الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز

المُؤَيَّد العلوي

الجزء الاول

الجزء الاول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة المحقق الحمد لله الذى أنزل القرآن، وكرّم بنى آدم بعلم البيان، والصلاة والسلام على خير بنى عدنان، أفضل الخلق بالحقيقة لا المجاز، وأعلمهم بأسرار الكتابة وحقيقة الإعجاز. وبعد؛ فإن كتاب الطراز، ليحيى بن حمزة العلوى اليمنى «1» المتوفى سنة 705 هـ يعد من الكتب البلاغية التى حاول أصحابها الخروج على طريقة السكاكى، تلك الطريقة المنطقية العقلية الجافة، بما تشتمل عليه من المبالغة فى التقسيم والتقعيد والتعقيد كذلك، كما يغلب عليها الإيجاز والاختصار الشديد المخل بحق البلاغة، مع ندرة الشواهد والتحليلات البلاغية. وقد حاول يحيى العلوى تقليد ابن الأثير فى طريقته الأدبية التحليلية فى تناول علوم البلاغة، هربا من جفاف التناول المنطقى عند السكاكى ومن لفّ لفّه. ونستطيع أن نقول: إن العلوى قد نجح فى سلوك الطريقة الأدبية إلى حد كبير؛ وذلك واضح في كثرة شواهده، بل اختلاف تلك الشواهد فى كثير من الأحيان عن الشواهد المكرورة عند السكاكى وأتباعه، وإن كان فى بعض الأحيان وخاصة فى فنون البديع لا يكاد يعدو تلك الشواهد التى درج السكاكى وأتباعه على الاستشهاد بها. وتتميز طريقته كذلك بكثرة التحليلات الأدبية، وقد أولى القرآن عناية خاصة، ولا عجب فى ذلك فقد نذر نفسه لبيان أسرار إعجازه كما هو واضح من عنوان كتابه، «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» . ولكننا لن نبالغ فى الثناء على العلوى لنرتقى به إلى رتبة عبد القاهر الذى نوّه العلوى بذكره فى مقدمته، ولكنه قرر أنه لم يطلع على كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) ،

وأنه لم ير منهما إلا شذرات فى تعليقات العلماء تنبى عما وراءها من روعة وإبداع. بل إننا نقرر أنه لا يرقى كذلك إلى براعة ابن الأثير، ودقة نظراته وتحليلاته الرائعة. ولكن لا يعدم القارىء لهذا الكتاب أن يجد محاولات جادة للعلوى فى الخروج على ربقة السكاكى ومدرسته، ويتضح ذلك من محاولاته المتكررة لمناقشة السّكاكى والرد عليه فى مواضع عديدة. ومع ذلك فقد قرأ العلوى مفتاح العلوم للسكاكى وتأثر به كذلك، وهو وإن حاول الخروج على طريقة المدرسة السكاكية بطريقته الأدبية فى التناول والتحليل؛ فإنه لم يستطع التخلص كذلك من طريقة تلك المدرسة فى كثرة التقسيمات والتفريعات فهو يقلد فى ذلك السكاكى والرازى حيث يبنى كتابه على مقدمات ومقاصد ومكملات ... إلخ. غير أننا نقول إنه يبقى لذلك الكتاب أسلوبه الأدبى، وتحليله الرائع، وكثرة شواهده، وتنوعها واختلافها عن المكرر المردود فى كتب البلاغة على كثرتها. هذا، ولم نأل جهدا فى ضبط متن هذا الكتاب، وتخريج ما تيسر لنا من شواهده ونصوصه، وإخراجه إخراجا جيدا أنيقا يليق بقيمته العلمية. والله نسأل أن ينفع به فى معرفة أسرار بلاغة كتابه، وعلوم إعجازه، وأن يجزل المثوبة لنا ولكل من ساعد فى إخراجه؛ إنه سبحانه نعم المولى، ونعم النصير. كتبه عبد الحميد بن أحمد الهنداوى غفر الله له ولوالديه وللمسلمين الجيزة فى 15/6/1421 هـ 15/8/2000 م

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذى أنطق لسان الإنسان، فأفصح بعجيب البلاغة وسحر البيان. وأوضح منار البرهان. فأشرقت أنواره عن حقائق العرفان. وفتق أغشية الأفئدة بما ألهمها من أسرار العلوم وشرفها بمنطق اللسان. فهى تهتز بما أفيض عليها من عوارف الإحسان. وتميس وتختال لما خولها من فواضل الجود والكرم والامتنان صنوان وغير صنوان. خلق الإنسان من الطين اللازب الصلصال. وأجرى لسانه بالفصاحة وسقاه من نميرها العذب السلسال. فسبحان القيوم المختص بصفات الكبرياء ونعوت الجلال. المنفرد بالألوهية، والباقى وجهه من غير فناء ولا زوال. والصلاة على من تبوأ من الفصاحة ذروتها، واقتعد من البلاغة مكان صهوتها. حتى ظهرت من جبهته أسرار طلعتها. وتبلجت من بهجته أنوار زهرتها. ووضح نهارها. وطلعت شموسها وأقمارها. وصفت مشارعها للورّاد، وراقت مشاربها لمن قصد وأراد. ودل على مصداق هذه المقالة قوله «أنا أفصح من نطق بالضاد» فعند ذاك أفصح أبيّها وأنقاد. وسهل مراسها على الفرسان والنقاد، المصطفى من أطيب العناصر، والحائز لقصب السبق من المعالى وأشرف المفاخر، محمد الأمين على الأنباء الغيبية، ومستودع الأسرار الحكمية والحكمية، وعلى آله الطيبين أطواد العلم الراسخة، ومثاقيل الحكم الراجحة، صلاة تقيم، ولا تريم، إنه منعم كريم. أما بعد فإن العلوم الأدبية، وإن عظم فى الشرف شأنها، وعلا على أوج الشمس قدرها ومكانها، خلا أن علم البيان هو أمير جنودها، وواسطة عقودها، فلكها المحيط الدائر، وقمرها السامر الزاهر، وهو أبو عذرتها، وإنسان مقلتها، وشعلة مصباحها، وياقوتة وشاحها. ولولاه لم تر لسانا يحوك الوشى من حلل الكلام. وينفث السحر مفتر الأكمام. وكيف لا وهو المطلع على أسرار الإعجاز، والمستولى على حقائق علم المجاز. فهو من العلوم بمنزلة الإنسان من السواد، والميهمن عليها عند السبر والحك والانتقاد ولما

فيه من الغموض ودقة الرموز، واحتوائه على الأسرار والكنوز، استولت عليه يد النسيان والذهول، وآلت نجومه وشموسه إلى الانكساف والأفول، ولم يختص بإحرازه من العلماء إلّا واحد بعد واحد، وطالما قيل «إذا عظم المطلوب قل المساعد» ، وما ذاك إلا لقصور الهمم عن بلوغ غاياته، وعجزها عن إدراكه والوصول إلى نهاياته. ثم إن المقصود بهذا الإملاء هو الإشارة إلى معاقد هذا العلم ومناظمه. والتنبيه على مقاصده وتراجمه. وقد كثر فيه خوض علماء الأدب. وأتى فيه كل بمبلغ جده وجهده. ومنتهى علمه ومقدار وجده. حرصا منهم على بيانه. وشغفا منهم بضبطه وإتقانه. وأتوا فيه بالغث والسمين. والنازل والثمين. وهم فيما أتوا به من ذلك فريقان. فمنهم من بسط كلامه فيه نهاية البسط، وخلط فيه ما ليس منه فكان آفته الإملال. ومنهم من أوجز فيه غاية الإيجاز، وحذف منه بعض مقاصده فكان آفته الإخلال. لم أطالع من الدواوين المؤلفة فيه مع قلتها ونزورها إلا أكتبة أربعة، أولها: كتاب المثل السائر للشيخ أبى الفتح نصر بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير. وثانيها: كتاب التبيان للشيخ عبد الكريم وثالثها: كتاب النهاية لابن الخطيب الرازى. ورابعها: كتاب المصباح لابن سراج المالكى. وأول من أسس من هذا العلم قواعده. وأوضح براهينه وأظهر فوائده. ورتب أفانينه. الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجانى. فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد. وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد. وفتح أزهاره من أكمامها. وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها. فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء. وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء. وله من المصنفات فيه كتابان، أحدهما لقبه «بدلائل الإعجاز» والآخر لقبه «بأسرار البلاغة» . ولم أقف على شىء منهما مع شغفى بحبهما، وشدة إعجابى بهما، إلا ما نقله العلماء فى تعليقهم منهما. ولست بناقص لأحد فضلا. ولا عائب له قولا. فأكون كما قال بعضهم. بنقصك أهل الفضل بان لنا ... أنك منقوص ومفضول

ولا أدّعى لنفسى إحراز الفضل والاستبداد بالخصل فأكون كما قال بعضهم: ويسىء بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون ولا أسلّم نفسى عن خطإ وزلل. ولا أعصم قولى عن وهم وخطل «فالفاضل من تعدّ سقطاته. وتحصى غلطاته» إلا بتوفيق الله وعصمته. والسالم من ذلك كتاب الله المجيد الذى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت: 42] . ثم إن الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الإخوان شرعوا علىّ فى قراءة كتاب «الكشاف» تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود «بن عمر الزمخشرى» فإنه أسّسه على قواعد هذا العلم، فاتضح عند ذلك وجه الإعجاز من التنزيل. وعرف من أجله وجه التفرقة بين المستقيم والمعوجّ من التأويل. وتحققوا أنه لا سبيل إلى الاطلاع على حقائق إعجاز القرآن إلا بإدراكه. والوقوف على أسراره وأغواره. ومن أجل هذا الوجه كان متميزا عن سائر التفاسير، لأنى لم أعلم تفسيرا مؤسسا على علمى المعانى والبيان سواه. فسألنى بعضهم أن أملى فيه كتابا يشتمل على التهذيب والتحقيق، فالتهذيب يرجع إلى اللفظ، والتحقيق يرجع إلى المعانى. إذ كان لا مندوحة لأحدهما عن الثانى. وأرجو أن يكون كتابى هذا متميزا عن سائر الكتب المصنفة فى هذا العلم بأمرين أحدهما اختصاصه بالترتيب العجيب، والتلفيق الأنيق، الذى يطلع الناظر من أول وهلة على مقاصد العلم، ويفيده الاحتواء على أسراره. وثانيهما اشتماله على التسهيل والتيسير، والإيضاح والتقريب. لأن مباحث هذا العلم فى غاية الدقة، وأسراره فى نهاية الغموض. فهو أحوج العلوم إلى الإيضاح والبيان، وأولاها بالفحص والإتقان فلما صغته على هذا المصاغ الفائق، وسبكته على هذا القالب الرائق، سميته بكتاب الطّراز. المتضمّن لأسرار البلاغة، وعلوم حقائق الإعجاز؛ ليكون اسمه موافقا لمسمّاه ولفظه مطابقا لمعناه. ولما كان كل علم لا ينفكّ عن مبادىء ومقدمات تكون فاتحة لأمره.، ومقاصد تكون خلاصة لسرّه، وتكملات تكون نهاية لحاله، لا جرم اخترت فى ترتيب هذا الكتاب أن يكون مرتبا على فنون ثلاثة، ولعلّها تكون وافية بالمطلوب محصّلة للبغية بعون الله. فالفن الأول منها مرسوم المقدمات السابقة نذكر فيها تفسير علم البيان، ونشير فيها إلى

بيان ماهيته وموضوعه ومنزلته من العلوم الأدبية، والطريق إلى الوصول إليه وبيان ثمرته وما يتعلق بذلك، من بيان ماهية البلاغة والفصاحة والتفرقة بينهما. ونشير إلى معانى الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما، إلى غير ذلك مما يكون تمهيدا وقاعدة لما نريده من المقاصد. الفن الثانى منها مرسوم المقاصد اللائقة. نذكر منه ونشير فيه إلى ما يتعلق بالمباحث المتعلقة بالمعانى وعلومها. ونردفه بالمباحث المتعلقة بعلوم البيان وأقسامها. ونشرح فيه ما يتعلق به من المباحث بعلم البديع ونذكر فيه خصائصه وأقسامه وأحكامه اللائقة به بمعونة الله تعالى ولطفه. الفن الثالث نذكر فيه ما يكون جاريا مجرى التتمة والتكملة لهذه العلوم الثلاثة، نذكر فيه فصاحة القرآن العظيم وأنه قد وصل الغاية التى لا غاية فوقها، وأن شيئا من الكلام وإن عظم دخوله فى البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه ولا يماثله. ونذكر كونه معجزا للخلق لا يأتى أحد بمثله. ونذكر وجه إعجازه، ونذكر أقاويل العلماء فى ذلك، ونظهر الوجه المختار فيه، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة، والنّكت الغزيرة، التى نلحقها على جهة الرّدف والتكملة لما سبقها من المقاصد. فالفن الثالث للثانى على جهة الإكمال والتتميم. والفن الأول للثانى على جهة التمهيد والتوطئة والسرّ واللباب. والمقصد لذوى الألباب. ما يكون مودعا فى الفن الثانى وهو فن المقاصد. وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذى هو غاية مطلب الطّلّاب. وكرمه الواسع الذى لا يحول دونه ستر ولا حجاب أن يجعله من العلوم النافعة فى إصلاح الدّين. ورجحنا فى ميزانى عند خفة الموازين. إنه خير مأمول، وأكرم مسئول.

الفن الأول من علوم الكتاب فى ذكر المقدمات

الفن الأول من علوم الكتاب فى ذكر المقدمات وهى خمس المقدمة الأولى فى تفسير علم البيان وبيان ماهيته اعلم أن كثيرا من الجهابذة والنظّار من علماء البيان، وأهل التحقيق فيه، ما عوّلوا على بيان تعريفه بالحدود الحاصرة، والتعريفات اللائقة، ولا أشاروا إلى تصوير حقيقة يعرف بها من بين سائر العلوم الأدبية، والعلوم الدينية، كعلم الفقه، وعلم النحو، وعلم الأصول، وغيرها من سائر العلوم، فإنهم اعتنوا فيها نهاية الاعتناء. وأتوا فيها بماهيّات تضبطها وتفصلها من سائر العلوم. وعلى الجملة فإن ذلك غفلة لأمرين أما أولا فلأن الخوض فى تقاسيمه وخواصّه، وبيان أحكامه، فرع على تصوّر ماهيته؛ لأن من المحال معرفة حكم الشىء قبل فهم حقيقته. وأما ثانيا فلأن الخوض فى أسراره ودقائقه إنما هو خوض فى المركبات، والخوض فى معرفة ماهيته إنما هو خوض فى المفردات. ولا شكّ أنّ معرفة المفرد سابقة على معرفة المركب. ولأجل ما ذكرناه لم يكن بدّ من بيان معقوله، ومعرفة ماهيته. فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر معناه وبيان موضوعه ومنزلته من العلوم الأدبية، وثمرته وكيفية الوصول إليه. فهذه مطالب خمسة. المطلب الأول فى بيان ماهيته فإنما يتخصص بالإضافة، فيقال فيه علم المعانى، ويقال علم البيان، ويقال له علم المعانى والبيان جميعا، فكلّ هذه الإضافات جارية على ألسنة علمائه فى الاستعمال فى أثناء المحاورة. وعلى الجملة فله مجريان. المجرى الأول منهما: لغوى، فإذا قيل: علم المعانى، فالمعانى جمع معنى كمضارب ومقاتل. والمعنى مفعل واشتقاقه من قولهم عناه أمر كذا إذا أهمه وقيل لما نفهم من الكلام معنى لأنه يعنى القلب ويؤلمه. وهو اسم والمصدر منه عناية، يقال عناه الأمر عناية. وإذا قيل: علم البيان فالبيان اسم للفصاحة. وفى الحديث «إنّ من البيان لسحرا» . والمصدر منه

التصرف الأول

تبيان بالكسر فى التاء وهو جار على غير قياسه. والقياس فيه فتحها كالتّهذار والتّلعاب والتّرداد. ولم يجىء كسره إلّا فى بنائين: تبيان وتلقاء. قال الله تعالى: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقال تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ [القصص: 22] فهذا تقرير ما يفيد أنه فى وضع اللغة. المجرى الثانى فى مصطلح النظّار من أرباب هذه الصناعة ولهم فيه تصرّفان، التصرف الأول فيما يفيده كلّ واحد منهما على انفراده من غير انضمامه وتركيبه إلى الآخر فنقول: المفهوم من قولنا علم المعانى أنها المقاصد المفهومة من جهة الألفاظ المركبة لا من جهة إعرابها. وحاصل ما قلناه يرجع إلى البلاغة، لأن المعانى إنما تكون واردة فى الكلم المركبة دون المفردة. فإذا قلنا: علم المعانى فالمقصود علم البلاغة على أساليبها وتقاسيمها. والمفهوم من قولنا علم البيان هو الفصاحة، وهى غير مقصورة على الكلم المفردة دون المركبة. فعلم المعانى وعلم البيان يرجعان فى الحقيقة إلى علم البلاغة والفصاحة. هذا إذا أردنا تعريف كل واحد منهما على انفراده بماهيّة نخصّه على ما قرّرناه. وسيأتى لهذا مزيد تقرير فى مقدّمة على حدتها نذكر فيها ماهية البلاغة والفصاحة، والتفرقة بينهما. فآل الأمر إلى أن علم المعانى هو العلم بأحوال الألفاظ العربية المطابقة لمقتضى الحال من الأمور الإنشائية والأمور الطلبية وغيرهما. وأنّ علم البيان حاصله إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة فى وضوح الدلالة عليه كالاستعارة والكناية والتشبيه وغيرها. التصرف الثانى إذا أردنا أن نجمعهما فى ماهيّة واحدة وفيه صعوبة لأنهما حقيقتان مختلفتان كما أسلفنا تقريره، فإذا كان الأمر فيهما كما قلناه الاختلاف فى الماهية فالأولى إفراد كلّ واحد منهما بماهية تخصّه كما أوضحناه من قبل؛ لأن الحقائق إذا كانت مختلفة فى ماهيّاتها فإنه يستحيل اندراجها تحت حدّ واحد وماهيّة واحدة؛ لأن فصل إحداهما مفقود فى الأخرى، فلأجل هذا تعذّر إدراجهما فى حدّ واحد، لكنا نشير إلى ما يمكن فى ذلك. وحقّ الفاصل أن يأتى بالممكن فنقول: ما يجمعهما فى ماهية واحدة نذكر منه تعريفات ثلاثة.

التعريف الأول:

التعريف الأول: أن يقال هو العلم بجواهر الكلم المفردة والمركبة ودلائل الألفاظ المركبة لا من جهة وضعها وإعرابها. فقولنا: العلم بجواهر الكلم المفردة والمركبة يشير إلى علم البيان، لأنه هو المراد به كما أشرنا إليه من قبل. وقولنا ودلائل الألفاظ المركبة، نرمز به إلى علم المعانى، لأن المقصود منه هو البلاغة، وهى غير حاصلة إلا من جهة التركيب لا غير، لأن المعانى لا يحصل لها الاتصاف بالبلاغة ولا ترتقى إلى مرتبتها إلا بالإفادة وهى متوقفة على التركيب لا محالة. وقولنا لا من جهة وضعها وإعرابها، فهذا قيد لا بدّ من مراعاته، ليخرج به عن علم اللغة وعلم الإعراب لأن حاصل ما يدل عليه علم اللغة، هو إحراز معانى الألفاظ المفردة، ودلالة علم الإعراب إنما يكون من جهة الإسناد والتركيب. ودلالة الألفاظ على علم البيان الذى هو الفصاحة وعلى علم المعانى الذى هو البلاغة هو أمر وراء ذلك مع كونه متوقفا عليهما وهما أمران يخالفانه فى مقصود الدلالة كما سنوضحه من بعد بمعونة الله تعالى. التعريف الثانى أن يقال فيه هو: العلم بما يعرض للكلم المفردة والمركبة من الفصاحة ويعرض للكلم المركبة من البلاغة على الخصوص. فقولنا ما يعرض للكلم المفردة والمركبة من الفصاحة، نشير به إلى علم البيان، وقولنا وما يعرض للكلم المركبة من البلاغة، نرمز به إلى علم المعانى لأنهما هما المرادان بما ذكرناه. وقولنا على الخصوص نحترز به عما تدلّ عليه الألفاظ المفردة والمركبة لا من جهة هاتين الدلالتين فإنه ليس مقصودا من علم البيان كما أسلفنا تقريره فى الحد الأول. التعريف الثالث أن يقال فيه هو العلم الذى يمكن معه الوقوف على معرفة أحوال الإعجاز، لأن الإجماع منعقد من جهة أهل التحقيق على أنه لا سبيل إلى الاطّلاع على معرفة حقائق الإعجاز وتقرير قواعده من الفصاحة والبلاغة إلا بإدراك هذا العلم وإحكام أساسه، فظهر بما قررناه فهم ماهيّته، وأن كل واحد من هذه التعريفات مرشد إلى تعريف حقيقته ومميّز له عن غيره من سائر العلوم. خيال وتنبيه فإن قال قائل: إن ما ذكرتموه من هذه التعريفات مختلفة فى أنفسها لأن كل واحد منها يفيد فائدة مخالفة لما يفيده الآخر، فلهذا حكمنا بكونها مختلفة. ومهما كانت التعريفات مختلفة كانت الحقائق فى ذواتها مختلفة، فكيف جعلتموها دالّة على حقيقة واحدة؟

المطلب الثانى فى بيان موضوع علم البيان

وجوابه هو: أنها مع اختلافها وتباين أحوالها لا يمتنع كونها دالّة على حقيقة واحدة، وهذا غير ممتنع، فإن الأشياء المتغايرة قد تكون دالّة على معنى واحد كالألفاظ المترادفة، ويؤيد ما ذكرناه هو أن التعريفات التصوّرية طريق إلى فهم الحقائق التصورية. كما كانت البراهين التصديقية طريقا إلى معرفة المدلولات، فإذا جاز اجتماع البراهين على مدلول واحد جاز اجتماع التعريفات على ماهية واحدة فاختلاف كل واحد من النوعين لا يمنع من اتحاد المقصود. المطلب الثانى فى بيان موضوع علم البيان اعلم أن لكل علم من العلوم موضوعا يكون له كالأساس فى البناء. وبه تظهر حقيقته. ومنه يتقدّر قوام صورته. وعلى هذا يكون موضوع علم الطبّ بدن الإنسان. ولهذا فإن الطبيب يسأل عنه ليدرى بحاله فى صحته وفساده. وموضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين، فالفقيه يسأل عن حالها فيما يعرض لها من الحسن والقبح والوجوب والندب والكراهة والإباحة. وموضوع أصول الفقه هو النظر فى أدلة الخطاب من الكتاب والسنة. وما يكون مقرّرا عليها من الإجماعات والأقيسة والأفعال والتقريرات. فالأصولىّ يقصر نظره على ما ذكرناه. وموضوع علم الكلام هو النظر فى أفعال الله تعالى وما يصدر عن قدرته من المكونات كلها والمصنوعات فيحصل له العلم بذاته فنظره مقصور على ذلك. وموضوع علم العربية هو الألفاظ الموضوعة من جهة تركيبها فهو يسأل عن حالها. وهكذا فإن موضوع اللغة هو معرفة الألفاظ المفردة فاللغوىّ يسأل عن ذلك. فكلّ علم له موضوع يخالف موضوع الآخر. ومن ثم كانت حقيقة كل واحد منها مباينة لحقيقة الآخر لأنها باختلاف موضوعاتها اختلفت حقائقها وتمايزت فى أنفسها. وكما يجرى هذا فى العلوم فإنه جار فى الحرف والصناعات لأنها من جملة العلوم، ولهذا فإنّ النجارة موضوعها الخشب. فإن النجار ينظر فى حالها فى تحصيل حقيقة النّشر. والحدّاد موضوع صنعته الحديد فينظر فى حاله إذا أراد تركيب السّيف والشّفرة. وموضوع النساجة القطن. والكتان. فالنّساج ينظر فى حالهما من أجل تحصيل قوام الثوب وصورته وهذه القضية عامّة فى كل علم وحرفة. فإنه لا يمكن تحصيل شىء من أحواله إلا بعد إحراز موضوعه الذى هو أصل فيه.

وهم وتنبيه

وعلى هذا يكون موضوع علم البيان هو علم الفصاحة والبلاغة. ولهذا فإن الماهر فيه يسأل عن أحوالهما وحقائقهما اللفظية والمعنوية، فيحصل له من النظر فى الألفاظ المفردة إدراك الفصاحة، ويحصل له من النظر فى المعانى المركبة أحوال البلاغة كما قررناه. وهم وتنبيه فإن قال قائل فإذا كان موضوع اللغة هو الكلم المفردة، وهذا بعينه هو موضوع الفصاحة. فإذا كان موضوع علم الإعراب هو الكلم المركبة فهذا بعينه هو موضوع البلاغة، فمن أين تقع التفرقة بين موضوع علم اللغة وعلم الإعراب، وبين موضوع علم البيان، وعلم المعانى مع اتحاد الموضوع منهما فى الإفراد والتركيب؟ وجوابه هو أن علم اللغة، وعلم الفصاحة. وإن كان متعلّقهما الألفاظ المفردة، لكنهما يفترقان فى الدلالة، فإنّ نظر اللغوىّ مقصور على معرفة ما يدلّ على اللفظ بالوضع. وصاحب علم البيان ينظر فى الألفاظ المفردة من جهة جزالتها، وسلامتها عن التعقيد، وبراءتها عن البشاعة، مع ما يتعلق بها من الأنواع المجازية، فإنها مؤدية المقصود بالطرق المختلفة، فافترقا كما ترى، وهكذا فإن النحوىّ، وصاحب علم المعانى، وإن اشتركا فى تعلقهما بالألفاظ المركبة، لكن نظر أحدهما مخالفا لنظر الآخر، فالنحوىّ ينظر فى التركيب من أجل تحصيل الإعراب لتحصل كمال الفائدة، وصاحب علم المعانى، ينظر فى دلالته الخاصة وهو ما يحصل عند التركيب من بلاغة المعانى. وبلوغها فى أقصى المراتب، فقد حصل مما ذكرناه التمييز مع الاشتراك فيما ذكرناه، وفى ذلك افتراقهما، وكشف الغطاء عما ذكرناه بمثال نورده وهو قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] . فنظر اللغوىّ إنما هو من جهة كون القصاص والحياة موضوعين لمعانيهما المفردة، وغير ذلك من سائر الكلمات المفردة، ونظر صاحب البيان من جهة سلامة هذه الألفاظ المفردة عن التعقيد، وسلاستها، وسهولتها على اللسان. وهذه هو المقصود بالفصاحة. فقد افترقت الدلالتان مع اشتراكهما فى التعلق بالألفاظ المفردة وهكذا. ونظر النحوىّ من جهة رفع المبتدأ، وتقديم خبره عليه وتنكير المبتدأ، وتوسيط الظرف إلى غير ذلك من الأحوال الإعرابية. ونظر صاحب المعانى من جهة بلاغتها، وتأدية المعنى المقصود منها، على أوفى ما يكون

المطلب الثالث في بيان منزلته من العلوم وموقعه منها

وأعلاه. وهذا هو المراد من البلاغة. فقد افترقا مع إشراكهما فى تعليقهما بالتركيب. ومن ههنا امتاز قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] عما يؤثر عن العرب من قولهم «القتل أنفى للقتل» . ومن أحاط علما بالفصاحة، وتغلغل فكره فى إحراز أسرارها، عرف أن بين ما ورد فى التنزيل، وبين ما أثر عن العرب فيما أوردناه من المثال فى الفصاحة والبلاغة، بونا لا تدرك غايته، وبعدا لا يحصر تفاوته، ولهذا فإنه من كان من المفسّرين نظره فى تفسير كلام الله مقصورا على معرفة المعانى الإعرابية، وبيان مدلولات الألفاظ الوضعية لا غير، من غير بيان ما تضمنه من أنواع الفصاحة والبلاغة، وتقرير مواقعهما الخاصة. فإنه يعدّ مقصّرا في تفسيره لكونه قد أخلّ بمعظم علومه، وأهملها وأعرض عن أجلّ مقاصده وتركها. وهو معرفة الإعجاز، لأنه موقوف على ما ذكرناه من معرفة الفصاحة والبلاغة جميعا. ومن اعتمد فى تفسير كلام الله على ملاحظة جانب الفصاحة والبلاغة، ونزّل المعانى القرآنية عليها، سلم عن أكثر التأويلات النادرة، وبعد عن حمله على المعانى الركيكة التى وقع فيها كثير من المفسرين كما هو مذكور فى كتبهم. المطلب الثالث في بيان منزلته من العلوم وموقعه منها اعلم أن الكلام فى منزلة الشىء من غيره إنما يكون فيما يظهر فيه التقارب فى الجنسية. فأما مع تباعد الحقائق وتباينها فلا يقال ذلك. ولهذا يقال أين منزلة الإنسان من الحيوان، ولا يقال أين منزلته من الأحجار. فنحن إنما نذكر منزلة علم البيان من العلوم الأدبية دون غيرها من سائر العلوم. فإذا تقرر هذا فنقول العلوم الأدبية على أربعة أنواع: فالنوع الأول منها: علم اللغة العربية وهو علم بمعانى الألفاظ المجردة. فإن حاصله استفادة المعانى المفردة من الأوضاع اللغوية. فالعلم بأن الإنسان والفرس والجدار وغيرها من الألفاظ موضوعة لهذه الحقائق المفردة، إما بالتوقيف، وإما بالمواضعة، أو يكون بعضها بالتوقيف، وبعضها بالمواضعة، أو الوقف فى ذلك. وتجويز هذه الاحتمالات من غير قطع فى واحد منها إلى غير ذلك من الخلاف فيها ليس من همنّا ذكره لخروجه عن مقصدنا. النوع الثانى: علم الإعراب. وهو علم بالمعانى الإعرابية الحاصلة عند العقد،

والتركيب، كقولنا قام زيد، فإن الإعراب لا يحصل إلا لمجموعهما. فالتركيب أقلّه من جزئين. والعقد إسناد أحدهما إلى الآخر. فلو حصل أحدهما وتعذر الآخر، لفات المعنى، ولبطل الإعراب. فصار علم الإعراب متميزا عن علم اللغة العربية بما ذكرناه، معطيا فائدة غير ما يعطيه علم اللغة لأجل الإفراد والتركيب. النوع الثالث: علم التصريف. وهو علم يتعلق بتصحيح أبنية الألفاظ المفردة، وإحكام قوالبها على الأقيسة المطردة فى لسان العرب بالقلب، كما فى قال ورمى، والحذف كما فى قولنا: قل، وبع، والإبدال، كما فى قولنا: ميعاد، وصراط، وغير ذلك. وهو علم جليل القدر، ولا يختص به إلّا الأذكياء من علماء الأدب، كما أثر عن أبى عثمان المازنىّ وأبى الفتح ابن جنى، وغيرهما. وقد يقع فيه معظم الزّلل لمن لم يحرز أصوله ولا يحكمها، كما وقع من نافع المقرىء فى همزه شبه معايش وهو خطأ. قال أبو عثمان المازنى: إن نافعا لم يدر ما العربية. ومعذرته فى ذلك، هو أنه شبه ياء معيشة بياء سفينة. فمن ثمّ همزها لمشاكلتها لها فى صورتها. وليس عذره فى ذلك أنه اعتقد أن معيشة فعلية كما قاله ابن الأثير معتذرا له. لأن هذا يكون ضم جهل إلى جهل. ولما لم يختص نافع برسوخ قدم فى علم الإعراب وقع فى حرفه فى قراءته ضعف كإسكان ياء «محياى» وجمعه بين الساكنين، ونحو إثباته لهاء السكت فى حال الوصل، وقراءة «أتحاجّونى» بنون واحدة. النوع الرابع من علوم الأدب: علم البلاغة والفصاحة وهما يأخذان من العلوم الأدبية صفوها، ويقعان منها مكان الواسطة من عقدها، فإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول: العلم المعبّر عنه بعلم البيان هو علم الفصاحة. وعلم المعانى هو المعبّر عنه بعلم البلاغة. وهو أجلّ العلوم الأدبية قدرا ومكانا وأعلاها منزلة وأكبرها شأنا لأنه علم يستولى على استخراج أسرار البلاغة من معادنها. وهذه توجد محاسن النّكت المودعة فى أصدافها ومكامنها. وهو الغاية التى ينتهى إليها فكر النّظّار، والضّالة التى يطلبها غاصة البحار. وعليه التعويل فى الاطّلاع على حقائق الإعجاز فى القرآن، وإليه الإسناد عند المسابقة فى الخصل والرهان. ومنه تستثار المعانى الدقيقة على مرّ الدّهور وتخرّم الأزمان فظهر بما ذكرناه أن موقع علم البيان من العلوم الأدبية موقع الإنسان من سواد الأحداق. ومن ثمّ لم يستقل بدركه وإحراز أسراره إلا كل سباق.

المطلب الرابع فى بيان الطرق إليه

المطلب الرابع فى بيان الطرق إليه اعلم أن إحرازه إنما يكون بإحراز ما يحتاج إليه من العلوم الأدبية. ولما كان المقصود به هو الاطلاع على حقائق علوم الإعجاز، والإحاطة بعلم الفصاحة والبلاغة فما كان أصلا فى معرفة هذه الأشياء فهو مفتقر إليه. وما لا يحتاج إليه فى هذه الأشياء فهو غير مفتقر إليه. فصارت العلوم بالإضافة إلى ما تفتقر إليها وتستغنى على ثلاث مراتب. المرتبة الأولى: لا يفتقر إليها بكل حال. وهذا نحو العلوم العقلية، كالعلم بالمباحث الكلامية والطبّ. والفلسفة وأحكام الحساب، وغير ذلك من علوم العقل. فما هذا حاله من العلوم فلا يستمدّ منها ولا تكون طريقا إليه. المرتبة الثانية: ما يكون مفتقرا إليها، ولا يمكن الوصول إليه إلا بها وبإحرازها وهى آلة فيه. وذلك أنواع ثلاثة: النوع الأول منها: معرفة اللغة مما تداولته الألسنة وكثر استعماله وصار مألوفا. لأن موضوعه هو البلاغة والفصاحة وهما من عوارض الألفاظ والمعانى. فمن لم يعرف شيئا من اللغة لا يمكنه أن يخوض فى عارض من عوارضها فيحصل له من الألفاظ المفردة معرفة معانيها الموضوعة لها، ويعرف نسبة الكلم المفردة إلى معانيها ومسمياتها ففيه غرض عظيم يحصل عليه وجملتها أربعة. أولها: المترادفة. ونعنى به الألفاظ المختلفة الصيغ المتواردة على معنى واحد. وهذا نحو الخمر، والمدام، والعقار، ونحو الليث، والأسد، وثانيها: المتباينة. ونريد بها الألفاظ المختلفة على المعانى المختلفة. وهذا نحو الإنسان، والفرس، والأسد. وثالثها: المتواطئة. وهى الألفاظ المطلقة على معان متغايرة يجمعها أمر معنوىّ تكون مشتركة فيه. وهذا نحو قولنا رجل، فإنه يطلق على زيد، وعمرو، وبكر، بجامع الرجولية والإنسانية وهكذا قولنا فرس، وحيوان. ورابعها: المشتركة. وهى الألفاظ المتفقة الدالّة على معان مختلفة غير متفقة فى أمر معنوىّ. وهذا نحو قولنا: عين، فإنها تطلق على العين الباصرة، وعين الشمس، وعين الركية، وعين الميزان فهذه المعانى كلها مختلفة فى أنفسها ولا تتفق إلّا فى مجرّد اللفظ لا غير. ومن الناس من زاد على هذه الألفاظ قسما خامسا وسماه المشكك والمشتبه، وجعله مترددا بين المشتركة، والمتواطئة، وهذا نحو إطلاق لفظ النور، على ضوء الشمس، والقمر، والنار ونور العقل، ونحو لفظ الحىّ فإنه يطلق على الحيوان، والنبات. والأقرب إلحاقه

النوع الثانى: علم العربية

بالمتواطىء لأنه يطلق على هذه الحقائق المتغايرة باعتبار أمر جامع يجمعها، فيطلق النور على هذه الأشياء باعتبار أمر معنوىّ، ويطلق الحىّ على النبات، والحيوان باعتبار أمر معنوىّ، وهو النموّ. ولا حاجة إلى جعله قسما على حياله لا ندراجه تحت ما ذكرناه. وإليه يشير كلام الشيخ أبى حامد الغزالى. النوع الثانى: علم العربية ، وهو من جملة موضوعات هذا العلم العظيمة التى لا سبيل إليه إلا بإحرازها، وهو منه بمنزلة أبى جاد للخط العربىّ. وبه يحصل قوام أمره وإحكام أصوله. نعم ليس مختصا بهذا العلم وحده، بل ينبغى معرفته لكلّ من ينطق باللسان العربىّ فإنه لا غنى له عن معرفته، ليأمن من زلل اللحن وسقطه، ويستفيد بمعرفته الاطّلاع على المعانى المفيدة والجمل المركبة من الفاعل مع فعله، والمبتدأ مع خبره إلى غير ذلك من أفانين الكلام وأنواعه. وكل ذلك لا يحصل إلا بالوقوف على حقائق الإعراب ولوازمه. فلهذا لم يكن بدّ من تحصيلها وإتقانها. النوع الثالث: علم التصريف فإنه علم جليل القدر غزير الفوائد. وهو يختص بتصحيح أبنية الألفاظ المفردة ومعرفة صحيحها ومعتلّها وزائدها وأصيلها ومبدلها من أصيلها إلى غير ذلك من أنواع التصريف على قوانين جارية على أقيسة كلام العرب وأساليبها. ومن لم يحرزه فإنه لا يأمن الوقوع فى محذور الكلام ومكروهه، فإنه لا فرق فى اللحن بين تغيير الكلمة عن إعرابها الجارى لها، وبين تغيير بناء الكلمة وتصريفها على خلاف ما يقتضيه قياسها. فلا فرق فى ألسنة النحاة بين من خالف فى تغيير الإعراب فى نصب الفاعل ورفع المفعول وبين من ترك الواو والياء من غير إعلال مع وجود سبب الإعلال فيهما، ومن أخلّ به وقع فى مكروه التصريف، كما أن كل من أخلّ بإتقان الإعراب وقع فى معرّة اللحن ومكروهه. فهذه العلوم الثلاثة لابدّ من إحرازها لمن أراد الاطّلاع على علوم البيان ويجرى مجرى الآلة له فى الوصول إليها. خيال وتنبيه فإن قال قائل: كيف توجبون على كل من أراد إحراز علوم البيان علم اللغة. ونحن نجد فى الأوضاع اللغوية ما لا يفهم المراد من ظاهر لفظه كما فى الألفاظ المشتركة فإن حقيقة وضعها ينافى البيان لما فيها من الإبهام إلا بقرينة من وراء لفظها وتوجبون العلم

بالوجوه الإعرابية لمن خاض فى علوم البيان والواحد منا إذا قال: قام زيدا بالنصب وقال ضربت زيد بالرفع فهم الغرض، وإن كان لاحنا، ونجد كثيرا من الأحاديث الملحونة مفهومة المعانى وإن كانت جارية على خلاف قانون العربية وهكذا الحال فى التصريف فإن الواحد منا إذا قال لغيره قوم بإثبات الواو، أو قال هذه عصوك من غير إعلان فإن المقصود مستقيم لا خلل فيه، فإذن لا وجه لإيجاب الإحاطة بهذه العلوم لمن أراد الخوض فى علم البيان. والجواب أنا قد أوضحنا أنه لابدّ من إحراز هذه العلوم لمن أراد الاطّلاع على علوم البلاغة والفصاحة بما لا مدفع له إلّا بالمكابرة. فلا مطمع فى إعادته. قوله: إن فى الأوضاع اللغوية ما يستبهم فيه المقصود، كالألفاظ المشتركة، قلنا: إن هذه اللغة التى عظّم الله أمرها، ورفع قدرها مشتملة على اللطائف البديعة، والمجازات الرشيقة، وإن الاشتراك يرد من أجل الاختصار، لاشتمال الكلمة الواحدة على معان كثيرة، ويرد من أجل التجنيس، والازدواج فى إعجاز الكلم العربية، ويرد لمقاصد عظيمة ليس من همنا ذكرها، وفيه معان بديعة ومقاصد للفصحاء بالغة يدركها من رسخت قدمه فى هذه الصناعة. قوله: الواحد منا يكون لا حنا ولا يخلّ بشىء من مقاصده فى خطابه قلنا: هذا فاسد فإن المقاصد وإن كانت مفهومة بالقرائن فى بيان الفاعل والمفعول، لكنا نريد مع فهم المعانى بالقرائن الحالية أنه لابدّ من جريها على القوانين الإعرابية، وعلى ما هو معهود من ألسنة الفصحاء ومجارى كلماتهم التى ورد بها القرآن، وجاءت به السنة الشريفة من مطابقة الأوضاع اللغوية والقوانين الإعرابية. وربما لا يطّرد ذلك، أعنى الاتكال على القرائن، بل لابدّ من التفرقة بين الفاعل والمفعول بالإعراب، وإلّا كان اللبس واقعا كما فى قوله ضرب زيد عمرو فإنه لولا الإعراب لما عرف الفاعل من المفعول وهكذا إذا قلنا ما أحسن زيد فإنه لا يمكن التفرقة بين النفى والتعجب، والاستفهام إلّا بالإعراب؛ لأنّ الصيغة فيها واحدة، ولهذا فإنه يحكى أن رجلا دخل على أمير المؤمنين كرم الله وجهه. فقال له: قتل الناس عثمان من غير إعراب فقال له أمير المؤمنين كرم الله وجهه، بيّن الفاعل من المفعول، «رضّ الله فاك» ودخل رجل على زياد ابن أبيه بالبصرة. فقال له: مات أبانا وخلّف بنون. فقال زياد مات أبانا وخلف بنون. مه. فاستنكر اللحن وأباه لما قطع بكونه لحنا.

المرتبة الثالثة: مما يكون متوسطا بين المرتبتين السابقتين

قوله إنا نقطع بفائدة الكلام من غير حاجة إلى التصريف قلنا هذا فاسد فإنه وإن أفاد كما ذكره من المثال، فإن الغرض مطلق الأوضاع اللغوية وجريها على القوانين المطردة معا. فتحصّل من مجموع ما ذكرناه أنه لابدّ من إحراز هذه العلوم لمن أراد الوقوف على محاسن البلاغة والاطّلاع على أسرار الفصاحة. فالزّلل فى الجهل باللغة مؤدّ إلى تحريف الألفاظ، وفساد معانيها، والزّلل فى الإعراب يؤذن بفساد المعانى والتباسها. وفساد التصريف يبطل قوالب الألفاظ وجريها على مجاريها القياسية. ويدلّ على مصداق ما قلنا من أن اللحن يبطل المعانى ويفسدها ما فى الحكاية عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، لمّا قال له أبو الأسود ما قال، مما يشعر باللحن وفساد اللغة. فأمره بأن يصنع نحوا، وأمره بتقرير قواعده وبيان أصوله التى يرجع إليها. وإذا كان زوال الإعراب يبطل المعانى مع كونه عارضا من عوارض الألفاظ، فتغيّر الأوضاع اللغوية والمجارى التصريفيّة، يكون أدخل فى التغيير لا محالة لأن هذا تغيّر فى ذوات الألفاظ، وذاك تغيّر فى عوارضها من أنواع الإعراب. المرتبة الثالثة: مما يكون متوسطا بين المرتبتين السابقتين فلا يستغنى عنه ولا يفتقر إليه غاية الافتقار، بل هو جار مجرى التتمة والتكملة فى التحسين والكمال. ولا ينخرم المقصود إن هو لم يحصل. وهذا نحو العلم بالأمثال العربية وما يؤثر عن العرب من الحكم والآداب فى المحافل والاستظهار بمطالعة الدواوين والرياضة بحفظ الأشعار فإن ذلك يفيد حنكة، وتجربة، ويكون عونا على إدراك البلاغة والفصاحة، ويفيد الاطّلاع على أسرار الإعجاز والشعراء طبقات ثلاث. الطبقة الأولى: المتقدمون من الشعراء فى الجاهلية كامرىء القيس وزهير والنابغة. وسئل بعض الأذكياء عن وصفهم فيما أتوا به من الشعر، فقال امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب. الطبقة الثانية: المتوسطون كالفرزدق، وجرير، والأخطل. وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل، فقال: أما الفرزدق ففى يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها وأما الأخطل فأشدّنا اجتراء، وأرمانا للفرائص، وأما أنا فمدينة الشعر. الطبقة الثالثة: المتأخرون أبو تمام، والبحترى والمتنبى أبو الطيب.

دقيقة

وسئل الشريف الرضى عن هؤلاء الثلاثة فقال، أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحترى فواصف جؤذر، وأما أبو الطيب المتنبى فقائد عسكر. فالارتياض بكلام كل واحد من هؤلاء يوجب رسوخ القدم فيما ذكرناه من البلاغة والفصاحة. دقيقة اعلم أنا وإن أوجبنا على من أراد الخوض فى علوم البيان وإحرازها أن يحصل على ما ذكرناه من هذه العلوم الأدبية، فلسنا نريد أن يكون محيطا بأسرارها مستوليّا على جميع دقائقها، فذلك متعذر، بل ربما يستغرق الإنسان عمره فى واحد منها فلا يعتبر أن يكون فى اللغة بالغّا مبلغ الفراء، وأبى عبيد، ولا يكون فى العربية بمنزلة الخليل، وسيبويه، ولا فى علم التصريف على رتبة المازنى، وابن جنى، ولكن يحرز لنفسه قدرا من الفضل فيها يمكنه به الخوض فى علومها، ويعرف مصطلحاتهم فيطلب حاجته من كتبهم وأوضاعهم، فمتى حصل على هذه الحالة أمكنه السلوك لطرائقهم، وأن يرد مواردهم ويستعين بالله. المطلب الخامس فى بيان ثمرته واعلم أنه يراد لمقصدين. المقصد الأول منها: مقصد دينىّ ، وهو الاطّلاع على معرفة إعجاز كتاب الله، ومعرفة معجزة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ لا يمكن الوقوف على ذلك إلّا بإحراز علم البيان، والاطّلاع على غوره، فإن هذا العلم لمن أشرف العلوم فى المنقبة، وأعلاها فى المرتبة، وأنورها سراجا وأوضحها منهاجا، وأجمعها للفوائد، وأحواها للمحامد ومع ما اشتمل عليه من الفضائل نخص هذا الموضع بذكر فضيلتين تدلان على غيرهما من سائر فضائله. الفضيلة الأولى : أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله، مع ما أعطاه الله من العلوم الدينية، وخصه بالحكم والآداب الدنيوية، فلم يفتخر بشىء من ذلك، فلم يقل، أنا أفقه الناس، ولا أنا أعلم الخلق بالحساب، والطب، بل افتخر بما أعطاه الله من علم

الفضيلة الثانية

الفصاحة والبلاغة، فقال عليه السلام: «أنا أفصح من نطق بالضاد» ، وقال عليه السلام: «أوتيت خمسا لم يعطهن قبلى أحد، كان كل نبىّ يبعث إلى قومه، وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرّعب بين يدى مسيرة شهر، وأوتيت جوامع الكلم» . الفضيلة الثانية : أنه لولا علوّ شأنه، وارتفاع قدره، لما كان خير كتب الله المنزل على أفضل أنبيائه، إعجازه متعلقا به فإن القرآن إنما كان إعجازه من أجل ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة، ولم يكن إعجازه ما اشتمل عليه من أنباء الغيب، ولا من الحكم والمواعظ وغيرها من الأوجه كما سنقرر المختار فى إعجازه فى الفن الثالث بمعونة الله تعالى فهذا مقصد عظيم يراد لأجله هذا العلم. المقصد الثانى: مقصد عام لا يتعلق به غرض دينىّ وهو الاطلاع على أسرار البلاغة والفصاحة فى غير القرآن، فى منثور كلام العرب ومنظومه، فإن كل من لا حظّ له فى هذا العلم لا يمكنه معرفة الفصيح من الكلام، والأفصح، ولا يدرك التفرقة بين البليغ والأبلغ، والمنثور من كلام العرب أشرف من المنظوم، لأمرين، أما أولا: فلأن الإعجاز إنما ورد فى القرآن بنظمه وبلاغته، ولم يرد بطريقة نظم الشعر أسلوبه. وأما ثانيا: فلأن الله تعالى شرّفه عن قول الشعر ونظمه، وأعطاه البلاغة فى المنثور من الكلام وما ذاك إلّا بفضل المنثور على المنظوم فهذا ما أردنا ذكره من هذه المقدمة.

المقدمة الثانية فى تقسيم الألفاظ بالإضافة إلى ما تدل عليه من المعانى

المقدمة الثانية فى تقسيم الألفاظ بالإضافة إلى ما تدل عليه من المعانى اعلم أن البحث عن دلالة الألفاظ على ما تدل عليه، واسع الخطو، ولكنّا نشير إلى ما يليق بما نحن فيه. وجملة ما نذكره من ذلك تقسيمان لا غير. وهما وافيان بالبغية بمعونة الله تعالى. التقسيم الأولى اللفظ إما أن تعتبر دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه، أو بالنسبة إلى ما هو داخل فى مسماه، أو بالنسبة إلى ما هو خارج عن مسماه. فهذه ضروب ثلاثة نفصلها إن شاء الله تعالى الضرب الأول: ما تكون دلالته بالنسبة إلى تمام مسماه. وهذه هى [دلالة المطابقة] . وهذا نحو دلالة نحو الإنسان والفرس، والأسد على هذه الحقائق المخصوصة، فإنها مرشدة بالوضع عند إطلاقها على معانيها المعقولة. وتختص دلالة المطابقة بأحكام كثيرة. ولنشر منها إلى ثلاثة أحكام. الحكم الأول منها: ليس يلزم فى كل معنى من المعانى أن يكون له لفظ يدلّ عليه، بل لا يبعد أن يكون ذلك مستحيلا، لأن المعانى التى يمكن أن يعقل كلّ واحد منها غير متناهية. فلو لزم أن يكون لكل معنى لفظ يدل عليه، لكان ذلك إما أن يكون على جهة الانفراد، أو على جهة الاشتراك ومحال أن يكون على جهة الانفراد، لأنه يفضى إلى وجود ألفاظ غير متناهية. وهو باطل. ومحال أن يكون على جهة الاشتراك لأنه لابد من أن تكون تلك الألفاظ المشتركة دالة على معانيها بالمواضعة. فإذا كانت المعانى بلا نهاية استحال أن توضع لها ألفاظ تدل عليها إلّا بعد الإحاطة بها وتعقلها. وتعقّل أمور غير متناهية على جهة التفصيل محال فى حقنا. فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المعانى وإن كانت فى أنفسها غير متناهية، لكن لا يلزم أن تكون لها ألفاظ تدل عليها. وإذا تقرر ما قلناه فنقول، المعانى على قسمين. منها ما تكثر الحاجة إلى التعبير عنها، فما هذا حاله لا يجوز خلوّ اللغة عن وضع لفظ بإزائه يكون دالا عليه، لأن الحاجة داعية إلى ذلك، فلا بدّ من حصوله. فأما المعانى التى لا تدعو الحاجة إلى التعبير عنها، فإنه يجوز خلوّ اللغة عنها فلا يلزم وضع ألفاظ تدل عليها.

الحكم الثانى

الحكم الثانى : الحقيقة فى وضع الألفاظ إنما هو للدلالة على المعانى الذهنية دون الموجودات الخارجية. والبرهان على ما قلناه هو أنا إذا رأينا شبحا من بعيد وظننّاه حجرا، سمّيناه بهذا الاسم، فإذا دنونا منه وظننّا كونه شجرا، فإنا نسميه بذلك فإذا ازداد التحقيق بكونه طائرا، سميناه بذلك، فإذا حصل التحقيق بكونه رجلا سميناه به. فلا تزال الألقاب تختلف عليه باعتبار ما يفهم منه من الصور الذهنية. فدلّ ذلك على أن إطلاق الألفاظ إنما يكون باعتبار ما يحصل فى الذهن. ولهذا فإنه يختلف باختلافه. الحكم الثالث: الألفاظ المشهورة من جهة اللغة المتداولة بين الخاصة والعامة، لا يجوز أن تكون موضوعة بمعنى خفىّ لا يعرفه إلّا الخواص، ولا يصلح أن تكون موضوعة بإزاء المعانى الدقيقة التى لا يفهمها إلا الأذكياء. ومثال ذلك هو أن لفظ الحركة، والقدرة، والعلم، إنما تكون موضوعة على ما هو السابق إلى الأفهام عند العامة، من أن الحركة هى نفس التحرك، والقدرة هى نفس القادرية، والعلم هو نفس العالمية. فلا يجوز أن يكون اللفظ موضوعا إلّا على ما ذكرناه، ولا يجوز أن تكون موضوعة على المعانى الدقيقة التى لا تخطر ببال أحد من أهل اللغة كما يزعمه من أثبت العلة والمعلول من المتكلمين، قال: إن الحركة موضوعة على معنى توجب كون الذات متحركة، وهكذا القول فى القدرة والعلم، فإنه لو صح ما قالوه، لما عرفه إلّا الأذكياء من الناس بالدلائل الدقيقة. وإذا كان الأمر كما قلناه فلفظ الحركة متداولة بين الجمهور من أهل اللغة، فلا يجوز وضعه إلّا على المفهوم عندهم عند إطلاقه دون ما يقوله المتكلمون. الضرب الثانى: [دلالة التضمن] وهذا نحو دلالة الفرس والإنسان، والأسد على معانيها التى هى متضمنة لها كالجمحية والحيوانية والإنسانية، فإن هذه المعانى كلها تدل عليها هذه الألفاظ عند الإطلاق، لأنها متضمنة لها من حيث إن هذه الحقائق لا تتعقّل من دون هذه الصفات. وهى أصل فى معقول هذه الحقائق متضمنة لها، فدلالتها عليها من جهة تضمّنها إياها. الضرب الثالث: [دلالة الالتزام] ، وهذا نحو دلالة لفظ الإنسان والفرس على كونها متحركة، وعلى كونها شاغلة للجهة، وغير ذلك من الأمور اللازمة. فهذه مجامع دلالة اللفظ على ما يدل عليه لا تخرج عن هذه الأمور الثلاثة، المطابقة، والتضمن، والالتزام، كما أوضحناه. ولنشر ههنا إلى تنبيهات ثلاثة:

التنبيه الأول: الدلالة الوضعية هى دلالة المطابقة.

التنبيه الأول: الدلالة الوضعية هى دلالة المطابقة. أما دلالة التضمن، ودلالة الالتزام، فهما عقليّتان لأن اللفظ إذا وضعه الواضع لمسماه انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه، ثم لازمه إن كان داخلا فى المسمّى، فهو التضمن. وإن كان خارجا عنه، فهو الالتزام. التنبيه الثانى: دلالة المطابقة على جزء المسمى مخالفة لدلالة التضمّن، لأن دلالة المطابقة كما هى دالة على الحقيقة الكلية فهى دالّة أيضا على أن كل واحد من أجزائها الخاصة لكن دلالة المطابقة على جزء الحقيقة من جهة الاشتراك بخلاف دلالة التضمّن، فإن دلالتها على جزء الحقيقة من جهة الاشتراك بخلاف دلالة التضمن فإن دلالتها على جزء الحقيقة من جهة الخصوصية لا غير، فافترقا. وهكذا القول فى دلالة الالتزام، فإن دلالة المطابقة على لوازم الحقيقة من جهة الاشتراك لأنها كما تدل على كل الحقيقة فهى دالة على لازمها بخلاف دلالة الالتزام، فإن دلالتها على جهة الخصوص فى لازم الحقيقة فافترقا. التنبيه الثالث: المعتبر فى دلالة اللزوم إنما هو اللزوم الذهنى دون الخارجى لأن العرض والجوهر بينهما ملازمة خارجية، ولا يستعمل اللفظ الدال على أحدهما دالّا على الآخر. والضدان متنافيان. وقد يستعمل اللفظ الدال على أحدهما فى الآخر كقوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وإنما المقصود هو اللازم الذهنى. ثم هذا اللزوم شرط وليس موجبا، ولهذا فإن الكون فى الجهة شرط فى وجود الجوهر، وليس موجبا له، فحصل من مجموع ما ذكرناه معرفة التفرقة بين هذه الدلائل الثلاث وأن دلالة المطابقة على ما يدل عليه التضمن والالتزام إنما كان من جهة الاشتراك وأن دلالتها على ما يدلان عليه من الخصوص لا غير فلهذا افترقت. التقسيم الثانى اللفظ: إمّا أن لا يدل شىء من أجزائه على شىء حين كان جزءا له، وإما أن يدل على كل واحد من أجزائه على شىء حين كان جزءا له فهذان ضربان. الضرب الأول منهما: هو [المفرد] فإن كل واحد من أجزائه لا يدل على شىء حين هو جزؤه، وتقسيمه على أوجه ثلاثة: الوجه الأول: اللفظ المفرد إما أن يكون معناه مستقلا بالمفهومية بحيث لا يحتاج فى فهم

الوجه الثانى:

معناه الإفرادى إلى غيره أو لا والثانى هو الحرف والأول إما أن يكون اللفظ الدال عليه دالا على الزمان المعين لمعناه أولا يكون دالا فإن دل فهو الفعل وإن لم يدل فهو الاسم، ثم الاسم إن كان دالا على معنى جزئى فهو إن كان كناية فهو المضمر، وإن كان غير مكنى عنه فهو العلم، وإن كان دالا على معنى كلّى فهو إما أن يكون اسما لنفى تلك الماهية فهو اسم الجنس كالرجل والسواد، وإن كان مفيدا لوصف من الأوصاف فهو الاسم المشتق كالضارب والقاتل فإنها أسماء تفيد هذه الأوصاف. الوجه الثانى: اللفظ المفرد والمعنى لا يخلو حالهما إما أن يتحدا جميعا أو يتكثرا أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى أو بالعكس، فإذا اتحد اللفظ والمعنى جميعا نظرت فى المسمى فإن كان نفس تصوره مانعا من الشركة فيه فهو الاسم العلم، وإن لم يكن مانعا فحصول ذلك المعنى من تلك الألفاظ إما أن يكون على جهة الاستواء من غير زيادة أم لا، فإن كان على جهة الاستواء لا غير فهو المتواطىء كإنسان ورجل، وإن كان مع الاستواء إفادة الشمول والإحاطة فهو المستغرق، وإن تكثرت الألفاظ والمعانى فتلك هى الألفاظ المتباينة كالسماء والأرض والفرس والإنسان، وسواء كانت المباينة باختلاف الحقائق كما أوضحناه أو كانت باختلاف الصفات كالصارم والمهند والسيف، وإن تكثرت الألفاظ واتحد المعنى فهى الألفاظ المترادفة كالعلم والمعرفة والدراية وغير ذلك، وإن اتحد اللفظ وتكثر المعنى فإن استوت تلك المعانى من غير ترجيح فهو المشترك، وإن ترجح سمى الراجح ظاهرا والمرجوح مؤولا. الوجه الثالث اللفظ الدال على معنى لا يخلو حاله، إما أن يكون مدلوله لفظا أو معنى، فإن كان مدلوله معنى فإما أن يحتمل غيره أو لا يحتمل سواه، فإن كان لا يحتمل سواه فهو النص، وإن كان محتملا لغيره فإما أن يكون المعنيان على جهة الاستواء أو يترجح أحدهما على الآخر، فإن كان أحدهما راجحا على الآخر كان اللفظ بالإضافة إلى المعنى الراجح ظاهرا وبالإضافة إلى المرجوح مؤولا، وإن كان يحتملها من غير ترجيح فهو المجمل، هذا إذا كان مدلوله معنى، وإن كان مدلول اللفظ لفظا فهو على أوجه ثلاثة، أولها لفظ مفرد

الضرب الثانى المركب

دال على لفظ مفرد وهذا مثل لفظ الكلمة فإنه لفظ مفرد دال على معنى لفظ الاسم وهو مفرد، وثانيها لفظ مفرد دال على لفظ مركب. وهذا مثل لفظ الخبر فإنه يتناول قولنا قام زيد، وزيد قائم. وهو مركب. وثالثها لفظ مفرد دال على لفظ مفرد لم يوضع لمعنى، وهذا الحرف المعجم فإنه يتناول كل واحد من آحاد الحروف. وتلك الأحرف لا تفيد سببا فهذا كله تقسيم المفرد من الكلام. الضرب الثانى [المركب] . والغرض بالتركيب لإفادة الإفهام فنقول: القول المفهم لا يخلو حاله إما أن يكون مفيدا للمعانى الطلبية أو لغيرها فإن أفاد معنى طلبيا فإما أن يكون طلب استعلام أو طلب تحصيل، فالأول هو الاستفهام، ثم إمّا أن يكون استفهاما عن الحقائق فهو بالأسماء كقولك: من هذا، ومن ذاك، وإمّا أن يكون لأمر عارض فهو بالحروف كقولك: أقام زيد أم قعد، وإن كان المقصود به طلب التحصيل، فإن كان على جهة الاستعلاء فهو الأمر، وإن كان على جهة الخضوع فهو السؤال، وإن كان على جهة التساوى فهو الالتماس، هذا كله إذا أفاد معنى طلبيّا، وإن أفاد غير الطلب فإمّا أن يحتمل الصدق والكذب، أو لا يحتمل، فإن احتملهما فهو الخبر، فإن طابق مخبره فهو الصدق، وإن لم يكن مطابقا لمخبره فهو الكذب، وإن لم يحتمل صدقا ولا كذبا فهو الإنشاء، وهذا نحو التمنى والترجى، والقسم والنداء، وغير ذلك من أنواع القضايا المركبة والجمل المفيدة. ولنقتصر على هذا القدر من تقسيم الألفاظ ففيه كفاية لمقدار غرضنا.

المقدمة الثالثة فى ذكر الحقيقة والمجاز وبيان أسرارهما

المقدمة الثالثة فى ذكر الحقيقة والمجاز وبيان أسرارهما اعلم أنّ هذه المقدمة من أعظم قواعد علم البيان ومن مهمّات علومه، وسر جوهره، لا يظهر إلّا باستعمال المجازات الرشيقة والإغراق فى لطائفه الرائقة، وأسراره الدقيقة الفائقة كالاستعارة، والكناية، والتمثيل، وغيرها من أنواع المجاز، وكلما كان المجاز أوقع فالفصاحة والبلاغة أعلى وأرفع كما ستراه، منبها عليه فى هذا الكتاب بمعونة الله، وعن هذا قال أبو الفتح ابن جنى: أكثر اللغة مجاز، وهذا صحيح، فإنّ دخوله فى الكلام دخول كلّى، وهذا كقولك رأيت زيدا، فإن المرئىّ إنما هو بعضه لا كلّه، وإذا قلت ضربت زيدا فإن المضروب بعضه لا كله، وغرضه التنبيه على كثرة المجاز وسعته فى الكلام. تنبيه اعلم أنّ فى الناس من زعم أن اللغة حقيقة كلّها، وأنكر المجاز، وزعم أنه غير وارد فى القرآن ولا فى الكلام، ومنهم من زعم أن اللغة كلّها مجاز وأن الحقيقة غير محققة فيها. وهذان المذهبان لا يخلوان عن فساد، فإنكار الحقيقة فى اللغة إفراط، وإنكار المجاز تفريط. فإن المجازات لا يمكن دفعها وإنكارها فى اللغة، فإنك تقول رأيت الأسد، وغرضك الرجل الشجاع، وقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 20] وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ [الإسراء: 24] إلى غير ذلك، ولا يمكن أيضا إنكار الحقائق كإطلاق الأرض والسماء على موضوعيهما. وأيضا فإنه إذا تقرّر المجاز وجب القضاء بوقوع الحقائق لأنه من المحال أن يكون هنالك مجاز من غير حقيقة، فإذا بطل هذا القول فالمختار هو الثالث، وهو أن اللغة والقرآن مشتملان على الحقائق والمجازات جميعا، فما كان من الألفاظ مفيدا لما وضع له فى الأصول فهو المراد بالحقيقة، وما أفاد غير ما وضع له فى أصل وضعه فهو المجاز، وصار هذان المذهبان فى الفساد شبيهين بمن قال: إن الحقائق كلّها مفتقرة إلى التعريفات كلها وقول من قال: إنها مستغنية عن التعريفات كلها فكما أن المذهبين خطأ فهكذا ما قالاه. وإن الحق أن بعضها مفتقر إلى التعريف دون بعض. فالسواد والألم وما أشبههما لا يفتقر إلى تعريف، لوضوحه، والملك، والجنّ والجوهر، والعرض تفتقر كلها إلى التعريف فإذا تمهّدت هذه القاعدة فلنذكر ما يتعلّق بالحقيقة على الخصوص، ثم

القسم الأول ما يتعلق بالحقيقة على الخصوص

نذكر ما يتعلق بالمجاز على الخصوص. ثم نردفه بما يكون متعلقا بهما جميعا، فهذه أقسام ثلاثة، نفصلها بمشيئة الله تعالى. القسم الأول ما يتعلق بالحقيقة على الخصوص اعلم أن الحقيقة فعيلة واشتقاقها من الحقّ فى اللغة، وهو الثابت. وهو يذكر فى مقابلة الباطل فإذا كان الباطل هو المعدوم الذى لا ثبوت له، فالحقّ هو المستقرّ الثابت الذى لا زوال له، فلما كانت موضوعة على استعمالها فى الأصل قيل لها: حقيقة أى ثابتة على أصلها لا تزايله ولا تفارقه «ووزنها فعيلة» كعفيفة وشريفة، وقد تكون بمعنى الفاعل أى حاقّة. ثابتة، وقد تكون بمعنى المفعول أى محقوقة مثبتة. وهل يكون لفظ الحقيقة على ما يطلق عليه من باب الحقيقة، أو من باب المجاز؟ والحقّ أنه من باب المجاز لأنّا قد قرّرنا أنها مقولة فى الأصل على الشىء الثابت غير المنفىّ المعدوم، ثم إنها نقلت إلى استعمال اللفظ فى موضوعه الأصلى، فقد أفادت معنى غير ما وضعت له فى الأصل، فلهذا كان إفادتها له على جهة المجاز لما ذكرناه. فإذا عرفت هذا فاعلم أن مقصودنا من هذا القسم تهذيبه بأن ترسم فيه مسائل. المسئلة الأولى فى بيان حد [الحقيقة] ومفهومها اعلم أن كثيرا من علماء البيان وجمعا من حذّاق الأصوليين قد أكثروا الخوض فى تعريف ماهية الحقيقة، وأتوا بأمور غير مرضيّة، فى بيان حقيقتها فأجمع تعريف ما ذكره أبو الحسين البصرىّ، فإنه قال: ما أفاد معنى مصطلحا عليه فى الوضع الذى وقع فيه التخاطب. ولنفسّر هذه القيود فقوله «ما أفاد معنى» عامّ فى المعانى العقليّة والوضعية. وقوله مصطلحا عليه، يخرج عنه المعانى العقلية، كالدلالة على كون المتكلم بالحقيقة قادرا وعالما، إلى غير ذلك من المعانى العقلية. وقوله «فى الذى وقع فيه التخاطب» يدخل فيه جميع الحقائق كلها من اللغوية، والعرفية، والشرعية، والاصطلاحية كما سنورد أمثلته. ولو قيل: هو اللفظ الدالّ على معنى بالوضع الذى وقع فيه ذلك الخطاب لكان جيدا، فقولنا: «هو اللفظ الدالّ على معنى» يدخل فيه المعانى العقلية، والمعانى اللغوية والمجازية وقولنا «بالوضع» يخرج منه العقلية وقولنا: «الذى وقع فيه ذلك الخطاب» يدخل فيه جميع الحقائق

تنبيه

كلها، على اختلاف أحوالها فى اللغة، والعرف، والشرع. ولنقتصر على هذا القدر من تعريف الحقيقة ففيه كفاية. تنبيه اعلم أنه قد أثر عن كثير من النّظار أمور فى تعريف الحقيقة، ونحن نوردها ونظهر وجه فسادها. التعريف الأول يحكى عن الشيخ أبى عبد الله البصرى وحاصل ما قاله فى الحقيقة أنها اللفظ الذى يفيد ما وضع له. وهذا فاسد، لأمرين، أما أولا: فلأنه يدخل فى حدّ الحقيقة ما ليس منه فإذا استعملنا لفظ الدابة فى الذبابة، والدّودة، فقد أفاد ما وضع له فى أصل اللغة، مع أنه بالنسبة إلى الوضع العرفى، مجاز، فقد دخل المجاز العرفى فيما جعله حدّا لمطلق الحقيقة. فلهذا كان باطلا. وأما ثانيا: فلأن هذا يبطل بالأعلام المرتجلة، فإنها أفادت ما وضعت له، مع أنها غير حقائق فيما دلّت عليه من معانيها. فبطل ما أورده. التعريف الثانى ذكره الشيخ عبد القاهر الجرجانى وحاصل ما قاله أن الحقيقة كل كلمة أريد بها نفس ما وقعت له فى وضع واضع، وقوعا لا يستند فيه إلى غيره، كالأسد، للبهيمة المخصوصة. وهذا ليس بجيد، فإنه يقتضى خروج الحقيقة الشرعية، والعرفية، عن حدّ الحقيقة، لأنهما لم يفدا نفس ما وضعا له فى وضع واضع، بل أفادا غيره، فيدخلان فى حدّ المجاز كما سنقرّره فيه. فإن أراد بقوله: بوضع واضع، أىّ واضع كان، فلا اعتراض عليه. وهذا هو المظنون بمثل عبد القاهر، فإنه الماهر فى لطائف الكلام وأسراره. التعريف الثالث ما ذكره الشيخ أبو الفتح ابن جنىّ وحاصل ما قاله فى تعريف الحقيقة: أنها ما أقرّ فى الاستعمالات على أصل وضعه فى اللغة. وهذا فاسد أيضا، فإنه يلزم منه خروج الحقائق الشرعية، والعرفية عن حد الحقيقة لأنها لم تقرّ فى الاستعمال على أصل وضعها اللغوىّ، مع أنها حقائق. التعريف الرابع ذكره ابن الأثير فى كتابه المثل السائر فإنه قال فى ماهيّة الحقيقة: إنها اللفظ الدالّ على موضوعه الأصلى. وهذا فاسد، لما فيه

المسألة الثانية فى ذكر أنواع الحقيقة،

من إخراج الحقيقة الشرعية، والعرفية، عن كونها حقائق، وأنها دالّة على غير موضوعها الأصلىّ، فيلزم خروجها عن كونها حقائق وهو باطل، لا يقال، فلعلّ ابن الأثير، إنما أراد الحقائق اللغوية، دون الحقائق الشرعية، والعرفية، وإنما أراد الحقائق الموضوعة لغة، كلفظ الأسد فإنه حقيقة فى البهيمة، مجاز فى الرجل الشجاع، فلا يعاب عليه ما قاله، لأنا نقول هذا فاسد، فإن الماهيّة من حقها أن تدرج تحتها جميع الصور المفردة فلا يخرج عنها شىء، وإلّا بطل كونها ماهية، فالحد إن لم يكن شاملا بطل كونه حدّا. ولو قيل فى حد الحقيقة: ما أفاد معنى مصطلحا عليه فى الوضع الذى وقع فيه التخاطب، مما له فيه مدخل، فسائر القيود قد تقدم تفسيرها إلا قولنا «ممّا له فيه مدخل» فالغرض الاحتراز عن أسماء الأعلام، فإنها قد أفادت معنّى مصطلحا عليه فى وضع التخاطب، لا يقال لها بأنها حقائق ولا توصف بذلك، لما كانت معانيها لا مدخل لها فى الحقائق، والمجازات، كما سنوضحه فعرفت بما ذكرناه أنه لابدّ من هذا القيد، ليخرج عمّا ذكرناه. المسألة الثانية فى ذكر أنواع الحقيقة، وجملتها ثلاثة أنواع: النوع الأول فى بيان [الحقائق اللغوية] وهذا نحو قولنا: السماء، والأرض، والإنسان، والفرس وما أشبهها ويدلّ على كونها حقائق فى وضعها أمران أما أولا: فلأنها قد دلّت على معان مصطلح عليها فى تلك المواضعة، وهذا هو فائدة الحقيقة ومعناها، وأما ثانيا: فلأنها قد استعملت فى الأوضاع اللغوية، فليس يخلو حالها بعد ذلك، إمّا أن تستعمل فى معناها الأصلى، أو فى غيره فإن كان الأوّل، فهى الحقيقة لا محالة، وإن كان استعمالها فى غيره، فهى مجاز، والمجاز لابدّ من أن يكون مسبوقا بالحقيقة، وإلا لم يعقل كونه مجازا، فإذن، لابدّ من الإقرار بالحقيقة، وقد تمّ غرضنا. النوع الثانى فى بيان [الحقائق العرفية] ونريد باللفظة العرفيّة، أنها التى نقلت من مسمّاها اللغوىّ إلى غيره بعرف الاستعمال، ثم ذلك العرف، قد يكون عامّا، وقد يكون خاصّا، فهذان مجريان نذكر ما يختص كل واحد منهما بمشيئة الله تعالى.

المجرى الأول منهما ما يكون عاما، وذلك ينحصر فى صورتين

المجرى الأول منهما ما يكون عامّا، وذلك ينحصر فى صورتين ، الصورة الأولى منهما، أن يشتهر استعمال المجاز بحيث يكون استعمال الحقيقة مستنكرا وهذا نورد فيه أمثلة ثلاثة: «المثال الأول» : حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كقولنا «حرّمت الخمر» والتحريم مضاف إلى الخمر، وهو بالحقيقة مضاف إلى الشرب، وقد صار هذا المجاز أعرف من الحقيقة، وأسبق إلى الفهم منها كما ترى. «المثال الثانى» : تسميتهم الشىء باسم ما يشابهه، وهذا نحو تسميتهم حكاية كلام المتكلم بأنه كلامه، كما يقال لمن أنشد قصيدة لامرىء القيس: بأنه كلام امرىء القيس لأنّ كلامه بالحقيقة هو ما نطق به، وأما حكايته فكلام غيره، فإضافته إلى الغير مجاز، لكنه قد صار حقيقة، لسبقه إلى الأفهام، بخلاف الحقيقة. «المثال الثالث» : تسميتهم الشىء باسم ما له تعلق به، وهذا نحو تسميتهم قضاء الحاجة بالغائط، وهو المكان المطمئن من الأرض، فإذا أطلق الغائط فإن السابق إلى الفهم منه مجازه، وهو قضاء الحاجة، دون حقيقته، وهو المكان المطمئن فصارت هذه الأمور المجازية حقائق بالتعارف من جهة أهل اللغة، تسبق إلى الأفهام معانيها دون حقائقها الوضعية اللغوية. «الصورة الثانية» : قصر الاسم على بعض مسمياته، وتخصيصه به وهذا نحو لفظ الدابة، فإنها جارية فى وضعها اللغوىّ، على كلّ ما يدبّ من الحيوانات من الدودة، إلى الفيل. ثم إنها اختصّت ببعض البهائم، وهى ذوات الأربع من بين سائر ما يدبّ، بالعرف اللغوى، فهذا مثال. «المثال الثانى» : الملك، مأخوذ من الألوكة، وهى الرسالة، ثم إنه اختصّ ببعض الرسل، وهم رسل السماء، أعنى الملائكة. «المثال الثالث» : لفظ الجنّ، والقارورة، فإنه موضوع لكل ما استتر عنك، ولما كان مقرّا للمائعات، ثم اختصّ الجنّ ببعض من يستتر عن العيون، واختصّت القارورة ببعض الآنية، دون غيره مما يستقر فيه. فالعرف اللغوىّ لا ينفكّ عن هاتين الصورتين دون غيرهما، ولم يثبت جريه على خلافهما، فلهذا لم يجر إثباته فصارت هذه الألفاظ جارية على جهة الحقيقة على معانيها بالعرف اللغوى، ومعنى الحقيقة حاصلة فيها فلا جرم قضينا بكونها حقائق عرفية لما ذكرناه.

المجرى الثانى فى التعارف وهو العرف الخاص،

المجرى الثانى فى التعارف وهو العرف الخاص، وهو ما كان جاريا على ألسنة العلماء من الاصطلاحات التى تخص كلّ علم، فإنها فى استعمالها حقائق وإن خالفت الأوضاع اللغوية، وهذا نحو ما يجريه المتكلمون فى مباحثاتهم فى علوم النظر كالجوهر، والعرض، والكون، وما يستعمله النحاة فى مواضعاتهم، من الرفع، والنصب، والجزم، والحال، والتمييز، وما يقوله الأصوليون فى جدلهم من الكسر والقلب والفرق، وما يستعملونه فى مجارى أنظارهم، كالعامّ والخاص، وغير ذلك، وما يجرى على ألسنة أهل الحرف والصناعات، فى صناعاتهم وحرفهم فإن لهم أوضاعا واصطلاحات على أمور، كاصطلاحات العلماء فيما ذكرناه وقد صارت مستعملة فى غير مجاريها الوضعية، يفهمونها فيما بينهم، وتجرى على وفق مصطلحاتهم، مجرى الحقائق اللغوية بحسب تعارفهم عليها، وتجرى فى الوضوح مجرى الحقائق اللغوية. النوع الثالث فى [الحقائق الشرعية] ونعنى بها أنها اللفظة التى يستفاد من جهة الشرع وضعها لمعنّى غير ما كانت تدلّ عليه فى أصل وضعها اللغوىّ. وتنقسم إلى: أسماء شرعية، وهى التى لا تفيد مدحا ولا ذما عند إطلاقها كالصلاة، والزكاة، والحج، وسائر الأسماء الشرعية. وإلى دينية: تفيد مدحا وذما، وهذا نحو قولنا مسلم، ومؤمن، وكافر وفاسق إلى غير ذلك من الأسماء الدينية ولا خلاف بين العلماء فى كون هذا النقل ممكن، وأنه غير متعذّر، وإنما النزاع فى وقوعه، فالذى ذهب إليه أئمة الزّيديّة والجماهير من المعتزلة، أنّ هذه الأسماء قد صارت منقولة بالشرع إلى معان أخرى، وصارت معانيها اللغويّة نسيا منسيا، فالصلاة مفيدة لهذه الأعمال المخصوصة وهكذا حال الزكاة، والصوم، فهى مفيدة بهذه المعانى على جهة الحقيقة دون غيرها من معانيها اللغوية. فأما الأشعريّة فقد اتفقوا على أنها دالة على معانيها اللغوية بكلّ حال، وأنّ النقل الشرعىّ بالكلية فى حقها باطل، ولكن اختلفوا، فالذى ذهب إليه القاضى أبو بكر الباقلّانى منهم أنها باقية فى الدّلالة على معانيها اللغوية، من غير زيادة. وأنكر النقل بالكليّة، وأما الشيخ أبو حامد الغزالى فإنه قال: إنها دالّة على معانيها

المسألة الثالثة فى بيان أحكام الحقائق

اللغوية، لكن الشرع قد تصرّف فيها تصرّفا آخر، فالصلاة، دالة على الدعاء، ولكن على هذه الكيفية المخصوصة المزيد عليها بهذه الزيادات الشرعية، والصوم، دال على الإمساك، لكن بشرط اعتبارات أخر. وأمّا ابن الخطيب الرازى فزعم أن إطلاق هذه الألفاظ على هذه المعانى الشرعية، على جهة المجاز من المعانى اللغوية التى تدل عليها. فحاصل كلامه هذا أنها دالة على معانيها اللغوية بحقائقها، وعلى معانيها الشرعية بمجازاتها. والمختار عندنا تفصيل قد نبّهنا عليه فى الكتب الأصوليّة. وحاصله أنّ الشرع قد نقلها إلى إفادة معان أخر، وأنها غير خالية عن الدلالة على معانيها اللغوية، وأنها قد صارت حقائق فى معانيها الشرعية، ويدلّ على ما قلناه من كونها دالة بحقائقها على هذه المعانى الشرعية، أمران، أحدهما: أن السابق إلى الفهم هو هذه المعانى الشرعية، عند إطلاقها، وهذه أمارة كون اللفظ حقيقة فى معناه لما سنقرّره بعد ذلك، ولهذا فإنه لو قيل فلان يصلى لم يسبق إلى الفهم إلّا هذه الأعمال. ومن جملتها الدعاء. وثانيهما أنها قد أفادت عند إطلاقها معنى مصطلحا عليه فى خطاب الشرع، كما أفاد قولنا: فرس، وإنسان معانيهما اللغوية عند الإطلاق، فكما قضينا بكون هذه حقائق فى دلالتها على معانيها، فهكذا حال هذه الألفاظ الشرعية تكون حقائق من غير تفرقة بينهما. المسألة الثالثة فى بيان أحكام الحقائق اعلم أنا قد قرّرنا فيما سلف أن الحقائق منقسمة إلى ما تكون حاصلة من جهة اللغة، وإلى ما يكون حصوله من جهة العرف. وإلى ما تكون متلقّاة من جهة الشرع، ودللنا على كل واحدة من هذه الحقائق. ونحن الآن نردف ما يتعلق بكل واحد من هذه الأقسام من الأحكام. الحكم الأول يختص بالوضع اللغوى اعلم أن الحقيقة اللغوية لا يقضى بكونها حقيقة فيما دلت عليه إلّا إذا كانت مستعملة فى موضوعها الأصلى فلا بدّ من سبق وضعها أولا، فإذا استعملت فى الحالة الثانية من وضعها فى موضوعها الأصلى فهى حقيقة، وإن كانت مستعملة فى خلافه فهى مجاز، ومن ههنا قال المحققون: إن الوضع الأول، ليس مجازا، ولا حقيقة، وهذا صحيح، وبيان

الحكم الثانى في أن الحقائق العرفية من ضرورتها أن تكون مسبوقة بالوضع اللغوى

ذلك هو أن الحقيقة استعمال اللفظ فى موضوعه الأصلى، فإذن الحقيقة لا تكون حقيقة إلّا إذا كانت مسبوقة بالوضع الأول، والمجاز هو المستعمل فى غير موضوعه الأصلى، فيكون أيضا مسبوقا بالوضع الأول. فثبت بما ذكرناه أن الشرط فى كون اللفظ حقيقة، أو مجازا، حصول الوضع الأول وعلى هذا يجب أن يكون الوضع الأول خاليا عن الحقيقة والمجاز لما ذكرناه. الحكم الثانى [في أن الحقائق العرفية من ضرورتها أن تكون مسبوقة بالوضع اللغوىّ] اعلم أن الحقائق العرفية من ضرورتها أن تكون مسبوقة بالوضع اللغوىّ، لأنها فيما ذكرناه فى استعمالها فى مجاريها العامّة، والخاصّة، أمّا قصر الاسم على بعض مسمياته، فلا بدّ فيه من سبق وضع عامّ، وأمّا سبق المجاز إلى الفهم فيكون حقيقة، وهكذا حال ما يجرى فى الاستعمال الخاص، فإنه لا بدّ من أن يكون مسبوقا بالوضع اللغوىّ حتى يحصل فى العرف مقصورا على بعض مجاريه. فعرفت بما حققناه أنه لا بدّ من صيرورة ما يكون حقيقته عرفية من سبق الوضع اللغوىّ عليها. فإذن الحقيقة اللغوية متوقفة على الوضع بالأصالة، والحقيقة العرفية متوقفة على الوضع اللغوىّ الذى تكون فيه حقيقة. فهو المتوقف على الوضع بالأصالة. الحكم الثالث فى الحقائق الشرعية اعلم أن النقل فى الحقائق الشرعية، والدينية، لابدّ من أن يكون مسبوقا بالوضع اللغوىّ، وهو خلاف الأصل لا محالة، لأنه متوقّف على سبق الوضع فى اللغة، والوضع اللغوىّ ليس مسبوقا بغيره، فلهذا قلنا إنه على خلاف الأصل ويتفرّع على القول بصحة النقل فروع ثلاثة: الفرع الأول منها لا شك فى جرى التواطؤ فى الألفاظ الشرعية، كالإيمان والإسلام فإنهما يطلقان على أعمال مختلفة كالأقوال والأفعال والاعتقادات باعتبار أمر يجمعها، وهو التصديق والانقياد، وهذا هو المعتبر فى جرى الألفاظ المتواطئة، كقولنا: الإنسان، والحيوان، فإنها تطلق باعتبار أمر جامع لها مع اختلاف أعيانها وأفرادها، وذلك الأمر هو الإنسانيّة، والحيوانية، ولا خلاف فى هذا، إنما الخلاف فى جرى الأسماء المشتركة، فى الألفاظ الشرعية. منعه بعضهم والحقّ جوازه ووقوعه. والذى يدلّ على ذلك ما تعلمه فى لفظ

الفرع الثانى

الصلاة، فإنها مقولة على حقائق كثيرة، لا تتفق فى معنى واحد. وهذا نحو صلاة الأخرس، وصلاة الجنازة، وما لا قيام فيه للعجز، والمرض، والصلاة بالإيماء بالرأس. والعينين، والحاجبين، وليس بين هذه الأمور قدر مشترك، وإنما هى مشتركة فى إطلاق لفظ الصلاة عليها، فلهذا قضينا بكونها مشتركة كما نقوله فى جميع الألفاظ المشتركة. الفرع الثانى الألفاظ على كثرتها لا تخرج عن الاسمية، والفعلية، والحرفية، فكما وجد الاسم الشرعىّ، فهل يوجد الفعل الشرعىّ والحرف الشرعىّ، أم لا؟ فالأقرب أنهما غير موجودين فى وضع الشرع، والبرهان على ما قلناه، هو أنا إنما قضينا بوجود الاسم الشرعى، لأجل الاستقراء والتّتبّع لموضوعات الشرع، فوجدنا فى الأسامى ما قد غيّره الشرع عن موضوعه اللغوىّ، فلا جرم قضينا بوقوعه. وما عداه لم تدلّ عليه دلالة، فلهذا بطل اعتباره، ولأن الحرف دالّ على معنى فى غيره فلا وجه لكونه شرعيا، وأما الفعل فهو دالّ على وقوع المصدر فى زمان معين، فإن كان المصدر شرعيا، كان الفعل تابعا له فى كونه شرعيا، فإن وجب كونه شرعيا، فإنما كان ذلك بالمتابعة دون القصد، وإن كان المصدر لغويا كان الفعل لغويا لا محالة، فقد حصل غرضنا أن الفعل لا يكون شرعيا بنفسه بحال. الفرع الثالث الخبر فى اللغة هو ما يحتمل الصدق والكذب. والإنشاء فى اللغة، هو ما لا يحتمل صدقا ولا كذبا، كالأمر والنهى، والدّعاء والتمنى، والتّرجّى، إلى غير ذلك مما يكون إنشاء، فإذا عرفت ذلك فنقول: لا شك أن قولنا: نذرت، وبعت واشتريت، وتصدّقت، وطلّقت، وعتقت، إخبارات فى وضع اللغة لاحتمالها الصّدق والكذب، وإنما التردد إذا وضعت لأحداث هذه الأحكام من النّذر، والبيع والشراء والتصدق والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من تحصيل هذه الأحكام، فهل تكون إخبارات، أم إنشاءات، والأقرب أنها بحقيقة الإنشاء أشبه، لأمرين، أمّا أولا: فلأنها لو كانت موضوعة للإخبار، لكان حال الإخبار لوقوع مخبراتها، إما أن تكون فى الحال، أو فى

القسم الثانى ما يتعلق بالمجاز على الخصوص

الماضى، وهما باطلان، لأنها لو وقعت فى هذين الزمانين لا متنع تعليقها بالشرط، لأن الشرط لا يمكن تعليقه بالماضى، والحال. فبطل كونها إخبارا فى هذين الزمانين، ومحال أن تكون إخبارا فى الأزمنة المستقبلة، لأن قول المطلّق لامرأته أنت طالق، ليس بأقوى فى تصريحه بالزمن المستقبل، من قوله ستصيرين طالقا فى المستقبل، ولو صرّح بالتطليق فى المستقبل، لم تكن طالقا، فهكذا ما هو أضعف فى الدلالة على المستقبل، وهو قوله أنت طالق أولى ألّا يقتضى وقوع الطلاق، فبطل كونه دالا على الاستقبال. وأما ثانيا: فلأنها لو كانت موضوعة للإخبار، لكان لا يخلو حالها، إما أن تكون كاذبة، أو صادقة، فإن كانت كاذبة فلا عبرة بها، ولا التفات إليها فى تحصيل مقصودها، وإن كانت صادقة فهو باطل أيضا، لأن قولنا أنت طالق، إذا كان خبرا فلابدّ من أن يسبق مخبره ليكون مطابقا له، فيكون صدقا، فكان يلزم على هذا أن يكون الطلاق واقعا قبل حصول قولنا أنت طالق، وهذا محال، فظهر بمجموع ما ذكرناه ههنا أن الطلاق إنما يكون واقعا بقوله أنت طالق لا غير، وهذا هو فائدة الإنشاء وثمرته، ويؤيّد ما ذكرناه أنه للإنشاء قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ [الطلاق: 1] وهذا أمر بالتطليق، فيجب أن يكون قادرا عليه، ومدوره لا ينصرف إلّا إلى قوله: طلّقت، وفى هذا دلالة على كونه مؤثرا فى الطلاق، وهو المقصود، فهذا ما أردنا ذكره من قسم الحقيقة وما يختص بها. القسم الثانى ما يتعلق بالمجاز على الخصوص المجاز مفعل واشتقاقه إما من الجواز الذى هو التعدى فى قولهم: «جزت موضع كذا» إذا تعدّيته، أو من الجواز الذى هو نقيض الوجوب، والامتناع، وهو فى التحقيق راجع إلى الأول، لأن الذى لا يكون واجبا ولا ممتنعا يكون مترددا بين الوجود والعدم، فكأنه ينتقل من الوجود إلى العدم، أو من العدم إلى الوجود، فاللفظ المستعمل فى غير موضوعه الأصلّى، شبيه بالمتنقّل، فلا جرم سمى مجازا، فإذا تمهدت هذه القاعدة فالمقصود من المجاز يتحصل بذكر مسائل. المسألة الأولى فى ذكر حقيقة [المجاز] وبيان حده وقد أكثر العلماء فيه الخوض، وأحسن ما قيل فيه: ما أفاد معنى غير مصطلح عليه فى الوضع الذى وقع فيه التخاطب لعلاقة بين الأول والثانى. ولنفسّر هذه القيود، فقولنا:

خيال وتنبيه

«ما أفاد معنى» عامّ فى الحقيقة والمجاز، لأن كل واحد منهما دالّ على معنى، وقولنا «غير مصطلح عليه فى الوضع الذى وقع فيه التخاطب» يفصله عن الحقيقة، لأنا إذا قلنا: أسد، ونريد به الرجل الشجاع، فإنه مجاز لأنه أفاد معنى غير مصطلح عليه فى الوضع الذى وقع فيه التخاطب، والخطاب إنما هو خطاب أهل اللغة، وهو غير مفيد لما وضع له أوّلا، فإنه وضع أولا بإزاء حقيقة الحيوان المخصوص، وقولنا لعلاقة بينهما لأنه لولا توهّم كون الرجل بمنزلة الأسد فى الشجاعة، لم يكن إطلاق اللفظ عليه مجازا، بل كان وضعا مستقلّا، فلهذا لم يكن بدّ من ذكر هذا القيد. خيال وتنبيه فإن قال قائل: قولكم فى حدّ المجاز إنه «ما أفاد معنى غير مصطلح عليه فى أصل تلك المواضعة» يؤدى إلى خروج الاستعارة عن حدّ المجاز، وبيانه أنا إذا قلنا على جهة الاستعارة، رأيت أسدا، فالتعظيم والمبالغة الحاصلان من هذه اللفظة المستعارة ليس لأنا سّميناه باسم الأسد، ولهذا فإنه لو جعلناه علما لم يحصل التعظيم والمبالغة بذلك، بل إنما حصلا، لأنا قدّرنا فى ذلك الشخص صيرورته فى نفسه على حقيقة الأسد، لبلوغه فى الشجاعة التى هى خاصة الأسد الغاية القصوى، ومتى قدّرنا حصوله على صفة الأسدية وحقيقتها، أطلقنا عليه الاسم، وبهذا التقدير يكون اسم الأسد مستعملا فى نفس موضوعه الأصلّى، ويبطل المجاز. «والجواب» أنه يكفى فى حصوله المبالغة والتعظيم أن يقدّر أنه حصل له من القوة ما كان للأسد، وعلى هذا يكون استعمال لفظ الأسد فى معنى يخالف موضوعه الأصلى، وبهذا التقرير يحسن وجه الاستعارة، وتتضح حقيقة المجاز. وهم وتنبيه فإن قال قائل: إنّ ما جعلتموه حدّا للمجاز يوجب عليكم أن تكون اللفظة الشرعية، كالصلاة والزكاة وما أشبهها مجازا، وبيانه أن لفظ الصلاة، والزكاة، قد أفادا معنى غير مصطلح عليه، فيلزم أن يكونا مجازين، قد قرّرتم أنها حقائق شرعية. «والجواب» أن فيما ذكرناه فى حدّ المجاز ما يدرأ هذا الاعتراض ويبطله، ألا ترى أنا قلنا فى حدّه: «ما أفاد معنى غير مصطلح عليه فى الوضع الذى وقع فيه التخاطب» ولفظ

التعريف الأول ذكره الشيخ عبد القاهر الجرجانى،

الصلاة والزكاة وإن أفادا معنى غير مصطلح عليه فإنما هو باعتبار وضع اللغة، لا وضع الشرع، فإنهما أفادا معنى مصطلحا عليه فى الأوضاع الشرعية، فلهذا كانا بالحقائق الشرعية أخلق، كما أوضحناه من قبل، وكما ذكروا فى تعريف الحقيقة أمورا غير مرضيّة، فقد ذكروا فى تعريف المجاز أيضا، ونحن نذكرها ونظهر وجه ضعفها. التعريف الأول ذكره الشيخ عبد القاهر الجرجانىّ، وحاصل ما قاله فى المجاز، هو كلّ كلمة أريد بها غير ما وضعت له فى وضع واضعها لملاحظة بين الثانى والأول، وهذا التعريف فاسد لأنه يقتضى خروج الحقيقة الشرعية، والعرفية إلى حدّ المجاز وخروجها عن حدّ الحقيقة وأنه غير جائز، لأن كل واحد منهما قد أريد به غير ما وضع له، وليسا بمجازين، وقد أشرنا فى ماهية الحقيقة إلى تأويل كلامه، فلا يرد عليه هذا الاعتراض. التعريف الثانى ذكره أبو الفتح ابن جنى، وحاصل ما قاله أنه ما لم يقرّ فى الاستعمالات على أصل وضعه فى اللغة، وهذا فاسد بأمرين، أما أوّلا: فلأنه يبطل بالأعلام المنقولة من نحو أسد، وثور، فإنّ هذه الأعلام لم تبق على استعمالاتها فى اللغة، بل قد نقلت إلى هذه الأشخاص، والمعلوم أنها لا تكون مجازات، ولا يدخلها المجاز بحال، وأما ثانيا: «فلأن ما هذا حاله يبطل بالحقائق العرفيّة، والشرعية، فإنه قد استعملت فى غير ما وضعت له فى أصل اللغة، ولم تقرّ على تلك الاستعمالات اللغوية، ولا يقال بأنها مجازات. التعريف الثالث ذكره الشيخ أبو عبد الله البصرى، وحاصل ما قاله أنه ما أفيد به غير ما وضع له، وهذا فاسد بالحقائق العرفية، والشرعية، فإنه قد أفيد بها غير ما وضعت له، فيلزم أن تكون مجازات، وقد قرّرنا كونها حقائق، فلا وجه لتكريره. التعريف الرابع قاله ابن الأثير، وحاصل قوله فى حقيقة المجاز: أنه ما أريد به غير المعنى الذى وضع له فى أصل اللغة، وهذا فاسد بما ذكرناه فى الحقائق العرفية، والشرعية فإنها قد أفادت خلاف ما وضعت له فى اللغة، فكان يلزم أن تكون مجازات وهو باطل.

دقيقة

دقيقة اعلم أنّ إطلاق لفظ المجاز على ما يفيده، ليس على جهة الحقيقة، وإنما يطلق على جهة المجاز، لأمرين، أمّا أوّلا: فلأن الحقيقة فى هذا اللفظ، إنما هو التعّدى والعبور، وحقيقة ذلك إنما تحصل فى انتقال الجسم من حيّز إلى حيّز آخر، فأما فى الألفاظ فلا يجوز ذلك فى حقها، وإنما تكون على جهة التشبيه، وهذا هو فائدة المجاز ومعناه، وأمّا ثانيا: فلأن المجاز وزنه «مفعل» وبناء المفعل حقيقة إمّا فى المصدر، كالمخرج، والمدخل، وإمّا فى المكان، والزمان، إذا أريد به زمان الدخول، والخروج، ومكانهما، فأما الفاعل فليس مستعملا فيه فيقال بأنه حقيقة كما قرّرنا من قبل أن اسم الحقيقة فعيلة بمعنى فاعلة، أو مفعولة، وعلى هذا يكون استعماله فى اللفظ المنتقل عمّا كان عليه فى الأصل لا يليق إلا مجازا. المسألة الثانية فى تقسيم المجاز اعلم أن المجاز واسع الخطو فى الكلام كثير الدّور فيه وليس يخلو حاله إمّا أن يكون واردا فى مفردات الألفاظ أو فى مركباتها، أو يكون واردا فيهما جميعا، فهذه مراتب ثلاث لابّد من كشف الغطاء عنها، وبيان أمثلتها بمعونة الله. المرتبة الأولى فى بيان [المجازات المفردة] وهذا نحو استعمال الأسد فى الرجل الشجاع، والبحر فى الكريم، والحمار، فى البليد إلى غير ذلك من المجازات المفردة وجملة ما نورده من ذلك أمور خمسة عشر. أولها: [تسمية الشىء باسم الغاية] التى يصير إليها، وهذا نحو تسميتهم العنب بالخمر لما كان يصير إليها، والعقد بالنكاح، لما كان موصّلا إليه، فلأجل توهمهم المبالغة أطلقوا هذه الألفاظ على ما ذكرناه وإن لم تكن حاصلة على ما ذكرناه لما كانت غايتها إليها. وثانيها: [تسمية الشىء بما يشابهه] ، وهذا نحو تسميتهم المذلّة العظيمة، بالموت، والمرض الشديد، بالموت أيضا وهكذا الأمور الهائلة، والأهوال العظيمة، ووجهه المجاز إما من أجل المشابهة، وإمّا لأنها تؤدّى إليه. وثالثها: [تسميتهم اليد باسم القدرة] كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] أى قدرته، وقولهم: يد فلان على غيره قاهرة ووجه المجاز من جهة أن اليد محلّ للقدرة، أو

ورابعها: تسمية الشىء باسم قائله،

من جهة أن اليد آلة فى الفعل، والفعل لا يمكن حصوله إلا بواسطة القدرة، فلأجل هذا تجوّزوا في تسمية اليد بالقدرة. ورابعها: [تسمية الشىء باسم قائله] ، حيث قالوا: سال الوادى، والحقيقة سال ماء الوادى فإسناد السّيلان إى الوادى من باب المجاز المركب، وتسمية الماء بالوادى من باب المجاز المفرد لما كان الوادى قابلا له. وخامسها: [تسمية الشىء باسم ما يكون ملابسا له] كما سمّوا المطر بالسماء، فقالوا جادتنا السماء، لما كان المطر نازلا منها. وسادسها: [إطلاقهم الاسم أخذا له من غيره، لاشتراكهما فى معنى من معانيه] ، كما أطلقوا لفظ الأسد على الشجاع باعتبار الشجاعة، وكما أطلقوا الحمار على البليد، لأجل البلادة، وهذا هو الذى يقال إنه من باب الاستعارة. وسابعها: [تسمية الشىء باسم ضدّه] ، كقوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وفَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] وقوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] فيمكن أن يقال إن وجه المجاز ههنا، تسمية الشىء باسم ضدّه، وإذا جاز إطلاق اللفظة الواحدة على الضدّين فى لسانهم، كإطلاق الحنيف على المعوجّ، والمستقيم، والسّدفة على الضوء، والظلام، جاز إطلاق السيئة على جزائها كما يطلق عليها نفسها، ويمكن أن يقال: إن هذا من باب التشبيه فى المجاز، لأن جزاء السيئة، يشبهها فى كونها سيئة، بالنسبة إلى من وصل إليه ذلك الجزاء. وثامنها: [تسمية الكل باسم الجزء] كإطلاق لفظ العموم، مع أن المراد منه الخصوص، كقوله تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) [المائدة: 120] فقد خرج من هذا كثير من الموجودات التى لا يقدر عليها، فالعموم صار مجازا فى الخصوص. وتاسعها: [تسمية الجزء باسم الكلّ] كما يقال للزنجى: إنه أسود، فقد اندرج بياض أسنانه، وبياض عينيه، فى هذا الإطلاق، وتسمية اسم الكل باسم الجزء أولى من عكسه لأن الجزء لازم للكلّ، والكلّ لا يلازم الجزء. فذلك كان أحقّ لأجل الملازمة. وعاشرها: [إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتقّ منه] ، كإطلاق قولنا: قاتل وضارب، بعد فراغه من القتل والضرب، فإنّ إطلاقه على جهة الحقيقة فى الحال، فأمّا بعد ذلك فهو مجاز.

وحادى عشرها: المجاورة،

وحادى عشرها: [المجاورة] ، وهذا كنقل اسم الرّاوية، من ظرف الماء إلى ما يحمل عليه من الجمل وغيره. ونحو تسمية الشراب بالكأس لأجل مجاورته له. وثانى عشرها: [إطلاق لفظ الدابة على الحمار] ، فإنه كان بالوضع اللغوى لكل ما يدبّ، كالدودة، والنملة ثم تعورف على قصره على ذوات الأربع من الدوابّ، فإذا قصر من ذوات الأربع على الحمار، كان هذا مجازا بالإضافة إلى العرف لا محالة. وثالث عشرها: [المجاز بالزيادة] ، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] فالكاف ههنا مزيدة، لأنها لو أسقطت لاستقام الكلام، فلهذا كان مجيئها للزيادة المجازية ورابع عشرها: [المجاز بالنقصان] ، وهذا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] فإن المراد أهل القرية، ولهذا فإنه لو جىء بها لصحّ الكلام واستقام. وخامس عشرها: [تسمية المتعلّق باسم المتعلّق] ، كتسمية المعلوم علما، والمقدور قدرة، كما قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] أى معلومه، وقولهم هذه قدرة الله، أى مقدوره. فهذه جميع الوجوه المجازية فى الألفاظ المفردة، وأكثر أهل التحقيق معترفون بإثبات المجازات المفرد، وقد أنكرها بعضهم، والحجّة على ما قلناه، هو أن أهل اللغة قد استعملوا الأسد، فى الرجل الشجاع، وفى البليد الحمار، مع اعترافهم بأن لفظ الأسد، والحمار، موضوعان فى أوّل الأمر على هذين الحيوانين، وإنما أطلقوهما على ما ذكرناه على جهة المجاز، لما بين مفهوميهما وبين هذين الأمرين من المشابهة، وهذا هو مرادنا من المجاز. واحتجّ المنكرون للمجاز فى المفردات بأن اللفظ لو أفاد المعنى على وجه المجاز لكان إما أن يفيد مع القرينة المخصوصة، أو بدون القرينة، والأول باطل، لأنه مع القرينة المخصوصة لا يفيد خلاف ذلك، وعلى هذا يكون مع تلك القرينة حقيقة، لا مجازا، وهو بدون القرينة غير مفيد أصلا، فلا يكون حقيقة، ولا يكون مجازا، فحصل من مجموع ما ذكرناه، على هذا التقدير أن اللفظ لا يكون مجازا لا حال القرينة، ولا حال عدم القرينة، وهذا هو مطلوبنا. والجواب أن اللفظ الذى لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز بعينه، ولا يقال: بأن اللفظ مع القرينة يصير حقيقة فيما دلّ عليه لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية، حتى يحصل المجموع لفظا دالا على المعنى، وإنما دلالتها عقلية، فإن سلموا ما ذكرناه، فهو المجاز، وإن زعموا أنه يكون حقيقة بما ذكروه، كان خلافا فى العبارة.

المرتبة الثانية فى المجازات المركبة

المرتبة الثانية فى [المجازات المركبة] وحاصل الأمر فى ذلك هو أن يستعمل كلّ واحد من الألفاظ المفردة فى موضوعه الأصلى، لكن المجاز إنما حصل فى التركيب لا غير، وهذا كقوله «1» : أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كرّ الغداة ومرّ العشىّ فكلّ واحد من هذه الألفاظ المفردة فيما ذكرناه مستعمل فى موضوعه الأصلى، لكن إنما جاء المجاز من جهة إسناد الإشابة والإفناء إلى كرّ الغداة، وإلى مرّ العشى وهو غير مطابق لما عليه الحقيقة، فإن الإشابة، والإفناء، إنما يحصلان بفعل الله تعالى لا بكرّ الغداة، ولا بمرّ العشىّ، وهكذا قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة: 2] وقوله تعالى: أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] فهذا وأمثاله إنما جاء المجاز فيه من جهة الإسناد والإضافة لا غير، لا من جهة المفردات كما مثّلناه. المرتبة الثالثة فى بيان المجازات الواقعة فى المفردات والتركيب فهذا وأمثاله يحسن موقعه، ويقع فى البلاغة أحسن هيئة، ويكسب الكلام رونقا وطلاوة، ويعطيه رشاقة ويذيقه حلاوة، ومثاله قولك لمن تراعيه: «أحياني اكتحالي بطلعتك» فإنه قد استعمل لفظ الإحياء فى غير موضوعه بالأصالة، وأسند الاكتحال إلى الإحياء، مع أنه فى الحقيقة غير منتسب إليه، فقد حصل المجاز في الإفراد والتركيب معا كما ترى. تنبيه اعلم أن هذه المجازات المركبة التى ذكرناها ومثلناها بقوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة: 2] وقوله تعالى: مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [البقرة: 61] وقوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] وغير ذلك من الأمثلة. فإنها كلها مجازات لغوية استعملت فى غير موضوعاتها الأصلية، فلأجل هذا حكمنا عليها بكونها لغوية. وبيانه هو أن صيغة «أنبت» «وأخرج» «وأخذ» وضعت فى أصل اللغة بإزاء صدور

المسئلة الثالثة فى ذكر الأحكام المجازية

الخروج، والنبات، والأخذ، من القادر الفاعل، فإذا استعملت فى صدورها من الأرض فقد استعملت الصيغة فى غير موضوعها، فلا جرم حكمنا بكونها مجازات لغوية. وقد زعم ابن الخطيب الرازى أن المجازات المركبة كلها عقلية، وهذا فاسد لأمرين، أما أولا: فلأن فائدة المجاز ومعناه حاصل فى المجازات المركبة من كونه أفاد معنى غير مصطلح عليه، فلهذا كان المركب بالمعانى اللغوية أشبه، وأمّا ثانيا: فلأن المجاز المفرد فى قولنا: زيد أسد قد وافقنا على كونه لغويا، فيجب أن يكون المركب أيضا كذلك، والجامع بينهما أن كل واحد منهما قد أفاد غير ما وضع له فى أصل تلك اللغة، فوجب الحكم عليه بكونه لغويّا. المسئلة الثالثة فى ذكر الأحكام المجازية اعلم أنا قد أشرنا إلى تقسيم المجاز فى مفرده ومركبه، وذكرنا فى المفرد أنواعا ترتقى إلى خمسة عشر، وهي وإن تفرّقت في التعديد فهى في الحقيقة راجعة إلى أودية المجاز المعتمدة فيه وهى: التوسع، والاستعارة، والتمثيل، لا تخرج عنها، وإنما أوردناها مفصّلة لما أوردها ابن الخطيب، وكان مولعا بتكثّر التقسيم وله شغف به ويحصل المقصود بذكر الأحكام. الحكم الأول الأصل فى إطلاق الكلام أن يكون محمولا على الحقيقة ولا يعدل إلى المجاز إلا لدلالة، فإذا، المجاز على خلاف الأصل لا محالة لأدلّة ثلاثة: أولها: أنا نقول اللفظ إذا تجرّد عن القرينة، فإمّا أن يحمل على حقيقته وهذا هو المطلوب، فإن الحقيقة هى الأصل، وإما أن يحمل على مجازه، وهو باطل لأن الشرط المعتبر فى حمله على مجازه إنما هو حصول القرينة، ولا قرينة هناك وإمّا أن لا يحمل على حقيقته، ولا على مجازه، وهو باطل لأنه على هذا التقدير يخرج عن أن يكون مستعملا، ونلحقه بالمهملات، وإما أن يحمل عليها جميعا، وهذا باطل أيضا لأنه لو قال الواضع، احملوا هذا اللفظ عليهما جميعا كان حقيقة فى مجموعهما وإن قال: احملوه إما على هذا أو على هذا أو على ذاك، كان مشتركا بينهما وكان حقيقة فيهما. فإذا بطلت هذه الأقسام كلّها تعين ما قلناه من حمله على الحقيقة عند التجرد. وثانيها: أن المجاز لا يمكن تحققه إلا عند نقل اللفظ من شىء إلى شىء آخر لعلاقة

الحكم الثانى

بينهما، وذلك يستدعى أمورا ثلاثة، وضعه الأصلى، ثم نقله إلى الفرع، ثم العلاقة التى بينهما، وأمّا الحقيقة فإنه يكفى فيها أمر واحد، وهو وضعها الأصلّى. والمعلوم أن كل ما كان توقّفه على شىء واحد فهو سابق على ما يكون توقّفه على ذلك الشىء مع أمرين آخرين. وثالثها: أنه لو لم يكن الأصل فى الكلام هو الحقيقة لكان الأصل لا تخلو حاله إمّا أن يكون هو المجاز، ولا قائل به، فيجب القضاء بفساده، أو لا يكون واحد منهما هو الأصل، وهو باطل أيضا لأنه يلزم منه أن يكون كلام الشارع مترددا بين الحقيقة والمجاز، فيكون مجملا لا يمكن فهم المراد من ظاهر خطاباته وخلاف ذلك معلوم فلا حاجة إلى إبطاله. ولما كان ذلك فاسدا علمنا أن الأصل فى الكلام هو الحقيقة، ويؤيّد ما ذكرناه ما روى عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدرى ما الفاطرة حتى اختصم إلّى رجلان فى بئر، فقال أحدهما: فطرها أبى، أى اخترعها. وحكى عن الأصمعى أنه قال: ما كنت أعرف الدّهاق حتى سمعت جارية بدويّة تقول: أسقى دهاقا أى ملانا. فلولا أن السابق من الإطلاق فى الكلام هو الحقيقة، لما فهموا تلك المعانى، لجواز أن تكون مستعملة فى غيرها على جهة المجاز، أو تكون مترددة بين الحقيقة والمجاز. الحكم الثانى اعلم أن الحقيقة إذا كانت هى الأصل فى الكلام كما ذكرتم، فلأىّ شىء يكون التكلم بالمجاز، وما الباعث عليه فنقول: العدول عن الحقيقة إلى المجاز قد يكون لأمر يرجع إلى اللفظ وحده، وإلى المعنى وحده، وإليها جميعا، فهذه مقاصد ثلاثة: المقصد الأول ما يرجع إلى اللفظ على الخصوص وذلك من أوجه؛ أما أولا: فلما يرجع إلى جوهر اللفظ بأن يكون اللفظ الدالّ على المجاز أخفّ من الحقيقة على اللسان، إما لخفّة مفرداته أو لحسن تعديل تركيبه، أو لخفّة وزنها، أو لسلاسته، أو لغير ذلك من الأمور التى تقتضى السهولة فيعدل إلى المجاز لما ذكرناه. وأما ثانيا: فلأن اللفظة المجازيّة ربما كانت صالحة للقافية إذا كان الكلام شعرا منظوما، أو لأجل التشاكل فى السجع إذا كان الكلام منثورا، والحقيقة غير صالحة فى ذلك، أو لأجل أن الكلمة المجازيّة مألوفة الاستعمال، والحقيقة غريبة وحشيّة، فتكون المجازية أخفّ لما يحصل من الأنس المألوف ما ليس يحصل فى غيره.

المقصد الثانى ما يرجع إلى المعنى على الخصوص

وأمّا ثالثا: فربمّا كانت اللفظة المجازية جارية على الأقيسة الصحيحة فى تصريفها في بيانها، والحقيقة منحرفة عن ذلك فلهذا عدل إلى استعمال اللفظة المجازية من أجل ذلك. المقصد الثانى ما يرجع إلى المعنى على الخصوص وذلك من أوجه، أمّا أولا: فلأجل التعظيم كما يقال: سلام على الحضرة العالية والمجلس الكريم، فيعدل عن اللقب الصريح إلى المجاز تعظيما لحال المخاطب، وتشريفا لذكر اسمه عن أن يخاطب بلقبه فيقال: سلام على فلان. وأمّا ثانيا: فلأجل التحقير كما يعبر عن قضاء الوطر من النساء بالوطء وعن الاستطابة بالغائط ويترك لفظ الحقيقة استحقارا له، وتنزّها عن التلفظ به لما فيه من البشاعة والغلظ وقد نزّه تعالى كتابه الكريم وخطابه الشريف عن مثل هذه الأمور، وعدل إلى المجازات الرشيقة لما ذكرناه فقال: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] كناية عن الوطء وقال تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 43] كنى به عن قضاء الحاجة لما فى لفظ الحقيقة من الرّكّة والسماجة. وأما ثالثا: فلأجل تقوية حال المذكور فإذا قلت رأيت أسدا كان أقوى من قولك رأيت رجلا يشبه الأسد كما سنورد الفرق بين الاستعارة والتشبيه، فلا جرم عدل إلى المجاز لمكان هذه القوة. وأمّا رابعا: فلما يحصل فى المجاز من التوكيد بخلاف الحقيقة، فأنت إذا قلت: رأيت أسدا فى سلاحه، وبحرا فى برديه، كان أكثر تأكيدا ووقعا فى النفوس من قولك: رأيت رجلا كريما أو شجاعا لما يحصل فى ذلك من المكانة والمبالغة بذكر المجاز دون الحقيقة. المقصد الثالث ما يرجع إلى اللفظ والمعنى جميعا لما يحصل فى المجاز من تلطيف الكلام وحسن الرشاقة فيه، وتقرير ذلك هو أن النفس إذا وقفت على كلام غير تامّ بالمقصود منه تشوقت إلى كماله فلو وقفت على تمام المقصود منه لم يبق لها هناك تشوّق أصلا، لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم تقف على شىء منه فلا شوق لها هناك، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون بعض فإن القدر المعلوم يحصل شوقا إلى ما ليس بمعلوم، فإذا عرفت هذا فنقول: إذا عبّر عن المعنى باللفظ الدال على الحقيقة حصل كمال العلم به من جميع وجوهه، وإذا عبّر عنه

الحكم الثالث

بمجازه لم تعرف على جهة الكمال فيحصل مع المجاز تشوّق إلى تحصيل الكمال، فلا جرم كانت العبارة بالمجازات أقرب إلى تحسين الكلام وتلطيفه. الحكم الثالث أجمع أهل التحقيق من علماء الدّين، والنّظار من الأصوليين، وعلماء البيان على جواز دخول المجاز فى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم فى كلام نوعيه، المفرد، والمركب، ويحكى الخلاف فى إنكاره عن أبى بكر بن داود الأصفهانى، والحجة على ما قلناه: هو أن خلافه إما أن يكون فى الجواز، أو فى الوقوع، فأمّا الجواز العقلّى فإنه ظاهر فإن الخطاب بالكلام الذى أريد به خلاف ما وضع له جائز من جهة العقل، والقدرة الإلهية لا تعجز عن مثل هذا فلهذا حكمنا به، وأمّا الوقوع فهو ظاهر فى القرآن كثيرا قال الله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ [الإسراء: 24] وقال تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الكهف: 77] وقال تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] ومن المركب قوله تعالى حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] وعلى الجملة فالاستعارة، والتمثيل، والكناية، فى كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم أوسع من أن تضبط بحد، وسنورد من ذلك أمورا منبّهة على حسن البلاغة بالتوسّعات المجازية، وتقرير هذه الدلالة أن هذه المجازات إما أن يراد بها معنى، أو لا، والثانى باطل منزّه عنه كلام الله، والأول إمّا أن يراد به ما وضع له، أو غيره، فإن أريد به ما وضع له فهو باطل، لأن الذّلّ لا جناح له، والإرادة لا تعقل من الجدار، والأخذ من جهة الأرض غير ممكن، لأنها غير قادرة، وإن لم يرد بها ما وضعت له فهذا هو الذى نريده بالمجاز وهو المطلوب. خيال وتنبيه فإن قال قائل: إن ما ذكرتموه من جواز دخول المجاز فى كلام الله تعالى يؤدّى إلى حصول مطاعن فى ذات الله تعالى، وفى صفاته، وفى كلامه، وشىء منها غير جائز فى الله تعالى ولا فى صفاته ولا يليق بخطابه، فيجب القضاء ببطلانه وفساده، وبيانه من أوجه أربعة: أولها: هو أن الله تعالى لو خاطب بالمجاز لكان يجوز وصفه بأنه متجوّز مستعير، وهذا غير لائق بالحكمة.

الحكم الرابع فى كيفية استعمال المجازات

وثانيها: أنه لا فائدة فى العدول إلى المجاز مع إمكان الحقيقة، فالعدول إليه يكون عبثا لا حاجة إليه. وثالثها: هو أن المجاز لا ينبىء عن معناه بنفسه، فورود القرآن به يؤدّى إلى أن لا يعرف مراد الله فيفضى إلى الإلباس وهو منّزه عنه. ورابعها: أن كلام الله تعالى كله حقّ وصواب، وكلّ حقّ فله حقيقة، وكلّ ما كان حقيقة فلا يدخله المجاز، وهذا هو المطلوب. «والجواب» أنا قد أوضحنا بالبرهان العقلّى جوازه وأوردنا من الأمثلة فى وقوعه فى خطاب الله تعالى ما لا مدفع له إلا بالمكابرة والإنكار والمنكارة. قوله أولا: إنه يؤدّى إلى وصفه بأنه متجوّز مستعير، قلنا: هذا فاسد لأمرين، أما أولا: فلأن إجراء الأوصاف الإلهية موردة بالشرع، فما أذن فيه أطلقناه، وما سكت عنه توقّفنا فى حاله، وأما ثانيا: فلعلّ هذه الأوصاف توهم الخطأ مع صحة إجرائها عليه فلا جرم توقفنا فى إطلاقها. وأما قوله ثانيا: إنه لا فائدة فى العدول عن الحقيقة، فقد قرّرنا فيما سلف الباعث على التكلم بالمجاز. وذكرنا هناك أغراضا حكمية تبعث عليه. وأمّا قوله ثالثا: إنّ المجاز يؤدى إلى اللبس، قلنا: إنه لا لبس مع وجود القرينة، والمجازات لا تنفكّ عن القرائن الحالية والمقالية، كما سنذكر من بعد هذا بمعونة الله. وأما قوله رابعا: إن كلام الله تعالى حق، قلنا إن كلام الله حقّ على معنى أنه صدق لا يجوز فيه كذب، لا من أجل كون ألفاظه مستعملة فى موضوعاتها الأصلية، فأين أحدهما من الآخر، وفيه وقع النزاع فبطل ما قالوه. الحكم الرابع فى كيفية استعمال المجازات اعلم أن المجازات اللغوية المفردة يجب إقرارها حيث وردت، ولا يجوز تعدّيها إلّا بتوقيف وإذن من جهة اللغة. وقد زعم فريق أنه يجوز تعدّيها عن أماكنها التى وردت فيها إلى غيرها. والحجّة على ما قلناه هو أن المجازات واردة على خلاف الأصل والاستعمال، فيجب قصرها على الأماكن التى وردت فيها من غير تعدية. ولنضرب فى ذلك أمثلة، المثال الأول فى مجاز النقصان كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] «واسأل العير» ، وقولهم «سل الرّبع» ، فهذه الأمور يجب قصر النقصان فيها

الحكم الخامس

على ما وردت فيه، ولا يجوز تعدّيه ونقله إلى غيره، فلا يقال: سل الدار واسأل الجدار واسأل الشجرة، إلّا بإذن من جهة اللغة يدل على جواز استعماله. المثال الثانى، فى مجاز الزيادة، فإذا ورد المجاز فى زيادة «ما» و «لا» فى نحو قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: 159] وقوله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [المائدة: 13] وزيادة «لا» فى قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: 29] وقوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [فصلت: 34] فيجب إقرار زيادتهما حيث وردتا، ولا يجوز التعدّى إلى زيادة «لم» ولن من حروف النفى. المثال الثالث، إذا استعير لفظ الأسد للرجل الشجاع ووجه الاستعارة بينهما المشاركة فى معنى الشجاعة، فيجب إقراره حيث ورد، ولو جاز تعدّيه لجاز إطلاق اسم الأسد على الرجل الأبخر، وهو المتغّير الفم، فلو كانت المشابهة كافية فى حلّ الإطلاق لجاز ما ذكرناه، فلمّا كان ممنوعا دلّ على ما قلناه من قصره حيث ورد، وهكذا تحذّروا فى إطلاق قولنا: «نخلة» فى الرجل الطويل، ولو جاز تعدّيه لجاز إطلاقها على الحبل من أجل طوله، فلما تعذّر ذلك عرفنا أنه مقصور. فأما المجازات المركبة فالأقرب جواز تعدّيها إلى غير محالها التى وردت فيها، فكما ورد قوله تعالى: أَخَذَتِ الْأَرْضُ [يونس: 82] وأنبتت الأرض وغير ذلك، ورد قولهم: تكاثرت أشواقى، والتكاثر إنما يكون فى الأمور المتحيزة، وقولهم: أسقمنى فقدك، وأحيانى مشاهدتك والنظر إليك، وهذا وارد فى لسانهم كثيرا لا يمكن ضبطه فى الرسائل والمواعظ والخطب، ولابن نباته فى مثل هذا اليد البيضاء كقوله: «إنما الموت حسام أزهق النفس ذبابه» . الحكم الخامس استعمال المجاز مخصوص بالألفاظ دون الأفعال كالقيام والقعود والصوم والهيئات فلا ترد فيها المجازات بحال، وإذا كان مخصوصا بالألفاظ فهى منقسمة إلى الأسماء والأفعال والحروف، فأمّا الحروف، فلا مدخل للمجاز فيها، لأن وضعها على أنها تدلّ على معان فى غيرها فلابدّ من اعتبار الغير فى دلالتها، ثم ذلك الغير إن كانت صالحة للدخول عليه كقولك زيد فى الدار، وعمرو من الكرام، فهى حقيقة فى استعمالها وإن كانت غير صالحة لما دخلت عليه كقولك من حرف جّر، ولم حرف نفى، صارت مجازات لكن التجوّز إنما كان فيها من جهة تركيبها لا من جهة الإفراد، والمنع إنما كان فى حالة الإفراد لا فى التركيب.

القسم الثالث فى ذكر الأحكام المشتركة بين الحقيقة والمجاز

وأما الأفعال فهى دالّة على حصول أحداث فى أزمنة معينة فالفعل الصناعىّ دالّ على المصدر وعبارة عنه، فالمصدر إن وقع فيه مجاز فالفعل تابع له، وإن تعذر وقوع المجاز فى المصدر فالفعل أحق بالتعذر. وأمّا الأسماء فهى أنواع ثلاثة «الاسم العلم» ولا مدخل للمجاز فيه لأنه فى جميع مواقعه أصل، ومن حق المجاز أن يكون مسبوقا بوضع أصلّى ثم ينقل عنه، وأيضا فإن من حق المجاز أن يكون بينه وبين ما نقل عنه علاقة يحسن لأجلها التجوّز والنقل، وهذا غير موجود فى الأعلام، فلهذا بطل التجوّز فيها «والاسم المصدر» وهو المشتق منه قد يدخله المجاز إذا وقع فى غير موضعه كقولك رجل عدل ورضا «والاسم الجنس» وأكثر ما يرد المجاز فى المفرد منه كأسد، وبحر، وليث، وغير ذلك من الأسماء المفردة، ولنقتصر على ما ذكرناه ههنا من أحكام المجاز ففيه كفاية لغرضنا، وستكون لنا عودة فى تحقيق أسرار المجازات فى فنّ المقاصد، وإذ قد أتينا على ما يتعلق بالحقيقة على الخصوص، وما يتعلق بالمجاز على الخصوص، فنذكر ما يكون مشتركا بينهما وبالله التوفيق. القسم الثالث فى ذكر الأحكام المشتركة بين الحقيقة والمجاز «الحكم الأول» اعلم أن اللفظة اللغوية بالنسبة إلى إفادتها لمعناها إذا كانت دالة على أزيد من معنى واحد، فإما أن تكون إفادتها المعنيين على جهة الاستواء من غير تفرقة فيكونان حقيقتين، وهذا هو الاشتراك، وإمّا أن يكون أحدهما سابقا إلى الفهم دون الآخر فيكون بالإضافة إلى السابق حقيقة وبالإضافة إلى الآخر مجازا، فإذا كانت مستعملة فيهما فلا بدّ من تفرقة بين حقيقتها ومجازها، ولأجل مزيد الغموض أكثر العلماء الخوض فى ذلك، وذكروا أمورا غير صالحة للفرق وأمورا صالحة للتفرقة، فهذان تقريران نذكر ما يخصّ كل واحد منهما بمعونة الله تعالى: التقرير الأول للفروق الصحيحة اعلم أن مستند الحقيقة والمجاز إنما هو اللغة لا غير، فإذا كان لا مستند لهما سواها، فيجب أن تكون التفرقة بينهما متلقّاة من جهة أهل اللغة فى الاستعمال، وليس يخلو ذلك إما أن يكون بتعريف يقطع الاحتمال وهو التنصيص، وإما أن يكون بتعريف معرّض للاحتمال وهو الاستدلال، فهذان مجريان:

المجرى الأول وهو التنصيص

المجرى الأول وهو التنصيص وذلك يكون من أوجه خمسة «أولها» أن يصرّح الواضع فيقول: هذا حقيقة، وهذا مجاز، من غير إشارة إلى أمر وراء تصريحه فهذه تفرقة ليس بعدها فى الوضوح شىء ويجب قبولها لأنه كما قبل فى أصل وضعه قبل فى التفرقة لا محالة. «وثانيها» أن يميز كل واحد من الحقيقة والمجاز بحدّ يخصّه لأن الحدود إنما توضع من أجل معرفة الماهيات والتفرقة بينها فإذا وضع لكل واحد منهما حدّ على الخصوص حصلت التفرقة بلا مرية. «وثالثها» أن يذكر لكل واحد منهما خاصّة تخصّه، لأن الخاصة هى تلو الحد فى بيان الماهية خلا أن التفرقة بين الحدّ والخاصّة هو أنّ من شأن الحدّ أن يكون مندرجا تحته جميع الصّور المفردة من المحدود، بخلاف الخاصّة، فإن الخاصّة إنما تكون متناولة لبعض الصّور المفردة دون بعض، ألا ترى أن حدّ الاسم ما دلّ على معنى فى نفسه دلالة مجرّدة عن الاقتران بالأزمنة الخاصة، فهذا يندرج تحته كل الأسماء لا يخرج عنها صورة واحدة، والخاصة فى الاسم إنما هو دخول التنوين، واللام، والإضافة، وغيرها، وهذا إنما يخصّ بعض الأسماء دون بعض. «ورابعها» : أن ينص واضع اللغة فى بعض الألفاظ على أنى متى استعملت هذه اللفظة فى هذا المحل فهى حقيقة، ومتى استعملتها فى محلّ آخر فهي مجاز، ومثاله أن البلق مجموع السواد والبياض، فيقول مثلا متى استعمل فى الخيل فهو حقيقة ومتى كان مستعملا فى غيرها فهو مجاز فهذا ظاهر يجب قبوله. «وخامسها» : أن ينصّ واضع اللغة بأن يقول متى استعملت هذه اللفظة مطلقة فهى حقيقة، ومتى استعملتها مقيّدة فهى مجاز، فيجب الاحتكام لقوله فيما ذكرناه، ولا يجوز مخالفته لأنهم الواضعون لألفاظ اللغة فلهم التحكّم فيها كيف شاءوا. المجرى الثانى الاستدلال وذلك أن ندرك من الكلام ما يوقفنا على أمور تشعرنا بالتفرقة بينهما، وذلك من أوجه أربعة: «أولها» : أن تستعمل فى معنيين، أحدهما يكون سابقا إلى الفهم عند إطلاق اللفظ من غير قرينة، والآخر لا يفهم عند الإطلاق إلا بقرينة، فيعلم أنها حقيقة فى السابق دون

التقرير الثانى للفروق الفاسدة

المتأخر فيعلم بالاضطرار إلى قصد الواضع أن اللفظ لولا أنه حقيقة فى ذلك المعنى لما كان سابقا إلى الإفهام دون غيره. «وثانيها» : أن يعلم من أهل اللغة أنهم متى أرادوا إفهام معنى من المعانى غيرهم، اقتصروا على عبارات مخصوصة، وإذا عبروا بذلك اللفظ عن معنى آخر لم يقتصروا عليها. بل ذكروا معها قرينة، فيعلم قطعا بهذا التصرف أن الأول حقيقة، والثانى مجاز إذ لولا علمهم بكون ذلك اللفظ حقيقة لذلك المعنى لما اقتصروا عليه. «وثالثها» : أنهم إذا علّقوا الكلمة بما يستحيل عقلا تعلقها به، علم أنها فى أصل اللغة غير موضوعة لها فيعلم كونها مجازا فيها وهذا كقوله تعالى فى النقصان وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] فإنه يستحيل عقلا تعلّق المجىء بالذات، لاستحالته عليها، فيعلم أن استعمالها مجاز بالنقصان، وأن الأصل وجاء أمر ربك وكقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] فإنه لا يمكن سؤال القرية، فعلمنا أنه لا بدّ هناك من محذوف تقديره واسأل أهل القرية. وفى الزيادة كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] فإنا لو خلّيناه وظاهر الآية كان المنفى إنما هو مثل مثل الله تعالى لا مثله على الإطلاق، والعقل يأبى ذلك ويبطله، فعرفنا أن ذكر الكاف زيادة وأن الحقيقة حذفها ونقصانها. «ورابعها» : أن يضعوا لفظا لمعنى ثم تركوا استعماله على العموم وأطلقوه على بعض مجاريه كذوات الأربع، ثم قصروه بعد ذلك على بعض تلك المجارى، كالحمار، فعلمنا كونه مجازا بالإضافة إلى وضعه العرفى، ومثاله لفظ الدابة فإنها بالوضع اللغوى لكل حيوان، ثم تعورف وضعها فى ذوات الأربع من الحيوانات وصار حقيقة فيها عرفا، فإذا قصروها على الحمار من بين ذوات الأربع كان مجازا لا محالة بالإضافة إلى العرف، فهذه هى الفروق الواضحة، وقد أوردها ابن الخطيب الرازى ولنقتصر عليها ففيها غنية وكفاية. التقرير الثانى للفروق الفاسدة اعلم أن الشيخ أبا حامد الغزالى قد أورد أمورا للتفرقة بين المجاز والحقيقة، ولا بد من إيرادها وإظهار وجه فسادها وجملتها أربعة: «أولها» : أن الحقيقة جارية على الاطراد، والمراد بالاطراد جريان الحقيقة فى كل موضع

بخلاف المجاز، فإنه يجب إقراره حيث ورد كما قدمناه شرحه، والمثال فى ذلك هو أن قولنا عالم قادر، لما صدقا على كل واحد ممن له قدرة وعلم وجب صدقهما على كل ذى علم وقدرة فى جميع المحالّ، وعلى هذا يكون جريها شاهدا وغائبا على جهة الحقيقة لأجل الاطراد، وأما المجاز فليس حاله ما ذكرناه من الاطراد، ولهذا فإنه لما استعمل السؤال فى القرية، والعير، فإنه لا يستعمل فى الجدار والشجرة وهذا فاسد لأمور ثلاثة، أما أولا فلأن مستندنا فى كون هذه اللفظة حقيقة وكونها مجازا إنما هو أمر الواضع وتقريره فيجب أن يكون مستندنا فى التفرقة بينهما هو أمر الواضع وتقريره أيضا، وههنا لم تدل دلالة لغوية من جهة الواضع على أن الاطراد علامة للحقائق ولا أن عدم الاطراد أمارة للمجازات، فلابد فيه من دلالة لغوية، فلم يزد فيه على مجرد الحكم من غير إشارة فيه إلى دلالة لغوية فلا يقبل وأما ثانيا: فلأنه قد يعرض للحقيقة ما يمنع من اطّرادها لعارض، ويعرض للمجاز ما يوجب اطراده لعارض فجعل الاطراد من علامات كون اللفظ حقيقة وإبطال الاطراد من أمارة كونه مجازا لا وجه له. وأما ثالثا: فلأنه إن أراد باطراد الحقيقة استعمالها فى جميع موارد نص الواضع فالمجاز مثلها فى ذلك لأنه يجوز استعماله فى جميع موارد نص الواضع فلا يبقى هناك بينهما تفرقة، وإن أراد استعماله فى غير موضع نص الواضع فقد تكون الحقيقة ممنوعة الاطراد لعارض، وإن أراد بالاطراد معنى آخر غير ما ذكرناه فيجب إظهاره حتى ننظر فيه. وثانيها: الامتناع من الاشتقاق دليل على كون اللفظة مجازا، فإن الأمر لما كان حقيقة فى القول اشتق منه اسم الفاعل للآمر واسم المفعول للمأمور، وإنه لما لم يكن حقيقة فى الفعل لم يوجد هذا الاشتقاق، وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأن الاشتقاق معناه أخذ لفظة من لفظة باعتبار أمر جامع لهما فى المعنى، وما هذا حاله فإنه لا إشعار له البتة بكون اللفظ حقيقة فيما وضع له ولا مجازا، وأما ثانيا فلأن اسم الرائحة حقيقة فى معناها، ومع ذلك فإنه لم يشتق منها اسم. وثالثها: قوله: إن اختلاف صيغة الجمع على الاسم، يعلم أنه حقيقة فى أحدهما ومجاز فى الآخر، وذلك نحو الأمر الحقيقى فإنه يجمع على أوامر وإذا أريد به الفعل وهو المجاز فإنه يجمع على أمور، وهذا فاسد جدّا لأمرين، أما أولا: فلأن أبنية الجموع مختلفة فى أنفسها باختلاف أبنية الأسماء المفردة فى ثلاثيها ورباعيها وأصلها وزائدها، وما هذا حاله

خيال وتنبيه

فإنه لا دلالة فيه على كون اللفظ مجازا ولا حقيقة، وأما ثانيا: فلأنه ليس بأن يدل قولنا أوامر على كون الأمر حقيقة فى القول بأحق من أن يدل على كونه مجازا، ولا قولنا أمورا فى العقل بأن يدل على كونه مجازا أولى من أن يكون حقيقة، بل نقول دلالة قولنا أوامر على كونه مجازا أحق من دلالته على كونه حقيقة لأن جمع أمر على أوامر على خلاف القياس، فلهذا كانت دلالته على المجازية أحق، وجمع أمر على أمور جار على القياس، فكانت دلالته على كونه حقيقة أولى، فبطل ما توهمه. ورابعها: أن المعنى الحقيقى إذا كان متعلقا بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له بشىء كان مجازا، وعلى هذا لفظ القدرة إذا أريد به الصفة القادرية كان لها متعلق وهو المقدور، وإذا أطلق على إتيان الحسن لم يكن له متعلق فيعلم كونه مجازا، وهذا فاسد أيضا لاحتمال أن يكون مقولا بالاشتراك عليهما فيكون حقيقة فيهما، لكن اتفق أن له بحسب أحد الحقيقتين متعلقا دون الأخرى، فهذه زبدة ما عوّل عليه الشيخ أبو حامد الغزالى فى هذه الفروق الفاسدة، وكأنه إنما أتى له الفساد من جهة تعويله على أمور عامة ليست صالحة للتفرقة، فلهذا بطل ما عول عليه. خيال وتنبيه فإن قال قائل: هلّا أوردتم من جملة الفروق الفاسدة بين الحقيقة والمجاز الكلام فى التعريفات الفاسدة التى حكيتموها عن الشيخ أبى عبد الله البصرى، وعبد القاهر الجرجانى، وأبى الفتح ابن جنى وغيرهم من علماء الأدب وعددتموها من جملتها فإن من أخطأ فى تعريف الماهية أخطأ لا محالة فى التفرقة بينهما، فكان ينبغى عدها من جملة الفروق الفاسدة؟ «والجواب» من وجهين، أما أولا: فلأن الكلام فى تعريف الماهية بمعزل عن الكلام فى التفرقة بين الأمرين فلا يمزج أحدهما بالآخر، لأن الكلام فى التعريفات إنما هو كلام فى الماهية، ومعرفة الذات والكلام فى التفرقة إنما هو كلام فى الأحكام ومعرفة الخصائص، فأحدهما مخالف للآخر كما ترى. وأما ثانيا فلعلهم يذهبون معنا إلى القول بالفروق الصحيحة، وإن ذهبوا إلى تعريفهما بالتعريفات الفاسدة كما حكيناه عنهم، فخطأهم فى التعريفات الفاسدة لا يكون خطأ فى الفروق لانحراف أحدهما عن مقصد الآخر فظهر لك مما ذكرناه أن أحدهما مخالف للآخر.

