذه المرة أن تثبت النص القرآني نهائياً في لغة واحدة، حتى لا يتسبب تنوع اللهجات في إحداث الشقاق والتدابر في المجتمع الإسلامي، وأنهت اللجنة عملها عام 35 هـ. ومنذ ذلك العصر والقرآن يتنقل من جيل إلى جيل، بصورة وحيدة فريدة متعارف عليها، من مراكش إلى حدود منشوريا.

فهو على هذا، الكتاب الديني الوحيد الذي يتمتع بامتياز الصحة التي لا جدال فيها، لأنه لم يثر النقد أية مشكلة حوله، سواء أكان ذلك شكلاً أم موضوعاً. والصدر الثاني المدون عن الإسلام ينحصر في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن المؤسف أنه لم يتوافر لهذا الصدر ما توافر للأول من الصحة التاريخية، فإن الأحاديث لم تحفظ بالعناية المنهجية نفسها التي ظفر بها القرآن، فلقد منع الرسول في حياته الصحابة بقوة وصراحة من أن يكتبوا أقواله، حتى لا يحدث أدنى خلط ممكن بين ما ينطق به، والآيات المنزلة أي بين السنة والقرآن. ولم تظهر أهمية الحديث إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة من الناحية الشرعية بوصفها مصدراً ثانياً للتشريع الإسلامي. وظهرت هذه الفكرة في تاريخ التشريع الإسلامي عند سفر معاذ بن جبل، الصحابي الذي اختاره الرسول ليقضي بالإسلام بين أهل اليمن، بعد غزوة حنين، وعندما أراد الرسول أن يوصيه سأله: كيف تقضي فيما يعرض لك؟ فقال معاذ: " أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فيه، أخذت بسنة رسول الله، فإن لم أجد فيها أجتهد رأيي ولا آلو" (1). ولقد أيد الرسول عليه الصلاة والسلام طريقة معاذ في النظر، تلك التي تعرض ضمناً المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وتعرض أيضاً القياس مصدره الثالث. ومع تكاثر الحاجات في المجتمع الإسلامي نما هذا التشريع، فاتجه الفقهاء إلى أن يثبتوا- ما وسعهم الجهد- الأحاديث التي يجب أن تصبح عنصراً جوهرياً في

_ رواه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية (23) باب (11) (اجتهاد الرأي في القضاء) حديث رقم 3592 (ف).

الفقه القانوني، ومع ذلك فإن المسافة بين وفاة الرسول وعصر تدوين الحديث كانت ذات أهمية، إذ حدث خلالها خلط كثير، وشكوك مضاعفة بين الأحاديث الصحيحة وغيرها. ومنذ ذلك الحين وضعت طريقة نقدية صالحة لتمييز ما هو صحيح عما ليس كذلك، فطبقت طريقة النقد التاريخي التي تشمل تحقيق اتصال الرواية، وقيمة الرجال الذين وصل عن طريقهم الحديث. وقد أدى هذا الوضع بالمحدثين إلى أن يصنفوا الحديث ثلاث مجموعات تبعاً لدرجة التثبت التاريخي: الصحيح، والضعيف، والمكذوب. فهذه هي مصادر الإسلام المدونة، في حالتها الراهنة: الآيات القرآنية الصالحة لأن تستخدم وثيقة تاريخية مطلقة الصحة؛ والحديث الذي يختلف في درجة الصحة، والذي لا يصح أن يستخدم- على كل حال- في أية دراسة نقدية إلا مع الاحتياطات المستخلصة من الطرق نفسها التي اتبعها العلماء المحدِّثون المنزهون عن الكذب أو الغش أو التدليس، كالبخاري ومسلم. وبهذه الاحتياطات يصبح المصدران اللذان يستخدمهما الباحثون في الإسلام، صحيحين على سواء، وسيكون من النفج والادعاء أن نرفض منذ البداية باسم المنهج ما تقدمه لنا السنة من أسانيد. ***

الرسول

الرسول ربما لا يمكننا الاستغناء في دراسة الظاهرة القرآنية عن معرفة الذات المحمدية، معرفة صحيحة بقدر الإمكان، وهذه المعرفة ضرورية هنا ضرورة تحديد الأبعاد الثلاثة في دراسة الخصائص التحليلية لمنحنى هندسي. فالظاهرة التي ندرسها مرتبطة في الواقع بذات محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكي نخرج بنتيجة عن طبيعة هذا الارتباط لابد أن نخطو خطوة أولى لنضع مقياساً أول مدعماً بكل العناصر الخاصة بتجلية (الذات)، التي هي موضوع القضية وشاهدها وقاضيها. وبالتالب يجب أن نحوط أنفسنا فيما يتصل بهذا الشاهد القاضي بضمانات تكفل لنا الثقة الضرورية لشهادته ولحكمه. ولن يمنعنا هذا من أن نقوم من ناحية أخرى بخطوة ثانية، هي أن نضع مقياسا ثابتا يتيح لنا أن نحكم مباشرة بأنفسنا على الظاهرة. ومن الطبيعي الآن أن توضع أسئلة فيما يتصل بموضوع هذا الشاهد، وهي الأسئلة التي توضع عادة من أجل الاستيثاق الخلقي والعقلي ممن يحتاج لأمر إلى تسجيل شهادته. فإن ذكاء عقله، وإخلاص قلبه يجب ألا يثيرا أو يحتملا أدنى شك، كيما يمكن استخدامهما كعنصر تاريخي جوهري في المشكلة. وفي سبيل هذا ربما كان من الواجب أن نعرض التفاصيل كلها في حياة رسول الله، فكل تفصيل يقدم لنا حقيقة تهم هذا القياس.

ولكننا لا نرى من الضروري أن نعلق في متحف جد غني صورة جديدة للنبي، فإن لدى القارئ مندوحة ليطلع على المؤلفات العديدة في سيرته، إذا هو أراد أن يشبع رغبته في معرفة الصورة الباهرة لهذا الإنسان، سواء في تلك المؤلفات التقليدية كابن إسحاق وابن مسعود، أم في دراسات تراجم الرجال التي أخرجتها المطابع الحديثة لـ (دينيه Dinet) و (درمنجهام Dormengham) ... ! لخ. أما نحن فلا نهتم إلا بتخطيط صورة نفسية لا تهمنا فيها التفاصيل التاريخية، إلا بقدر ما تعيننا على ما نريد تخطيطه. وهكذا تنقسم حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نظرنا إلى مرحلتين متتابعتين: الأولى: عصر ما قبل البعثة وهو يمتد إلى أربعين سنة. والثانية: العصر القرآني وهو يضم كل زمن الوحي، وهو عبارة عن ثلاثة وعشرين عاماً، ومع ذلك فكل من هاتين المرحلتين مطبوعة بحدث رئيسي يعد فاصلاً يقسمها إلى مرحلتين ثانويتين: فزواج خديجة رضي الله عنها يعد في الواقع فاصلاً خطيراً فيما يتعلق برحلة ما قبل البعثة، فنحن نجد نبي المستقبل ينزوي في خلوة روحية، حتى تلك الليلة الخالدة ... ليلة الوحي (1). والهجرة هي الفجوة التي تفصل زمن تبليغ الدعوة فحسب، عن زمن الانتصارات الحربية والسياسية التي فتحت للإمبراطورية الإسلامية الفتية باب التاريخ.

_ (1) نحن- حقيقة- تنقصنا الوثائق عن الطريقة التي كان النبي في تلك الحقبة يقسم وقته بمقتضاها بين واجبات الروح وحاجات الدنيا. "المؤلف"

عصر ما قبل البعثة

وسنبحث الآن بإيجاز هاتين الحقيقتين المتتاليتين، موردين في كل منهما الأحداث التي تطبع شخصية النبي، والتي انطبعت بشخصيته، كيما نكشف بقدر الإمكان عن طبيعة الارتباط بين الذات المحمدية، والظاهرة القرآنية. ... عصر ما قبل البعثة طفولة النبي- مراهقته إن هناك تقاليد طيبة مشتركة بين جميع الشعوب، تحوط مهود عظماء الرجال وقبورهم بالأساطهير؛ ولقد أحاطت الروايات الإسلامية الوسط العائلي للنبي وميلادَه وطفولته بالخوارق المنبئة بما ينتظره من مستقبل فريد رائع، ولكن ليس من الضروري أن نهتم بدرجة صحتها التاريخية لأنها لا تهم موضوعنا مباشرة، بل إننا سنصرف كثيراً من اهتمامنا إلى التفاصيل التي ستكشف شيئاً فشيئاً عن الصفات الخاصة بذلك (الطفل)، الذي ظل بالنسبة لمرضعته (حليمة) مصدر سرور وقلق معاً. لقد شب الطفل عندها كأنه نبتة قوية من نبات الصحراء، ولكنه حين كان في دور الرضاعة كان يبكي كلما كشف من أجل النظافة (1)، فإذا أرادت مرضعته أن تهدئ من بكائه خرجت به في الليل أمام الخيمة، فيغرم الطفل بمنظر الفلك الداجي، الذي يبدو أنه كان يسلط جاذبية مؤثرة على مقلته، لا زالت تتلألأ فيها العبرة الأخيرة. كببر الطفل الآن، وصار يلعب في نواحي الخيمة مع إخوته في الرضاعة.

_ (1) لم أجد لهذا الخبر أثراً في كتب السيرة المعتمدة. ((المترجم))

ومع ذلك فإن عارضاً قد حدث بالتأكيد فغير مجرى حياته. فما هو هذا الذي حدث؟ لقد جاء أحد إخوته في الرضاعة ذات يوم مبهور الأنفاس، ليقص متلعثماً على حليمة المذعورة حادثاً غريباً فاجأ محمداً، فهبت حليمة من فورها تبحث عن رضيعها، فلما لقيته أكد لها ما حدث قائلاً: (جاءني رجلان يلبسان البياض فأمسكاني وفتحا صدري وقلبي وأخرجا منه علقة سوداء) (1). وترى السيرة في هذه القصة اقتلاعاً رمزياً للإثم من جذوره، وربما أورد لها بعض المفسرين قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الانشراح 94/ 1 و3 و3]. ولكن من الثابت أن حليمة قد أعادت الطفل إلى مكة عندما كان في الرابعة أو الخامسة من عمره. فماذا يمكن أن ينطبع في عقله من هذه الحقبة من الحياة الوثنية والبدوية؟. لا شيء- بكل تأكيد- يمكن أن يكون قد علق بذاته فيما يتعلق بالدعوة المقبلة. وبعد قليل ماتت أمه (آمنة)، ولم يعد للغلام منزل أبوة، فضمه جده (عبد المطلب) إليه.

_ (1) قال القريزي في "إمتاع الأسماع" عند حديثه عن رضاعة الرسول في بني سعد: ((وشق فؤاده المقدس هناك، وملئ حكمة وإيماناً بعد أن أخرج حظ الشيطان منه)). وروى البخاري في صحيحه ((شق صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج " وقد استشكله أبو محمد بن حزم. كما روى مسلم في صحيحه ((ج2 ص 215 بشرح النووي- طبع الطبعة المصرية) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه. قال أنس: ((وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره)). (على أن الشق في فترة الحضانة روي أيضاً في مسند الدارمي المقدمة باب 3) ((ف)). ((المترجم))

ثم مات الجد العجوز، فكفله عمه (أبو طالب)، أبو (علي)، وكانت سنه آنذاك سبعاً أو ثمانياً. وفي منزل الوصي حيث لا ثروة تغني أهل البيت عن العمل، كان عمه يعمل قائداً ورائداً للقوافل المكية، فكان يذهب في مواسم معينة إلى مراكز التجارة الشامية، لمقايضة منتجات الهند واليمن بمنتجات بلاد البحر الأبيض المتوسط، وفي أحد هذه الأسفار، حين بلغت سن النبي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة سنة، توسل إلى عمه أن يصطحبه، ولكنه رفض لأنه لم يكن يريد أن يصطحب رفيقاً حدثاً مثله، في سفر طويل قاس. ومع ذلك فقد ألح الغلام وذاب في دموعه، وألقى بنفسه بين ذراعي عمه الذي استجاب أخيراً لطلبه المؤثر. تلك إذن هي المرة الأولى التي اتصل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعالم الخارجي، أي إنه عاش حتى الثانية عشرة، في بيئة عربية وثنية، يرعى إبل عمه في ضواحي مكة؛ ومعنى ذلك أن حياته لم تنطبع بأي ظرف خاص من نوع ثقافي، بل لقد عاش تلك الفترة يتيماً راعياً. هذا السفر غير المتوقع سيضع في طريق الغلام الحادث العارض الأول الذي يتصل مباشرة بالدعوة المستقبلة. فعندما بلغت القوافل مدينة (بصرى) بالشام، استقبلهم راهب الدير استقبالاً حاراً، وقدم لهم الضيافة المسيحية ثم انتحى ذلك الراهب المسمى (بحيرا) بأبي طالب جانباً وقال له: ((ارجع إلى مكة بابن أخيك، واحذر عليه اليهود فإنه كائن له شأن عظيم)) (1). فهل أولى أبو طالب هذه الحادثة العادية في السفر ما تستحق من الاهتمام،

_ (1) ابن الأثير ج 2 ص 24.

ليشترك مع ابن أخيه في رسالته المقبلة، وهو الذي مات دون أن يعترف مطلقاً بالإسلام؟ ... وعلى كل، فإن رئيس القافلة المكية كان يجب عليه أولاً أن يكمل مهمته التجارية، قبل أن يأخذ طريق العودة. أما فيما يخص الغلام- حتى على فرض أن القصة طرقت سمعه، فإن الحادث- فيما يبدو- لم يغير شيئاً من سلوكه كسائر شباب قريش. والسيرة اليقظة لوقائع حياته لم تذكر شيئاً خاصاً- منذ هذا الحادث التاريخي- يدل على أن نبي المستقبل قد تجلى له مستقبله. لقد بلغ (محمد) مرحلة المراهقة في مدينة مولده، فقد كان يختلط بالفتيان، ماراً بشهواتهم وأهوائهم دون أن ينزلق فيها، مع أن أحيان الفساد لم تكن قليلة هناك، فقد كانت المصابيح الحمراء المعلقة على أبواب الجواري المنحرفات يجتذبن شباب مكة، المولعين بحمل السلاح، وعشق النساء، ومطارحة الأشعار، وهم يحملون بشجاعة عنترة وغرام امرئ القيس، وكل منهم يمني نفسه بتخليد اسمه، ويود لو يعلق ذات يوم معلقته (على أستار الكعبة)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه قد حدثنا عما كان يراوده من نزعات الشباب، فقد ورد في الخبر: أنه كان يرعى غنماً لأهله مع فتى من قريش بأعلى مكة، فاستأذنه في أن يبصر له غنمه حتى يسمر بمكة كما يسمر الفتيان، فخرج فما جاء أدنى دار من دور مكة سمع غناء وصوت دفوف ومزامير في عرس بالمدينة، فلها بذلك حتى غلبته عيناه فنام، ثم عراه مرة أخرى مثل ذلك. ومن هذا يظهر أن حادثاً عارضاً غير متوقع يحدث دائماً ليحوله عن قصده، وليست الخرافة هي التي تتكلم في هذا الشأن، ولكنه الشاهد نفسه، أعني التاريخ القائم على الأحاديث الصحيحة، ولدينا في هذه النقطة مرجع مهم: فإن نبي المستقبل كان ولا شك يلقى في غمار

الزواج والعزلة

هذا الشباب كثيرين من أصحابه الذين أصبحوا فيما بعد- مثل عمر- أبطالاً وشهداء في سبيل دعوته. وفي هذا المرجع التاريخي شهادة ضمنية من ألمع الأسماء في التاريخ الإسلامي، مثل خالد بن الوليد وعثمان بن عفان وغيرهما. أولئك الذين أصدروا على نبي المستقبل حكماً موجزاً، ولكن كم هو بليغ حين أسموه (الأمين). لقد كان في أعينهم في ذلك العصر الصادق الأمين، وهذه الشهادة التاريخية تعطينا تفصيلاً ثميناً للصورة النفسية التي نحاول رسمها، ومع ذلك فإن حياته العادية البسيطة تستمر دون شيء خاص في قطار أيامه؛ حتى سن الخامسة والعشرين. فلم يزل (محمد) عزباً، لأنه لم يستطع الزواج، إذ لكي يطلب يد إحدى شريفات مكة ربما وجب عليه أن يدفع صداقاً كبيراً لا تسمح له به ثروته المتواضعة. الزواج والعزلة ومع ذلك ففي سن الخامسة والعشرين، جاءه غلام يسمى (ميسرة) ليفاتحه في أمر الزواج؛ ودار الحديث حول أرملة غنية شريفة من نساء مكة، تسمى (خديجة). ولقد رفض النبي مقدراً حالته المتواضعة بالنسبة لوضع الزوجة المقترحة، ولكن الغلام الذي عرف كيف يبدد وساوسه، وتدخلت خديجة بنفسها لتأييده. ونحن ندين لهذا التدخل ذاته بتفصيل قيم بالنسبة لتاريخ (الظاهرة القرآنية)، فقد كانت توجد في مكة إبان تلك الحقبة حالة نفسية خاصة، كما يوجد دائماً في كل مكان قبيل الأحداث الهامة كالحرب مثلاً. كان أهل مكة ينتظرون النبي الموعود في سلالة إسماعيل، وكانت خديجة

تغذي سر طموحها إلى أن تتزوج النبي المنتظر، وتراه في (محمد)، الذي صارحته تماماً بمشاعرها نحوه، ولكن (محمداً) لم يكن أقل صراحة حين دافع عن نفسه أن يكون ذلك النبي المنتظر. في هذه الظروف النفسية تم الزواج، وقد ترك لنا ضمناً- من حيث المبدأ- شهادة هامة عن الذات المحمدية التي تتجلى لنا في ضوء هذه المناقشة الأولى عن مجيء النبي الموعود. ونحن نجد فيه شهادة أخرى ليست بأقل أهمية، فقد ترك لنا وثيقة قيمة في سيرة النبي، وردت في الخطبة التي قالها أبو طالب عم النبي في خطبة ابن أخيه حسب عادة قريش، قال: ((أما بعد: فإن محمداً ممن لا يوازَن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلا، وإن كان في المال قُلاً، فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك (1))). هذه السطور تصلنا جيداً بصورة الأمين؛ وتتفق من كل وجه مع الصورة التاريخية لبطل أعظم ملحمة في التاريخ الديني. ولكن ها هي ذي حياته العادية تتغير فجأة، فإن (محمداً) سينسحب من مجتمع مكة، وينعزل عن بيئته ويجمع نفسه متأملاً، وهي عزلة ستكون لها نتيجتها في غار حراء (2).

_ (1) كذا في هامش الكامل لابن الأثير ج2 ص 25 وقد وردت بصيغة أخرى في السيرة الحلبية ج1 ص 139. (المترجم) (2) يجب أن يقصد بهذه العزلة المعنى الأعم، إذ هي عزلة الرجل الذي لم ينسحب من المجتمع كلية، ولكن التاريخ لم يحدثنا عن أنه كان يحترف التجارة إبان تلك الحقبة، ولو كان قد قام برحلات كتلك التي قام بها قبل الزواج لذكرتها السيرة، ويبدو أن ثروة السيدة خديجة قد حملت عنه بعض العبء. ((المؤلف))

فأي متاع، وأي زاد روحي أو عقلي اصطحبه معه في تلك العزلة، التي انطلق منها بعد خمسة عشر عاماً الشعاع القرآني؟ .. إننا نعلم عن هذا العصر أن العادات الوثنية في المجتمع الجاهلي كانت قائمة على أساس قديم من التوحيد التقليدي، الذي ينعكس بوضوح في خطبة أبي طالب، ولكن هذا التوحيد اللاشعوري لا يستتبع أية شعائر خاصة. فإن الكعبة كانت على وجه الخصوص معبداً للأصنام، أو مسرحاً سياسياً للأسر السائدة؛ أما فيما يتعلق بالحياة الدينية في مكة، فقد كانت منذ زمن طويل منظمة تبعاً لوحدة قبلية ملفقة، تجعل (هبل واللات والعزى) على رأس مجموعة آلهة القبائل العربية كلها، ولكن الأسر الكبيرة في مكة- بفضل التأثير السياسي والتجاري- قد استمسكت فوق هذه الوحدة الوثنية الملفقة بوحدانية غامضة، تنعكس في الذكرى التي حفظوها باعتزاز وفخر لجدهم البعيد (إسماعيل)، وعلى كل فإن هذه الذكرى لم تكن لتؤثر مطلقاً على عقائد العرب، أو تقاليدهم الحربية، وهذا يفسر لنا الصراع القاسي الذي سينشب بين المتمسكين بهذا النظام الجاهلي، وبين الإسلام الوليد. وحتى أبو طالب، ذلك الشيخ القرشي الوقور الشريف الذي ذكرنا كلماته الكريمة المهذبة في خطبته، مات دون أن يكفر بالأصنام، على الرغم من توسل ابن أخيه إليه وإلحاحه عليه. تلك كانت الفكرة الغامضة التي تسنى لنبي المستقبل أن يصطحبها في عزلته عن دين جده إبراهيم، ومع كل فيجب أن نضيف أن هذا الدين قد ظل في حالة أصفى عند بعض المتصوفة الذين كانوا يسمون في ذلك العصر "الحنفاء"، وهؤلاء الحنفاء كانوا رجالاً من طراز نادر، تركوا وثنية عصرهم لكي يعكفوا على عبادة إله واحد، لكن حياة التصوف التي عاشها هؤلاء النساك لم يصحبها أي نظام

خاص، أو شكل من أشكال الطقوس، وبالأحرى لم يكن لهم أي اتصال روحي بطائفة من أهل الكتاب، فإن مصادر العصر التاريخية لا تصف أية كنيسة في مكة، أو أي كنيس أو دير في ضواحيها؛ لقد انسحب الحنفاء فقط في أماكن منعزلة، دون أن يقطعوا صلاتهم تماماً بالمجتمع، ولم تكن لهم طريق في تصوفهم سوى أنهم كانوا يمارسون الزهد أو التخلي عن الدنيا، مما يدل على سمة الصحراء وطابعها في نفوسهم. والزهد يتجلى في الواقع في قناعة البدوي الذي تقع ثروته دائماً تحت رحمة مجاعة وقحط، أو غزو من القبائل المجاورة، وفي الكلمات التي نطق بها أبو طالب نفسه- بمناسبة خطبة (النبي) عن المتاع الذي لم يكن سوى وديعة تسترد آجلاً أو عاجلاً- تتجلى روح الصحراء أكثر من روح الدير. إن سلوك الحنفاء الصوفي لم يمتد نحو الأخلاق المسيحية، أو الشريعة الموسوية، بل كان نظاماً فردياً فطرياً بسيطاً، نجد مثاله الخلقي الصافي في أشعار قس بن ساعدة، فهو- على فرض نصرانيته كما يقولون- لم يترك للتاريخ سوى أبيات رائعة تمثل عبقرية الصحراء الصافية. وكان الطابع الإبراهيمي- فيما يبدو- ظاهراً بقدرٍ في البيئة الجاهلية، في ذلك العصر، إذ كان يظهر هنا وهناك حنيفي. ولكن هذا الطابع كان تقليداً عربياً محضاً، لا يمتّ بصلة إلى التفكير اليهودي المسيحي الذي كان تياره الروحي، قد نشأ قبل ذلك بزمن طويل مع الحركة النبوية الإسرائيلية الأولى، أي مع موسى. وحتى في زمننا هذا، وبعد ثلاثة عشر قرناً من الثقافة الإسلامية التي طبعت روحها على العقل العربي الصحراوي، نجد أن الأدب الكتابي (أدب الكتب المنزلة) لم ينتشر مطلقاً؛ وكثير من المسلمين في شمالي نجد ما زالوا يجهلون

تاريخ هذا الأدب اليهودي المسيحي (1). وعلى هذا فليس من المنطق أن نفترض في الحنفاء معرفة أوسع من معرفة معاصرينا عن تيار الفكر، وتاريخ الوحدانية. فمن السهل أن نتصور بأي زاد زهيد، وبأية أفكار مألوفة، وبأي قصد عادي اعتزل النبي - صلى الله عليه وسلم - المجتمع بعد زواجه، تماماً كما كان يفعل حنفاء عصره. ومع ذلك فمن المفيد أن نوضح أن الأحوال التي ذكرناها تكون أصدق في حالته بقدر ما كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فلم يكن ممكناً حصوله على أية معلومات مكتوبة. وتلك مع ذلك ملاحظة مسهبة، إذ قد انعدم المصدر المكتوب نفسه في وسط هذا النبي الأمي كما سيتضح فيما بعد. والآن، ما هي المعلومات التي لدينا عن عزلته خمسة عشر عاماً؟ .. إننا إذا نحينا بعض التفاصيل المتصلة بحياته الزوجية والعائلية، فلن ندري شيئاً مما يتصل بتنظيم حياته الروحية في ذلك العصر. فهل كان يغرق في تأمل عميق في المشكلة الدينية يقوده نوع من إلهام الدعوة المستقبلة؟ .. لقد أجاب المستشرق الكبير (درمنجهام) عن ذلك بالإيجاب، ولكن هذه الإجابة فيما يبدو لنا لا تعدو أن تكون تخيلاً من المؤلف، لم يعتمد فيه- كما يظهر في تلك النقطة- على شهادة تاريخية غير قابلة للطعن والتجريح، وهي شهادة القرآن (2)، فإن هذا الكتاب يصور لنا في رجعة إلى الماضي حال الفكر عند الرسول قبل الوحي، في قوله تعالى:

_ (1) (رزوان Raswan) دراسة اجماعية. (2) باعتبار القرآن في هذا السياق مجرد وثيقة تاريخية.

{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص 28/ 86]. فهل معنى هذا إلا أنه لم يكن لديه أدنى أمل في أن يقوم بدور في دعوة من أجله هو، لا قبل عزلته ولا خلالها، ومع ذلك فهذا هو المعنى النفسي للآية، الذي غابت أهميته التاريخية عن الأستاذ (درمنجهام)، مع أنه لم يَرْتَب مطلقاً في صحة القرآن التاريخية. وفضلاً عن ذلك فيجب أن نذكر أن تفسيراً كهذا ليس مرتبطاً إلا بشرط واحد ضروري وكاف، هو الإخلاص المطلق عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا على وجه التحديد هو هدف هذا القياس، لكي نرى في القرآن اعتماداً على صفته التاريخية الأكيدة، مرآة للماضي، أو شيئاً أشبه بمرآة عاكسة يمكننا أن ندرك فيها - بطريق العكس- الأطوار المختلفة التي مرت بها الذات المحمدية خلال تاريخها، فنرى في الآية المذكورة الصورة الصحيحة لحالة النفس عند (محمد) أيام غار حراء. وإذن فليس هنالك من سبب لأن ننسب (للصادق الأمين) نية مبيتة للتأمل في مشكلة ميتافيزيقية لحظة تهيئه للإنسحاب والعزلة بعد الزواج، ولسوف تدعم نتائج القياس الحالي هذا الحكم المسبق. ومع ذلك فهناك نقطة غامضة هي أن المؤرخين المحدثين يعجبون من أن السيرة ليس لديها غير القليل من المعلومات عن هذه العزلة التي تعد مرحلة رئيسية- من الوجهة النفسية- بالنسبة لتاريخ الدعوة المستقبلة. ولسنا نملك في الواقع غير القليل من التفاصيل عن هذا الموضوع، ولكن هذا لا يثير عجباً، فإن التاريخ لا يستطيع إلا أن يتبع آثار نبي المستقبل في ذاكرة معاصريه؛ والواقع أنه قد توارى واختفى عن أعين الزمان، لكي يبقى خلال خسة عشر عاماً معتزل مكة، أو معتزل غار حراء.

ونحن نجد في تحفظ التاريخ في هذه النقطة برهاناً على أن السيرة المتهمة أحياناً بالمبالغة- على العكس من ذلك- على جانب كامل من التحوط والحذر، عندما تنعدم لديها التفاصيل التاريخية. ونحن مضطرون لنقص هذه التفاصيل لدينا أن نلجأ إلى المراجع والوثائق النفسية التي يقدمها القرآن، يدفعنا إلى ذلك اطراد ذات النبي، وتشابه تصرفاتها خلال مراحل حياته جميعاً، منذ مشهد زواجه الذي أتاح لنا أن نجمع بعض المعارف الموضوعية عن تلكم (الذات). وكل ما في الأمر أن هذا الرجل الذي اختفى من مسرح التاريخ خلال خمسة عشر عاماً، سيظهر على هذا المسرح خلال ثلاثة وعشرين عاماً لكي يعيش ويفكر ويتكلم ويعمل في رابعة النهار، أكثر من أي وقت مضى. والواقع أننا نعلم فيما يتصل بالمرحلة القرآنية كل التفاصيل، حتى التافه منها عن حياته الزوجية، بفضل هذه السيرة التي كانت صامتة منذ هنيهة، فمن الممكن أن تتجلى الخطوط الأساسية لعزلته، من مراجع حياته اللاحقة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه هو الذي أشار فيما بعد إلى طريقته في استخدام وقته، فهو يقول في حديث له: ((وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات. ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفَكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمَّة لمعاش، أو لذة في غير محرم (1))). فإذا نحن قررنا اطراد الذات المحمدية، فها هو ذا برنامج الحياة المرسوم الذي يجب أن يتبعه، ولا سيما في مرحلة عزلته.

_ (1) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم. وقال صحيح الإسناد عن أبى ذر الغفاري رضي الله عنه. (المترجم)

العصر القرآني

وفضلاً عن ذلك، فإن العادات تثبت خاصة لدى المراهق لكي تنعكس بالتالي على جميع حياته. وكذلك الحال على ما نعتقد فيما يخص النبي، كما تدل عليه ملاحظة زوجه عائشة حين أثارها الاهتمام بصحته، من قيامه الطويل بالليل في صلاة النافلة (1)، لقد كانت حقاً عادة ثابتة عند النبي منذ زمان عزلته. وعليه، فإذا كان النبي يخصص جانباً كبيراً من وقته للصلاة، بينما تلح عليه هموم التفاصيل المادية لرسالته، فلقد كان عنده من الفراغ ما يسمح له بالاعتكاف عندما لم يكن لديه ما يشغله من تفاصيل الحياة المادية والعامة. فلا موضع إذن للدهشة حين لا نجد غير قليل من الوثائق عن هذه الحقبة من حياته، التي كانت بصفة موضوعية بدون تاريخ. ولم يصل صدى هذه العزلة إلى العالم الخارجي، إلا حوالي نهاية هذه الحقبة، مع الخبر المثير لظهور النبي المنتظر. ... العصر القرآني المرحلة المكية إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - الآن في الأربعين من عمره، إن الستار يرتفع من جديد عن تاريخه، ولكنا نجده في أزمة أدبية عميقة.

_ (1) في رواية البخاري ((وقالت عائشة رضي الله عنها: كان يقوم حتى تفطر قدماه (تتشقق))) وفي حديث آخر عن المغيرة رضي الله عنه أنه قال: ((إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)). (المترجم)

فمنذ خمسة عشر عاماً لم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى حنيفي بسيط يقسم وقته حسب كلامه هو، بين عبادة الله والتأمل في جميل صنعه. إن السماء العميقة التي تغطي بقبتها الزرقاء المنظر الملتهب لجبل النور ما تزال تجتذب مقلته، كما كانت تجتذب مقلة الطفل أمام فسطاط مرضعته. ولكن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس عقلاً منهجياً يبحث عن نظرية في الكون واتساقه، ولا هو فكر مضطرب يبحث عن طمائينته، فإن طمائينته متوافرة لديه دائماً، وخاصة منذ اعتزاله، فهو يؤمن بإله واحد هو رب إبراهيم. فمن الخطأ فيما يبدو لنا أن يرى النقد الحديث- ولا سيما الأستاذ (درمنجهام) - في هذا العصر مرحلة من البحث والقلق، أي نوعاً من إرادة التكيف وتخلّق الفكرة عند النبي، بل على العكس تماماً تبرهن وثائق العمر على أن المشكلة الغيبية لم تساور ضميره فقد كان عنده حلها، وجزء من هذا الحل إلهامي وشخصي. وجزء آخر موروث لأن إيمانه بإله واحد إنما يأتيه من الجد البعيد (إسماعيل). هذه الملاحظة أساسية لدراسة الظاهرة القرآنية بالنسبة للذات المحمدية كما تصورها لنا في الواقع تفاصيل التاريخ. ويحسن أن نبين خاصة أن أي اهتمام شخصي لا يتدخل عند هذا المتأمل المعتزل الذي لا تعنيه المشكلة الدينية، إنه بحث عن مجرد سلوك أخلاقي، على طريقة نساك الهند، أو متصوفة الإسلام، أكثر من أن يبحث عن دعوة؛ فبين ذاته والواقع الغيبي الذي يتأمله لا يمكن أن نقرر- فيما يخص هذا العصر على الأقل- رباط فكرة مقصودة، وليس هذا مجرد تقرير، بل هو بيان لحالة هذه الذات المتجاوبة مع سائر الظروف النفسية الأخرى، كما تتراءى في سيرة النبي وفي شهادة القرآن على ماضيه.

ومع ذلك ففي حوالي الأربعين نجده وقد شمله الهم والألم أيضاً، أنه يشك!، إنه لا يشك في وجود الله، فإن ثقته فيه لم تتزعزع أبداً. ولكنه يشك في نفسه هو!. فكيف، ولماذا ورد هذا الشك على نفسه؟ لماذا يجد الآن ظل شخصه في حقل تأملاته؟ ولماذا يجد طيف ذاته يتوارد على أعماق نظراته الدينية، حتى ليصبح تقريباً فيها نقطة الارتكاز؟ والسيرة المهتمة بالتفاصيل التاريخية عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تقدم أية معلومات عن هذه الحالة النفسية الهامة أيضاً. ولكن لدينا مع ذلك في الآية المذكورة من قبل، وفي تعقيبه على خديجة عندما فاتحته في أمر الزواج، الإجابة على المشكلة التي تواجهنا بها حالة النفس، التي نجده فيها في نهاية اعتزاله. وعلى الرغم من أن الآية وتفصيل السيرة المذكورة لا يفسران لنا ماهية الشك المحمدي؛ فإنهما يشهدان بأن هذا الشك ليس ناتجاً عن أمل أهوج، أو جنون بالذات، أو تضخم في تلك الذات عند (محمد) عليه الصلاة والسلام. فنحن مضطرون إلى أن نرى في هذا الشك نتيجة لحالة شخصية عارضة، وجد فيها النبي نفسه فجأة أمام مبادئ شعور، وأمام استشعار لبعض الأشياء الغريبة تمس من قريب مصيره الخاص. فإلام يعزى هذا الإحساس الذي يطوِّف الآن في أنحاء نفسه، وهو يخز بصورة مؤلمة طبيعة فكره الموضوعية؟ هل كان ذلك مجرد حركة للاشعور، أو إلهاماً بحل قريب وغير عادي للمشكلة؟ إن بعض الفصائل الحيوانية تُلهَم الطوارئ والاضطرابات التي تصيب مساكنها عما قريب، فهذا النمل الأمريكي يغادر مساكنه قبيل اندلاع الحريق

فيها بليلة، وفي جنوب قسنطينة نوع من الحيوانات القارضة يبرح أرضه في مسارب الأودية قبيل الكوارث الطبيعية. فهل كان عند النبي ما يشبه هذا الإلهام، أي التنبؤ بالظاهرة القرآنية التي ستلهبه وتغمر وجوده كله؟ فلو قلنا إن ذلك من عمل اللاشعور، فيجب أن نطبق هذه القاعدة على تفسير مادة القرآن كلها وتفسير فكرته المتصلة، كما نفسر بها أيضاً أعراض الظاهرة وطوارئها عند النبي، ولكن هذا- كما سنشير إليه فيما بعد- ليس أبداً ممكناً. ومع ذلك فإن النبي سيكاشف زوجه الحانية بهمومه، ويشكو لها بمرارة، إذ يظن بنفسه الجنون والمس، ويرى أن سحراً مشؤوماً قد أضرَّ به. ولكن خديجة الفاضلة تواسيه وتهدئ روعه قائلة: ((والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)). وفي هذه العبارات التاريخية تظهر لنا بطريقة لا تحتمل الجدل فكرة "الإله الواحد" تشيع في الوسط العائلي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى قبيل دعوته. وهذه الملاحظة تتيح لنا أن نستنبط من مراجعنا اقتناع محمد - صلى الله عليه وسلم - الشخصي في هذه النقطة خلال اعتزاله، وهي تضيف تفصيلاً أساسياً للصورة النفسية التي نرسمها له. وعلى كل حال فإننا نجد النبي بعد هذه التهدئة يستأنف طريقه إلى عزلته. ويهاجمه الشك من جديد، ويسيطر عليه الاضطراب الشديد، الذي يطبع أحواله النفسية في ذلك العهد، وهو يحتاجه الآن أكثر من ذي قبل، لأنه يشعر (بحضور) أشبه بظل يطوف حوله.

إنه يخرج من عزلته، يذرع تلك الدروب الملتهبة في جبل النور، وهو يضيق بذلك المجهول الذي يشعر به معلقاً في نفسه، ولا حول له ولا قوة إزاءه؛ هاهو ذا مشرف على واد، يرى مخرجاً من مأساته في أعماق الهاوية، فيكاد يستسلم لفكرته المتغلبة عليه، ويخطو خطوة إلى الأمام، ولكن صوتاً أسرع من إيماءته يوقفه: ((يا محمد، أنت رسول الله حقاً)) فيرفع رأسه ليرى الأفق مشعاً يتلألأ نوراً، فينقلب مذهولاً محيراً، دون أن تزايل الرؤية ناظريه. إنها في كل مكان .... زفي جميع الأركان .... فيرتعد منها فزعاً حتى يذوي إلى الأرض، وحين يفيق يعود إلى مكة، حيث يجد هنالك موضع سره العطوف، فتفاجَأ بمنظره المحزن وبحالته المحمومة، وهو الذي تراه دائماً مهتماً بنفسه، لا يغفل أي تفصيل في هندامه، هاهو ذا الآن بشعره الأشعث ووجهه الممتقع وملابسه المغبرة، ولكن خديجة الحانية تتغلب على جزعها وترعى زوجها، وبكلمات حانية رقيقة تدخل السلام إلى نفسه الذاهلة، فيأخذ طريقه إلى جبل النور. وهاهو ذا الليل يخيم على عزلته في غار حراء، حتى إذا نام أحس بحركة في لا شعوره توقظه، إنه يشعر بحضور، وهو يلمح أمام عينيه الآن رجلاً متشحاً بلباسه الأبيض. إن المجهول يقترب منه ثم يخاطبه قائلاً: - "إقرأ" .. - ما أنا بقارئ، قالها وهو يحاول الابتعاد عنه، والهرب من ذلك الذي يأخذه فيغطه حتى يبلغ منه الجهد، ثم يرسله قائلاً: - اقرأ ... فيجيب محمد مرة أخرى: - ما أنا بقارئ.

فيكرر مرة ثالثة ذلك الشكل الروحاني الذي سيكون منذ الآن الزائر الملازم للنبي. - اقرأ ... {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 96/ 1 - 5]. كانت هذه الآية بالنسبة للنبي، وللتاريخ المرة الأولى التي تظهر فيها (الظاهرة القرآنية) التي ستضم بين دفتيها الثلاثة والعشرين عاماً الأخيرة من حياة النبي. ومن هذه اللحظة أصبح لدى النبي الأمي شعور"بأن كتاباً قد طبع في قلبه" (1) ولكن لم يكن له أن يتصفحه كما يشاء، ولا أن يطلع عليه كما يهوى، إذ أنه سيوحى إليه كلما دعت حاجة الرسالة. ولقد يتأخر الوحي ويبطئ، حتى عندما تلح إحدى الحالات العاجلة: ولتكن حالة اتخاذ قرار، أو سن تشريع لمناسبة معروضة على النبي. ولنذكر إحدى هذه الحالات؛ ففي بدء الرسالة، وعلى وجه التحديد بعد الوحي الأول الذي رويناه، انتظر النبي زمناً طو يلاً، أكثر من عامين، قبل أن يرى للمرة الثانية زائره الغريب ويسمع صوته. لقد يئس منه، وأخذ الشك يستولي مرة أخرى على نفسه التواقة إلى اليقين، فهو يعتقد أنه إما أن يكون قد خدع في جوارحه، وإما أن القدرة قد تخلت عنه، تلك التي اعتقد حيناً أنها هي التي تقوده.

_ (1) في السيرة الحلبية ج 1 ص 328 نص يوهم بهذا المعنى ((فكأنما كتب في قلبي كتاباً)) ويحتمل أن يكون معناه على المصدرية. (المترجم)

هذا القلق مؤلم لنفسه، وإنه ليتسرب إليها كأنه حية تطوق فكره ومشاعره، فتحطم بضغطها طموح هذه النفس المتأصل إلى اليقين الصادق. ومرة أخرى: لحظات مؤلمة، ودقائق مؤثرة بالنسبة لمحمد، ذلك الذي يبحث مستيئساً في نفسه وفيما حوله، عن النبع الخفي الذي تدفقت منه الآيات الأولى من القرآن، وإنه لدعاء حزين لنفس موجعة، وضمير أضناه القلق، دعاء إلى صوت لا يجيب، أو لا يريد أن يجيب، فقد التزم الصت خلال أكثر من عامين. وإن فكر (محمد) - صلى الله عليه وسلم - ليحاول مناقشة حالته الفريدة، دون أن يجد لها تفسيراً، فهو يغرق في الإعياء، وقد هدّه ما يعانيه من التوتر العصبي، لقد كان يتفانى كأنه شيء خامد سقط في النوم. ولكن خديجة- الملاك الحارس- كانت تسهر عليه. وينام (محمد) بعد نوبة من نوبات الانهيار العميق، وكانت زوجه بكلماتها الممتلئة بالحنان الأمومي قد كفكفت منذ لحظات أزمته، بعد أن دثرته في عباءته، وطلبت إليه أن يستريح. نام نوم الطفل الذي أعياه البكاء، وملأ قلبه الشجن، فهدأ بدوره قلق الزوج العطوف، حين لمست من النائم أنفاسه الهادئة، فخرجت بخفة حتى لا توقظه. ولكن صوت حراء يرن فجأة في أذني النائم فيهب كأنما مسته الحمى ... {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر 74/ 1 - 3]. لقد أصمّه النداء وأضناه مرة واحدة، إذ أن هذه المباغتة جعلته يدرك فجأة أهمية الأمر الذي تلقاه ولم يكن ينتظره. لقد وجدته خديجة جالساً، غارقاً في تأملاته، فدفعتها الدهشة من استيقاظه إلى أن تسأله: ((لم لا تنام يا أبا القاسم))؟.

فيجيبها ... : "انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس، وأن أدعوههم إلى الله وإلى عبادته، فمنذا أدعو؟ ومنذا يستجيب؟ .... (1) ". وكما حلت الأزمة الأولى عند النبي بصورة غير متوقعة، فإن حل هذه الأزمة يبدو أنه قد فاجأه أكثر من ذي قبل، وبعبارة أخرى أرهقه، وإن مفاجأته في المرة الأولى للوحي، وعناءه وعجزه هذه المرة أمام هذا التكليف غير المتوقع، الذي تلقاه في صورة أمر، ليسجلان في نظرنا حالتين نفسيتين ضروريتين خاصة لدراسة الظاهرة القرآنية بالنسبة للذات المحمدية. وبوسعنا أن نذكر أن موقف هذه الذات بين الأزمتين وبين حلي المشكلة، لم يكن مطلقاً مطبوعاً بأمل القيام بدعوة، ولكنه كان يبحث فقط عن فضل لمسه من الله منذ الوحي الأول. ولنا أن نذكر أيضاً أنه فيما يتعلق بفترة الوحي كان جهد محمد اليائس مجرد محاولة لاسترجاع ما فاته من فضل الله. ونحن نرى أن هذا الجهد يؤكد في الواقع بصورة قاطعة استقلال الظاهرة القرآنية عن ذات موضوعنا (النبي). وما كان لنا بداهة أن نقرر أن الحل الثاني للأزمة النفسية يمكن أن يتأخر لو كان مصدره هو (اللاشعور)، لدى إنسان لم يسع إلى إخماد الظاهرة وكبتها في نفسه، بل إنه على العكس قد وجه كل إرادته وكل وجوده لتيسير ظهورها.

_ (1) هذا الخبر غير موجود في كتب الحديث (ف) وفيما لدينا من مراجع السيرة. وإن كان قد ورد في كتاب (حياة محمد) وفي كتاب (أزواج النبي) دون أن ندري لمؤلفيهما مرجعاً. (المترجم)

هذه التفاصيل النفسية تبرز تماماً العزم النهائي عند محمد على قبول دعوته، بوصفها تكليفاً يأتيه من أعلى. إنه يقبلها في الواقع، ولن يتخلى عنها أبداً، حتى ولو تعرض فيما بعد لسخرية أطفال مكة ولو آذاه وأنذره، وفتك به سادة قريش كأبي لهب وغيره من المشركين. لا شيء سيرغمه على التخلي عنها، لا المصالح المضيعة لأسرته، ولا توسلات عمه الوقور أبي طالب، عندما يضغط عليه أشراف مكة كما يضع حداً (لفضيحة) ابن أخيه، ولا اقتراحهم عليه أن يتولى أسنى منصب في إدارة المدينة، هذا كله لا يحول الرسول عن طريقه الثابت إلى الأبد منذ حل الأزمة الثانية. وعندما جاءه عمه لكي يفاتحه في أمر قريش، واضعاً تحت نظره الإجراءات القاسية التي رحموها في حالة ما إذا رفض عروضهم، أجابه وقد دمعت عيناه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه". وأمام هذه العزيمة الخارقة لم يتمالك ذلك العجوز إلا أن يطمئن ابن أخيه بحمايته حتى النهاية. فقررت قريش نبذ (محمد) وذويه من المجتمع، وكتبوا بذلك صحيفة علقت في جوف الكعبة. ولقد حرمت الأسرة المفجوعة بهذه المقاطعة من كل علاقة مع المدينة،. حتى من التعامل الأدبي، أو الزواج من الأسر الأخرى. وتذكر السيرة أن هذا الميثاق قد أكلته الأرَضة، وأن النبي قد رأى ذلك

مناماً قبل حدوثه، وبذا راجعت قريش مسلكها، وسحبت قرار المقاطعة. وأياً ما كان الأمر، فإن هذه الصحيفة الظالمة القاطعة، كانت قد سقطت قيمتها بمرور الزمن، وعاد بنو هاشم والمطلب من جديد إلى مكة بعد محن طويلة مهلكة. فعاد النبي يبلغ دعوته في صحن البيت الحرام، ولكن سادة قريش كانوا قد دبروا (مؤامرة صمت) حول دعوته، فكانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى تلاوة القرآن. ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس لا يقبلون على دعوته، فقرر أن يحملها إلى مكان بعيد، إلى الطائف، لكنه لاقى هواناً أقسى، ومعاملة شريرة في سبيل مهمته، فلقد رماه الناس بالحجارة، وبثوا الأشواك في طريقه، وأغروا به الأطفال والعبيد يسخرون ويستهزئون، فلجأ (الداعية) إلى حائط يحتمي به، دامي القلب من غباوة القوم وشراستهم، ولكن نفسه كانت لا تعرف الحقد؛ لقد كان كل ما فعله أن رفع عينيه إلى السماء، وهو يتمتم بدعاء كله حرارة وخشوع وحب، لا يمكن للنفس الإنسانية أن تصرح بها لحظة كرب كهذه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، لَكِنْ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي؛ أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ مِنْ أَجْلِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُحِلَّ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُنْزِلَ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ». وعقب هذه الصدمة القاسية رجع النبي إلى مكة، ولكن محنة أخرى كانت تنتظره هناك.

إن الموت ينتزع منه حاميه الوحيد عمه أبا طالب (1). وسيترك لنا مشهد النزع والاحتضار تفاصيل تاريخية ثمينة بالنسبة لصورة (رسول الله) النفسية في هذه الحقبة، فلقد كانت هذه في الواقع بالنسبة له أخطر لحظات مهمته التي اختلط فيها الحنو البنوي بهمّ النبي لإنقاذ نفس عزيزة، ترفض النجاة في صلف ومكابرة، فإن ابن الأخ ليهوله أن يموت عمه مشركاً. وهي لحظة مفزعة له، إذ يتمثل في شخصه ويتحدث على لسانه النبي الذي يتمنى أن ينقذ من كان له نعم الأب. ها هو ذا صوت المحتضَر العجوز يتقطع في الشهقات الأخيرة، فتضرع إليه دون جدوى أن يقر بالإسلام، ولكنه يستجمع قواه المتفانية ليقول: "والله يا بن أخي لولا نحافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً لأقررت بها عينك، لما أرى من شدة وجدك" (2) وانتاب ابن الأخ ألم مبرح، وهو يرى عمه العزيز يغادر الحياة دون أن يغادروثنية آبائه. هذا المشهد العائلي الرهيب، بين عجوز مشرف على الموت، وابن شجاه الهم والقلق، وغمرته اللهفة والإشفاق، يكشف في إحدى اللحظات الحاسمة عن إخلاص النبي المطلق. ولكن خسارة أخرى أشد إيلاماً، تحدث قريباً لتغمره حزناً، فبعد قليل فقد (محمد) (صاحبته الحانية الفاضلة).

_ (1) في رواية ابن الأثير نص على أن خروج النبي إلى ثقيف بالطائف، كان بعد وفاة عمه أبي طالب، وقد اشتد به الأذى، وكذلك نص ابن الأثير على أن موت السيدة خديجة كان قبل موت أبي طالب بأيام تتراوح بين ثلاثة أيام وخمسين يوماً، على اختلاف الروايات، كذا في إمتاع الأسماع [ص:27]. (المترجم) (2) السيرة الحلبية ج1 [ص:250].

المرحلة المدنية

هذه الفجيعة المزدوجة مسته وأثرت عليه في أعمق مشاعر الإنسان، وأصابته بالقدر نفسه في مصلحة دعوته، فقد فقَد بفقده عمه وزوجه العضد الأدبي والمادي الذي كان يؤيده في مكة، وفضلاً عن ذلك فإن إقامته ستصبح في الحال مستحيلة، فإن قريشا ًالتي كانت مهابة أبي طالب تفزعها قد انطلقت الآن من عقالها، ورأت أن الوقت قد حان لتدبر مقتل النبي لإنقاذ مصالحها السياسية، وامتيازاتها التجارية بين القبائل العربية (1). لقد حيكت مؤامرة، تشترك فيها القبائل جميعاً، حتى لا يقع دم الضحية على عاتق قبيلة بعينها. المرحلة المدنية بينما كانت مكة تتآمر ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت المدينة على العكس من ذلك تهيئ له استقبالاً حماسياً حافلاً. وكانت بيعة العقبة- ميثاق النبي مع رجال المدينة الملقبين منذ ذلك الحين بالأنصار- وهمةُ النقيب مصعب بن عمير، الذي عرف كيف يكسب للإسلام كثيراً من عواطف يثرب، كان هذان العاملان هما اللذان مهدا للهجرة. وفي إحدى الليالي، بينما كان المتآمرون يحيطون ببيت النبي، خرج تحت أعين أعدائه، دون أن يروه- كما جاء في الخبر- ولقد نجح في الوصول إلى ضواحي مكة برفقة صاحبه أبي بكر، فلجأ إلى (غار ثور)، حيث كان على الدليل الذي اتفقا معه أن يلحق بهما مع نوقه حاملاً المؤونة في يومين أو ثلاثة لتضليل المطاردين، ولكن الرجفة كانت قد أخذت مكة ساعة رحيل المهاجرين، فقامت قريش على آثارهما.

_ (1) يذهب بعض ذوي الرأي إلى أن دافع المؤامرة كان أعم من هذا، إذ كان في جوهره دفاعاً عن عقيدتهم التي سفهها الدين الجديد. (المترجم)

إن من يعرف حياة الصحراء، يدرك تماماً ضآلة الفرصة التي كانت أمام النبي وصاحبه للنجاة، ولقد بلغ القافَة فعلاً مدخل الغار، لكنهم لم يتجاوزوا عتبته، وتفسر السيرة هذه الحادثة الغريبة بتدخل معجز لحمامة ورقاء ولعنكبوت واهن. وأية كانت وجهة الأمر، وحتى لو كانت تعليقات السيرة قد أمكنها أن تتدخل في تفسير هذا الحل العجيب، فإن القيمة التاريخية للحادثة ليست بأقل ثبوتاً، فهي- في الواقع- مقررة في أوثق مصادر ذلك العصر، وهو القرآن؛ وقد ورد الحادث صراحة في قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة 40/ 9]. وواضح من هذا أن القدر قد يمهد سبله بطريقة غير مفهومة أحياناً، تحير الخواطر والعقول. ونحن نرى لفائدة دراستنا هذه أن نهتم بالتفصيل النفسي في هذه الحادثة التاريخية، ذلك التفصيل الذي تدل عليه سكينة النبي، حين كان يطمئن رفيقه، في هدوء يفوق طاقة البشر، بينما الخطر والموت على قيد خطوات؛ وإن إخلاص النبي الذي نؤكده في هذا القياس الأول بوصفه شرطاً ضرورياً، لاستخدام الآيات القرآنية وثائق نفسية ثابتة، هذا الإخلاص يتجلى هنا بوضوح وبصورة روائية في تلك اللحظة الحاسمة. وأخيراً، فحينما انسحب المطاردون استطاع المهاجران أن يأخذا طريقهما إلى يثرب موطن الأنصار، الذين أعدّوا لهما استقبالاً عظيماً، وغيرت مدينة (يثرب)

اسمها فأصبحت (مدينة الرسول) كما تخص نفسها تماماً للدعوة والداعية (1). وعلى أسطح المنازل، ترقب النساء والأطفال مقدم المهاجرين العظيمين، واستهلوا العهد الجديد، عهد الهجرة. بأنشودة، ترددها منذ ذلك الحين أجيال الإسلام: طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا للهِ دَاعْ أَيُّهَا الْمَبْعُوثُ فِينَا ... جِئْتَ بِالْأَمْرِ الْمُطَاعْ وبينما كانت هذه الأنشودة تنطلق من كل مكان، كان المهاجرون والأنصار يعقدون فيما بينهم أواصر الأخوة الإسلامية، أساس المجتمع الجديد والحضارة الجديدة. ولكن، كم من المشاكل التشريعية والدينية والسياسية والعسكرية سيواجهها هذا المجتمع الناشئ؟. إن حل هذا الحشد من المشاكل هو الذي سيظهر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبقرية ذات رحابة لا مثيل لها، مستهدياً بالوحي الذي يجإء حاملاً دائماً الشعاع العلوي والكلمة الأخيرة. وسيكشف (الرجل) عن ذكاء عجيب، وعن حكم على قيم الأشياء، وعلى نفسية الرجال منزَّه تقريباً عن الخطأ، كما يكشف عن إرادة لا يعتريها الوهن. لقد تتبعنا حتى الآن خطواته داعية فحاولنا أن نفهم حركات قلبه، وخلجات نفسه، وأن نكتشف في إشاراته وفي دعوته الدلائل الناصعة على خشوعه وإيمانه وإخلاصه المطلق.

_ (1) أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يثرب (طابة أو طيبة) حين نزلها في الهجرة، وأطلق عليها (مدينة الرسول) في المناسبة نفسها وما تلاها (معجم البلدان لياقوت ج2 ط بيروت). (المترجم)

وإذا كانت الرحلة المكية في جوهرها عهداً روحياً، هو عهد النبي الداعية الذي يرشد المصطفين الأخيار، فإن المرحلة الدنية استمرار للمرحلة الأولى، ونتيجة زمنية لها في وقت واحد، فالنبي والقائد سيتحدان الآن في ذات واحدة تدعو وتقود جموع المؤمنين. وإنه لمن الواجب حقاً أن يتبع فن قيادة الجماهير ما يتصل بنفسية الفرد، فإن مشاكل مجتمع ما لا يمكن أن تحل بالأسلوب الرائق الرشيق فحسب، ولذلك فإن الرسول سيتيح لنا أثناء شغله في حل تلك المشاكل جميعاً أن نكمل صورته النفسية بمظهر عقلي، إذ عندما يضطرم نشاطه يمكن أن نفهم ألوان فكره، وأن نقوِّم نسيج إرادته، وأن نقدر قيمة حكمه على الآخرين وعلى نفسه أيضاً. وإنه لزعم غريب أن نحاول الإحاطة بجوانب هذا المظهر العقلي جميعاً، فذلك يستلزم أن نلم بتاريخ العبقرية الفذة كله في الحدود الضيقة لهذا الفصل. بل إننا سنقتصر على أن نضع بعض المعالم التي تؤدي إلى النتيجة المقصودة من هذا القياس. سيكون شغل النبي الشاغل بالمدينة أن يقر فيها السلام، ويخلصها من خصوماتها الداخلية، ويصلح ما بين الأوس والخزرج، لتنظيم دفاع فعال ضد الأعداء في الخارج: (قريش). إن ساعة الجهاد ستؤذن عما قريب. ولقد كان هذا مثار دهشة وعجب لدى النقاد المحدثين، فهم لا يفهمون أن (الداعية) يدعو هكذا إلى حمل السلاح، ولكن إذا كان النبي قد حمل السيف فلأنه كان يعلم جيداً أن مكة لن تلقي السلاح، وسيعطيه التاريخ على ذلك البرهان القاطع. ولا مجال هنا لأن نعقد موازنة بين المسيحية والإسلام في هذه النقطة، فإن الظروف التاريخية ليست واحدة، إذ تواجه الأولى من الداخل دولة منظمة

تحطم أجهزتها، على حين أن الإسلام يواجه دولة منظمة نوعاً ما من الخارج هي مكة، فكان عليه أن يختار بين أن يحطمها أو يتحطم، وفضلاً عن ذلك فإن هذه الظروف يفرضها مجرى الحوادث نفسه إذ أن الجهاد يعد من الناحية التاريخية نتيجة للهجرة. هذه الظاهرة نفسها قد حدثت في تاريخ اليهودية، عندما واجه بنو إسرائيل بقيادة موسى ويوشع من الخارج، دولاً منظمة على شاطئ نهر الأردن. فالرسول إذن سينظم صفوفه من أجل الصراع المسلح الذي سيفتح له أبواب مكة في السنة الثامنة من التاريخ الجديد، ولكن كم سيعترض الدعوة من عقبات قبل هذا الموكب العظيم الذي يدوخ، يوم دخول المسلمين مكة، ذلك الصَّلِف أبا سفيان؟ إن مجموعة من الأسماء المهيبة ستدوي منذ ذلك الحين في أركان التاريخ العالي: بدر ... أحد ... الخندق ... حنين .. لسوف تعرض الملحمة المحمدية آنذاك على شاشة التاريخ مجموعة من الأحداث الأسطورية، حتى كأنها رواية سحرية. ها هو ذا حلم (آمنة) القديم، عندما كانت تهز بين أحضانها ثمرة أحشائها، وعندما كانت يخيل إليها أنها تسمع صهيل الخيل وعدو الفرسان وقعقعة السلاح، هذا الحلم القديم سيتحقق اليوم على صفحة الواقع. وفي هذه الملحمة سيتدخل القائد دائماً لكي يفصل في حالة دقيقة، ولكي يتخذ قراراً سياسياً هاماً، ولكي يضع خطة استراتيجية، ولكن النبي هناك دائماً، يشرف على أعمال القائد، ويمضي قراراته من وجهة نظر دعوته، التي تخلع على كل تفصيل في هذه الملحمة الطابع الروحي الضروري الذي ينسبه إلى الله. وسنجد (محمداً) عندما ستدق ساعة بدر، بعد أن يكون قد اتخذ أهبته الحربية الكاملة، نجده وقد شعر بخطورة اللحظة التي ستقرر مصير الإسلام،

وقد رأى التفوق العددي لأعدائه بالنسبة لحفنة الرجال التي يقودها، نجده يرفع عينيه إلى السماء: "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، اللهم أنجز ما وعدت". وهذه الكلمات البسيطة تدل بوضوح على أن (بدراً) ليست كمعركة (كان) (1) أو (استرليتز) (2) أو (سنغافورة) (3). ولقد كانت هذه الملحمة تتحرك بعبقرية (محمد) القادرة، وإرادته الخارقة، متتبعة وثباته من نصر إلى نصر .... حتى حنين. وإن عمق آرائه ليحير أحياناً صحابته أنفسهم، فإن أول عمل دبلوماسي أمضاه مع مبعوثي مكة، سيكون بالنسبة لبعض الصحابة موضع دهشة ومبعث عار تقريباً، فلقد جاء الرسل من مكة لكي يصلوا مع النبي إلى أن يسلمهم من وقت توقيع المعاهدة كل مكي يأتي هارباً إلى معسكره، إذ أن كثيراً من المؤمنين المستضعفين بمكة سيهربون من اضطهاد قريش، ويجيئون لينشدوا الأمان في مدينة الأنصار. ولقد وقع النبي - صلى الله عليه وسلم - المعاهدة التي طبقت في الحال دون أن تكون ذات أثر رجعي، وبدا هذا النص العجيب وكأنما قد أتاح لمكة نصراً دبلوماسياً، تذمر منه المسلمون ورأوه فضيحة لهم. وفي اللحظة التي كان المبعوثون يتبادلون فيها وثائق التصديق، تقدم هارب مكي إلى المعسكر الإسلامي، فطالب به رسل مكة في

_ (1) معركة سحق فيها القائد القرطاجني هانيبال الجيش الروماني منزلاً بذلك الرعب في قلب روما في القرن الثالث قبل الميلاد. (2) معركة اكتسح فيها نابليون الجيش النمساوي عام 1804م. (3) معركة تم فيها للجيش الياباني بعد هجوم هائل في شبه جزيرة مالقه استسلام القوات الإنجليزية التي كانت تدافع عن هذه القلعة عام 1943م. (المترجم)

الحال، ولم يملك النبي إلا أن يسلم بالواقع، مثيراً بذلك ذهول صحابته، وأعيد الأسير، ولكنه أثناء الطريق غافل القوم وهرب منهم، وأوى إلى مكمن احتمى به، وبعد قليل انضم إليه كثير من إخوانه الذين هربوا مثله من الاضطهاد، وإذا بهؤلاء الخارجين على القانون قد نظموا على الطريق نهباً لقوافل مكة، فشلوا بذلك، وفي زمن قليل، تجارة المدينة القرشية كلها، حتى إنها رأت أخيراً أن تتوسل راغمة إلى النبي ليقبل المؤمنين الهاربين إلى معسكره. وجملة القول إن النبي قد ظفر بجميع امتيازات المعاهدة التي بطل منها الشرط الوحيد القاسي، أبطله المنتفعون به أنفسهم. وهكذا بينما كان (النبي) يقود في سبيل الله (فيلق) الشهداء الذين اتبعوه، كان (القائد) يلقن أبطال ملحمته أسمى دروس الدبلوماسية والاستراتيجية الحربية، جاعلاً من المسلمين بهذا التوجيه المزدوج أعظم الفاتحين نزاهة، في الوقت الذي يعدون فيه أكمل المستنيرين في التاريخ. لم يصنع الرسول نفوساً مؤمنة تقية فحسب، وإنما صنع عقولاً مستنيرة. وطرق إرادات فولاذية، إنه ينهي الشعور بالمسؤولية، ويشجع المبادأة في كل إنسان، ويعظم الفضيلة في أبسط صورها، وإن التأسي والمسارعة لهما رائد كل عضو في الجماعة، إذ يرى نفسه في سباق إلى الخير، بحسب أمر القرآن. وعندما قاد النبي أصحابه إلى (تبوك) كانت نيته تبدو أبعد كثيراً من هذا الهدف المتواضع، فهو يعبر الصحراء العربية، في حَمارّة القيظ مضطراً رجاله العطاش، الذين أضناهم التعب، أن يستمروا في طريقهم دون أن يحطوا رحالهم عند (آبار مدين). لم يكن هذا من الفن الحربي فحسب، ولكنه كان من التربية العالية، وإن هذا السير الذي لم يسمع بمثله في منظره الهائل ليكشف- زيادة على ذلك- عن

عملية تدريب بدني ونفسي في آن واحد، لإعداد الجيش الإسلامي كيما يواجه عما قريب الأسفار والعقبات في جميع أرجاء العالم. ولقد احتمل بنفسه كل المتاعب التي فرضها على جنده خلال هذه الحقبة المضنية، فهو مسير هائل ورائع سيوحي إلى (دينيه Dinet) بصفحة خالدة، ارتبطت فيها عبقرية مصور الصحراء المبدع بنفس المؤمن المضطرمة. و (محمد) باعتباره (نبياً) يلتزم دائماً في سلوكه الشخصي الحقيقة المنزلة، فهو يقوم جزءاً كبيراً من الليل متنفلاً، ولكنه لا يلزم أتباعه بذلك. وهو مع كونه (قائداً)، لا يستأثر بأية ميزة دون صحابته، بل إن سلوكه الشخصي يعرفهم بحدود الجهد الإنساني، فلقد كانوا يؤسسون في المدينة أول مسجد في الإسلام على تقوى من الله ورضوان، ولقد كان النبي كما كان صحابته يحملون الأحجار على أكتافهم، وكل منهم يحمل لبنة، ولكنه يلحظ مؤمناً متواضعاً هو عمار بن ياسر يحمل كل مرة لبنتين، فيخاطبه ليذكي حماسته قائلاً: " للناس أجر ولك أجران (1) ". وهكذا كانت سائر المناسبات تتيح له أن يشجع صحابته ويعلمهم أيضاً. وهو لا يريد أن يدع شيئاً يشوب صفاء أصحابه أو يثني جهودهم الخالقة. إنه يقاوم الخطأ، وخاصة عندما يأتي اعتباطاً بما يشبه المعجزة لتأييد دعوته، فكأنه كان يهتم بأن يبعد عقول أصحابه عن (المعجزة الدارجة) التي تخاطب الجوارح. ففي يوم دفن ولده الوحيد (إبراهيم) الذي رآه يكبر، حدث كسوف كلي، وفسر الناس الظلمات المفاجئة بأنها آية على مشاركة الطبيعة للنبي في حزنه، ولكنه صحح في حزم خطأ صحابته قائلاً: " إن الشمس والقمر آيتان

_ (1) الروض الأنف- الجزء الثاني [ص:13].

من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" (1). هذا التفصيل التاريخي الذي ترويه السيرة ببساطة، يثبت لنا إخلاص (محمد المطلق)، ويرينا اقتناعه الشخصي لم يكن قائماً على شبه معجزة. وعلى كل حال، ففي ضوء وثيقة نفسية كهذه لا يمكن أن نعد هذا الاقتناع نتيجة استعداد عقلي غير سليم، واتجاه منحرف لتفسير بعض الأحداث العارضة داخل الذات، أو الخارجة عنها بأنها آية علوية، إن محمداً ذو فكر موضوعي، لا يميل إلى تأييد دعوته بغير معجزته الوحيدة: (القرآن). إن الملحمة المحمدية قد بلغت الآن أوجها، ووصلت دعوة النبي إلى نهايتها، وإنه ليستشعر ذلك. وهو يودع صاحبه معاذ بن جبل ويملي عليه وصاياه الأخيرة، وهو ذاهب إلى اليمن لينشر دعوة الإسلام قال: " لو حدث لي أن أراك يوماً فسأوجز لك ما عندي من الوصايا، ولكن هذه هي المرة الأخيرة التي أحادثك فيها، ولن نجتمع إلا يوم الحشر (2) ". ولقد كان لدى أبي بكر وعمر الشعور نفسه نحو النبي، فلقد كانا يعتقدان أن أجل الوحي قد دنا، وأن إشارة إلى نهاية النبي القريبة قد وردت في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر 110/ 1 و 2 و 3]. فمن كل وجه، يبدو النبي مهتماً بدنو أجله، وأنه يأخذ أهبته الأخيرة، فهو يريد أن يملي وصاياه على الأمة، واختار لذلك مناسبة عظيمة حافلة، فأعلن عن رغبته في أداء فريضة الحج ذلك العام، وغادر المدينة ومعه آلاف الحجاج،

_ (1) رواه البخاري. (2) ليس لهذا الخبر أثر في كتب الحديث (ف).