الحكم الثانى

الحكم الثانى من شرط المجاز أن يكون مسبوقا بالحقيقة، وليس من شرط الحقيقة أن يكون لها مجاز، أما الأول: فبيانه أن المفهوم من حقيقة المجاز هو ما كان مستعملا فى أمر يخالف موضوعه الأصلى، فهذا يوجب أن يكون قد وضع فى الأصل لمعنى آخر، ومتى استعمل اللفظ فى ذلك الموضوع فهو حقيقة فيه وهذا هو المقصود. وأما الثانى فبيانه هو أن مفهوم الحقيقة هو اللفظ الذى استعمل فى نفس موضوعه الأصلى وليس يلزم من كون اللفظ موضوعا لمعنى أن يكون موضوعا فى معنى آخر بينه وبين الأول علاقة وإذا كان الأمر كما قلناه حصل المقصود من أنه لا يلزم من كل حقيقة أن يكون لها مجاز لما لخصناه والله أعلم. الحكم الثالث الحقيقة قد تكون مجازا، والمجاز قد يصير حقيقة، أما صيرورة الحقيقة مجازا فلأن الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا عرفيا. ومثاله إطلاق لفظ الدابة على الدودة والنملة، فإنه لما تعورف فى إطلاقه على ذوات الأربع حتى صار حقيقة فيه فصار إطلاقه على النملة مجازا بالإضافة إلى الحقيقة العرفية وقد كان حقيقته فى أول وضعه على كل ما يدب من الحيوانات. وأما صيرورة المجاز حقيقة فلأن المجاز إذا كثر استعماله صار حقيقة عرفية. ومثاله قولنا الغائط، فإنه كان مجازا فى قضاء الحاجة، وحقيقته المكان المطمئن من الأرض ثم تعورف هذا المجاز وكثر حتى صار حقيقة سابقة إلى الفهم. الحكم الرابع اللفظ فى نفسه قد يكون خاليا عن المجاز وحده، وقد يخلو عن الحقيقة والمجاز معا، وذلك يكون فى صور ثلاث. الصورة الأولى: الأسماء الأعلام من نحو زيد، وعمرو وذلك لأنها لم توضع فى الأصل دالة على شىء بعينه، كدلالة قولنا: حيوان، ورجل، وسواد، ولكنها ألقاب وضعت للتفرقة بين المسميات وليست أجناسا دالة على موضوع معين، فإذا دلت على موضوعها الأصلّى فهى حقيقة، وإذا كانت مستعملة فى غيره فهى مجازات، ولكنها موضوعة للتفرقة بين الأعلام خارجة عن الدلالة على الصفات، فلا جرم قضينا بخروجها عن المجاز والحقيقة جميعا.

الحكم الخامس

الصورة الثانية: ما يكون خاليا عن المجاز ويكون حقيقة على الإطلاق وهذا نحو الأسماء المضمرة من نحو قولنا: هو، وهم، وهن، وأنا، ونحن، وإياك وجميع الأسماء التى أضمرت، ونحو أسماء الإشارة من قولهم ذا، وذاك، وذان وهؤلاء، ومثل الأسماء المبهمة الأسماء التى لا إبهام فوقها كالمعلوم، والمذكور والمجهول، فإن هذه الأمور كلها نصوص فيما دلت عليه ظاهرة المعانى مستعملة فى حقائقها التى وضعت لها، ولا يجرى فيها المجازات بحال، لأن كل ما وضعت له فهى حقيقة فيه، فهى وإن خرجت عن استعمال المجاز فهى باقية على استعمالها حقائق فى كل مجاريها، نعم قد يجرى المجاز فى الأعلام بالنقصان كما يقال: قرأت سيبويه، وقرأت: البويطى والمزنى، والزمخشرى، والمراد كتاب هؤلاء، وقد يجرى المجاز فى بعض المضمرات كقولنا: «نحن» فإنه حقيقة فى الجمع، وقد يقال للواحد العظيم مجازا، وقد يجرى المجاز فى أسماء الإشارة كقولك: أعجبنى هذا الرجل، وإن كان غائبا عنك، لأن الحقيقة فيه لمن كان حاضرا بقربك. الصورة الثالثة: لما يكون خاليا عن الحقيقة والمجاز جميعا، ويجوز ورودهما فيه بعد ذلك، وهذا هو أول الوضع فى الأصل، فإنه ليس مجازا، لأنه لم يستعمل فى غير موضوعه ولا حقيقة لأنه لم يستعمل فى موضوعه، لأنه لم يسبق بوضع فيقال: إنه قد استعمل فى موضوعه فيكون حقيقة، فلهذا خرج عن أن يكون حقيقة أو مجازا. الحكم الخامس فى اللفظ الواحد هل يكون حقيقة ومجازا على الجمع، أم لا؟ فنقول: أما بالإضافة إلى معنيين فهو كثير، ومثاله قولنا «أسد» فإن حقيقته هو الحيوان المخصوص، ومجازه الرجل الشجاع. وقولنا: «حمار» فإنه حقيقة فى الحيوان، ومجازه فى البليد، و «البحر» حقيقة فى المياه، ومجاز فى الكريم وأما بالإضافة إلى معنى واحد باعتبار وضعين، فهذا ممكن. ومثاله قولنا «دابة» فإنه حقيقة فى ذوات الأربع، ومجاز فيما عداها فإطلاقها على الحمار حقيقة باعتبار الوضع اللغوى، وهو مجاز بحسب الوضع العرفى، فأما استعمال اللفظة الواحدة مجازا وحقيقة دفعة واحدة فى وضع واحد باعتبار معنى واحد فهو محال، لاجتماع النفى

والإثبات من الجهة الواحدة، لأنها باعتبار كونها حقيقة مستعملة فى موضوعها، وباعتبار كونها مجازا مستعملة لا فى موضوعها فيصير الموضوع حاصلا غير حاصل، وهذا محال. ولنقتصر على هذا القدر من أحكام المجاز ففيه كفاية مع ما ينضم إليه فى أثناء الكتاب وغضونه وبتمامه يتم الكلام فى هذه المقدمة. وقد أطلنا التقرير فيها بعض الإطالة والله الموفق للصواب.

المقدمة الرابعة فى ذكر مفهوم الفصاحة والبلاغة وبيان التفرقة بينهما

المقدمة الرابعة فى ذكر مفهوم الفصاحة والبلاغة وبيان التفرقة بينهما اعلم أنّ هذا الباب من أجل علوم البيان وأعلاها، وأرسخ قواعده وأسماها، وفيه تتفاوت القيم، وتتفاضل الهمم، والذى يتعلق بغرضنا منها هو الكلام فيما يتعلق بالبلاغة على الخصوص، وفيما يتعلق بالفصاحة على الخصوص، ثم نذكر التفرقة بينهما فهذه مطالب ثلاثة. المطلب الأول فى بيان ما يتعلق ب [الفصاحة] على الخصوص الفصاحة فى اللغة عبارة عن البيان والظهور، يقال أفصح العجمى إذا خلص كلامه عن اللكنة واللحن، وأفصح اللبن، إذا ذهب عنه اللباء وزالت عنه الرغوة، وأفصحت الشاة، إذا صفا لبنها عمّا يشوبه، وأفصح الصبح إذا ظهر وعلا ضوؤه، وفيه المثل «أفصح الصبح لذى عينين» . وفى مصطلح علم البيان خلوص اللفظ عن التعقيد فى تركيب الأحرف والألفاظ جميعا، فمتى سلمت اللفظة الواحدة عن تنافر تركيبها ولم تكن من قبيل قولنا: عقجق، ولا من قولهم: «الهعخع» وهو شجر. وسلم تركيب الألفاظ عن التنافر أيضا كما قيل: «ليس قرب قبر حرب قبر» «1» لأن التنافر فى الأول إنما كان من أجل تقارب مخارج تلك الأحرف، وحصل التنافر فى الثانى من جهة تركيب الألفاظ المتقاربة، فحصل من أجل ذلك عثار فى اللسان، وتوعر فى المخارج، فلأجل ذلك كان متنافرا فالألفاظ فى سهولة تركيبها وعثورته وسلاسته ووعورته بمنزلة الأصوات فى طنينها ولذة سماعها، ولهذا فإنه يستلذ بصوت «القمرىّ» ويكره صوت «الغراب» ويستظرف صهيل «الفرس» ويستنكر نهيق «الحمار» فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن مقصودنا من الفصاحة يحصل بالبحث عن أسرارها.

البحث الأول فى مراعاة المحاسن المتعلقة بأفراد الحروف

البحث الأول فى مراعاة المحاسن المتعلقة بأفراد الحروف ولنشر منها إلى تقسيمين، التقسيم الأول: باعتبار مخارجها وهو أنواع ثلاثة: النوع الأول: مخرج الحلق، وله سبعة أحرف، ولها منه مخارج ثلاثة فللهمزة، والهاء، والألف أقصى الحلق، وللعين والحاء أوسطه، وللغين، والخاء أدناه. النوع الثانى: الشفهيّة وهى الباء، والفاء، والميم، والواو. النوع الثالث: حروف اللسان وهو ما عدا هذين المخرجين على تفاوت فيها فى حافات اللسان ومدارجه ووقوعها فى طرفه، ووسطه، وأقصاه، وموضعه كتب النحاة. التقسيم الثانى: باعتبار ما يعرض لها فى أنفسها من الجهر، والهمس، والشدة، والرخاوة، واللين، والإطباق، والانفتاح، والانخفاض، والاستعلاء وغير ذلك. فالأحرف الشفهية أخف الأحرف موقعا، وألذها سماعا، وأسلسها جريا على الألسنة. وحروف الذلاقة منها وهى الراء، واللام، والنون، لأن مخرجها من ذولق اللسان وهو طرفه، ويكثر استعمالها فى الكلام، وما ذاك إلا من أجل خفة مجراها وطيب نغمتها، وسهولتها على النطق، ولهذا فإنك لا ترى كلمة رباعية أو خماسية معراة من حروف الذلاقة إلا على جهة الندرة والقلة وجدت فى كلام العرب كالعسجد، اسم للذهب، والعذيوط، وهو الذى يحدث على فراشه وغيرهما، فدخول هذه الأحرف فى الأبنية من أجل ترقيقها وتلطيفها، وحسنها على المسموع، وما من واحد من الأحرف السبعة والعشرين العربية إلا وهو مختص بنوع فضيلة لكنها متفاوتة فى الصفاء والرقة، ولهذا فإنك تجد «العين» أنصع الحروف جرسا وألذها سماعا و «القاف» مختصة بالوضوح، والمتانة، وشدة الجهر فإذا وقعا فى كلمة حسناها لما فيهما من تلك المزية، وهكذا كل حرف منها له مزية لا يشاركه فيها غيره، فسبحان من أنفذ فى الأشياء دقيق حكمته وأحكم المكونات بعجيب صنعته. فمتى روعيت هذه الاعتبارات وألفت الكلمة من هذه الأحرف السهلة كان الكلام فى نهاية العذوبة وجرى على أسلات الألسنة بالسلاسة وخفة المنطق، وهذا هو المراد بكون الكلام فصيحا كما سنوضح القول فى كون الفصاحة من عوارض الألفاظ أم من عوارض المعانى.

البحث الثانى فى بيان ما يجب مراعاته من حسن التركيب

البحث الثانى فى بيان ما يجب مراعاته من حسن التركيب اعلم أن هذا النظر إنما يختص بالمفردات فإنها وإن كانت مختلفة أعنى مفردات الحروف فى العذوبة والسلاسة فإن شيئا منها غير مستكره، لكن الاستكراه إنما يعرض من أجل التأليف لما يحصل بسببه من التنافر والثقل، فلأجل هذا كانت العناية فى أحكام التركيب والتأليف لأنه ربما حصل على وجه يفيد رقة اللفظ وحلاوته فيكون حسنا، وربما حصل على وجه يفيد ثقلا وتعثّرا فى اللسان فيكون قبيحا، فإذن العناية كلها فى التركيب فنقول: قد بان من حسن تصرف واضع اللغة امتناعه من الجمع بين العين والحاء، وبين الغين والخاء، ومن الجمع بين الجيم والصاد، وبين الجيم والقاف، وبين الذال المعجمة والزاى، وما ذاك إلا لما يحصل من تأليف هذه من البشاعة والثقل على الألسنة فى النطق، وليس ذلك من أجل ما يحصل من تقارب مخارج الحروف وتباعدها كما يزعمه ابن سنان وغيره من أرباب هذه الصناعة، فإنهم عوّلوا على أن القرب منها يكون سببا فى قبح اللفظ، والتباعد فى المخرج فيها يكون سببا فى حسن اللفظ، وهذا فاسد فإنه ربما يعرض لما كانت حروفه متباعدة استكراه فى النطق، وهذا كقولنا: «ملع» أى عدا فالعين من حروف الحلق، والميم من الشفة، واللام من وسط اللسان، ومع ذلك فإنها ثقيلة على اللسان ينبو عنها الذوق ولا تستعمل فى كلام فصيح، وربما عرض لما تقاربت حروفه حسن الذوق فى اللسان فكان حسنا ومثاله قولنا: ذقته بفمى، فإن الباء والفاء والميم كلها أحرف متقاربة شفوية وهى رقيقة حسنة يخف محملها على اللسان، فبطل ما عول عليه هؤلاء، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن مستند الإعجاب فى حسن تأليف اللفظة من هذه الأحرف العربية، إنما هو الذوق السليم، والطبع المستقيم، لا من أجل ما زعموه ويؤيد ما قلناه من ذلك وهو أن مستند الحسن والقبح والإعجاب والنفور فى تأليف الكلام إنما هو سلامة الطبع وتحكيم الذوق، هو أن الكلمة الواحدة إذا ألّفت تأليفا مخصوصا كانت فى غاية الركة على اللسان يزدريها كل من سمعها فإذا عكست صارت أرق ما يكون على الألسنة وألطف وأعجب، ومثاله قولنا: ملع فإنها ركيكة كما أشرنا إليه فإذا قلب تأليفها قلبا مخففا وقيل فيها «علم» من العلم كانت أوقع ما يكون فى الفصاحة وأدخل ما يكون فى

الرقة واللطافة، والأحرف فيهما واحدة من غير اختلاف، وما وقع الاختلاف إلا فى التأليف لا غير، وربما وقع فى الألفاظ ما يكون هو ومقلوبه فى غاية الحسن والرقة لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا كقولنا «غلب» إذا قهر، فإذا قلبته قلت «بلغ» فهاتان اللفظتان سواء فى الفصاحة، وهذا كقولنا «ملح» الشىء من الملاحة، فإذا قلبته قلت فيه: «حلم» من الحلم والرجاحة، فكل واحد منهما لا مزيد على حسنه، وكل هذا يدلك على أن المعول عليه فى ذلك هو ما يجده الإنسان عند التأليف من الذوق والرقة، ولهذا فإنك ترى الكلمات المستعملة فى كلام الله تعالى والسنة النبوية مؤلفة تأليفا معجبا على نهاية اللطافة والرشاقة والرقة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أنه لابد من مراعاة أمور فى تأليف الكلمة لتكون فصيحة. «أولها» : أن لا تكون تلك الأحرف متنافرة فى مخارجها فيحصل الثقل من أجل ذلك. «وثانيها» : أن تكون معتدلة فى الوزن فإن الأوزان ثلاثة: ثلاثية ورباعية وخماسية، فأكثرها استعمالا هو الثلاثى، وما ذاك إلا لخفته، وأبعدها فى الاستعمال الخماسى لأجل كثرة حروفه، وأوسطها الرباعى لحصوله بين الأمرين، والتعويل فى ذلك على الذوق، فإنها ربما كثرت وهى خفيفة على اللسان كقوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] وكقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 35] ، ولهذا عيب على امرىء القيس فى قوله: غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص فى مثنّى ومرسل «1» وثالثها: توالى الحركات فإذا حصل سكون الوسط كان أعدل ما يكون وأرق وإن توال ثلاث فتحات فهو أخف من حصول الضم فى وسطه، فلهذا فإن فرسا، أخف من عضد، والمعيار فى ذلك هو عرضه على ما قلنا من تحكيم الذوق، ولهذا فإنه قد يتوالى ضمتان وهو غير ثقيل كقوله تعالى ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) [القمر: 47] وقوله: فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) [القمر: 57] فالتعويل على ما ذكرناه فى كل أحواله وبالله التوفيق.

البحث الثالث فى مراعاة المحاسن المتعلقة بمفردات الألفاظ

البحث الثالث فى مراعاة المحاسن المتعلقة بمفردات الألفاظ اعلم أن هذا البحث متعلقه اللفظة الواحدة على انفرادها، وهو مخالف لما سبق مما أودعناه البحث الثانى، لأنه نظر يختص مفردات الحروف، وكيفية تأليفها فلا جرم كان مخالفا لما قبله، واعلم أن من الناس من زعم أنه لا قبيح فى الألفاظ وأنها كلها حسنة لأن الواضع لا يضع إلا الحسن، وهذا فاسد لأمرين أما أولا فلأنه لو كان الأمر كما زعموه لكان لا تقع التفرقة بين الألفاظ فى الأبنية، والأوزان، والخفة، والثقل، ولما عرفنا تفاوتها فى ذلك تحققنا أن منها ما يكون فى غاية الرقة واللطافة، ومنها ما يكون فى نهاية الثقل والبشاعة، وأما ثانيا: فلأنه كان يلزم أن لا تقع التفرقة بين الشاذ، والمألوف، والنادر، والمستعمل، من جهة الوضع، فلما كان الأمر فى ذلك ظاهرا بطل ما توهموه. ولنضرب فى ذلك أمثلة ثلاثة توضح المقصود: المثال الأول: أسماء الخمر كثيرة ترتقى إلى خمسين اسما كلها متفاوتة فلفظ الخمر أحسن من قولنا زرجون وإسفنط، ولفظ السلافة أعجب من قولنا قرقف وخندريس. المثال الثانى: فى أسماء الأسد وهى كثيرة فقولنا: أسد أحسن من قولنا: فدوكس، وهرماس، وقولنا: ورد، وهزبر، أحسن من قولنا غضنفر وما ذاك إلا من أجل اختصاص بعض الألفاظ برقة ورشاقة تخالف اللفظ الآخر. المثال الثالث: فى أسماء السيف فإن لفظ الصارم، والمهند، والسيف، أحسن من لفظ خنشليل فمثل هذا كيف يمكن دفعه، وأنت إذا تأملت جميع ما ورد من ألفاظ التنزيل والسنة الشريفة وجدتهما على نهاية الكمال فى مراعاة الألفاظ الرقيقة والخفيفة والمألوفة، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن الفصاحة فى الألفاظ المفردة يجب أن تكون مختصة بخصائص: الخاصة الأولى: أن تكون اللفظة عربية قد تواضع عليها أهل اللغة، لأن الفصاحة والبلاغة مخصوصان بهذا اللسان العربى دون سائر اللغات من الفارسية والرومية والتركية فلا مدخل لهذه الألسنة فى فصاحة وبلاغة، نعم ليس بمنكر استعمال شىء من هذه اللغات على جهة التعريب له، وقد ورد فى القرآن الكريم استعمالها، وحسن موقعها لما

عربت واستعملها العرب كما ورد فى «السجيل» و «الإستبرق» و «المشكاة» وورد فى اللغة العربية «كاللجام» و «الفرند» و «الإسفنط» وغير ذلك، وقد أنكر أبو بكر الباقلانى أن يكون فى القرآن شىء من غير لغة العرب، وهذا خطأ. فإن هذه الألفاظ لا يمكن إنكار ورودها فى القرآن ولا يسمع جعلها من لغة العرب، فإنها غير جارية على قياسها فى الأوزان والأبنية. الخاصة الثانية: أن تكون جارية على العادة المألوفة فلا تكون خارجة عن الاستعمال، فتكون شاذة عن الاستعمال المطرد فى معناها، وبنائها، وإعرابها، وتصريفها، لأن كل واحد من هذه الأمور له قياس يحصره، ومعيار يضبطه يجرى على مطرد القياس والعادة المألوفة، ولأن الفصاحة إنما تكون إذا كان اللفظ جاريا على ما ذكرناه فلأجل هذا وجب مراعاة ما ذكرناه وأنت إذا تصفحت آى القرآن وألفاظ السنة النبوية وجدتها كلها جارية على المعيار الذى لخصناه ولا تخرجان عنه بحال، فما خالف أوضاع اللغة فهو مردود، كمن يضع لفظ السماء يريد به الأرض، وما خالف الأبنية المقيسة فهو مردود أيضا، وما كان أيضا مخالفا للأقيسة الإعرابية فى رفع الفاعل ونصب المفعول ومخالفا للأقيسة التصريفية من قلب الواو والياء المفتوح ما قبلها ألفا، فهو لحن مردود، والكلام الفصيح مجنّب عما ذكرناه. الخاصة الثالثة: أن تكون تلك اللفظة خفيفة على الألسنة لذيذة على الأسماع حلوة فى الذوق، فإذا كانت اللفظة بهذه الصفات فلا مزيد على فصاحتها وحسنها، ولهذا فإن ألفاظ القرآن يخف جريها على اللسان وتلذها الأسماع ويحلو مذاقها، وما كان على خلاف ما ذكرناه فلا مزيد على قبحه، ومخالفته لمنهاج الفصاحة والبلاغة جميعا فيما يكون ثقيلا على الألسنة كريها وحشيا فى غاية البشاعة، ولنضرب له أمثلة: المثال الأول: لفظة «جحيش» فإنه وقع فى شعر «تأبط شرا» فى أبيات الحماسة فى قوله: يظل بموماة ويمسى بغيرها ... جحيشا ويعرورى ظهور المهالك «1» فإنها قبيحة جدا، ونظيرها قولنا: «فريد» فإنه بمعناها، وبينهما بون لا يدرك بقياس.

المثال الثانى قولنا: «اطلخمّ الأمر كما وقع لأبى تمام حيث قال «قد قلت لما اطلخم الأمر» فإن هذه اللفظة منكرة قبيحة مجانبة للكلم الفصيحة. المثال الثالث قولهم جفخت كما وقع فى شعر أبى الطيب المتنبى قال: جفخت وهم لا يجفخون بها بهم «1» والمراد فخرت وهذه اللفظة من مستقبحات الألفاظ ومستهجناتها فما هذا حاله ينبغى تجنبه. الخاصة الرابعة: أن تكون اللفظة مألوفة فى الاستعمال فلا تكون وحشية، ويقرب معناها فلا يبعد تناوله، فيكون سهلا بالإضافة إلى لفظه، سريع الوقوع فى النفوس بالإضافة إلى معناه، وقد زعم بعض النظار من أهل هذه الصناعة أن الكلام الفصيح ما كان فى ألفاظه عنجهية الغرابة وبعد عن الأفئدة الإحاطة بمعناه وعز عن الأفهام إدراكه، فما هذا حاله يصفونه بالفصاحة، وهذا جهل بمحاسن الفصاحة وأوضاع البلاغة فإنك ترى ألفاظ القرآن والسنة النبوية مع بلوغهما كل غاية من الفصاحة بحيث لا يدانيهما كلام فى غاية البيان والظهور بالإضافة إلى ألفاظهما، وفى نهاية القرب بمعانيهما، وقد وصف الله كتابه الكريم بأنه بيان وتبيان، ولهذا فإنه لا يكاد يشكل من ألفاظ القرآن والسنة على أحد إلا من جهة التركيب لا غير، فأما مفرداتهما ففى غاية الوضوح والبيان والظهور، فمتى حصلت هذه الخواص التى ذكرناها لكل لفظة كانت الغاية، وعد الكلام فصيحا بلا مرية. الخاصة الخامسة: أن يكون اللفظ مختصا بالجزالة والرقة ولسنا نعنى بالجزالة فى الكلام أن يكون وحشيا فى غاية الغرابة فى معانيه والوعورة فى ألفاظه، ولا نريد بالرقة أن يكون ركيكا نازل القدر سفسافا، ولكن المقصود من الجزالة أن يكون مستعملا فى قوارع الوعيد، ومهولات الزجر وأنواع التهديد، وأما الرقة فإنما يراد بها ما كان مستعملا فى الملاطفات واستجلاب المودة والبشارة بالوعد، والقرآن العظيم وارد بالأمرين جميعا، ولنورد من ذلك أمثلة ثلاثة موضحات مقصودنا مما نريده ههنا. المثال الأول: فى الجزالة وما ورد فيها وهى مخصوصة بذكر أهوال القيامة، والتحفظ على الأوامر والمناهى عن الحدود، وحكاية إيقاع المثلات بالأمم الماضية وغير ذلك مما

يكون خطابا جزلا وقولا فصلا لا هزلا قال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ [الكهف: 47] إلى آخر الآية، وقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] إلى آخر السورة وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف: 133] وقوله تعالى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) [الأنعام: 44] وقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ [التوبة: 5] . وأما الرقة فهو ما كان مستعملا فى الملاطفة والاستعطافات، وأنواع الترحم، ومحادثة القلوب، بذكر الله تعالى إلى غير ذلك، وذلك نحو قوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) [الشرح: 1، 2] إلى آخرها وقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة: 186] إلى آخر الآية وقوله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضحى: 1، 2، 3] إلى غير ذلك من مواقع الملاطفة والإبذان بالرحمة والتقريب للعباد وإعلامهم بعظيم الرحمة والمغفرة. المثال الثانى: ما ورد فى السنة النبوية على مثال ذلك وحذوه، أما الجزالة فكما قال عليه السلام: «يا بن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح، أنت فيما يكفيك وتطلب ما يطغيك لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما رأيت المأخوذين على الغرة المزعجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلهم، فلا ما أمّلوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، قدموا على ما عملوا، وندموا على ما خلفوا، ولن يغنى الندم، وقد جف القلم» فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكلام من جزالة اللفظ. وأما الرقة فكقوله صلّى الله عليه وسلّم «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، واعدد نفسك فى الموتى، فإذا أمسيت فلا تحدثها بالصباح، وإذا أصبحت فلا تحدثها بالمساء، وخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك» . وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله امرأ تكلم فغنم، أو سكت فسلم، إن اللسان أملك شىء للإنسان» إلى غير ذلك من الرقائق فى كلامه وأنواع الملاطفات. المثال الثالث: ما ورد من كلام أمير المؤمنين، كرم الله وجهه فإنه قد تفنن فى أساليب

البحث الرابع فى مراعاة المحاسن المتعلقة بمركبات الألفاظ

الكلام، واستولى منه على بدائعه وغرائبه، وقد نبهنا على ذلك فى شرحنا لكلامه فى نهج البلاغة. فأما الجزالة فمنها قوله لأصحابه: تجهزوا رحمكم الله فقد نودى فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة على الدنيا، وأخرجوا منها قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم، فقدموا بعضا، يكن لكم قرضا، ولا تخلفوا كلّا، فيكون عليكم كلّا. فانظر إلى هذا الكلام ما أجزله وما أوضحه لبيان ما اشتمل عليه وتناوله. وأما الرقة، فمنها قوله عليه السلام: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوى عن الغى والعدوان من لهج به، وقوله عليه السلام فى بعض مناجاته: اللهم صن وجهى باليسار ولا تبذل جاهى بالإقتار، فأفتن بحب من أعطانى، وأبلى ببغض من منعنى، وأنت من وراء ذلك كله ولى الإعطاء والمنع، إنك على كل شىء قدير. وله عليه السلام فى تعليم الحرف، والوعظ، وتذكير الآخرة من الفخامة والجزالة، وفى الرقائق فى تعليم معالم الدين، وإرشاد الخلق إلى مكارم الأخلاق، كلام بالغ، ووعظ زاجر، ما لا يوازيه كلام، ولا يساوى نظمه وإن انتظم أى نظام. البحث الرابع فى مراعاة المحاسن المتعلقة بمركبات الألفاظ وهذا نحو التجنيس كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] والترصيع، كقول عبد الرحيم بن نباتة الواعظ فى بعض خطبه: الحمد لله عاقد أزمة الأمور بعزائم أمره، وحاصد أئمة الغرور بقواصم مكره. والتصريع: وإنما يكون فى المنظوم الشعرى وغير ذلك من فنون البديع، فإن هذه الأمور كلها سنوردها فى فن المقاصد، ونظهر أسرارها وما اشتملت عليه من المحاسن. فصار تأليف الألفاظ والكلم المفردة فى إفادتهما للفصاحة بمنزلة تأليف العقد وانتظامه، فلا بد فى ذلك من مراعاة أمور ثلاثة. أولها: اختيار الكلم المفردة كما فصلناه من قبل، كاختيار مفردات اللآلىء وانتقائها فى حسن جوهرها وصورتها. وثانيها: نظم كل كلمة مع ما يشاكلها أو يماثلها كما يحسن ذلك فى تركيب العقد

المطلب الثانى فى ذكر ما يتعلق ب البلاغة على الخصوص

ونظمه، لأنها إذا حصلت مع ما يشاكلها وقعت فى أحسن موقع وجاءت فى أعجب صورة. وثالثها: مطابقة الغرض المقصود من الكلام على اختلاف أنواعه وتباين فنونه فلا بد من أن يكون موافقا لما أريد به بعد اختصاصه بالتركيب، وهو غرض عظيم، لابد من رعايته ونظيره فى العقد، فإنه بعد إحكام تركيبه وإتقان تأليفه لابد من مطابقته لما صيغ له فتارة يجعل إكليلا على الرأس، ومرة يجعل طوقا فى العنق، وقد يجعل شنفا على الأذن، وإذا خالف فى ذلك بطل المقصود وفات الغرض، فإذا جعل إكليل الرأس على غيره، أو جعل طوق العنق فى غيره بطل المقصود وفات الغرض، والكلام بعد تركيبه إذا وضعته فى غير موضوعه ولم تقصد به ما هو موضوع له انخرم المقصود به وكان خاليا عن البلاغة. فالأمر الأول والثانى من هذه الأمور الثلاثة يتعلق بالفصاحة، لأنها من عوارض الألفاظ، ومجموع الثلاثة كلها هو المراد بالبلاغة، لأنها من عوارض الألفاظ والمعانى جميعا كما سنوضح التفرقة بينهما بمعونة الله تعالى فهذا ما يتعلق بخصوص الفصاحة. المطلب الثانى فى ذكر ما يتعلق ب [البلاغة] على الخصوص اعلم أن البلاغة فى وضع اللغة، هى الوصول إلى الشىء والانتهاء إليه فيقال بلغت البلد أبلغ بلوغا، والاسم منه البلاغة، وسمى الكلام بليغا، لأنه قد بلغ به جميع المحاسن كلها فى ألفاظه ومعانيه، وهو فى مصطلح النظار من علماء البيان عبارة عن الوصول إلى المعانى البديعة بالألفاظ الحسنة. وإن شئت قلت هى عبارة عن حسن السبك مع جودة المعانى، والمقصود من البلاغة هو وصول الإنسان بعبارته كنه ما فى قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخل بالمعانى، وعن الإطالة المملة للخواطر. فإذا تمهدت هذه القاعدة، فلنذكر مواقع البلاغة ثم نذكر مراتبها ثم نردفها ببيان حكمها فهذه مباحث ثلاثة. المبحث الأول فى بيان موقع البلاغة اعلم أن الأشياء فى التحقق والثبوت على مراتب أربع: الأولى منها: تحققها فى الذهن وتصورها، وهذه الرتبة هى الأصل وعليها تترتب

الوجودات الأخر، لأن الشىء إذا لم يكن له تصور فى الذهن وتحقق فإنه لا يمكن وجوده فى الخارج بحال ثم بعض التصورات الذهنية قد يستحيل وجودها فى الخارج كما تقول فى القديم تعالى والقدرة القديمة والحياة القديمة فإن هذه وإن أمكن تصورها فى الذهن لكن لا حقيقة لها فى الخارج بالبرهان العقلى، وتارة يكون له وجود فى الخارج وهو سائر الممكنات. المرتبة الثانية: التحقق فى الأعيان وهذا نحو ما يوجد فى العالم من المكونات، فإن لها تحققا فى الوجود الخارجى والتعين الوجودى، ولسنا نريد بالوجود العينى هو كل مدرك ولكن نريد كل ما حمله الوجود الخارجى عن الذهن، مدركا كان أو غير مدرك. المرتبة الثالثة: الألفاظ الدالة على تلك الصور الخارجية والذهنية فإن ههنا ألفاظا قد وضعت للدلالة عليها لضرب من المصلحة العقلية. المرتبة الرابعة: الكتابة الدالة على تلك الألفاظ فالمرتبتان الأوليان لا يفتقران إلى المواضعة، لأنهما عقليان، والمحتاج إلى المواضعة إنما هو المرتبة الثالثة، والرابعة، ومزية الكمال فى الحسن والجمال تكون فيهما جميعا، والبلاغة تحصل فى كل واحد منهما، لكن الكلام أوسع مجالا وأعظم مضطربا، وفيه وقع التنافس فى البلاغة نظما ونثرا. والكتابة مسبوقة فى المواضعة عليها بالكلام فلا يمكن المواضعة عليها إلا بعد سبق الكلام وقد تفننوا فى الخط أنواعا من التفنن وتوسعوا فيه ضروبا من التوسعات، ولنشر من ذلك إلى تصرفين: التصرف الأول: منها بالإضافة إلى النّقط، وذلك على أوجه أربعة: أولها أن تكون الكلمات المتوالية معراة كلها من النقط، وهذا مثاله قول الحريرى: أعدد لحسادك حد السلاح ... وأورد الآمل ورد السماح وثانيها: أن تكون الكلمات كلها لا حرف منها إلا وهو منقوط ومثاله أيضا ما قاله الحريرى فتنتنى فجننتنى تجنى ... بتجن يفتن غب تجنى وثالثها: أن توجد كلمات، واحدة منها كلها منقوطة وواحدة لا حرف فيها منقوط وهذا كقوله أيضا: «الكرم- ثبت الله جيش سعودك- يزين، واللؤم- غضّ الدهر جفن حسودك- يشين.

المبحث الثانى فى مراتب البلاغة

ورابعها: كلمة واحدة، واحد من أحرفها منقوط، والآخر معرى من النقط، ومثاله قوله أيضا: «أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلبّ» . التصرف الثانى: يرجع إلى الاتصال والانفصال فى الأحرف، وذلك يكون على وجهين، أحدهما أن تكون منفصلة، ومثاله ما قاله بعضهم: وزر دار زرزور وزر دار زاره ودار رداح إن أردت دواء فترى هذه الأحرف حاصلة على جهة الانفصال. وثانيها: أن تكون متصلة كلها وهذا كثير كقوله «فتنتنى فجننتنى» وقد سبق. ولنقتصر على هذا القدر من بلاغة الخط والكتابة. ولنرجع إلى مقصودنا من بيان مواقع البلاغة فى الألفاظ. واعلم أن البلاغة مختصة بوقوعها فى الكلم المركبة، دون المفردة، فلا يوصف الكلام بكونه بليغا إلّا إذا جمع الأمرين جميعا مع حسن اللفظ، وجودة المعنى، فمتى كان هكذا وصف بالبلاغة، فإن كان المعنى جزلا، واللفظ غير فصيح، أو كان اللفظ فصيحا، وكان معناه ركيكا نازلا، فإنه لا يوصف بالبلاغة أصلا، وهذا غير مستبعد. وبيانه بالمثال، فإنّ من كان معه لآل، كل واحد منها فى نهاية النفاسة على انفرادها، ثم ألفها تأليفا نازل القدر فإنه يهون أمرها، حتى يقال: إن هذه ليست تلك من أجل قبح تأليفها. وعكسه من كانت معه لآل نازلة القدر فألفها تأليفا عجيبا، ونظمها نظما رشيقا يعظم فى المرأى موقعها حتى يخيل للناظر أنها غيرها لما يظهر من حسن التأليف، فهكذا حال الكلم المفردة بالإضافة إلى تأليفها ونظمها، فإن فاق اللفظ والمعنى فهو الموصوف بالبلاغة، فإن نقص أحدهما وبطل لم يكن موصوفا بالبلاغة فموقعها الأمران جميعا كما أشرنا إليه. المبحث الثانى فى مراتب البلاغة اعلم أن الألفاظ إذا كانت مركبة لإفادة المعانى، فإنه يحصل لها بمزية التركيب حظ لم يكن حاصلا مع الإفراد، كما أن الإنسان إذا حاول تركيب صورة مخصوصة من عدة أنواع مختلفة أو عقد مؤلف، من خرز ولآلىء، فالحسن فى تركيب الألفاظ غير خاف، ثم ذلك الحسن له طرفان، ووسائط:

المبحث الثالث فى حكم البلاغة

فالطرف الأعلى منه يقع التناسب فيه بحيث لا يمكن أن يزاد عليه، وعند هذا تكون تلك الصورة وذلك النظام فى الكلام فى الطبقة العليا من الحسن والإعجاب، والطرف الأسفل أن يحصل هناك من التناسب قدر بحيث لو انتقص منه شىء لم تحصل تلك الصورة، ثم بين الطرفين مراتب مختلفة متفاوتة جدا. فإذا عرفت هذا فنقول أما الطرف الأسفل فهل يعد من البلاغة أم لا؟ فيه تردد، والحق أنه معدود منها؛ لأنا قد قلنا: إنه طرف لها وما كان طرفا للشىء فهو منه وبعض له، وزعم ابن الخطيب أنه ليس من البلاغة فى شىء، ولا يكون معدودا منها؛ لأن منزلة البلاغة أعلى وأشرف من أن يقال: إنه ليس بين هذا الكلام وبين خروجه عن حد البلاغة إلا أن ينقص منه شىء، فما هذا حاله من الكلام لا يعد من البلاغة أصلا، وأما سائر المراتب فإنها مع تفاوتها فى منازلها فهى معدودة من فن البلاغة خلا أنّ بعضها أبلغ من بعض، فالأعلى أبلغ مما تحته من المراتب. وأما الطرف الأعلى وما يقرب منه فهو المعجز، لأنه ليس فوقه رتبة، لأنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة الحاصلين من جهة مفردات الحروف تارة، ومن جهة تركيبها أخرى. المبحث الثالث فى حكم البلاغة اعلم أنه لا خلاف بين أهل التحقيق من علماء البيان أن الكلام لا يوصف بكونه بليغا إلا إذا حاز مع جزالة المعنى فصاحة الألفاظ، ولا يكون بليغا إلا بمجموع الأمرين كليهما فقد صارت البلاغة وصفا عارضا للألفاظ والمعانى كما ترى. وأما الفصاحة فهل تكون من عوارض الألفاظ، أو تكون من عوارض المعانى، أو لمجموعهما؟ فيه مذاهب أربعة: أولها: أنها من عوارض الألفاظ مجردة لا باعتبار دلالتها على المعانى، وهذا هو الذى يشير إليه كلام ابن الأثير فى كتابه المثل السائر فإنه قال: إنّ الفصاحة مدركة بالسمع، وليس يدرك بحاسة السمع إلا اللفظ، فلهذا كانت مقصورة عليه. وثانيها: أن الفصاحة من عوارض المعانى دون الألفاظ وهذا هو الذى يرمز إليه ابن الخطيب الرازى فى كتابه نهاية الإيجاز، فإنه زعم أن الفصاحة عبارة عن الدلالات المعنوية

لا غير من غير حاجة إلى اللفظ لا على جهة القصد، ولا على جهة التبعية. وثالثها: أن الفصاحة عبارة عن الألفاظ باعتبار دلالتها على مسمياتها المعنوية، وهذا شىء حكاه ابن الخطيب فى كتاب النهاية ولم يعزه إلى أحد من علماء البيان. وحاصل مذهبهم أن الفصاحة عبارة عن الأمرين جميعا، فلا هى من أوصاف اللفظ كما زعمه ابن الأثير على الخصوص، ولا هى من أوصاف المعانى على الخصوص كما حكيناه عن ابن الخطيب. ورابعها: أن تكون الفصاحة مقولة على الأمرين جميعا، فتكون مفيدة لهما جميعا فيكون الأمران جميعا أعنى المعانى والألفاظ من مسمى قولنا: فصاحة، وهذا المذهب يخالف المذهب الثالث، فإن هؤلاء جعلوا اللفظ والمعنى من مدلول لفظ الفصاحة. والذين قبلهم جعلوا اللفظ هو مسمى الفصاحة، لكن اعتبار المعنى على جهة الضم والتبعية لا غير. فهذا تقرير مذاهب العلماء فى مدلول لفظ الفصاحة، وفائدة إطلاقه. والمختار عندنا تفصيل نشير إليه، وهو أن الفصاحة من عوارض الألفاظ، لكن ليس بالإضافة إلى مطلق الألفاظ فقط، ولكن بالإضافة إلى دلالتها على معانيها، فتكون الفصاحة عبارة عن الأمرين جميعا مطلق الألفاظ ودلالتها على ما تدل عليه من معانيها المفردة والمركبة، وهذا المذهب هو الذى حكاه ابن الخطيب عن بعض علماء البيان. ويدل على ما قلناه وجوه ثلاثة: أولها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من البيان لسحرا» والبيان هو الفصاحة، لأن البيان هو الظهور، وذلك لا يستعمل إلا فى الألفاظ، ولا بد من اعتبار دلالتها على معانيها، لأنا لو لم نعتبر ذلك لكانت الألفاظ مما يمجها السمع، وينبو عنها الطبع، فضلا عن أن تكون سحرا. فإذن لا بد من اعتبار الأمرين فى كون الكلام فصيحا، ومراده عليه السلام بقوله «لسحرا» يعنى أنه يحير العقول فى حسنه ورونقه، ودقة معانيه، وعن هذا قال بعضهم: فصاحة المنطق سحر الألباب. وثانيها: أنهم يقولون فى الوصف كلام فصيح، ومعنى بليغ، ولا يقولون معنى فصيح، فدل ذلك على أن الفصاحة من متعلقات الألفاظ، وأن فصاحته إنما كانت باعتبار ما دل عليه من حسن المعنى ورشاقته. وفى هذا دلالة على وجوب اعتبار الأمرين فى فصيح الكلام كما قلناه.

وثالثها: أنا نراهم فى أساليب كلامهم يفضلون لفظة على لفظة، ويؤثرون كلمة على كلمة، مع اتفاقهما فى المعنى، وما ذاك إلا لأن إحداهما أفصح من الأخرى، فدل ذلك على أن تعلق الفصاحة إنما هو بالألفاظ العذبة، والكلم الطيبة ألا ترى أنهم استحسنوا لفظ الديمة، والمزنة، واستقبحوا لفظ البعاق لما فى المزنة، والديمة، من الرقة واللطافة ولما فى البعاق، من الغلظ والبشاعة. ومما أغرق فى اللذة والسلاسة قوله تعالى فى وصف خروج القطر من السحاب: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور: 43] فأين هذا من قول امرىء القيس فى هذا المعنى: فألقى بصحراء العبيط بعاعه فانظر ما بين الودق والبعاع فاختصاص الودق بالرقة واللطافة عما تضمنه، البعاع، من الغلظ والبشاعة دلالة ظاهرة على ما قلناه من أن الفصاحة راجعة إلى اللفظ لأجل دلالته على معناه. فأما من زعم أن الفصاحة متعلقها اللفظ لا غير، فقد أبعد، فإن الالفاظ لا ذوق لها ولا يمكن الإصغاء إلى سماعها إلا لأجل دلالتها على معانيها، فأما إذا خلت عن الدلالة عليها فلا وقع لها بحال، وغالب ظنى أنه لا بد له من اعتبار المعنى، خلا أنه يكون ضمنا وتبعا للألفاظ لا محالة. وأبعد من هذا من زعم أن متعلق الفصاحة فى المعانى فقط، كما حكيناه عن ابن الخطيب فإن المعانى إنما توصف بالبلاغة، فأما الفصاحة فإنها من صفات الألفاظ كما مر بيانه. وعلى الجملة فإن أراد أنه لا بد من اعتبار الأمرين جميعا، اللفظ والمعنى، على أن إطلاق الفصاحة على أحدهما ويكون الثانى تبعا فالخلاف لفظى، وإن أراد أنّ إطلاق اسم الفصاحة إنما يكون على أحدهما على انفراده، فهو خطأ كما أسلفنا تقريره. فهذا ما أردنا ذكره فيما يخص كل واحد منهما.

المطلب الثالث فى بيان ما يكون على جهة الاشتراك بينهما

المطلب الثالث فى بيان ما يكون على جهة الاشتراك بينهما ولنشر من ذلك إلى تقريرين: التقرير الأول فى إظهار التفرقة بينهما. اعلم أنا قد أشرنا من قبل إلى تعريف كل واحد منهما بماهية تخصه وتميزه عن غيره فى ذاته، ونذكر ههنا ما يتميز به كل واحد منهما من جهة الخواص واللوازم، وجملة ما نورده من ذلك تفرقات ثلاث. التفرقة الأولى: من جهة العموم والخصوص، فإن البلاغة أعم من الفصاحة، ولهذا فإن كل كلام بليغ، فإنه لابد من أن يكون فصيحا، وليس يلزم فى كل فصيح من الكلام أن يكون موصوفا بالبلاغة، فالفصاحة والبلاغة بمنزلة الإنسان والحيوان، فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسانا، وهذا يدلك على خصوصية الفصاحة وعموم البلاغة، فالبلاغة شاملة للألفاظ والمعانى جميعا، والفصاحة خاصة بالألفاظ من أجل دلالتها على معانيها كما أوضحناه من قبل. التفرقة الثانية: من جهة الإفراد والتركيب، فالبلاغة إنما يكون موردها فى المعانى المركبة دون المفردة، والفصاحة تكون فى الكلم المفردة كما تكون فى الكلم المركبة، ولهذا فإن الكلمة الواحدة توصف بكونها فصيحة إذا خلصت من التعقيد وسلس مجراها على اللسان، ولا توصف الكلمة المفردة بأنها بليغة، لأن المعنى البليغ إنما يكون حيث ينتظم الكلام ويأتلف من أجزاء، فعند هذا يظهر جوهره فى تأليفه، ويعظم موقعه فى نظمه فلا جرم يوصف بالبلاغة. التفرقة الثالثة: من جهة جرى الأوصاف اللفظية، فإن المعهود عند من قرع سمعه أساليب كلامهم أنهم يصفون البلاغة بما لا يصفون به الكلام الفصيح، وعن هذا قالوا لا يستحق الكلام الاتصاف بالبلاغة حتى يسابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، فلا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، وكما قالوا حتى يدخل إلى الأذن بلا إذن، وحتى يلج فى العقل من غير مزاولة ولا ثقل، وكما يحكى فى وصف رجل من البلغاء بأنه كانت ألفاظه قوالب المعانى، وقالوا فى وصف الفصاحة فى الكلام: بأنه متمكن غير قلق، ولا ناب عن موضعه، وقالوا أيضا: من حقه أن يكون جيد السبك صحيح الطبع وأن من حق

اللفظ أن يكون طبقا لمعناه من غير زيادة ولا نقص وربما يصفونه بالسلاسة والسهولة فى حسن ألفاظه ونظمه، وقد يذمونه بأنه معقد جرز، ولأجل تعقيده استهلك المعنى وأنه غريب وحشى فيه عنجهانية، ويختص بالخشونة فيصفون كل واحد من البلاغة والفصاحة بما يليق به، وفى هذا دلالة على حصول التفرقة بينهما كما ذكرناه، ومن أعجب ما نورد فيما نحن بصدده فى الفصاحة والبلاغة ما وجد فى كتاب زهر الآداب للشيخ أبى إسحاق إبراهيم بن على الحصرى من أوصاف بليغة على ألسنة أقوام من أهل الصناعات، فوصفوا البلاغة على وفق الصناعات فقال الجوهرى: أحسن الكلام نظاما ما ثقبته الفكرة، ونظمته الفطنة وفصل جوهر معانيه فى سموط ألفاظه فاحتملته نحور الرواة. وقال العطار: أطيب الكلام ما كانت فيه عبقة الأفهام ودروزه الحلاوة ولابسه جسد اللفظ وروح المعنى. وقال الصباغ: ما لم ينتقص من إيجازه، ولم تنكشف صبغة إعجازه قد صقلته يد الروية من كمون الأشكال فراع كواكب الآداب، وألف عند ذوى الألباب. وقال القزاز: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوّفا منيرا موشى محبرا. وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج من حد التخليع إلى منزلة التقريب، وكان كالمهر الذى أطمع أول رياضته فى تمام ثقافته. وقال الجمّال: البليغ الذى أخذ بخطام كلامه فأناخه فى مبرك المعنى ثم جعل الاختصار له عقالا، والإيجاز له مجالا، لم يند عن الآذان، ولم يشذ عن الأذهان. وقال المتهم بالريبة: خير الكلام ما تكثرت أطرافه وتثنت أعطافه وكان لفظه حلة، ومعناه حلية. وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته فى مراجل العلم، وصفيته من راووق الفهم وضمنته دنان الحكمة فتمشت فى المفاصل عذوبته، وفى الأفكار رقته، وفى العقول حدته. وقال الفقاعى: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته وعذب مصّ جرعه. وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر دواء بيانه سقم الشبهة استطلقت طبيعته غباوة الفهم فشفى من سوء التوهم، وأورث صحة التفهم. وقال الكحال: خير الكلام ما سحقته بمنحاز الذكاء، ونخلته بحرير التمييز وكما أن الرمد قذى الأبصار، فهكذا تكون الشبهة قذى البصائر، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة. ثم أجمعوا عن آخرهم على أن خير الكلام وأبلغه فى الفصاحة وأجوده، هو الكلام الذى إذا أشرقت شمسه انكشف لبسه. فكل واحد من هؤلاء قد وصف البلاغة مما

التقرير الثانى: فى بيان الشواهد على أسرار الفصاحة، وعجائب البلاغة

اشتملت عليه من اللفظ والمعنى بما يخبر عن صنعته ويعلم من حال حرفته. وأقول: إن أجمع عبارة فى وصف البلاغة والفصاحة، هو ما أجمعوا عليه من قولهم: إن الكلام إذا أشرقت شمس لفظه، انكشف لبس معناه فإنها حاوية لمعانى البلاغة ومستولية على أسرار الفصاحة، فقوله: إذا أشرقت شمسه، يشير به إلى الفصاحة، لما فى الإشراق من الانكشاف والظهور، وقوله: انكشف لبسه، يشير به إلى ما تضمنه من البلاغة، لاشتمالها على إظهار المعانى. ولو قيل: هو الذى إذا طلع شمس لفظه، أضاء نهار معناه، لكان حسنا جيدا. التقرير الثانى: فى بيان الشواهد على أسرار الفصاحة، وعجائب البلاغة ، وهما كما يردان فى المنظوم، يردان فى المنثور، وأحسن مواقعهما ما ورد فى المنثور، ولهذا لم يكن المعجز إلا نثرا وما ورد عن الله تعالى، وعن رسوله، وعن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وعن العرب، من النثر فى المحافل من الخطب أكثر من أن يعد ويحصى، فلا جرم رتبنا إيراد الشواهد على قسمين تمييزا لأحدهما عن الآخر. القسم الأول: فى إيراد الشواهد المنثورة وجملة ما نورده من ذلك ضروب ثلاثة. الضرب الأول: الآى القرآنية ، والقرآن كله معجز لا تخص آية دون آية كما سنقرر إعجازه، ووجه إعجازه فى الفن الثالث بمعونة الله تعالى ولكنا نورد منه آيات ثلاثا، تنبيها بالأقل على الأكثر، لأنه قد بلغ الغاية فيما تضمنه من الغرائب واشتمل عليه من الأسرار والعجائب. الآية الأولى، قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) [الأعراف: 54] . فلينظر المتأمل فى هذه الآية العجيبة مع اشتمالها على العذوبة فى ألفاظها المفردة، والسلاسة فى تراكيبها، والنظام العجيب، والتأليف الأنيق، والأسلوب البديع، حتى لا تكاد لفظة واحدة تخلو عن ملاحظة البلاغة، ومواقع الفصاحة، وكيف احتوت على التنبيه على أسرار عظيمة ومعان فخمة على أسهل نظام وأيسره، وأتم بيان وأكمله، ولنشر إلى شىء من ذلك من الأمور الظاهرة.

التنبيه الأول

التنبيه الأول فى قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ صدر الجملة الابتدائية، بإنّ المؤكدة، لتدل على إيضاح الجملة وتحقيقها فى مبدأ الأمر ومطلعه، ثم قال: رَبَّكُمُ يشير بذلك إلى الإبداع، والحدوث فيهم وأنهم مخلوقون مربوبون، وأنهم مندرجون تحت وجود الممكنات، داخلون فى حيز المكونات، وأنه لهم رب، ومالك لأمورهم وتصاريف أحوالهم، لا يملكها أحد غيره، ولا يقدر عليها سواه، وصدر الجملة بذكر الربوبية إشارة إلى عظم الاعتناء بذكرها وقطعا لاعتقاد من يعتقد خلاف ذلك، وتنبيها منه تعالى على استحقاقه لحقيقة الإلهية، من حيث كان مالكا لأزمّة الأمور، ومقاديرها، ومن لا يكون بهذه الصفة فإنه لا حظ له فيها، ولا يكون مستحقا لها بحال، وحكم على الربوبية بالإلهية، حيث جعل رَبَّكُمُ مبتدأ وقوله اللَّهُ خبره، إشارة إلى أن كل من كان موصوفا بالربوبية، فإنه مستحق للإلهية لا محالة، لأن استحقاقه للإلهية إنما يكون إذا كان منعما بأصول النعم، والرب هو المالك، ومن كان مالكا للشىء فله التصرف فيه، ومن ملك الشىء كان مستحقا لإعطائه وله من أصول النعم وفروعها، فلهذا قال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ ولم يقل: إن الله ربكم ملاحظة لما ذكرناه، ويشير بهذا النظام والتأليف إلى نكتة لطيفة، وهى أن الإلهية أعم من الربوبية، والربوبية أخص منها، جريا على قانون القياس فى العربية، من أن خبر المبتدأ لابد من أن يكون أعم منه، ولهذا جاز أن يقال: الإنسان حيوان، ولا يقال. الحيوان إنسان، فالإلهية أعم من الربوبية، فالربوبية على الحقيقة لا يستحقها إلا هو، لأن معناها لا يصلح إلا فيه، وأما الإلهية وهى استحقاق العبادة، فقد شاركه فيها غيره، زعما أن غيره يستحق العبادة، فأما الربوبية وهى الملك، فإنه لا يخلص على الحقيقة إلا له لكونه مالك المكونات دون غيره، ومن عجيب ما تضمنه هذا التنبيه أنه جمع الوصفين منبها على عظم القهر والاستيلاء، فلهذا كان ربا مالكا، وعلى كونه مختصا بصفات الجلال، فلهذا كان إلها. التنبيه الثانى فى قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لما خاطبهم بالخطاب الدال على نهاية الملاطفة لهم حيث أضاف نفسه إلى نفوسهم بقوله: رَبَّكُمُ اللَّهُ لما لهم من الاختصاص به حيث كان مالكا لأمورهم ومدبرا لأحوالهم، وما له من الاختصاص بهم،

حيث كان منعما بالخلق، والإيجاد، والتكوين، والرحمة، واللطف، فلهذا حصلت الإضافة منبهة على هذا المعنى، ودالة عليه، ثم عقب ذلك بقوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وإنما خصّ السموات والأرض، لما فيهما من باهر القدرة، وعظم الملكوت، ولهذا قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] وقدم السموات لأنها من أعظم المخلوقات، ألا ترى إلى قوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ [الأعراف: 185] وقوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ [الأنعام: 75] ولما كانت مختصة به من الإحكام البديع والانتظام الباهر، ولما كانت مكانا لأشرف المخلوقات وهم الملائكة، ولما تميزت به من كونها موضعا للعبادة، والتقديس، والتمجيد، وأنواع العبادات كلها، ولكونها محطا للرحمة، ونفوذ الأوامر والأقضية، والتدبيرات ثم عقبها بذكر الأرض مشيرا إلى عظم منافعها وكونها متصرفا للخلق، وبساطا ممهدا للتصرفات، واستصلاح الأقوات من الزروع والثمار، والفواكه وأنواع المعادن، وغير ذلك ثم قال: وَما بَيْنَهُما يشير به إلى مهابّ الريح، وتصاريفها من أجل إصلاح الزروع، وتحريك السفن، وجرى السحاب لإرسال الأمطار، وطلوع الشمس والقمر، من أجل الإضاءة والإنارة للعالمين، والنجوم للاهتداء فى ظلمات البر والبحر، ثم إيراده عقب قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ على جهة التعليل لاستحقاقه للربوبية والإلهية فكأنه قال: وإنما كان ربا لكم، وإلها ومستحقا لهاتين الصفتين من أجل أنه خالق السموات والأرض وما بينهما، فإن من هذه حاله فإنه مستحق لا محالة لأن يكون ربا وإلها، فالتكوين فى هذه الأمور الثلاثة فيه دلالة على أنه لابد من موجد وقادر، ومكون، لأن من المحال فى العقول أن حصول الشىء بعد أن لم يكن لابد له من قادر، وموجد، فمطلق الإيجاد والتكوين دالان على القادرية، والخلق وهو التقدير فيه دلالة باهرة على الإتقان، وهى العالمية ثم قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فيه تنبيه على الوحدانية، لأن من هذه حاله فى التكوين والإيجاد لا يكون إلا مختصا بالإلهية والربوبية دون غيره، لما قد تقرر ببرهان العقل استحالة مكون لهذه الأشياء سواه فكأنه قال إن ربكم الله الذى من شأنه خلق هذه المكونات الباهرة لا رب ولا إله لكم غيره، ثم لما كانت دالة على القادرية، والعالمية، كما أشرنا إليه فهى دالة على الوجود بلا أولية، لأنه لو كان معدوما لاستحال منه الإيجاد لهذه المكونات، لأنه لا فرق فى مسالك العقول بين إسنادها إلى العدم وبين

التنبيه الثالث

إسنادها إلى مؤثر هو عدم، وأنه لا أولية لوجوده، إذ لو كان له أول لاحتاج إلى مؤثر فإما أن يفتقر كل واحد منهما إلى صاحبه، وهو الدور، أو يحتاج إلى مؤثر ومؤثره إلى مؤثر، إلى غير غاية، وهو التسلسل، وكلاهما محال فى العقل لأمور قررناها فى الكتب العقلية ثم قال: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فليس الغرض ذكر أدنى العدد، فأقله ساعة واحدة، ولا الغرض الإشارة إلى أكثر الأعداد فهى بلا نهاية، وبين هذين وسائط من مراتب الأعداد كثيرة ومن عرف باهر القدرة علم قطعا أن خلق هذه المكونات ممكن فى لحظة واحدة، ولكن الغرض بالتقدير إشارة إلى قوله: سرّ ومصلحة استأثر الله بعلمها ومصداق ما قلناه قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] . التنبيه الثالث قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ظاهر الآية دال على أن الاستواء إنما كان بعد خلق السموات والأرض وإكمال أحوالهما، فأما خلق العرش فليس فى ظاهر الآية ما يدل على تعين وقت خلقه فبقى الأمر فيه على الاحتمالين حتى يدل دليل شرعى على ذلك، والعرش والكرسى من أعظم المخلوقات، لما خصهما الله تعالى من عظم الخلق، ولما اشتملا عليه من الأسرار الإلهية، والحكم المصلحية التى لا يحيط بعلمها إلا الله تعالى. والاستواء فيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى الاستيلاء يقال: فلان الملك قد استوى على ملكه، أى استولى عليه وأحاط به فلا يشذ عنه منه شىء، وثانيهما: أن يكون الاستواء على حاله من غير تأويل من قولهم: الأمير استوى على سرير مملكته أى تمكن فيه، وتحقيقه، قعد عليه قعود المتمكن المستقر، لا قعود القلق المنزعج، وكلاهما حاصل فى حق الله تعالى، فعلى المعنى الأول أن الله استولى على العرش وملكه وأحاط به علما واقتدارا، وعلى الوجه الثانى يكون على جهة التخييل كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] وتقرير التخييل، أن الحالة الحاصلة للملك فى الاستقرار والتمكن على تخت مملكته، وسريره، هى حاصلة لله تعالى على عرشه، كما فى قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] كما سنقرره فى التخييل ونوضح أمثلته بمعونة الله تعالى. وأتى بثم، دون الفاء ليدل بها على التراخى، ولأن نظام الآية معها يكون أسلس وأسهل والسبك بها أتم وأعجب، وهذا يذوقه من جاد ذوقه وسلم طبعه عن عجرفة الكلام، وزال عن العنجهانية فى القول.

التنبيه الرابع

التنبيه الرابع قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف: 54] ظاهر الآية ههنا دال على أن الغاشى هو الليل لقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] فالليل إذا غاش للنهار يطلبه، فهذا هو الظاهر من الآية ويحتمل أن يكون الغاشى هو النهار، وأن الغشيان مضاف إليه دون الليل، وأن الليل لا يغشى النهار، بخلاف التكوير فى قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5] وبخلاف الإيلاج فى قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحديد: 6] فإن التكوير والإيلاج يصلح أن يكون فى كل واحد منهما كما فى ظاهر هاتين الآيتين، والسر فى ذلك هو أن التكوير هو الجمع، يقال: كور الليل، إذا جمعه ومنه كارة القصار، والإيلاج هو الإدخال يقال: ولج فى بيته، إذا دخل فيه، وهذان المعنيان يصلحان فى كل واحد من الليل والنهار، لأن الليل يجمع على النهار كما يجمع النهار على الليل، وهكذا الإيلاج، فإن الليل يدخل فى النهار، كما يدخل النهار فى الليل. بخلاف الغشيان، فإنه مخصوص بالنهار، والسر فى ذلك هو أن النور أمر وجودى محقق، والظلمة أمر عدمى، وحقيقتها آئلة إلى أنها عدم النور، فهكذا تقول: الليل حقيقة آئلة إلى عدم الإضاءة، والنور حقيقة آئلة إلى حصول الإضاءة والإنارة، وإذا كان الأمر كما قلناه من ذلك صح وصف النهار بالغشيان لظلمة الليل، لأنه يطلع بالإنارة فيغشى الليل بإذهابه، ووصف النهار بكونه غاشيا استعارة حسنة، إذ الغشاء هو الغطاء فنزله أعنى النهار فى إذهابه لظلام الليل، منزلة من يغطى الشىء بالغشاوة ويستره، لأنه يذهب ظلمته ويزيلها بطلوعه، ويمحوها بإنارته. ويجوز أن يكون من باب التشبيه، ولهذا فإنك لو أظهرت أداة التشبيه لحسن ذلك، فتقول النهار يذهب ظلمة الليل عند غشيانه كالثوب يغشى جسد الإنسان ويشتمل عليه عند ارتدائه به، وتوجيهه على جهة الاستعارة ألطف بمعناه، وأرق لألفاظه من التشبيه لأن الاستعارة فيه أظهر، لأن المستعار منه مطوى الذكر، فلهذا حسن موقعها وأنت إذا أظهرت أداة التشبيه تكاد تنقص من بلاغته، وتغض من موقع فصاحته وإنما قال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54] ولم يقل يلبس ولا يخلط الليل بالنهار، لأن لفظة التغشية، أبلغ فى الإحاطة والشمول من لفظة الإلباس والاختلاط، مع ما فيها من الرقة واللطافة، والخفة والسلاسة، وهى مؤذنة أيضا بشدة الاتصال والالتحام بين الغشاوة، والمغشى،

التنبيه الخامس

ومصداق ما قلناه قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس: 37] فشبه انفصال الليل من النهار بسلخ الأديم عن الشاة، وهذا يدلك على عظم اتصال الليل بالنهار وشدة التحامه به، ولهذا فإنك ترى الفجر عند طلوعه، نوره فى غاية الامتزاج والاختلاط بظلام الليل، فلا يزال النهار فى قوة، وغلبة، وظهور، حتى يستولى عليه بالإنارة فيمحوه ويزيله، فالسلخ مؤذن بشدة الالتحام، كالجلد، والغشيان مؤذن بعظم الاستيلاء والاشتمال، وكلاهما مشعر بالاتصال البالغ. يُغْشِي اللَّيْلَ جملة فعلية خبرية حال من الضمير فى خلق، ولهذا جاءت من غير واو، دالة على اندراجها تحت ما تقدم يَطْلُبُهُ جملة أيضا خبرية حال من النهار، ومجيئها من غير واو تنبيه على أنها موضحة للغشيان ومفسرة له، لأنه لما جعل النهار غاشيا لظلمة الليل بالإنارة جعل النهار كالطالب لظلام الليل بالسرعة فى الإزالة والمحو، فكأنه قال: أغشيت الليل النهار، وجعلت النهار طالبا له بالسرعة والإحثاث، ويحتمل أن يكون (يطلبه حالا من الليل، أى جعلت الليل طالبا للنهار يستدعيه لإزالة ظلمته وكشف سواده بالإنارة والضوء، والأول أعجب، لأجل تقدم قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فلما كان النهار غاشيا لظلام الليل، كان هو الطالب لإزالة ظلامه، وانتصاب حَثِيثاً إمّا على الحال من النهار، أى مسرعا عجلا، وإما على الصفة لمصدر محذوف، أى طلبا حثيثا، وكلا المعنيين لا غبار على وجهه، وإنما جاء قوله: خَلَقَ على صيغة الماضى، وقوله: يُغْشِي ويَطْلُبُهُ على صيغة المضارع، تنبيها على استقرار الخلق وتحققه وثبوته بالمضى، ولما كان الغشيان والطلب يتجددان بحسب الأوقات، جاءت المضارعة للإشعار بالتجدد والحدوث. وإنما قال: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ولم يقل: الخالق للسموات والأرض، لأن الفعل الماضى أدل على تحقق الخلق وثبوته واستمراره من اسم الفاعل. التنبيه الخامس قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ انتصابها على العطف، أى وخلق هذه الكواكب العظيمة المختصة بالإتقان العجيب، والإحكام الباهر، ولما اشتملت عليه من المصالح العامة للخلق، فالشمس للضوء، والإنارة، والدفء، وإصلاح جميع الناميات، والقمر للنور الساطع، وتقدير الأوقات، والنجوم للاهتداء فى ظلمات البر والبحر، وغير ذلك من المنافع والمصالح: مُسَخَّراتٍ انتصابه على الحال من جميع ما

سؤال

تقدم، أى مذللات لهذه المنافع، على قانون الحكمة، وعلى وفق ما قدر فيها من المصالح بِأَمْرِهِ فيه وجهان، أحدهما: أن تكون الباء فيه للإلصاق، ومعناه أن التسخير والإذلال ملتصقان بالأمر، كما تقول: كتبت بالقلم، وثانيهما: أن تكون الباء للحال، وعلى هذا يكون معناه ملتبسات بالأمر فى كل الأحوال لا يخرجن عنه ساعة واحدة، ولا يملن عن الانقياد طرفة عين، وإنما قال: بِأَمْرِهِ ولم يقل: بقدرته، مع تحقق الحاجة إلى القدرة أكثر من الحاجة إلى الأمر، لأنه لما ذكر التسخير وفيه معنى الطاعة والانقياد، عقبه بذكر الأمر، لما كانت الطاعة من لوازم الأمر وأحكامه. سؤال لم خص معاقبة الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، من بين سائر المكونات بالذكر مع اختصاصها بالحكمة والإتقان العجيب؟ وجوابه هو أنه لما صرح بلفظ السماء والأرض، وأبهم الأمر فى خلق ما وراءهما بقوله: وَما بَيْنَهُما أراد إيضاحه وبيانه، فخص هذه أعنى تعاقب الليل والنهار وهذه الكواكب بالذكر، إيضاحا لما أبهمه من قبل فى ذلك. التنبيه السادس قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لما ذكر هذه المخلوقات العظيمة، وعدد من المكونات الباهرة، عقبها بحرف التنبيه، إيقاظا وحثا على النظر، وإعلاما بأنها ملك له يتصرف فيها كيف شاء، من الحل والعقد، والزيادة والنقصان، وغير ذلك من سائر التصرفات والتغيرات، وقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فيه وجهان أحدهما أن تكون اللام فيهما للعهدية، فالخلق إشارة إلى ما سبق من أنواع المخلوقات كلها، والأمر، إشارة إلى قوله مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فكأنه قال: يملك جميع ما سبق من هذه الأشياء كلها. وثانيهما: أن تكون اللام فيهما للجنسية، وعلى هذا يكون المعنى أنه يملك جميع المخلوقات والأوامر كلها، فكأنه قال: يملك القول والفعل ويجرى ذلك مجرى المثل، كما يقال فلان يملك الأمر والنهى، والحل والعقد، والقبول والرد، والإبرام والنقض، يريد أنه لا تصرف لأحد سواه، ولا حكم لغيره بحال، فلما عدد أصناف المخلوقات كلها

التنبيه السابع

وأنها جارية على نعت التذليل ومنهاج التسخير المطابقين لقانون المصلحة ومقتضى الحكمة، عقبها بخطاب دال على الإشادة والاشتهار، بأن من هذه حاله فهو المستحق لأن يكون له الخلق، والأمر مبالغة فى الأمر وتأكيدا فيه. التنبيه السابع قوله تعالى: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] ختم هذه الآية بما يدل على الإعظام والمدح بعظم الآء، وتراكم النعم على الخلق، والبركة هى النماء والزيادة، وتَبارَكَ اللَّهُ بمعنى بارك الله، والبركة فى حقه تعالى تكون من وجهين: أحدهما: بالإضافة إلى ذاته تعالى بكثرة أوصاف الجلال ونعوت الكمال. إما إلى نهاية، وإما إلى غير نهاية، على حسب الخلاف بين العلماء فى أوصافه تعالى. وثانيهما: بالإضافة إلى أفعاله تعالى من أنواع الإحسانات وضروب التفضلات على الخلق من أصول النعم وفروعها، فالبركة ههنا تفسر على الوجهين اللذين أشرنا إليهما كما ترى، وقد صدر الله تعالى هذه الآية بذكر الربوبية، ثم ختمها بذكرها إعظاما لهذه الصفة واهتماما بأمرها، فذكرها فى أولها على جهة الخصوص بقوله: رَبَّكُمُ يعنى الثقلين وذكرها فى آخرها على وجه العموم بقوله: اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ يريد جميع العوالم كلها من صامت، وناطق، وجماد، وحيوان. فليدرك الناظر المتأمل ما اشتملت عليه هذه الآية من الإشارة إلى خلق المكونات كلها، واشتمالها على بدائع الحكمة، وعجيب الصنعة على أعجب نظام وأرشقه، وأحسن سياق وأعجبه، وقد أشرنا فيها إلى بعض ما تحتمله من اللطائف والأسرار وما أغفلناه من معانيها أكثر وأغزر مما ذكرناه. الآية الثانية: قوله تعالى فى سورة الحج يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ

الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج: 5- 7] . فليوقظ الناظر فهمه، وليتأمل ما أودع فى هذه الآية من المحاسن الرائقة والمعانى الفائقة مع اختصاصها بالترتيب الفائق وتنزيلها على النظام المعجب الرائق الذى يسحر الألباب رقة ولطافة. ويدهش الأفهام عذوبة وسلاسة، فصدر الآية بالنداء، والتنبيه، من أجل الإيقاظ، وجاء بصيغة الشرط على جهة الملاطفة فى الخطاب، وحقق اعتراض الريب والشك فى الأفئدة ليدفعه بالبرهان الواضح الجلى وضمنها برهانين. البرهان الأول منها عجيب خلقة الإنسان وتنقلها فى هذه الأطوار السبعة، ترابا، ثم نطفة فى الرحم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم الطفولة، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة والهرم، فقد أشار بهذا التدريج إلى عجيب القدرة، وإلى دقيق الحكمة على اختلاف هذه الأطوار، وتباين هذه المراتب فى الخلقة، ودلالتها، من وجهين، أحدهما أن كل من قدر على إحداث هذه الأمور وإبداعها من غير شىء فهو قادر لا محالة على إعادتها، لأن الإعادة مثل الإيجاد، ومن قدر على الشىء قدر على مثله لا محالة. وثانيهما: أن الابتداء إيجاد من غير احتذاء على مثال سابق، والإعادة إيجاد مع سبق الاحتذاء، فمن هو قادر على الابتداء كان أولى أن يكون قادرا على الإعادة بطريق الأحق، ولهذا قال تعالى منبها على ذلك بقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ يشير إلى ما قلناه. البرهان الثانى حال الأرض بكونها جرزا ثم بإنزال الماء عليها، ثم بحصول هذه الأزواج النباتية المختلفة، واهتزازها بالأزهار الغضة والأكمام المنفتحة، بحيث لا يمكن حصرها ولا يتناهى عدها، فهذان برهانان قد اشتملا على ما عدد الله تعالى فيهما من عجائب القدرة، وإتقانات الحكمة، وساقها على هذا النظام البديع، والاختصار المعجز البليغ الذى يفحم كل ناطق، ويروق كل سامع، ثم إنه عز سلطانه، لما فرغ من نظم هذه البراهين الباهرة وترتيب هذه الأدلة القاهرة، عقبها بذكر ثمرتها، وتقرير مدلولها، وإنتاج فائدتها فقال ذلِكَ يشير به إلى ما سبق من تقدير الأدلة وانتظامها: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ يعنى الموجود الثابت، يشير به إلى أنه موجد المكونات كلها المحصل لحقائقها وصفاتها نحو خلقة الإنسان وأحوال الأرض، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى يشير به إما إلى إحياء النفوس بعد أن كانت ترابا ونطفا، وعلقا ومضغا، فى هذه الأطوار وإما إلى إحيآء الأرض بعد

أن كانت جرزا هامدة، يطير ترابها، فصارت مخضرة مونقة وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج: 6] على جميع الممكنات، فلا يشذ عن قدرته شىء من كلياتها، ولا شىء من جزئياتها، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج: 7] يشير به إلى أحوال البعث، والحشر، والنشر، وأمور القيامة، فقد اشتملت هذه الآية على المعانى الجمة، والنكت الغزيرة، ولو ذهبنا نستقصى ما تضمنته من الأسرار الإلهية والدقائق المصلحية، لسردنا أوراقا، ولم نحرز منه أطرافا، ومن عجيب سياقها وحلاوة طعمها ومذاقها، اشتمالها على المجازات المفردة، والمركبة. فأما المجازات المركبة فهى مواضع أربعة، ففى الأرض ثلاثة فى قوله: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ فإسناد هذه الأفعال إلى الأرض إنما كان على جهة المجاز، والفاعل لها هو الله تعالى، وفى وصف الساعة مجاز واحد فى قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لأن الآتى بها هو الله تعالى. وأما المجازات المفردة فأكثر سياق الآية مشتمل عليه كقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ فالفاء للسببية وليست سببا فى ثبوت البعث، وإنما هو وارد على جهة المجاز، وقوله تعالى: خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ فإنه ليس على حقيقة العموم فإن المخلوق من تراب، إنما هو «آدم» لا غير، وقوله: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ليس على عمومه، فعيسى عليه السلام وحواء ليسا مخلوقين من نطفة، وهكذا سائر ألفاظ الآية، فإنها غير خالية عن استعمال المجازات، ومن أجل هذا رق مشربها، وساغ مستعذبها. الآية الثالثة، قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) [الشورى: 34] . فانظر إلى هذا الأسلوب، ما ألطف مجراه، وما أحسن بلاغته، وأدق مغزاه، قدم الخبر فى قوله وَمِنْ آياتِهِ ولو أخره ذهبت تلك الحلاوة، وبطل ما فيه من الرونق. وانظر إلى طرح الموصوف فى قوله الْجَوارِ ولم يقل الفلك الجوارى، وجمعه على فواعل، ولم يجمعه على جاريات، ولو فعل شيئا من ذلك لنقصت بلاغته، ونزلت فصاحته، وقال فِي الْبَحْرِ ولم يقل فى العبب، ولا فى الباحة، ولا فى الطمطام، وهى من أسماء البحر، لما فى لفظة البحر، من الرقة واللطافة وقوله كَالْأَعْلامِ من باب تشبيه

المحسوس بالمحسوس كقوله كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 58] والأعلام جمع علم، والعلم يطلق على الجبل، وعلى الراية، وكل واحد منهما صالح للتشبيه ههنا، لأن المقصود هو الظهور والبيان، ومن بديع التشبيه ورقيقه ما أنشده بعض الأذكياء. وكأن أجرام السماء لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق «1» وقول بشار: كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه «2» إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ حذف الفاء من قوله إِنْ لأن الغرض اتصال هذه الجملة بما قبلها كأنهما أفرغا فى قالب واحد وسبكا معا، ولو جاءت الفاء لأبطلت هذا السبك، وحصلت المغايرة بينهما، وزيدت الفاء فى فَيَظْلَلْنَ دلالة على حصول الركود عقيب الإسكان، ولو حذفت زال هذا المعنى وبطل، وهو مقصود، وجاء بإن فى قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ من غير ذكر الفاء دالا على اتصال هذه الجملة بما قبلها مندرجة تحتها لا تباين بينهما، ومجىء الفاء دليل الانفصال فيبطله ونظيره قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ [الحج: 1] وقوله: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ [يونس: 55] وغير ذلك وإذا أريد التقاطع بين الجملتين جاءت الفاء كقوله تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 115] وقوله تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] إلى غير ذلك، وجاء بأو فى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَ دلالة على التخيير، لأن المعنى إن نشأ نبتل المسافرين بأحد بليتين، إما ركود السفن على ظهر الماء لأجل سكون الريح، وإما باشتداد العصف فى الريح، فيحصل الإهلاك لهن، وجاء بالواو فى وَيَعْفُ دون «أو» دلالة على سعة الرحمة بالعفو عن كثير من الذنوب. فانظر ما أحسن موقع «أو» هناك وما أعجب موقع «الواو» هنا، ولنقتصر على ما ذكرناه من الآى القرآنية، فإنه لا مطمع لأحد فى حصر عجائب القرآن ولطائف أسراره، فإن فى بحره غرقت عقول العقلاء، وتضاءلت دون الإحاطة بمعانيه أفكار الحكماء.

الضرب الثانى الأخبار النبوية

الضرب الثانى الأخبار النبوية ، فإن كلامه صلّى الله عليه وسلّم- وإن كان نازلا عن فصاحة القرآن وبلاغته- في الطبقة العليا بحيث لا يدانيه كلام، ولا يقاربه وإن انتظم أى انتظام، ولنورد من كلامه أمثلة ثلاثة. المثال الأول فى المواعظ والخطب قال صلّى الله عليه وسلّم «لا تكونوا ممن اختدعته العاجلة، وغرته الأمنيّة، واستهوته الخدعة، فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، إنه لم يبق من دنياكم هذه فى جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو صر حالب، فعلام تفرحون، وماذا تنتظرون؟ فكأنكم بما قد أصبحتم فيه من الدنيا لم يكن، وبما تصيرون إليه من الآخرة لم يزل، فخذوا الأهبة لأزوف النّقلة، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، واعلموا أن كل امرىء على ما قدّم قادم، وعلى ما خلف نادم» . فليعمل الناظر نظره فى هذا الكلام، فما أسلس ألفاظه على الألسنة، وما أوقع معانيه فى الأفئدة، وما احتوى عليه من التنبيه البالغ، والوعظ الزاجر، والنصيحة النافعة، فصدره بالتحذير أولا عما يعرض من مصائب الدنيا من الانخداع والغرور والاستهواء وعقبه ثانيا بالتحذير عن الركون إلى الدنيا، ونبه بألطف عبارة وأوجزها على زوالها وانقطاعها، وأردفه ثالثا بالحث على عمل الآخرة وأخذ الأهبة للزاد، ونبه على سرعة زوالها وانقطاعها، وختمه بتحقق الحال فى الإقدام على ما فعله من خير وشر، وأنه نادم لا محالة على ما خلفه من الدنيا، وأنه غير نافع ولا مجد، ومن عجيب أمره أنه مع إغراقه فى البلاغة فإنه قد اشتمل على أنواع أربعة من علم البديع: أولها «السجع» فى قوله عليه السلام العاجلة، والأمنية، والخدعة، والزوال، والانتقال. «وثانيها» : التجنيس فى قوله عليه السلام كإناخة راكب، أو صر حالب. «وثالثها» : الاشتقاق، فى قوله: كل امرىء على ما قدم قادم، ومنه قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] . «ورابعها» : الائتلاف وهو أن تكون الألفاظ لائقة بالمقصود، فحيث كان المعنى فخما، فاللفظ يكون جزلا كقوله «لا تكونوا كمن اختدعته العاجلة، وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة» . وإن كان المعنى رشيقا، كان اللفظ رقيقا سهلا كقوله عليه السلام «فكأنكم بما قد أصبحتم فيه من الدنيا لم يكن، وبما تصيرون إليه من الآخرة لم يزل» وسنورد فى فن البيان ما يتعلق بعلم البديع بمعونة الله تعالى.

المثال الثانى فيما يتعلق بالحكم والآداب

المثال الثانى فيما يتعلق بالحكم والآداب كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عرف نفسه عرف ربه» وقال: «ما هلك امرؤ عرف قدره» وقال: «رب حامل فقه غير فقيه، ورب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» . وقوله: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعودوا كل جسم ما اعتاد» . وقال: «الطمع فقر واليأس عناء» وقوله: «إنه من خاف البيات أدلج ومن أدلج فى المسير وصل» وقوله «كرم الكتاب ختمه» وقوله: «رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس» وقوله: «من سعادة المرء أن يكون له وزير صالح» وقوله: «من سوّد علينا فقد أشرك فى دمائنا» وقوله «المؤمن أخو المؤمن يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان» وقوله عليه السلام «الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق» . فلينظر المتأمل ما اشتملت عليه هذه الكلم القصيرة من المعانى الجمة والنكت العديدة، مع نهاية البلاغة ووقوعه فى الفصاحة أحسن موقع. المثال الثالث فى الأدعية والتضرعات كقوله عليه السلام: «اللهم باعد بينى وبين الخطايا كما باعدت ما بين المشرق والمغرب ونقنى من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» وقوله عليه السلام: «اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح» وقوله عليه السلام: «اللهم يا أرحم الراحمين إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلة وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى، إلى بعيد يتجهمنى، أو إلى عدو ملكته أمرى فإن لم يكن بك علّى غضب فلا أبالى» إلى غير ذلك من أنواع التحميد، والتقديس، والجؤار «1» والتضرع بالكلام البالغ، واللفظ الفصيح. الضرب الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه ، «فإنه البحر الذى قد زخر عبابه والمثعنجر الذى

المثال الأول فى الخطب والمواعظ

لا يتقشع ربابه، فمن معنى كلامه ارتوى كل مصقع خطيب، وعلى منواله نسج كل واعظ بليغ، إذا كان عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومحط البلاغة ومولدها، وهيدب مزنها الساكب ومتفجّر ودقها الهاطل» . وعن هذا قال أمير المؤمنين فى بعض كلامه: «نحن أمراء الكلام، وفينا تشبثت عروقه، وعلينا تهدلت أغصانه» . ولنورد من كلامه أمثلة ثلاثة على مثال ما أوردناه من السنة النبوية، والقرآن الكريم، لأن كلامه عليه مسحة وطلاوة من الكلام الإلهى، وفيه عبقة ونفحة من الكلام النبوى. المثال الأول فى الخطب والمواعظ ولقد أتى فى توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة الممكنات، وبعده عن مماثلة المكونات، بكلام ما سبقه إليه سابق، ولا أتى بما يدانيه من تأخر بعده من تابع ولا لاحق، فمن ذلك كلامه فى ابتداء الخلق بعد ثنائه على الله بما هو أهله قال فيها: «فطر الخلائق بقدرته، ودبرها بحكمته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، ثم قال: أول الدين معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده التصديق به، وكمال التصديق به الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه- يريد الصفات التى لا تليق بذاته- فمن وصف الله تعالى فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال (فيم) فقد ضمنه، ومن قال (علام) فقد أخلى عنه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم» . إلى غير ذلك فى أثناء هذه الخطبة من التوحيد البالغ، والتنزيه الكامل، وقد أشرنا إلى هذه الأسرار فى التوحيد فى شرحنا لكلامه فى نهج البلاغة، وأظهرنا مراداته فى هذه الإشارات الإلهية والرموز المعنوية، فمن أرادها فليطالعها منه، وهذه الخطبة من جلائل خطبه، لما اشتملت عليه من بالغ التوحيد، وذكر أحوال المخلوقات من خلق السماء والأرض والملائكة، وخلق آدم، وما كان من إبليس فى حقه، ومن عرف كلام الفصحاء فى منظومهم، ومنثورهم، ومقامات البلغاء فى خطبهم ومواعظهم بعده عليه السلام إلى يومنا هذا غير كلام الله وكلام رسوله، علم قطعا لا شك فيه أنهم قد أسفوا «1» فى البلاغة وحلّق، وقصروا فى الفصاحة وسبق، والعجب من علماء البيان والجماهير من حذاق

المثال الثانى فى الحكم والآداب

المعانى حيث عولوا فى أودية البلاغة، وأحكام الفصاحة، بعد كلام الله تعالى وكلام رسوله، على دواوين العرب، وكلماتهم فى خطبهم، وأمثالهم، وأعرضوا عن كلامه، مع علمهم بأنه الغاية التى لا رتبة فوقها، ومنتهى كل مطلب، وغاية كل مقصد فى جميع ما يطلبونه من الاستعارة، والتمثيل والكناية، وغير ذلك من المجازات الرشيقة، والمعانى الدقيقة اللطيفة، ولقد أثر عن فارس البلاغة وأميرها أبى عثمان الجاحظ أنه قال: ما قرع مسامعى كلام بعد كلام الله، وكلام رسوله إلا عارضته إلا كلمات لأمير المؤمنين كرم الله وجهه فما قدرت على معارضتها، وهى قوله عليه السلام «ما هلك أمرؤ عرف قدره، وقوله: من عرف نفسه عرف ربه، وقوله: المرء عدو ما جهل، ومثل قوله: استغن عمن شئت، تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. فانظر إلى إنصاف الجاحظ فيما قاله، وما ذاك إلا أنه خرق قرطاس سمعه ببلاغته، وحير فهمه لما اشتمل عليه من إعجازه وفصاحته، فإذا كان هذا حال الجاحظ وله فى البلاغة اليد البيضاء فكيف حال غيره. المثال الثانى فى الحكم والآداب وله عليه السلام فى الكلمات القصيرة فى الحكم النافعة، وآداب النفوس، ما لم يبلغ أحد شأوه، ولا تحوم حوله كقوله: «قيمة كل امرىء ما يحسن» فهذه اللفظة لا يوازيها حكمة، ولا تقوم لها حكمة، وقوله: «المرء مخبوء تحت لسانه» وقوله: «السعيد من وعظ بغيره، والمغبوط من سلم له دينه» وقوله: «من أرخى عنان أمله، عثر بأجله» وقوله: «من فكر فى العواقب لم يشجع» وقوله: «مصارع العقول تحت بروق الأطماع» وقوله: «بالبر يستعبد الحر» وقال عليه السلام: «الطمع رق مؤبد» وقوله: «التفريط ثمرته الندامة، وثمرة الحزم السلامة» وقوله: «آلة الرياسة سعة الصدر» وقوله: «من استقبل وجوه الآراء، عرف وجوه الخطاء» وقوله: «من أحدّ سنان الغضب لله، قوى على قتل أسد الباطل» وقال: «إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن وقوعك فيه أهون من توقيه» وقال: «كم من عقل استتر تحت هوى أمير» وقال «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع» وقال: «أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل» وقال: «من كان الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه» وقال: «بالإفضال تعظم الأقدار، وباحتمال المؤن يجب السؤدد، إلى غير ذلك من قصير الكلام الذى قصر فى ألفاظه، وطال فى معناه، وأوجز فى عباراته وكثر مغزاه.

المثال الثالث فى كتبه

المثال الثالث فى كتبه إلى أمرائه وعماله وجباة الخراج يأمرهم فيها بأوامر الله تعالى، ويؤدبهم فيها بالآداب الشرعية، والزواجر الوعظية، ويشير إلى محاسن الشيم، وبما فيه قوام لأمر السياسة وأحكام الإيالة، فمنها كتابه إلى كميل بن زياد، وهو عامله على هيت. أما بعد فإن تضييع المرء ما ولى، وتكلفه ما كفى، لعجز حاضر، ورأى متبّر، وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسياء وتعطيلك مسالحك التى وليناك ليس لها من يمنعها، ولا يرد الجيش عنها، لرأى شعاع، فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك غير شديد المنكب ولا مهيب الجانب، ولا ساد ثغرة، ولا كاسر لعدو شوكة، ولا مغن عن أهل مصره، ولا مجز عن أميره. فانظر إلى ما تضمنه هذا الكتاب من المناجمة، والاهتداء إلى المصالح الدينية، وما اشتمل عليه من المراشد الدنيوية، وإصلاح أمر الدولة، وتعهد أحوال الإيالة والسياسة. ومنها كتابه إلى الأسود بن قطبة، صاحب حلوان: أما بعد فإن الوالى إذا اختلف هواه منعه ذلك كثيرا من العدل، فليكن أمر الناس عندك فى الحق سواء، فإنه ليس فى الجور عوض من العدل، فاجتنب ما تنكر أمثاله وابتذل نفسك فيما افترض الله عليك، راجيا لثوابه، ومتخوفا من عقابه، واعلم أن الدار دار بلية لم يفرغ صاحبها قط فيها ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة، فإنه لن يغنيك عن الحق شىء أبدا، ومن الحق عليك حفظ نفسك، والاحتساب على الرعية بجهدك، فإن الذى يصل إليك من ذلك أفضل من الذى يصل بك والسلام. ومنها كتاب له أوصى فيه شريح بن هانىء لما جعله علىّ على مقدمته إلى الشام: اتق الله فى كل صباح ومساء وخف على نفسك الدنيا الغرور، ولا تأمنها على حال، واعلم أنك إن لم تردع نفسك عن كثير مما تحب مخافة مكروه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر، فكن لنفسك مانعا رادعا، ولنزوتك عند الحفيظة واقما قامعا. فهذه كتب من أحاط بمكنون البلاغة ملكه، واستولى على أسرار الفصاحة ملكه.

وأقول: إن كلامه عليه السلام، إذا أمعن فيه الناظر بالتفكير وبحث عن أسراره وغرائبه ألمعى نحرير تحقق يقينا وعرف قطعا، أنه كلام من استولى على علم البلاغة بأسره وأحرزه بحذافيره، وأنه ظهر من مشكاة اتقدت فيها مصابيح الحكمة فأنار على الخليقة ضياؤها، وجادهم وابلها، وهطلت عليهم سماؤها، ولنقتصر من كلامه على هذا القدر فإنه البحر الذى لا يسكن زخاره، والموج الذى لا يزال يتراكم تياره. وبتمامه تم الكلام على ما أوردناه من التنبيه على الشواهد المنثورة والحمد لله رب العالمين.

القسم الثانى فى بيان الشواهد المنظومة

القسم الثانى فى بيان الشواهد المنظومة ونورد من ذلك ما يتعلق بالاستعارة والكناية والتمثيل، فهذه معظم أودية المجاز وهى ضروب ثلاثة نذكر شواهدها بمعونة الله. (الضرب الأول) ما يتعلق بالاستعارة ، فمن ذلك قول ابن المعتز: أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنابا ومن مليح الاستعارة قول من قال: وأقبلت يوم جد البين فى حلل ... سود تعض بنان النادم الحصر فلاح ليل على صبح أقلهما ... غصن وضرست البلور بالدرر وأعجب من هذا ما قاله بعضهم: سألتها حين زارت نضو برقعها ال ... قانى وإيداع سمعى أطيب الخبر فزحزحت شفقا غشى سنا قمر ... وساقطت لؤلؤا من خاتم عطر ومن غرائب الاستعارة ما أنشد الوأواء الدمشقى: فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد «1» ومنه قول بعضهم: نفسى الفداء لثغر راق مبسمه ... وزانه شنب ناهيك من شنب يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب ومن أغرب ما قيل فى الاستعارة ما قاله بعضهم: طلعن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا وقول أبى الطيب المتنبى: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت «2» غزالا ومن رقيق الاستعارة قول أبى تمام: إذا سفرت أضاءت شمس دجن ... ومالت فى التعطف غصن بان

الضرب الثانى: ما يتعلق بالتشبيه

وأحسن من هذا ما قاله ديك الجن عبد السلام: لما نظرت إلى عن حدق المها ... وبسمت عن متفتح النوار وعقدت بين قضيب بان أهيف ... وكثيب رمل عقدة الزنار عفرت خدى فى الثرى لك طائعا ... وعزمت فيك على دخول النار فهذه الأبيات لديك الجن قلما يوجد لها مماثل فى الاستعارة ومنه قوله: لا ومكان الصليب فى النحر من ... ك ومجرى الزنار فى الخصر والخال فى الوجه إذ أشبّهه ... وردة مسك على ثرى تبر وحاجب قد خطه قلم ال ... حسن بحبر البهاء لا الحبر وأقحوان بفيك منتظم ... على شبيه الغدير من خمر ما أصبر الشوق بى فأصبرنا ... من حسنت فيه قلة الصبر الضرب الثانى: ما يتعلق بالتشبيه من ذلك قول بعضهم: كأن الثريا والصباح كلاهما ... قناديل رهبان دنت لخمود ومن رقيق التشبيه ما قاله بعضهم: والصبح يتلو المشترى فكأنه ... عريان يمشى فى الدجى بسراج ومن أغرب ما قيل فى التشبيه قول بعضهم: كأنما المريخ والمشترى ... قدامه فى شامخ الرفعه «1» منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه ومن لطيف التشبيه ما قاله المهلب الوزير: الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب «2» كأنها بودقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب وأغرب من هذا ما قاله امرؤ القيس فى صفة العقاب: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالى «3»

الضرب الثالث: فيما يتعلق بالكناية

ومن مليح التشبيه وغريبه ما قاله بعضهم: والبدر فى الأفق الغربى متسق ... والغيم يكسوه جلبابا ويسلبه كوجه محبوبة يبدو لعاشقها ... فإن بدا لهما واش تنقّبه ومن أعجب ما ينشد فى التشبيه قول البحترى: دان على أيدى العفاة وشاسع ... عن كل ند فى الندى وضريب كالبدر أفرط فى العلو وضوءه ... للعصبة السارين جد قريب وأغرب من هذا وأعجب قول البحترى أيضا: دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشعاع ومن رقيق التشبيه وأغربه ما قاله ابن المعتز فى الهلال: ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر وأرق منه ما قاله ابن المعتز أيضا فى الخضرة مع السواد: حتى إذا حر آب جاش مرجله ... بفائر من هجير الشمس مستعر ظلت عناقيده يخرجن من ورق ... كما احتبى الذيخ فى خضر من الأزر ومن جيد التشبيه وغريبه ما قاله العباس بن الأحنف: أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا صرت كأنى ذبالة نصبت ... تضىء للناس وهى تحترق الضرب الثالث: فيما يتعلق بالكناية ، ومن ذلك قول البحترى: أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... فى آل طلحة ثم لم يتحول «1» ومن أرق ما قيل فى الكناية قول حسان: بنى المجد بيتا فاستقرت عماده ... علينا فأعيى الناس أن يتحولا ومن بديعها قول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... فى قبة ضربت على ابن الحشرج «2» ومثله ما قاله بعضهم:

وما يك فى من عيب فإنى* جبان الكلب مهزول الفصيل «1» ومن جيد الكناية ما قاله نصيب: لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم منن ظاهره «2» فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس بالزائرين ... من الأم بالابنة الزائره ومن أرقها وألطفها ما قاله أبو نواس: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير «3» ومن غريبها قول أبى تمام: أبين فما تردن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد «4» ومن هذا قول بعضهم: صمتى تخلو تميم من كريم ... ومسلمة بن عمرو من تميم «5» ومن بديعها ما قاله بعضهم: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب «6» ومن هذا قول بعض الشعراء: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من جبه وهو أعجم «7» ولنقتصر على هذا القدر فى إيراد الأمثلة والشواهد ففيه كفاية لمقصدنا، وستكون لنا عودة بأكثر من هذا عند الكلام فى فن المقاصد، وذكر تفاصيل الاستعارة والتشبيه والكناية وأحكامها، فأما الآن فليس مقصدنا إلا المثال لا غير، وبتمامه يتم الكلام على المقدمة الرابعة وبالله التوفيق.

المقدمة الخامسة فى حصر مواقع الغلط فى اللفظ المفرد والمركب

المقدمة الخامسة فى حصر مواقع الغلط فى اللفظ المفرد والمركب اعلم أنا قد أسلفنا فيما سبق أن موضوع علم البيان، إنما هو الفصاحة والبلاغة وقررنا أن الفصاحة من عوارض الألفاظ وأن البلاغة من عوارض المعانى، وأكثر علماء البيان على أن الفصاحة والبلاغة لا فرق بينهما، وأنهما من الألفاظ المترادفة، وإلى هذا يشير كلام الشيخ عبد القاهر الجرجانى، وقد أوضحنا المختار فيه فلا وجه لتكريره، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن الخطأ فى هذا العلم إنما يكون بإحراز ما يحتاج إليه من العلوم الأدبية مفردها ومركبها وهو بالإضافة إلى أمن الخطأ وارتفاع الغلط على مراتب أربع: المرتبة الأولى علم اللغة، وهو العلم بمفردات الألفاظ يحترز به عن الخطإ فى مفردات الألفاظ اللغوية، فمن أعرض عن الأوضاع اللغوية، ولم يحكم دلالتها على معانيها المفردة، فقد أخل بالمقصود منها، وعلى قدر إخلاله يتطرق إليه الغلط، ويستوى عليه الخطأ فى اختلاف أوضاعها وتباين معانيها خاصة فيما يعرض من الترادف، والاشتراك، والعهدية، والجنسية فى الأسماء وبما يعرض فى الأفعال من تجدد الأزمنة وتصرفها فى وجوه الإنشاء من الأمر والنهى وغير ذلك، وما يعرض من خصائص الحروف ولطائفها فى الإيجاب والسلب وغير ذلك من الخصائص واللطائف اللغوية فلابد من إحرازها ليأمن الخطأ فى ذلك. المرتبة الثانية علم التصريف وهو علم بتصحيح أبنية الألفاظ المفردة فى البدل، والحذف، والقلب وغير ذلك من أوجه التصريف ويجب إحرازه ليأمن الخطأ فى أبنية الكلم المفردة ويأمن الخطأ فى تحريفها وتبديلها، ويجىء بها على الأقيسة اللغوية والأوضاع الأصلية فى ذلك، وهو فن دقيق يحتاج إلى فضل ذكاء وجودة قريحة، ولهذا فإنه لا يختص به إلا الآحاد ولا يستولى على دقائقه وإحراز غوامضه إلا الأفراد.

المرتبة الثالثة علم العربية

المرتبة الثالثة علم العربية ليحترز به عن الخطإ والغلط فى المركبات ليحصل المعنى على صحته واستقامة أحواله، لأن الإعراب إنما يمكن حصوله إذا كان الكلام مركبا من ألفاظ مخصوصة، فالنظر فى علم الإعراب إنما هو نظر فى حصول مطلق المعنى، وكيفية اقتباسه من اللفظ المركب فلابد من الإحاطة بصحة التركيب ليأمن الغلط فى تأدية المعانى وتحصيلها ويحصل به الوقوف على أسرار لطيفة. المرتبة الرابعة تحقق علم الفصاحة والبلاغة، وهو نظر خاص يأمن به الخطأ فى نظم الكلام وجزالة لفظه وحسن بلاغته، فمتى أحرز لنفسه هذه العلوم الأدبية أمن من الغلط فيما يخوض فيه من علم المعانى، فهذان العلمان أعنى علم الإعراب وعلم البلاغة والفصاحة إنما يختصان بمركبات الألفاظ، وما يحصل عند التركيب من المعانى الرقيقة، والنكت النفيسة، وهما يتفاوتان فيما يؤديه كل واحد منهما من الفائدة، فعلم الإعراب يؤدى مطلق المعنى لا غير، وعلم البيان يؤدى فائدة أخرى، وهو ما يحصل من بلاغة فى ذلك المعنى وحسن نظم وترتيب له، فهو كالكيفية العارضة. والعلمان الأولان أعنى علم اللغة وعلم التصريف، إنما يختصان بمفردات الألفاظ، وفائدتهما تصحيح مطلق اللفظ من غير التفات إلى تركيب كما لخصناه من قبل، فكل واحد من هذه العلوم الأدبية على حظ من إحراز الغرض والأمن من الخطإ والغلط كما ترى، ولكن أرسخها أصلا وأنسقها فرعا، وأنورها سراجا وأكرمها نتاجا، وأقواها قاعدة وأجزلها فائدة، علم البيان، فإنه هو المطلع على حقائق الإعجاز وهو من العلوم بمنزلة الشامة والطراز، وقد نجز غرضنا من هذه المقدمات وبتمامه يتم الكلام فى الفن الأول وهو فن السوابق.

الفن الثانى من علوم هذا الكتاب وهو فن المقاصد اللائقة

الفن الثانى من علوم هذا الكتاب وهو فن المقاصد اللائقة اعلم أن المقصود من الكلام إنما هو إفادة المعانى، وهذه الإفادة على وجهين، لفظية، ومعنوية، فأما الإفادة اللفظية فهى دلالة المطابقة، وما هذا حاله فإنه يستحيل تطرق الزيادة والنقصان إليها، وبيانه هو أن السامع لشىء من الألفاظ الوضيعة لا يخلو حاله إما أن يكون عالما بكونه موضوعا لمسماه، أو لا يكون عالما، فإن لم يكن عالما به فإنه لا يعرف فيه شيئا أصلا، وإن كان عالما به فإنه يعرف بتمامه وكماله، فخيل من مجموع ما ذكرناه ههنا أن الألفاظ فى دلالتها الوضعية إما أن تكون مفيدة إفادة ناقصة، وإما أن لا تكون مفيدة أصلا، وهذان القسمان باطلان بما مر، فإذا بطلا تعين القسم الثالث، وهو أن إفادتهما لمسماها على الكمال والتمام هو مطلوبنا، وتقرير ذلك بما نذكره من المثال، وهو أنك إذا أردت تشبيه زيد بالأسد فى الشجاعة، فإنك إذا قصدت إفادة هذا المعنى بالدلالة الوضعية فإنك تقول زيد يشبه الأسد فى شجاعته، فقد أفدت مقصودك من ذلك بألفاظ دالة عليه دلالة وضعية، وهذه الإفادة يستحيل تطرق الزيادة والنقصان إليها، لأنك إن نقصت منها تطرق الخرم على قدر ما نقص منها، وإن زدت على هذه الألفاظ كان ذلك مستغنى عنه ولا فائدة فيه، وإن أقمت كل لفظة مقام ما يرادفها امتنع تطرق الزيادة والنقصان فى المعنى من أجل ذلك، وعن هذا قال المحققون من أهل هذه الصناعة إن الإيجاز، والاختصار، والتطويل، والإطناب، والحذف، والإضمار، والوحدة، والتكرار، وغير ذلك من أودية البلاغة يستحيل تطرقها إلى الدلالات الوضعية، لما كانت تدل بجهة المطابقة. وأما الإفادة المعنوية فهى تكون من جهة اللوازم، ثم تلك اللوازم كثيرة فتارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فلأجل هذا صح تأدية المعنى بطرق كثيرة وجاز فى تلك الطرق أن يكون بعضها أكمل من بعض، فلا جرم جاز تطرق الزيادة والنقصان والكمال إليها، ثم قد يكون حصول ذلك من جهة الدلائل الإفرادية وهو ما يتعلق بالبلاغة من جهة المفردات، وقد يكون حصوله من جهة الدلائل المركبة، وهو ما يتعلق بالبلاغة من جهة الكلم المركبة، وتقدير ذلك بما نذكره من المثال، وهو أنك إذا قصدت وصف زيد بالشجاعة من جهة اللوازم بحيث يجوز تطرق الزيادة والنقصان والكمال إليه، فإن أردت

تنبيه

طريق الاستعارة قلت رأيت أسدا، وإن أردت طريقة التشبيه فإنك تقول زيد كالأسد، وإن جئت بطريق الكناية قلت فلان يكفل الأبطال برمحه، وإن أردت أن تصفه بالكرم، قلت رأيت بحرا على جهة الاستعارة، وهو كالبحر بطريق التشبيه، أو فلان تتراكم أمواجه، بجعله كناية عن جوده وسخائه. تنبيه إياك أن يعتريك الوهم، أو يستولى على قلبك غفلة، فتظن أنا لما قلنا إن الألفاظ دالة على المعانى فتعتقد من أجل ذلك أن المعانى تابعة للألفاظ، وأنها مؤسسة عليها، فهذا وأمثاله خيال باطل وتوهم فاسد فإن الألفاظ فى أنفسها هى التابعة للمعانى، وأن المعانى هى السابقة بالتقرير والثبوت، والألفاظ تابعة لها، ولنضرب لما ذكرناه مثالا يصدق ما قلنا فى المفردة منها والمركبة فنقول: أما المفردة فلأنك إذا رأيت سوادا على بعد فظننته حجرا فإنك تسميه حجرا، وإن دنوت منه قليلا وسبق إلى فهمك أنه شجر فإنك تسميه شجرا، فإذا دنوت منه وتحققت حاله رجلا فإنك تسميه رجلا، فاختلاف هذه الأسامى يدل على اختلاف تلك الحقيقة وما يفهم منها من الصور المدركة. وأما المركبة فلأنك إذا رأيت رجلا من بعيد ولا تدرى حاله أهو قائم أم قاعد أم مضطجع، فإنك إذا دنوت إليه فعلى حسب ما يسبق إلى فهمك من حالته تصفه بتلك الحالة، ولا يزال الوصف يتغير حتى يستقر الوصف على واحد منها، وهذا يدلك على أن الألفاظ تابعة للمعانى المفردة والمركبة كما أشرنا إليه، ولهذا فإنك تطلق العبارات على وفق ما يقع فى نفسك من الحقائق والمعانى من غير مخالفة. دقيقة اعلم أن المعانى بالإضافة إلى كيفية حصولها من أهل البلاغة والفصحاء على ثلاث مراتب. المرتبة الأولى أن يكون مقتضيها على جهة الابتداء من نفسه من غير أن يكون مقتديا بمن قبله، ويكون ذلك على ما يعرض من مشاهدة الحال، وما يعرض من الأمور الحادثة.

ولنورد من ذلك شواهد ما قلنا؟ من ذلك ما أغرب فيه أبو نواس وأبدع حين رأى كأسا من الذهب فيها تصاوير وأمثال، فقال حاكيا لها. تدار علينا الراح فى عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قراراتها كسرى وفى جنباتها ... مها تدريها بالقسى الفوارس فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس فهذا من المعانى البديعة فإنه أراد أنها مزجت بقليل من الماء حتى صار لقلته بقدر القلانس على رؤوس الكاسات. قال ابن الأثير وما أعرف ما أقول فى هذا سوى أنى أقول: قد تجاوز أبو نواس حد الإكثار، ومن ذلك ما قاله ابن أبى الشمقمق حين قلد رجل ولاية على الموصل فانكسر لواؤه فتطير بذلك فقال ما قال يقرر خاطره ويؤسيه لما وقع فى نفسه من ذلك وقع عظيم لأجل التطير: ما كان مندق اللواء بطيره ... نحسن ولا سوء يكون معجلا لكن هذا العود أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا فلقد أجاد فيما ذكره كل الإجادة وأحسن كل الإحسان، ومن ذلك ما قاله بعض المغاربة فى وصف الخمر فأبدع فيه. ثقلت زجاجات أتينا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح فهذا معنى بديع عجيب يفعل بالعقول فى الإعجاب كما تفعل الخمر فى الإسكار، فلهذا قاله على ما شاهد من حالها. ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى وقد صرعت الخيمة بسيف الدولة فوقعت فتطير بذلك فقال فيها قصيدة يذكر ذلك ويقرر نفسه عن الطيرة فمنها قوله: وإن لها شرفا باذخا ... وإن الخيام بها تخجل فلا تنكرن لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل وكيف تقوم على راحة ... كأن البحار لها أنمل فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل

المرتبة الثانية ما يوردونه من غير مشاهدة حال

فانظر إلى هذه المعانى البديعة، وكفى بالمتنبى فضلا إتيانه بها، وإنه لصاحب كل غريبة ومنتهى كل أطروبة فى المعانى الشرعية، ومن ذلك ما قاله فى وصف حاله عند ورود الحمى عليه. وزائرتى كأن بها حياء ... فليس تزور إلا فى الظلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت فى عظامى كأن الصبح يطردها فتجرى ... مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام فانظر إلى ما قاله، ما أشد موافقته لما حكى من حاله، وهذا أكثر ما يجرى على ألسنة أهل البلاغة عند مشاهدة ما يشاهدونه من أحوال الحوادث وفيه كفاية لغرضنا. المرتبة الثانية ما يوردونه من غير مشاهدة حال فيجرى عليها ولكن يقتضبونه اقتضابا ويخترعونه اختراعا، فمن ذلك قول على بن جبلة يمدح رجلا بالكرم والجود: تكفل ساكنى الدنيا حميد ... فقد أضحت له الدنيا عيالا كأن أباه آدم كان أوصى ... إليه أن يعولهم فعالا قال ابن الأثير وقد حام الشعراء حول هذا المعنى، وفاز على بن جبلة بالإفصاح به، ومن ذلك قول أبى تمام: يا أيها الملك النائى برؤيته ... وجوده لمراعى جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب ومن ذلك قوله: رأينا الجود فيك وما عرضنا ... لسجل منه بعد ولا ذنوب ولكن دارة القمر استتمت ... فدلتنا على مطر قريب ومن بليغ كلامه قوله: وإذا أرد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ومن ذلك قوله فى مديحه: لا تنكروا ضربى له من دونه ... مثلا شرودا فى الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس ومن ذلك ما قاله ابن الرومى: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنه ... لأوسع مما كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما هو لاق من أذاها يهدد ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى: أجزنى إذا أنشدت مدحا فإنما ... بشعرى أتاك المادحون مرددا ودع كل صوت بعد صوتى فإننى ... أنا الصائح المحكى والآخر الصدى فانظر إلى ما أودعه فى هذين البيتين من المديح ما أرقه، ومن المعنى ما أدقه، ومن ذلك ما قاله ابن الرومى أيضا. عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب ومن دقيق ما يورد فيما نحن بصدده قول بعض الشعراء: بأبى غزال غازلته مقلتى ... بين الغوير وبين شطى بارق عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق الناشق وضممته ضم الكمى لسيفه ... وذؤابتاه حمائل فى عاتقى حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقى أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على وساد خافق ومن الفائق الرائق ما قاله أبو الطيب يمدح سيف الدولة: صدمتهم بخميس أنت غرته ... وسمهريته فى وجهه غمم فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم هذا وأمثاله من بدائع أبى الطيب وعجائبه فى معانيه التى فاق بها على نظرائه، وامتاز فيها على أقرانه من الشعراء، ومن جيد ما يقال فى هذا المعنى ما قاله بعض المغاربة: غدرت به زرق الأسنة بعد ما ... قد كن طوع يمينه وشماله فليحذر البدر المنير نجومه ... إذ بان غدر مثالها بمثاله فهذا وأمثاله من سحريات الشعر وعجائبه، ولنقتصر منه على هذا القدر.

المرتبة الثالثة ما يكون واردا على جهة الاحتذاء

المرتبة الثالثة ما يكون واردا على جهة الاحتذاء على مثال سابق، ومنوال متقدم، وهذا كالبخل فإنه ورد عنهم فيه أشياء كثيرة كلها دال على مقصود واحد فى الهجاء به وهذا كقول أبى نواس يصف بخيلا: شرابك فى السراب إذا عطشنا ... وخيرك عند منقطع التراب فما روحتنا لتذب عنا ... ولكن خفت مرزئة الذباب ومن ذلك ما قاله بعض المغاربة يهجو إنسانا احترقت داره يقال له ابن طليل: انظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... طوعا إلى الأقدار بالأقدار ما أوقد ابن طليل قط بداره ... نارا وكان هلاكها بالنار وكما قال بعض الشعراء فى ذم اللؤم والبخل: زد رفعة وإن قيل أغضى ... ثم انخفض إن قيل أثرى كالغصن يدنوا ما اكتسى ... ثمرا وينأى ما تعرى ومما ولع به الشعراء وتهالكوا فى التعبير عن أحوال الطلول والرسوم وأحوال الديار، قال أبو الطيب المتنبى: لك يا منازل فى القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أو اهل فأخذ هذا المعنى أبو تمام وأجاد فيه كل الإجادة فقال: عفت الرسوم وما عفت أحشاؤه ... من عهد شوق ما يحول فيذهب فأخذه البحترى ونسج على منواله بقوله: صوقفت وأحشائى منازل للأسى ... به وهو قفر قد تعفت منازله وقال امرؤ القيس: عوجوا على الطلل المحيل لعلنا ... نبكى الديار كما بكى ابن حذام فابن حذام هذا هو أول من بكى على الديار فلهذا حذوا على حذوه، ووصفو الديار بأوصاف مختلفة كلها متفقة فى مقصود واحد، ولنقتصر على هذا القدر من تمهيد قاعدة هذا الفن، ونشرع الآن فى شرح مقاصده فلنذكر ما يتعلق بذكر علوم البيان من مواقع المجاز فى

الباب الأول فى كيفية استعمال المجاز وذكر مواقعه فى البلاغة

البلاغة، ثم نردفه بما يتعلق بالمعانى الإفرادية وهو المعبر عنه بعلم المعانى، ثم نذكر على أثره ما هو منه وهو ما يتعلق بمراعاة أحوال التأليف وهو المعبر عنه بعلوم المعانى أيضا، ثم نذكر خاتمة الفن فيما يتعلق بمجموع الإفراد والتركيب، وهو المعبر عنه بعلم البديع فهذه أبواب أربعة. الباب الأول فى كيفية استعمال المجاز وذكر مواقعه فى البلاغة اعلم أن جميع ما أسلفناه فى المجاز إنما هو كلام فى بيان ماهيته وذكر أقسامه وأحكامه، والذى نذكره الآن إنما هو كلام من وراء ذلك مما له تعلق بعلم البلاغة وذكر مواقعه العجيبة وأسراره الغريبة وله قواعد أربع.

القاعدة الأولى فى ذكر الاستعارة

القاعدة الأولى فى ذكر الاستعارة اعلم أن التوسع اسم يقع على جميع الأنواع المجازية كلها، واشتقاقه من السعة، وهو نقيض الضيق، فالضيق قصر الكلام على حقيقته من غير خروج عنها، والتوسع شامل لما ذكرناه من أنواع المجازات، فإطلاق التوسع على ما يندرج تحته من أنواع المجاز بمنزلة إطلاق الكلمة على ما يندرج تحته من أنواعها الخاصة الاسم والفعل والحرف، وهكذا اسم المجاز، فإنه شامل لأنواعه من الاستعارة، والكناية، والتمثيل، فهما سيان كما ترى فى إفادة ما تحتهما من هذه الأنواع، وليسا مختصين بنوع من المجاز دون نوع، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر ماهية الاستعارة والتفرقة بينهما وبين التشبيه، ثم نذكر أمثلتها، ثم نردفه بذكر أقسامها وبذكر أحكامها الخاصة فهذه مباحث أربعة نفصلها بمعونة الله تعالى. البحث الأول فى بيان ماهية الاستعارة وبيان التفرقة بينها وبين التشبيه اعلم أن الاستعارة المجازية مأخوذة من الاستعارة الحقيقية، وإنما لقب هذا النوع من المجاز بالاستعارة أخذا لها مما ذكرناه، لأن الواحد منا يستعير من غيره رداء ليلبسه، ومثل هذا لا يقع إلا من شخصين بينهما معرفة ومعاملة فتقتضى تلك المعرفة استعارة أحدهما من الآخر فإذا لم يكن بينهما معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر من أجل الانقطاع، وهذا الحكم جار فى الاستعارة المجازية، فإنك لا تستعير أحد اللفظين للآخر إلا بواسطة التعارف المعنوى كما أن أحد الشخصين لا يستعير من الآخر إلا بواسطة المعرفة بينهما، فأما معناها فى مصطلح علماء البيان فقد ذكر فى تعريف ماهيتها أمور خمسة. التعريف الأول ذكره الرمانى وحاصل ما قاله فى الاستعارة أنها استعمال العبارة لغير ما وضعت له فى أصل اللغة، هذا ملخص كلامه، وهو فاسد من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن هذا يلزم منه أن يكون كل مجاز من باب الاستعارة وهو خطأ، فإن كل واحد من الأودية المجازية له حد يخالف حد الآخر وحقيقته، فلا وجه لخلطها، وأما ثانيا فلأن هذا يلزم عليه أن تكون

التعريف الثانى حكاه ابن الأثير نصر بن عبد الكريم فى كتابه المثل السائر عن بعض علماء البيان،

الأعلام المنقولة يدخلها المجاز وتكون من نوع الاستعارة وهو باطل، فإن المجازات لا تدخلها فضلا عن الاستعارة، وأما ثالثا فلأن ما قاله يلزم منه أنا لو وضعنا اسم السماء على الأرض، أن يكون مجازا، وهذا باطل لا يقول به أحد. التعريف الثانى حكاه ابن الأثير نصر بن عبد الكريم فى كتابه المثل السائر عن بعض علماء البيان، فقال هو نقل المعنى من لفظ إلى لفظ لمشاركة بينهما بسبب ما وهذا فاسد لأمرين، أما أولا فلأن ما ذكره يدخل فيه التشبيه كقولنا زيد كالأسد، وزيد كأنه الأسد، فإن هذا نقل معنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما، لأنا نقلنا حقيقة الأسد إلى زيد، فصار مجازا للمشاركة التى كانت بين زيد وبين الأسد فى وصف الشجاعة، وأما ثانيا فلأن مثل هذا يدخل فيه ماهية المجاز مطلقا، فإن المجاز من حيث إنه مجاز نقل المعنى من لفظ إلى لفظ لمشاركة بينهما، والمجاز المطلق مغاير للاستعارة فلا يدخل أحدهما فى الآخر. التعريف الثالث اختاره ابن الأثير فى كتابه فقال فى حدها هو نقل المعنى من لفظ إلى لفظ لمشاركة بينهما مع طى ذكر المنقول إليه، فقولنا نقل المعنى من لفظ إلى لفظ عام للاستعارة والتشبيه، وقولنا مع طى ذكر المنقول إليه يخرج به التشبيه عن الاستعارة، وهذا فاسد أيضا فإن بعض أنواع الاستعارة لا يقدر هناك مطوى فيها، ولا يتوهم طيه وإن ذكر المطوى خرج بإظهاره الكلام عن رتبة البلاغة، وهذا كقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] فأنت لو أبرزت ههنا ذكر المستعار له وقلت واخفض لهما جانبك الذى يشبه الجناح، لأخرجت الكلام عن ديباجة الفصاحة، فظهر مما ذكرناه أن اعتبار المطوى يخرج بعض الاستعارة عن كونها استعارة، فبطل جعله قيدا من قيود حد الاستعارة. التعريف الرابع ذكره ابن الخطيب الرازى: وحاصل ما قاله أنها ذكر الشىء باسم غيره وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة فى التشبيه، فقولنا ذكرنا الشىء باسم غيره، احتراز عما إذا صرح بذكر

التعريف الخامس وهو المختار،

المشبه، كقولنا زيد أسد، فإنك ما ذكرت زيدا باسم الأسد، بل ذكرته باسمه الخاص له، فلا جرم ليس ذلك من الاستعارة وقولنا وإثبات ما لغيره له، ذكرناه ليدخل فيه الاستعارة التخييلية، وقولنا لأجل المبالغة فى التشبيه، ذكرناه من الحد، وهو فاسد لأمرين، أما أولا فلأنه ذكر التشبيه قيدا فى الحد، وبذكره يخرج عن حد الاستعارة، لأنها مخالفة للتشبيه فى ماهيتها وحكمها، فلا يدخل أحدهما فى الآخر، وأما ثانيا فلأنه أورد فيه لفظ التعليل، وهو قوله لأجل المبالغة، والحد إنما يراد لتصور الماهية مطلقة من غير تعليل فبطل ما قاله. التعريف الخامس وهو المختار، أن يقال تصييرك الشىء الشىء وليس به، وجعلك الشىء للشىء وليس له بحيث لا يلحظ فيه معنى التشبيه صورة ولا حكما، ولنفسر هذه القيود، فقولنا «تصييرك الشىء الشىء وليس به وجعلك الشىء للشىء وليس له» شامل لنوعى الاستعارة، فالأول كقولك لقيت أسدا، وأتيت بحرا، والثانى كقولك رأيت رجلا أظفاره وافرة، وقصدت رجلا تتقاذف أمواج بحره، وفلان بيده زمام الأمر، وقولنا «بحيث لا يلحظ فيه معنى التشبيه صورة» كقولك زيد كالأسد ومثل البحر، فإن ما هذا حاله ليس من باب الاستعارة فى شىء لما يظهر فيه من صورة التشبيه، وأحد البابين مغاير للآخر فلا يمزج أحدهما بصاحبه، وقولنا «ولا حكما» يحترز به عن صورة واحدة، وهى قولنا زيد أسد، وعمرو بحر، فهل يعد هذا من باب الاستعارة، أو يكون معدودا فى التشبيه، فأكثر علماء البيان على عده من باب التشبيه، وإدخاله فى حيرة، ومنهم من زعم أنه معدود فى الاستعارة لتجرده من آلة التشبيه، فصار الأمر فى الاستعارة والتشبيه جاريا على ثلاثة أوجه، أولها أن يكون استعارة باتفاق، وهذا كقولك رأيت قمرا نوره على الناس، وشمسا ضياؤه على الخلق، وثانيها تشبيه بلا خلاف، وهو ما ظهرت فيه أداة التشبيه كقولك زيد مثل البحر، ومثل الأسد، وثالثها وقع فيه خلاف، هل يعد من الاستعارة أو يكون معدودا من التشبيه، وهو ما كان مضمر الأداة، وهذا كقولك زيد أسد، وعمرو بحر، وغير ذلك وسيأتى لهذا مزيد تقرير فى التفرقة بين الاستعارة والتشبيه. فهذا ما أردنا ذكره فى ماهية الاستعارة ومفهومها.

المذهب الأول أنه ليس من باب الاستعارة

وأما التفرقة بين الاستعارة والتشبيه فاعلم أن كل ما كان من صريح الاستعارة إما تصيير الشىء الشىء وليس به كما قال بعض الشعراء: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر وكما قال بعضهم: قامت تظللنى من الشمس ... نفس أعز على من نفسى قامت تظللنى ومن عجب ... شمس تظللنى من الشمس وأما جعل الشىء للشىء وليس له فكما قال لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها أراد السحابة كما قالوا نشبت أظفار المنية بفلان، فهذا لا خفاء بكونه مستعارا كما ترى، وما كان من صريح التشبيه فلا مقال فيه، وهو ما كان فيه أداة التشبيه ظاهرة كقول بشار: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ومثل قولهم فلان كالبدر، وفلان كالأسد، إلى غير ذلك من التشبيهات، فهذا لا خفاء به فى كونه تشبيها محضا، وإنما يقع النظر والتردد فى التشبيه المضمر الأداة كقولك زيد الأسد شجاعة، وعمرو البحر فى الجود والكرم، وكقول أبى الطيب المتنبى: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا فهل يعد من باب التشبيه، أو من باب الاستعارة، فيه مذهبان. المذهب الأول أنه ليس من باب الاستعارة وهذا هو الذى مال إليه ابن الخطيب الرازى وأبو المكارم صاحب التبيان، وهو رأى أكثر علماء البيان، وأنه من باب التشبيه المضمر الأداة، ولهم على ذلك حجتان: الحجة الأولى، قولهم إن الأسماء فى دلالتها على مدلولاتها نازلة منزلة الهيئات فى دلالتها على ما تدل عليه من الأحوال، فكما أنك لو أخذت رجلا من السوقة معلوما حاله بكونه سوقيا، ثم ألبسته تاج الملك، وأعرته إياه، وأقعدته على تخت المملكة بحيث إن كل

المذهب الثانى أنه بحقيقة الاستعارة أشبه

من رآه توهم أنه هو الملك، لكنت قد أعرته الملك، لأن المقصود من هيئة الملك حصول المهابة فى النفوس والجلالة فى الأعيان، ولكن ذلك غير حاصل مع بقاء ما يدل على كونه سوقيا، فهكذا ما نحن فيه إذا قلت زيد أسد، فقد نفيت عنه ما يدل على أنه ليس بأسد، لأن الذاتين لا يكونان ذاتا واحدة، فلا جرم لا تحصل المبالغة المقصودة من الاستعارة فلا تكون الإعارة حاصلة. الحجة الثانية، إن المقصود من الاستعارة هو أن يحصل للمستعير من المنافع مثل ما كان حاصلا للمعير منها، كالثوب مثلا فإن المستعير يلبسه كما يلبسه المعير سواء، فإذا قلت زيد أسد، فالمقصود من هذا الإخبار عن الشخص المعلوم بكونه أسدا لا غير، بخلاف قولك: لقيت الأسد، فإنك تفيد به أنه هو الحيوان المعلوم فى الشجاعة، فقد صار الاسم منتفعا بالشجاعة مثل انتفاع الأسد بها، بخلاف قولك زيد الأسد، فلم يقع ذلك الموقع، فلهذا لم يكن منتفعا بها، فلا جرم قضينا بكونه غير مستعار لما ذكرناه. المذهب الثانى أنه بحقيقة الاستعارة أشبه ، وقد قال به أبو هلال العسكرى، والغانمى، وأبو الحسن الآمدى، وأبو محمد الخفاجى، وغيرهم من علماء البيان ولهم حجتان. الحجة الأولى، قولهم الاستعارة ليس لها آلة، والتشبيه له الآلة، فما كانت فيه آلة التشبيه ظاهرة فهو تشبيه، وما لم تكن فيه ظاهرة فهو استعارة، فقوله زيد الأسد لا آلة فيه فوجب كونه من الاستعارة. الحجة الثانية، هو أن المفهوم من قولنا زيد الأسد، مثل المفهوم من قولنا لقيت الأسد، وأتانى أسد، فإذا كان مفهومهما واحدا فى المبالغة فى المجاز، فإذا قضينا بكون أحدهما استعارة وجب أن يكون الآخر كذلك من غير تفرقة بينهما، هذا مغزى كلام الفريقين مع فضل تهذيب منا له لم يذكروه، وقد لخصناه، والمختار عندنا تفصيل نرمز إلى مباديه، وحاصله أنا نقول: ما كان من قبيل التشبيه المضمر الأداة كقولنا: زيد الأسد، وزيد أسد، فليس يخلو حاله من قسمين: فالقسم الأول أن يكون الكلام مسوقا على جهة الاستعارة، فلو قدرنا ظهور آلة التشبيه لنزل قدره ولخرج عن ديباجة بلاغته، فما هذا حاله يكون من باب الاستعارة، ويفسد

جعله من التشبيه، ومثاله قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] فالخفض والذوق استعارتان بليغتان فلو ذهب بجعله تشبيها قائلا، اخفض لهما جانبك الذى هو كالجناح، وأذاقها الله الجوع والخوف اللذين هما كاللباس، كان من الركة بمكان، وهكذا لو قلت فى نحو قول الشاعر: فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد فما هذا حاله من رقيق الاستعارة وعجيبها فلو أظهرت التشبيه فيه وقلت فأمطرت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس، وسقت خدا كالورد، وعضت أنامل مخضوبة كالعناب بأسنان كالبرد، لكان غثا من الكلام فضلا عن أن يكون بليغا. القسم الثانى أن يكون الكلام متسقا مع ظهور أداة التشبيه وهذا كقولنا: زيد الأسد، فإنك لو قلت كالأسد كان الكلام سديدا وكقول البحترى: إذا سفرت أضاءت شمس دجن ... ومالت فى التعطف غصن بان فإنك لو قلت سفرت مثل ضوء الشمس ومالت فى التعطف مثل غصن البان، لم يخرج الكلام عن بلاغته، وعن هذا قيل إن قولنا زيد أسد، الأحق أن يكون من باب الاستعارة، وأن يكون قولنا زيد الأسد، أن يكون من باب التشبيه، لأن الكاف يحسن إظهارها فى المعرف باللام دون المنكر، والتفرقة بينهما أن اللام فى الأسد للجنس، فكأنك قلت زيد يشبه هذه الحقيقة المخصوصة من الحيوان، بخلاف المنكر، فإنها دالة على واحد من هذه الحقيقة، فإذا قلت زيد يشبه واحدا من هذه الحقيقة، فلا مبالغة فيه فافترقا، وقد قرر الزمخشرى فى تفسيره أن قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] يمكن جعله من باب الاستعارة، ويمكن جعله من باب التشبيه، مشيرا إلى ما ذكرنا من التلخيص فى ظهور آلة التشبيه وإضماره، كما مر، والله أعلم، فينحل من مجموع كلامنا أن الاستعارة لا تفتقر إلى أداة التشبيه وأن التشبيه لابد فيه من ذكر الأداة، وهى الكاف وكأن، ومثل، ونحو، وما شاكلها، فكلما ازداد التشبيه خفاء ازدادت الاستعارة حسنا ورشاقة، وكلما ظهر معنى التشبيه تعفت آثار الاستعارة، وامحت رسومها وأعلامها، واتضح أمر المشابهة كما تشهد له الأمثلة التى ذكرناها من قبل ويشهد له ما نذكره الآن بمعونة الله تعالى.