وانضم إليهم الحجاج الواردون من أنحاء الجزيرة إلى مكة، وهنالك أدى النبي شعائر الحج كلها، كأنه يريد تسجيلها إلى الأبد في ذاكرة معاصريه لتنتقل من بعدهم إلى أعقابهم، ثم إنه صعد عرفات على ظهر ناقته، وألقى خطبته الأخيرة، خطبة الوداع، واختير صحابي جهوري الصوت ليكررها للناس جملة جملة. وفي غروب الشمس، بينما كان شبحه المحلق على قمة عرفات، يبدو مرتحلاً عن الدنيا، كأنه نهار يتلاشى في الأفق، كانت كلمات خطبته تصل الجموع كأنما تخلص إليها من صوت علوي، وكانت الجموع المتأثرة الصامتة تنصت إليه خاشعة متصدعة، وأخيراً صاح النبي: ((ألا هل قد بلغت؟)) فأجابته الجموع الحاشدة، التي بلغت قمة الانفعال، في صوت واحد .. ((اللهم نعم)) (1). وفي تلك اللحظة هبط الوحي، كأنما ليضع الخاتم على هذه الدعوة، فبركت الناقة- كما روي- على ركبتيها، وأرغت من الألم، وكانت خاتمة الوحي كما ورد في الخبر قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة 5/ 4]. وسيطلق على هذا الموسم في التاريخ (حجة الوداع). والواقع أن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله منذ الآن، حتى اليوم الأخير لن تكون إلا وداعاً لأهله ولأصحابه ولأمته، ولهذا العالم الذي خط له بعمقٍ مصائره. فضلاً عن ذلك، فإن هذا اليوم الأخير قريب جداً، إذ حينما عاد إلى المدينة وافاه مرض الموت، الذي أنهى ملحمته العجيبة وختم دعوته المبلغة.

_ (1) هذه رواية البخاري، وفي المقريزي " قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " وهي تقرب مما جاء بالأصل. (المترجم)

وفي الصلاة الأخيرة التي أقامها بنفسه في المسجد، أعلن للحاضرين رغبته في أن يقضي ما عليه من ديون قائلاً: " أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ... وإن عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده " (1). لقد ذاب الصحابة الذين أدركوا هذه الإشارة في دموعهم، وبعد شهوده يومين أو ثلاثة صلاة الجماعة، لزم حجرة زوجه عائشة حتى النهاية. وعندما حل الأجل، كان رأسه مستنداً إلى ذراع زوجه التي سمعته وهو يتمتم بتلك الكلمات الأخيرة: "اللهم في الرفيق الأعلى" (2). كان هذا هو الكلام الأخير الذي ختم بالنسبة للتاريخ حقيقة هذه الذات التي حاولنا تخطيط صورتها النفسية، لكي نجلو الظاهرة القرآنية. ولقد حاولنا حين جلونا معالم هذا الوجه المثالي أن نبرز السمات الخاصة بمحمد (الرجل) لي نتلقى منه- في بحثنا للقضية- شهادته على محمد (النبي). ولا شك أن هذه الشهادة تكون عنصراً ثميناً في دراستنا، فهي على كل حال شهادة رجل شهد له زمانه على لسان امرأة، بهذا الحكم الأخير (3): "أي رسول الله!! أنت حتى في قبرك، أملنا الغالب، لقد عشت بيننا طاهراً مخلصاً منصفاً، وكنت لكل إنسان هادياً حكيماً منيراً" (4).

_ (1) كذا في رواية ابن الأثير ج 2 [ص:116] الطبعة المنيرية 1349هـ. (2) رواه البخاري. (3) ورد هذا في رثاء عمته صفية. (المؤلف) (4) لعل هذه ترجمة لبعض ما أنشدته عمته السيدة صفية في رثائه من مثل قولها: فإما تمس في جدثٍ مقيماً ... فقد ما عشتَ ذا كرم وطيب وكنتَ موفقاً في كلِ أمر ... وفيما نابَ منْ حدثِ الخطوب وقولها: فلقدْ كان بالعباد رؤوفاً ... لهم رحمةً وخير رَشيد

كيفية الوحي

كيفية الوحي على الرغم من أن هذا الفصل قد يبدو غريباً بالنسبة للقياس الأول، فإننا نورده هنا لأن الوحي عنصر رئيسي في نظر الناقد الذي يريد أن يدرس الظاهرة القرآنية بالنسبة للذات الواعية عند محمد - صلى الله عليه وسلم -. فكيف أدرك الرسول والأنبياء قبله ظاهرة الوحي؟ .. يذهب بعض علماء الدراسات الإسلامية، إلى أن مصطلح (وحي) الذي يطلقه القرآن على هذه الظاهرة إنما يعبر عنه بالكلمات ( Intuition المكاشفة أو الوحي النفسي (1)) أو ( Inspiration إلهام)، لكن هذه الكلمة الأخيرة ليس لها أي مدلول نفسي محدد، مع أنها مستخدمة عموماً لكي تردّ معنى الوحي إلى ميدان علم النفس. أما الكلمة الأولى فلها على العكس مدلول، ولكنه لا يتفق مع الأحوال الظاهرة الملحوظة لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حالة التلقي التي يعانيها أثناء نزول الوحي. ومن ناحية أخرى، تعرف المكاشفة أو الوحي النفسي من الوجهة النفسية

_ (1) يعرف الشيخ رشيد رضا الوحي النفسي بأنه " الإلهام الفائض من استعداد النفس العالية"، ثم قال: (وقد أثبته بعض علماء الإفرنج لنبينا - صلى الله عليه وسلم - كغيره فقالوا: إن محمداً يستحيل أن يكون كاذباً فيما دعا إليه من الدين القويم، والشرع العادل، والأدب السامي؛ وصوّره من لا يؤمنون بعالم الغيب منهم أو باتصال عالم الشهادة بأن معلوماته وأفكاره وآماله ولدت له إلهاماً فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية على مخيلته السامية، وانعكس اعتقاده على بصره فرأى الملك ماثلاً له، وعلى سمعه فوعى ما حدثه الملك به) وفي كلا الرأيين جزء يتفق مع تعريف المؤلف للوحي النفسي. (المترجم)

بأنها: "معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، أو خاض فيه التفكير فعلاً"- بينما يجب أن يأخذ الوحي معنى: "المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير، وأيضاً غير قابل للتفكير" لكي يكون متفقاً مع اعتقاد النبي، ومع التعاليم القرآنية. فمن المفيد إذن أن ندرك نوع الظاهرة التي يمكن أن تكمن خلف لفظة (وحي). ونضيف أيضاً أن المكاشفة لا تصحبها أية ظاهرة نفسية بصرية أوسمعية أو عصبية كتقلص العضلات الذي نلحظه في حالة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن الوجهة العقلية لا تنتج المكاشفة عند صاحبها يقيناً كاملاً، بل كأنما تخلق نصف يقين، أي بعض ما يؤدي إلى ما يسمى (احتمالاً) والاحتمال معرفة يأتي برهانها بعدها، وهذه الدرجة من الشك هي التي تميز المكاشفة من الوحي من الناحية النفسية. أما يقين النبي فقد كان كاملاً، مع وثوقه بأن المعرفة الوحى بها غير شخصية وطارئة وخارجة عن ذاته. وهذه الصفات تتأكد في نظر الذي يتلقى الوحي، تأكّداً لا يبقى معه ظل من الشك فما يتصل بموضوعية الظاهرة الموحية، وهذا شرط أول مطلق ضروري لاعتقاد النبي الشخصي. هل يمكن أن نعزو لمجرد (المكاشفة) تلك الدوافع الشعورية، التي أرغمت (أرمياء) على المقاومة العنيفة ضد مكاشفة (حنانيا)، التي جاءت بعكس آراء أرمياء نفسه، فجعلته يصدر في يقين وعنف حكماً على (حنانيا) بالموت، فيموت فعلاً بعدقليل (1)؟. وهل كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفسر بالمكاشفة حالة أم موسى حين ألقت ولدها في اليم؟.

_ (1) راجع [ص:89] وما بعدها.

وهل بالمكاشفة كان النبي يميز فيما ينطق به بين نوعين من (الإيحاء) هما: الآية القرآنية التي يأمر بتسجيلها فوراً، والحديث الذي يستودعه ذاكرة صحابته فحسب، ومعلوم أن القرآن من حيث المقاطع الصوتية جزء مما نطق به النبي؟. إن تمييزاً كهذا يكون من السخف الخالص لو لم يكن لدى صاحبه في الوقت ذاته علم تام بالفرق بين القرآن والحديث. ومع ذلك فهذا التمييز أساسي، ذُكِّر به النبي في القرآن، في آيات كثيرة ورد فيها ذكر الوحي، سواء في صورة الاشتقاق المصدري (وحياً)، أم في صورة فعلية (أوحى، وأوحينا ... الخ). وسنحاول استخلاص التفسير القرآني لهذه الكلمة من خلال الفقرة التالية التي تختتم قصة مشهد غيبي: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص 38/ 67 - 70]. فهذه الآيات- فيما يبدو- تسوق معنى الوحي لغايات جدلية، كيما تتيح للنبي أن يستخدمه برهاناً في محاجته خصوم دعوته. وفي آيات أخرى يسوق القرآن معنى الكلمة لحاجة النبي الشخصية، ومن أجل تربيته الخاصة، وذلك مثلاً ما يتجلى في الآية التالية: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران 3/ 44]. فهذه الآية تعطي الوحي معنى كشف المغيَّب؛ مغيب محدد تماماً، يضم التفاصيل المادية لمشهد روحي خالص، ويضم أيضاً واقعاً معيناً هو (إلقاء الأقلام).

ولقد وضع هذا المغيب المكشوف تحت نظر النبي ما يشبه القياس الذي يتيح له أن يفصل ما هو شخصي بالنسبة له، كأفكاره ومكاشفاته العادية عما لا يتصل بشخصه، فهو صادر عن الوحي. لقد بحث العلماء المسلمون هذه المشكلة في مختلف أشكالها، وعالجها الشيخ (محمد عبده) في رسالة التوحيد، في هذه العبارات، قال بعد تعريف الوحي لغة: "وقد عرفوه شرعاً أنه إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه. أما نحن فنعرفه على شرطنا بأنه عرفان يجده الشخص في نفسه، مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس، وتناسق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور" (1) ولقد بقي في هذا التعريف الذي أسهب الأستاذ الإمام في تحديده بعض الغموض فيما يتصل بتفسير اليقين عند النبي. والواقع أننا في الحالة التي لا يكون الوحي فيها منتقلاً بطريقة محسة - مسموعة أو مرئية- سنقع في تعريف الوحي تعريفاً ذاتياً محضاً، إذ أن النبي في التحليل الأخير لا يدري بصفة موضوعية كيف جاءته المعرفة، وهو يجدها في نفسه مع تيقنه بأنها من عند الله، إن في ذلك تناقضاً واضحاً يخلع على ظاهرة الوحي كل خصائص المكاشفة، ولكن هذه- كما يجب أن نكرر- لا تنتج يقيناً مؤسساً على إدراك، ذلك الذي يبدو أنه اليقين المقصود في الآيات التي ورد فيها ذكر الوحي، والتي تتصل خاصة بإعداد (محمد) الشخصي لفهم طبيعة الظاهرة القرآنية.

_ (1) رشيد رضا (الوحي المحمدي) [ص:28] القاهرة 1935م.

إقتناعه الشخصي

ولنأخذ مثلاً الآية القصصية التي تذكر الإيحاء إلى الحواريين وما أجابوا به، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة 111/ 5]. فالوحي هنا يأخذ معنى (كلام عادي) موجه إلى الحواريين، وقد جسمته بكيفية ما إجابتهم نفسها، وهذه الإجابة تدل أيضاً عند هؤلاء الحواريين على يقين إدراكي ناتج بأكمله عن الوحي، وليس مصاحباً له، فإن التيقن بصحة ظاهرة ما ليس مصاحباً في إدراكنا لوقت مشاهدتها، بل هو ينتج كصدى عقلي يصدر عنا. ويترتب على هذا أن يقين النبي في مصدر المعرفة الموحاة لا يجيء مع الوحي نفسه، ولا يؤلف جزءاً من طبيعته، بل إنه في صورته الكاملة من عمله الشعوري بوصفه رد فعل طبيعي لهذا الشعور إزاء ظاهرة خارجية. هذا الوصف يعطي الوحي نفسه- كما نريد أن نوضح- الخصوصية التي تجعله خارج أحوال الفرد النفسية، لتكون مهمته الوحيدة أن يصوغ أساساً عقلياً ليقينه واقتناعه الشخصي. إقتناعه الشخصي مقياسه الظاهري مقياسه العقلي يبدو أن الكتاب المحدثين لم يأخذوا في اعتبارهم- أثناء تحليلهم للظاهرة القرآنية- حقيقة نفسية جوهرية هي: اقتناع النبي الشخصي. ومع ذلك فمن

الواضح أن انفراد النبي بكونه الشاهد الوحيد المباشر على الظاهرة، يخلع على هذه الحقيقة قيمة استثنائية خاصة. ومن قبيل هذا أننا نجد دراسات هؤلاء الكتاب تعكس تناقضاً مزدوجاً، فهي من ناحية تعد الوحي ظاهرة ذاتية، قولاً واحداً، ومن ناحية أخرى لا تتلقى على هذه الظاهرة شهادة الذات المقترنة بها اقتراناً تاماً. هذا النقص غير المفهوم هو الذي دفعنا إلى أن نبين أولاً، في الفصل السابق القيمة الأدبية والعقلية لهذه الذات، كيما نتلقى- على علم- شهادتها باعتبارها شرطاً يجلي مشكلة الوحي النفسية. وهكذا نحاول أن نضيف إلى معرفتنا الشخصية- رأي هذه الذات الخاص في نفسها، وفي الظاهرة التي نبحثها، ذلك الرأي الذي ينعكس بكل وضوح في اقتناعها النهائي. فالأمر على هذا يقتضي أن نتناول هذا الاقتناع- الذي ندرسه في نطاق قيمته العقلية- بوصفه برهاناً مباشراً على الظاهرة القرآنية، وعلى صفتها العلوية. وهذه القيمة العقلية مرتبطة بالطريقة التي تنشئ الاقتناع في نفس النبي. هل كان هذا الاقتناع تلقائياً أو ناشئاً عن تفكير؟ .. لقد رأينا في الفصل السابق كم عانى النبي من الشك في نفسه، في نهاية عزلته، بينما كان استشعاره لحل أزمته القريب يؤرقه. هذا الواقع الثابت يمنعنا من أن نرى في اقتناعه ظاهرة تلقائية، فهو يبدو - على العكس- النتيجة التقدمية المطردة لتفكير واع، وبحث دقيق متردد للوقائع، واستبطان متغلغل في أعماق الضمير. فلنا أن نعده نتيجة لبعض العمليات العقلية التي تشترك فيها العوامل النفسية، تلك التي ندرك قيمتها السامية عند محمد - صلى الله عليه وسلم -.

مقياسه الظاهري

إن تفكير النبي وإخلاصه وإرادته وذاكرته، وإحساسه وسيطرته على ذاته، ليست هذه كلها لديه كلمات جوفاء، بل إنه على العكس من ذلك، قد أبرز هذه الخصائص الرفيعة بصورة نادرة. وعليه فإن اقتناعه يبدو لأول وهلة حقيقة لا يمكن إغفالها، هع أننا ملزمون - في مقياسنا الثاني- بأن نستخلص مباشرة نتائجنا عن الظاهرة القرآنية، من تحليلنا للقرآن. أما الآن، فيجب أن نحاول تتبع العملية التي يصدر عنها الاقتناع الشخصي لدى النبي، فالطريقة التي استطاع بها أن يعكف بنفسه على حالته الخاصة، لا تخرج دون شك عن القواعد التي يخضع لها نشاط فكر موضوعي كفكره. ولا شك أن الأحداث التي أثرت على جوارحه قد لفتت نظره أولاً للظاهرة، ثم إن فكره المتواصل- دون شك- قد تناول مثل هذه الأحداث لكي يتحقق من موضوعيتها، أعني من مجرد وقوعها على المرآة العاكسة لذاته. ومن هنا كان النبي بحاجة إلى التثبت من مقياسين يدم بهما اقتناعه: (أ) مقياس ظاهري للتحقق من وقوع الظاهرة. (ب) مقياس عقلي لمناقشتها وتسويغها. مقياسه الظاهري في سن الأربعين، يجد النبي نفسه فجأة موضوعاً لظاهرة غير عادية، فعلى شفا هاوية (حِراء) يسمع للمرة الأولى هذا الصوت: "يا محمد .. أنت رسول الله ". فيرتفع بصره نحو الأفق، وإذا بضوء يبهره محيطاً بصورة غير مألوفة. هذا

الحادث المزدوج الذي أمسك به على حافة الانتحار يصبح الآن بالنسبة له شغلاً متسلطاً مؤلماً: فهل سمع ورأى حقاً؟ أو أن هذا الحادث السمعي البصري لم يكن سوى سراب باطني، انبعث في نفسه تحت تأثير انفعال مؤلم قاده إلى شفا الهاوية؟ ألم تخدعه جوارحه المنفعلة؟ لقد كان يجب أن تثور هذه الأسئلة كلها من أول وهلة في ذهن النبي، حتى قبل أن يثيرها النقد في عصره أو عصرنا. فهو يخيل إليه أنه قد ألَمَّ به، فيمضي مسرعاً، ليسر بيأسه إلى زوجه الحانية، يشركها في فكرته المسيطرة عليه ... في اضطرابه وخلطه. ومع ذلك، فحتى في كنف زوجه الرقيقة لا تزايل رؤية جبل النور عينيه، كأنما هي مطبوعة على باصرته بشعاع ثابت غير منظور، فتحسرت زوجه وألقت خمارها ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا ... قالت: يا بن عم .. اثبت وأبشر فوالله إنه ملك، ما هو بشيطان (1). قد يرى عصرنا المغرم بالعلوم في هذا الذي حدث دليلاً على ظاهرة ذاتية محضة، لأن الرؤية موضوع الظاهرة لم تحدث في حضور خديجة، لكن هذا الخروج على القاعدة ليس عسيراً على الفهم، من الناحية الحسية: فإن عمى الألوان مثلاً يقدم لنا حالة نموذجية، لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهناك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر، وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علمياً أنها كذلك بالنسبة

_ (1) ابن الأثير ج2 [ص:32].

لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أقل أو أكثر حساسية أمام تلك الأشعة، كما يحدث في حالة المخلية الضوئية الكهربية. ونضيف إلى ذلك أن ظاهرة الوحي سيصحبها فيما بعد دلائل حسية يشعر بها بعض من شاهدوها خلال حدوثها (1). ولكنا فيما يخص مرحلة ظهورها الأولى يمكن أن نتصور أن النبي كان في حالة من حالات التلقي، فهو بهذا الشاهد الممتاز على الظاهرة. ويمكننا أن نستخدم هنا مقياساً فجاً، ولكنه مفيد لعقول المغرمين بالعلوم، هذا المقياس نجريه بين حالة التلقي هذه، وبين ما يسمى بالانتفاء الخاص في جهاز الاستقبال، ففي المجال الحسي تكون المسألة في أقصى صورها مسألة ضبط، وفي محيط النبوة يمكن أن نتصل بوضع خاص بالنبي في استقبال موجات ذات طبيعة خاصة. وأية كانت وجهة الأمر، فبعد ظهور الوحي للمرة الأولى التي هزته هزاً عميقاً عاد محمد إلى (غار حِراء) وهناك عاودته الرؤية، ولكنها في هذه المرة أكثر قرباً ومباشرة وتأثيراً ومادية نوعاً ما، فإن لها شكلاً خاصاً هو هيئة (رجل متشح بثوبه الأبيض)، تأمره قائلة: {اقرأ} [العلق 1/ 96] ترى هل يمكن للاختلاط أو (الهلوسة) أن تؤدي أصواتاً؟ ومع ذلك فإن

_ (1) عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً" ... رواه البخاري ج1 كتاب (كيف كان بدء الوحي). (المترجم)

الرؤية تتكرر آمرة: {اقرأ}، هذا الحوار الغريب، والرؤية التي تسبقه وتصحبه وتلحقه، يشكلان الأساس الأول الضروري للنبي في نظر النقد الذاتي لحالته، فها هي ذي الظاهرة تحت سمعه وبصره، فهو يرى ويسمع. ولكن في الوقت الذي تصير فيه الرؤية أكثر قرباً وأكثر تمثلاً، يصبح الكلام واضحاً تماماً، مهما احتوى المضمون الأول الصادر عنه من الغرابة، إذ هو أمر (القراءة) موجه إلى أمي. فالنبي- من كل وجه- لا يبدو أنه قد استفاد توجيهاً محدداً لسلوكه المستقبل، فهو الآن يشاهد، ويشاهد فحسب. لكن هذه المشاهدة الحسية الخالصة تترك فكره الموضوعي في حال حائرة مختلطة، فيعود مسرعاً إلى مكة، مضطرباً كما لم يكن، محطم الجسد كما لم يحدث، وهو يشعر بحاجته إلى أن يهدئ أهله من روعه، أو إلى أن يدثروه، فتدثره خديجة بعباءة، فيضع رأسه على الوسادة وينام، بينما تلاطفه بكلماتها المسلية. ولكن إحساساً لا شعورياً يعاوده فيوقظه، وإذا برؤية حراء أمام عينيه تملي عليه أمراً واضحاً صريحاً {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر 2/ 74]. إن النبي سيدرك للمرة الأولى أهمية الظاهرة في إطار حياته الخاصة، وسيظهر بعد تأمل أثاره هذا الوحي اقتناعه الوليد، فيما يسر به إلى خديجة: " لقد أمرني جبريل أن أنذر الناس، فمنذا أدعو، ومنذا يستجيب؟ " وفي هذا التساؤل، نلمح الريبة التي ليست بالتحديد صدى ليقين لا يتزعزع، وهو اليقين الذي سنجده لديه عندما يتحقق حتى نهاية دعوته، والذي أثاره خاصة عندما فاتحه عمه أبو طالب في عرض قريش ليضع حداً لدعوته. إنه لم يصل بعد إلى هذه الدرجة من اليقين، فاقتناعه ليس مطلقاً، وهو رهن بالظروف الخارجية للنجاح، الذي يبدو له غير محتمل في تلك اللحظة،

ومع ذلك فإن تيار الوحي لن ينقطع، وستلفت بعض الظواهر العضوية نظر النبي، فيصاحب كل وحي عنده أعراض خاصة، وسوف يحدث أصحابه- فيما بعد- بأنه سمع قبيل حدوث الظاهرة، أي قبيل نزول الوحي، دوياً مؤذناً، شبيهاً أحياناً بدوي النحل عندما ينطلق من خليته، وأحياناً أخرى أكثر رنيناً حتى كأنه صلصلة جرس. ومن ناحية أخرى استطاع أصحابه أن يلاحظوا كما نزل الوحي، شحوباً مفاجئاً، يتبعه احتقان في وجه النبي (1) وهو نفسه يدرك ذلك، ولذا يأمرهم بأن يلقوا على وجهه ستراً (2) كما طرأت الظاهرة، ألا يعني هذا الاحتياط أن هذه الظاهرة كانت مستقلة عن إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حق يصبح عاجزاً مؤقتاً عن أن يغطي وجهه بنفسه، وهو يعاني حالة متناهية الإيلام، كما روت السيرة. لقد تعجل بعض النقاد حين ألموا بهذه الدلائل النفسية فعدّوها أعراضاً للتشنج، هذا الرأي يشتمل خطأ مزدوجاً حين يتخذ من هذه الأعراض الخارجية مقياساً يحكم به على الظاهرة القرآنية في مجموعها. ولكن من الضروري أن نأخذ في اعتبارنا قبل كل شيء الواقع النفسي المصاحب، الذي لا يمكن أن يفسره أي تعليل مرضي. وأكثر من ذلك، فإن الأعراض العضوية نفسها ليست خاصة بحالة التشنج التي تحدث شللا ارتعاشياً (إن صح التعبير) عند الفرد المحروم مؤقتاً من قواه العقلية والجسمية.

_ (1) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك. وترتد وجهه، وفي رواية نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما سري عنه رفع رأسه". (2) جاء في البخاري، كتاب (26) (العمرة) - 10 - باب (يفعل في العمرة ما يفعل في الحج) ما يفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستر بثوب حين ينزل عليه الوحي، وأن عمر رضي الله عنه رفع طرف الثوب لينظر السائل إلى الرسول وهو في حاله تلك (ف).

مقياسه العقلي

فإذا نظرنا إلى حالة النبي، وجدنا أن الوجه وحده هو الذي يحتقن، بينما يتمتع الرجل بحالة عادية، وبحرية عقلية ملحوظة من الوجهة النفسية، ليستخدم ذاكرته استخداماً كاملاً خلال الأزمة نفسها، على حين يمّحي وعي التشنج وذاكرته خلال الأزمة، فالحالة بناء على هذه الملاحظات ليست حالة مرض كالتشنج. ونضيف أيضاً أن الأعراض الجسمية التي رويت عن النبي لا تظهر إلا اللحظة التي تعتريه فيها الظاهرة القرآنية، وفيها وحدها، أي في اللحظة الخاطفة للوحي. هذا التلازم الملحوظ بين ظاهرة نفسية في أساسها، وحالة عضوية معينة، هو الطابع الخارجي المميز للوحي. فمن المحتم أن يكون للنبي في مجموع هذه الأحداث الشخصية موضوع للتفكير، على الأقل في بداية دعوته، من أجل عقله الموضوعي، فما كان له أن يتغافل عن هذه السلسلة من الأحداث الملحوظة كقياس ظاهري خاص بحالته، مهما كانت غير كافية لإصدار حكم نهائي، أو تأسيس اقتناع. ولتثبيت هذا الاقتناع النهائي، سيمدنا القرآن بمقياس مكمل للمقياس الأول، وبأساس للاقتناع والحكم النهائي لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مقياسه العقلي إن (محمداً) أمي، ليس لديه من معرفة البشر سوى ما يمكن أن يمنحه له وسطه الذي ولد فيه. وفي هذا الوسط الفروسي الوثني البدوي، لا مجال مطلقاً للمشكلات الاجتماعية والغيبية (الميتافيزيقية)، فإن معارف العرب عن الحياة الاجتماعية

والفكرية لدى الشعوب الأخرى ليست بذات قيمة، إذا ما رجعنا إلى الشعر الجاهلي الذي يعد مصدراً قيما لمعلومات في هذا الموضوع. فمحمد في ذهابه إلى عزلته في غار حراء، لم يكن لديه سوى ذلك المتاع العادي من الأفكار الشائعة في وسطه البدائي. ثم تأتي الفكرة الموحى بها فتقلب هذه المعرفة الضئيلة المحاطة بسياج مزدوج من الجهل العام، والأمية الخاصة عند محمد. ومن الواجب أن نتصور في كلمة {اقرأ} وهي الكلمة الأولى للوحي، تأثيرها الصاعق على النبي لأنها لا تعني شيئاً بالنسبة له، إذ هو أمي. وهذا الأمر الملزم يحدث بطبيعة الحال انقلاباً في كيانه، لأنه يزلزل فكرة الأمي عن نفسه، فيجيب متهيباً: (ما أنا بقارئ). ولكن ... أي صدمة مذهلة تصيب فكره الموضوعي؟!. فإذا كان النبي قد تخلقت لديه نواة الاقتناع عقب الملاحظات الأولى المذكورة، فإن هذه الصدمة العقلية لن تبدد شكوكه مرة واحدة، إذ عندما يأمره الصوت في المرة التالية (أن ينذر)، سيتساءل قلقاً ((منذا الذي يؤمن بي؟)) وفي هذا السؤال نلمح مفاجأة الشيء غير المتوقع، وحيرة الاقتناع. وفضلاً عن ذلك فإن الوحي سينقطع فترة من الزمن، وسنجد أنه يتمناه، بل يريده، بل يناديه مستيئساً، ولا من مجيب. هنا يجد (محمد) نفسه في أقسى لحظات أزمته الأدبية التي عرفها في غار حراء (1). وهنا يتعاظم شكه، وقد كان يسيراً، فيشكو حيرته لزوجه الحانية،

_ (1) من حديث عائشة قالت: "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: (يا محمد إنك رسول الله حقاً) فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه" رواه البخاري 12 كتاب التعبير ط المطبعة البهية. (المترجم)

وإذا بها تحاول أن تعزيه بكلمات لا تبعث في قلبه العزاء ... وأخيراً وبعد عامين ينزل الوحي، فيأتيه بالكلمة العليا الوحيدة التي هي بلسم الشفاء ... كلمة الله. لقد أشرقت أسارير النبي، إذ هو يملك منذ الآن البرهان الأدبي والعقلي على أن الوحي لا يصدر عن ذاته، ولا يوافيه طوع إرادته، فلقد بدا له عصياً لا يمكن أن يخضع له، كما لا تخضع له أفكار الآخرين وكلماتهم. ولديه الآن برهان موضوعي إلى أقصى درجة على صحة اقتناعه الجديد. هذا الانتظار الحزين، ثم ما تلاه من ابتهاج مفاجئ كانا- في الواقع- الظرفين النفسيين المناسبين لتلك الحالة من الفيض العقلي، لم تعد تخطر معه ظلال الريبة والشك. والحق أن الشك الذي عاناه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي اضطره إلى أن ينكب على حالته الخاصة، ويواصل تفكيره ومعالجته التي ستنتهي باليقين النهائي. وفي هذا التحول نرى أثر التربية السامية، التي تعين رسول الله على أن يتحقق تدريجياً في نفسه من حقيقة الظاهرة القرآنية، يعينه على ذلك تكيف مستمر لضميره الواعي، وكأنما أريد إعداده منهجياً للاقتناع الضروري اللازم لدعوته، فأبلغه الوحي منذ البداية خصائص هذه الدعوة العظمى، كما تدل عليها الآية: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}! [المزمل 73/ 5]. وإن صدق هذه الإرادة العليا التي تملي تلك الكلمة ليتجلى أمام عينيه شيئاً فشيئاً، فإذا بشكه يخلي مكانه للاقتناع الجديد، ثمرة الفكرة الناضجة المستغرقة، وهو اقتناع يتجلى في محاوراته الأولى مع قريش، لقد تبدلت حال نفسه، فأصبح يثق في ذاته، وينزل الوحي لكي يعكس على نظرنا حاله النفسية الجديدة، ويؤكد هذا الاقتناع الظافر بقوله:

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ... مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ... } [النجم 53/ 1، 2، 3، 4، 11، 12، 13]. لم يعد لدى النبي أدنى شك أدبي أو عقلي، فإن الحكم الصادق هو الذي يهديه، وهذا النوع من الحكم لا يحول الشك المنهجي الذي عاناه، إلى شك مقصود لذاته. إذ أن الحقيقة العلوية للوحي تفرض نفسها فرضاً على العقل الوضعي. فكل ما يراه وما يسمعه وما يشعر به وما يفهمه، يتفق الآن مع حقيقة واضحة تماماً في ذهنه، جلية في عينيه هي: الحقيقة القرآنية. وأكثر من ذلك، فإن إدراكه في هذا النطاق سيزداد ويتسع كلما تابع الوحي آياته البليغة، تلك التي تكون الكتاب الروحي الذي أحس به مطبوعاً في قلبه في غار حراء، وإن هذا الاقتناع العقلي ليزداد رسوخاً كما ازدادت الهوة عمقاً في عينيه بين ظنون (الإنسان) وما يجري على لسان (النبي). وسيتابع الوحي نزوله بسور القرآن سورة سورة، فتتزاحم في وعيه الحقائق التاريخية والكونية والاجتماعية، التي لم يسبق أن سجلت في صفحة معارفه، بل حتى في معارف عصره، ومناحي اهتمامه. هذه الحقائق ليست مجرد تعميمات غامضة، ولكنها معلومات محددة تضم تفاصيل هامة عن تاريخ الوحدانية. فقصة يوسف المفصلة، مثلاً، أو التاريخ المفصل لهجرة بني إسرائيل لا يمكن اعتبارهما مجرد اتفاق عارض، بل يجب حتما أن يأخذا لدى (محمد) - صلى الله عليه وسلم - صفة الوحي العلوية. ولنا أن نتساءل كيف استطاع أن يدرك الاتفاق العجيب لهذا الوحي مع ما ورد من التفاصيل التاريخية في التوراة ... ؟

لقد كان يكفي محمداً لاقتناعه الشخصي أن يلاحظ أن مثل هذا التفصيل غير المتوقع، والذي غاب عن الأعين في طيات التاريخ ليس بذي طابع شخصي، دون أن يستخدم فعلاً أساساً للموازنة، حتى يحكم على الفكرة الموحى بها، ومدى تصديقها لما ورد في التوراة. فكان عليه أن يلاحظ أن أخبار الوحي تنزل عليه من مصدر ما، فمن هو هذا المصدر؟ صار إذن من الضروري أن يحتل هذا السؤال مكانه في العملية العقلية التي يستقي منها النبي إدراكه الثابت، واقتناعه الشخصي. ولقد جاءت إجابته عن هذا السؤال بعد مقابلة باطنية بين فكرته الشخصية وبين الحقيقة المنزلة، وكان بحسبه أن يعقد هذه المقابلة لكي يحل مصدر هذه الأخبار المنزلة، خارج ذاته وخارج مجتمعه، فما كان لديه أي التباس في هذا، فخارج معلوماته لم يكن يستطيع أن يجد الحقيقة القرآنية عند أي مصدر إنساني. و (محمد) صادق مع قومه، وهو قبل ذلك صادق مع نفسه، فدراسته الواعية لحالته الغريبة يجب أن تكون نوعاً من الدرس الباطني القرآني، لتقضي هذه الدراسة على أي شك يخايل عينيه، ما دام يمكنه أن يجريها على أساس منهجين مختلفين، الأول: ذاتي محض يقتصر على ملاحظته وجود الوحي خارج الإطار الشخصي، والثاني: موضوعي يقوم على الموازنة الواقعية بين الوحي المنزَّل وما ورد من التفاصيل المحددة في كتب اليهود والنصارى مثلاً. وكأنما كان الوحي- أحياناً- يعلمه هذا المنهج الأخير الموضوعي عندما لا يكون الأمر أمر اقتناعه هو- لأنه اقتنع منذ زمن طويل- بل أمر تأسيس وتربية للذات المحمدية، ولا سيما عندما يجادل المشركين عن عقيدته، أو وفود النصارى الآتية من أطراف الجزيرة، كوفد نجران الذي أتاه ليناقش معه عقيدة التثليث.

وفي هذا يحدثه الوحي صراحة: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس 94/ 10]. يحدثنا المفسر جلال الدين السيوطي فيقول: إن النبي عقب على ذلك قائلاً: "لا أشك ولا أسأل" (1). فمن هذا نرى أن النبي كان يمكنه أن يكتفي بالمقابلة الباطنية المشار إليها آنفاً، على الأقل فيما يتصل باقتناعه الشخصي. ولكن كان عليه أيضاً أن يشبع حاجة الآخرين إلى الاقتناع، فكأنما قد استخدم لذلك المنهج الثاني عندما كان يتصدى في إحدى المناظرات العامة، لتحقيق قيمة الوحي بصفة موضوعية بالنسبة لحقيقة مكتوبة في الكتب السابقة. وتلك- على ما نظن- المناسبة التي نزلت من أجلها سورة يوسف، فكما قرر الزمخشري: نزلت هذه السورة المكية عقب نوع من التحدي الذي جابهه به علماء بني إسرائيل، لقد سألوه صراحة عن قصة يوسف، فنزلت (2) ولكنها إذا كانت قد أجابت على تحدٍّ صادر عن أحبار اليهود أو غيرهم، فإنها لم تكن لتحسم النزاع إلا بمقابلة دقيقة بين نصوص التوراة وقصص القرآن. ولا شك أن النبي لم يكن في نفسه مهتماً بمثل هذه المقابلة، التي تتيح له فرصة الموازنة الموضوعية بين الوحي والتاريخ الثابت في كتب بني إسرائيل.

_ (1) أخرجه عبد الرزاق وابن جبير عن قتادة. (2) ذكرنا فيما بعد سبباً آخر للنزول في معرض التدليل على أنها نزلت جملة واحدة، وهو لا يتنافى مع ما ذكر هنا في سبب النزول الذي استند إليه المؤلف. (المترجم).

ولعل هذه الفرصة لم تكن الوحيدة التي لجأ فيها إلى الموازنة الفعلية، التي تقدم في كل مرة عنصراً جديداً لقياس اقتناعه العقلي. وأخيراً، فإن صوغ هذا الاقتناع، يبدو أنه قد سار طبقاً لمنهج عادي حين ضم- من ناحية- الملاحظات المباشرة للنبي عن حالته، ومن ناحية أخرى مقياساً عقلياً يستقي منه اقتناعه، وهو يجول بعقله في دقائق ملاحظاته. إن علم الدراسات الإسلامية الذي يتناول هذه الدراسات في عمومها بفكر مغرض، لم يعالج مشكلة هذا الاقتناع الشخصي، على الرغم من أنها في المقام الأول من الأهمية لتفهم الظاهرة القرآنية، إذ هو يمثل مفتاح المشكلة القرآنية حين نضعها على البساط النفسي للذات المحمدية. وغني عن البيان أنه لكي يؤمن (محمد)، ويستمر على الإيمان بدعوته يجب أن نقرر حسب تعبير (أنجلز) أن كل وحي لابد أن يكون قد (مَرّ بوعيه) (1) واتخذ في نظره صورة مطلقة، غير شخصية، ربانية في جوهرها الروحي، وفي الطريقة التي تظهر بها. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد حفظ- بلا أدنى شك- اعتقاده حتى تلك اللحظة العلوية، حتى تلك الكلمة الأخيرة: " نعم ... في الرفيق الأعلى". ...

_ (1) فردريك انجلز. (لودفج فرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الآلمانية) [ص:38] الطبعة الاجتماعية- باريس يقول: " عند الإنسان المنعزل تمر كل القوى المحركة لنشاطه بعقله لكي تتحول إلى عوامل ملزمة لإرادته تدفعه إلى العمل والنشاط".

مقام الذات المحمدية في ظاهرة الوحي

مقام الذات المحمدية في ظاهرة الوحي - اقرأ. - ما أنا بقارئ!؟ هذا الحوار الفريد الذي يستهل بالنسبة لهذا العالم العهد القرآني، يمنحنا اليوم عنصراً ثميناً في الدراسة النفسية التحليلية لظاهرة الوحي. ولا غرو، فهو الحوار الوحيد الثابت تاريخياً، والذي تجيب فيه الذات المحمدية بوضوح، وبمقاطع صوتية، على الصوت الذي سيبلغها قريباً دعوتها. هل هذا اختلاط و (هلوسة)؟ إن الظاهرة التي ندرسها هنا، في حالتها الأولى، مرئية مسموعة، وذلك بغض النظر عن كل ما جاء بعد ذلك من الأحداث التاريخية التي ستستغرق عشرين عاماً؛ فالاختلاط العقلي الذي من هذا النوع إنما يحدث في هوامش النوم. ويطلق على الاختلاط الذي يحدث عندما يغشى النوم الذات الواعية، أي بين اليقظة والنوم ( Hallucination Hypnagogique) ؛ ويطلق على الاختلاط الذي يحدث عندما تخرج هذه الذات من النوم؛ أي بين النوم واليقظة ( Hallucination Hypnopompique) ولقد قرر علم النفس العلاجي أن الحالتين كلتيهما لا تصيب الأشخاص الأسوياء- كما هو شأن النبي- لوجود سبب حسي هو ترتيل أصوات مسموعة. تلك هي حالتنا، فقد تكرر السبب الحسي في الحوار المذكور ثلاث مرات.

وعلى هذا، فلو فرض أن الاختلاط أو (الهلوسة) لم تزل بتأثير الجزء الأول من الحوار، فإنها لا يمكن أن تبقى بعد الصدمة الصوتية الأولى، أي خلال المرتين الأخريين اللتين سيبقى تفسيرهما معلقاً: وهكذا، دون أن نتسرع في الحكم على طبيعة الظاهرة نفسها، لا يمكن على أية حال أن نفسرها بالاختلاط العقلي. ولو أننا تناولنا الأمر من ظاهره فسنجد أن هذا الحوار يحدد- منذ البداية- الوضع النسبي للذات المحمدية في الخطاب القرآني، فتوضع هذه الذات منذ الوحي الأول في مقام المخاطب المفرد، وسينزل الوحي في الواقع على ذات مخاطبة، تؤديه واسطة عن الذات المتكلمة، تستعمل هنا مباشرة اللغة الإلهية لتأمر بالقراءة أمياً، لا يتخيل نفسه قارئاً، وهو لهذا قد اضطرب وأجفل. وكل ما يهمنا هنا هو معرفة ما إذا كانت هذه الذات المخاطبة، وتلك الذات المتكلمة يمكن أن تجتمعا نفسياً في ذات واحدة، هي ذات (محمد). ومن الواجب أن نذكر- أولاً- مدى التباعد الرئيسي البين في الحوار، بين الذات المتكلمة الآمرة الحازمة، والذات المخاطَبة المضطربة المجفلة. فهذا الإجفال يعكس طبيعياً لدى النبي- الذي يعرف أنه لا يعرف القراءة- الشعور والفكرة اللذين يعرفهما عن نفسه؛ فإجابته السلبية الخاشعة- ولكنها القاطعة- هي النهاية الطبيعية لعملية نفسية تنبثق عن هذه الفكرة التي يدرك موضوعيتها تماماً: فكرة أميته. ألا يمكن أن يفهم أن هذا الأمر الصارم- الذي أجفل منه هذا الأمي- قد ضرب صفحاً عن هذه الفكرة الموضوعية فأنكرها؟ إن هذا التباعد يصور لنا - على أية حال- عملية نفسية أخرى مختلفة تماماً عن الأولى، ولكنها متحدة معها في الزمن، لأن كلتيهما تتلاقى وتتقاطع مع الأخرى في اللحظة نفسها. عندما تأمر الذات المتكلمة فتجفل الأخرى وقد انقلب حالها.

فهل يمكن أن نتصور هذا الاتحاد الزمني لعمليتين متباعدتين في ذات واحدة تنطوي على شخصيتي الحوار؟ إن هاتين الحالتين- التباعد الجوهري والاتحاد الزمني- متعارضتان سواء تصورناهما في مجال واحد للذات، أم في مجالين مختلفين هما: الشعور وما وراء الشعور. فهناك بالضرورة تعدد في (الذوات) في حوارنا، وهو تعدد لا يمكن أن تضمه وحدة نفسية. فنحن مضطرون لهذا أن نقرر ازدواج الذات، كما يحدث في أي حوار عادي، وبين هاتين الذاتين اللتين تتحاوران، تنجلي الذات المحمدية بوصفها شاهداً واعياً ومؤرخاً صادقاً للواقع الذي نحلله. ومع ذلك، فهذه هي المرة الوحيدة التي ستحدد فيها هذه الذات موقفها بالنسبة للظاهرة القرآنية الغريبة، هذه هي المرة الوحيدة التي ستحتل فيها- عن قصد- وضعاً واضحاً وإرادياً في مواجهة الذات المتكلمة، تلك التي تأمر أمياً مشدوهاً أن يقرأ، محدثة بذلك خروجاً عن المألوف، يبدو لأول وهلة غير معقول. وسنجد فيما بعد وإلى النهاية، أن الذات المحمدية لن تتحدث مع الذات المتكلمة حين تخاطبها، وهذا الصمت- في ذاته- جدير بالملاحظة، لأنه يسجل إدراك الرسول - صلى الله عليه وسلم - النهائي أمام الظاهرة، التي سيقف منها منذ ذلك الحين موقف التسليم. وستظل ذاته دائماً صامتة في الخطاب القرآني، الذي لن يذكر الأحداث الخاصة في تاريخه. فلن نجد أي صدى لآلامه وخاصة عندما يفقد أكرم زوجة وأفضل عمٍّ، ومع علمنا بما كان لديه من الحنو البنوي تجاه هاتين الشخصيتين. هذه الملاحظات عن انعدام الطابع الشخصي في الخطاب القرآني، الذي

لا يرد فيه الضمير المحمدي إلا بصورة المفرد المخاطب، يمكن أن نزيدها وضوحاً. فهناك في الواقع آيات يلفت انتباهنا إليها صورتها الغريبة، لما تمثل فيها الذات المحمدية من دور فريد. وهاك مثلاً على ذلك، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ .. } [سورة يونس 22/ 10] ففي هذه الآية نجد أن الانتقال غير العادي من ضمير (كم) إلى ضمير (هم) جدير بالملاحظة، لأنه لا يمكن أن يكون خطأ نحوياً، إذ لا يمكن أن يتصور في ذلك الأسلوب الأدبي الكامل الذي يعد البرهان العظيم على دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان في الآية خطأ لكان تصحيحه بعد قليل أمراً ضرورياً وسهلاً وممكناً. فإذا لم يقع هذا من النبي الذي كان يقرأ القرآن، لنفسه ولصحابته، فإنه يستتبع ألا يكون الخروج على القاعدة المطردة خطأ عنده، وهو يشهد بأن (محمداً) لم يكن لديه أي مقدرة على التصرف في النص القرآني. وفضلاً عن ذلك، فلسنا نعالج هنا هذه المسألة في صورتها الأدبية، وإنما نعالجها من الوجهة النفسية التحليلية. فنحن نلاحظ في هذا الخروج عن المألوف أن الذات المحمدية تتمثل في وضوح وعلى التوالي في دورين مختلفين، فهي مخاطب مقصود مباشرة داخل في ضمير المخاطبين الذين يتوجه إليهم الخطاب، ثم إنها تصير شاهداً غير مقصود مباشرة، موضوعاً بصفة طارئة أمام مشهد عبر عنه القرآن بضمير الغائبين، هذا الانتقال غير المتوقع يستتبع حالتين نفسيتين لا يمكن أن تنتج الثانية منهما إلا من الأولى، أو هي نفسها هذا الحل، إذا ما تمثلنا ذلك في ذات معينة، هي هنا ذات محمد.

وبعبارة أخرى، يجب أن يكون الضمير (هم) في الآية المذكورة النتيجة النفسية المباشرة للضمير (كم)، أو هو يصدر عنه بواسطة نتيجة وسيطة (1). بينما نلاحظ من الوجهة النفسية أن الانتقال من (كم) إلى (هم) الفاعل المتتابع في الآية، لا يحدث انتقالاً ما في طبيعة الصورة، فنحن نلحظ فيها أن الأفعال ترسم المشهد نفسه الذي يتتابع على اللوحة نفسها، على حين يتغير الفاعل، كما هو واضح. فالانتقال إذن جزئي، ولكن هل يمكن من أجل هذا أن يحمل ذلك الانتقال الجزئي على مجرد تداعي المعاني الذي يجري في ذات محمد اللاشعورية؟ الواقع أنه عندما يتدخل تداعي المعاني في عمليات اللاشعور- ولا سيما في الرؤى- فإنه لا يعدل الوضع النسبي للفاعل بانتقاله من شخص لآخر فحسب، ولكن الفاعل نفسه يتغير فعله. فهنا على وجه التحديد فاعل ضمني هو الذات المحمدية التي يتغير وضعها بالنسبة للفاعل الحقيقي، ولكن الفعل يستمر كما هو في الآية المذكورة. ولهذا فإن تداعي المعاني لا يمكن أن يُتَصور هنا على أنه السبب النفسي الذي حتم تعديلاً معيناً لا يظهر إلا في الشكل النحوي للآية، دون أن يتغير أي تفصيل في المشهد. لقد سبق للمفسرين القدماء (التقليديين) أن بحثوا هذه المشكلة التي أطلقوا عليها اسم (الالتفات).

_ (1) المقصود بالنتيجة النفسية هنا هو حل الموقف النفسي، والمفروض أن كل عقدة تستلزم حلاً مناسباً يعد نتيجة نفسية لها، ولنضرب على ذلك مثلاً بالكلمة التي تذكر مبتدأ في أول الجملة فإن عقدة حلها هو الخبر. وكذلك يمكن تطبيق هذه الفكرة على الآية إذ أن الموقف الثاني لا بد أن يكون ناتجاً عن الأول بوصفه نتيجة نفسية. (المترجم)

والالتفات مجرد تفسير سطحي للمشكلة التي نبحث عن مفتاحها، فهو تفسير أدبي محض لا يدل من الوجهة النفسية إلا على حدوث مقصود أساساً، صادر عن ذات مختارة هي (الملتفت). فهو لهذا لا يقدم البيان النفسي التحليلي الذي نريده، إذا عدلنا جميع الصفات التي أثبتناها للذات المحمدية (1). وبعد، فمهما كان فيما سنقرره مخالفة للتقليد الديكارتي الذي يحصر العقل في قواعد منهج وضعي ضيق، فنحن مضطرون إلى أن نبحث عن مفتاح المشكلة خارج نفسية الذات المحمدية. ولا بد لنا من أن نحدد حينئذٍ مستوى آخر تتم فيه أولاً الظاهرة القرآنية وتكتمل قبل أن تؤثر على الذات التي تحملها وتبلغها. وبما أنه لا يمكننا أن نتصور هذا المستوى في ذات إنسانية أخرى، فمن الواجب أن نراه ضرورة في ذات غيبية (ميتافيزيقية) لا يربطها بالذات المحمدية رباط سوى رباط (الوحي). ...

_ (1) يقصد بالصفات ما أثبته بحثنا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلص ذو فكر موضوعي .. الخ ...

الفكرة المحمدية

الفكرة المحمدية مر رسول الله ذات يوم أمام بستان أنصاري في طرف المدينة، فأشار عليه الرسول بأن يستخدم طريقة معينة في تأبير النخل، ولكنه بعد ذلك وجد أن الأنصاري قد ترك الطريقة التي نصحه بها لأنها لم تحقق له أقصى ما يمكن من المصلحة، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، معلناً على الفور أن التجربة الشخصية مقدمة على رأي الفرد، حتى ولو كان النبي (1). فمن الناحية التاريخية تعد تلك النصيحة التي أبداها الرسول حديثاً، وهي

_ (1) الصحيح في هذا الموقف هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقترح طريقة معينة في تأبير النخل، فقد ورد في صحيح مسلم ج 4 تحت عنوان (باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي): عن موسى بن طلحة عن أبيه قال مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل فقال: " ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أظن يغني شيئاً". قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل". وعن عائشة وعن ثابت وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون فقال: " لو لم يفعلوا لصلح" قال فخرج شيصاً [وهو رديء الثمر]، فمر بهم فقال: "ما لنخلكم" قالوا: قلت كذا وكذا. قال: " أنتم أعلم بأمر دنياكم". فمن هذا يظهر أن النبي لم يقترح طريقة معينة في هذا الصدد، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - قد شك في صلاح نتيجة عملهم، وقد كان في عرضه لرأيه يسوقه على سبيل الاحتمال دون إلزام. ولذلك عقب على النتيجة قائلاً في الأول (إني إنما ظننت ظناً) وفي الثاني (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وقد ذكر المؤلف في الهامش تعليقاً أورد فيه أن (قصة البستاني مروية بطريقتين مختلفتين إحداهما عن سفيان بن العاص والأخرى عن أنس) ولم أجد فيما وصلت إليه يدي من المراجع ذكر لصحابي يدعى سفيان بن العاص.

بذلك ذات قيمة مطلقة تقريباً في نظر المفسرين والفقهاء، ومع ذلك فها نحن أولاء نرى أن النبي قد ألغى بنفسه هذا الحديث أمام تجربة بستاني بسيط، مقرراً بذلك أسبقية العقل والتجربة في سير النشاط الدنيوي. على أننا لا نجد حالة واحدة نسخ فيها النبي آية قرآنية بتجربة فردية حتى ولو كانت تجربته هو نفسه (1). بل على العكس، ترينا بعض الأحداث في تاريخه تمسكه الشديد المطلق في هذا الباب، فهو لم يتخل مطلقاً عن آية قرآنية مهما كان الثمن، بل نراه يعدل فجأة عن الحج الذي كان قد اتخذ له أهبته في السنة السابقة، وكان السبب الوحيد لهذا العدول هو أن الوحي قد أمره به، فنزل على أمره، مهما أوشك هذا أن يثير فوض في المعسكر الإسلامي (2). فنحن إذن أمام فكرتين تتمثلان في نظر النبي بقيمتين مختلفتين: الفكرة الشخصية التي تنبعث من معرفته البشرية، والوحي القرآني المنزل عليه.

_ (1) ذهب بعض العلماء إلى جواز نسخ الكتاب بالسنة، واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء4/ 14]. فقالوا: إن الحكم في هذه الآية منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم - " خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب ترجم والبكر تجلد" وفي الباب أقوال أخرى لا تجيز نسخ الكتاب بالسنة. أما نسخ السنة بالكتاب أو نسخ الكتاب بالكتاب فهو مما اتفق بصدده العلماء. ويرى المؤلف أن قوله - صلى الله عليه وسلم - "خذوا عني". إنما كان لشرح الآية لا لنسخها. (المترجم) (2) لم يكن أمر الوحي هنا في صورة آية قرآنية، وإنما يبدو أنه كان مجرد أمر بالصلح والرجوع، فمن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد واجه ثورة بعض أصحابه كعمر بن الخطاب حين قال له، "علام نعطي الدنية في ديننا؟ " بقوله "أنا عبد الله ورسوله: ولن أخالف أمره ولن يضيعني" هذا هو ما ذكره المقريزي في (إمتاع الأسماع) [ص:292]، وليس في كلام المؤلف ما يشير صراحة إلى أن الوحي كان هنا آية، وإن أوهم السياق خلاف ذلك. (المترجم)

ومن الطبيعي أن نبحث هنا في وضع فاصل دقيق واضح بين هذين الأساسين في ضميره - صلى الله عليه وسلم -، كيما نزيد في إيضاح الظاهرة القرآنية. ويظهر هذا التمييز أيضاً لدى الأنبياء الآخرين كما استطعنا أن ندرك هذا في بحث حالة (أرمياء). فعندما رأى هذا النبي ذات يوم (حنانيا المتنبئ) يتخذ موقف المعارض لدعوته، وهو يسوق الطمأنينة إلى قلوب بني إسرائيل فيما كتب الله عليهم، فوجئ به وهو يمسك بنيره الذي يطوق به عنقه، فيحطمه صارخاً: "هاك ما قال الله: سأحطم هكذا طوق ملك بابل". لقد كانت هذه الكلمة- بصفة عامة- التكذيب الصريح القاطع لدعوة أرمياء كلها، ولكنه أجاب عن طواعية: "آمين، حقق الله ما تقول". ويفسر الأستاذ (أندريه لودز M.A.Lods) - الذي يورد هذه الفقرة من كتاب أرمياء- هذا الموقف الغريب في قوله: لقد كان يظن أن الله قد رجع في قضائه (1). لقد كان هذا بلا شك هو التفسير الوحيد المعقول لرفع التعارض الذي قد يبدو في موقف النبي، فإن (أرمياء) قد أبلغ نذره التشاؤمية باسم الرب، وهو أيضا باسم الرب قد آمن بضرورة التزام الصمت لحظة تنبؤ (حنانيا)، لكن هذا الصمت لم يكن بناء على آية موحاة إلى (أرمياء)، بل بناء على اجتهاده الشخصي، فلقد قدر أن من المحتمل أن يكون (حنانيا) قد تلقى وحياً من الله. ومع ذلك فإن الوحي يأتيه على الفور ليصحح هذا التقدير، فإذا بالنبي يعاود في سرعة نهج دعوته المألوف.

_ (1) أندريه لودز (أنبياء بني إسرائيل) ( Les prophètes d'Israél) [ ص:188]

هذا الحادث العارض يفصل بوضوح فكرة الإنسان عن وحي النبي في ضمير أرمياء، تماماً كما تفصل المشورة السابقة حديث النبي عن الوحي القرآني. وفضلاً عن ذلك فإن القرآن يثبت تماماً في النطاق الزمني هذه النسبة بين المصدرين في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى 42/ 52]. فقوله "ما كنت" أي قبل غار حراء، والنبي في تلك الفترة لم يكن لديه سوى معلوماته الشخصية، وهي معلومات تبدو لنا عديمة الصلة بالوحي القرآني، إذا ما أعطينا الآية المذكورة كل معناها التاريخي والآية تثبت عرضاً - ولكن بطريقة صريحة- مصدر الوحي القرآني بعد حراء، وهو على كل حال ليس قبل (إيحاء الروح) المأخوذ من قوله: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا}. هذه النقطة ثابتة تاريخياً، لأن الآية التي ندرسها قد مرت أولاً بشعور النبي، وتعرضت لنقده الذاتي الذي يجيد تماماً هذا الفصل الضروري لاقتناعه الخاص. وفضلاً عن ذلك فإن القرآن قد دأب على تذكيره، وتأكيد هذا الفصل في آيات كثيرة، وهاك آية تؤدي ما أدته الآية الأولى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت 48/ 29]. فتاريخ الوحي القرآني يبدأ إذن (بعد القرآن) وليس (قبله)، وذلك هو ما توحيه الآية على وجه التحديد. أما من الوجهة النفسية المتصلة بشعور النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذه الآية تعزز ما قبلها في فصل السنة المحمدية عن الوحي القرآني.

وإن القرآن ليلح كثيراً في هذه النقطة، كما يمكن أن ندركه في الآية: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه 99/ 20]. وفي آيات أخرى يبدو القرآن وكأنما يشير إلى تحديد مقصود للوحي في نقطة معينة بالذات، كأنما ليعلق ضمير النبي واهتمامه بأشياء لم تكن بعد قد أوحيت، أو لم تنزل عليه قط، وهاك مثلاً على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [القصص 78/ 28]. ففي هذه الآية يمضي الوحي القرآني ليس أبعد من الفكرة المحمدية فحسب، ولكن أبعد مما قد أوحي فعلاً. ومن الممكن أن نذكر آيات كثيرة، ولا سيما الآية: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف 45/ 43]. وهي تؤدي المعنى نفسه. وأحياناً يرد الفصل في القرآن بين الفكرة المحمدية والفكرة القرآنية بمناسبة حادث يجري في الحياة العادية: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد 47/ 30]. وأخيراً، قد نرى هذا الفصل في التعارض بين الفكرة المحمدية والفكرة القرآنية، كما في هذه الآية التي سوف نحللها فيما بعد (1)، وهي قوله تعالى:

_ (1) راجع الفصل الخاص بالمناقضات.

{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه 20/ 114]. ويجب أن نأخذ في اعتبارنا- عندما نبحث هذا الفصل- عنصراً آخر خارجياً يؤكده بدوره، هو عنصر الصياغة الخاصة بالحديث، فلقد قيل- وهو القول الحق: "إن الأسلوب هو الرجل". ومن المقطوع به أن الأحاديث المحمدية، والوحي القرآني يمثلان أسلوبين لكل منهما طابعه، وصياغته الخاصة. فالعبارة القرآنية لها نسق وجرس تعرفه الأذن، ولها هيئة تركيبية وألفاظ خاصة، فليس من الخطأ أو الغلو في شيء أن يقال: إن الأسلوب القرآني معجز، لا يتسنى لأحد الإتيان بمثله. ولئن كان قد روي أن الشاعر الكبير (المتني) قد حاول- دون جدوى- أن يقلده، فإن التاريخ يسجل محاولة معينة في هذا السبيل هي محاولة (البيان العربي) الذي كتبه (الباب). لكنها لم تكن سوى محاولات يائسة (1). وبعد، فليس لأحد أن يرتاب فيما تحتويه هذه الآيات من فصل قاطع تاريخي ونفسي بين الفكرة المحمدية والوحي القرآني، ذلك الفصل الذي- متى استقر في شعور النبي- أضاء جوانب الظاهرة القرآنية. ...

_ (1) راجع (البابية والإسلام Le Babisme et L'islam) للشيخ عبد الرحمن تاج.

الرسالة

الرسالة إن من الواجب ألا نغفل أهمية التأثير السحري للكلمات على بعض العقول ذات التكوين الديكارتي، وخاصة في عصرنا هذا الذي يحتل فيه الأسلوب العلمي مجال الدين. فهناك كلمات ترتدي أقنعة، ولئن عرفت السياسة بعضاً منها، فلقد كان حظ العلم كبيراً، وليس لأحد أن يتصور الخطأ أو العدم الذي تستره هذه الأقنعة، عندما تسيل هذه الكلمات من لعاب قلم مهيب لكاتب كبير، فتطلق كتبه أشباحها لتخطر في عقول كثير من المتعالين، فتزيد من سخافاتها. وهكذا صار من الشائع في أوساطنا العلمية أن يرجع الباحثون إلى الدراسات الإسلامية التي يقوم بها كتاب، أغرموا بالكتابة في كل شيء؛ فهم يضعون كلمة في مكان حقيقة غابت عنهم، أو لم يحاولوا إدراكها. وبهذه الطريقة رأينا أن (ذاتاً ثانية) تتدخل في تفسيرهم للظاهرة النبوية، ولا سيما عند (أرمياء)، ذاتاً أكثر من مجردة، وغير حسية، وبعيدة عن الاحتمال، تعد في نظرهم مصدرا لمعلومات الذات الحسية الأصلية. هذه الفكرة الشاذة تذكرنا من قريب بفكرة عزيزة لدى المنجمين هي فكرة (المثل الفلكي) (1). ولكن لهذه الكلمات الساحرة تأثيراً فعالاً على بعض العقول، أشبه بسحر الصور والرسوم في نظر الأطفال.

_ (1) المثل الفلكي مأخوذ من فكرة أفلاطون عن عالم المثل وعالم الصور، ولكن بصورة أخرى تناسب أفكار المنجمين الفلكيين. (المترجم)

فمن المعلوم أن من يكون ممتلئاً بالثقة في قيمة بعض الكتاب، لا يبحث عن قيمة الكلمة المعبرة بالنسبة إلى الفكرة التي يعبرون عنها. ومن هذا القبيل كلمة (لاشعور)، فقد لعبت على أقلام الكتاب دوراً نظرياً هاماً في تفسير الظاهرة القرآنية. فإذا أردنا أن نفهم معنى هذا المصطلح في نظريات علم النفس، وجدناه في منتهى الغموض، فهو لا يعني شيئاً محدداً كما تعني مثلاً المصطلحات المعروفة كالتذكر والإرادة. إن نظرية (اللاشعور) ما تزال في مرحلة نشوئها، ومع ذلك فقد استخدموها لكي يفسروا لنا- كما يدعون- الظاهرة القرآنية بطريقة موضوعية. ومن الصعب علينا أن نعتقد أن هؤلاء المؤلفين قد بذلوا أقل الجهد لكي يتفهموا الموضوع. فمما لا شك فيه أن الذات الإنسانية تحتوي على مجال معين تتكون فيه الظواهر النفسية الغامضة، التي لا تخضع لسلطان الشعور، كالأحلام مثلاً. فهذا المجال المظلم الذي تدوي فيه بعض طوارئ الحياة النفسية الشعورية في الفرد، ذو علاقة واضحة بالحالات الشعورية، فلو أردنا لأطلقنا لفظ (لاشعور) على هذا المجال المظلم، وجميع العمليات التي تتم فيه أشكال (محوَّرة) خاصة لفكرة أو واقع مرّ بالشعور، فيمتص اللاشعور هذه العناصر الشعورية، ويودعها مخيلته لكي يقلبها غالباً إلى رموز، إلى أحلام، إلى حديث نفسي، إلى إلهام؛ ولكن هذه الرموز تحتفظ بمعالم الفكرة أو الواقع الذي تولدت عنه. لا شك أن هذه العلاقة تتفاوت في غموضها، ولكن التحليل قد يكشف عنها: إذ من الممكن أن نجد في حلم أو كابوس الطريقة التي اتبعها اللاشعور في

صياغة رمزه بالرجوع إلى حادث سابق تسبب فيه، فهو حساسية خاطفة، أو تذكار قاس، أو هو راجع إلى يسر الهضم أو عسره ... الخ .. فاللاشعور يعمل هنا عمل المستقبل الكهربي بالنسبة للمولد الكهربي الذي هو الشعور، وعليه ففي هذا المجال الأخير يجب أن نلتمس دائماً مصدر العمليات النفسية التي يصفونها باللاشعورية. وعندما يتضح أن فكرة ما لا تخضع مطلقاً للذات الشعورية، فمن الممكن أن نفهم من هذا أنها بالضرورة أجنبية عن هذه الذات، وأنه لا محل لها في اللاشعور. هذا هو المبدأ النقدي الذي نريد أن نتخذه هنا أساساً لدراسة الوحي القرآني. ***

الخصائص الظاهرية للوحي

الخصائص الظاهرية للوحي الوحي بوصفه ظاهرة تمتد في حدود الزمن يتميز بخاصتين ظاهريتين هامتين، وذلك بصرف النظر عن طبيعته في ذاته، وعن حامله النفسي خلال الذات المحمدية، هاتان الخاصتان هما: أ- تنجيم الوحي. ب- وحدته الكمية.

التنجيم

التنجيم يضم الوحي في مجموعه ثلاثة وعشرين عاماً، فهو لا يكوِّن ظاهرة مؤقتة أو خاطفة. ولقد نزلت الآيات منجمة، بين كل وحي وما يليه مدة انقطاع تتفاوت طولاً وقصراً. ولقد ينقطع الوحي مدة أطول مما ينتظره النبي، وخاصة عندما يحتاج أن يتخذ قراراً يعتقد أن من الواجب ألا يصدره قبل تصديق السماء عليه. وأوضح مثال على ذلك موقفه إزاء قرار الهجرة، فلقد غادر أصحابه مكة فارين بدينهم، بينما كان يعتقد أنه لا بد- فيما يتعلق بشخصه- أن ينتظر أمراً صريحاً من الوحي. ومثال آخر عندما كان الأمر بالنسبة له يحتم اتخاذ قرار في موقف محير مريب، بينما ينتظر- على أحر من الجمر- وحي الله الحاسم. ولقد تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - لمثل هذه الحيرة في حادثة الإفك، التي لم يفصل فيها الوحي إلا بعد شهر (1) من الانتظار على مضض. كان هذا يبدو- في الظاهر- تورطاً وحرجاً لم يلبث المستهزئون أن وجهوا من أجلهما نقدهم الجارح إلى النبي، وكان هو يتألم لذلك أحياناً. وعليه فمهما كان الافتراض الذي يوضع عن طبيعة القرآن، فإن هناك سؤالاً

_ (1) كذا ورد في حديث عائشة الذي رواه البخاري. (المترجم)

كبيراً يتردد حول هذا الموضوع: ألم يكن من الممكن أن يتدفق جملة واحدة، من العبقرية الإنسانية التي ربما يكون قد صدر عنها (1)؟. ولكنا برجوعنا خلال الزمن نستطيع أن نحكم بأهمية هذا التنجيم الفذ للوحي، أهمية قصوى لنجاح الدعوة. إذ بماذا كنا نفسر من الوجهات التاريخية والاجتماعية والأدبية قرآناً يهبط كأنما هو برق خاطف في ظلمات الجاهلية؟ وماذا يعني هذا بالنسبة لتاريخ النبي، لو أنه كان قد تلقى وحياً كلياً فجائياً، لو أنه تلقاه بوصفه وثيقة، أي نوعاً من صحف التفويض لدى بني الإنسان؟ .. أي أمل كان يمكن أن يلتمسه عنده قبيل بدر مثلاً، لو أنه بدلاً من أن يتوقع إمداد الملائكة ظل يكرر آية سبق أن حفظها عن ظهر قلب؟ إننا ببحثنا مسألة تجزئة الوحي في ضوء هذه النظرات نستطيع أن ندرك أولاً قيمته التربوية. فتلك في الواقع هي الطريقة التربوية الوحيدة الممكنة في حقبة تشم بميلاد دين وبزوغ حضارة. وسيهدي الوحي خلال ثلاثة وعشرين عاماً سير النبي وأصحابه خطوة خطوة نحو هذا الهدف البعيد، وهو يحوطهم في كل لحظة بالعناية الإلهية المناسبة. فهو يعزز جهودهم العظيمة، ويدفع أرواحهم وإرادتهم نحو هدف الملحمة الفريدة في التاريخ، فيكرم بآية صريحة قضاء شهيد أو استشهاد بطل. كيف كان القرآن يؤدي دوره حيال طبيعة الإنسان التي جاء يصوغها في ذلك العصر، لو أنه سبق بنزوله أحداث حنين وأحد؟ .. وماذا كان يكون، لو

_ (1) هذا تساؤل افتراضي على لسان الجاحدين.

أنه لم يأت لكل ألم بعزائه العاجل، ولو أنه لم ينزل لكل تضحية جزاءها، ولكل هزيمة أملها، ولكل نصر درسه في الاحتشام، ولكل عقبة إشارة إلى ما تقتضيه من جهد، ولكل خطر أدبي أو مادي روح التشجيع اللازم لمواجهته؟ وكلما كان الإسلام ينتشر في ربا الحجاز ونجد، كان الوحي يتنزل بالدرس الضروري في المثابرة والصبر، والإقدام والإخلاص، يلقنه أولئك الأبطال الأسطوريين، أبطال الملحمة الخارقة. فهل كان لدرسه أن يجد طريقه إلى قلوبهم وضمائرهم لو لم يكن نزوله تبعاً لأمثلة الحياة نفسها، والواقع المحيط بهم؟. ولو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحول سريعاً إلى كلمة مقدسة خامدة وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدر يبعث الحياة في حضارة وليدة. فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم. والقرآن يبرز هذه الخاصة الخفية وهو يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان 25/ 32]. فنزول القرآن على نجوم، وقد كان في اعتبار الجاهليين نقصاً شاذاً، يتجلى لنا بمراجعتنا الزمن والأحداث شرطاً أساسياً ضرورياً لانتصار الدعوة المحمدية. ولن يشق علينا أن نجد في هذا المنهج التربوي- الذي أثار سخرية القوم، وأزاغ النقد السطحي في عصرنا عن الجادة- طابع العلم العلوي الذي أملى (كلمة الله) بطريقة التنجيم.