دقيقة

دقيقة اعلم أنك إذا حققت النظر فى الاستعارة فى مثل قولك لقيت الأسد، وجاءنى البحر، علمت قطعا أن التجوز إنما كان فى جهة المعنى دون اللفظ من حيث اعتقدت أن ذات زيد ذات الأسد، من غير مخالفة، ومن أجل هذا قال أهل التحقيق من علماء المعانى: إن استعمال المجازات يكون أبلغ فى تأدية المعانى من استعمال الحقائق، ولهذا فإنه يقال عند ذاك جعله أسدا وبحرا كما يقال جعله أميرا. فإن زعم زاعم أن المراد بالجعل ههنا التسمية كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] أى سموا، والمفعول الثانى من فعل سمى أبدا يكون المراد به اللفظ دون المعنى، كقولك سميت ولدى عبد الله، إذا وضعت عليه هذا الاسم، فجوابه أنا لا نسلم أنهم أرادوا التسمية، بل اعتقدوا للملائكة صفة الأنوثة، وأثبتوها لهم، ومن أجل هذا الاعتقاد صدر من جهتهم إطلاق اسم البنات فى قوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور: 39] ولم يكن ذمهم من أجل إطلاق لفظ البنات والأنوثة على الملائكة من غير اعتقاد لمعنى الأنوثة، بل كان الإنكار عليهم من أجل اعتقادهم لها فيهم، ومصداق ذلك قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] فهذا ما أردنا تقريره فى ماهية الاستعارة والحمد لله. البحث الثانى فى إيراد الأمثلة فيهما اعلم أن الأمثلة هى تلو الماهيات فى تقرير الحقائق وبيانها، فلأجل هذا أوردناها على إثر كلامنا فى الماهية ليتضح الأمر فيما نريده من ذلك، وجملة ما نورده من أمثلة الاستعارة أنواع خمسة. النوع الأول الاستعارات القرآنية اعلم أن من حق الاستعارة وحكمها الخاص أن يكون المستعار له مطوى الذكر، وكلما ازداد خفاء ازدادت الاستعارة حسنا، فإن أدخلت على الاستعارة حرف التشبيه فقلت فى قولك رأيت أسدا، رأيت رجلا كالأسد، فقد وضعت تاجها، وسلبتها ديباجها.

فمن ذلك قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112] فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من المجازات البليغة والاستعارات الرشيقة، فقد تضمنت استعارات أربعا، الأولى منها القرية للأهل، والثانية استعارة الذوق فى اللباس، والثالثة استعارة اللباس فى الجوع، والرابعة استعارة اللباس فى الخوف، فهذه الاستعارات كلها متلائمة، وفيها من التناسب ما لا خفاء به، فلما ذكر الأمن، والرغد من الرزق أردفه بما يلائمه من الجوع، والخوف، والإذاقة، لما فى ذلك من البلاغة، وهذا النوع يسمى الاستعارة المرشحة، وهو أن يأتى بالاستعارة عقيب الاستعارة لها بالأولى علاقة ومناسبة، وهذا كقوله تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] فلما استعار الشراء عقبه بذكر الربح لما كان مناسبا له فى غاية الملائمة لما سبق، وقد زعم عبد الله بن سيار الخفاجى إنكار الاستعارة المرشحة، وقال إن الاستعارة المبنية على الاستعارة من أبعد الاستعارات، وأنكر عليه الآمدى هذه المقالة، وما قاله الآمدى هو المعول عليه، فإن هذه الاستعارة المرشحة من أعجب الاستعارات وأغربها، واستظرفها كل محصل من علماء البيان وسنوضحها فى التقاسيم، ونورد الشاهد عليها بمعونة الله تعالى. ومن ذلك قوله تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] فذكر الظلمات والنور إنما كان على جهة الاستعارة للكفر والإيمان، والضلالة والهدى كأنه قال لتخرج الناس من الكفر والضلال اللذين هما كالظلمة إلى الإيمان والهدى اللذين هما كالنور، والمستعار له مطوى الذكر، فإذا أظهر كان من قبيل صريح التشبيه كما مثلناه ومن هذا قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إبراهيم: 46] وإنما يكون استعارة فى قراءة من قرأ لتزول بالنصب على تقدير (ان) بمعنى (ما) والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، واستعار الجبال لما أتى به الرسول صلى الله عليه وآله، من المعجزات الباهرة والأعلام الواضحة النيرة على نبوته، فالمعنى وما كان خدعهم وتكذيبهم لتزول منه هذه الأمور المستقرة الثابتة التى هى كالجبال فى الرسوخ والاستقرار، فأما على قراءة من قرأ لتزول منه بالرفع فى: تزول، فلا وجه للاستعارة فيه للجبال بل تكون باقية على

النوع الثانى الاستعارة فى الأخبار النبوية

حقيقتها، هذا ما قاله ابن الأثير، وهو جيد لا غبار عليه، لكنه يمكن دخول المجاز فيها من وجه آخر، وهو أن الله تعالى أخبر عما كانوا عليه من الإغراق فى الرد والتكذيب والمبالغة فى الإنكار لما جاء به الرسول بأن الجبال الرواسى تزول من شنع هذه المقالة وتفاحش هذه الجهالة كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) [مريم: 90- 91] فهكذا هذا، ومن هذا قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) [الشعراء: 224، 225] فاستعار الأودية للمغازى والمقاصد الشعرية التى يلخصونها بأفئدتهم ويصوغونها بأفكارهم، وخص الاستعارة بالأودية دون الطرق والمسالك، لأن المعانى الشعرية تستخرج بالفكرة والروية، وفيهما خفاء وغموض، فلهذا كانت الأودية أليق بالاستعارة، وفى القرآن استعارات كثيرة. النوع الثانى الاستعارة فى الأخبار النبوية فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات فإنكم إن ذكرتموه فى ضيق وسعة عليكم» «1» فاستعار هاذم اللذات للموت، وهو مطوى الذكر، ولو ظهر لم يكن هناك استعارة، وفى هذه الاستعارة من الرقة واللطافة ما لا يخفى حاله على من ضرب فى هذه الصناعة بحظ وافر وكان له فيها القدح القامر. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله: «لا تستضيئوا بنار المشركين» فاستعار ذكر النار للرأى والمشورة، والمعنى لا تهتدوا بآراء المشركين، ولا تتكلوا على أقوالهم، لما فيها من الخديعة والمكر والغرر، ومن ذلك قوله عليه السلام، «إن الغضب ليوقد فى فؤاد ابن آدم النار ألا تراه إذا غضب كيف تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه» فاستعار الوقيد لاشتداد الغضب وتراكمه، ومنه قوله عليه السلام: «ما ذئبان ضاريان فى زريبة أحدكم بأسرع من الحسد فى حسنات المؤمن» فاستعار الذئبين فى إفساد الغنم بضراوتهما لما يحصل من عقوبة الحسد فى إحباط الحسنات المستحقة على الأعمال الصالحة، يريد أن إسراعه فى الإحباط بمنزلة إسراع هذين الذئبين فى إهلاك الغنم وقتلها. ومن بديع الاستعارة وغريبها قوله صلّى الله عليه وآله «ما جرع عبد قط جرعتين أعظم عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم أو جرعة

النوع الثالث فى الاستعارة المأخوذة من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه

مصيبة يلقاها بصبر جميل» فاستعار الجرعة لما يكابده الإنسان عند ملابسة الغيظ ومقاساة الأحزان، وخص الجرعة لأن هذه الأمور كلها تخص القلب وتقع عليه كما تقع الجرعة عليه عند شربه، وهى استعارة لطيفة يعقلها أهل الكياسة، وينظر لها الأذكياء، ومن ذلك قوله عليه السلام: «المؤمن والكافر لا تتراءى نيرانهما» فاستعار ذلك إعلاما لما بينهما من البعد والانقطاع فى جميع الأحوال لأنهما إذا تباعدا فى الدين، فما وراء ذلك يكون أبعد وأعظم فى الانقطاع، وفى هذا إشارة إلى أن الإيمان أعظم الوصل فيما بين المسلمين، وأن الافتراق فيه لا وصلة بعده، ولهذا استعار له النار لأنها ترى من الأمكنة البعيدة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله «قيدوا القرآن بالدرس فإن له أوابد كأوابد الوحش» فاستعار ذكر الأوابد وهى الحيوانات الوحشية لما فيها من النفار وشدة الشرود لذهاب هذه المحفوظات عن القلب إذا لم تكن راسخة فيه بشدة الدرس لها، ومجازات الأخبار النبوية واسعة الخطو وقد وقفت على المجازات النبوية للسيد الشريف على بن ناصر، ولقد أتى فيها بالعجب العجاب ولباب الألباب، وفى كلامه دلالة على ما اختص به من الفضل والإحاطة بالبلاغة وتبحره فى علومها. النوع الثالث فى الاستعارة المأخوذة من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه ، فمن بليغها وأغربها قوله عليه السلام «وايم الله لأقودن الظالم بخزامة حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها» فانظر إلى هذه النكتة من كلامه ما أعظم موقعها فى الدين، وأرضاها لله وأشجاها فى حلوق الظلمة، وأرسخ قدمها فى البلاغة، وقد اشتملت على استعارات ثلاثة، الخزامة، والانقياد، والمنهل، وما أعجب توشحها فى قالب نظمها وحسن سياقها، فإنه لما ذكر الانقياد عقبه بما يلائمه من الخزامة، ولما ذكر الورود عقبه بما يناسبه من المنهل، وهذا هو سر التوشيح، وحقيقة جوهره، ومن أرق الاستعارة وألطفها ما قاله عليه السلام: يشير به إلى نفسه وأولاده من بعده «نحن الشعار والخزنة والأبواب، لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير بابها سمى سارقا» . فتفكر فى هذه الكلمات القصيرة وما اشتملت عليه من المعانى وانطوت عليه من الأسرار والرموز فى فضل أهل البيت وعلو درجتهم عند الله تعالى ومكانتهم من الشرف

بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقرب مكانهم منه، وتحتوى على استعارات خمسة، فاستعار الشعار ليدل به على الاختصاص بالرسول، والملاصقة له فى حسبه، واستعار الخزنة ليدل به على أنهم الحافظون لعلوم الشريعة والمهيمنون عليها، واستعار الأبواب ليدل به على أنه لا توجد الفضائل فى العلوم إلا من جهتهم، وأنهم بمنزلة الأبواب لها، واستعار قوله لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، دالا به على أن أخذها من جهة غيرهم خلاف العادة المألوفة وعكس للأمر وإبطال لحقيقته، واستعار قوله فمن أتاها من غير بابها كان سارقا، ليدل به على أن كل من أخذها من غيرهم فقد ظلم وتعدى وأساء كالسارق، لأنه أخذ ما لا يملكه فاستعار هذه الألفاظ لما ذكرناه من تلك المعانى، ومن ذلك ما قاله فى معرض التهكم والتوبيخ لبنى أمية إن بنى أمية يفوقوننى بمال الله، والله لئن عشت لهم لأنفضنهم نفض اللحام الوذام التربة» وفى كلام آخر «التراب الوذمة» فاستعار التوفيق للأكل قليلا قليلا، أخذا من فواق الناقة، وهو الحلبة بعد الحلبة، وقوله لأنفضنهم نفض اللحام، استعارة لتفريق شملهم والتنكيل بهم، واللحام، هو القصاب، والوذام هى القطع من الكرش، واحدتها وذمة، والتربة التى تقع على الأرض فإذا نفضها اللحام تناثر التراب منها أسرع ما يكون وأقصاه عنها، فأما قوله عليه السلام: التراب الوذمة، فهو من القلب الذى قد رقى فى غايتى الفصاحة والبلاغة، وهذه الاستعارة دالة على أنه مبالغ فى قطع الدابر منهم، واستئصال الشأفة بالتفريق لجموعهم، والإهانة لقدرهم، ولله در أمير المؤمنين ما أصلب قناته فى الدين، وأشد غضبه فى الله، وأعظم عداوته لأعدائه. ومن ذلك كتابه إلى ابن عباس وهو عامله بالبصرة اعلم أن البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن فحادث أهلها بالإحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم. وقد بلغنى تنمرك على بنى تميم وغلظتك عليهم، وإن بنى تميم لم يغب منهم نجم إلا طلع لهم آخر. فالمهبط، والمغرس استعارتان بليغتان لموضع البدع والشرور ومخالفة أمر الله تعالى، وإثارة الفتن، ومعصية إمام الحق، وقوله فحادث أهلها بالإحسان إليهم، استعارة، وقوله واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم، استعارة أخرى للأنس لهم وتقرير خواطرهم. وقوله وقد بلغنى تنمرك على بنى تميم، استعارة للوحشة وشراسة الأخلاق. وقوله وغلظتك عليهم، استعارة أيضا للإعراض وضيق النفس عليهم، وقوله وإن بنى تميم لم يغب منهم نجم إلا طلع لهم آخر، استعارة لبقاء الرئاسة فيهم، وأنه لا يزال فيهم من فى حياته نفع للإسلام وعز وكهف.

وما قصدت بنقل طرف من كلام أمير المؤمنين إلا لغرضين.

وأكثر كلامه عليه السلام فى أعلا طبقات الفصاحة، وأسمى مراتب البلاغة، فأما قوله عليه السلام عند لقاء عدوه اللهم قد صرح بمكنون الشنآن، وجاشت مراجل الأضغان فهاتان استعارتان لشدة البغضاء وتمكن العداوة وتأكدها فى الأفئدة، فهما على ما اختصا به من النظم والاتساق، وقصر اللفظ وبلاغة المعانى، لا يقدران بقيمة ولا يوزنان بأنفس الأثمان كما ترى. ومن كلام له عليه السلام يخاطب به معاوية ويذكر فيه توجعه على بنى هاشم، فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، والرمى من وراء حرمته، مؤمننا يبغى بذلك الأجر، وكافرنا يحامى عن الأصل، ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمن، وكان رسول الله إذا احمر الباس، وأحجم الناس قدم أهل بيته، فوقى بهم أصحابه حر السيوف والأسنة. فعلى الناظر إعمال فكرته الصافية، وشحذ عزيمته الماضية، فإذا فعل ذلك وعزل عن نفسه سلطان الحمية، وحمى جانبه عن التمسك بأهداب العصبية علم قطعا لا ريب فيه، ويقينا لا رد له أنه كلام من أحاط بالمعانى ملكه، ونظم عقود البلاغة ولآلئها سلكه، وما قصدت بنقل طرف من كلام أمير المؤمنين إلا لغرضين. الغرض الأول التنبيه على عظم قدره ، والإعلام بأن أحدا من البلغاء وأهل الفصاحة لا يبلغ وإن عظم خطره شأو كلامه، ولا يستولى على أغواره، ويقصر عن الإتيان بمثاله وما ذاك إلا لأنه قد سبق وقصروا، وتقدم وتأخروا. الغرض الثانى الإعلام بأن أهل البلاغة ألهب الناس حشا، وأعطشهم أكبادا ، إلى الوقوف على أسرارها، والإحراز لأغوالها، وأغوارها، ومع ذلك تراهم قد أعرضوا عن كلامه صفحا، وطووا عنه كشحا، مع دلوعهم من الكلام بما لا يدانيه ويقصر عن بلوغ أقصر

النوع الرابع فى الاستعارة الواردة عن البلغاء وأهل الفصاحة

معانيه، ولست أدرى علام أحمل إعراضهم عنه؟ فإن كان جهلا بأمره، فقدرهم أعلا من أن يجهلوا مثل ذلك، وهم الغواصون على جواهر البلاغة، والمتبحرون فى علومها، وإن كان استغناء عنه بغيره فهيهات هيهات، أين الغرب من النبع، والحصا من العقيان، وعقود الياقوت، من خرز المرجان، وشتان ما بين ظهور السها ونور الفرقد، ومتى ظهر نور الشمس انسلخ الظلام وزال الليس. النوع الرابع فى الاستعارة الواردة عن البلغاء وأهل الفصاحة اعلم أنا نذكر ههنا ما ورد من الاستعارات الفائقة عمن يوصف بالبلاغة، ونذكر ما يوازنه من كلام أمير المؤمنين، كرم الله وجهه، ليتحقق الناظر تفاوت ما بين الكلامين، وليعرف مصداق ما ادعيناه فى حقه من أنه قد صار ابنا لبجدتها وأبا لعذرتها. فمن ذلك ما روى عن الحجاج عند قدومه العراق أنه قال: إن أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان نثل كنانته وعجمها عودا عودا، فرآنى أصلها نجارا، وأبعدها نصلا. فقوله: نثل كنانته وعجمها عودا عودا، يريد أنه عرض رجاله واحدا واحدا، واختبرهم رجلا رجلا، فرآنى أشدهم وأمضاهم، فهذا من الاستعارات الفائقة. ولنذكر من كلام أمير المؤمنين ما هو أرق وألطف فى الاستعارة من هذا، وهذا نحو قوله يخاطب به معاوية، فكيف أنت إذا انكشف عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها، وخدعت بلذتها، دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها، وأمرتك فأطعتها، وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه منج، فاقعس عن هذا الأمر، وخذ أهبة الحساب، وشمر لما قد نزل بك، فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه، وبلغ فيك أمله، وجرى منك مجرى الروح والدم. فليمعن الناظر نظره فيما بين الكلامين من التفاوت فى لطيف الاستعارة منهما، فإنه يجد بينهما بونا بعيدا، وغاية غير مدركة بالحصر. ومن ذلك ما قاله بعض الفصحاء فى وصف ولدين لرجل كان مغرما بحبهما قال: وقد هويت بدرين على غصنين، ولا طاقة لقلب بهوى واحد، فكيف إذا حمل هوى اثنين، ومما شجانى أنهما يتلونان فى أصباغ الثياب، كما يتلونان فى فنون التجرم والعتاب، وكان

أحدهما قد لبس قباء أحمر، والآخر لبس قباء أسود، فقال: واصفا لهما، وقد استجدا الآن زيا لا مزيد على حسنهما فى حسنه، فهذا يخرج فى ثوب من حمرة خده، وهذا فى ثوب من سواد جفنه. ولنذكر من كلام أمير المؤمنين ما يفوق عليه ويزيد فى الاستعارة الرائقة، والمقاصد الفائقة، من ذلك قوله فى صفة خلقة الطاووس قال فيه: إذا نشر جناحه من طيه وسما به مطلا على رأسه قلت قلع دارىّ عنجه نوتيه، تخال قصبه مدارى من فضة وما أنبت عليه من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلز الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جنىّ جنى من زهرة كل ربيع، وإن شاكلته بالحلى فهو فصوص ذات ألوان، قد نطقت باللجين المكلل، وإن ضاهيته بالملابس قلت موشى الحلل، أو مونق عصب اليمن، وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه، أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحيانا صفرة عسجدية. فانظر أيها الواقف مقدار ما بين الكلامين من التفاوت فى مأخذهما فى الاستعارة، وميز ما اشتمل عليه من الرقة واللطافة والرونق والرشاقة، فليس العلم كالحسبان، ولا يكون الخبر كالعيان. ومن ذلك ما قاله بعض الفصحاء فى وصف المطر، أقبل عارض مسف، متراكم غير شف، كالقاصد إلى الرقاق، والمخضل للأنفاق، فأرخى الغمام عزاليه. واثعنجر بصوب ما فيه. فالتقى الماء على أمر قد قدر، وتعقد منه الثرى وودأت منه العذر، وتهدمت القرى. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه عند الاستسقاء: وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق سحا وابلا، تحيى به ما قد مات وترد به ما قد فات، وأنزل علينا سماء مخضلة مدرارا هاطلة يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلب برقها ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، ولا شفان ذهابها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيى بها الميت من بلادك، فهذا معنى واحد قد اتفقا على وصفه فانظر ما بين الوصفين وتأمل ما بين الكلامين، كيف بالغ فأحسن، واستعار فأجاد، ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية فى الاعتراف له بالتقدم والسبق ممن لم يتضمخ برذائل الحسد، ولا ينبض فيه عرق العصبية، حيث خصه الله بالخصال الشريفة والفضائل الجمة.

النوع الخامس الاستعارات الشعرية،

النوع الخامس الاستعارات الشعرية، من ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى: فما تركن بها خلدا له بصر ... تحت التراب ولا بازا له قدم ولا هزبرا له من درعه لبد ... ولا مهاة لها من شبهها حشم وهذا من بديع الاستعارة وغريبها واستعار الخلد لمن كان مختفيا تحت التراب خائفا، والباز استعاره لمن طار هاربا، والهزبر، والمهاة استعارتان للرجال المقاتلة، وللنساء من السبايا، وهذه مبالغة فى شدة الوقعة والهزيمة، ومن ذلك ما ورد عن بعض الشعراء فى صفة السيف فقال: حملت حمائله القديمة بقلة ... من عهد عاد غضة لم تذبل وقال المتنبى أيضا: فى الخد إن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا فالبقلة استعارة للسيف، والمطر جعله استعارة للدمع، ومن ذلك ما قاله الشريف الرضى: إذا أنت أفنيت العرانين والذرى ... رمتك الليالى من يد الخامل الذكر وهبك اتقيت السهم من حيث يتقى ... فمن ليد ترميك من حيث لا تدرى فالعرانين والذرى، استعارة لعظماء الناس وأشرافهم، ومن ذلك ما ورد عن امرىء القيس فى صفة الليل الطويل: فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل فلما جعل لليل وسطا ممتدا، استعار له اسم الصلب، وجعله متمطيا، استعارة لطوله، واستعار الأعجاز لثقله وبطائه، واستعار الكلكل لمعظم الليل ووسطه، أخذا له من كلكل البعير، وهو ما يعتمد عليه إذا برك. فصور الليل على صورة البعير، حيث جعل له صلبا يتمطى به أولا، وثنى بذكر العجز، وثلث بالكلكل حتى يكاد أن يخيل أنه كصورة البعير، وهو من بليغ الاستعارة ومحاسنها ومن ذلك ما قاله بعضهم. نبل حباها من رؤوس بنانه ... ريشا ومن حلل المداد نصولا ففرت شواكل كل أمر مشكل ... ورددن كل مفضل مفضولا وترى الصحيفة حلبة وجيادها ... أقلامه وصريرهن صهيلا

البحث الثالث فى أقسام الاستعارة

فهذا أيضا من جيد الاستعارة ومليحها فاستعار اسم النبل للأقلام، والريش للأنامل، والنصول لسواد المداد، واستعار اسم الحلبة للقرطاس، والجياد للأقلام وجعل الصرير كالصهيل فى الخيل، وهذا من التوشيح للاستعارة البالغ ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء: العيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال سارى فاقضوا مآربكم سراعا إنما ... أعماركم سفر من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وبادروا ... أن تسترد فإنهن عوارى ومن غريب الاستعارة ما قاله بعضهم يرثى ولدا له: وهلال أيام مضى لم يستدر ... بدرا ولم يمهل لوقت سرار عجل الكسوف عليه قبل أوانه ... فمحاه قبل مظنة الإبدار واستل من أترابه ولداته ... كالمقلة استلت من الأشفار ولنكتف بهذا القدر فى أمثلة الاستعارات ففيه غنية. البحث الثالث فى أقسام الاستعارة اعلم أن الاستعارة منقسمة باعتبار ذاتها إلى حقيقية، وخيالية، وباعتبار لازمها إلى مجردة، وموشحة، وباعتبار حكمها إلى حسنة، وقبيحة، وباعتبار كيفية استعمالها إلى استعارة محسوس لمحسوس، أو معقول لمعقول، إلى غير ذلك من أنواع التقاسيم، فهذه تقسيمات أربعة، نذكر ما يتعلق بكل واحد منها وأمثلته بمعونة الله تعالى. التقسيم الأول باعتبار ذاتها إلى حقيقية وخيالية فأما الحقيقية فهى أن تذكر اللفظ المستعار مطلقا كقولك: رأيت أسدا. والضابط لها أن يكون المستعار له أمرا محققا، سواء جرد عن حكم المستعار له، أو لم يجرد بأن يذكر الاستعارة ثم يأتى بعد ذلك بما يؤكد أمر المستعار له ويوضح حاله، وهذا مثاله قولك: رأيت أسدا على سرير ملكه، وبدرا على فرس أبلق، وبحرا على بابه الوفاد، وبحر علم لا

وأما الاستعارة الخيالية الوهمية،

يحيف فى قضائه وحكمه، وبدر تم يتكلم بجميع الحقائق، فيأتى بهذه الأمور عقيب ذكر الاستعارة من أجل تأكيد أمرها، وإيضاح حالها لأنك إذا قلت رأيت أسدا، فقد حصل مطلق الاستعارة اختصاصه بالشجاعة التى هى خاصة الأسد، فهذه استعارة مطلقة، ثم لما قلت على سرير ملكه، فصلته عن حكم الآساد، إذ ليس الجلوس على السرر من شأنها، وإنما جىء بذلك من أجل تأكيد المستعار له، وهذه تسمى مجردة، وهكذا إذا قلت رأيت قمرا على فرس، وبدر تم يتكلم، فقد أثبت له ضوء الأقمار وتمام البدور، ثم فصلته عما لا يليق بالأقمار والبدور بقولك على فرس، وبقولك يتكلم، لأنه ليس الكون على الخيل والكلام من صفة الأقمار والبدور بحال، ولكن الغرض هو ما ذكرناه من توكيد أمر المستعار له وتوضيح حاله، ومن النمط العالى فى الاستعارة ما قاله بعض الشعراء: وصاعقة فى كفه ينكفى بها ... على أرؤس الأعداء خمس سحائب فلما استعار الصاعقة لنصل السيف عقبه بقوله ينكفى بها، أى يتصل ويلابس رؤوس الأعداء خمس سحائب، أراد بها الأصابع، إيضاحا لأمر الصاعقة، وتبيانا أن ما ذكره من حكم المستعار له، وجعل قرينته دالة على ما أراده من وصف هذا الممدوح، ومن فائق الاستعارة ورائقها قول بعضهم: ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحيانا فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر فى كل وقت طالع فيها فلما استعار ذكر القمر، عقبه بذكر المعاجر وأنه يبليها بطلوعه فيها كل وقت، وذكره من أجل إيضاح أمر المستعار له، وبيان حقيقته. وأما الاستعارة الخيالية الوهمية، لهى أن تستعير لفظا دالا على حقيقة خيالية تقدرها فى الوهم، ثم تردفها بذكر المستعار له، إيضاحا لها وتعريفا لحالها كما قال بعضهم: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وقد يجتمع التجريد والتوشيح فى الاستعارة كما قال زهير: لدى أسد شاكى السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم فلما صوره بصورة الأسد جرد الاستعارة بأن عقبه بكونه حديد الشوكة فى سلاحه، تقريرا لحال الاستعارة، وتوكيدا لأمرها، ثم وشحها بقوله: «له لبد أظفاره لم تقلم» وكما لو قال فى هذا «رأيت أسدا دامى الأنياب وافر البراثن» لكان من باب الاستعارة الموشحة،

ومن الخيالية قولهم: «فلان أنشبت المنية فيه مخالبها» كان تخييلا للاستعارة، لأنه لما شبه المنية بالسبع فى عدوانها وتضريتها على الإنسان، جعل لها مخالب، ليزداد أمر التخييل ويكثر، ومن الاستعارة التخيلية، الآيات الدالة على التشبيه كقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة: 64] وقوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَ [ص: 75] وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] ومن أجل ذلك زل كثير من الفرق فى اعتقادها جواز الأعضاء على الله تعالى وحلول المكان، والجهة، وغير ذلك من الظواهر النقلية التى يشعر ظواهرها بذلك، فإنهم لما لم يفهموا هذه الاستعارة وجهلوا حالها، وقعوا فى أودية التهويس من اعتقاد التشبيه وتوهم كل ضلالة فى ذاته تعالى، فمن ههنا كان السبب فى ضلال المشبهة، فأما المنزهة فلهم فيها تأويلات ركيكة بعيدة، والذى حملهم على ذلك تقرير القواعد العقلية، فلا جرم اغتفروا بعدها حذرا من المناقضة للقضايا فى البراهين، ولو تفطنوا لهذه الاستعارة لكانوا فى غنية عن أكثر هذه التأويلات الركيكة، فأما التفرقة بين الاستعارة الحقيقية والاستعارة الخيالية، فسنذكرها فى أحكام الاستعارة بمعونة الله تعالى: وقد يجتمع التحقيق والتخييل فى الاستعارة كما فى بيت زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله فيمكن جعله من باب التخييل، وتقريره هو أنه لما تحقق من حاله أنه أمسك عما كان عليه فى عنفوان الشباب وغضارته من سلوك جانب الغى وركوب مراكب الهوى، استعار له قوله: «عرى أفراس الصبا ورواحله» على جهة التخييل وطريقه، كأنه شبه الصبا فى حال قوة دواعيه وميلانه إلى اللهو والطرب، بالإنسان الذى يقدر على تصريفك على ما تريد، ثم بالغ فى الاستعارة حتى صوره بصورة الإنسان واختراع ما له من الآلات والأدوات، وأطلق اسمها عليه تحقيقا لحال الاستعارة المتخيلة، ويمكن جعله من باب التحقيق، وتقريره أنه استعار الأفراس والرواحل لما يحصل من دواعى النفوس والقوى الإنسانية عند الصبا وميل القلوب إلى الهوى فلهذا قال: عرى عن هذه الأشياء بعد مفارقة الصبا. ومما يمكن تنزيله على هذين الوجهين فى الخيال، والتحقيق، قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] فإذا جعلته من باب التخييل، فتقريره هو أن الله تعالى أمر الولد بأن يلين لهما جانبه، ويتواضع لهما، فاستعار لفظ الجناح، منبها به على التخييل فى الاستعارة بطريق المبالغة فى طلب أن يكون الولد لأبويه،

التقسيم الثانى باعتبار اللازم لها إلى مجردة وموشحة

كالطائر لفرخه فى فرط حنوه عليه وتعطفه على محبته، فجعل الذل طائرا على طريق الاستعارة، ثم أخذ الوهم فى تصوير ما للمستعار من الآلات والجوارح، ثم أضاف اسم الجناح إلى الذل، رعاية لمزيد البيان، وإفراطا فى تحصيل البلاغة. وإذا جعلته من باب التحقيق فتقريره أنه لما أراد المبالغة فى لين الجانب للأبوين من جهة الولد، استعار لفظ الجناح للتذلل والتواضع، ونزله منزلة الجناح فى التصاقه بالتراب وإسباله فى التغطية للفرخ، مبالغة فى لين العريكة، وحسن التذلل للوالدين. ومن ألطف ما نوجهه على هذين التوجيهين قوله تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] والظاهر من هذه الاستعارة هو التخييل، لأن الله تعالى لما ابتلاهم لكفرهم باتصال هاتين البليتين، ولما استعار اللباس ههنا مبالغة فى الاشتمال عليهم أخذ الوهم فى تصوير ما للمستعار منه من التغطية والستر والاسترسال، رعاية لمزيد البيان فى ذلك، وإن جعلته من باب التحقيق للاستعارة، فتقريره هو أن ما يرى على الإنسان عند شدة الخوف والجوع من الضعف والهزال، وانتقاع اللون، وعلو الصفرة، ورثاثة الهيئة، وركة الحال، وحصول القلق والفشل، يضاهى الملابس فى اختلاف أحوالها وألوانها. التقسيم الثانى باعتبار اللازم لها إلى مجردة وموشحة إذا استعير لفظ لمعنى آخر، فليس يخلو الحال، إما أن يذكر معه لازم المستعار له، أو يذكر لازم المستعار نفسه، فإن كان الأول فهو التجريد، وإن كان الثانى فهو التوشيح، فأما الاستعارة المجردة فإنما لقبت بهذا اللقب، لأنك إذا قلت: «رأيت أسدا يجدل الأبطال بنصله، ويشك الفرسان برمحه» فقد جردت قولك: أسدا، عن لوزم الآساد وخصائصها، إذ ليس من شأنها تجديل الأبطال ولا شك الفرسان بالرماح والنصال، ومن التجريد قوله تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] ولو قال: كساها الله لباس الجوع والخوف، لكان توشيحا فبالغ فى شدة ما أصابهم بقوله «فأذاقها» لأن الذوق أبلغ فى الإحساس وأدخل فى الإيلام، من قوله كساها.

فأما الاستعارة الموشحة،

لا يقال فأراه لما قال «أذاقها» فلم لم يقل طعم الجوع والخوف ليلائم قوله «فأذاقها» ؟ ولم قال لباس الجوع وبين اللباس والطعام تنافر؟ لأنا نقول إن الطعم وإن كان ملائما للإذاقة، لكنه لو ذكره لما كان مقويا لبيان اشتمال الجوع والخوف لهم، وعموم أثرهما على جميع البدن، كما تعم الملابس وتغطى جميع البدن، فلا جرم حصل من لفظ الإذاقة المبالغة فى إدراك ألم الجوع والخوف بالإدراك بآلة الذوق، وحصل من لفظ اللباس المبالغة فى العموم والاشتمال، فلأجل هذا كان الأولى ذكر اللباس ليحصل المعنيان جميعا» ، فأما الاستعارة الموشحة، فإنما سميت بهذا الاسم، لأنك إذا قلت: «رأيت أسدا وافر الأظفار منكر الزئير دامى الأنياب» فقد ذكرت لازم اللفظ المستعار وذكرت خصائصه فوشحت هذه الاستعارة، وزينتها بما ذكرته من لوازمها وأحكامها الخاصة، أخذا لها من التوشيح، وهو ترصيع الجلد بالجواهر واللآلىء تحمله المرأة من عاتقها إلى كشحها، وهذا هو الوشاح، واشتقاق التوشيح للاستعارة منه، ومثالها قوله تعالى: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] ثم قال على إثره فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16] فلما استعار لفظ الشراء عقبه بذكر لازمه وحكمه، وهو الربح توشيحا للاستعارة، ولو قال فهلكوا أو عموا وصموا عوض قوله: فَما رَبِحَتْ لكان تجريدا، ولم يكن توشيحا، ولو قال تعالى فكساها الله لباس الجوع، لكان توشيحا، أو قال فأذاقها الله طعم الجوع والخوف لكان توشيحا أيضا، ومن التوشيح قول كثير عزة: رمتنى بسهم ريشه الكحل لم يضر ومن قوله: تقرى الرياح رياض الحزن مزهرة ... إذا سرى النوم فى الأجفان أيقاظا فذكر السهم مع الريش، والرياض مع الأزهار، يكون توشيحا. ومن مليح الاستعارة المجردة ما قاله أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فى حق الله تعالى: «فلو وهب ما ضحكت عنه أصداف البحار من سبائك العقيان وفلز اللجين» ومن الاستعارة الموشحة قوله عليه السلام: «قذفت إليه السموات والأرضون مقاليدها، وانقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها» . فلما ذكر الانقياد عقبه بما يلائمه من الزمام توشيحا لها.

التقسيم الثالث باعتبار حكمها إلى حسنة وقبيحة

التقسيم الثالث باعتبار حكمها إلى حسنة وقبيحة اعلم أن الاستعارة إنما يظهر حسنها إذا عريت عن أداة التشبيه، وكلما ازداد التشبيه خفاء ازدادت حسنا ورشاقة، وكانت متضمنة للبلاغة مع الإيجاز، وجودة النظم وحسن السياق، والقبيح منها ما خالف ما ذكرناه من هذه الاعتبارات. فأما الاستعارة الرائقة فكقوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [طه: 131] فانظر إلى استعارة مد العين لإحراز محاسن الدنيا والشغف بحبها، والتهالك فى جمع حطامها، والشح بما ظفر به منها وبين المد للعين، وهذه الأشياء، من الملائمة، والتناسب ما لا يخفى على أهل الكياسة، وهكذا قوله تعالى: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فاستعار الزهرة لما يظهر من زينة الدنيا ورونقها، وإدراك لذاتها كالزهر إذا تفتح وأعجبت غضارته وحسن بهجته ومن أعظمها إعجابا قوله صلّى الله عليه وسلّم فى وصف القرآن «من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» فاستعار الأمام، والخلف للعمل بأحكامه والإعراض عنها ثم جعل الانقياد إلى الأمور المحبوبة وصير السوق إلى الأمور المكروهة، ومما يشير إلى هذا المعنى قول أمير المؤمنين «تخففوا تلحقوا» وقوله: «فإن السبقة الجنة، وإن الغاية النار» فقوله تخففوا تلحقوا، من الكلام الذى لا تنال له غاية، ولا يدرك له حد ولا نهاية، ثم إنه جعل السبقة، لما يراد ويجب، وجعل الغاية لما يكره ويعرض عنه. ومن جيدها قوله: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطى الأباطح والغرض بهذا هو أن الإبل سارت سيرا شديدا فى سرعة مع اختصاصه بلين وسلاسة، حتى كأنها سيول وقعت فى الأباطح فجرت. ومن غريبها ما قاله بعض الشعراء: قوم إذا لبسوا الدروع حسبتها ... سحبا مزررة على أقمار

لو أشرعوا أيمانهم من طولها ... طعنوا بها عوض القنا الخطار ودحوا فويق الأرض أرضا من دم ... ثم انثنوا فبنوا سماء غبار فهذا وما شاكله من أحسن الاستعارات وأرقها، وقال بعضهم يرثى ولدا له: إن تحتقر صغرا فرب مفخم ... يبدو ضئيل الشخص للنظار إن الكواكب فى علو مكانها ... لترى صغارا وهى غير صغار فهكذا يكون حال الاستعارة الحسنة. فأما الاستعارة القبيحة فهى كل ما كان لا مناسبة بينها وبين المستعار له فيقبح لأجل ذلك، وهذا كقول أبى نواس: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح فهذا وأمثاله من الاستعارة الركيكة النازلة القدر فى البلاغة، ومراده من هذا هو أن المال يتظلم من إهانته له بالتمزيق بالإعطاء فالمعنى جيد، والعبارة قبيحة لا تلوح فيها مخايل البلاغة بحال. ومنه قوله أيضا: ما لرجل المال أضحت ... تشتكى منها الكلالا فهذا أيضا أرك من الأول وأنزل قدرا وأسخف. وما أعجب ما قاله مسلم بن الوليد فى هذا المعنى: تظلّم المال والأعداء من يده ... لا زال للمال والأعداء ظلاما فالمقصود من هذا له ولأبى نواس واحد، ولكنه فاق عليه بجودة الانتظام وحسن السبك، فكان بليغا فصيحا. ومن ضعيف الاستعارة قول أبى تمام: بلوناك أما كعب عرضك فى العلى ... فعال وأما خد مالك أسفل فمراده من هذا أن عرضك مصون ومالك مبتذل، لكنه أخرجه أقبح مخرج، وساقه سياقا مستكرها، فانظر إلى قوله كعب عرضك، وخذ مالك، ما أبعده عن طرق البلاغة وأسخف قدره فيها. ومما نزل قدره قول بعضهم: (أيا من رمى قلبى بسهم فأولجا) فقوله فأولجا من الاستعارات النازلة وهكذا لو قال فأدخلا، ولو قال بدله فأقصدا أو فأنفذا، لكان له موقع حسن فى الاستعارة. فهذه الأمور «إذن» تعرف بالذهن الصافى، ويحكم فيها الذوق المعتدل. وفى ما ذكرناه كفاية فى التنبيه على ما أردنا من ذلك على غيره.

التقسيم الرابع باعتبار كيفية الاستعمال للاستعارات

التقسيم الرابع باعتبار كيفية الاستعمال للاستعارات اعلم أن الاستعارة تجرى فى استعمالها على أوجه أربعة نذكرها. الوجه الأول استعارة المحسوس للمحسوس وهذا كقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 58] شبه الحور العين بالمرجان والياقوت فى شدة الحمرة والرقة وهكذا قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] شبههن بالبيض فى بياضه ورقته ولطافته، فهذه استعارة مقدرة بتقدير طرح أداة التشبيه فتكون استعارة محققة، كما أن كل ما كان من الاستعارة يطوى فيه ذكر المشبه فهو من التشبيه المقدر كقولك: رأيت أسدا، ولقينى أسد، كما مر بيانه. ومثال الاستعارة المحققة فى المحسوسين قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] فالمستعار النار، والمستعار له هو الشيب، بواسطة الانبساط ومنه قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: 99] فالموجان، حركة المآء فى الأصل، فاستعير للقلق والفشل والاضطراب فى الأمر. ومن هذا قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] فالمستعار منه المرأة التى لا تلد ولدا، والمستعار له الريح، لأنها لا تصلح شيئا ولا ينمو بها نبات. وقوله تعالى: نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] فالمستعار له خروج النهار من ظلمة الليل، والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته، فلما كان النهار من شدة الاتصال بالليل كاتصال الجلد بالمسلوخ منه، لا جرم حسنت الاستعارة، وهو باب واسع فى كتاب الله تعالى والسنة الشريفة. الوجه الثانى استعارة المعقول للمعقول وهذا كقوله تعالى: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] فاستعار الرقاد للموت، وكلاهما أمر معقول. وقوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف: 154] فالسكوت عبارة عن زوال الغضب وارتفاعه: وهما أمران عقليان. ومنه قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الفرقان: 23] استعير من قدوم المسافر بعد مدة والمستعار له، هو الجزاء بعد الإمهال. وقوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ

الوجه الثالث استعارة المحسوس للمعقول

الْغَيْظِ [الملك: 8] فالغيظ أمر معقول مستعار للحالة المتوهمة للنار. أجارنا الله منها. لإرادة الانتقام بلسان الحال من العصاة. الوجه الثالث استعارة المحسوس للمعقول وهذا كقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18] فالقذف، والدمغ، أمران معقولان مستعاران من صفات الأجسام، والمستعار له الحق، والباطل، والجامع هو الإعدام والإذهاب ومنه قوله تعالى وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214] فأصل الزلزلة التحريك بالعنف والشدة، ثم يستعار لشدة ما نالهم من العذاب. ومنه قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] الأصل فى الصدع هو الانشقاق للقارورة وغيرها. ومنه قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران: 187] فالنبذ فى الأصل يستعمل فى إلقاء الشىء عن اليد، ثم استعير فى الأمر المعقول عنه المتناسى حاله، والجامع بينهما اشتراكهما فى الزوال عن التحفظ والإيقاظ. الوجه الرابع استعارة المعقول للمحسوس وهذا كقوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] المستعار منه التكبر والعلو، والمستعار له هو ظهور الماء، والجامع بينهما خروج الحد فى الاستعلاء المضر، ومنه قوله تعالى: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: 6] فالعتو مستعار من التكبر والشموخ، والمستعار له هو الريح، والجامع بينهما هو الإضرار البالغ. ومنه قوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 8] فالتميز من الغيظ استعاره، استعير للنار والجامع بينهما شدة التلهب والاضطراب كما قال تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان: 12] ومنه قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد: 4] فالوضع والوزر معنيان معقولان، استعيرا للحرب وهى محسوسة. تنبيه اعلم أن فى الاستعارة ما يكون معدودا فى التهكم، وحاصل الاستعارة التهكية، أن تستعمل الألفاظ الدالة على المدح فى نقائضها من الذم والإهانة تهكما بالمخاطب، وإنزالا لقدره، وحطا منه وهذا كقوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] مكان

البحث الرابع فى أحكام الاستعارة

نقيضهما من السفيه الغوى وقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] بدل قوله أنذرهم، لأن البشارة إنما تستعمل فى الأمور المحمودة، والمراد ههنا العذاب والويل ومنه قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) [الصافات: 23] . والتهكم فى اللغة عبارة عن شدة الغضب على المتهكم به، لما فيه من إسقاط أمره وحط منزلته وحاله، واشتقاقه من: تهكمت البئر، إذا سقط طيها. وهو كثير التدوار فى كتاب الله تعالى خاصة عند عروض ذكر الكفار وأهل الشرك والنفاق كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] وغير ذلك من الآيات الوعيدية، والخطابات الزجرية الدالة على مزيد الغضب وبالغ الانتقام. اللهم أجرنا من التعرض لسخطك، وعظيم غضبك، يا خير مستجار به، وأكرم من يلاذ برحمته. البحث الرابع فى أحكام الاستعارة اعلم أنا قد ذكرنا ما يتعلق بحقائق الاستعارة، والذى بقى علينا هو ذكر أحكامها الخاصة غير ما أسلفناه من قبل، وجملتها سبعة. الحكم الأول هل المستعار هو اللفظ، أو المعنى؟ زعم زاعمون أن المستعار هو اللفظ، والذى عليه أهل التحقيق أن الاستعارة إنما تكون متعلقة بالمعنى، وهذا هو المختار، ويدل على ذلك أوجه ثلاثة، أما أولها فلأن الإجماع منعقد من جهة علماء الأدب وأرباب هذه الصناعة على أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة وأن قولنا: زيد أسد، فى المبالغة فى وصف الشجاعة أعظم من قولنا: زيد يشبه الأسد، فى شجاعته، فلو لم تكن هناك استعارة لفظ الأسد ونقله، لم تكن هناك مبالغة لأنه لا مبالغة فى نقل العبارة خالية من معناها وعرية عنه، وأما ثانيا فلأن القائل إذا قال: رأيت أسدا، ولقينى أسد، فالسابق من هذا الكلام هو أنه صوره بحقيقة الأسد مبالغة فى شجاعته، وزيادة فى جراءته، وليس ذلك إلا لأجل ما كان من المقصود من إثبات حقيقة الشجاعة ومعقولها، ولو كان ذلك من أجل استعارة اللفظ لم يكن هذا الإطلاق، لأنه لا يقال لمن سمى إنسانا باسم الأسد، أنه صيره أسدا، وجعله

الحكم الثانى فى المجاز بالاستعارة هل يكون عقليا أو لغويا

بحقيقة الآساد، وأما ثالثا فلقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] فظاهر الآية مشعر بأنهم أثبتوا للملائكة صفة الأنوثة، فلأجل هذا الاعتقاد سموهم باسم الإناث، وليس الغرض إطلاق اسم البنات عليهم من غير اعتقاد معنى الأنوثة، ولهذا قال تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] فلو لم يعتقدوا الأنوثة لكان لا وجه للمبالغة فى التنكير عليهم فى ذلك، وظهر بما لخصناه أن المبالغة فى الاستعارة بإثبات المعنى أولا ثم يتلوه اللفظ فى الاستعارة كما حققناه. الحكم الثانى فى المجاز بالاستعارة هل يكون عقليا أو لغويا اعلم أن المجاز فى الاستعارة يرد على نوعين، النوع الأول منها مركب وهذا كقولنا أحيانى اكتحالى بطلعتك، وقوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشى فإسناد الإشابة والإفناء إلى الكر والمر إنما كان على جهة التجوز بالاستعارة، والحقيقة فيه هو الإضافة إلى الله تعالى لأنه فى الحقيقة هو الفاعل لذلك فإسناده إلى قدرة الله تعالى هو حكم ذاتى، لا من جهة وضع واضع، فإذا أسندناه إلى غيره، فقد نقلناه عما كان مستحقا له لذاته فى الأصل، وعلى هذا يكون التصرف عقليا، فهذا هو مراد علماء البيان بكون المجاز المركب عقليا، فما هذا حاله من الاستعارة لا يختلفون فى تسميته مجازا عقليا، على التقرير الذى لخصناه، هذا تقرير كلام الناظر من أهل هذه الصناعة، والمختار أن المجاز لا مدخل له فى الأحكام العقلية، ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا، لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية، وإذا كان الأمر كما حققناه من تعذر المجاز فى العقل فنقول: إن صيغة «أشاب وأفنى» موضوعتان للإسناد إلى الفاعل المختار القادر، فإذا وجدناهما على الإسناد إلى غيره نحو «كر الغداة ومر العشى» عرفنا بذلك أنهما قد استعملا فى غير موضوعهما الأصلى اللغوى، وعلى هذا التقرير يكون المجاز المركب لغويا حيث وقع من غير حاجة إلى كونه عقليا. (النوع الثانى) مفرد وهذا كقولنا: لقيت أسدا، وجاءنى أسد، فما هذا حاله من الاستعارات قد وقع فيه خلاف، وتردد فيه نظر الشيخ عبد القاهر الجرجانى، وله فيه اختياران.

(الاختيار الأول) نصره فى أسرار البلاغة، وهو أن ما هذا حاله من المجاز يكون مجازا لغويا، وحجته على ذلك هو أنا إذا أجرينا اسم الأسد على الرجل الشجاع فإنما نجريه بطريق التأويل، فلأجل هذا كان ما ذكرناه استعمالا للأسد فى غير موضوعه، ويؤيد ما ذكرناه ويزيده وضوحا هو أنا إذا أطلقنا على الرجل اسم الأسد فإنما كان ذلك الإطلاق من أجل اختصاصه بالشجاعة، ولا ندعى للرجل صورة الأسد وشكله وهيئته وتأليفه، واسم الأسد ليس موضوعا على معنى الشجاعة وحدها، بل هو موضوع على تمام هذه الهيئة وكمالها، فإذا أجرينا عليه اسم الأسد تبعا لثبوت صفة الشجاعة، فقد سلبنا عن الصيغة بعض ما كان مندرجا تحتها فى أصل وضعها من الشكل والهيئة وتدوير الوجه، وعرض المقادم، ودقة المآخير فيكون نقلا لها عما وضعت له فى الأصل. (الاختيار الثانى) نصره فى دلائل الإعجاز، وتقرير كلامه: أنه قد كثر كلام الناس فى أن الاستعارة لفظة منقولة عن موضوعها الأصلى، وهو خطأ، وبيانه أنك لا تطلق لفظ الأسد على الرجل إلا بعد أن تعتقد أنه بصفة الأسد وشكله وهيئته، وتتصوره بجميع صفاته، فلما كان الأمر كما قلناه فأنت لم تنقل لفظة الأسد عما كانت موضوعة له فى الأصل. لأنك إنما تكون ناقلا لها إذا لم تقصد معناها الأصلى، فأما إذا كنت قاصدا له فلا وجه لكونها منقولة، فلأجل هذا قضينا بكون هذا المجاز عقليا، فهذا تقرير كلامه ههنا، وإلى كون هذا المجاز عقليا ذهب ابن الخطيب الرازى، واختار ما قرره عبد القاهر فى دلائل الإعجاز، والمختار عندنا ما نصره فى أسرار البلاغة من كونه لغويا، ومعتمدنا فى ذلك أمران، أحدهما أن القائل إذا قال لقينى الأسد، وجاءنى الأسد، فالسابق إلى الفهم من هذا هو أنه جاءه رجل بالغ فى الشجاعة كل مبلغ ليس فوقها رتبة لأنه شاكل الأسد فى شجاعته لا غير، وليس الغرض حصوله على هيئة الأسد، فى تدوير الهامة، وحدة الأنياب، وطول البراثن، إلى غير ذلك من الصفات، وإنما الغرض إحراز وصف الشجاعة دون غيره من الصفات. وثانيهما أنه لو كان الغرض من إطلاق لفظ الأسد أنه لابد من إحراز جميع أوصافه ومعانيه، لكان إذا جردنا الاستعارة فقلنا جاءنى أسد يضحك، ورأيت أسدا له عقل

إشارة

وافر، وبحرا قد برز على الأقران فى فضله، أن يكون مناقضا، لأن قولنا يضحك، وله عقل وافر، وفضل باهر، ينافى هذه الاستعارات، لأن الأسد لا يوصف بالضحك ولا بالعقل ولا يوصف البحر بالفضل، وفى هذا دلالة على أن المجاز يجب كونه لغويا بالاستعارة، كما أشرنا إليه. إشارة اعلم أن هذه الاستعارة فى المفرد والمركب كما ذكرناه، فأما الخلاف فى كونها مجازا، هل يكون عقليا، أو لغويا فالأمر فيه قريب، وليس وراء النزاع كبير فائدة، فإذا فهم المراد من كونه لغويا أو عقليا، فلا عليك فى إطلاق العبارة بعد إحراز المعانى والوقوف على حقائقها. الحكم الثالث فى بيان محل الاستعارة ومكانها اعلم أن أعظم ما تدخل فيه الاستعارة هو أسماء الأجناس، وهذا كقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] وقوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة: 17، 18] وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا [يس: 9] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام: 25] فأما أسماء الأعلام فقد قررنا فيما سبق استحالة دخول المجاز فيها فضلا عن الاستعارة، فلا وجه لتكريره، وقد تدخل الاستعارة فى أسماء الإشارة كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] فقوله: هذا استعارة لأنه إنما يستعمل حقيقة فيما كان قريبا مشارا إليه، فالمجاز فى الإشارة داخل ههنا فيما يعرض من أحواله فى القرب والبعد، فلا يكون مناقضا لما أسلفناه من أن أسماء الإشارة لا يدخلها المجاز، فإنما تعذر المجاز فيها من حيث الإطلاق، وقد تدخل الاستعارة فى الأفعال، كقولك: نطقت الحال بكذا، لأن الحال غير ناطقة، وإنما يكون النطق حقيقة من الإنسان وغيره، فهذه الاستعارة فيها من جهة مفعولاتها كما قال: فلان أظهر العلوم بعد خفائها، ورفع المجد بعد انخفاضه، قال ابن المعتز:

الحكم الرابع فى بيان موقع الاستعارة

جمع الخلق لنا فى إمام ... قتل البخل وأحيى السماحا وكقول الحريرى: وأقر المسامع إما نطقت ... بيانا يقود الحرون الشموسا الحكم الرابع فى بيان موقع الاستعارة اعلم أنهم ربما بالغوا فى الاستعارة حتى ينزلوها منزلة الحقيقة، وبيان ذلك أنهم قد يستعيرون الوصف للشىء المعقول ويجعلون تأتيه لذلك الشىء على جهة التحقيق وكأن خلافها محال وكأن الاستعارة غير موجودة، وينكرون خلاف ذلك ويتعجبون منه، وهذا كقول أبى تمام: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة فى السماء فقرر صعوده فى الخصال العالية، والمراتب الشريفة، على وجه لا يمكن جحده ولا يسوغ إنكاره، وأحسن من هذا وأوضح لما نحن فيه قول بعض الشعراء: ومن عجب أن الصوارم والقنا ... تحيض بأيدى القوم وهى ذكور وأعجب من ذا أنها فى أكفهم ... تأجج نارا والأكف بحور فلولا أن هذه الاستعارة قد نزلت منزلة الحقائق لما كان للتعجب وجه، ومن هذا ما قاله بعض الأدباء: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زر أزراره على القمر فالقمر من طبعه إبلاء الأثواب وتقطيعها فمعناه لا تعجبوا من تقطيع الغلالة فإنها مشتملة على القمر، فانظر إلى تحقيقه للاستعارة وتقريرها، ومن هذا قوله: قامت تظللنى من الشمس ... نفس أعز على من نفسى قامت تظللنى ومن عجب ... شمس تظللنى من الشمس فلولا أنها قد نزلت عنده منزلة الشمس على الحقيقة لما كان للتعجب وجه.

الحكم الخامس فى التفرقة بين الاستعارة والتشبيه

الحكم الخامس فى التفرقة بين الاستعارة والتشبيه المحققون من علماء البيان على حصول التفرقة بينهما، وصار صائرون إلى أنه لا فرق بينهما فنقول: أما ما كان من التشبيه مظهر الأداة بالكاف، وكأن، فلا تخفى التفرقة بينه وبين الاستعارة تفرقة لفظية، وأما ما كان من التشبيه مضمر الأداة، فقد يكاد يلتبس بالاستعارة، وهل يكون لاحقا بالتشبيه، أو بالاستعارة فى نحو قولك جاءنى الأسد، ومررت بالأسد، وقد قدمنا ذكر الخلاف فيه وذكر المختار فيه فأغنى عن الإعادة، وعلى الجملة فلابد من إدراك التفرقة بينهما، وحاصله أن التشبيه حكم إضافى لا يوجد إلا بين شيئين مشبه ومشبه به بخلاف الاستعارة، فإنها لا تفتقر إلى شىء من ذلك، بل تفهم مطلقة من غير إشارة إلى آخر وراء الاستعارة ولهذا فإنك تجد فرقا بين قولنا: زيد الأسد، وبين قولك جاءنى الأسد، فى كون الأول ينجذب إلى التشبيه لأنه يشير إليه. والثانى استعارة مع اتفاقها جميعا فى إضمار أداة التشبيه، فهذا هو الذى يفتقر إلى التفرقة بينه وبين الاستعارة، فأما ما كان من الاستعارة لا يفهم منه التشبيه فلا يحتاج إلى التفرقة بحال، كقوله تعالى: ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] ، وقوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] . الحكم السادس فى التفرقة بين الاستعارة المجردة، والموشحة اعلم أنا نريد بتجريد الاستعارة هو أن نذكر اللفظ المستعار ونقرن به ما يلائم المستعار له كقولك: رأيت أسدا يتكلم، ولقيت بحرا يضحك، وهذا يخالف الاستعارة الموشحة، فإنك تذكر اللفظ المستعار وتقرن به ما يلائم المستعار نفسه فتقول: رأيت أسدا دامى الأنياب، طويل البراثن، فحاصل التفرقة بينهما أن كل ما كان ملائما للمستعار له فهو التجريد، وما كان ملائما للمستعار نفسه من الأحكام فهو التوشيح، فبما ذكرناه تدرك التفرقة بينهما.

الحكم السابع فى التفرقة بين الاستعارة المحققة وبين الخيالية

الحكم السابع فى التفرقة بين الاستعارة المحققة وبين الخيالية اعلم أن كل ما كان من الاستعارات لا يفهم منه معنى التشبيه لا على قرب ولا بعد كقوله: أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنابا فما هذا حاله من الاستعارات محقق لا يفهم منه معنى التشبيه بحال، ولو ذهبت تقدر التشبيه أخرجته عن حقيقة البلاغة، وسلبت عنه ثوب جمالها، فأما ما كان من الاستعارات يفهم منه معنى التشبيه الذى لا يدرك فى الوجود ويكون متصورا فى الخيال، فهذه هى الاستعارات الخيالية، وهذا كقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] وجميع آيات التشبيه كله من باب الاستعارات الخيالية، فحاصل التفرقة آئل إلى أن كل ما كان من الاستعارات لا يفهم منه معنى التشبيه فهى الاستعارة المحققة، وما كان منها يدرك فيه التشبيه على جهة التقدير فهى الخيالية، وما كان يدرك فيه التشبيه على جهة التحقيق، فهو الاستعارة المشبهة، وقد قررنا هذه الأمثلة فلا مطمع فى الإعادة لها، وفيما ذكرناه كفاية فى أحكام الاستعارة، ولنختم هذه القاعدة بالكلام فى ذكر الاستعارة فيه باعتبار أمره فى نفسه فهو المعبر عنه بالأصلية، وما كانت الاستعارة فيه باعتبار حال غيره، فهو المعبر عنه بالتبعية، فالأول هو ما كان من الاستعارة متعلقا بأسماء الأجناس فهو بالأصالة، وأكثر ما يرد فيه كما أوضحنا أمثلته فى الاستعارات وكل ما كان واردا فى الأفعال، والحروف، فهو من الاستعارات التبعية، لأنها إنما وردت فى الأفعال باعتبار مصادرها، وإنما وردت فى الحروف باعتبار متعلقاتها، فمثال الأفعال قولك: تخبرنى حالك بأنك عائب على، وحالك ينطق لى بأنك مفارقى، ومثال الحروف قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 35] فموضوعها للترجى، وليس ههنا ترج وقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] فاللام للتعليل، وليس ههنا تعليل ولكنها ترد على جهة الاستعارة لمعان أخر، والاستعارة فيها إنما وردت باعتبار غيرها كما أوضحناه، وهكذا الأمر فى سائر الأفعال، والحروف، فإنها إنما ترد فيها الاستعارة إذا جاءت مخالفة لموضوعاتها الأصلية، فإنها على جهة الاستعارة من غيرها والله أعلم بالصواب.

القاعدة الثانية من قواعد المجاز فى ذكر التشبيه وحقائقه

القاعدة الثانية من قواعد المجاز فى ذكر التشبيه وحقائقه هذه قاعدة واسعة النطاق ممتدة الحواشى، فسيحة الخطور، ولكنها غامضة المدرك، متوعرة المسلك، دقيقة المجرى عزيزة الجدوى، وإنما قدمنا عليها الكلام فى الاستعارة، لاتفاق علماء البيان على عدّها قاعدة من قواعد المجاز، ولا خلاف بين علماء البيان على عدها قاعدة من قواعد المجاز، ولا خلاف بين علماء البيان فى أن التشبيه من أودية البلاغة، وإنما وقع النزاع هل يعد من أودية المجاز أم لا، فالذى عليه النظار من علماء البلاغة وأهل التحقيق من علماء البيان أنه غير معدود فى المجاز، وهو رأى الشيخ ناصر بن أبى المكارم المطرزى فى شرحه للحريريات، وعن ابن الأثير أنه معدود من جملة المجاز، ويمكن الانتصار له على المطرزى بأمرين، أما أولا فلأنه عد الكناية من أودية المجاز، والتشبيه أقرب منها إليه، وأما ثانيا فلأن مضمر الأداة من التشبيه معدود فى الاستعارة، وقد اعترف بها، فإذن لا وجه لإنكار التشبيه أن يكون معدودا من أودية المجاز، والعجب منه فى قبول الكناية وعدها من المجازات، وإنكار ما ذكرناه من التشبيه، مع أن الكناية دالة على موضوعها الأصلى فى اللغة، كما سنقرره عند الكلام فيها بمشيئة الله تعالى. واعلم أنا قبل الخوض فى أسرار التشبيه وذكر حقائقه، نقدم التنبيه على أمور أربعة تكون كالتمهيد والتوطئة لما نريد ذكره من ذلك. التنبيه الأول فى بيان ماهية التشبيه أما لفظه فهو مصدر من قولهم شبهته بكذا، إذا جمعت بينهما بوصف جامع، وأما فى مصطلح علماء البيان فنذكر له تعريفات ثلاثة وفيها كفاية. التعريف الأول ذكره المطرزى، وحاصل كلامه فى ماهيته هو الدلالة على اشتراك شيئين فى وصف هو من أوصاف الشىء فى نفسه، هذه الفاظه، وهذا فاسد لأمرين، أما أولا، فلأنه إن أراد بالدلالة حقيقتها، فالشىء لا يدل على نفسه، ومن حق الدليل أن يكون مغايرا له لمدلوله،

التعريف الثانى ذكره الشيخ عبد الكريم السماكى،

وإن أراد بلفظ الدلالة أن من عرف الحد عرف لا محالة المحدود، فهذا جيد، لكن لفظ الدلالة يوهم الخطأ من جهة المغايرة، فيجب اطراحها، وأما ثانيا فلأنه لم يفصل بين التشبيه الوارد على جهة الاستعارة كقولك جاءنى الأسد، ورأيت بحرا، وبين التشبيه الصريح كقولنا: زيد كالأسد، وعمرو كالسيف، وغير ذلك وكلاهما معدود من باب التشبيه، والغرض ههنا هو المظهر الأداة فكان من حقه فصله عما ذكرناه بذكر الأدلة، لأنه هو المقصود بذكر هذه القاعدة. التعريف الثانى ذكره الشيخ عبد الكريم السماكى، وحاصل مقالته أنه ركن من أركان البلاغة، لإخراج الخفى إلى الجلى وإدنائه البعيد من القريب، هذا ما ذكره فى كتابه التبيان، وهو فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأن ما قاله إنما هو إشارة إلى فائدته ومقصوده، وليس فيه بيان ماهيته فى ذاته، كمن يقول فى ماهية الأسد، هو الحيوان الذى تخاف سطوته وله هيبة فى النفوس، فكما أن هذا غير موصل إلى ماهية الأسد، فكذا ما قاله، ولأنه لم يفصل بين مضمر الأداة، ومظهر الأداة، وحقيقة أحدهما مخالفة لحقيقة الآخر ولأن ذكر الأداة جزء من مفهوم هذه القاعدة التى تصدينا لكشفها وبيانها، فلابد من ذكر الأداة، وظهر مما حققناه ضعف ما قالا. التعريف الثالث وهو المختار أن يقال هو الجمع بين الشيئين، أو الأشياء بمعنى ما بواسطة الكاف ونحوها، فقولنا: «هو الجمع بين الشيئين» يدخل فيه التشبيه المفرد كقولك: زيد كالأسد، «أو الأشياء» ليدخل فيه التشبيه المركب على أوصافه ومراتبه كما سنقرره ونصف حاله ونمثله، وقولنا: «بمعنى ما» عام لجميع الأوصاف كلها العقلية والحسية، المفردة والمركبة وقولنا «بواسطة الكاف» يخرج العطف لأنه جمع بين الشيئين، أو الأشياء لكن بغير الكاف، ويخرج عنه مضمر الأداة كقولنا: زيد أسد، فإنه ليس من التشبيه الذى أوردنا فى هذه القاعدة، وإنما هو معدود فى الاستعارة كما قررناه من قبل، فهكذا يكون تعريفه بما ذكرناه، ولقد حام من أسلفنا ذكره فى تعريف حقيقة التشبيه حول ما قررناه، فما وقع، وصأصأ فما فقح، ومن حق من أراد تعريف ماهية من الماهيات أن يورد فى حده أخص أوصافها وأن يصونها عن النقوض.

دقيقة

دقيقة اعلم أنا قد جعلنا هذه القاعدة للتشبيه فصدرناها بلقبه، وحكينا عن المطرزى إنكار كونه معدودا من المجازات وإن عد من أنواع البلاغة، وإلى هذا ذهب الشيخ عبد الكريم صاحب التبيان، وغالب الظن بل نعلم قطعا أن كل ما كان من التشبيه مضمر الأداة كقولنا: زيد الأسد، ولقينى الأسد، وعمرو الشمس فى ضيائه، والقمر فى نوره، والبحر فى كرمه، إلى غير ذلك من التشبيهات المضمرة فإنهما لا يخالفان فى كون ما هذا حاله معدودا فى المجاز، وإن كان من التشبيه، لأن ظاهره الاستعارة وإن كان المشبه به فى طيه، فلهذا وجب عده فى المجاز، وإنما يتوجه خلافهما فيما كان من التشبيهات مظهر الأداة، كقولنا: هو كالبحر كرما، وكالقمر نورا، وكالبدر تماما وكمالا، فما كان بهذه الصورة ففيه مذهبان. المذهب الأول أنه معدود من جملة المجازات، وهذا الذى يشير إليه كلام ابن الأثير، وحجته على ذلك أن قولنا: زيد أسد إذا كان معدودا فى المجاز باتفاق بين علماء البيان، فيجب فى قولنا: زيد كالأسد شجاعة، أن يعد فى المجاز أيضا، إذ لا تفرقة بينهما إلا من جهة ظهور الأداة، وظهورها إن لم يزده قوة ودخولا فى المجاز لم يكن مخرجا له عن المجاز، ولأن التمثيل إذا كان معدودا فى المجاز فى نحو قولنا: فلان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، يقال للمتحير فى أمره فهكذا حال التشبيه أيضا. المذهب الثانى إنكار كونه معدودا فى المجاز، كما حكيناه عن المطرزى وعبد الكريم، وغيرهما، وحجتهم على ما قالوا: أن المجاز استعمال اللفظ فى غير موضوعه الأصلى وقولنا. زيد كالأسد، مستعمل فى موضوعه فى الأصل، فلهذا لم يكن معدودا فى المجاز، فهذا تقرير الكلام فى المذهبين جميعا، والمختار عندنا كونه معدودا فى علوم البلاغة، لما فيه من الدقة واللطافة، ولما يكتسب به اللفظ من الرونق والرشاقة، ولاشتماله على إخراج الخفى إلى الجلى، وإدنائه البعيد من القريب، فأما كونه معدودا فى المجاز أو غير معدود، فالأمر فيه قريب بعد كونه من أبلغ قواعد البلاغة، وليس يتعلق به كبير فائدة، وربما كان الخلاف فى ذلك لفظيا فعدلنا عنه.

التنبيه الثانى فى بيان الصفة الجامعة بين المشبه والمشبه به

التنبيه الثانى فى بيان الصفة الجامعة بين المشبه والمشبه به اعلم أن كل من أراد تشبيه شىء بغيره، فلابد من اجتماعهما فى وصف يكون دالا على الاجتماع وعلما دالا على المبالغة، ولابد من أن يكون المشبه به أعلا حالا من المشبه، لتحصل المبالغة هناك، وتختلف تلك الأوصاف الجامعة ويحصرها أقسام ستة. القسم الأول الأوصاف المحسوسة وهى بالإضافة إلى الحواس التى هى طريق الإدراك خمسة، نفصلها بمعونة الله تعالى. المدرك الأول: الاشتراك فى الصفة المبصرة، ومثاله قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) [الصافات: 48، 49] فالجامع هو البياض، وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 58] فالجامع الحمرة، ونحو تشبيه الخد بالورد فى البياض المشرب بالحمرة، والشعر بالليل فى سواده، وكقول بعضهم: وكأن أجرام السماء لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فشبه أديم السماء فى صفاء زرقته، وبياض النجوم، بدرر منثورة على بساط أزرق، وكقول بعضهم فى وصف ما يجتمع من الأزهار فى الزرقة والبياض والحمرة. ولا زوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار فى أطراف كبريت ولأمير المؤمنين فى هذا اليد البيضاء حيث قال فى خلقة الطاووس: ومخرج عنقه كالإبريق، ومغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، والوسمة «بكسر السين» نبت أسود يقال له «العظلم» أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال، وكأنه متلفع بمعجر أسحم، ومع فتق أذنه خط كمستدق القلم، فهو كالأزاهير المبثوثة. وقال: فى جناحه إذا نشره من طيه وسما به مطلا على رأسه كأنه قلع دارى عنجه نوتيّه- والنوتى هو الملاح- فإن ضاهيته بالملابس فهو كموشى الحلل، وإن شاكلته بالحلى فهو كفصوص ذات ألوان، فانظر إلى

المدرك الثانى فى الاشتراك فى الكيفية المسموعة،

هذه التشبيهات المدركة بالبصر، ما أدقها وما أوقعها فى التشبيه وأرقها، تكاد لدقتها تسحر الألباب، ويعجز عن حصر معانيها فى البلاغة منطق الخطاب. المدرك الثانى فى الاشتراك فى الكيفية المسموعة، وهذا نحو تشبيه صوت الخلخال، بصوت الصنج كما قال «كأن صوت الصنج فى مصلصله» وتشبيه أواخر الميس بأصوات الفراريج قال: كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس إنقاض الفراريج ونحو تشبيه الأسلحة فى وقعها بالصواعق وتشبيه الأصوات الطيبة فى قراءة القرآن بالمزامير المدرك الثالث فى الاشتراك فى الكيفية المذوقة، وهذا نحو تشبيه الفواكه الحلوة بالعسل، والريق بالخمر قال: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى وذوب العسل يعل به برد أنيابها ... إذا النجم وسط السماء اعتدل المدرك الرابع فى الاشتراك فى الكيفية المشمومة، وهذا نحو تشبيه النكهة بالعنبر، وتشبيه شم الريحان بالكافور والمسك، ومثل تشبيه الرياحين المجتمعة فى الريح، بالغالية، لكونها مجموعة من أنواع طيبة، ونحو تشبيه الأخلاق الكريمة بالعطر. المدرك الخامس فى الاشتراك فى الكيفية الملموسة، وهذا نحو تشبيه الجسم بالحرير، وحسن الشمائل بالديباج قال: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشى لا هراء ولا نزر

القسم الثانى فى الأوصاف التابعة للمحسوسات، وذلك أمور ثلاثة

القسم الثانى فى الأوصاف التابعة للمحسوسات، وذلك أمور ثلاثة أولها الأشكال، وليس يخلو حالها، إما أن تكون على جهة الاستقامة، وهذا نحو تشبيه حسن القامة بالرماح فى الطول، وبخوط البان، فى حسن التكسر والتثنى، وإن كان على جهة الاستدارة، فمثل تشبيه القطعة من العجين بالكرة، ونحو تشبيه الأمر المعضل بالحلقة المبهمة، فى أنه لا يهتدى لصوابه، وثانيها الاشتراك فى المقادير، وهذا نحو تشبيه عظيم الخلق بالجمل، والفيل، ونحو تشبيه من يسند إليه معظم الأمور بالجبل، وتشبيه من يستقيم فى أمره بالقدح، والميل، وثالثها الاشتراك فى الرخاوة، والصلابة، واللين، كتشبيه الشىء الصلب بالحديد، والأحجار، ونحو تشبيه الشىء الرخو بالحرير، والقطن، إلى غير ذلك وإنما ألحقنا هذه الأمور بالحسيات، لأنها مختصة بها، وأكثر ما تكون فى الأجسام كما مثلناه. القسم الثالث فى الأوصاف العقلية وهذا نحو تشبيههم المرض الشديد بالموت، ونحو تشبيههم العافية بالملك، والقناعة بالمال، والفقر بالكفر، والسفر بالعذاب، والسؤال للخلق بالموت فى أكثر الحوائج والضلال عن الحق بالعمى، والاهتداء إلى الخير بالإبصار، وكما شبهوا الجود بالمطر، والوابل، ومثلوا الأنامل بالشآبيب من الغيث، ومثلوا العدو الشديد بالطيران، وكقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] مثّل حال من تلبس بالشرك واعتقده وشرح به صدره، بمنزلة من سقط من السماء فقطعته الطير، أو أبعدته الريح فى أبعد ما يكون وأقصاه، شبه الشرك فى بعده، وتلاشيه، وبطلانه، وزواله، بهذه الأمور التى هى النهاية فى البعد والبطلان.

القسم الرابع فى الأوصاف الوجدانية من النفس

القسم الرابع فى الأوصاف الوجدانية من النفس وهذا نحو تشبيههم العلم بالحياة، والجهل بالموت، ومنه قوله تعالى. فى الاستعارة على جهة التشبيه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] فيجوز فيما هذا حاله، أن يراد به العلم، والجهل فى الحياة، والموت، ونحو تشبيههم الجوع بالنار، والعطش باللهب وتسعر النار، وتشبيه الأشواق، والغيظ، والأسف والغضب، بالنار فى تلظيها وتلهبها إلى غير ذلك من الأمور الموجودة من جهة النفس. القسم الخامس فى الأمور الخيالية وهذا نحو أن يتخيل شبحا من بعيد، فيظنه إنسانا، فإذا تخيله ضئيلا، شبهه بالقلم، وإن تخيله جسيما، شبهه بالفيل والجمل، وهكذا إذ رأى حيوانا، فإذا تخيله أسدا، شبهه بالبرق لسرعة جريه، وإذا تخيله شاة، شبهها بالبكرة لعظمها وفخامة جسمها، وهكذا القول فى سائر الأمور الخيالية، فإن التشبيه على قدر ما يرى عن الخيال. القسم السادس فى الأمور الوهمية وهذا نحو أن يتوهم الواحد منا فراق ما يألفه فيشبهه بتقطيع الجسم ووخز الشفار ونحو أن يتوهم انقطاع إحسان واصل إليه من جهة الغير بزوال الروح، وانقطاع الأباهر، إلى غير ذلك من الأمور الوهمية، والتفرقة بين الأمور الخيالية والأمور الموهومة هو أن الخيال أكثر ما يكون فى الأمور المحسوسة، فأما الأمور الوهمية فإنما تكون فى المحسوس وغير المحسوس مما يكون حاصلا فى التوهم وداخلا فيه.

التنبيه الثالث فى بيان ثمرة التشبيه وفائدته

التنبيه الثالث فى بيان ثمرة التشبيه وفائدته اعلم أنك إذا أردت تشبيه الشىء بغيره فإنما تقصد به تقرير المشبه فى النفس، بصورة المشبه به، أو بمعناه. فيستفاد من ذلك البلاغة فيما قصد به من التشبيه على جميع وجوهه من مدح، أو ذم، أو ترغيب، أو ترهيب، أو كبر، أو صغر، أو غير ذلك من الوجوه التى يقصد بها التشبيه وتراد للإيجاز أيضا والاختصار فى اللفظ من تعديد الأوصاف الشبهية، وتراد للبيان والإيضاح أيضا، فهذه مقاصد ثلاثة نفصلها بمعونة الله تعالى. المقصد الأول فى إفادته للبلاغة ، وهذا كقوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرحمن: 24] فشبه السفن الجارية على ظهر البحر بالجبال، فى كبرها وفخامة أمرها على جهة المبالغة فى ذلك، وهكذا القول فى جميع تصرفات التشبيه، فإنه لا ينفك عن إفادة البلاغة، وإلا لم يكن تشبيها، لأن إفادته للبلاغة هو مقصده الأعظم، وبابه الأوسع، ولهذا فإنك لا تكاد تجد تشبيها خاليا عن مقصود البلاغة على حال، وكلما كان الإغراق فى التشبيه والإبعاد فيه وكونه متعذر الوقوع والحصول، كان أدخل فى البلاغة، وأوقع فيها، وهذا نحو تشبيه نور الله تعالى بنور المصباح فى المشكاة، سواء قلنا: إن المشبه هو نور الله تعالى كما هو الظاهر من الآية، أو هو نور الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فالمقصود هو البلاغة فى ذلك، كما قال بعضهم فى وصف الخمر: وكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء شمس الضحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء فانظر إلى ما أبدعه فى المبالغة بهذا التشبيه، حيث شبه الساقى بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه حببها بالكواكب إغراقا فى ذلك، ومبالغة فيه، وكما قال بعض الشعراء: فى وصف الشقائق على أعوادها إذا حركتها الريح فتارة تستقيم، وتارة تعوج قال: وكأن محمر الشقي ... ق إذا تصوب أو تصعد أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد

المقصد الثانى فى إفادته للإيجاز

وكما ورد فى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «المؤمن كالسنبلة، تعوج أحيانا، وتقوم أخرى» أراد بذلك أنه لا يخلو فى تصرفه عن أن يكون مستقيما على الدين فذلك حال الاستقامة، أو يكون مقارفا للذنب، فتلك حالة الاعوجاج وقوله صلّى الله عليه وسلّم «المؤمن كخامة الزرع» «1» أراد أنه غافل عن أكثر المداخل، مشغول بما هو فيه من أمر الدين عن التفطن للأمور كالزرعة بين الزرع الكثيف، فإنه إذا غلظ عليها لم تكن بارزة للريح والشمس فتحصل لها الصلابة، فتراه فى جميع مجاريه لابد من إفادته للبلاغة ومراعاتها فيه. المقصد الثانى فى إفادته للإيجاز وهذا ظاهر، فإنك إذا قلت زيد كالأسد، فإن الغرض تشبيهه بالأسد فى شهامة النفس، وقوة البطش، وجراءة الإقدام، والقدرة على الافتراس، وغير ذلك من الصفات الفاخرة، فقد استغنيت بذكر لفظ الأسد عن أن تقول: زيد شهم شجاع قوى البطش جرىء الجنان قادر على الاعتداء، فهذا هو الذى نريده بالإيجاز، ومن الاختصار العجيب والإيجاز البليغ فى التشبيه قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الكهف: 45] فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من أنواع التشبيهات. أشياء بأشياء فى معان وأوصاف بحيث لو فصلت لا حتاجت إلى شرح، مع اختصاصها بجزالة اللفظ، وبراعة النظم، وبلاغة المعانى وحسن السياق، ومن الإيجاز قول البحترى: تبسم وقطوب فى ندى ووغى ... كالرعد والبرق تحت العارض البرد فما هذا حاله من جيد التشبيه وغريبه الموجز غاية فى الإيجاز، وكما قال أبو نواس فى صفة الخمر: وإذا علاها الماء ألبسها ... حببا شبيه خلاخل الحجل حتى إذا سكنت جوامحها ... كتبت بمثل أكارع النمل وكقول أبى نواس فى تشبيه الحبب أيضا: فإذا ما اعترضته العي ... ن من حيث استدارا خلته فى جنبات ال ... كأس واوات صغارا فهذه التشبيهات كلها فى غاية الإيجاز والاختصار كما ترى.

المقصد الثالث فى إفادته للبيان والإيضاح

المقصد الثالث فى إفادته للبيان والإيضاح وهذه أيضا هى فائدة التشبيه الكبرى، فإنه يخرج المبهم إلى الإيضاح والمتلبس إلى البيان، ويكسوه حلة الظهور بعد خفائه، والبروز بعد استتاره وهذا كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] الآية، وقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ الآية [البقرة: 19- 20] فهاتان الآيتان واردتان مثالا وتشبيها بحال أهل النفاق. وإيضاحا وبيانا لأمرهم فيما ظهر لهم من النور التام بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإعراضهم عنه، فشبه حالهم فى ذلك بالمستوقد للنار، وبالصيب الذى فيه الرعد والبرق، كشفا لحالهم فى النفاق، وإظهارا لأمرهم فيه، فنظام هذه الآية وسياقها دال على نهاية الإيضاح بالتشبيه، وإظهار حالهم به، وهكذا إذا قلت زيد يفيض فيض البحر، ويقدم إقداما كالأسد، فإنك بذكر هذا التشبيه قد أوضحت أمره فى الكرم والشجاعة، وكشفت ذلك بالإيضاح كشفا لا غاية له ولا مزيد عليه، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» » يعنى فى قطع العلائق، وخفة الحال، فإن الغريب لا علقة له فى بلاد الغربة، وابن السبيل لا لبث له إلا مقدار العبور وقطع المسافة، فهذا المعنى قد أظهره التشبيه نهاية الظهور وأوضح حاله كما تراه. ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه «كن فى الفتنة كابن اللّيون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب» أراد أن الفتن إذا تلبس الإنسان بها ووقع فى غمرتها كان أدعى للهلاك وأقرب إلى تورط النفوس، وإذا كان لا علقة له بها، فربما كان ذلك أدعى للسلامة وأقرب إلى الخلاص عنها، وهذه المعانى قد أشعر بها التشبيه ودل عليها ومن واضح التشبيه قول أبى نواس فى ذم الدنيا وتقبيحها: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو فى ثياب صديق فهذا من التشبيه الواضح المضمر الأداة فلهذا أوردناه ههنا، ومن أعجب ما يورد مثالا فى وضوح التشبيه قول البحترى:

التنبيه الرابع فى بيان مراتب التشبيهات فى الظهور والخفاء والقرب والبعد والزيادة والنقصان وغير ذلك من أحوالها التى تعرض لها

يمشون فى زغف كأن متونها ... فى كل معركة متون نهاء بيض يسيل على الكماة فضولها ... سيل السراب بقفرة بيداء فإذا الأسنة خالطتها خلتها ... فيها خيال كواكب فى ماء وقوله أيضا: وتراه فى ظلم الوغى فتخاله ... قمرا يكر على الرجال بكوكب فقد ظهر بما أوردناه من هذه الأمثلة وضوح ما ادعيناه من كون التشبيه مختصا بالإيضاح والبيان لما قصد به. التنبيه الرابع فى بيان مراتب التشبيهات فى الظهور والخفاء والقرب والبعد والزيادة والنقصان وغير ذلك من أحوالها التى تعرض لها اعلم أن الشىء المشبه به كلما كان أبعد من الوقوع كان التشبيه المستخرج منه أغرب، ويكون فى المبالغة أدخل وأعجب، فمثال القريب تشبيه السيوف بالأمواج، وتشبيه أطراف الأسنة بالكواكب، وتشبيه الرجال بالأسود ومن قريب التشبيه وأحسنه ما قاله على بن جبلة: إذا ما تردى لأمة الحرب أرعدت ... حشا الأرض واستدمى الرماح الشوارع وأسفر تحت النقع حتى كأنه ... صباح مشى فى ظلمة الليل ساطع ومنه قول أبى تمام: خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا ... كالحسن شيب لمغرم بدلال ومثال التشبيه البعيد تشبيه الفحم إذا كان فيه جمر ببحر من المسك موجه ذهب، ونحو تشبيه الدماء بنهر من ياقوت أحمر، فهذا وأمثاله من المعدود فى البعيد، لكونه غير متوهم الوقوع بحال، فإن البحر من المسك لا يوجد ولكنه متصور وهكذا، فإن أعلام الياقوت على رماح الزبرجد غير موجودة، ولهذا فإنه لما كان غير موجود كان أدخل فى التشبيه وأعجب لكونه غير واقع ولهذا كان قول من قال: وكأن أجرام السماء لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق أدخل فى الإعجاب وأغرب من قول ذى الرمة فى شعره:

كأنها فضة قد مسها ذهب لما كان الأول غير واقع، لأن البساط الأزرق عليه درر منثورة لا يكاد يوجد، بخلاف الفضة المموهة بالذهب، فإنها توجد كثيرا، فأما التشبيهات الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنها كلها قريبة، وما ذلك إلا لأنها أدخل فى التحقيق، وأقرب إلى التيقن مما لا يكاد يقع، فلهذا كانت مختصة بهما كقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ [النور: 40] وقوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ [الجمعة: 5] وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف: 176] إلى غير ذلك من الأمور الممكنة الوقوع. ومثال الواضح من التشبيه ما قاله على بن جبلة فى وصف الخمر: ترى فوقها نمشا للمزاج ... تقارب لا تتصلن اتصالا كوجه العروس إذا خططت ... على كل ناحية منه خالا ومن أوضحه قول مسلم بن الوليد يصف رجلا بالشجاعة: يلقى المنية فى أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلمودا بجلمود فهذا وأمثاله من الأمور الواضحة فى المقصود منها فى التشبيه، وهكذا جميع التشبيهات فى القرآن العظيم، فإنها واضحة جليلة، ومثال التشبيهات الخفية، ونريد بخفائها أن الأمور المحسوسة الظاهرة مستمدة من الأمور الخفية فى المعانى وهذا كقول بعض الشعراء: وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع فشبه النجوم فى ظلمة الظلام مع نورها بالسنن الواضحة التى هى كالأنوار توسط بينها بدع، كسواد الليل فى ظلمتها، فالسنة فى هداها كالنور، والبدعة فى جهلها بمنزلة الظلمة، ومن هذا قول بعضهم: كأن انصياع البدر من تحت غيمه ... نجاء من البأساء بعد وقوع فشبه المحسوس بالمعقول، مثل البدر الذى ينحسر عنه الظلام، بالمتخلص من البأساء بعد وقوعها عليه، وما ذاك إلا لأن هذه المعانى وضحت وضوحا وقربت من النفوس قربا فألحقت بالأمور المحسوسة فى وضوحها وتحققها، ومن الأمثلة ما حكاه الله تعالى عن مستحلى الربا حيث قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] وكان القياس فى قولهم: إنما الربا مثل البيع، فى تحليله إغراقا منهم فى المبالغة، وذهابا إلى أن الربا فى باب الحل أدخل من البيع وأقوى حالا، وهذا من أنواع التشبيه يلقب بالمعكوس، ولهذا يقال: صبح كغرة الفرس، ويقال فى عكسه أيضا غرة كالصبح، وسيأتى تقريره بمعونة الله تعالى.

التنبيه الخامس فى اكتساب وجه التشبيه

التنبيه الخامس فى اكتساب وجه التشبيه اعلم أن كل من أراد تشبيه شىء بغيره فلا بد من أن يجمع بينهما بوصف ما كما قررناه من قبل، فعليه أن يسعى فى طلب الوجه الجامع بينهما، فمن طلب أن يمثل حركة أو هيئة بغيرهما، فعليه أن يطلب أمرا يتفقان فيه، كما فعل ذلك ابن المعتز فى قوله: وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا فلم ينظر إلى جميع أوصاف البرق كلها ومعانيه، ولكنه أراد تشبيه هيئة البرق وحركة لمعانه بالمصحف، يفتحه القارىء مرة ويطبقه أخرى، فيكون جامعا بين الأمرين المختلفين ما ذكرنا من الجامع. دقيقة ومما يكون مناسبا لما أوردناه فى كونه جامعا بين المختلفات هو أن يجعل الشىء سببا لضده كما يقال أحسن إلى من حيث قصد الإساءة، ونفعنى من حيث أراد الإضرار، كانت نجاتى من حيث قصد إهلاكى، ومن هذا قول بعض الشعراء: أعتقنى سوء ما صنعت من الر ... ق فيا بردها على كبدى فصرت حرا بالسوء منك وما ... أحسن سوء قبلى إلى أحد وما ذاك إلا من أجل تخيل الجامع فى الأمور المختلفة المتضادة. كما قررناه. فهذا ما أردنا ذكر التنبيهات فى صدر هذه القاعدة لتكون توطئة وتمهيدا لما نريد ذكره من أسرار التشبيه وحقائقه، فإذا تمهد ذلك فلنذكر أقسام التشبيه، ثم نردفه بذكر الأمثلة، ثم نذكر كيفية التشبيه، ثم نذكر أحكامه . فهذه مطالب أربعة نفصلها بمعونة الله تعالى. المطلب الأول فى بيان أقسام التشبيه اعلم أن التشبيه له طرق كثيرة، وتنقسم إلى أنحاء منتشرة باعتبارات مختلفة، ولكنا نقتصر من ذلك على تقسيمات أربعة هى وافية بالمطلوب ومندرج تحتها شعب كثيرة.

التقسيم الأول باعتبار ذاته إلى مفرد ومركب

التقسيم الأول باعتبار ذاته إلى مفرد ومركب ، ونعنى بالمفرد ما كان التشبيه فيه مقصورا على تشبيه صورة بصورة من غير زيادة، أو صورة بمعنى، ونعنى بالمركب ما كان التشبيه فيه تشبيها لأمر بأمرين أو بأكثر كما ستراه موضحا فى الأمثلة بمعونة الله تعالى، فإذن هذا التقسيم مشتمل على ضروب أربعة: الضرب الأول منها تشبيه المفرد بالمفرد وهذا كقوله تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن: 37] شبهها بالدهان لحمرتها، وهو الجلد الأحمر وكقوله تعالى تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ [النمل: 10] وقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] إلى غير ذلك من التشبيهات المفردة الواردة فى القرآن، وقوله صلّى الله عليه وسلّم «مثل المؤمن الذى يقرأ القرآن، كمثل الأترجّة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذى لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذى لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر ولا ريح لها، ومثل المنافق الذى يقرأ القرآن، كمثل ريحانة، ريحها طيب ولا طعم لها» . ومنه قولهم زيد كالأسد، وعمرو كالبحر، وقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى الشّقشقية، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، وقوله فى مخاطبة طلحة والزبير، والله لا أكون كالضبع، تنام على طول اللّدم حتى يصل إليها طالبها. ومن التشبيه الفائق قول امرىء القيس: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذى لم يثقب وقول زهير: بكرن بكورا واستحرن بسحرة ... فهن بوادى الرس كاليد للفم ولقد أجاد زهير فى هذا التشبيه وأبدع فيه، ومنه قول ذى الرمة: قف العيس فى أطلال مية فاسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل ومثله قول أبى تمام: خرقاء تلعب بالعقول مزاجها ... كتلعب الأفعال بالأسماء وكقول ابن المعتز فى وصف العنب: حتى إذا حرّ آب جاش مرجله ... بفائر من هجير الشمس مستعر ظلت عناقيده يخرجن من ورق ... كما احتبى الزنج فى خضر من الأزر

الضرب الثانى فى تشبيه المركب بالمركب،

وكما قال بعض الأذكياء: والصبح يتلو المشترى وكأنه ... عريان يمشى خلفه بسراج ومن ذلك قول بشار: كأن الناس حين تغيب عنهم ... نبات الأرض أخطأه القطار ومن بديع التشبيه قول امرىء القيس: وكشح لطيف كالجديل مخصر ... وساق كأنبوب السقى المذلل وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبى أو مساويك إسحل مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الأبيات من بديع التشبيه وغريبه، ومن هذا قول بعضهم فى تشبيه الفحم والجمر: كأنما النار فى تلهبها ... والفحم من فوقها يغطيها زنجية قبضت أناملها ... من فوق نارنجة لتخفيها ومن جيد التشبيه ورائقه ما قاله بعض الأدباء وهو البحترى: دنوت تواضعا وعلوت قدرا ... فشاناك انخفاض وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشعاع ولنكتف بهذا القدر فى المفردات. الضرب الثانى فى تشبيه المركب بالمركب، وما هذا حاله يرد على أوجه أربعة: أولها تشبيه شيئين بشيئين كقوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم: 26] فقد مثل الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وقد قررنا من قبل أنا نريد بالتشبيه المركب ذلك ونحو قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] وقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: 171] فمثّل الكفار فى إعراضهم عن الحق والهدى وعدم الإصغاء إلى ما جاء به الرسول برجل يتكلم بما لا يفهم منزلة نعيق البهائم ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الرجل الذى لا يتم صلاته كمثل الحامل حملت حتى إذا دنا نفاسها أملصت فلا ذات حمل ولا

ذات ولد» ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم فى مثال المؤمن حامل القرآن، كمثل الأترجة، ومثال المنافق الذى لا يحمل القرآن كمثل الحنظلة، وسائر تلك الأحاديث أسلفناها تمثيلا للمفرد بالمفرد، وهى ههنا صالحة للتمثيل المركب بالمركب فى شيئين بشيئين، فإن كان بالإضافة إلى الموصوف مع صفته، فهو من باب المركب بالمركب، والأمر فيه قريب، ومن الشعر قول امرىء القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالى وقول بشار: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وثانيها تشبيه ثلاثة بثلاثة وهذا كقول بعضهم: ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد فهذا عددناه من التشبيه، وإن لم تظهر فيه الأداة، لأنه فى معنى التشبيه، وإن كانت أداته مضمرة، لأن ظهورها يكون مقدرا. وثالثها تشبيه أربعة بأربعة وهذا كقول امرىء القيس: له أيطلا ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل وكقول أبى نواس: تبكى فتذرى الدر من نرجس ... وتمسح الورد بعناب فشبه الدمع بالدر، والعين بالنرجس، لما فيه من اجتماع السواد والبياض، وشبه الوجه بالورد، وشبه الأنامل بالعناب، فهذه تشبيهات أربعة كما أشرنا إليه وكما قال بعضهم: فزحزحت شفقا غشّى سنا قمر ... وساقطت لؤلؤا من خاتم عطر فشبه الخمار بالشفق، لحمرته، وشبه الوجه بالقمر، وشبه ثناياها باللؤلؤ، وشبه فمها بالخاتم. ورابعها تشبيه خمسة بخمسة وهذا كقول الوأواء الدمشقى: فأمطرت لؤلؤّا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد فجميع ما أوردناه فى هذا الضرب إنما هو فى تشبيه المركب بالمركب.

الضرب الثالث فى تشبيه المفرد بالمركب

الضرب الثالث فى تشبيه المفرد بالمركب ولنضرب له مثالين يدلان عليه المثال الأول فى المظهر الأداة وهذا كقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور: 35] فهذه الأمور المعدودة كلها أشباه لنور الله، إما على أن المراد به ذات الله تعالى، أو يراد به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إبراهيم: 18] وكقول أبى تمام يمدح قصيدة له: خذها مثقفة القوافى ربها ... بسوابغ النعماء غير كنود كالدر والمرجان ألف نظمها ... كالشذر فى عنق الفتاة الرود وكما قال البحترى فى وصف السيف: وكأنما سود النمال وحمرها ... دبت بأيد فى قراه وأرجل فشبه فرند السيف بدبيب النمل، حمرها وسودها، وهذا مما يشهد له فيه بالإجادة والإنافة فى البلاغة والزيادة. المثال الثانى فى مضمر الأداة وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم «العزل هو الوأد الخفى» «1» وهذا من التشبيه الذى فاق فى رشاقته، وراق فى جودة نظمه وبلاغته، والوأد هو ما كانت العرب تفعله من دفن البنات وهن أحياء، خوفا من العار بركوب الفاحشة، فجعل العزل كالوأد، وعبر عنه بهذه العبارة التى تغض لها العيون طرفها، ولا ينتهى الوصف إليها، فيكون ترك وصفها كوصفها، ومن هذا قول أمير المؤمنين فى وصف العترة، عليهم السلام «فردوهم ورد الهيم العطاش» فهذا من الكلام لا يدرك فى البلاغة منتهاه، ولا يحرز بغاية غوره وأدناه. ومن غريب ما وجدته فى هذا الضرب كلام لابن الأثير فى وصف القلم «جدع أنفه فصار فى اليد قصيرا» يشير بذلك إلى ما كان من حديث قصير، مع الزّبّاء وفتكه بها، وكيده العظيم لها «وأرهف

الضرب الرابع فى تشبيه المركب بالمفرد

صدره فصار فى المضاء عضبا شهيرا» أراد كالسيف فى مضائه «وقمص لباس السواد، وهو شعار الخطباء فنطق بفصل الخطاب، ونكس رأسه وهو صورة الإذلال، فاختال فى مشيه من الإعجاب» فأقول لقد نطق بفصل الخطاب ابن الأثير، وصار على بليغ التشبيه والاستعارة كالأمير، وهذا الضرب أعنى تشبيه المفرد بالمركب كثير الدور، واسع الجرى، وما ذاك إلا من أجل المبالغة فى المشبه نفسه فاتسعوا فيه بتشبيهات كثيرة. الضرب الرابع فى تشبيه المركب بالمفرد وما هذا حاله فهو على الندور والقلة، وإنما كان الأمر فيه كما قلناه من القلة، لأنه لا مبالغة فى تشبيه الأشياء المتعددة بشىء واحد، فلا جرم كان قليل الاستعمال، ثم هو فى قلة جريه على وجهين، الوجه الأول تشبيه شيئين مشتركين فى أمر معنوى بشىء واحد، ومثاله ما قاله أبو تمام فى وصف الربيع: يا صاحبى تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر فشبه النهار المشمس مع الزهر الأبيض وقد اشتركا فى البياض والحسن، بضوء القمر، وهو تشبيه بالغ يقضى منه العجب، ويماثل فى نظمه وصفائه إكسير الذهب. الوجه الثانى تشبيه شيئين ليس بينهما جامع ولا رابطة تشملهما وهذا كقول أبى الطيب المتنبى: تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها فى نفوسهم شيم فشبه إشراق الأعراض والوجوه بإشراق الشيم، وهى الخلائق الطيبة، فإشراق الوجوه ببياضها، وإشراق الأعراض بشرفها وطيبها، وليس بينهما جامع كما ترى. التقسيم الثانى باعتبار حكمه إلى قبيح وحسن اعلم أن من التشبيه ما يروق منظره ويحمد أثره، وهذا هو الأكثر فى التشبيهات، فإنها جارية على الرشاقة فى معظم مجاريها، فلهذا تكون محمودة حسنة، وربما لم يكن بين المشبه والمشبه به وجه، أو حصل هناك جامع بينهما، لكنه يبعد، فلهذا كانت قبيحة مذمومة، فهذان ضربان.

الضرب الأول فيما يكون بعيدا، فيذم ويستقبح، التشبيه القبيح

الضرب الأول فيما يكون بعيدا، فيذم ويستقبح، [التشبيه القبيح] وإنما قدمنا الكلام على ما يكون مذموما، لأجل قلته وندوره، وأكثرها جار على اللطافة والرقة. ثم هو على وجهين فى قبحه، الوجه الأول منهما ما كان مظهر الأداة فمن ذلك قول أبى نواس فى وصفه الخمر: كأن يواقيتا رواكد حولها ... وزرق سنانير تدير عيونها فما هذا حاله من التشبيه مع ما فيه من البعد والركة، فقد اشتمل على نوع غثاثة وسخف فى لفظه وبشاعة، ومن العجب أنه فى هذه القصيدة قد قرنه بالفائق الرائق، والبديع النادر، الذى أجاد فيه وأحسن وهو قوله: كأنا حلول بين أكناف روضة ... إذا ما سلبناها مع الليل طينها يعنى إذا فضوا ختام الدنان الخمرية عن أفواهها، فكأنها فى روضة من الرياض لما يحصل فى نفوسهم عند ذاك من الارتياح والطرب، فانظر كيف قرن بين حرزه، لا بل بين بعره وعنبره، ومما أساء فيه من التشبيه قوله: وإذا ما الماء واقعها ... أظهرت شكلا من الغزل لؤلؤات ينحدرن بها ... كانحدار الذر من جبل فشبه حبب الخمر فى انحداره بنمل صغار ينحدرن من جبل، فأين هذا من قوله فى صفة الخمر: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب ولقد أكثر من الخمريات حتى أتى فيها بما يخجل الأذهان، وبما ينزل قدره فى الإيمان. ومن بعيد التشبيه ما قاله الفرزدق: يمشون فى حلق الحديد كما مشت ... جرب الجمال بها الكحيل المشعل فشبه الرجل فى دروع الزرد، بالجمال الجرب، وهذا من التشبيه البعيد لأنه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما فى اللون، فإن لون الحديد أبيض، ومع ما فيه من البعد، ففيه أيضا سخف وغثاثة، ومن بعيد التشبيه ما أثر عن أبى الطيب المتنبى: وجرى على الورق النجيع القانى ... فكأنه التارنج فى الأغصان فما هذا حاله من التشبيه قد أنكره أهل هذه الصناعة، ووسموه بالنزول والشناعة، ومن ردىء التشبيه ما قاله فى بعض القصائد السيفية:

شرف ينطح النجوم بروقي ... هـ وعز يقلقل الأجبالا فذكر الروق ليس جيدا فى المديح، وكذا لفظ المناطحة ليس فصيحا ولا دالا على البلاغة. ومن العجب أنه قال فى مطلع هذه القصيدة ما يروق الناظر، ويشوق القلب والخاطر: ذى المعالى فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا فالتفاوت ما بين الشيئين يدركه كل من له ذوق سليم وطبع فى الفصاحة مستقيم، فلقد جمع فى هذا بين وردة، وسعدانة، لا بل بين بعرة ومرجانة. ومن البشع المستنكر فى التشبيه ما قاله بعض الشعراء: ملا حاجبيك الشيب حتى كأنه ... ظباء جرى منها سنيح وبارح وهكذا ورد قول آخر فى صفة السهام: كساها رطيب الرصف فاعتدلت له ... قداح كأعناق الظباء الغوارق فما هذا حاله لا ملائمة بين المشبه والمشبه به، وهما فى غاية البعد. الوجه الثانى ما كان مضمر الأداة فمن ذلك ما قاله أبو تمام يمدح رجلا: وتقاسم الناس السخاء مجزأ ... فذهبت أنت برأسه وسنامه وتركت للناس الإهاب وما بقى ... من فرثه وعروقه وعظامه فأما البيت الأول فهون فيه وليس وراءه كبير معنى ولا بليغه، فإن حاصله أنك ذهبت بالأعلا من السخاء وتركت للناس الأدنى، والبيت الثانى أرك وأنزل فى البلاغة. ومن ذلك ما قاله أيضا فى غير هذا الموضع. لا تسقنى ماء الملام فإننى ... صب قد استعذبت ماء بكائى فما هذا حاله ليس فاحشا ولا بليغا، وإنما هو متوسط كما قال ابن الأثير، وهو كما قال، فإنه وإن نزل فيما أورده من التشبيه فليس خاليّا عن بلاغة فى معناه وجزالة فى لفظه. ويحكى أن رجلا لما سمع هذا البيت لأبى تمام بعث إليه بقارورة، وقال هب لى شيئا من ماء الملام فقال له أبو تمام ابعث لى بريشة من جناح الذل، حتى أبعث لك ماء الملام، ليس مراد أبى تمام المماثلة بينه وبين التشبيه فى قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] فإن بينهما بونا لا تدرك غايته، وبعدا لا تقطع مسافته، وإنما أراد أن الاستعارة جارية فى الماء كجريها فى الجناح، وهذا مقصد جيد لا غبار على أبى تمام فيه.

الضرب الثانى ما حسن فى الصورة من التشبيه، التشبيه الحسن

الضرب الثانى ما حسن فى الصورة من التشبيه، [التشبيه الحسن] وهذا باب عظيم، قد اتسع فيه كلام البلغاء وأتوا فيه بكل حسن بديع، وتهالكوا فى دقة المعانى، ولطائف التشبيه، فمن ذلك ما قال امرؤ القيس فى صفة الفرس: على الذيل جياش كأن اهتزامه ... إذا جاش فيه حميه غلى مرجل وقوله: درير كخذروف الوليد أمرّه ... تتابع كفيه بخيط موصل ومن ذلك ما قاله ابن دريد فى صفة الفرس أيضا: كأنما الجوزاء فى أرساغه ... والنجم فى جبهته إذا بدا وقال فى صفة ماء خال: كأنما الريش على أرجائه ... زرق نصال أرهفت لتمتها ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى فى سيف الدولة وابنه: أما ترى ما أراه أيها الملك ... كأننا فى سماء ما لها حبك الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك وقال يمدح سيف الدولة: أرى كل ذى ملك إليك مصيره ... كأنك بحر والملوك جداول وقال فيه أيضا: ولا ملك إلا أنت والملك فضلة ... كأنك نصل فيه وهو قراب ومن رقيق التشبيه وبديعه ما قاله الصابى فى صفة الخمر: كأن المدير لها باليمين ... إذا طاف بالكأس أو باليسار تدرع ثوبا من الياسمين ... له فردكمّ من الجلّنار فشبه حمرة كميه عند حمله للكأس من لونها، بلابس قميصا من الياسمين إحدى كميه من الجلنار، وهذا تشبيه حسن بالغ، ومن أبياته يشبه فيها مجلس اللهو بالمعركة قال: كأن المجامر خيل جرت ... وقد ثار للند فيها غبار دبادبة من طوال القيان ... والناى بوق له مستعار ومجلسنا حومة أرهجت ... لزحف الندامى إليها بدار ولنقتصر على هذا القدر من محاسن التشبيه ففيه غنية وكفاية لمقدار غرضنا، وستكون لنا فيه عودة عند ذكر الأمثلة بمعونة الله تعالى.

التقسيم الثالث باعتبار صورته وتأليفه إلى الطرد والعكس

التقسيم الثالث باعتبار صورته وتأليفه إلى الطرد والعكس اعلم أن أرباب علوم البلاغة متفقون على أن المجاز أبلغ من الحقيقة فى تأدية المعنى، وعلى أن الاستعارة أقوى من التصريح، وأن الكناية أدخل فى إفادة المعانى من تلك الصرائح الموضوعة، وذلك لأن دلالة هذه الأمور على ما تدل عليه، إنما كان دلالة باللازم والتابع، ولا شك أن الدلالة على الشىء بلازمه أكشف لحاله، وأبين لظهوره، وأقوى تمكنّا فى النفس من غير ما ليس بهذه الصفة، فأما التشبيه، فإنما يكون وروده على جهة المبالغة فيما تعلق به، وهذا هو المطرد فى جريه، وقد يرد على خلاف ذلك، فإذن له مرتبتان نوضحهما بمشيئة الله تعالى. المرتبة الأولى فى بيان التشبيه المطرد اعلم أن المبالغة فى التشبيه لا يمكن حصولها إلا إذا كان المشبه به أدخل فى المعنى الجامع بينهما، إما بالكبر كقوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرحمن: 24] فمثلها بالجبال لما كانت الجبال أكبر من السفن، وهكذا القول فى السواد، والبياض، والحمد، والذم، والإيضاح والبيان، إلى غير ذلك من الأوصاف الجارية فى التشبيه، وآية ذلك وعلامته أنه لابد من أن تكون لفظة «أفعل التفضيل» جارية فى التشبيه، وهذا يدل على ما قلناه من اعتبار زيادة المشبه فى تلك الصفة الجامعة بينهما، فإن لم يكن الأمر على ما قلناه من الزيادة كان التشبيه ناقصا وكان معيبا، ولم يكن دالا على البلاغة، وهكذا الحال إذا كانا حاصلين على جهة الاستواء فلا مبالغة فى ذلك، فإذن لابد من اعتبار الزيادة كما أشرنا إليه، وهو فى ذلك على أربعة أوجه «أولها» تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] شبه الناس يوم القيامة فى الضعف والهوان بالفراش، لما فيه من الدقة، وضعف الحال، وقوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] شبه الجبال مع اختصاصها بالصلابة والقوة، بأضعف ما يكون وأرخاه، وهو الصوف لأنه ألين ما يكون عند نفشه، وما ذاك إلا لإظهار باهر القدرة،

مبالغة فى الرد على من أنكر المعاد الأخروى، وتكذيبا لمن حاك فى صدره استبعاد ذلك. وثانيها تشبيه معنى بمعنى كقولك: زيد كالأسد فى شجاعته، وكالأحنف فى حلمه، وكإياس فى ذكائه، وكحاتم فى جوده، وكعنترة فى شجاعته، إلى غير ذلك من التشبيهات المعنوية. وثالثها تشبيه معنى بصورة، وهذا كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم: 18] ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39] مثّلها فى تلاشيها وبطلانها بأمرين أسرع ما يكون فى الزوال، وأعظم شىء فى البطلان، وهما الرماد مع شدة العصف، والتراب فى الصحارى، فإنهما عن قريب وكأنهما ما كانا، وما هذا حاله من التشبيه كثير الدور والجرى، ويختص بالبلاغة، لما فيه من إلحاق غير المحسوس بالمحسوس، وإجرائه مجراه. ورابعها تشبيه صورة بمعنى وهذا كقول أبى تمام: وفتكت بالمال الجزيل وبالعدا ... فتك الصبابة بالمحب المغرم فشبه فتكه بالمال، وبالعدا، وذلك من الصورة المرئية، بفتك الصبابة وذلك أمر معنوى ليس محسوسا، وهذا من لطيف التشبيهات وأرقها وأدخلها فى البلاغة، وأدقها، ووجه البلاغة فيه هو إلحاق المعانى بالأمور المحسوسة المدركة فى الظهور والجلاء، فيصير فى الحقيقة كأنه تشبيه محسوس بمحسوس، وفى هذا نهاية المبالغة ومنه قول بعض المغرمين: ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق وكقول بعضهم: كأن ابياض البدر من تحت غيمه ... نجاة من البأساء بعد وقوع وكقول بعض الأدباء: فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... فى العين ظلم وإنصاف قد اتفقا وكما قال بعض الطلاب: رب ليل كأنه أملى في ... ك وقد رحت عنك بالحرمان وأنشد ابن الخطيب قول الصاحب الكافى حين أهدى عطرا إلى القاضى أبى الحسن أيها القاضى الذى نفسى له ... فى قرب عهد لقائه مشتاقه أهديت عطرا مثل طيب ثيابه ... فكأنما أهدى له أخلاقه وقد يقال: إسلام كنور الشمس، وجهل كظلمة الليل، وحجة كضوء القمر، وكل ما

المرتبة الثانية فى بيان التشبيه المنعكس

أوردناه على اتساعه، ووضوح أمره جار على الاطراد فى تشبيه الأدنى بالأعلا، والأقل بالأكثر والفاضل بالأفضل، والحقير بالأحقر، كما قرّرناه ومنه قول امرىء القيس فى صفة الفرس: كأن سراته لدى البيت قائما ... مداك عروس أو صلاية حنظل وقال ابن دريد فى صفة السيف: كأن بين عيره وغربه ... مفتأدّا تأكلت فيه الجذا وقول عمرو بن كلثوم يصف امرأة: وثديا مثل حق العاج رخصّا ... حصانا من أكف اللامسينا ونحرا مثل ضوء البدر وافى ... بأسعده أناسا مدجنينا وقوله فى صفة الخمر: مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا والحص الورس، لأنها إذا مزجت بالماء رقت بصفرة فاقعة. المرتبة الثانية فى بيان التشبيه المنعكس اعلم أن هذا النوع من التشبيه، يرد على العكس والندور، وبابه الواسع هو الاطراد كما أشرنا إليه، وإنما لقب بالمنعكس لما كان جاريا على خلاف العادة والإلف فى مجارى التشبيه، وقد يقال له غلبة الفروع على الأصول، وكل هذه الألقاب دالة على خروجه عن القياس المطرد، والمعيه المستمر، وله موقع عظيم فى إفادة البلاغة، وقد ذكره ابن الأثير فى كتابه المثل السائر وقرره ابن جنى فى كتاب الخصائص، والشرط فى استعماله أن لا يرد إلا فيما كان متعارفا، حتى تظهر فيه صورة الانعكاس، كما سنقرره فى أمثلته، لأنه لو ورد فى غير التعارف لكان قبيحا، لأن مطرد العادة فى البلاغة على تشبيه الأدنى بالأعلا، فإذا جاء على خلاف ذلك فهو معكوس، ومن الأمثلة الواردة فيه قول ذى الرمة: ورمل كأرداف العذارى قطعته ... إذا لبسته المظلمات الحنادس فانظر إلى ما فعله ذو الرمة، كيف جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا، وذلك أن العادة جارية بتشبيه أعجاز النساء، بكثبان الأنقاء، فعكس ذو الرمة القضية، فشبه كثبان الأنقاء

التقسيم الرابع باعتبار أداته

بأعجاز النساء، وإنما قصد بذلك المبالغة فى أن هذا المعنى قد صار ثابتا للنساء بحيث لا يتمارى فيه أحد، فلا جرم كان أصلا فى التقرير، وغيره فرعا له، وقد تابعه البحترى على هذا فى قوله: فى طلعة البدر شىء من محاسنها ... وللقضيب نصيب من تثنيها فالعادة جارية على جهة الاطراد فى تشبيه الوجوه الحسنة بالبدور، فعكس البحترى هذه القضية، وشبه البدر بها، مبالغة فى الأمر، وتعظيما لشأنها، ومن هذا القبيل ما قاله عبد الله بن المعتز فى قصيدته المشهورة التى مطلعها: سقى الجزيرة ذات الظل والشجر، فقال منها: ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة إذ قصت من الظفر فالجارى فى الاطراد، هو تشبيه القلامة من الظفر بالهلال فى نحولها، وتقوسها، واعوجاجها، فعكس ابن المعتز ذلك، وشبه الهلال بالقلامة، مبالغة ودخولا وإغراقا من جهته فى التشبيه كما هو دأبة وهجّيراه، وعادته المألوفة فى الخمريات وغيرها، فحاصل الأمر فيما ذكرناه من تشبيه العكس أن جريه إنما يكون فيما قد ألف وعرف حاله، فلهذا لم يلتبس حاله، فأما ما لا يعرف حاله ولا يؤلف فلا يجرى فيه، فإن جرى فعلى القلة والندور، ويكون من التشبيه المهجور الذى قد بعد عن البلاغة، ونأى بعض النأى عن استعمال الفصحاء. التقسيم الرابع باعتبار أداته إلى ما تكون أداة التشبيه ظاهرة، وهى الكاف وكأن، وإلى ما تكون مضمرة فيه، وكل واحد منهما معدود من التشبيه، فهذان ضربان نذكر ما يتوجه فى كل ضرب منهما. الضرب الأول ما تكون الأداة فيه مضمرة اعلم أنا قد أسلفنا فيما مر أن كل ما كان من التشبيه مضمر الأداة، فهل يعد من الاستعارة، أو يكون معدودا من أنواع التشبيه، وذكرنا خلاف علماء البيان فيه، وحققنا أن المختار فيه أن كل ما كان تقدير التشبيه يخرجه عن حد البلاغة وجب عده من باب الاستعارة، وكل ما كان تقدير التشبيه لا يخرجه عن حد البلاغة فهو من التشبيه، فلا وجه

الصورة الأولى ما يقع موقع المبتدأ والخبر المفردين

لتكريره، ونحن الآن نذكر كل صورة من صور التشبيه المضمر الأداة، ونردفها بمثالها من المفرد، والمركب، ونطبق أحدهما على الآخر، فيحصل الأمران جميعا فى كل صورة من صوره المذكورة بمعونة الله تعالى. الصورة الأولى ما يقع موقع المبتدأ والخبر المفردين كقولك: زيد الأسد، والأسد زيد، وزيد أسد، وقد يأتى على جهة الفاعل كقولك: جاءنى الأسد، وكلمنى الأسد، وقد يأتى على جهة المفعول كقولك: رأيت الأسد: ولقيت البحر، فما هذا حاله من الاستعارة التى لا تظهر فيها أداة التشبيه يعرف ببديهة النظر على قرب من غير حاجة إلى تأمل ونظر، ولهذا تقول فيه زيد كالأسد، وكالأسد زيد، ولا تحتاج إلى تكلف وإضمار. الصورة الثانية أن يقع المبتدأ ويكون الخبر مضافا إليه، مثاله قوله عليه السلام «الكمأة جدرى الأرض» وكقولك: إقدامه إقدام الأسد، وفيضه بجوده فيض البحر، والكمأة ضرب من النبات، إذا أخرج فى الأرض، أفسدها، ونقص زرعها، وهذا هو مراد الرسول بقوله «جدرى الأرض» أراد أنها مفسدة للأرض، كما يفسد الجدرى البدن، وهى نبت يؤكل، وهو بارد مولّد للبلغم، ويقال أكمأت الأرض، إذا أنبتت الكمأة، وتكمأت إذا أكلت الكمأة. الصورة الثالثة أن يقع موقع المبتدأ والخبر من جهة تركيبهما جميعا فتركب المبتدأ بالإضافة وتركب الخبر مثل ذلك، فتركيب الإضافة حاصل فيهما جميعا، بخلاف الصورة الثانية، فإن التركيب إنما وقع بالإضافة فى الخبر لا غير، ومثال هذا الحديث الوارد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما رواه ابن عمر رضى الله عنه حين قال له معاذ بن جبل «أنؤاخذ بما نتكلم، فقال: وهل يكب الناس على مناخرهم فى النار إلا حصائد ألسنتهم» «1» فالتقدير على هذا يكون: كلام الألسنة كحصائد المناجل، وحصد المنجل جزه، والمنجل حديدة حادة يقلم بها البيطار حافر الفرس، فعلى هذا حصيدة اللسان طرفه.

الصورة الرابعة ما يرد على جهة الفعل والفاعل،

الصورة الرابعة ما يرد على جهة الفعل والفاعل، ومثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] والتقدير على هذا فى ظهور التشبيه، أن يقال: إنهم فى الحقيقة لما تمكنوا فى الإيمان واطمأنوا أفئدة به، كأنهم فى التقدير اتخذوه مباءة ومسكنا، كما يتخذ الإنسان داره وبيته الذى يسكن فيه ويكاد فى هذا الاستعارة يضعف تقدير أداة التشبيه كما سنقرر مراتب التشبيه فى الظهور والإخفاء بمعونة الله تعالى. الصورة الخامسة أن يكون واقعا موقع المثل المضروب، وهذا كقول الفرزدق يهجو جريرا: ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران فشبه هجاء جرير تغلب وائل ببوله فى مجتمع البحرين، فما عسى أن يؤثر فيهما شىء، فهكذا هجاؤك هؤلاء القوم لا يؤثر أصلا، فيكاد التشبيه فى ما هذا حاله لا يظهر إلا بتقدير وتلطف واحتيال فى إبرازه، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر مراتب التشبيه فى هذه الصورة، ثم نردفه بموقعها فى المفرد والمركب فهذان طرفان نحقق ما فيهما بمعونة الله تعالى. الطرف الأول فى بيان مراتب التشبيه فى هذه الصورة اعلم أن التشبيه المضمر الأداة أبلغ وأوجز من التشبيه الذى ظهرت أداته، أما كونه أبلغ فلأنك إذا قلت: زيد الأسد، فقد جعلته نفس هذه الحقيقة، من غير واسطة، بخلاف قولك زيد كالأسد، فليس يفيد إلا مطلق المشابهة لا غير، وأما كونه أوجز، فلأن أداة التشبيه محذوفة منه، فلهذا كان أخصر من جهة لفظه، وعن هذا قال المحققون من أهل هذه الصناعة: إن الاستعارة أبلغ من التشبيه لما ذكرناه، ولا خلاف فى عد الاستعارة من باب المجاز بخلاف التشبيه، فإنه مختلف فى عده كما أسلفناه، ولأن الاستعارات فى القرآن أكثر من التشبيهات، ومن أجل هذا عظمت بلاغته، وارتفعت فصاحته، فنقول: التشبيه المضمر الأداة هو فى الظاهر يعد من باب الاستعارة، ولكن التشبيه مضمر فيه، ويتفاوت

درجة فى ظهور الأداة وإضمارها، وفى حصول المشبه به وعدم حصوله فمنها ما هو ظاهر متيسر تقديره على سهولة، ومنها ما يتعذر المشبه به، وإنما يتلطف فى تقديره بنوع من الاحتيال والتلطف، ومنها ما هو متوسط بين الدرجتين، فهذه درج ثلاث بالإضافة إلى تقدير المشبه فى الإضمار والإظهار نفصلها بمعونة الله ولطفه. الدرجة الأولى: ما يكون المشبه به ظاهر التقدير لا يحتاج فى تقديره إلى تكلف، بل يتيسر تقديره على قرب، وهذا كقولنا: زيد الأسد، فإن التقدير فيه زيد كالأسد على سهولة من غير إضمار ولا خروج عن قاعدة، وهكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم «البدعة شرك الشّرك» لأن التقدير البدعة كالشرك للشرك، يريد مصايد له وأحبولات، ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى صفة التقوى «هى دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم» وقال فى الإسلام: «هو ينابيع غزرت عيونها، ومصابيح شبت نيرانها، ومنار اقتدى به سفاره، ومناهل روى بها واردها» وقال فى القرآن «هو نور لا تطفأ مصابيحه، وشعاع لا يخبو توقده، وبحر لا يدرك قعره» فهذه الاستعارات كلها من التشبيه المضمر الأداة فيها أداة التشبيه على أسهل حال، وأقرب منال، كما مثلناه فى الصورة الأولى. الدرجة الثانية فى غاية البعد من الأولى وهى الصورة الرابعة والخامسة وهى أدق الصور فى تقدير التشبيه فيها، فلا يتفطن للتشبيه فيهما إلا باستخراج وتأمل وفكر بالغ، يدرك بنوع من التلطف والاحتيال كما سنوضحه، وما ذاك إلا لأجل توغلها فى حسن الاستعارة وإغراقها فيها، وهذا يدلك على مصداق ما قاله أهل البراعة من أهل هذه الصناعة، من أن التشبيه كلما ازداد خفاء ازدادت الاستعارة حسنا ورشاقة، يشيرون به إلى ما ذكرناه، ومثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] فهذه الاستعارة من أعجب الاستعارات وأدقها، ووجه دخولها فى الحسن، هو أنهم لتمكنهم فى الإيمان وإشراب قلوبهم محبته، والتصاقه بلحومهم ودمائهم، صار كالمباءة لهم والمسكن الذى يتوطنونه، ومع هذا يصعب تقدير التشبيه، ونهاية الأمر فيه أن يقال: إنه صار كالمباءة، وعند تقدير ما ذكرناه من التشبيه يضعف أمر الاستعارة، وينزل قدرها، ويرك أمرها وحالها. وأما بيت الفرزدق الذى أنشدناه وهو قوله (ماضر تغلب وائل) فهذا البيت من الأبيات التى علا قدرها فى البلاغة وأقر لها الناس بالحسن فى الاستعارة، وما ذاك إلا لإغراقها فى الاستعارة والدخول فيها، فتقدير التشبيه فيها يخرجها عن مكانها الرفيع، ومحلها المنيع،

ونهاية الأمر فى تقدير التشبيه فيها، أن يقال: إن هجاءك لهذه القبيلة لا يؤثر كما أن بولك فى مجتمع البحرين لا يجدى ولا يكون نافعا، وأنت إذا قدرت التشبيه فيما ذكرناه، فقد عزلت هذه الاستعارة عن سلطانها، ووضعتها عن حلولها فى رفيع مكانها، ومن هذا قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] فإن تقدير التشبيه يخرجه عن رونق الاستعارة ويسلبه منها ثوب الإمارة، ومن هذا قول الفرزدق أيضا: قوارص تأتينى فيحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم شبه ما يأتيه من الشتائم والأذايا بهذه القوارص التى تؤذى الجسم من البعوض، والنمل، والبق، فتقدير التشبيه فيما هذا حاله يدق كما ذكرناه فى غيره. ومنه قول البحترى أيضا فى التعزية بولد: تعز فإن السيف يمضى وإن وهت ... حمائله عنه وخلاه قائمه فما هذه صورته فهو من فن الاستعارة، وإنما يقدر التشبيه فيه بلطف واحتيال، فهاتان الصورتان الأحق بهما أنهما من باب الاستعارة كليهما، ولا حاجة بنا إلى جعلهما من باب التشبيه، فمن صيرهما منه فإنما هو متكلف فيما جاء به. الدرجة الثالثة للصورة الثانية والثالثة، فإنها متوسطة بين الدرجتين، فلا هى تقرب من التشبيه كالصورة الأولى، ولا هى بعيدة من التشبيه كالرابعة والخامسة، والمثال فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الكمأة جدرى الأرض» وقول أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى صفة الدين والإسلام «فهو عند الله وثيق الأركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مشرق المنار عزيز السلطان» فأنت إذا أردت إظهار التشبيه فيما هذا حاله قلت فى الخبر النبوى الكمأة للأرض كالجدرى، وهكذا تقول فى كلام أمير المؤمنين أركانه كأوثق ما يكون من الأركان، وبنيانه كأرفع ما يكون من الأبنية، وبرهانه كأنور ما يكون، إلى غير ذلك من التقدير، ومن هذا قول البحترى: غمام سحاب لا يغب له حيا ... ومسعر حرب لا يضيع له وتر فإذا قدرت فى هذا أداة التشبيه فإنك تقول: سماح كالغمام، وحرب هولها كالمسعر، وهو موقد النار، وكقول أبى تمام: أى مرعى عين ووادى نسيب ... لحبته الأيام فى ملحوب ومراد أبى تمام أن يصف هذا الموضع بأنه كان حسنا فأزالت الأيام حسنه وأنه كان

الطرف الثانى فى بيان مواقع الإفراد والتركيب

ينسب به فى الأشعار لطيبه، فإذا قدرنا أداة التشبيه فإنا نقول: مكان كأنه مرعى للعين، وكأنه كان للنسيب منزلا ومألفا، فهكذا يصنع بما هذا حاله، فينحل من مجموع ما ذكرناه ههنا أن كل ما كان من التشبيه المضمر الأداة، فإن تقدير أداة التشبيه إما أن يكون فى غاية القوة كالدرجة الأولى، وإما أن يكون فى نهاية الصعوبة والضعف كالدرجة الرابعة والخامسة، وإما أن يكون متوسطا كالدرجة الثانية والثالثة، ولا مزيد على ما أوردناه من هذا التقرير، وعلى الناظر إعمال نظره فى كل صورة ترد عليه فيما يتعذر من ظهور أداة التشبيه، وما لا يتعذر والله أعلم. الطرف الثانى فى بيان مواقع الإفراد والتركيب اعلم أنا قد أسلفنا أن التشبيه المضمر الأداة لا ينفك عن تلك الصور الخمس، وهى منطبقة على الإفراد والتركيب، ونحن الآن نورد كيفية انطباقها على المفرد والمركب فنقول: أما الصورة الأولى فهى واردة فى تشبيه المفرد بالمفرد ومثاله قولنا: زيد الأسد، وزيد البحر، ومن هذا قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً [النبأ: 10] ، وقوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ [البقرة: 187] وقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] فقوله فى ذكر اللباس من الاستعارات التى استبد بها القرآن ولم تأت فى غيره فى كلام منظوم ولا منثور، وهى من عجائب الاستعارة ودقيقها، وقوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ من الاستعارات البديعة أيضا، ومنه قوله تعالى: نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] فشبه انقطاع الليل من النهار بمنزلة سلخ الأديم عن المسلوخ، لشدة التحامه وصعوبة خروجه، وانقطاعه بالكلية، كما مثلناه وهذا التشبيه فى غاية المناسبة والملائمة لما هو له، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى: وإذا اهتز للندى كان بحرا ... وإذا اهتز للوغى كان نصلا وإذا الأرض أظلمت كان شمسا ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا ومنه قوله أيضا فى هذا المثال: خرجن من النقع فى عارض ... ومن عرق الركض فى وابل فلما نشفن لقين السياط ... بمثل صفا البلد الماحل

وأما الصورة الثانية فإنما ترد فى التشبيه المفرد بالمركب، ومثال قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الكمأة جدرى الأرض» «1» ومنه قول البحترى «غمام سحاب» وقول أبى تمام «أى مرعى عين» وقد أسلفناه، وهكذا ما حكيناه عن أمير المؤمنين، فإنه من باب تشبيه المفرد بالمركب، وهو كثير الدور، وأما الصورة الثالثة فمثالها قوله صلّى الله عليه وسلّم فى حديث معاذ «وهل يكب الناس على مناخرهم فى النار إلا حصائد ألسنتهم» «2» كأنه قال كلام الناس كحصائد المناجل، ومن علامة هذه الصورة التى هى تشبيه المفرد بالمركب، أنه لا يكون المشبه به مذكورا، بل المذكور صفته، وهو الحصد، فيكون تقديره، الألسنة فى كلامها كالمناجل المحصدة فيكون على هذا تشبيه مفرد بالمركب، وأما الصورة الرابعة والخامسة فإنما يردان فى تشبيه المركب بالمركب، فأما الرابعة فمثلناها بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] كأنه قال المؤمنون فيما تلبسوا به من الإيمان وتمكنوا فيه كمن اتخذ دارا وتبوأها مسكنا، فقد ظهر لك بما ذكرناه صورة التركيب فيهما جميعا، ومن هذا قول أبى تمام: نطقت مقلة الفتى الملهوف ... فتشكت بفيض دمع ذروف وإذا أردنا إظهار تركيبه قلنا: دمع العين الباكية فى حالها كاللسان الناطق، وأما الخامسة فمثلناها بقول الفرزدق «ما ضر تغلب وائل» البيت وبقول البحترى «تعز فإن السيف» البيت وبقول الفرزدق أيضا «قوارص تأتينى» . ومتى أردت إظهار التركيب فى هذا فإنك تقول: هجاؤك فى حق هذه القبيلة بمنزلة بولة مجتمعة فى ملتقى البحرين، وهكذا قوله فى القوارص، كأنه قال: القوارص المجتمعة فى تأثيرها فى الألم والأذية، مشبهة بالقطر القليل الذى يجتمع فيملأ الإناء ونحو قوله «تعز» فإن تقدير ظهور التركيب فيه أن يقال: أنت فيما أصابك من فقد من فقدته، بمنزلة السيف الماضى وإن انقطعت حمائله وخلاه قائمه، فقد ظهر بما حققناه ههنا انطباق الصور الخمس على أقسام المفرد والمركب من غير مخالفة فى ذلك وبالله التوفيق.

الضرب الثانى ما تكون الأداة فيه ظاهرة

الضرب الثانى ما تكون الأداة فيه ظاهرة اعلم أن ما هذا حاله فمضطرب البلاغة فيه واسع، وميدانها لديه فسيح، ومما أغرق فى الإعجاب والبداعة وأدهش الألباب من أهل هذه الصناعة قوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] وقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: 122] وقوله تعالى ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران: 117] فهذا وأمثاله من التشبيهات المركبة الفائقة التى أغرقت فى الفصاحة، ورسخت أصولها فى البلاغة. ومن هذا قول أمير المؤمنين فى وصف الفتن «أقبلت الفتن كالليل المظلم، والبحر الملتطم، لا تقوم لها قائمة ولا ترد لها راية» فشبهها بالليل لما يكون فيها من ظلم الجهل، وشبهها بالبحر لما فيها من شدة اضطراب الآراء واختلاف الأهواء. وقوله فى تحريض أصحابه على القتال «ولقد شفى وحاوح صدرى أن رأيتكم بآخرة تحوزونهم كما حازوكم وتزايلونهم عن مواقعهم كما أزالوكم حشّا بالنبال، وشجرا بالرماح، تركب أولاهم أخراهم، كالإبل المطرودة، ترمى عن حياضها، وتذاد عن مواردها» وكم له من التشبيهات التى فاق فيها على البلغاء، ولم يزاحمه أحد من مصاقع الخطباء. ومن جيد التشبيه ما قاله البحترى: خلق منهم تردد فيهم ... وليته عصابة عن عصابة كالحسام الجراز يبقى على الده ... ر ويفنى فى كل حين قرابه ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء: تراهم ينظرون إلى المعالى ... كما نظرت إلى الشيب الملاح يحدون العيون إلى شزرا ... كأنى فى عيونهم السماح وكقول أبى تمام يهجو إنسانا: كم نعمة لله كانت عنده ... فكأنها فى غربة وإسار كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت ... كتضاؤل الحسناء فى الأطمار فهذا ما أردنا ذكره فى تقسيم التشبيه وبيان ضروبه وأنواعه.

المطلب الثانى فى بيان الأمثلة الواردة فى التشبيه

المطلب الثانى فى بيان الأمثلة الواردة فى التشبيه اعلم أن التشبيه هو بحر البلاغة وأبو عذرتها، وسرها ولبابها، وإنسان مقلتها، ونورد من أمثلته أنواعا خمسة. النوع الأول من الآى القرآنية وهذا كقوله تعالى فى الحيوانات كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] ، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] وقوله تعالى: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] الآية، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] وفى غير الحيوانات كقوله تعالى: كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ [البقرة: 264] وقوله تعالى: َثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ [آل عمران: 117] وقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] وقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ [النور: 40] وقوله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [الكهف: 45] وقوله تعالى: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم: 18] وقوله تعالى: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39] وقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الكهف: 32] وقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً [النحل: 75] وقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ [يس: 13] وقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: 29] فهذا وأمثاله إنما ورد فى التشبيهات المفردة، وأما المركبة فقد مثلناها فى التقسيم فأغنى عن إيرادها، ومن هذا قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: 261] وقوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران: 117] فجميع ما أوردناه ههنا من الأمثلة المفردة والمركبة، وفى القرآن الكريم أمثال كثيرة، وهى غير خارجة عما ذكرناه فى الإفراد والتركيب فى مظهر الأداة، فأما ما كان من التشبيهات الرائقة مما أضمر فيه أداة التشبيه فهو كثير الدور والاستعمال فى التنزيل، وما ذاك إلا لرشاقته وحسن موقعه ولطافته، وهذا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] ونحو قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] وقوله

النوع الثانى من الأخبار النبوية

تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] وقوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ: 19، 20] وقوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام: 25] وقوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [البقرة: 235] وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا [يس: 9] ومن هذا النوع آيات التشبيه كلها كقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] وقوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] وما كان ذلك دالا بظاهره على الجهة كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] وقوله تعالى: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54] وقوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] ولهذا فإن المشبهة لما ضاقت حواصلهم عن إساغة هذه الأسرار، وأغشى أبصارهم نور هذه اللطائف، وقصرت أعناقهم عن التطلع إلى محاسنها، وقعوا فى متاهات عظيمة، وارتكبوا فى محارات وخيمة، وأوقعوا نفوسهم فى مهاو ومهالك، لأجل اعتقادهم لظواهرها، فمن ثم انسلخوا عن الدين وهم لا يشعرون، فنعوذ بالله من الخذلان، وجهل يؤدى إلى خسران، ولو لم يكن لهذا العلم من الشرف إلا أن كل من عرف حقائقه واستولى على معانيه، وأحرز دقائقه، فإنه يسلم لا محالة من اقتحام ورط التشبيه، والتضمخ برذائله، لكان هذا من أعظم المناقب، وأعلى المراتب، وأسنى الرغائب، مع ما حاز من شريف الخصال، ورفيع القدر والمنال، ولهذا فإنك ترى الشيخ العالم النحرير محمود بن عمر الزمخشرى، ما فاق فى تفسيره على كل تفسير إلا لتقرير أساسه عليه واستناده فيما أتى من الحقائق والغوامض إليه. النوع الثانى من الأخبار النبوية فأما التشبيهات المفردة فهى كثيرة كقوله صلّى الله عليه وسلّم كأن الموت فيها على غير ما كتب، وكأن الحق فيها على غير ما وجب، وكأن الذى تشيع من الأموات سفر، عما قليل إلينا راجعون، وقوله. كأنا مخلدون بعدهم، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: العلم الذى لا ينفق منه صاحبه كالكنز الذى لا ينفق منه وقوله عليه السلام. مثل أهل بيتى كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أصحابى كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم

وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا» وقوله عليه السلام: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائر أعضائه بالسهر والحمى» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحياء من الإيمان كالرأس من الجسد» وقوله صلّى الله عليه وسلّم «الناس كأسنان المشط فى الاستواء» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين» وقوله: «مثل هذه الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم ينغمس فيه كل يوم خمس مرات، ما عسى أن يبقى عليه من الدرن» وقوله صلّى الله عليه وسلّم أمتى كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره. وقوله عليه السلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . وفى الحديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استبشر فكأن وجهه قطعة قمر» . وفى الحديث عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه «كان إذا دخل رمضان كان أجود من الريح العاصف» . وفى حديث آخر «كالريح العاصف» وقوله عليه السلام فكأنكم بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وأما التشبيهات المركبة فهى كثيرة فى كلامه عليه السلام كقوله: إنه لم يبق من الدنيا إلا كإناخة راكب أو صر حالب، لأن التقدير فيما هذا حاله إلا كراكب أناخ راحلته أو صر حالب، والصر: وضع الخيط على ثدى الناقة لئلا يرضعها ولدها، والمراد لم يبق من الدنيا فى القلة إلا مقدار صرة، لأنه عن قريب ينقضه للحلب. وكقوله عليه السلام: فكأن قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، وتقرير وجه التشبيه أنه شبه وضوح الأمر فى الآخرة وتحقيق الحال فيها بشىء كان مغطى فكشف قناعه، فظهر حاله، وبان أمره واتضحت حقيقته. وأكثر ما ذكرناه فى أحاديث التشبيهات المفردة يمكن إيرادها فى المركبة وهذا كقوله: مثل الصلاة كمثل نهر جار، فإن هذا يمكن أن يكون من المركبة، لأن التركيب قد قررناه من قبل أن كل ما كان من وصفين أو أكثر من ذلك، فهو مركب. فأنت إذا تصفحت ما ورد من الأحاديث، وجدت أكثرها مركبا. وأما التشبيهات التى أضمر فيها أداة التشبيه فهى واسعة أيضا وهذا كقوله عليه السلام: «إن من فى الدنيا ضيف وما فى يده عارية، والضيف مرتحل، والعارية مردودة» فالإضمار لأداة التشبيه فى هذا سهل متيسر من غير تكلف كأنه قال الناس كالضيف فى الدنيا لسرعة انتقالهم، وما فى أيديهم من الأموال عارية، وعن قريب ترد العارية، ويأخذها مالكها. ولا يكاد يخفى التشبيه على من له أدنى ذوق وفطانة وكقوله عليه السلام «الدنيا دار التواء، لا دار انتواء، ومنزل ترح، لا منزل فرح» فأداة التشبيه يمكن إظهارها من غير تكلف، ولا تعسر كما ترى. وقد يخفى تقدير أداة التشبيه بعض خفاء فيحتاج إلى مزيد تفطن ومزيد خبرة ودقة

النوع الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،

نظر، ومن هذا قوله عليه الصلاة والسلام «ما سكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث، شغل لا ينفك عناؤه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه» ، فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكلام من بالغ الحكمة وعظيم الزجر ونافع الوعظ، وتلطف على تقرير التشبيه فيه بنوع احتيال وتلطف، كأنه قال إذا تمكن حب الدنيا من قلب العبد فكأنه الحال الساكن فيه، ثم إذا كان ساكنا فيه فهذه الخصال الثلاث كالملتاطة المختلطة لعظم شغفهم بها وتمكنها من سويداء قلوبهم. وقوله مادام رسنه مرخى، وحبله على غاربه ملقى، فهذا وأمثاله مما يدق تقرير الأداة فيه إلا بنوع تقدير كما أسلفنا تقريره. النوع الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فمن التشبيهات الظاهرة التى أخذت من البلاغة بحظ وافر، وخصت بالقدح القامر قوله فى أثناء الوعظ «وضع فخرك، واحطط كبرك، واذكر قبرك، فإن عليه ممرك، وكما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، وما قدمته اليوم تقدم عليه غدا فامهد لقدمك، وقدم ليومك» . فتأمل أيها الناظر موقع قوله، كما تدين تدان وكما تزرع تحصد، ما أغرقه فى معانى التشبيه، وما أكثر رسوخه فى مواقع التنبيه. وكقوله فى خلقة الخفاش واشتمالها على العجائب من الحكمة «وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريش ولا قصب، إلا أنك ترى موضع العروق بينة أعلاما، لها جناحان لما يرق فينشقا، ولما يغلظا فيثقلا» وكما قال فى صفة الفتنة «تمتد فى مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، شبابها كشباب الغلام، وآثارها كآثار السلام، يهرب منها الأكياس، ويديرها الأرجاس. وكقوله فى وصف الجاهل «إن دعى إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعى إلى حرث الآخرة كسل، كأن ما عمل له واجب عليه، وكأن ما ونى فيه ساقط عنه» وقوله عليه السلام: «سيأتى على الناس زمان يكفأ فيه الإسلام، كما يكفأ الإناء» فما أبلغ موقع هذه الكلمة مع اشتمالها على نظام عجيب، وتأليف بديع، ومعناه أنه ينقلب ظهرا لبطن فى انعكاس حاله وانقلاب أمره. فأما التشبيهات المركبة فهى كثيرة فى كلامه كقوله عليه السلام فى وصف الأولياء «عظم الخالق فى أنفسهم، فصغر ما دونه فى أعينهم، فهم والجنة كمن رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون» وقوله فى وصف المنية «واعلموا أن ملاحظ

المنية نحوكم رانية، وكأنكم بمخالبها وقد نشبت فيكم، وقد دهمتكم فيها مفظعات الأمور، ومضلعات المحذور، فقطعوا علائق الدنيا، واستظهروا بزاد التقوى. وأقول «إن هذا الكلام ليأخذ بمجامع القلوب إلى رفض الدنيا لو كان له قبول، أو صادفته آذان، أو وعته عقول» وقوله عليه السلام فى خطاب لمعاوية يوبخه فيه «فياعجبا للدهر إذ صرت تقرن بى من لم يسع بقدمى ولم يكن له كسابقتى التى لا يدلى بها أحد مثلى، إلا أن يدعى مدع مالا أعرفه، ولا أظن أن الله يعرفه، فالحمد لله على كل حال» . وقال فى مخاطبة أهل البصرة «والله لئن ألجأتمونى إلى المسير إليكم، لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق» . وقال فى خطاب آخر لمعاوية «فكأنى بك وقد رأيتك تضج من الحرب إذا عضتك ضجيج الجمال بالأثقال، وكأنى بجماعتك يدعوننى جزعا من الضرب المتتابع، والقضاء الواقع، ومصارع بعد مصارع، إلى كتاب الله وهى كافرة جاحدة، أو متابعة حائدة» . فأما التشبيهات التى أضمرت فيها أداة التشبيه فيه فى كلامه أوسع مما ظهرت فيه الأداة، وقد ذكرنا من قبل أن التشبيه مهما خفى أمره فهو أدخل فى حسن الاستعارة، فمن ذلك قوله عليه السلام «رحم الله امرءا ألجم نفسه بلجامها، وزمامها، فأمسكها عن معاصى الله وقادها بزمامها إلى طاعة الله» فالتشبيه فى مثل هذا يمكن تقديره، لأنك إذا أظهرت أداة التشبيه لم يخرج الكلام عن فصاحته، ومما تظهر فيه أداة التشبيه على قرب وسهولة، قوله فى صفة الأرض «فجعلها لخلقه مهادا، وبسطها لهم فراشا، فوق بحر لجى راكد لا يجرى» كأنه قال كالمهاد، والفراش. ومما يصعب فيه تقدير أداة التشبيه فيكون استعارة محضة قوله عليه السلام فى التقوى أيقظوا بها نومكم، واقطعوا بها يومكم، وأشعروا بها قلوبكم، وارحضوا بها ذنوبكم، وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، ألا وصونوها، وتصونوا بها» فهذه استعارات حسنة، ومعان دقيقة، إذا قدرت فيها أداة التشبيه، وخرج الكلام عن رونقه، وتبدل عن دباجته، وقال فى أهل البدع هم أساس الفسوق، وأحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وتراجمة ينطق على ألسنتهم فجعلهم مرمى نبله، وموطىء قدمه، ومأخذ يده» . وقال فى صفة الدنيا «حالها انتقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذل، وجدها هزل، وعلوها سفل، دار حرب وسلب، ونهب وعطب، أهلها على ساق وسياق،

النوع الرابع فيما ورد من التشبيه فى كلام البلغاء

ولحاق وفراق» . وقال فى كلام آخر «فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد ثأر الجاهلية، واعتمدوا وضع التذلل على رؤسكم، وإلقاء التعذر تحت أقدامكم، وخلع التكبر عن أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم، إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا» ومن خبر كلامه ومارس أسلوبه ونظامه، تحقق لا محالة أنه قمر البلاغة المتوسط فى هالتها، والطراز الباهى فى أكم غلالتها. النوع الرابع فيما ورد من التشبيه فى كلام البلغاء فمن ذلك كلام قبيصة بن نعيم، لما قدم على امرىء القيس فى أشياخ من بنى أسد، يسألونه العفو عن دم أبيه حجر، فقال له قبيصة: إنك فى المحل والقدر من المعرفة بتصريف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتتنقل به أحواله بحيث لا تحتاج إلى تذكير من واعظ، ولا تبصير من مجرب، ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك فى العرب، محتمل يحتمل ما حمل من إقالة العثرة، ورجوع عن الهفوة، ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك، فوجدت عندك من فضيلة الرأى، وبصيرة الفهم، وكرم الصفح، ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها، وقد كان الذى كان من الخطب الجليل الذى عمت رزيئته نزارا واليمن، ولم يخصص بذلك كندة دوننا، للشرف البارع كان الحجر، ولو كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده، لما بخلت كرائمنا به على مثله، ولكنه مضى به سبيل لا ترجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه فأحمد الحالات أن تعرف الواجب عليك فى إحدى خلال ثلاث، إما أن اخترت من بنى أسد أشرفها بيتا، وأعلاها فى بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعه، تذهب مع شفرات حسامك قصرته، فنقول، رجل امتحن بهلك عزيز، فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام. أو فداء بما يروح على بنى أسد من نعمها، فهى ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها، وإما أن توادعنا إلى أن تضع الحوامل فنسدل الأزر، ونعقد الخمر فوق الرايات، قال فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر فى دم، وإنى لن أعتاض به جملا ولا ناقة، فأكتسب بذلك سبة الأبد، وفت العضد، وأما النظرة فقد

أوجبتها للأجنة فى بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا، وستعرفون طلائع كندة بعد ذلك، تحمل فى القلوب حنقا، وفوق الأسنة علقا: إذا جالت الحرب فى مأزق ... تصافح فيها المنايا النفوسا أتقيمون، أم تنصرفون؟ قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار وأبلى الاجترار المكروه وأذية، وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه، وقبيصة يتمثل: لعلك أن تستوخم الورد إن غدت ... كتائبنا فى مأذق الحرب تمطر فقال امرؤ القيس: لا والله، بل أستعذبه، فرويدا تنفرج لك دجاها عن فرسان كندة، وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا بى أولى إذ كنت نازلا بربعى ولكنك قلت فأجبت، فقال له قبيصة ما نتوقع أكثر من المعاتبة والإعتاب. فعليك إعمال فكرك فى هذا الكلام، ما أوقعه فى إصابة المعانى وأسلس ألفاظه، ومن ذلك ما قاله ابن الأثير فإنه أبدع فى نظم المنثور، وأحسن فى تأليف العقود من الدرر والشذور، ومن عجيب كلامه أنه يكاد يعول فى نظم كلامه على كتاب الله تعالى فيجعله كالأساس للبناء، قال فى وصف القلم وقد أوحى الله إلى قلمه ما أوحى، وإلى النحل، غير أنها تأوى إلى المكان الوعر، وهو يأوى إلى البيان السهل، ومن شأنه أن يجتنى من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام، ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام، وأين ما تبينه كثافة الخشب، مما تبينه لطافة المعنى، ولا تستوى نضارة هذا الثمر، وهذا الثمر، ولا طيب هذا المجنىّ وهذا المجنى، وقد أرخص ما يكثر وجوده، فيذهب فى لهوات الأفواه، وأغلى ما يعز وجوده، فيبقى خالدا على ألسنة الرواة. فانظر كيف جعل الآية أصلا وقاعدة لمغزاه، ومهادا فى لفظه ومعناه. وقال فى وصف كاتب وهو إذا دجا ليل قلمه، وطلعت فيه نجوم كلمه، لم يقعد لها شيطان بلاغة مقعدا، إلا وجد له شهابا مرصدا، فأسرارها مصونة عن كل خاطف، مطوية عن كل قائف، فقرر ما ذكره على ما ذكره فى سورة الجن، ثم قال له بنت فكر ما تمخضت بمعنى إلا نتجته من غير ما تهمله، ثم أتت به قومها تحمله، ولم نعرض على ملإ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله، فشيد ما ذكره على هاتين الآيتين، الأولى فى سورة الجن، والثانية فى سورة مريم، ومن ثم كان ارتفاع قدره، واستتمام نور بدره، ومن ذلك ما ذكره الشيخ العابد يحيى بن نباتة فى خطبة له، وهو قمر يشار إليه بالأكف فى البلاغة،

وله فى أساليبها اليد البيضاء، قال أولئك الذين أفلوا فنجمتم، ورحلوا فأقمتم، وأبادهم الموت كما علمتم، وأنتم الطامعون فى البقاء بعدهم كما زعمتم، كلا والله ما أشخصوا لتقروا، ولا نغصوا لتسروا ولا بد أن تمروا حيث مروا، فلا تفتنوا بخدع الدنيا ولا تغتروا، يا أيها الناس، أسيموا القلوب فى رياض الحكم، وأديموا البحث عن ابيضاض اللمم، وأطيلوا الاعتبار بانتقاص النعم، وأجيلوا الأفكار فى انقراض الأمم. فانظر إلى موقع قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ [البقرة: 175] وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة: 21] من كلامه لما كانا من آى القرآن، كيف تميزا تمييز الإبريز، عن القزدير، وصارا مع غيرهما من الكلام كالرصاص بالإضافة إلى الإكسير. وقد ساق ابن الجوزى على هذا المساق الذى حكيناه عن ابن الأثير فى جعل الآيات طررا فى كلامه، قال فى خطبة: يا معدودا مع أهل البصر وهو فى العميان، يا محسوبا مع أهل المشيب وهو فى الصبيان، يسافر بالهوى، ولا ينزل إلابجار من خان خل الهوى، فإن الهوى هوان، ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله؟ ألم يأن؟ سار الصالحون وتوقفت، وجد التائبون وسوفت، ما يقعدك عن الطريق وقد عرفت؟ هيهات! لقد استحكم هذا النسيان، ألم يأن؟ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله؟ ألم يأن؟ وكم له على هذا الأسلوب من النثر العجيب، والإغراق فى النظم البديع، ولقد رأيت له مائة فصل على مائة آية من كتاب الله على هذا الأسلوب. وقال فى الحريريات: أيها السادر فى غلوائه، السادل ثوب خيلائه، الجامح فى جهالاته، الجانح إلى خزعبلاته، إلا تستمر على غيك، وتستمرىء مرعى بغيك؟ وحتام تتناهى فى زهوك، ولا تنتهى عن لهوك، تبارز بمعصيتك، مالك ناصيتك، وتجترىء بقبح سيرتك، على عالم سريرتك، وتتوارى عن قريبك، وأنت بمرأى رقيبك، وتستخفى عن مملوكك، ولا تخفى خافية على مليكك، أتظن أن ستنفعك حالك؟ إذا آن ارتحالك، ويغنى عنك مالك، حين توبقك أعمالك، أو يغنى عنك ندمك، إذا زلت قدمك. ثم قال: طالما أيقظك الدهر فتناعست، وجذبك الوعظ فتقاعست، وحصحص لك الحق فتماريت، وأذكرك الموت فتناسيت، وأمكنك أن تؤاسى فما آسيت، تأمر بالعرف وتنتهك حماه، وتنهى عن المنكر ولا تتحاماه، وتزحزح عن الظلم ثم تغشاه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. ولقد ختم كلامه بأحسن ختام، حيث جعل الآية منتهى له، فتم أى تمام. وفيما ذكرناه كفاية فى مقدار عرضنا من التنبيه على مواقع البلاغة فى كلام الفصحاء مثل واصل، والجاحظ، وغيرهما، ممن له فيها الحظ الوافر.

النوع الخامس فيما ورد من التشبيه من المنظوم

ويحكى عن «واصل» وكان من المفلقين فى طلاقة اللسان وذلاقته، أن رجلا قال له يمتحنه بالفصاحة وقد عرف أن فى لسانه لثغة فى مخرج الراء: قل: رجل ركب فرسه وجر رمحه، فقال له: غلام اعتلى جواده، وسحب ذابله، فما أجاب به أفصح وأسلس مما امتحن، بنطقه، وما ذاك إلا لأجل الطلاقة فى اللسان، والبراعة فى جودة الذكاء والفطنة. النوع الخامس فيما ورد من التشبيه من المنظوم فمن ذلك ما قاله امرؤ القيس: كأن ثبيرا فى عرانين وبله ... كبير أناس فى بجاد مزمل وقال: كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل وقال عمرو بن كلثوم: وما منع الضغائن مثل ضرب ... ترى منه السواعد كالقلينا والقلة خشبة صغيرة قدر ذراع، يضرب بها وقال: إذا ما رحن يمشين الهوينى ... كما اضطربت متون الشاربينا وقال لبيد: ولها هباب فى الزمام كأنها ... صهباء راح مع الجنوب جهامها وقال ذو الرمة: كحلاء فى برج صفراء فى دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب والبرج: النماء والزيادة، وقيل إن هذه اللفظة نبطية، وليست فصيحة، وقال آخر: سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت من الكرم وقال البحترى: ذات حسن لو استزادت من الحس ... ن إليه لما أصابت مزيدا فهى كالشمس بهجة والقضيب ال ... لدن قدا والرئم طرفا وجيدا وقال آخر: تردد فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجى ويأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا

المطلب الثالث فى كيفية التشبيه

وكقول أبى تمام: جمعت لنا فرق الأمانى منكم ... بأبر من روح الحياة وأوصل فصنيعة فى يومها وصنيعة ... قد أحولت وصنيعة لم تحول كالمزن من ماء الرباب فمقبل ... متنظر ومخيم متهلل ومن جيد التشبيه قول إبراهيم بن العباس: لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويغبر عنها أرضها وسماؤها فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن يستباح دماؤها حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها وقال أبو تمام: وما هو إلا الوحى أو حد مرهف ... يقيم ظباه أخدعى كل مائل فهذا دواء الداء من كل عالم ... وهذا دواء الداء من كل جاهل وهكذا ورد قوله: وكان لهم غيثا وعلما لمعدم ... فيسأله أو باحث فيسائله ومن ذلك قول أبى نواس: ترجو وتخشى حالتيك الورى ... كأنك الجنة والنار وليكن هذا القدر كافيا فى إيراد الأمثلة ففيه كفاية لمقدار غرضنا فى التشبيه المضمر الأداة، والمظهر الأداة كما فصلناه من قبل. المطلب الثالث فى كيفية التشبيه اعلم أن التشبيه لكثرة وقوعه فى الكلام، وتوسع أهل البلاغة فى طرقه يكاد أن تكون كيفية وقوعه غير منحصرة لما ذكرناه من الاتساع، ولكنا نشير من ذلك إلى كيفيات خمس بمعونة الله تعالى. الكيفية الأولى هو أن الغرض بالتشبيه ومقصوده، إنما هو الإبانة والإيضاح، ثم إما أن يكون بيانا لحكم مجهول، أو يكون بيانا لمقداره، فهذان وجهان، الوجه الأول أن يكون بيانا لحكم

الكيفية الثانية

مجهول وهذا نحو أن يكون المدعى يدعى ما لا يتصور ثبوته ولا يعقل إمكانه، فيأتى بالتشبيه لبيان إمكانه وهذا كقول بعضهم: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال فإن الشاعر أراد أن يقول: إن الممدوح فاق الأنام بحيث لم يبق بينه وبينهم مشابهة ومقاربة، بل صار جنسا برأسه وأصلا فى نفسه، وهذا فى الظاهر كالممتنع، فإنه يبعد فى العقل أن تتناهى بعض آحاد النوع أو شىء من مفرداته فى الفضائل الخاصة والمناقب العالية إلى حد يصير كأنه ليس من ذلك النوع، فلما أطلق ذلك عقبه بقوله «فإن المسك بعض دم الغزال» محتجا به على تصحيح دعواه، وعلى إمكان ما قاله، وعلى أنه ليس محالا، وبيانه هو أن المسك قد خرج لا محالة عن صفة الدم وحقيقته، حتى لا يقال هو منه، ولا يعد من جنسه ولا يوجد فيه شىء من الصفات الشريفة التى للمسك، فلأجل هذا سيق التشبيه من أجل هذه الفائدة. الوجه الثانى أن يكون بيانا لمقداره، وهذا نحو أن يحاول نفى الفائدة عن فعل بعض الناس، وأن يدعى فيه أنه لا يحصل منه طائل فيقول فيه: فلان كالقابض على الماء، ويخط فى الهواء، فالتشبيه فيما هذا حاله لم يكن مسوقا لبيان الإمكان، بل إنما سيق لمعرفة المقدار؛ لأن الفعل فى نفسه بالإضافة إلى ما يفيده على مراتب مختلفة فى الإفراط، والتفريط، والتوسيط، فإذا مثّل ما ذكرناه من المحسوس عرف قدره، ولهذا قد يقال: حجة واضحة كالشمس، وجهل أظلم من الليل، ومداد كحدقة الغراب، إلى مثل ذلك مما ذكرناه. الكيفية الثانية هو أن المتشابهين من الأشياء متى كانت المباعدة بينهما أتم، كان التشبيه أعجب، والسبب فى ذلك هو أن المباينة متى كانت أدخل بينهما كان التشابه أشد إعجابا فى النفوس، وأقوى تمكنا فيها، لأن أكثر مبنى الطباع على أن الشىء إذا تصور ظهوره من مكان يبعد ظهوره منه، ازداد شغف النفس به، وكثر تعلقها به، فما يتعذر وجوده، أعجب مما يتسهل وجوده ولهذا فإن تشبيه الشقائق فى حمرتها وخضرة أعوادها بأعلام الياقوت المنصوبة على رماح من زبرجد، فى غاية الحسن، لما كان لا يكاد يوجد، وهكذا قوله «مداهن در حشوهن عقيق» وكذا تشبيه الكواكب فى سمائها، ببساط أزرق فوقه درر منثورة، ودونه فى الرتبة تشبيه الثريا بعنقود الكرم، واللجام المفضض والوشاح المفصل

الكيفية الثالثة

كما قال امرؤ القيس: إذا ما الثريا فى السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل ودونه فى التشبيه مشابهة العين بالنرجس فى قوله: فأمطرت لؤلؤا من نرجس فمراتب التشبيه متفاوتة رقة وصفاء. الكيفية الثالثة إن المعانى العقلية وإن كانت ثابتة مقطوعا بها متيقنة، خلا أن التمسك بالمحسوسات والتعويل عليها فى المشابهة أولى وأحق، لكونها تفيد زيادة قوة ومزيد إيضاح، وإنما كان الأمر كما قلنا لأوجه ثلاثة. أما أولا فلما يحصل بها من الوثاقة واطمئنان النفس إليها، وانشراح الصدر بها، وقد أشار الله إلى ما قلناه بقوله تعالى: قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] وأما ثانيا فلأنك إذا كنت بجانب نهر وأنت تريد أن تخبر بأن فعل صاحبك لا ثمرة له ولا يحصل منه على فائدة، فوضعت كفك فى الماء ورفعتها، وقلت انظر إلى كفى، هل حصل فيه شىء من الماء، فهكذا أنت فيما تفعله وتعالجه كان فى ذلك ضرب من التأثير والقوة والتأكيد أكثر مما فى النطق والقول، وما ذاك إلا من أجل تعقله بالإدراك، وأما ثالثا فلأنك لو أردت ضرب مثال فى تباين الشيئين وتنافيهما، فأشرت إلى الماء والنار فقلت: هل هذان يجتمعان فإنك تجد فى نفسك لتمثلك من التأثير ما لا تجده إذا أخبرت عن ذلك بالقول، فقلت هل يجتمع الماء والنار كما قال بعضهم: ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب فى الماء جذوة نار ومصداق ما ذكرناه ههنا هو أنك تجد فى قوله: ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر ما لا تجده فى نحو قوله: فى ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصول من مزيد القوة والتأكيد، وما ذاك إلا لأن الأول مبنى على الإدراك دون الآخر مع أن الأول فى المبالغة دون الثانى، فإن ظل الرمح متناه واتصال ليل صول بالليل لا نهاية له، ولكن الوجه فى قوّته ما ذكرناه فيه.

الكيفية الرابعة

الكيفية الرابعة هو أن العادة جارية والأساليب مطردة فى تشبيه الأدنى بالأعلى والأقل بالأكثر، والفاضل بالأفضل، وقد يقصد البليغ فى نظمه ونثره على جهة التخييل أن يوهم فى الشىء القاصر عن نظيره أنه زائد عليه، وعند هذا ينعكس الأمر فيجعل الأصل فرعا، ويشبه الزائد بالناقص ويجعل الفرع لأجل المبالغة أعلا شأنا من الأصل، فيرفعه إلى رتبة الأصل كما قال بعض الشعراء: وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح فهذا على أنه جعل وجه الخليفة كأنه أعرف وأشهر وأتم وأكمل فى النور والضياء من الصباح، فلما اعتقد هذا وعزم عليه ساغ له جعل الصباح فرعا ووجه الخليفة أصلا، وكما قال ابن المعتز: وكأنما الشمس المنيرة دينا ... رجلته حدائد الضراب فهذا وأمثاله وإن عظم التفاوت فيه لكن الذى حسن منه هو أنه لم يقصد قصر التشبيه على مجرد الإنارة، وإنما أراد تشبيه مستدير يتلألأ ويلمع، ثم خصوص حسن اللون الموجود فى الدينار المتخلص من حمى السبك، فأما مقدار النور والشعاع العظيم فكأنه لم يتعرض له بحال. الكيفية الخامسة اعلم أن التشبيه كما يقع فى المفرد فهو واقع فى المركب فإذا قصدت إيقاع التشبيه بالمفرد، فإنما تقصد إلى نفس تلك الحقيقة المجردة مع قطع النظر إلى غيرها، وإذا قصدت التشبيه بالمركب. فإنما يؤول الأمر فيه إلى تشبيه مفردات بمفردات، فلا جرم حصل التركيب لا محالة، فأما تشبيه المفرد بالمفرد فمثاله فى الحركة، فإذا أوقعت التشبيه فأنت كما قال ابن المعتز فى صفة البرق. وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا فلم يقع التشبيه فى جميع أوصاف البرق ومعانيه، ولكن نظر إلى مجرد الحركة فى الانبساط والانقباض، وقد قصر تشبيهه على نفس الحركة، ثم إنه قدر فى نفسه لينظر أى أوصاف الحركة أخص، فوجد ذلك فى فعل القارىء بأوراق المصحف من فتحها مرة،

المطلب الرابع فى ذكر أحكام التشبيه

وإطباقها أخرى، فأما تشبيه المركب بالمركب، فإنه يجمع أوصافا مختلفة، كالشكل واللون والإضاءة والحركة، ومثاله ما قاله بعضهم: والشمس كالمرأة فى كف الأشلّ. فإن هذا التشبيه يريك مع الاستدارة والإشراق الحركة التى تراها للشمس إذا تأملتها، وذلك أن الشمس لها حركة متلألئة دائمة، ولنورها بسبب ذلك تموج واضطراب ولا يحصل هذا التشبيه إلا بمرآة فى كف أشل، لأن حركتها تدوم وتتصل ويكون لها سرعة وتموج، وتلك حالة الشمس فإن ترى شعاعها كأنه يهم أن ينبسط، وأجود من هذا التشبيه فى اجتماع هذه الأمور قول المهلب الوزير: الشمس من مشرقها قد بدت ... مشرقة ليس لها حاجب كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب ولنقتصر على هذا القدر من الكيفيات ففيه كفاية فيما نريده بمعونة الله تعالى. المطلب الرابع فى ذكر أحكام التشبيه وهى كثيرة، ولكنا نورد ما تمس الحاجة إليه الحكم الأول هو أنه لابد من رعاية جهة التشبيه، ويجب أن لا يتعدى فى التشبيه عن الجهة المقصودة، وإلا وقع الخطأ لا محالة، ومثاله قوله صلّى الله عليه وسلّم «الكمأة جدرى الأرض» فالغرض من كلامه عليه السلام فى تشبيه الكمأة بالجدرى هو أنها مفسدة لها كما أن الجدرى يفسد الوجه والبدن، وليس المقصود من التشبيه هو الاتصال، فإن مثل هذا لا فائدة فيه ولا ثمرة تحته، فإن الاتصال، غرض حقير لا يقصد التشبيه لأجله، وكما يقال: النحو فى الكلام كالملح فى الطعام فإن المقصود من هذا التشبيه هو أن الكلام لا يجدى ولا يكون فيه نفع إلا بمراعاة الأحكام النحوية، كما أن الطعام لا ينفع ما لم يصلح بالملح، وليس المقصود ما ظنه بعضهم من أن وجه التشبيه هو أن القليل من النحو مغن، والكثير مفسد، كما أن القليل من الملح مصلح للطعام، والكثير مفسد، فهذا باطل، لأن الزيادة والنقصان فى مجارى الأحكام النحوية فى الكلام باطل، وبيانه هو أنا إذا قلنا: إن زيدا قائم، وكان زيد قائما فلابد من رفع أحد الاسمين ونصبه، فهذا إذا وجد فقد حصل

الحكم الثانى

القانون النحوى، وتمتنع الزيادة عليه، وإن لم يحصل فقد زال قانون النحو، ولا فائدة فيه لأنه خارج، فإذن لا وجه لدخول الزيادة والنقصان فى النحو كما لخصناه، وعلى هذا يكون تشبيه النحو بالملح ليس كما اعتقده، وإنما هو من جهة الإصلاح كما أشرنا إليه، فتقرر بما حققناه أن التشبيه قد يكون من جهة ويظن أنه من جهة أخرى، وعند هذا يقع الغلط، وهكذا الحال فى قوله عليه السلام: «المؤمن كالسنبلة، يعوج أحيانا ويقوم أخرى» فجهة التشبيه هو أنه أراد أن المؤمن يواقع الذنب فيتوب منه، ويسترجع مرة بعد أخرى، والكافر كالأرزة، يعنى أنه إذا هفا فى الذنب لم يتذكر ولم يسترجع، فهو كالأرزة، إذا انجعفت لم تقم أبدا، ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يتوب إلا عند الموت بحيث لا يقوم، ولا تنفعه التوبة (كالأرزة) إذا انجعفت لا يرجى لها استقامة بحال فما خالف هذه الجهات فى التشبيه يكون خطأ بلا مرية. الحكم الثانى هو أن الأمر الذى يقع به التشبيه منقسم إلى ما يمكن إفراد أحد أجزائه بالذكر، وإلى ما يتعذر ذلك فيه، فمثال الأول قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] فإن شئت جعلت التشبيه مطلق الحمار فى الغباوة والجهل والبلادة وسقوط النفوس عن كريم الخصال، وشريف الفعال، وهذه حالة اليهود، وإن شئت جعلته مركبا، وهو أنه ليس الغرض إفراد الحمار بالتشبيه، ولكن الغرض تشبيه حالهم فى كونهم حملوا التوراة ثم لم يحملوها حمل مثلها فى امتثال أوامرها ونواهيها، كمثل الحمار فى حمله للأسفار، فمثلوا فى السخف بحال الحمار الحامل فوق ظهره، جعل مثلا لما كلفوه من الأحكام الشرعية و «أسفارا» جعل مثلا لنفاسة المحمول، وعدم انتفاع الحامل به، فصار حاصل الأمر أنهم مشبهون بالحمار الحامل فوق ظهره كتبا لا يدرى حالها، ولا ينتفع بها، ومن هذا قول بشار: وكأن أجرام السماء لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق فإن شئت جعلته من المفرد فقلت: كأن النجوم فى ضوئها درر، وكأن السماء فى زرقتها بساط أزرق، فهذا مقول على انفراده، وإن شئت جعلته من باب المركب فقلت: لم يكن

الحكم الثالث

التشبيه بمطلق الدرر، ولا بمطلق البساط، وإنما الغرض النجوم فى ضوئها وتلألئها إلى زرقة أديم السماء، كبساط أزرق نثرت عليه درر صافية، ونظير هذا القسم، عقد من در وياقوت، فهو إذا فصل واحدة واحدة، فهو على حظ من الإعجاب، وهو إذا نظم فى سلك واحد، فهو على حظ وافر من الزينة والحسن والنضارة. ومثال الثانى وهو ما يتعذر فيه الإفراد، قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم: 26] فإن المقصود تشبيه كلمة موصوفة بالخبث بشجرة موصوفة بالخبث أيضا، فلو سلبت الكلمة صفة الخبث قائلا ومثل كلمة كشجرة خبيثة، أبطلت بلاغة الآية، وأزلت عنها رونق الفصاحة، ومن هذا قوله: كأنما المريخ والمشترى ... قدامه فى شامخ الرفعه منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجت قدامه شمعه فالغرض أن التشبيه لم يكن للمريخ على انفراده، ولكن إنما حصل له من جهة الحالة الحاصلة له من كون المشترى قدامه، ولهذا كانت الواو فى قوله والمشترى قدامه، واو الحال، فهى كالصفة فى كونها تابعة لا يمكن إفرادها بالذكر، بل تذكر فى ضمن الأول على طريق التبعية، فلو أبطلت التركيب قائلا كأنما المريخ منصرف عن دعوة، كان خلفا من الكلام فضلا عن أن يكون بليغا، ونظير هذا القسم، خاتم من فضة، وسوار من ذهب، فإنه لا يفيد الحسن والإعجاب إلا إذا كان مركبا منظما، فإن زال تركيبه ونظامه، خرج عن إعجابه وحسنه وبطل. الحكم الثالث اعلم أن من التشبيه ما يحضر فى الذهن ويسهل إدراكه، ويسمى القريب، ومنه ما يحتاج إلى نوع فكرة وتأمل، ويسمى الغريب، ولنذكر الأمرين جميعا بالأمثلة. مثال الأول وهو القريب، وذلك متى أخطرت ببالك استدارة قرص الشمس وتنورها وتموج ضوئها، فإن المرآة المجلوة تقع فى قلبك وتعرف من أول وهلة كونها مشبهة للشمس، وهكذا إذا نظرت إلى السيف المصقول عند سله، فإنك تذكر لمعان البرق، فلهذا تشبيهه به، وإذا رأيت الثياب الموشاة من الحرير فى رقتها وصفائها، وإحكام ألوانها، فإنك تشبهها بالروض

الحكم الرابع

الممطور، المفتر عن أزهاره، المبتسم عن أنواره، فهذه الأمور وما شابهها تعد من التشبيه القريب كما ذكرناه، ومثال الثانى وهو الغريب فهو الذى يحتاج فى إدراكه إلى دقة نظر وقوة فكر، وهذا نحو تشبيه الشمس بالمرآة فى كف الأشل، ومثل تشبيهها فى التموج والإنارة بالبوتقة من الذهب، ونحو تشبيه الخمر فى الكأس فى لونه، بمداهن در حشوهن عقيق، ومثل تشبيه حمرة الشقائق مع خضرة أعوادها، بأعلام ياقوت منصوبة على رماح من زبرجد، إلى غير ذلك مما يحتاج إلى مزيد فكرة ونظر. الحكم الرابع كل تشبيه على جميع أنواعه، فلابد فيه من اشتماله على أركان أربعة، المشبه، والمشبه به، والوصف الجامع بينهما، وكيفية التشبيه فى قربه وبعده، وكونه مفردا ومركبا، ونادرا ومألوفا، إلى غير ذلك، فمتى كثرت الأوصاف، كان أدخل فى الغرابة وأعجب فى مقاصد البلاغة، وأقرب مثال له فى اجتماع أوصاف التشبيه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس: 24] فالآية فى نظمها مشتملة على عشر جمل، كل واحدة منها على حظ من التشبيه، ثم يكون التشبيه أيضا حاصلا من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، فإنك لو حذفت منها جملة واحدة، تطرق الخرم إليها على قدر المحذوف، وكان مخلا بمغزى التشبيه الذى قصد فيها، وهكذا القول فى الإفراد فى التشبيه، والتركيب، فالإفراد نحو تشبيهك الكلام بالعسل، فى أن كل واحد منهما يوجب للنفس لذة وحالة محمودة، والمركب كقولك: «أعط القوس باريها» فإنه ليس الغرض إعطاء مطلقا، وإنما المقصود إعطاء من هو أهل للرماية، ومنه قولهم «الرامى بغير وتر، والساعى إلى الهيجاء بغير سلاح» ، فالتشبيه فيما هذا حاله مركب كما ترى. الحكم الخامس اعلم أن من جملة التشبيهات المركبة ما يظن لكثرة اتصاله أنه لا يمكن فصل بعضه عن بعض، وليس الأمر كذلك، وهذا كقول امرىء القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالى

فليس يحصل من أجل ضم الرطب من القلوب إلى اليابس، هيئة تجب مراعاتها، ويعنى بملازمتها، ولا لاجتماع الحشف البالى، مع العناب غرض تجب فيه المضامة والملاصقة، ولو فرقت هذه التشبيهات لم يكن هناك إخلال بالمعنى المقصود، فلو قلت: كأن الرطب من القلوب عناب، وكأن اليابس حشف من الطير فى وكر العقاب، لم يكن أحد التشبيهين موقوفا فى إفادته لما يفيده على الآخر، ونظيره قول أبى الطيب المتنبى: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا فهذا من التشبيه المضمر الأداة، وكل واحد منهما مستقل بنفسه، وفيما ذكرناه غنية عما عداه، وبتمامه يتم الكلام على أسرار التشبيه، فأما كونه معدودا من المجاز أم لا، فقد أوضحنا حاله، وقد نجز غرضنا من القاعدة الثانية المرسومة للتشبيه، والحمد لله.

القاعدة الثالثة من قواعد المجاز فى ذكر حقائق الكناية

القاعدة الثالثة من قواعد المجاز فى ذكر حقائق الكناية اعلم أن الكناية واد من أودية البلاغة، وركن من أركان المجاز، وتختص بدقة وغموض، ومن أجل ذلك حصل الزلل لكثير من الفرق، لسبب التأويلات، كما عرض للباطنية فيما أتوا به من قبح التأويل وشنيعه، ولطوائف من أهل البدع والضلالات، وما ذاك إلا من جهلهم بمجاريها، وما يجوز استعماله منها، وما لا يجوز، فلا جرم كانت مختصة بمزيد الاعتناء، لما يحصل فيها من الفوائد الكثيرة، والنكت الغزيرة، ولنذكر ماهية الكناية، ثم نردفه بالفرق بين الكناية، والتعريض، ثم نذكر أقسامها وأمثلتها، فهذه فصول أربعة نفصلها بمعونة الله تعالى. الفصل الأول فى تفسير لفظ الكناية وبيان معناها ولكثرة دورها فى الكلام استعملت فى اللغة، والعرف، والاصطلاح، فهذه مجار ثلاثة. المجرى الأول فى لسان أهل اللغة الكناية مصدر كنّى يكنى، وكنيته تكنية حسنة، ولامها واو وياء، يقال. كناه يكنيه، ويكنوه، والكنية بالأب، أو بالأم، وفلان يكنى بأبى عبد الله، وفلانة تكنى بأم فلان، ولا يقال: يكنى بعبد الله، ولا زينب تكنى بهند، وإنما هو مقصود على الأب، والأم، وفلان كنىّ فلان، أى مكنى بكنيته، كما يقال سميه، أى مسمى باسمه، وكنى الرؤيا، هى الأمثال التى تكون عند الرؤيا يكنى بها عن أعيان الأمور، وفى الحديث «إن للرؤيا كنى، ولها أسماء فكنوها بكناها، واعتبروا بأسمائها» .

المجرى الثانى فى عرف اللغة

المجرى الثانى فى عرف اللغة الكناية مقولة على ما يتكلم به الإنسان، ويريد به غيره، وأنشد الجوهرى لأبى زياد وإنى لأكنو عن قذور بغيرها ... وأعرب أحيانا بها وأصارح والكناية بالضم، والكسر فى فائها، واحدة الكنى، واشتقاقها من الستر، يقال. كنيت الشىء، إذا سترته، وإنما أجرى هذا الاسم على هذا النوع من الكلام، لأنه يستر معنى ويظهر غيره، فلا جرم سميت كناية، فالعرف متناول للعبارة كما ترى. المجرى الثالث فى مصطلح النظار من علماء البيان وقد ذكروا فى بيان معناها تعريفات كثيرة، ونحن نورد الأقوى منها بمشيئة الله تعالى. التعريف الأول ذكره الشيخ عبد القاهر الجرجانى. وحاصل كلامه هى أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعانى فلا يذكره باللفظ الموضوع له فى اللغة، ويأتى بتاليه وجودا، فيومىء به إليه، ويجعله دليلا عليه، ومثاله قولنا: فلان كثير رماد القدر، طويل نجاد السيف، فنكنى بالأول عن جوده، وبالثانى عن طول قامته، هذا ملخص كلامه، وهذا فاسد لأمور ثلاثة، أما أولا فلأن قوله «ويأتى بتاليه» إما أن يريد بتاليه مثله، فهو خطأ، فإن الكناية ليست مماثلة لما كان من اللفظ الذى ترك بالكناية، لأن كثرة الرماد، ليس مماثلا لكونه كريما، وإما أن يريد معنى آخر، فيجب ذكره، حتى ننظر فيه، إما بصحة، وإما بفساد، وأما ثانيا فلأن قوله «فيؤمىء به» ليس يخلو الإيماء، إما أن يكون على جهة الحقيقة، أو على جهة المجاز، فلفظة الإيماء محتملة لما ذكرناه وليس فى الإيماء إشارة إلى أحد الوجهين، فلابد من بيان أحدهما، وإلا كان كلاما مجملا لا يفيد فائدة، وهو مجانب لصناعة الحدود، وأما ثالثا فلأن ما هذا حاله ينتقض بالاستعارة فى نحو قولك: رأيت الأسد، ولقيت بحرا، فإنك فيه قد تركت اللفظ الموضوع للشجاعة والكرم، وأتيت بتاليهما، وأومأت بهما إليه، وإذا دخلت الاستعارة فى هذا الحد كان باطلا، لأنه لم يفد خصوصية الكناية على انفرادها، وقد مر الشيخان أبو المكارم صاحب التبيان، والمطرزى على ما قاله الشيخ عبد القاهر، ولم يعترضاه بما ذكرناه من الإفساد.

التعريف الثانى ذكره ابن سراج المالكى فى كتابه المصباح،

التعريف الثانى ذكره ابن سراج المالكى فى كتابه المصباح، وتقرير ما قاله فى ماهية الكناية، هو ترك التصريح بالشىء إلى مساويه فى اللزوم، لينتقل منه إلى الملزوم، فقوله: «ترك التصريح بالشىء» عام فى جميع الأنواع المجازية، فإنها متفقة فى ترك التصريح بحقائقها الموضوعة من أجلها، وقوله: «إلى مساويه فى اللزوم لينتقل منه إلى الملزوم» يحترز به عن الاستعارة فى مثل قولك: رأيت أسدا، فإنك انتقلت فى الكناية عن لفظ إلى ما يساويه فى مقصود دلالته، فإن الوصف كما يلزم قولنا فلان كريم، فإنه يلزم مساويه أيضا وهو قولنا فلان كثير رماد القدر، بخلاف قولنا أسد، فإنه ليس مماثلا لقولنا فلان شجاع فى مقصود دلالته، بل يخالفه فى نفس دلالته، فإنه دال على خلاف ما دل عليه قولنا فلان شجاع، وإنما شاركه فى بعض معانيه، وهو الشجاعة فافترقا، وقوله (لينتقل منه إلى الملزوم) يعنى أن فائدة المساواة فى الدلالة، هو المساواة فى الملزوم، فهذا ملخص ما ذكره ابن سراج المالكى فى كتاب المصباح مع فضل بيان منا لقيود فى الحد أغفلها فيه. التعريف الثالث حكاه ابن الأثير عن بعض علماء البيان، وحاصل ما قاله فى تفسير الكناية، هى اللفظ الدال على الشىء بغير الوضع الحقيقى بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه، وزعم أن مثال ما قاله هو، اللمس، والجماع، فإن الجماع اسم موضوع حقيقى لمعناه، واللمس كناية عنه، وبينهما الوصف الجامع، لأن الجماع لمس وزيادة، فكان دالا عليه بالوضع المجازى هذه زبدة كلامه، وفائدته، وهو فاسد لأمور ثلاثة، أما أولا فلأن هذا يبطل بالتشبيه، فإنه اللفظ الدال على غير الوضع الحقيقى فى وصف من الأوصاف، كقولنا. كأن زيدا الأسد، فأدخل فيه ما ليس منه، وأما ثانيا فلأن الكناية لا تفتقر إلى ذكر جامع، فإننا إذا قلنا فلان كثير رماد القدر، وجعلنا هذا دلالة على كونه كريما، فهو غير محتاج إلى ذكر «جامع» فاعتبار ذكر الجامع فى الكناية يخرجها عن حقيقة وضعها، ويبطل فائدتها، وأما ثالثا فلأنه ذكر الكناية والمكنى فى حد الكناية، وهذا فيه تفسير الشىء بنفسه، وإحالة بأحد المجهولين على الآخر، فلا جرم كان باطلا.

التعريف الرابع حكاه ابن الأثير عن بعض الأصوليين

إشارة: اعلم أن ما ذكر ابن سراج المالكى فى تعريف الكناية، وإن كان أسلم مما حكاه ابن الأثير، وأدخل فى التحقيق، لكنه لا يخلو عن نظر من وجهين، أما أولا فلأن ما ذكره حاصل فى الاستعارة فى نحو قولك: رأيت الأسد، ولقيت البحر، فإنك تركت التصريح بقولك لقينى الشجاع إلى لفظ الأسد، والكريم إلى لفظ البحر، والكناية مخالفة للاستعارة فى ماهيتها، فلا يخلط أحدهما بالآخر، وأما ثانيا فإن قوله: «إلى مساويه فى اللزوم لينتقل منه إلى الملزوم» إن أراد بالملزوم، المدلول، فذكر المدلول أوضح، فلا حاجة إلى العدول عنه، وإن أراد به معنى آخر غير المدلول فهو خطأ لا فائدة فيه، لأنه لا مشاركة بينهما إلا فى مدلولهما لا غير، ولهذا كان كناية عنه، نعم إنما حمله على هذا هو أنه كان مولعا بممارسة المنطق ومعالجته، فغلبت عليه عباراته، «وما كل آذان تسمع القيل» فإن موضوع علم البيان هو الفصاحة والبلاغة ومعرفة أساليبهما، وهما بمعزل عن علم المنطق، فلا ينبغى أن يمزج أحدهما بالآخر لاختلاف حقائقهما. التعريف الرابع حكاه ابن الأثير عن بعض الأصوليين ولم أعرف قائله وهو مصدق فيما نقله، قال فى حد الكناية: إنها اللفظ الذى يحتمل الدلالة على المعنى، وعلى خلافه، وهذا فاسد لأمرين، أما أولا فلأن ما قاله يبطل باللفظ المشترك فى نحو قولك: قرء، وشفق، فإن كل واحد منها دال على معنى، وعلى خلافه، وأما ثانيا فلأن ما ذكره يبطل بالحقيقة والمجاز، فإن قولنا: أسد، وبحر، كما يدل على ما وضع له بالحقيقة فهو دال على ما استعمل فيه من المجاز، فيلزم أن يكون ما ذكرناه من الكناية، وهو باطل، فأما ابن الخطيب الرازى فما زاد فى حد الكناية فى كتابه نهاية الإيجاز على أن قال: هى اللفظ الدال على معنى مقصود مع ملاحظة معناه الأصلى. هذا ملخص كلامه، ولم يورده على جهة التحديد، وهذا فاسد بالاستعارة فإنها دالة على معنى مقصود مع ملاحظة معناها الأصلى، فيلزم على ما قاله دخولها فى الكناية، ويبطل أيضا بالحقيقة مع مجازها، فإنه ما من مجاز يدل على معنى إلا وهو دال على حقيقة، وفى هذا دخول أنواع المجاز فى الكناية، وهذا باطل، والعجب من إطلاقه هذا الإطلاق مع إدراكه لصناعة الحدود، وتصّونه عن النقوض، وتبحره فى علم الكلام.

التعريف الخامس ما قاله ابن الأثير عن نفسه

التعريف الخامس ما قاله ابن الأثير عن نفسه وهو كل لفظ دل على معنى يجوز حمله على جانبى الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز، وهذا نحو قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] فإن لفظ الحرث دال على معناه بالحقيقة، لكنه استعمل فى مجازه ههنا وهو الجماع فى المأتى المخصوص الصالح للزرع، فلما كان دالا على حقيقته ومجازه لا جرم كان كناية، فهذا ملخص كلامه مع حذف كثير من فضلاته وهو فاسد لأوجه ثلاثة، أما أولا فلأن ظاهر كلامه «معنى» يجوز حمله على جانبى الحقيقة والمجاز، يدل على أن المحمول معنى واحد على جهة الحقيقة والمجاز، وهذا خطأ فإن المعنى الواحد لا يجوز أن يكون حقيقة ومجازا لاجتماع النفى والإثبات فيه لأنه يصير حقيقة، ليس حقيقة وهو باطل، بل الحق فى الكناية أنهما معنيان، أحدهما حقيقة، والآخر مجاز، وظاهر كلامه أنه معنى واحد، لأن قولنا فلان كثير رماد القدر، هو بأصله دال على كثرة الرماد، وبمجازه على كرم الموصوف لكثرة ضيفانه، فقد أساء فى هذا الإطلاق، وأما ثانيا فلأن ما ذكره يبطل بالاستعارة فى مثل قولنا فلان أسد وبحر، فإن قولنا: أسد كما يدل بحقيقته على السبع، فهو دال بمجازه على الشجاعة، فيجب دخوله فى حد الكناية، وأما ثالثا فلأن قوله «بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز» يدخل فيه التشبيه؛ فإنه لابد من اعتبار أمر جامع، بخلاف الكناية، فإنها لا تفتقر إلى ذكر الجامع، فاعتبار قيد الوصف الجامع يدخلها فى التشبيه ويخرجها عن حقيقتها، فهذا ما يرد على حد ابن الأثير فى الكناية، ولقد طول فيه أنفاسه، وزعم أن أحدا لم يسبقه إلى هذه المقالة، ومن العجب أنه قد عاب على من ذكر فى حد الكناية ذكر الجامع كما حكاه عن بعض علماء البيان، وأبطله بالتشبيه، ومع ذلك فإنه قد اعتبره فى حده، وهذه مناقضة على القرب، ولم يدر أن العلم بصناعة الحدود بمعزل عن علم الكتابة، فهو (ممن حفظ شيئا وغابت عنه أشياء) فإذا عرفت فساد هذه الحدود بما لخصناه، فالمختار عندنا فى بيان ماهية الكناية أن يقال: هى اللفظ الدال على معنيين مختلفين، حقيقة ومجاز من غير واسطة، لا على جهة التصريح، ولنفسر مرادنا بهذه القيود، فقولنا اللفظ الدال يحترز به عن التعريض، فإنه ليس مدلولا عليه بلفظ، وإنما هو مفهوم من جهة الإشارة والفحوى كما سنقرر ماهيته من بعدها بمعونة الله تعالى، والتفرقة بينه وبين الكناية وقولنا على معنيين، يحترز به عما يدل على معنى واحد، فإنه

تنبيه

ليس كناية، ويدخل فيه اللفظ المتواطىء، كرجل، وفرس، واللفظ المشترك كقولنا قرء، وشفق، فإنهما دالان على معنيين، وقولنا مختلفين، يخرج عنه المتواطىء، فإن دلالته على أمور متماثلة، وقولنا حقيقة ومجاز، يحترز به عن اللفظ المشترك، فإن دلالته على ما يدل عليه من المعانى على جهة الحقيقة لا غير، وقولنا من غير واسطة، يحترز به عن التشبيه، فإنه لا بد فيه من أداة التشبيه، 7 ما ظاهرة كقولك زيد كالأسد، وإما مضمرة، كقولك زيد البحر، وقولنا على جهة التصريح، يحترز به عن الاستعارة، فإن دلالتها على ما تدل عليه من جهة صريحها، إما من غير قرينة، كدلالة الأسد على الحيوان، وإما مع القرينة كدلالة الأسد على الشجاع، فكلاهما مفهوم من جهة التصريح، بخلاف الكناية فإن الجماع ليس صريحا من قوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [البقرة: 223] وإنما هو مفهوم على جهة التبع كما دلت عليه بحقيقتها فهذا هو الحد الصالح لتقرير ماهية الكناية. تنبيه اعلم أن أكثر علماء البيان على عد الكناية من أنواع المجاز خلافا لابن الخطيب الرازى، فإنه أنكر كونها مجازا، وزعم أن الكناية عبارة عن أن تذكر لفظة وتفيد بمعناها معنى ثانيا هو المقصود، فإذا كنت تفيد المقصود بمعنى اللفظ، وجب أن يكون معناه معتبرا فيما نقلت اللفظة إليه عن موضوعها. فلا يكون مجازا، ومثاله على زعمه أنك إذا قلت فلان كثير رماد القدر، فإنك تريد أن تجعل حقيقة كثرة الرماد دليلا على كونه جوادا، فأنت قد استعملت هذه اللفظة فى الأصلى وغرضك فى إفادة كونه كثير الرماد معنى يلزم الأول، وهو الكرم، فإذا وجب فى الكناية اعتبار معناها الأصلى لم يكن مجازا أصلا. هذا ملخص كلامه فى كتابه نهاية الإيجاز، وهو فاسد لأمرين، أما أولا فلأن حقيقة المجاز، ما دل على معنى، خلاف ما دل عليه بأصل وضعه، فى قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] فإن الحقيقة فى الملامسة هى مماسة الجسد للجسد، ودلالة المماسة على الجماع ليس بأصل الوضع، وهذه هى فائدة المجاز، وأما ثانيا فلأن الكناية قد دلت على معناها اللغوى الذى وضعت من أجله، فبعد ذلك لا يخلو حالها، إما أن تدل على معنى مخالف لما دلت عليه بالوضع أم لا، فإن لم تدل فلا معنى للكناية، وإن دلت عليه وجب القول بكونه مجازا، لما كان مخالفا لما دلت عليه بالوضع، والعجب من ابن الخطيب حيث أنكر كون الكناية مجازا،

دقيقة

واعترف بكون الاستعارة مجازا، وهما سيان فى أن كل واحد منهما دال على معنى يخالف ما دل عليه بأصل وضعه. دقيقة اعلم أن التفرقة بين الكناية والاستعارة ظاهرة، وذلك أنك إذا قلت جاءنى الأسد، ورأيت أسدا فهذا وما شاكله تجوّز بالاستعارة فأنت إذا أطلقته فالمراد به حقيقته وهو السبع فلا تحتاج فيه إلى قرينة، وإذ أردت به الشجاع فأنت تحتاج فيه إلى قرينة، فهما بالحقيقة وضعان، أحدهما مجاز، والآخر حقيقة، فمتى أفاد الحقيقة فإنه لا يفيد المجاز، ومتى أفاد المجاز فإنه لا يفيد الحقيقة، بخلاف الكناية، فإنها إذا أطلقت فالمعنيان أعنى الحقيقة والمجاز مفهومان معا عند إطلاقها، ومثالها قولنا: فلان كثير رماد القدر، فإنك قد استعملت هذه الألفاظ فى معانيها الأصلية، وغرضك فى إفادة كونه كثير رماد القدر إفادة معنى آخر يلزمه، وهو الكرم، وهكذا فى قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] فإنك قد أفدت به موضوعه اللغوى بالأصالة، لكنه قصد به معنى آخر وهو الجماع، فهما مفهومان عند الإطلاق لكن أحدهما حقيقة والآخر مجاز كما قررنا، فقد وضح الفرق بينهما بما أشرنا إليه، نعم هذا هو الذى غر ابن الخطيب حتى أبطل كون الكناية مجازا، فإنه لما كان معناها اللغوى مفهوما عند استعمال كونها مجازا فى غيره، أبطل مجازها، وظن أن كون معناها اللغوى مفهوما عند استعمالها فى مجازها يزيل كونها مستعملة فى المجاز، وليس الأمر كما زعمه، بل هما مفهومان معا. فأما ابن الأثير، فهو وإن قال إن الكناية من باب الاستعارة، لكنه أحسن حالا من ابن الخطيب، فإنه بقوله هذا لم يخرجها عن حد المجاز وحكمه، لأن الاستعارة من باب المجاز، فكما أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له، فهكذا حال الكناية، فإنها لا تكون إلا حيث يكون ذكر المكنى عنه مطويا فيه، فإذن حاصل الكلام فى الكناية، أن يتجاذبها أصلان، ثم ذانك الأصلان يستحيل فيهما أن يكونا حقيقتين، لأن ذلك هو اللفظ المشترك، وباطل أن يكونا مجازين، لأن المجاز فرع على الحقيقة كما مر بيانه، وإذا كان فرعا على حقيقة نقل عنها، فإنها لا تنزل إلا على تلك الصورة المنقولة بعينها من غير زيادة، فكما أن المجاز نفسه لا يكون له حقيقتان، فهكذا حال المجازين لا يصدران عن حقيقة واحدة، فإذا بطل هذان القسمان لم

الفصل الثانى فى بيان ماهية التعريض، وذكر التفرقة بينه وبين الكناية

يبق إلا أنه يتجاذبهما حقيقة ومجاز، وهذا هو مطلوبنا، ولا قسم ههنا رابع فنورده ونتكلم عليه. هذا ملخص كلام ابن الأثير فيما زعمه، والحق الذى لا غبار على وجهه، أن الكناية مخالفة للاستعارة، وإن كانتا معدودتين من أودية المجاز، والتفرقة بينهما تقع من أوجه ثلاثة، أولها من جهة العموم، والخصوص، فإن الاستعارة عامة، والكناية خاصة، ولهذا فإن كل استعارة فهى كناية، وليس كل كناية استعارة. وثانيها أن الكناية يتجاذبها أصلان، حقيقة ومجاز، وتكون دالة عليهما معا عند الإطلاق. بخلاف الاستعارة، فإن لفظ الأسد يستعمل فى السبع فيكون دالا عليه، ثم يستعمل فى الشجاع فيكون دالا عليه، فأما الكناية فهى دالة على الحقيقة والمجاز جميعا عند الإطلاق، وثالثها هو أن لفظ الاستعارة صريح، ودلالتها على ما تدل عليه من الحقيقة والمجاز على جهة التصريح، بخلاف الكناية، فإن دلالتها على معناها المجازى ليس من جهة التصريح، بل من جهة الكناية، فقد افترقا من هذه الأوجه كما ترى، فوجب القضاء بكون حقيقة أحدهما مخالفة لحقيقة الأخرى، لا يقال فعلى أى وجه يكون التعويل فى اشتقاق اسم الكناية، هل يكون من الستر، أو يكون اشتقاقها من الكنية؟ لأنا نقول: الأمران محتملان فيها. وبيانه، أما اشتقاقها من الستر فهو ظاهر، لأن المجاز مستور بالحقيقة حتى يظهر بالقرينة، فالحقيقة ظاهرة والمجاز خفى، وأما اشتقاقها من الكنية فهو ممكن أيضا، لأن الرجل إذا كان اسمه محمدا، فهو كالحقيقة فى حقه، لأنه هو الموضوع بإزائه أولا، وأما قولنا: أبو عبد الله، فإنه أمر طارىء بعد جرى محمد عليه، لأنه كأنهم لا يطلقونه عليه إلا بعد أن صار له ابن يقال له عبد الله حقيقة، أو تفاؤلا، فلهذا قلنا بأنه كنية، لما كان موضحا للاسم وكاشفا عنه فهما كما ترى صالحان للاشتقاق. الفصل الثانى فى بيان ماهية [التعريض] ، وذكر التفرقة بينه وبين الكناية ، أما حقيقة التعريف فله مجريان. المجرى الأول، لغوى ، والتعريض خلاف التصريح، يقال: عرضت لفلان أو بفلان إذا قلت قولا وأنت تعنيه، ومنه المعاريض فى الكلام، وفى أمثالهم «إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» أرادوا أن المعاريض فيها سعة عن قصد الكذب وتعمده، واشتقاقه من قولهم عرض له كذا، إذا عنّ، لأن الواحد منا قد يعرض له أمر خلاف التصريح فيؤثره ويقصده. المجرى الثانى فى مصطلح علماء البيان وله تعريفان.

التعريف الأول ذكره ابن الأثير،

التعريف الأول ذكره ابن الأثير، وحاصل ما قاله: أنه اللفظ الدال على الشىء من طريق المفهوم، لا بالوضع الحقيقى، ولا المجازى. فقوله اللفظ الدال على الشىء، عام فى جميع ما يدل عليه اللفظ من جهة النص والظاهر والحقيقة والمجاز، وقوله من طريق المفهوم، يخرج جميع ما ذكرناه، فإن دلالتها من جهة اللفظ، لا من جهة مفهومها، وقوله لا بالوضع الحقيقى ولا المجازى، تفصيل لما تقدم وبيان له وإيضاح، وليس يحترز به عن شىء آخر، ولو حذفه لجاز، هذا ملخص كلامه مع فضل بيان منا له فى القيود، ولم يذكره فى كتابه. وهذا التعريف فاسد لأمرين، أما أولا فلأن المفهوم منقسم إلى ما يكون مفهوم الموافقة، وإلى مفهوم المخالفة، فأما مفهوم الموافقة، فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تضحوا بالعوراء» «1» فإنه يدخل فيه العمياء «ولا تضحوا بالعرجاء» فإنه يدخل فيه مقطوعة الرجلين من جهة مفهومه، وأما مفهوم المخالفة فكقوله عليه السلام: «لا تبيعوا الطعام بالطعام، إلا مثلا بمثل» فما لا يكون مطعوما لا يجرى فيه الربا على زعم الشافعى، فدل على أن ما عدا المطعوم بخلافه، وكل واحد من هذين المفهومين مأخوذ من جهة اللغة، ودالة عليها الألفاظ، والتعريض ليس مفهوما من جهة اللفظ كما قرر عليه كلامه، فهذه مناقضة ظاهرة، لأن قوله من طريق المفهوم، يدل على كونه لغويا، وتصريحه بأن التعريض يفهم من قصد المتكلم لا من طريق اللفظ، ينقض ذلك، وأما ثانيا فلأن قوله: «لا بالوضع الحقيقى ولا المجازى» ففضلة لا يحتاج إليها، لأن ما قبله من القيود قد أغنى عنه، ومن حق ما يكون حدا أن لا يكون فضلة، فإن زعم زاعم وقال: إن ابن الأثير غرضه بقوله هو اللفظ الدال على الشىء من طريق المفهوم، ليخرج به النص والظاهر، فإن دلالتهما من جهة المنطوق، لا من جهة المفهوم. وقوله: «لا بالوضع الحقيقى ولا بالوضع المجازى» ليخرج منه الاستعارة، فإن دلالتها من جهة المجاز على مدلولها، ويخرج منه الكناية، فإن دلالتها على ما تدل عليه من طريق الحقيقة والمجاز جميعا، بخلاف التعريض فإنه خارج عن هذه الدلالات الحقيقية والمجازية جميعا، فجوابه هو أن دلالة التعريض إنما هى من جهة القرينة، وليست من جهة المفهوم كما زعمه ابن الأثير، لأن دلالة المفهوم لغوية، ولا هى حاصلة من جهة المنظوم

التعريف الثانى

لا بالحقيقة ولا بالمجاز، فإذن لا معنى لكلامه. والذى غره من هذا ما قرع سمعه وخرق قرطاس عقله من لقب المفهوم فى لسان الأصوليين، فظن لخفة وطأته فى المباحث الأصولية أن دلالة المفهوم من جهة القرينة، وليس الأمر كما ظنه، وإنما دلالة المفهوم لغوية، مخالفة كانت أو موافقة، والتعريض بمعزل عن ذلك لما أوضحناه. التعريف الثانى أن يقال فيه: هو المعنى الحاصل عند اللفظ لا به، فقولنا: «الحاصل عند اللفظ» عام يدخل تحته لفظ الحقيقة، وما يندرج تحتها من النص والظاهر، ولفظ المجاز، وما يندرج تحته من الاستعارة والكناية، وقوله: «لا به» يخرج منه جميع ما ذكرناه، لأن الحقيقة وما يندرج تحتها، والمجاز وما يندرج تحته، كلها مستوية فى دلالة اللفظ عليها، وأنها حاصلة عند اللفظ، ويدخل تحته التعريض فإنه حاصل بغير اللفظ، وهو القرينة كما مر بيانه، وإن شئت قلت فى حده: هو المعنى المدلول عليه بالقرينة دون اللفظ، لأن التعريض إنما حصل معقوله بالقرينة دون دلالة اللفظ، فينحل من مجموع ما ذكرناه أن دلالة اللفظ على ما يدل عليه من المعانى على ثلاث مراتب. (المرتبة الأولى) أن يكون ذلك حاصلا من جهة ملفوظه، وما هذا حاله يندرج تحته النصوص والظواهر، والألفاظ المؤولة، والحقائق المشتركة، وغير ذلك من الحقائق اللفظية. (المرتبة الثانية) أن يكون ذلك المعنى حاصلا من جهة المفهوم، ثم ينقسم إلى مفهوم الموافقة، وإلى مفهوم المخالفة، فما وافق اللفظ فى دلالته على ما يدل، فهو الموافق، وهذا كقول صاحب الشريعة صلوات الله عليه «إذا وقع الحيوان فى السمن أريق المائع وقوّر ما حوالى الجامد» فإن العسل وسائر المائعات مثله، وما خالف اللفظ فى دلالته فهو المخالف كقوله عليه السلام «فى سائمة الغنم زكاة» فمفهومه أن لا زكاة فى المعلوفة. والمفهوم على درجات مختلفة وأحوال متفاوتة فى الجلاء والظهور، والخفاء، قد استوفينا ذكرها فى الكتب الأصولية.

المقصد الأول فى بيان أمثلته

(المرتبة الثالثة) ما كان من معقول اللفظ، ويندرج تحت هذا جميع الاستنباطات الفقهية التى أخذت من غير ظاهر اللفظ، فإذا حرم الخمر بنص فإنا نحرم غيرها بجامع الشدة والسكر، بمعقول اللفظ ودلالته عند ورود التعبد بالقياس، فهذه دلائل الألفاظ، فأما التعريض فليس يفهم من جهة اللفظ، ولكنه مدلول عليه بالقرينة، خلافا لما زعمه ابن الأثير، من كونه مفهوما من طريق المفهوم كما قررناه، ولنذكر له مثالين. المثال الأول: للتعريض فى خطبة النكاح، كما أشار إليه تعالى فى قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ [البقرة: 235] وهذا كقول الزوج: إنك لمرغوب فيك، لأحوالك الجميلة، وإنى لمحتاج إلى ما آنس به، فهذا وأمثاله مما لا يدل على النكاح بحقيقته، ولا بمجازه، ولا من جهة ظاهره، ولا من جهة مفهومه، وإنما هو حاصل من جهة القرينة وأحوال الشمائل والشيم. المثال الثانى: قولك لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب: والله إنى لفقير، وإنى لمحتاج وما فى يدى شىء، وإنى عريان، والبرد قد آذانى. فهذا وأمثاله تعريض بالطلب، وليس دلالته على الطلب لا من جهة حقيقته، ولا من جهة مجازه، كما أشرنا إليه، ومن ثم قيل له تعريض، لما كان المعنى منه مفهوما من عرضه، أى جانبه، وعرض كل شىء جانبه، وهو كثير الدور فى الكلام، وله مدخل فى البلاغة. وموقع عظيم، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر أمثلة التعريض، ثم نردفه بذكر التفرقة بينه وبين الكناية فهذان مقصدان نوضحهما بعون الله تعالى. المقصد الأول فى بيان أمثلته اعلم أن كثيرا من علماء البيان لا يميزون بين التعريض والكناية فى الماهية، وقد ميزنا كل واحد منهما بحده، وكثيرا ما يخلطون أمثلة هذا بهذا وهما مفترقان كما أشرنا إليه، ونقتصر من الأمثلة على ضروب خمسة.

الضرب الأول منها ما ورد فى القرآن

الضرب الأول منها ما ورد فى القرآن وهذا كقوله تعالى فى قصة إبراهيم: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء: 62، 63] فإنما أورد إبراهيم صلوات الله عليه هذا الكلام على جهة التهكم والاستهزاء والسخرية بعقولهم، وذلك يكون من وجهين، أحدهما أنه لم يرد نسبة الفعل إلى كبير الأصنام، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على رمز خفى، ومسلك تعريض، يبلغ به إلزام الحجة لهم، والتسفيه لحلومهم، كأنه يقال يا ضعفاء العقول ويا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يجيب إن سئل، ولا ينطق إن كلم وتجعلونه شريكا لمن له الخلق والأمر، فوضع قوله: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) موضع هذا، ونظير هذا لو أحضر عدلّى وجبرىّ للمناظرة، فلما تقابلا للإفحام قام العدلى فلطم الجبرى لطمة شديدة، فقيل للعدلى من فعل هذا، فله أن يقول فعله الله فوضع قوله: فعله الله، موضع إلزام الحجة وقطع الخصومة للجبرى، فهكذا قول إبراهيم عليه السلام: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ . وثانيهما أن يقال: إن كبير الأصنام غضب لما عبد معه غيره من هذه الأصنام الصغار، فكسرها على جهة التخيل والتمثيل، وغرض إبراهيم بذلك أن يعرض بهم فى كونهم قد أشركوا فى العبادة من هو دون الله، وأن من دونه مخلوق حقير من مخلوقاته، فوضع هذا الكلام لفاحش ما أتوا به وعظيم ما تلبسوا به من عبادة غير الله، ومن ذلك قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (37) [هود: 27] فهذه الآية كلها موضعها فى قصدهم واعتقادهم موضع التعريض بأنهم أحق بالنبوة، وأن نوحا لم يكن متميزا عليهم بحالة يجب لأجلها أن يكون نبيا من بينهم فقالوا: لو أراد الله أن يجعل النبوة فى أحد من البشر، لكانوا أحق بها دونه. والتعريض فى القرآن وارد كثيرا بأحوال الكفرة فى التهكم والنقص وإسقاط المنزلة وحط القدر، ومواضعها دقيقة تستخرج بالفكر الصافى، والرسوخ فى قدم البلاغة.

الضرب الثانى ما ورد من السنة النبوية

الضرب الثانى ما ورد من السنة النبوية ، فمن ذلك أنه خرج يوما وهو محتضن لأحد الحسنين فقال لهما: «إنكما لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها الله بوجّ» فهذا الكلام وأمثاله أورده على جهة التعريض لغيره، وأقامه مقامه. فوضع قوله: «إنكما من ريحان الله» موضع الرحمة بهما والشفقة والحنو والعطف عليهما، وإعظام المنزلة عنده لهما، فعرض به عن ذلك، ثم وضع قوله «وإن آخر وطأة وطئها الله بوج» ، موضع النعى لنفسه والتعزية لها بكونه قد قربت وفاته، ووجه التعريض، هو أن وجا موضع بالطائف، وأراد به غزاة حنين، لأنها آخر غزوة وقع فيها القتال مع المشركين، فأما غزوة تبوك، والطائف، اللتان كانتا بعدها فلم يكن فيهما قتال، وإنما كان خروج من غير ملاقاة للحرب، فكل هذا الكلام تعريض بقرب وفاته وتأسف على مفارقة أولاده، لأن غزوة حنين كانت فى شوال سنة ثمان، ووفاته كانت فى ربيع الأول من سنة إحدى عشرة فكأنه قال: إنكما لمن رزق الله الذى يستراح به، وتقر به النفس، وإنى مفارقكم عن قريب، فانظر إلى هذا التعريض، ما أحسن مغزاه وأدق فى البلاغة مجراه، وكم فى السنة النبوية من هذه اللطائف العجيبة، والأسرار الدقيقة والرموز الخفية. الضرب الثالث كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه ، قال فى كلام يخاطب به زياد ابن أبيه، وكان عاملا لعامله عبد الله بن عباس على فارس وكرمان، وكور الأهواز: «وإنى أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغنى أنك خنت من فىء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة، تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام» . فهذا كما يحتمل أن يكون على ظاهره فإنه يحتمل أيضا أن يكون قد أخرجه مخرج التعريض فيما كان منه من الانتساب إلى أبى سفيان وتهديدا له على ذلك، فأوقعه موقعه، وقوله عليه السلام: «أيها الناس سلونى قبل أن تفقدونى فلأنا بطرق السماء أعلم منى بطرق الأرض قبل أن نشغر برجلها فتنة تطأ فى خطامها، وتذهب بأحلام قومها» فكما يمكن حمل هذا على ظاهره وهو السابق إلى الأفهام منه، يمكن أيضا أن يكون أورده مورد التعريض تهكما بأصحابه، وانتقاصا

الضرب الرابع ما ورد فى كلام البلغاء من التعريض

لقدرهم، لعدم علمهم بقدره وجهلهم بحاله وأمره، فرمز بهذه المقالة إلى ذلك، ومن لحظ كلامه بعين الإنصاف، وأصغى سمعه لقبول الحق ودان بالاعتراف، عرف أن كلامه فى البلاغة شمس لا يشاركه غيره فى الشعاع وأنه فى الفصاحة فلك لا يدانيه غيره فى الارتفاع. الضرب الرابع ما ورد فى كلام البلغاء من التعريض ، حكى ابن الأثير فى كتابه أن مروان بن الحكم كان واليا على المدينة من قبل معاوية، فعزله، فلما قدم عليه قال: عزلتك لثلاث، لو لم تكن إلا واحدة لأوجبت عزلك، إحداهن أنى أمرتك على عبد الله بن عامر، وبينكما ما بينكما، فلم تستطع أن تشتفى منه، والثانية منهن كراهتك أمر زياد، والثالثة أن ابنتى «رملة» استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان، فلم تعدها، فقال له مروان: أما عبد الله ابن عامر، فإنى لا أنتصر عليه فى سلطانى، ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موضعه، وأما كراهتى أمر زياد، فإن سائر بنى أمية كرهوه، وأما استعداء «رملة» على عمرو بن عثمان، فو الله إنه ليأتى على سنة وعندى بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا، يريد أن «رملة» بنت معاوية، إنما استعدت لطلب الجماع، فقال معاوية: يابن الوزغ، لست هناك، فقال له مروان هو ذاك. وهذا من التعريضات اللطيفة الآخذه من حسن الملاطفة بحظ وافر، وألطف منها وأدخل فى الرشاقة ما روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وذلك أنه كان يوم الجمعة، فدخل عثمان بن عفان، فقال له عمر: أى ساعة هذه فقال له عثمان: يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر بالغسل. فقوله أى ساعة هذه، تعريض بالإنكار عليه، لتأخره عن الحضور للصلاة، وترك السبق إليها، وإنها من حسن الأدب والإنصاف لفى أحسن موقع. ومن التعريض اللطيف ما روى عن امرأة أنها وقفت على قيس بن سعد، فقالت: أشكو إليك قلة الفأر فى بيتى، فقال: ما أحسن ما وردت عن حاجتها، املأوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما. ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك بن مروان، فقالت له: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتى على العصى. فقال لها ألطفت فى السؤال، لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود، وملأ بيتها حبا وأنا شديد العجب

الضرب الخامس فيما ورد من التعريضات الشعرية

والاستغراب من ابن الأثير، حيث أورد فى كتابه المثل طرفا وعجائب وحكايات فى المنظوم والمنثور عن أهل البلاغة، وحكى عن نفسه ما كان منه من التقليدات والكتب، والرسائل والتهانى والتعازى حتى ملأ كتابه مما كان منه من ذلك، وأعجب بحاله وأمره فيما هنالك غاية الإعجاب، وما درى أن الإعجاب ضد الصواب، وأغفل على كثرة ما نقل كلام أمير المؤمنين فى الخطب والرسائل، والكتب الوجيزة، ومعانى التوحيد التى أشار إليها، ودقائق البلاغة، وأسرار الحكم فى طويل الكلام وقصيره، مع أنه لا غاية فى البلاغة إلا وقد بلغها، ولا نهاية إلا وقد تجاوزها، ولقد كان الاقتصار على كلام أمير المؤمنين فيه شفاء كل علة، وبلال كل غلة، وما أحقه بكلام أبى الطيب المتنبى: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... فى طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل الضرب الخامس فيما ورد من التعريضات الشعرية فمن ذلك ما قاله الشميذر الحارثى: بنى عمنا لا تذكروا الشعر بعد ما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا فليس قصده مما قال الأبيات الشعرية، ولكنه قصد تعريفهم بما كان جرى فى ذلك الموضع من الظهور عليهم والقتل لأشرافهم، فذكر الشعر، وجعله تعريضا، أى لا تفخروا بعد تلك الوقعة، ومن ذلك ما قاله امرؤ القيس: وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أىّ إذلال فهذا جعله للتعريض عن الجماع، وقد عده بعض علماء البيان كالفاغى والعسكرى، من الكناية، وهو محتمل لهما جميعا، ولأجل تقاربهما تكاد أن تختلط أمثلة أحدهما بالآخر كما سنذكر التفرقة بينهما بمعونة الله تعالى، ومن التعريض الرائق ما قاله نصر بن سيار فى شحذ عزائم بنى أمية بإدراك الثأر، والانتقام لمن أرادهم: أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالزندين تورى ... وإن الحرب أولها كلام أقول من التعجب ليت شعرى ... أأيقاظ أمية أم نيام فإن هبوا فذاك بقاء ملك ... وإن رقدوا فإنى لا ألام

المقصد الثانى فى بيان التفرقة بين التعريض والكناية

وقد يرد التعريض من غير الألفاظ العربية كالتوراة، والإنجيل، والسريانية، والفرسيّة، وذلك لكثرة الحاجة إليه، وأعجب ما سمعته من ذلك، أن رجلا من خواص كسرى قيل له إن الملك يختلف إلى امرأتك، فهجرها من أجل ذلك، وترك فراشها، فأخبرت كسرى، فدعاه، وقال له، قد بلغنى أن لك عينا عذبة وأنك لا تشرب منها، فقال له: أيها الملك بلغنى أن الأسد يردها، فخفته، فاستحسن كسرى منه كلامه، وأسنى عطيته. المقصد الثانى فى بيان التفرقة بين التعريض والكناية ويشتمل على تنبيهات ثلاثة: التنبيه الأول فى أن التعريض ليس معدودا من باب المجاز وبيانه هو أن المجاز ما دل على خلاف ما وضع له فى الأصل، والتعريض ليس حاله هكذا، فإنه دال على ما كان دالا عليه فى الأصل، خلا أنه أفاد معنى آخر بالقرينة، ومثاله قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] فهذا استفهام ورد على جهة الإنكار، وهو مجاز فيه، وهو دال على ما وضع له، لكنه تعريض بالكفار فى إنكار الرجعة، والمعاد الأخروى، وليس دالا عليه من جهة مجازه، ولا من جهة حقيقته، وإنما هو مفهوم من جهة القرينة، كما قررناه من قبل. ومن غريب ما جاء فى التعريض قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه: «إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، وإن أكرم الموت القتل، والذى نفس ابن أبى طالب بيده، لضربة ألف سيف أهون على من ميتة على الفراش» فهذا كلامه، قاله على جهة التعريض لأصحابه فى تأخرهم عن الجهاد ونكوصهم عن قتال عدوهم، ثم قوله أيضا يخاطب به أصحابه: «أين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه، وهيجوا للجهاد فولهوا وله اللقاح لأولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفا زحفا، وصفا صفا، بعضهم هلك، وبعضهم نجا» إلى آخر كلامه. فهذا كلام أخرجه مخرج التعريض بأصحابه، حيث لم ينقادوا لأمره، ولا استمعوا قوله.

التنبيه الثانى فى بيان موقعه

التنبيه الثانى فى بيان موقعه واعلم أن موقعه إنما يكون فى الجمل المترادفة، والألفاظ المركبة، ولا يرد فى الكلم المفردة بحال، والسر فى ذلك هو أن دلالته على ما يدل عليه لم يكن من جهة الحقيقة، ولا من جهة المجاز، فيجوز وروده فى الألفاظ المفردة والمركبة كما جاز فى الحقائق، وكما جاز فى المجازات ورودهما معا كالاستعارة، والتشبيه المضمر الأداة، والكناية، فإنها واردة فى الأمرين جميعا، كما لخصناه من قبل، وإنما دلالته كانت من جهة القرينة، والتلويح والإشارة، وهذا لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه إنما ينشأ من جهة التركيب، فلأجل هذا كان مختصا بالوقوع منه، لا يقال فإذا كان التعريض ليس مدلولا عليه باللفظ، لا مجازا ولا حقيقة، فأى مانع من اشتغالهم به فى الكلم المفردة، كما كان فى المركبة، فأى تفرقة بينهما فى ذلك، لأنا نقول: هذا مردود من وجهين، أما أولا فلأن أمر الوضع موكول إلى اختيارهم، وموقوف على ما فهمناه من تصرفاتهم، فلأمر ما قصروه على المركب لا غير، وأما ثانيا فلعل اللفظ المركب أدل على المقصود، وأوضح للمراد، ولا حرج عليهم فى قصره عليه. التنبيه الثالث فى بيان التفرقة بينه وبين الكناية ويظهر ذلك من أوجه ثلاثة، أولها أن الكناية واقعة فى المجاز، ومعدودة منه، بخلاف التعريض، فلا يعد منه، وذلك من أجل كون التعريض مفهوما من جهة القرينة، فلا تعلق له باللفظ، لا من جهة حقيقته، ولا من جهة مجازه، وثانيها هو أن الكناية كما تقع فى المفرد، فقد تكون واقعة فى المركب، بخلاف التعريض، فإنه لا موقع له فى باب اللفظ المفرد كما مر بيانه، وثالثها أن التعريض أخفى من الكناية، لأن دلالة الكناية مدلول عليها من جهة اللفظ بطريق المجاز، بخلاف التعريض، فإنما دلالته من جهة القرينة. والإشارة، ولا شك أن كل ما كان اللفظ يدل عليه، فهو أوضح مما يدل عليه اللفظ، وإن

الفصل الثالث فى بيان أمثلة الكناية، وذكر شواهدها

علم بدلالة أخرى، ومن أجل هذا فرق علماء الشريعة بين صريح القذف وكنايته، وتعريضه، فأوجبوا فى الصريح من القذف الحد مطلقا فى قولك: يا زانى، وأوجبوا فى كنايته الحد إذا نوى به فى مثل قولك: يا فاعلا بأمه، ويا مفعولا به، ولم يوجبوا فى التعريض الحد فى مثل قولك. يا ولد الحلال، وما ذاك إلا لأجل أن الصريح والكناية، يدلان على القذف من جهة اللفظ، إما بالحقيقة، أو بالمجاز، ويحكى عن الإمام الناصر أن رجلا قال لرجل بحضرته. يا ولد الحلال، فلم يحده، واعتذر بأنه لا حد فى التعريض، فصار التعريض وإن لم يكن معدودا من المجاز، لكنه أخص من الكناية، ولهذا فإن كل تعريض كناية، وليس كل كناية بتعريض، فهى أعم منه، والكناية بالإضافة إلى الاستعارة خاصة، ولهذا فإن كل كناية فهى استعارة، وليس كل استعارة تكون كناية، لما كانت أخص منها، فأما التشبيه المضمر الأداة والاستعارة التى لا يظهر فيها مقصود التشبيه، فهما نوعان لا يدخل أحدهما تحت الآخر، لكن التشبيه المضمر الأداة، يمكن اندراجه تحت التشبيه، لما كان التشبيه مقدرا فيه، ويمكن اندراجه تحت الاستعارة لما كان حرف التشبيه غير ظاهر فيه، فإذن حقيقته منحدرة إليهما كما ترى، وقد أسلفنا فيه قولا بالغا يطلع على السر والغاية ويفى بالمقصود وإحراز النهاية، ثم إنها مندرجة تحت المجاز، لأنها أنواعه وهو جنسها، فهذا ما أردنا ذكره فى التعريض، وهو الفصل الثانى. الفصل الثالث فى بيان أمثلة الكناية، وذكر شواهدها ولها شواهد وأمثلة من جهة الكتاب، والسنة، وكلام أمير المؤمنين، وكلام البلغاء، والكنايات الشعرية، فهذه أنواع خمسة. (النوع الأول) فى بيان ما ورد من الكنايات القرآنية فمن ذلك قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12] فهذه الآية قد اشتملت على نكت سبع، كلها دالة على حسن المطابقة لمقصد الكناية التى وقعت من أجله، نفصلها بمعونة الله تعالى.

النكتة الأولى

النكتة الأولى قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إنما جعله محبوبا لما جبلت عليه النفوس، ومالت إليه الأهواء، من الإسراع إلى الغيبة والإصغاء إلى من يتحدث بها، مع ما فيها من الحظر، ووعيد الشرع، فلهذا صدرها بالمحبة، مشيرا إلى ما ذكرناه، ويؤيد ما ذكرناه أنه أتى فيها بلفظ المحبة، ولم تجىء بلفظ الإرادة، دالا بذلك على موقعها فى النفوس وتطلع الخواطر إليها، ولفظ الإرادة يعطى هذا المعنى، ولا يتمكن فى الأفئدة تمكن المحبة فلهذا آثره. النكتة الثانية قوله تعالى: أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ إنما جعل الغيبة بمنزلة أكل الإنسان لحم غيره، لما فى ذلك من شدة الملاءمة للمعنى، وعظم المناسبة فيه، وذلك أن الغيبة إنما تكون بذكر معايب الناس، وبيان مثالبهم وتمزيق أعراضهم، ولا شك أن تمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم تقطيع له، وتمزيق لأوصاله، ومن وجه آخر، وهو أن الناس يولعون بالغيبة، ويشتد شوقهم إليها كما يولع الإنسان بأكل اللحم، ويعظم شوقه إليه، ولأجل هذا شبهه بأكل اللحم. النكتة الثالثة قوله تعالى: لَحْمَ أَخِيهِ فأضافه إلى الأخ، وإنما جعله كلحم الأخ لأمرين، أما أولا فلأن التحريم إنما وقع فى غيبة المسلمين وأهل الديانة دون غيرهم، فلا حرمة له من كافر ولا فاسق، ولا شك أن المؤمنين إخوة بنص القرآن ولهذا أشار إليه بقوله: لَحْمَ أَخِيهِ وأما ثانيا فلأن أكل الإنسان لحم الأجنبى يكون مستكرها خبيثا، فضلا عن كونه أخا له، فلا شك أن التحريم أوقع، والغيبة فيه أعظم من غيره، فلا جرم أورده على جهة المبالغة فى المعنى. النكتة الرابعة قوله تعالى: مَيْتاً وإنما جعله مَيْتاً لأمرين، أما أولا فلأن المغتاب غائبا بمنزلة الميت، فلا يشعر بما وقع فيه من النقص، ولا يستطيع الدفع لعدم شعوره، وأما ثانيا فلأن أكل اللحم إذا كان هزيلا ربما يستكره ويستخبث فى النفوس، فكيف به إذا كان ميتة، يكون لا محالة أدخل فى التقذير وأعظم فى الاستخباث.

النكتة الخامسة

النكتة الخامسة قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ وإنما عقبه بالإخبار عما هذا حاله. فهو مكروه، لأن العقول مشيرة إلى ما اختص بخصلة من هذه الخصال. فهو فى غاية الكراهة، فضلا عما إذا كان جامعا لها يكون لا محالة أدخل فى الاستكراه، فلهذا أخبر عنه بكونه مكروها. النكتة السادسة أن الله تعالى صدر هذه الآية بالمحبة، وختمها بذكر الكراهة، وإنما فعل ذلك تنبيها على كونها محتوشة بطرفين نقيضين، متضادين، فلأجل تمكنها فى القلوب وميل الخواطر إلى ملابستها وفعلها، فهى محبوبة، ولأجل كونها بمنزلة أكل لحوم الإخوة الأموات مكروهة، فلا جرم صدرها وختمها بما ذكرناه تنبيها على المعنى الذى أشرنا إليه. النكتة السابعة تلتفت إلى مفردات ألفاظ الآية، وذلك أن الله تعالى آثر ألفاظها على ما يماثلها فى تأدية معناها، تعويلا على البلاغة وإعطاء لجانب الفصاحة ما يستحقه، فنزل هذه الآية على هذه الهيئة، ولم يقل فيها: أيريد رجل منكم أن يمضغ جلد مسلم غائبا فعفتموه، وما ذاك 7 لا لأن كل واحدة من ألفاظ الآية مختص بفضل بلاغة، ونوع فصاحة لا يكون مثله، كما أشرنا إليه، ومن ذلك قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ثم قال: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ إلى قوله: فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] فهذه الآية لها تقريران: التقرير الأول من جهة ظاهرها، وهو أن الله أخبر أنه أنزل المطر من السماء فسالت الأودية والشعاب بقدر ما أنزل فيها منه، من الكثرة والقلة، فاحتمل السيل لأجل ما اختص به من الحركة، والانحدار والجرى زبدا رابيا يعلو على ظهر الماء، ومما توقدون عليه فى النار، أى مما يحتاج إلى الإخلاص من هذه الأحجار المعدنية التى فى إخلاصها واجتماعها إلى النار ابتغاء حلية كالذهبيات والفضيات أو متاع، كالحديد، والرصاص، والنحاس، زبد مثله، يعنى أن هذه المعادن فى أصلها كالزبد، يشير إلى أن ابتداء خلقتها كذلك، إلا أنها صارت هكذا بالإخلاص، ليكون أدخل فى الحكمة، وأظهر فى كمال القدرة. «كذلك» أى مثل ما ذكرناه، من السيل والزبد، والإشارة بقوله «ذا» إلى المذكور

أولا. «يضرب الله الحق والباطل» يريد أن الحق مشابهته للسيل من جهة صفائه وركوده، وكثرة الانتفاع به، وأن الباطل يشبه الزبد، فى خفته وجفافه، وطيرانه، بهبوب الريح، وقلة الجدوى فيه، وقد أشار تعالى إلى ما ذكرناه من حالهما بقوله: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض» فهذا ما تقتضيه الآية من جهة ظاهرها، وهو السابق إلى الأفهام، وأما قوله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فهى جملة معترضة بين المثال، والممثول فى السيل، والزبد، للحق والباطل. التقرير الثانى: من جهة الكناية، وهو أن يكون قد كنى بقوله «ماء» عن العلم، وبالأودية عن القلوب، وبالزبد عن الضلال، وهذه الآية قد ذكرها الشيخ أبو حامد الغزالى فى كتابه الذى لقبه بجواهر القرآن ودرره، وأشار فيها إلى أن فى القرآن إشارات وإيماءات لا تنكشف إلا بعد الموت فنقول: المعتمد فيما يقبل من التأويل، وما يعول عليه من ذلك، هو أن ما كان من المعانى محتملا لحقيقة اللفظ أو لمجازه، فهو مقبول يعول عليه، وما كان من التأويلات لا يحتمله اللفظ من جهة حقيقته، ولا مجازه فهو مردود على قائله، فهذا هو الأصل والقاعدة فيما ذكرناه، ولو ساغ تأويل القرآن على ما لا يحتمله اللفظ مجازا ولا حقيقة، لساغ للباطنية ما يزعمونه، من تأويل العصا بالحجة، والثعبان بالبرهان، فى قوله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: 107] والمراد بالأنهار العلم فى قوله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] إلى غير ذلك من التأويلات المستهجنة، وهذا يفتح علينا بابا من علم التأويل ويحرك قطبا من مسائله استقصاؤها يخرجنا عن مقصد الكتاب، وقد ذكرنا منه طرفا أودعناه كتاب المشكاة فى الرد على الباطنية، فالتأويل فى الآية إن استعمل مجازا وإن بعد وكان غريبا قبلناه، وإن لم يكن مستعملا فى المجاز رددناه؛ حراسة للتنزيل عن التأويلات الركيكة، وصونا لمعانيه عن المحتملات الرديئة الفاسدة. فأما الشيخ أبو حامد الغزالى رحمه الله فإنه إن أتى بغريب من التأويل وبعيده فلأنه لا وطأة له فى علم البيان، وإخاله لم يتغلغل فى كنه أسراره، ولا خاض فى غمرات بحاره، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الأحزاب: 27] فظاهر الآية دال على أن الأرض هى العقارات، والديار هى المساكن، والأموال هى المنقولات، وقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يحتمل أن يكون كناية عن فروج النساء ونكاحهن، وهذا من جيد الكناية ونادرها، لمطابقتها لقوله تعالى: نِساؤُكُمْ

النوع الثانى فيما ورد من الكنايات فى الأخبار النبوية

حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] والحرث إنما يكون فى الأرض، فلهذا ازدادت رشاقة وحسنا، فهذه الآيات كلها يجوز حملها على ما ذكرناه من الكنايات على جهة المجاز مع الوفاء بما تحتمله من ظاهرها على وجه الحقيقة، وقد قررنا فيما سبق أنه ليس فى المجازات ما يجوز حمله على حقيقته، ومجازه معا سوى الكناية فلا مطمع فى إعادته، وفى القرآن كنايات كثيرة أعرضنا عنها استكفاء بما ذكرناه، وتنبيها بالأقل منها على الأكثر. النوع الثانى فيما ورد من الكنايات فى الأخبار النبوية فمن ذلك ما روى أن رجلا يقال له «أنجشة» غلام أسود وكان فى بعض أسفاره، فحدا بالإبل فطربت لحسن حدائه فأسرعت فى سيرها وعليها النساء فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويحك يا أنجشة، سوقك بالقوارير. فهذه كناية لطيفة، وإنما كنى عنهن «بالقوارير» لأمور ثلاثة، أما أولا فلما هن عليه من حفظ الأجنة، والوعاء كالقارورة تحفظ ما فيها، وأما ثانيا فلاختصاصهن بالصفاء والصقالة، والحسن والنضارة، وأما ثالثا فلما فيهن من الرقة والمسارعة إلى التغير والانثلام، كما يتسارع الانكسار إلى القارورة لرقتها، وهذا الوجه هو الذى يومىء إليه كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث قال له. «رفقا بالقوارير» فى حديث غير هذا، ومن ذلك ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: كانت امرأة ممن كان من قبلنا، وكان لها ابن عم يحبها فراودها على نفسها فامتنعت منه، فأصابتها سنة مجدبة فجاءت إليه تسأله فراودها فمكنته من نفسها، فلما قعد منها مقعد الخائن قالت له: اتق الله ولا تفضض الخاتم إلا بحقه، فقام وتركها، وهذه كناية قد وقعت موقعها فى اللطافة والرقة، وكنت بالخاتم عن بكارتها، وأنها بمنزلة الشىء المختوم الذى لم ينكسر ختمه، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لما جاءه رجل يشهد له بالزنا على نفسه، فقال له. لعلك لا تعرف الزنا، فقال له. والله يا رسول الله لقد غيبت ميلى فى مكحلتها كما يغيب الرشاء فى البئر، فكنى بالميل عن الذكر، وبالمكحلة عن فرج المرأة، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم لخوّات بن جبير، وقد كان خوات كثيرا ما يرد على النساء فى مجامعهن فيقول: إن معى بعيرا شرودا فمن يفتل له منكن قيدا أقيده به، فكنى بالبعير عن ذكره، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوما وقد لقيه: ياخوات ما فعل بعيرك الشارد، فقال يا رسول الله قيده

الإسلام، وإنما كنى بالبعير عن الذكر، لأن اشتداد الغلمة وعظم الشبق بمنزلة صعوبة الإبل، وشدة معالجتها، وعزة مراسها، فلهذا قرره الرسول صلّى الله عليه وسلّم على تلك الكناية لما ذكرناه. ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم فى غزوة «بدر» حين رأى أهل مكة يصوبون من العقنقل يريدون لقاءه للحرب قال: «هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها يريدون أن يحادوا الله ورسوله» فكنى بقوله «أفلاذ كبدها» عن الرؤساء والأكابر، لأن الكبد من أعز أعضاء الإنسان، ويضاف إليها ضيق الإنسان وحزنه، وفرحه وغمه، وأفلاذها قطعها، فكنى بها عنهم. ومن ذلك ما يحكى عن بديل بن ورقاء الخزاعى وقد جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى عام الحديبية، حين نزل على الركية فى نفر من قومه من تهامة، فقال: أتى ركب كعب بن لؤى وعامر بن لؤى، نزلوا على مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقوله «العوذ المطافيل» جعلها كناية عن النساء والصبيان، والعوذ جمع عائذ، وهى الناقة التى قوى ولدها «والمطافيل» جمع مطفل، وهى الناقة التى معها ولدها لقرب عهدها بالنتاج، ويجوز حمل هذا على حقيقته، أى الأموال الكريمة التى تكون قواما لهم فى الحرب، وعونا لهم عليها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له عمر: يا رسول الله هلكت، فقال: وما أهلكت؟ فقال حولت رحلى البارحة، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقبل وأدبر واتق الدبر، والحيضة. فكنى عمر بقوله «حولت رحلى» عن أنه أتى امرأته من جهة دبرها، فجعل تحويل الرحل كناية عن ذلك، لأن المرأة للرجل بمنزلة الناقة، يأتيها فى الركوب من أى جوانبها شاء، فهكذا حال المرأة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «إياكم وخضراء الدمن» وهذا تحذير، وكنى بقوله «خضراء الدمن» عن المرأة الحسناء فى المنبت السوء، وإنما كنى بذلك عنها، لما فيه من المناسبة لأمرين، أما أولا فلأن أول عشرتها يكون حسنا موافقا، ومن بعد ذلك تعود إلى الفساد والرداءة، كزرع المزابل، فإنه يعجب أولا ثم يذبل ويجف ويزول على القرب، وأما ثانيا فلأن غضارتها ورونقها قليلة، وعن قريب وقد صارت مقحلة ذات ذبول. ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم لجابر حين سايره من مكة إلى المدينة، وقد سأله عمن نكح، هل بكرا أم ثيبا، فقال له «إذا قدمت فالكيس الكيس» كنى بالكيس عن حسن الشمائل فى الوقاع ولطيف المعاشرة عنده، والإقلال منه، ولنقتصر على هذا القدر من الكنايات ففيه كفاية وتنبيه بالأقل على الأكثر.

النوع الثالث فيما ورد من الكنايات عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه

النوع الثالث فيما ورد من الكنايات عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه اعلم أن الكنايات فى كلامه عليه السلام أكثر من أن تحصى، ولكنا نورد من ذلك نكتا لطيفة، فمن ذلك قوله عليه السلام فى ذم البصرة وأهلها: «كنتم جند المرأة، وأعوان البهيمة، رغا فأجبتم وعقر فهربتم» فأخرج هذا الكلام مخرج الكناية، فجعل قوله، كنتم جند المرأة، كناية عن خفة أديانهم وترك التصلب والوثاقة فيها، برياسة المرأة عليهم، ويشير إلى سقوط المروءة والشهامة، وقوله «وأعوان البهيمة» جعله كناية عن جهلهم وسخف حلومهم وفراغ قلوبهم، حيث انقادوا للجمل، وكانوا أتباعا له فساروا حيث سار، ووقفوا حيث وقف، وهذا فيه نهاية الانتقاص ونزول القدر وقوله «رغا فأجبتم» جعله كناية عن دعاء عائشة إلى حربه وتألبها عليه، وتشميرها فى قتاله، وقوله «وعقر فهربتم» جعله كناية عن الطيش والفشل، وكثرة الانزعاج. وهذه الكلمات فى الكناية كلها دالة على نهاية الذم لهم، والركة لأحوالهم، والتلبس بالخصال الدنيئة فى الدين والدنيا، وانسلاخهم عن الخصال الشريفة، والمراتب العلية، وهو بأسره حكاية عما كان بينه وبين عائشة وأهل البصرة، وطلحة، والزبير يوم الجمل، وصفة ما كان منهم ومنه فى ذلك. ومن ذلك قوله عليه السلام لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعى إلى المبايعة فقال: «ما أجر ولقمة يغص بها آكلها» فجعل هذا كناية عن أمر الخلافة وأنها صعبة عسرة، لذتها حقيرة وأيامها قليلة، وأخطارها عظيمة، وأمورها صعبة، فجعل هذه الأشياء كناية عما ذكرناه، ثم قال: «فإن أقل تقولوا حرص على الملك، وإن أسكت تقولوا جزع من الموت» فهذا كلام، أخرجه مخرج الكناية عن كونه غير منقاد لما قالوه، ولا طيب النفس لما دعوه إليه، ومعناه، فإن أقل «نعم» وقع فى نفوسهم أن مساعدتى إنما كانت من أجل محبتى للدنيا، وشغفى بلذتها، وطمعا فى عاجلها، وإن أسكت، أى لا أجيبهم إلى ما قالوا، وقع فى نفوسهم أن سكوتى، وعدم انقيادى ما كان إلا من أجل جزعى من الموت، واقتحام موارده، ومقاساة الشدائد، وتحمل أعباء الخلافة والنهوض بأثقالها. ومن ذلك قوله عليه السلام فى الشقشقية «أما والله لقد تقمصها فلان» يكنى بذلك عن «أبى بكر» فى خلافته، «وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحا» كنى به عن استحقاقه للإمامة،

وأهليته لها، وسبقه إليها، لاستكمال خصالها فيه، «ينحدر عنى السيل، ولا ترقى إلى الطير» كنى بذلك عن علو شأنه، وارتفاع قدره، وعظم خطره عند الله «فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا» كنى بذلك عن إعراضه عن الإمامة، لأمور جرت وعوارض حضرت، فرأى أن الإعراض أحجى، وأسلم للدين وأرضى، والسدل هو إرخاء جانبى الرداء، وطى الكشح كناية عن القطع، يقال فلان طوى كشحه عنى، إذا قطعك، ويحتمل أن يريد بطى الكشح، أنه أضمر ما فى نفسه، وستره وكتمه، يقال طويت كشحى، عن الأمر، إذا أضمرته وسترته، وكلا الأمرين صالح هاهنا ثم قال «حتى مضى الأول لسبيله» كنى به عن أبى بكر «فأدلى بها إلى فلان بعده» كنى به عن عمر من تحمله للخلافة بعده «إلى أن قام ثالث القوم» كنى به عن عثمان وخلافته «وقام معه بنو أبيه» كنى به عن بنى معيط «يخضمون مال الله خضمة الإبل، نبتة الربيع» يكنى به عن أخذ الأموال من غير حقها، ووضعها فى غير أهلها، ولقد كان الأمر فيهم كما قال عليه السلام من الخضم والقضم، والتوسع فى الأموال. والترفه فيها. فهذه الخطبة مشتملة على توجع، واصطبار على ما كان منهم فى الإمامة، من الاختصاص والإيثار، ولم يصدر من جهته عليه السلام ما يكون قدحا فى أديانهم ولا حطا لمراتبهم، ولا نقصا لأقدارهم، وقد ذكرنا تقرير إمامته بالنصوص، وأوردنا ما يتعلق بحكم من خالفها فى الكتب العقلية، ومن ذلك قوله عليه السلام، فى من يتصدى للحكم وليس أهلا له: «فإن نزل به إحدى المهمات هيأ لها حشوا رثّا من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات، فى مثل نسج العنكبوت. لا يدرى، أصاب أم أخطأ» فهذا خارج مخرج الكناية عن جهله، وقلة البصيرة فيما يأتى ويذر، ثم قال: «جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشواءات» كنى به عن أنه لا يدرى، أين يضع قدمه، ولا أين منتهى قدره «لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذرى الروايات إذراء الريح الهشيم» كنى به عن خفة الوطأة فى العلم، وعدم القوة على إحكام أصوله وفروعه، وهى كناية لطيفة لا يقوم لأحد بها لسان، ولا يطلع على محّ فصاحتها إنسان، ولا يعرف قدرها، ولا يستولى على سرها، ويعلم قدر جوهرها إلا الخواص من أهل هذه الصناعة وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون.

النوع الرابع ما ورد من الكنايات فى كلام البلغاء

النوع الرابع ما ورد من الكنايات فى كلام البلغاء فمن ذلك ما روى عن عمرو بن العاص أنه لما زوج ولده عبد الله بن عمرو بن العاص، امرأة فمكثت عنده ثلاث ليال، لم يدن منها، وإنما كان ملتفتا إلى صلاته، فدخل عليه عمرو بعد ثلاث فقال لها: كيف ترين بعلك، فقالت: نعم البعل هو، إلا أنه لم يغش لنا كنفا، ولا قرب لنا مضجعا. فقولها «لم يغش لنا كنفا» من الكنايات الغريبة، والكنف هو الستر، والكنف الوعاء، وكلاهما محتمل ههنا، ومن أمثال العرب قولهم: «إياك وعقيلة الملح» جعلوا هذا كناية عن المرأة الحسناء فى منبت السوء، فإن عقيلة الملح، هى اللؤلؤة تكون فى البحر، فهى حسنة، وموضعها ملح، ومن ذلك قولهم «ليس له جلد النمر، وجلد الأسد» إذا كثرت عداوته، وعظم حقده، واشتد غضبه، ولهذا قال أمير المؤمنين لابن عباس «وقد بلغنى تنمرك على بنى تميم» يشير به إلى ما ذكرناه، ومن هذا قولهم «قلب له ظهر المجن» جعلوه كناية عن أن يبدو له خلاف ما كان يعهده منه، من الألفة والمودة، وقولهم «فلان ورمت أنفه علينا» إذا كان مغتاظا يظهر الحنق والغضب، ومن هذا قولهم «الآن حمى الوطيس» جعلوه كناية عن شدة الحرب والتحامها، أخذ لها من حر النار، والوطيس التنور، وقد قيل: «إن أول من تكلم بهذا المثل رسول صلّى الله عليه وسلّم فى حنين» لما رأى جلادهم بالسيف بعد الهزيمة للمسلمين، قال ذلك، فإن صح هذا كان الأحسن إيراده فى قسم كنايات الأخبار، ومن ذلك ما ورد عنهم من قولهم «التفت حلقتا البطان» وهذا مثل جعلوه كناية عند شدة الأمر، وازدحام العظائم فى الحروب وغيرها، ومن ذلك ما روى أن امرأة جاءت إلى عائشة رضى الله عنها، فقالت: أقيد جملى؟ فقالت لها عائشة «لا» وأرادت المرأة أنها تصنع بزوجها شيئا يمنعه عن غيرها، أى تربطه أن يأتى سواها، فظاهر هذا اللفظ يفيد تقييد الجمل، وباطنه أنها جعلته كناية عما ذكرناه، ومن هذا ما يحكى عن عبد الله بن سلام أنه أتاه رجل عليه ثوب معصفر فقال له: لو أن ثوبك

النوع الخامس فيما ورد من الكنايات الشعرية

هذا فى تنور أهلك لكان خيرا لك، فذهب الرجل فألقاه فى التنور، فاحترق، ولم يرد عبد الله احتراقه وإنما أراد المجاز، وهو أنه لو باعه وصرف قيمته إلى دقيق يخبزه فى التنور أو حطب يلقيه فيها لكان خيرا له، وهذا الكلام حكاه ابن الأثير عن عبد الله بن سلام، وهو مأثور عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بمعناه فى سنن أبى داود. ويمكن أن نقول: ما نقله عبد الله بن سلام هو من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن هذا قولهم «فلان يقدم رجلا ويؤخر أخرى» جعلوه كناية عمن يتحير فى أمره، فلا يدرى كيف يورده ويصدره، وقوله «مازال يفتل فى الذروة والغارب» يجعلونه كناية عمن يريد التلطف والاحتيال فى المساعدة إلى ما يقصده ويريده، وقولهم «فلان ينفخ فى غيره ضرم» جعلوه كناية عمن يفعل فعلا لا يجدى عليه بفائدة، ولا يعود عليه بنفع، لأن النفخ فى غير ضرم لا يورى نارا، ومن هذا قولهم «فلان يخط على الماء» يكون هذا كناية عمن يفعل فعلا يكون عدمه كوجوده بالإضافة إلى عدم الفائدة. لأن الخط على الماء يذهب فى أسرع شىء وأقربه، والكنايات كثيرة فى كلام العرب، وأمثالها، وفيما ذكرناه غنية وكفاية، وبالله التوفيق. واعلم أن هذه الأمثلة التى أسلفناها من الكنايات من الكتاب، والسنة، وكلام أمير المؤمنين فى الكناية، فإنها واضحة فى الاستعارة وضوحا كليا، واحتمالها للكناية بعيد يحتاج إلى تكلف، والمقصود وهو معرفة الأمثلة وإيضاح المقصود بها، فإن هى صلحت حصل المقصود، وإن كانت غير صالحة للتمثيل طلب غيرها ولم يكن خللها يخل بالحقيقة المطلوبة. النوع الخامس فيما ورد من الكنايات الشعرية فمن ذلك قول أبى الطيب المتنبى فى مدح سيف الدولة: وشر ما قنصته راحتى قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم فكنى بالبزاة عن سيف الدولة، وبالرخم عن غيره، وأنه يستوى فيه المال هو وغيره، ومن ذلك قول الأقيشر الأسدى:

ولقد أروح بمشرف ذى ميعة ... عسر المكرة ماؤه يتفصد مرح يطير من المراح لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتقدد وكان عنّينا لا رغبة له فى النساء، وكان كثيرا ما يصف ذلك من نفسه، فهذان البيتان جعلهما كناية، فهما كما ترى دالان بحقيقتهما على شىء، وبمجازهما على غيره، وهذه هى فائدة الكناية. وحكى ابن الأثير أن سعيد بن عبد الرحمن وفد على هشام بن عبد الملك، وكان جميل الوجه، فراوده عبد الصمد على نفسه، فدخل على هشام مغضبا وهو يقول: أما والله لولا أنت لم ... ينج منى سالما عبد الصمد فقال هشام، ولم ذاك؟ فقال: إنه قد رام منى خطة ... لم يرمها قبله منى أحد فقال له هشام، وما هى؟ فقال: رام جهلا بى وجهلا بأبى ... يدخل الأفعى إلى خيس الأسد قال فضحك هشام، وقال: لو فعلت به شيئا لم أنكره عليك، ومما أنشده ابن الأثير فى الكناية وقال من لطيفها وعجيبها لأبى نواس فى الهجاء: إذا ما كنت جار أبى حسين ... فنم ويداك فى طرف السلاح فإن له نساء سارقات ... إذا ما بتن أطراف الرماح سرقن وقد نزلن عليه أيرى ... فلم أظفر به حتى الصباح فجاء وقد تخدش جانباه ... يئن إلى من ألم الجراح فجعل قوله «أطراف الرماح» كناية عن العضو المشار إليه، وهذه عبارة فى غاية اللطافة، والحسن والرشاقة، ومن جيد الكناية وبديعها ما قاله الفرزدق يرثى امرأته: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفى جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو ان المنايا أمهلته لياليا وقد قيل: إنه ما كنى عن امرأة ماتت بأحسن من هذه الكناية، وإنها لجيدة فى معناها، فائقة فى مقصودها ومغزاها، ومما حسن موقعه فى الكناية قول الشريف الرضى: أحن إلى ما يضمن الخمر والحلى ... وأصدف عما فى ضمان المآزر ومن ذلك ما قاله أبو تمام فى الاستعطاف:

ما لى رأيت ترابكم يبس الثرى ... ما لى أرى أطوادكم تتهدم فجعل يبس الثرى، كناية عن تنكر ذات البين، يقال يبس الثرى بينى وبين فلان، إذا تنكر الود الذى بينك وبينه، وهكذا تهدم الأطواد فإنه كناية، إما عن موت الرؤساء، وإما عن خفة الحلوم وطيش العقول، ومن ذلك قول أبى نواس يكنى به عن امرأة: تحاول أن يقوم أبو زياد ... ودون قيامه شيب الغراب أتت بجرابها تكتال فيه ... فعادت وهى فارغة الجراب فقوله: «أتت بجرابها تكتال فيه» من الكناية اللطيفة، ومن هذا قول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... فى قبة نصبت على ابن الحشرج فأراد أن يقول: إن السماحة والمروءة والندى مجموعة فيه، أو مقصورة عليه، أو مختصة به، لكنه عدل إلى ما هو أرق من ذلك، وأدخل فى الإعجاب والمدح، فجعلها فى «قبة» وكنى به عن كونه فيها وأنه متمكن فى الندى، منسدل عليه كالقبة المضروبة على كل ما تحويه، ومن ذلك ما قاله بعض الأذكياء فى الكناية: وما يك فى من عيب فإنى ... جبان الكلب مهزول الفصيل فكنى عن كرم نفسه، وكثرة قراه للضيفان، بجبن الكلب، وهزال الفصيل، ولو صرح لقال: إن جنابى مأهول، وكلبى مؤدب، لا ينكر الضيف، ولا يهر فى وجوههم، وإنى أنحر النوق، فأدع فصالها هزلى، ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء: يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم وهكذا ورد قول أبى نواس: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير فتوصل إلى إثبات الصفة للممدوح، بإثباتها فى مكانه، وإلى لزومها له، بلزومه الموضع الذى يحله. ومن هذا قول حسان بن ثابت: بنى المجد بيتا فاستقرت عماده ... علينا فأعيا الناس أن يتحولا وقول البحترى: ظللنا نعود المجد من وعكك الذى ... وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد فكنى باعتلال عضو منه، عن اعتلال عضو من المجد، ومن هذا ما قاله البحترى أيضا:

أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... فى آل طلحة ثم لم يتحول ومن هذا قول أبى تمام: أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد وقول الآخر: متى تخلو تميم من كريم ... ومسلمة بن عمرو من تميم ومن الكناية قول بعضهم: يصف امرأة بالعفة: يبيت بمنجاة من اللوم بيتها ... إذا ما بيوت للملامة حلت ومن غريب الكناية وبديعها ما قيل فى أبيات الحماسة: أبت الروادف والثدى لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا وإذا الرياح مع العشى تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا فكنى عن كبر الأعجاز، ونهود الثدى، بارتفاع القميص عن أن يمس بطنا أو ظهرا، وهذا من عجيب الكناية وغريبها. ومن هذا ما قاله بعض الشعراء: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم ومن هذا النوع ما قاله بعض المغاربة: رشا يرنو بنرجسة ويعطو ... بسوسان ويبسم عن أقاح يشير إلى قرطاه وتصغى ... خلاخله إلى نغم الوشاح ومن غريب الكناية قول بعضهم فى أيام الأسبوع: سبع رواحل ما ينخن من الونى ... سنم تساق بسبعة زهر متواصلات لا الدءوب يملها ... باق تعاقبها على الدهر ومن لطيفها قول بعضهم فى حجر المحك: ومدرع من صبغة الليل برده ... يفوق طورا بالنضار ويطلس إذا سألوه عن عويصين أشكلا ... أجاب بما أعيى الورى وهو أخرس ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على معانى الكناية، وقد نجز غرضنا من الفصل الثالث الذى جعلناه بيانا للأمثلة وحصرها، فأما ما كان من التلويح، والرمز، والإشارة، فكلها مندرجة تحت ما ذكرناه من حقيقة التعريض لاتفاقها فى الدلالة على مقصود واحد فلا جرم أغنى ذلك عن إفرادها بالذكر، وبالله التوفيق.

الفصل الرابع فى بيان أقسام الكناية وذكر طرف من أحكامها الخاصة

الفصل الرابع فى بيان أقسام الكناية وذكر طرف من أحكامها الخاصة اعلم أن الشيخ عبد القاهر الجرجانى وغيره من أفاضل علماء البيان مطبقون على أن الكناية أبلغ من الإفصاح بذلك المعنى المكنى به عنه، وأعظم مبالغة فى ثبوته، والحجة على ما قلناه، هو أنك إذا كنيت عن كثرة القرى بقولك فلان كثير رماد القدر، فإنك تكون مثبتا لكثرة القرى بإثبات شاهدها وأقمت برهانا على صحتها وثبوتها، وعلما على صحة وجودها، وذلك لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها فتكون بمنزلة دعوى مجردة عن البرهان، فأين حال دعوى مقررة بالدليل، عن حال دعوى لا يؤيدها برهان ولا تعليل، فإذا عرفت هذا فلنرجع إلى بيان الأقسام والأحكام، فهذان بحثان، نفصلهما بمعونة الله تعالى. البحث الأول فى بيان أقسامها وتنقسم باعتبارات كثيرة ولكنا نشير إلى ما يخص ما نحن فيه وهى ثلاثة: التقسيم الأول باعتبار ذاتها إلى مفردة، ومركبة ، فأما [المفردة] ، فهى ما كانت الكناية حاصلة فى اللفظة الواحدة، وهذا كقوله تعالى إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ [ص: 23] فالمراد بالنعجة فى كلا الموضعين، المرأة، إنما كنى بالنعجة عن المرأة لما بينهما من الملائمة فى التذلل والضعف والرحمة وكثرة التآلف وكقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43] فإنه كناية عن الجماع وحكى عن الفراء أنه قال: إن الجبال فى قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إبراهيم: 46] المراد منه أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم، فجعل الجبال كناية عنه، وهذا إنما يحمل على هذا المعنى إذا كانت «إن» نافية، فيكون المعنى وما كان مكرهم ليزول به أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به الحجج الواضحة، فأما إذا كانت «إن» على بابها فى التوكيد للجملة، فالجبال باقية على حقيقتها، ويكون المعنى فيه وإن كان مكرهم من عظمة أمره وفخامة شأنه فى الإنكار والتكذيب لتزول منه الجبال الرواسى على رسوخها، وقوة

وأما المركبة

أمرها فى الثبوت والاستقرار، فعلى هذين التأويلين وردت القراءتان فى نصب اللام، ورفعها، فالنصب يؤيد التأويل الأول، فتكون اللام مؤكدة للجحد، والرفع يؤيد التأويل الثانى، وتكون اللام فيها هى الفارقة بين المؤكدة، والنافية، وتكون القراءة بالرفع فى قوله «لتزول» دالة على التخييل، كأنها لعظم دخولها فى الإنكار واغراقها فيه. بمنزلة قلع الجبال، وإزاحة الصخور، ونظيره قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم: 90، 91] وهذا وارد على جهة الكثرة، ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه لولده محمد بن الحنفية لما عقد له الراية فى معسكر: أعز الله حجتك وأيد فى الأرض قدكم، تزول الجبال الرواسى ولا تزول. وأما [المركبة] فأكثر ورود الكناية عليها، وهذا كقولك: الكرم فى برديه، والمجد بين ثوبيه، والعفاف فى عطفيه، وهذا كله فى المدح، فأما الكناية فى الذم فكقولهم «إنك لعريض الوساد» كما ورد فى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه لما نزل قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] جعل عدى بن حاتم خيطين فى يده، أحدهما أسود والآخر أبيض، علامة للفجر، فحكى ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما فعل، فقال له الرسول: «يا عدى. إنك لعريض الوساد» ، وهو كناية عن بله الإنسان، وقلة فطانته، ونقصان كياسته، وقولهم «فلان عريض القفا» يجعلونه كناية عن فهاهته وقلة ذكائه، ومنه قول أمير المؤمنين لبعض الناس «وإنه لمزهو فى عطفيه، مختال فى برديه، تفاق فى شراكيه» يشير بذلك إلى حمقه وخيلائه، فجعل ذلك كناية عنه. نعم ورود الكناية إنما هو على جهة التشبيه عند التأمل والنظر، فإذا وردت على طريقة التركيب كانت أشد ملاءمة، وأعظم بلاغة، وإذا وردت على صورة الإفراد لم يكن لها تلك المزية التى حصلت للمركبة، ومثاله أنك إذا قلت فى الكناية المركبة، فلان نقى الثوب، وأردت إيراده على صورة المشابهة، فإنك تقول هو فى نزاهة العرض من العيوب كنزاهة الثوب من الأدناس، فإذا حصل على هذا التأليف اتضحت المشابهة ووجدت المناسبة وظهر أمر الكناية، وإذا قلت فى الكناية المفردة، اللمس، فى الجماع لم تكن فى تلك الدرجة من المناسبة وقوة المشابهة كما ترى.

التقسيم الثانى باعتبار حالها إلى قريبة وبعيدة،

التقسيم الثانى باعتبار حالها إلى [قريبة وبعيدة] ، ونعنى بالقريبة ما يكون الانتقال إلى المطلوب بأقرب اللوازم، ونريد بالبعيدة ما يكون الانتقال إلى مطلوبها من لازم أبعد منه، ومثال القريبة قوله «بعيدة مهوى القرط» فإنه كناية عن طول عنقها، وهذا حاصل على القرب من غير اعتبار واسطة ونحو قوله «أبت الروادف والثدى لقمصها» فإنه كناية عن كبر الأعجاز، ونهود الثدى، وهذا كله معدود فى واضح الكناية. وأما الخفى من القريب منها كقولك: فلان عريض القفا، فإنه كناية عن الأبله، من الناس، وقولهم أيضا فلان عريض الوساد، فإنه كناية عن هذه الكناية، وكقول بعضهم يهجو من به داء الأسد وهو البخر: أخو لخم أعارك منه ثوبا ... هنيئا بالقميص المستجد وقال بعضهم فى رجل يهجوه: أراد أبوك أمك يوم زفت ... فلم يوجد لأمك بنت سعد فقوله بنت سعد، جعله كناية عن العذرة، فهذا كله يحصل على القرب فى الكناية. ومثال البعيدة قولهم: فلان كثير الرماد، فهذا تكثر فيه الوسائط، لأنك تنتقل من كثرة الرماد إلى كثرة الجمر، ثم إلى كثرة الإحراق تحت القدر، ثم إلى كثرة الطبائخ، ثم إلى كثرة الآكلين، ثم إلى كثرة الأضياف، ثم كونه مضيافا، وهذا كقولك فلان جبان الكلب، مهزول الفصيل، فإن الوسائط تكثر فيهما، فلهذا كان ما هذا حاله معدودا فى بعيد الكناية. التقسيم الثالث باعتبار حكمها إلى [حسنة وقبيحة] ، فالحسنة ما قدمنا ذكره من الأمثلة، ومن هذا ما ورد فى السنة النبوية وهو أن امرأة جاءت إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم تسأله عن غسلها من الحيض، فأمرها كيف تغتسل، ثم قال لها: خذى قرصة من مسك فتطهرى بها، فقالت كيف أتطهر بها، فقال تطهرى بها، فقالت كيف أتطهر بها، فقال سبحان الله، تطهرى بها، قالت عائشة فاجتذبتها من ورائها، وقلت لها تتبعى بها آثار الدم، فقولها: آثار الدم، كناية عن الفرج، ومنه قول أعرابية تصف زوجها: له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر، أيقن أنهن هوالك، ومثال القبيحة ما تخلو عن الفائدة

البحث الثانى فى بيان حكمها

المرادة من الكناية، وهو عيب عند أهل البلاغة، ومن هذا قول الشريف الرضى يرثى امرأة: إن لم تكن نصلا فغمد نصال وهذا عندهم من ركيك الكناية ورديئها فإنه لا يعطى الفائدة المقصودة من الكناية، بل ربما سبق الوهم فى هذا الموضوع إلى ما يقبح ذكره من التهمة بالريبة، ومن هذا قول أبى الطيب المتنبى أيضا: إنى على شغفى بما فى خمرها ... لأعف عما فى سراويلاتها قال ابن الأثير: فهذه كناية عن النزاهة والعفة إلا أن الفجور أحسن منها وما ذاك إلا لنزول قدرها وسوء تأليفها. وقد أجاد الشريف الرضى فيما أساء فيه أبو الطيب فأورده على أحسن هيئة وجاء به فى أعجب قالب قال: أحن إلى ما يضمن الخمر والحلى ... وأصدف عما فى ضمان المآزر إلى غير ذلك من الأمثال. البحث الثانى فى بيان حكمها اعلم أن أنس النفوس وسكونها متوقف على إخراجها من غامض إلى واضح ومن خفى إلى جلى، وإبانتها بصريح بعد مكنى وأن تردها فى شىء تعلمها إياه إلى شىء آخر هى بشأنه أعلم وثقتها به أقوى، وتحققها له أدخل، ومن ثم كان التمثيل بالأمور المشاهدة أوقع ولمادة الشبه أقطع، وإذا أردت أن ترى شاهدا على ما قلت فانظر إلى قوله تعالى: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] فالله تعالى ضربه مثالا لضعف الأمر وهونه فى كل شىء فأنت لو فكرت فى نفسك، وبالغت فى نظرك وحدسك فى وصف الضعف، لكان غاية أمرك ونهاية تقديرك، أن تقول كأضعف ما يكون وأهونه، أو تقول هو كالهواء أو غير ذلك من التقدير والتصوير، لكان دون ما ذكره الله تعالى فى المثال، وهكذا لو قلت فلان يكد نفسه فى قراءة الكتب، ويتعب نفسه بجمعها، ويتحمل فى التعلم الإصار والمتاعب كلها، وهو لا يفهم شيئا ويسكت، فإنك تجد فرقا بين أن تذكر هذا وبين أن تتلو الآية وتقول كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] فإنك تجد مصداق ما قلته

فيها، وهكذا فإنك تفصل بين أن تقول: إنى أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر، وبين أن تتبعه بقول من قال: لا تعجبنك الثياب والصور ... تسعة أعشار من ترى بقر فى خشب السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر فإنك تجد فرقا بين الأمرين، وهكذا حال غيره من الأمثلة والتشبيهات، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن الكناية لها فى البلاغة موقع عظيم فإنها تفيد الألفاظ جمالا، وتكسب المعانى ديباجة وكمالا وتحرك النفوس إلى عملها، وتدعو القلوب إلى فهمها، فإن أوقعتها فى المدح كانت أرفع وأحسن، وفى نفس الممدوح أوقع وأمكن، وإن صدرتها للذم كانت آلم وأوجع وإلى ذكر فضائح المذموم أسرع وأخضع، وإن أدخلتها من أجل الحجاج كان البرهان لها أوضح وأنور، والسلطان بها أقدر وأقهر، والإقحام بها أشهر، والتسلط أعظم وأبهر، وإن وقعت فى الافتخار كان ضياؤه أسطع، ومناره أعلى وأرفع، وإن كانت موجهة للاعتذار فهى إلى سل سخائم القلوب أعجل وأقرب، وبوحر الصدور وفل غرب غضبها أذهب، وإن صدرت للاتعاظ كانت فى المبالغة فى النصيحة أنجع، ولمرض القلوب أشفى وأنقع، وإن أردت بها جانب الإعتاب والرضا، كانت بطيب الصحبة ولين العريكة أظفر، وعلى الوفاء بلوازم الألفة أوفر، فهى كما ترى واقعة من البلاغة فى أعلى المراتب، وحائزة من الفصاحة أعظم المناقب وقد نجز غرضنا فيها بحمد الله تعالى. بحمده تعالى قد تم الجزء الأول من كتاب الطراز فى علوم حقائق الإعجاز. ويليه الجزء الثانى وأوله القاعدة الرابعة من قواعد المجاز

الجزء الثانى

الجزء الثانى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [تتمة فن الثانى من علوم هذا الكتاب وهو فن المقاصد اللائقة] [تتمة باب الاول في كيفية استعمال المجاز وذكر مواقعه في البلاغة] القاعدة الرابعة من قواعد المجاز فى ذكر أسرار ومعناه اعلم أن علماء البيان وفرسان البلاغة بالإضافة إلى ترجمة هذه القاعدة فريقان: الفريق الأول: أدرجوها فى ضمن قاعدة التشبيه، ولم يفصّلوا بينهما تفصيلا وهذا هو الظاهر من كلام المطرزىّ، فأما ابن الأثير فقد صرّح بكونهما بابا واحدا لا تفرقة بينهما وتعجّب ممن فصّل بينهما، قال: وما أعلم كيف خفى على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه. وحكى أن بعض علماء البيان قد فصّل بينهما وغاير بين حقيقتيهما وهما عنده شىء واحد. الفريق الثانى: وهم الذين فرّقوا بينهما، وهذا هو ظاهر كلام ابن الخطيب الرازى فى نهاية الإيجاز، وعبد الكريم صاحب التبيان، فإنهم ميّزوا أحدهما عن الآخر وفرقوا بينهما، وقالوا: إنّ التشبيه غير معدود من المجاز، بخلاف التمثيل، فإنه معدود من جملة قواعده، وإن كانا كلاهما معدودا من أودية البلاغة، فهذا مغزى كلام الفريقين فى الرّدّ والقبول. وهذا الخلاف يقرب أن يكون لفظيا، وليس وراءه كبير فائدة، والمختار عندنا تفصيل نشير إليه، وحاصله أنا نقول: القاعدة التى رسمناها من أجل التشبيه، إنما كانت بمظهر الأداة، كما أوردنا أمثلته، وفصلناها وعددنا ما كان من التشبيه مضمر الأداة، فهو من باب الاستعارة، وأوضحنا الأمر فيما يظهر على القرب فيه التشبيه، وما يستنبط على البعد فأغنى عن تكريره، فإذا عرفت هذا فاعلم أن كلّ ما كان من التمثيل تظهر فيه أداة التشبيه، كالكاف، وكأن، فإنه معدود من جملة التشبيه، ولا يفترقان بحال؛ لأن التشبيه أكثر ما يطلق على ما كانت الأداة فيه ظاهرة، فأمّا ما كانت الأداة فيه غير ظاهرة، فهو التمثيل، فإنه لا يقال له تمثيل إلّا إذا كان واردا على حدّ الاستعارة، ولهذا فإنّ الزمخشرىّ رحمه الله فى تفسير قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] الآية، تارة يجعله من باب التمثيل، وتارة يجعله واردا على حدّ الاستعارة، وعلى الجملة فالأمر فيه قريب، فإن الاستعارة، والتمثيل، والكناية، كلّه معدود من أودية

المجاز، بخلاف التشبيه، فإن ما كان منه مضمر الأداة، فهو معدود فى الاستعارة والتمثيل، وهو مجاز، وما كان مظهر الأداة فليس معدودا من المجاز، وإن عدّ فى البلاغة كما أسلفنا تقريره. ومن غريب أمثلة التمثيل ما قاله ابن الرومى «1» : إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النيّران الشمس والقمر وإن نضا حدّه أو سلّ عزمته ... تأخّر الماضيان السيف والقدر من لم يبت حذرا من سطو صولته ... لم يدر ما المزعجان الخوف والحذر ينال بالظنّ ما يعيى العيان به ... والشاهدان عليه العين والأثر ومن ذلك ما قاله أبو تمام «2» : مها الوحش إلّا أنّ هاتا أو انس ... قنا الخط إلّا أنّ تلك ذوابل ومن جيّد ما يقال فى أمثلة التمثيل قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: 23] . مثّل الله تعالى حال من انقاد لهواه، واستولى عليه سلطانه، حتّى صار عقله موطوءا بقدم الهوى، وجعل فى إسار الذّلّ، وربقة الملكة وحصل غالبا عليه فى جميع أحواله مطيعا له فى كلّ أموره، بحال من له إله يعبده، ويطيعه فى جميع أوامره ونواهيه، ثم لمّا علم الله تعالى من حاله ما ذكرناه أضلّه بترك الألطاف الخفيّة على علم باستحقاقه للخذلان لإعراضه، ومثّلت حالته فيما صار إليه من الخذلان بسلب الألطاف، بحال من ختم على سمعه، وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فى النكوص والتمرّد عن الهدى، وسلوك جانب الغىّ، وركوب غارب البغى، فمن هذه حاله لا يرجى صلاحه، فهكذا حال من ساعد هواه وكان مطيعا له فى الأمور كلها. ومن التمثيل الرائق قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام: 25] وقوله: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] .