الوحدة الكمية

الوحدة الكمية الوحي ظاهرة منجمة، فهو في أساسه متفاصل، شأن مجموعة عددية، أي أنه متكون من وحدات متتالية هي الآيات، وهذه الخاصة توحي إلينا بفكرة الوحدة الكمية: فكل وحي مستقل يضم وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنية. بيد أن هذه الوحدة القرآنية ليست ثابتة، فهي لا تماثل الوحدة التي تزيد في مجموعة الأعداد حين يضاف واحد إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليؤدي إلى الوحدة العددية التالية. فإن للوحي مقياساً متغيراً هو: كميته أو سعته، تلك السعة التي تتراوح بين حد أدنى هو الآية، وحد أقصى هو السورة. وتأمّل هذه الوحدة يتيح لنا بعض الملاحظات المفيدة عن العلاقة بين الذات المحمدية والظاهرة القرآنية، إذ هي تتناسب في الزمن مع الحالة الخاصة التي سميناها (حالة التلقي) عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولقد رأينا- بصفة خاصة- أن إرادته تنعدم مؤقتاً، إذ هو عاجز في تلك اللحظات عن أن يغطي وجهه المحتقن، التفصد عرقاً. فعن هذه الذات العاجزة فجأة- وللحظات- تصدر وحدة التنزيل، وعلى هذه الذات الخارقة في حالة لا شعورية تقريباً يطبع الوحي فجأة فقراته الوجيزة. تلك هي وحدة (الظاهرة القرآنية) من ناحية الكم، وهي التي ندرسها بالنسبة لهذه الذات العاجزة مؤقتاً، والتي هي (حامل الوحي). هذه الوحدة تؤدي بالضرورة فكرة واحدة، وأحياناً مجموعة من الفكر المنتظمة في أسلوب منطقي يمكننا ملاحظته في آيات القرآن، ودراسة هذه الفكر

في ذاتها، وفي علاقتها ببقية حلقات السلسلة، تكشف عن قدرة خالقة ومنظمة، لا يمكن أن تنطوي عليها الذات المحمدية، في تلك الظروف النفسية الخاصة بحالة تلقيها الوحي، بل حتى في ظروفها الطبيعية، بشرط أن نقر نتائج القياس الأول. وحقيقة، ماذا نقول في فكرة لدى إنسان لم يفكر فيها، ولا يمكنه أن يفكر فيها في الحالة الخاصة التي يعانيها؟. وماذا نقول في هذا النسق المتصل لتعاليم تؤديها هذه الفكرة، حين لا يتأسس هذا النسق على إرادة وتفكير منظم؟. إن من الجلي أننا لا يمكن أن نتصور ذلك في النظرة الأولى، وفضلاً عن ذلك، فلو افترضنا أن التفكير يمكن أن يحدث لا شعورياً ولا إرادياً لدى فرد ما، فإن النبي على الرغم من هذا لم يكن لديه الزمن المادي كيما يتصور وينظم تعاليمه في البرهة الخاطفة للوحي. ولسوف نرى أن هذه التعاليم تعبر أحياناً عن أفكار خارج حدود الفكر تماماً في العصر المحمدي، بل لا يمكن أن تخطر في فكر إنساني، وسنورد نحن لذلك أمثلة فيما بعد في فصل (موضوعات ومواقف قرآنية). أما الآن، فنحن نكون مقياساً لنحكم على صلة وحدة الوحي بالذات المحمدية. ولسنا للأسف مطمئنين إلى أن الأمثلة التي درسناها هنا تمثل تماماً هذه الوحدة أو شطراً منها. ولكن من المستطاع أن نتخلص من هذه الصعوبة، حين نجعل وحدة التنزيل مجموع الآيات المتتابعة التي تسهم في اكتمال فكرة واحدة، وهذا العدد يمكن أن يهبط إلى الحد الأدنى، في آية واحدة، ويمكن أن يرتفع إلى الحد الأقصى في سورة كاملة. ***

مثال على الوحدة التشريعية

مثال على الوحدة التشريعية إن سورة النساء تقدم لنا نموذجاً تشريعياً على قانون الأحوال الشخصية، فالفكرة التشريعية التي نبحثها تكتمل في الآيات (22 - 25)، ومن المحتمل أن تكون قد نزلت كلها مرة واحدة. ولكنا مبالغة في الدقة لن ندرس هنا غير الآية (23) فقط، وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة النساء23/ 4]. فهذا نص أساسي يقرر في نفثة واحدة من الوحي تشريع الزواج بجميع تفاصيله، وشروطه القانونية الضرورية، وهو ينظم بصورة ما المحرمات من النساء، مستهلاً بذلك على حكمين جوهريين هما: الاستيعاب والحصر الكامل للحالات المشار إليها، وتصنيفها في نظام منطقي، وعليه فتعداد ثلاث عشرة حالة، وتصنيفها الواضح يستوجب ملابسات نفسية وزمنية متنافية مع خصائص الوحي. والحق أن النبي لم يفكر في الحالات المذكورة ولم ينظمها أيضاً، بينما ترينا مناقشة النص تصنيفاً للحالات المحرمة بدرجة القرابة العصبية والترتيب النزولي:

الأم والبنت، والأخت وبنت الأخ وبنت الأخت من القرابة المباشرة - والمرضعة- وأخت الرضاعة من القرابة الرضاعية، ولا يحل لمرء أن يتزوج أم امرأته، أو ابنتها أو أختها: فدرجة القرابة هنا مقيسة بالنسبة للمرأة. ويمكن أن نلحظ أيضاً في هذا التصنيف أفضلية رباط الذكر على رباط الأنثى، فابنة الأخ تذكر قبل ابنة الأخت، والقرابة المتصلة بالزوج قبل القرابة المتصلة بالزوجة مع أسبقية رباط الذكورة .. ولما كنا قد سلمنا بأن النبي صلوات الله عليه لم يجمع في نفسه هذه المحرمات قبل نزولها، وما كان له أن ينظمها خلال ومضة الوحي، إذ هو أمر يتنافى مع ظروف حالة تلقيه للوحي، ومع نتائج المقياس الأول، فإن المسألة تظل معلقة فيما إذا وجب تفسيرها طبقاً للأسلوب الديكارتي. وإنا لمضطرون هنا- كما اضطررنا هنالك- إلى أن نبحث عن تفسير للظاهرة خارج هذا النطاق. ***

مثال على الوحدة التاريخية

مثال على الوحدة التاريخية هذا المثال تقدمه لنا الآية الآتية: (1) {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ (2) قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (3) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ (4) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون 1/ 63] هاهو ذا النص الذي ندرسه. والذي قصدنا إلى ترقيمه وتجزئته أربعة أجزاء، ندرس فيها نظام الفقرات. وتظهر المسحة التاريخية للآية في الفقرة الأولى التي تصور لنا حادثاً عادياً هو حضور المنافقين بين يدي النبي، ولقد جاءت هذه الفقرة في مكانها فعلاً، لأن الهدف العاجل من هذه الآية هو أن تصف لنا غدر المنافقين وكذبهم، فمن الواجب أولاً أن تعطينا وصفاً لإطار الحادثة، وهو كون المنافقين في حضرة النبي. أما الأفكار التالية لذلك فينبغي أن تجيء وفق نظام طبيعي يتبع درجة الأهمية، أي ينتقل من الفكرة الرئيسية إلى الفكرة التابعة، وخاصة في الأسلوب الخطابي كما هو شأن القرآن. والفكرة الرئيسية هنا هي أن يعلن غدر المنافقين، وأن يكذبهم في مقالتهم. فإذا ما طبقنا هذه الملاحظة على ترتيب أفكار الآية صارت هكذا:

(1) إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ (2) قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ (3) وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ (4) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ وبهذه الصورة تصبح الآية بالتدقيق كاملة، ومطابقة للتركيب العربي، فيما عدا القلب الذي طرأ على وضع الجملتين (3 و 4) لنردها إلى ترتيبها الطبيعي، ومع ذلك فربما نلاحظ أن الآية تتعرض في نسقها الجديد لنقد في الصميم، إذ تكون برهاناً خطيراً ضد القيمة العلوية للوحي، لأن معنى الفقرة (4) كله قد أصبح في التنظيم الجديد تكذيباً، لا لغدر المنافقين، بل لإقرارهم وشهادتهم بأنه رسول الله، ففي التركيب القرآني للأفكار دقة مذهلة، لأن الفقرة الثالثة التابعة تؤكد أولاً صحة رسالة النبي- وهو ما شهد به المنافقون- قبل أن يعلن كذبهم في الفقرة الرابعة الرئيسية، هذا الترتيب الدقيق الذي يتميز بالعمق واليقظة البالغة يتنافى- كما يجب أن نكرر- مع الظروف النفسية والزمنية التي تبرق فيها (الوحدة الكمية) للقرآن، حتى كأنما هي ومضة خاطفة. وهو يتنافى أيضاً مع الارتجال والتلقائية لأسلوب القرآن، وواجبنا أن نذكر القارئ بأن الخطاب القرآني من الناحية الشكلية، يعد عرضاً شفوياً لا تظفر فيه الفكرة بالزمن المادي الكافي، لتحقيق الدقة المنطقية التي نلمسها في الأسلوب المكتوب. فليس لدى الإنسان عندما يتحدث وقت لكي (يدير لسانه في فمه سبع مرات)، والأسلوب الخطابي عموماً عرضة لزلات اللسان، على حين يقل تعرض الأسلوب المحرر للأخطاء العلمية، لأن لدى الكاتب فرصة (ليغمس القلم في الدواة سبع مرات)، قبل كتابة الفكرة.

فبحث الوحدة الكمية، تلك الومضة الروحية من الوحي، يبرز في آيات القرآن دلائل ترتيب وتفكير وإرادة، تعجز عن تفسيرها في حدود المعلومات التاريخية، والنفسية، التي أثبتناها للذات المحمدية. ***

الصورة الأدبية للقرآن

الصورة الأدبية للقرآن إن الجانب الأدبي للرسالة، ذلك الذي كان في نظر المفسرين التقليديين موضوع الدراسة الأول، يفقد بعض أهميته شيئاً فشيئاً في عصرنا الذي يهتم بالعلم أكثر من اهتمامه بالأدب (1). وحقاً إن سيطرتنا القاصرة على عبقرية اللغة الجاهلية، لاتسمح لنا بأن نحكم- عن معرفة- على سمو الأسلوب في القرآن. ومع ذلك فإن هناك آية تستحق انتباهنا، وهي تمدنا في هذه النقطة بمعلومات تاريخية بالغة الأهمية. إذ أن القرآن يؤكد صراحة هذا السمو الذي يقصد به إعجاز العبقرية الأدبية في عصره، فهو يقذف في وجوه معاصريه بهذا التحدي المذهل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة 23/ 2] ولم يذكر التاريخ أن أحداً قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب، وأن إعجازه الأدبي قد أفحم فعلاً عبقرية ذلك العصر. ولكن لدينا- فيما يخص بحثنا هذا- طرقاً أخرى لإصدار حكم، في هذا الجانب الخاص من المسألة. فالنفس البدوية طروب في جوهرها، وجميع مطامحها وانفعالاتها واندفاعاتها إنما تتجلى في تعبير موسيقي موزون، هو بيت الشعر الذي سيكون مقياسه

_ (1) ذكرنا أسباب ذلك في المدخل.

خطوة الجمل السريعة أو الطويلة، وعلم العروض نفسه في جوهره بدوي، إذن فصورة العبقرية البدوية قد انطبعت في الشعر. هذه اللغة الرخيمة التي تردد خلالها صهيل الخيل، ودوت في جوانبها قعقعة السيوف الهندية، قد كانت تقصف هنا وهناك صيحات الحرب يطلقها الفتيان في كل مكان، إنما تعبر عن الحماسة الأسطورية التي كان بطلها (عنترة)، أو عن النشوة الشعرية التي كان فتاها (امرؤ القيس). والمجاز في اللغة العربية- كما سنرى فيما بعد- يستعير عناصره من سماء بلا سحاب، ومن صحراء بلا حدود، تعبرها القطا أو تثب خلالها الآرام، فهي لا تعبر عن أية حيرة روحية أو ميتافيزيقية، وهي تجهل دقائق المنطق، وتجريد الفكر الفلسفي أو العلمي أو الديني. وثروتها اللفظية هي تلك التي تحقق حاجات الحياة البسيطة الخارجية أو الداخلية، لبدوي لا لحضري. تلك هي الخصائص العامة لهذه اللغة الجاهلية الوثنية المترحلة البرية، التي سيطويها القرآن بعبقريته الخاصة كيما يعبر عن فكرة عالمية. وسيختار القرآن للتعبير عن هذه الفكرة صورة جديدة هي: (الجملة). فالآية القرآنية ستقصي ناحية شعر البادية، ولكن نسقه سيبقى على كل حال، إذ هي قد تحررت من الوزن فحسب فاتسع مجالها. وهناك شهادات سجلتها لنا السيرة في ذلك العصر، تقدم لنا معلومات واسعة عن التأثير الغلاب الذي كان لآيات القرآن على النفس البدوية. فعمر رضي الله عنه يتحول إلى الإسلام بفعل هذا التأثير، على حين قد عبر الوليد بن المغيرة- الذي كان مثالاً في الفصاحة والفخر الأدبي- عن رأيه في

(سحر القرآن) بقول: "والله لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق؛ وإنه يعلو ولا يعلى عليه". قال ذلك رداً على أبي جهل الذي سأله عن رأيه فيما سمع من (محمد). هذه اللغة التي لم تعبر حتى تلك اللحظة- قبيل الرسالة- إلا عن ذكاء بدو الصحراء، تحتاج بقدر ما أن تثري لكي تشبع رغبات عقل واجهته- منذ ذلك الحين- المشاكل الغيبية والشرعية والاجتماعية بل العلمية أيضاً. إن ظاهرة لغوية كهذه فريدة في تاريخ اللغات، إذ لم يحدث للغة العربية تطور تدريجي، بل بعض ما يشبه الانفجار الثوري الباغت، كما كانت الظاهرة القرآنية مباغتة. وبهذا تكون اللغة العربية قد مرت طفرة من المرحلة اللهجية الجاهلية إلى لغة منظمة فنياً، لكي تنقل فكرة الثقافة الجديدة والحضارة الوليدة. لقد ذهب بعض المفسرين إلى أن القرآن لم يستخدم مطلقاً ألفاظاً أجنبية عن لهجة الحجاز، مع أنه من البين أن في القرآن ألفاظاً جديدة، وخاصة تلك الألفاظ الآرامية التي استخدمها لتعيين مفاهيم توحيدية جديدة من الناحية النوعية، كلفظ (ملكوت)، والأسماء الخاصة مثل (جالوت وهاروت وماروت)، فمن وجهة الدراسات اللغوية يبدو القرآن وكأنما قد استحضر ثروته اللفظية الخاصة، وأنشأها إنشاء بطريقة فجائية وغريبة. هذه الظاهرة قد خلقت من الوجهتين الأدبية واللغوية فصلاً تاماً بين اللغة الجاهلية واللغة الإسلامية. وليس يغض من شأن هذه النتيجة ذلك الفرض الباطل الذي قال به المستشرق (مرجليوث)، فإن الجدال حول هذه المسألة قد صفي وأغلق في مصر

بما قام به الرافعي ومدرسته من دراسات، فلم يعد (لفرض) العالم الإنجليزي مجال إلا بعض الدراسات المغرضة. وفضلاً عن ذلك فليس من الممكن أن نتصور: كيف، ولماذا اخترع بعض الناس نوعاً أدبياً رصيناً كالشعر الجاهلي، ثم اختلقوا له أسماء شعرائه ومؤلفيه (1)؟ إن هذا غير مفهوم. أية كانت وجهة الأمر، فإن المسألة اللغوية التي أثارها القرآن تستحق في ذاتها دراسة جادة تضم ألفاظه الجديدة، واستخدامه الفذ للكلمات، وخاصة في مجال الأخرويات، وربما ظفر علم التفسير من ذلك بمجال رحيب يستطيع فيه أن يلاحظ امتداد الظاهرة القرآنية. ولقد كان حتما على القرآن- إذا ما أراد أن يدخل في اللغة العربية فكرته الدينية، ومفاهيمه التوحيدية- أن يتجاوز الحدود التقليدية للأدب الجاهلي. والحق أنه قد أحدث انقلاباً هائلاً في الأدب العربي بتغييره الأداة الفنية في التعبير، فهو من ناحية قد جعل الجملة المنظمة في موضع البيت الموزون، وجاء من ناحية أخرى بفكرة جديدة، أدخل بها مفاهيم وموضوعات جديدة، لكي يصل العقلية الجاهلية بتيار التوحيد. على أن هذه المفاهيم ليست مترجمة في آيات القرآن فحسب، بل إن القرآن قد هضمها وتمثلها، ثم كيّفها حتى تناسب العقلية العربية. ومما يدلنا على هذا، أن نأخذ مثلاً التعبير الإنجيلي (مُلك الله Royaume de Dieu) ونرى هل نجده في القرآن بالتعبير نفسه؟ إن القرآن لم يضعه بحرفه، بل شكله في هيئة خاصة تمنحه أصالته

_ (1) حقق المؤلف هذه الفكرة في مدخل الكتاب بما لا مزيد عليه. (المترجم)

الإسلامية، فكلمة ( Royaume) مرادفها العربي لفظ (ملك) ولقد تمثله القرآن في صورة اللفظ (أيام) (1). والقرآن يتحاشى بهذا التكييف اللبس الذي قد ينشأ من الترادف بين الألفاظ (مملكة Royaume- ملك Domaine- مُلك) أو لفظ كَوْن ( Création) الذي يغير كثيراً من مغزى التعبير الإنجيلي. فالقرآن قد وفق ولاشك في أن يصوغه في ذلك التعبير الأصلي (أيام الله) (2) الذي لا يعثر عليه أمهر المترجمين. ويمكننا أن نسجل هذه الملاحظات نفسها بالنسبة لمجيع المفاهيم الإنجيلية الأخرى التي جات في القرآن باللسان العربي، فقد تمثل مفهوم العبارة ( Esprit Saint) ، ثم صاغه في ذلك التعبير الموفق (روح القدس). ولقد تعرضت الثروة اللفظية التي جاء بها القرآن في جميع تفاصيلها لمثل هذا التكييف الرائع، كما حدث لذلك الاسم الخاص ( Putiphare) وهو اسم الشخصية الكتابية التي أطلقت عليها رواية القرآن لقب (العزيز) في قصة يوسف، ولنا أن نتساءل عما إذا كانت هناك صلة في المعنى بين الاسم الإسرائيلي واللقب القرآني، فالتفسير العبري يبدو أنه يقصد بكلمة Putiphare اشتقاقاً مصرياً يبدأ من الأصل Puti=favori: ( عزيز)، والأصل phare ( مستشار أو ناصح). ونقلاً عن بحث القسيس (فيجورو vigoureux) في الموضوع (3) نعرف أن هذه الكلمة مصرية مركبة معناها (عزيز الإله شمس).

_ (1) ورد هذا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم 5/ 14]. (2) يقصد {بِأَيَّامِ اللَّهِ} ما يحمله شعور الإنسان المتدين من أن للحق يوماً ينتصر فيه بقيام مملكته. (3) الأب فيجورو (الكتاب المقدس والوثائق العلمية).

وعلى أي من الرأيين نرى أن التكييف الاشتقاقي القرآني قد حذف اللفظ المكمل- الإضافي، ليتمثله في صورة أكثر تطابقاً مع روح التوحيد الإسلامية، فإذا به يكتفي بلفظة (العزيز) (1). ومما يذكر أن هذا التكييف الذي تجنب صعوبة الترجمة الصوتية للحروف الأولى، قد حل مشكلة لغوية لا يتسنى لجاهل بالدراسات المصرية أن يحلها، حتى ولو كان في أتم حالات وعيه. ...

_ (1) يبدو أن كلمة "العزيز" قد انتقلت إلى حقل التفسير العبري عن طريق دراسات (موسى بن ميمون) تلميذ المدرسة الإسلامية بإسبانيا. (المؤلف).

مضمون الرسالة

مضمون الرسالة إن رحابة الموضوعات القرآنية وتنوعها لشيء فريد، طبقا لتعبير القرآن نفسه {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 6/ 38]، فهو يبدأ حديثه من (ذرة الوجود المستودعة باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار) (1) إلى (النجم الذي يسبح في فلكه نحو مستقره المعلوم) (2)، وهو يتقصى أبعد الجوانب المظلمة في القلب الإنساني، فيتغلغل في نفس المؤمن والكافر بنظرة تلمس أدق الانفعالات في هذه النفس. وهو يتجه نحو ماضي الإنسانية البعيد، ونحو مستقبلها، كيما يعلمها واجبات الحياة، وهو يرسم لوحة أخاذة لمشهد الحضارات المتتابعة، ثم يدعونا إلى أن نتأمله لنفيد من عواقبه عظة واعتباراً. وإن درسه الأخلاقي لهو ثمرة نظرة نفسية متعمقة في الطبيعة البشرية تصف لنا النقائص التي ينهى عنها، وينفر منها، والفضائل التي يدعونا إلى التأسي بها، من خلال حياة الأنبياء، أولئك الأبطال والشهداء في سجل ملحمة السماء؛ وعلى هذا الأساس يدفع القرآن المؤمن إلى الندم الصادق، حين يعده بالغفران، أساس التربية الجزائية في الأديان السماوية. أمام هذا المشهد العظيم وقف الفيلسوف (توماس كارليل)، فما تمالك عنه، بل انبعثت من أعماقه صرخة إعجاب بالقرآن فقال: "هذا صدى متفجر من قلب الكون نفسه" (3) وفي هذه الصرخة الفلسفية، نجد أكثر من فكرة جافة لمؤرخ،

_ (1) يشير المؤلف بذلك إلى قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان 31/ 16]. (2) يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس 26/ 40] (3) توماس كارليل (كتاب الأبطال).

نجد بعض ما يشبه الاعتراف التلقائي لضمير إنساني سام بُهت أمام عظسمة الظاهرة القرآنية؛ وإن العقل الإنساني ليقف حائراً أمام رحابة القرآن وعمقه، إنه بناء فريد ذو هندسة ونسب فنية تتحدى القدرة المبدعة لدى الإنسان. إن عبقرية الإنسان تحمل بالضرورة طابع الأرض، ليخضع كل شيء لقانون المكان والزمان، بينما يتخطى القرآن دائماً نطاق هذا القانون، وما كان لكتاب بهذا السمو أن يتصور في حدود الأبعاد الضيقة للعبقرية الإنسانية؛ ومن المقطوع به أنه لو أتيح لأحد الناس أن يقرأ قراءة واعية يدرك خلالها رحابة موضوعه، فلن يمكنه أن يتصور الذات المحمدية إلا مجرد واسطة لعلم غيبي مطلق. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه الذات تشغل فيه مكاناً ضئيلاً، إذ نادراً ما يتحدث القرآن عن تاريخ (محمد) الإنسان: إن آلامه العظمى أو مسراته لم ترد فيه قط؛ ولو تخيلنا النازلة التي أصابته في أوج دعوته بفقد عمه وزوجه لأدركنا مدى الدوي الرهيب لحدث كهذا، في حياة (رجل) كان حتى آخر لحظاته يبكي خديجة وأبا طالب، عندما كان اسماهما يذكران أمامه، وعلى الرغم من هذا لا نجد أي صدى لموتهما في القرآن، بل ولا اسم الزوجة الحانية، الزوجة التي تقبلت في حجرها انبثاق الإسلام الوليد. هذه النقطة ضرورية في رأينا لأية دراسة نفسية تحليلية لموضوع القرآن، الذي شغل منذ بعيد اهتمام المستشرقين لغايات مختلفة وبدوافع جد متخالفة. ولقد قدمت هذه الموضوعات الخاصة بالقرآن مادة غزيرة لدراسات هؤلاء العلماء، وربما كان من الواجب أن نبحثها هنا لنلفت إليها انتباه القارئ، ولكننا سنخصص بإيجاز لفتة للتشابه العجيب بين الكتاب المقدس (1) والقرآن:

_ (1) يقصد بالكتاب المقدس مجموع الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل ومنها التوراة والإنجيل. (المترجم)

العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس

العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس

العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس

العلاقة بين القرآن والكتاب المقدَّس لم يرد المتجادلون حول هذه العلاقة أن يدركوا عناصر المشكلة كلها، وأن يتصوروها من سائر وجوهها. فعلاوة على أن التشابه الذي قررناه ليس الطابع الوحيد أو الجوهري في القرآن، فإن القرآن يؤكد مستعلناً صلته بالكتاب المقدس، فهو يطلب دائماً مكانه في الدورة التوحيدية، وهو بهذا وبذاك يثبت- باعتداد- التشابه بينه وبين التوراة والإنجيل، وهو يؤكد هذه القرابة صراحة، ويلفت إليها النبي نفسه كلما جدت مناسبة، وهاك فيما نذكر آية تنص خاصة على تلك القرابة: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس 37/ 10]. وعلى كل، فإن هذه القرابة تسم القرآن بطابعها الخاص: فهو في كثير من المواضيع يبدو مكملاً أو مصححاً معلومات الكتاب المقدس. وعلى الرغم من أن القرآن يعلن بكل وضوح هذا التشابه والقرابة إلى الكتب السابقة، فإنه يحتفظ بصورته الخاصة في كل فصل من فصول الفكرة التوحيدية كما نبين ذلك فيما يأتي.

ما وراء الطبيعة

ما وراء الطبيعة تهدف فكرة التوحيد من الناحية الميتافيزيقية إلى إثبات وحدانية الله، إذ هو العلة الوحيدة التي تدخل في تكوين الظواهر وفي تطورها، وهو الذي يحكمها بما يتصف به من القدرة المطلقة والبقاء والإرادة والعلم. الخ .. ومع ذلك فإن الاسلام سيعرض عقيدته الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقاً، وفي اتجاه أكثر روحية. والواقع أن الكتب العبرية تكشف عن بعض التشبيه، ومن المحتمل أن يكون قد دخلها بطريقة مفاجئة عقب (التلفيق) الذي وصفناه في فصل (الحركة النبوية). ويتجلى هذا التشبيه ورؤيا يعقوب المروية في سفر التكوين: "ورأى حلماً وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها فقال أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق." [سفر التكوين- الفصل الثامن والعشرون- الفقرتان 12 و 13] ومن ناحية أخرى، فإن تعاليم الربانيين كانت قد أقامت على الوعد الذي تلقاه إبراهيم، وعلى ميزة الاختيار (1) التي كانت ليعقوب عقيدة دينية قومية: فالله سبحانه وتعالى قد أصبح في تلك العقيدة- على وجه التقريب- ألوهية قومية. حتى إن جوهر الحركة النبوية منذ (عاموس) إلى (أشعياء الثاني)

_ (1) اختيار إسحق لولده يعقوب لتكون النبوة فيه وفي عقبه. (المترجم)

سيكون بالتحديد رد فعل لهذه الروح الأنانية، فجميع الأنبياء الذين ينتهون إلى تلك الحركة الإصلاحية كأرمياء سيبذلون قصارى جهدهم ليؤكدوا وجود الله (رب العالين). ومع ذلك فإن العقيدة المسيحية قد اخترعت من جانبها ذاتاً إنسانية في الأقانيم الإلهية، وبهذا نشأت عقيدة جوهرها: «الرب الحي (تَجَسُّد) إنسان» وتولد عن هذه العقيدة التفسير المسيحي الذي سيقبس من الثقافة الإسلامية المنطق الأرسطي، لكي ينشئ عقيدة دينية ثالوثية، قائمة على سر الثالوث الأقدس. بينما اتجه الوحي القرآني إلى أن يقرر النتيجة الحاسمة للفكرة التوحيدية: (الله واحد، مخالف للحوادث، رب للعالمين). فأخرج بهذه الطريقة الحاسمة ذات الله جل شأنه من نطاق الأنانية اليهودية، والتعدد المسيحي. ولقد تقررت هذه العقيدة الجوهرية للإسلام الموحد في سورة من أربع آيات: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص 1/ 112 - 4]. وفي هذه الآيات يتجلى (الإخلاص) طابعاً خاصاً بالفكرة القرآنية؛ فلقد قضى على فكرتي التعدد والتشبيه دون نقض أو إبرام. أما ما بقي من صلة بينه وبين الأديان الأخرى فهو في روح الآيات إن لم يكن في نصها، وهكذا يتقرر بجلاء الأساس النظري الذي ستنبثق عنه الدراسات الدينية الإسلامية وتتطور، ثم تنتقل منه إلى المسيحية على يد (توماس الإكويني)، وإلى اليهودية على يد (موسى بن ميمون).

وإذا بفلسفة دينية نابعة من القرآن تتغلغل في أعماق الثقافة التوحيدية، ولسنا ندري إلى أي مدى كانت الثورات التالية في الفكر المسيحي- منذ الحركة الألبية ( Albigeois) حق حركة الإصلاح، محتسبة بوصفها نتائج مباشرة أو غير مباشرة للفهم الميتافيزيقي في القرآن. ومن الجحود أن نجهل الطابع الأصيل لهذا الفهم، وأهميته في تطور المشكلة الدينية في العالم اليهودي المسيحي، كما أنه من الجحود أيضا لهذا التأثير العقيدي الإسلامي أن نقول مع (الأب تيري R.P.G.Thery) : " حرم النبي صراحة أي استخدام للعقل في المشكلة الدينية، لأن وجود الله لا يمكن البرهنة عليه، والاجتهاد أو انطلاق العقل ليس من التوجيهات الأساسية للقرآن (1) ". فالقول بهذا يعني أننا ندرس في مقدمات مسيحية ثم نطبق نتائجها على مشكلة إسلامية، وتلك بكل أسف- هي العادة الغالبة على بعض الدراسات، كما فعل العلامة الشهير (جينيوبيرت Guignebert) ، فإنه بعد أن درس العناصر التي تسم (تطور العقيدة) اليهودية المسيحية، طبق نتائجها بطريقة غير متوقعة على تطور العقيدة الإسلامية كأنما كانت موضوع دراسته (2). ...

_ (1) محاضرات عن (الفلسفة الإسلامية والثقافة الفرنسية) للأب تيري الأستاذ بالمعهد الكاثولكي في باريس [ص:25]. (2) جينيوبيرت Guignebert في (تطور العقيدة).

أخرويات

أخرويَّات إن خلود الروح، تلك الفكرة الجوهرية في الثقافة التوحيدية، يستتبع نتائج منطقية هي: نهاية العالم، يوم الحساب، الجنة، النار. هذا المجال لم تلق عليه الكتب العبرية إلا شعاعاً خافتاً، لأنها كانت مهتمة بالتنظيم الاجتماعي لأول بيئة توحيدية. ثم جاء الإنجيل فزاده إيضاحاً حين ألح على بني إسرائيل في تذكيرهم (بأيام الله)، ذلك المفهوم الموجه إلى مجتمع موحد قطع في طريق التطور شوطاً. وسنرى أن القرآن يبرز في هذا المجال الأخروي إبرازاً مؤثرا، فلقد قصت فيه رواية الخلود بنبرة خاشعة رهيبة، في أسلوب فاق الذروة في بلاغته، وقد بثت في أنحائه صور ومشاهد تسكب الخشية في قلوب العباد مما لا يمكن معه لإنسان- حتى في هذه الأيام- أن يصدف عن مشاهده الهائلة. إن مشاهد القيامة في القرآن ذات حقائق خلابة، والشخصيات التي تحتويها تتكلم وتتحرك، فالملك، والشيطان، والأبرار والأشرار، كل هؤلاء يتسمون بواقعية لا تغفل أدق التفاصيل النفسية، ولا تهمل أية كلمة من شأنها أن تذكر بأهوال تلك الساعة الرهيبة، والزمن نفسه يمتد، والحكم يصدر و {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج 70/ 4]. ثم يعلن مشهد الختام في ذلك الفصل الرهيب: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد 13/ 57]. هذا هو المقام الخالد

للسعداء وللأشقياء، وليس في الوجود كله مشهد يماثل هذا المشهد في الحركة، أو يفوقه في الألوان التي تتوالى في مختلف سور القرآن. من هذا المشهد الرائع، وبعد ستة قرون من الزمان، قبست عبقرية (دانتي) لوحاتها الخيالية في (الكوميديا الإلهية)، وقد أوحى إليه بها ما كتبه المعري في (رسالة الغفران (1)). ...

_ (1) أسين بالاسيو Les Escatalogia Musulmana أو (أخرويات القرآن في الكوميديا الإلهية) أورده العلامة تيري.

كونيات

كونيات في سفر التكوين نجد كيفية الأمر بالخلق في تلك العبارات: "وقال الله ليكن نور فكان نور (1) ". هذه الصورة تذكرنا بطريقة فريدة بعبارة القرآن {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة 2/ 18] فإن التشابه بين العبارتين عجيب. ولكن القرآن يصف لنا دائماً عملية هذا التكوين الآمر، فهو يحدثنا أولاً عن وحدة مادة الكون الأولى في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [سورة الأنبياء 20/ 21]. ثم يحدثنا عن الحالة البدائية لتلك المادة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت 11/ 41] ثم إن الله جلت قدرته يحدد لكل كوكب فلكه ومستقره، مجزئاً بذلك المادة في الكون، ومقررا جميع القوانين التي ستحكم الظاهرة الطبيعية. ثم تكون الظاهرة الحيوية: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء30/ 21].

_ (1) سفر التكوين- الإصحاح الأول- فقرة 4.