فهم لإعراضهم عن الدّين، وإصرارهم على المخالفة لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبلوغ الغاية فى الصّدّ والنكوص، ممثّلون بحال من جعل على قلبه كنان فهو لا يفقه ما يقال له، ولا يرعوى لقبوله، وبحال من ضرب بينه وبين مراده بسدّ من بين يديه ومن خلفه، فهو لا يهتدى إليه، ولا يمكنه الوصول إلى بغيته بحال، وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فيه تنبيه على ما هم عليه من التّمادى فى ركوب الباطل، وإكبابهم على الجحود والكتمان لما جاءهم من الحقّ، وقطع للرجاء بخيرهم، وسد لطريقه؛ لأن من كان بين يديه سد، ومن خلفه سد وأغشى على بصره، تعطّل، فأنّى يكون له اهتداء إلى طريق الخير، وسلوك بسبيله، وهذا باب من فنّ البلاغة يقال له التخييل، وسنورد فيه حقائق وأمثلة شافية عند الكلام فى معانى البديع وخصائصه. وممّا ورد من التمثيل فى السّنّة النبوية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إيّاكم وفضول المطعم فإنه يسم القلب بالقسوة، ويبطىء الجوارح عن الطاعة، ويصمّ الآذان عن سماع الموعظة، وإياكم وفضول النظر، فإنه يبذر الهوى، ويولّد الغفلة» . ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «حلوا أنفسكم بالطاعة، وألبسوها قناع المخافة، واجعلوا حرثكم لأنفسكم، وسعيكم لمستقرّكم» . ومن كلام أمير المؤمنين فى التمثيل، فى كلام يشير به إلى الخوارج: «حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسدّ فوّاره من ينبوعه، وجدحوا «1» بينى وبينهم مشربا وبيئا، فإن ترتفع عنّا وعنهم محن الدنيا أحملهم من الحق على محضه، وإن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» . وقال في كلام يصف به الرسول صلّى الله عليه وسلم وذمّه للدنيا: «قضم الدّنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدّنيا بطنا، أعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها عن لسانه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه» . وقال فى وصف أهل الدنيا: «يمسى مع الغافلين، ويغدو مع المذنبين، بلا سبيل قاصد، ولا إمام قائد، حتى إذا كشف لهم عن جزاء معصيتهم واستخرجوا من جلابيب غفلتهم، استقبلوا مدبرا، واستدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا من طلبتهم ولا بما قضوا من وطرهم» .

تنبيه

ولنقتصر على هذا القدر فى التمثيل ففيه كفاية، فينحلّ من مجموع ما ذكرناه مفارقته للتشبيه بما أشرنا إليه، وأنه نوع من أنواع الاستعارة، على أن الاستعارة فى المفرد والمركب كما مهدناه من قبل، بخلاف التمثيل، فإنه إنما يرد فى المركب من الكلام كما أوضحناه فى هذه الأمثلة. تنبيه اعلم أن أرباب البلاغة وجهابذة أهل الصناعة مطبقون على أن المجاز فى الاستعمال أبلغ من الحقيقة، وأنه يلطف الكلام ويكسبه حلاوة، ويكسوه رشاقة، والعلم فيه قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 46] فلو استعمل الحقائق فى هذه المواضع، لم تعط ما أعطى المجاز من البلاغة، وهكذا فإن الاستعارة أبلغ مما يظهر فيه التشبيه؛ لأن قولك: جاءنى أسد. أبلغ من قولك: زيد كالأسد. لأنك جعلته فى الأول نفس الأسد وفى الثانى ليس إلا مشابهه لا غير، فأما الكناية، والتمثيل، فهما نوعا من أنواع الاستعارة، والاستعارة أعم فيهما كما أوضحناه من قبل، لكن الكناية مؤدية للحقيقة، والمجاز، بخلاف الاستعارة، والتمثيل، من حقه أن يرد فى المركبات، فلأجل هذا كانا جميعا. أعنى الكناية والتمثيل. أخص من الاستعارة، وقد نجز غرضنا من تقرير الباب الأول وهو حصر قواعد المجاز، وإظهار أمثلتها وأحكامها، وأشرع الآن فى الباب الثانى مستعينا بالله ومتوكلا عليه.

الباب الثانى فى ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها

الباب الثانى فى ذكر الدلائل الإفرادية وبيان حقائقها اعلم أن اللفظ فى دلالته على ما يدل عليه لا يخلو حاله إما أن يكون بالإضافة إلى مفرداته، أو بالإضافة إلى ما تركب منه، فالأول هو الدلالة الإفرادية، وهذا كدلالة لفظ الرجل، والأسد، والإنسان، على معانيها المفردة، فإنها دالة عليها من غير إضافة أمر إليها، لا سلبا ولا إيجابا، والثانى هو الدلالة التركيبية، وهذا كدلالة قولنا: زيد قائم، وعمر خارج، فإن ما هذا حاله دال على معنى مركب، وهو إضافة هذه الأحكام لتحصل من أجلها الفائدة المركبة، وهذا هو الكلام فى ألسنة النحاة، ويقال له الجملة، ثم إن الفائدة التى يفيدها الكلام على وجهين؛ أحدهما أن تكون من جهة ذاته كقولنا: زيد قائم، وعمر منطلق، فإن ما هذا حاله فإنه لا يحتاج فى إفادة ما يفيده إلى أمر وراء هذه الجملة، وثانيهما أن تكون مستفادة من جهة أخرى، إما من جهة الكناية كما يقال فى المرأة: هى نئوم الضّحى. فإنه يدل على كونها مترفهة، وإما من جهة الاستعارة كما يقال: «بين أثوابه أسد هصور» استعاره للشجاعة، و 7 ما من جهة التمثيل كقولنا: «فلان يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى» تمثيلا لتحيّره فى الأمر، وإما من جهة الاقتضاء كقوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] المعنى فضرب فانفجرت، وكقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تضحوا بالعوراء» . فدخول العمياء من جهة الاقتضاء، إلى غير ذلك من التعليقات التى يشعر بها الكلام ويقتضيها، وكان من حقنا إيراد الكلام فى المجاز وأنواعه لكونه من الدلائل الإفرادية، لكنا جعلنا له بابا على حياله لأمرين؛ أما أولا فلما اختص به من مزيد الاعتناء، وأكيد الاهتمام، وعظم موقعه فى البلاغة، وأما ثانيا فمن أجل كثرة مسائله وانتشار حواشيه، فلأجل هذا قدمناه وأفردنا له باب على حياله غير مضموم إلى سواه، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن مقصودنا من هذا الباب منحصر فى عشرة فصول:

الفصل الأول فى المعرفة والنكرة

الفصل الأول فى المعرفة والنكرة اعلم أن المعرفة ما دلت على شىء بعينه، والنكرة ما دلت على شىء لا بعينه، ولا يجوز تعريف حقيقة المعرفة بأمر لفظى لأمرين؛ أما أولا فلأن المقصود بيان الماهية، وهذا لا يحصل إلا بالأمور المعنوية دون اللفظية، وأما ثانيا فلأن بعض المعارف يكون فى معنى النكرة كقولنا: ضاربك، وأرسلها العراك، والجماء الغفير، ثم إن المعارف خمس؛ المضمرات، والأعلام، وأسماء الإشارة، ثم المعرف باللام، ثم المضاف إلى واحد من هذه إضافة معنوية، لا لفظية، وهى متفاوتة فى التعريف، فأعرفها المضمرات، ثم العلم، على الترتيب الذى أسلفناه على اختلاف فى ذلك بين النحاة، مذكور فى موضعه، وكما كانت المعارف متفاوتة فى مراتب التعريف، فكذا حال النكرات، فكل نكرة هى أعم من غيرها فهى أبهم، وجملتها شىء، ثم جسم، ثم حيوان، ثم إنسان، ثم رجل، فكل واحدة من هذه النكرات هى أدخل فى الإبهام، والتنكير، مما بعدها كما تراه فى صورها، فقولنا: شىء، أعم من قولنا: موجود؛ لأن قولنا شىء، مندرج تحته الموجود والمعدوم، وهل يطلق قولنا: شىء، على المعدوم حقيقة أو مجازا؟ فيه خلاف بين المتكلمين، فمن قال منهم إن المعدوم ذات فى حال عدمه كان إطلاقه عليه حقيقة، ومن قال منهم ليس ذاتا فى حال عدمه، وإنما هو نفى صرف كان إطلاقه عليه بطريق المجاز، وقد قررنا ما هو الحق فى هذه المسألة فى الكتب العقلية، فإذا عرفت هذا فاعلم أن المعرفة، والنكرة يتعلق بكل واحد منهما معان دقيقة متعلقة بأسرار البلاغة، فلا جرم أوردناها فى هذا الفصل، وفيه تقريران: التقرير الأول فى [النكرة] ، ولها أحكام: الحكم الأول: النكرة إذا أطلقت فى نحو قولك: رجل، وفرس، وأسد، ففيها دلالة على أمرين، الوحدة، والجنسية، فالقصد يكون متعلقا بأحدهما، ويجىء الآخر على جهة التبعية، فأنت إذا قلت: أرجل فى الدار أم امرأة، حصل بيان الجنسية، والوحدة جاءت تابعة غير مقصودة، وإذا قلت: أرجل عندك أم رجلان، فالغرض ههنا الوحدة، دون الجنسية. الحكم الثانى: هو أن التنكير قد يجىء لفائدة جزلة يقصر عن إفادتها العلم، ولا يبلغ

الحكم الثالث: المطلق

كنهها رسم القلم، ومثاله قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] فتنكير الحياة ههنا أحسن من تعريفها، وإنما وجب ذلك لأمرين؛ أما أولا فلأنه لا يحرص إلّا الحى، وهو لا يستقيم حرصه على أصل الحياة المعهودة، وإنما يتوجه حرصه على الازدياد من الحياة فى الأزمنة المستقبلة، وهذا إنما يكون إذا كانت نكرة. لأن المعنى فيها على أنهم أحرص الناس على أن يزدادوا حياة إلى حياتهم، ولو عاشوا ما عاشوا، وأما ثانيا فلأنها إذا كانت نكرة فالتنوين مصاحب لها، وعلى هذا يكون معناها، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة أى حياة لأنها مسوقة للمبالغة، ولكن يكون كذلك إلا بالتقدير الذى ذكرناه، وهكذا قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] لأن الواحد منا إذا علم أنه إذا قتل، قتل، فإنه لا محالة يرتدع عن القتل، فيسلم هو وصاحبه، فتصير حياة كل واحد منهما فى المستقبل مستفادة من جهة القصاص، مضمومة إلى الحياة الأصلية، ولا يحصل هذا إلا مع التنكير؛ لأنه يفيد التجدد، والتعريف لا يعطيه، وهكذا قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69] وقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات التى يكون فيها التنكير أبلغ من التعريف فى تقرير المقاصد المعنوية. الحكم الثالث: المطلق هو نحو قولك: رجل، وأسد، وله تعريفان: التعريف الأول ذكره ابن الخطيب ، وحاصل ما قاله أنه اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هى هى من غير أن يكون فيه دلالة على شىء من قيود تلك الحقيقة، سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا. التعريف الثانى ذكره عبد الكريم صاحب التبيان، وهو محكى عن القدماء، وهو الدال على واحد لا بعينه، هذا ملخص ما قيل فى حد المطلق، قال ابن الخطيب الرازى: والحد الأول أولى؛ لأن الوحدة والتعيين قيدان زائدان على الماهية، وما هذا حاله لا يجوز أن يكون تعريفا للمطلق، ولا حدّا له، وذكر الشيخ عبد الكريم أن ما ذكره القدماء فى حد المطلق هو الذى يجب التعويل عليه، وقال: إن الوحدة، والتعيين إنما يكونان قيدين زائدين على الماهية فى غير حد المطلق، فأما فى المطلق فلا، ولو صح ما قاله لم يتجه فرق بين قولنا: أسد، وأسامة، وثعلب، وثعالة، إلى غير ذلك من أعلام الأجناس، والذى يتجه فرقا

خيال وتنبيه

بينهما، أن اللفظ إن قصد به الحقيقة من حيث هى هى، فهو معرفة، كأسامة، فإنه موضوع على الحيوان المفترس من حيث هو هو، وإن قصد باللفظ واحد من تلك الحقيقة، فهو نكرة كأسد، هذا محصول كلامهما فى حد المطلق؛ والمختار ما عول عليه ابن الخطيب فى حد المطلق، لأن الحد الثانى فيه التقيد بالوحدة، والتعيين، وهما منافيان للإطلاق؛ لأن الشىء لا يكون مطلقا مقيدا، فأما ما قاله الشيخ عبد الكريم من أنه لو صح تحديده بما ذكره لم يتجه فرق بين قولنا: أسد، وأسامة، فلعله لا يجعلهما من باب المطلق؛ لأن أحدهما دال على التعيين، وهو قولنا: أسامة؛ لأنه موضوع على الحقيقة الذهنية من حيث هى هى، وأحدهما دال على الوحدة وهو قولنا: أسد، وإذا لم يكونا مطلقين لم يردا اعتراضا على ما ذكره من الحد، وكانت التفرقة بينهما حاصلة من الوجه الذى ذكره، ولو قيل فى حد المطلق: هو اللفظ الدال على حقيقة من غير قيد، لكان جيدا. خيال وتنبيه فإن قال قائل: قد ذكرتم الوجه فى تنكير الحياة فى قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] فما وجه تنكير السلام فى قصة «يحيى» فى قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ [مريم: 15] وتعريف السلام فى قصة «عيسى» فى قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ [مريم: 33] ثم إذا كان التنكير فى السلام هو المطرد كقوله: سَلامٌ عَلى نُوحٍ [الصافات: 76] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات: 130] وغير ذلك، فما وجه نصبه فى سلام الملائكة فى قوله تعالى: قالُوا سَلاماً [هود: 69] ورفعه فى سلام إبراهيم فى قوله تعالى: قالَ سَلامٌ [هود: 69] فمن حقكم إيراد التفرقة فى هذه الأمور ليكمل الغرض فى تقرير قاعدة التنكير، والجواب: أما ما ذكره أولا من تقرير فائدة التنكير فى قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] فقد أوردنا ما قاله علماء البيان فى ذلك، فأغنى عن إعادته، والمعتمد عندنا أن العلة فى إيثار التنكير على التعريف، هو أن الغرض إخراجها مخرج الإطلاق عن كل قيد من القيود اللازمة لها، من تعريف أو تخصيص؛ لأن التقدير: إن لكم فى القصاص حياة بالغة فى اللطف مبلغا عظيما، وجامعة لجميع مصالح

الدين، والدنيا، ونازلة فى الاستصلاح منزلا تقاصرت العبارة عن كنهه، فحذفت هذه القيود كلها، وأطلقت إطلاقا، وعوض التنوين عن هذه القيود، كما جعل عوضا فى يومئذ، وحينئذ، عن جميع الجمل السالفة، وفيه من التعظيم والفخامة ما يرى، فهذا هو الوجه اللائق بفصاحة القرآن، دون ما ذكره علماء البيان، وأما ما ذكره ثانيا من تنكير السلام فى قصة يحيى، وتعريفه باللام فى قصة عيسى، فإنما كان ذلك التنكير واردا فى قصة يحيى عليه السلام؛ لأن التحية كانت من جهة الله تعالى فى المواطن الثلاثة، وسلام ما كان من جهة الله مغن عن كل تحية، «قليلك لا يقال له قليل» ، ومن ثم لم يرد السلام من جهة الله إلا منكرا، كقوله تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وقوله اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود: 48] وقوله تعالى سَلامٌ عَلى نُوحٍ [الصافات: 76] ولو كانت معرفة لكان لا فائدة فى تعريفها، وأما تعريف السلام فى حق عيسى عليه السلام، فإنما كان ذلك من أجل أنه ليس واردا على جهة التحية من الله تعالى، وإنما هو حاصل من جهة نفسه، فلا جرم جىء بلام التعريف، إشعارا بذكر الله تعالى؛ لأن السلام اسم من أسمائه، وفيه تعرض لطلب السلامة، ولهذا فإنك إذا ناديت الله باسم من أسمائه، فإنك متعرض لما اشتق منه ذلك الاسم، فتقول فى طلب الحاجة، يا كريم، وفى سؤال مغفرة الذنب: يا عفو، يا غفور، يا رحيم، يا حليم، لما كان ذلك مناسبا ملائما لما أنت فيه، فلهذا أورده باللام، تعرضا للسلامة، وطلبا لها باسم الله تعالى، وجؤارا إليه، ومن أجل ذلك كان اختتام الصلاة بالسلام المعرف باللام لكونه اسما من أسماء الله، لما كان افتتاحها باسم من أسمائه، ومن جوز السلام بغير اللام، فهو بمعزل عن هذه الأسرار ومعرض عن هذه المقاصد، وأما ما ذكره ثالثا من نصب سلام الملائكة، ورفع سلام إبراهيم، فلأن سلام الملائكة إنما ورد على جهة الإشعار بالفعل، وكونه مصدرا عنه تقريرا لخاطره، وإزالة للوحشة الحاصلة من جهتهم بامتناع الأكل، كما نبه عليها بقوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات: 28] وهذا المعنى إنما يظهر بالنصب بخلاف السلام من جهة إبراهيم؛ فإنما هو وارد على جهة التحية، كأنه قال: منى سلام، أو عليكم سلام، غير متعرض

التقرير الثانى المعرفة

لتقييد الفعل، والانتصاب عنه، أو نقول: ليس واردا على جهة التحية، وإنما هو تعرض للمصالحة والمسالمة، وقد نبه على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: اقرأوا. قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات: 25] ومن ثم قال أهل التحقيق من علماء البيان: إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة. يشيرون به إلى ما ذكرناه. التقرير الثانى [المعرفة] اعلم أن المعارف أجناس مختلفة كما أسلفنا حصرها، لكنا إنما نتعرض للمعرفة باللام، لاختلاف المعانى بها، فقد تكون واردة فى المبتدأ، وقد تكون واردة فى الخبر، فهاتان حالتان؛ الحالة الأولى: أن تكون واردة فى المبتدأ، ودخولها فيه يكون على أوجه أربعة، أولها أن تكون داخلة لإفادة تعريف الجنسية الحاصلة فى الذهن، ومثاله قولنا: أهلك الناس الدينار والدرهم، والرجل خير من المرأة، إلى غير ذلك من الحقائق الذهنية، وهكذا قولنا: أكلت الجبن، وشربت الماء، ودخلت السوق؛ لأنه ليس الغرض الاستغراق ولا المقصود بذاك عهدية سابقة، وإنما الغرض ما قلناه من 7 فادة التعريف للحقائق الذهنية التى لا وجود لها فى الخارج، نعم إذا وجدنا صورة مفردة فى الخارج، فهل تكون الحقيقة الذهنية حاصلة فى الخارج، أم لا، فيه مذهبان؛ أحدهما أنها غير موجودة، بل يستحيل وجودها فى الخارج، وهذا هو المحكى عن، «أرسطو» ، وثانيهما أنها موجودة عند وجود المفردة، وهذا هو المحكى عن «أفلاطون» ، والمختار ما قاله «أرسطو» ، وهو بحث كلامى، وقد ذكرناه فى الكتب العقلية. وثانيها أن تكون داخلة لإفادة تعريف العهدية، وهذا كقولك: لبست الثوب، وأخذت الدراهم، لثوب ودراهم معهودين بينك وبين مخاطبك، وما هذا حاله لا يدل التعريف إلا على صورة واحدة من غير زيادة، وثالثها أن تكون دالة على الاستغراق، وهذا كقوله: جاءنى الرجال، وقد ترد فى الجمع الحقيقى إما سالما كقولك: المؤمنون، والزيدون، وإما مكسرا كقولك: الرجال، والدراهم، وإما أسماء جمع كقولك: الناس،

والرهط، والنفر، وقد ترد فى الاسم المفرد كقولك: الرجل خير من المرأة، وهى فى جميع هذه الموارد دالة على الاستغراق فى الصور المفردة التى لا نهاية لها، ورابعها أن تكون داخلة للزيادة من غير إفادة للتعريف، وهذا نحو دخولها فى الأعلام، ودخولها فيها قد يكون على جهة اللزوم لا يجوز نزعها منه كقولك: النجم للثريا، ونحو أيام الأسبوع، وغير ذلك، وقد تكون غير لازمة إما فى الصفة كقولك: المظفر، والعباس، وإما فى المصدر كقولك: الفضل، والعلاء، فدخول لام التعريف لا تنفك عن هذه الأمور الأربعة، هذا كله إذا كانت داخلة على المبتدأ، الحالة الثانية أن تكون اللام داخلة على الخبر. اعلم أن الأصل أن يكون نكرة؛ لأنك إنما تخبر بما يجهله المخاطب فتعرفه إياه، فإذا ورد فيه اللام فإنها تأتى لمقاصد، وجملتها أربعة، أولها أن تقصد المبالغة فى الخبر فتقصر جنس المعنى على المخبر عنه كقولك: زيد هو الجواد، وعمرو هو الشجاع، تريد أنه هو المختص بالمعنى دون غيره، وأنت إذا قصدت هذا المعنى فلا يجوز العطف عليه على جهة الاشتراك، فلا يجوز أن تقول: زيد هو الجواد وعمرو؛ لأنه يبطل المعنى، ومن هذا قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4] يريد أنهم المختصون بهاتين الصفتين دون غيرهم، وثانيها أن تقصره لا على جهة المبالغة كما فعلت فى الأول، ولكن على معنى أنه لا يوجد إلا منه، وإنما يكون ذلك إذا قيد المعنى بشىء يخصصه ويجعله فى حكم نوع برأسه، ومثاله قولك: زيد الكريم حين يبخل كل جواد، وعمرو الشجاع حين يتأخر الأبطال، وبكر هو الوفى حين لا تظن نفس بنفس خيرا، ومن هذا قول الأعشى «1» : هو الواهب المائة المصطفاة ... إمّا مخاضا وإمّا عشارا أى أنه لا يهب هذا العدد إلا الممدوح، ومما يؤيد هذا المعنى وإن لم يكن على طريقة الإخبار قول بعضهم: أعطيت حتى تركت الريح حاسرة ... وجدت حتى كأنّ الغيث لم يجد وثالثها أن تورده على وجه اتضح أمره اتضاحا لا يسع إنكاره، وظهر حاله ظهورا لا يخفى على أحد، وهذا كقولك: زيد الشجاع، على معنى أن إسناد الشجاعة إليه أمر ظاهر

تنبيه

لا يفتقر إلى دلالة، ولا يحتاج إلا علامة وأمارة، وعلى هذا حمل بيت الخنساء «1» : إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا أرادت أن تقرره فى جنس الحسن الباهر الذى لا ينكره من أخبر به وعلى هذا قرر قوله: أسود إذا ما أبدت الحرب نابها ... وفى سائر الدهر الغيوث المواطر ورابعها أن تقصد به مقصد التعريف بحقيقة عقلها المخاطب فى ذهنه لا فى الخارج، أو توهمت أنه لم يعرفها فتقول له: تصور كذا، فإذا تصورته فى نفسك فتأمل فلانا، فإنه يحصل ما تصورته على الكمال، ويأتيك به تاما، ومثاله قولنا: هو الحامى لكل حقيقة، وهو المرتجى لكل ملمة، وهو الدافع لكل كريهة، كأنك قلت: هل تعقل الحامى، والمرتجى وتسمع بهما، فإن كنت تعقل ذلك وتعرفه حقيقة معرفته، فاعلم أنه فلان، فإنى خبرته وجربته فوجدته على هذه الصفة، فاشدد يديك به، فإنه ضالتك التى تنشدها، وبغيتك التى تقصدها، ومما يؤيد هذا المعنى ويقويه قول ابن الرومى: هو الرجل المشروك فى جلّ ماله ... ولكنّه بالحمد والمجد مرتدى كأنه قال: فكر فى رجل لا يتميز عن غيره فى ماله فى الأخذ والتصرف، فإذا فهمت ذلك وعقلته وصورته فى نفسك، فاعلم أنه فلان، وكقول بعضهم: أخوك الّذى إن تدعه لملمّة ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب فهذه المعانى متغايرة كما ترى، تحصل لأجل تعريف الخبر باللام كما فصّلناه ههنا. تنبيه إذا عرفت ما قدمناه من صحة دخول اللام على الخبر كما صح دخولها على المبتدأ، وأظهرنا معانيها فى النوعين فلا يغررك ما يقرع سمعك من كلام النحاة، من أن المبتدأ، والخبر إذا كانا معرفتين فأيهما قدمت فهو المبتدأ، فهذه قاعدة قد زيفناها وقررنا فسادها فى الكتب الإعرابية، فإن حقيقة الخبر هو المسند به وهو غير خارج عن هذه الماهية بتقديم ولا تأخير، ولا تعريف ولا تنكير، وأيضا فإن الخبر عبارة عن الصفة، والمبتدأ فى نفسه عبارة عن الذات، ولا شك أن الذات بالابتدائية والصفة بالخبرية أحق من العكس، فإذا بان لك مما ذكرناه بطلان كلامهم، وأن المبتدأ هو المسند إليه بكل حال، والخبر مسند به بكل حال فلا يغير هذه الماهية عروض عارض.

الفصل الثانى فى الخطاب بالجملة الاسمية والفعلية وذكر التفرقة بينهما

الفصل الثانى فى الخطاب بالجملة الاسمية والفعلية وذكر التفرقة بينهما اعلم أن الكلام إذا قصد به الإفادة، فتارة يرد مصدّرا بالجملة الاسمية سلبا كان أو 7 يجابا، وتارة يرد مصدرا بالجملة الفعلية سلبا كان أو إيجابا، والمعانى تختلف بالإضافة إلى تصدير الجملتين، فهذان طرفان: الطرف الأول فى توجيه الخطاب ب [الجملة الاسمية] ، وهذا نحو قولك: زيد قد فعل، وأنا فعلت، وأنت فعلت، ومتى كان واردا على جهة الاسمية، فإنه ينقدح فيه معنيان: المعنى الأول أن تريد أن الفاعل قد فعل ذلك الفعل على جهة الاختصاص به دون غيره ، ويذكر على جهة الاستبداد، وهذا كما تقول: أنا قتلت فلانا، وأنا الذى شفعت لفلان عند الأمير بالعطية، وأنا الذى توجهت فى إطلاقه من السجن، وكقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا [النجم: 43- 44] فصدر الجملة بالضمير، دلالة على اختصاصه تعالى بالإماتة والإحياء، والإضحاك والإبكاء، وإنما أورد الضمير وصير الجملة اسمية تكذيبا، وردّا، وإنكارا لمن زعم أنه مشارك لله تعالى فى هذه الخصال، ويؤكد هذا أن الأمور التى تقع فيها المشاركة وردت بالجملة الاسمية، والأمور التى لا تقع فيها المشاركة، وردت بالجملة الفعلية، كقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم: 44- 45] فأورد الضمير فى الأولى دلالة على الاختصاص بما ذكرناه دون الثانية؛ لأنها لا مطمع فيها بالمشاركة، بخلاف الأولى، فإنه ربما يظن أو يتوهم فيها المشاركة، فلا جرم ورد الضمير مصدّرا فيه الجملة، دلالة على اختصاصه بما ذكرناه.

المعنى الثانى أن لا يكون المقصود الاختصاص، وإنما المقصود التحقق

المعنى الثانى أن لا يكون المقصود الاختصاص، وإنما المقصود التحقق ، وتمكين ذلك المعنى فى نفس السامع بحيث لا يخالجه فيه ريب، ولا يعتريه شك، وهذا كقولك: هو يعطى الجزيل، وهو الذى يجود بنفسه، فغرضك تحقيق إعطائه للجزيل، وكونه لا يبخل بنفسه، وتمكّنه فى نفس من تخاطبه، وعلى هذا ورد قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] فخاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الاسمية المحقّقة بإنّ المشددة، وإنما كان الأمر كذلك لأنهم فى خطابهم لإخوانهم مخبرون عن أنفسهم بالثبات والتصميم على اعتقاد الكفر مصرون على التمادى فى الجحود والإنكار، فلهذا وجّهوه بالجملة المؤكدة الاسمية بخلاف خطابهم للمؤمنين، فإنما كان عن تكلف وإظهار للإيمان، خوفا ومداجاة من غير عزم عليه، ولا شرح صدورهم به، ومن هذا قوله تعالى فى سورة يوسف: قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: 11- 12] فانظر إلى ما أخبروا به عن أنفسهم فى قولهم: لَناصِحُونَ ولَحافِظُونَ كيف ورد بالجملة الاسمية المؤكدة بإن، وما كان عن غيرهم كقوله: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا ، وقوله: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ، وهذا فيه دلالة على ما ذكرناه من الاختصاص والتحقيق والثبوت، ومن هذا قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [ق: 43] وقوله تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [الحجر: 23] وقوله فى سورة الواقعة: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ [الواقعة: 59] أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ [الواقعة: 64] وقوله: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها [الواقعة: 72] إلى غير ذلك من الآى المصدرة بالجمل الابتدائية، ومن هذا القبيل قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61] فإنما صدر الخروج بالضمير، وصيرها جملة ابتدائية، مبالغة فى تصميم عزمهم على الكفر عند الخروج، وقطع الإياس عن الإيمان يخالف دخولهم، فإنه ربما كانت نفوسهم تحدثهم بإظهار الإيمان على وجه التقية والمخادعة، فأما الخروج فهو على قطع وحقيقة،

فلهذا ميز بين الجملتين مشيرا إلى ما ذكرناه، وقوله تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [آل عمران: 77] فإنما أورد الضمير دلالة على تأكيد تحققهم للصدق، ومع ذلك يقولون على الله الكذب وهم يعلمون كونه كذبا، أو هم يعلمون أنه لا يقوله، وقوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: 77] ونحو قوله تعالى فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 70] وأمثال ذلك فى كتاب الله أكثر من أن يحصى، وكما وجب تصدير الاسم فى الجملة الإثباتية من أجل المبالغة وجب تقديمه فى الجملة السلبية أيضا، فتقول: أنت لا تحسن هذا، وأنت لا تقول ذلك، ولو قلت: لا تحسن أنت هذا، ولا يقول ذلك إلا أنت، فأتت تلك القوة عن الكلام، ومن هذا قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 59] وقوله تعالى لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] وقوله تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ [القصص: 66] وقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف: 66] ومن الأبيات الشعرية ما يدل على ما نحن فيه كقوله «1» : هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... حريصان ما اسطاعا عليه كلاهما وقال بعضهم «2» : والشّيب إن يظهر فإنّ وراءه ... عمرا يكون خلاله متنفّس لم ينتقص منّى المشيب قلامة ... ولما بقى منّى ألبّ وأكيس فلما كان المشيب يذم فى أكثر أحواله أتى باللام المؤكدة فى قوله: (ولما بقى) وجعل الجملة الاسمية عوضا من الفعلية، مبالغة فى ذلك وتأكيدا كما مر بيانه، وقال بعض أهل الحماسة «3» : إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدوّ الأصيد

الطرف الثانى فى توجيه الخطاب ب الجملة الفعلية

ومتى نجد يوما فساد عشيرة ... نصلح وإن نر صالحا لا نفسد فلما أراد المبالغة فى الصفح وإيثاره، صدّره بالجملة الاسمية مؤكدا باللام من أجل ذلك، وقال آخر «1» : نحن فى المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب منّا ينتقر فصدّره بالجملة الاسمية عوضا عن الفعلية إرادة للتأكيد، والجفلى هى الدعوة العامة، وهى تخالف «النّقرى» لأنها دعوة خاصة من جهة أنه ينقّر فى دعوته، أى يدعو واحدا خاصّا من بين أقوام. الطرف الثانى فى توجيه الخطاب ب [الجملة الفعلية] اعلم أن الإخبار فى قولنا: قام زيد، مثله فى نحو قولك: زيد قام، خلا أن قولنا: زيد قام، فيه نوع اهتمام وإيضاح للجملة الاسمية كما أوضحنا فى نظائره، وهكذا قولنا: زيد قائم، مثل قولنا: إن زيدا قائم، خلا أن الثانى مختص بمزيد قوة وتأكيد لم يكن فى الأول، ولو جئت باللام فى خبر إن، لكان أعظم تأكيدا، فقولنا: زيد منطلق، إخبار لمن يجهل انطلاقه وقولنا: منطلق زيد، إخبار لمن يعرف زيدا، وينكر انطلاقه، فتقديمه اهتمام بالتعريف بانطلاقه، وقولنا: إن زيدا منطلق، رد لمقالة من يقول: ما زيد منطلقا، وقولنا: إن زيدا لمنطلق، رد لقول من قال: ما زيد بمنطلق، فأنت إذا جئت بالجملة الفعلية فقلت قام زيد، فليس فيه إلا الإخبار بمطلق القيام مقرونا بالزمان الماضى من غير أن يكون هناك مبالغة وتوكيد كقوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النمل: 17] وقوله تعالى: نَزَّلَ الْكِتابَ [الأعراف: 196] فالغرض الإخبار بهاتين الجملتين بالفعل الماضى من غير إشعار بمبالغة هناك، ولما أراد المبالغة فى الجملة الأولى قال فى آخرها: فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17] وقال فى الثانية: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] فإتيانه بالجملتين الاسميتين من آخر الجملتين السابقتين المصدرتين بالفعلين دلالة على المبالغة والتأكيد فى المقصود الذى سقناه من أجله، وهو التولى للصالحين والإيزاع.

دقيقة

دقيقة اعلم أن جميع ما يخبر به على قسمين؛ اسم، وفعل، ثم كل واحد من الاسم والفعل يقع جزءا من الجملة تارة، ويقع جزءا زائدا على الجملة أخرى، فمثال ما يكون جزءا معتمدا فى الجملة قولنا: زيد قائم، وقام زيد، فهذان الخبران كل واحد منهما عمدة فى الإخبار، إما على أنه مسند إليه كالفاعل، والمبتدأ، وإما على أنه مسند به، كالفعل، وخبر المبتدأ، ومثال ما يقع جزءا زائدا على الجملة، الحال فى نحو قولك. جاءنى زيد ضاحكا، فإن الحال جزء فى الحقيقة، ولهذا فإنك تجعله خبرا عن ذى الحال، كما تثبته لذى الخبر بالخبر، لكن الإخبار بالحال جار على جهة التبعية للخبر السابق، بخلاف خبر المبتدأ والفعل المسند إلى الفاعل، فإنه ليس بمشترط فيه تقدم واسطة بينهما.

الفصل الثالث فى أحوال الفصل،

الفصل الثالث فى أحوال [الفصل،] والوصل، وهو دقيق المجرى، لطيف المغزى، جليل المقدار، كثير الفوائد، غزير الأسرار، ولقد سئل بعض البلغاء عن ماهية البلاغة، فحدّها بمعرفة الفصل، والوصل، وجعل ما سواه تبعا له، ومفتقرا إليه، وقاعدته العظمى حروف العطف، وينعطف عليها حروف الجر، وتكون تابعة لها، فإنه يتعلق بكل واحد منهما أسرار ولطائف ننبه عليها بمعونة الله تعالى، ولسنا نريد بتلك الأسرار واللطائف ما يكون متعلقا بعلوم الإعراب من كون الأحرف العاطفة تلحق المعطوف فى الإعراب، ولا أن الحروف الجارة تجر الاسم، وتعدى الأفعال اللازمة، بل نريد أمرا أخص من ذاك، وأغوص على تحصيل الأسرار الغريبة واللطائف العجيبة فى كتاب الله تعالى وفى غيره، وإن كان لا بد من التصرفات الإعرابية والإحاطة بالمعانى النحوية، فهذان بحثان يحيطان بالبغية من ذلك بمعونة الله تعالى. البحث الأول فيما يتعلق ب [الأحرف العاطفة] اعلم أن العطف على نوعين، عطف مفرد على مفرد، وعطف جملة على جملة، فأما عطف المفرد على المفرد فيستفاد منه مشاركة الثانى للأول فى الإعراب فى رفعه ونصبه وجره، بالفاعلية، أو بالمفعولية، أو بالإضافة وحروف الجر، فأما الصفات فالأكثر أنه لا يعطف بعضها على بعض كقولك: مررت بزيد الكريم العاقل الفاضل، وإنما قل العطف فيها؛ لأن الصفة جارية مجرى الموصوف، ولهذا فإنه يمتنع عطفها على موصوفها فلا يجوز أن تقول: جاءنى زيد والكريم، على أن الكريم هو زيد، لاستحالة عطف الشىء على نفسه، ويجوز عطف بعضها على بعض باعتبار المعانى الدالة عليها، فلهذا تقول: مررت بزيد الكريم، والعاقل، والعالم، باعتبار ما ذكرناه، كأنك قلت. مررت بشخص اجتمع فيه الكرم، والعقل، والعلم، فقد اجتمع فى الصفة دلالتها على ذات الموصوف ودلالتها على معنى فى الذات، فلأجل تلك المعانى التى تدل عليها جاز فيها العطف، ولأجل كونها دالة على الذات قل فيها عطف بعضها على بعض، وتعذر عطفها على الموصوف كما أشرنا

إليه، فأما الأوصاف الجارية على الله تعالى فقلما يأتى فيها العطف، وما ذاك إلا لأنها أسماء دالة على الذات باعتبار هذه الخصائص لها ووافقت الذات فى عدم الأولية لها، فلأجل هذا جرت مجرى الأسماء المترادفة كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الحشر: 22] ثم قال: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] وقال غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 3] فجاء بها على جهة التعديد من دون الواو لما ذكرناه، وإنما جاءت معطوفة فى قوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] لأنها متضادة المعانى فى أصل موضوعها، فلهذا جاءت الواو رافعة لتوهم من يستبعد ذلك فى ذات واحدة؛ لأن الشىء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد، فلأجل هذا حسن العطف، ولهذا جاء العطف فى قوله تعالى ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 5] بخلاف ما تقدمه من الصفات، فإنها معدودة من غير واو، وذلك لأجل تناقض البكارة والثيوبة، فجىء بالعطف لرفع التناقض بخلاف الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتوبة، وغيرها من الصفات، ومنه قوله تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ [التوبة: 112] إلى آخرها بغير واو، وقال فى آخرها الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] لما كانت هاتان الصفتان متضادتين، فلا جرم وجب فيهما العطف كما ترى، لا يقال فإنا نرى الأوصاف فى قوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] جاءت كلها بغير حرف عطف إلا قوله وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3] فإنها جاءت بالواو مع اشتراكها كلها فى كونها من الأوصاف الفعلية، فما السر فى ذلك، لأنا نقول: أما مجىء غافِرِ عقيب قوله: الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر: 2] من غير واو مع أنهما من صفات الذات و «غافر» من صفات الأفعال: فإنما كان كذلك لأنها فى معناهما؛ لأن العزيز هو الغالب، والعالم هو المحيط بكل المعلومات، ومن كان غالبا بالقدرة على كل شىء وعالما بحسن العفو ومزيد الإحسان فهو الأحق بالستر، وإسقاط العقوبة وأن لا يستوفى له حقّا من العباد، فلهذا جاءت من غير واو؛ لانتظامها مع ما قبلها فى سلك واحد كما أوضحناه، وأما مجىء قوله: وَقابِلِ التَّوْبِ بالواو مع كونها من صفات الأفعال لأمرين؛ أما أولا فلأن المرجع بالمغفرة إلى السلب؛ لأن معنى «الغافر» هو الذى لا يفعل العقوبة مع الاستحقاق، والمرجع بقبول التوبة إلى الإثبات؛ لأن معناه أنه يقبل العذر والندم، فلما

كانا متناقضين بما ذكرناه، وجب ورود الواو فصلا بينهما كما ذكرناه فى الأول والآخر، وأما ثانيا فلأنهما وإن كانا من صفات الأفعال لكنه جمع بينهما بالواو لسر لطيف، وهى إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها إمحاء للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول، ومن وجه آخر، وهو أنهما وإن كانا من صفات الأفعال خلا أن المغفرة مختصة بالعبد، وقبول التوبة مختص بالله تعالى، فلما تغاير أمر هذا الوجه لا جرم وردت الواو منبهة على تغايرهما، وإنما وردا على وزن اسمى الفاعل دون ما بعدهما وما قبلهما من الصفات، ولم يقل: الغفار والتواب، كما ورد فى موضع من التنزيل، دلالة على أن الغرض ههنا إحداث المغفرة والتوبة من جهته تعالى للعبيد لمزيد الرحمة واللطف، بخلاف قولنا: التواب والغفار، فإن الغرض بهما هو الثبوت والاستمرار دون الحدوث، فافترقا، وإنما جاء قوله: شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ من غير واو لكون الأوصاف ملتئمة متناسبة يجمعها كونها من صفات الأفعال، كما جاء قوله: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] من غير واو لكونها جميعا من الصفات الفعلية، فنبه بلفظ اسم الفاعل على أنه تعالى فاعل للأمرين جميعا، محدث لهما من جهته، ليكون ذلك لرجاء الرحمة من عنده والأمل للعفو برحمته وكرمه، ثم عقّبه بقوله: شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 3] تحذيرا عن مواقعة الخطايا وملابسة المعاصى وزجرا عن الاتّكال على ما سلف من الغفران وقبول التوبة، ثم ختم هذه الصفات بأحسن ختام وأعجب تمام بالوصف «بالطول» رحمة للخلق، وتسلية للعبيد، وعدة لهم بأن منتهى الأمر فى حقهم، الطول عليهم بالكرم، واندراجهم فى غمار الرحمة الواسعة واللطف العظيم، اللهم اجعلنا ممن شملته رحمتك، وأدخلته فى عبادك الصالحين، لا يقال: فعلام يحمل قوله تعالى: شَدِيدِ الْعِقابِ فإن حمل على الصفة فهو نكرة؛ لأن الصفة المشبهة باسم الفاعل لا تتعرف بإضافتها إلى المعرفة، وإن حملتموه على البدلية مما قبله، حصل هناك تنافر فى نظام الآية وسياقها؛ لأن ما قبله صفة وما بعده صفة، فلا يجوز حمله على البدلية لما ذكرناه؛ لأنا نقول حكى عن أبى إسحق الزجاج أنه حمله على البدلية، وما ذاك إلا لأنه اعتاص عليه تنزيله على وجه يتعرف به، فعدل إلى هذه المقالة، وهذا لعمرى أسرع وأخلص لكن غيره أدق وأغوص، والأقرب حمله على الصفة، ليطابق ما قبله وما بعده، فأما تعريفه ففيه تأويلات، التأويل الأول ذكره الزمخشرى فى تفسيره أن

تعريفه إنما هو باللام لكنها اطّرحت لأجل الازدواج، وليطابق قوله تعالى: ذِي الطَّوْلِ فلا جرم قضينا بتعريفه باللام لما ذكرناه ولكنها اطرحت لمراعاة الازدواج، التأويل الثانى أن يقال: إنه فى نية الإضافة، والمعنى فيه أنه يكون تقديره: «ذى العقاب الشديد» ومع هذا يحصل التعريف المعنوى، والازدواج اللفظى، وما ذكره الزمخشرى وإن كان جيدا لكن هذا أدق وأحسن، هذا كله فى عطف المفردات، وهذا كله إنما يتقرر على رأى من يجعلها كلها دالة على الثبوت، فأما على ما تأولناه من أن غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ دالان على الحدوث، فهى كلها أبدال، فلا يكون هناك تنافر بينها؛ لأنها كلها نكرات على هذا التقرير، وأما عطف الجملة على الجملة فهو على وجهين؛ أحدهما أن يكون العطف على جملة لها موضع من الإعراب فتكون المعطوفة كذلك أيضا، وهذا كقولك: مررت برجل خلقه حسن، وخلقه قبيح. فيكون مشتركا بين الجملتين فى القضاء عليهما بالحسن، حملا على الصفة، وثانيهما أن تعطف جملة على جملة لا موضع لها من الإعراب. وهذا كقولك: زيد أخوك، وبشر صاحبك. فالجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب، لكونها ابتدائية، وعلى هذا تكون الثانية لا موضع لها من الإعراب أيضا، وهل يكون للواو ههنا فائدة أو لا، فظاهر كلام الشيخ عبد الكريم أنه لا فائدة لها ههنا بحال، فأما الزمخشرى فقد قال إنها تجمع بين مضمونى الجملتين فى الحصول، وهذا هو الأقرب، فإنها كما تجمع بين الرجلين فى المجىء فى نحو قولك: جاء زيد وعمرو، فهكذا تجمع بين الجملتين فى الوجود والحصول، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلننعطف على بيان المقصود، ونعكر عكرة على بيان الأسرار المعنوية المتعلقة بالحروف العاطفة، فمن ذلك قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] فالواو فى قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هل تكون للعطف، أو للاستئناف، قد وقع فيها تردد بين العلماء، فمنهم من قال: هى للعطف، ويقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وهو الذى عول عليه الزمخشرى فى تفسيره ومنهم من قال هى للاستئناف ويقف على قوله: إِلَّا اللَّهُ ومنهم من توقف فى ذلك وجوز الأمرين جميعا، فمن ذهب إلى العطف قال: إن التأويل معلوم لله وللراسخين، ومن قال بالاستئناف قال: إن تأويل

القرآن لا يعلمه إلا الله وحده، فأما من توقف فهو شاك فى الأمرين، فتردد فيهما جميعا، فلا مذهب له فى الحقيقة؛ لأنه غير قاطع بحكم فى الآية، والمختار عندنا فى الآية أن الراسخين مرفوع على الابتداء ويَقُولُونَ [آل عمران: 7] خبره، وأن الواو عاطفة لجملة على جملة، فيكون التقرير: فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، وأما الراسخون فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا، ويدل على ما اخترناه أوجه؛ أما أولا فلأن ظاهر الواو للعطف، فلا يجوز العدول عنه من غير دليل، وإذا وجب العطف فلا يجوز عطف الراسخين على قوله: إِلَّا اللَّهُ لأن الراسخين جملة، واسم الله مفرد، فلا يجوز عطفه عليه، وأما ثانيا فلأن الراسخين لو كان معطوفا على اسم الله، لم يحسن الوقوف على اسم الله دونه، إذ لا يحسن الوقف على المعطوف عليه دون المعطوف، فلما حسن ذلك دل على امتناع عطفه عليه، وأما ثالثا فلأن وضع «أما» للتفصيل بين الأجناس المتعددة، ولم يسبق إلا أحد الجنسين، وهو قوله فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إلى آخر صفاتهم، فيجب أن يتلوه الجنس الآخر المقابل له، وهم الراسخون فى العلم، فتحصل «أما» الأولى «وأما» الثانية على مقصود التقابل، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا [هود: 106] ثم عقبه بقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا [هود: 108] فيكون تقدير الآية: فأما الزائغون فيتبعون وأما الراسخون فيقولون: آمنا به، لا يقال: لو كان الراسخون عطفا على قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ لوجب إثبات الفاء فى قوله: يَقُولُونَ كما جاءت فى قوله: فَيَتَّبِعُونَ ليتطابق الكلامان ويتسق نظامهما، لأنا نقول. هذا هو الوجه اللائق، لكنا نقول: إنما ترك المجىء بها لأن الفاء إنما يجب الإتيان بها: إذا كانت (أما) مذكورة فى الكلام لأنها مشعرة بالشرط، فأما إذا كانت محذوفة فلا يلزم الإتيان بالفاء، فلما حذفت فى قوله: وَالرَّاسِخُونَ استغناء عنها بالواو، لا جرم لم يأت بالفاء فى قوله: يَقُولُونَ من أجل ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) [الشعراء: 79- 81] فعطف السقى على الإطعام بالواو إرادة للجمع بينهما، وتقديم أحدهما على الآخر جائز، إذ لا ترتيب فيهما، خلا أن مراعاة حسن النظم والمشاكلة أوجب ذلك،

ثم عطف يَشْفِينِ بالفاء؛ لأن الشفاء يتعقب المرض، وتنبيها على عظم المنة بالعافية بعد المرض من غير تراخ، ثم عطف الإحياء بعد الإماتة بثم؛ لأن الإحياء بعد الموت إنما يكون بمهلة وتراخ، ولو عطفت الجمل فى هذه الآية بعضها على بعض بالواو لتم المعنى المقصود، ولكن الذى ورد به التنزيل أدخل فى المعنى وأعجب فى النظم، وأليق ببلاغة القرآن وفصاحته، ومن ذلك قوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) [عبس: 17- 22] فانظر إلى نظام هذه الآية، ما أدخله فى الإعجاب، فجاء قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ من غير واو؛ لأنها واردة على جهة التفسير لقوله: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) والخلق هو الإيجاد، خلافا لما يحكى عن المعتزلة من أنه التقدير؛ لأنه لو كان التقدير لكان قوله: فَقَدَّرَهُ (19) يكون تكريرا لا حاجة إليه، وهكذا قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] يكون مكررا على مقالتهم، وقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر: 49] فهذه كلها مع غيرها تبطل كون الخلق بمعنى التقدير، وهذا عارض، فعطف قوله: فَقَدَّرَهُ بالفاء تنبيها على أن التقدير مرتب على الخلق، وعلى عدم التراخى بينهما، وعطف السبيل بثم، لما بين الخلق والهداية من التراخى والمهلة الكثيرة، ثم عطف الإماتة بثم، إشارة إلى التراخى بينهما بأزمنة طويلة، ثم عطف الإقبار بالفاء، إذ لا مهلة هناك، ثم عطف الإنشار بثم، لما يكون هناك من التراخى باللّبث فى الأرض أزمنة متطاولة، فأكرم بهذه اللطائف الشريفة، والمعانى الرائقة التى لا تزداد على طول البحث وكثرة التنقير إلا غوصا على الأسرار ودخولا فى التحقيق، ولله سر التنزيل، ما أحواه للغرائب، وأجمعه للأسرار والعجائب. ومن ذلك قوله تعالى فى بديع خلقة الإنسان: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 12- 14] فتأمل هذه الآية كيف بدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثانى الذى هو خلق التناسل، عطفه بثم، لما بينهما من

التنبيه الأول

التراخى، وحيث صار إلى الأطوار التى يتلو بعضها بعضا على جهة المبالغة عطف العلقة على النطفة بثم، لما بينهما من التراخى، ثم عطف المضغة على العلقة بالفاء لما لم يكن هناك تراخ، ثم عطف خلق العظام من عقيب كونه مضغة بالفاء من غير مهلة ولا تلبّث، ثم عطف فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً بالفاء من غير تراخ، ثم تسويته إنسانا بعد خلق العظام بثم، إشارة إلى التراخى، ثم قوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) [المؤمنون: 19] عطفه بالفاء دلالة على أن كل عاقل خرق قرطاس سمعه نظم هذه الآية وتأليفها فإنه يقضى العجب على الفور من غير تلبّث، وينطق باللفظ الدال على الزيادة فى الحكمة والدخول فى الإتقان، ومن ثم قال «1» غير واحد من البلغاء وأهل الفصاحة عند سماع هذه الآية، تبارك الله أحسن الخالقين. لأجل ما يقع فى النفوس من بديع النظام وحسن التأليف فيها. ويتعلق بما نحن فيه تنبيهات ثلاثة: التنبيه الأول هو أن من حق الجمل إذا ترادفت وتكرر بعضها فى إثر بعض فلابد فيها من ربط الواو لتكون متسقة منتظمة، كما أن الجمل إذا وقعت موقع الصلة، أو الصفة، فلا بد لها من ضمير رابط يعود منها إلى صاحبها، فلهذا تقول: زيد قائم، وعمرو منطلق، فلا تجد بدّا من الواو، وكما لا تجد بدّا من الضمير فى نحو قولك: هذا الذى قام وخرج، من أجل الربط كما ذكرناه، وهذا الصنيع مستمر، اللهم إلا أن تكون الجملتان بينهما امتزاج معنوى، وتكون الثانية موضحة للأولى مبينة لها كأنهما أفرغا فى قالب واحد، فإذا كانت بهذه الصفة فإنها تأتى من غير واو، وهذا كقوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1- 2] فإنه من غير واو لما كان موضحا لقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ ؛ لأن كل ما كان من القرآن فهو لا ريب فيه ولا شك، ثم قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فإنه موضح لقوله: لا رَيْبَ فِيهِ لأن كل ما كان لا يرتاب فى حاله، ولا يقع فيه

دقيقة

تردد، ففيه نهاية الهدى، وغاية الصلاح لأهل التقوى وهكذا قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] جاء بغير واو لما كان واردا على جهة التأكيد لقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] لأن كل من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر فهو فى غاية الجهل والعمى مختوما على قلبه مغشى على بصره وقوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] لأن قوله: قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أى إنا غير تاركى اليهودية فى التكذيب بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فيكون قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) مؤكدا لهذا المعنى بعينه، ومن الواضح قوله تعالى ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] مع قوله إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) [يوسف: 31] لأن الجملة الثانية واردة مورد التأكيد، فإن كونه ملكا ينفى كونه من البشر، ومن هذا قوله تعالى وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لقمان: 7] فجرد التشبيهين عن العاطف؛ لأنه مثّل حاله بعد التلاوة مثل حاله قبلها فقوله كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مؤكد لما قبله وقوله كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مؤكد لما قبله أيضا، فلهذا جاءتا من غير عاطف. دقيقة قد يعرض للجملة التى من حقها أن تكون معطوفة على ما قبلها أمر يسوغ ترك الواو مع كونها أجنبية عن الأولى مثاله قوله تعالى إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14- 15] فالجملة الثانية إنما جاءت مجردة عن الواو لما كانت على تقدير سؤال، كأنه قيل: هم أحقاء بالاستهزاء لأجل دخولهم فى العناد وإغرابهم فى التكذيب، فمن يستهزىء بهم، فقيل. الله يستهزىء بهم كما قال بعضهم «1» : زعم العواذل أننى فى غمرة ... صدقوا ولكن «2» غمرتى لا تنجلى فلما حكى عن العواذل ما زعموه وجرّ ذلك سؤال السامع له عن صدق ما زعموه، أو كذبه، فكأنه قيل له: فما تقول فى ذلك، فقال: أقول: صدقوا، ولكن لا مطمع لهم فى خلاصى مما أنا فيه.

التنبيه الثانى

التنبيه الثانى من حق المحدّث عنه فى الجملة الثانية، أن يكون له تعلق بالمحدث عنه فى الجملة الأولى، حتى يكونا كالنظيرين والشريكين، ولا يجوز أن يكون أجنبيا عنه بحيث لا علقة بينهما ولا مشابهة بحال، ولهذا حسن: زيد قائم، وعمرو قاعد، وزيد أخوك، وبشر صاحبك، لما كان عمرو، وبشر، لهما تعلق بزيد ونظيران له، وقبح قولنا: خرجت من دارى، وأحسن ما قيل من الشعر كذا، لما كان الثانى لا تعلق له بالأول، ولا مناسبة بينه، وبينه ولهذا عيب على أبى تمام قوله «1» : لا والذى هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم إذ لا ملابسة بين كرم أبى الحسين وبين مرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر، وكما وجب أن يكون بين المحدث عنه فى الجملتين هذه الملاءمة والمشابهة، فهكذا أيضا يجب فى الخبر الثانى أن يكون مشابها للخبر الأول أو مناقضا له، ولهذا حسن قولنا: زيد خطيب، وعمرو شاعر، وبكر فقيه، وخالد محدث، وزيد قائم، وعمرو قاعد، وقبح قولنا: زيد طويل القامة، وعمرو شاعر، إذ لا تعلق بين طول القامة، وبين كونه شاعرا، وهكذا زيد كاتب، وعمرو باع داره، لأجل ما بينهما من المنافرة. إشارة إذا أوجبتم ما تقدم من وجوب الملاءمة بين المعطوف والمعطوف عليه فكيف يقال فى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189] وأى ارتباط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت من ظهورها؟ قلنا فيه أجوبة ثلاثة؛ أحدها أنه لما ذكر أنها مواقيت للحج، وكان من عادتهم ذلك كما نقل فى الحديث أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحدهم بيتا ولا خيمة ولا خباء من باب، بل إن كان من أهل المدر نقب نقبا من ظاهر البيت يدخل منه، وإن كان

التنبيه الثالث

من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة أو الخباء، فقيل لهم: ليس البر تحرّجكم من دخول البيت، ولكن البر من اتقى محارم الله. وثانيها أن يكون ذلك معطوفا على شىء محذوف، كأنه قيل لهم عند سؤالهم: معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى فيه حكمة عظيمة، ومصلحة ظاهرة فى الأهلة وغيرها، فدعوا هذا السؤال، وانظروا فى خصلة تفعلونها أنتم مما ليس، من البر فى ورد، ولا صدر، وهى إتيان البيوت من ظهورها، فليست برّا، ولكن البر هو تقوى الله تعالى والتجنب لمحارمه ومناهيه، وثالثها أن يكون واردا على جهة التمثيل لما هم عليه من تعكيس الأسئلة ولما هم بصدده من التعنت، وأن مثالهم فى سؤالاتهم المتعنتة، كمثل من ترك باب الدار، ودخل من ظهر البيت فقيل لهم: ليس البر ما أنتم عليه، ولكن البر هو التقوى. ومنه قوله عليه السلام، حين سئل عن التوضؤ بماء البحر، فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . فلما كان للبحر تعلق بحل الميتة كما كان له تعلق بجواز التوضؤ، ذكره على أثره، وأردفه به، وأتى به من غير واو، ليدل بذلك على أنهما جميعا من حكم ماء البحر ومن لوازمه. التنبيه الثالث إذا ورد لفظة «قال» فى التنزيل مجردة عن حرف العطف فهو على تقرير سؤال، وإن جاء متصلا به حرف العطف، فهو يأتى على إثر جملة يكون معطوفا عليها، فمثال وروده معطوفا قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً [الذاريات: 24- 25] فالقول معطوف على الدخول، وهكذا قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً [الأنبياء: 26] فإنه يكون عطفا على ما قبله بالواو، ونحو قوله تعالى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ [الزخرف: 58] إلى غير ذلك، ومثال ما ورد مجرّدا عن العاطف قوله تعالى: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) [الذاريات: 27] لأنه لما قربه إليهم، كأن قائلا قال: فما قال لهم لما قربه، قال: ألا تأكلون، وهكذا قوله تعالى فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ [الذاريات: 28] كأن قائلا قال: فما قالوا له حين رأوه قد تغير لونه وداخله الخوف، قالوا: لا تخف، وقوله تعالى فى قصة فرعون وردّ موسى عليه يجب تنزيله على ما ذكرناه: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ

تكميل

مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) [الشعراء: 23- 31] إلى قوله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فإن لفظ القول فيها خارج على تقدير سؤال، ولهذا جاء بغير واو لما ذكرناه. تكميل اعلم أن الجمل بالإضافة إلى كيفية وقوعها على ثلاثة أوجه؛ أولها جملة حالها مع ما قبلها، حال الصفة مع الموصوف، والتأكيد مع المؤكد، فلا يكون فيها عاطف البتة لتنزيلها مع ما قبلها منزلة الشىء الواحد، والشىء لا يجوز عطفه على نفسه، ومن أجل هذا قضوا عند شدة الامتزاج بالبدلية فى قولك: من يضحك يتهلل وجهه فله درهم ولهذا وجب جزم الثانى، وثانيها جملة حالها مع ما قبلها حال الاسم الذى قبله غيره، فى المشاركة، فكما تقول: قام زيد وعمرو، فتقع بينهما المشاركة فى القيام، فكذا تقول: قام زيد وقعد، فتقع بينهما المشاركة فى الإسناد إلى زيد، وما هذا حاله فلا بد فيه من ذكر العاطف حتى تقع المشاركة من أجله، وثالثها جملة حالها مع ما قبلها على الانقطاع من غير مشاركة، وعلى هذا يكون ذكر الجملة السابقة، وترك ذكرها سواء، فتكون بمنزلة الاسم مع اسم آخر لا رابطة بينهما، وهذا كما مثلناه فى قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14- 15] ويجب مع هذا ترك العاطف لأنه لا حاجة إليه، فهذا تمام ما أردنا ذكره فى هذا البحث، وبالله التوفيق. البحث الثانى فى ذكر ما يتعلق ب [الأحرف الجارة] اعلم أن وضع الحرف مطلقا هو دلالته على معنى فى غيره ولا يستقل بنفسه فى الدلالة، فأما وضع حروف الجر فإنما هو لاتصال معانى الأفعال بالأسماء، ويختلف ذلك الاتصال

الآية الأولى

باختلاف معانيها، وتحتها أسرار ولطائف، فالباء، للإلصاق، وللوعاء ولبيان الجنس إلى غير ذلك من المعانى، ولنذكر من ذلك ثلاث آيات من أجل التنبيه: الآية الأولى قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) [سبأ: 24] فانظر إلى براعة هذا المعنى المقصود وجزالة هذا الانتظام بمخالفة موقعى هذين الحرفين، فإنه إنما خولف بينهما فى التلبس بالحق والباطل، والدخول فيهما، وذلك من جهة أن صاحب الحق كأنه لمزيد قوة أمره، وظهور حجته، وفرط استظهاره راكب لجواد يصرفه كيف شاء، ويركضه حيث أراد، فلأجل هذا جعل ما يختص به معدى بحرف «على» الدال على الاستعلاء، بخلاف صاحب الباطل فإنه لفشله، وفرط قلقه، وضعف حاله، كأنه ينغمس فى ظلام، وموضع سافل لا يدرى أين يتوجه ولا كيف يفعل، فلهذا كان الفعل المتعلق بصاحبه معدى بحرف الوعاء، إشارة إلى ما ذكرناه، ويؤيد هذا ما ذكره الله تعالى فى سورة يوسف حيث قال: قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) [يوسف: 95] . الآية الثانية قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التوبة: 60] فهذه أصناف ثمانية، جعل الله الصدقات مصروفة فيهم لكونهم أهلا لها ومستحقين لصرفها، لكن الله تعالى خص المصارف الأربعة الأول باللام، دلالة على الملك والأهلية للاستحقاق، وعدل عن اللام إلى حرف الوعاء فى الأصناف الأربعة الأخر، وما ذاك إلا للإيذان بأن أقدامهم أرسخ فى الاستحقاق للصداقة، وأعظم حاجة فى الافتقار من حيث كانت دالة على الوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشىء فى الوعاء وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما فى فك الرقاب وفى الغرم من الخلاص عن الرق والدّين اللذين يشتملان على النقص، وشغل القلب، بالعبودية، والغرم، ثم تكرير الحرف فى قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قرينة مرجحة له على الرقاب والغارمين، وكان سياق الكلام يقتضى أن يقال: وفى الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل. فلما جىء ب «فى» مرة ثانية وفصل بها سبيل

الآية الثالثة

الله، علم أن السبيل آكد فى الاستحقاق بالصرف فيه من أجل عمومه وشموله لجميع القربات الشرعية والمصالح الدينية. الآية الثالثة قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء: 70] إنما أعرض عن ذكر حرف الاستعلاء وهو «على» وعدل عنه إلى حرف الوعاء وهو «فى» مع أن الظاهر هو العلو على الأرض والفلك، إعلاما بأن حرف الوعاء أقعد وأمكن ههنا من حرف الاستعلاء؛ لأن «على» تشعر بالاستعلاء لا غير من غير تمكن واستقرار، و «فى» تشعر ههنا بالاستقرار والتمكن، ومن حق ما يكون مستقرا فيه متمكنا أن يكون مستعليا له، فلما كانت تؤذن بالمعنيين جميعا آثرها وعدل إليها وأعرض عن «على» دلالة على المبالغة التى ذكرناها، وإنما ساوى فى ذكر «على» بين قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) [الملك: 22] لاستوائهما جميعا فى الدلالة على المبالغة؛ لأن كل من كان منهمكا فى الغى منغمسا فى غمرات الباطل، فهو فى التمثيل بمنزلة من ركب وجهه، وجعله مطية له يمتطيها إلى الوقوف عليه وإحرازه له، ومن كان على الحق فهو فى التمثيل بمنزلة من هو على طريق مستقيمة لا تعوّج به منتصب القامة، لا ينحنى فى صعود ولا هبوط، فلما كان فى كلتا حالتيه لا ينفك عن الركوب والاستعلاء إما لوجهه أو للطريق المستقيمة سوّى بينهما فى حرف الاستعلاء، وهذه لطائف دقيقة وأسرار غامضة يدريها من ضرب فى هذه الصناعة بعرق، وظفر فيها بحظ.

الفصل الرابع فى التقديم والتأخير

الفصل الرابع فى [التقديم والتأخير] اعلم أن الألفاظ تابعة للمعانى كما سنقرره فى خاتمة هذا الكتاب بمعونة الله تعالى، والمعانى لها فى التقديم أحوال خمسة: الحالة الأولى [تقدم العلة على معلولها] عند القائلين بها ، وهذا كتقدم الكون على الكائنية، والعلم على العالمية، وهكذا سائر العلل والمعلولات عند من أثبتها، وهم أكثر المعتزلة وطوائف من الأشعرية، فأما نحن فلا نراها، بل الكون هو نفس الكائنية، والعلم هو نفس العالمية، من غير أمر وراء ذلك، واستقصاء الرد على من أثبتها قد قررناه فى الكتب الكلامية، وأنهينا فيه القول نهايته، ونحو تقدم الأسباب على مسبباتها، وهذا نحو تقدم السراج على ضوئه، فإن تقدم هذه الموجبات على موجباتها يكون تقدما ذهنيا، لا زمانيا، لأن الموجب لا يتراخى عن موجبه. الحالة الثانية [التقدم بالذات] ، وهذا نحو تقدم الواحد على الاثنين على معنى أن الوحدة لا يمكن تحقق الاثنينية إلا بعد سبقها، وليس من باب العلة والمعلول، فإن الوحدة ليست علة فى الاثنينية بخلاف ما قررناه فى الحالة الأولى. الحالة الثالثة [التقدم بالشرف] ، وهذا نحو تقدم الأنبياء على الأتباع، والعلماء على الجهال، فهذا تقدم معقول يخالف ما تقدم. الحالة الرابعة [التقدم بالمكان] ، وهذا نحو تقدم الإمام على المأموم، ونحو تقدم من يقرب إلى الحائط دون من تأخر عنه، فمن يلى الحائط فإنه يقال: إنه سابق على من تأخر عنه، وهكذا القول فى غيره من الأمكنة. الحالة الخامسة [التقدم بالزمان] ، وهذا نحو تقدم الشيخ على الشاب، والأب على الابن، فإن الوالد

وجد فى زمان لم يوجد فيه الابن، فهذه المعانى كلها عقلية، فما كان منها متقدما على غيره بأحد هذه الاعتبارات كان فى العبارة كذلك إتباعا للمعانى بالألفاظ، ومن التقدم بالزمان قوله تعالى: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ [العنكبوت: 38] وهكذا قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] فإن الظلمة سابقة على النور؛ لأن الحق أن الظلمة هى عدم النور، وليست أمرا ثبوتيّا، فإذا كان الأمر فيها كما قلناه فلا شك أن عدم الشىء سابق على وجوده، لأن العدم بلا أول والوجود يتلوه، فلهذا كان تقدم الظّلم على الأنوار، من باب تقدم الأزمنة، وهكذا القول فى الظلمة المعنوية؛ لأنها إذا أريد بها الجهل والكفر فإنها تكون سابقة على النور المعنوىّ، وهو العلم، والإسلام، ويؤيد ما قلناه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [النحل: 78] فانتفاء العلم ظلمة معنوية مجازية، فهى متقدمة بالزمان على نور الإدراكات الخمسة كلها، وقوله تعالى: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6] يريد ظلمة البطن والرحم والمشيمة. ومن التقدم بالذات قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] وقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7] وهكذا القول فى مراتب الأعداد كلها، فإن كل واحدة منها سابقة على ما بعدها من المراتب سبقا ذاتيا، ومن التقدم بالسببية قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 24] ؛ لأن العزيز هو الغالب، ولأنه تعالى لما عز فى ذاته بالغلبة حكم على كل شىء، فلم يخرج عن حكمة ملكه خارج، ونحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] فالتوبة هى سبب التطهير من دنس الآثام كلها. وقوله تعالى وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7] فالإفك يكون سببا للإثم، فلهذا قدم عليه، فأما قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] فتقديم رِجالًا فيه وجهان؛ أحدهما أن يكون تقدما بالرتبة، فإن الغالب أن الرجالة إنما يأتون من الأمكنة القريبة، والركبان يأتون من الأمكنة البعيدة، فلهذا قدم الرجالة، وثانيهما أن يكون تقديم الرجالة لأجل الفضل، فإن من حج راجلا أفضل ممن حج راكبا، فلهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما: وددت لو حججت راجلا، فإن الله قدم الرجالة على الركبان فى القرآن. فدل ذلك على أنه فهم من التقديم فى الآية الفضل، فالمعنيان محتملان فى الآية كما

ترى، ومن التقديم فى الرتبة قوله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 11] فإن الهماز هو المغتاب، وهو لا يفتقر إلى مشى، بخلاف النميمة فإنها تفتقر إلى نقل الحديث من شخص إلى شخص، وما كان مجردا فهو سابق فى الرتبة على ما كان له تعلقات بغيره، وقوله تعالى مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ [القلم: 12] إنما قدم على قوله: مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم: 12] لما كان المنع مقصورا على نفسه والعدوان له تعلق بغيره، وهكذا قوله عُتُلٍ فإنه الفظّ الغليظ، والزنيم له تعلق بالغير من جهة أنه الدعى وهو المنسوب إلى غير أبيه فله تعلق بالغير. ومن التقدم فى الشرف قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6] وقوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] فإن الوجه أشرف من اليد، والرأس أفضل من الرجل، ومنه قوله النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء: 69] فإن النبى أشرف من الصديق وقوله: وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] فإن الشهداء أعلى درجة من غيرهم من أهل الصلاح، ومن هذا قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الملك: 23] وقوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ [الإسراء: 36] وقوله: سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] وقوله تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ [الأحقاف: 26] فأما تقديم الإنس على الجن فهو الأكثر الوارد فى القرآن من أجل شرفهم على الجن كقوله تعالى لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ [الرحمن: 74] وقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ [الرحمن: 39] وقوله تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الجن: 5] وغير ذلك، فأما قوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الرحمن: 33] فإنما ورد مقدّما ههنا على الإنس، من أجل اشتمالهم على الملائكة كما قال وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكما قال الأرحبى «1» : وسخّر من جنّ الملائك سبعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر فحيث كان متناولا للملائكة قدموا لفضلهم، وحيث كان الخطاب مقصورا على الثقلين قدم الإنس لفضلهم، والأجود أن يقال: إنما قدم الجن ههنا لما كان المقام مقام خطاب بامتثال الأوامر فى العبادة فى قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فقدمهم لما كانت المخالفة منهم فى ترك العبادة أكثر من

الإنس وقوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الرحمن: 33] إنما قدمهم لما كان المقام مقام تسلط واجتراء والجن، بذلك أحق فلهذا قدمهم، فأما قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14] فلأن الله تعالى لما صدّر الآية بذكر الحب، وكان المحبوب، مختلف المراتب متفاوت الدرج، اقتضت الحكمة الإلهية تقديم الأهم فالأهم من المحبوبات، فقدم النساء على البنين لما يظهر فيهن من قوة الشهوة ونزوع الطبع وإيثارهن على كل محبوب وقدم البنين على الأموال لتمكنهم فى النفوس واختلاط محبتهم بالأفئدة، وهكذا القول فى سائر المحبوبات، فالنساء أقعد فى البيوت، والبنون أقعد فى المحبة من الأموال، والذهب أكثر تمكنا من الفضة، والخيل أدخل فى المحبة من الأنعام، والمواشى أدخل من الحرث، فأما قوله تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] فإنما قدم الأموال ههنا لأنه فى معرض ذكر الافتتان، ولا شك أن الافتتان بالمال أدخل من الافتتان بالأولاد، لما فيه من تعجيل اللذة والوصول إلى كل مسرة والتمكن من البسطة والقوة، بخلاف آية القناطير، فإنه إنما قدم البنين فيها لما ذكرها فى معرض الشهوة وتمكين المحبة، ومما ينتظم فى سلك هذا العقد النفيس قوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26] فإنما قدم الطائفين لأن سياق الآية فى عظم العناية بالبيت والطائفون أقرب ما يكونون إليه، فلهذا قدمهم، ثم ثنى بالقائمين لأنه يلى الطواف فى الرتبة لأن القيام يشملهما جميعا، وإنما جمعا لأن الجمع أدل على العموم من المفرد، وإنما جمعا جمع السلامة لأن فى لفظ اسم الفاعل إشعارا بالتجدد والحدوث، كالفعل، فالطائفون والقائمون فى معنى يطوفون ويقومون، وإنما عدل إلى لفظ اسم الفاعل تجريدا له عن تعلق الأزمنة التى يدل عليها الفعل، وكان اسم الفاعل أحق لما فيه من الإشعار بالحدوث والتجدد، وتجرده عن الدلالة على الأزمنة، ثم ثلث بالركع السجود، وإنما جمعه جمع التكسير وعدل عن مشاكلته لما قبله من جمع السلامة، لما ذكرناه من أن جمع السلامة فى الطائفين والقائمين، فيه تنبيه على تجدد الطواف المختص بالبيت، والقيام، لأنه نوع منه، بخلاف الركوع والسجود، فإنهما لا يختصان بالبيت، بل كما يكونان فيه يكونان بغيره، ثم وصف الركع بالسجود، ولم يعطفه بالواو كما فعل بالقائمين. لأن الركع هم السجود، والشىء لا يعطف على نفسه، كما لا تقول: جاءنى زيد والكريم، على أن

التقرير الأول ما يجب تقديمه ولو تأخر لفسد معناه

يكون الكريم هو زيد، ولأن السجود قد يكون عبارة عن المصدر، فلو عطفه لأوهم كونه مصدرا والمراد الجمع، لا يقال: فهلّا قال: السّجّد، ليطابق قوله: الركع، كما جاء فى آية أخرى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح: 29] أو قال: الركوع ليطابق السجود، فما الوجه فى المخالفة بينهما، لأنا نقول: السجود يطلق على وضع الجبهة على الأرض، وعلى الخشوع، ولو قال: السجد، لم يتناول إلا المعنى الظاهر من غير إفادة الخشوع، ويصدق ذلك قوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح: 29] لما كان من رؤية العين، ورؤية العين لا تتعلق إلا بالظاهر، فقصد بذلك الإشارة إلى السجود المعنوى فالصورى، بخلاف الركوع، فإنه ظاهر فى أعمال الجوارح الظاهرة التى لا يشترط فيها البيت كما فى الطواف والقيام المتقدمين، دون أعمال القلب، فلأجل هذا جعل السجود وصفا للركّع، وإنما أراد الخشوع الذى هو روح الصلاة وكمالها، فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر ما يجب تقديمه، ولو أخر لفسد المعنى، وتغير، ثم نذكر ما يجوز تقديمه، ولو أخر لم تفسد المعنى فهذان تقريران: التقرير الأول ما يجب تقديمه ولو تأخر لفسد معناه ، ونذكر من ذلك صورا خمسا. الصورة الأولى [تقديم المفعول على فعله] كقولك: زيدا ضربت، فى ضربت زيدا، فإن فى قولك: زيدا ضربت تخصيصا له بالضرب دون غيره، بخلاف قولك: ضربت زيدا، وبيانه هو أنك إذا قدمت الفعل فإنك تكون بالخيار فى إيقاعه على أى مفعول أردت بأن تقول ضربت زيدا أو عمرا أو بكرا أو خالدا، وإذا أخرت الفعل وقدمت مفعوله فإنه يلزم الاختصاص للمفعول على أنك لم تضرب أحدا سواه، فأما قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فهل يكون تقديم المفعول به من أجل الاختصاص، أو من أجل المشاكلة لرءوس الآى، فيه مذهبان: المذهب الأول أن تقديم المفعول إنما كان من أجل الاختصاص، وهذا هو الذى أشار إليه الزمخشرى فى تفسيره، وهو رأى الأكثر من علماء البيان، وذلك لأن المفعول إذا تقدم لزم الاختصاص كما قلناه فى قولنا: زيدا ضربت، ولأجل ذلك تكون العبادة مختصة بالله تعالى لأجل التقدم، وعلى هذا ورد قوله تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ

الصورة الثانية تقديم خبر المبتدأ عليه

[الزمر: 66] ولم يقل: بل اعبد الله، لأجل الاختصاص، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] فتقدمه من أجل الاختصاص، وهذا فيه نظر لقوله تعالى لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ [قريش: 3] وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] وقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ [الحجر: 99] وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ [الحج: 77] ولو كان التقديم من أجل الاختصاص لوجب تقديمه فى هذه الآيات كلها، فلما ورد مؤخرا عن الفعل والمعنى واحد بطل ما قاله. المذهب الثانى أنه إنما قدّم من أجل المشاكلة لرءوس الآى، ومراعاة حسن الانتظام، واتفاق أعجاز الكلم السجعية؛ لأن قبله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] فلو قال: نعبدك، ونستعينك، لذهبت تلك الطلاوة، ولزالت تلك العذوبة، وهذا شىء يحكى عن بعض علماء البيان واختاره ابن الأثير، والمختار عندنا أنه لا منافاة بين الأمرين فيجوز أن يكون التقديم من أجل الاختصاص، والتشاكل، فيكون فى التقديم مراعاة لجانب اللفظ والمعنى جميعا، فالاختصاص أمر معنوى، والتشاكل أمر لفظى. وعلى هذا ورد قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى [طه: 67] وقوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) [الحاقة: 30- 31] ومنه قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى: 9- 10] وقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ [يس: 39] ولم يقل وقدّرنا القمر، ليطابق ما تقدم من الجمل الابتدائية فى قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: 37] وقوله وَالشَّمْسُ تَجْرِي [يس: 38] فبالتقديم تحصل ملاحظة الأمرين جميعا. الصورة الثانية [تقديم خبر المبتدأ عليه] فى نحو قولك: قائم زيد، فى: زيد قائم، فإنك إذا أخرت الخبر فليس فيه إلا الإخبار بأن زيدا قائم لا غير من غير تعرض لمعنى من المعانى البليغة، بخلاف ما إذا قدمته وقلت: قائم زيد، فإنك تفيد بتقديمه أنه مختص بهذه الصفة من بين سائر صفاته من الأكل، والضحك وغيرها، أو تفيد تخصيصه بالقيام دون غيره من سائر أمثاله، وتفيد وجها آخر وهو أنه يكون كلاما مع من يعرف زيدا وينكر قيامه فتقول: قائم زيد، ردا لإنكار من ينكره، ومن هذا قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر: 2] فإنما قدم قوله: مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ وهو خبر المبتدأ فى أحد وجهيه، ليدل بذلك على فرط اعتقادهم لحصانتها ومبالغة فى شدة وثوقهم بمنعها إياهم،

الصورة الثالثة فى تقديم الظرف وتأخيره

وأنهم لا يبالون معها بأحد، ولا ينال فيهم نيل، وفى تقرير ضمير (هم) اسما، وإسناد المنع والحصون إليهم، دلالة بالغة على تقريرهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة، لا ترمى حوزتهم، ولا يغزون فى عقر دارهم، ولو أخر الخبر لم يعط شيئا من هذه الفوائد، ومن هذا قوله تعالى فى قصة إبراهيم أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ [مريم: 46] فإنما قدم خبر المبتدأ ولم يقل: أنت راغب، ليدل بذلك على إفراط تعجبه فى الميل عنها، ومبالغة فى الاهتمام بأمرها، وواضعا فى نفسه أن مثل آلهته لا تنبغى الرغبة عنها ولا يصح الإعراض عن عبادتها، ومن رائق ذلك وبديعه قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97] فإنما قدمه ولم يقل: أبصار الذين كفروا شاخصة، لأمرين: أما أولا فلأنه إنما قدم الضمير فى قوله ليدل به على أنهم مختصون بالشخوص دون غيرهم من سائر أهل المحشر، وأما ثانيا فلأنه إذا قدم الخبر أفاد أن الأبصار مختصة بالشخوص من بين سائر صفاتها من كونها حائرة أو مطموسة أو مزورّة إلى غير ذلك من صفات العذاب، ولو قال: واقترب الوعد الحق فشخصت أبصارهم، لم يعط من هذه الأسرار معنى واحدا، ومن دقيق التقديم وغريبه قوله صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال مجيبا للسائل: (هو الطهور ماؤه والحل ميتته) وإنما قدم الخبر على المبتدأ فى الأمرين جميعا لغرضين؛ أما أولا فلأن يدفع بذلك إنكار من ينكر الحكمين جميعا؛ جواز التوضؤ وحل ميتته، لأنه ربما يسنح فى النفوس من أجل كونه زعاقا مختصا بالملوحة البالغة فلا يجوز التوضؤ به، وإن كان ميتا فلا يحل أكله لعدم الذكاة فيه، فقدم الخبر من أجل دفع ذلك وإزالته، وأما ثانيا فلأجل التنبيه على الاختصاص بكونه أخص الأمواه بجواز التوضؤ به لصفائه ورقته، وأن ميتته حلال لا يشوبها فى طيب المكسب، وحل التناول شائب، ولو قال فى الجواب: هو الذى ماؤه طاهر، وميتته حلال، نزل عن تلك الرتبة وفاتت عنه المزية. الصورة الثالثة فى [تقديم الظرف وتأخيره] اعلم أن الظرف لا يخلو حاله إما أن يكون واردا فى الإثبات، أو يكون واردا فى النفى، فإذا ورد فى الإثبات فتقديمه على عامله إنما يكون لغرض لا يحصل مع تأخيره فلا جرم التزم تقديمه؛ لأن فى تأخيره إبطالا لذلك الغرض، ثم هو على وجهين؛ أحدهما أن يكون

الصورة الرابعة الحال

واردا دلالة على الاختصاص، وهذا كقوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (63) [الشورى: 53] لأن المعنى أن الله تعالى مختص بصيرورة الأمور إليه دون غيره، ونحو قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الغاشية: 25- 26] وقوله تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1 [التغابن: 1] فهذه الظروف لا وجه لتقديمها على عاملها إلا ما ذكرناه من الاختصاص، وثانيهما أن يكون تقديمه من أجل مراعاة المشاكلة لرءوس الآى فى التسجيع، وهذا كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة: 22- 23] ليطابق قوله: باسِرَةٌ (24) [القيامة: 24] فاقِرَةٌ (25) [القيامة: 25] ونحو قوله وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) [القيامة: 29- 30] وقوله تعالى: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) [القيامة: 12] ليطابق قوله: بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) [القيامة: 13] ومثل قوله تعالى: وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) [مريم: 40] ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) [هود: 88] فهذا وأمثاله إنما قدم ليس من جهة الاختصاص، وإنما كان من أجل ما ذكرناه من المطابقة اللفظية فى تناسب الآى وتشاكلها، وقد يظن الظان أن تقديم الظرف إنما يكون مقصورا على الاختصاص، وليس الأمر كما ظنه كما حققناه، بل كما يحتمل المشاكلة كما أشرنا إليه فهو يحتمل الاختصاص، فهما محتملان كما ترى، والتحكم بأحدهما لا وجه له، وأما إذا كان واردا فى النفى فقد يرد مقدما، وقد يرد مؤخرا، فإذا ورد مؤخرا أفاد النفى مطلقا من غير تفصيل، وهذا كقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] فإنه قصد أنه لا يلصق به الريب ولا يخالطه، لأن النفى التصق بالريب نفسه، فلا جرم كان منتفيا من أصله، بخلاف ما لو قدم الظرف فإنه يفيد أنه مخالف لغيره من الكتب فإنه ليس فيه ريب، بل فى غيره كما لو قلت: لا عيب فى هذا السيف، فإنه نفى العيب عنه على جهة الإطلاق، بخلاف ما لو قلت: هذا السيف لا فيه عيب، ولهذا أخره ههنا وقدمه فى قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) [الصافات: 47] لأن القصد ههنا تفضيلها على غيرها من خمور الدنيا والمعنى أنه ليس فيها ما فى غيرها من الغول، وهو الخمار الذى يصدع الرءوس، أو يريد أنها لا تغتالهم بإذهاب عقولهم كما فى خمور الدنيا وَلا يُنْزِفُونَ (19) [الواقعة: 19] أى لا يسكرون، من الإنزاف وهو السكر. الصورة الرابعة [الحال] فإنك إذا قدمته فقلت: جاء ضاحكا زيد، فإنه يفيد أنه جاء على هذه الصفة

الصورة الخامسة الاستثناء

مختصا بها من غيرها من سائر صفاته، بخلاف ما لو قلت: جاء زيد راكبا، فإنه كما يجوز أن يجىء على هذه الصفة فإنه يجوز مجيئه على غيرها من الصفات فافترقا. الصورة الخامسة [الاستثناء] فى نحو قولك: ما ضربت إلا زيدا أحدا، فإنك إذا قدمته فإنه يفيد الحصر، وأنه لا مضروب لك سواه، وهكذا لو قلت: ما ضربت أحدا إلا زيدا؛ فالصورتان دالتان على الحصر لما كان الاستثناء متصلا بالمفعول، بخلاف قولك: ضربت زيدا، فإنه غير مفيد للحصر، فكما يجوز أن تضربه يجوز أن تكون ضاربا لغيره وهكذا القول فى غيره من المسائل فإنها تختلف حالها باختلاف التقديم والتأخير. التقرير الثانى فى بيان ما يجوز تقديمه ولو أخر لم يفسد معناه اعلم أن الشيئين إذا كان كل واحد منهما مختصّا بصفة تقتضى تقديمه على الآخر فأنت بالخيار فى تقديم أيهما شئت، وهذا كقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] فإنما قدم الظالم لنفسه لأجل الإيذان بكثرتهم وأن معظم الخلق على ظلم نفسه، ثم ثنى بعدهم بالمقتصدين لأنهم قليل بالإضافة إلى الظالمين، ثم ثلث بالسابقين وهم أقل من المقتصدين، فلا جرم قدم الأكثر، ثم بعده الأوسط، ثم ذكر الأقل آخرا لما أشرنا إليه، ولو عكست هذه القضية فقدم السابق لشرفه على الكل، ثم ثنى بالمقتصد لأنه أشرف ممن ظلم نفسه لم يكن فيه إخلال بالمعنى، فلا جرم روعى فى ذلك تقديم الأفضل فالأفضل، ومما ينسحب ذيله على ما قررناه من الضابط قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) [الفرقان: 49] فقدم حياة الأرض لأنها سبب فى حياة الخلق، فلأجل هذا قدمت لاختصاصها بهذه الفضيلة، ثم قدم حياة الأنعام على حياة الناس، لما فيها من المعاش للخلق والقوام لأحوالهم، فراعى فى التقديم ما ذكرناه، ولو قدم سقى الخلق على سقى الأنعام لاختصاصهم بالشرب، وقدم سقى الأنعام على الأرض لكان له وجه؛ لأن الحيوان أشرف من غيره، فكل واحد منهما مختص بفضيلة يجوز تقديمه لأجلها، فلأجل هذا ساغ فيه الأمران كما ترى، ومما نورده من ذلك

قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: 45] وإنما قدم الماشى على بطنه؛ لأنه لما صدر الآية بالإخبار على جهة التمدح بأنه خالق لكل دابة من المآء، فقدم فى الذكر من يمشى على بطنه؛ لأنه أدل على باهر القدرة وعجيب الصنعة من غيره، وثنى بمن يمشى منهم على رجلين؛ لأنه أدخل فى الاقتدار ممن يمشى على أربع، لأجل كثرة آلات المشى، فيكون التقديم على هذا من باب تقديم الأعجب فى القدرة فالأعجب، ولو عكس الأمر فى هذا فقدم الماشى على الأربع ثم ثنى بالماشى على رجلين؛ ثم ختمه بالماشى على بطنه لكان له وجه فى الحسن، وعلى هذا يكون تقديمه من باب الأفضل فالأفضل، لا يقال فأراه لم يقتصر على قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ [النور: 45] فيكون فيه وفاء بذكر الصنفين ويكون ما عداهما مندرجا تحتهما فيدخل تحت الأول من لا رجل له من حيوان البر والبحر، ويدخل تحت الثانى من يمشى على أكثر من رجلين؛ ولا حاجة إلى ذكر من يمشى على أربع لاندراجه تحت ما قبله، أو كان قد ذكر الأربع بذكر ما فوقها، فلم خص هذه الأنواع الثلاثة، لأنا نقول: إنما ذكر من يمشى على بطنه ولا بد من ذكره لما فيه من باهر القدرة، ولأنه غير مندرج تحت غيره، وخص من يمشى على رجلين؛ لأن من جملتهم بنى آدم، فخصهم بالذكر لما لهم من مزيد الشرف على سائر الحيوانات، ثم نبه بمن يمشى على أربع على سائر الحيوانات كلها، ولم يذكر ما زاد على ذلك؛ إما لأنه قليل بالإضافة إلى ذوات الأربع، وإما لأنه يدخل بطريق الأولى لأنه إذا جاز أن يمشى على أربع فمشيه على أكثر منها أدخل فى القدرة والجواز. ومن ذلك قوله تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [يونس: 61] وقال فى آية أخرى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] والتفرقة بينهما هو أنه أراد فى الثانية ذكر إحاطة علمه وشموله لكل المعلومات الجزئية والكلية، فلا جرم صدر بالسموات قبل الأرض لاشتمالها على لطائف الحكمة وعجائب الصنعة ومحكم التأليف وكثرة المعلومات، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ [الأنعام: 75] وأما الأولى فإنها كانت مسوقة من شأن أهل الأرض كما قال تعالى: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [يونس: 61] فقدم ذكر الأرض تنبيها

دقيقة

على ذلك لما كان له اختصاص به، وهكذا حال الآيات القرآنية فإن فيها لمن تأملها وأمعن نظره وحك قريحته، أسرارا علمية ولطائف إلهية، يدريها من أدمن فكرته فيها، وأتعب قلبه وخاطره فى إحراز معانيها. دقيقة اعلم أنه إذا كان مطلع الكلام فى إفادة معنى من المعانى ثم يجىء بعده ذكر شيئين، وأحدهما يكون أفضل من الآخر وكان المفضول مناسبا لمطلع الكلام، فأنت ههنا بالخيار، فإن شئت قدمت المفضول لما له من المناسبة لمطلع الكلام، وإن شئت قدمت الفاضل لما له من رتبة الفضل، وقد جاء فى التنزيل تقديم السماء على الأرض وتقديم الأرض على السماء، وكل واحد منهما تحته سر ورمز إلى لطائف غريبة، ومعان عجيبة، فعلى الناظر إعمال نظره فى استنباطها، وإمعان فكره فى استخراجها، فليجدّ النظار الممارسون، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون.

الفصل الخامس فى الإبهام والتفسير

الفصل الخامس فى [الإبهام والتفسير] اعلم أن المعنى المقصود إذا ورد فى الكلام مبهما فإنه يفيده بلاغة، ويكسبه إعجابا وفخامة، وذلك لأنه إذا قرع السمع على جهة الإبهام، فإن السامع له يذهب فى إبهامه كل مذهب، ومصداق هذه المقالة قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ثم فسره بقوله أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) [الحجر: 66] وهكذا فى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما فأبهمه أولا ثم فسره بقوله: بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] ففى إبهامه فى أول وهلة، ثم تفسيره بغير ذلك تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه، فإنه لو قال: وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع، وإن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا بعوضة، لم يكن فيه من الفخامة وارتفاع مكانه فى الفصاحة، مثل ما لو أبهمه قبل ذلك، ويؤيد ما ذكرناه هو أن الإبهام أولا يوقع السامع فى حيرة وتفكّر واستعظام، لما قرع سمعه فلا تزال نفسه تنزع إليه وتشتاق إلى معرفته والاطلاع على كنه حقيقته، ألا ترى أنك إذا قلت: هل أدلك على أكرم الناس أبا، وأفضلهم فعلا وحسبا، وأمضاهم عزيمة، وأنفذهم رأيا، ثم تقول: فلان- فإن هذا وأمثاله يكون أدخل فى مدحته مما لو قلت: فلان الأكرم الأفضل الأنبل، وما ذاك إلا لأجل إبهامه أولا، وتفسيره ثانيا، وكل ذلك يؤكد فى نفسك عظم البلاغة فى الكلام إذ أبهم أولا، ثم إنه فسر ثانيا، ثم فى إفادته لما يفيده من ذلك ضربان: الضرب الأول منهما ما يرد مبهما من غير تفسير، ووروده فى القرآن كثير، وهذا كقوله تعالى فى قصة موسى وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء: 19] فلم يذكر الفعلة بعينها مع كونها معلومة لما فى ذلك من المبالغة فى أمرها وتعظيم شأنها، كأنه قال: تلك الفعلة التى عظم أمرها، وارتفع شأنها، وكقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] يريد بذلك الطريقة أو الحالة أو الخصلة إلى غير ذلك من المحتملات المتعددة، وأى شىء من هذه الأمور قدّرته فإنك لا تجد له من البلاغة وإن بالغت فى الإفصاح به، الذى تجده من مذاق الفصاحة مع الإبهام، من جهة أن الوهم يذهب معه كل مذهب، لما فيه من المحتملات الكثيرة ومن هذا قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) [طه: 78] يريد أنه بلغ مبلغا تقاصرت العبارة عن كنهه فحذف ذاك وأقام الإبهام مقامه؛ لأنه أدل على البلاغة فيه كما قررناه، ومنه قوله تعالى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53)

فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) [النجم: 53، 54] فهذه أبلغ من الآية التى قبلها لأن إبهامها أكثر، فلهذا كان أبلغ وأوقع، ولهذا فإنه قال فى الأولى فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) [طه: 78] واليم هو البحر فصار الذى أصابهم من الألم والتعب إنما هو من البحر، خاصة لا من غيره، بخلاف الثانية، فإنه أبهم فيها الأمر الذى غشيها، ولم يخصه بجهة دون جهة، وهذا لا محالة يكون أبلغ؛ لأن الإنسان يرمى به خاطره فيه كل مرمى، ويذهب به كل مذهب. ومما يجرى هذا المجرى قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) [النجم: 10- 12] فأبهم الأمر فى هذه الأمور الثلاثة فيما شرح الله به صدره من العلوم الموحاة، وأن الفؤاد ما أنكر ما رأى من تلك العجائب الإلهية، ثم عقبه بالإنكار عليهم فى المماراة له فى الذى رآه، وما ذاك إلا لأنه قصد تعظيم حالها، وأنها بلغت فى الفخامة مبلغا لا تدركه العقول، كأنه قال: أوحى إلى عبده أمرا أى أمر، واللام فى الفؤاد للعهد؛ لأن المراد هو فؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كأنه قال: لا ينبغى لمثل ذلك الفؤاد أن يكذب ذلك الأمر، ولا يصلح فى مثل ذلك الأمر أن تقع فيه المماراة بحال. ومما يجرى على هذا الأسلوب قوله تعالى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا [طه: 69] كأنه قال: ألق هذا الأمر الهائل الذى فى يمينك، فإنه يبطل ما أتوا به من سحرهم العظيم، وإفكهم الكبير، وكما يرد على جهة التعظيم كما أشرنا إليه، فقد يكون واردا على جهة التحقير، كأنه قال: وألق العويد الصغير الذى فى يمينك، فإنه مبطل على حقارته وصغره ما أتوا به من الكذب المختلق والزور المأفوك، تهكما بهم، وإزراء بعقولهم، وتسفيها لأحلامهم، ومنه قوله تعالى فى المدح فَنِعِمَّا هِيَ [البقرة: 271] فإن هذا إبهام نزل منزلا عظيما فى إفادته المدح، وما ذاك إلا لأجل فخامته فى الإبهام، فلهذا أفاد البلاغة، ومواقعه فى القرآن أكثر من أن تحصى، ومحاسنه الكبرى أوسع من عديد الحصا، ومن الأمثلة الواردة فى السنة الشريفة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عش ما شئت فإنّك ميّت وأحبب من أحببت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» فهذا الإبهام إذا نظر فيه حاذق بصير، وفكر فيه ألمعى نحرير، وجده مع ما قد حاز من البلاغة مشتملا على مبان جمة، ونكت غزيرة، ومواعظ زاجرة، على تقارب أطرافه، وكثرة محاسنه وأوصافه، وقوله عليه السلام

«أحبب حبيبك هونا مّا عسى أن يكون بغيضك يوما مّا. وأبغض بغيضك هونا مّا عسى أن يكون حبيبك يوما مّا» فهذا من رشيق الإبهام وبديعه، ومن عجيب أمره، ودقيق سره، أنه أمره بالاعتدال فى حالتى الحب والبغض، ومجانبة الإفراط والتفريط، فقال: أحبب حبيبك على الهون من غير إفراط فى حبه، فلعلك أن ترجع عن ذلك فى بعض الأيام وإن قل، فأتى بالهون منكرا مبهما وباليوم منكرا مبهما، ليدل بهما على شدة المبالغة فى المفقود، وإنما قيد الأول بالهون والثانى باليوم على جهة الإبهام ولم يعكس الأمر فيهما؛ لأن الأول موجه على جهة الأمر، بخلاف الثانى، فلهذا أمره بالتهوين فى مبدأ الأمر، حبا كان أو بغضا من غير تهالك فيهما مخافة أن يبدو له خلاف ذلك فيصعب تداركه ويعظم تلافيه، فلا جرم قيد الأمر بالهون، لما كان ملابسا له، وقيد الرجوع باليوم، لما كان عائدا إليه، ولو عكس لم يعط هذا المعنى، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا تجاحفت قريش ملكها فاتركوه» . وفى حديث آخر: «خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا تجاحفت قريش الملك فلا تأخذوه فإنما هو رشوة» فالإبهام هو قوله: «ما كان عطاء» ، لاشتماله على مقاصد عظيمة، وفى هذا القدر كفاية من التمثيل بالكلام النبوى. ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى الإبهام قوله عليه السلام: أحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره. وفى هذا الكلام من الإعجاب ما لا يطلع عليه إلا الخواص، ولا يحيط بأسراره إلا كل غواص ويحار السامع له من أى شىء يعجب منه، هل من فصاحة لفظه؛ أو بلاغة معناه؛ أو من حسن سبكه أو من دقة مغزاه، ومنه قوله عليه السلام عند قراءة: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) [التكاثر: 1] يا مراما ما أبعده، وزورا ما أغفله. فانظر إلى مطلع هذا الوعظ ما فيه من الزجر والمبالغة فى الموعظة وقرع القلوب وإيقاظها من الغفلة، ومنه قوله عليه السلام: إنّ الرجل ليحزن على ما لم يكن ليدركه، ويفرح بما لم يكن ليفوته؛ فهذا أيضا من عظيم الإبهام، ومن جيد الإبهام قولهم: لو رأيت أمير المؤمنين وقد اعتقل القناة يجدل الأبطال، ويجول فى معترك القتال أىّ مجال. فهذا عموم وإبهام معط للبلاغة، وإن لم يكن فيه آلة الإبهام، فأما الأبيات الشعرية فكقول البحترى:

مبيد مقيل السر لا يدرك التى ... يحاولها منه الأديب المخادع فقوله: التى يحاولها. من الإبهام الذى لا تفسير له، ومن أبيات الحماسة «1» : صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلمّا علاه قال للباطل ابعد فقوله: صبا ما صبا، فيه من الإبهام البالغ ما لو تناهيت فى تفسيره فإنك لا تجد له من البيان مثل ما تجده فى إبهامه، وكقول بعض الشعراء فى صفة الخمر «2» : مضى بها ما مضى من عقل شاربها ... وفى الزجاجة باق يطلب الباقى والكلام على هذا البيت مثل ما مضى فى أمثاله، ومنه قول بعض المتأخرين: فؤاد فيه ما فيه. فهذا فيه غاية المبالغة لإبهامه، وكقول ابن الأثير فى بعض التقاليد: وأنت مؤهل لواحدة تجلو بها غرر الجياد، وتناديها العلياء بلسان الإحماد، وتفخر بها سمر الأقلام على سمر الصعاد، فقوله: لواحدة، فيه من الإبهام البالغ ما لا يقوم مقامه البيان، ومنه قول المتنبى «3» : خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... فى طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل فقوله: ما تراه، فيه إبهام عظيم، ومنه قولهم: بعد الّلتيا والّتى. فإن هذا واقع فى الإبهام أعظم موقع، وما حذفوا الصلة إلا من أجل إرادة الإبهام؛ لأن الصلة موضحة للموصول فى علم الإعراب، ولهذا توهم بعض النحاة لأجل إيضاحها للموصول، أنها هى المعرفة له، وكأنها بلغت مبلغا لا تطيق العبارة على وصفه، والأمثلة فى مثل هذا كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية وتنبيه على ما عداه. «الضرب الثانى» فى الإبهام الذى ظهر تفسيره، وهذا كقوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: 66] فقوله: ذلِكَ الْأَمْرَ مبهم، وقد فسره بقوله: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ وفى إبهامه أولا، ثم تفسيره ثانيا تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه، ولو قال من قال من أول وهلة: وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع، لم يكن فيه ما

كان مع الإبهام من الفخامة، وعلى نحو هذا ورد قوله تعالى: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) [طه: 36] إلى أن قال إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ [طه: 38- 39] فسر قوله: ما يُوحى (38) بقوله: أَنِ اقْذِفِيهِ ، فحصل فيه من البلاغة ما ترى، ومن هذا قوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً [العنكبوت: 14] وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ إلى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ (40) [غافر: 38- 40] ألا ترى أنه أبهم الرشاد كيف حاله، ثم أوضحه بعد ذلك بأن افتتح كلامه بذم الدنيا وتحقير شأنها، وتعظيم حال الآخرة والاطلاع على كنه حقيقتها، ثم ذكر الأعمال حسنها وسيئها وعاقبة كل شىء منها، ليرغب فى كل حسنة ويزهد عن كل سيئة، فكأنه قال: سبيل الرشاد ما اشتمل عليه هذا الشرح العظيم المحيط بالترغيب فيما يزلف والانكفاف عما يوهى ويتلف. ومن السنة الشريفة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أنبئكم بأمرين؛ خفيفة مؤنتهما، عظيم أجرهما، لن يلقى الله بمثلهما» . ثم قال بعد ذلك تفسيرا لهما: «الصمت وحسن الخلق» . وقوله عليه السلام: «ألا أدلكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم» ، قالوا: نعم، قال: «أفشوا السلام» ، فانظر إلى تفسير ما أبهم فى هذين الخبرين، ما أعظم ما اشتمل عليه من البلاغة، وفى حديث آخر «ألا أدلكم على أخسر الناس صفقة» قالوا: نعم، قال: «من باع آخرته بدنيا غيره» . ولهذا باب واسع الخطو فى القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن أمرهما مبنى على البلاغة، وهذا الباب موقع عظيم فى الدلالة عليها. ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه: «إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع» . فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه، ووضعها بين أذنيه وعينيه، ثم قال: «الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت» فليتأمل المتأمل هذا الإبهام اللطيف الذى يعجز عنه أكثر الخليقة، ولا يدرى بكنهه إلا من رسخت قدمه فى علم البلاغة، ولقد سبق أمير المؤمنين إلى غايتها وما صلّى، وفاز فيها بالنصيب الأوفر والقدح المعلى، وبرز فيها على الأقران، وفاز بالخصل من بين سائر الفرسان.

الفصل السادس فى الإيجاز والحذف، ويقال له: الإشارة

الفصل السادس فى [الإيجاز والحذف، ويقال له: الإشارة] أيضا، يقال: أوجز فى كلامه، إذا قصره، وكلام وجيز أى قصير، ومعناه فى اصطلاح علماء البيان: هو اندراج المعانى المتكاثرة تحت اللفظ القليل، وأصدق مثال فيه قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] فهاتان الكلمتان قد جمعتا معانى الرسالة كلها، واشتملت على كليات النبوة، وأجزائها، وكقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف: 199] فهذه الكلمات على قصرها وتقارب أطرافها قد احتوت على جميع مكارم الأخلاق، ومحامد الشيم، وشريف الخصال، وهذا هو المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم» فالكلم جمع كلمة، والجوامع جمع جامعة، كضاربة وضوارب، والغرض بما قاله هو أنه عليه السلام مكن من الألفاظ المختصرة التى تدل على المعانى الغزيرة، وأنت إذا فكرت فى كلامه وجدت جل كلماته جارية هذا المجرى، ولهذا فإن الناظرين فى السنة النبوية الدالة على الأحكام الشرعية، والحكم الأدبية لا تزال المعانى المستخرجة منها غضة طرية على تكرر الأعوام وتطاول الأزمان، ومع ذلك فإنهم ما أحاطوا بغايتها ولا بلغوا نهايتها، وهذا كقوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام» . فإن هذه الكلمة مشتملة على معان شرعية، وآداب حكمية تزيد على الحد وتفوت على العبد، وهكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الخراج بالضّمان» فإن تحته أسرارا فقهية، وبدائع علمية، تشتمل عليها كتب الفقه، ومن ثم اتسع نطاق الاجتهاد وعظمت فوائده، فحصل من هذا أن الإيجاز من أعظم قواعد البلاغة، ومن مهمات علومها، ومواقعه فى القرآن أكثر من أن تحصى، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن جماعة من علماء البيان زعموا أن الكلام قسمان؛ فمنه ما يحسن فيه الإيجاز والاختصار، وهذا نحو الأشعار، والمكاتبات، وأنواع التصانيف فى العلوم والآداب، ومنه ما يحسن فيه التطويل، وهذا نحو الخطب وأنواع الوعظ التى تفعل من أجل العوام فإن الكلام إذا طال أثر ذلك فى قلوبهم، وكانوا أسرع إلى قبوله، واعتلوا بأنه لو اقتصر على الإيجاز والاختصار فإنه لا يقع لأكثرهم نفع، ولا يجدى ذلك فى حقه، وهذا فاسد لا وجه له، فإن الإيجاز الذى لا يخل بمعانى الكلام هو اللائق بالفصاحة والبلاغة وعلى هذا ورد التنزيل، والسنة النبوية، وكلام أمير المؤمنين، وغير ذلك من فصيح كلام العرب، فإنه مبنى على الإيجاز الدال على المعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة، وما زعموه من إفهام العامة فإن إفهامهم ليس

شرطا معتبرا ولا يعول عليه، ولو جاز ترك الإيجاز البليغ لأجل إفهام العوام لجاز ترك الألفاظ الفصيحة والإتيان فى الكلام بالألفاظ العامية المألوفة عندهم، فكما أن هذا ليس شرطا فهكذا ما ذكروه ولقد صدق من قال فى هذا المعنى: على نحت القوافى من مقاطعها ... وما علىّ إذا لم تفهم البقر وإنما الذى يجب مراعاته ويتوجه إليه قصده، هو الإتيان بالألفاظ الوجيزة الفصيحة، والتجنب للألفاظ الوحشية مع الوفاء فى ذلك بالإبانة والإفصاح، وسواء فهم العوام أم لم يفهموا، فإنه لا عبرة بهم ولا اعتداد بأحوالهم ولا يضر الكلام الفصيح عدم فهمهم لمعناه، ولهذا فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون نقصا فى وضوحه وجلائه، وإنما النقص فى بصر الأعمى حيث لم يدركه، ولهذا فإن الله تعالى ما خاطب بفهم معانى كتابه الكريم إلا الأذكياء، وأعرض عن البله من العوام وشبّههم فى العمى والبلادة بالأنعام حيث قال: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) [الأعراف: 179] والتطويل نقيض الإيجاز، وهو مخالف لجانب البلاغة، وبمعزل عن مقاصد الفصاحة، وحاصله أن تورد ألفاظا فى الكلام إذا أسقطت بقى على حاله فى الإفادة، وأكثر ما يكون فى الأشعار فإنها تورد من أجل الاستقامة فى الوزن، كلفظ «لعمرى» فى قول أبى تمام: أقرّوا لعمرى بحكم السيوف ... وكانت أحقّ بفصل القضا ونحو لفظ «الغداة» فى قوله أيضا «1» : إذا أنا لم ألم عثرات دهر ... بليت به الغداة فمن ألوم فقوله: لعمرى، والغداة، فصلان زائدان لا حاجة إليهما إلا من أجل استقامة الوزن، وصحته، وكلفظ «يا صاحبى» فى قول البحترى ما أحسن الأيام إلّا أنّها ... يا صاحبى إذا مضت لم ترجع فقوله: «يا صاحبى» لغو لافائدة تحته سوى ما ذكرناه من تحسين لفظ البيت وتجويده، وهكذا القول فيما أشبهه، وهو خلاف ما عليه كلام البلغاء فإن من شأن الفصاحة أن تكون الألفاظ مطابقة لمعانيها المقصودة لها من غير زيادة فيها ولا نقصان، وإذ قد فرغنا عما نريده من ذكر ديباجة الإيجاز فلنرجع إلى مقاصده.

القسم الأول فى بيان الإيجاز بحذف الجمل

اعلم أن مدار الإيجاز على الحذف؛ لأن موضوعه على الاختصار، وذلك إنما يكون بحذف ما لا يخل بالمعنى، ولا ينقص من البلاغة، بل أقول: لو ظهر المحذوف لنزل قدر الكلام عن علو بلاغته، ولصار إلى شىء مسترك مسترذل، ولكان مبطلا لما يظهر على الكلام من الطلاوة والحسن والرقة، ولابد من الدلالة على ذلك المحذوف، فإن لم يكن هناك دلالة عليه فإنه يكون لغوا من الحديث، ولا يجوز الاعتماد عليه، ولا يحكم عليه بكونه محذوفا بحال، ويظهر المحذوف من جهتين؛ إحداهما من جهة الإعراب على معنى أن الدال على المحذوف هو من طريق الإعراب، وهذا كقولك: أهلا وسهلا، فإنه لابد لهما من ناصب ينصبهما يكون محذوفا لأنهما مفعولان فى المعنى، وثانيهما لا من جهة الإعراب، وهذا كقولنا: فلان يعطى ويمنع، ويصل ويقطع، فإن تقدير المحذوف لا يظهر من جهة إعرابه، وإنما يكون ظاهرا من جهة المعنى؛ لأن معناه فلان يعطى المال، ويمنع الذمار، ويصل الأرحام، ويقطع الأمور برأيه ويفصلها، ثم الإيجاز تارة يكون بحذف الجمل، ومرة بكون بحذف المفردات، وأخرى من غير حذف، فهذه ثلاثة أقسام يندرج تحتها جميع ما نريده من أسرار الإيجاز: القسم الأول فى بيان [الإيجاز بحذف الجمل] اعلم أن حذف الجمل له فى البلاغة مدخل عظيم، وأكثر ما يرد فى كتاب الله تعالى، وما ذاك إلا من أجل رسوخ قدمه، وظهور أثره، واشتهار علمه، ويرد على ضروب أربعة: الضرب الأول: منها [حذف الأسئلة المقدّرة] ، ويلقب فى علوم البيان بالاستئناف، ثم هو يجرى على وجهين: الوجه الأول: أن يكون استئنافا بإعادة الصفات المتقدمة ، ومثاله قوله تعالى فى صدر سورة البقرة: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 2- 3] إلى قوله: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] لأنه لما عدد صفات المتقين بالإيمان بالغيب، وبإقامة الصلاة، وبالإنفاق، إلى آخر ما قرره من صفاتهم الحسنة، اتّجه لسائل أن يسأل بأن هؤلاء قد اختصوا بهذه الصفات، فهل يختصون بغيرها، فأجيب عنه بأن الموصوفين بما تقدم من

الوجه الثانى: أن يكون الاستئناف واقعا بغير الصفات

الصفات هم المستحقون للفوز بالهداية عاجلا وللفلاح آجلا. الوجه الثانى: أن يكون الاستئناف واقعا بغير الصفات ، ومثاله قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) [يس: 22] إلى قوله: فَاسْمَعُونِ (35) [يس: 25] فموقع الاستئناف هو قوله تعالى قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس: 26] لأن ما هذا حاله من مظان السؤال، كأن سائلا قال كيف حال هذا الرجل الذى آمن بالله ولم يعبد إلها غيره وأخلص فى عبادته عند لقاء ربه بعد التصلب فى دينه والسخاء له بروحه، فقيل. «قيل ادخل الجنة» ، وطرح الجار والمجرور، ولم يقل: قيل له، لانصباب القصد إلى القول، لا إلى المقول له مع كونه معلوما، فلهذا لم يذكره من أجل ذلك، وله أمثلة كثيرة، وفيما ذكرناه تنبيه على ما عداه. «الضرب الثانى» أن يكون [الحذف من جهة السبب] ، لأنه لما كان السبب والمسبب متلازمين، فلا جرم جاز حذف أحدهما وإبقاء الآخر، فهذان وجهان. الوجه الأول: [حذف المسبب وإبقاء ما هو سبب فيه] ، دلالة عليه، ومثاله قوله تعالى وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ [القصص: 44- 45] والمعنى فى هذا «ما كنت شاهدا حال موسى فى إرساله، وما جرى له وعليه، ولكنا أوحينا إليك» ، فذكر سبب الوحى الذى هو إطالة الفترة ودل به على المسبب وهو الوحى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الجارى فى أساليب التنزيل فى الاختصار، فعلى هذا يكون التقدير ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى موسى إلى زمانك قرونا كثيرة فتطاول على القرون الذى أنت منهم العمر، أى أمد انقطاع الوحى فاندرست أعلام النبوة، وامّحت آثار العلوم، فوجب من أجل ذلك إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرّفناك أحكام التحليل والتحريم وأخبرناك بقصص الأنبياء وعلوم الحكم والآداب. فالمحذوف هى هذه الجملة الطويلة بدلالة السبب عليها كما ترى. وهكذا قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [القصص: 46] فذكر الرحمة التى هى السبب فى إرساله إلى الخلق، ودل بها على المسبب، وهو الإرسال. الوجه الثانى: [حذف السبب وإبقاء المسبب] ، دلالة عليه ومثاله قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) [النحل: 98] والمعنى «إذا أردت القراءة»

الضرب الثالث: الحذف الوارد على شريطة التفسير

فاكتفى بذكر المسبب الذى هو القراءة عن السبب الذى هو الإرادة وهكذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] والمعنى إذا أردتم القيام، فوضع مسبّبها مكانها ودل به عليها، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم إلى الصّلاة فليتوضّأ» يريد إذا أراد أحدكم؛ لأن الفعل مسبّب عن الإرادة، ومن هذا قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] والمعنى «فضرب فانفجرت» وأمثال ذلك كثيرة. الضرب الثالث: [الحذف الوارد على شريطة التفسير] ، وتقرير هذا أن تحذف جملة من صدر الكلام، ثم يؤتى فى آخره بما له تعلق به، فيكون دليلا عليه، ثم إنه يرد على أوجه ثلاثة، أولها: أن يكون واردا على وجه الاستفهام، وهذا كقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] لأن التقدير فى الآية أفمن شرح الله صدره كمن جعل قلبه قاسيا، وقد دل عليها بقوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وثانيها: أن يكون واردا على جهة النفى والإثبات ومثله قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الحديد: 10] لأن تقدير الآية لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، وقد دل على هذا المحذوف بقوله: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وثالثها: أن يكون واردا على غير هذين الوجهين، وهذا كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) [المؤمنون: 60] فالمعنى فى الآية والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القرب الخالصة لوجه الله تعالى: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أى خائفة من أن ترد عليهم صدقاتهم فحذف قوله ويخافون أن ترد عليهم هذه النفقات، ودل عليه بقوله: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ فظاهر الآية أنهم وجلون من الصدقة وليس وجلهم لأجل الصدقة، وإنما وجلهم لأجل خوف الرد المتصل بالصدقة، وعلى هذا المعنى يحمل قول أبى نواس: سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن فحذف الاستكانة من الأول وذكرها فى المصراع الثانى، لأن التقدير، سنة العاشقين واحدة وهى أن يستكينوا ويتضرعوا، فإذا أحببت فاستكن، ونحو هذا ما قال أبو تمام: يتجنّب الآثام ثمّ يخافها ... فكأنما حسناته آثام

الضرب الرابع: ما ليس من قبيل الاستئناف، ولا من جهة التسبب، ولا من الحذف على شريطة التفسير

والتقدير فيه أنه يتجنب الآثام فإذا تجنبها فقد أتى بحسنة ثم يخاف أن لا تكون تلك الحسنة مقبولة، فكأنما حسناته آثام. فلم يخف الحسنة لكونها حسنة، وإنما خاف ما يتصل بها من الرد فكأنها مخوفة كما تخاف الآثام، وهذا يأتى على طبق الآية ووفقها، وهذا من بديع الأسرار والمعانى التى فاق بها على نظرائه أبو تمام وابن هانىء، وحكى عن ابن الأثير أنه سئل عن هذا البيت، وقيل كيف تكون حسناته آثاما، وكيف ينطبق صدر البيت على عجزه فتحير فيه ثم فكر، ونزّله على ما ذكرناه. الضرب الرابع: ما ليس من قبيل الاستئناف، ولا من جهة التسبب، ولا من الحذف على شريطة التفسير ، وهذا فى القرآن كثير الورود، وخاصة فى سورة يوسف، فإنها مشتملة على الإيجاز البالغ بالحذف وغيره، ومنها قوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ [يوسف: 47] إلى قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ 49 [يوسف: 49] ثم قال: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي [يوسف: 50] فإنه قد حذف من هذا الكلام جملة مفيدة، تقديرها فرجع الرسول إليهم فأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها، أو فصدقوه عليها، وقال الملك ائتونى به، وفى قصة. بلقيس. فى قوله: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا [النمل: 28] إلى قوله: فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) [النمل: 28] ثم قال بعد ذلك: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) [النمل: 29] وفى هذا حذف، تقديره فأخذ الكتاب فذهب به، فلما ألقاه إلى بلقيس وقرأته، قالت يأيها الملأ إنى ألقى إلى كتاب كريم. ومما ورد على هذا المعنى قول أبى الطيب المتنبى «1» : لا أبغض العيس لكنى وقيت بها ... قلبى من الهم أو جسمى من السقم وهذا البيت فيه محذوف، تقديره لا أبغض العيس لما يلحقنى بسببها من ألم السفر ومشقته، ولكن وقيت به كذا وكذا، وهو من الشعر الذى يحير الأفهام عجبا، ويهز الأعطاف طربا، ومن الحذف قول القائل «الله أكبر» لأن التقدير الله أكبر من كل شىء، وعلى هذا ورد قول البحترى: الله أعطاك المحبّة فى الورى ... وحباك بالفضل الذى لا ينكر ولأنت أملأ فى العيون لديهم ... وأجلّ قدرا فى الصدور وأكبر فالتقدير فيه أملأ فى العيون من غيرك، وأجلّ، وأكبر ممن سواك، والحذف فى الجمل واسع، وفيما ذكرناه كفاية فى التنبيه على غيره.

القسم الثانى فى بيان الإيجاز بحذف المفردات

القسم الثانى فى بيان [الإيجاز بحذف المفردات] اعلم أن الإيجاز بحذف المفردات أوسع مجالا من حذف الجمل، لأن المفردات أخف فى الاستعمال، فلهذا كثر فيها، ويضبطه فى غرضنا أنواع سبعة. النوع الأول منها [حذف الفعل وما يتعلق به] من فاعله، ومفعوله، وكل واحدة من هذه قد تطرّق إليها الحذف على حياله، فهذه صور ثلاث، نذكر ما يتعلق بالكلام فيها. الصورة الأولى [حذف الفعل بانفراده] إما على أن يبقى فاعله دليلا عليه، وهذا كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا [الحجرات: 5] أعنى ولو ثبت أنهم صبروا، كقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6] والتقدير فيه، وإن استجارك أحد من المشركين، وغير ذلك، وإما على أن يبقى مفعوله دليلا عليه وهذا كقولهم: «أهلك والليل» أى بادر أهلك، وبادر الليل أن يحول بينك وبينهم، وكقوله تعالى: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) [الشمس: 13] الغرض احذروا ناقة الله، وما جاء فى حديث جابر رضى الله عنه لما سأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل تزوجت، فقال له «نعم» فقال: بكرا أم ثيبا، فقال بل ثيب فقال: «هلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» ومن حذف الفعل حذفا لازما فى المصادر كقولك: حمدا وشكرا، وما ذاك إلّا لأنهم جعلوا هذه المصادر عوضا عن أفعالها، فلا جرم التزموا حذفها معا، وهذا يكون على طريقة السماع، ومن حذف الفعل على جهة القياس ما ورد على جهة التشبيه كقولك: مررت به فإذا له صوت صوت حمار وصراخ صراخ الثكلى، وما ورد على جهة التثنية كقولك: «لبيك، وسعديك ودواليك» ، إلى غير ذلك من المصادر المثنّاة، إلى غير ذلك من الأمور القياسية، وقد فصلناها تفصيلا شافيا فى شرحنا لكتاب المفصّل، ومن حذف الفعل قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] لأنه لما قال: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) [الإسراء: 70] كأن قائلا قال متى يكون التفضيل الأكثر، قيل يوم ندعو كل أناس، ومن حذف الفعل قوله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس: 71] والتقدير فيه وادعوا شركاءكم، ويؤيد ما قلناه قراءة أبىّ فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم وإذا كان ههنا قراءة لها تأويلان، وكان

الصورة الثانية: حذف الفاعل،

أحد التأولين تعضده قراءة أخرى وجب حملها على التأويل المعضود بقراءة أخرى، ولا يكون. شركاءكم عطفا، لأنه لا يقال أجمعت شركائى وإنما يقال أجمعت أمرى، لأن معنى أجمع الأمر، نواه وعزم عليه، وحذف الفعل كثير فى القرآن وحذفه إنما يكون على جهة الإيجاز بالحذف من أجل البلاغة. الصورة الثانية: [حذف الفاعل] ، وحذفه إنما يكون إذا دلت عليه دلالة، وقد منع الشيخ عثمان بن جنى من النحاة حذف الفاعل، ونص على استحالة ذلك، والمختار هو المنع من حذفه من غير دلالة تدل عليه حالية أو مقالية، فأما مع القرينة، فلا يمتنع جوازه، ويدل على حذفه قوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) [القيامة: 26] فحذف فاعل بلغت والغرض النفس، وليس مضمرا لأنه لم يتقدم له ظاهر يفسره، وإنما دلت القرينة الحالية عليه، لأنه فى ذكر الموت ولا يبلغ التراقى عند الموت إلّا النفس، وقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] فى قراءة من قرأ بينكم بالنصب، والمراد لقد تقطّع الأمر بينكم، وقوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) [يوسف: 35] والغرض ثم بدا لهم أمر، وقول حاتم «1» . أماوىّ ما يغنى الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر ومنه قول العرب «أرسلت المطر» والمراد أرسلت السماء المطر، وهذه الكلمة إنما تقال عند نزول المطر، فدل ظاهر القرينة الحالية على ذلك، فإذن لا وجه لكلام ابن جنى فى المنع من حذف الفاعل مع هذه الشواهد. الصورة الثالثة: [حذف المفعول] ، والحذف فيه قد يكون على وجهين، أحدهما أن يحذف على جهة الاطّراد، وينسى فعله، ويجعل كأنه من جملة الأفعال اللازمة، لأن الغرض هو ذكر الفعل دون متعلّقه، ومن هذا قولهم فلان يعطى ويمنع، ويصل ويقطع، ويحل ويعقد، وينقض ويبرم، وينفع ويضر، فلما كان المقصود ذكر الفعل على جهة الإطلاق لم يحتج إلى ذكر مفعوله ومتعلّقه، وعلى هذا ورد قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) [النجم: 43- 44] وثانيهما أن يحذف من جهة اللفظ ويراد من طريق المعنى والتقدير، وهذا كقوله تعالى فى قصة موسى مع بنتى شعيب، فإنه حذف المفعول فى

النوع الثانى حذف الإضافة،

أربع جمل، فقال: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما [القصص: 22- 23] التقدير يسقون مواشيهم، وامرأتين تذودان أغنامهما فسقى لهما مواشيهما، بعد قولهما لا نسقى مواشينا، ومن هذا قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ [البقرة: 20] اى لو شاء أن يذهب لأذهب، وقوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس: 99] وغير ذلك من آيات المشيئة والإرادة، فإن حذف المفاعيل فيها كثير الجريان والورود، ومن هذا قول أبى عبادة البحترى «1» : ولو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد ولا تكاد ترد مفاعيل المشيئة إلّا فى الأشياء المستغربة المتعجّب من حالها كقوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً [الأنبياء: 17] وقوله تعالى لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ [الزمر: 4] . النوع الثانى حذف الإضافة، ووروده يكون على أوجه ثلاثة، أولها [حذف المضاف] نفسه، وهذا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ [يوسف: 82] أى أهل القرية وأهل العير، وقوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى [البقرة: 189] أى بر من اتقى وقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء: 96] والمراد سدّهما، ومن أبيات الحماسة ما قاله بعض الشعراء «2» : إذا لاقيت قومى فاسأليهم ... كفى قوما لصاحبهم خبيرا هل اعفو عن أصول الحق فيهم ... إذا عثروا وأقتطع الصدورا أراد أنه يقتطع أو غار الصدور وضغائنها وأحقادها، أى يزيلها بعفوه وصفحه وكرمه، وحذف المضاف كثير الدّور والجرى فى كلام الله تعالى وكلام الفصحاء، وحكى عن أبى

ثانيها حذف المضاف إليه،

الحسن الأخفش أنه يقره حيث ورد ولا يقاس عليه، وما قاله الأخفش جيد لا غبار عليه، لأنه من المحذوفات المجازية، ومن حق المجاز أن يقر حيث ورد، فلا يجوز أن يقال: أكلت السّفرة، أى طعام السفرة. ولا أن يقال واسأل الأفراس، أى أهلها. وثانيها [حذف المضاف إليه] ، وهو يأتى على القلة والندرة، وهذا كقوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: 3] أى من قبل الأشياء ومن بعدها، ومن هذا قولهم يومئذ، وحينئذ، وساعتئذ، قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) [الزلزلة: 4] فحذف الجملة المتقدمة المضاف إليها «إذ» وعوض التنوين عنها، فما هذا حاله، هل يعد من الإيجاز؛ أو لا، والأقرب عده من الإيجاز لأنه وإن كان قد عوض من الجمل المتقدمة، التنوين، لكنه يكون إيجازا لا محالة، لأنه حذفت هذه الجمل الطويلة وأقيم حرف واحد مقامها، وأى إيجاز أبلغ من هذا الإيجاز، وأدخل منه فى البلاغة، والتفرقة بين المضاف نفسه، والمضاف إليه فى الحذف حيث كان حذف المضاف إليه على القلة، وحذف المضاف نفسه كثير الوقوع، هو أن المضاف إليه يكتسى منه المضاف تعريفا، وتخصيصا فحذفه لا محالة يخل بالكلام لإذهاب فائدته بخلاف المضاف نفسه، فإنه لا يخل حذفه من جهة أن المضاف إليه يذهب بفائدته، ويقوم مقامه. وثالثها [حذفهما جميعا] وهذا نادر أيضا، ومن أمثلته قوله تعالى فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه: 96] أى من أثر حافر فرس الرسول، ولا يكاد يوجد إلا حيث دلالة الكلام عليه. النوع الثالث حذف الموصوف دون صفته وإقامتها مقامه، وحذف الصفة دون موصوفها، فهذان وجهان يرد الحذف فيهما، الوجه الأول: [حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه] ، وهذا كثير الدور والجرى فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) [ص: 52] أى حور قاصرات الطرف، وقوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء: 59] مبصرة، أى آية مبصرة ولم يرد الناقة، فإنها لا معنى لوصفها بالبصر، وإنما أراد أنها معجزة واضحة لم يفكّر فيها، وأكثر ما يرد حذف الموصوف فى النداء فى نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ ، يا أَيُّهَا النَّبِيُ [التحريم: 1] ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التحريم: 8] ، ومن حذف الموصوف قول البحترى:

الوجه الثانى حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها

فى اخضرار من اللباس على اص ... فر يختال فى صبيغة ورس أراد على فرس أصفر فحذفه للعلم به. الوجه الثانى [حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها] ، وهذا يكون على القلة، ولا يكاد يقع فى الكلام إلا نادرا، فمن ذلك ما قاله شيخ الصناعة فى الإعراب «سيبويه» حكاية عن العرب «سير عليه ليل» وهم يريدون، ليل طويل، ومن ذلك أن يتقدم مدح إنسان والثناء عليه فتقول بعد ذلك، «كان والله رجلا» أى فاضلا جوادا كريما، وهكذا تقول «سألناه فوجدناه إنسانا» أى عالما خبيرا بالعلوم، والتفرقة بين الصفة والموصوف حيث كان حذف الموصوف أكثر دون صفته، هو أن الصفة من حقها أن تأتى من أجل إيضاح الموصوف وبيانه، فلما كانت الصفة مختصة بالإيضاح والبيان، كثر لا شك قيامها مقام الموصوف، بخلاف الموصوف، فإنه يكثر إبهامه من غير ذكر الصفة، فلا جرم كان قيامه مقام الصفة قليلا نادرا يرد حيث ذكرناه. النوع الرابع حذف الحروف، ولما كانت أحرف المعانى كثيرة الدور والاستعمال فى الكلام، توسعوا فى الإيجاز بحذفها، وذلك يأتى على أوجه. أولها [حذف «لا» ] من الكلام وهى مرادة ، وذلك كقوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف: 85] أراد لا تفتأ ومعناه لا تزال، فحذفت توسعا وإيجازا وهى مرادة، وعلى هذا ورد قول امرىء القيس «1» : فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسى لديك وأوصالى أى لا أبرح، فحذفت وهى مرادة، وكقول أبى محجن الثقفى لما نهاه سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه عن شرب الخمر وهو يومئذ فى قتال الفرس بالقادسية: رأيت الخمر صالحة وفيها ... مناقب تهلك الرجل الحليما فلا والله أشربها حياتى ... ولا أسقى بها أبدا نديما وثانيها [حذف الواو] وإثباتها فى الكلام فمتى وجدت فى الكلام فإنها تؤذن بالتغاير بين الجملتين، لأن الواو تقتضى المغايرة، ومتى كانت محذوفة فإنها تدل على البلاغة بالإيجاز،

وتصير الجملة جملة واحدة، ويصدّق ما قلناه حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينامون ثم يصلون لا يتوضئون» وفى حديث آخر بإثبات الواو. وفى قوله: «ولا يتوضئون» فالواو دالة على انفصال الجملة عما قبلها وعلى مغايرتها له، وحذف الواو فيه دلالة على اتصال الجملة الثانية بالأولى والتحامها بها، حتى كأنها أحد متعلقاتها؛ لأنها إذا كانت الواو محذوفة فيها كانت فى موضع نصب على حال، وكان الجملتان كأنهما أفرغا فى قالب واحد، كأنه قال: «ينامون ثم يصلون غير متوضئين» ومع هذا يكون الكلام أشد إيجازا وأعظم بلاغة. ومن أعجب مثال فيما نحن بصدده قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118] لأن التقدير وودوا ما عنتم وقد بدت البغضاء من أفواههم، فلما حذفت هذه الواو كان الكلام مع حذفها أدخل فى الإعجاز، وأحسن فى الاختصار والإيجاز، وأبلغ فى تأليفه ونظمه، وأحلى فى سياقه وعذوبة طعمه، لا يقال: فإن الواو قد جاءت ثابتة فى قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) [الحجر: 4] وجاءت محذوفة فى مثل قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) [الشعراء: 208] فهل من تفرقة بين إثباتها وحذفها، وما ضابط الحذف والإثبات فيما هذا حاله، لأنا نقول: أما التفرقة فهى ظاهرة: فإن الواو إذا كانت محذوفة فهى فى حكم التكملة والتتمة لما قبلها، تنزل منزلة الجزء منها كما أوضحناه، وإذا كانت الواو موجودة كانت فى حكم الاستقلال بنفسها، فعلى هذا تقول: ما جاءنى زيد إلا وهو ضاحك وما لقيته إلا وهو راكب، فتثبت الواو وتحذفها على التنزيل الذى ذكرناه، وما هذا حاله فهو تفريغ فى الصفات فى الاستثناء كما ورد فى الآيتين جميعا بالواو وحذفها على الجواز فيهما، وأما الضابط لدخولها فى الصحة والامتناع فنقول: كل اسم نكرة جاء قبل «إلا» فإنك تنظر إلى العامل فى تلك النكرة، فإن كان ناقصا فإنه يمنع الإتيان بالواو، وهذا كقولك ما أظن درهما إلا هو كافيك، ولا يجوز بالواو فلا تقول: إن رجلا وهو قائم لما كان العامل الأول يفتقر إلى تمام؛ لأن الظن يفتقر إلى مفعولين ويحتاج إلى خبر فلهذا استحال وجود الواو ههنا لما قررناه، وإن كان العامل فى النكرة تاما، فإنه يجوز الإتيان بالواو وتركها، وعلى هذا تقول: ما جاءنى رجل إلا وهو ضاحك بإثبات الواو وحذفها كما أشرنا إليه.

وثالثها الإيجاز ب حذف بعض اللفظ،

وثالثها الإيجاز ب [حذف بعض اللفظ] ، وهذا إنما يكون واردا على جهة السماع لا يقاس، وهذا إنما يكون فى الألفاظ التى تستعمل على جهة الكثرة دون ما عداها وهذا كقولهم: عم صباحا، فى «انعم صباحا» وقوله لم يك حاصلا لك درهم، قال الله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [غافر: 85] لأن الجازم إنما يحذف الواو كما يحذف من قولنا: لم يقل لالتقاء الساكنين، والنون حذفها من أجل الإيجاز والاختصار، وهكذا قولنا «لم أبل» فإن الأصل فيه أبالى فحذفت الياء للجازم كما تحذف من قولنا «لم أمار» فى، أمارى، ثم حذف الألف على غير قياس على جهة التخفيف، وقد جاء فى المنظوم حذف بعض الكلمة كما قال بعض الشعراء «1» : كأنّ إبريقهم ظبى على شرف ... مفدّم، بسبا الكتّان ملثوم أراد بسبائب الكتان فحذف إيجازا وهذا كله لا يقاس عليه، وإنما يقر حيث ورد. النوع الخامس فى الإيجاز بحذف الأجوبة، وذلك يأتى فى أمكنة كثيرة، أولها [حذف جواب «لولا» ] وذلك نحو قوله تعالى فى آخر آية اللعان: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) [النور: 10] فجواب لولا ههنا محذوف تقديره لما ستر عليكم هذه الفاحشة ولما هداكم إلى مصلحة اللعان بالحكم فيه بهذا الحد، ولهذا عقبه بقوله: وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ بالستر عليكم، حَكِيمٌ بإعلامكم بما يتوجه على الملاعن، ومثله قوله تعالى عقيب حديث الإفك: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [النور: 20] وتقديره لعجّل لكم العذاب بسبب افتراء الكذب والتقول بما لم يكن، ولهذا قال عقيبها: وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) [النور: 20] حيث لم يعاجل بالعقوبة: رَحِيمٌ بما ألهم من المصلحة بالحد فى القذف، وثانيها [حذف جواب «لما» ] وهذا كقوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ [الصفات: 103- 104] فإن جواب لأمّا ههنا محذوف، تقديره فلما أسلما وتله للجبين، كان هناك ما كان مما تنطق به الحال، ولا يحيط به الوصف، من رفع البلاء وكشف الكربة،

وثالثها حذف جواب «أما»

وإزالة المحنة العظيمة، والغبطة والسرور بامتثال أمر الله تعالى والزلفة عنده والفوز برضوان الله وثالثها [حذف جواب «أما» ] ومثاله قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: 106] لأن التقدير فيه فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، فحذف القول وأقام المقول مقامه. ورابعها [جواب «إذا» ] ومثاله قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ [يس: 45] إلى قوله معرضين، والتقدير فيه وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا وأصروا على تكذيبهم، وقد دل عليه قوله تعالى: إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) [يس: 46] . وخامسها [حذف جواب لو] وهو وارد على الكثرة، وهو من محاسن الإيجاز ومواقعه البديعة، كقولك: لو زرتنى، لو أكرمتنى، والتقدير لفعلت وصنعت، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ: 51] والتقدير فيه لرأيت أمرا بديعا، أو حالة منكرة، وقوله: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) [الأنبياء: 39] إلى قوله: يُنْصَرُونَ (39) والتقدير فيه لو يعملون هذه الأمور لما كانوا على تلك الصفات من الكفر والاستهزاء والصدود والإنكار وهكذا قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: 31] والتقدير فيه لكان هذا القرآن، وهو كثير الورود فى القرآن، وحيث ساغ حذفه فإنه إنما يسوغ إذا كان هناك دلالة عليه، فأما من غير دلالة فلا يجوز بحال. وسادسها [حذف جواب القسم] ، ومثاله قوله تعالى: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) فجوابه ههنا يحتمل أن يكون موجودا وهو قوله: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ 5 [الفجر: 5] لأنه قد تمت به الفائدة، ويحتمل أن يكون محذوفا تقديره لتعذبنّ، ويدل عليه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) [الفجر: 6- 7] ونحوه قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) [الشمس: 1] فيحتمل أن يكون جوابه مذكورا، وهو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) [الشمس: 9] وقد ظهرت به الفائدة، ويحتمل أن يكون محذوفا أيضا تقديره ليعذّبن، بدليل قوله تعالى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) [الشمس: 14] والحذف فيه كثير لقيام القرينة على حذفه، وتختلف أحوال القرائن بحسب ما تدل عليه الدلالة.

النوع السادس حذف ما يكون معتمدا للجزءين،

النوع السادس حذف ما يكون معتمدا للجزءين، القسم، والشرط، ولو، فهذه أمور ثلاثة، أولها [حذف القسم] نفسه، ومثاله قولك: لأخرجن، والتقدير والله لأخرجن، قال الله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الحشر: 12] فهذه اللام هى اللام الموطئة، والمعنى بذلك أنها وطأت الشرط وجعلته حشوا وصيرت الكلام موجها للقسم، لهذا جاءت هذه الأفعال مرفوعة بالنون، ولو كانت جوابا للشرط لكانت مجزومة، فلهذا قضينا بحذف القسم. وثانيها [حذف الشرط] نفسه ومثاله قوله: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) [العنكبوت: 56] والتقدير فيه، إن لم تخلصوا لى العبادة فى هذه الأرض، فأخلصوها فى غيرها. ومن هذا قولهم: الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والتقدير فيه إن كان خيرا عمله فجزاؤه خير. وثالثها [حذف لو] نفسها ومثاله قوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ [المؤمنون: 91] فإن الشرط فى هذا محذوف، والتقدير فيه فلو كان معه إله إذن لذهب كل إله بما خلق، وقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت: 48] والتقدير فيه إذن لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون. النوع السابع [حذف المبتدأ وخبره] ، فمن المواضع ما يحسن فيه حذف المبتدأ، ومنها ما يحسن فيه حذف الخبر، ومنها ما يمكن فيه الأمران جميعا، فمن المواضع التى يحسن فيها حذف المبتدأ على طريق الإيجاز قولهم: الهلال والله، أى هذا الهلال والله، وقولك إذا شممت ريحا: المسك والله، أى هذا المسك، ولا يكون إلا مفردا لأنه لا يبتدأ إلا بالأسماء المفردة، ويتعذر تقدير الجمل فى المفردات، وقد ترد جملة على تقدير المفرد على جهة الشذوذ كقولهم «تسمع بالمعيدى خير من أن تراه» والذى حسّنه كونه فى تأويل المصدر أى

سماعك، فأما قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184] فإنما جاز ذلك من أجل «أن» لأنها فى تأويل المصدر أى صومكم، ومن المواضع التى يصح فيها حذف الخبر قولك: لولا زيد لكان كذا، ومنه قولهم: لولا علىّ لهلك عمر، والقصة مشهورة فإن عمر أراد أن يرجم حاملا لما زنت، فقال له أمير المؤمنين على هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما فى بطنها، فكف عن ذلك، وقال «لولا على لهلك عمر» وهذا صحيح، فإن قتل الجنين من غير بصيرة خطأ عظيم، وفى الحديث «من أعان على قتل رجل مسلم ولو بنصف كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آئس، من رحمة الله» وكما يكون الخبر مفردا فقد يكون جملة، والأصل أن يكون مفردا، وحذف الخبر أكثر من حذف المبتدأ، ووجه ذلك هو أن المبتدأ طريق إلى معرفة الخبر، فإذا كان الخبر محذوفا، ففى الكلام ما يدل عليه وهو المبتدأ، وإذا حذف المبتدأ لم يكن فى الكلام ما يدل عليه؛ لأن الخبر لا يكون دليلا على المبتدأ. ومن المواضع التى تحتمل أن يكون المحذوف فيها، إما المبتدأ، وإما الخبر قوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 18] فيحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا، وتقديره فأمرى صبر جميل، ويحتمل أن يكون من باب حذف الخبر، وتقديره فصبر جميل أجمل، وحذف الخبر وإن كان واردا على جهة الكثرة، لكن حذف المبتدأ ههنا يكون أبلغ، لأن الآية وردت فى شأن «يعقوب» فلابد من أن يكون هناك اختصاص به، فإذا كان تقديره فأمرى صبر جميل كان أخص به وأدخل فى احتماله للصبر واختصاصه به، وقد يحذف المبتدأ والخبر جميعا إذا دل عليهما دليل، وهذا كما يقال أزيد قائم، فتقول: نعم أى نعم زيد قائم فحذفا لما دل قولك نعم عليهما، وكقوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4] لأن تقديره واللّائى لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وهذا لا يكون إلا مع القرينة الدالة على ذلك، فهذا ما أردنا ذكره فى الإيجاز بحذف المفردات فى هذه الأنواع السبعة وبالله التوفيق.

القسم الثالث فى بيان الإيجاز من غير حذف فيه

القسم الثالث فى بيان الإيجاز من غير حذف فيه اعلم أن من الإيجاز ما لا يكون فيه حذف يقدر، من مفرد ولا جملة، ويقال له إيجاز البلاغة، وينقسم إلى ما يساوى لفظه معناه من غير زيادة، ويسمى التقدير، وإلى ما يزيد معناه على لفظه، ويسمى القصر، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما، وهذا القسم من الإيجاز له فى البلاغة موقع عظيم، دقيق المجرى، صعب المرتقى، لا يختص به من أهل الصناعة إلا واحد بعد واحد «ومهما عظم المطلوب قل المساعد» . الضرب الأول فى بيان [الإيجاز بالتقدير] وهو الذى تكون ألفاظه مساوية لمعناه لا يزيد أحدهما على الآخر بحيث لو قدر نقص من لفظه لتطرق الخرم إلى معناه على قدر ذلك النقصان، ولنشر منه إلى أمثلة خمسة. المثال الأول: ما ورد من كتاب الله تعالى وهذا كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) [عبس: 17- 23] فقوله قتل الإنسان، أبلغ دعاء على الإنسان، لما فيه من إذهاب الروح بسرعة وفجأة، وهو أعظم فى الفجيعة وقوله ما أكفره، تعجّب من شدة الإفراط فى كفره لنعم الله، فلا يكاد يقرع السمع أسلوب أغلظ من هذا الدعاء والتعجب، ولا أبلغ فى الملامة ولا أقطع للمعذرة، ولا أعظم دلالة على السخط مع تقارب أطرافه وقصر متنه، ثم أخذ فى صفة حاله من مبدإ حدوثه إلى منتهى زمانه فقال. من أى شىء خلقه؟ استفهام وارد على جهة التهكم والتقرير، ثم قال من نطفة خلقه، كأنه قال تأمل وانظر من أى شىء خلقتك على عظم هذه المخالفة وكفران أنعمى عليك، إنما خلقتك من نطفة وأى نطفة فى الغلظ والبشاعة ونتن الرائحة، فقدره، فأحكم قوام خلقته وسواها على جهة التعديل فى مطابقة المنافع، ثم السبيل يسره، إما سهّل خروجه من بطن أمه، وإما يسر سبيله إلى ثدى أمه، وإما يسر سبيله من سلوك طريق الخير والشر، كما قال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) [البلد: 10] ، ثُمَّ أَماتَهُ نزع منه ما ركّب فيه من الروح، لما يريد من إعادته «فأقبره» أى جعله فى قبره يوارى فيه جيفته كيلا تمزقه السباع

وتقطع أوصاله «ثم إذا شاء أنشره» فى الآخرة للجزاء على الأعمال «كلا» ردع وزجر، عقّبها فى آخر الكلام تنبيها على أن الإنسان على ما هو فيه مما وصف من حاله «لما يقض» شيئا مما أمره الله وأنه مقصر فى حق الله لا يألو جهدا فى الإصرار والمخالفة، فقد حصل هذا الكلام على نهاية المطابقة للمقصود منه، فلو أردت زيادة عليه لكانت فضلا، ولو أردت نقصانا منه لكان إخلالا، ومنه قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236] وقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] وقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور: 21] وقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ [البقرة: 275] ومواقعه فى التنزيل كثيرة. المثال الثانى: ما ورد من السنة الشريفة كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك مشتبهات» فهذا من أجمع ما يكون للمعانى البالغة، ومن هذا قوله عليه السلام «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الضعيف أمير الركب» وفى حديث آخر «سيروا بسير أضعفكم» وقوله لمعاذ «صلّ بهم صلاة أضعفهم» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ومن ذلك ما قاله خطابا لقريش «يا ويح قريش لقد نهكتهم الحرب ما ضرهم لو ماددناهم مدة ويدعوا بينى وبين الناس فإن أظهر عليهم دخلوا فى دين الله وافرين وإلا كانوا قد حموا وإن أبوا فو الذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى هذه أو لينفذن الله أمره» وهذا الحديث قد جمع من المحاسن والإحاطة فى بلاغة المعانى وفصاحة الألفاظ ما لا يقدر على وصفه قائل، ولا يستولى على حصر لطائفه مجيب ولا سائل. المثال الثالث: من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه يخاطب فيه معاوية: «فاتّق الله وانظر فى حقه عليك، وارجع إلى معرفة مالا تعذر بجهالته، فنفسك نفسك، فقد بين الله لك سبيلك، وحيث تاهت بك أمرك فقد أجريت إلى غاية خسر ومحلة كفر، وإنّ نفسك قد أوصلتك شرا وأقحمتك عيا وأوردتك المهالك، وأوعرت عليك المسالك» . وقال عليه السلام: «عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته، قد بصرتم إن أبصرتم، وهديتم إن اهتديتم، عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه، من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومن من أساء به الظن، لا ينال العبد نعمة 7 لا بفراق أخرى، ولا يستفيد يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله، من أين ترجو البقاء وهذا الليل والنهار لم يرفعا من شىء شرفا إلا أسرعا الكرة فى هدم ما بنيا وتفريق ما جمعا» . فهذا الكلام ما ترك للإيجاز غاية إلا وصلها، ولا نكتة

شريفة إلا حازها وحصّلها، ومن أعجب ما فيه أنه مشتمل على هذه الأسرار بألفاظه، ولو حذفت واحدة منها أخللت بمعناها الذى جاءت من أجل الدلالة عليه. المثال الرابع: ما أثر فى ذلك من كلام البلغاء. فمن ذلك ما كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون، وكان واليه على عماله بعد لقائه بعيسى بن ماهان وهزمه لعسكره وقتله إياه، فكتب إلى المأمون يخبره بما كان منه فى ذلك فقال: «كتابى إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى ابن ماهان بين يدى وخاتمه فى يدى، وعسكره مصرّف تحت أمرى والسلام» . وهذا من عجائب الإيجاز وبليغ الاختصار التى حوت المطلوب، وحازت المقصود. ولما أرسل المهلّب بن أبى صفرة أبا الحسن المدائنى إلى الحجاج بن يوسف يخبره أخبار ما هو عليه فى ولايته فقال له الحجاج: «كيف تركت المهلّب» فقال له: «أدرك ما أمّل، وأمن مما خاف» فقال: «كيف هو تجده بجنده» . فقال: والد رءوف، فقال: «كيف جنده» له فقال: «أولاد بررة» ، قال: «كيف رضاهم عنه» . فقال: «وسعهم بفضله، وأغناهم بعدله» ، قال: «كيف تصنعون إذا لقيتم العدو» . قال: «نلقاهم بجدنا ويلقونا بجدهم» قال: «كذلك الجد إذا لقى الجد» . قال: «فأخبرنى عن بنى المهلب» قال: «هم أحلاس القتال بالليل حماة السّرح بالنهار» ، قال: «أيهم أفضل» . قال: «هم كحلقة مبهمة مضروبة لا يعرف طرفاها» قال الحجاج لجلسائه: «هذا والله الكلام الفصل الذى ليس بمصنوع ولا متكلف» . المثال الخامس: ما ورد من الأبيات الشعرية. وهذا كقول أبى نواس فى صفة الخمر فى أوعيتها «1» : تدار علينا الراح فى عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى وفى جنباتها ... مها تدّريها بالقسىّ الفوارس فللراح ما زرّت عليها جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس فما هذا حاله من الشعر الفائق والنظم الجيد الرائق. وحكى عن الجاحظ أبى عثمان أنه قال: «لا أعرف شعرا يفضل هذه الأبيات لابن هانىء، ولقد أنشدتها أبا شعيب القلال، فقال: والله يا أبا عثمان إن هذا هو الشعر الذى لو نقر لطنّ، ومهما حركت أو تار نغماته لحنّ» . وحسبك به إعجابا اعتراف الجاحظ بحسنه، فإنه الماهر فى البلاغة والخريت فى

الضرب الثانى فى بيان الإيجاز بالقصر،

الفصاحة. ومن الإيجاز بالتقدير ما قاله على بن جبلة: وما لامرىء حاولته منك مهرب ... ولو حملته فى السماء المطالع بلى هارب لا يهتدى لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع ومن ذلك ما قاله النابغة الذبيانى «1» : فإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع ومن ذلك ما قاله الأعشى فى اعتذاره إلى أوس بن لأم لما هجاه: وإنى على ما كان منى لنادم ... وإنى إلى أوس بن لأم لتائب وإنى إلى أوس ليقبل عذرتى ... ويصفح عنى ما جنيت لراغب فهب لى حياتى والحياة لقائم ... بسرك منها خير ما أنت واهب سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ... كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب ولقد أتى الأعشى فى شعره هذا بالعجب العجاب وحير فيه الأفئدة وسحر الألباب، لما ضمنه فيه من رقة الألفاظ، التى تولّع بها كلّ ذكى حفّاظ. الضرب الثانى فى بيان [الإيجاز بالقصر] ، وهو الذى تزيد فيه المعانى على الألفاظ وتفوق، وكتاب الله تعالى مملوء منه، ولنورد فيه أمثلة خمسة كما فعلنا بالضرب الأول بمعونة الله تعالى. «المثال الأول» قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف: 199] فقد جمع فى هذه الآية جميع مكارم الأخلاق؛ لأن فى العفو الصفح عمن أساء، والرفق فى كل الأمور، والمسامحة والإغضاء، وفى قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ صلة الأرحام، ومنع اللسان عن الكذب والغيبة، وغض الطرف عن كل مّحرم، وغير ذلك، وفى الإعراض عن الجهال، والصبر والحلم، وكظم الغيظ. فهذه الألفاظ وإن قلّت فقد أنافت معانيها على الغاية، ولم تقف على حد ونهاية، وهذا النوع هو أعلى طبقات الفصاحة مكانا، وأعوزها إمكانا. ومن هذا قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] فانظر إلى هذه اللفظة الجميلة كم يندرج تحتها من المعانى التى لا يمكن حصرها، ولا ينتهى أحد إلى

ضبطها، فأين هذه عما أثر عن العرب من قولهم «القتل أنفى للقتل» . وقد تميزت الآية عنه بوجوه ثلاثة، أما أولا فلأن قوله: الْقِصاصِ حَياةٌ لفظتان، وما نقل عنهم فيه أربع كلمات. وأما ثانيا فالتكرير فيما قالوه، وليس فى الآية تكرير، وأما ثالثا فلأنه ليس كل قتل نافيا للقتل، وإنما يكون نافيا إذا كان على جهة القصاص، وكم فى القرآن من هذا القبيل. «المثال الثانى» ما ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا كقوله عليه السلام «الخراج بالضّمان» . والسبب فى ذلك هو أن رجلا اشترى من غيره عبدا فأقام عنده مدة ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنى أستغل عبدى. فقال: «الخراج بالضمان» ومعنى هذا أن غلّته تكون للمشترى، لأنه لو تلف قبل الرد كان تالفا من ضمانه، فلهذا كان ضمانه عليه، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام» ومعنى قوله: «لا ضرر» أى لا ينبغى لأحد أن يضر غيره، ومعنى قوله: «لا ضرار فى الإسلام» أنه لا ينبغى لك أن تضر أحدا، ولا ينبغى له أن يضرك. ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وعوّدوا كلّ جسم ما اعتاد» فهذه الألفاظ الثلاثة قد جمعت من المعانى الحكمية، والأسرار الطيبة، ما لا يحيط بوصفه إلا الله. ومن هذا قوله عليه السلام «الطمع فقر واليأس غنى» فهذا من جوامع الكلم التى خصّ بها. «المثال الثالث» ما ورد من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه من الكلام القصير كقوله عليه السلام من عرف نفسه فقد عرف قدره، من فكّر فى العواقب لم يشجع، الناس أعداء لما جهلوا، من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطاء، من أحدّ سنان الغضب لله قوى على قتل أسد الباطل، وقوله: إذا هبت أمرا فقع فيه، فإنّ وقوعك فيه أهون من توقّيه، آلة الرّياسة سعة الصدر، الطمع رق مؤبّد، ثمرة التفريط الندامة، وقال عليه السلام أغض على القذى، وإلّا لم ترض أبدا، وقال: لكل مقبل إدبار، وما أدبر كان كأن لم يكن، لا يعدو من الصبور الظّفر وإن طال به الزمان، إلى غير ذلك من الكلمات القصيرة التى قصرت أطرافها وفاتت العد فى معانيها. «المثال الرابع» ما أثر عن أهل البلاغة قال بعض الأعراب: اللهم هب لى حقك، وأرض عنى خلقك، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: هذا هو البلاغة، وكما أثر عن الحريرى فى مقاماته استعمال المداراة، توجب المصافاة، وقوله ملك الخلائق شين الخلائق، التزام الحزامة ذمام السلامة، تطلب المثالب من المعايب، عند الأوجال، يتفاصل الرجال،

موجب الصبر، ثمرة النصر، إلى غير ذلك ولا يكاد يوجد إلا على القلة فى كلام الفصحاء، والقرآن يوجد فيه كثير، وما ذاك إلا لأنه قد حاز معظم البلاغة. المثال الخامس ما ورد فيه من المنظوم وهذا كقول السموأل بن عادياء الغسانى «1» : وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل فهذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق من سماحة، وشجاعة، وتواضع، وحلم، وصبر، وتكلّف، واحتمال المكاره، فإن هذه الأمور كلها مما تضيم النفوس لما يحصل فى تحملها من المشقة والعناء، ومن ذلك ما قاله أبو تمام: وظلمت نفسك طالبا إنصافها ... فعجبت من مظلومة لم تظلم وأراد بقوله: ظلمت نفسك طالبا إنصافها، أنك أكرمتها على تحمل الأثقال فى مشاق الأمور، فإذا فعلت ذلك فقد ظلمتها، ثم إنك مع ظلمك إياها فقد أنصفتها؛ لأنك جلبت إليها أشياء حسنة تكسبها ذكرا جميلا، ومجدا مؤثّلا، فكنت منصفا لها فى صورة ظالم، ومعنى قوله فعجبت من مظلومة لم تظلم، أنك ظلمتها وما ظلمتها فى الحقيقة، فقد أعجب فى بيته هذا بجمعه فيه بين النقيضين الظلم، والإنصاف كما ترى، ولنقتصر على هذا من حقائق الإيجاز ففيه كفاية.

الفصل السابع فى بيان الالتفات

الفصل السابع فى بيان [الالتفات] اعلم أن الالتفات من أجل علوم البلاغة وهو أمير جنودها، والواسطة فى قلائدها وعقودها، وسمى بذلك أخذا له من التفات الإنسان يمينا وشمالا، فتارة يقبل بوجهه وتارة كذا، وتارة كذا، فهكذا حال هذا النوع من علم المعانى، فإنه فى الكلام ينتقل من صيغة إلى صيغة، ومن خطاب إلى غيبة، ومن غيبة إلى خطاب إلى غير ذلك من أنواع الالتفات، كما سنوضحه، وقد يلقب بشجاعة العربية، والسبب فى تلقيبه بذلك، هو أن الشجاعة هى الإقدام، والرجل إذا كان شجاعا فإنه يرد الموارد الصعبة، ويقتحم الورط العظيمة حيث لا يردها غيره، ولا يقتحمها سواه، ولا شك أن الالتفات مخصوص بهذه اللغة العربية دون غيرها، ومعناه فى مصطلح علماء البلاغة، هو العدول من أسلوب فى الكلام إلى أسلوب آخر مخالف للأول، وهذا أحسن من قولنا: هو العدول من غيبة إلى خطاب، ومن خطاب إلى غيبة؛ لأن الأول يعم سائر الالتفاتات كلها، والحد الثانى إنما هو مقصور، على الغيبة والخطاب لا غير، ولا شك أن الالتفات قد يكون من الماضى إلى المضارع، وقد يكون على عكس ذلك، فلهذا كان الحد الأول هو أقوى دون غيره، فإذا عرفت هذا فاعلم أن لعلماء البلاغة فى الوجه الذى لأجله دخل الالتفات فى الكلام أقوالا ثلاثة، فالقول الأول وهو الذى عول عليه ابن الأثير، وحاصل ما قاله هو أنه لا يختص بضابط يجمعه، ولكنه يكون على حسب مواقعه فى البلاغة، وموارده فى الخطاب، وآل كلامه إلى أن الناظر إنما يعرف حسن مواقع الالتفات إذا نظر فى كل موضع يكون فيه الالتفات، فيعرف قدر بلاغته بالإضافة إلى ذلك الموقع بعينه، فأما أن يكون مضبوطا بضابط واحد فلا وجه له، هذا ملخص كلامه بعد حذف أكثر فضلاته. القول الثانى محكى عن بعض من خاض فى علوم البيان، وتقرير ما قاله: هو أن ذلك من عادة العرب وأساليبها فى الكلام، وزيّف ابن الأثير هذه المقالة، وقال هذا التعليل هو مثل عكاز العميان، وأراد بما قاله من عكّاز العميان، هو أن عكاز الأعمى لا يسئل عن علة حاجته إليه، فإن علة حاجته إليه ظاهرة لا تحتاج إلى بيان وكشف، فكذا ما قالوه من تعليل ورود الالتفات بكونه أسلوبا من أساليب الكلام، فإن كونه أسلوبا من أساليب الكلام ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وهو لعمرى كما قاله، فإن كلامه لا فائدة فيه.

الضرب الأول ما يرجع إلى الغيبة، والخطاب، والتكلم،

القول الثالث محكى عن الزمخشرى، وحاصل مقالته هو أن ورود الالتفات فى الكلام إنما يكون إيقاظا للسامع عن الغفلة، وتطريبا له بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، فإن السامع ربما ملّ من أسلوب فينقله إلى أسلوب آخر، تنشيطا له فى الاستماع، واستمالة له فى الإصغاء إلى ما يقوله، وما ذكره الزمخشرى لا غبار على وجهه، وهو قول سديد يشير إلى مقاصد البلاغة، ويعتضد بتصرف أهل الخطاب، ومن مارس طرفا من علوم الفصاحة لاح له على القرب، أن ما قاله الزمخشرى قوى من جهة النظر، يدرى كنهه النظّار، ويتقاعد عن فهمه الأغمار، وقد زعم ابن الأثير ردا لكلام الزمخشرى بوجهين، أحدهما أنه قال إنما جاز الالتفات من أجل التنشيط للسامع، واعترضه بأن الكلام لو كان فصيحا لم يكن مملولا، وهذا خطأ وجهل بمقاصد البلاغة، فإن مثل هذا لا يزيل فصاحة الكلام، ولا ينقص من بلاغته، ولهذا فإنه لو ترك فيه الالتفات فإنه باق على الفصاحة، ولكن الغرض أن خروجه من أسلوب الخطاب إلى الغيبة، يزيد فى البلاغة ويحسّنها، ويكون الخطاب مع ما ذكرناه أوقع وأكشف عن المراد وأرفع. وثانيهما قوله: إن ما قاله الزمخشرى إنما يوجد فى الكلام المطول، والالتفات كما يستعمل فى الطويل فهو يستعمل فى القصير، وهذا فاسد أيضا فإن الزمخشرى لم يشترط التطويل فى حسن الالتفات، فينتقض بما ذكرته، وإنما أراد تحصيل الإيقاظ وازدياد النشاط بذكر الالتفات، وهذا حاصل فى الكلام سواء كان طويلا أو قصيرا، فإذن لا وجه لكلام ابن الأثير على ما قصده الزمخشرى وانتحاه، ومن العجب أنه شنّع فيما أورده على الزمخشرى وقال: كيف ذهب عنه معرفته مع إحاطته بفن البلاغة والفصاحة، وما درى أن ما قاله خير مما أتى به ابن الأثير، فإن ما أراده الزمخشرى معنى يليق بالبلاغة، ويزيدها قوة، وما ذكره ابن الأثير رد إلى عماية، وقول ليس له حاصل، ولا يدرك له نهاية، وما عابه إلا لأنه لم يطلع على أغواره، ولا أحاط بكنهه، ودقيق أسراره، ولقد صدق من قال «1» : وكم من عائب قولا سليما ... وآفته من الفهم السقيم وإذا تم ما ذكرناه فلنرجع إلى تقرير الالتفات وتقرير أساسه، فنقول الالتفات يرد على أضرب ثلاثة: الضرب الأول ما يرجع إلى [الغيبة، والخطاب، والتكلم] ، فأما الرجوع من الغيبة إلى

الضرب الثانى مختص بالأفعال الالتفات من الافعال الخبريه إلى الافعال الانشائيه

الخطاب فكقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة: 2] ثم قال بعد ذلك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة: 5] لأن ما تقدم من قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إنما هو للغائب ولو أراد الخطاب، لقال الحمد لك، لأنك أنت رب العالمين، وقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) [مريم: 88- 89] ولو أراد الغيبة لقال لقد جاءوا شيئا إدا، وإنما عدل عنه إلى الخطاب لما ذكرناه من الإيقاظ والتنشيط، ومن ذلك قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] فهذا وارد على جهة الغيبة، ثم قال: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ [الإسراء: 1] وهذا وارد على جهة التكلم، ثم قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) [الإسراء: 1] وهذا غيبة أيضا، ولو جاء به على أسلوب واحد من غير الالتفات لقال «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير» ، وإنما فعل ذلك من الالتفات دلالة على ما قلناه. ومن هذا قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: 11] فهذا كلام على جهة الغيبة إلى قوله: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 12] ثم قال: وَزَيَّنَّا السَّماءَ [فصلت: 12] وهذا على جهة التكلم بعد الغيبة. ثم قال: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) [فصلت: 12] وهو غيبة أيضا. وقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يونس: 22] خطاب لهم، ثم قوله بعده: وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] غيبة بعد الخطاب، وهذا كثير الدور فى القرآن الكريم لمن تأمله. الضرب الثانى مختص بالأفعال [الالتفات من الافعال الخبريه الى الافعال الانشائيه] وهو الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وهذا كقوله تعالى فى قصة هود قال: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ [هود: 54- 55] ولو أراد المساواة بين الفعلين، لقال أشهد الله وأشهدكم. وقد يكون رجوعا عن الفعل الماضى إلى فعل الأمر، وهذا مثاله قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 29] ولو جاء به على أسلوب واحد لقال: أمر ربّى بالقسط وأمركم أن تقيموا وجوهكم، فعلى الناظر إعمال نظره وحك قريحته فيما أوردناه من هذه الأمثلة وأن يضع فى نفسه أن الانتقال من صيغة إلى صيغة إنما يكون من أجل الالتفات ليكمل أمر الخطاب وتتفاوت درجته فى البلاغة، وهذا إنما يدرك بالذوق الصافى الخالص عن شوب البلادة، وما هذا حاله فهو من دقيق علم البلاغة وغامضها. الضرب الثالث مختص بالأفعال كالأول [الالتفات من الافعال الخبريه الى الافعال الخبريه] ، خلا أن الأول كان الانتقال فيه من الماضى إلى

الوجه الأول: الانتقال عن الماضى إلى المضارع

المستقبل، وهما خبران إلى الإنشاء، وهو فعل الأمر، وههنا أخبار كلها، المنتقل عنه، والمنتقل إليه، وذلك يأتى على وجهين. الوجه الأول: [الانتقال عن الماضى إلى المضارع] ، ومثاله قوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) [فاطر: 9] فوسّط قوله: فَتُثِيرُ سَحاباً ، وجاء به على جهة المضارعة والاستقبال بين فعلين ماضيين، وهما قوله: أَرْسَلَ ، فَسُقْناهُ ، والسر فى مثل هذا، هو أن الفعل المستقبل يوضح الحال، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن الإنسان يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضى إذا عطف؛ لأنه لا يعطى هذا المعنى ولا يدل عليه، فإذا قال فتثير، على جهة الاستقبال بعد ما مضى قوله: «أرسل» . فإنما يكون دالا على حكاية الحال التى تقع فيها إثارة الريح للسحاب، واستحضار لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة، وكذلك تفعل فيما هذا حاله، فإنك تقرره على هذا الضابط، وهكذا ورد قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الحج: 25] وإنما جاء به على صيغة المضارع، وعدل عن عطف الماضى على الماضى تنبيها على أن كفرهم ثابت مستمر غير متجدد، بخلاف الصّد، فإنه متجدد على ممر الأوقات، وتكرر الساعات، فلهذا جاء به على صيغة المضارع، منبها على ذلك. ومن هذا النوع قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63] ولم يقل «فأصبحت» عطفا على أَنْزَلَ ، إشارة إلى أن إنزال الماء قد انقضى ومضى، واخضرار الأرض متجدد كما تقول «أنعم علّى فلان، فأروح وأغدو شاكرا له» ، ولو قلت «فغدوت شاكرا له» لم يفد تلك الفائدة. لا يقال: فهب أن الفعل جاء مضارعا من أجل التنبيه على الذى ذكرتموه فأراه لم يكن منصوبا جوابا للاستفهام بالهمزة فى قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ وعدل به عن القياس المطرد وهو النصب، لأنا نقول: النصب إنما يكون إذا كان الأول سببا للثانى كقولك: «أتقوم فأقوم» وههنا ليست الرؤية سببا فى كون الأرض تصبح مخضرة، فلهذا وجب رفعه للدلالة على أنها تكون مخضرة عقيب الإنزال للماء عليه من غير إشارة إلى السببية، وعلى هذا يكون المعنى فيه نهاية البلاغة. ومما ينخرط فى هذا السلك: ما روى من حديث الزبير بن العوام فى غزوة بدر فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه، وهو يقول أنا أبو ذات الكرش، وفى يدى عنزة فأطعن بها فى عينه فوقع، ثم

الوجه الثانى: الانتقال من المضارع إلى الماضى،

أطأ برجلى على خده حتى خرجت العنزة من عنقه، فقوله «أطعن» ، «وأطأ» ، على صيغة الفعل المضارع إنما جرى على قصد المبالغة. الوجه الثانى: [الانتقال من المضارع إلى الماضى] ، وهذا كقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل: 87] لأن إيثار الماضى والعدول إليه دال على مبالغة فى الثبوت والاستقرار، ومن هذا قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ [الكهف: 47] ولم يقل: «ونحشرهم» . وقد يعدل إلى لفظ اسم المفعول عن الفعل الماضى، إجراء له مجرى الفعل المضارع، ومثاله قوله تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) [هود: 103] لأن التقدير فيه، «ذلك يوم يجمع فيه الناس» ، ويؤيده قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] . ومما جاء فى الالتفاتات من الأبيات الشعرية قول جرير «1» : متى كان الخيام بذى طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام فهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب. وكقول امرىء القيس «2» : تطاول ليلك بالإثمد ... ونام الخلّى ولم ترقد وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذى العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءنى ... وخبّرته عن أبى الأسود الأبيات، فتحصل من مجموع ما ذكرناه أن أهل البلاغة من العرب دأبهم الالتفات، ويستكثرون منه، وما ذاك إلا لأنهم يرون الانتقال من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى القبول عند السامع وأكثر لنشاطه، وأعظم فى إصغائه، وإذا كانوا يستحسنون قرى الأضياف وهو دأبهم وعليه هجيرهم وعادتهم فيخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، أفلا يستحسنون نشاط الأفئدة وملاءمة القلوب بالمخالفة بين أسلوب. وأسلوب، بل يكون هذا أجدر فإن اقتدارهم على مخالفة أساليب الكلام أكثر من اقتدارهم على مخالفة الأطعمة؛ لأن البلاغة فى الكلام عليهم أيسر، وهم عليها أمكن وأقدر، فهذا ما أردناه من إيراد ما يتعلق بالالتفات من الخطاب.

الفصل الثامن ما يتعلق بالإضمار

الفصل الثامن ما يتعلق بالإضمار اعلم أن هذه الضمائر لها جانبان، أحدهما يتعلق بجانب الإعراب، والآخر يتعلق بجانب المعانى، فالذى يتعلق بالإعراب قد ذكرناه فى موضعه وأودعناه أسرارا بديعة كلها مختصة بحقائق الإعراب. والذى نذكره ههنا ما يتعلق بعلوم البلاغة وحقائقها، وتمام المقصود منه يحصل برسم مسائل: المسئلة الأولى: فى [ضمير الشأن والقصة] ، ويكون مرفوعا، ومنصوبا، لاتصاله بالعوامل الرافعة والناصبة، فإذا وقع مرفوعا فتارة يكون منفصلا كقولك «هو زيد قائم» ، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1] وقوله تعالى: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97] فى أحد وجهيه. ومرة يكون متصلا كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46] وقوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] ونحو قولك: «ظننته زيد قائم» ، هذا كله فى متصل المنصوب. فأما متصل المرفوع فكقولك: «كان زيد قائم» وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ [التوبة: 117] وإنما خلطناهما فى التمثيل أعنى المنصوب والمرفوع لاشتراكهما فى الاتصال، فإذا تقرر هذا فاعلم أن ضمير الشأن والقصة على اختلاف أحواله، إنما يرد على جهة المبالغة فى تعظيم تلك القصة وتفخيم شأنها وتحصيل البلاغة فيه من جهة إضماره أولا، وتفسيره ثانيا، لأن الشىء إذا كان مبهما فالنفوس متطلعة إلى فهمه ولها تشوق إليه، فلأجل هذا حصلت فيه البلاغة، ولأجل ما فيه من الاختصاص بالإبهام لا يكاد يرد إلا فى المواضع البليغة المختصة بالفخامة. المسئلة الثانية: فى [الضمير فى «نعم وبئس» ] هو قولك «نعم رجلا زيد» «وبئس غلاما عمرو» ، فانتصاب ما بعدهما من النكرات إنما يكون على جهة التفسير لما تضمنا من الضمائر الدالة على الحقيقة الذهنية، ولهذا فإنه إذا ظهر فلا بد من اشتراط كونه جنسا فتقول فيه: «نعم الرجل زيد» ، «وبئس الغلام عمرو» ، وفى هذا دلالة على كون الضمير دالا على الأمر الذهنى، لما فسر بالجنس لما فيه من الدلالة على الحقيقة الذهنية، وهو إنما أضمر على جهة المبالغة فى المدح والذم وهو من الباب الذى أبهم ثم فسر، فتوجّه البلاغة

المسئلة الثالثة فى الضمير المتوسط بين المبتدأ والخبر وعواملهما،

فيه من حيث كان مبهما، فكان للأفئدة تطلّع إلى فهمه وللقلوب تعلّق به ولها غرام بإيضاحه، وقول النحاة «نعم وبئس» موضوعان لإفادة المدح العام والذم العام يشيرون به إلى ما قلناه من دلالته على الحقيقة الذهنية. المسئلة الثالثة فى [الضمير المتوسط بين المبتدأ والخبر] وعواملهما، وهذا كقولك كان زيد هو القائم، وزيد هو القائم، وظننت زيدا هو القائم قال الله تعالى: وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) [القصص: 58] ، إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ [الكهف: 39] وقوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) [الزخرف: 76] والكسائى وغيره من نحاة الكوفة يسمونه العماد، لمطابقته لما قبله، وسيبويه وغيره من نحاة البصرة يسمونه الفصل؛ لأنه ورد فاصلا بين كونه وصفا وغير وصف، فأما الدلالة على اسميته وموضعه من الإعراب فذكره إنما يليق بالمباحث الإعرابية، والذى نتعرض لذكره ههنا ما يختص بالبلاغة والفصاحة، وقد ورد فى كتاب الله تعالى وفى غيره كما تلونا من هذه الآيات، فوروده إنما كان من أجل التأكيد المعنوى، وفيه دلالة على الاختصاص فقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) [البقرة: 254] وقوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) [الزخرف: 76] ، إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ [الكهف: 39] إلى غير ذلك من الضمائر التى وردت على هذه الصفة فإنها مفيدة للتأكيد كما ترى، لأن الكلام مع ذكرها أبلغ، فأنت لو قلت والكافرون الظالمون، ولكن كانوا الظالمين، وأسقطت هذه الضمائر، فإنك تجد فرقا بين الحالتين فى التأكيد وعدمه، وكما هى مفيدة للتأكيد كما ترى ففيها دلالة على الاختصاص؛ لأنه إذا قال والكافرون هم الظالمون، فإنما جاء بالضمير ليدل على أنهم لكفرهم اختصوا بمزيد الظلم الفاحش، وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 4] فيه دلالة على مزيد اختصاصهم بالإيمان واستحقاقهم لصفته من بين سائر الخلق فيؤخذ الاختصاص والتأكيد من هذا الضمير كما أشرنا إليه. المسألة الرابعة فى [توكيد الضمائر] اعلم أن دخول التأكيد فى الكلام ليس أمرا حتما، ولا يكون على جهة الوجوب، وإنما يكون وروده على وجهين، أحدهما: أن يكون المعنى

معلوما فى النفس لا يقع فيه شك، فما هذا حاله أنت فيه بالخيار بين تأكيده وتركه، وثانيهما: أن يكون غير معلوم أو يكون مشكوكا فيه، وما هذا حاله فالأولى تأكيده، لإزالة احتماله، ثم التأكيد فى الضمائر بالإضافة إلى الاتصال والانفصال على أوجه ثلاثة، أولها تأكيد المنفصل بمثله، وهذا كقولك أنت أنت وأنا أنا. قال أبو الطيب المتنبى «1» : قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدّك بشر الملك الهمام فقوله أنت أنت من تأكيد المنفصل بمثله، وفائدته المبالغة فى مدحه بأبلغ ما يكون، فإنه لو مدحه بما شاء الله من الأوصاف الدالة على الثناء لما سدّ مسدّ قوله أنت أنت، كأنه قال أنت المشار إليه بالفضل دون غيره، فأما قوله وأنت منهم، فإنه وإن كان دالا على المدح، لكنه خارج عما نحن فيه من التأكيد وأراد وأنت من هذا القبيل، يريد مدح قبيلته بكونه منهم، فتأمل ما تضمنه هذا البيت من مدحه، ومدح القبيلة ومدح جده، وهذا من بدائع أبى الطيب ونفيس معانيه. وثانيها تأكيد المتصل بمثله فى الاتصال ومثاله قولك: وإنك إنك لعالم، وكقوله تعالى فى سورة الكهف فى آية السفينة بعد المخالفة: قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) [الكهف: 72] من غير تأكيد ثم قال فى آية القتل الثانية: قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ [الكهف: 75] بالتأكيد، والتفرقة بين الأمرين هو أنه أكد الضمير فى الثانية دون الأولى، لأن المخالفة فى الثانية أعظم جرما، وأدخل فى التعنيف لأجل الإصرار على المخالفة، فلهذا ورد العتاب مؤكدا بعد الخلاف لما ذكرناه. وثالثها توكيد المتصل بالمنفصل ومثاله قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) [طه: 67- 68] فهذا التوكيد قد دل على طمأنينة نفس موسى، وعلى الغلبة بالقهر والنصر، وفى قوله: إنك أنت الأعلى، نهاية البلاغة، بدليل أمور ستة، أما أولا فإتيان «إن» المشددة فى أول الخطاب لتأكيد الأمر وتقدير ثبوته، وأما ثانيا فتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل مبالغة فى تخصيصه بالقهر والغلبة، وأما ثالثا: فالإتيان بلام التعريف فى قوله الأعلى، ولم يقل أعلى ولا عال؛ لأنها دالة على الاختصاص كأنه قال أنت الأعلى دون غيرك، وفيه تعريض بأمرهم، وتهكم بحالهم، وإبطال لما هم عليه من

المسألة الخامسة الإظهار فى موضع الإضمار،

أمر السحر، وأما رابعا: فقوله الأعلى، إنما جاء بلفظة أفعل، ولم يقل العالى لأن مجيئها على جهة الزيادة فى تلك الخصلة للمبالغة، وأما خامسا: فتحقيق الغلبة بقوله الأعلى، لأن معناه الأغلب، وعدل إلى لفظ الأعلى لما فيه من الدلالة على الغلبة بالفوقية لا بالمساواة، وأما سادسا: فلأنه أتى بقوله إنك أنت الأعلى، على جهة الاستئناف، ولم يقل قلنا لا تخف لأنك أنت الأعلى؛ لأنه لم يجعل عدم الخوف سببا لكونه غالبا عليهم، وإنما نفى عنه الخوف بقوله لا تخف، ثم استأنف الكلام بقوله إنك أنت الأعلى، فلا جرم كان أبلغ فى شرح صدر موسى وأقر لعينه فى القهر والاستيلاء، فينحلّ من مجموع ما ذكرناه إفادة البلاغة من التأكيد كما أشرنا إليه، وهذا من لطيف علم البيان، ومما تكثر فيه النكت والغرائب البديعة، فأما تأكيد المنفصل بالمتصل فلم يرد فى كلام العرب فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه. المسألة الخامسة [الإظهار فى موضع الإضمار] ، واعلم أن هذا وإن كان معدودا من علم الإعراب لكن له تعلّق بعلم المعانى، وذلك أن الإفصاح بإظهاره فى موضع الإضمار له موقع عظيم وفائدة جزلة، وهو تعظيم حال الأمر المظهر والعناية بحقه، ومثاله قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت: 19] ثم قال بعد ذلك ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت: 20] فانظرا إلى إظهاره اسمه جل جلاله فى قوله: ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ وكان قياس الإعراب ثم ينشىء النشأة الآخرة، لأنه قد تقدم ما يفسر هذا الضمير وهو قوله: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ والفائدة فى ذلك هو المبالغة فى الأمر المظهر وإظهار الفخامة فيه، كقوله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) [القارعة: 1- 2] وقوله: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) [الحاقة: 1- 2] وقد يرد الإظهار على جهه الإنكار وشدة الغضب والتهكم بحالهم والتعجب من عنادهم وجحدهم، وهذا كقوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 1- 2] ثم قال بعد ذلك وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) [ص: 4] والغرض هو إفراط النكير عليهم والتعريض بأنهم الكفرة حقا أهل التمرد الذى لا شك فيه، والمراء الذى لا مدفع له، وفى التنزيل كثير من هذا، ليدركه من كان له ذهن حاضر وفؤاد حديد وحظى من الله بتوفيق وألقى السمع وهو شهيد.

الفصل التاسع فى بيان منزلة اللفظ من معناه وكيفية إضافته إلى قائله، وكيفية دلالته على معناه وبيان قوة المعنى لقوة اللفظ.

الفصل التاسع فى بيان منزلة اللفظ من معناه وكيفية إضافته إلى قائله، وكيفية دلالته على معناه وبيان قوة المعنى لقوة اللفظ. اعلم أن هذا الفصل إنما أوردناه ههنا لكونه مشتملا على قوانين تتعلق بالدلائل الإفرادية، ولها تعلق بما نحن فيه من علة المعانى، وتفيد فيه فائدة جزلة غير خافية، وجملتها أربعة: القانون الأول فى بيان منزلة اللفظ من معناه، وبيان درجته منه اعلم أن الذى عليه علماء الأدب من أهل اللغة وعلم الإعراب وهو الذى عول عليه جماهير الأصوليين أن دلالة الألفاظ على معانيها، إنما هو من جهة المواضعة، وخالف فى ذلك طوائف. واستقصاء الكلام يليق بالمباحث الكلامية، فإذا قلت: قام زيد فإنه يفيد بالوضع أمورا ثلاثة، القيام، وزيد، واتصاف زيد بالقيام، فإذا كانت الألفاظ مفيدة للمعانى كما ترى لكونها موضوعة من أجلها، فاعلم أن الذى عليه أهل التحقيق أن الألفاظ تابعة للمعانى، وقد صار صائرون إلى أن المعانى تابعة للألفاظ، والذى أوقعهم فى هذا الوهم وقرر عندهم هذا الخيال، هو أنهم لما رأوا المعانى لا يرسخ معقولها فى الأفئدة إلا بعد أن تخرق الألفاظ قراطيس أسماعهم، فتوهموا من أجل ذلك أنها تابعة للألفاظ، والمعتمد فى بطلان هذه المقالة أوجه ثلاثة، أولها: هو أن معنى الفرس، والأسد، والإنسان، مفهوم عند العقلاء لا يتغير، والعبارات عن كل واحد من هذه الحقائق تختلف عليه بحسب اختلاف اللغات من العربية، والفارسية، والتركية، والرومية، والسريانية، فلو كانت المعانى تابعة للألفاظ كما زعموه لوجب أن تكون مختلفة لاختلاف هذه الألفاظ، فلما عرفنا خلاف ذلك دل على صحة ما قلناه، من كون المعانى أصلا للألفاظ، وثانيا: أن المعانى منها ما يكون معنى واحدا، ثم توضع له ألفاظ كثيرة تدل عليه وتشعر به، فلو كانت المعانى تابعة للألفاظ لكان يلزم إذا كانت الألفاظ مختلفة أن يكون المعانى مختلفة أيضا، فلما كان المعنى واحدا والألفاظ متغايرة بطل ما قالوه، وثالثها أن المعانى لو

القانون الثانى فى كيفية دلالته على معناه

كانت تابعة للألفاظ للزم فى كل معنى أن يكون له لفظ يدل عليه، وهذا باطل، فإن المعانى لا نهاية لها، والألفاظ متناهية، وما يكون بغير نهاية لا يكون تابعا لما له نهاية، وإنما كانت الألفاظ متناهية، لأنها داخلة فى الوجود، وكل ما داخله الوجود من المكونات فله نهاية لاستحالة وجود ما لا نهاية له، وموضعه الكتب العقلية، وقد رمزنا إلى دليله هناك، وإنما كانت المعانى بلا نهاية؛ لأنها غير موجودة وإنما هى حاصلة فى الذهن، وما وجد فقد تناهى، فأما مالا يوجد فليس له غاية، كالحقائق الذهنية، والأمور المتصورة، فإنه لا نهاية لها قبل تعلق العلم بها، فأما بعد تعلق العلوم بها فهى منحصرة بانحصار علومها. لا يقال فإذا كانت المعانى، سابقة على الألفاظ، وهى أصل لها، فما تريدون بقولكم إن الألفاظ دالة على المعانى وهذا يشعر بأن المعانى تابعة للألفاظ، لأنا نقول: هذا فاسد، فإنا قد أوضحنا أن الألفاظ تابعة للمعانى بما سبق من الأدلة فلا وجه لتكريره، قوله فما تريدون بقولكم إن الألفاظ دالة على المعانى، قلنا الغرض من قولنا إن الألفاظ دالة على المعانى، هو أن المعانى سابقة فى الثبوت والاستقرار على الألفاظ، وهى بلا نهاية لكن احتيج إلى معرفة بعض تلك المعانى التى بلا نهاية من أجل التصرفات، وإحراز مقاصد الخلق، فلأجل هذا وضعوا لما تمسّ الحاجة إليه من المعانى ألفاظا تدل عليها وتكون مشعرة بها، لتواضعهم على إفادتها ليمكن التخاطب بها ويسهل قضاء الأوطار بسبب ذلك، وما كان عنه غنية فلا حاجة إلى أن يضعوا له ألفاظا تدل عليه لوقوع الاستغناء عنه بما ذكرناه، فينحل من مجموع ما ذكرناه أن الألفاظ تابعة للمعانى، وأنها بلا نهاية، وأن الألفاظ متناهية بما شرحناه والحمد لله. القانون الثانى فى كيفية دلالته على معناه اعلم أن الألفاظ من دلالتها على ما تدل عليه من المعانى لا يخلو حالها فى الدلالة، إما أن تكون مما يدخلها المجاز، أو مما لا يدخله المجاز فإن كان الثانى فهو الأعلام كزيد وعمرو، وليس من همنا ذكرها، وإنما غرضنا أن نذكر أسماء الأجناس، وما لا يجوز تغييره عن وضعه الأصلى، ثم هى فى ذلك على مراتب.

المرتبة الأولى الألفاظ المتواطئة

المرتبة الأولى [الألفاظ المتواطئة] وهى اللفظة الدالة على أفراد متعددة باعتبار أمر جامع لها، فقولنا هى اللفظة نحترز به عن المتباينة، فإنها لا تكون متباينة إلا إذا كانت الألفاظ متعددة، وقولنا الدالة على أفراد متعددة، نحترز به عن المترادفة، فإنها دالة على معنى واحد لا غير، وقولنا باعتبار أمر جامع لها، نحترز به عن المشتركة، فإنها دالة على أفراد متعددة على جهة البدلية، لا باعتبار أمر جامع لها، وإنما يجمعها جامع اللفظ لا غير، ومثاله قولنا رجل، وفرس، وأسد، فإن كل واحد من هذه الألفاظ دال على أفراد متعددة باعتبار أمر جامع لها، كالرجولية فى قولنا رجل وهكذا الفرسية والأسدية، وتنقسم إلى مستغرقة، وصالحة، فالمستغرقة هى قولنا: الرجال، والإنسان، والصالحة وهى ما تدل عليه من غير استغراق كقولنا إنسان، وفرس. والتفرقة بين الألفاظ العامة والصالحة هو أن العام دال على جهة الاستغراق، كالرجال، بخلاف الصالحة فإن دلالتها إنما هو على جهة الصلاحية دون الاستغراق، فالعامة يندرج تحتها الأفراد التى بلا نهاية على جهة الوجوب، والصالحة يندرج تحتها الأفراد التى بلا نهاية على جهة الصلاحية لا غير، فأما الكلام فيما يعمّ من الألفاظ وما لا يعم، وكيفية عمومه فإنما يليق بمقاصد أصول الفقه. وقد أوردنا فيه تفصيلا شافيا. المرتبة الثانية فى بيان [الألفاظ المتباينة] ، وهى الألفاظ المتعددة الدالة على المعانى المختلفة، فقولنا: هى الألفاظ، نحترز به عن اللفظة الواحدة، فإنه لا يقال فيها إنها متباينة، والتباين إنما يكون واقعا فى الألفاظ المتعددة، وقولنا الدالة على المعانى المختلفة، نحترز به عن المترادفة، فإنها ألفاظ مختلفة دالة على معنى واحد، ومثاله قولنا: سماء، وأرض، وجسم، وعرض، فإنها ألفاظ مختلفة دالة على حقائق مختلفة. المرتبة الثالثة [المترادفة] ، وهى الألفاظ المختلفة فى أنفسها دون معانيها، وهذا كقولنا: نظر، وفكر، وعلم، ومعرفة، وليث، وأسد إلى غير ذلك من أنواع الترادف. وهكذا قولنا: سيف، وصارم، ومهند، فهذه الألفاظ متفقة فى كونها دالة على حقيقة واحدة لا تختلف أحوالها فى

المرتبة الرابعة فى بيان الألفاظ المشتركة،

الدلالة عليها كما مثلنا. نعم، قد يقع الاختلاف فى أمور عارضة لها، وهذا كقولنا: صارم، ومهند، فإنهما وإن كانا دالين على حقيقة السيف لا يختلفان فيها، لكن الصارم فيه دلالة على القطع، وقولنا مهند، فيه دلالة على نسبته إلى الهند، وقولنا علم، ومعرفة، فإنهما وإن اتفقا فى دلالتهما على معقول حقيقة العلم، لكن أحدهما يتعدى إلى مفعول واحد وهو المعرفة، والعلم يتعدى إلى مفعولين، فهذه أمور عارضة يقع فيها الاختلاف، وقد يقعان موقعا واحدا لا يتطرق إليهما اختلاف على حال، كقولنا ليث، وأسد. المرتبة الرابعة فى بيان [الألفاظ المشتركة] ، وهى اللفظة الواحدة الدالة على أزيد من معنى واحد مختلفة فى حقائقها على الظهور بوضع واحد، فقولنا هى اللفظة الواحدة، ولم نقل هى الألفاظ لأن الاشتراك قد يكون فى اللفظة الواحدة، وفى الألفاظ المجتمعة، بخلاف التباين، والترادف، فإنهما لا يقعان إلا فى مجموع الألفاظ، لفظتين فصاعدا، وقولنا الدالة على أزيد من معنى واحد، نحترز به عن اللفظة المفردة التى لا تدل إلا على معنى واحد، فإنها لا تكون مشتركة، وأكثر الكلام على الوضع فى الدلالات الإفرادية؛ لأن الاشتراك على خلاف الأصل. وقولنا مختلفة فى حقائقها، نحترز به عن المتواطئة، فإن اختلافها ليس فى الحقائق، وإنما اختلافها فى العدد كرجل، وإنسان، فإنهما دالان على أفراد متعددة لكنها غير مختلفة فى حقائقها؛ لأنها اتفقت فى أمر جامع لها، كالرجولية، والإنسانية. وقولنا على الظهور، نحترز به عن الألفاظ المشتبهة كالفظة النور، فإنها تطلق على الشمس والنار، والعقل، فقد دلت على أكثر من حقيقة واحدة مختلفة فى حقائقها، فإن حقيقة النار مغايرة لحقيقة الشمس والعقل، لكن اختلافها فى هذه الحقائق، ليس أمرا ظاهرا كظهور الأسماء المشتركة، بل لا يمتنع اتفاقها فى أمر جامع لها، وإن خفى على الأذهان وكان فى غاية الدقة المعنى المفهوم من حقيقة النور، متفقة فيه، وإن كانت حقائقها مختلفة كما أشرنا إليه. وقولنا بوضع واحد، نحترز به عما يدل على شىء بالحقيقة، وعلى ما يخالفه بالمجاز، كقولنا أسد، وحمار، فإنهما قد دلا على أمرين مختلفين، ولكن بوضعين. فإن وضح ما ذكرناه من الأمر الجامع لها على خفائه فذكر الاحتراز جيد لا غنى عنه، وإن خفى وكان فى غاية الدقة ولم يكن له هناك حقيقة فلا وجه للاحتراز، وكانت المشتبهة داخلة تحت اللفظة المشتركة من غير تفرقة بينهما.

المرتبة الخامسة فى بيان الألفاظ المستغرقة،

المرتبة الخامسة فى بيان [الألفاظ المستغرقة] ، ومن جملة ما يعرض لألفاظ الاستغراق، فإنه من الأمور المهمة لتعلقه بالمسائل الدينية الوعيدية، وفيه مضطرب النظار من الأصوليين فى المباحث الفقهية، ويشم رائحة من علوم المعانى، فلا ينبغى إغفاله وهى ألفاظ العموم، ثم معناها ما دل على معنيين فصاعدا من غير حصر، فقولنا «ما دل على معنيين» ، عام فى الاستغراق والاشتراك، وقولنا «من غير حصر» ، تخرج عنه الأسماء المشتركة، فإن ما تدل عليه منحصر، وهى منقسمة إلى ما يكون مستعملا فى حق العقلاء كمن، والذين، والمسلمين، والرجال، وفى غير العقلاء كما، والأفراس، وإلى ما يكون للعقلاء وغير العقلاء كأى، وكل. فهذه الألفاظ كلها مستغرقة لما تصلح له ويندرج تحتها، وإنما ذكرناها لما ذكرنا منازل الألفاظ ودرجها، وإلا فموضعها اللائق بها أصول الفقه، ونذكر على أثرها ما يكون لائقا بها من ذكر الفروق بينها وذكر ما هو مندرج تحتها ونردفه بالمراتب. المرتبة السادسة فى إيراد الفروق بين هذه الألفاظ اعلم أن كل من أحاط علما بما ذكرناه من ماهيتها، فإنه لا يقع عليه لبس فى كل واحد منها بغيرها، وإنما نورد التفرقة على جهة الإيضاح والبيان، وجملة ما نورده من ذلك فروق خمسة: «الفرق الأول» بين المشتركة والمتشابهة اعلم أن الشيخ أبا حامد الغزالى قدّر أمر التفرقة بينهما بما حكيناه من قبل، وهو أن المشتبهة متفقة فى أمر يجمعها كما قلناه فى لفظة النور، بخلاف اللفظة المشتركة، فإنه لا اشتراك بينها فى أمر معنوى بحال، فإن صح ما قاله الغزالى فى اشتراكها فى أمر معنوى وإن خفى ودق فهما مفترقان. ويمكن أن يقال إن الأمر الذى قاله ليس أمرا حقيقيا، وإنما هو خيال، فيجب اندراجها تحت المشتركة، وينزّل الخلاف فى لفظة النور على ما ذكرناه من تلك الأنوار منزلة إطلاق لفظة اللون على جميع أنواع اللون، فإن حصلت تفرقة بينها وبين

«الفرق الثانى» بين المتواطئة والمشتركة،

لفظ اللون فما قاله الشيخ أبو حامد مقبول، وإن لم يكن تفرقة بينهما معقولة فلا وجه للتفرقة بينهما وكانا مشتركين كليهما، فينبغى التعويل على ما أشرنا إليه فى ذلك. «الفرق الثانى» بين المتواطئة والمشتركة، وهو أن المتواطئة دالة على الاشتراك بين المفردات فى أمر معنوى يجمعها، كرجل، وفرس، بخلاف المشتركة، فإنه لا اشتراك بين المفردات إلا فى أمر لفظى كالقرء، على الطهر والحيض، والشفق على الحمرة والبياض. «الفرق الثالث» بين المتباينة من الألفاظ والمترادفة، وذلك إنما تكون التفرقة بينهما من جهة أن الاختلاف فى الألفاظ المتباينة تابع لاختلاف معانيها، فهى مختلفة الألفاظ والمعانى جميعا، بخلاف المترادفة فإن ألفاظها وإن كانت مختلفة متباينة، لكن المعانى فيها متفقة، فإنها دالة على معنى واحد، وإن تكررت عليه الألفاظ كما مر بيانه. «الفرق الرابع» التفرقة بين المتواطئة والمستغرقة، وهى إنما تكون من جهة أن المتواطئة دالة على المفردات من جهة الصلاحية دون الشمول، ودلالة المستغرقة إنما هو من جهة دخولها تحتها واندراجها فيها على جهة الاستغراق، ومن ثمّ جاز الاستثناء من الألفاظ المستغرقة، كالرجال والمسلمين، ولم يجز فى المتواطئة كرجال، ومسلمين، تقول «جاءنى الرجال إلا زيدا» ، ولا تقول «جاءنى رجال إلا زيدا» ، نعم التواطؤ لابد من أن يكون سابقا على الاستغراق، فلا يرد إلا حيث يكون متقدما عليه. «الفرق الخامس» بين المتواطئة والمشتبهة، وحاصله أنا نقول إن صح ما قاله الشيخ أبو حامد من كونها مجتمعة فى أمر معنوى على دقته وغموضه فهى تكون من جملة المتواطئة، فلا وجه للتفرقة بينهما بحال، وإن صح ما ذكرناه من الاحتمال، وهو أنها غير متفقة فى أمر معنوى فهى لاحقة بالألفاظ المشتركة، والتفرقة بين المتواطئة والمشتركة قد ذكرناه فلا وجه لتكريره. فهذا ما أردنا ذكره من معرفة هذه الفروق وتقريرها، وإن أهملنا شيئا من ذكر الفروق فهو مندرج تحت ما أشرنا إليه.

المرتبة السابعة فى بيان ما ألحق بهذه الألفاظ وليس منها

المرتبة السابعة فى بيان ما ألحق بهذه الألفاظ وليس منها اعلم أن ما ذكرناه من الألفاظ كالمتواطئة والمتباينة، والمترادفة، والمشتركة، فلا خلاف بين النظار فى تغايرها، وأن كل واحد منها مستعمل فيما ذكرناه، وإنما يؤثر الخلاف فى المتشابهة، وقد ذكرنا وجه النظر فيها، وهل تكون لا حقة بالمتواطئة، أو بالمشتركة، فأما ما وراء ذلك من المترادفة، كالناهل للعطشان والريان، والمشكّكة، كقولنا: سدفة فى الضوء، والظلام، والمبهمة، كقولنا: القسط، فإنه يستعمل فى العدل، والجور، فيقال فيه: قسط: إذا عدل وقسط: إذا جار، فكلها مندرجة تحت ما ذكرناه من المشتركة، وإنما هى عبارات مختلفة على معنى واحد، لهذا فإن ألفاظها مشعرة بالاشتراك فإن التردد إنما يكون فيها من أجل عدم القرينة على ما أريد منها من معانيها، وهكذا ما قلناه من التشكك، فإن الشك إنما حصل لما كان لا يعلم المقصود منها، والمبهمة إنما عرض الإبهام فيها من جهة ما ذكرناه من الاحتمال فيها، فصارت مشتركة فيما أشرنا إليه، فالكلام فيها كالكلام فى المشتركة من غير تفرقة، وإنما الخلاف فى عبارة فيها. القانون الثالث فى بيان قوة اللفظ لقوة المعنى اعلم أن هذا الباب له حظ وافر من علوم المعانى، وله فيها قدم راسخة، وقد ذكره ابن جنى فى كتاب «الخصائص» ، وأورده ابن الأثير فى كتابه «المثل السائر» وما ذاك إلا لعلمهما بعلو مكانه فى أبواب المعانى فنقول: قوة اللفظ لأجل قوة المعنى، إنما تكون بنقل اللفظ من صيغة إلى صيغة أكثر منها حروفا، فلأجل ذلك يقوى المعنى لأجل زيادة اللفظ، وإلا كانت زيادة الحروف لغوا لا فائدة وراءها، وذلك يكون فى الأسماء، والأفعال، والحروف، فهذه ثلاثة أمثلة نذكر ما يتعلق بكل واحد منها على حياله.

«المثال الأول» فى الأسماء

«المثال الأول» فى الأسماء وهذا كقوله تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] فإنه أبلغ من قائم وقوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) [سبأ: 48] فإنه أبلغ من عالم وقوله تعالى: مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] فإنه أبلغ من قادر ونحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) [البقرة: 222] فإن فعالا أبلغ من فاعل، ومتطهر أبلغ من طاهر؛ لأن التواب هو الذى تتكرر منه التوبة مرة بعد أخرى، وهكذا المتطهر، فإنه الذى يكثر منه فعل الطهارة مرة بعد مرة، هكذا القول فيما كان مشتقا من الفعل، فإن زيادة لفظه دالة على زيادة معناه قال أبو نواس: فعفوت عنى عفو مقتدر ... جلّت له نقم فألغاها ولم يقل قادر، مبالغة فى الأمر، وهكذا حال الأوصاف الجارية على الله تعالى إذا عدل بها عن منهاج الاشتقاق على جهة المبالغة، وحكى ابن الأثير عن جماهير النحاة أنهم يقولون إن «عليما» أبلغ من عالم، واستضعف هذه المقالة، وزعم أن الأمر على خلاف ذلك وأن عالما أبلغ من عليم؛ لأن عالما متعد وعليم غير متعد، فلهذا كان أبلغ لما ذكرناه، فأما عدة أحرفها فهى سواء، وهذا الذى ذكره فاسد، فإن الدلالة على بلاغة «عليم» ليس من جهة عد الأحرف ولا من جهة التعدى واللزوم، فيصح ما ذكره، وإنما حصلت المبالغة فيه من جهة الاستعمال؛ لأنهم لا يستعملونه إلا فى مواضع البلاغة، بخلاف قولنا عالم، فبطل ما توهمه. المثال الثانى فى الأفعال وهذا كقوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها [الشعراء: 94] فإنه مأخوذ من الكب وهو القلب، لكنه كرر الباء للمبالغة فيه، ومن هذا قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] وهذا من لطف الله ورحمته، فإنه جعل الثواب على أدنى ملابسة للطاعة، فلهذا أتى فيه بالثلاثى المجرد، وجعل العقاب على مزاولة عظيمة للفعل، وعلاج، فلهذا خصه ببناء المبالغة بالزيادة على الثلاثى، ومن هذا قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] ولو قال: فكفاك إياهم لم يكن فيه بلاغة، وهكذا قولهم: اخشوشن، فى خشن، واعشوشب المكان، إذا أعشب وكثر شجره، وإنما عدل عن بنائه الثانى للمبالغة فى ذلك المعنى.

«المثال الثالث» فى الحروف

«المثال الثالث» فى الحروف وهو قليل الاستعمال، وهذا كقولنا: سأفعل، وسوف أفعل، فإن زمان «سوف» أوسع من زمان السين، وما ذاك إلا لأجل امتداد حروفها وهكذا فإن التأكيد بإنّ الشديدة آكد من التأكيد بإن المخففة، ونحو «لكنّ» فإنها مع التضعيف آكد منها مع التخفيف، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المبالغة فى الألفاظ إنما تكون تبعا للبلاغة فى المعانى، فلا جرم تكثرت الألفاظ لأجل ذلك. القانون الرابع فى جهة إضافة الكلام إلى من يضاف إليه اعلم أن كل نثر ونظم من جميع الكلمات فله جهتان، الجهة الأولى أن يكون فاعلا له فى الحال، فإذا قال الواحد منا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة: 2] «وقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» فإن هذا الكلام يضاف إليه على جهة أنه فعله وأوجده بقدرته، ولهذا فإنه واقف على حسب قصده وداعيته كسائر أفعاله، فإنه لا فرق بين إيجاده لما قلناه بلسانه، وبين تحريك يده فى أن كل واحد منهما مضاف إليه على معنى أنه فعله واخترعه. الجهة الثانية أن يكون مضافا إليه على معنى أنه ابتدأه وأنشأه أولا، فإن الحمد لله رب العالمين، مضاف إلى الله تعالى على معنى أنه أنشأه، وهكذا قوله «قفا نبك من ذكرى» فإنه مضاف إلى امرىء القيس، وكل واحد من هاتين الإضافتين حقيقة فى الإضافة؛ لأنهما يسبقان إلى الفهم فلا وجه لجعل أحدهما حقيقة، والآخر مجازا، فإذا تمهّدت هذه القاعدة، فالبلاغة إنما تحصل بتأليف الكلام ونظمه وإعطائه ما يستحقه من الإعراب، وإعمال العوامل، وتوخى جميع معانى النحو ومجاريه التى يستحقها، وبيان ذلك هو أن وضع الكلم المفردة بالإضافة إلى واضع اللغة لا تغيير لها، والتصرف لأهل البلاغة إنما هو فى التأليف، ألا ترى أن أفراد قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة: 2] مقولة على ألسنة الناس، والإعجاز إنما كان من أجل نظمها وتأليفها بحيث كان الحمد مبتدأ، ولله متأخرا عنه خبره، ورب العالمين، مضاف، وإجراؤه صفة لما قبله فى الإعجاز من جهة الانتظام، فإذن حال أنفس الكلم مع المؤلف كحال الإبريسم مع ناسج الديباج، والذهب مع صائغ التاج، فحظه من ذلك إنما هو تأليفهما ونظمهما لا غير.

الفصل العاشر فى الاعتراض،

الفصل العاشر فى [الاعتراض] ، وبعضهم يسميه الحشو، وقبل الخوض فيما نريده من خصائصه نذكر ماهية الاعتراض والمعترض فيه، فنقول: أما الاعتراض فهو كل كلام أدخل فى غيره أجنبى بحيث لو أسقط لم تختل فائدة الكلام، وأما المعترض فيه فهو كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب بحيث لو أسقط لبقى الكلام على حاله فى الإفادة، مثال ذلك قولنا: زيد قائم فهذا لا محالة كلام مفيد، وهو مبتدأ وخبر، فإذا أدخلنا عليه لفظا مفردا فقلنا: زيد والله قائم، جاز، فإذا أزلنا القسم، بقى الأول على حاله، وهكذا إذا أدخلنا فى هذا الكلام كلاما مركبا فقلنا: زيد على ما به من قلة ذات اليد كريم، فقد أدخلنا بين المبتدأ وخبره كلاما مركبا، وهو قولنا على ما به من قلة ذات يده، فهذا هو حد المعترض فيه والاعتراض، فإذا عرفت هذا فاعلم أن للاعتراض مدخلين: المدخل الأول يتعلق بعلم الإعراب، ثم هو ينقسم إلى ما يكون جائزا وغير جائز، فأما الجائز فهو ما يكون فاصلا بين الصفة والموصوف، وبين المعطوف والمعطوف عليه، وبين القسم وجوابه، إلى غير ذلك مما يحسن استعماله فى اللغة العربية، وأما غير الجائز فهو الاعتراض بين المضاف والمضاف إليه، وبين حرف الجر ومجروره إلى غير ذلك مما يقبح استعماله، وليس من همنا ذكر ما هذا حاله؛ لأن هذا إنما يليق بالمباحث الإعرابية، وكتابنا إنما نذكر فيه ما يتعلق بعلوم المعانى دون ما عداه، فلا يمزج أحدهما بالآخر، وأيضا فإن هذا الكتاب لا يخوض فيه إلا من له وطأة فى علم الإعراب، وحظوة فى الإحاطة بحقائق العربية فلا جرم أغنانا ذلك عن الكلام فى الأسرار النحوية والمباحث الإعرابية. المدخل الثانى يتعلق بالبلاغة والفصاحة اعلم أن الاعتراض قد يدخل لفائدة جارية مجرى التأكيد، وقد يكون داخلا لغير فائدة، فهذان ضربان.

الضرب الأول ما يكون دخوله من أجل الفائدة التى تليق بالبلاغة،

الضرب الأول ما يكون دخوله من أجل الفائدة التى تليق بالبلاغة، وهذا كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) [الواقعة: 75- 76] ففى هذه الآية اعتراضان، أحدهما بجملة اسمية ابتدائية، وهى قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) فأتى بها اعتراضا بين القسم وجوابه، وإنما أتى به على قصد المبالغة للمقسم به واهتماما بذكر حاله قبل جواب القسم، وفيه الإعظام له والتفخيم لشأنه، وذلك يكون أوقع فى النفوس، وأدخل فى البلاغة، وثانيهما بجملة فعلية بين الصفة والموصوف، وهو قوله تعالى: لَوْ تَعْلَمُونَ فإنه وسطه بين الصفة وموصوفها تفخيما لشأنه وتعظيما لأمره، كأنه قال وإنه لقسم لو علمتم حاله أو تحققتم أمره، لعرفتم عظمه، وفخامة شأنه، فهذان الاعتراضان قد اختصا بمزيد البلاغة وموقع الفخامة مبلغا لا ينال، ومن هذا قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) [النحل: 57] فقوله: «سبحانه» كلمة تنزيه أوردها اعتراضا بين الجملتين مبالغة فى التنزيه عما نسبوه إليه من اتخاذ البنات ومبالغة فى الإنكار عليهم فى هذه المقالة، فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه اللفظة أعنى قوله «سبحانه» من حسن الموقع بكونها واردة على جهة الاعتراض، وما تضمنته من الفوائد الشريفة والأسرار الخفية، من الإنكار والرد والتهكم، وإظهار التعجب من حالهم وغير ذلك من اللطائف، فسبحان الله لقد أنشأت هذه الآية للعارفين استطرافا وعجبا، وحركت فى قلوبهم أشواقا وطربا، لما اشتملت عليه من عجائب الفصاحة التى لا ينطق بها لسان ومن غرائب البلاغة ما لا يطلع فجها إنسان. ومن الاعتراض الرشيق قوله تعالى: فى سورة يوسف: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ [يوسف: 73] فقوله: لَقَدْ عَلِمْتُمْ اعتراض بين القسم وجوابه، وفائدته تقرير علمهم بالبراءة عن الفساد والبعد عن تهمة السرقة، ثم إنهم مع إثبات علمهم بذلك أكدوا ذلك بالقسم مبالغة فى الأمر. ومن الاعتراض الذى طبّق مفصل البلاغة قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي [لقمان: 14] فقوله حملته أمه إلى قوله عامين، وارد على جهة الاعتراض بين الفعل ومتعلقه، وسر ذلك هو أنه لما ذكر توصية الوالدين عقبه بما يؤكد أمر الوصية. ويؤذن باستحقاقها من أجل ما تكابده الأم من

المشاق فى حمل الولد وفصاله، وما فى أثناء ذلك من مشقة التربية والمزاولة لمصالحه، والحنو والتعطّف عليه، وخص الأم بالذكر، تنبيها على اختصاصها بمزيد المشقة وتعاطى المباشرة له فى كل أحواله، فتوسّط هذا الاعتراض بما ذكرناه، قد اشتمل على الإشارة إلى ما قررناه مع احتوائه على حسن الوصف وجودة السياق كما ترى، ومن شريفه قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل: 101] فقوله والله أعلم بما ينزل، اعتراض بين إذا وجوابها، وفائدته تقرير لمصلحة التبديل، وتعريض بجهلهم بمعرفة ذلك، وإعلام لهم بأن الله تعالى هو المتولى لذلك، فهذه الجملة الابتدائية الواردة اعتراضا قد قامت مقام ما ذكرناه من هذه الأسرار. ومن غريبه وعجيبه قوله جل وعلا: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا [2 لبقرة: 72- 73] فقوله: والله مخرج، جملة ابتدائية وردت معترضة بين الكلامين وفائدتها التقرير فى نفوس السامعين بأن تدافع بنى إسرائيل فى قتل النفس ليس نافعا فى إخفائه وكتمانه، لأن الله تعالى مظهره وتعريف بأنه تعالى: مطلع على كل خافية، وأكرم بمعانى التنزيل، فما أنفعها وأعلى مكانها وأرفعها، والاعتراض فى القرآن أكثر من أن يحصى، ومما ورد من المنظوم فى الاعتراض قول امرىء القيس «1» : فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفانى ولم أطلب قليل من المال فقوله «ولم أطلب» وارد على جهة الاعتراض بين الفعل وفاعله، وإنما أورده، تعريفا بتحقير أمر المعيشة وإعراضا عنها وأنه يأتى بأسهل أمر، وإنما الذى يحتاج إلى العناية هو طلب الملك والمجد المؤثّل كما قال «2» : ولكنما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالى

«الضرب الثانى» «من الاعتراض» وهو الذى يأتى لغير فائدة،

ومن ذلك ما قاله أبو تمام «1» : وإن الغنى لى إن لحظت مطالبى ... من الشعر إلا فى مديحك أطوع فقد اشتمل على اعتراضين، أحدهما قوله إن لحظت مطالبى، والآخر قوله «إلا فى مديحك» والمعنى فى البيت كله أن الغنى أطوع لى من الشعر لو لحظت مطالبى، وقوله إلا فى مديحك، جاء بالجملة الاستثنائية مقدمة، وموضعها التأخير، فاعترض بها بين الجملة الشرطية، وخبر إن، والمراد من هذا هو أن مطالبه من الشعر إذا لحظ نجاحها فالغنى بها أسهل من الشعر فى مدح كل أحد إلا فى مديحك، فإن الشعر أسهل علىّ، وهذا من محاسن ما يوجد فى الاعتراض، ومن ذلك قول كثيّر عزة: لو أن الباخلين وأنت منهم ... رأوك لعلّموا الناس المطالا فقوله: «وأنت منهم» ، اعتراض بين لو وجوابها، وفائدته التصريح بما هو المقصود من ذمّه وتأكيد انصراف الذم إليه، ومنه قول أبى تمام «2» : رددت رونق وجهى فى صحيفته ... ردّ الصقال بهاء الصارم الخذم وما أبالى وخير القول أصدقه ... حقنت لى ماء وجهى أم حقنت دمى فقوله «وخير القول أصدقه» من الاعتراض الرائق وفائدته تحقيق المماثلة بين صيانة الوجه وحقن الدم. «الضرب الثانى» «من الاعتراض» وهو الذى يأتى لغير فائدة، ثم هو على وجهين، الوجه الأول منهما أن يكون غير مفيد لكنه لا يكسب الكلام حسنا ولا قبحا، وهذا كقول زهير «3» : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبالك يسأم فقوله «لا أبالك» من الاعتراض الذى ليس فيه فائدة توكيد، وليس فيه قبح، وهكذا

الوجه الثانى أن يكون من غير فائدة، لكنه يكون قبيحا لخروجه عن قوانين العربية وانحرافه عن أقيستها

ورد فى قول النابغة «1» : تقول رجال يجهلون خليقتى ... لعل زيادا لا أبا لك غافل فهذا وأمثاله يغتفر فيه هذا الاعتراض وإن كان لا فائدة تحته، والوجه الثانى أن يكون من غير فائدة، لكنه يكون قبيحا لخروجه عن قوانين العربية وانحرافه عن أقيستها كقول من قال «2» : فقد والشكّ بيّن لى عناء ... بوشك فراقهم صرد، يصيح وإنما كان قبيحا لأنه اعترض بين قد وفعلها بقوله «والشك» ومثل هذا قبيح لا يغتفر وهو فى النثر أقبح منه فى النظم؛ لأن الناظم يضطره الوزن فيعذر فيه بعض معذرة، فأما الناثر فلا عذر له فى مثل هذا؛ لأنه لا يراعى وزنا يلزمه استقامته. وكتاب الله تعالى والسنة الشريفة، وكلام أمير المؤمنين منزه عن مثل هذا الاعتراض؛ لأنه غير لائق بالكلمات البليغة.

الفصل الحادى عشر فى التأكيد

الفصل الحادى عشر فى [التأكيد] اعلم أن التأكيد تمكين الشىء فى النفس وتقوية أمره، وفائدته إزالة الشكوك وإماطة الشبهات عما أنت بصدده، وهو دقيق المأخذ، كثير الفوائد، وله مجريان. «المجرى الأول» عام وهو ما يتعلق بالمعانى الإعرابية، وينقسم إلى لفظى ومعنوى، وليس من همنا إيراده ههنا لأمرين، أما أولا فلانحراف ما يتعلق بمقاصد الإعراب عما يتعلق بمقاصد البلاغة، وما نحن فيه إنما هو كلام فى مقاصد البلاغة، وأما ثانيا فلأن كتابنا إنما يخوض فيه من له ذوق فى علم العربية وكانت له حظوة وافرة فيها. «المجرى الثانى» خاص يتعلق بعلوم البيان، ويقال له التكرير أيضا، وليس يخفى موقعه البليغ ولا علو مكانه الرفيع، وكم من كلام هو عن التحقيق طريد، حتى يخالطه صفو التأكيد، فعند ذاك يصير قلادة فى الجيد، وقاعدة للتجويد، ثم ما يكون متعلقا بعلوم البيان قد يكون تأكيدا فى اللفظ والمعنى، وقد يتعلق بالمعنى دون اللفظ، فهذان قسمان القسم الأول ما يكون تأكيدا فى اللفظ والمعنى جميعا اعلم أن ما نورده فى هذا القسم ينبغى إمعان النظر فيه لغموضه ودقة مجاريه، ومن أجل ورود التأكيد من جهة اللفظ والمعنى والتكرير فى كتاب الله تعالى ظن بعض من ضاقت حوصلته، وضعفت بصيرته عن إدراك الحقائق، والتطلّع إلى مآخذ الدقائق أنه خال عن الفائدة، وأنه لا معنى تحته إلا مجرد التكرير لا غير، وهذا خطأ وزلل، فإن كتاب الله تعالى لم يبلغ حد الإعجاز فى البلاغة والفصاحة سواه من بين سائر الكلمات، ولو كان فيه ما هو خال عن الفائدة بالتكرير لم يكن بالغا هذه الدرجة ولا كان مختصا بهذه المزية، وأيضا فإن سائر الكلمات التى هى دونه فى الرتبة قد يوجد فيه التكرير مع اشتمالها على الفائدة فكيف هو؟! ونحن الآن نعلو ذروة لا ينال حضيضها فى بيان معانى الألفاظ المكررة، فى لفظها ومعناها فى كتاب الله تعالى، ونظهر أنها مع أن تكريرها، إنما كان لمعان

جزلة، ومقاصد سنيّة بمعونة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى فى سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] فهذا تكرير من جهة اللفظ والمعنى، ووجه ذلك أن الله تعالى إنما أوردها فى خطاب الثقلين الجن والإنس، فكل نعمة يذكرها، أو ما يئول إلى النعمة، فإنه يردفها بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) تقريرا للآلاء، وإعظاما لحالها، ومن ذلك فى سورة القمر قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) [القمر: 17- 18] وإنما كرره لما يحصل فيه من إيقاظ النفوس بذكر قصص الأولين، والاتّعاظ بما أصابهم من المثلات، وحل بهم من أنواع العقوبات، فيكون بمنزلة قرع العصا، لئلا تستولى عليهم الغفلة، ويغلب عليهم الذهول والنسيان، وهكذا ما ورد فى سورة المرسلات وغيرها، وإنما كرر ذلك لأنه لما ذكر يوم القيامة وأنه كائن لا محالة، ثم عدد هذه الأمور كلها، وأنها كالدلالة عليه، وما من واحدة منها إلا ويعقبها بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) [المرسلات: 19] مبالغة فى الإنكار عليهم وتأكيدا لوقوع السخط والغضب لأجل تكذيبهم، وحذارا عن الإتيان بمثل ما أتوا به من إنكار هذا اليوم العظيم، وهكذا القول فيما ورد من الآيات المكررة، فإنها لم تتكرر إلا لمقصد عظيم فى الرمز إلى ذلك المعنى الذى سيقت من أجله، فليحكّ الناظر قلبه فى إدراك تلك اللطائف، وليجعلها منه على بال وخاطر، ولا يتساهل فى إحرازها فيلمحها بمؤخر عينه، فإنها مشتملة على أسرار ورموز، ومن أحاط بها فقد أوتى من البلاغة مفاتيح الكنوز، هذا كله فيما تكرر لفظه مرات كثيرة، من آى التنزيل، فأما ما كان تكريره مرتين فهو غير خال عن فائدة ظاهرة، وهذا كقوله تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ [الأنفال: 7] ثم قال بعد ذلك لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الأنفال: 8] فهذا وإن تكرر لفظه ومعناه، فلا يخلو عن حال لأجله وقع التغاير، وذلك من وجهين، أما أولا فلأن الأول وارد على جهة الإنشاء، والثانى وارد على جهة الخبر، وأما ثانيا فلأن الأول وارد فى الإرادة، والثانى وارد فى الفعل نفسه، ولأن الأول الغرض به إظهار أمر الدين بنصرة الرسول بقتل من ناوأه، ولهذا قال بعده وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) [الأنفال: 7] والغرض بالثانى التمييز بين ما يدعو الرسول إليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله، وبين أمر الشرك وعبادة الأصنام، ولهذا قال بعده وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) [الأنفال: 8] ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 15] ثم قال بعد ذلك إِنَ

الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور: 62] فظاهر هذه الآية التكرير، وليس الأمر كذلك فإن الحصر وإن كان شاملا لهما، لكنه مختلف، فالآية الأولى إنما وردت فى حصر الإيمان، وأنه لا إيمان حقيقة إلا الإيمان بالله ورسوله، وما عداهما لا يعد من الإيمان، ولا يكون داخلا فى ماهيته، وتعريضا بحال من أنكر التوحيد والنبوة، فإنه غير داخل فى هذه الصفة بحال، والآية الثانية فإنما وردت على جهة الحصر فى المستأذنين، كأنه قال صفة الاستئذان مقصورة على كل من آمن بالله ورسوله، فلا يتأخر إلا بأمر من جهتك، ولا يقدم ولا يحجم إلا عن رأيك، لاطمئنان نفسه بالإيمان، ورسوخ قدمه فيه، فهذا هو المستأذن حقيقة، فأما من كان غير مؤمن بالله ولا معرج على التصديق بك، فليس من استئذانك فى ورد ولا صدر، فقد ظهر بما ذكرناه تغاير الآيتين بما أبرزناه من معناهما، فهكذا تفعل فى كل ما ورد عليك من الآى القرآنية، فإن التكرير فيه كثير، ورب كلام يكون الإطناب فيه أبلغ من الإيجاز، وتصير البساطة له كالعلم والطراز، ولولا خشية الإطالة لأوردنا جميع التكريرات كلها، وأظهرنا تغايرها، وفيما أشرنا إليه كفاية لما نريده من ذلك، ومن التكرير الفائق ما ورد فى السنة الشريفة كقوله صلّى الله عليه وسلّم فى وصف يوسف الصديق عليه السلام «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم» يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، يعنى أنه نبى ابن نبى ابن نبى ابن نبى، فقد تنوسخ من الأصلاب الشريفة إلى الأرحام الطاهرة، فهذا تكرير بالغ دال على نهاية الشرف، وإعظام المنزلة، ورفع الرتبة عند الله، ومنه قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه «اللهم إنى أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمى وصغّروا عظيم قدرى، وأجمعوا على منازعتى أمرا هو لى ثم قالوا ألا فى الحق أن نأخذه، وفى الحق أن نمنعه» وإنما كرر قوله فى الحق، مبالغة فى التوجّع، وإعظاما فى التهكّم بهم، حيث اعتقدوا أن منعه هو الحق بزعمهم، فهذا من التكرير الذى قد بلغ فى الفصاحة أعلاها، وأصعد فى ذروتها وحل أقصاها كما ترى، ومن الأبيات الشعرية ما يليق ذكره ههنا، فمن ذلك قول المتنبى «1» : العارض الهتن بن العارض الهتن ب ... ن العارض الهتن بن العارض الهتن فهذا من باب التكرير، ثم من الناس من صوبه فى تكريره هذا. ومنهم من قال إنه قد

القسم الثانى من التكرير فى المعنى دون اللفظ،

أساء فيما أورده من ذلك، والأقرب أنه مجيد فى مطلق التكرير كما حكيناه فيما أوردناه من آى التنزيل، فإن ما أورده من هذا التكرير دال على إغراق الممدوح فى الكرم، لكن إنما عرض فيه ما عرض لمن أنكره، ورغم أنه غير محمود فيما جاء به من جهة أن لفظة العارض، ولفظة الهتن، ليستا واردتين على جهة البلاغة فيهما لقلة الاستعمال لهما، فمن أجل هذا كان ما قاله ليس بالغا فى البلاغة مبلغا عظيما لامن جهة التكرير، فإنه محمود لا محالة كما أشرنا إليه، ومن ذلك ما قاله أبو نواس «1» : أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما ويوم للترحل خامس والمراد من هذا أنه أقام بها أربعة أيام، وهذا تكرير ليس وراءه كبير فائدة ولا اختص بحلاوة، ومن عجيب أمره أنه جعل هذا فى عجز أبياته السينية التى حكيناها عنه فى الإيجاز التى مطلعها قوله «2» : ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر، منهم جديد، ودارس فلقد جمع فيها بين الكر والدر وبين البعر، والمسك الأذفر، ومن هذا قول أبى الطيب «3» : وقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهنّ قلاقل وقوله أيضا «4» : ولم أر مثل جيرانى ومثلى ... لمثلى عند مثلهم مقام فهذا وما شاكله ليس من التكرير الحسن كما أسلفناه فى غيره. القسم الثانى من التكرير فى المعنى دون اللفظ، وهذا القسم يستعمل كثيرا فى القرآن وغيره، ويجىء مفيدا وغير مفيد، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما.

الضرب الأول ما يرد على جهة الفائدة،

الضرب الأول ما يرد على جهة الفائدة، وهذا كقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ [الأحزاب: 72] فقوله تعالى: وَالْجِبالِ وارد على جهة التأكيد المعنوى، وفائدته تعظيم شأن هذه الأمانة المشار إليها وتفخيم حالها، وقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104] فقوله: «يدعون إلى الخير» عام فى كل شىء، وإنما كرر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على جهة التأكيد والمبالغة، وقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) [الرحمن: 68] فإنما خص النخل والرمان بالذكر، وإن كانا داخلين تحت الفاكهة، تعظيما لأمرهما ومبالغة فى رفع قدرهما، وهكذا ما ورد فى السنة فى حديث حاطب بن أبى بلتعة حيث كتب إلى قريش يشعرهم بأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما كان منه من إخفاء أمره فى غزوة بدر، فإنه كتب مع امرأة تشعرهم، فأمر النبى صلّى الله عليه وسلّم أمير المؤمنين والزبير والمقداد فأدركوها وجاءوا بالكتاب، فقرأ الرسول فقال ما هذا يا حاطب، فقال يا رسول الله: والله ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن دينى ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، وقد زعم بعض من لا دربة له أن هذا من باب التكرير، لأن الكفر والردة والرضا بالكفر كلها أمور كفرية، وهذا فاسد فإنها أمور متغايرة؛ لأن مراده بقوله: «ما فعلت ذلك كفرا» أى وأنا باق على الكفر وقوله: «ولا ارتدادا» أى أنى ما كفرت بعد إسلامى، وقوله «ولا رضا بالكفر» معناه ولا آثرت جانب الكفار على جانب المسلمين، وهذه معان متغايرة واقعة موقعا حسنا، ومن ذلك ما روى عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه من قوله «فمن شواهد خلقه خلق السموات موطّدات بلا عمد، قائمات بلا سند» فالقيام والتوطيد، وقوله بلا عمد، وقوله بلا سند، متقاربة فى المعنى يجمعهن جامع التوكيد المعنوى، وقوله عليه السلام «دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات ولا مبطئات، والتلكؤ هو نوع من الإبطاء، ومن التوكيد المعنوى ما قاله المقنّع الكندى فى الحماسة «1» : وإنّ الذى بينى وبين بنى أبى ... وبين بنى عمّى لمختلف جدّا إذا أكلوا لحمى وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا

وإن ضيّعوا غيبى حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا عنى هويت لهم رشدا فانظر إلى هذه الأبيات، ما أجمعها لفنون الإنصاف، وأبلغها فى مراعاة جانب الحق والاعتراف، فهذه الألفاظ وإن كانت متغايرة، لكنها متطابقة فى المقصود دالة عليه، وكما يرد التأكيد المعنوى على ما ذكرناه فقد يرد ببرهان يشهد له، وتارة يرد على جهة العزيمة، ومرة بغير ذلك، فهذه وجوه ثلاثة، أولها ما يرد ببرهان دال عليه وهذا كقول أبى نواس «1» : قل للذى بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر يعلو فوقه جيف ... وتستقّر بأقصى قعره الدّرر وفى السماء نجوم، لا عديد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر فقوله: «أما ترى البحر» ، وقوله: «وفى السماء نجوم» ، إنما أوردهما على جهة الاستدلال والتقرير لما ادعاه من معاندة الدهر لذوى الأخطار وأهل المراتب العالية. وثانيها أن يكون واردا على جهة العزيمة والاهتمام بأمره، وهذا كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) [الواقعة: 75- 76] فقوله «وإنه لقسم» إنما ورد على جهة التأكيد لقوله «فلا أقسم» على جهة العزيمة لكونه قسما بالغا عظيما. وثالثها أن يكون واردا على خلاف هذين الوجهين وهذا كقوله «2» : فدعوا نزال فكنت أوّل نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل؟ فقوله «فعلام أركبه» وارد على جهة التأكيد لقوله «فكنت أول نازل» بالاستفهام على جهة التقرير وكقوله «3» : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول، من قراع الكتائب فقوله: «غير أن سيوفهم» إنما ورد على جهة التأكيد المعنوى، لكونهم شجعانا، فأورده

الضرب الثانى من التأكيد من غير فائدة

على صيغة الاستثناء، وكقول طرفة «1» : فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة، تهمى فقوله: «غير مفسدها» وارد على جهة التأكيد بصيغة الاستثناء، فهذا ما أردنا ذكره من التأكيد المعنوى الذى ورد لفائدة. الضرب الثانى من التأكيد من غير فائدة وهو أن ترد لفظتان مختلفتان يدلان على معنى واحد، وهذا كقول أبى تمام «2» : قسم الزمان ربوعنا بين الصّبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا فالصبا والقبول، لفظتان يدلان على معنى واحد، وهما اسمان للريح التى تهب من ناحية المشرق، ونحو قول الخطيب: قالت أمامة لا تجزع فقلت لها ... إن العزاء وإنّ الصبر قد غلبا فالعزاء هو الصبر، لأن معناهما واحد، كقول عنترة «3» : حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم فقوله «أقوى وأقفر» لفظان دالان على معنى واحد كما ترى وكقول بعض الشعراء من أهل الحماسة: إنى وإن كان ابن عمى غائبا ... لمقاذف، من خلفه وورائه فقوله «من خلفه وورائه» كلمتان دالّتان على معنى واحد، هذا ما ذكره ابن الأثير، والأقرب أن وراء، قد يستعمل بمعنى قدّام كما قال تعالى: وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: 79] أى قدامهم، ولأنه إذا كان بمعنى قدام، كان أدخل فى المدح وأعظم، لتضمنه تعميم الأحوال فى الحياطة والدفاع عنه، فهذا وما شاكله قد وقع فيه نزاع بين علماء البيان، فمنهم من رده وقال إن ما هذا حاله بمنزلة التكرار اللفظى، فإذا كان التكرار معيبا فلا

فرق بين أن يكون من جهة اللفظ، أو يكون حاصلا من جهة المعنى، ومنهم من قبله محتجّا بأن الألفاظ إذا كان فيها تغاير فليس معيبا، وقد استعمله الفصحاء، فدل ذلك على جوازه، والمختار عندنا فيه تفصيل، وحاصله أنا نقول: أما الناثر فلا يغتفر له مثل هذا، وهو أن يأتى بكلمتين دالتين على معنى واحد من غير فائدة، وليس هناك ضرورة تلجئه إلى ذلك، فلهذا كان معدودا فى النثر من العىّ المردود فلا نقبله، وأما الناظم فإنه إن أتى بهما فى صدر البيت فلا عذر له فى ذلك؛ لأنه مخالف للبلاغة والبراعة فى الفصاحة، ويدل على ضيق العطن فى الطلاقة والذلاقة، وإن كان فى عجز الأبيات فما هذا حاله يغتفر له من أجل الضرورة الشعرية، وقد اغتفر أئمة الأدب للشعراء كثيرا من الضرورات قد قررناها فى الكتب الأدبية وأظهرنا الجائز منها والممتنع والحسن والأحسن، وهذا الذى ذكرناه هو الذى يشير إليه كلام ابن الأثير فى كتابه المثل السائر وبتمامه يتم الكلام فى التوكيد.

الفصل الثانى عشر فى بيان المفردات التى خرجت عن هذه الفصول العشرة

الفصل الثانى عشر فى بيان المفردات التى خرجت عن هذه الفصول العشرة اعلم أن من الألفاظ المفردة ما يتعلق بالبلاغة، ويستعمل فى مواطن الفصاحة، ولم يمكن إيراده فى أثناء هذه الفصول، لاختلافها لكونها غير مندرجة تحت ضابط واحد، فلا جرم أفردناها بكلام يخصها، وهى منقسمة باعتبار الكلمة إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول ما يتعلق بالأسماء ونورد منها صورا الصورة الأولى قولهم [ «هذا» ] وهو من أسماء الإشارة، وهو إنما يرد على جهة الإشارة إلى كلام سابق، ومثاله قوله تعالى: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) [ص: 49] فإنه لما قص ما ذكره من حديث الأنبياء أيوب وإسماعيل واليسع وذى الكفل، أكد تلك القصص باسم الإشارة، والعطف بذكرها على ما سبق، ليؤكد أمرها ويوضح حالها من أجل أن لا يخالج فيها لبس أن يعتريها ريب، ومصداق ما قلته من إفادتها للتأكيد هو أنها لا تأتى إلا وتعقّبها إنّ المؤكدة كما فى ظاهر الآية من أجل إفصاح ما قلته من تأكيدها، وهذا كقولك لبعض إخوانك: رأيى لك أن تفعل كذا وكذا، ثم تقول بعد ذلك: هذا وإن الأمر إليك فافعل ما ترى، والمعنى هذا الذى أراه مصلحة لك فى الدين والدنيا، وإليك الخيرة بعد فى أمرك، وكقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) [ص: 55] فإنه ذكرها عقيب قوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) [ص: 50- 51] أى هذا نعيم، وملك مقيم، وشرف وعلو مرتبة، والجملة التى بعدها ليس لها موضع من الإعراب؛ لأنها واردة على جهة الابتداء، ولهذا جاءت متصلة بها، لتدل على تأكيدها، وقد يجىء بعدها جملة حالية، وهذا كقولك لمن يفشل ويضطرب حاله وينزعج قبل ملابسة الحرب: «هذا ولم تشجر الرماح» ، ولا وقعت المكافحة بالصفاح، ومثل قولك لمن لا ثبات له فى الأمر الذى يحاوله، ولا ترسخ قدمه عند مشارفة ما هو بصدده: «هذا ولم يطر الذباب» ، والمعنى هذا حالك إذا كلمتك شفارها، وأصابك لهبها وشرارها، ويتصدى فى قولنا: هذا من جهة الإعراب وجهان، أحدهما الرفع على أنه

الصورة الثانية قولنا: «اللهم»

مبتدأ وخبره محذوف، تقديره هذا على ما قررته، وثانيهما النصب على أنه مفعول لفعل محذوف، تقديره اعرف هذا، وكلا الوجهين لا غبار عليه. الصورة الثانية قولنا: [ «اللهم» ] فأما الكلام على لفظها، وكيفية تركيبها فقد ذكرناه فى حقائق الإعراب فلا وجه لإيراده ههنا، وإنما نذكر ما يتعلق بخصوصية البلاغة ومجيئها على أثر عموم، حشوا فى الكلام، حثا للسامع على رعاية القيد، وتنبيها له على جريان العموم إلا فى حالة القيد، ومثاله قولنا أنا لا أنقطع عن زيارتك، اللهم إلا أن يمنعنى مانع ولا أترك الإحسان إليك، اللهم إلا أن يحول بينى وبينك البعد، وقد وقع فى الحريريات: وما قيل فى المثل الذى سار سائره، خير العشاء سوافره، إلا ليعجّل التعشّى، ويجتنب أكل الليل الذى يعشى، اللهم إلا أن تقد نار الجوع، وتحول دون الهجوع، فهى كما ترى واقعة بين كلامين منبهة على مراعاة القيد الذى ذكرناه. الصورة الثالثة [ «كل» ] فإنه دال على الشمول. اعلم أنك إذا قلت: جاءنى القوم كلهم، فإنه دال بحقيقة وضعه على أن كل واحد منهم قد وقع منه المجىء، ويرفع أن تكون متجوزا فى نسبة المجىء إلى جميع القوم بأن يكون الجائى بعضهم لكون المختلف عنهم واحدا أو اثنين، أو لكون المتخلفين لا يعتد بهم، كما يقال أجمعت الأمة على كذا، وأنت تريد العلماء منهم؛ لأن من عداهم لا اعتداد به، أو أن تكون نسيت المجىء إلى جميعهم لأجل صدوره من بعضهم كما قال تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: 77] والعاقر لها من قوم صالح هو «قدار» لتنزلهم فى الرضا منزلته، وإذا قلت: ما جاءنى القوم كلهم، فإنه يفيد أن واحدا منهم قد جاء لأجل الشمول، فالنفى والإثبات يقعان على ما ذكرناه، نعم إنما يقع الخلاف إذا كان النفى واقعا على لفظة «كل» كقولك «ما كل القوم جاءنى» أو غير واقع عليها كقولك «كلّ القوم ما جاءنى» فهذان تقريران، التقرير الأول فى حكم النفى إذا وليته لفظة الشمول وكانت مندرجة تحته، سواء كانت عاملة فيه فى مثل قولك: ما كل طعامك مأكولا، أو غير عاملة كقولك: ما مأكول كل طعامك، فالنفى فى هذه الصورة واقع على الشمول فلا يناقضه مجىء بعض القوم، ولا أكل بعض الطعام؛ لأن النفى على الشمول والإثبات واقع على

بعضه فلا تناقض هناك، لاختلاف تعلّقهما بما يتعلقان به، وإنما تقع المناقضة إذا كان متعلقهما واحدا، وعلى هذا يحمل بيت أبى الطيب المتنبى «1» : ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهى السّفن فالنفى واقع على «كل» المفيد للشمول، وعلى هذا يجوز أن يكون الإنسان مدركا بعض متمناه، فلا مناقضة فيه لما ذكرناه وهكذا قول من قال «ما كل رأى الفتى يدعو إلى الرشد» ومنه قول بعض الشعراء «ما كل ماشية بالرحل شملال» والشملال الناقة السريعة، وأراد أن بعض ما يمشى بالرحل ليس سريعا فى سيره، ومنه قولهم «ما كل سوداء تمرة» يعنى أن بعض ما يكون أسود ليس تمرا، وليس منه الحديث النبوى حين سلّم على ثلاث من الظهر، فقال له ذو اليدين يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت، فقال عليه السلام كل ذلك لم يكن، وأراد ما كان شىء من ذلك، فقال ذو اليدين تقريرا لما قد تحققه من الحال، بعض ذلك قد كان، فجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم على غير ظاهر الحال، وجواب ذى اليدين على ما تحققه من الأمر فى التغيير، وغرضه أن بعضه قد كان وهو النسيان دون القصر، فلما كان حرف النفى غير متصدر على «كل» وهو «لم» جاء نفيا للفعل على جهة العموم كما ذكرته. التقرير الثانى أن يكون النفى واقعا على غير «كل» كقولك كل الأصحاب ما جاءنى، وكل الرجال ما أكرمت، وكل القوم ما لقيت، فمتى كان الأمر كما قلناه كان نفيا للفعل متصلا بالكل، فيناقضه ما جاء على خلافه، فإذا قلت: كل الإخوان ما جاءنى، وكل الرجال ما أكرمت، فإنه يناقضه، بل جاءنى بعضهم؛ لأنك نفيت الفعل على جهة الإطلاق، فلأجل هذا ضادّه ما جاء على عكسه، ومنه قوله عليه السلام لذى اليدين كل ذلك لم يكن، وقد قررناه من قبل، وقول أبى النجم «2» : قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... علّى ذنبا كله لم أصنع فإنه أراد أنه لم يصنع شيئا منه، وإنما كان المعنى هكذا، لما كان النفى واقعا على الفعل،

الصنف الثانى ما يتعلق بالأفعال،

وليس واقعا على «كلّ» فلهذا كان عاما، ومنه قول بعضهم: فكيف وكلّ، ليس بعدو حمامه ... وما لامرىء عمّا قضى الله مزحل فالنفى متصل بالفعل، فلهذا كان عاما ولو قلت: وليس كل يعدو حمامه، لأفسدت المعنى؛ لأنه يوهم أن بعض الناس يسلم من ملاقاة الحمام، وهو محال، ومنه قول دعبل: فو الله ما أدرى بأى سهامها ... رمتنى وكلّ، عندنا ليس بالمكدى أبا لجيد أم مجرى الوشاح وإننى ... لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد أراد أن سهامها كلها قاتلة لا يوجد فيها مكد بكل حال، وأكداه إذا نقصه، وأكداه، إذا منعه، فينحل من مجموع ما ذكرناه ههنا أن «كلّا» إذا ولى حرف النفى فى قولك: ما كل الرجال قائم، وما كل الرجال جاءنى، فإنه واقع على شموله، سواء كان عاملا فيه أو غير عامل، كقولك: ما كل الرجال لقيت أو أكرمت، وما كل الرجال قام، فإذا كان النفى واقعا على الشمول كان مؤثرا فيه النفى، فلا يناقضه ما جاء على عكسه، فعلى هذا تقول فى: ما كل الرجال جاءنى بل جاءنى بعضهم، فلا مناقضة فيه، بخلاف ما إذا كان حرف النفى واقعا حشوا فى نحو قولك: كل الرجال ما لقيت، وكل الرجال ما أكرمت، فإنه يكون واقعا على نفى الإكرام معلّقا بالشمول، فلهذا 7 ذا وقع ما يخالفه، كان مناقضا له، فإذا قلت: كل الرجال ما جاءنى، فإنه يناقضه بل جاءنى بعضهم، وسر التفرقة ما ذكرناه من تصدير حرف النفى ووقوعه حشوا وتوجّه النفى إلى الشمول خاصة، وأفاد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض، أو تعلّقه به، وما كان على خلاف ذلك كان عاما فى الشمول والآحاد، وما ذكره الشيخ عبد القاهر حيث قال: إن كانت كلمة «كلّ» داخلة فى حيز النفى بأن تأخرت عن أداته كقوله: ماكل ما يتمنى المرء يدركه، أو معمولة للفعل المنفى نحو ما جاءنى القوم كلهم، أو لم آخذ كل الدراهم، أو كل الدراهم لم آخذ، فالمعنى على نفى الشمول، مطابق لما ذكرناه فى هذين التقريرين وضابط لما كان من النفى متعلقا بالشمول دون الآحاد وما كان عاما فيها. الصنف الثانى ما يتعلق بالأفعال، وأكثرها متعلق بعلوم الإعراب، فلا حاجة بنا إلى ذكره، وإنما نذكر منها صورة واحدة وهى لفظة «كاد» وهى موضوعة للمقاربة دالة عليها، وقد وقع

الصنف الثالث فى الحروف

فيها خلاف بين النحاة، فمن قائل إنها كالأفعال فتكون فى الإثبات إثباتا، وفى النفى نفيا، ومن قائل إنها تخالف الأفعال، فتكون فى الإثبات للنفى وفى النفى للإثبات، وصار صائرون إلى التفرقة، فتكون فى الماضى إذا نفى للإثبات، وفى المستقبل كالأفعال، تمسّكا بقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) [البقرة: 71] وقد فعلوا، والمختار أنها جارية على حكم الأفعال فى النفى والإثبات، فإذا قلت: ما كاد يفعل، فالغرض أنه لم يفعل ولا قارب الفعل، وإذا قيل: يكاد يفعل، فالمراد من ذلك أنه قارب فعله ولم يفعله، فتجدها مطابقة للأفعال فى نفيها وإثباتها، فأما ما قاله ذو الرمة فى قصيدته الحائية «1» : إذا غيّر النأى المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح فإنه يحكى أنه لما أنشد هذا البيت، ناداه ابن شبرمة ياغيلان أراه الآن قد برح، فشنق ناقته، وجعل يتأخر بها ويفكر ثم قال: إذا غيّر النأى المحبين لم أجد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح قال عنبسة فحكيت لأبى القصة فقال أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذى الرمة، وأخطأ ذو الرمة، حيث غيّر شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40] والمعنى أنه لم يرها ولم يقارب رؤيتها، وهكذا القول فى جميع مواردها يكون وضعها على هذا الوضع من غير مخالفة للأفعال. الصنف الثالث فى الحروف واعلم أن الكلام فى أسرار الحروف يتعلق بعلم الإعراب، وإنما نذكر أفرادا من الحروف لها تعلق بالبلاغة ومواطن الفصاحة، ونورد من ذلك صورا: «الصورة الأولى» [ «إنما» ] فى قولك: إنما أنت الكريم، وهى ترد للحصر فيما هى فيه، فمعنى إنما فى قوله تعالى: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: 110] ما إلهكم إلا إله واحد، قال أبو على الفارسى فى الشيرازيات، يقول جماعة من النحاة فى قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما

دقيقة

ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: 33] إن المعنى فيها ما حرم ربى إلا الفواحش، وقد رأيت ما يدل على ذلك ويؤذن بصحته، كقول الفرزدق «1» : أنا الذّائد الحامى الذّمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلى فانفصال الضمير دال على ذلك، كما لو قال ما يدافع عنهم إلا أنا أو مثلى، وقال أبو إسحاق الزجاج والذى أختاره فى قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة: 173] أنه فى معنى ما حرم عليكم إلا الميتة؛ لأن «إنما» إنما تأتى إثباتا لما يذكر بعدها، ونفيا لما سواه، قال الشيخ عبد القاهر لم يعنوا بذلك أنهما يكونان بمنزلة المترادفين؛ لأنه ربما يصلح أحدهما حيث لا يصلح الآخر، لهذا فإنك تقول: ما من إله إلا الله، وما أحد إلّا يقول ذاك، فما هذا حاله يصلح فيه «ما» و «إلا» ولا يصلح فيه «إنما» وتقول إنما هو درهم لا دينار، فيصلح فيه «إنما» ولا تقول: ما هو إلا درهم لا دينار. دقيقة اعلم أن «إنما» الأصل فى وضعها أن تكون لما لا يجهله المخاطب أو ما ينزل منزلته، فأما الأول فمثاله قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] وقوله إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد: 7] وإِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ [طه: 98] وإِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) [النازعات: 45] وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] إلى غير ذلك مما يتضح الأمر فيه ويكون ظاهرا، وأما مثال الثانى فقولك: إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، فتذكر هذا لمن يعترف بحقه ويقرّ به، غير أنك تريد أن تنبيه إلى ما يجب من حق الأخوة وحرمة الصحبة، قال الشاعر «2» : إنما مصعب شهاب من الله ... تجلّت عن وجهه الظلماء وتقول: إنما هو أسد وسيف صارم، أى أن هذه الصفات ثابتة لازمة له.

الصورة الثانية حرف الإثبات «أن»

الصورة الثانية [حرف الإثبات «أنّ» ] وهو «أنّ» وإنما ترد على جهة التأكيد للجملة الابتدائية، وتدخل الفاء عليها وقد لا تدخل، وهو الأكثر المستعمل فى كتاب الله تعالى، والضابط لدخولها وعدم دخولها هو أنها إذا كانت مذكورة للربط بين الجملتين حتى كأنهما قد أفرغا فى قالب واحد وسبكا سبكا منتظما، فإنها تأتى بغير فاء وهذا كقوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) [لقمان: 17] وقوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ [الحج: 1] وقوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103] وقوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) [هود: 37] وقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) [يوسف: 53] وهذا وارد فى التنزيل كثير لا يحصى كثرة أعنى زوال الفاء عنها كما مثلناه فأما كلام علماء البيان فالفاء إنما حذفت وهى مما تؤذن بالوصل لأن الحال محمول على تقدير سؤال كأنه قال قائل: هل صلاة الرسول سكن لهم، فقيل له: إنها سكن لهم، وهكذا القول فى جميع ما أوردناه من الأمثلة فإنه وارد على هذه الطريقة وعلى ما ذكرناه- فإنه يخالف ما قرروه فى ذلك، والغرض من زوالها ما قررناه من كون الجملتين مزجا مزجا واحدا وكقول من قال «1» : فغنّها وهى لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء وقول بعضهم: عليك باليأس من الناس ... إنّ غنى الأنفس فى الياس وقول بعض الشعراء «2» : جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بنى عّمك فيهم رماح وحيث تكون الجملة الثانية مغايرة للجملة الأولى فإن الفاء تأتى متصلة بها وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) [الصافات: 161] وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا

الصورة الثالثة همزة الاستفهام،

الْبُطُونَ (66) [الصافات: 66] ومن خواص هذا الحرف أن له من المكانة ما يكسو ضمير الشأن أبهة وبلاغة يعرى عنها إذا هو فارق ظله، ومثاله قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 90] وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46] وحكى عن الأخفش أن الضمير فى «إنّها» راجع إلى الأبصار، ويكون من قبيل الإضمار قبل الذكر على شريطة التفسير. الصورة الثالثة [همزة الاستفهام] ، وتختلف معانيها بحسب اختلاف مواقعها، فمن وجه الاستفهام أن تستفهم عما تكون شاكا فيه، فإذا وليت الهمزة الأسماء فالشك يكون فى الفاعل، فتقول: أأنت فعلت هذا، إذا كان الشك فى الفاعل من هو، فإذا قلت: أأنت كتبت هذا الكتاب، كنت غير شاك فى الكتب نفسه، وإنما وقع الشك فى الكاتب، وتقول: أأنت قلت شعرا لمن تحقق قول الشعر، وإنما وقع شكه فى قائله، قال الله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) [الأنبياء: 62] فلم يقع شكهم فى الفعل أصلا، وإنما وقع فى الفاعل، ولهذا كان جواب إبراهيم بذكر الفاعل مطابقا لما قالوه من ذلك، وهكذا قوله تعالى: لعيسى عليه السلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] على جهة التقرير من جهة الفاعل، وإن وليت الفعل كان الشك واقعا فيه كقولك: أخرجت من الدار؟ وأقلت شعرا؟ فالاستفهام إنما وقع فى الفعل كما ترى، ولهذا كان جوابه «بنعم أو لا» وهذا كله إن كان الواقع ماضيا، فأما إذا كان مضارعا فهو على وجهين، الوجه الأول منهما أن يكون للحال، ثم إما أن تكون الجملة مصدّرة بالفعل أو بالاسم، فإن صدّرت الجملة بالفعل، ومثاله أن تقول لمن هو مشتغل بالفعل أتفعل هذا، ويكون المعنى معه أنك أردت أن تنبيهه على فعل وهو يفعله موهما أنه لا يعلم كنه حقيقة وجوده وأنه جاهل به، وإن كانت الجملة مصدرة بالاسم كقولك: أأنت تفعل هذا، يكون المعنى فيه أنك تكون مقرا له بأنه هو الفاعل، وكان وجود ذلك الفعل ظاهرا لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن وموجود، هذا كله إذا كان الفعل المضارع للحال ومنه قول الشاعر «1» : أيقتلنى والمشرفى مضاجعى ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال كأنه أراد تكذيبه وأنه لا يقدر على ما قاله ولا يستطيعه.

الصورة الرابعة فى حروف النفى وهى ما، ولن، ولا، ولم

الوجه الثانى أن يكون للاستقبال ثم إما أن تكون الجملة مصدرة بالفعل كقولك: أتفعل هذا فى أمر مستقبل، ويكون معناه إنكار الفعل نفسه، وتزعم أنه غير كائن، وأنه لا ينبغى أن يكون أبدا، وإما أن تكون مصدرة بالاسم كقولك: أأنت تفعل كذا وأنت موجه الإنكار إلى الفاعل أى أنه لا يتأتى منه ذلك الفعل ولا يستطيعه، ويوضحه أنك إذا قلت: أأنت تمنعنى عن الفعل، كنت منكرا منعه وأنه غير قادر وإنما يقدر على ذلك غيره قال «1» : أأترك إن قلّت دراهم خالد ... زيارته؟ إنّى إذن للئيم هكذا قرّر علماء البيان دخول الهمزة على هذه الأوجه كما ترى. الصورة الرابعة فى [حروف النفى وهى ما، ولن، ولا، ولم] واعلم أن لحروف النفى تعلقا بالبلاغة لما يلحقها من الأسرار القرآنية والمعانى الشعرية بحسب مواقعها ومواردها لها بالإضافة إلى الأزمنة التى تدخل عليها ثلاث حالات: الحالة الأولى أن تكون داخلة على الفعل لنفى الأزمنة الماضية وهذا نحو قولنا: لم، ولما، فإنهما موضوعان من أجل نفى الماضى، خلا أنّ «لمّا» مفارقة «للم» من وجهين، أما أولا فلأن «لم» لنفى فعل ليس معه قد، «ولما» لنفى فعل معه قد، فلم لنفى قولنا: فعل فتقول فى جوابه لم يفعل، وأما ثانيا فلأن نفى «لما» أبلغ من نفى لم، ولهذا فإنك تقول: ندم ولم ينفعه الندم، أى نفى ندمه وتقول ندم ولما ينفعه الندم أى إلى وقته، فحصل من هذا أن نفى «لمّا» أبلغ من نفى «لم» لما قررناه والسبب فى ذلك أن «لما» أنفس فى حروفها من «لم» فلا جرم حصلت المبالغة فيها من أجل ذلك. الحالة الثانية أن تكون داخلة لنفى الحال وهى «ما» فتقول ما يفعل زيد، وما زيد منطلقا ومنطلق، فالرفع لغة بنى تميم، والنصب فى الخبر لغة أهل الحجاز، وهى فى جميع مداخلها لنفى الحال سواء كان دخولها على الفعل، أو على الاسم رافعة للخبر أو ناصبة له، ومصداق كونها واردة فى أصل وضعها لنفى الحال، امتناع قولنا: إن تكرمنى ما أكرمك، لأن الشرط للاستقبال، فلو كانت لنفى المستقبل لجاز ذلك كما جاز فى نحو لن أكرمك إن

أكرمتنى لما كانت مطابقة للشرط فى صلاحية الاستقبال، فإن وردت لنفى المستقبل فإنما هى على المجاز، والحقيقة ما ذكرناه من نفى الحال، واستغراق الكلام فى أسرارها إنما يليق بالمقاصد الإعرابية وفيما ذكرناه غنية فيما نريده ههنا. الحالة الثالثة «لا» و «لن» وهما موضوعان لنفى الأزمنة المستقبلة، فإن استعملا فى غير الأزمنة فإنما يكون على جهة المجاز والاستعارة، فيشتركان جميعا فى كونهما دالتين على النفى مطلقا، وفى كونهما لنفى الأزمنة المستقبلة، وهذا لا يقع فيه خلاف بين أئمة الأدب من أهل اللغة والنحاة فى وضعهما حقيقة لما ذكرناه، وإنما يفترقان من جهة أن «لن» آكد من «لا» فى نفى المستقبل مطلقا، قال الزمخشرى فيما عمله فى مفصله و «لن» للنفى لتأكيد ما يعطيه «لا» من نفى المستقبل، وأراد بما قاله أن «لن» فى النفى مرشدة إلى التأكيد، وأن نفيها أبلغ من نفى «لا» ولهذا جاءت على أنها معطية لما أعطته «لا» مع زيادة بلاغة فى تلك الفائدة التى أدتها «لا» ويقوى ما ذكره الشيخ من طرق ثلاثة. الطريق الأول قوله تعالى فى آية: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] فنفى الإدراك عن ذاته على جهة العموم فى الأزمنة المستقبلة، فلما أراد المبالغة فى النفى بأبلغ من ذلك قال جوابا لسؤال موسى حيث قال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] فأتى بالجواب على جهة المبالغة بقطع الرجاء وحسما لمادة الطمع والتشويق إلى ذلك لأحد، ويؤيد كونه واردا على جهة المبالغة، هو أنه عقبه بالتعليق على أمر محال حيث قال وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف: 143] الآية فتعقيبه بالمحال عقيب ما قرره من المبالغة بالنفى فيه دلالة قاطعة على ما ذكرناه من مقالة الشيخ بلا مرية. الطريق الثانى قوله تعالى فى آية: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) [الجمعة: 6] ثم قال وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً [الجمعة: 7] فجاء فى الجواب ههنا بلا، وقال فى آية أخرى قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) [البقرة: 94] ثم قال فى هذه الآية وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] فجاء فى الأولى «بلا» وجاء فى الثانية «بلن» لأنه لما لوحظ فى الثانية معنى البلاغة من جهة أنه أكده، بلكم، على جهة الملك والاختصاص من بين سائر الناس ووصف الدار بكونها آخرة مبالغة فى أمرها وإيضاحا لشأنها، وقرره بقوله «عند الله» إيضاحا للأمر أيضا ثم قال «خالصة» يعنى مختصين بها

الصورة الخامسة «لو»

دون غيركم، وهكذا قوله مِنْ دُونِ النَّاسِ [الجمعة: 6] فيه نهاية الاختصاص، فلما حصل تأكيد هذا الخطاب بهذه الأنواع من التوكيد، أتى بالنفى «بلن» لما بالغ فى إتيانه بالغ فى نفيه «بلن» وهذا كله دال على كونها موضوعة للمبالغة. الطريق الثالث هو أنه بالغ فى ما نفى «بلن» بأن أكّده بقوله «أبدا» وفى هذا أعظم دلالة على أن وضعها للمبالغة فى النفى، فهذه الطرق الثلاث كلها مقررة لما ذكره الشيخ من أن «لن» لتأكيد ما تعطيه «لا» من نفى المستقبل، فأما ابن الخطيب أبو المكارم صاحب التبيان فقد يتلكأ فى قبول ما ذكرناه، وزعم أن الأمر على العكس مما أوردناه، وأن النفى «بلا» آكد من النفى «بلن» وقال: إن الزمخشرى إنما ذهب إلى هذه المقالة بناء على مذهبه فى الاعتزال، من نفى الرؤية واستحالتها على الله تعالى، وهذا خطأ منه، فإنا قد دللنا على كون «لن» دالة على مبالغة النفى بها فى الأزمنة المستقبلة، ومن العجب أنه قال: إنما صار الزمخشرى إلى ما حكيناه عنه لأجل الاعتزال، فليس الأمر كما زعمه، وإنما صار إليه للدليل الواضح من جهة نص الأدباء واستعمال أهل اللغة على ذلك، ومما يؤيد ما ذكرناه ويوضحه هو أن الله تعالى لما نفى «بلا» إدراك الأبصار عن ذاته بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] أى المبصرون بالأبصار على جهة العموم والاستغراق فى الأزمنة المستقبلة من غير مبالغة هناك وقال ردا لسؤال موسى حيث قال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] «فجاء بهذه اللفظة قطعا لطمع الرؤية وإحالة لها بكونه أجابه بما يفيد الاستغراق والتأبيد، واستقصاء الكلام فى استحالة الرؤية من الأدلة النقلية يليق بالعلوم الدينية وقد أشرنا إليها فى كتاب «النهاية» وبالله التوفيق. الصورة الخامسة [ «لو» ] ووضعها فى الشرط للماضى كما كانت «إن» شرطا فى المستقبل خلافا للفراء فإنه زعم أنها شرط فى المستقبل كإن، وتطلب فعلين تعلق الثانى منهما بالأول تعليق المسبب بالسبب، فإن كانا منفيين لفظا فهما مثبتان من جهة المعنى، وإن كانا مثبتين لفظا فهما منفيان من جهة المعنى، وإن كان الأول مثبتا والثانى منفيا، أو بالعكس فهما فى المعنى على المناقضة من لفظهما: لا يقال: فإذا كان الأمر كما قلتموه فى «لو» فكيف يمكن تنزيل الحديث النبوى الوارد فى حق «صهيب» فى قوله عليه السلام «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإنه إذا كان الأمر على ما قررتموه فى «لو» كان حاصله أنه خاف الله فعصاه،

وهذا يفيد أن يكون الخوف سببا فى المعصية، والحقيقة على خلاف ذلك: لأنا نقول: أما القانون المعتبر فى «لو» والجارى على الاطراد فهو ما ذكرناه، فإذا ورد ما يخالفه، وجب تأويله على ما يوافق مجراه وله تأويلات ثلاثة، التأويل الأول أن جريها على ما ذكرناه من الأوجه الأربعة هو المطرد لكن قد يعرض من ذلك بسبب القرائن ما يوجب كون النفى باقيا على حاله من إفادته للنفى، وللقرائن تأثير عظيم فى تغيير الألفاظ فى العموم، والخصوص، والحقائق، والمجازات، وعلى هذا يكون المعنى فى الخبر أن الله تعالى: خصه بطهارة فى باطنه وقوة فى عزيمته بحيث إنه لو انتفى الخوف عن قلبه فإنه لا يلابس معصية، فكيف به وقد حصل فى أرفع مكان من الخوف وأعلاه، وعلى هذا يكون النفى على حاله من غير تقرير كونه ثابتا من أجل القرينة وهذا كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] فظاهر الآية دال على ثبوت النفاد لكلمات الله تعالى؛ لأنه منفى فى ضمن «لو» فلهذا لم يكن بد من بقائه على حاله لأجل القرينة كما ذكرناه فى مسئلة صهيب، والله أعلم. التأويل الثانى أن «لو» وضعها للتقدير، والتقدير هو أن يعطى الموجود معنى المعدوم أو المعدوم معنى الموجود كما فى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] فإنه قدر وجود الآلهة ثم رتب على وجودهم الفساد، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أنه قد يؤتى بها لقصد الإثبات للحكم على تقدير لا يناسب الحكم ليفيد ثبوت الحكم على خلاف الذى فيه مناسبة ويكون ذلك من طريق الأولى، فيعلم ثبوت الحكم مطلقا، فيجب تنزيل مسئلة «صهيب» على هذا، فإنه إذا لم يخف الله لم يصدر منه عصيان، لما أعطاه الله تعالى من تزكية النفس، وطهارة القلب، فكيف به وقد استمسك بالعروة الوثقى من الخوف، فعلى هذا يكون انتفاء العصيان أولى وأحق، ومثاله قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) [الأنفال: 23] فعلى هذا يجب تنزيل معنى الآية على ما قررناه من قبل، فيكون التقدير فيها لو فهّمهم الله تعالى: لما أجدى فى حقهم التفهيم، لما اختصوا به من التمرّد والعناد فكيف حالهم وقد سلبهم القوة الفاهمة، فيكون مع هذا أبلغ فى انتفاء الفهم وأدخل فى عدم القبول والهداية لا محالة،

الصورة السادسة ما، وإلا،

وتقول لألزمنّ صحبتك ولو أقصيتنى ولأشكرنك ولو لم تعطنى، إلى غير ذلك من الأمثلة، وكقول امرىء القيس «1» : فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى فإذا كان ملازما لها مع تقطيع الأوصال فملازمتها مع المحبة والألفة تكون أدخل لا محالة، وهذه الواو هى المطلعة على هذه الأسرار، فإذا قدّر زوالها زالت البلاغة، وكقول زهير «2» : ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلّم والمعنى فى هذا أن كل من كان هائبا لأن تناله المنايا فى غاية البعد عنها، فهى لا محالة واقعة به ومصيبة له، فكيف حال من لا يدخل فى قلبه هيبة لها، هى فى الإصابة له أدخل وأقرب إلى هلاكه وأسرع. التأويل الثالث أن تكون «لو» فى بابها بمنزلة إن الشرطية كما قاله الفراء، وعلى هذا يكون دخول حرف النفى مفيدا لمعناه من النفى من غير قلب له كما كان ذلك فى إن الشرطية من غير فرق بينهما، وعلى هذا يكون معناه أنه إن لم يخف الله فلا يعصيه بحال كما تقول إن لم تكرمنى لم أكرمك، فالإكرامان منفيان، وعلى هذا يكون الخوف منفيا والعصيان مثله فى النفى أيضا، والتأويلان الأوّلان عليهما يكون التعويل؛ لأن «لو» شرط فيما مضى بخلاف إن، خلافا لما زعمه الفراء، وقد قررنا معناها فى الكتب الإعرابية. الصورة السادسة [ما، وإلا] ، اعلم أن «ما» و «إلا» إذا تركبا فى الكلام فإنهما يفيدان الحصر لا محالة، إما فى الأسماء، وإما فى الصفات، فهذان وجهان، الوجه الأول الحصر فى الأسماء، إما فى الفاعل كقولك ما ضرب عمرا إلا زيد، فالمعنى فى هذا أنه لا ضارب لعمرو إلا زيد، و 7 ما فى المفعول كقولك، ما ضرب زيد إلا عمرا، فالمعنى فيه أنه لا مضروب لزيد إلا عمرو، ولو قلت ما ضرب إلا عمرا زيد، كانا سواء؛ لأن الغرض هو حصر المفعول، وهو ما يلى

«إلا» سواء تقدم الفاعل أو تأخر عن المفعول، ومما جاء فى حصر الفاعل قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] فالمعنى أنه لا خاشى لله إلا هم، وأنهم هم المستبدون بمراقبة الله تعالى: وتعظيم شأنه من بين سائر الخلق، ولو كان الحصر واقعا فى المفعول لانعكس المعنى، فلو قال إنما يخشى العلماء الله، لكان تقديره ما خشى العلماء إلا الله، وعلى هذا يكون الحصر فى المخشّى لا فى الخاشى ويفيد أن المخشى هو الله دون غيره، وعند هذا لا يمتنع أن يشارك العلماء غيرهم فى خشية الله، فعلى المعنى الأول الخشية محصورة فى العلماء، وعلى المعنى الثانى الله المخشى دون غيره، ومع هذا يكون مخشيا للعلماء ولغيرهم، وسرّ التفرقة بين المعنيين إنما يحصل من جهة ما ذكرناه من انحصار الفاعل، والمفعول بعد «إلا» كما قررناه، وإنما كان الحصر مختصا بإلا، ولم يكن حاصلا قبلها؛ لأن الحصر من أثر «إلّا» وأثر الحرف لا يحصل إلا بعده، ولا يكون حاصلا قبله، الوجه الثانى الحصر فى الصفات، أما حصر الأسماء عليها، فكقولك: ما زيد إلا قائما، فإنك نفيت أن يكون زيد على صفة من الصفات إلا صفة القيام، وأما حصرها على الأسماء فكقولك: ما قائم إلا زيد فإنك نفيت أن يكون القيام لأحد إلا لزيد، فالحصر إنما يتناول ما بعد «إلا» كما قررناه، فعلى هذا يكون اعتبار المسائل فى الأسماء والصفات فى الحصر، فإن قال قائل هل يكون قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ [الأنعام: 100] من باب التقديم والتأخير، أو يكون من باب الحصر، فإن كان من باب الحصر فليس هنا ما يوجب الحصر ويقتضيه من الأحرف التى تدل عليه، وإن جعلتموه من باب التقديم والتأخير، فأظهروا التفرقة بين المعانى فى التقديم والتأخير، والجواب أما الحصر فلا مدخل له ههنا، لفقد ما يكون دالا على الحصر من أحرف المعانى وهى، إنما، وما، وإلا، وإذا بطل أن تكون الآية من باب الحصر وجب جعلها من باب التقديم والتأخير، وعلى هذا يكون لها فى الإعراب تفسيران، ويكون المعنى فيها تابعا للإعراب كما نوضحه. التفسير الأول أن يكون الجعل من باب التصيير كقوله تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً

وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً [النمل: 61] وهو كثير الدور والاستعمال فى كتاب الله تعالى، وعلى هذا يكون له مفعولان، فالمفعول الأول هو الشركاء، والثانى هو الظرف، وهو قوله «لله» وعلى هذا يكون الإنكار متوجها على أن يكون لله تعالى: شركاء على الإطلاق، ويكون انتصاب «الجن» على إضمار فعل محذوف، كأنه قيل فمن جعلوا لله شركاء؟ قيل جعلوا الجن، فالأولى جملة على حيالها، والثانية جملة على حيالها، وعلى هذا لا يكون فيه تقديم ولا تأخير بالإضافة إلى الجن والشركاء، لانقطاع أحدهما عن الآخر كما ترى، نعم يمكن تقدير التقديم والتأخير بالإضافة إلى الظرف نفسه، فيقال: هل من فرق بين تقديم الظرف على الشركاء وتأخيره، والذى يمكن من التفرقة فيه هو أن يقال: إن الظرف إذا كان متقدما كما فى نظم الآية وسياقها، فإن الإنكار متوجه من الله حيث جعلوا له شريكا مع أن فيه دلالة على أنهم لم يجعلوا لغيره شركاء، بخلاف ما لو قال: وجعلوا شركاء لله، فإن الإنكار حاصل فيه، لكن ليس فيه دلالة على أنهم ما جعلوا لغيره شركاء، ونظير ذلك قولك: ما أمرتك بهذا، وما بهذا أمرتك، فإنك إذا أخّرت الظرف كان حاصله نفى الأمر عن نفسك من غير أن يكون فيه دلالة على أنك أمرته بشىء آخر، بخلاف ما إذا قلت: ما بهذا أمرتك، فإنه كما هو دال على نفى الأمر عن نفسك، فإنه دال على أنك قد أمرته بشىء آخر، وهكذا تكون الآية كما قررته. التفسير الثانى أن يكون المفعول الأول لجعل، هو الجن، والمفعول الثانى هو الشركاء، وعلى هذا يكون الظرف ليس بمعتمد ويكون متعلقا بشركاء ومن ههنا يظهر سر التفرقة بين التفسيرين، فأنت على التفسير الأول يظهر لك أن الإنكار إنما توجه عليهم من جهة إضافة الشركاء إلى الله تعالى على جهة الإطلاق، سواء كان من جهة الجن، أو من جهة غيرهم؛ لأن المعنى أنه لا شريك لله فى الإلهية، لا من الجن، ولا من غير الجن، بخلاف المعنى الثانى، فإن الإنكار إنما كان متوجها من جهة مشاركة الجن لا غير، ولا شك أن الإطلاق مخالف للتقييد، وعلى هذا يكون التفسير الأول أخلق بالآية وأدلّ على المبالغة من التفسير الثانى، وبما ذكرناه تدرك التفرقة بينهما. ولقد كان إيراد هذه الآية حقيقا بفصل التقديم والتأخير لكونها منه وأخص به، والذى جر من إيرادها ههنا هو ما عرض فيها من الإشكال، هل هى من باب الحصر، أو من

الصورة السابعة بيان فوائد «إن»

باب التقديم والتأخير، فقس على هذا ما يرد عليك من أسرار النظم، فإن تحته أسرارا جمة، ونكتا غزيرة، تنبهك على كثير من الفوائد، وتطلعك على المناظم والمعاقد، هذا إذا لحظت من الله بتوفيق، يهدى إلى كل طريق من الخير والتحقيق. الصورة السابعة بيان فوائد [ «إنّ» ] وجملتها أربع الفائدة الأولى أنها كما أشرنا إليه تربط الجملة الثانية بالأولى، وبسببها يحصل التأليف بينهما، حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا، ولو أسقطتها ظهر التنافر بينهما وبطلت الملاءمة، وهذا كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) [الدخان: 51] بعد قوله: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) [الدخان: 50] فلو قال: فالمتقون فى مقام أمين، كان من حسن النظام بمعزل. الفائدة الثانية أن لضمير الشأن والقصة معها من حسن الموقع، وجودة النظام، ورشاقة التأليف، ما لا يمكن وصفه، وهذا كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 90] وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 63] وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ [الأنعام: 54] وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) [المؤمنون: 117] . الفائدة الثالثة أنها تهيىء النكرة وتجعلها صالحة لأن يحدّث عنها وهذا كقوله «1» : إنّ دهرا يضمّ شملى بسعدى ... لزمان، يهمّ بالإحسان وكقوله «2» : إنّ شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون وسر ذلك هو أنها لما كانت موضوعة لتأكيد الجملة الابتدائية لا جرم اغتفر دخولها على النكرات وهيئاتها للحديث عنها كما ذكرناه.