وهناك آيات كثيرة تكمل هذه اللوحة النموذجية لصورة التكوين في القرآن، وعلى كل فإن الفعل الأولي الخالق أمر شفوي. لعل في كيفية الخلق هذه ما يصطدم مع أفكار الذين يعتمدون على (فرض) (لافوازييه Rien ne se crée, Rien ne se perd) أي لا شيء يوجد (من العدم) ولا شيء يدخل (في العدم)، ومعنى هذا أنه لا يمكن أن يخلق شيء من لاشيء. ومع ذلك فينبغي أن نعلم أنه من الوجهة المنطقية المحضة لا يوجد أدنى تناف عسير على الرد بين العقل والمبدأ الخالق في "كن فيكون"، ولا يستطيع مخلوق أن يقيم على ذلك برهاناً تجريبياً. أما الدين فإنه يقرر أن الله هو الذي يملك سر التكوين بين الكاف والنون- كما يقولون-، ولكنا نتساءل ابتداء هل يوجد تعارض أو ما يشبه التعارض الذي لا يمكن دفعه بين هذا المفهوم الديني والمفهوم العلمي؟ فلننظر إلام يؤول حل مشكلة المادة في التحليل الأخير، أعني الجوهر الموجود، والمجال الحامل لكل ما هو موجود؟ يجيب الطبيعيون: تؤول المادة في التحليل الأخير إلى نوع من الطاقة، ولكن: ألا يمكن أن تفسر (كلمة الله) نفسها بأنها نوع من الطاقة، الطاقة في أعظم وأتم أشكالها (بما أنها خالقة؟) أليس لنا الحق في أن نعد المادة في مجموعها مجرد تشكيل وتأليف لهذه الـ (كن) الخالقة؟ ... ***

أخلاق

أخلاق إن الأخلاق اللادينية- بقدر ما لهذا التعبير من معنى- تقيم أعمال الإنسان على أساس المنافع الشخصية العاجلة، التي صارت أساس المجتمع المدني؛ على أن الأخلاق الدينية (التوحيدية) تحترم أيضا المنفعة الشخصية، ولكنها تمتاز برعاية منافع الآخرين، وهي بذلك تدفع الفرد إلى أن ينشد دائما ثواب الله قبل أن يهدف إلى فائدته. من أجل هذا الثواب صاغت التوراة الميثاق الخلقي الأول للإنسانية في وصاياها العشر، وساق الإنجيل توجيهاته في عظة المسيح على الجبل، ولكن الأمر في الكتابين كليهما أمر مبدأ أخلاقي سلبي، فهو يأمر الناس بالكف عن فعل الشر في حالة، وبعدم مقاومة الشر في أخرى. أما القرآن فسيأتي بمبدأ إيجابي أساسي، كيما يكمل منهج الأخلاق التوحيدية، ذلك المبدأ هو (لزوم مقاومة الشر) فهو يخاطب معتنقيه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران 110/ 3] ومن جهة أخرى يقر القرآن فكرة الجزاء، أساس الأخلاق التوحيدية. ويقول الأستاذ (أندريه لودن): "إن القيمة الدينية للفرد لم تظهر في الديانة اليهودية، إلا على عهد (حزقيال Exachiel النبي)، فحتى ذلك العهد كان الواجب ونتائجه الخلقية يقعان على عاتق الأمة، التي تتوقع جزاءها في ذلك النصر الموقوت، (يوم ينصر الإله قومه) وقد كان الإنجيل على العكس من ذلك، فقد

قصر الجزاء كله على (يوم القيامة)، فقد أصبحت الأخلاق من مسائل الآخرة، وأضحت برمتها من الهموم الشخصية". حتى إذا جاء القرآن وجدناه يقيم بناءه الخلقي على أساس القيمة الخلقية للفرد، وعلى العاقبة الدنيوية للجماعة، فأما الفرد فإن ثوابه مستحق يوم الحساب، ومن أجل هذا يقرر القرآن صراحة القيمة الدينية للفرد في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر 11/ 74] وأما الجماعة فإن جزاءها عاجل، يلفتنا القرآن إلى قصته في هذه الدنيا حين يدعونا دائماً إلى تأمل العقاب الدنيوي في عواقب الأمم البائدة، والحضارات الدارسة: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام 6/ 11]. بل إن القرآن ليعنف تلك الأمم في آية أخرى فيقول: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام 16/ 6]. ***

اجتماع

اجتماع كان الغرض من الشريعة الموسوية أن تضع مبادئ مجتمع موحد ناشئ، وأن توثق الصلات بين أفراده، أولئك الأفراد المغمورين في مجموعات الشعوب الوثنية. وبذلك تكون هذه الشريعة قد تصورت المشاكل الاجتماعية من الوجهة الإسرائيلية الداخلية. ثم إننا نجد شريعة الحب لدى عيسى تفتح أكثر من ذلك باب الرحمة المسيحية لأهل الفطرة من الوثنيين. حتى إذا جاء القرآن وجدناه يتناول- في نصه- المشكلة من الزاوية الإنسانية الشاملة: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة 31/ 5]. ولقد كانت إحدى النتائج الخطيرة لهذا المبدأ العام أن وضعت مشكلة الرق للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية في طريق الحل، فإن عتق الرقيق كان مرحلة ضرورية لإلغاء الاسترقاق، الذي كان أساساً جوهرياً للنشاط في المجتمعات السابقة. لقد جعل القرآن من تحرير العبيد مبدأ خلقياً عاماً، وإذا ما ارتكب المسلم نوعاً من المخالفات الشرعية يتحول العتق إلى شرط شرعي للتوبة والغفران، فإذا كنا قد لاحظنا التشابه بين القرآن والكتب المقدسة- فيما مضى من البحث- فإننا نلاحظ الآن الطابع المميز لصورته الخاصة. ***

تاريخ الوحدانية

تاريخ الوحدانية لدين إبراهيم تاريخه الذي يضم أعمال الأنبياء ومناقبهم، وربما وجدنا في الفصل التالي التشابه العجيب بين القرآن والكتاب المقدس، فإن تاريخ الأنبياء يتوالى منذ إبراهيم إلى زكريا ويحيى ومريم والمسيح. فأحياناً نجد القرآن يكرر القصة نفسها وأحياناً يأتي بمادة تاريخية خاصة به مثل: هود، وصالح وناقته، ولقمان، وأهل الكهف وذي القرنين .. الخ (1). على أن التشابه هنا عجيب، كما سنرى في قصة يوسف، التي تواجه النقد بمشكلة خطيرة، فعلى عهد النبي نفسه لم يترددوا في أن يثيروا بعض الاعتراضات التي تثار الآن، وبعد ثلاثة عشر قرناً. والواقع أننا لو صرفنا النظر- منهجياً- عن القيمة العلوية للقرآن، ولو أغفلنا- تبعاً للهوى- اعتباراته الأخرى، فإن هذا التشابه سيظل لغزاً غير مفهوم. ولكي نفهم هذا ينبغي، أن ننصب اللوحة التي ترينا سائر وجوه التشابه في نظرة واحدة، وسيكفينا لذلك مثال واحد هو (قصة يوسف)، التي سنتخذها مقياساً لدراستنا النقدية لهذا الموضوع. ...

_ (1) وأما قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف 83/ 18] فإن كانت الاشارة فيه إلى اليهود، فربما علموا القصة من أخبار التاريخ، لأن التوراة لم يرد فيها شيء من ذلك. (المترجم)

قصة يوسف في القرآن والكتاب المقدس

قصة يوسف في القرآن والكتاب المقدس

جدول التفاصيل القرآنية في قصة يوسف

جدول التفاصيل القرآنية في قصة يوسف -1 -

-2 -

النتائج الموازنة للروايتين

النتائج الموازنة للروايتين في هاتين الروايتين اللتين فرغنا من عرضهما يمكننا أن نوازن بعض العناصر المتشابهة، بطريقة تبرز لنا الطابع الخاص بالقرآن. ثم إننا نحتاج أن نبحث قضية هذا التشابه بين الكتابين، وهو أمر جد مفيد لموضوعنا. إن سدى التاريخ واحد تماماً في كلتا الروايتين، ومع ذلك فإن مجرد التأمل السريع يمكن أن يكشف لنا عن عناصر خاصة تميز كلتيهما على حدة، فرواية القرآن تنغمر باستمرار في مناخ روحاني، نشعر به في مواقف وكلام الشخصيات التي تحرك المشهد القرآني. فهناك قدر كبير من حرارة الروح في كلمات يعقوب ومشاعره في القرآن، فهو نبي أكثر منه أباً، وتبرز هذه الصفة خصوصاً في طريقته في التعبير عن يأسه عندما علم باختفاء يوسف. كما تتجلى في طريقته في تصوير أمله حين يدفع بنيه إلى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه. وامرأة العزيز نفسها تتحدث في رواية القرآن بلغة تليق بضمير إنساني وخزه الندم، وأرغمتها طهارة الضحية ونزاهتها على الاستسلام للحق، فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها. وفي السجن يتحدث يوسف بلغة روحية محلقة، سواء مع صاحبيه، أم مع السجان، فهو يتحدت بوصفه نبياً يؤدي رسالته إلى كل نفس يرجو خلاصها. وفي مقابل ذلك نجد الرواية الكتابية تبالغ بعض الشيء في وصف الشخصيات المصرية- الوثنية بالطبع- بأوصاف عبرانية، فالسجان يتحدث بوصفه موحدا (1)، وفي القسم الخاص بتعبير الرؤيا في القصة يرتسم رمز المجاعة في

_ (1) التوراة الفصل التاسع والثلاثون جملة 24.

صورة أقل إجادة، فعبارة التوراة هي: " فابتلعت السنابل الجياد" (1)، أما في الرواية القرآنية فإنها تعقبها فحسب. والرواية الكتابية تكشف أيضاً عن أخطاء تاريخية تثبت صفة (الوضع التاريخي) للفقرة التي نناقشها، فمثلاً فقرة " لأن المصريين لا يجوز لهم أن يأكلوا مع العبرانيين لأنه رجس عند المصريين" (2) يمكننا التأكيد بأنها من وضع النساخ الميالين إلى أن يذكروا فترة المحن التي أصابت بني إسرائيل في مصر، وهي بعد زمن يوسف. وفي رواية التوراة استخدام إخوة يوسف في سفرهم "حميراً" بدلاً من (العير) في رواية القرآن، على حين أن استخدام الحمير لا يمكن أن يتسنى للعبرانيين إلا بعد استقرارهم في وادي النيل، بعد ما صاروا حضريين، إذ الحمار حيوان حضري عاجز في كل حالة عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين، وفضلاً عن ذلك فإن ذرية إبراهيم ويوسف كانوا يعيشون في حالة الرعاة الرحل، رعاة المواشي والأغنام. وأخيراً فإن (حل) عقدة القصة يحمل طابع السرد التاريخي في الرواية الكتابية، فهو يشكل في الفصول الأخيرة- التي آثرنا حذفها كيما نتجنب الإطالة المملة- على تفاصيل مادية عن استقرار العبرانيين في مصر. أما في القرآن فإن هذا الحل يدور حول الطابع المميز للشخصية المحورية: يوسف الذي يختم هذا الختام المنتصر.

_ (1) الرواية الكاثوليكية تقول "السنابل الجياد تلتهم الخ ... ". (2) التوراة الفصل الثالث والأربعون جملة 32.

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف 100/ 12] ***

البحث النقدي للمسألة

البحث النقدي للمسألة أيا ما كان الاختلاف بين الروايتين، فإن الصلة بينهما تظل على أية حال بينة، فقد أوحت إلى النقد في جميع العصور بالاعتراضات المتخالفة. هذه الاعتراضات يمكن أن تتلخص في فرضين: الأول: أن النبي قد تشبع- دون علم- بالفكرة التوحيدية، التي ربما تمثلها لا شعوريا في عبقريته الخاصة، كما يفيضها بعد ذلك في آيات القرآن. الثاني: أن النبي قد تعلم الكتب المقدسة اليهودية المسيحية، تعلماً مباشراً، وشعورياً، لكي يستخدم ذلك فيما بعد في بناء القرآن. تلكم هي المشكلة الخطيرة. ولكي نحلها ينبغي أن نبحث هذين الفرضين على التوالي من الوجهتين التاريخية والنفسية. وربما كان من المفيد لفهم هذا الفصل أن نعتمد على معلومات القياس الأول، ونتائجه التي استخلصناها عن الذات المحمدية. ***

الفرض الأول

الفرض الأول هذا الفرض ذو شقين: أولهما: وجود تأثير يهودي مسيحي في الوسط الجاهلي. ثانيهما: الطريقة التي تسنى بها لهذا التأثير أن يبرز في الظاهرة القرآنية. ولكن جميع الأبحاث التي توجهت إلى الكشف عن هذا التأثير في البيئة العربية قبل الإسلام لم تأت بأية نتيجة إيجابية. وإنما تنعكس صورة هذه البيئة في أدب لغتها المشتركة، وفي أدبها الشعبي الذي يفصح عن أمية عامة، فهي بيئة (أميين) حسب التعبير التاريخي للقرآن. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة 2/ 62] والوثائق المخطوطة عن هذا العصر نادرة، فإن ثروته الفكرية وأدبه الشعبي لم يحفظا إلا بطريق الرواية المشافهة، ذلك الطريق الذي أوصل جوهر التراث إلى عصور الأدب والعلم الإسلامية. على أن القرآن يعد حجة مخطوطة ذات وثوق تاريخي لا يقبل الجدل، عن العصر الجاهلي. ولكن هذه الوثيقة الوحيدة- تؤيدها الرواية المشافهة- لا تفيدنا بشيء فيما يتعلق (بفكرة توحيدية) ذائعة في الوسط الجاهلي، بل إنها على العكس تؤكد مرات كثيرة أن لا وجود لأي تأثير ديني في العصر الجاهلي. وحين يتجه القرآن مرة أخرى إلى النبي نجده يحدد له مفهوم رسالته قائلاً: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) [البقرة 151/ 2] فها هو ذا قد (عيّن)

_ (1) لا شك أن النبي قد مرت بوعيه هذه الآية حينما خوطب بها أثناء الوحي كما مر في كلام (انجلز) [ص:149]. (المؤلف)

صراحة معلم الوحدانية الأول لبلاد العرب. والحق أن هذه الآية قد أكدت بإسهاب في القرآن، وخاصة في قصة نوح، التي يختمها القرآن تلك الخاتمة البيانية: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود 49/ 11] وعرض قصة يوسف نفسه- ذلك الذي انتهينا منه- محصور في إطار الآيتين ((3)) و ((101)) اللتين تحملان الطابع التاريخي السابق نفسه، أعني تأكيد خلو البيئة العربية من أي تاريخ توحيدي (1). وإذن: فأية قيمة منطقية يمكن أن تكون لهذه الآيات والتأكيدات كلها في نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاصريه، لو أنها لم تكن سوى تبليغات منافية لواقع هاتيك الأيام. والحق أن هذا الواقع- القابل للتعديل من هؤلاء المعاصرين الذين انتدبوا للشهادة صراحة في الآيات السابقة- لم يكن سوى انعدام أي تأثير يهودي مسيحي في الحياة الجاهلية، وهو ما أكده القرآن بقوة، وأيدته الأخبار المتواترة. لقد قام الآباء اليسوعيون- في مستهل هذا القرن- بأبحاث مهمة جداً في هذا الموضوع، لكي يحددوا مدى إسهام (شراء النصرانية في الجاهلية)، وقد انتهت أبحاثهم بمحصول أدبي عظيم ليس له من النصرانية إلا العنوان المذكور، وكان لهذا العمل العظيم نتيجة مفاجئة ذات مغزى، هي أنه قد برهن على عكس ما كان يريد مؤلفوه.

_ (1) المقصود بالتاريخ التوحيدي ما يتصل بالأديان المنزلة لا ما يتصل بفكرة الألوهية التي كان العرب ملمين بها في ثنايا إشراكهم بالله، وهو ما تدل عليه الآية الكريمة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر 3/ 39] (المترجم)

ونحن نذكر- من جهة أخرى- أنه لم يثبت أن كان بمكة أو ضواحيها أي مركز ثقافي ديني، ليقوم بنشر فكرة الكتاب المقدس، التي عبر عنها القرآن. وكل ما يمكن أن يذكر هو أن بعض الحنفاء كان لهم تأثير روحي معين على الوسط الذي تشكلت فيه الذات المحمدية، بل إن النبي نفسه كان (حنيفيا) قبل بعثته، والآيات التي تذكر (جهله بالكتب) تنطبق تماماً على (الحنفاء) الآخرين، ومع ذلك فإن وجود (الحنيفي) نفسه كان حالة نادرة في بيئة مشركة في جوهرها، ونضيف أيضاً في هذا الصدد أن هذه البيئة لم تتطور كثيراً منذ هاتيك العصور الخوالي إلى الآن على الرغم من طابع القرون الإسلامية التي مرت عليها. لقد تساءل أحد المؤلفين العرب المحدثين في إحدى الدراسات الاجتماعية الهامة فقال: "هل الإسلام من صنع اليهودية والمسيحية" (1)؟ ثم أجاب بالنفي معتمداً على ملاحظة للأب (لامانس) الذي عزا انعدام تأثير المسيحية إلى (بعد معتنقيها العرب عن الرعاية المناسبة للكنيسة). ومن ناحية أخرى، لو أن الفكرة اليهودية المسيحية كانت قد تغلغلت حقاً في الثقافة والبيئة الجاهلية فإن من غير المفهوم ألا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس. وهنالك حدث مؤكد فيما يتصل بالعهد الجديد (الإنجيل) وهو أنه حتى القرن الرابع الهجري لم تكن قد وضعت له ترجمة عربية، نعرف هذا من مصادر الغزالي الذي اضطر أن يلجأ إلى مخطوط قبطي كيما يحرر (رده) (2). وقد ذكر (الأب شدياق R.P.Chediac) - الذي اضطر إلى البحث في كل ناحية عن المصادر الإنجيلية التي استخدمها الفيلسوف العربي في تأليف (الرد) حين كان يريد ترجمة مؤلف الفيلسوف- ذكر أن أول نص مسيحي ترجم إلى

_ (1) الدكتور بشر فارس (الشرف عند العرب قبل الإسلام) (بالفرنسية). (2) الغزالي (الرد على من ادعى ألوهية المسيح بصريح الإنجيل).

الفرض الثاني

العربية كان مخطوطاً بمكتبة (القديس بطرسبرج). كتب حوالي عام 1060م، بيد رجل يدعى (ابن العسال). وهكذا لم تكن توجد ترجمة عربية للإنجيل في عصر الغزالي، فمن باب أولى لم يكن يوجد مثل هذه الترجمة في العصر الجاهلي. فهل كان يمكن أن توجد- بصفة خاصة- ترجمة للعهد القديم (التوراة)؟ إن القرآن الذي يذكر لنا صدى ما دار من المجادلة بين النبي وبعض أحبار اليهود بالمدينة، يقول مخاطباً هؤلاء: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران 93/ 3]. أفليس هذا دليلاً على أنه لم يكن يوجد من يقرأ العبرية من العرب من ناحية، وعلى أنه لم تكن توجد ترجمة عربية للتوراة من ناحية أخرى؟ وعليه، فلا شيء أقل احتمالا من وجود تأثير توحيدي في البيئة العربية الجاهلية، لانعدام المصادر اليهودية المسيحية المكتوبة فيها، ليصبح من المستحيل أن نقول بإمكان حدوث (امتصاص لا شعوري) للذات المحمدية، في هذا الوسط الجاهلي. ... الفرض الثاني هذا الفرض الثاني ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد تلقى تعليماً شخصياً مباشراً عن الكتب السابقة للقرآن، وربما كان لنا في هذا الصدد احتمالان أو فرضان نفسيان: أولهما: أن النبي ربما تعلم بطريقة منهجية كيما يضع القرآن بعلمه.

وثانيهما: أنه ربما كان قد تعلم أو عُلِّم، ثم استخدم لا شعورياً المادة التي حصلت في يده. والفرض الأول غير محتمل؛ إذا ما اعتبرنا النتيجة العامة عن النبوة، والنتيجة الخاصة عن الذات المحمدية، وهي إخلاص هذه الذات واقتناعها الشخصي، وهي المعاني التي أنهينا بها مناقشة الفصول السابقة. أما الافتراض الثاني، فإن الاعتبارات نفسها عن الذات المحمدية تلزمنا بأن نخصها بمغزى نفسي أكثر تحديداً، فبناء على ما أثبتناه في القياس الأول نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نعد تعلم محمد الشخصي المباشر كأنه (حالة إدراك منسية لدى التعلم نفسه)، والأمر في هذه الحالة يتعلق- في جملته- بظاهرة نسيان جد غريبة، علماً بأن جميع تفاصيل حياة النبي الخاصة والعامة تشهد عنده بمعادلة شخصية كاملة. وخاصة ذاكرته التي كانت خارقة لكل اعتبار، حتى في حالة التلقي التي كان يعانيها خلال لحظات الوحي، لقد كانت ذاكرته تعمل كما رأينا في المقياس الأول وكما سنرى فيما بعد في فصل (المناقضات)، وقد كان هو في الواقع الحافظ الأول للسور، التي كان يرتلها عن ظهر قلب حتى لحظاته الأخيرة. ولقد قُدِّم إليه ذات يوم لفداء مكي أسير لدى المسلمين، قلادة كانت تتحلى بها خديجة، فتعرف عليها في الحال وقد دمعت عيناه، ثم إنه أطلق ساح المشرك الذي كان صهره، وأمره أن يرد القلادة إلى ابنته. هذه الذاكرة السمعية البصرية الخارقة التي عُرف بها النبي والقائد لا يمكن أن تتفق مع مرض الذاكرة بالنسيان، النسيان الذي يجب أن يعد هنا جزئياً، لأنه لا يشمل كل الماضي الشعوري للنبي، بل يقتصر على تذكر مصدر تعلمه الكتب، وطريقته في أن يستخدمها لا شعورياً. وربما كان هذا النسيان أغرب حين نجد النبي يتذكر موضوع هذا التعلم تذكراً كاملاً، كسورة يوسف مثلاً (1).

_ (1) سورة يوسف مكية كلها والمفهوم من كلام المفسرين أنها نزلت جملة واحدة على ما ذكره الألوسي (ج12 ص 17) قال: "وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه =

ولدينا غرابة أخرى، هي أن هذا الموضوع لا يأتي في صورة نسخة مكررة من التوراة، فهو يتعرض أولاً للمسات القرآن في التفاصيل المادية هنا، وفي الإطار الروحي هناك، كما أوضحنا ذلك في العرض الموازن لقصة يوسف، وأخيراً فإن المصادر العربية للتعليم غير موجودة إطلاقاً، كما رأينا في بحث الفرض الأول. وإذن فلقد كان من الواجب على النبي أن يكيف موضوع تعلمه المستقى من مصدر أجنبي بالضرورة، ويعدّله ليوافق التعبير القرآني، وذلك باختيار سابق للألفاظ العربية. ولم يكن من المستطاع أن يحدث هذا التعديل تلقائياً، دون أن تشترك فيه القدرات الشعورية لدى النبي. من أجل هذا كله نجد أنفسنا محيرين، أمام حالة نسيان مرضي، وأمام حالة (لا شعور جزئي) لا يشرحها علم النفس، حتى ولو فرضنا أن حالة كهذه كانت متوافقة- من ناحية أخرى- مع سائر خصائص الظاهرة القرآنية. أما من الناحية التاريخية، فإذا كان هذا المصدر الأجنبي قد وجد لتعليم النبي، فإنه لن يكون سوى مصدر شفهي، غير مكتوب لكي يكون في متناول أمي، وربما كان هناك في هذه الحالة (ملقِّن) ما يهمس دائماً إليه- دون علمه- بكل ما يتصل بدعوته. وإن الطابع الخاطئ لافتراض كهذا ليقف في مواجهة واقعين لا يقبلان المناقشة، هما القيمة القرآنية، وقيمة الذات المحمدية، وهكذا ينتهي بنا الفرض إلى تناقض تاريخي ونفسي، فنحن مضطرون إلى أن نستنتج أن وجوه الشبه الملحوظة لا تعزى إلى تأثير يهودي مسيحي ذاع في البيئة الجاهلية، ولا إلى تعلم شخصي أو لاشعوري لشخص النبي.

_ = أنزل القرآن على رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلاه على أصحابه زماناً فقالوا: "يا رسول الله لو قصصت علينا" فزلت، وقد ورد غير ذلك في سبب النزول، ولكن سائر ما قيل لا ينافي أنها نزلت كلها مرة واحدة". (المترجم)

هذه النتيجة القائمة حتى الآن على ملاحظة وجوه الشبه، تتحتم أكثر من ذلك حين نأخذ في اعتبارنا صفات القرآن الخاصة. والحق أنه حتى في تاريخ الوحدانية، الذي تتوثق فيه القرابة بين القرآن والكتاب المقدس يؤكد القرآن غالباً استقلاله بعلائم مميزة كثيرة، كتلك التي جمعناها في الجدول الموازن لقصة يوسف، وأيضاً فيما نراه في مشهد عبور بني إسرائيل البحر الأحمر وقد غرق فرعون وجنوده كما روى (سفر الهجرة) (1) ة ولكن رواية القرآن تكمل هذا العرض بتفصيل غير متوقع، وهو أيضاً غير عادي! .. أعني: (النجاة البدنية) لفرعون الذي أفلت بأعجوبة من الغرق. لكن علماء الدراسات المصرية خاصة يهاجمون الرواية الكتابية، مدعين أن تاريخ ملوك مصر لم يسجل اختفاء فرعون المعاصر لموسى في البحر الأحمر، ولنتأمل الآن ما ذكرته الرواية القرآنية: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس 91/ 10، 92] لقد فتش التفسير الكتابي- بصفة خاصة- عن التأييد التاريخي لاختفاء فرعون موسى، في الوثائق التي تحدثت عن حياة (امنحتب الرابع) وهو اسم السلالة الملكية للشخصية المصرية. ويعتمد الأستاذ (هيلير دي بارانتون Hilair de Parenton) في هذا على مذكرات (مورسيل Les Mémoires de Moursil) وهو أمير حيثي، كتب في مذكراته أن: " ملكة مصر التي كانت عابدة كبيرة للإله آمون أرسلت رسولاً إلى أبي، وكتبت له قائلة: مات زوجي وليس لي ولد .. "، ولكن الملك الحيثي ارتاب في موت فرعون إلى أن كتبت له الملكة تبعا للنص نفسه: "لم قلت: إنهم يريدون أن يخدعوني .. إن الناس جميعا

_ (1) أحد أسفار التوراة.

ينسبون إليك كثيراً من الأبناء، فأعطني إذن واحداً منهم ليصبح زوجي ويحكم مصر"، ويستمر الأستاذ بارانتون في قوله: "فاقتنع الملك الحيثي وأرسل أحد أبنائه، الذي مات في الطريق ميتة طبيعية- كما يقول المصريون ومقتولاً كما يدعي الحيثيون " (1). ولقد تعمدنا ذكر النصوص الجوهرية للوثيقة الحيثية التي يستخدمها هذا المؤلف أساسأ للبرهنة على موت فرعون. على أن هذا الاستنتاج الذي يوحي به وهم التوفيق بين فكرة الكتاب المقدس وما يثبته التاريخ، مُعارَضٌ برأي علماء الدراسات المصرية، فإنهم لا يقررون اختفاء (امنحتب الرابع)، وإنما يقررون تغييراً مفاجئاً في اسمه الذي أصبح (أخناتون)، وتبدلاً خلقياً وسياسياً في ذاته عقب الهجرة، فكأنما حدثت في حياة الشخصية المصرية ثورة مفاجئة. وهاك ما كتبه في هذا الموضوع (ماسبيرو Maspéro) : " وبضربة واحدة في الواقع تبدل هذا الفرعون شخصية أخرى، واحتفظت العملة الملكية بالاسم نفسه، (سوتن باتي نفرخ براوانرا Suten Bati Neferkheperraouanra) . ولكن الاسم: (سا- رع Sa-Râ) يصبح (رع- آتن حوتي Rà-Aten-Houti) . وفضلاً عن ذلك فإن دينه قد تغير، كان كاهن الإله (آمون)، فأصبح كاهن الإله (آتون- رع Rà- Aton) ، وبالتالي ترك طيبة بلدة (آمون)، وذهب إلى (أخناتون) المدينة الجديدة التي بناها، وخصصها معبداً (لآتون الشمس) إلهه الجديد (2)، بيد أن التبدل لا يكون مفهوماً إلا إذا وقع حدث خطير وغريب أيضاً ليغير حياة الشخصية الفرعونية تغييراً عميقاً، كأن يرى مثلاً غرق جيشه، ويرى نفسه أيضاً غريقاً في البحر الأحمر، ثم إذا به يجد نفسه بطريقة أو بأخرى

_ (1) موجز تاريخ العالم القديم " Petite Histoire Illustrée du Monde ancien" [ ص:36] للأستاذ هيليري دي بارانتون. (2) فقرة ذكرها (هيليري دي بارانتون) في كتابه المذكور [ص:42].

منجّى، كما حدثنا القرآن، والمسألة على كل حال تتعلق بنجاة بدنية، بما أن فرعون لم يتحول إلى إله موسى، بل اختار تحولاً روحياً وثنياً حدثنا عنه علماء التاريخ المصري القديم. فإلام يمكن أن تصير- على هذا- الشهادة الحيثية؟ وماذا يعني مسلك الملكة على وجه الخصوص؟ إن من الطبيعي أن يكون لتبدل حاله فرعون نتائج بالغة، وخاصة في الحياة الزوجية، ذلك لأن الزوجة ظلت تعبد الإله (آمون)، بينما تحول الزوج كاهناً لإله الشمس، فنتج عن هذا انشقاق ديني وسياسي وزوجي، وإذا بأخناتون يقتل الأمير الحيثي الذي جاء يطلب يد الملكة المتمردة، مسطراً بذلك مأساة زوجية وسياسية. ولكم نتمنى أن نعرف إذا ما كانت الملكة قد بقيت في عاصمتها (طيبة)، الأمر الذي يضفي مزيداً من الوضوح على الوجه السياسي والزوجي للمأساة، وأيا ما كان الأمر، فإن القرآن لا يناقض مطلقا الكتاب المقدس في هذه النقطة، ولكنه يضيف إليها- على كل حال- تفصيلاً توضيحياً يتفق مع الأخبار الدينية ومع العقائد العلمية. ومن هذا القبيل أن تذكر الرواية الكتابية جبل (أرارات) في قصة الطوفان، ويحدد التفسير اليهودي المسيحي موقع هذا الجبل في (أرمينيا)، ثم يذكر القرآن اسماً خاصاً هو اسم جبل (الجودي) الواقع في الموصل، ثم نجد أن الاكتشافات الجيولوجية والأثرية الحديثة تحدد مكان حدوث ظاهرة الفيضان في مكان قريب من ملتقى دجلة والفرات، غير بعيد من بلدة (أر) حيث ولد إبراهيم عليه السلام، فمن الجائز أن يشير النصان إلى قصتين متمايزتين لظاهرة الفيضان، ولكن من الجائز أيضا أن يكون في الأمر خطأ وقع فيه نساخ الكتب المقدسة، خطأ من تلك الأخطاء التي من أجلها لعن أرمياء (أقلام النساخ الكاذبة).

وأخيراً فإن الرواية القرآنية مستقلة تمام الاستقلال عن الفكرة اليهودية المسيحية التي ترى- من زوايا مختلفة- في صلب المسيح حقيقة تاريخية، فإذا بالقرآن يؤكد في هذا الموضوع: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء157/ 4]. هذه الرواية الأصلية في القرآن لا تتفق مع أية وثيقة يهودية مسيحية. ومن جهة أخرى تترك مخطوطات المسيحيين الأول الباب مفتوحاً لجميع الفروض عن نهاية المسيح وعن مدة رسالته. و (إيرينيه Irené) - الذي ذكره الأستاذ (مونتييه Montet) باعتباره الشاهد الأول على وثاقة إنجيل القديس يوحنا- يعترف في نهاية القرن الثاني بأن المسيح ظل يعلم الناس حتى سن الخمسين، خلافاً للرواية الحالية التي تفيد أنه قد انتهت رسالته في سن الثانية والثلاثين، فلو أننا أردنا أن نرد- بأي ثمن- التاريخ التوحيدي القرآني في هذه النقطة إلى مصدر مسيحي، فمن الممكن أن نقرب جزئياً بين رأي القرآن عن اختفاء المسيح ورأي النظرية الدوسيتية Doctrine docétiste) الذي يقرر صراحة (الموت الظاهر) للمسيح تبعاً لإنجيل بطرس. هذا التقريب يظل على الرغم من هذا جزئياً، لأن القرآن يعد مولد المسيح وحياته وقائع أرضية لا تقبل الجدل، بينما تضع الدوسيتية Le docétisme كل هذا في نطاق فهم عام لفكرة (الظاهر) (1). وهكذا يمكن أن نتتبع خطوة خطوة الفكرة القرآنية والفكرة الكتابية، لنجد فيها فيما يتصل بالأصول التاريخية موضوعات مشتركة لا تنكر، ولكنا نجد أيضاً كثيراً من نقط التباعد والاختلاف. ولعل من الواجب لكي ندفع هذا البحث إلى أقصى ما يمكن افتراضه. أن نقرر علاقة القرآن، لا بمصدر واحد فحسب، بل بكثير من المصادر

_ (1) فكرة الظاهر مرتبطة بفكرة القرآن في قوله تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء157/ 4]. (المترجم)

اليهودية المسيحية. وربما وجب فضلاً عن هذا- أن نقرر جدلاً- على الرغم من التباعد المذكور في كثير من نقاط التاريخ التوحيدي- أن القرآن قد استوحى من واحد أو أكثر من الروايات الكتابية التي لم يعد لها وجود الآن.!! ولعل من الواجب أخيراً أن نقرر مجاراة لسذاجة النقاد المحدثين أن النبي كان يعمل بطريقة عالم فقيه، يكشف عن كثير من الوثائق ويتأملها، ثم يرتبها وينسقها كيما يستمد منها الرواية القرآنية .. !!! إن من المحقق أن للفكر النقدي في الحديث سذاجة محيرة، حتى لنراه جديراً بما وصفه الأستاذ (مونتيه) نفسه بمناسبة حديثه عن بروفسور الطب (استرك Astruc) (1684- 1766) : " إن من البين أن أسترك يتمثل- مع شيء من السذاجة- موسى وهو يرجع إلى الوثائق يستشيرها، ويعمل كأنما هو أحد علماء القرن الثامن عشر".

موضوعات ومواقف قرآنية

موضوعات ومواقف قرآنية - إرهاص القرآن - ما لا مجال للعقل فيه - فواتح السور - المناقضات - الموافقات - المجاز القرآني - القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن

موضوعات ومواقف قرآنية

موضوعات ومواقف قرآنية حاولنا في القياس الأول وفي بداية هذا القياس أن نبرز الخصائص المادية والنفسية التي تفصل القرآن عن الذات الإنسانية. وسنبحث في هذا الفصل، في بعض الآيات، ما يميز هذا الكتاب بصفة خاصة عن عبقرية الإنسان. إرهاص القرآن لقد أثبتنا هنالك أن الوحي تلقائي وغير شخصي، ونضيف مع ذلك هنا أن هذا الذي أثبتناه هو بلا شك الخصائص الظاهرية المؤثرة في نظر النبي، والتي دفعته إلى أن يدعم اقتناعه الخاص بالسر الإلهي في القرآن، وبدون هذا الشرط الذي نضعه مقدماً ربما يصبح اقتناع النبي في ذاته ظاهرة غير مفهومة. ولقد رأينا- فيما مضى- أن هذا الاقتناع لم يتم في لحظة، ولم يكن من باب التسليم الأعمى، بل كان تدريجيا وعقليا، يشبع حاجات عقل وضعي كعقل محمد، ويجيب عن رغبته الملحة في اليقين القاطع، وفي ظروف كهذه تعد آية أمارة على التفكير والإرادة، وسبق العلم الشخصي بما سيأتي به الوحي وبتنظيم مداه المحتمل، لغزاً جديراً بإثارة انتباهنا. وحقاً. ماذا نقول في رجل لم يفكر، ولا يريد أن يفكر.؟! لم يُرِد، ولا يريد أن يستخدم إرادته.؟!.

لم يكن له أن يتأمل في تيار الظاهرة المقبل.؟!. ولا يريد أن يضمر هذا التأمل.؟!. وهو مع ذلك يرى (كلمة) صادرة عنه، مطبوعة بكل دقة بطابع تفكير وإرادة ونظام، وأحياناً تبدو هذه (الكلمة) وهي تعلن عن نسق الوحي التالي لها، فكأنما احتوت على علم سابق خارق للعادة بما سيليها من الآيات!! ذلك فيما يبدو لنا هو الطابع العام للقرآن، باعتباره مجموعاً صادراً عن إرادة وتفكير وتنسيق، بل عن علم يبدو أنه ثمرة إعداد سابق. وإنما تتجلى هذه الصفة في حالات تصدير موجه الوحي بآية تشبه إلى- حد ما- طليعة الجيش، تحمل سره وتعرف وجهته، وهي متقدمة عليه. وذلك هو المقصود من استعمال المصدر Anticiper، إذ أن معناه: العلم بالشيء مسبقاً ( Prévoir) ، ومثل هذا الفعل النفسي لا يمكن أن يُتَصور دون الاشتراك الشعوري للذات الفاعلة، وعليه فمنذ ذلك الانطلاق الروائي للظاهرة القرآنية، حينما كانت الأزمة الأدبية والشك يتبددان من نفس النبي وحده نزل عليه ذلك الوحي المذهل: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل 4/ 73 و 5] ولكن ما وزن هذا القول الثقيل .. ؟ .. إنه القرآن كله عندما يكتمل في مدى ثلاث وعشرين سنة، أي عندما نزل أمين الوحي للمرة الأخيرة، كيما يختم الوحي على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذلك الثقل؟!! إنه ثقل الفكرة الدينية والتجربة الخلقية، ثقل الإيمان المضطرم لدى ربع الإنسانية الآن، وهو أيضاً- في ميزان التاريخ- ثقل تلك الحضارة الإسلامية التي كانت خاتمة لدورة الحضارات. نعم ... إنه لقول ثقيل! .. فأي إرهاص ... ليس للفكرة وللتاريخ اللذين

ما زال امتدادهما مستمراً حتى الآن فحسب، بل لتيار الوحي ذاته، ذلك الذي سينتهي بعد ثلاثة وعشرين عاماً. هل هو لا شعور.؟. أو استشعار.؟. أو علم صادر عن تفكير وإرادة؟ هذه كلها كلمات خالية من المعنى عندما توضع أمام النتائج الموضوعية التي عرفناها عن الذات المحمدية من ناحية، وأمام (القول الثقيل) الذي هو القرآن من ناحية أخرى. لا شك أننا يمكننا أن نرى في تصدير عام كهذا مجرد الرغبة اللاشعورية لذات تقذف بنفسها في غمار المستقبل، ويمكننا أيضاً أن نتصور أن فيلسوفاً ما يستطيع- كما فعل (نيتشه) - أن يصدر مذهبه الفلسفي بطريقة مدوية، ولكن هناك تصديرات لا يمكن بسبب موضوعها المحدد أن تفسر، دون أن نعدها ذات معرفة سابقة شاملة بهذا الموضوع، وإلى القارئ مثالان من هذه التصديرات الخاصة التي ترمز لموضوع محدد تماماً. المثل الأول: قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف 3/ 12] ليست هذه الآية تصديرا لقصة يوسف؟ .. إننا نجد فيها ما يشبه التأكيد الاستهلالي، مؤيداً بالنقد التاريخي، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهل تماماً القصة المذكورة قبل نزول القرآن، بل إن (جهله) هذا عنصر جوهري لاقتناعه الشخصي، فأمامنا بلا مراء طليعة لتيار الوحي، الوحي الذي نزل بموضوع خاص محدد تماماً: هو قصة يوسف، وهي ما زالت حتى تلك اللحظة غريبة عن الفكرة المحمدية، ولدينا على ذلك واقعان لا بد من الفصل فيهما فيما يتعلق (بجهل) النبي في هذه النقطة:

أ- فمن الوجهة التاريخية، لم تكن الفكرة المحمدية قد ضمت بعد تفاصيل قصة يوسف قبل أن ينزل بها الوحي. ب- ومن الوجهة النفسية ليس (لشعور) النبي أي دور في عملية الوحي، وهو- بداهة- لا يحتوي تيار الوحي الذي لم يأت بعد. أما (لا شعوره) فلم يكن له أن يلد تلقائياً فكرة مركبة أثبتها التاريخ بصورة وضعية إيجابية. فهذا التسبيق أمام مجرى ظاهرة لا يسيطر عليها الشعور، وما كان لها أن تصدر فقط عن اللاشعور، للأسباب المشار إليها في الفصول السابقة، هذا التسبيق يظل عصياً على الفهم بصورة مزدوجة لو أننا قصرنا تفسيره على الذات المحمدية. وأما المثال الثاني فتقدمه لنا هذه الآية التي استهلت بها سورة النور: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور24/ 1). ويبرز أمامنا في هذه الآية الافتتاحية ما يشبه التخطيط المبسط للسورة المنزلة، التي تشكل على (الآيات البينات) وهي ما زالت في حيز القوة، ولم تخرج إلى نطاق الفعل، ومع ذلك فإنها منذ الآن قد سبقت إلى علم الإنسان كأنها الهدف المقصود من تيار الوحي النازل بعد، ولعل في هذا أمارة تفكير سبقت في علمه هذه الآيات البينات، وطابع إرادة تضعها نصب تأملنا، الأمر الذي لا يتفق مطلقاً مع استعداد الذات المحمدية، وخاصة في حالة تلقيها الوحي. ***

ما لا مجال للعقل فيه - فواتح السور

ما لا مجال للعقل فيه فواتح السور في القرآن سور كثيرة تبلغ تسعاً وعشرين، لا تستهل بكلمة مفهومة، بل برموز أبجدية بسيطة، أسبغ عليها علم التفسير تأويلات مختلفة، وقد بحثت فيها عقلية العصور المتأخرة عن إشارات ملغزة لأقاصيص، بعيدة المدى في التاريخ الإنساني. أياً ما كان الأمر فإن معنى هذه الفواتح المبهمة- إن كان فيها إبهام- يقف أمام عقولنا سداً محكماً. على أننا لا يهمنا هنا هذا الوجه من المسألة، وإنما الذي يهمنا هو طابعها الظاهري فقط، فهذه الحروف الافتتاحية لا يمكن أن تتراءى لنواظرنا اليوم هياكل متحجرة أو متحللة، فإن النبي نفسه كان يرتلها هكذا، كل حرف متميز منفصل في تجويده الصوتي.

جدول إحصائي لفواتح السور

باتفاق ما موضوعاً مدركاً بطريقة سلبية. وهنا نلمس تعارضاً بيناً بين هذا الوضع والدور السلبي المعين لهذه الذات في القياس الأول، ومن ناحية أخرى، لا بد أن نعد الحروف الأبجدية في ذاتها كائنات رمزية غريبة عن مفهوم الأمي وفكره، فلا تعني هذه الآيات لديه معنى عملياً، وبالتالي فالمفهوم متكتم باتفاق، فنحن نخطئ الفهم حين نقول إن رموزاً كهذه يمكن أن تدخل في مفهوم أمي، في تلك الحالة الخاصة التي تسمى (حالة التلقي)، فهل الأمر مجرد اختلال في شعور اضطرب مؤقتاً؟ ... أو أنه من الجائز أن يكون مرضاً عضوياً أصاب الجهاز الصوتي، وهو ما يسمى لدى علماء الطب La Glossolalie (1) ... ولكن النبي كما رأينا في القياس الأول يمثل أكمل المعادلات الشخصية في نواحيها الثلاث: الخلقية، والعقلية، والبدنية، ولم يدع التاريخ أدنى ريب في هذه النقطة. فلا مجال إذن لأن نتخيل أي افتراض عن الذات المحمدية، حتى نشرح هذا الابهام، أو ذلك المرض العضوي. ومن وجهة أخرى لسنا نجد في أدب هذه الذات الشخصي الغني وهو (الحديث)، أي أثر لتلك المغلقات، ولا توجد أية رواية مشافهة عن النبي، مشتملة على مثل هذا التصدير الرمزي. والآن لو أننا جردنا المسألة من اعتبارات الذات المحمدية، فلا ننظر إليها إلا بالنسبة للقيمة الذاتية للقرآن- دون أن نتسرع بالحكم على أصله أو طبيعته- فسنبقى أمام اللغز نفسه. والحق أن القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً يعد أكمل نموذج أدبي استطاعت اللغة أن تفصح عنه، فليس به أدنى اختلال، بل إن الاتساق البديع شامل لجميع نواحيه، في روحه الجليل الغامر، وفي نذره الرائعة المؤثرة، وفي مشاهداته الباهرة، وفي حلاوة وعوده الفائقة، وفي فكرته المتسامية المتشامخة، وأخيراً في أسلوبه البهي المعجز.

_ (1) يقصر النقد الحديث هذه الظاهرة- وخاصة في حالة أرمياء- على الاضطراب العضوي الذي يحدث عند النبي في حالة الكشف. (المؤلف)

ولنا أن نضيف ملاحظة عن تخصيص وضع هذه الرموز في فاتحة بعض السور دون بعضها الآخر، إذ في ذلك ما يدل على وجود تنظيم ضمني مقصود، هذه الملاحظة تنفي افتراض الصدفة، أو مجرد شرود ذات سلبية، غير واعية. واختصاراً، ليس لنا أن نحمل الظاهرة على طارئ نفسي أو عضوي مفاجئ لدى النبي، ولا أن نؤولها باعتبارها نقصاً أدبياً، في نص يُعد بحق كاملاً. لقد حاول معظم المفسرين أن يصلوا من موضوع هذه الآيات المغلقة إلى تفاسير مختلفة مبهمة، أقل أو أكثر استلهاما للقيمة السحرية التي تخص بها الشعوب البدائية الكواكب، والأرقام، والحروف. ولكن أكثر المفسرين تعقلاً واعتدالاً هم أولئك الذين يقولون في حال كهذه بكل تواضع: "الله أعلم". ***

المناقضات

المناقضات بعد أن حاولنا بيان استقلال الظاهرة القرآنية، وموضوعيتها بالنسبة للذات المحمدية، يصبح هدفنا من هذا الفصل أن نؤكد محاولتنا تلك بتفصيل القول فيما حدث أحياناً من مناقضة صريحة بين الميول والاتجاهات الطبيعية لدى النبي، وبين ما يعتريه خلال تلقيه الوحي. هذه المناقضة تجلو لأعيننا الخصائص الظاهرية التي بيناها وأكدناها حتى الآن في القرآن، أعني: موضوعيته واستقلاله بالنسبة للذات المحمدية. وأول مثال على هذه المناقضة قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه 114/ 20] فلقد كان النبي في مستهل دعوته يجهد ذاكرته وهو يعاني حالة التلقي، لكي يثبت الآيات كما نزلت، وتلك حالة غريزية تلقائية تحدث لأي إنسان ينصت لآخر، وهو يريد أن يحفظ كلامه، فهو يكرره في نفسه. فالتكرار في الحقيقة عمل تدريبي للذاكرة، غريزي أساسي، فهو لهذا يصدر طبيعياً عن الذات نفسها، أياً كانت درجة وعيها، بل قد يحدث أن نكرر كلمات شخصية محضة، في أحلامنا مثلاً، ولكن حالة التلقي ليست حالة بين اليقظة والنوم Hypnagogique، ولا سيما بالنسبة للذات المحمدية، التي ربما كانت تقوم بتدريب ذاكرتها تلقائياً، ولكن بطريقة آلية مقصودة، تحتفظ معها في هذه الحالة ببعض حريتها ووعيها، ويتجلى هذا في هيئتها البدنية، إذ يظل النبي جالساً، كما يتجلى في سلوكها العقلي، حين يكرر ما يوحى إليه. فالآية المذكورة تأتي بما يضاد هذا السلوك الطبيعي، إذ يطلق النبي لإرادته

العنان إلى مدى معين، حتى يحفظ بالتكرار ما تفجر في مجال عقله، فأثاره جرسه وأيقظه. والآية تهدف إذن إلى مصادرة حريته في استخدام ذاكرته، حيث تنحصر حركتها في هذا التكرار المنهي عنه، وبذلك لا تتجاهل الآية حرية اختيار النبي، وإرادته أن يدرب ذاكرته فحسب، بل تتجاهل أيضا القانون النفسي لوظيفة التذكر نفسها. وهكذا نلاحظ مناقضة مزدوجة بين الظاهرة القرآنية وبين الذات المحمدية. هذه المناقضة المزدوجة لإرادة النبي، ولقانون وظيفة التذكر، تثبت بوجه خاص تفرد ظاهرة ذات مجال مطلق، مستقل عن العوامل النفسية والزمنية، وبهذا تؤكد خاصتي السمو والإطلاق للظاهرة القرآنية. والمناقضة الثانية نقتبسها من حياة النبي الخاصة، فلقد سجلت أحداث هذه الحياة- كما نعلم- المراحل الرئيسية للتشريع القرآني، ولا عجب، بعد أن رأينا ما لهذا الارتباط بين أحداث حياة (الرجل) وبين قانون السماء من قيمة تربوية، أما الذين يعجبون فإن عليهم أن يذكروا أن قانوناً تمليه السماء لغير أهل الأرض يمكن أن يكون مراعياً لعوائد الملائكة سكان السماء، أما إذا أنزل من أجل البشر، فربما لم يكن له معنى بالنسبة لهم لو لم يكن أساس تقنينه الحالات المادية المنتزعة من حياتهم اليومية. وهذه حالة من تلك الحالات مأخوذة من حياة النبي نفسه، وقد كانت مناسبة لنزول الوحي ببعض المبادئ القانونية فيما يتعلق بالشهادة بوصفها دليلاً قانونياً. والحادثة التي نبحثها رواها مؤرخو السيرة تحت عنوان (حادثة الإفك) (1)

_ (1) أورد المؤلف في الهامش تلخيصاً لحديث هذه القصة، وقد رأينا الاستغناء عن ترجمة هذا الموجز، إذ أن القصة بكاملها مروية في جميع كتب الحديث. وقد رواها البخاري تحت عنوان (باب حديث الإفك) عن طريق عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها. (المترجم)

فإن المنافقين بالمدينة لم يكفوا عن تدبير صنوف المؤامرات والمكائد ليشلوا دعوة رسول الله عن الحركة، فكانوا يهتبلون (*) الفرص ليبهتوه وينالوا من هيبته، ويعوقوا كفاحه، فلقد كان (لمكيافيلي) من بينهم تلاميذ نجباء، قبل أن يخرج (ميكيافيلي) إلى الوجود. ونعود إلى حديثنا، فقد وجدت الزوجة الشابة (عائشة) رضي الله عنها نفسها فجأة منقطعة عن القافلة، حبستها عنها ضرورة، فاستمرت القافلة في سيرها، مستاقة معها رحلها، وأقبل الليل فأخذت تنادي مستيئسة، حتى ظنت نفسها فقيدة في الصحراء، فنامت في الطريق أشبه بطفلة، وإذا بصحابي كان يسير في مؤخرة القافلة يجدها هناك فيتعرف عليها، وينزل عن ناقته ليركب أم المؤمنين، ثم يلحق بالقافلة. ولكن المنافقين كانوا هناك، فأشاعوا أن عائشة قد لعبت دور الفتاة العابثة .. فضيحة .. ويهم المسلمون بقتل زعيم المنافقين ... أزمة. هذا هو الإطار التاريخي الذي تعرض فيه حالتنا، وسنرى أنها قد حُلت حلاً رائعاً في نطاق الظاهرة القرآنية. فالواقع أن النبي قد دهمه الشك، فلقد كان إنساناً على الرغم من كل شيء، ولكن هذا الإنسان كان ذا ضمير يستمد سموه من سمو دعوته، فهو يعلم أن أعماله ستكون أحكاماً ومقاييس، فما هو القرار الذي يمكن أن يتخذه شريطة أن يكون متفقاً مع طبيعته الإنسانية، ومع أساس دعوته العلوي.؟ .. إن المسألة بهذه الصورة تعد اختباراً حاسماً للدعوة، فبحكم فطرته الإنسانية، وربما تأثراً بإيحاء المحيطين به أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة إلى منزل أبيها، واحتجت عائشة دون جدوى ضد هذه الإهانة والتهاون، أما النبي فلم يطلقها كيلا ينشئ سابقة قانونية، ولم يعف أيضا كيلا يعرض عظمة دعوته العلوية للخطر. ولقد اقتضى هذان الاعتباران لديه حالة معينة كان يعاني

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وعندي في نسخة أخرى للكتاب"ينتهضون " بدل "يهتبلون

خلالها الشك في سلوك زوجه من ناحية، والتردد في اتخاذ قرار ظالم من ناحية أخرى، وفي هذه الحالة لا يجدي سوى الحياد الذي يهدئ انفعالات الإنسان، ويناسب ظروف النبي، فالغفران قد يكون أعمى، والأدلة قد تكون ظالمة؛ وعليه فلقد كان لمصلحة النبي الشخصية والعليا من كل وجه أن يلتزم حياداً دقيقاً، بأن يترك عائشة لدى أبيها. وموقف كهذا لا يدع مأخذاً لألسنة المنافقين الحداد، ولنقدهم المغرض، بلة العقل المجرد. ولم يكن على النبي من الوجهة الإنسانية أن يتخذ موقفاً آخر، أعني لم يكن عليه أن يعمل شيئاً مطلقاً، وقد كانت هذه خطته فعلاً .. حتى نزول الوحي، فإذا به يعتق الرجل من شكه ومن تردده، معرضاً في الوقت نفسه القيمة العلوية للرسالة لاختبار هائل. وسنجد أن سورة (النور) تسن أولاً (حد الزنى): {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {[النور 2/ 24] وهذا هو المبدأ القانوني الأول. ثم إنها تبرئ عائشة رضي الله عنها بطريقة رائعة باهرة، وهي تنمي هذا المبدأ القانوني، وتؤكد اشتراط الشهادة في مثل هذه الحالات: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور 3/ 24 و 4] ولكي يضفي النبي على هاتين الآيتين تفسيرهما التاريخي وجدناه يعيد إلى بيته (الزوجة) الفاضلة، التي رفضت أن تعترف بالجميل لإنسان، فهي تجيب

أباها (1) الذي يدفعها إلى شكر النبي قائلة: "والله لا أقوم فإني لا أحمد إلا الله عز وجل". على أن نصوص هذه التبرئة تعد خطيرة بالنسبة لدعوة النبي، إذ تعطينا فوق قيمتها الذاتية لمحة مباشرة، وغير متوقعة عن شخصيتين جعلت منهما الصدفة حكمين فاهمين لتلك القيمة، هما: عائشة، والصحابي الذي أوصلها. أي مغزى تدركه هاتان الشخصيتان في حكم يعلن صراحة أن (الزانية) لا يمكن أن تكون سوى زوجة (زانٍ)؟. وهو حكم مطلق، كيلا يصادم اعتبارات ذات إنسانية دهمها الشك، وألزمتها المصلحة العليا أن تقف موقف الحيطة والتحفظ الدقيق، فإن عقلاً ينشد الحقيقة والدقة في الحكم لا يمكن أن يستسلم للطيش، فيدين بريئاً، أو يغفر لمجرم. وهكذا تظهر لنا بجلاء مناقضة صريحة بين (ذات) مشدودة إلى الحيطة والتحفظ، وبين ما ينزل به الوحي عليها من أحكام قاطعة. ...

_ (1) ما ورد في البخاري هو: "فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت .. " الخ .. (المترجم)

الموافقات

الموافقات إن ارتيادنا القرآن وتأملنا له مع اختلاف مقاصدنا ومع تعلقنا مقدماً بمزاعم المثقفين المحدثين، يبهرنا بنظام أفكاره الغريب، ومادتها العجيبة؛ على أن اهتمامنا قد تزايد منذ بعيد بازدياد سياحتنا في هذا العالم الذي يمتاز بنظامه وهندسته وطبيعته الخاصة، وهو في هذه المعاني جميعاً يشبه دوائر المعارف العلمية أو الكتب التعليمية المعدة لتطبيق خاص. لقد سقطت مزاعمنا تلقائياً، كما تسقط دائماً المزاعم أمام ثورات العلم، أو انقلابات التاريخ، وأمام الانتصارات الساحقة للحق وللخير، ونحن هنا نجد أنفسنا ملزمين (باعتراف) هو اعتراف مثقف أقبل على القرآن بطوية فطرية، كيما يكتشف فيه (كومة) من المعلومات المحددة، كأنه يطلع على أحد المجلدات الفنية. على أن هذا الاعتراف- علاوة على أنه يثقل بتفاصيل شخصية عديمة الجدوى موضوعاً محدوداً- فإنه ربما يكون استطراداً مملاً بالنسبة للخطة المتبعة. ونحن لن نقول هنا سوى كلمة واحدة هي أن المثقف قد تخلى الآن عن مزاعمه الساذجة، من أجل أن يدخل باهتمام جديد إلى العالم القرآني، تماماً كأنه شخصية من الشخصيات التي نسمع عنها في حكايات الجن، لتجد نفسها معراة عن ملابسها، وليتسنى لها أن تتوغل في عالم السحر والغموض. وإذا كان لا يليق بنا أن نعد القرآن كتاب علم فإننا نلاحظ فيه مع ذلك آيات تحتوي الاهتمامين كليهما: لمسها حقيقة علمية، وإلقاؤها بهذا اللمس مزيداً من الوضوح على علاقة الذات المحمدية بالظاهرة القرآنية. فدراسة بعض هذه الآيات مفيدة إذن من الوجهتين

التاريخية والنفسية. وضروري أن نلاحظ من الوجهة النفسية أن موضوع التفكير تحدده في جوهره طبيعة الفكر الذي يصوغه، وهو يحتل مكانه في سياق الاطراد الطبيعي لهذا الفكر، ويحب على الأخص أن يكون جزءاً من الأفكار الخاصة بالذات التي تفكر فيه، وأن يدخل في نطاق تجربتها، وفي مجال رؤيتها، وبعبارة أخرى: لكي تصح نسبة هذه الملاحظات إلى النبي يجب أن نثبت أن: الأفكار المحمدية = الأفكار القرآنية وربما تصح هذه المعادلة لو أننا تحققنا من أن موضوع آية ما يمكن أن يصدر عن مجال ذات محمد، وأن يندمج في نسق فكره، وأن ينبعث عن تجربته، وأن ينتزع من محيط بصره. وفي هذه الحالة قد تفصح هذه المعادلة- بترتيبها المشار إليه آنفاً- عن علاقة سببية، لتكون الأفكار المحمدية سبباً في حصول الأفكار القرآنية، وإذا ثبت العكس تصبح المعادلة مستحيلة، إذ تنتفي العلاقة السببية، وهو ما نسعى إلى إثباته هنا. وعليه، فنحن نتصور تصوراً كاملاً طبيعة الفكر لدى إنسان فني في المشكلة الدينية والمشكلة الغيبية والمشكلة الروحية خاصة، وربما تصورنا أيضاً اطراد هذا الفكر في وصفه الطبيعي، وهو الاطراد الذي يجب أن يضم في مجال إدراكه البصري الوقائع وسبب حدوثها، والكون وعلة كونه. وينبغي أيضاً أن يربط بين الخالق والمخلوق برباط الإيمان، وأن ينصب للكائنات والأشياء سلماً من الدرجات الخلقية. لقد شغلت أفلاطون فكرة كهذه، فانبجست منها فلسفته الخلقية. أما حين يحدث تحول جوهري في تيار الفكر لدى إنسان ما، فينتقل اهتمامه فجأة من أفق إلى آخر، فإن ذلك يدفعنا- دون شك- إلى أن ندقق النظر من قريب في هذه الحالة الغريبة، فلو اتضح لنا أنها غريبة عن الفكر الديني الذي نريد أن ندرس امتداده فمن الواجب أن نعدها (ظاهرة فريدة)، والقرآن يقدم لنا دائماً كثيراً

من هذه الغرائب التي تعلق الاهتمام، وتلجم فجأة اطراد الفكر وانسيابه، فنشر بأن المستوى قد تغير، كأنما وضعت هذه الغرائب هنالك قصداً لتكون مرقاة يصعد فيها المتأمل طفرة إلى ما هو أسمى من مستوى الذات الإنسانية، فإذا بالعقل- وهو الذي تعود أن يفكر فيما هو معلوم، وفيما هو قابل للعلم مما يتصل بالمستوى الإنساني- يجد نفسه وقد حمل بعيداً ليلحظ من هنالك، في وميض آية من آيات القرآن، أفقاً من آفاق المعرفة المطلقة. لماذا نرى في اطراد فكرة غيبية صورة بصرية؟ ومن خلال عرض تشريعي تتدفق حقيقة أرضية أو سماوية.؟. لا شك أن هذا عجيب! .. ولا شك أننا لو تأملنا من قريب هذه الغرائب فسنكتشف في اطراد الفكرة القرآنية روحاً مذهلاً، ونسقاً رفيعاً، لا يصدر إلا عن معرفة مطلقة محضة تتدفق منها الآية، فنحن مضطرون إلى أن نعد أمثال هذه الغرائب إشارات بينات، وشهباً ثواقب، تكشف للفكر الإنساني المبهور عن المصدر الغيبي الذي تدفقت منه تلك الفكرة، التي سبقت عصور التقدم الإنساني، واتفقت مع الحقائق التي كشف عنها العلم بعد ذلك بقرون، وكأنما سبقت هذه الغرائب العقل الإنساني الذي يتطور، لتكون طلائع شاهدة على السر الأسمى للمعرفة القرآنية. إن القرآن يتجه بالخطاب إلى البشر سكان الأرض، أولئك الذين يهمهم ولا ريب أن يعرفوا كل شيء عن الأرض التي تحملهم، فما هو شكل هذا الكوكب المظلم؟ ... وللإجابة عن هذا السؤال لا يسلك القرآن مسلكاً علمياً، فهو ليس كتاباً في وصف الكون، ولو أنه كان كذلك لحوى تلك الأفكار التخمينية، التي كانت تقول بها النظرية البطلمية (1) La Théorie Ptelemienne الشائعة آنذاك،

_ (1) بطليموس هو الذي افترض أن الأرض مركز الكون الذي تدور حوله الشمس والكواكب الأخرى، وقد حلت محل النظرية نظرية كوبرنيك السائدة الآن.

ومعلومات ذلك العصر عن الأرض تذهب إلى كرويتها التامة، وتذهب أيضاً إلى أنها ساكنة في مركز الفضاء (1). أما الأفكار الأفلاطونية المشار إليها فقد كانت أكثر زخرفة، إذ أن أفلاطون حين تغنى بظواهر الكون أراد أن يجعل الأرض مركز قبة الفلك المترنم. هذه إذن هي المصادر العلمية التي يمكن أن تستقى منها الإجابة الإنسانية عن السؤال الموضوع، ولكن إجابة القرآن- على الرغم من أنها لا تحمل طابعاً تعليمياً شأن كتب وصف الكون- تبدو كأنما تضع معالم بسيطة أمام العقل الإنساني على جوانب طريق التقدم العلمي. ولننظر في الآية الآتية، قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء21/ 44] ففي هذه الآية فكرتان متميزتان ينبغي أن نؤكد كلاً منهما على حدة: إحداهما: ذات طابع هندسي، فتشكل الأرض قد عين ضمناً في قوله: "أطراف". والأخرى: ذات طابع آلي عبّرت عنه صراحة (ننقصها). والواقع أن لفظة (أطراف) تقتضي فكرة عن شكل الأرض، فأي شكل هو؟ ... إن الأرض لا توحي بداهة بشكل خيطي في الفضاء، أو بشكل مسطح أو مسدس أو مربع أو مثلث .. الخ .. إذ أن أقل نتوء في مساحتها يوحي بداهة بفكرة الأبعاد الثلاثة، وبالتالي بشكل هندسي ممتد في الاتجاهات الثلاثة، ولكن جميع الأشكال الهندسية في الفضاء لا تتفق مع فكرة (الأطراف) فأقرب الأشكال إلى التصور - حين نأخذ في اعتبارنا اللفظ المكمل (انتقاص الأطراف)، وحين نساير

_ (1) بوكيه Boquet ( تاريخ الفلك Histoire de l'Astronomie)

معارف الهندسة الأرضية عن (دحو القطبين (1) Applatissement aux Pôles) هو الشكل البيضاوي. هذا التوافق الذي يخص شكل الأرض ودحو قطبيها، تلك الخاصة المساحية التي أثبتها العلم الحديث عموماً، أقول: هذا التوافق قد ازداد وضوحاً حين أيدته الأفكار القرآنية الأخرى التي تتحدث عن كوكبنا، وتتفق مع الحقيقة العلمية، فإذا اقتصر العلم في أوربا حتى عهد (كو برنيك Copernic) و (فابيوناتشي Fabionacci) على الأفكار البطلمية، فها هو ذا القرآن يصف صراحة قبل ذلك بثمانية قرون حركة الأرض فيقول: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل 27/ 88] هذه الفكرة عن حركة الأرض جوهرية في ذاتها، وهي زيادة على ذلك توحي بفكرة ملازمة لها، هي فكرة (محور الحركة)، وبالتالي بفكرة (القطبين) والقطبان قد عينهما لفظ (أطراف)، وأشار إليهما في فكرة (دحو القطبين). ولكن من أين يأتي هذا الكوكب الذي تحدث القرآن عن شكله ودحوه، وحركته في إشارتين شفافتين؟ .. يبدو لنا أن النظريات قبل (لابلاس Laplace) - بصرف النظر عن الأساطير- لم تواجه هذا السؤال. ولكن منذ (لابلاس) عدت الأرض شرارة مظلمة منفصلة عن الشمس، أما القرآن فمن غير

_ (1) تخيرنا أن نستعمل عبارة "دحو القطبين" في ترجمة عبارة Applatissement aux Pôles لأن الدحو البسط والترقيق، وهو المعنى الوضعي لكلمة Applatissement، وهو أيضاً تعبير يتصل بشكل الأرض البيضاوي، فقد قال في القاموس عند كلامه على مادة (دحا) والأدحيّة والأدحُوّة مبيض النعام في الرمل" ويطلق على البيضة في بعض البلاد العربية الآن (الدحة) أو (الدحية)، ولعل سر هذا الشكل البيضاوي للأرض يكمن في قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}. (المترجم)

أن يلجأ إلى التفسير العلمي نراه يضع بعض المعالم على هذه الطريق: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس 36/ 40] ومن الممكن أن يقال: إن الأمر هنا يتعلق بفكرة معتسفة تحدد اتفاقاً نقطة بدء في تقسيم الزمن، ومع ذلك فليس ما يمنع من تفسير الآية طبيعياً، مع اعتبارنا المعنى العام للنص، ولعلها في هذه الحالة تتفق مع الفكرة العلمية عن (الليل) من حيث كونه ظاهرة طبيعية أعقبت البرودة التدريجية للأرض؛ إذ الواقع أنه طالما كانت الأرض كتلة ملتهبة فإنها لم تكن تعرف الليل، فكانت في نهار طبيعي دائم. وأخيراً فإن هذا الوصف الكوني مكمل بأفكار قرآنية أخرى، ليست بأقل أهمية في إثبات التوافق مع الحقيقة العلمية، ولنا أن نذكر خاصة خط مسير الشعاع الضوئي في الجو، فنحن نعلم أن الجوَّ هو: "تراكب طبقات متتابعة تقل فيما بينها كثافة الهواء ابتداء من الأرض"، وفي وسط كهذا يجب أن يكون مسلك الشعاع الضوئي طبقاً للقانون الثاني للعالمين (الهيثم (1) - ديكارت)، وهو (قانون الانكسار)، ولكن القرآن الذي يلفت أنظارنا دائما إلى ظواهر الطبيعة

_ (1) هو أبو علي الحسن بن الهيثم- ولد بالبصرة عام 355 هـ "965م"، ومات بالقاهرة عام 430 هـ "1028 م" وكان من علماء الرياضة المبرزين، وقد استطاع أن ينقل رسائل المتقدمين في الرياضة والطبيعة، وأن يضع الكثير من الرسائل في هاتين المادتين وفي الطب الذي كان مهنته الأصلية، ومن أهم مؤلفاته كتابه (المناظر) عن البصريات والضوء، وأصله العربي مفقود ولم تبق إلا ترجمته اللاتينية التي قام بها (وتلو Wltele) عام 1270م، وهو صاحب نظريات: انتشار الضوء، والألوان، وخداع البصر، والانعكاس، كما تناول موضوع انكسار الأشعة الضوئية التي تمر في أوساط شفافة كالهواء والماء، وذلك قبل أن يثبت (سمل Smell) و (ديكارت Descarte) قانون الجيوب في الضوء بستة قرون تقريباً. وللحسن رسالة في الضوء، وأخرى عن ظواهر الشفق وألوان الطيف والهالة والظل والكسوف والخسوف ... لخ .. (المترجم)