الفائدة الرابعة هو أنها إذا دخلت على الجملة الابتدائية فقد يجوز الاقتصار على الاسم دون الخبر وهذا كقوله «1» : إنّ محلّا وإنّ مرتحلا ... وإنّ فى السفر إذ مضوا مهلا وهذا إنما يكون حيث يكون الخبر معمولا مدلولا عليه بالقرينة؛ لأن المعنى إن لنا محلا فى الدنيا وإن لنا مرتحلا إلى الآخرة، فهذا ما أردنا ذكره من هذه الصور الخارجة عن الضوابط، وبتمامه يتم الكلام فى الفصل العاشر من الباب الثانى من فن المقاصد، وهو الكلام فى الدلائل الإفرادية وبالله التوفيق.

الباب الثالث فى مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعانى المركبة

الباب الثالث فى مراعاة أحوال التأليف وبيان ظهور المعانى المركبة اعلم أن جميع ما أسلفناه إنما هو كلام فى الأمور الإفرادية إلا أن يعرض عارض فيجرى فى الأمور المركبة، والذى نذكره الآن إنما هو كلام فى الأمور المركبة، إلا أن يعرض ما يوجب الإفراد، وقبل الخوض فيما نريده من ذلك نذكر تمهيدا لما نريد ذكره من بعد، وينبنى على قواعد ثلاث. القاعدة الأولى [مراعاة ما يقتضيه علم النحو] يجب على الناظم والناثر فيما يقصد من أساليب الكلام مراعاة ما يقتضيه علم النحو أصوله وفروعه من تعريف المبتدأ وتقديمه وجوبا، إذا كان استفهاما، أو شرطا، وجوازا فى غير ذلك، ومراعاة تنكير الخبر، وتقديمه إذا كان المبتدأ نكرة، وأن يراعى فى الشرط والجزاء، كون الجملة الأولى فعلية وجوبا، والثانية بالفاء إذا كانت جملة اسمية، أو فعلية إنشائية، كالأمر والنهى، أو خبرية ماضية، وأن يأتى بالواو فى الجملة الاسمية إذا وقعت حالا، وتحذف مع المضارع المثبت، وأن يضع كل حرف لما يقتضيه معناه بالأصالة، فيأتى «بما» لنفى الحال و «بلا» لنفى الاستقبال و «بإن» الشرطية فى المواضع المحتملة المشكوك فيها و «بإذا» فى المواضع الصريحة و «بإذ» لما مضى وينظر فى الجمل، وما يجب من مراعاة عود الضمير فيها وما لا يجب، ويتصرف فى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والإضمار، والإظهار ومواضع الاتصال والانفصال فى الضمائر، وتعلقات الحروف إلى غير ذلك مما توجبه صناعة علم الإعراب، ويوجبه حكمه. القاعدة الثانية [مراعاة ما يقتضيه اللفظ من الحقيقة والمجاز] يجب عليهما مراعاة ما يقتضيه اللفظ من الحقيقة والمجاز، واعلم أن المجاز يدخل دخولا أوليا، وله مدخل عظيم، وهو أحق بالاستعمال فى باب الفصاحة والبلاغة، وقد شرحنا قوانينه فيما سبق فأغنى ذلك عن الإعادة، والذى نريد ذكره ههنا هو أن فائدة الكلام الخطابى إنما يكون لإثبات الغرض المقصود فى نفس السامع، وتمكنه فى نفسه على جهة التخيل والتصور، حتى يكاد ينظر إليه عيانا، وبيان ذلك أنا إذا قلنا زيد أسد، فإنه يفيد فائدة قولنا زيد شجاع، لكن التفرقة بين القولين فى التصور والتخيل ظاهرة، فإن

القاعدة الثالثة مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة

قولنا: زيد شجاع، لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جرىء فى الحروب، مقدام على الأبطال، وإذا قلنا، زيد أسد، فإنه يتخيل عند ذاك صورة الأسد وهيئته وما هو متصف به من الشجاعة والبطش، والقوة والاستطالة على كل حيوان، واختصاصه بدقّ الفرائس وهضمها، وهذا لا نزاع فيه، ومما يوضح ما ذكرناه هو أن العبارة المجازية تكسب الإنسان عند سماعها هزة وتحرك النشاط، وتمايل الأعطاف، ولأجل ذلك يقدم الجبان، ويسخو البخيل، ويحلم الطائش، ويبذل الكريم نهاية البذل، ويجد المخاطب بها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع ذلك الكلام أفاق من تلك السكرة، وهب من سنة تيك النومة، وندم على ما كان منه من بذل مال، أو ترك عقوبة، أو إقدام على أمر هائل، وهذه هى فائدة سحر لسان الفصيح اللوذعىّ، المستغنى عن إلقاء الحبال والعصىّ، ومصداق هذه المقالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من البيان لسحرا، يشير به إلى ما قلناه، فهذه هى فائدة المجاز، نعم إذا ورد كلام يكون محتملا للحقيقة والمجاز جميعا فى موارد الشريعة، كان حمله على حقيقته أحق من حمله على مجازه، لأنها هى الأصل، والمجاز فرع، وقد قررنا هذا المأخذ فى الكتب الأصولية، وهمنا ما يتعلق بعلوم البلاغة. القاعدة الثالثة [مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة] يجب مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، حتى تكون أجزاء الكلام متلائمة آخذا بعضها بأعناق بعض، وعند ذلك يقوى الارتباط، ويصفو جوهر نظام التأليف، ويصير حاله بمنزلة البناء المحكم المرصوص المتلائم الأجزاء، أو كالعقد من الدر فصلت أسماطه بالجواهر واللآلىء، فخلص على أتم تأليف، وأرشق نظام، ولنضرب فى ذلك مثالين: المثال الأول فى المدح وهذا كقول البحترى: بلونا ضرائب من قد مضى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكا ورأيا صليبا تنقّل فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجّى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا «1» فانظر إلى إجادته فى تأليف هذه الكلمات التى صارت كالأصباغ التى يعمل منها

النقوش، فما أحسن موقع قوله هو المرء، كأنه قال «فتح» هو الرجل الكامل فى الرجولية، ثم تأمل إلى تنكيره السؤدد وإضافة الخلقين إليه، ثم عقّبه بقوله: فكالسيف، فلقد أجاد فى التشبيه وأحسن فى صوغه «وليس كلّ آذان تسمع القيل» فليس إذا راق التنكير فى موضع يروق فى كل موضع، بل ذاك على حسب الانتظام، ومأخذ السياق يفوق ويزداد إعجابا وحسنا، فأنت إذا فكرت فى هذه الأبيات وجدتها قد اشتملت على نهاية المدح مع ما حازته من جودة السبك وحسن الرصف فى أسهل مأخذ وأعجبه، وهكذا يكون الإعجاب فى القلة والكثرة بحسب ما ذكرناه. المثال الثانى فى الذم وهذا كقول الشاعر: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولى على النار «1» فتأليف هذا البيت مشتمل على نهاية الهجاء حتى لا تكاد لفظة من ألفاظه إلا ولها حظ فى الذم والنقص لهؤلاء، فقوله «قوم» هو مخصوص بالرجال، وفيه دلالة على أنهم أعراب جفاة ليس لهم ثروة ولا تمكن فلا يألفون شيئا من مكارم الأخلاق، ثم إنه أتى «بإذا» التى تؤذن بالشرط المؤقت المعينّ، ليدل به على أن الأضياف لا يعتادونهم إلا فى الأوقات القليلة، ثم إنه عقبه بسين الاستفعال لتوذن أن كلبهم ليس من عادته النّباح، وإنما يقع منه ذلك على جهة الندرة لإنكاره للضيف، وأنه لا عهد له بهم، ثم جاء بالأضياف على جمع القلة، لما كانوا لا يقصدهم إلا نفر، قليل، ثم عرّفه باللام إشارة إلى أنهم قوم معهودون لا يقصدهم كل أحد، وفيه دلالة أيضا على أن كلبهم لا ينبح إلا بالاستنباح لهزاله وقلة قوته من الجوع والضعف، ثم أفرد الكلب ليدل على أنهم لا يملكون سواه لحقارة الحال، وكثرة الفقر، ثم إنه أضاف الكلب إليهم استحقارا لحالهم، ثم إنه أتى بقالوا، ليعرف من حالهم أنهم لا خادم لهم يقوم مقامهم فى ذلك، وأنهم يباشرون حوائجهم بأنفسهم، ثم جعل القول منهم مباشرة لأمهم، ليدل على أنه لم يكن هناك من يخلفها من خادمة وغيرها فى إطفاء النار، فأقام أمهم مقام الأمة والخادمة فى قضاء الحوائج لهم، ولم يشرّفوها عن ذلك، ثم جعلهم قائلين لما يستنكر من لفظ البول لأن ذكره يشعر بذكر مخرجه من العورة فى حق الأم فلم يكن هناك حشمة لهم ولا مروءة فى إضافة ما أضيف إليها من ذلك، ثم

قال على النار، فيه دلالة على ضعف نارهم لقلة زادهم، وأنه يطفئها بولة، وأنها إنما أمرت بذلك، كى لا يهتدى الأضياف إليهم ولا يعرفوا مكانهم، ثم أتى بلفظة على، ولم يقل فوق النار، ليدل بحرف الاستعلاء على أنها قصدت حقيقة الاستعلاء بالبول قائمة من غير مبالاة فى التستر ولا مروءة فى تغطية العورة، فقد وضح لك بما قررناه أن التأليف هو العمدة العظمى والقانون الأكبر فى حسن المعانى وعظم شأنها وفخامة أمرها، ومن الأمثلة الرائقة ما يؤثر عن أمير المؤمنين قاله فى أول خلافته: «إن الله سبحانه أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشرّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا، الفرائض الفرائض، أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنّة، إن الله تعالى حرّم حراما غير مجهول، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين فى معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم وهو الموت فإن الناس أمامكم وإن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأوّلكم آخركم، اتقوا الله فى عباده وبلاده، فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه» . فلينظر الناظر ما اشتمل عليه هذا الكلام من حسن التأليف وبديع التصريف، وليلحظ ما تضمنه قوله: تخففوا تلحقوا، بعين البصيرة وما اشتمل عليه من بلاغة المعانى وجزالة الألفاظ، وإنه لكلام من استوى على عرش البلاغة واستولى، ودل بالإرشاد على مصالح الدين والدنيا، فعليك بمراعاة جانب التأليف فإنه القطب الذى تدور عليه أرحية البلاغة، ولا سبيل إلى جذبه بزمامه، والاستيلاء على كماله وتمامه، إلا بعد إحراز فصول تكون محتوية على أسراره، ومستولية على المقصود منه.

الفصل الأول فى ذكر الإطناب وبيان معناه

الفصل الأول فى ذكر [الإطناب] وبيان معناه اعلم أن الإطناب واد من أودية البلاغة، ولا يرد إلا فى الكلام المؤتلف، ولا يختص بالمفردات، لأن معناه لا يحصل إلا فى الأمور المركبة، فمن أجل هذا خصصناه بالإيراد فى هذا الباب، والإطناب مصدر أطنب فى كلامه إطنابا، إذا بالغ فيه وطوّل ذيوله لإفادة المعانى، واشتقاقه من قولهم: أطنب بالمكان إذا طال مقامه فيه، وفرس مطنب إذا طال متنه، ومن أجل ذلك سمى حبل الخيمة طنبا لطوله، وهو نقيض الإيجاز فى الكلام، فلنذكر ماهيته والتفرقة بينه وبين التطويل، ثم نذكر أقسامه، ثم نردفه بذكر الأمثلة فيه، فهذه مباحث ثلاثة نفصلها بمعونة الله تعالى. البحث الأول فى ماهيته والتفرقة بينه وبين التطويل ومعناه فى لسان علماء البيان هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة من غير ترديد فقولنا: هو زيادة اللفظ على المعنى، عام فى الإطناب، وفى الألفاظ المترادفة كقولنا: ليث وأسد، فإنه كله من باب زيادة اللفظ على معناه، وقولنا لفائدة، يخرج عنه التطويل، فإنه زيادة من غير فائدة، وقولنا جديدة، تخرج عنه الألفاظ المترادفة، فإنها زيادة فى اللفظ على المعنى لفائدة لغوية، ولكنها ليست جديدة، وقولنا من غير ترديد يحترز به عن التواكيد اللفظية كقولنا: اضرب اضرب، فإنها زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة، وهو التأكيد، لكنه ترديد اللفظ وتكريره، بخلاف الإطناب فإنه خارج عن التأكيد، فوضح بما ذكرناه شرح ماهية الإطناب بهذه القيود التى أشرنا إليها، فصارت الأمور التى يلبس بها الإطناب ثلاثة، التطويل، وهو مزيد من غير فائدة، والتكرير، والترادف، وقد خرج التكرير بقيد الترديد، وخرج المترادف بقيد الفائدة الجديدة، وخلص باعتبار هذه القيود عن غيره من سائر الحقائق، فكان حاصل الإطناب الاشتداد فى المبالغة فى المعانى، أخذا من قولهم: أطنبت الريح، إذا اشتد هبوبها، وأطنب الرجل فى سيره، إذا اشتد فيه، وهو غير مناقض لما ذكرناه فى اشتقاقه فى صدر الباب. «وأما» التفرقة بينه وبين التطويل فاعلم أن علماء البيان لهم فى ذلك مذهبان، المذهب

الأول أن الإطناب هو التطويل، وهذا هو المحكى عن أبى هلال العسكرى، وعن الغانمى أيضا وقالا: إن كتب الفتوح والتقاليد كلها ينبغى أن تكون مطولة كثيرة الإطناب، لأنها مما يقرأ على عوام الناس لافتقارها إلى البيان، فكلامهما يقضى بأنه لا تفرقة بين الإطناب والتطويل، المذهب الثانى أنهما يفترقان، فإن الإطناب يذكر لفائدة عظيمة بخلاف التطويل، فإنه لا فائدة وراءه، وهذا هو الذى عليه الأكثر من علماء البلاغة، وإليه يشير كلام ابن الأثير وهذا هو المختار، ويدل على ما قلناه من التفرقة بينهما هو أن الإطناب صفة محمودة فى البلاغة، بخلاف التطويل، فإنه صفة مذمومة فى الكلام، وما ذاك إلا لأن الإطناب يجىء من أجل الفائدة بخلاف التطويل، فإنه يكون من غير فائدة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن ما يتوصل به إلى البغية من معانى الكلام أمور ثلاثة، الإيجاز، والإطناب، والتطويل. فأما الإيجاز فهو دلالة اللفظ على معناه من غير نقصان فيخلّ، ولا زيادة فيملّ، وقد رمزنا إلى أسراره فيما سبق، وأما التطويل والإطناب فهما متساويان فى تأدية المعنى، خلا أن الإطناب مختص بفائدة جديدة، ولأجلها كان ممتازا عن التطويل، ومثال ما قلناه من ذلك كمن سلك لطلب مقصد من المقاصد ثلاث طرق فإنها كلها موصلة إلى ما يريده، فأحدها أقرب الطرق، وهو نظير الإيجاز، والطريقان الأخريان متساويتان فى الإطالة، وهما نظيرا الإطناب، والتطويل، خلا أن أحدهما مختص إما بمتنزّه حسن، أو بمياه عذبة، أو زيارة صديق أو غير ذلك من الفوائد، فهو نظير الإطناب كما لخصناه، وأصدق مثال فى الإيجاز، والإطناب، والتطويل، ما حكاه ابن الأثير وهو: أن المأمون لما وجّه طاهر بن الحسين فى عسكر لحرب عيسى بن ماهان فقتله وهزم عسكره، واستولى على جنده ثم كتب إليه طاهر يخبره بذلك فقال: كتابى إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يدى وخاتمه فى يدى، وعسكره متصرّف تحت أمرى والسلام. فهذا كتاب قد أوجز فيه غاية الإيجاز وأتى فيه بالغرض المقصود من غير تطويل ولا إطناب، لاشتماله على تفاصيل القصة وإجمالها، وهو من أحسن أمثلة الإيجاز، وإن وجهته على جهة الاطناب فإنك لتشرح القصة مفصلة وتودع التفاصيل زبدا عظيمة من تعظيم المأمون وقوة سلطانه، ونهضة جند الإسلام واستطالته على الكفار من أهل الردة، لأن عيسى بن ماهان كان نصرانيا فيما قيل، ويحكى صفة الواقعة وما كان، مع فوائد عظيمة، ونكت جمة، فما هذا حاله يكون إطنابا لاحتوائه على ما ذكرناه من الفوائد، وإن

البحث الثانى فى ذكر تقسيم الإطناب

حكاها بصفة التطويل العرىّ عن الفوائد بأن يقول صدر الكتاب يوم كذا من مكان كذا فى شهر كذا والتقى عسكرنا وعسكره، وتزاحف الجمعان، وتطاعن الفريقان، وحمى القتال واشتد النزال مع تفاصيل كثيرة ثم قتل عيسى بن ماهان واحتز رأسه ونزع الخاتم من يده، وترك جسده طعاما للطيور والسباع والذئاب وغير ذلك من تفاصيل الواقعة، فهذا يقال له التطويل من جهة أن تفاصيل الوقعة خالية عن الفوائد الغزيرة التى يحتاج إلى مثلها فهذه هى أمثلة الأمور الثلاثة قد فصلناها ليحصل التمييز بينها. البحث الثانى فى ذكر تقسيم الإطناب واعلم أن الإطناب قد يكون واقعا فى الجملة الواحدة، وقد يرد فى الجمل المتعددة، فهذان القسمان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمعونة الله تعالى: القسم الأول ما يكون متعلقا بالجملة الواحدة، وتارة يرد على جهة الحقيقة، وتارة يرد على جهة المجاز، فهذان وجهان: الوجه الأول ما يرد من الإطناب على جهة الحقيقة وهذا كقولنا: رأيته بعينى، وقبضته بيدى، ووطئته بقدمى وذقته بلسانى إلى غير ذلك من تعليق هذه الأفعال بما ذكرناه من الأدوات وقد يظن الظان أن التعليق بهذه الآلات إنما هو لغو لا حاجة إليه، فإن تلك الأفعال لا تفعل إلا بها، وليس الأمر كما ظن بل هذا إنما يقال فى كل شىء يعظم مناله ويعز الوصول إليه، فيؤتى بذكر هذه الأدوات على جهة الإطناب دلالة على نيله، وأن حصوله غير متعذر، وعلى هذا ورد قوله تعالى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ [الأحزاب: 4] وقوله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور: 15] لأن هذه الآيات إنما وردت فى شأن الإفك وفى جعل الزوجات أمهات، وفى جعل الأدعياء أبناء، فأعظم الله الرد والإنكار فى ذلك بقوله: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ [النور: 15] على أهل الإفك فى الرمى بفاحشة الزنا لمن هى ظاهرة والعفاف والستر وبقوله: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ [الأحزاب: 4] على من قال لزوجته هى عليه كظهر أمه، أو لمن قال لمملوكه يا بنى فبالغ فى الرد بهذه المقالة والنكير

الوجه الثانى فيما يرد على جهة المجاز فى الإطناب،

عليها عن أن تكون الزوجة أمّا، والعبد ابنا وأن مثل هذا يكون محالا، وهو أن يجمع بين الزوجية والأمومة وبين النبوّة والعبودية. ومن هذا قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب: 4] فقد علم أن القلب لا يكون إلا فى الجوف ولكن الغرض المبالغة فى الإنكار بأن يكون للإنسان قلبان، أكّد ذلك بقوله فى جوفه، ومن هذا قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26] فإن المعلوم من حال السقف أنه لا يكون إلا من فوق، وإنما الغرض المبالغة فى الترهيب والتخويف والإنكار والرد كما أشار إليه: بقوله قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ [النحل: 26] يعنى بالخراب والهدم فخر عليهم السقف من فوقهم، تشديدا فى الأمر، وتهويلا لهم، وإعظاما لحاله وهكذا قوله تعالى فى سورة الحاقة نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) [الحاقة: 13] فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) [الحاقة: 14] فإن التاء مؤذنة بالوحدة، ولكنه أتى بالصفة على جهة المبالغة بالإطناب فى فخامة الأمر وعظمه، فأما قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) [النجم: 20] فليس هذا من باب الإطناب بالتأكيد، وإنما هو من أجل مراعاة سجع الآى، فإنها من أول السورة على الألف، فلأجل هذا قال «الثالثة الأخرى» مراعاة لما ذكرناه. الوجه الثانى فيما يرد على جهة المجاز فى الإطناب، وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج: 46] فالفائدة بذكر الصدور ههنا وإن كانت القلوب حاصلة فى الصدور على جهة الإطناب بذكر المجاز، وبيانه هو أنه لما علم وتحقق أنّ العمى على جهة الحقيقة إنما يكون فى البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يذهب نورها ويزيله، واستعماله فى القلوب إنما يكون على جهة التجوز بالتشبيه، فلما أريد ما هو على خلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب ونفيه عن الأبصار، لا جرم احتاج الأمر فيه إلى زيادة تصوير وتعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب، لا الأبصار، ولو قال فإنها لا تعمى الأبصار ولكنها تعمى الأبصار التى فى الصدور، لكان مفتقرا إلى ذكر الصدور، كافتقار القلوب، لكن القلوب أدخل فى الحاجة، ولهذا وردت الآية عليه لأنه قد يتجوز بلفظة الأبصار فى العقول، ولا يتجوز بالقلوب عن العقول، فلأجل هذا كان ذكر قوله فى الصدور عقيب القلوب أحسن من ذكرها عقيب الأبصار لما ذكرناه، وهذا من لطائف علم البيان ومحاسنه.

القسم الثانى فى بيان ما يرد فى الجمل المتعددة،

القسم الثانى فى بيان ما يرد فى الجمل المتعددة، ويرد على صور مختلفة، وكلّها وإن اختلفت فإنها ترجع إلى الضابط الذى ذكرناه من قبل، ونشير منه ههنا إلى ضروب أربعة، وفيها دلالة على غيرها بمعونة الله تعالى. الضرب الأول ما يكون عائدا إلى النفى والإثبات، وحاصله راجع إلى أن يذكر الشىء على جهة النفى، ثم يذكر على جهة الإثبات أو بالعكس من ذلك، ولابدّ أن يكون فى أحدهما زيادة فائدة ليست فى الآخر يؤكد ذلك المعنى المقصود، وإلّا كان تكريرا، ومثاله قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) [التوبة: 44] ثم قال تعالى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) [التوبة: 45] فالآية الثانية كالآية الأولى إلّا فى النفى والإثبات، فإن الأولى من جهة الإثبات، والثانية من جهة النفى، فلا مخالفة بينهما إلا فيما ذكرناه، خلا أن الثانية اختصت بمزيد فائدة، وهى قوله وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) إعلاما بحالهم فى عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنهم فى وجل وإشفاق من تكذيبهم، حيارى فى ظلم الجهل، لا يخلصون إلى نور وهدى، ولولا هذه الفائدة لكان ذلك تكريرا ولم يكن من باب الإطناب، ومن هذا قوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) [الروم: 6- 7] فقوله: يَعْلَمُونَ بعد قوله: لا يَعْلَمُونَ (6) ، من الباب الذى نحن بصدده، ولهذا فإنه نفى عنهم العلم بما خفى عنهم من تحقيق وعده ثم أثبت لهم العلم بظاهر الحياة الدنيا، فكأنه قال: علموا، وما علموا، لأن العلم بظاهر الأمور ليس علما على الحقيقة، وإنما العلم هو ما كان علما بطريق الآخرة ومؤديا إلى الجنة، فلولا اختصاص قوله يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون لكان تكريرا لا فائدة تحته، فلأجل ما ذكرناه عد من الإطناب لاشتماله على ما ذكرناه من الفائدة التى لخصناها. الضرب الثانى أن يصدر الكلام بذكر المعنى الواحد على الكمال والتمام، ثم يردف بذكر التشبيه على جهة الإيضاح والبيان ومثاله قول أبى عبادة البحترى:

ذات حسن لو استزادت من الحس ... ن إليه لما أصابت مزيدا. فهى كالشمس بهجة والقضيب الل ... دن قدّا والرئم طرفا وجيدا فالبيت الأول كان كافيا فى إفادة المدح، وبالغا غاية الحسن، لأنه لما قال لو استزادت لما أصابت مزيدا، دخل تحته كل الأشياء الحسنة، خلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصورا وتخيلا لا تحصل من المدح المطلق، وهذا الضرب له موقع بديع فى الإطناب وهكذا ورد قوله أيضا تردد فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا «1» فالبيت الأول دالّ على نهاية المدح، لكن البيت الثانى موضح ومبين لمعناه، لأن البحر للسماح، والسيف للبأس المهيب، مع اختصاصه بالتشبيه الفائق الذى يكسب الكلام رونقا وجمالا، ويزيده قوة وكمالا، وله وقع فى البلاغة وتأكيد فى المعنى، والتفرقة بين هذا الضرب وما قبله ظاهرة لا خفاء بها، فإن هذا وارد على جهة التشبيه بعد تقدم ما يرشد إلى المعنى ويقويه، بخلاف الضرب الأول، فإن الإطناب فيه من جهة المفهوم المعنوى، وبيانه هو أنه لما قال فى الآية الأولى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [التوبة: 44] أشعر ظاهرها من جهة المفهوم أن غير هؤلاء بخلافهم، وأنهم المخصوصون بالإذن، فإذا قال بعد ذلك إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 45] كان هذا مؤكدا لمفهوم الآية الأولى موضحا له، مع ما أفاد من تلك الفائدة التى ذكرناها، وهو اختصاصهم بالريب والوجل والتردد والحيرة، وهكذا الكلام فى الآية الثانية فإنه لما قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) [الروم: 6] ، فنفى نفيا عاما أشعر ظاهره أنهم غير عالمين بعلم الدين، وحقائق علم الآخرة، ومفهومها أن معهم علما من ظاهر الدنيا، فإذا قال بعد ذلك يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 7] كان إطنابا لمفهومها مؤكدا مع زيادة فائدة فيه، وهو غفلتهم عن أمور الآخرة وإعراضهم عنها، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الإطناب فى الضرب الأول

الضرب الثالث أن يذكر الموصوف

إنما يظهر من جهة ما ذكرناه من المعنى المفهوم، وأن الإطناب فى الضرب الثانى إنما يظهر من جهة اللفظ بإيراد التشبيه للإيضاح والتقرير كما أشرنا إليه. الضرب الثالث أن يذكر الموصوف فيؤتى فى ذلك بمعان متداخلة خلا أن كل واحد من تلك المعانى مختص بخصيصة لا تكون للآخر، ومثاله قول أبى تمام يصف رجلا أنعم عليه: من منّة مشهورة وصنيعة ... بكر وإحسان أغر محجّل فقوله منة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجل، معان متداخلة، لأن المنة والإحسان والصنيعة كلها أمور متقاربة بعضها من بعض، وليس ذلك من قبيل التكرير، لأنها إنما تكون تكريرا لو اقتصر على ذكرها مطلقة من غير صفة كأن يقول منة وصنيعة وإحسان ولكنه وصف كل واحدة منها بصفة تخالف صفة الآخر، فلا جرم أخرجها ذلك عن حكم التكرير، فقال «منة مشهورة» لكونها عظيمة الظهور لا يمكن كتمانها، وقوله «صنيعة بكر» فوصفها بالبكارة، أى أن أحدا من الخلق لا يأتى بمثلها من قبل ومن بعد، وقوله «وإحسان أغر محجل» فوصفه بالغرة ليدل بذلك على تعداد محاسنه وكثرة فوائده، فلما وصف هذه المعانى المتداخلة الدالة على شىء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا ولم يكن تكريرا، وكقول أبى تمام أيضا: ذكىّ سجاياه تضيف ضيوفه ... ويرجى مرجيه ويسأل سائله «1» فإن غرضه فيما قاله ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاء خلا أنه وصفه بأوصاف متعددة، فجعل ضيوفه تضيف، وراجيه يراجى، وسائله يسأل، وليس هذا من باب التكرير، لأن كل واحد منها دال على خلاف ما دل عليه الآخر لأن ضيفه يستصحب ضيفا طمعا فى كرم مضيفه، وسائله يسأل، أى أنه يعطى السائلين عطاء جزلا يصيرون به معطين غيرهم، وراجيه يرجى، أراد أنه إذا تعلق به رجاء راج فقد ظفر بنجاح حاجته وفاز بإنجاز مطلبه، وهذا أعظم وصف وأبلغه. الضرب الرابع من الإطناب أن المتكلم إذا أراد الإطناب فإنه يستوفى معانى الغرض المقصود من رسالة، أو خطبة، أو تأليف كتاب، أو قصيدة، أو قرطاس، أو غير ذلك من فنون الكلام، وهذا هو أصعب هذه الضروب الأربعة، وأدقها مسلكا، وأضيقها جريا،

المبحث الثالث فى ذكره أمثلة الإطناب

لكونه مشتملا على لطائف كثيرة، ويتفرع إلى فنون واسعة، تتفاضل فيها المراتب، وتتفاوت فيها الدّرج فى أساليب النظم والنثر، والتبريز فيه قليل، فما قلت ألفاظه وكثرت معانيه فهو الإيجاز، وما كثرت ألفاظه وكان فيها دلالة على الفوائد فهو الإطناب، وما كثرت ألفاظه من غير فائدة فهو التطويل، وما تكررت ألفاظه المتماثلة فهو التكرير، وقد قررنا هذه المعانى من قبل فأغنى عن إعادتها، فهذا ما أردنا ذكره فى تقسيم الإطناب والله الموفق. المبحث الثالث فى ذكره أمثلة الإطناب اعلم أن هذا النوع من علم البيان كثير المحاسن واسع الخطو لطائفه بديعة، ومداخله دقيقة، فلنورد أمثلته من كتاب الله تعالى ثم من السنة الشريفة، ثم من كلام أمير المؤمنين ومن كلام البلغاء، فهذه أنواع أربعة: النوع الأول ما ورد فيه من كتاب الله تعالى فمن ذلك ما ورد فى صفة الجنة على جهة الإيجاز قوله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) [الزخرف: 71] فهذه نهاية الإيجاز، فإنه قد استولى على جميع اللذات كلها من غير إشارة إلى تفصيل، وكذلك قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] فهذا أيضا دال على غاية اللذة بأوجز عبارة وألطفها، ومنه قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) [الإنسان: 20] وقوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) [المطففين: 24] إلى غير ذلك من الإيجاز البالغ، والإطناب كقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] وقوله تعالى: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) [الغاشية: 10- 16] وقوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) [الواقعة: 17- 22] ومن ذلك قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ

وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) [النبأ: 31- 35] وقوله تعالى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) [الإنسان: 12- 19] ثم قال عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) [الإنسان: 21] وقوله تعالى فى سورة الرحمن فإنه أوجز أولا، ثم أطنب فى وصف الجنة، فقال فى الإيجاز وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) [الرحمن: 46] ثم قال فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) [الرحمن: 52] ثم أطنب بعد ذلك بقوله مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) [الرحمن: 54] ثم قال بعد ذلك مُدْهامَّتانِ (64) ... يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) [الرحمن: 64، 66] وقال: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) [الرحمن: 50] وقال فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) [الرحمن: 68] ثم قال حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) [الرحمن: 72] وقال فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) [الرحمن: 70] ثم قال مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) [الرحمن: 76] فهذه كلها أوصاف جارية على جهة الإطناب، فأما الإيجاز فى صفة أهل النار فقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) [الزخرف: 74- 75] وقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) [القمر: 47] إلى غير ذلك مما يدل على الهوان من جهة الإجمال، وأما الإطناب فكقوله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) [المؤمنون: 103- 104] وقوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) [الحج: 19- 21] وهكذا القول فى الإيمان والكفر، وصفة المؤمنين والكفار، فإنه قد ورد فى حقهم الإيجاز والإطناب، وهو ظاهر لا يحتاج فيه إلى التكثير، فأما التطويل، فكتاب الله تعالى منزه عنه، لكونه تكثيرا من غير فائدة مستجدة، ومثاله لو أريد وصف بستان يتضمن فواكه، لقيل فيه الرمان الذى ورقه أخضر مستطيل وله قضبان لدنة لها شجون وفنون مشتملة على حب مدور فى وسطها أعطاف مشحونة ببنادق حمر إلى غير ذلك، فما هذا حاله يعد من التطويل الذى لا ثمرة له ولا فائدة تحته.

النوع الثانى ما ورد من جهة السنة النبوية

النوع الثانى ما ورد من جهة السنة النبوية فأما الإيجاز فمثاله قوله صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن الله تعالى: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بله ما ادخرت لهم، وفى حديث آخر فى الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة على جهة الإجمال، وأما الإطناب فكقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من لذّذ أخاه بما يشتهيه رفع الله له ألف ألف درجة وكتب له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وأطعمه من ثلاث جنان، من جنة الفردوس، ومن جنة الخلد، ومن جنة عدن» ، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سقى مؤمنا شربة سقاه الله من الرحيق المختوم، أو قال من نهر الكوثر، ومن كسا مؤمنا كساه الله من سندس الجنة، ومن أطعم مؤمنا لقمة أطعمة الله من طيبات الجنة وفواكهها» وقوله صلّى الله عليه وسلّم فى الإيمان إنه بضع وسبعون بابا أعلاه لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، فهذا وما شاكله من باب الإيجاز الرائق والاختصار الفائق لاندراج الخصال الكثيرة والشعب المنتشرة تحت ما ذكره فى حق الإيمان. ومن الإطناب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يكمل إيمان العبد بالله، حتى يكون فيه خمس خصال، التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والصبر على بلاء الله، إنه من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» ، فانظر إلى ذكره تلك الخصال الخمس التى جعلها أصلا فى كمال الإيمان كيف أردفها بما هو كالثمرة لها، والمصداق لأمرها بقوله: إنه من أحب لله، لأن كل من كملت فيه تلك الخصال فلا شك فى كون أعماله تكون لله من حب أو بغض أو إعطاء أو منع، ومن الإطناب الحسن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد لا يكتب فى المسلمين حتى تسلم الناس من يده ولسانه، ولا يعد من المؤمنين حتى يأمن أخوه بوائقه، وجاره بوادره، ولا ينال درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذارا ما به البأس» ، ومن الإيجاز الرشيق قوله صلّى الله عليه وسلّم فى طلب الرزق: «إن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله» ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك» ، ومن الإطناب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن وينقص كلّ يوم من أجلك وأنت تفرح تعطى ما يكفيك وتطلب ما يطغيك، لا من كثير تشبع، ولا بقليل تقنع» ، فأصغ سمعك أيها الناظر إلى هذا الإطناب البالغ فى الموعظة كل غاية، والمتجاوز فى النصيحة كل حد ونهاية.

النوع الثالث ما ورد من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،

النوع الثالث ما ورد من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فممّا ورد من كلامه على جهة الإيجاز قوله فى التوحيد كل ما حكاه الفهم، أو تصوره الوهم فالله تعالى بخلافه، فهذه الكلمة على قصرها وتقارب أطرافها قد جمعت محاسن التنزيه لذات الله تعالى عما لا يليق بها من مشابهة الممكنات ومماثلة المحدثات، لأن الوهم إنما يتصور ما له نظائر فى الوجود، والله تعالى ليس لذاته مماثل، ولا يعقل له مشابه، وكلامه هذا دال على أن حقيقة ذاته ليس معلومة للبشر، ولهذا قال: كل ما حكاه الفهم، يشير به إلى أن العقول قاصرة عن تصور تلك الماهية وتعقل أصل تيك المفهومية، وهذا هو المختار عندنا كما قررناه فى المباحث العقلية، وإليه يشير كلام الشيخ أبى الحسين البصرى من المعتزلة وهو الرجل فيهم، وهو رأى الحذاق من الأشعرية كأبى حامد الغزالى وابن الخطيب الرازى وغيرهم من جملة المتكلمين، خلافا لطوائف من المعتزلة والزيدية. ومن الكلمات الوجيزة قوله عليه السلام: «التوحيد ألّا تتوهمه والعدل ألّا تتّهمه» هاتان الكلمتان قد جمعتا وحازتا علوم التوحيد على كثرتها، وعلوم الحكمة على غرارتها، بألطف عبارة وأوجزها ولو لم يكن فى كلام أمير المؤمنين فى علوم التوحيد والعدل إلا هاتان الكلمتان لكانتا كافيتين فى معرفة فضله، وإحرازه لدقيق علم البلاغة وجزله، فضلا عما وراءهما من بوالغ الحكم الدينية، ونواصع الآداب الحكمية، وقد أشرنا إلى لطائف كلامه وأوضحنا ما رزقنا الله من علوم أسراره فى شرحنا لكتاب نهج البلاغة، وإنه لكتاب جامع للصفات الحسنى وحائز لخصال الدين والدنيا، وأما الإطناب فهو أوسع ما يكون وأكثر فى خطبه وكتبه، وما ذاك إلا لما تضمنه من المعانى واشتماله على الجم الغفير من النكت والأسرار، ولننقل من كلامه نكتا تكون فى الأيام غررا وفى نحو الرواة ذررا. النكتة الأولى فى التوحيد قال: أول الدين معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده التصديق به، وكمال التصديق به الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن

النكتة الثانية فى الإشارة من كلامه إلى خلق السموات:

أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلى منه، فانظر إلى هذا التوحيد الذى لم يسبق إليه، وإلى هذا الإخلاص الذى لم يزاحم عليه، بل استبد به من بين سائر الخلائق، وتميز بالإحاطة والاستيلاء على تلك الحقائق، وقد أشرنا إلى هذه الرموز بهذه الأحرف وكيفية دلالتها على التوحيد، والتنزيه فى كتابنا الديباج الذى أمليناه شرحا لكلامه فليطالع من هناك، ثم قال: أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها، فهذه نكتة شريفة من كلامه أشار فيها إلى التوحيد، وخلق العوالم كلها وإبداع المكونات. النكتة الثانية فى الإشارة من كلامه إلى خلق السموات: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره، متراكما زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده، الهوى من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق، ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها، وأدام مريها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله على آخره، وساجيه على مائره، حتى عب عبابه، ورمى بالزبد ركامه، فرفعه فى هواء منفتق، وجو منفهق، فسوى منه سبع سموات، جعل سفلاهن موجا مكفوفا، وعلياهن سقفا محفوظا، وسمكا مرفوعا بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها، ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجا مستطيرا، وقمرا منيرا، فى فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم حائر، فهذه نبذة من كلامه أشار بها إلى كيفية إبداع السموات النكتة الثالثة فى صفة الأرض ودحوها على المآء قال: كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة ولجج بحار زاخرة تلتطم أواذى أمواجها، وتصفق متقاذفات أثباجها، وترغو زبدا كالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها، وذل مستخذيا إذ تمعكت عليه بكواهلها، فأصبح بعد اصطخاب أمواجه ساجيا مقهورا، وفى حكمة الذل منقادا أسيرا، وسكنت الأرض مدحوة فى لجة تياره، وردت من نخوة

النكتة الرابعة فى خلق الملائكة

بأوه واعتلائه، وشموخ أنفه وسمو غلوائه، وكعمته على كظة جريته فهمد بعد نزواته، وبعد زيفان وثباته، فسكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل شواهق الجبال البذّخ على أكتافها فهذه منه إشارة إلى خلقة الأرض كما ترى. النكتة الرابعة فى خلق الملائكة ثم خلق سبحانه لإسكان سمواته وعمارة الصفيح الأعلا من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته، وملأ بهم فروج فجاجها، وحشا بهم فتوق أجوائها، وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم فى حظائر القدس وسترات الحجب وسرادقات المجد، ووراء ذلك الرجيج الذى تستك منه الأسماع، سبحانه نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف على حدودها، أنشأهم على صور مختلفات، وأقدار متفاوتات، أولى أجنحة تسبح جلال عزته، لا ينتحلون ما ظهر فى الخلق من صنعته، ولا يدعون أنهم يخلقون شيئا مما انفرد به، بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، جعلهم فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه، وحملهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه، وعصمهم من ريب الشبهات، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته، وأمدهم بفوائد المعونة، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة، وفتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده، ونصب لهم منارا واضحا على أعلام توحيده، لم تثقلهم مؤصرات الآثام، ولم ترتحلهم عقب الليالى والأيام، ولم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم، ولا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، وما سكن من عظمته وهيبة جلالته فى أثناء صدورهم، فلم تطمع فيهم الوساوس فتفترع برينها على فكرهم.. إلى آخر كلامه فى أحوالهم وصفاتهم، ولولا خوف الإطالة لنقلنا كل كلامه فى ذكر خواصهم. النكتة الخامسة فى ذكر علم الله وإحاطته بكل المعلومات قال: عالم السر من ضمائر المضمرين، ونجوى المتخافتين، وخواطر رجم الظنون، وعقد عزيمات اليقين، ومسارب إيماض الجفون وما ضمنته أكناف القلوب، وغايات الغيوب، وما أصغت لاستراقه مصايخ الأسماع، ومصائف الذّر ومشاتى الهوام، ورجع الحنين من المولهات، وهمس الأقدام، ومنفتح الثمرة من ولائج غلف الأكمام، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها،

النكتة السادسة فى تنزيه الله تعالى عن مشابهة الممكنات واستحالة الأعضاء عليه،

ومختبى البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها، ودرور قطر السحاب ومتراكمها، وما تسفى الأعاصير بذيولها، وتعفو الأمطار بسيولها، وعوم نبات الأرض فى كثبان الرمال ومستقر ذاوت الأجنحة. بذرا شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق فى دياجير الأوكار، وما أودعته الأصداف وحضنت عليه أمواج البحار، وما غشيته سدفة ليل، وذر عليه شارق من نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير وسبحات الأنوار، وأثر كل خطوة وحس كل حركة، ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس همامة، وما عليه من ثمرة شجرة أو ساقط ورقة، أو قرار نطفة، أو نقاعة دم، أو مضغة، أو ناشئة خلق وسلالة، فلينظر الناظر ما تضمنه كلامه ههنا من الإشارة إلى كيفية الإحاطة له تعالى بالمعلومات بألطف عبارة وأرشقها، وهذا من أعجب أماكن الإطناب وأرفع مراتبه. النكتة السادسة فى تنزيه الله تعالى عن مشابهة الممكنات واستحالة الأعضاء عليه، قال فأشهد أنّ من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقائق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك، فكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) [الشعراء: 97- 98] كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزأوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، فأشهد أن من ساواك بشىء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكم آياتك ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك، وأنك أنت الله لم تتناه فى العقول فتكون فى مهب فكرها مكيفا، ولا فى روايات خواطرها محدودا مصرفا، فظاهر كلامه دال على إكفار المشبهة، وقد رمزنا فى شرحنا لكلامه هذا إلى تفاصيل القول فى التشبيه وذكرنا من يكفر ومن لا يكفر من المشبهة ما خلا القول فى إكفار من يكفر من أهل القبلة، وحقيقة الإكفار بالتأويل، فقد أودعناه كتابنا الذى أمليناه فى الإكفار وذكرنا فيه ما يكفى ويشفى والحمد لله.

النكتة السابعة فى الإشارة إلى كيفية خلق آدم

النكتة السابعة فى الإشارة إلى كيفية خلق آدم قال فيه: ثم جمع من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأمد معلوم، ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها وجوارح يستخدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق، والمشام، والألوان، والأجناس، معجونا بطينة الأكوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبلة والجمود، والمساءة والسرور، واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم فى الإذعان بالسجود له، والخشوع لتكرمته، فقال سبحانه اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة: 34] ثم أسكنه دارا أرغد فيها عيشه، وأقر فيها محلته، فهذا كلام من أخذ البلاغة بزمامها وكان هو المدعو بصاحبها وإمامها، لا يقصر عن بلوغ شأوها ولا يصعب عليه نخوة بأوها. النكتة الثامنة فى ذكر إبليس وإغوائه لآدم قال: ثم 7 ن إبليس اعترته الحمية، وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، فأعطاه الله النّظرة استحقاقا للسخطة، واستتماما للبلية، وإنجازا للعدة فقال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) [سورة ص: 80- 81] فلما أسكنه جنته، وحذره إبليس وعداوته، فاغتره إبليس نفاسة عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكه، والعزيمة بوهنه، واستبدل بالجذل وجلا، وبالاغترار ندما، ثم بسط الله سبحانه له فى توبته، ولقاه كلمة رحمته ووعده المرد إلى جنته، وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية. النكتة التاسعة يذكر فيها بعثة الأنبياء قال: ثم إنه تعالى اصطفى من ذريته يعنى آدم أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه واجتالهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث

النكتة العاشرة يذكر فيها بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، واصطفاء الله له

فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسى نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة، من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبى مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم من سابق سمى له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلقت الأنباء، فهذه نكتة عجيبة ضمنها ما كان من بعثة الأنبياء وتبليغهم للشرائع وصبرهم على أداء ما حملوه النكتة العاشرة يذكر فيها بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واصطفاء الله له قال ثم إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد فى اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لقاءه، ورضى له ما عنده، وأكرمه عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريما، صلى الله عليه وعلى آله، ثم خلف فيكم ما خلفت الأنبياء فى أممها، كتاب ربكم مبينا حلاله، وحرامه، وفضائله وفرائضه وناسخه، ومنسوخه ورخصه وعزائمه، فهذه النكت قد جمعناها من كلامه ههنا مثالا للإطناب ليتفطن الناظر أنه لا وادى من أودية البلاغة إلا وقد سلكه، ولا زمام من أزمة الفصاحة إلا وقد استولى عليه بفكره وملكه فصار أوفر البلغاء فى البلاغة نصيبا وسهما، وأكثرهم بها فى الإحاطة علما وفهما، وحق لكلامه عند ذاك أن يقال فيه إنه كنيف ملىء علما. النوع الرابع فيما ورد من كلام البلغاء فى الإطناب، فمن ذلك ما قاله ابن الأثير فى وصف بستان: هو جنة ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة وما كل تربة توصف بالنجابة، ففيها المشمش الذى يسبق غيره بقدومه، ويقذف أيدى الجانين بنجومه، فهو يسمو بطيب الفرع والنجار، ولو نظم فى جيد الحسناء لاشتبه بقلادة من نضار، وله زمن الربيع الذى هو

أعدل الأزمان، قد شبه بسن الصبا فى الأسنان، وفيها التفاح الذى رق جلده، وعظم قده، وتورد خده، وطابت أنفاسه، فلا بان الوادى ولا رنده، وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر، ونسبته من سرر الغزلان أولى من نسبته إلى منابت الشجر، وفيها العنب الذى هو أكرم الثمار طينة، وأكثرها ألوان زينة، وأول غرس اغترسه نوح عليه السلام عند خروجه من السفينة، فقطفه يميل بكف قاطفه، ويغرى بالوصف لسان واصفه، وفيها الرمان الذى هو طعام وشراب، وبه شبهت نهود الكعاب، ومن فضله أنه لا نوى له فيرمى نواه، ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه، وفيها التين الذى أقسم الله به تنويها بذكره، واستتر آدم بورقه إذ كشفت المعصية من ستره، وخص بطول الأعناق، فما يرى بها من ميل فذاك من نشوة سكره، وقد وصف بأنه راق طعما، ونعم جسما وقيل هذا كنيف ملىء شهدا، لا كنيف ملىء علما، وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله، ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله، وهو الذى فضل ذوات الأفنان بعرجونه، ولا تماثل بينه وبين الحلواء فيقال: هذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه، وفيها غير ذلك من أشكال الفاكهة وأصنافها، وكلها معدود من أوساطها لا من أطرافها، ولقد دخلتها فاستهوتنى حسدا، ولم ألم صاحبها على قوله «لن تبيد هذه أبدا» . فما هذا حاله من الأوصاف يقال له إطناب، لأن كل صفة لم تخل عن فائدة جديدة. ومن الأمثلة الرائقة فى الإطناب ما قاله ابن الأثير أيضا على جهة المقابلة لإيجاز كتاب طاهر بن حسين إلى المأمون لما هزم عسكر عيسى بن ماهان وقتله، وقد ذكرنا كتابه الذى أوجز فيه إلى المأمون فقال ابن الأثير مقابلا له بالإطناب فيه، وهو قوله: صدر الكتاب وقد نصرنا بالفئة القليلة على الفئة الكثيرة، وانقلبنا باليد الملأى والعين القريرة، وكان انتصاره بحد أمير المؤمنين لا بحد نصله، والجد أغنى عن الجيش وإن كثر إمداد خيله ورجله، وجىء برأس عيسى بن ماهان وهو على جسد غير جسده، وليس له قدم تسعى ولا يد فيقال يبطش بيده، ولقد طال وطوله مؤذن بقصر شأنه، وحسدت الضباع الطير على مكانها منه وهو غير محسود على مكانه، وأحضر خاتمه وهو الخاتم الذى كان الأمر يجرى على نقش أسطره، وكان يرجو أن يصدر كتاب الفتح بختمه فحال ورود المنية دون مصدره، وكذلك البغى مرتعه وبيل، ومصرعه جليل، وسيفه وإن مضى فإنه عند الضرب كليل، وقد نطق الفأل بأن الخاتم والرأس مبشران بالحصول على خاتم الملك

ورأسه، وهذا الفتح أساس لما يستقبل بناؤه ولا يستقر البناء إلا على أساسه، والعساكر التى كانت على أمير المؤمنين حربا صارت له سلما، وأعطته البيعة علما بفضله، وليس من بايع تقليدا كمن بايع علما، وهم الآن مصروفون تحت الأوامر، ممتحنون بكشف السرائر، مطيفون باللواء الذى خصه الله باستفتاح المقالد واستيطاء المنابر، وكما سرت خطوات القلم فى أثناء هذا القرطاس، فكذلك سرت طلائع الرعب قبل الطلائع فى قلوب الناس، وليس فى البلاد ما يغلق بمشيئة الله بابا، ولا يحسر نقابا، وعلى الله تمام النعمة التى افتتحها، وإجابة أمير المؤمنين إلى مقترحاته التى اقترحها. ولنكتف بهذا القدر من أمثلة الإطناب ففيه كفاية، فأما الإطنابات الشعرية فتشتمل عليها الدواوين، ومن أراد الاطلاع على الإطناب الشعرى فى المدح فليطالع ديوان أبى الطيب المتنبى فإنه يجد فيه فى الكافوريات والسيفيات إطالة فى الإطناب كثيرة وغيره من الدواوين كأبى تمام وأبى عبادة البحترى.

الفصل الثانى فى المبادى والافتتاحات

الفصل الثانى فى المبادى و [الافتتاحات] اعلم أن هذا الفصل ركن من أركان البلاغة، وحقيقة آئلة إلى أنه ينبغى لكل من تصدى لمقصد من المقاصد وأراد شرحه بكلام أن يكون مفتتح كلامه ملائما لذلك المقصد دالا عليه، فما هذا حاله يحب مراعاته فى النظم والنثر جميعا، ويستحب التزامه فى الخطب والرسائل والتصانيف، وهكذا حال التهانى والتعازى يكون مبدؤها وتصديرها بما يناسب ذلك المعنى ليكون معلوما من أول وهلة، فحيث يكون المطلع جاريا على ما ذكرناه فهو من الافتتاح الحسن، وحيث يكون جاريا على عكسه فهو معدود من القبيح، فهذان طرفان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما. الطرف الأول فى ذكر الافتتاحات الرائعة ولنورد فيها أمثلة أربعة المثال الأول من كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى لما أذن بالفتح على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان هو الغاية والمنتهى بطى بساط الرسالة لما ظهر نور الإسلام. ومد بجرانه على جميع الأديان، فأنزل الله تعالى على رسوله آية هى مناسبة لما هو فيه من إشارة الإيمان، وبلوغه الغاية ويذكر منه عليه بما أظهر على يديه من ذلك فقال فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) [الفتح: 1- 3] فانظر إلى هذه الآية ما أعجب ملائمتها لهذه الحالة، وأشد تصريحها بالمقصود من أول وهلة، فصدر الآية بذكر الفتح إظهارا للمنة، وتكملة للنعمة، ثم أردفه بذكر المغفرة إعظاما لحاله، ورفعا من منزلته، وتقريرا لنفسه وتسلية لما كابد قبله من عظم المشقة وشدة المحنة، ثم وجه التعليل بالمغفرة إلى الفتح، إيذانا بأنه إنما استحق الغفران لما كان منه من الصغائر من أجل ما استحق على العناية فى الفتح ومكابدة شدائده، فلأجل ذلك كان مستحقا للأجر الأعظم الذى يكون ثوابه مكفرا لتلك الصغائر التى صرح بها الشرع وجوزها عليه، «فأما» الزمخشرى فقد قال فى تفسيره إنه ليس واردا على جهة التعليل على أحد وجهته، وإنما هو وارد على جهة التعديد لما أنعم الله عليه من غفران ذنوبه، وإتمام نعمته عليه والهداية والنصر.

المثال الثانى ما ورد من السنة الشريفة،

فأما من قال إن اللام للعاقبة كالتى فى قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] فإنما كان ذلك من أجل ضيق العطن، وعدم الوطأة ورسوخ القدم فى علوم البيان، وبعدهم عن الإحاطة بحقائق التشبيه والاستعارة، فلا جرم عولوا على هذه التأويلات الركيكة والمعانى المبادرة، ونزول هذه الآية إنما كان قبل الفتح بعد رجوعه من الحديبية، وبعد عمرة القضاء، أنزلها الله تعالى عليه بشارة له وشرحا لصدره، وتسلية على قلبه بما وعده من النصر والفتح والهداية والإعزاز، وإنما جاء بلفظ الماضى مبالغة فيه وتوكيدا، وكأنه لشدة تحققه وثبوته كأنه قد مضى وتقضى فأشبه الماضى فى تقريره، ومن هذا قوله تعالى فى افتتاح سورة النساء يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء: 1] لأنه لما كان غرضه بيان الأحكام المشروعة فى حقهن من الطلاق، والميراث، وغير ذلك من الأحكام، صدر السورة بما يكون فيه دلالة وتنبيه على ذلك، وخالف ما ذكره فى صدر سورة الحج لما ذكره فى سورة النساء حيث قال يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) [الحج: 1] لأنه لما كان غرضه ذكر البعث والاحتجاج عليه والنعى على منكريه صدره بما يلائمه ويناسبه من ذلك، فافتتاح كل واحدة من السورتين مخالف للأخرى؛ لكنه مناسب لما يريد ذكره من كل واحد منهما من الأغراض والمقاصد التى ضمنها فيهما، فافتتاحهما، ملائم لهما كما ترى، ولهذا فإن الله تعالى لما أراد شهر السيف وأذن للرسول فى القتال وكان بينه وبين ناس من العرب عهود وإخلاف صدر سورة التوبة بذكر البراءة لما أراده من قطع تلك العهود ونبذها، فافتتاحها مناسب لما يريد ذكره فيها من المباينة وشن الغارات وسل السيف. المثال الثانى ما ورد من السنة الشريفة، فمن ذلك ما رواه ابن عمر رضى الله عنه قال: كان يعلمنا خطبة الحاجة بقوله الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فهذه الكلمات كان يذكرها إذا أراد حاجة من الحوائج من نكاح، أو موعظة، أو فصل قضية، أو غير ذلك من سائر الحاجات، فانظر إلى اختياره صلّى الله عليه وسلّم فى افتتاح كل أمر كيف صار ملائما للمطلوب من جميع الأفعال المطلوبة، فافتتح بالتعريف والإقرار باستحقاق الحمد لله فى كل حال لا يختص

المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه

وقتا دون وقت، ثم أردفه بتجديد الحمد فى مستقبل الزمان وحاله، ولهذا وجه الأول بالاسم، والثانى بالفعل المضارع، ليدل بالأول على الثبوت والاستقرار، ويدل بالثانى على التجدد والحدوث، ثم عقب بذكر الاستعانة لما كان محتاجا إليها فى كل فعل، وهى الألطاف الخفية من جهة الله تعالى؛ لأن اللطف من الله تعالى من أجله يسهل كل عسير، ويلين كل قاس، ثم أردفه بالاستعاذة بالله من شرور الأنفس، لما فيه من الضرر العظيم من أجل دعاء النفوس إلى كل شر، وهى مطبوعة على أنها أمارة بالسوء فى كل أحوالها، ثم عقبه بالاستعاذة من السيئات، فإنها مبعدة عن الخير، داعية إلى الشر، فمن أجل هذه المناسبة جعل هذا الدعاء ديباجة لكل مطلوب لما اختص من الملاءمة بما يذكر بعده. ومن ذلك افتتاحه صلّى الله عليه وسلّم فى الدعاء لأبى سلمة عند موته حيث قال: اللهم ارفع درجته فى المهديين واخلفه فى عقبه من الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين. فانظر إلى مناسبة هذا الافتتاح للحالة التى وقع فيها فافتتحه بذكر المهم الذى يفتقر إليه المدعو له فى تلك الحال، من رفع الدرجة فى الآخرة، ثم أردفه بذكر المهم الذى يؤثره المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده فى الدنيا، ثم ختمه بالجمع بين الداعى والمدعو له، وهذا من الافتتاح البليغ الذى يعجز عن الإتيان بمثله كل بليغ، ومن أنس بالأحاديث النبوية وكان له مطالعة لها فإنه يجد فيها ما يكفى ويشفى. المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه وله عليه السلام من الافتتاحات الرشيقة فى خطبه، ومواعظه، وكتبه، ما يفوق على كل كلام فمن ذلك ما ذكره بعد تلاوته أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) [التكاثر: 1] فإن السبب فى نزولها هو أن بنى عبد مناف من قريش وبنى سهم، أكثروا المماراة، أيهم أكثر عددا، وأعظم جمعا، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم: إن البغى أهلكنا فى الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، فنزلت الآية ذما لهم على ذلك فقال عليه السلام فى معنى ذلك: يا مراما ما أبعده، وزورا ما أغفله، وخطرا ما أفظعه، لقد استخلوا منهم أىّ مذكر، وتناوشوهم من مكان بعيد، بمصارع آبائهم يفخرون، أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟ فتأمل هذا الافتتاح، ما أجمعه للمقصود وأشد ملائمته لمراد الآية، مع الاختصار البالغ والإيجاز البديع الذى يزيد تفصيله من بعد فى أثناء الخطبة.

المثال الرابع ما ورد من كلام البلغاء فى ذلك،

ومن ذلك ما ذكره عند تلاوته: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37] وما برح لله، عزت آلاؤه فى البرهة بعد البرهة، وفى أزمان الفترات عباد ناجاهم فى فكرهم وكلمهم فى ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة فى الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكرون بأيام الله، ويخوفون مقامه، بمنزلة الأدلة فى فلوات القلوب، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشروه بالنجاة، ومن أخذ يمينا وشمالا ذموا إليه الطريق، وحذروه من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلة تلك الشبهات. ومن ذلك ما ذكره عند تلاوته قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) [الأنفطار: 6] أدحض مسئول حجة، وأقطع مفتر معذرة، لقد أبرح جهالة بنفسه، يأيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما آنسك بهلكة نفسك، أما من دائك بلول، أليس من نومتك يقظة، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك، فانظر أيها المتأمل إلى هذه المطالع فى الوعظ والزجر، وهذه الافتتاحات بمعانى هذه الآى كيف طبق مفاصلها ولم يخالف مجراها، ولا أخذ فى غير طريقها، وأتى بما يلائم معناها، ويوافق مجراها، ويحقق مغزاها بالكلام الذى تبهر القرائح فصاحته، وتدهش العقول جزالته وبلاغته، ولله در أمير المؤمنين لقد فاق فى كل خصاله، ونكص كل بليغ أن يحذو على مثاله، خاصة فيما يتعلق بالخطب فى التوحيد فإنها افتتاحات ملائمة للمقصود أشد الملاءمة. المثال الرابع ما ورد من كلام البلغاء فى ذلك، وأحسن ما قيل فى الافتتاح ما قاله أبو تمام فى قصيدته التى امتدح بها المعتصم عند فتحه لمدينة عمّوريّة، وقد كان أهل التنجيم زعموا أنها لا تفتح عليه فى ذلك الوقت، وأفاض الناس فى ذلك حتى شاع الأمر وصار أحدوثة بين الخلق، فلما فتحت عليه، بنى أبو تمام مطلع القصيدة على هذا المعنى مكذبا لهم فيما قالوه، ومادحا للمعتصم فى شدة البأس وإعراضه عن التطير بالنجوم فقال. السيف أصدق أنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب «1» بيض الصّفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب وقال معرضا بأهل النجوم وأنه لا عبرة بما قالوه فى ذلك: والعلم فى شعب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا فى السبعة الشهب أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب

تخرصا وأقاويلا ملفقة ... ليست بنبع إذا عدّت ولا غرب «1» فهذا المطلع من أجود ما يأتى فى هذا المعنى ومن مستظرفاته ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى فى قصيدة يمدح بها كافورا وكان جرت بينه وبين سيده سيف الدول وحشة فقال فى ذلك: حسم الصلح ما اشتهته الأعادى ... وأذاعته ألسن الحسّاد فهذا وما شاكله من بديع الافتتاحات ونادرها لما فيه من إفادة الغرض المطلوب من أول وهلة، ومن جيد ما يذكر فى المطالع الحسنة ما حكاه أبو العباس المبرد أن هارون الرشيد غزا يعفور ملك الروم وكان نصرانيا فخضع له وبذل الجزية، فلما عاد هارون واستقر بمدينة الرقة، وسقط الثلج، نقض يعفور الذمة والعهد فلم يجسر أحد على إعلام هارون لأجل هيبته فى صدور الناس، وبذل يحيى بن خالد للشعراء الأموال النفسية على أن يقولوا أشعارا فى إعلامه، فكلهم أشفق من لقائه بمثل ذلك إلا شاعرا من أهل جدة يكنى أبا محمد وكان مغلقا فنظم قصيدة وأنشدها الرشيد مضمنة لهذا المعنى، قال فيها: نقض الذى أعطيته يعفور ... فعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنّه ... فتح أتاك به الإله كبير يعفور إنّك حين تغدر إن نأى ... عنك الإمام فجاهل مغرور أظننت حين غدرت أنّك مفلت ... هبلتك أمّك ما ظننت غرور فلما أنهى الأبيات إلى الرشيد قال أوقد فعل، ثم غزاه فأخذه وفتح مدينته، ومن غريب الافتتاح وعجيبه ما قاله المتنبى فى سيف الدولة وقد كان ابن الشمقمق أقسم ليقتلنه كفاحا، فلما التقى به لم يطق ذلك وولى هاربا، فقال فيه: عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك فى إقدامك القسم وفى اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك فى الميعاد متّهم ومن ذلك ما قاله أبو تمام يمدح المعتصم فيها: الحقّ أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار «2» وهذه القصيدة من لطائف قصائده وعجائبها، ومطلعها يناسب ما ذكره فيها من ثنائه

الطرف الثانى فى ذكر الافتتاحات المستقبحة

عليه وظفره ببابك الخرمى. ومن ذلك ما قاله السلمى فى مطلع قصيدة له قال فيها قصر عليه تحية وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيام «1» وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء، فقال من أجاد الابتداء والمطلع، وهذا يدلك على أن لهما موقعا عظيما فى الفصاحة والبلاغة، فهذا ما أردنا ذكره فى الافتتاحات الحسنة. الطرف الثانى فى ذكر الافتتاحات المستقبحة اعلم أنه ليس فى كتاب الله تعالى ولا فى السنة النبوية ولا فى كلام أمير المؤمنين شىء من الافتتاحات المستكرهة فنورده، وما ذاك إلا من اختصاصها بأرفع محل فى البلاغة وبلوغها فى أعلا مراتبها، وإنما ورد ذلك فى كلام البلغاء ونحن نورد ما استكره منه وكان مستقبحا. نعم القرآن وإن كان مستحسنا فى كل حالة لكنه قد يكره ذكر الآيات المشعرة بالموت عند عروض الأفراح، وهذا كمن يستفتح بقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] عند نكاح أو غير ذلك من الأفراح وكمن يستفتح فى قدوم تجارة له يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها [التوبة: 35] الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على العذاب، ووقوع الوعيد الشديد، فما جرى هذا المجرى فإنه مستكره تلاوته فى هذه الأحوال، لما فيه من قبح التفأؤل فلا يصلح ذكره، وإنما يذكر فى الأفراح الآيات الدالة على السرور كقوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ [التوبة: 21] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على نعيم أهل الجنة وسرورهم، وهكذا القول فى كتب التهانى والتعازى، فإنه يجب أن يكون افتتاحها ملائما لمقصودها ومطلوبها من الآيات والأخبار، ولنرجع إلى أمثلة المطالع والافتتاحات السيئة، ويحكى أن المعتصم لما فرغ من بناء قصرة بالميدان وأعجب به جميع أهله وأصحابه فيه وأمرهم أن يخرجوا فى زينتهم فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم واستأذنه إبراهيم بن إسحق الموصلى فى الإنشاد فأذن له، فأنشده قصيدة أجاد فيها كل الإجادة خلا أنه افتتحها بافتتاح قبيح لا يلائم ما هو فيه فابتدأها بتعفية الديار وبلائها فقال: يا دار غيّرك البلى ومحاك ... يا ليت شعرى ما الذى أبلاك؟ «2»

فتغامز الناس به وتطير به المعتصم وعجبوا من غفلة إبراهيم عن مثل ذلك مع معرفته وعلمه وطول مخالطته للملوك، فأقاموا أياما وانصرفوا فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس، وخرب القصر بعد ذلك، وما كان أخلق هذا المقام ببيت السلمى الذى حكيناه عنه من قبل الذى مطلعه «قصر عليه تحية وسلام» فانظر ما بين هذين الافتتاحين، وكم بين المطلعين، ومن ذلك ما قاله أبو نواس: يا دار ما فعلت بك الأيام ... لم تبق فيك بشاشة تستام وهذه القصيدة هى من محاسن شعره وغرائبه، خلا أنه أساء فيها الافتتاح والمطلع، أنشأها ممتدحا بها الأمين ابن هارون، وتعفية الديار ودثورها مما تكره مقابلة الخلفاء والملوك به، لما فيه من الطيرة وقبح الفأل، ومن الافتتاحات المكروهة ما قاله البحترى فى قصيدة أنشأها مدحا، فأذهب روحها بهذا الافتتاح السيىء ومطلع هذا الافتتاح بأن يكون مرثية أحق من أن يكون مديحا قال: فؤاد ملاه الحزن حتى تصدّعا فمثل هذا يتطير به وتنبو عنه الأسماع، ومن قبيح الافتتاح وشنيعه ما قاله ذو الرمة: ما بال عينك منها الماء ينسكب «1» فما هذا حاله لا خفاء بقبحه إذ كان موجها للمدح، ولما أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التى مطلعها «خفّ القطين فراحوا منك أبو بكروا» فقال له عبد الملك: بل منك فغيره ذو الرمة فقال فيه «خفّ القطين فراحوا اليوم أو بكروا» ومن قبيحه ما قاله البحترى: إنّ للبين منّة لا تؤدّى ... ويدا فى تماضر بيضاء فما هذا حاله أعنى ذكر النساء بأسمائهن مما يثقل على اللسان، فإيراده فى الغزل مما يشوه رقته، ويحط من خفته، وإنما يستحسن من الغزل بأسماء النساء من كان خفيفا على اللسان، كأميم، وسعاد، وقد عيب على الأخطل أيضا تغزله بقذور، لما فيها من الثقل فى المنطق، فما هذا حاله ينبغى تجنبه فى الأشعار، فقد عرفت بما ذكرناه ما تجب مراعاته فى الافتتاحات والمطلع وما يجب تجنبه فى ذلك منها.

الفصل الثالث فى ذكر الاستدراجات

الفصل الثالث فى ذكر [الاستدراجات] الاستدراج، استفعال من قولهم: استدرجته إلى كذا إذا نزلته درجة درجة حتى تستدعيه إليك وينقاد لما قلته من ذلك، قال الله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) [القلم: 44] فالاستدراج لهم إنما هو بإعطاء الصحة والنعمة والإمهال ليزدادوا فى الكفر والفسوق، وهذا اللقب إنما يطلق على بعض أساليب الكلام، وهو ما يكون موضوعا لتقريب المخاطب والتلطف به والاحتيال عليه بالإذعان إلى المقصود منه ومساعدته له بالقول الرقيق والعبارة الرشيقة، كما يحتال على خصمه عند الجدال والمناظرة بأنواع الإلزامات، والانتماء إليه بفنون الإفحامات، ليكون مسرعا إلى قبول المسألة والعمل عليها، وكمن يتلطف فى اقتناص الصيد فإنه يعمل فى الحبالة كل حيلة ليكون ذلك سبيلا إلى ما يقصده من الاصطياد، فهكذا ما نحن فيه، إذا أراد تحصيل مقصد من المقاصد فإنه يحتال بإيراد ألطف القول وأحسنه، فما هذا حاله من الكلام يقال له الاستدراج، ولنضرب له أمثلة بمعونة الله تعالى. المثال الأول من كتاب الله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) [غافر: 28] فانظر إلى حسن مأخذ هذا الكلام، وما تضمنه من النزول فى الملاطفة، فصدر الكلام بالإنكار عليهم فى قتله واستقباحه، لأمرين: أما أولا فلأنه قائل بالتوحيد لله تعالى، وأما ثانيا فلأنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحة فى هدايتكم إلى الخير، فمن هذه حاله كيف يقدم على قتله، هذا مما لا يتسع له العقل ولا يقبله، ثم أخذ بعد ذلك فى الاحتجاج عليهم على جهة التقسيم فقال: ليس يخلو حاله إما أن يكون كاذبا فضر كذبه يعود عليه، وأنتم خالصون عنه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن تعرضتم لقتله، وفى سياق هذا الكلام من الملاطفة وحسن الأدب وكمال الإنصاف ما يربو على كل غاية، وبيانه من أوجه: أما أولا فلأنه صدر الكلام بكونه كاذبا على جهة التقدير ملاطفة واستنزالا للخصم عن نخوة

المكابرة ودعاء له إلى الإذعان والانقياد للحق، وقدمه على كونه صادقا دلالة على كونه صادقا دلالة على ذلك، وأما ثانيا فلأنه فرض صدقه على جهة التقدير مع كونه مقطوعا بصدقه، تقريبا للخصم وتسليما لما يدعيه من ذلك، وهضما لجانب الرسول زيادة فى الإنصاف ومبالغة فيه، وأما ثالثا فإنه أردفه بقوله يصبكم بعض الذى يعدكم، وإن كان التحقيق أنه يصيبهم كل ما يعدهم به لا محالة من أجل الملاطفة أيضا وأما رابعا فإنه أتى «بإن» للشرط، وهى موضوعة للأمور المشكوك فيها، ليدل بذلك على أنه غير مقطوع بما يقوله على جهة الفرض، وإذعانا للخصم على التقدير لإرادة هضمه لحقه وأنه غير معط له ما يستحقه من التعظيم، وأما خامسا فقوله تعالى: فى آخر الآية إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب، إنما أتى به على التلطف والإنصاف مخافة أن يبعدوا عن الهداية ومحاذرة عن نفارهم عن طريق الصواب فرضا وتقديرا، وإلا فلو كان مسرفا كذابا، لما هداه الله إلى النبوة، ولما أعطاه إياها، وفى هذا الكلام من الاستدراج للخصم وتقريبه وإدنائه إلى الحق ما لا يخفى على أحد من الأكياس، وقد تضمن من اللطائف ما لا سبيل إلى جحده، ومن هذا قوله تعالى: فى قصة خليله إبراهيم صلوات الله عليه فى خطابه لأبيه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) [مريم: 41- 45] فهذا كلام يهز الأعطاف ويأخذ بمجامع القلوب فى الاستدراج والإذعان والانقياد بألطف العبارات وأرشقها، وهو مشتمل على حسن الملاطفة من أوجه: أما أولا فلأن إبراهيم صلوات الله عليه لما أراد هداية أبيه إلى الخير وإنقاذه مما هو متورط فيه من الكفر والضلال الذى خالف فيه العقل، ساق معه الكلام على أحسن هيئة، ورتبه على أعجب ترتيب، من حسن الملاطفة والاستدراج والرفق فى الخصمة والحجاج، والأدب العالى وحسن الخلق الحميد، وذلك أنه بدأ بطلب الباعث له على عبادة الأوثان والأصنام، ليتوصل بذلك إلى قطعه وإفحامه، ثم إنه تكايس معه بأن عرض إليه بأن من لا يسمع ولا يبصر لا يغنى شيئا من الأشياء لا يكون حقيقا بالعبادة وأن من كان حيّا سميعا بصيرا مقتدرا على الإثابة والعقاب متمكنا من العطاء والإنعام والتفضل، من الملائكة وسائر الأنبياء من جملة الخلق فإنه لا يستحق العبادة ويستسخف

عقل من عبده، فكيف من هذه حاله فى عدم الحياة والسمع والبصر من جملة الجمادات والأحجار التى لا حراك لها ولا حياة بها، وأما ثانيا فلأنه دعاه إلى التماس الهداية من جهته على جهة التنبيه والرفق به وسلوك جانب التواضع، فلم يخاطب أباه بالجهل عما يدعوه إليه، ولا وصف نفسه بالاطلاع على كنه الحقائق، والاختصاص بالعلم الفائق، ولكنه قال: معى لطائف من العلم وبعض منه، وذلك هو علم الدلالة على سلوك طريق الهداية، فاتبعنى أنجك مما أنت فيه، وقال له، أهدك صراطا سويا، ولم يقل أنجيك من ورطة الكفر وأنقذك من عماء الحيرة، تأدبا منه، واعتصاء عن مباداته بقبيح كفره، وتسامحا عن ذكره ما يغيظه، وأما ثالثا فلأنه ثبطه عما كان عليه ونهاه عنه، فقال إن الشيطان الذى عصى ربك وكان عدوا لك ولأبيك آدم، هو الذى أوقعك فى هذه الحبائل، وورطك فى هذه الورط وألقاك فى بحر الضلالة، وإنما خص إبراهيم ذكر معصية الشيطان لله تعالى فى مخالفته لأمره واستكباره، ولم يذكر عداوته لآدم وحواء، وما ذاك إلا من أجل إمعانه فى نصيحته فذكر له ما هو الأصل تحذيرا له عن ذلك وعن مواقعته، وأما رابعا فلأنه خوفه من سوء العاقبة بالعذاب السرمدى، ثم إنه لم يصرح له بمماسة العذاب له إكبارا له، وإعظاما لحرمة الأبوة، ولكنه أتى بما يشعر بالشك فى ذلك تأدبا له فقال له: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ ثم إنه نكر العذاب تحاشيا عن أن يكون هناك عذاب معهود يخاف منه، كأنه قال وما يؤمنك إن بقيت على الكفر أن تستحق عذابا عظيما عليه، وأما خامسا فلأنه صدر كل نصيحة من هذه النصائح بذكر الأبوة، توسلا إليه بحنو الأبوة واستعطافا له برفق الرحمية، ليكون ذلك أسرع إلى الانقياد، وأدعى إلى مفارقة ما هو عليه من الجحود والعناد، فلما سمع كلامه هذا وتفطن لما دعاه إليه، أقبل عليه بفظاظة الكفر، وجلافة الجهل، وغلظ العناد، فناداه باسمه ولم يقل يا بنى كما قال إبراهيم، يا أبت، إعراضا عن مقالته وإصرارا على ما هو فيه، ثم إنه قدم خبر المبتدأ بقوله: أَراغِبٌ أَنْتَ [مريم: 45] اهتماما بالإنكار وتماديا فى المبالغة فى التعجب عن أن يكون من إبراهيم مثل هذا، فانظر ما بين الخطابين من التفاوت فى الرقة والرحمة وحسن الاستدراج، فلله در الأنبياء! فما أسجح خلائقهم، وأرق شمائلهم، وفى القرآن سعة من هذا، ومملوء من حسن الحجاج والملاطفة، خاصة لمنكرى المعاد الأخروى، وعبادى الأوثان والأصنام، فإن الله تعالى نعى عليهم فعالهم، وسجل عليهم، فانظر إلى حجاجه

المثال الثانى من السنة الشريفة،

لمنكرى البعث بقوله: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس: 78] كيف أفحمهم بالإلزامات، وإلى حجاجه لعباد الأصنام بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] إلى آخر الآية ولولا أنه يخرجنا عن المقصد الذى تصدينا له لذكرنا فيه أمثلة رائقة ونبهنا فيه على أسرار بديعة. المثال الثانى من السنة الشريفة، ولا شك أن له صلى الله عليه مع الكفار من عبدة الأوثان والأصنام وغيرهم من أهل الكتب كاليهود والنصارى ملاطفة فى حسن الاستدراج ولين العريكة، والتهالك فى دعائهم إلى الدين، والإمعان فى الانقياد له، شىء كثير لا يحصر عدده، ولا يتجاوز أمده، فمن ذلك ما حكاه ابن هشام فى سيرته عن ابن إسحق: أن النبى صلى الله عليه وآله كتب إلى أحبار اليهود فقال: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه، والمصدق لما جاء به موسى، ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وإنكم لتجدون ذلك فى كتابكم، محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما، وإنى أنشدكم بالله، وأنشدكم بما أنزل عليكم، وأنشدكم بالذى أطعم من كان قبلكم من أسباطكم، والمن والسلوى، وأنشدكم بالذى أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله، إلا أخبرتمونا: هل تجدون فيما أنزل عليكم أن تؤمنوا بمحمد، وإن كنتم لا تجدون ذلك فى كتابكم فلا كره عليكم قد تبين الرشد من الغى، فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه، فلينظر الناظر ما اشتمل عليه هذا الكتاب من لطيف المحاورة وحسن الاستدراج المزيل للأحقاد والضغائن، والمؤثر فى إزالة السخائم عن القلوب، وذلك من أوجه، أما أولا فلأنه صدر كتابه بقوله صاحب موسى وأخيه يعنى هارون، وإنما فعل ذلك إزالة للوحشة عنهم، وتقريرا لخواطرهم، وإيناسا لقلوبهم عن

نفارها عنه بكونه صاحبا لنبيهم وأخا له ومصدقا لما جاء به موسى، كل ذلك إنما يفعله على جهة الملاطفة ليستدرجهم إلى تصديقه بالمحاورة اللطيفة، والخطابات المؤنسة، وأما ثانيا فلأنه قال: يا معشر أهل التوراة، تشريفا لهم ورفعا لمكانهم، حيث صاروا مختصين بكتاب الله تعالى من بين سائر الخلق، وأما ثالثا فهو أنه احتج عليهم بما لا يجدون سبيلا إلى إنكاره من كونه مكتوبا عندهم فى التوارة، ولم يقل لهم انظروا فى معجزتى، ولكنه وكلهم إلى معرفته بما يعرفونه، رفقا بهم ومناصحة وتقريرا لما هم عليه من ذلك، ثم إنه تلا وصفه فى التوراة ليذعنوا بالتصديق على سهولة وقرب، أما رابعا فلأنه قد أورد ذكر وصفه ووصف أصحابه فى الإنجيل ليعرفهم بذلك، إيناسا لهم وتقريبا، وأما خامسا فلأنه ذكر المناشدة، تذكيرا لهم بالآلاء العظيمة، والنعم المترادفة. بإكرامهم، فأولها المنة عليهم بإنزال التوراة وما شرع لهم فيها من الشرائع، وثانيها بإطعامهم المن والسلوى، وثالثها فلق البحر وشقه حتى جازوا فيه وأنجاهم من عدوهم بذلك، فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من الاستدراج الحسن، واللطف المستحسن، والبسط الذى يؤنس القلوب عن نفارها، ويكسبها الإقرار بعد إنكارها، ولو قال فى كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله الناسخ لشريعة موسى بن عمران، والماحى لآثارها، والطامس لأعلامها، إلى معشر اليهود الذين خالفوا وبدلوا أحكام التوراة وكذبوا بما جاء من عند الله. وخانوا عهد الله، واشتروا بآياته ثمنا قليلا، أنشدكم بالله الذى مسخكم قردة، وأنزل بكم نكاله، وضرب عليكم الذلة والمسكنة، وأهانكم بالتزام الجزية، وأقعدكم مقاعد الهوان، حيث جحدتم نبوتى، وأنتم تعرفون بها حقيقة. لا لبس فيها، كما تعرفون أبناءكم- لكانت تنفيرا ولم يكن استدراجا، ولصار لجاجا، أحق من أن يكون تقريبا وحجاجا، ثم أقول لقد كان الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكان من الملاطفة وحسن الحجاج قبل الهجرة بالمشركين من أهل مكة وغيرهم من سائر القبائل ثم ما كان منه من الملاطفة بعد الهجرة باليهود بنى قريظة وبنى النضير حتى هلك من هلك عن بينة وحى من حى عن بينة.

المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،

المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه، ولقد كان له عليه السلام من الاستدراجات الرائقة خاصة مع معاوية، وفرق الخوارج وغيرهم ممن نكص عن الإسلام على عقبيه، ولغيرهم من أصحابه من العنايات الحسنة ما يشفى غليل الصدور، ويوضح ملتبسات الأمور، فمن ذلك ما ذكرناه خطابا لمعاوية فاتق الله يا معاوية فى نفسك، وجاذب الشيطان قيادك، فإن الدنيا منقطعة عنك، والآخرة قريبة منك، فكيف أنت إذا انكشف عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد بهجت بزينتها، وخدعت بلذتها، دعتك فأجبتها، وقادتك فأتبعتها، وأمرتك فأطعتها، وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه منج، فاقعس عن هذا الأمر، وخذ أهبة الحساب، وشمر لما نزل بك، ولا تمكن الغواة من سمعك، فهذا وما شاكله استدراج وحسن ملاطفة، وله عليه السلام فى غير هذا الموضع كلام فيه خشونة عظيمة، ومن ذلك ما قاله لعبد الله بن عباس عند استخلافه إياه على البصرة: سع الناس بوجهك ومجلسك وحلمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان، واعلم أن ما قربك من الله بعدك من الشيطان والنار، وما باعدك من الله يقربك من النار والسلام، ومن ذلك يخاطب به معاوية، مناصحة له وتقريبا له من الحق: أما بعد فإن الله جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا للسعى فيها أمرنا، وإنما وضعنا فيها لنبتلى بها، وقد ابتلانى الله بك وابتلاك بى، فجعل أحدنا حجة على الآخر، فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن، فطلبتنى بما لم تجن يدى ولا لسانى، وعصيته أنت وأهل الشأم، وألب عالمكم جاهلكم، وقائمكم قاعدكم، فاتق الله فى نفسك، ونازع الشيطان قيادك، واصرف إلى الآخرة وجهك، فهى طريقنا وطريقك، واحذر أن يصيبك الله بعاجل قارعة تمس الأصل، وتقطع الدابر، فإنى أولى لك بالله ألية غير فاجرة، لئن جمعتنى وإياك جوامع الأقدار لا أزال بساحتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. وقال أيضا مخاطبا له أما بعد، فقد علمت إعذارى فيكم، وإعراضى عنكم، حتى كان ما لا بد منه، ولا مدفع له، والحديث

طويل، والكلام كثير. وقد أدبر من أدبر وأقبل من أقبل، فتابع من قبلك، وأقبل إلى فى وفد من أصحابك والسلام، وقال يخاطبه بالاستدراج: أما بعد فإنى على التردد فى جوابك، والاستماع إلى كتابك، لموهن رأيى ومخطىء فراستى، وإنك إذ تحاولنى الأمور، وتراجعنى السطور، كالمشتغل النائم، تكذبه أحلامه، والمتحير القائم ينهضه مقامه لا يدرى أله ما يأتى أم عليه، ولست به، غير أنه كل شبيه، وأقسم بالله لولا بغض الاستبقاء لوصلت منى إليك قوارع تقرع العظم، وتنهس اللحم، واعلم أن الشيطان قد ثبطك عن أن تراجع أحسن أمورك، وتأذن لمقال نصيحك والسلام، وقال يخاطب طلحة والزبير بالملاطفة العجيبة: أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أنى لم أرد الناس حتى أرادونى، ولم أبايعهم حتى بايعونى، وأنكما ممن أرادنى وبايعنى، وأن العامة لم تبايعنى لسلطان غالب، غاضب، ولا لغرض حاضر، فإن كنتما بايعتمانى طائعين، فارجعا وتوبا إلى الله من قريب، وإن كنتما بايعتمانى كارهين فقد جعلتما لى عليكما السبيل، بإظهاركما الطاعة، وإسراركما المعصية، ولعمرى ما كنتما بأحق من المهاجرين بالتقية والكتمان، وإن دفعكما هذا الأمر من قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بغير إقراركما به، وقد زعمتما أنى قتلت عثمان، فبينى وبينكما من تخلف عنى وعنكما من أهل المدينة، ثم يلزم كل امرىء بقدر ما احتمل، فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما فإن الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يجتمع العار والنار والسلام، وقال أيضا يخاطب محمد بن أبى بكر لما بلغه توجده عليه حين عزله بالأشتر: وقد بلغنى موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك وإنى لم أفعل ذلك استبطاء لك فى الجهد، ولا ازديادا فى الحد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك مؤنة وأعجب إليك ولاية، إن الرجل الذى كنت وليته أمر مصر كان رجلا لنا ناصحا، وعلى عدونا شديدا ناقما، فرحمه الله، فلقد استكمل أيامه، ولاقى حمامه، ونحن عنه راضون، أولاه الله رضوانه، وضاعف الثواب له، فاصحر لعدوك وامض على بصيرتك، وشمر لحرب من حاربك، وادع إلى سبيل ربك، وأكثر الاستعانة بالله، يكفك ما أهمك ويعنك على ما

المثال الرابع ما ورد عن البلغاء فى الاستدراج،

ينزل بك والسلام. فهذا ما أردنا ذكره من كلام أمير المؤمنين فى الاستدراجات اللطيفة، وكم له فى هذا النوع من الكلمات لأنه كان قد بلى بحرب أهل القبلة وخروجهم عليه، فكان حريصا على إبانة الحجة، وإيضاح المحجة، بالأقوال اللطيفة، والخطابات الرقيقة، إبلاغا للحجة، وقطعا للمعذرة، ولله در أمير المؤمنين، فلقد كان قوالا للحق، فعالا له، موضح السنن والمعالم، والناصح لله وللدين لا تأخذه فيه لومة لائم. المثال الرابع ما ورد عن البلغاء فى الاستدراج، يحكى أنه وقعت بين الحسين بن على صلوات الله عليه، وبين معاوية بن أبى سفيان مفاوضة فى أمر ولده يزيد، وذلك أن معاوية قال للحسين بن على: أما أمك فإنها خير من أمه، وفاطمة بنت رسول الله خير من أمرأة من كلب، وأما حبى يزيد فإنى لو أعطيت به مثلك ملء الغوطة ما رضيت، وأما أبوك وأبوه، فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك، فلينظر الناظر ما اشتمل عليه كلام معاوية من المراوغة عن الحق وتلبيس الأمر فى ذلك عن السامع بلطيف الاستدراج وحسن الإجمال مع ما فيه من البلاغة والفصاحة، فانظر إلى عظم دهائه، وإغراقه فى الحذق والكياسة، حيث علم وتفطن ما كان لأمير المؤمنين من السبق فى الإسلام، وحسن الإبلاء فى الجهاد لأعداء الله، وما خصه الله به من العلم الباهر والقدم الراسخ فى الزهد والعبادة فلم يتعرض للمفاخرة فى ذلك، ولا دعا إلى المنافرة، ولو قال إن الله قد أعطانى الدنيا، ونزعها منكم، لأن مثل هذا لا فضل فيه، لأن الدنيا لها البر والفاجر، ولكن صفح عن ذلك كله، وأعرض عنه، وأتى بكلام مبهم لا يفهم منه المقصود، وهو قوله: إن أباك وأباه تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك، فإنما أتى بهذا الكلام ليسكت خصمه، ويستدرجه إلى الإصمات، وهذا من غدره ودهائه قليل، ومن لطيف ما جاء فى الاستدراج من المنظوم ما قاله أبو الطيب المتنبى: وذلك أن سيف الدولة كان مخيما بأرض الديار البكرية على مدينة ميّا فارقين، ليأخذها فعصفت الريح خيمته فأسقطتها فتطير الناس لذلك، وقالوا إنه لا يأخذها فامتدحه أبو الطيب بقصيدة لامية يعتذر فيها عن

سقوط الخيمة، ويستدرج ما أثر ذلك فى صدره بالإزالة والمحو، تقريبا لخاطره، وتطييبا لنفسه، فأجاد فيها كل الإجادة، وأحسن فى الاعتذار والاستدراج غاية الإحسان، مطلعها: «أينفع فى الخيمة العذل» ومنها قوله: تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض فى الواحد الجحفل وتقصر ما كنت فى جوفها ... وتركز فيها القنا الذبل ثم قال: وإن لها شرفا باذخا ... وإن الخيام بها تخجل فلا تنكرن لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل ولما أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنك لا ترحل فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل وعرف أنك من همه ... وأنك فى نصره ترفل فما العاندون وما أملوا ... وما الحاسدون وما قوّلوا هم يطلبون فمن أدركوا ... وهم يكذبون فمن يقبل وهم يتمنون ما يشتهو ... ن ومن دونه جدك المقبل «1» فهذه الأبيات من أعظم الأمثلة فى الاستدراج وإزالة ما يقع فى النفوس، ولو لم يكن فى شعره إلا هذه القصيدة، لكانت كافية فى معرفة فضله، وكونه فائقا فيه، ولنقتصر على هذا القدر من أمثلة الاستدراج ففيه كفاية.

الفصل الرابع فى الامتحان

الفصل الرابع فى [الامتحان] اعلم أن من المعانى ما يكون متوسطا فيما أتى به من أجله، فيكون اقتصادا، ومنها ما يكون قاصرا عن الغرض فيقال له تفريط، ومنها ما يكون زائدا عن الحد فيكون إفراطا، فهذا الفصل يسمى الامتحان لما كان فيه الإفادة لمعرفة هذه الأمور الثلاثة، فإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه الأمور الثلاثة، أعنى الاقتصاد، والتفريط، والإفراط، لها مدخل فى كل شىء من العلوم والصناعات، والأخلاق والطباع، ولابد من بيان معانيها فى الأوضاع اللغوية، ثم نظهر نقلها إلى المعانى. فأما الاقتصاد فاشتقاقه من القصد وهو العدل الذى لا يميل إلى أحد الطرفين، قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] فوسطه بين قوله: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] فظلم النفس، والسبق بالخيرات هما طرفان، والاقتصاد أوسطهما، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان: 67] فالإسراف، والإقتار طرفان، والقوام، هو الوسط والاقتصاد، لأن الوسط لابد له من طرفين، ولهذا قال عليه السلام: خير الأمور أوساطها، ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن لباس الشهرتين، فلا بد هناك من وسط مأمور به، وهو لباس أهل الصلاح، فلا يكون لباس أهل الفخر والخيلاء ولا لباس أهل الإدقاع والفقر والمسكنة، ولهذا قال بعضهم: عليك بالقصد فى كل الأمور تفز ... إن التخلق يأتى دونه الخلق والوسط مستحسن عقلا، وشرعا، وعرفا، وأما التفريط فهو التقصير والتضييع، ولهذا قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] أى ما أهملنا من إيداعه المصالح الدينية، ولا ضيعناها منه، وأما الإفراط، فهو الإسراف فى الشىء والتجاوز للحد فيه يقال أفرط فى الشىء، إذا تجاوز الحد، فصار التفريط والإفراط هما الطرفان الضدان، والاقتصاد هو الوسط فى الاعتدال، فهذه هى المعانى التى تفيدها هذه الألفاظ من جهة اللغة، فإذا عرفتها فنقول قد نقلت هذه المعانى الثلاثة إلى أمور مصطلح عليها فى علوم البيان، نوضحها ونجعلها على مراتب ثلاث:

المرتبة الأولى فى الاقتصاد

المرتبة الأولى فى [الاقتصاد] ومعناه أن يكون المعنى المندرج تحت العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه مساويا له من غير زيادة فيكون إفراطا، ولا نقصان فيكون تفريطا ولنورد فيه أمثلة أربعة توضح المقصود منه بمعونة الله تعالى. المثال الأول من كتاب الله تعالى وهذا كقوله تعالى فى صدر سورة البقرة فى صفة المتقين: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة: 2- 5] فهذه الأوصاف على نهاية الاقتصاد والتوسط من غير إفراط ولا تفريط، وقوله تعالى: فى افتتاح سورة المؤمنين فى صفة أهل الإيمان قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) [المؤمنون: 1- 4] إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) [المؤمنون: 10] والقرآن وارد على هذه الطريقة، فإنه وارد على نهاية الاعتدال والتوسط، فهذا ما ورد فى المدح، فأما الذم فكقوله تعالى: فى سورة نون يخاطب به الوليد ابن المغيرة المخزومى، وقيل الأخنس بن شريق، وقيل الأسود بن عبد يغوث فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) [القلم: 8- 13] فهذه أوصاف دالة على الذم، صادقة عما هم عليه من هذه السمات جارية على جهة الاعتدال والتوسط من غير إفراط ولا تفريط، وهكذا القول فى جميع علوم القرآن وأصوله من الأوامر، والنواهى والوعد، والوعيد، والقصص، والأمثال، فإنها جارية على جهة التوسط والاعتدال لا تخرج عن حد فيما تناولته من مدح ولا ذم ولا غيره كما يكون الخروج فى غيره. المثال الثانى من السنة النبوية، فمن ذلك قوله صلى الله عليه: ألا أحدثكم بأحبكم إلى وأقربكم منى مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إلى وأبعدكم منى مجالس يوم القيامة، الثرثارون المتفيهقون. فانظر إلى حبه. فما أعدله، وإلى بغضه ما أقومه، فأعطى المحب ما يليق به، وأعطى المبغض ما

المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،

يستحقه من غير إفراط فى الجانبين، ولا تفريط فى حقهما. ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار، والسخى قريب من الله قريب من الناس، بعيد من النار، وقال عليه السلام: إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شىء حسيبا، وإن على كل شىء رقيبا، وإن لكل أحد كتابا ولكل حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: إنه من خاف البيات أدلج، ومن أدلج فى المسير وصل، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم لو قد طويت صحائف آجالكم، أيها الناس. إن نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله، فليتأمل المتأمل فى كلامه عليه السلام من الاقتصاد فى الوعظ، وفى وصف المحبة والبغض، وغير ذلك من كلامه فإنه لامرية فى كونه سالكا فيها طريقة القصد، وناهجا منهج العدل لا يغلو فيفرط ولا يحيف فيفرط. المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وهو جار فيما هو فيه على قانون النصفة، وسالك لطريق الحق والمعدلة، من ذلك ما قاله فى صفة المؤمنين وأهل التقوى: وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله فى أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة، وهم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما اطلعوا على غيوب أهل البرزخ فى طول الإقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون، فلو مثلتهم لعقلك فى مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرغوا لمحاسبة أنفسهم: على كل صغيرة وكبيرة أمروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجا وتجاوبوا نحيبا يعجون إلى ربهم من مقاوم ندم واعتراف، لرأيت أعلام هدى ومصابيح دجى، قد حفت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، وأعدت لهم مقاعد الكرامات، فى مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضى سعيهم، وحمد مقامهم، رهائن فاقة إلى فضله، وأسارى ذلة لعظمته، جرح طول

المثال الرابع ما كان من كلام البلغاء فى ذلك

الأسى قلوبهم، وطول البكاء عيونهم، لكل باب رغبة إلى الله يد قارعة، يسألون من لا تضيق لديه المنادح، ولا يخيب عليه الراغبون. ومن كلام له عليه السلام يصف فيه أهل النفاق قال فيه: أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحذركم أهل النفاق، فإنهم الضالون المضلون، والزالون المزلون، يتلونون ألوانا، ويفتنون افتنانا، ويعمدونكم بكل عماد، ويرصدونكم بكل مرصاد، قلوبهم دوية، وصفاتهم نقية، يمشون الحفا، ويدنون الضرا، وصفهم دواء وقلوبهم شفاء، وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء، ومؤكدو البلاء، ومقنطو الرجاء، لهم بكل طريق صريع، وإلى كل قلب شفيع، ولكل شجو دموع، يتقارضون الثناء، ويتراقبون الجزاء، إن سألوا ألحفوا، وإن عذبوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا، قد أعدوا لكل حق باطلا، ولكل قائم مائلا، ولكل حى قاتلا، ولكل باب مفتاحا، ولكل ليل صباحا، فهم لمة الشيطان، وحمة النيران، أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. فانظر إلى كلامه فى الفريقين كيف أبرز من كل واحد منهما حقيقة حاله وميز أحدهما عن الآخر ومثله بأعجب مثاله، قد طابق بكلامه المراد، من غير نقصان فيه ولا ازدياد، وأقول لقد ضربت عليه البلاغة سرادقها، وأحاط من الفصاحة بمكنونها وأسرار حقائقها. المثال الرابع ما كان من كلام البلغاء فى ذلك وهذا كقول الفرزدق يمدح زين العابدين على بن الحسين: هذا الذى تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقى النقى الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم «1» ومن هذا قول البحترى: ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... فى وسعه لسعى إليك المنبر فهذا مدح مقتصد ليس فيه إسراف ولا تقتير ولا ركب صاحبه إفراطا ولا تفريطا، ومن هذا قول بعضهم يهجو غيره:

المرتبة الثانية فيما يجرى على جهة التفريط

لقد صبرت فى الذل أعواد منبر ... تقوم عليها فى يديك قضيب «1» فهذا ذم لم يرتكب فيه شططا، ولا رام فيه فرطا بل وصفها بالذل لكونها حاملة له، لأن من هوانها كونه راكبا لها عاليا عليها، فهذا تقرير الأمثلة فيما جرى من الكلام على جهة الاقتصاد. المرتبة الثانية فيما يجرى على جهة [التفريط] فيورد على جهة التقصير فى المعبر عنه، والتضييع والإهمال له، فمن ذلك ما قاله الفرزدق: ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد ... على حاضر إلا نشلّ ونقذف كلانا به عرّ يخاف قرافه ... على الناس مطلى المساعر أخشف «2» فما هذا حاله من جملة التفريط لكونه من جملة الأمنيات النازلة، والمقاصد السخيفة، التى لا ثمرة لها ولا جدوى عندها، فإن حاصل ما قال فى هذين البيتين أنه قصر أمنيته على أن يكون هو ومحبوبه، كبعيرين أجربين لا يقربهما أحد، ولا يقربان أحدا، إلا طردهما، نفارا منهما، وعيفة لمقاربتهما، لما فيهما من العر، وهو داء يصيب الإبل فى مشافرها، والأخشف بالخاء والشين المعجمتين. البعير الذى يجترىء على المسير بالليل، والقراف: المداناة والقرب، وغرضه من ذلك كله البعد عن الناس بمنزلة من به داء عظيم يتأفف منه ويبعد عنه، ولقد كان له مندوحة عن مثل هذه الأمانى السخيفة البعيدة، فأين هذا من قول من قال فى الأمانى الرقيقة، والطرائف الرشيقة: يارب إن قدّرته لمقبّل ... غيرى فللمسواك أو للأكؤس وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... فى الدهر فلتك من عيون النرجس فانظر ما بين الأمنيتين من التفاوت العظيم ومن أمثلة التفريط ما قاله أبو تمام يمدح رجلا: يتقى الحرب منه حين تغلى ... مراجلها بشيطان رجيم «3»

فما هذا حاله فى المديح، من التفريط والإهمال والتضييع الذى لا يمدح بمثله بحال، لما فيه من مقابلة الممدوح بأقبح الأسماء، وأسوإ الصفات وكقوله أيضا يمدح رجلا: ما زال يهذى بالمكارم والعلا ... حتى ظننا أنه محموم «1» وكقوله أيضا: أنت دلو وذو السماح أبو مو ... سى قليب وأنت دلو القليب فما هذا حاله من المدائح التى نزلت فى الركة وكانت معدودة فى التفريط البالغ، ومن أمثلة التفريط ما قاله البحترى يمتدح الفتح بن خاقان فى قصيدته المشهورة ويذكر فيها لقاءه للأسد وقتله له: شهدت لقد أنصفته حين تبترى ... له مصلتا عضبا من البيض مقضبا فلم أر ضرغامين أصدق منكما ... عركا إذا الهيّابة النّكس كذّبا «2» فقوله: إذا الهيابة النكس كذبا. ليس فيه مدح، وقد فرط فى إيراده مدحا لهذا الرجل، وكان الأخلق بالمدح أن يقول، إذا البطل كذب، لأنه الأمدح فى إقدام المقدم فى الموضع الذى يفر منه الجبان، إذ لا فضل فى مثل هذا، وإنما الفضل فيما قاله أبو تمام: فتى كلما ارتاد الشجاع من الردى ... مفرا غداة المأزق ارتاد مصرعا ومن التفريط ما قاله بعض الشعراء: وتلحقه عند المكارم هزة ... كما انتقض المحموم من أم ملدم فهذه الأمثلة كلها من المدائح التى وقع التفريط فيها ولا يجوز استعمالها، فالمعنى فيها وإن كان حسنا جيدا، ولكنه لأجل العبارة كان مستقبحا مسترذلا، تعافه الطباع، وتمجه الأسماع، وليس من التفريط شىء فى كتاب الله تعالى:، ولا فى السنة النبوية، ولا ورد فيه شىء من كلام أمير المؤمنين، حراسة من الله تعالى: لها وكلاءة منه عنها، فأين ما ذكره هذا الشاعر مما قاله ابن الرومى يمدح أقواما: ذهب الذين تهزهم مدّاحهم ... هزّ الكماة عوالى المرّان كانوا إذا مدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكان

المرتبة الثالثة ما يكون على جهة الإفراط

المرتبة الثالثة ما يكون على جهة [الإفراط] وهو كما ذكر تجاوز الحد فى المدح والذم وغيرهما من المقاصد، وهل يجوز استعماله فى الكلام أم لا، فيه مذهبان، المذهب الأول جواز استعماله، وقالوا 7 ن أحسن الشعر أكذبه، بل أكذبه يكون أصدقه، ويصدّق ذلك الشعر قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (236) [الشعراء: 226] فظاهر الآية وإن كان واردا على جهة الذم لهم بدليل ما قبلها، لكنه محتمل للإباحة كأنه جعل ذلك من دأبهم ومن عادتهم، وأنه لا شاعر يوجد إلا وهذه صفته كما قال تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) [الشعراء: 224] كأنه صار متابعة الغاوين لهم من جملة أوصافهم، وقد تهالك الشعراء فى ذلك وأتوا فيه بكل معجب مما يخجل الأذهان، ويصمّ الآذان لغرابته، ويحير الأفهام لشدة الإعجاب به. المذهب الثانى منعه آخرون، وزعموا أن الأمور لها حدود ونهايات مما يدخل تحت الإمكان، فأما ما كان من الأمور ما لا يدخل تحت الإمكان ولا يعقل وجوده فلا وجه له، والمذموم من الإفراط ما لا يدخل له فى الوجود على حال، والمختار عندنا جوازه على كل أحواله، لأنه إذا كان جائز الوجود فهو معجب لا محالة، لاشتماله على المبالغة فى المدائح وأنواع الذم، وإن لم يكن جائز الوجود فالإعجاب به أشد، والملاحة فيه أدخل، وقد ورد مثل ذلك فى كتاب الله تعالى قال الله تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) [إبراهيم: 46] . على قراءة من قرأ بفتح اللام فى تزول؛ لأنها هى الفارقة بين المؤكدة والنافية، وعلى هذا يكون معنى الآية وإن مكرهم لتزول منه الجبال، فأمّا من قرأ بكسر اللام فإنها هى المؤكدة للجحد، وليس فيها دلالة، ولا شك أن من المحال فى العقول أن المكر يزيل الجبال ويزحزحها عن مستقرّاتها، وهكذا قوله جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ [الكهف: 77] ، ومن المحال حصول الإرادة فى الجدار، وقوله تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ [الحج: 40] ويستحيل الهدم فى الصلوات، وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ [النحل: 112] ويستحيل فى القرية أن تذوق، وقوله: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18] ، والدم لا يكون كذبا إلى غير ذلك من

الاستعارات الرائقة، فإن كان الإفراط كله يكون قبيحا فما هذا حاله مما ورد فى القرآن ليس إفراطا وإن كان الإفراط منقسما إلى حسن وقبيح، فهذا الذى ورد فى القرآن من أحسنه وأعجبه، ولنورد أمثلة الإفراط من المنظوم قال عنترة: وأنا المنية فى المواطن كلّها ... والطعن منى سائق الآجال ومن ذلك ما قاله بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضريّة ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما «1» ومن ذلك ما قاله النابغة الذبيانى: إذا ارتعثت خاف الجبان ارتعاثها ... ومن يتعلّق حيث علق يفرق «2» يصف امرأة بطول عنقها، والرعاث جمع رعث وهو القرط المعلق بالأذن ومن ذلك ما قاله أبو نواس يمدح رجلا قال: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النّطف التى لم تخلق «3» ويحكى أن العتّابى لقى أبا نواس فقال: أما خفت الله تعالى: واستحييت منه حيث تقول «وأخفت أهل الشرك» البيت فقال له أبو نواس وأنت ما راقبت الله حيث قلت: ما زلت فى غمرات الموت مطّرحا ... يضيق عنى وسيع الرأى من حيلى فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لى ... حتى اختلست حياتى من يدى أجلى فقال له العتابى قد علم الله وعلمت أن هذا ليس من مثل قولك، ولكنك تعدّ لكل ناصح جوابا، وقد أورد أبو نواس هذا المعنى فى قالب آخر فقال: كثرت منادمة الدماء سيوفه ... فلقلّ ما تحتازها الأجفان حتى الذى فى الرّحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان فانظر إلى هذه المعانى ما أكذبها وما ألطفها وأرقها وأرشقها، وكل من خرقت قرطاس سمعه فإنه يعجب منها غاية الإعجاب، فأما أبو الطيب المتنبى. فإن له فى الإفراط اليد

تنبيه

البيضاء، والطريقة المثلى قال: كأن الهام فى الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد وقد صغت الأسنّة من هموم ... فما يخطرن إلا فى فؤاد فانظر إلى هذه الاستعارة الرائقة التى أنافت على كل غاية، وجاوزت فى الحسن والديباجة كل نهاية، ومن ذلك ما قاله: طوال الردينيات يقصفها دمى ... وبيض السّريجيات يقطعها لحمى ومن ذلك ما قاله أيضا: أمضى إرادته «فسوف» له «قد» ... واستقرب الأقصى «فثمّ» له «هنا» وارشق مما ذكرناه وأدق قوله: عقدت سنابكها عليها عثيرا ... لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا وأعجب من هذا وأدق، ما قاله أيضا: كأنها تتلقاهم لتسلكهم ... فالطعن يفتح فى الأجواف ما تسع إلى غير ذلك من الرقائق الرائقة والعجائب الفائقة التى فاق فيها على نظرائه، وسبق إلى غايتها قبل وصول شعرائه ومن وقف على حكمه وأمثاله، عرف أن أحدا ممن كان فى عصره لم ينسج على منواله. تنبيه اعلم أن من جملة الآداب الحسنة، واللطائف المستحسنة، أن تترك الخطاب لأهل المدائح بالأمر له بكذا وكذا، وإنما تخرجه مخرج الاستفهام، إعظاما للممدوح وإجلالا له، عن أن يكون مأمورا، وما حاله إذا فعل فإنه يكسب الكلام جمالا ويزيده أبّهة ويعطيه كمالا، كما فعل البحترى فى قصيدة أنشدها قال: فهل أنت يا بن الراشدين مختّمى ... بياقوتة تبهى علىّ وتشرق ولو قال ختّمنى يابن الراشدين بياقوتة، لم يكن فى الرشاقة والإجلال للخليفة كالأول، ومن هذا قول بعضهم يمدح بعض خلفاء بنى العباس: أمقبولة، يابن الخلائف من فمى ... لديك بوصفى غادة الشعر روده

فهكذا يصلح خطاب الملوك والخلفاء على هذا الوجه من حسن الأدب، ولقد غلا بعض من يدعى البلاغة، وزعم أنه لا ينبغى مخاطبة الملوك والخلفاء والأكابر بكاف الخطاب، وهذا فاسد، فإن الله تعالى هو مالك الملك والمتعالى بصفات الكمال، قد خوطب بكاف الخطاب كقوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً [آل عمران: 41] ، وقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) [الحجر: 99] وقد جاء ذلك على ألسنة الفصحاء كثيرا ومنه قول النابغة: وإنك كالليل الذى هو مدركى ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع «1» ومن هذا قوله أيضا: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب «2» نعم إنما يكره ذلك فى المكاتبات، دون الأقوال، وإنما يؤتى فى الكتابة على جهة الغيبة فى مخاطبة الملوك وأهل الرفعة لا غير، ومن الآداب الحسنة أن لا تخاطب الملوك بأسماء أمهاتهم وجدّاتهم، وقد عيب على أبى نواس ما أورده فى قصيدته الميمية التى امتدح بها الأمين محمد بن هارون الرشيد حيث قال: أصبحت يا بن زبيدة ابنة جعفر ... أملا لعقد حباله استحكام فإن ذكر الله الخليفة فى هذا الموضع قبيح، وكان له مندوحة عن ذكر مثل ذلك بأبيه أو بجده أو غير ذلك من سائر المدائح المعروفة عند الشعراء المفلقين، وقد أخذ عليه أيضا قوله فى قصيدة اخرى: وليس كجدّتيه أم موسى ... إذا نسبت ولا كالخيزران فإن مثل هذا يعد فى الركيك من الشعر فضلا عن أن يكون معدودا من فصيحه، وهكذا فإنه قد أخذ على جرير فى مدح عمر بن عبد العزيز بذكر أمه حيث قال: وتبنى المجد يا عمر بن ليلى ... وتكفى الممحل السّنة الجمادا فهذا وأمثاله مما يعاب ذكره، وينبغى للشاعر والخطيب تجنّبه كما أشرنا إليه، لا يقال فكيف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الزبير لما أخبر أنه سيقتل: بشّر قاتل ابن صفية بالنار، فنسبه

إلى أمه، لأنا نقول هذا مخالف لما نحن فيه، فإنه لا مدح بذكر أمهات الخلفاء والملوك، لأنه لا فضل فيهن، بخلاف حديث الزبير، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قال ذلك إلا ليرفع قدره فى قرب نسبه منه، لكونه ابن عمته وهكذا العذر فى قوله تعالى: يا عيسى بن مريم، فإن الله تعالى إنما خاطبه بذكر أمه، لمّا كان لا أب له، فيذكر باسم أبيه فكان ذكر الأم ضرورة فى حقه.

الفصل الخامس فى الإرصاد

الفصل الخامس فى [الإرصاد] اعلم أن الإرصاد فى اللغة مصدر أرصد الشىء، إذا أعده، ومنه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) [الفجر: 14] وهو مفعال، من رصده، كالميقات، من وقّته، والغرض أن الله تعالى أعد العقاب للعصاة من غير أن يفوتوه بهرب ولا امتناع، وأرصدت السلاح للحرب، وهو فى لسان علماء البيان مقبول فى المنظوم والمنثور على أن يكون أول الكلام مرصدا لفهم آخره، ويكون مشعرا به، فمتى قرع سمع السامع أول الكلام فإنه يفهم آخره لا محالة، فما هذا حاله من منثور اللفظ ومنظومه يقال له الإرصاد، واشتقاقه هو مما ذكرناه، فهذا هو الأخلق فى تلقيبه بالإرصاد لما ذكرناه، وقد حكى عن أبى هلال العسكرى وكان متقدما فى علم البلاغة على غيره آخذا منها بحظ وافر، أنه لقّب هذا النوع من الكلام بالترشيح، وهذا لا وجه له، بل تلقيبه بالإرصاد أخلق لما أشرنا إليه فى الاشتقاق، ولنورد أمثلته ليتضح الأمر فيه: المثال الأول من كتاب الله تعالى، وهذا كقوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) [يونس: 19] فإذا قرع سمع السامع قوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ثم وقف على قوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [يونس: 19] فإنه يعرف لا محالة لما سبق من تصدير الآية أن تتمتها وتكملتها فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) لما تقدم ما يشعر بذلك ويدل عليه، ومن ذلك قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ [العنكبوت: 40] فإذا وقف السامع على قوله: وَلكِنْ كانُوا عرف لا محالة أن بعده ذكر ظلم النفوس لما كان فى الكلام الأول ما يدل عليه دلالة ظاهرة، وأمارة قوية، وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] فإذا وقف السامع على قوله: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ فإنه يعلم لا محالة أن بعده بيت العنكبوت، ومن هنا قوله تعالى:

المثال الثانى من السنة الشريفة،

ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) [سبأ: 17] فإذا وقف السامع على قوله تعالى: «وهل يجازى» بعد ما تقدم من الكلام والإحاطة به، فإنه يعلم لا محالة أنه ليس بعد قوله وهل يجازى إلا «الكفور» وعلى هذا ورد قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [الرحمن: 60] فإذا وقف السامع على قوله هل جزاء الإحسان، تحقق لا محالة أن ما بعده قوله إِلَّا الْإِحْسانُ (60) لما فى ذلك من الملائمة وشدة التناسب، ومثل هذا محمود فى الكلام كله نثره، ونظمه، وهو فى كتاب الله تعالى: أكثر من أن يحصى، وما ذاك إلا لأن خير الكلام ما دل بعضه على بعض، وأحق الكلام بهذه الصفة هو كلام الله، فإنه البالغ فى الذروة العليا من الفصاحة فى ألفاظه، والبلاغة فى معناه. المثال الثانى من السنة الشريفة، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: فما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فإن السامع إذا وقف على قوله: فما بعد الدنيا من دار، فإنه يتحقق لا محالة أن ما بعده «إلا الجنة أو النار» لما بينهما من شدة الملائمة وعظيم المناسبة، ومن هذا قوله عليه السلام لما سار لفتح خيبر، فلما رآها قال الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، فإن السامع إذا وقف على قوله: نزلنا بساحة قوم، عرف أن ما بعده، فساء صباح المنذرين، لأن قوله إذا نزلنا بساحة قوم فيه وعيد عظيم لهم بالبوار والإهلاك فهو دال على قوله فساء صباح المنذرين، لأنه لا صباح أعظم فى البلاء من ذلك اليوم لما اشتمل عليه من القتل والأخذ، ونهب المال، ولا بلاء مثل هذا، وهذا وإن كان قد سبق به القرآن لكنه قد تكلم به فى ذلك اليوم، فلا جرم أوردناه فى أمثلة السنة، وإنما عظم موقع الآية وكان لها من الفخامة وعلو الشأن فى البلاغة، لما كانت واردة على جهة التمثيل، مثل حالهم فى عدم التفاتهم إلى ما أنذروا من العذاب الأليم بحال من أنذر بحصول الجيش فلم يلتفتوا ولا أخذوا أهبة الحذر منه حتى نزل بدارهم فقطع دابرهم واستأصل شأفتهم، فمن أجل هذا لاءم قوله فإذا نزل بساحتهم إلى آخر الآية، حتى فهم آخرها قبل ذكره، ومن هذا قوله عليه السلام فى صفة القرآن: فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفّع وشاهد مصدّق من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو أوضح دليل 7 لى خير سبيل، من قال به

المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،

صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، فانظر إلى هذا الكلام ما أعجب تلاؤمه وأعظم تناسبه، فكان بعضه آخذا بأعناق بعض، فلو سكت على كل كلمة لكانت معربة بأختها قبل ذكرها، وهذا هو شأن الإرصاد وحقيقة أمره، فلو سكت على قوله «فإذا التبست عليكم الأمور» لأفهم بقوله «كقطع الليل المظلم» لأن اللبس هو أن لا يهتدى فيه للأمر، كما أن الظلمة لا يهتدى فيها للطريق وقوله «شافع» دال على القبول لأنه فى معرض المدح، وإعلام بكونه مشفعا وقوله «شاهد مصدق» لأن الصدق أحسن ما يعرض للشهادة عند الحكام، فإذا كانت المدح فأحسن أحوالها كونها صادقة وقوله «من جعله أمامه» لأن كل من كان أمامك فهو آخذ بزمامك كما يقاد الجمل بزمامه من قدامه، وهو كناية عن العمل بأوامره ونواهيه وقوله «ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» لأن من كان خلفك فهو يسوقك كما تساق الدابة من خلفها، وهو كناية عن إهماله وتضييع أحكامه وترك العمل بها، فلو سكت على قوله «أمام» و «خلف» لأفهما ما وراءهما من ذلك، ثم قال «وهو أوضح دليل» فأفهم خير السبيل من جهة أن الدليل لابد له من ثمرة وهو الهداية إلى الطريق، ثم قال «من قال به صدق» لأنه لا يعرض للقول الحسن إلا صدقه «ومن عمل به أجر» لأنه لا ثمرة للعمل إلا الأجر، وقوله «ومن حكم به عدل» لأنه لا جدوى للحكم إلا إذا كان عادلا فحصل من هذا أن الأمر على ما قلناه من أن هذه الكلمات كلها ملتئمة كأنها أفرغت فى قالب واحد وفى هذا كفاية ليقاس عليه غيره. المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه، فمن ذلك كتاب كتبه إلى بعض عماله يوصيه بما هو بصدده، أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وسدّ به أفواه الثغر المخوف، فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حيث لا تغنى عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم فى اللحظة، والنظرة، والإشارة، والتحية، حتى لا يطمع العظماء فى حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك والسلام. فانظر إلى كلامه هذا لقد جمع فيه محامد الأخلاق الشريفة وأتى فيه بمحاسن الشيم السامية مع ما أشار إليه من حسن الإيالة وجميل السياسة، وضم فيه من آداب الولاة وتعليم معاملة الخلق، والرفق بالرعية. والإرشاد إلى مصالح السيرة فيهم مع ما أشار إليه

المثال الرابع ما ورد من كلام أهل البلاغة

من الإرصاد التام، فإن كل كلمة من هذا الكلام مناسبة لما بعدها وملائمة له على أكمل نظام، وأعجب إتمام، فلو وقف على قوله «فإنك ممن استظهر به» لفهم ما بعدها ولو وقف على قوله «وأقمع به» لفهم ما وراءها، لأن الاستظهار تقوية واعتماد، والقمع هو الكف وهو ملائم للنخوة وهو العلو والكبر وهكذا قوله: وَاخْفِضْ فلو وقف عليه لفهم منه الجناح، لأنه يستعار كثيرا فى لين الجانب كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) [الحجر: 88] وهكذا القول فى سائر ألفاظه، فإنها متلائمة متناسبة يدل بعضها على بعض. المثال الرابع ما ورد من كلام أهل البلاغة واعلم أن الشعراء المفلقين يفتخرون بما كان أول البيت دالا على آخره، وفى هذا يقول بعضهم: خذها إذا أنشدت فى القوم من طرب ... صدورها عرفت منها قوافيها ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها وهذا هو الإرصاد كما قلناه، ومن جيد الإرصاد ما قاله البحترى: أحلّت دمى من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامى فليس الذى حلّلته بمحلل ... وليس الذى حرّمته بحرام «1» فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثانى أن عجزه ما قاله البحترى، وقد جرت العادة عند إنشاد الشعر بانتهاب عجز البيت من لسان منشده قبل ذكره ويسبق إليه فينشده قبل إنشاده له لما كان المعنى مفهوما قبل ذكره، وهذا هو الذى نريده بالإرصاد ومن هذا قول بعض البلغاء: ولربما اعتصم الحليم بجاهل ... لا خير فى يمنى بغير يسار فهذا إذا قرع السامع صدر البيت ووقف على قوله «لا خير فى يمنى» فإنه يتحقق أن لا بد من ذكر اليسار لا محالة، لما فيه من الملائمة له والمناسبة، ومن ذلك ما قاله زهير وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عم «2» فالأزمنة ثلاثة، الماضى، والحاضر، والمستقبل، فلما ذكر حكم الماضى، والحاضر،

عرف من حاله أن لا بد من ذكر المستقبل بحكمه، وهو الجهل بما يكون غدا، فلأجل هذا كان الإرصاد فيه سابقا معلوما، ومن ذلك ما قاله أبو تمام: فإن يك جرم، أو أتيت بهفوة ... على خطأ منّى فعذرى على عمد فما هذا حاله من أحسن ما يأتى فى الإرصاد فإنه لما ذكر الخطأ حسن وقوع العمد بعده وكان مفهوما عند الوقوف على قوله «على خطأ منى» بلا مرية، ومن ذلك ما قاله أيضا: خرقاء تلعب بالعقول مزاجها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء فإنه لما ذكر الأفعال علم لا محالة أن عجز البيت أن يأتى بلفظة الأسماء لما سبق ذكر الأفعال، فمن قرع مسامعه هذا البيت وكان له ذوق فى العربية، فإنه يعرفه قطعا. وقال أيضا: مودّة، ذهب، أثمارها شبه ... وهمة جوهر، معروفها عرض فإنه لما ذكر الذهب جعل فى مقابله الشبه، ولما ذكر الجوهر علم أن مقابله العرض، وهذا إرصاد حسن، وحكى ابن الأثير عن بعض علماء البيان أنه ينبغى لمن يتكلم فى المنظوم والمنثور أن يجنب كلامه الألفاظ المصطلح عليها بين النحاة والمتكلمين وأهل الصناعات وغيرهم، وهذا فاسد لا وجه له فإن الشاعر والكاتب يخوضان فى كل شىء ولا يقتصر خوضهما على فن دون فن، ولا اصطلاح دون اصطلاح، ولهذا فإنك تراهم إذا استعملوا شيئا من الكلمات المصطلح عليها فى العلوم أو فى الصناعات فى أشعارهم ورقائقهم، وجدت له أحسن موقع، وازداد جمالها، وظهر رونقها وكمالها، فهذا ما أردنا ذكره فى معانى الإرصاد.