يدعونا إلى أن نرى يد الخالق- التي لا تُرى- في أقل خطوط الظل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان 45/ 25، 46] كيف نفسر هذا القبض اليسير (1)؟ .. إن قانون (الهيثم- ديكارت) يقول إن الشعاع الضوئي الذي ينتشر في مجال ذي كثافة متغيرة باستمرار يخط في مسيره خطاً منحنياً ذا تجويف متجه نحو النقط الأكثر كثافة، وفي هذا المجال يقبض الظل (قبضاً يسيراً) بالنسبة لما قد يكون عليه الفراغ الذي لا يوجد فيه انكسار، وفي هذا توافق ملحوظ بين الفكرة القرآنية والخاصة البصرية المحضة التي يجهلها العلم الإنساني في العصر القرآني. وبما أننا في حديث الجو، فلنذكر اتفاقاً آخر مما قرره القرآن: فمنذ اكتشاف الطبقات العليا بفضل الطيران والبالونات استطعنا أن ندرك ظاهرة عضوية تنتج عن تمدد الهواء، إذ يشعر الصاعد في العلو ببعض الصعوبة في التنفس، ويحس بالضيق والانقباض. لقد اقتبست الفكرة القرآنية من هذه الظاهرة استعارة بارعة، فيقول القرآن: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام 125/ 6] وربما أمكننا أن نجزم بأن تسلق الجبال قد لفت نظر هواة التسلق إلى هذه الظاهرة، حتى قبل ارتياد الطبقات الجوية، فضلاً عن أن الآية لا تستخدم في الموازنة تعبير الصعود (في الجبال)، بل تستخدم صراحة تعبير الصعود (في

_ (1) ذهب المفسرون الذين فاتتهم فكرة القرآن في هذا الباب إلى تفسير هذه الآية متحاشين تحديد معنى الفعل (قبض) مع أنه جد واضح، ومؤولين (يسيراً) تأويلاً غريباً فأصبح معنى الجملة عندهم (ثم قبضناه إلينا وكان ذلك يسيراً علينا). (المؤلف)

السماء) ونضيف إلى هذا أن مهد العبقرية العربية بلد ذو سطح منبسط، وسهول واسعة لا يفيد المرء منها تجربة، أو فكرة في تسلق الجبال، فنحن مجبرون أن نقرر هنا أيضاً اتفاقاً رائعاً للفكرة القرآنية مع الواقع العلمي. وأخيراً فعلى هذه الأرض التي يبدو القرآن وكأنما يلقي على أصولها البعيدة بعض الإشارات الضوئية وجد الإنسان، فمن أين أتى هذا الإنسان؟. وأين هي نقطة البدء في الحياة الحيوانية؟ لقد تخيل العلم دورة بيولوجية تغذت في وسط مائي حيث تكونت الخلية الحية الأولى وتشكلت واكتملت، حتى وصلت إلى هيئة الإنسان، فمن الأهمية بمكان أن نلحظ التوافق بين الدورة العلمية وبين الفكرة القرآنية التي تصوغها الآيات التالية: (1) {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ}. (طين = ماء + تراب) [السجدة 7/ 32] (2) {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة 8/ 32] (3) {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة 32] فقد سجلت أطوار الدورة بوضوح في هذه الآيات، إذ تسجل الآية الأولى طور الخلق الأول، وتسجل الآية الثانية طور التناسل، وتسجل الثالثة طور الاكتمال. ولقد وضعنا قصداً الشرح التخطيطي لكلمة (طين) بين قوسين لكي نستخرج منه كلمة (ماء)، الذي هو نقطة البدء في الدورة البيولوجية في النظرية العلمية. ليس هذا متعسفاً لأن القرآن يحدد- دون لبس- هذا الطور من أطوار الخلق ابتداء من الماء حيث يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء30/ 21]

لقد ذهب المفسرون الذين فاتتهم الفكرة القرآنية إلى تفسير الاسم المعين (الماء) بمعنى الاسم غير المعين (ماء) الذي يساوي: (سائل منوي)، فتفسيرهم هذا قد ينطبق على آيات أخرى تتحدث عن طور التناسل. ولكي ننتهي من هذا الاستطراد في تفصيل الدورة البيولوجية في الفكرة القرآنية، نرى من المفيد أن نورد تعداداً، ورد بصورة تتفق مع مراحل الحياة الحيوانية. {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ {[النور 45/ 24] وفي نسق آخر للأفكار يقع توافق عجيب جدير بالذكر في الآية التالية: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف 85/ 18، 86] وربما تبدو هذه الآية العجيبة ذات سذاجة حلوة، ومع ذلك فلو أننا نظرنا إلى خط الطول الذي تقع عليه مكة، فإن مغرب الشمس سيكون على مدى تسعين درجة طولية إلى الغرب، وهذا الطول يمتد إلى نواحي خليج المكسيك، حيث يتفرع مجرى بحري، هذا التيار البحري الدافئ هو الذي يحمل إلى شواطن أوربا الشمالية ما يناسبها من الدفء المستمد من (عينه الحمئة أو الحامية) (1) وفي هذه الأنحاء نفسها حاول المهندس الفرنسي (جورج كلودح George Claude) استخدام الطاقة الحرارية في البحار، ونجح في ذلك نظرياً. أو ليس هذا بالتحديد هو المكان الذي تغرب فيه الشمس بالنسبة لخط طول مكة الذي يعد بصورة ما خط طول الفكرة القرآنية؟. هذا أيضاً توافق عجيب. ولنذكر من ناحية أخرى ذلك الانقلاب الجبار الذي حدث منذ قرن باكتشاف

_ (1) قرأ معاوية "وجدها تغرب في عين حامية" وهي قراءة مسموعة قطعاً. (المترجم)

الكهرباء واستخدامها في الحياة على سطح الأرض، إن النتائج النظرية والعملية لهذا الاكتشاف ذات دوي عميق هائل في حياتنا، وفي فكر الإنسان وفنونه، وقد يكون جديراً بالذكر أن نجد إشارة إلى هذه الظاهرة الخطيرة الشأن في الكتاب الذي قال عنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام 38/ 6] لقد لفت نظرنا بعض المفسرين المحدثين لتلك الإشارة في الآية الآتية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور 35/ 24] ففي هذه الآية أجمل مجازات القرآن التي ألهمت الغزالي كتاباً من أعمق مؤلفاته هو (المشكاة La Cavité) ، ولكن عقلية المفسرين المحدثين قد أدركت في هذا المجاز أكثر من إشارة صوفية، أدركت موافقة من أعجب موافقات الفكرة القرآنية للواقع الذي قرره العلم، ونحن نريد هنا- لزيادة الإيضاح- أن نؤكد بدورنا الخاصة الموحية للآية المذكورة، بأن نرتب عناصرها الأساسية في قالب إيضاحي، بحيث تصبح الآية (ولو لم تمسه نار فإن النور يضيء من مشكاة فيها مصباح في زجاجة)، وبهذا تصبح الإشارة أكثر شفافية، لكنا نستطيع أن نستطرد في تبيان الصفة الخاصة لهذه الآية، مستعيرين من مصطلحات الصناعة ما يعادل ألفاظها، وإنما يصح هذا الاستبدال بالمعادلات الآتية: مشكاة = Projecteur = عاكس مصباح = شيء ملتهب مضيء = سلك زجاجة = أنبوبة وليس في هذه المعادلات شيء من الاعتساف، فهي مستوحاة من ألفاظ الآية نفسها، وفي ضوء طبيعة مجازها الفريدة، التي تؤدي إلينا فكرة مصباح

يضيء دون أن تمسه نار. وبعد هذا الاستبدال تتكون لدينا الجملة الآتية، حيث يصير الرمز شفافاً تماماً: (ولو لم تمسه نار، يضيء النور من عاكس فيه سلك في أنبوبة، يوقد من زيت شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية) (1). فهنا يجب أن نلاحظ جيداً موافقة من أغرب الموافقات بين الفكرة الموحاة وبين الحقائق التي أثبتها العلم بعد ذلك. ويمكننا أن نلاحظ أيضاً في حالات أخرى عجزنا عن إيضاح هذه الفكرة الموحاة في ضوء فكرة الإنسان الخاصة. فلو أننا أردنا أن نخلع على عصرنا هذا المضطرب بالحروب المهلكة رمزاً مميزاً فلربما وجدناه في الفكرة الرهيبة التي توحي لنا بها (القذيفة أو القنبلة)، إن رمزاً كهذا قد ورد في قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} (2) [الرحمن 35/ 55] فهل يتسنى لكائن ما أن يصوغ رمزاً لأدوات الموت أكثر من هذا؟ ولقد كان هذا التوافق غريباً مدهشاً، إذ لم يستخدم فن الحرب حتى معركة (سجلماسة) سوى السلاح الأبيض، ففي هذه المعركة تعلم الإنجليز استعمال البارود، لكي يستخدموه بعد سنوات معدودات في معركة (كريسي). وأخيراً فلكي نختم هذا الفصل الذي بحثنا فيه بعض الظواهر الطبيعية، قد نتساءل عن مدى العالم الذي تنتشر فيه هذه الظواهر، هل لهذا الامتداد حدود ... ؟ إن القرآن يجيب صراحة:

_ (1) استخدمت الشجرة دائما في الرمز الشعبي بمعنى مجازي هو معنى القوة = الطاقة وبالتالي فإن واحداً من أشكالها الموحاة في الآية هو سريان الكهرباء (زيت شجرة مباركة). (2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وروح بخفض "نحاس" معطوفة على "نار". وهي القراءة التي اختارها المؤلف، ونسبها إلى من يدعى "مكي بن الأثير" ولا وجود لقارئ بهذا الاسم فيما لدينا من المراجع (انظر النشر ج2 ص381، وطبقات القراء ج2 ص 308 و309 وغيرهما في الجزء نفسه) وقرأ الباقون برفعها، معطوفة على "شواظ". (المترجم)

{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات 37/ 51] وهكذا يبدو الفضاء- في نظر القرآن- وكأنه لا ينتهي، وكأنه يزداد على الدوام. هذه الفكرة التي أصبحت الآن علمية هي التي هالت (انشتين Einstein) نفسه عندما اكتشف عالم الطبيعة (هابل Huble) أن الكواكب السديمية تبتعد عن سديمنا، واستنبط عالم الرياضة البلجيكي القسيس (لومتر Le maître) من ذلك نظرية (امتداد الكون). أو ليس عجاباً مذهلاً أن تضع الفكرة الموحاة- هكذا دائماً- معالمها المضيئة أمام الفكر العلمي، حتى كأنها تصف له الطريق؟!. وهل يستطيع أحد أن يقول إن معالم كهذه قد انبثقت من عقل أمي، وبأن هناك بالتالي معادلة بين: الأفكار المحمدية والأفكار القرآنية؟!! ***

المجاز القرآني

المجاز القرآني إن عبقرية لغة ما مرتبطة بما تهبه الأرض لبلاغتها الخاصة؛ فطبيعة المكان والسماء والمناخ والحيوان والنبات، هذه كلها خلاقة للأفكار والصور التي تعد تراثاً خاصاً بلغة دون أخرى؛ وهكذا تضع الأرض طابعها على أدوات البلاغة التي يستخدمها شعب ما، كيما يعبر عن عبقرية، وبالتالي فإن النقد الذاتي لأي أدب يجب أن يكشف في هذا الأدب إلى حد ما عن علاقته بعناصر التربة التي ولد فيها. وكذلك فيما يتصل بتحليل الأسلوب القرآني، فإن هذا التحليل يجب أن يكشف عما يربطه بالتربة العربية. ولعل المزاج هو العنصر البلاغي الفريد الذي يحدد معالم الأسلوب، ويحدد بصورة ما موقعه الجغرافي، فامرؤ القيس عندما وصف فرسه قال بيته الشهور: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً ... كَجَلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ فإذا تأملنا ألفاظ هذا المجاز وجدناه يعبر عن صورتين متماثلتين تماماً مقتبستين من حياة الصحراء وإطارها، فقد استخدمت عبقرية الشاعر العظيم - في بلاغة فطرية- عناصر احتواها الوسط الجغرافي، وهي صورة فرس يعدو، وصورة جلمود صخر حطه السيل. فالبيت عربي في جوهره، لأن الوسط الذي يتمثل فيه وسط عربي طبعه بطابعه الخاص. ولكن المجاز القرآني ليس دائماً ولا غالباً انعكاساً للحياة البدوية في الصحراء. فهو يستمد- على عكس ذلك- عناصره وألفاظ تشبيهاته من بيئات وجواء ومشاهد جد مختلفة، فالأفكار المتصلة

بالنبات كالشجرة وأنواع الرياض تصور لنا طبيعة أرض كثيفة الزرع، طيبة الهواء، أكثر من أن تصور أرض الصحراء القاحلة الرملية. والأنهار التي تخترق المروج الخضر تذكرنا بالأرض الخصبة على ضفاف النبيل، أو الفرات، أو نهر (الجانج Le Gange) بالهند، أكثر مما تذكرنا بمفازات بلاد العرب. والسحب التي تسوقها الرياح لتحيي الأرض بعد موتها ليست من المشاهد اليومية في سماء بلاد العرب، فإن هذه السماء القارية صافية ملتهبة، حتى كأنها موقد نحاس محمي، عارية عري الصحراء نفسها. وفضلاً عن ذلك فإننا نجد في القرآن صوراً ذهنية كثيرة لا تتصل بسماء الجزيرة ولا بأرضها. ليس من خطة هذا الكتاب أن ندرس المجاز القرآني، بل أن نبين فقط أهميته في دراسة الظاهرة القرآنية من وجهة نظر نقدية، ولذلك نقدم للقارئ مثالين مقتبسين من سورة النور يوضحان هذه الأهمية. المثال الأول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور 39/ 24] ففي هذه الصورة الأخاذة يتجلى سطح الصحراء العربية المنبسط، والخداع الوهمي للسراب. فنحن هنا أمام عناصر مجاز عربي النوع، فأرض الصحراء وسماؤها قد طبعا عليه انعكاسهما، فليس ما نلاحظه مما يتصل بالظاهرة القرآنية التي تشغلنا، سوى ما نجده في الآية من بلاغة، حين تستخدم خداع السراب المغم، لتؤكد بما تلقيه من ظلال تبدد الوهم الهائل، لدى إنسان مخدوع، ينكشف في نهاية حياته غضب الله الشديد، في موضوع السراب الكاذب ... سراب الحياة.

والمثال الثاني قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور 40/ 24] فهذا المجاز يترجم على عكس سابقه عن صورة لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للقرآن، بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي، وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يلفها الضباب، ولا يمكن المرء أن يتصورها إلا في النواحي كثيفة الضباب في الدنيا الجديدة أو في (إيسلندا). فلو افترضنا أن النبي رأى في شبابه منظر البحر فلن يعدو الأمر شواطئ البحر الأحمر أو الأبيض. ومع تسليمنا بهذا الفرض فلسنا ندري كيف كان يمكن أن يرى الصورة المظلمة التي صورتها الآية المذكورة؟. وفي الآية فضلاً عن الوصف الخارجي الذي يعرض المجاز المذكور سطر خاص بل سطران: أولهما: الإشارة الشفافة إلى تراكب الأمواج. والثاني: هو الإشارة إلى الظلمات المتكاثفة في أعماق البحار، وهاتان العبارتان تستلزمان معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحر، وهي معرفة لم تتح للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية. وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كأنما يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء واختفائه على عمق معين في الماء، وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا المجاز إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قارية. ***

القيمة الاجتماعية لأفاكار القرآن

القيمة الاجتماعية لأفاكار القرآن لقد حاولنا حتى الآن أن ندرس الأفكار القرآنية بالنسبة للذات المحمدية، من زاويتها النفسية والتاريخية؛ ومن المفيد في هذا الفصل الأخير أن ندرسها في أهميتها الاجتماعية. فهناك مثلاً مشكلة في تاريخ الإنسانية لا تفتأ تواجهها وخاصة في هذه الأيام، تلك هي (مشكلة الخمر). والحق أنه للمرة الأولى في التاريخ الإنساني وُوجهت هذه المشكلة في القرآن؛ وحلت بطريقة معينة، فكيف كان ذلك؟. ها هو ذا التخطيط النفسي والتشريعي لهذا القرار الذي حدث للمرة الأولى في تشريع أحد المجتمعات الإنسانية: أولاً: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة 219/ 3] وهنا وقفة أولى. وثانياً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء43/ 4] وهذا هو الموقف الثاني. ثالثاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة 90/ 5]

هذا هو المسلك الشرعي الذي اتبعه القرآن من أجل أن يواجه مشكلة الخمر الخطيرة ويحلها، فما هو أثر هذا التشريع؟ .. إن الإحصاء في البلاد الإسلامية، حتى المتدهورة منها، يدلنا على قلة تعاطي الخمر فيها، بينما تعاني الإنسانية منها- بكل أسف- في البلاد المتحضرة، فالعالم الإسلامي بوجه عام يجهل منذ ثلاثة عشر قرناً هذه النكبة، فكيف أحرز تحريم الخمر في القرآن هذا النجاح .. ؟ .. إنه المنهج دون أدنى شك، ذلك الذي عرضناه عرضاً تخطيطياً ينتهي بأمر شرعي صارم. والواقع أن النص الأول يثير آثام الخمر في الضمير المسلم فحسب، وقد كانت هذه هي الطريقة المتحفظة لإثارة المشكلة وتسجيلها بصورة ما في عداد الهموم الاجتماعية لمجتمع ناشئ، وبهذه الطريقة أمكن للمشكلة أن تشق طريقها في ضمير الصفوة المختارة، في هذا المجتمع الذي يحكمه الدافع الخلقي. فالموقف الأول سيكون إذن مرحلة (حضانة) ضرورية، هي المرحلة النفسية للمشكلة وعلى أساس هذا البناء الفاضل للضمير المسلم يقوم النص التحديدي في الآية الثانية: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء43/ 4]، فهنا تحديد، لأنه لكيلا نكون سكارى خلال أوقات الصلوات الخمس، يجب ألا نقرب السكر أبداً، فهو يهدف إلى أن يطهر مدمني الخمر تدريجياً، وإلى أن يرتب حظراً خلقياً، قبل أن يسن التحريم النهائي، وتوضع العقوبة المجازية لارتكب الجرم المحرم. وبهذه الطريقة تحاشى القرآن أن يثير في الوقت نفسه مشكلة اقتصادية هي مشكلة تجارة الخمر، إذ كانت هذه التجارة قد نمت واتسعت، حتى خلع عليها عرب الجاهلية ألقاباً كثيرة يعينون بها مطالبهم من أنواع الخمور (1)، ولقد ظلت الكلمة المشهورة لامرئ القيس، والتي قالها عندما

_ (1) انظر درمنجهام في (مقدمة في مدح الخمر) لابن الفريد، بالفرنسية.

أعلموه بموت أبيه، شاهداً تاريخياً على إسراف العرب قبل الإسلام في تعاطي الخمر؛ قال هذا الشاعر ساعتئذ: (اليوم خمر وغداً أمر). ففي هذا الوسط الذي انتشر فيه شرب الخمر وتجارتها، أثار القرآن المشكلة، وكان من المصلحة أن يتدرج في تكييف الحالة الاقتصادية الجديدة، وربما كان هذا هو الذي يعلل الموقف الثاني، قبل التحريم النهائي. ولعلنا لا نستطيع أن ندرك أهمية هذه الاعتبارات عن الظاهرة القرآنية لو لم يكن لدينا مثال آخر لتشريع إنساني نجعله أساساً لموازنة الخطة القانونية، لقد أثارت المشكلة بعد ذلك بثلاثة عشر قرناً من الزمان اهتمام المشرعين في أمة، لعلها أرقى الأمم حضارة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وسنضع هنا كما فعلنا قبل ذلك تخطيطاً لخطوات هذا التشريع الذي رأى النور في أمريكا في صورة تعديل دستوري عام 1919م. فحوالي عام 1918م ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي، وفي عام 1919م أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر)، وفي السنة نفسها أيد هذا التعديل بأمر حظر أطلق عليه التاريخ قانون (فولستد) Acte Velstead. وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل الأراضي الأمريكية وسائل هي: (1) الأسطول أجمعه لمراقبة الشواطئ. (2) الطيران لمراقبة الجو. (3) المراقبة العلمية. فماذا كان حل الموقف؟ .. فشل كامل لأمر الحظر، وسقوط قرره التعديل الدستوري الحادي والعشرون الذي صدق عليه الكونجرس عام 1933م.

وذلك هو الموجز التاريخي لمأساة التشريعية بأكملها، تلك التي سميت في تاريخ الأمة الأمريكية: (عهد التحريم). ... وبعد ففي ضوء القرآن يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبية المادة، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانوناً خاصاً بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات البدائية، حول مركز واحد، يخطف سناه الأبصار، وهو حافل بالأسرار ... إلى الأبد .. ***

المسارد

المسارد 1 - مسرد الآيات القرآنية 2 - مسرد الأحاديث النبوية 3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) 4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات، والمنظمات 6 - مسرد المراجع والمصادر 7 - مسرد الموضوعات

1 - مسرد الآيات القرآنية

2 - مسرد الأحاديث النبوية

3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) "أ" آبار مدين 138 آرارات (جبل) 264 آربري (مستشرق) 22، 34 آمنة (أم الرسول - صلى الله عليه وسلم -) 111 - 136 إبراهيم (عليه السلام) 17، 42، 86، 122، 200، 210، 253، 263 إبراهيم (ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم -) 139 ابن الأثير 1/ 122ح- 1/ 115ح- 1/ 131ح- 1/ 142ح- 1/ 15ح ابن إسحق (صاحب السيرة) 109 ابن جبير 1/ 159ح ابن حزم 1/ 111ح ابن حبان (راوية حديث) 1/ 120ح ابن سلام 40 ابن كثير (قارئ) 1/ 292ح ابن العسال 359 ابن مسعود (صاحب السيرة) 109 أبو بكر الصديق 104، 132، 140 أبو جهل 191 أبو طالب (عم الرسول) 112، 113، 114، 116، 117، 131، 132، 152، 196 أبو عمرو (قارئ) 292/ 1ح أبو عمرو بن العلاء 37 أبو لهب 129 أحد (معركلة) 136، 180 الأحمر (البحر) 262 - 296 أخناتون (امنحتب الرابع) 263، 264 أرنان (بن يهوذا) 216 أر (مولد إبراهيم)، 264 الأردن (نهر) 136 أرمياء (من أنبياء اليهود) 88، 91، 92، 93، 94، 95، 96، 97، 98، 99، 169، 173 1/ 275 ح أرمينيا 264 الأزهر (الجامع) 15 إسحق (عليه السلام) 200 استرك (أستاذ طب) 266 إسماعيل (عليه السلام) 17، 114، 116، 122 أشعاء (من أنبياء اليهود) 88/ 1ح أشعاء الثاني 93، 200 أفلاطون 173/ 1ح، 283، 285/ 1ح إقليدس 71 الألوسي 260/ 1ح

امرؤ القيس 44، 45، 46، 190، 294، 298 أمنحتب الرابع 262، 263 أميل مردوخ (ملك بابل) 97، 98 أندريه لودز (مؤلف) 1/ 95ح، 98 أندريه لودن 207 أنس (صحابي) 1/ 167ح انشتين 293 الأوس 135 اوستر ليتز (معركة انتصر فيها نابليون) 137 إيرينيه 265 أيسلندا 296 "ب" الباب (حاول تقليد أسلوب القرآن) 172 بابل 97، 169 باريس 15 الباقلاني 43، 44، 46، 48 باهلة 45 بحيرا (الراهب) 112 البخاري 107، 1/ 111ح- 1/ 142ح، 2/ 153ح، 1/ 155ح، 1/ 179ح، 1/ 281ح بدر (معركة) 136، 137، 180 البرازيل 78 بطرسبرج (مكتبة القديس) 259 بشر فارس 1/ 258ح بصرى 113 البصرة 287 بطليموس 1/ 284ح بعل (الإله) 91 بلهة (امرأة والد يوسف عليه السلام) 211 بنيامين (أخو يوسف لأبويه) 230، 236، 240، بوذا 85 بوكيه 1/ 285ح بيروت 211 "ت" التبت (جبال) 85 تبوك (غزوة) 138 تكوا (قرية فلسطينية مندثرة) 94 توت عنخ آمون 67 توماس الاكويني 201 توماس كارليل (مستشرق وفيلسوف) 195 تيري (الأب) 202، 1/ 202ح، 1/ 204ح "ث" ثابت بن أنس (راوية حديث) 1/ 111ح ثور (غار) 132 "ج" الجاحظ 43، 62 جالوت 191 الجانج (نهر) 295 جبرون (واد) 213 الجعد بن درم 42 جلعاد (جبل) 214 الجودي (جبل) 264 جورج كلود (مهندس فرنسي) 290 جيكو نياس (ملك جودا) 97 جينيوبيرت 202، 1/ 202ح "ح" الحجاز 191 الحسن بن الهيثم 1/ 287ح

حراء (غار) 27، 115، 119، 149، 155 حزقيال (من أنبياء اليهود) 88/ 1ح، 207 حليمة السعدية 110، 111 حماد بن سلمة (راوية حديث) 111/ 1ح حنانيا (نبي مدّع) 91،93، 96، 169 حنين (معركة) 106،127، 180 حيرة (رجل نزل عنده يهوذا خلال أحداث قصة يوسف عليه السلام) 216 "خ " خالد القسري 42 خالد بن الوليد 114 خديجة (زوج الرسول - صلى الله عليه وسلم -) 109، 114، 115، 127،125،124،123، 1/ 131ح،150، 152 الخزرج 135 الخندق (معركة) 13 "د" دانتي 204 دانيال (من أنبياء اليهود) 88/ 1ح درمنجهام (صاحب تراجم) 109، 118، 119، 122، 298/ 1ح دوتاين (بلدة قديمة) 213 ديكارت 12، 13، 58، 85، 99، 1/ 287ح دينيه (صاحب تراجم) 109، 139 "ذ" ذو القرنين 210 "ر" الرافعي (أديب) 192 رأوبين (أحد إخوة يوسف عليه السلام) 213، 214، 215، 232 رشيد رضا 85، 143/ 1ح، 146/ 1ح رع آتن حوتي (من فراعنة مصر) 263 روح (قارئ) 1/ 292ح روزان (كاتب) 118 روما 1/ 137ح "ز" زارح 216 زكريا 210 زكي مبارك 55 زلفة (امرأة أبي يوسف عليه السلام) 211 الزمخشري 159 زيد بن ثابت 105 "س" سا- رع (من فراعنة مصر) 263 سجلماسة (معركة) 292 سعد بن أبي وقاص 260/ 1ح سعيد بن المسيب 1/ 278ح سميل (عالم) 1/ 287ح سنغافورة (معركة) 137 سقراط 61 سوتن باتي نفرخ براونرا (من فراعنة مصر) 263 "ش" الشافعي 41 شدياق (الأب) 258 شكيم 213،212 شمعون (أحد إخوة يوسف عليه السلام) 232،

شوريه (مؤلف) 85 شوع (عم يهوذا) 216 شيله بن يهوذا 216 "ص" صالح (النبي) صاحب الناقة 210 صباغ (الدكتور، له دراسة أنكر فيها وجود شعر جاهلى) 57056 صفية (عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -) 3/ 142 و 4ح صموئيل 1/ 90ح صوفي أبو طالب (مؤلف) 69/ 1ح "ط" طاغور 1/ 70ح طالوت 42 الطائف 1/ 131ح طرابلس لبنان 5 طنطاوي جوهري 58 طه حسين 56،55،22 طيبة (عاصمة الفراعنة) 263، 264 طيبة (أو طابة وهي يثرب) 134 "ع" عائشة (زوج الرسول ل - صلى الله عليه وسلم -) 131، 142، 1/ 151ح، 1/ 155ح، 1/ 179ح، 1/ 278ح، 276 عاموس (من أنبياء اليهود) 89، 91، 93، 94، 98، 200 عبادة بن الصامت 1/ 153ح عبد الرحمن تاج 2/ 172ح عبد القاهر الجرجاني 48، 63 عبد الله بن عتبة بن مسعود 1/ 278ح عبد المطلب (جد الرسول - صلى الله عليه وسلم -) 111 عثمان 114،10 عرفات 141 عروة بن الزبير 1/ 278ح العزيز 193، 194 العقبة (بيعة) 132 علقمة بن وقاص 1/ 278ح عمار بن ياسر 139 عمر بن الخطاب 40، 62، 67، 105، 114، 140، 1/ 153ح، 1/ 168ح، 190 عنترة 190 عير بن يهوذا 216 عيسى "عليه السلام" وانظر المسيح 66، 88/ 1ح "غ" الغزالي 59 - 258/ 1ح- 258 - 259 "ف" فابيوناتثي 286 الفرات 295 فريد ريك أنجلز 160، 1/ 356ح فرنسا 80 فوطيفار (رئيس شرطة فرعون) 215، 216 فولستد (قانون تحريم الخمرة في أمريكا) 299 فيجورو (الأب) 193، 193/ 1ح فيدياس (نحات) 61 "ق" القاهرة 387 قس بن ساعدة 117 قسنطينة 124

"ك" كاذيب 216 كان (معركة انتصر فيها هانيبال) 137 كريستيان شرفيس 69/ 1ح كريسي (معركة) 292 كوبرنيك 1/ 284ح، 286 كلولمب (قانون) 74 "ل" لافوازييه 206 لامانس (مستشرق) 56، 258 لقمان 210 لومتر (عالم) 293 ليوناردو فنسي (رسام) 61 "م" ماروت 191 ماسبيرو 263 مالقة 137/ 1ح ماندليف (عالم) 74، 75 المتنبي 172 محمد عبده 146،58 محمد عبد الله دزاز 8، 16 محمد فؤاد عبد الباقي 16 محمود قاسم (رئيس قسم الدراسات الفلسفية في جامعة القاهرة) 16 محمود محمد شاكر 8، 9، 15، 17، 50، 61 المدينة 135، 139 مراكش 105 مرجليوث (مستشرق) 22، 23، 24، 34، 56، مريم 210 مسلم 1/ 111،107ح المسيح (عليه السلام) 207، 209، 210، 265 مصر 214،54 مصعب بن عمير 132 معاذ بن جبل 106، 140 معاوية (قارئ) 1/ 290ح المعري 204 المغيرة (راوية حديث) 1/ 121ح المقريزي 1/ 111ح، 168/ 2ح مكة 113، 130، 135، 137، 138، 179، 258 مكيافيلي 279 أملاخى (من أنبياء اليهود) 88/ 1ح منشوريا 105 موسى (عليه السلام) 42، 65، 67، 117، 136، 266 موسى بن طلحة 1/ 167ح موسى بن ميمون (عالم أندلسي) 194، 201 مورسيل 262 مورو (الأب) 61 الموصل 264 مونتيه (البروفسور) 88، 103/ 1ح، 265، 266 ميخا (من أنبياء اليهود) 89 ميسرة (غلام خديجة) 114 ميلستبد (عالم إنكليزي) 74/ 1ح "ن" نابليون 1/ 69ح، 137/ 1ح نجران 158 النظام 43 النور (جبل) 122، 125

نيتشة 271 النيل 395 "هـ" هابل (عالم) 78، 293 هاروت 191 هانيبال (قائد قرطاجني) 1/ 137ح هبنقة 45 الهند 112 هوشع (من أنبياء اليهود) 89 هيجل 87 هيلير دي بارانتون 263، 263، 3/ 363ح "و" وتلو (مترجم كتاب المناظر) 1/ 387ح الولايات المتحدة الأمريكية 399 الوليد بن المغيرة 39، 61، 67، 152، 190 "ي" ياقوت الحموي (صاحب معجم البلدان) 1/ 134ح يثرب 132، 133 يحيى 210 يعقوب (عليه السلام) وهو إسرائيل 211، 315، 229، 233، 234، 248، 249، 250، 251 اليمن 140،112 يهوذا (أحد إخوة يوسف) 214، 316، 234، 235، 248 يوئيل (من أنبياء اليهود) 88/ 1ح يوحنا المعمدان 88/ 1ح يوسف (عليه السلام) 193، 200 تكرر اسمه في السورة القرآنية وفي الكتاب المقدس بين الصفحات 211 - 249، 253 يوشع 136 يونس 88/ 1ح، 92

4 - مسرد المذاهب والمجاعات والشعوب "أ" الاستثراق 21، 55 الإصلاح (حركة) 201 الألبية (الحركة) 202 الديكارتي (المذهب) 12، 13، 55، 57، 185 المتصوفة 1/ 90ح المتكلمون 43 المعتزلة 43 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات "ن" نيقية (مجمع أساقفة) 103 6 - مسرد الكتب والمراجع والمصادر "أ" أسين بالاسيو أو أخرويات القران في الكوميديا الإلهية 1/ 204ح أزواح النبي 1/ 126ح أسرار البلاغة 48 إعجاز القرآن 43 إمتاع الأسماع 1/ 111ح، 1/ 131ح، 2/ 168ح أنبياء بني إسرائيل 95/ 1ح، 1/ 169ح الإنحيل 25، 66، 103، 203، 207، 258 انجيل بطرس 265 إنجيل يوحنا 265 "ب" البابية والإسلام 2/ 172ح "ت" تاريخ الفلك 285/ 1ح تاريخ الكتاب المقدس 1/ 103ح التوراة 25، 103، 157، 158، 252/ 1ح، 253/ 1ح، 262/ 1ح

"ح" حياة محمد 1/ 138ح "د" دلائل الإعحاز 48، 63 الرد على من ادعى ألوهية المسيح بصريح الإنحيل 2/ 258ح رسالة التوحيد 146 رسالة الغفران 204 الروض الأنف 1/ 139ح "ز" الزبور 25 السيرة الحلبية 1/ 115ح شرح النووي 1/ 111ح الشرف عند العرب قبل الإسلام 258/ 1ح "ص" صحيح البخاري 111/ 1ح صحيح مسلم 1/ 111ح، 167/ 1ح "ط" طبقات فحول الشعراء 40 "ع" العهد العتيق 1/ 211ح "ف" الفلسفة الإسلامية والثقافة الفرنسية (محاضرة) 1/ 23ح في الشعر الجاهلي 22، 56 "ك" الكامل 1/ 112ح، 1/ 115ح كبار الواصلين 83 الكتاب المقدس 258، 262، 264 الكتاب المقدس والوثائق العلمية 3/ 193ح الكوميديا الإلهية 204 "ل" لودفج فرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية 160/ 1ح "م" مسند الدارمي 1/ 111ح معجم البلدان 1/ 134ح المعلقات السبع 32 مقدمة في مدح الخمر 1/ 298ح المناظر 1/ 287ح موجز تاريح العالم القديم 1/ 363ح "ن" نابليون والإسلام 1/ 69ح النظم الاجتماعية والقانونية 1/ 69ح نظم القرآن 43، 62 "و" الوحي المحمدي 1/ 146ح يونان أريونس 91

7 - مسرد الموضوعات

§1/1