الفصل السادس فى ذكر التخلص والاقتضاب

الفصل السادس فى ذكر التخلص والاقتضاب وهما واديان من أودية البلاغة، ومن حكمهما يظهر فضل الناظم والناثر، وكل واحد منهما يرد فى منثور الكلام ومنظومه، لأن معناهما حاصل فيهما، فأما الاقتضاب فلا يظهر خلاف فى وروده فى القرآن الكريم، وإنما الخلاف فى ورود التخلص فى القرآن، وحكى عن أبى العلاء محمد الغانمى أنه أنكر وروده فى التنزيل، وزعم أن كتاب الله تعالى خال عنه، وهذا فاسد، فإن كتاب الله تعالى لا واد من أودية البلاغة إلا وهو آخذ منه بنصيب، وسنورد من ذلك ما يدل على وقوعه فيه، فإذا عرفت هذا فلنذكر التخلص، ثم نردفه. بذكر الاقتضاب فهذان ضربان نفصلهما بمعونة الله تعالى. الضرب الأول فى [التخلص] ومعناه فى ألسنة علماء البيان، أن يسرد الناظم والناثر كلامهما فى مقصد من المقاصد غير قاصد إليه بانفراده، ولكنه سبب إليه، ثم يخرج فيه إلى كلام هو المقصود، بينه وبين الأول علقة، ومناسبة وهذا نحو أن يكون الشاعر مستطلعا لقصيدته بالغزل، حتى إذا فرغ منه خرج إلى المدح على مخرج مناسب للأول، بينهما أعظم القرب والملائمة بحيث يكون الكلام آخذا بعضه برقاب بعض كأنه أفرغ فى قالب واحد، ثم يتفاضل الناس فى التخلص، فعلى قدر الاقتدار فى النظم والنثر يكون حسن التخلص، والتخلص فى النثر أسهل منه فى النظم، لأن الناظم يراعى القافية والوزن، فيكون فى ذلك صعوبة بخلاف الناثر، فإنه لا يراعى قافية ولا يحافظ على وزن، بل هو مطلق العنان يضع قدمه حيث شاء، فمن أجل ذلك كان أشق على الناظم منه على الناثر، لما ذكرناه، ولنذكر فى إيضاحه أمثلة أربعة. المثال الأول من كتاب الله تعالى وهو قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)

التخلص الأول

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) [الشعراء: 69- 81] ثم قال رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) [الشعراء: 83] ثم أردفه بقوله وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) [الشعراء: 90- 91] ثم قال فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) [الشعراء: 94- 95] إلى قوله فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) [الشعراء: 102] فلينظر إلى هذا الكلام الذى يسكر العقول رحيقه، ويسحر الألباب تحقيقه، وهو غاية منية الراغب، ونهاية مقصد الطالب، فإنه متى أنعم النظر فى مبانيه، وتدبر أسراره ومعانيه، علم قطعا أن فيه غنى عن تصفّح الكتب المؤلفة، وكفاية عن الدفاتر المؤتلفة، فيما يقصد من معرفة هذا الأسلوب من علوم البلاغة، وقد اشتمل على تخلّصات عشرة منتظمة نوضحها بمعونة الله تعالى. التخلص الأول هو أنه لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة نبأ إبراهيم صلوات الله عليه، وما كان له مع أبيه وقومه من الخصومة والجدال فى عبادة الأوثان والأصنام، صدر القصة بذلك شرحا لصدره وتسلية له فيما يلاقى من قريش، ثم خرج إلى شرح حال إبراهيم وما جرى له، فانظر إلى حسن ما رتّب إبرهيم كلامه مع أهل الشرك حين سألهم عما يعبدون سؤال مقرر، لا سؤال مستفهم، فأجابوه بما هم عليه من ذلك، وبالغوا فى الجهل والإفراط فى الغى، فقالوا: نعبد أصناما ولقد كان يكفيهم ذلك فى الإجابة عما سألهم، لكنهم تعمقوا تهالكا فى الإصرار وتماديا فى نفارهم عما دعاهم إليه بقولهم فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) . التخلص الثانى أنهم لما أجابوه أراد أن يحقق عليهم الأمر حتى لا يكون لهم سبيل إلى الجحود، فخرج عن ذلك إلى إبطال ما قالوه من عبادة آلهتهم وأنحى عليها من البرهان جرازا مقضبا، ومن الإفحام كلاما منظما مهذبا، فصدره بالاستفهام تأدبا منه وملاطفة لهم، ولم يأت بحجته على جهة القطع منه بها، كمن ينكر الحدوث فى العالم فتقول له هل يجوز عليه التغير، ولم يقل من أول وهلة إن قولكم هذا باطل لا حقيقة له، ثم أورد فى إبطال إلهيتها أدلة ثلاثة، أولها أنها لا تسمع دعاء، ولا تدرك نداء، لكونها جمادا حجارة صلدة لا حياة لها ولا حراك بها، ومن هذه حاله فكيف يكون أهلا للعبادة، وثانيها قوله: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ لأن

التخلص الثالث

من كان فيه نفع فهو حقيق بما يفعل فى حقه من رفع المنزلة وعلو الدرجة، وثالثها قوله: أَوْ يَضُرُّونَ (73) لأن كل من قدر على النفع فهو قادر على الضرر وعكسه أيضا، لأن حق من كان قادرا على شىء أن يكون قادرا على ضده، لأن القدرة صالحة للأمرين الضدين جميعا والمختلفين، فهذه إلزامات ثلاثة لا محيص لهم عنها، فإذا كان حالها هذه الحال من عدم السمع، واستحالة النفع والضر منها، فلا يليق بحالها العبادة التى هى نهاية الخضوع والذلة للمعبود، مع عدم الأهلية والاستحقاق، هذا محال فى العقول بلا مرية، ثم أجابوه بالإقرار بما ألزمهم من عدم ذلك منها فزاد إقرارهم الإلزام تأكيدا وإفحاما فقالوا الأمر فيها كما قلته لكنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فنادوا على أنفسهم بالجهالة، وأقروا بركوب الضلالة، وأنهم ما فعلوا ذلك عن نظر وتفكر وتدبر، فوصفوا نفوسهم بالقصور عن مراتب النظار، وانخرطوا فى سلك أهل الغباوة والأغمار، وزعموا أنه لا عمدة لهم فى ذلك إلا وجدان الآباء، واقتفاء آثار الأسلاف والرؤساء. التخلص الثالث أنه لما تحقق تعويلهم على التقليد خرج إلى إبطال أمره وتزييفه بقوله: قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) [الشعراء: 75- 76] فأورد الرد عليهم بالاستفهام على جهة الإنكار متعجبا من حالهم حيث جعلوا ما لا يكون، حجة وبرهانا، وليس حجة، بل هو شبهة منكرة، وأخرجه عن أن يكون حجة، كأنه قال أفلا ترون ما جعلتموه مستندا لعبادتكم أنتم ومن سلف من آبائكم القدماء، هل مثله يعبد مع كونه لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ولا يملك شيئا، وفيه تعريض بحالهم وتجهيل لهم وأن من هذه حاله من عبادة حجر لا يضر ولا ينفع فلا عقل له، ولا يكون معدودا من العقلاء. التخلص الرابع هو أنه لما ذكر أنهم لا يستحقون العبادة خرج إلى ذكر عداوته لمن هذه حاله، فلهذا قال عقيب ذلك فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ كأنه صور المسئلة فى نفسه على معنى إنى فكرت فى أمرى ونظرت فى حالى، فرأيت أن عبادتى لها عبادة للشيطان العدو فاجتنبتها، وإنما قال: «فإنهم عدوّ لى» بالإضافة إلى نفسه ولم يقل فإنهم عدو لهم، ليريهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث إلى الاستماع لخطابه، ولو قال: فإنهم عدو لكم، لم يفد هذه الفائدة، وكان القياس فى الخطاب بالضمير أن يقول: فإنها

التخلص الخامس

عدو لى، أو فإنهن، لأنه راجع إلى الأصنام، والضمير فى من لا يعلم أن يكون على هذه الصورة، ولكنه أورده على ضمير العقلاء لأمرين، أما أولا فلأنهم لما زعموا أنها تستحق العبادة، وأنها يوجد من جهتها النفع، ودفع الضر، صارت لذلك بمنزلة العقلاء، وأما ثانيا فلأنهم لما كانوا فى الإنكار على سواء، وجه الخطاب إليهم على جهة تغليب حالهم على حالها. التخلص الخامس هو أنه لما ذكر أنها غير مستحقة للعبادة وذكر العداوة لها خرج إلى ذكر الله تعالى فأجرى عليه تلك الصفات اللائقة بذاته من إعظام حاله، وإظهار جلاله، وتفخيم شأنه، وتعديد نعمه من لدن إنشائه، وإبداع ذاته إلى حين مرضه، ودنو وفاته، مع ما يرجى فى الآخرة من عفوه ورحمته، ليعلم أن كل من هذه حاله فهو حقيق بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته، وفيه تعريض بحال ما يعبد من دونه فى الاتصاف بنقائض هذه الصفات كما ترى. التخلص السادس هو أنه لما فرغ مما ذكرناه خرج إلى ما يكون ملائما له ومناسبا فدعا إلى الله تعالى: بدعوات أهل الإخلاص، وابتهل إليه ابتهال أهل الأمانة، لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله والتضرع إليه ذكره بالصفات الحسنى والاعتراف بنعمه، كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح للمطلوب، ولهذا فإن كل من أراد حاجة إلى الله تعالى فإنه يستحب له تقديم الثناء على الله بما هو أهله، وذكر صفاته وحمده وشكره، ثم يسأل حاجته بعد ذلك، فإن ذلك يكون أقرب للإجابة وأسنى لإنجاح الرغبة وإنجازها كما ورد ذلك فى الآداب الشرعية. التخلص السابع هو أنه لما فرغ مما يخصه من الدعاء لنفسه ولأبيه بالدعوات الصالحة خرج عنه إلى ذكر البعث يوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه وأخلص له العبادة بالجنة وأن كل من عصاه وعبد غيره فإنه مجازيه بالنار، فجمع فى ذلك بين الترغيب فى الطاعة والترهيب من المعصية، وضمّ إليه ذكر الجنة وإزلافها لأهلها من أهل التقوى وذكر النار وتبريزها لأهلها من أهل الغواية كعادته تعالى فى كتابه الكريم، إذا ذكر وعدا أتبعه بالوعيد، وعكسه أيضا

التخلص الثامن

ليكون حاصلا على الكمال ومراعاة المطابقة فى كل الأحوال. التخلص الثامن هو أنه لما فرغ مما ذكره عاد إلى سؤال المشركين ثانيا عند معاينة الأهوال فى يوم الجزاء بقوله: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) [الشعراء: 92- 93] وإنما أورده على جهة التوبيخ والاستهزاء وأنهم لا ينصرونكم فى دفع السوء عنكم، ولا ينتصرون فى دفع ما يخصهم أنفسهم بحال، ثم وصف حالهم فى النار بقوله «فكبكبوا» أى الآلهة والغاوون، والكبكبة تكرير الكب، لأنه إذا ألقى فى النار فإنه يكب فيها مرة بعد مرة حتى يستقر فى قعرها، فجعل تكرير اللفظ دلالة على تكرير المعنى على جهة المطابقة، اللهم أجرنا من عذابك برحمتك الواسعة. التخلص التاسع هو أنه لما فرغ من ذلك خرج إلى حكاية ما يقول أهل النار فى النار من الخصومة الناشئة بينهم، وإظهار الحسرة والندامة المفرطة على ما كان منهم من عبادة غير الله ومساواته بمن لا يساويه، وانقطاع ما فى أيديهم من شفاعة شافع أو صداقة صديق كما يكون للمؤمنين، فإن شفعاءهم الملائكة والأنبياء، وأصدقاؤهم هم أهل الإيمان والتقوى، فأما الكفار فلا شىء لهم من ذلك، فعند هذا تعظم الحسرات وتنقطع الأفئدة حسرة وإياسا عن النفع والخلاص عما هم فيه. التخلص العاشر هو أنه لما فرغ من ذلك خرج إلى ذكر تمنيهم الرجعة إلى الدنيا بقوله «فلو أنّ لنا كرّة» فننزع عما كنا عليه من عبادة غير الله وسلوك طريق التقوى، والكون من جملة المؤمنين فى ذلك، و «لو» ههنا بمعنى ليت فلا تفتقر إلى جواب مقدر وجوابها فتكون، أو تكون باقية على بابها، وجوابها يحذف كثيرا وتقديره فلو رجعنا لفعلنا كيت وكيت من الأفعال الصالحة، فانظر إلى هذه الآية الشريفة كيف اشتملت على هذه التخلصات اللطيفة مع ما حازته من العجائب الحسان والأسرار ذوات الأفنان. والعجب من الغانمى حيث أنكر التخلص أن يكون واقعا فى كتاب الله تعالى، وما ذاك إلا من أجل اشتغاله بفن الشعر والكتابة عن الاطلاع إلى أسرار كتاب الله تعالى، وهو أظهر من أن يحتاج إلى طلب وعناية

المثال الثانى من السنة النبوية

خاصة فى سورة الأعراف وسورة يوسف، فإنه سلك فيهما فنونا كثيرة، وتخلص إلى أودية مختلفة، والقرآن كله مملوء منه، لأنه لا يزال تكرير الكلام من وعد إلى وعيد، ومن ذكر قصص إلى ذكر أمثال، ومن ذكر أمر إلى نواه، ومن ترغيب إلى ترهيب، إلى غير ذلك فكيف يمكن إنكار ما هذا حاله وهو أوسع ما يكون فى التنزيل. المثال الثانى من السنة النبوية وهذا كقوله عليه السلام: وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود ثم قال بعد ذلك فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وشاهد مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، هو أوضح دليل إلى خير سبيل. فانظر إلى ما أودعه فى هذا الكلام من التخلص الرائق، فبينا هو يذكر حال الليل والنهار وحكمهما فى المكونات إذ خرج إلى حال القرآن ووصفه، وأنه فيه الإيضاح لكل مشكل، وبيان لكل أمر ملتبس، تخلص إلى ذكره بأحسن تخلص، وهكذا قوله عليه السلام: كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، إلى أن قال طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. فبينا هو يذكر الموت وأهواله وإعراض الخلق عن ذكره إذ خرج إلى ذكر الندب إلى اشتغال الإنسان بعيب نفسه و 7 همال عيوب الخلق، فهذا من المخالص البديعة إلى غير ذلك فى كلامه عليه السلام. المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه وهو فى كلامه أكثر من أن يحصر، وخاصة فى العهود الطويلة والكتب المنتشرة، والكلمات الواسعة، فإنه يخرج فيها إلى أودية كثيرة، فبينا يتكلم فى أسلوب الوعظ، إذ خرج إلى وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو إلى وصف القرآن أو إلى غير ذلك من الأساليب المختلفة فيما يكون معدودا من محاسن التخلصات، ومن أراد الوقوف من كلامه على محاسن التخليص فليطالع من ذلك ما أوصى به الحسن بن على فى وصية له، فإنه جمع له من محاسن الآداب وأجمعها، وأعظم الحكم وأنفعها، ما لا يحتمله حصر، ولا يشتمله عد،

المثال الرابع ما ورد من كلام البلغاء

ومن ذلك العهد، الذى كتبه للأشتر النخعى لما أعطاه عمالة مصر، وأدّبه بهذا العهد، وجمع له فيه من محاسن الآداب وصفة الحكمة وفصل الخطاب. ومن ذلك خطبته المسماة بالغراء فإنه جمع فيها من الثناء على الله تعالى وذكره بالصفات اللائقة به وتنزيهه عما لا يليق بحاله، ومن جيد كلامه فى التخلص قوله: أرسله على حين فترة من الرسل وانقطاع من الوحى وطول هجعة من الأمم واعتزام من الفتن وانتشار من الأمور وتلظّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، وإغوار من مائها، قد درست أعلام الهدى، وظهرت أعلام الردى، فهى متجهمة لأهلها، عابسة فى وجه طالبها، ثمرها الفتنة وطعامها الخيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف، فاعتبروا عباد الله واذكروا تيك التى آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون، وعليها محاسبون، ولعمرى ما تقادمت بهم ولا بكم العهود، ولا خلت فيما بينكم وبينهم الأحقاب والقرون. فهذا الكلام مشتمل على تخلصات متعددة، فبينا هو يذكر حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما منّ الله به على الأمم، إذ خرج إلى حال الدنيا وصفتها وانقطاعها، إذ خرج إلى الوعظ والتذكير، وما من كلام من كلامه وإن كان بسيطا إلا وتخلص فيه مخالص كثيرة، كل ذلك فيه دلالة على تفننه فى الكلام وملكه لزمامه، واستيلائه على خاصه وعامه. المثال الرابع ما ورد من كلام البلغاء فمن ذلك ما قاله ابن الأثير فى كتاب كتبه إلى بعض إخوانه يذكر فيه الربيع فقال فيه: وكما أن هذه الأوصاف فى شأنها بديعة فكذلك شأنى فى شوقه بديع، غير أنه فى حرة فصل مصيف، وهذا فصل ربيع، فأنا أملى أحاديثه العجيبة على النوى وقد عرفت حديث من قتله الشوق فلا أستقصى حديث من قتله الهوى. فبينا هو يذكر الربيع إذ خرج إلى ذكر الأشواق، ومن هذا قوله أيضا يصف البرد لما كان فى بلاد الروم فقال: ومما أشكوه من بردها أن الفرو لا يلبس بها إلا فى شهر ناجر، وهو قائم مقام الظل الذى يتبرد به من لفح الهواجر، ولفرط شدته لم أجد ما يخففه فضلا عما يذهبه، فإن النار المعدة له تطلب من الدفء أيضا ما أطلبه، لكن وجدت نار أشواقى أشد حرا فاصطليت بجمرتها التى لا تذكى بزناد، ولا تؤول إلى رماد، ولا يدفع البرد الوارد على الجسد بأشد من حر الفؤاد غير

أنى كنت فى ذلك كمن شد خلّة، واستشفى من علة بعلة، فما ظنك بمن يصطلى نار الأشواق، وقد قنع من أخيه بالأوراق، فضنّ عليه بالأوراق. فبينا هو يتكلم فى وصف البرد إذ خرج إلى وصف الأشواق. ومما ورد فى التخلص من المنظوم قول أبى الطيب المتنبى فى بعض قصائد: خليلىّ إنى لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدعوى ومنّى القصائد فلا تعجبا إنّ السيوف كثيرة ... ولكنّ سيف الدولة اليوم واحد «1» فانظر كيف تخلص من الغزل إلى المديح بأحسن خلاص وأعجبه. كما ترى، ومن عجيب ما جاء به فى كلامه هذا، هو أنه جمع بين مدح نفسه ومدح سيف الدولة فى بيت واحد، وهو من بدائعه المأثورة عنه فى غير موضع، ومن ذلك ما قاله أبو تمام فى بعض قصائده: خلق أطلّ من الربيع كأنّه ... خلق الإمام وهديه المتيسّر فى الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن الشّباب الغضّ شرح يزهر ينسى الرياض وما يروّض فعله ... أبدا على مرّ الليالى يذكر فهذا وأمثاله من لطائف التخليصات وأعجبها، والشعراء يتفاوتون فى هذا الباب، فربما اختص بعض الشعراء بالإجادة فى شعره من جزالة ألفاظه، ودقة معانيه، لكنه مع هذا لم يفق فى التخليص كما فاق غيره من الشعراء كما يحكى عن البحترى، فإن مكانه فى الشعراء لا يجهل، وشعره هو السهل الممتنع الذى تراه كالشمس قريبا ضوءها، بعيدا مكانها، أو يكون كالقناة، لينا مسّها، خشنا سنانها، وقالوا أيضا إنه فى الحقيقة قينة الشعراء فى الإطراب، وعنقاؤهم فى الإغراب، ومع ما حكيناه فإنه لم يجد فى التخليص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضابا على وجه لا ملائمة بينه وبين الأول، وله مواضع قليلة أحسن فيها التخلص، لكنها حقيرة بالإضافة إلى ما أساء فيها الخلاص. ومن أعجب ما يذكر فى مثال التخلص ما حكاه ابن الأثير: أن قرواشا الملقب بشرف الدولة ملك العرب صاحب الموصل، اتفق أنه كان جالسا مع ندمائه فى ليلة من ليالى الشتاء، وفى جملتهم رجال منهم البرقعيدى وكان مغنيا وسليمان بن فهد، وكان وزيرا، وأبو جابر، وكان حاجبا، فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر أن يهجو هؤلاء ويمدحه فأنشد هذه الأبيات ارتجالا قال فيها:

الضرب الثانى فى الاقتضاب

وليل كوجه البرقعيدىّ مظلم ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريت ونومى فيه نوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر فى خبطه وجنونه إلى أن بدا وجه الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه فانظر إلى ما أودعه فى هذه الأبيات من هجاء هؤلاء الثلاثة فى أبيات ثلاثة وتخلص فى البيت الرابع بأحسن الخلاص فى مدح شرف الدولة، وهذه الأبيات أحسن ما يورد فى أمثلة التخليص. فهذا ما أردنا ذكره فى أمثلة التخليصات. الضرب الثانى فى [الاقتضاب] وهو نقيض التخليص، وذلك أن يقطع الشاعر كلامه الذى هو بصدده ثم يستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك من أفانين الكلام، لا يكون بين الأول والثانى ملائمة ولا مناسبة، وهذا هو مذهب الشعراء المتقدمين من العرب كامرىء القيس والنابغة وطرفة ولبيد، ومن تلاهم من طبقات الشعراء، فأما المحدثون من الشعراء كأبى تمام وأبى الطيب وغيرهم ممن تأخر فإنهم تصرفوا فى التخليصات فأبدعوا فيها وأظهروا كل غريبة كما أسلفنا تقريره، ولنذكر أمثلة الاقتضاب، فمن كتاب الله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) [ص: 45- 50] فصدر الكلام أولا بذكر الأنبياء والثناء عليهم ثم ذكر بعده بابا آخر غير ذلك لا تعلق له بالأول، وهو ذكر الجنة وأهلها، ثم لما أتم ذكره عقبه بذكر النار وأهلها بقوله هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) [ص: 55] فانظر إلى هذا الاقتضاب الرائق، والذى حسن من موقعه لفظة «هذا» فإنها جعلت له موقعا أحسن من التخليص، وورودها فى المنثور أكثر من ورودها فى المنظوم، وقد قررنا فيما سبق حسن موقعها، ومن محاسن الاقتضاب قول القائل: أما بعد حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله فإنها تأتى لقطع الكلام الأول عن الثانى، وهذه اللفظة قد أجمع أهل التحقيق من علماء البيان على أنها هى فصل الخطاب الذى أراد

الله فى قوله: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) [ص: 20] «وأما مثاله» من السنة النبوية فقوله صلّى الله عليه وسلّم: فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، بعد قوله ألا وإن المرء بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع به وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، فانظر إلى هذا الاقتضاب ما أعجبه وألطفه يكاد يقرب من التخليص، ومن تتبع كلامه فى الخطب والمواعظ فإنه يجد فيه من حسن الاقتضاب شيئا كثيرا. وأما مثاله من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فكقوله: ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وعبر وغير، فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه لا يخطىء سهامه، ولا يوسى جراحه، يرمى الحى بالموت، والصحيح بالسقم، والناجى بالعطب، آكل لا يشبع، وشارب لا ينفع، ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبنى ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله تعالى لا مالا حمل، ولا بناء نقل، ومن عبرها أنك ترى المغبوط مرحوما، والمرحوم مغبوطا، ليس ذلك إلا نعيما زلّ، وبؤسا نزل، ومن غيرها أن المرء يشرف على أمله، فيقتطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، ولا مؤمّل يترك، فسبحان الله ما أغرّ سرورها، وأظمأ ريّها، وأطحى فيئها، لا جاء يرد، ولا ماض يرتد، فسبحان الله ما أقرب الحى من الميت للحاقه به، وأبعد الميت من الحى لا نقطاعه منه، إنه ليس شر من الشر إلا عقابه، ولا خير من الخير إلا ثوابه، وكل شىء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شىء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه، فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر، واعلموا أن كل ما نقص من الدنيا وزاد فى الآخرة خير مما نقص فى الآخرة وزاد فى الدنيا، فكم من منقوص رابح، ومزيد خاسر، إن الذى أمرتم به أوسع من الذى نهيتم عنه، وما أحلّ لكم أكثر مما حرم عليكم، فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع، قد تكفّل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك ودخل اليقين، حتى كأن الذى قد ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأن الذى قد فرض عليكم قد وضع عنكم، فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمل ما يرجى من رجعة الرزق، ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته، وما فات أمس من العمر لم ترج اليوم رجعته، الرجاء مع الجائى واليأس مع الماضى، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

وأقول إن هذا الكلام هو الشفاء بعد كلام الله، والذى ينبغى أن يكون عليه الاعتماد بعد سنة رسول الله، فلقد ضمّنه من محاسن الاقتضاب من أبلغ الوعظ أعجب العجاب، وما فيه بلاغ وذكرى لأولى الألباب، فانظر أيها المتأمل كيف افتتح الكلام بذم الدنيا وما اشتملت عليه من صروف المحن والبلوى، ثم خرج منه إلى الخروج عن الدنيا، ثم خرج منه إلى ذكر غرورها، ثم خرج منه إلى ذكر منزلة الحى من الميت فى بعدها وقربها، ثم أردفه بذكر حال الثواب والعقاب، ثم رجع إلى ذكر حال الدنيا بوصف آخر مع الآخرة من زيادة أو نقصان، ثم خرج إلى ذكر الرزق وما ضمن منه، ثم ذكر التكليف وما حملنا منه، ثم خرج إلى ذكر الأمل وما حملنا منه، ثم خرج منه إلى ذكر الأمل وغروره، وذكر الأجل وحضوره، يقتضب كل واحد من هذه الآداب اقتضابا ربما كان أحسن من التخلص، لما فيه من الرقة واللطافة، ثم ختم هذا الكلام بختام هو لباب سره، ونظام سلكه وعبقات عبيره. ونفحات مسكه، وهو قوله فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فهى جامعة لجميع ما أسلفه، ومؤكدة لما عدده ورصفه، فلو كان من كلام البشر معجزة لكان هذا هو الأول، ولو أعجز شىء من الكلام بعد كلام الله لكان هذا هو الثانى، ومن بديع ما جاء فى الاقتضاب قول البحترى يمدح الفتح بن خاقان بعد انخساف الجسر به فى قصيدته التى مطلعها: متى لاح برق، أو بدا طلل، قفر ... جرى مستهل لا بكىء، ولا نزر وبعده: فتى لا يزال الدهر بين رباعه ... أيادله بيض، وأفنية، خضر فبينا هو فى غزلها إذ خرج إلى المديح على جهة الاقتضاب بقوله: لعمرك ما الدّنيا بناقصة الجدا ... إذا بقى الفتح بن خاقان والقطر فخرج إلى المديح من غير أن يكون هناك له سبب من الأسباب كما ترى. ومن ذلك ما قاله أبو نواس فى قصيدته التى مطلعها قوله «يا كثير النّوح فى الدّمن» فضمّنها غزلا كثيرا ثم قال بعد ذلك: تضحك الدنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسّنن سنّ للناس النّدى فندوا ... فكأنّ المحل لم يكن وأكثر مدائح أبى نواس مؤسسة على الاقتضاب من غير ذكر التخلص. وفيما ذكرناه كفاية عن إبانة التخلص والاقتضاب فهذا ما أردنا ذكره فيما يختص بالدلائل المركبة وهو الباب الثالث.

الباب الرابع من فن المقاصد فى ذكر أنواع علم البديع وبيان أقسامه

الباب الرابع من فن المقاصد فى ذكر أنواع علم البديع وبيان أقسامه اعلم أن ما أسلفنا ذكره فى الباب الأول إنما هو كلام فيما يتعلق بكيفية الوضع، إما فى الأصل فيكون حقيقة، أو فى غيره فيكون مجازا، والباب الثانى إنما هو كلام فى الدلائل من جهة الألفاظ الإفرادية، والباب الثالث إنما هو كلام فى الدلالات المركبة، وأما الباب الرابع فإنما هو كلام فيما يعرض لجوهر اللفظ من الألقاب بحسب تأليفه، لا من جهة دلالته على معناه، وإنما دلالته على معناه تابعة لذلك، وهذا هو الذى يلقب بعلم البديع فى ألسنة علماء البيان، وينقسم إلى ما يكون متعلقا بالفصاحة اللفظية، وإلى ما يكون متعلقا بالفصاحة المعنوية، فهذان نمطان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمعونة الله تعالى. النمط الأول ما يتعلق بذكر الفصاحة اللفظية وبيانها اعلم أنا قد ذكرنا أن الفصاحة من عوارض الألفاظ، وأن البلاغة من عوارض المعانى، ومنهم من قال إنهما مستويتان دالتان على مقصود واحد فلا يكون الكلام فصيحا إلا وهو بليغ، ولا يكون بليغا إلا وقد حاز الفصاحة، ومنهم من زعم أن الفصاحة أعم من البلاغة فالكلام يوصف بالفصاحة وإن لم يكن بليغا، ولا يعقل كون الكلام بليغا إلا مع كونه فصيحا، والأمر فى ذلك قريب، خلا أن أكثر أهل البلاغة قائلون بأنهما مقولان على جهة الترادف أعنى البلاغة والفصاحة، وإلى هذا ذهب الشيخ عبد القاهر الجرجانى، والأقلون على أن البلاغة من أوصاف المعانى والفصاحة من وصف الألفاظ، وهذا هو الأقرب كما قررناه فى أول الكتاب فلا وجه لتكريره، فإذا عرفت هذا فلنذكر ما يتعلق بالفصاحة اللفظية من علم البديع وهو مشتمل على أصناف عشرين، نذكرها بأمثلتها بمشيئة الله تعالى.

الصنف الأول التجنيس

الصنف الأول التجنيس وهو تفعيل من التجانس وهو التماثل، وإنما سمى هذا النوع جناسا لأن التجنيس الكامل أن تكون اللفظة تصلح لمعنيين مختلفين فالمعنى الذى تدل عليه هذه اللفظة هى بعينها تدل على المعنى الآخر من غير مخالفة بينهما، فلما كانت اللفظة الواحدة صالحة لهما جميعا كان جناسا، وهو من ألطف مجارى الكلام ومن محاسن مداخله، وهو من الكلام كالغرة فى وجه الفرس، فالجنس فى اللغة هو الضرب من الشىء وهو أعم من النوع، والمجانسة المماثلة، وسمى هذا النوع جناسا لما فيه من المماثلة اللفظية، وزعم ابن دريد أن الأصمعى يدفع قول العامة هذا مجانس لهذا ويقول إنه مولد، وحقيقته فى مصطلح علماء البيان هو أن يتفق اللفظتان فى وجه من الوجوه ويختلف معناهما، فما هذا حاله عام فى التجنيس التام، والتجنيس الناقص، ثم إنه ينقسم قسمين نورد ما يتعلق بكل واحد منهما بأمثلته بمعونة الله تعالى. القسم الأول [التجنيس التام] ويقال له المستوفى، والكامل، وهو أن تتفق الكلمتان فى لفظهما، ووزنهما، وحركتهما، ولا يختلفان إلا من جهة المعنى، وأكثر ما يقع فى الألفاظ المشتركة، ومثاله من كتاب الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] وليس فى القرآن من التجنيس الكامل إلا هذه الآية، فالساعة الأولى عبارة عن القيامة، والساعة الثانية هى واحدة الساعات، لكنهما اتفقا لفظا فلهذا كان جناسا تاما، ومن السنة النبوية قوله صلى الله عليه وآله لما نازع الصحابة جرير بن عبد الله فى أحد زمام ناقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أيهم يقبضه، فقال عليه السلام: خلوا بين جرير، والجرير لا يقال كيف يكون ما ذكرتموه من الكتاب والسنة مثالا للتجنيس التام مع اختلافهما فى التعريف والتنكير، لأنا نقول هذا فيه وجهان، أحدهما أن يقال إنه لم يقع الاختلاف إلا فى لام للتعريف وهى زائدة، وما هذا حاله فليس مغيّرا للتمثيل، وثانيهما أن يقال كما أن اختلاف الحركة يبطل جعله من التجنيس التام فهكذا زيادة الحرف تخرجه عن التجنيس

القسم الثانى من التجنيس ويقال له الناقص، والمشبه،

التام أيضا، والحق أنه معدود منه، وأنشد ابن الأثير لأبى تمام قال: فأصبحت غرر الأيام مشرقة ... بالنصر تضحك عن أيّامك الغرر فعدّه تجنيسا تاما مع أن الأول مضاف والثانى معرف باللام، ومن ذلك ما قاله أيضا: ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيى لدى يحيى بن عبد الله «1» ومنه قولهم: لولا اليمين لقبلت اليمين، فاليمين الأولى الألية، واليمين الثانية هى الجارحة، ومنه قولهم: ما ملأ الراحة من استوطن الراحة، فالراحة الأولى هى الجارحة، والراحة الثانية هى نقيض الشقاء، وقد أكثر من هذا النوع أبو تمام فأحسن فيه كل الإحسان ومنه قوله: إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدّعوا ... صدور العوالى فى صدور الكتائب ومن ذلك ما قاله أبو جعفر النامى: لشئون عينى فى البكاء شئون ... وجفون عينك للبلاء جفون ومن أحسن ما وجدته فى ذلك للشاعر المعروف بالمغربى وقد أكثر منه: لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا ... ونحن فى حفر الأجداث أحيانا تقول أنت امرؤ، جاف مغالطة ... فقلت لا هوّمت أجفان أجفانا لم يبق غيرك إنسان يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا فالكلمتان كما ترى فى هذه الأمثلة لا اختلاف فيها إلا من جهة المعنى، يستويان فى الانتظام فى الحروف، والحركات، كما ترى وله أمثله كثيرة: القسم الثانى من [التجنيس ويقال له الناقص] ، والمشبه، وهو يأتى على أنحاء مختلفة، وحاصله أنه يتطرف إليه الاختلاف بوجه من الوجوه كما تراه، وهو يأتى على أضرب عشرة. الضرب الأول يلقب ب [المختلف] ، وما هذا حاله يكون اختلافه بالحركات لا غير، فأما الأحرف فيه فإنها متماثلة، ومثاله قولهم: لا تنال الغرر، إلا بركوب الغرر، وقولهم: البدعة شرك

الضرب الثانى المختلف بالأحرف وتتفق الكلمتان فى أصل واحد يجمعهما الاشتقاق، المطلق

الشرك، وقولهم: الجاهل إما مفرط أو مفرط، وقد وقع فى الحريريات كقوله، فلما استأذنه فى المراح إلى المراح على كاهل المراح، فقد وجد فى الميم ثلاث حركات كما ترى، ومنه قوله نظما: فقلت للائمى أقصر فإنى ... سأختار المقام على المقام الضرب الثانى المختلف بالأحرف وتتفق الكلمتان فى أصل واحد يجمعهما الاشتقاق، [المطلق] وما هذا حاله يقال له المطلق، ومثاله قول جرير: فما زال معقولا عقال، عن النّدى ... وما زال محبوسا عن المجد حابس وإنما سّمى مطلقا لأنه لما كانت حروفه مختلفة ولم يشترط فيه أمر سواه قيل له مطلق. الضرب الثالث أن لا يجمعهما الاشتقاق لكن بينهما موافقة من جهة الصورة مع أن إحداهما من كلمتين، والأخرى من كلمة واحدة، [المركب] وما هذا حاله يلقب بالمركب لما يظهر فيه من أحد الشقين من التركيب، ثم هو على وجهين، الوجه الأول [المفروق] أن يكون متشابها من جهة اللفظ لا من جهة الخط، وما هذا حاله يقال له المفروق، ومثاله قولهم من ظلم نمله، فنم له، وقولهم لا تقعد تحت رقّ، تحترق، وفى الحريريات: أزمعت الشخوص من برقعيد، وقد شمت برق عيد، ومن النظم ما قاله البستىّ: إذا ملك، لم يكن ذا هبه ... فدعه فدولته ذاهبه ومن ذلك ما قاله بعضهم. وكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود فى مجالس جود وفى الحريريات فمحرابى أحرى بى، وأسمالى أسمى لى، وقول بعضهم فهمنا لما فهمنا، فالأول من الهيام والثانى من الفهم. الوجه الثانى [المرفوّ] أن تكون المشابهة بينهما من جهة اللفظ والخط، وما هذا حاله فإنه يلقب بالمرفوّ، وإنما لقّب به لأن المقصود هو الجمع بين كلمتين، أحدهما أقصر من الأخرى، فيضم إلى القصيرة ما يوازى الكلمة ويرفوها بذلك حتى يعتدل ركنا التجنيس، ومثاله قول بعض البلغاء: يا مغرور أمسك، وقس يومك بأمسك، فزيدت كاف الضمير فى الثانية من أجل أن تساوى الأولى، ومن ذلك قول البستى:

الضرب الرابع المذيل،

فهمت كتابك يا سيّدى ... فهمت ولا عجب أن أهيما ومن ذلك ما قاله أيضا: إذا ملك، لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه ومنه قول بعضهم فهمنا لما فهمنا، فاللفظتان متساويتان من جهة لفظهما وخطهما، وما أوردناه من هذه الأمثلة أمثلة المرفو، فى المفروق، فإنما كان على جهة الذهول والنسيان والحقيقة أنها أمثلة المرفوّ. الضرب الرابع [المذيّل] ، بالذال المعجمة، وهو أن تجىء الكلمتان متجانستى اللفظ متفقتى الحركات والزنة، خلا أنه ربما وقع بينهما مخالفة، ثم تلك المخالفة على وجهين، الوجه الأول منهما أن تختص إحدى الكلمتين بحرف يخالف الأخرى من عجزها، ومثاله قولهم فلان سال من أحزانه، سالم من زمانه، حام لعرضه، حامل لغرضه، فآخر سال يآء، وآخر سالم ميم، مع اتفاقهما فيما عدا ذلك من الحروف والحركات، ومن ذلك ما قاله أبو تمام: يمدّون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب «1» فآخر عواص ياء، وآخر عواصم ميم، وآخر قواض ياء، وآخر قواضب الباء، ومن ذلك ما قاله البحترى «2» : لئن صدفت عنا فربّت أنفس ... صواد إلى تلك النفوس الصّوادف فآخر صواد هى الياء، وعجز صوادف الفاء، مع اتفاقهما فيما عدا ذلك، الوجه الثانى أن تختلف الكلمتان من أولهما، ومثاله قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) [القيامة: 29- 30] فلم يختلف الساق والمساق إلا بزيادة الميم فى المساق، ومن ذلك ما وقع فى الحريريات قوله: يسخو بموجوده، ويسمو عند جوده، فلم يختلفا فى نظم ولا زنة إلا بزيادة الميم فى موجوده، والواو أيضا، وقوله أيضا نظما: لم يبق صاف ولا مصاف ... ولا معين، ولا معين

الضرب الخامس المزدوج

فلم يختلف صاف، ولا مصاف إلا بزيادة الميم لا غير، ومن ذلك ما أنشده الشيخ عبد القاهر الجرجانى: وكم سبقت منه إلى عوارف ... ثنائى من تلك العوارف وارف وكم غرر من برّه ولطائف ... لشكرى على تلك اللطائف طائف وقد يلقب ما ذكرناه بالتجنيس الزائد والناقص كما مر تقريره بالأمثلة. الضرب الخامس [المزدوج] وهو أن تأتى فى أواخر الأسجاع فى الكلام المنثور، أو القوافى من المنظوم، بلفظتين متجانستين، إحداهما ضميمة، إلى الأخرى على جهة التتمة والتكملة لمعناها، ومثاله من النثر قولهم: من طلب شيئا وجدّ وجد، ومن قرع بابا ولجّ ولج، ومن الحريريات قوله: إذا باع انباع، وإذا ملأ الصّاع انصاع، فتجد الكلمة الثانية مردفة على جهة التجانس ليكمل معناها وتقرّر فائدتها، ومن النظم ما قاله البستى: أبا العبّاس لا تحسب لشيبى ... بأنى من حلا الأشعار عار فلى طبع، كسلسال معين ... زلال من ذرى الأحجار جار إذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلى زند، على الأدوار وار ومن هذا ما قيل فى الحريريات: بنىّ استقم فالعود تنمى عروقه ... قويما ويغشاه إذا ما التوى التّوى ولا تطع الحرص المذلّ وكن فتى ... إذا التهبت أحشاؤه بالطّوى طوى وإنما لقب هذا بالمزدوج لما يظهر بين الكلمتين من الاستواء، ومنه الازدواج، وهو الاستواء، ويقال له التجنيس المردّد، ويقال له المكرر أيضا، وينقسم إلى ما يكون الازدواج واردا على جهة الانفصال، فى الكلمتين جميعا، كقولك: من جد وجد، ومن لج ولج، وإلى ما يكون الازدواج واردا على جهة الانفصال فى إحداهما والاتصال فى الأخرى، كقولك إذا ملأ الصّاع انصاع، وكالأبيات التى حكيناها عن البستى.

الضرب السادس المصحف

الضرب السادس [المصحّف] وهو عبارة عن الإتيان بكلمتين متشابهتين خطا لا لفظا، ويقال له تجنيس الخط أيضا، ومثاله من كتاب الله تعالى: قوله: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) [الكهف: 104] ومن السنة النبوية قوله صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بالأبكار فإنهن أشد حبا وأقل خّبا، والخبّ الخداع، وقول أمير المؤمنين: قصّر من ثيابك فإنه أبقى وأتقى وأنقى، ومنه قول البحترى يمدح المعتز بالله: ولم يكن المغتزّ بالله إذ شرى ... ليعجز والمعتزّ بالله طالبه وإنما لقّب ما هذا حاله بالمصحّف، لأن من لا يفهم المعنى فإنه يصحّف أحدهما إلى الآخر لأجل تشابههما فى وضع الخط كما ترى ويقال له المرسوم أيضا، ومن هذا قول بعضهم غرك عزك فصار قصارى ذلك ذلّك، فاخش فاحش فعلك، فعلّك بهذا تهدى، وقوله فى الحريريات فملت لمجاورته إلى محاورته، ولا يزكو بالخيف من يرغب فى الحيف، ومن ذلك ما قاله أبو فراس: من بحر شعرك أغترف ... وبفضل علمك أعترف وغير ذلك. الضرب السابع [المضارع] وهو أن يجمع بين كلمتين هما متجانستان لا تفاوت بينهما إلا بحرف واحد سواء وقع أولا أو آخرا أو وسطا حشوا، والمضارعة المشابهة وسمى الضّرع ضرعا، لأنه يشابه أخاه فى الصورة، فلما تشابها فى هذا الحرف لقب بالمضارع لما ذكرناه، ثم يقع على وجهين، الوجه الأول أن يقع الاتفاق فى الحروف المتقاربة، [التجنيس اللاحق] ومثاله قوله عليه السلام: الخيل معقود بنواصيها الخير، فاللام والراء متقاربان، وفى الحريريات لهم فى السير جرى السيل، وإلى الخير جرى الخيل، وقوله وبينى وبين كنى ليل دامس، وطريق طامس، وقوله ويطفى حر

الوجه الثانى أن يقع فى الحروف التى لا تقارب فيها، التجنيس الناقص

بلبالى، بسريال وسربال. الوجه الثانى أن يقع فى الحروف التى لا تقارب فيها، [التجنيس الناقص] ومثاله قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ [النساء: 83] فالنون والراء متباعدان، ومن ذلك قولهم: المكارم بالمكاره، والتواضع شرك الشرف، وفى الحريريات ولا أعطى زمامى، من يخفر ذمامى، ولا أغرس الأيادى، فى أرض الأعادى، ومن ذلك ما قاله البحترى: ألما فات من تلاق تلاف ... أم لشاك من الصبابة شاف وما هذا حاله يقال له التجنيس اللاحق، والتجنيس الناقص، والأمر فيه قريب بعد الوقوف على القيود التى يتميز بها عن غيره كما أشرنا إليه. الضرب الثامن [المشوّش] وهو عبارة عن كل جنس من التجنيس يجاذبه طرفان من الصيغة، ولا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه دون الآخر، واشتقاقه من قولهم تشوّش الأمر إذا مزج واختلط بعضه ببعض، ومنه قولهم فلان متشوّش، إذا كان به مرض من اختلاط المزاج وتغيره ومثاله قولهم: فلان مليح البلاغة، لبيق البراعة، فلو اتفق العينان فى الكلمتين وكانتا من حرف واحد لكان ذلك من تجنيس التصحيف أو كان اللامان متفقين لكان ذلك من المضارع، فلما لم يكن كما ذكرناه بقى مذبذبا بين الأمرين، ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه، ومنه قولهم: صدّعنى مذ صدّ عنّى فلولا تشديد النون لكان معدودا من تجنيس المركب، ومن الحريريات قوله وندمنا على ما ندّ منّا. الضرب التاسع [المعكوس] وله فى التجنيس حلاوة ويفيد الكلام رونقا وطلاوة، وقد سماه قدامة الكاتب بالتبديل، وكل واحد من اللقبين يصدق عليه، لأن صاحبه يقدم المؤخر من الكلام ويؤخر المقدم منه، فلهذا لقبه بالعكس، وهكذا فإنه يبدّل الألفاظ فيقدّم ما كان منها مؤخرا ويؤخر ما كان منها مقدما، ويقع فى الألفاظ، والحروف جميعا فهذان وجهان، الوجه الأول منهما أن يكون واقعا فى الألفاظ، ومثاله قول بعضهم: عادات السادات، سادات العادات، وكقول الآخر شيم الأحرار أحرار الشيم ومنه قول الأضبط:

الوجه الثانى أن يكون واقعا فى الأحرف

قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ويقطع الثوب غير لا بسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه ومن ذلك ما قاله الشريف المرتضى يذم الزمان وأهله: أسفّ بمن يطير إلى المعالى ... وطار بمن يسفّ إلى الدنايا وكقول الآخر: إن الليالى للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السّرور قصار «1» ومن هذا قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ [الروم: 19] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: جار الدار أحق بدار الجار، ومن ذلك ما قاله أمير المؤمنين كرم الله وجهه من كتاب كتبه إلى عبد الله بن العباس أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا، ولا بما فاتك منها ترحا، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، قال ابن عباس: ما انتفعت بكلام بعد كلام الله تعالى مثل هذا الكلام، وأنا أقول أيضا ما قرع مسامعى مرة بعد مرة إلا وأحدث لى موعظة، وأنشأ لى عن الغفلة يقظة، وحكى عن أبى تمام أنه لما قصد عبد الله بن طاهر بخراسان وامتدحه بقصيدته المشهورة التى مطلعها «هن عوادى يوسف وصواحبه» أنكر عليه أبو سعيد الضرير وأبو العميثل هذا المطلع، وقالا له، ما لك تقول مالا تفهم فقال لم لا تفهما ما يقال، فاستحسن منه هذا الجواب على الفور، فهذا معكوس الألفاظ. الوجه الثانى أن يكون واقعا فى الأحرف وهذا كقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [يس: 40] فما هذا معكوسه ومستويه متماثلان كما ترى، وليس مما نحن به، وإنما الذى نريد ذكره ههنا هو أن مستويه يفيد معنى، ومعكوسه يفيد معنى آخر، ومثاله ما قاله بعض الأذكياء من أهل الشعر: أهديت شيئا يقلّ لولا ... أحدوثة الفال والتبرّك كرسى تفاءلت فيه لما ... رأيت مقلوبه يسرّك

الضرب العاشر تجنيس الإشارة

وهكذا قال غيره: كيف السرور بإقبال وآخره ... إذا تأملته مقلوب إقبال وأراد أن مقلوب إقبال لا بقاء، ولقد صدق فيما قال فإنه لا سرور فى الحقيقة بإقبال آخره التغير والانتقال، ومن هذا ما قاله بعضهم: جاذبتها والريح تجذب عقربا ... من فوق خدّ مثل قلب العقرب وطفقت ألثم ثغرها فتمنّعت ... وتحجبّت عنّى بقلب العقرب فقلب العقرب الأول هو عبارة عن الكوكب الأحمر، وقلب العقرب الثانى هو عبارة عن البرقع، لأنه قلبه إذا قلبته إليه. الضرب العاشر [تجنيس الإشارة] وهو أن لا يذكر أحد المتجانسين فى الكلام، ولكن يشار إليه بما يدل عليه وهذا كقول بعضهم: حلقت لحية موسى باسمه ... وبهرون إذا ما قلبا ولا شك أنك إذا قلبت هرون من آخره فهو يكون نوره، لكنه لم يذكر لفظ النّوره ولكنه أشار إليها إشارة بقوله «وبهرون إذا ما قلبا» ومن ذلك ما قال بعضهم «1» : وما أروى وإن كرمت علينا ... بأدنى من موقّفة حرون يطيف بها الرّماة فتتّقيهم ... بأوعال معطّفة القرون فقوله «أروى» المذكورة فى البيت هى المرأة وقوله موقفة حرون، يشير بها إلى «أروى» الأوعال وأراد أن هذه المرأة التى اسمها «أروى» ليست بأقرب من التى فى الجبال، لكنه أعرض عن ذكرها، فهذا ما أردنا ذكره فى التجنيس.

الصنف الثانى الترصيع

الصنف الثانى [الترصيع] وهو فى لسان علمآء البيان مقول على ما كان من المنظوم والمنثور من الكلام، ألفاظ الفصل الأول فيه مساوية لألفاظ الفصل الثانى فى الأوزان واتفاق الأعجاز، واشتقاقه من قولهم تاج مرصّع، إذا كان فيه حلية، والترصيع التركيب، ويرد فى الكلام على وجهين، الوجه الأول منهما أن يكون [كاملا] ، وهو أن تكون كل لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الفصل الثانى فى الأوزان والقوافى من غير مخالفة لأحدهما للثانى فى زيادة ولا نقصان، وما هذا حاله فإنه يعز وجوده، وقليلا ما يقع فى كلام البلغاء لصعوبة مأخذه، وضيق مسلكه ولم يوجد فى القرآن شىء منه، وما ذاك إلا لأنه جاء بالأخف والأسهل، دون التعمق النادر، مع أنه قد أخرس الجن والإنس، وأيس كل واحد منهم أن يأتى بلفظة من ألفاظه أو بأقصر سورة من سوره، وقد زعم بعض الناس أنه يوجد فيه شىء منه، ومثّله بقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) [الانفطار: 13- 14] وهذا جهل بمعنى الترصيع وتركيبه، فإن الفجار لا يماثل الأبرار فى وزنه، وهكذا قوله «لفى» فإنه كررها فى الفقرتين جميعا، فما هذا حاله فإنما هو تجنيس، وليس ترصيعا، وإنما يكون من الترصيع لو قال: إن الأبرار لفى نعيم وإن الأشرار لمن جحيم، فيكون الأشرار مقابلا للفظ الأبرار، والجحيم مقابلا للنعيم، «ومن» مقابله «لفى» فى الوزن والقافية، فهو إنما يؤثر على جهة النّدرة على الشرط الذى ذكرناه، فمن ذلك ما وقع فى الحريريات من قوله: يطبع الأشجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه، فجميع ما وقع فى السجعة الثانية مطابق لما وقع فى السجعة الأولى فى الوزن والتقفية من غير زيادة ولا نقصان «فيقرع» بإزاء «يطبع» والأسماع فى مقابلة «الأسجاع» «وزواجر» بإزاء «جواهر» و «وعظه» فى مقابلة «لفظه» . ومن ذلك ما قاله الشيخ عبد الرحيم بن نباتة الخطيب: الحمد لله عاقد أزمة الأمور بعزائم أمره، وحاصد أئمة الغرور

الوجه الثانى ويقال له الناقص،

بقواصم مكره، ثم قال فى أثناء هذه الخطبة أولئك الذين رحلوا فأقمتم، وأفلوا فنجمتم، فما هذا حاله ترصيع بالمعنى الذى ذكرته من غير مخالفة، ومن ذلك ما حكى عن ابن الأثير فى كلام له قال فيه: والحسن ما وشته فطرة التصوير، لا ما حسّنته فكرة التزوير، ومن كلامه قوله من قوّم أود أولاده، ضرّم كمد حسّاده، وفى كلام ابن الأثير ههنا نظر، لأن الأولاد ليس مماثلا للحساد، ومن ذلك ما قاله بعض العرب: من أطاع غضبه، أضاع أدبه ومن المنظوم ما قاله بعض الشعراء «1» : فمكارم أوليتها متبرعا ... وجرائم، ألغيتها متورّعا فقوله مكارم، بإزاء جرائم، وأوليتها فى مقابل ألغيتها، ومتبرعا فى مقابلة متورعا، فما هذا حاله لا يقع فيه نزاع بين أهل البلاغة فى كونه معدودا من باب الترصيع، لاجتماع الفقرتين فى الوزن والقافية. الوجه الثانى ويقال له [الناقص] ، وهو أن يختلف الوزن وتستوى الأعجاز، ومثاله قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) [الانفطار: 13- 14] فاختلاف الوزنين فى الأبرار، والفجار، لا يخرجه عن كونه ترصيعا، وهكذا ما حكى عن ابن نباتة من قوله: وموفّق عبيده لمغانم ذكره، ومحقّق مواعيده بلوازم شكره، وقوله: أيها الناس أسيموا القلوب فى رياض الحكم، وأديموا النحيب على البياض اللّمم، وأطيلوا الاعتبار بانتقاص النعم، وأجيلوا الأفكار فى انقراض الأمم، فما هذا حاله لم تتفق فيه الأوزان ولكن استوت فيه الأعجاز، وكقول الخنساء فى أخيها صخر «2» : حامى الحقيقة محمود الطريقة ... مهدىّ الخليقة نفّاع، وضرّار جوّاب قاصية جزّاز ناصية ... عقّاد ألوية للخيل جرّار

ومن هذا قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [الغاشية: 25- 26] ومنه قول الآخر «1» : سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت من الكرم فقوله ذوائبها، وترائبها، مختلف، فى الوزن كما ترى، ومنه قول ذى الرمة «2» : كحلاء فى برج صفراء فى دعج ... كأنها فضة، قد مسّها ذهب فهذا وأمثاله هل يكون معدودا من التصريع أم لا، فالذى عليه الأكثر من أهل البلاغة كالمطرزى وعبد الكريم صاحب البيان وغيرهما أنه لا محالة معدود منه وإن كان مخالفا فى الزنة، فأما ابن الأثير فقد أبى عدّه منه، وزعم أنه لا يعدّ فى الترصيع إلا الوجه الأول، والأمر فيه قريب، والمختار ما عليه الأكثر، لأنه لا يعد فى التجنيس كما مر بيانه، وإذا بطل كونه تجنيسا وجب القضاء بكونه ترصيعا إذ لا قائل بكونه خارجا عن البابين.

الصنف الثالث التطبيق ويقال له التضاد، والتكافؤ، والطباق والمقابلة

الصنف الثالث التطبيق [ويقال له التضاد، والتكافؤ، والطباق والمقابلة] ويقال له التضاد، والتكافؤ، والطباق، وهو أن يؤتى بالشىء وبضده فى الكلام كقوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً [التوبة: 82] واعلم أن هذا النوع من علم البديع متفق على صحة معناه وعلى تسميته بالتضاد والتكافؤ، وإنما وقع الخلاف فى تسميته بالطباق والمطابقة والتطبيق، فأكثر علماء البيان على تلقيبه بما ذكرناه، إلا قدامة الكاتب، فإنه قال لقب المطابقة يليق بالتجنيس، لأنها مأخوذة من مطابقة الفرس والبعير لوضع رجله مكان يده عند السير، وليس هذا منه، وزعموا أنه يسمى طباقا من غير اشتقاق، والأجود تلقيبه بالمقابلة، لأن الضدين يتقابلان، كالسواد والبياض، والحركة والسكون، وغير ذلك من الأضداد من غير حاجة إلى تلقيبه بالطباق والمطابقة، لأنهما يشعران بالتماثل بدليل قوله تعالى: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) [نوح: 15] أى متساويات، ومنه طابقت النعل، أى جعلته طاقات مترادفات، فإذن الأخلق تلقيب هذا النوع بما ذكرناه من المقابلة، ولا يلقب بالطباق كما قاله جوّاب البلاغة ونقّادها البصير والمهيمن على معانيها وخريتها الخبير قدامة ابن جعفر الكاتب فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر كيفية التقابل فى الكلام، لأن الشىء ربما قوبل بضده لفظا، وربما قوبل بضده من جهة المعنى، وتارة يقابل بمخالفه، ومرة يقابل بما يماثله، فهذه ضروب أربعة لابد من تقديرها وتفصيلها بمعونة الله تعالى. الضرب الأول فى مقابلة الشىء بضده من جهة لفظه ومعناه ومثاله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] فانظر إلى هذا التقابل العجيب فى هذه الآية ما أحسن تأليفه وأعجب تصريفه، فلقد جمع فيه بين مقابلات ثلاث، الأولى منها مأمور بها والثلاث التوابع منهى عنها، ثم هى فيما بينها متقابلة أيضا، ومن ذلك قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فهذا وما شاكله فيه مقابلتان، الضحك بالبكاء، والقليل بالكثير، ومن ذلك قوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: 23] فقابل الفرح بالحزن إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأضداد، ومنه قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] فقابل الأمر

بالنهى وهما ضدان، وقوله تعالى فى قصة لقمان وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان: 19] وقال: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [لقمان: 18] فنهاه عن المصاعرة، والمشى فى الأرض مرحا، وأمره بالقصد فى المشى والغض من الصوت، إلى أمثال له فى القرآن كثيرة، ومن السنة النبوية قوله صلّى الله عليه وسلّم: خير المال عين ساهرة لعين نائمة، فجمع فيه بين السهر والنوم وهما ضدان، وأراد بالحديث أن أفضل الأموال هو هذه الأنهار الجارية فإنها تجرى ليلا ونهارا وصاحبها نائم، لا يشعر بحالها، ومن ذلك ما روته عائشة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لها: عليك بالرفق يا عائشة، فإنه ما كان فى شىء إلا زانه، ولا نزع من شىء إلا شانه، فجمع بين الزين والشين وهما ضدان، ومن ذلك ما ورد فى كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال فى بعض خطبه: الحمد لله الذى لم يسبق له حال حالا، فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وكل عزيز غيره ذليل، وكل قوىّ غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل قادر غيره يقدر ويعجز، وكل سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات، ويصمه كثيرها، وكل بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان ولطيف الأجسام، وكل ظاهر غيره غير باطن وكل باطن غيره غير ظاهر، فهذه مقابلات ثمانية قد جمع بينها فى صدر هذه الخطبة مع ما فيه من السلاسة وجودة السبك، ومن ذلك ما قاله خطابا لعثمان: إن الحق ثقيل، مرىء، والباطل خفيف وبىء، وأنت رجل إن صدقتك سخطت وإن كذبتك رضيت، فقابل الحق بالباطل، والثقيل المرىء بالخفيف الوبىء، والصدق بالكذب، والسخط بالرضا، فهذه خمس مقابلات قد اشتمل هذا الكلام القصير الذى أناف على كل غاية فى بلاغته، ورقة لفظه وسلاسته، وله عليه السلام من الطباق والجمع بين الأمور المتضادة خاصة فى علوم التوحيد وأحوال القيامة شىء كثير، وقال الحجاج بن يوسف حين أراد قتل سعيد بن جبير: فلما أحضر إليه أمر من كبه، ثم قال من أنت فقال أنا سعيد بن جبير فقال له: بل أنت شقى بن كسير. فقابل سعيد بشقى وجبير بكسير، وكان الخبيث من المعدودين فى الفصاحة، والمشار إليهم فى البلاغة، ومن كلام البلغاء قولهم: من أقعدته نكاية اللئام، أقامته إعانة الكرام، ومن ألبسه الليل لون ظلمائه، نزعه النهار عنه بضيائه، ومن الحريريات قوله لا رفع نعشك، ولا وضع عرشك، وقوله: ومن حكم

بأن أبذل ويخزن، وألين ويخشن، وأذوب ويجمد، وأذكو ويخمد فهذه كلها نقائض قد جمعها، وقال بعض وزراء الفرس لما مات الأمير: حركنا بسكونه، ومن ذلك ما قاله ابن الأثير فى بعض رسائله قال فيه: صدر هذا الكتاب عن قلب مأنوس بلقائه وطرف مستوحش لفراقه، ومن المنظوم ما قاله البحترى «1» : أما والذى أبكى وأضحك والذى ... أمات وأحيا والذى أمره الأمر ومنه قول دعبل «2» : لا تعجبى يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى فانظر كيف جمع فى الأول بين الضحك والبكاء، وبين الإحياء والإماتة، وفى الثانى بين الضحك والبكاء لا غير، ومنه ما قاله أبو تمام «3» : ما إن ترى الأحساب بيضا وضّحا ... إلا بحيث ترى المنايا سودا ومنه قول الفرزدق «4» : قبح الإله بنى كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون بجار ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى والطباق قليل فى شعره قال «5» : ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدّوا قليل إذا عدّوا فهذا ما يتعلق بهذا الضرب.

الضرب الثانى فى مقابلة الشىء بضده من جهة معناه دون لفظه

الضرب الثانى فى مقابلة الشىء بضده من جهة معناه دون لفظه ومثاله قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] فقوله يهدى ويضل من باب الطباق اللفظى، وقوله يشرح صدره مع قوله يجعل صدره ضيقا حرجا من الطباق المعنوى، لأن المعنى بقوله يشرح يوسعه بالإيمان ويفسحه بالنور حتى يطابق قوله ضيقا حرجا وهكذا قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) [الليل: 5- 10] فقوله كذب وصدق، وقوله اليسرى والعسرى من باب الطباق اللفظى، وقوله أعطى مع قوله بخل، فإنما هو من الطباق المعنوى، لأن المعنى فى أعطى، كرم، ليطابق «بخل» فى معناه دون لفظه، ومن ذلك ما قاله البحترى «1» : يقيض لى من حيث لا أعلم النّوى ... ويسرى إلىّ الشوق من حيث أعلم فقوله: لا أعلم مطابق لقوله «أعلم» من جهة معناه، لأن معناه من حيث أجهل، ومن التقابل فى الأضداد من جهة المعنى قول أبى تمام «2» : مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخطّ إلا أن تلك ذوابل فأحد الإشارتين للحاضر، وهو قوله «هاتا» وأحدهما للغائب وهو قوله «تلك» فالضدية حاصلة فيهما من جهة معناهما، ومن ذلك ما قاله المقنّع الكندى من أبيات الحماسة: لهم جلّ مالى إن تتابع لى غنى ... وإن قلّ مالى لم أكلفهم رفدا فهذا من الطباق المعنوى، لأن قوله: إن تتابع لى غنى، معناه إن كثر مالى، وعلى هذا يناقض قوله «قلّ مالى» . الضرب الثالث فى مقابلة الشىء بما يخالفه من غير مضادة وذلك يأتى على وجهين، الوجه الأول منهما أن يكون أحدهما مخالفا للآخر، خلا أن بينهما مناسبة،

الوجه الثانى ما لا يكون بينهما مقاربة وبينهما بعد، لا يتقاربان، ولا مناسبة بينهما،

وهذا نحو قوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة: 50] فالمصيبة مخالفة للحسنة من غير مضادة، إلا أن المصيبة لا تقارب الحسنة، وإنما تقارب السيئة، لأن كل مصيبة سيئة، وليس كل سيئة مصيبة، فالتقارب بينهما من جهة العموم والخصوص، وهكذا قوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] فإن الرحمة ليست ضدّا للشدة، وإنما ضد الشدة اللين، خلا أنه لما كانت الرحمة من مسببات اللين، حسنت المطابقة بينهما، وكانت المقابلة لائقة ومن هذا ما قاله بعض الشعراء: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا فقابل الظلم بالمغفرة، وليس ضدا لها، وإنما ضده العدل، إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل من جهة أن العدل إنصاف الغير بما يجب له أو يستحق عليه أو ترك ما لا يستحق عليه، والعفو هو المغفرة وهو الصفح والتجاوز، وهو أعظم أنواع العدل وأعلاها حسنت المطابقة أيضا. الوجه الثانى ما لا يكون بينهما مقاربة وبينهما بعد، لا يتقاربان، ولا مناسبة بينهما، ومثاله ما قاله أبو الطيب المتنبى «1» : لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محبّ أو إساءة مجرم فالمقابلة الصحيحة أن تكون بين محب ومبغض، لا بين محب ومجرم، فإن بين المحب والمجرم تباعدا كبيرا، فإنه ليس كل من أجرم إليك فهو مبغض لك، ومما يجرى هذا المجرى ما قاله بعض الشعراء: فكم من كريم قد مناه إلهه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الهن فقوله: بمذمومة الأخلاق واسعة الهن، من باب المقابلة البعيدة التى لا مناسبة فيها وكان الأخلق «بضيّقة الأخلاق واسعة الهن» . الضرب الرابع المقابلة للشىء بما يماثله وذلك يكون على وجهين: الوجه الأول منهما مقابلة المفرد بالمفرد، وهذا كقوله تعالى:

الوجه الثانى مقابلة الجملة بالجملة

وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [يونس: 27] وقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [الرحمن: 60] وقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] وغير ذلك من الأمور المفردة وإنما أوردنا ما ذكرناه فى أمثلة المفردات، لأن كل ما ذكرناه فى الأمثلة إما مبتدأ وخبر كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها وإما شرط، ومشروط كقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وكله معدود فى حيز المفردات، فلهذا عددناه فى قسم المفرد، فضابط المماثلة أن كل كلام كان مفتقرا إلى الجواب، فإن جوابه يكون مماثلا كما قررناه، وإن كان غير جواب جاز وروده من غير مماثلة لفظية، ولهذا ورد قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولو قال من كفر فعليه جرمه، جاز ذلك، لكن الأحسن المماثلة كما أسلفناه فأما إذا كان واردا فى غير جواب، فإنه لا يلتزم فيه هذه المراعاة اللفظية ومثاله قوله تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) [الزمر: 70] ولو أراد المشاكلة اللفظية لقال: وهو أعلم بما يعلمون، لأن العمل والفعل مستويان من جهة المعنى، وهكذا قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) [التوبة: 65] لأن الخوض واللعب هما من جهة المعنى استهزاء بالله، وإعراض عن أمره وأمر رسوله، ولو أراد المشاكلة لقال: أفى الله وآياته ورسوله كنتم تخوضون وتلعبون، فهذا ما يتعلق بالمفرد. الوجه الثانى مقابلة الجملة بالجملة وهذا كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) [آل عمران: 54] وقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً [النمل: 50] وقوله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي [سبأ: 50] والجمل الشرطية مترددة بين عدها فى باب المفرد والجملة، فإن عدت فى المفردات فلأنها وإن كانت جملا لكنها قد نقصت عن الاستقلال بعقد حرف الشرط لها عقدا واحدا، وإن عدت فى الجملة فلأن الظاهر من الشرط والجزاء جملتان، فلما كان الأمر كما قلناه جاز فيها الوجهان، وقد تكون الجملتان ماضيتين أو مضارعتين، أو تكون الأولى مضارعة، والثانية ماضية، وبالعكس من هذا، وأمثلة ذلك موجودة فى القرآن كثيرة فهذا ما أردنا ذكره فى المقابلة.

تنبيه

تنبيه اعلم أنا لما فرغنا من تقسيم المقابلة وبيان أمثلتها فلنذكر على أثره الكلام فى المؤاخاة بين المعانى، والمؤاخاة بين الألفاظ، فأما المؤاخاة اللفظية فإنه ينبغى ويحسن مراعاتها، كالإفراد والتثنية والجمع وغير ذلك من الأحكام اللفظية، فإذا كان الأول مفردا استحب فى مقابله أن يكون مفردا مثله، وهكذا إذا كان مجموعا، ومن ثم عيب على أبى تمام قوله فى وصف الرماح «1» : مثقّفات سلبن العرب سمرتها ... والروم زرقتها والعاشق القصفا فلما ذكر العرب الروم كان الأخلق به أن يقول «والعشاق» ليوافق الأول فى كونها جموعا كلها، وكذلك لما ذكر الزرقة والسمرة كان الأولى أن يقول «دقّتها» أو يقول «قصفها» ليطابق ما سبق من ذلك، وهكذا ورد فى قول أبى نواس فى وصف الخمر قال «2» : صفراء مجّدها مرازبها ... جلّت عن النّظراء والمثل فجمع ثم أفرد فى معنى، فكان الأحسن أن يقول «والأمثال» ليطابق النظراء، أو يقول «النظير» ليطابق «المثل» وهكذا ورد قوله أيضا على مثل ذلك «3» : ألا يابن الذين فنوا فماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى وما لك فاعلمن فيها مقام ... إذا استكملت آجالا ورزقا وكان الأحسن أن يقول: إما أجلا ورزقا فيفردهما جميعا، وإما أن يقول: آجالا وأرزاقا، فيجمعها جميعا من غير مخالفة بينهما، وهذا الذى ذكرناه من هذه المراعاة ليست على جهة الوجوب، بل المراد من ذلك طريقة الحسن والإعجاب، ولهذا ورد فى كتاب الله تعالى كقوله تعالى: طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ [النحل: 108] وقوله تعالى: شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ [فصلت: 20] وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] فلو كان ركيكا لما ورد فى القرآن، وهو أفصح

الكلام كله، هذا كله فى اعتبار المؤاخاة اللفظية، وأما المؤاخاة المعنوية فهى واردة فى القرآن كثيرا، وهذا إنما يكون فى فواصل الآى، فإنها تأتى مطابقة على ما سبق من معنى الآية ومثاله قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) [الحج: 63] وكقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) [الحج: 64] وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) [الحج: 65] فالآية الأولى إنما فصلها بقوله: لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لما فيه من المطابقة لمعناها، لأنه ضمّنها ذكر الرحمة للخلق بإنزال الغيث لما فيه من المعاش لهم ولأنعامهم، فكان لطيفا بهم خبيرا بمقادير مصالحهم، وأما الآية الثانية فإنما فصلها بقوله الغنى الحميد، ليطابق ما أودعه فيها، لأنه لما ذكر أنه مالك لما فى السموات والأرض لا لحاجة، قابله بقوله لهو الغنى، أى عن كل شىء لأن كل غنى لا يكون نافعا بغناه إلا إذا كان جوادا به منعما على غيره فإنه يحمده المنعم عليه، فذكر الغنى ليدل به على كونه غير مفتقر إليها، وذكر «الحميد» لما كان جوادا بها على خلقه، فلا جرم استحق الحمد من جهتهم، وأما الآية الثالثة فإنما فصلها «برؤوف رحيم» لأنه لما عدّد جلائل نعمه وكانت كلها مسخّرة مدبّرة وكانوا لولا رحمته متعرضين بصددها لمتالف عظيمة من الأهوال البحرية والآفات السماوية، فلما كانت فى أنفسها متعرضة لهذه الأمور عقبها بذكر الرأفة والرحمة لينبه على كمال لطفه وعظيم رحمته بالخلق، وهكذا القول فى سائر الفواصل القرآنية، فإنك لا تزال تطلع منها على فوائد مناسبة لتلك الفاصلة كما أشرنا إليه.

الصنف الرابع رد العجز على الصدر

الصنف الرابع [رد العجز على الصدر] اعلم أنا قد ذكرنا الاشتقاق فيما سلف وقررنا أسراره، فأما رد العجز على الصدر فظاهر كلام المطرزى وعبد الكريم صاحب التبيان أن أحدهما مخالف للآخر، ولهذا أفردا لكل واحد منهما باب على حياله، وكلاهما معدود فى علم البديع، والذى عندى أنهما متقاربان، وأن رد العجز على الصدر أعم من الاشتقاق، لأن رد العجز على الصدر كما يرد فى مختلف اللفظ، فقد يكون واردا فى التساوى، بخلاف الاشتقاق، فإنه إنما يكون واردا فيما اختلف لفظه وبينهما جامع فى الاشتقاق وقد مر فلا وجه لتكريره، والذى نتعرض لذكره إنما هو رد العجز على الصدر كما نقرره بمعونة الله، وهو وارد فى النظم تارة، وفى النثر أخرى، ويأتى على ضروب. الضرب الأول أن يكون الصدر والعجز متفقين فى الصورة، وهذا كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] وقوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) [طه: 61] ومن كلام البلغاء: الحيلة ترك الحيلة، وقولهم: القتل أنفى للقتل وفى الحريريات: وتحمى عن المنكر ولا تتحاماه، ومن النظم ما قاله بعض الشعراء «1» : سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنّى يفيق فتى به سكران الضرب الثانى أن يتفقا صورة ويختلف معناهما، وهو يأتى أحسن من الأول وأدخل فى الإعجاب، وهذا كما قاله بعضهم: يسار من سجيتها المنايا ... ويمنى من عطيّتها اليسار فاليسار الأول هو الجارحة، واليسار الثانى من الميسرة، وهو نقيض الإعسار.

الضرب الثالث أن يتفقا فى المعنى ويختلفا صورة،

الضرب الثالث أن يتفقا فى المعنى ويختلفا صورة، وهذا كقول عمر بن أبى ربيعة القرشى «1» : واستبدّت مرّة واحدة ... إنّما العاجز من لا يستبدّ وقال آخر: تمنّيت أن ألقى سليما ومالكا ... على ساعة ينسى الحمام الأمانيا فقوله تمنيت مع الأمانى متفقان فى المعنى مختلفان فى الصورة كما ترى. الضرب الرابع أن يتفقا فى الاشتقاق ويختلفا فى الصورة، وهذا مثاله ما قال بعض الشعراء: ضرائب أبدعتها فى السما ... ح فلسنا نرى لك فيها ضريبا ومنه قول جرير: أخلبتنا وصددت أمّ محلّم ... أفتجمعين خلابة وصدودا الضرب الخامس أن لا يلتقيا فى الاشتقاق ويتفقا فى الصورة، وهذا كقوله فى الحريريات: ولاح يلحى على جرى العنان إلى ... ملهى فسحقا له من لائح لاح لأن قوله لاح بالشىء، إذا ذهب به، فالأول بمعنى الذهاب، وقوله بعد ذلك لاح اسم الفاعل من قولهم لحاه إذا ذمه، ولحاه إذا نازعه الأمر، فالصدر من ذوات الثلاثة، والعجز من ذوات الأربعة. الضرب السادس أن يقع أحد اللفظين فى حشو المصراع الأول من البيت ثم يقع الآخر فى عجز المصراع الثانى، وما هذا حاله يقع على أوجه ثلاثة، أولها أن يكونا متفقين صورة ومعنى، وهذا كقول أبى تمام «2» : ولم يحفظ مضاع العلم شىء ... من الأشياء كالمال المضاع وثانيها أن يقعا على هذا الحد، ويتفقا صورة لا معنى، ومثاله قول من قال:

الضرب السابع أن تقع إحدى الكلمتين فى آخر المصراع الأول موافقة لما فى عجز المصراع الثانى،

لا كان إنسان، تيمّم صائدا ... صيد المها فاصطاده إنسانها وثالثها أن يقعا على هذه الصفة لكنهما يتفقان معنى، ويختلفان من جهة الصورة، ومثاله قول امرىء القيس «1» : إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شىء سواه بخزّان وفى الحريريات: ولو استقامت كانت ال ... أحوال فيها مستقيمه الضرب السابع أن تقع إحدى الكلمتين فى آخر المصراع الأول موافقة لما فى عجز المصراع الثانى، ومتى كان الأمر كما قلناه فهو على وجهين، أحدهما أن تكون الموافقة فى المعنى والصورة، ومثاله ما قاله أبو تمام فى بعض مدائحه «2» : ومن كان بالبيض الكواعب مغرما ... فما زلت بالبيض القواضب مغرما فالغرام بالشىء، الولوع به، وهما متفقان فى هذا المعنى كما ترى مع اتفاقهما فى الصورة والبناء. وثانيهما أن تكون الموافقة بينهما فى الصورة دون المعنى، مثاله ما ورد فى الحريريات «3» : فمشغوف بآيات المثانى ... ومفتون برنّات المثانى فالمثانى الأول هو آيات الفاتحة، وسميت مثانى لأنها تثنى فى الصلاة، والمثانى الثانى هو ما يثنى من الأوتار. الضرب الثامن أن يلاقى أحد اللفظين الآخر فى الاشتقاق ويخالفه فى الصورة، ومثاله قول البحترى: ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع فكلاهما مشتق من الطاعة، لكن الأول اسم فاعل من أطاع، والثانى اسم مفعول من

الضرب التاسع أن يقع أحدهما فى أول المصراع الثانى موافقا لما فى عجزه صورة ومعنى،

أطاع أيضا. الضرب التاسع أن يقع أحدهما فى أول المصراع الثانى موافقا لما فى عجزه صورة ومعنى، ومثاله قول بعضهم «1» : وإن لم يكن إلا معرّج ساعة ... قليلا فإنى نافع لى قليلها فالقليل الأول والثانى مستويان فى لفظهما ومعناهما، ولا يقدح كون أحدهما معرفة والآخر نكرة فيما نحن فيه، فإن ذلك بمعزل عما نريده فى المثال. الضرب العاشر أن يكونا مشتبهين فى الاشتقاق لفظا، والمعنى بخلافه، ومثاله ما ورد فى الحريريات وهو قوله: ومضطلع، بتلخيص المعانى ... ومطّلع، إلى تخليص عانى فالمعانى الأول، اشتقاقها من عناه الأمر يعنيه إذا ألم به بقلبه ولامه ياء كما ترى، والعانى الثانى، اشتقاقه من عنا يعنو إذا هلك والعناء هو الهلاك، ولامه واو فهما يشتبهان فى اللفظ، وبينهما ما ترى من المخالفة وقوله مضطلع، وزنه «مفتعل» من قولهم اضطلع الأمر، إذا نهض به وقوله «مطّلع» وزنه «مفتعل» من اطّلع على الشىء إذا أشرف عليه، فهذا ما أردنا ذكره فى كيفية رد العجز على الصدر على هذه الكيفيات المختلفة، وقد عدّ علماء البيان فى ذلك أنواعا كثيرة لم ترد فى كلام البلغاء فأعرضنا عن ذكرها كما أعرض عنها غيرنا من أرباب هذه الصناعة وبالله التوفيق.

الصنف الخامس لزوم ما لا يلزم

الصنف الخامس [لزوم ما لا يلزم] ويقال له الإعنات، ويرد فى المنظوم والمنثور من الكلام، ومعناه فى لسان علماء البيان أن يلتزم الناظم قبل حرف الروى حرفا مخصوصا، أو حركة مخصوصة من الحركات قبل حرف الروى أيضا، وهكذا القول فى الرّدف، فإنه يجعله على حد حرف متماثل، وهكذا إذا ورد فى النثر يكون على هذه الطريقة كما سنوضحه بالأمثلة، فحاصل الأمر فى لزوم ما لا يلزم، هو أن يلتزم حرفا مخصوصا قبل حرف الروى من المنظوم أو حركة مخصوصة، فما هذا حاله إذا التزمه الناثر أو الناظم فهو إعنات لنفسه وكد لقريحته، وتوسع فى فصاحته وبلاغته، وإن خالفه فلا عيب عليه فى ذلك، وكان له فى تغييره مندوحة بخلاف ما إذا كان قبل حرف الروى ردفا وهو الواو والياء، فإن ما هذا حاله لا يجوز تغييره إلى غيره، فلا يقال إنه من باب لزوم ما لا يلزم، بل لازم للناثر والناظم أن يأتى به على حاله، خلا أنه يجوز معاقبة الواو للياء، ومعاقبة الياء للواو ولا يجوز معاقبة الألف لهما، فعلى هذا يجوز عمود، وشديد، ولا يجوز ميعاد، فى تقابل الأسجاع، ولهذا جاء قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) [العاديات: 6- 8] فحرف الردف ليس من باب لزوم ما لا يلزم، بل هو لازم بكل حال، فإذا عرفت هذا فلنورد أمثلته لينكشف أمره، فمما جاء منه فى التنزيل قوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [الطور: 1- 2] وقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) [العلق: 1- 2] وقوله تعالى: فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) [الطور: 29- 30] وقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [الواقعة: 27- 29] وقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) [الأنفال: 39- 40] وقوله تعالى: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) [مريم: 45- 46] وهذا الأسلوب فى القرآن على القلة، وما

ذاك إلا لأنه غير لازم من الإتيان به فى البلاغة والفصاحة، وقد عاب ابن الأثير على من قال إن قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) [الطور: 17- 18] من باب لزوم ما لا يلزم لما ذكرناه، من أن حرف الروى يجب التزامه بكل حال على الناثر والناظم، فلا يعد من هذا الباب، وإنما يعد قوله تعالى: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) [ق: 27- 28] وهذا بعينه يعد فى أمثلة لزوم ما لا يلزم، ومن السنة النبوية قوله عليه السلام: فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك، ومن ذلك قوله: وليحسن عمله، وليقصر أمله، وقوله صلّى الله عليه وسلّم فلا يغنى عنكم 7 لا عمل صالح، قدمتموه، أو حسن ثواب حزتموه، وقوله: تبوّئهم أجداثهم وتأكل تراثهم وقوله: حسنت خليقته وصلحت سريرته، وقوله: إن أفضل الناس عبد، أخذ من الدنيا الكفاف، وصاحب فيها العفاف، ومنه قوله فى صفة الدنيا: واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة فى كلامه، ولا تكاد توجد فى السنة إلا على القلة كما ذكرنا أنه فى القرآن قليل، ومن طلبه فيها وجده، ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى مثاله، وكلامه مملوء منه، منه فى صفة الموت: فكأن قد أتاكم بغتة، فأسكت نجيّكم وفرق نديّكم، وعفّى آثاركم، وعطّل دياركم، وبعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم، وقال فى صفة التقوى: وهى عتق من كل ملكة ونجاة من كل هلكة، ومن ذلك قوله: واعلموا أنكم فى زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل، وقال فى خطبة: لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، وقوله فى وصف الفتنة وأهلها: قوم شديد كلبهم قليل سلبهم، وقوله عليه السلام فى صفة الدنيا: قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود، وصادفتموها والله كالطلح المنضود، ومن ذلك ما ورد فى كلام البلغاء وهذا كقول عمر رضى الله عنه: ولا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا، ومن ذلك ما قاله ابن الأثير فى ذم رجل يوصف بالجبن: إذا نزل به خطب ملكه الفرق، وإذا ضل فى أمر لم يؤمن إلا إذا أدركه الغرق، فمراعاة الراء قبل القاف من باب لزوم ما لا يلزم كما قررناه أولا، ومن ذلك قوله أيضا فى كتاب إلى بعض إخوانه: الخادم يهدى من دعائه وثنائه ما يسلك أحدهما سماء والآخر أرضا، ويصون أحدهما نفسا والآخر عرضا، فالتزام الراء قبل الضاد لزوم ما لا يلزم، ومن ذلك ما قاله فى كتاب آخر له: ومهما شدّ به

عضد الخادم من الإنعام فإنه قوة لليد التى خولته، ولا يقوى تصعّد السحب إلا بكثرة غيثها الذى أنزلته، وغير خاف أن عبيد الدولة لها كالعمد من طرافها، ومركز الدائرة من أطرافها، ولا يؤيد السيف إلا بقائمة، ولا ينهض الجناح إلا بقوادمه، فهذه الفواقر كلها من باب لزوم ما لا يلزم، ومن ذلك ما قالته امرأة لقيط بن زرارة تثنى عليه بعد قتله، واستخلافها لغيره إنه خرج يوما وقد تطيب وشرب فطرد البقر وصرع منها، ثم أتانى وبه نضح دم فضمّنى ضمة، وشمّنى شمة، فليتنى مت ثمّة، فهذا الكلام من الباب الذى نحن بصدده، ومن المنظوم ما قاله ابن الرومى وكان من أكثر الناس ولعا بلزوم ما لا يلزم فى أشعاره «1» : لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلّا فما يبكيه منها وإنّه ... لأوسع مما كان فيه وأرغد إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنّه ... بها سوف يلقى من أذاها يهدّد فإلزام حركة الفتح قبل حرف الروى من باب لزوم ما لا يلزم كما مر تقريره وقال المعرى «2» : ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا يحطّمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد له السّبك وقال فى الحريريات: من ضامه أو ضاره دهره ... فليقصد القاضى فى صعده سماحه أزرى بمن قبله ... وعدله أتعب من بعده وهذا وأمثاله من باب لزوم ما لا يلزم فى الحركة والحرف جميعا كما ترى، ومن أبيات الحماسة قوله: إن التى زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها حجبت تحيّتها فقلت لصاحبى ... ما كان أكثرها لنا وأقلّها فإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها

الصنف السادس فى ذكر اللف والنشر

الصنف السادس فى ذكر [اللف والنشر] وهو فى لسان علماء البيان عبارة عن ذكر الشيئين على جهة الاجتماع مطلقين عن التقييد ثم يوفّى بما يليق بكل واحد منهما اتكالا على أن السامع لوضوح الحال يرد إلى كل واحد منهما ما يليق به، وهو فى الحقيقة جمع ثم تفريق، واشتقاقهما من قولهم: لف الثوب إذا جمعه، ونشر الثياب إذا فرقها، ومنه قوله تعالى: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: 28] أى يفرقها فى عباده على قدر ما يعلمه من الصلاح، ومثاله من التنزيل قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] فجمع بين الليل والنهار بواو العطف، ثم بعد ذلك أضاف إلى كل واحد منهما ما يليق به، فأضاف السكون إلى الليل، لأن حركات الخلق تسكن ليلا لأجل النوم، ثم قال بعد ذلك وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أضافه إلى النهار، لأن ابتغاء الأرزاق إنما يكون نهارا بالتصرف والاضطراب، واكتفى فى الإضافة بما يعلم من ظاهر الحال، وهو أن السكون مضاف، إلى الليل، لما فيه من الاستراحة بترك التصرفات، وأن الابتغاء مضاف إلى النهار لما يظهر فيه من الحركة، ولم يقل جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، والنهار لتبتغوا من فضله، إيثارا لما يظهر فى اللف بعده النشر، من البلاغة وحسن التأليف، ومنه قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] فقوله وقالوا أراد به اليهود والنصارى فجمعهما فى الضمير ولفهما بذكره، ثم إنه نشرهما بعد ذلك بقوله: مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى والتقدير فيه وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، فجمعه بما ذكرنا، ثم فصله ولم يقل ذلك كل واحدة من الطائفتين، بل أراد التكرير كما أشرنا إليه، ومن السنة النبوية قوله صلى الله عليه وآله: فإن المرء بين يومين يوم قد مضى أحصى فيه عمله فحتّم عليه. ويوم قد بقى لا يدرى لعله لا يصل إليه، فقوله بين يومين، يكون من اللف، لاشتمالهما على ما

يكون ماضيا ومستقبلا، وهذه هى فائدة اللف ثم إنه نشرهما بعد ذلك بقوله: يوم قد مضى أحصى فيه عمله، فهذا يتناول الماضى، ويوم قد بقى لا يدرى ما يفعل فيه، وهذا يتناول المستقبل، فهذه هى حقيقة اللف والنشر كما قررناه، ولو لم يرد اللف والنشر لقال فيه: إن المرء بين يومين، يوم قد مضى ويوم قد بقى، وهو إذا كان على هذه الصورة لم يكن من هذا الباب فى ورد ولا صدر، ومن هذا قوله صلى الله عليه وآله: وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فلفّ الليل والنهار جميعا، ثم فصّل أحكامهما بعد ذلك، وهذا إنما يكون لفا ونشرا إذا كان بلى أحدهما مخالفا لبلى الآخر، وهكذا حال التقريب، فأما إذا تماثلا فليس منه، وفيه تعسف، والأحق فى المثال غيره، ولو لم يرد اللف والنشر لقال: وقد رأيتم الليل كيف يبلى كل جديد ويقرب كل بعيد ويأتى بكل موعود، ورأيتم النهار كيف يبلى كل جديد ويقرب كل بعيد ويأتى بكل موعود لم يكن من باب اللف والنشر، ومن ذلك قوله عليه السلام: إنما يؤتى الناس يوم القيامة من إحدى ثلاث، إما من شبهة فى الدين ارتكبوها، أو شهوة للذة آثروها، أو عصبية لحمية أعملوها، فإذا لاحت لكم شبهة فاجلوها باليقين، وإذا عرضت لكم شهوة فاقمعوها بالزهد، واذا عنت لكم عصبية فادرأوها بالعفو، فانظر أيها المتأمل ما حواه هذا الكلام من لطائف الإجمال والتفصيل، واشتمل عليه من محاسن اللف والنشر، ومن تأمل كلامه عليه السلام وجد فيه ما يكفى ويشفى من ذلك. ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه قوله: وما أعد الله للمطيعين منهم والعصاة من جنة ونار وكرامة وهو ان، فقوله للمطيعين والعصاة هذا هو اللف وقوله من جنة ونار أراد الجنة لأهل الطاعة والنار لأهل المعصية وقوله كرامة وهوان، أراد الكرامة لأهل الطاعة والهوان لأهل المعصية، فما هذا حاله يطلق اتكالا على قريحة السامع فى رد كل شىء إلى ما يليق به، ومن ذلك قوله عليه السلام: الناس ثلاثة، عالم ربانى، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، فأشار بقوله ثلاثة إلى اللف، ثم نشره بعد ذلك بما أشار إليه من التفاصيل. ومن الأمثلة فى المنظوم، ما قاله بعض الشعراء:

ألست أنت الذى من ورد نعمته ... وورد حشمته أجنبى وأغترف فقوله: أجنى وأغترف نشر لما تقدم من اللف فقوله أجنى بيان للورد الذى استعاره للنعمة. وقوله أغترف بيان للورد الذى استعاره للحشمة، ومن الحريريات قوله: وبنوها ومغاني ... هم نجوم وبروج فالنجوم للأبناء، والبروج للمغانى. وقوله: وكم من قارىء منها وقارى ... أضرّا بالجفون وبالجفان فقوله بالجفون، راجع إلى القارىء لما يحصل من الخشوع ولين القلب بقراءته، وقوله بالجفان راجع إلى القارى من القرى، فلفهما أولا، ثم نشرهما بعد ذلك. ومن ذلك ما قاله ابن الرومى «1» : آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم فيها معالم للهدى ومصالح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم تم الجزء الثانى ويليه الجزء الثالث وأوله الصنف السابع التخييل

الجزء الثالث

الجزء الثالث [تتمة الفن الثانى من علوم هذا الكتاب وهو فن المقاصد اللائقة] [تتمة باب الرابع من فن المقاصد في ذكر أنواع البديع وبيان أقسامه] [تتمة النمط الاول ما يتعلق بذكر الفصاحة اللفظية وبيانها] الصنف السابع التخييل اعلم أن هذا النوع من علم البديع من مرامى سهام البلاغة المسددة، وعقد من عقود لآليه وجمانه المبددة، كثير التدوار فى كتاب الله تعالى، والسنة الشريفة، لما فيه من الدقة والرموز، واستيلائه على إثارة المعادن والكنوز، ومن أجل ذلك ضل من ضل من الجبرية بسبب آيات الهدى والضلال، وعمل من أجله على الانسلاخ عن الحكمة والانسلال، وزل من زل من المشبهة باعتقاد التشبيه، وزال عن اعتقاد التوحيد باعتقاد ظاهر الأعضاء والجوارح فى الآى فارتطم فى بحر التمويه، فهو أحق علوم البلاغة بالإتقان، وأولاها بالفحص عن لطائفه والإمعان، ولو لم يكن فى الإحاطة به إلا السلامة عما ذكرناه من زيغ الجهال، والخلاص عن ورط الزيغ والضلال، لكان ذلك بغية النظار والضالة التى يطلبها غاصة البحار، فضلا عما وراء ذلك من درر مكنونة، وأسرار مودعة فيه مخزونة، ومن ثم قال الشيخ النحرير محمود بن عمر الزمخشرى نوّر الله حفرته: ولا نرى بابا فى علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب ولا أنفع لى عونا على تعاطى المشتبهات من كلام الله تعالى وكلام الأنبياء، ولعمرى لقد قال حقا ونطق صدقا. ثم أقول: إن السبب فى حسن موقعه فى البلاغة هو ما اختص به هذا النوع من كونه موضوعا على تشبيه غير المحسوس بالمحسوس، كقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] إلى غير ذلك وفى ذلك من البلاغة ما لا يخفى، فلأجل ما ذكرناه كان واقعا فى أرفع موضع، فلا جرم إن نحن خصصناه بازدياد بسط وتكثير أمثلة، وسببه ما نبهنا عليه من عظم قدره، وعلو شأنه، وظهور أمره، والتخييل مصدر من قولك تخيلت الأمر إذا ظننته على خلاف ما هو عليه، أو من قولك: خيلت فيك خيرا إذا ظننته فيه، فهو مصدر لهذين الفعلين كما ترى، ومنه الخيال، وهو خشبة توضع عليها ثياب سود تنصب للطير والبهائم فتظنه إنسانا فتبعد عنه وتهابه، قال الشاعر: أخى لا أخا لى بعده غير أننى ... كراعى خيال يستطيف بلا فكر فنذكر معناه ثم نذكر أمثلته، فهذان تقريران:

التقرير الأول فى بيان معناه

التقرير الأول فى بيان معناه وله فى اصطلاح علماء البيان تعريفات ثلاثة: التعريف الأول ذكره الشيخ عبد الكريم صاحب التبيان قال: هو تصوير حقيقة الشىء حتى يتوهم أنه ذو صورة تشاهد، وأنه مما يظهر فى العيان، ومثله بقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] . التعريف الثانى ذكره المطرزى وحاصل ما قاله: هو أن تذكر ألفاظا لكل واحد منها معنيان، أحدهما قريب، والآخر بعيد، فإذا سمعه الإنسان سبق فهمه إلى القريب، ومراد المتكلم فهم البعيد، وهذا كقوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29] فالظاهر الذى يسبق من هذا الكلام هو الروح المتردد فى الخلق، وليس مقصودا ههنا، وإنما المقصود روح الحياة، وهكذا ما أشبهه من قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] وغيره. التعريف الثالث أن يقال هو اللفظ الدال بظاهره على معنى، والمراد غيره على جهة التصوير، فقوله: «هو اللفظ الدال على معنى بظاهره» ، يحترز به عن اللفظ المشترك، فإنه غير دال على معنى بظاهره فإنه لا ظاهر فيه، وإنما دلالته على جهة البدلية وقوله: «والمراد غيره» ، يحترز به عن البصر، فإنه دال على معنى بظاهره وهو المراد بنفسه لا يراد غيره. وقوله: «على جهة التصوير» ، يحترز به عن سائر المجازات كلها، فهذا أقرب لفظ يؤنس بذكر معناه ويضبطه، فأما ما ذكره المطرزى فليس على جهة التحديد، وإنما هو وارد على جهة شرح أحكامه وضبطها. وعلى الجملة فإنه متميز فى نفسه عن سائر أنواع علم البديع بما أشرنا إليه، وهو ما يكسب الكلام الفصاحة والبلاغة والبيان، ويلحق مرأى البصيرة بمرأى البصر والعيان.

التقرير الثانى فى بيان أمثلته

التقرير الثانى فى بيان أمثلته وهى واسعة الخطو ممتدة الحواشى فى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وكلام البلغاء كأمير المؤمنين كرم الله وجهه وغيره من أرباب البلاغة الذين خاضوا بحر عمانها، وغاصوا على لآلئها ومرجانها، وميزوا فيها بين خرزها وجمانها، وحصلها ومجانها، وفصلوا منها بين هجينها وهجانها، فمن أمثلة التنزيل قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة: 64] وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] وقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) [الرحمن: 27] وقوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَ [ص: 75] وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] وقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29] وقوله تعالى: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] إلى غير ذلك من الآيات الموهمة بظاهرها للأعضاء والجوارح، فإذا قام البرهان العقلى على استحالة هذه الأعضاء على الله تعالى وأنه منزه عن جميع أنواع التشبيهات المكونات الجسمية والعرضية وتوابعهما كالكون فى الجهات، والأعضاء والجوارح، والحلول والمجىء والذهاب وغير ذلك من توابع الجسمية والعرضية، فلا بد من تأويل هذه الظواهر على ما تكون موافقة للعقل، وإعطاء للبلاغة حقها لأن مخالفة العقل غير محتملة، وحمل الكلام على غير ظاهره محتمل، وتأويل المحتمل أحق من تأويل غير المحتمل، فلهذا وجب تأويلها، وللعلماء فى تأويلها مجريان: فالمجرى الأول الذى ينتجه علماء الكلام من الزيدية والمعتزلة وغيرهم من المنزهة، وهو أنهم يتأولون هذه الظواهر على تأويلات وإن بعدت حذرا عن مخالفة العقل، واغتفر بعدها لأجل مخالفة العقل، ويعضدون تأويلاتهم بأمور لغوية، فيقولون المراد باليد النعمة، وإن المراد بالعين العلم، إلى غير ذلك، وحملهم لها على هذه التأويلات لما لم يأنسوا بشىء من علوم البيان، ولا ولعوا بشىء من مصطلحاته، فجاءوا بهذه التأويلات الركيكة التى يأنف منها كل محصّل، ويزدريها نظر أهل البلاغة. المجرى الثانى وهو الذى عول عليه علماء البلاغة والمحققون من أهل البيان، وهى أنها جارية على نعت التخييل، فهى فى الحقيقة دالة على ما وضعت له فى الأصل، لكن معناها غير متحقق، وإنما هو أمر خيالى، فاليد مثلا دالة على الجارحة، والعين كذلك لكن تحقق

اليد والعين فى حق الله تعالى غير معقول، ولكنه جار على جهة التخيل، كمن يظن شبحا من بعيد أنه رجل فإذا هو حجر، ومن يتخيل سوادا أنه حيوان فإذا هو شجر، إلى غير ذلك من الخيالات، فما هذا حاله من التأويلات أسهل على الفؤاد وأجرى وأدخل فى البلاغة من التأويلات البعيدة التى لا يعضدها عقل، ولا يشهد بصحتها نقل، ثم أثر عن هذيان الأشعرية أن المراد بهذه الأعضاء صفات أخبر عنها باليد، والعين، والجنب، وسائر الأعضاء، فما هذا حاله لا دلالة عليه، وأبعد من هذا تهويس المشبهة من أن المراد بها ظاهرها من الأعضاء والجوارح. والرد عليهم إنما يليق بالكتب الكلامية، وقد أوردنا هذه المسألة فى الكتب العقلية وزيفنا هذه الآراء، وأبطلنا هذه الأهواء فليطالع من هناك. ومن الأمثلة الواردة فى السنة النبوية: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله» «1» ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يد الفقير يد الله، فمن أعطى الفقير فكأنما يعطى الله» ، وقوله عليه السلام: «الحجر الأسود يمين الله فى الأرض» «2» ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما ورد فى (صحيح البخارى) فى صفة النار: «وإن الجبار يضع قدمه فى النار» ، والمراد به غير الجارحة، أى من سلف من الأمم الماضية الخارجين عن الدين بإنكار القيامة والمعاد الأخروى، وإن أريد به الجارحة كان من باب التخييل، فهذه الأخبار وما شاكلها مما يدل على الأعضاء والجوارح يجب حمله على ما ذكرناه من التخييل. لا يقال فبأى شىء تكون التفرقة بين تأويل المتكلمين لظواهر هذه الآى وظواهر هذه الأخبار الدالة على الأعضاء والجوارح، وبين تأويل علماء البيان لهذا إذا حملوها على التخييل كما ذكرتم، لأن كل واحد منهما يكون تأويلا لا محالة، لأنا نقول التفرقة بينهما ظاهرة، فإن المتكلمين حملوها على تأويلات بعيدة، واغتفروا بعدها حذرا من مخالفة الأدلة العقلية، وكان بعدها عندهم أهون من مخالفة العقل، حيث كان دالا على التنزيه دلالة قاطعة. فأما علماء البيان فإنهم وضعوها على معانيها اللغوية فى كونها دالة على هذه الجوارح، لكنهم قالوا إن الجارحة خيالية غير متحققة، فلا جرم كان تأويلا منهم لها على ذلك، ولهذا كان تأويلهم لها أقرب لما كانت دالة على ما وضعت له فى الأصل من غير عدول ولا مخالفة، وإن جاءت المخالفة من جهة أن الجارحة خيالية دون أن تكون حقيقية،

فهذه هى التفرقة بين التأويلين. ومن الأمثلة ما ورد عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وهذا كقوله عليه السلام: «الحمد لله الفاشى حمده، الغالب جنده، المتعالى جده» . وقوله: «الذى بعد فنأى، وقرب فدنا، وعلا بحوله، ودنا بطوله» ، وقوله: «والسموات ممسكات بيده مطويات بيمينه سبحانه وتعالى» ، وقوله: «ناصيتى بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك» . وقوله عليه السلام: «فاتقوا الله الذى أنتم بنعمته ونواصيكم بيده، وتقلبكم فى قبضته» . ومن الأمثلة فى كلام البلغاء قول بعضهم: رأيت عرابة الأوسىّ يسمو ... إلى العلياء منقطع القرين إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين «1» فليس الغرض باليمين ههنا الجارحة على جهة الحقيقة، وإنما أراد ما يكون على جهة التخييل كما مرّ بيانه، وفى «الحريريات» قوله: يا قوم كم من عاتق عانس ... ممدوحة الأوصاف فى الأنديه قتلتها لا أتّقى وارثا ... يطلب منى قودا أودية فقوله العانس، والقتل، يظن من جهة الظاهر أن غرضه البكر، وليس غرضه ذلك وإنما أراد الخمر، فالعانس هى التى يكثر مقامها مع أبويها، استعاره للخمر، والقتل هو إزهاق الروح، وأراد به ههنا مزجها، ومنه قوله أيضا «لم يزل أهلى وبعلى يحلون الصدر ويمتطون الظهر ويولون اليد، فلما أردى الدهر الأعضاد، وفجع بالجوارح والأكباد، وانقلب ظهرا لبطن نبا الناظر، وجفا الحاجب، وصلد الزّند، ووهت اليمين، وبانت المرافق، ولم يبق لنا ثنية ولا ناب» ، فليس المراد بهذه الأشياء هى الجوارح كما هو المفهوم من ظاهرها، وإنما أراد الجدب على جهة الخيال، ولم يرد حقيقتها كما مر فى غيره من المواضع.

الصنف الثامن الاستطراد

الصنف الثامن الاستطراد وهو نوع من علم البلاغة دقيق المجرى، غزير الفوائد، يستعمله الفصحاء، ويعول عليه أكثر البلغاء، وهو قريب من الاعتراض الذى قدمنا ذكره، خلا أن الاعتراض منه ما يقبح، ويحسن، ويتوسط، بخلاف الاستطراد فإنه حسن كله، ومعناه فى مصطلح علماء البيان أن يشرع المتكلم فى شىء من فنون الكلام، ثم يستمر عليه فيخرج إلى غيره، ثم يرجع إلى ما كان عليه من قبل، فإن تمادى فهو الخروج، وإن عاد فهو الاستطراد، واشتقاقه من قولهم: أطرده السلطان، إذا أخرجه من بلده، لأن المتكلم يخرج من كلامه إلى كلام آخر كما ذكرناه. ومنه الحديث: «التهجد مطردة للحسد» ، أى أنه يخرج الحسد من الإنسان. أو يكون اشتقاقه من الاتساق. وفى حديث الإسراء: «فإذا هران يطردان منه طراد الفرسان» . وفى حديث ابن عباس حين تكلم أمير المؤمنين فى الخلافة فعرض له عارض فى أثناء الخطبة، فقال له ابن عباس: «لو أطردت مقالتك يا أمير المؤمنين» ، فقال: «يا ابن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت» ، ومعناه: لو اتسقت مقالتك الأولى. لأن المتكلم يرجع من كلامه الذى أدخله على كلامه الأول وينسقه عليه فيتلاءم ويتسق، فيمكن تقرير اشتقاقه على هذين الوجهين. وشبهه علماء البيان بمن يطرد صيدا ثم يعنّ له صيد آخر فيطرده، ثم يرجع إلى الأول فيشتغل به، ومنه الحديث: «كنت أطارد حية لأصيدها» «1» . ويقال له المطاردة أيضا، والألقاب قريبة لا يعرّج عليها. وتمام المقصود إنما يكون بذكر الأمثلة وإيرادها، لأن المثال هو تلو الماهية فى الإبانة عن حقيقة الشىء ومعرفة ذاته، فمن الأمثلة من كتاب الله تعالى: قوله عز وجل: أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) [هود: 95] فقوله: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) استطراد بعد ذكره مدين، لأنه عارض عند ذكره حال مدين، وما كان منهم من التكذيب للرسل، ثم قال «2» : وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [الأعراف: 101] فإن كانت الضمائر راجعة إلى مدين، فهو من باب الاستطراد كما ذكرناه، وإن كانت الضمائر، راجعة إلى ثمود فهو خروج، لأن حقيقة المطاردة خارجة عنه، ومنه

قوله تعالى: فى سورة المزمل قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) [المزمل: 2- 3] فقوله إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) [المزمل: 5] استطراد لأنه وسطه بين أوصاف الليل، وما ذكره من أحكامه، ثم رجع إلى حال الليل بعد ذكره بقوله: إِنَّا سَنُلْقِي وهذه هى فائدة الاستطراد ومعناه. ومنه قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 78- 79] فقوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ من الاستطراد الرائق لأنه خرج من ذكر الليل إلى ذكر قرآن الفجر ثم عاد بعده إلى ذكر الليل، وهذه هى فائدة الاستطراد وحقيقته، ومن تأمل آى التنزيل فإنه يجد فيها شيئا كثيرا من هذه الأمثلة. فأما الخروج من قصة إلى قصة وأسلوب إلى أسلوب آخر فعليه أكثر القرآن، ومن السنة النبوية قوله صلّى الله عليه وسلّم فى رواية جابر: أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح وهو بمكة يقول: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» «1» ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قاتل الله اليهود حرّمت عليهم شحومها فباعوه وجملوه» ، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة تطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام. فقوله: «قاتل الله اليهود» «2» من باب الاستطراد لأنه قطعه عن حديث ما قبله، ثم رجع إلى حديث ما كان تركه، وهذه هى فائدة الاستطراد، وقوله عليه السلام: «لا تكونوا ممن خدعته العاجلة وغرته الأمنية، واستهوته الخدعة فركن إلى دار سريعة الزوال، وشيكة الانتقال إنه لم يبق من دنياكم هذه فى جنب ما مضى إلا كإناخة راكب، أو صرّ حالب، فعلام تفرحون؟ وماذا تنتظرون؟، فكأنكم بما قد أصبحتم فيه من الدنيا كأن لم يكن، وبما تصيرون إليه من الآخرة لم يزل» فقوله: «فعلام تفرحون؟ وماذا تنتظرون؟» من الاستطراد، الذى أناف على الغاية فى الرشاقة والحسن وزاد، لأن ما قبله وما بعده ذكر الدنيا بما فيها من النفاد والزوال ولكنه وسطه على جهة الاستطراد، ثم رجع إلى ما شرع فيه من ذم الدنيا والإخبار عن نفادها وغرورها وزوالها. ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى الاستطراد فى بعض أيام صفّين: «معاشر المسلمين استشعروا الخشية وتجلببوا السكينة وعضّوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف فى أغمادها قبل سلها، والحظوا الخزر واطعنوا

الشزر، ونافحوا بالظّبا، وصلوا السيوف بالخطا، واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله فعاودوا الكر، واستحيوا عن الفر، فإنه عار فى الأعقاب، ونار يوم لحساب» . فقوله: «واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله» استطراد، ومنه قوله أيضا: «أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيّمها، وطال تأيمها، وورثها أبعدها، أما والله ما أتيتكم اختيارا، ولكن جئت إليكم سوقا، ولقد بلغنى أنكم تقولون: علىّ يكذب، قاتلكم الله فعلى من أكذب، أعلى الله فأنا أول من آمن به، أم على رسوله فأنا أول من صدقه، كلّا والله» ، فقوله: «قاتلكم الله» من الاستطراد الذى أخذ من الحسن حظا وافرا، وحل من البلاغة مكانا رفيعا. وما أشبه هذا الاستطراد فى كلامه هذا بقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) [المنافقون: 4] فإن ما هذا حاله فى الآية من أعجب الاستطراد وأرقه، وألطف معانيه وأدقه، ومن تتبع كلامه عليه السلام فى المواعظ والكتب فى الآداب والحكم وجد فيه من ذلك شفاء العلل من دائها وكفاية لتلك الأفئدة من حر رمضائها. ومن كلام البلغاء فى ذلك ما قاله بعض الشعراء: وأحببت من حبّها الباخلين ... حتى ومقت ابن سلم سعيدا إذا سيل عرفا كسا وجهه ... ثيابا من اللؤم بيضا وسودا فقوله: «حتى ومقت ابن سلم سعيدا» ، من الاستطراد لأنه صدر البيت بذكر كونه محبا لكل بخيل فصار أجنبيا، بالإضافة إلى ما صدر به الكلام، هكذا أورده عبد الكريم فى أمثلته، وليس منه لأن من حقه أن يكون واردا بين كلامين متلائمين، فأما عده فى الخروج لكونه مشتملا على معناه وحقيقته كما تراه فى ظاهره فهو جيد لا غبار عليه، بالإضافة إلى المقصد الذى قصده كما أوضحناه. ومن ذلك ما قاله السموءل بن عادياء «1» : وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول فقوله: «إذا ما رأته عامر وسلول» ، من باب الاستطراد لخروجه عما صدر به الكلام الأول. ومن ذلك ما قاله امرؤ القيس الطائى «2» : عوجا على الطلل المحيل لعلّنا ... نبكى الديار كما بكى ابن حذام

فقوله: «كما بكى ابن حذام» من باب الاستطراد لما خرج به عما كان عليه من صدر البيت. ومن ذلك ما قاله بكر بن النطاح يمدح أميره «1» : فأقسم لو أصبحت فى عزّ مالك ... وقدرته أغنى بما رمت مطلبى فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب فهذا وأمثاله من عجيب الاستطراد لأن قوله: «كما شقيت قيس بأرماح تغلب» كلام دخيل وارد على جهة الاستطراد، جمع فيه بين مدح الرجل بالكرم وقبيلته بالشجاعة والظفر وبين ذم أعدائهم بالضعف والجبن والخور، وهذا بديع فى سياقه وفائدته ومحصوله كما ترى والله اعلم.

الصنف التاسع التسجيع

الصنف التاسع التسجيع اعلم أن هذا النوع من علوم البلاغة كثير التّدوار، عظيم الاستعمال فى ألسنة البلغاء، ويقع فى الكلام المنثور، وهو فى مقابلة التصريع فى الكلام المنظوم الموزون فى الشعر كما سنقرره، ومعناه فى ألسنة علماء البيان: «اتفاق الفواصل فى الكلام المنثور فى الحرف أو فى الوزن أو فى مجموعهما» كما سنفصل أنواعه، واشتقاقه من قولهم: «سجعت الناقة» إذا مدت حنينها على جهة واحدة، ومنه سجع الحمامة إذا هدرت، فإن اتفقت الأعجاز فى الفواصل مع اتفاق الوزن سمى المتوازى كقوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) [الغاشية: 13- 14] وإن اتفقا فى الأعجاز من غير وزن سمى المطرف كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 13- 14] . وكقول بعض البلغاء: «من حسنت حاله استحسن محاله» . وإن اتفقا فى الوزن دون الحرف سمى المتوازن كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) [الغاشية: 15- 16] فإذا تقررت هذه القاعدة فلنذكر حكمه فى الاستعمال ثم نذكر شروطه، ثم نردفه بذكر أقسامه، ثم نذكر أمثلته فهذه فوائد أربع نفصلها بمعونة الله تعالى. الفائدة الأولى فى ذكر حكمه فى الاستعمال وفيه مذهبان: المذهب الأول جوازه وحسنه، وهذا هو الذى عول عليه علماء أهل البيان، والحجة على ذلك هى أن كتاب الله تعالى والسنة النبوية وكلام أمير المؤمنين مملوء منه وكلام البلغاء أيضا كما سنوضحه فى الأمثلة، فلو كان مستكرها لما ورد فى هذا الكلام البالغ فى الفصاحة كل مبلغ، ولأجل كثرته فى ألسنة الفصحاء لا يكاد بليغ من البلغاء يرتجل خطبة ولا يحرر موعظة إلا ويكون أكثره مبنيا على التسجيع فى أكثره، وفى هذا دلالة قاطعة على كونه مقولا مستعملا فى ألسنة الفصحاء فى المقامات المشهورة والمحافل المعهودة. المذهب الثانى استكراهه، وهذا شىء حكاه ابن الأثير، ولم أعرف قائله، ولا وجدته فيما طالعت من كتب البلاغة، ولعل الشبهة لهم فى استكراهه ما ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما أوجب فى الجنين غرة، عبدا أو أمة، فقال الذى أوجبها عليه «كيف تدى من لا شرب ولا

الفائدة الثانية فى بيان شروطه

أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك بطل» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أسجعا كسجع الكهان» «1» ، فأنكر السجع على من تكلم به، وفى هذا دلالة على استكراهه. والجواب أنا نقول إنه لم ينكر السجع مطلقا، وإنما أنكر سجعا مخصوصا وهو سجع الكهان، لأن أكثر أخبارهم عن الأمور الكونية، والأوهام الظنية، على جهة السجع وتطابق أعجاز الألفاظ كما تراه يحكى عن شق وسطيح، وغيرهما من الكهان، والمختار قبوله، ولو لم يكن جائزا فى البلاغة لما أتى عليه أفصح الكلام وهو التنزيل، ولما جاء فى كلام سيد البشر وكلام أمير المؤمنين، لأن هذه هى أعظم الكلام بلاغة وأدخلها فى الفصاحة، فلا يمكن ترك هذا الأسلوب من الكلام لقصة عارضة من جهة الرسول يمكن حملها على وجه لائق كما أشرنا إليه. الفائدة الثانية فى بيان شروطه اعلم أن المقصود بالتسجيع فى الكلام إنما هو اعتدال مقاطعه وجريه على أسلوب متفق، لأن الاعتدال مقصد من مقاصد العقلاء يميل إليه الطبع وتتشوق إليه النفس، لكنه لا يحسن كل الحسن، ولا يصفو مشربه إلا باجتماع شرائط أربع: الشريطة الأولى: ترجع إلى المفردات، وهى أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة المذاق رطبة طنانة، صافية على السماع حلوة طيبة رنانة، تشتاق إلى سماعها الأنفس، ويلذ سماعها على الآذان، مجنبة عن الغثاثة والرداءة، ونعنى بالغثاثة والرداءة أن الساجع يصرف نظره إلى مؤاخاة الأسجاع وتطابق الألفاظ، ويهمل رعاية حلاوة اللفظ وجودة التركيب وحسنه، فعند هذا تمسه الرداءة، وتفارقه الحلاوة ويصير فيما جاء به بمنزلة من ينظم عقدا من خزف ملون، أو ينقش بألوان الصباغ ثوبا من عهن، فهذه الشريطة لابد من مراعاتها، وإلا وقع مهملها فيما ذكرناه. الشريطة الثانية راجعة إلى التركيب، وهى أن تكون الألفاظ المسجوعة فى تركّبها تابعة لمعناها، ولا يكون المعنى فيها تابعا للألفاظ فتكون ظاهرة التمويه وباطنة التشويه، ويصير مثاله كمثال عمد من ذهب على نصب من خشب، أو كرة محلاة أو بعرة مذهبة مطلية،

الشريطة الثالثة: أن تكون تلك المعانى الحاصلة عن التركيب مألوفة غير غريبة ولا مستنكرة ولا ركيكة مستبشعة،

ومثال ذلك أنك إذا تصورت فى نفسك معنى من المعانى، فإنك إذا أردت أن تصوغه بلفظ مسجوع ولم يواتك ذلك، ولا سمحت قريحتك به إلا بزيادة فى ذلك اللفظ أو نقصان منه من غير حاجة إلى ذلك النقصان وتلك الزيادة، وإنما تأتى بالزيادة والنقصان من أجل تسوية السجع وإظهار جوهره لا من أجل المعنى، فما هذا حاله هو الذى يذم من التسجيع ويقبح، لما فيه من إصلاح اللفظ دون المعنى، ولما فيه من التكلف والتعسف المستغنى عنه، فأما إذا كان من غير تكلف فإنه يأتى فى غاية الحسن. الشريطة الثالثة: أن تكون تلك المعانى الحاصلة عن التركيب مألوفة غير غريبة ولا مستنكرة ولا ركيكة مستبشعة، لأنها إذا كانت غريبة نفرت عنها الطباع وكانت غير قابلة لها، وإذا كانت ركيكة مجتها الأسماع، فكل واحدة من السجعتين دال على معنى حسن بانفراده، لكن انضمام إحداهما إلى الأخرى هو الذى ينافر من أجل التركيب. الشريطة الرابعة: أن تكون كل واحدة من السجعتين دالة على معنى مغاير للمعنى الذى دلت عليه الأخرى، لأنه إذا يكون من باب التكرير فيكون على هذا لا فائدة فيه، فهذه الشرائط الأربع لابد من اعتبارها فى كل كلام مسجوع. الفائدة الثالثة فى ذكر أقسامه اعلم أن السجع منقسم إلى ما يكون طويلا، وإلى ما يكون قصيرا، فأما القصير فهو أوعر أنواع التسجيع مسلكا، وأصعبها مدركا، وأخفها على القلب، وأطيبها على السمع، لأن الألفاظ إذا كانت قليلة فهى أحسن وأرق، لأنها إذا كانت أطرافها متقاربة لذت على الآذان لقرب فواصلها ولين معاطفها، ومن هذا النوع القصير قوله تعالى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) [المرسلات: 1- 4] وقوله تعالى فى صدر سورة المدثر: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) [المدثر: 1- 7] وأقل ما يكون القصير من كلمتين لا غير، لأن ما نقص عن ذلك فليس مؤلفا مسجوعا، وأما الطويل فهو ما عدا ذلك، وكلما قلت كلماته وقرب من التعبير كان أحسن لما ذكرناه، وقد تكون السجعتان ثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وخمسا خمسا، وقد تزيد على ذلك حتى تنتهى إلى عشرين كلمة، ومع ذلك فليس له حد مضبوط، فمن الثلاثية قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) [النازعات: 6] ثم قال: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) [النازعات: 8] ومن الرباعية قوله تعالى:

الضرب الأول: ما تكون فيه الفقرتان متساويتين لا تزيد إحداهما على الأخرى،

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) [القمر: 1] ثم قال: وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) [القمر: 3] ومن الخماسية قوله تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) [القمر: 5- 6] ، ومن الطويل قوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) [هود: 9- 10] فالفقرة الأولى مبنية على إحدى عشرة كلمة، والفقرة الثانية مبنية على ثلاث عشرة كلمة، وأدخل منه فى التطويل قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) [الأنفال: 43- 44] فالفقرة الأولى تنيف على عشرين لفظة والفقرة الثانية قريب من هذه العدة، فإذا عرفت هذا فاعلم أن أعداد ألفاظ الفقر، وإن كانت على هذه العدة، لكنها منقسمة، بالإضافة إلى الأولى والثانية إلى ما تكون الفقرة الأولى مساوية للثانية، وإلى ما تكون عكس هذا، فهذه أضرب ثلاثة، نذكر ما يتوجه فى كل واحد منها. الضرب الأول: ما تكون فيه الفقرتان متساويتين لا تزيد إحداهما على الأخرى، وما هذا حاله فهو أعدل الأسجاع قواما، وأجودها اتساقا وانتظاما وأعلاها مكانا، وأوضحها بيانا، وأمثاله فى القرآن كثير، وهذا كقوله تعالى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى: 9- 10] وقوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) - العاديات 1- 5] . الضرب الثانى: أن تكون الفقرة الثانية أطول من الأولى بغاية قريبة، فإن طالت فهو غير محمود، وهذا كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) [الفرقان: 11- 13] فالفقرة الأولى عدتها ثمانى كلمات، والفقرة الثانية والثالثة كل واحدة منهما تسع كلمات وقوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) [مريم: 89- 90] فالثانية أطول من الأولى كما تراه ظاهرا، نعم إنما يقبح أن تكون الفقرة الثانية أطول من الأولى

الضرب الثالث: أن تكون الفقرة الثانية أقصر من الأولى

طولا كثيرا إذا كان سجعتان، والثانية طويلة طولا عظيما، فأما إذا كان السجع على ثلاث فقر وكانت الفقرتان الأوليان فى عدة واحدة وتقارب، ثم يؤتى بالثالثة فعلى هذا التقدير يغتفر طول الثالثة، وإن كان كثيرا زائدا على الغاية، والسر فى ذلك هو أن الفقرتين الأوليين قد تنزلتا لقصرهما منزلة فقرة واحدة فلا جرم اغتفر طولها، وليس حتما أن تكون الثالثة فى الثلاث السجعات طويلة، بل ربما تكون الثلاث كلها متساوية، وهذا كقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) [الواقعة: 27- 30] فهذه السجعات كلها متساوية المقدار فى أن كل واحدة منها على فقرتين فقرتين من غير زيادة، ولو طالت الثالثة طولا كثيرا لم يكن معيبا، فلهذا كان الأمران سائغين فيهما. الضرب الثالث: أن تكون الفقرة الثانية أقصر من الأولى عكس ما ذكرناه فى الضرب الثانى، وما هذا حاله من أفانين التسجيع فهو معيب عند فرسان هذه الصناعة، ومتّرك حاله بين الجهابذة من أهل البراعة، والسر فى ذلك ما يجده الإنسان من التفرقة الحسية فى الفطرة الغريزية، وهو أن الفقرة الأولى إذا كانت طويلة فإن السجع يكون مستوفيا لمطلوبه وحاصلا على كنه مقصوده، فإذا كانت الفقرة الثانية ناقصة صار المطلوب ناقصا وانخرم ما كان يتوقعه من المماثلة بينهما والملاءمة، ويصير كالشىء المنقطع الميتور، وكمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها. فهذا تقرير تقسيم السجع على ما ذكرناه من هذه الضروب. فالضرب الأول هو أعدلها، والضرب الثالث أبعدها، والضرب الثانى أوسطها فى التعديل، ولا يكاد يوجد الضرب الثالث فى القرآن، وإنما الكثير فيه هما الضربان الآخران لما ذكرناه من العيب فيه، وكتاب الله تعالى منزه عنه. الفائدة الرابعة فى بيان الأمثلة فى التسجيع قد وضح لك مما ذكرناه أن السجع من أرفع مراتب الكلام، وأعلاها وأجل علوم البلاغة وأسناها، ولهذا اختص به من بين سائر الأساليب البلاغية التنزيل، وأحاط بطويله وقصيره وكان الحسن فيه على أحسن هيئة وتنزيل، لا يقال فإذا كان التسجيع فى الكلام على ما ذكرتموه من علو شأنه، وارتفاع قدره ومكانه، فكيف لم يأت القرآن كله مسجوعا؟ وليس الأمر كذلك، فإن بعضه مسجوع وبعضه غير مسجوع، وأكثره وارد على جهة السجع، لأنا نقول إنما ورد على الأمرين جميعا لأمرين، أما أولا فلأن القرآن

إنما جاء مؤذنا بالإيجاز وبلوغ الغاية فى الاختصار، فلو أتى كله مسجوعا لأبطل إيجازه واختصاره، لأن السجع إذا كان ملتزما فى جميع المواضع كلها، فقد لا يتواتى الإيجاز معه والاختصار، فلهذا كان على الأمرين جميعا، وأما ثانيا: فلأن الكلام المسجع أفصح وأبلغ من غير المسجع، فإتيان ما ليس مسجوعا فى القرآن يؤذن مع كونه غير مسجوع أنه فى غاية الإعجاز مع عدم السجع وفى هذه دلالة على إعجازه من كل الوجوه، وقد ورد فيه التسجيع فى الطويل، والقصير، والمتوسط، فمن القصير قوله تعالى: فى سورة النجم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) [النجم: 1- 7] فأكثر السورة وارد على قصير السجع، وأما الطويل فكقوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) [الفرقان: 12- 13- 14] فانظر كم نظم كل واحدة من الفقرتين من الألفاظ. ويرد الطول فى السجع على أكثر ما ذكرناه ههنا حتى ينتهى إلى عشرين كلمة أو أكثر كما مر. وأما المتوسط فكقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) [الأعلى: 1- 7] إلى غير ذلك من الأساجيع المتوسطة التى ليست طويلة ولا قصيرة، ولا حاجة بنا إلى تكثير الأمثلة السجعية من القرآن، لأنها أكثر من أن تحصى بعدّ، أو تحصر بحدّ. فأما ما ورد من القرآن غير مسجوع فهو كثير، لكنه بالإضافة إلى ما هو مسجوع منه قليل كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) [الانفطار: 6- 9] فانظر إلى اختلاف رءوس هذه الآى كيف أتى من غير تسجيع، وما ذاك إلا لأجل السر الذى ذكرناه. فأما الأمثلة الواردة فى السنة النبوية فى التسجيع فهى كثيرة واسعة، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هو أوضح دليل، إلى خير سبيل» ، وقوله عليه السلام: «ألا وإن من علامات العقل التجافى عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور» ، وقوله: «وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود» وقوله عليه السلام: واعلموا أنكم عن قليل راحلون، وإلى الله صائرون، فلا يغنى عنكم هناك إلا عمل صالح

قدمتموه، أو حسن ثواب حزتموه، إنكم إنما تقدمون على ما قدمتم، وتجازون على ما أسلفتم، فلا تخدعنّكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية. إلى غير ذلك، فأما الأمثلة من كلام أمير المؤمنين فهى كثيرة، وله فيه اليد البيضاء والقدم السابقة، منها قوله فى خطبته الغراء: «الحمد لله الذى علا بحوله، ودنا بطوله، مانح كل غنيمة وفضل، وكاشف كل كريهة وأزل، أحمده على عواطف كرمه، وسوابغ نعمه وأومن به أولا باديا، وأستهديه قريبا هاديا، وأستعينه قاهرا قادرا، وأتوكل عليه كافيا ناصرا» ، ثم قال بعد ذلك: «أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذى ضرب لكم الأمثال، ووقت لكم الآجال، وألبسكم الرياش، وأرفغ لكم المعاش» ، ثم قال فيها: «فإن الدنيا رنق مشربها، ردع مشرعها مونق منظرها موبق مخبرها، غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل» إلى غير ذلك من الكلام الذى تواخى سجعه، وعظم فى القلوب وقعه، وكثر إن صادف قلوبا واعية نفعه. فهذا ما يتعلق بالسجع القصير، وهو أكثر ما يكون فى الكتب والمواعظ والخطب المنسوبة إليه، وهو أضيق مسالك التسجيع كما مر بيانه ولكنه غير ضيق عليه لما أوتى من كنوز البلاغة ما إن مغالقه ليصعب على أكثر الخلق فتحها ثم قال «عباد الله الذين عمروا فنعموا، وعلموا ففهموا، ونظروا فلهوا وسلموا فنسوا، أمهلوا طويلا ومنحوا جميلا، وحذروا أليما ووعدوا جسيما، احذروا الذنوب المسخطة، والعيوب المورّطة، يا أولى الأبصار والأسماع، والعافية والمتاع، هل من خلاص، أو مناص، أو معاذ، أو ملاذ أو فرار أو مجاز، فأنى تؤفكون، أم أين تصرفون، أم بماذا تغترون» . فأما كلامه فى التطويل والمتوسط فهو كثير، ولنكتف بما ذكرناه من كلامه التقصير. فأما ما كان من البلغاء فى ذلك فلهم كلام واسع بليغ من التسجيع كالذى يكون فى المقامات الحريرية، والخطب النّباتية، وكلام ابن الجوزى فى مواعظه إلى غير ذلك فإن من يطالع هذه الكتب وغيرها فإنه يجد فيها من أفانين السجع وذكر أنواعه المختلفة ما يقنع الناظر وينشط الفاتر.

الصنف العاشر التصريع

الصنف العاشر التصريع اعلم أن التصريع فى المنظوم نظير التسجيع من كل كلام منثور، فإن التصريع إنما يرد فى الشعر لا غير، والسجع مخصوص بالمنثور، ومعناه فى الشعر أن يكون عجز النصف من البيت الأول من القصيدة مؤذن بقافيتها، فمتى عرفت تصريعها عرفت قافيتها، وأكثر ما يرد فى أشعار المتقدمين، وربما استعمله ناس من المتأخرين، ومن استعمله ممن تقدم أو تأخر فإنه دال على سعته فى فصاحته، واقتدار منه فى بلاغته، وهو إنما يحسن إذا كان قليلا فى القصيدة بحيث يكون جاريا مجرى الطراز للثوب، والغرة فى وجه الفرس، فأما إذا كان كثيرا فإنه لا يكاد يرضى لما يظهر فيه من أثر الكلفة فيكسب لفظه برودة ومعناه ركة، وظاهر كلام أبى بكر بن السراج أن التصريع إنما يكون إذا كان عروض النصف الأول مطابقا لعروض النصف الثانى، وتلك الموافقة إنما كانت لأجل التصريع، فأما إذا كان توافقهما لمعنى آخر غير التصريع فإنه ليس تصريعا، وإنما هو كلام مقفى وليس مصرعا، وظاهر كلام غيره أنه يكون مصرعا إذا حصل التطابق على كل حال، وما ذكره ابن السراج أحسن، ولهذا فإنه إذا كثر لم يكن حسنا، لأنه لا يظهر فيه أثر الكلفة إذا كان بالاعتبار الذى ذكره لا غير، ويرد على مراتب مختلفة متفاوتة فى الكمال والنقصان، ونحن نشير إلى درجاته بمعونة الله تعالى. الدرجة الأولى [أن يكون كل مصراع من البيت مستقلا بنفسه فى فهم معناه] منه وهى أعلى مراتب التصريع أن يكون كل مصراع من البيت مستقلا بنفسه فى فهم معناه غير محتاج إلى صاحبه الذى يليه مع ذكر فاصلة بينهما دالة على انقطاعه عنه، ومثاله قول امرىء القيس فى قصيدته اللامية «1» : أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمى فأجملى فإن كل مصراع من هذا البيت مفهوم على الاستقلال من غير حاجة له إلى الآخر فى لفظ ولا معنى مع حصول الفاصلة بينهما وهى الواو، فإنه جىء بها دلالة على الانقطاع وكقول أبى الطيب المتنبى «2» : إذا كان مدح فالنسيب المقدّم ... أكلّ فصيح قال شعرا متيم

الدرجة الثانية أن يكون المصراع الأول منقطعا عن الثانى مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الثانى،

فكل واحد من هذين المصراعين على تمامه وحياله لا علقة بينهما مع حصول الفاصلة وهى الهمزة كما ترى. الدرجة الثانية أن يكون المصراع الأول منقطعا عن الثانى مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الثانى، لكن الثانى مرتبط بالأول لعلاقة بينهما، ومثاله قول امرىء القيس «1» : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط الّلوى بين الدّخول فحومل فالأول منقطع عن الثانى، أما الثانى فمتصل بالأول لأجل حرف الجر فاتصاله بما قبله ظاهر كما ترى، وكقول أبى الطيب المتنبى «2» : الرأى قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّل وهى المحلّ الثانى فالأول منقطع، فأما الثانى فهو متصل لأجل الضمير فإنه متصل بما قبله. الدرجة الثالثة [التصريع الموجه] أن يكون الشاعر مخيرا فى تقديم أحد المصراعين على الآخر أيهما شاء، وما هذا حاله يقال له التصريع الموجه ومثاله قول بعضهم: من شروط الصّبوح فى المهرجان ... خفة الشّرب مع خلوّ المكان فإن شئت جعلت الصدر عجزا والعجز صدرا وما هذا حاله فهو من الجودة بمكان رفيع، ولا يكاد يوجد إلا فى مقاصد الشعراء المفلقين. الدرجة الرابعة [التصريع الناقص] أن يكون المصراع الأول من البيت غير مستقل بنفسه ولا يفهم معناه إلا بوجود الثانى، ويقال له التصريع الناقص، وما هذا حاله فليس مرضيا ولا معدودا فى الحسن، لكون المصراع الأول مضمنا معناه فى وجود الثانى، ومثاله قول أبى الطيب المتنبى «3» : معانى الشعر طيبا فى المغانى ... بمنزلة الربيع من الزّمان فالشطر الأول لا يستقل بنفسه دون أن يذكر الثانى.

الدرجة الخامسة التصريع المكرر

الدرجة الخامسة [التصريع المكرر] أن يقع التصريع فى البيت بلفظة واحدة وسطا وقافية، ويقال لما هذا حاله التصريع المكرر، ثم هو فى وقوعه فيما ذكرناه على وجهين، الوجه الأول منهما أن يكون التصريع بلفظة مجازية يختلف معناها، وهذا كقول أبى تمام «1» : فتى كان سربا للعفاة ومربعا ... فأصبح للهندية البيض مربعا فقد وقعت التقفية والتصريع بلفظة المربع، وهى مجازية كما هو ظاهر من معناها، الوجه الثانى أن يكون بلفظة واردة على جهة الحقيقة لا مجاز فيها ومثاله قول عبيد بن الأبرص «2» : فكلّ ذى غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب الدرجة السادسة [التصريع المعلق] أن يذكر المصراع الأول ويكون معلقا على صفة يأتى ذكرها فى أول المصراع الثانى، ويسمى التصريع المعلق ومثاله قول امرىء القيس «3» : ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فإن المصراع الأول المعلق على قوله بصبح وهذا معيب عند أهل العلم بالصناعة الشعرية. الدرجة السابعة [التصريع المشطور] أن يكون التصريع فى البيت مخالفا للقافية منه، ويسمى التصريع المشطور، وهو من أدنى درجات التصريع وأقبحها، لما تضمنه من اختلاف القافية ومثاله قول أبى نواس «4» : أقلبى قد ندمت على الذنوب ... وبالإقرار عذت من الجحود فصرع بحرف الباء فى وسط البيت ثم قفاه بحرف الدال، وهذا لا يكاد يستعمل إلا على الندرة والقلة، وإنما لقب بالمشطور لأن كل واحد من المصراع الأول والثانى على شطر يمكن أن يضم إليه ما يلائمه فى قافية فيكون جاريا على المماثلة من غير اختلاف، فلهذا قيل له مشطور أخذا مما ذكرناه والله أعلم بالصواب.

الصنف الحادى عشر الموازنة

الصنف الحادى عشر الموازنة وورودها عام فى المنظوم والمنثور، والمراد بذلك هو أن تكون ألفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية فى أوزانها، وأن يكون صدر البيت الشعرى وعجزه متساويى الألفاظ وزنا، ومتى كان الكلام فى المنظوم والمنثور خارجا على هذا المخرج كان متسق النظام رشيق الاعتدال، والموازنة هى أحد أنواع السجع، فإن السجع كما أسلفنا تقريره قد يكون مع اتفاق الأواخر واتفاق الوزن، وقد يكون مع اختلاف الأواخر لا غير، فإذن كل موازنة فهى سجع، وليس كل تسجيع موازنة، فالموازنة خاصة فى اتفاق الوزن من غير اعتبار شريطة، فأما أمثله الموازنة من كتاب الله تعالى فكقوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) [الصافات: 117- 118] فالمستبين والمستقيم على زنة واحدة مع اختلاف الأعجاز كما ترى، وكقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) [مريم: 81- 82] فقوله عزّا وضدّا متماثلان فى وزنهما، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) [مريم: 83- 84] فعدا وأزا متماثلان فى الزنة، وقوله تعالى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) [طه: 100- 101] وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها [الشورى: 17- 18] ثم قال أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) [الشورى: 18] وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 19- 20] ثم قال: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) [الشورى: 20] وأما مثاله من السنة النبوية فكقوله عليه السلام: «كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» «1» فسبيل وغريب مختلفان فى اللفظ متفقان فى الزنة، وقوله: «فإذا أصبحت نفسك فلا تحدثها بالمساء، وإذا أمست فلا تحدثها بالصباح» «2» ، فالمساء والصباح مختلفان لفظا متفقان فى الوزن، وقوله: «خذ من صحتك لسقمك ومن شبابك لهرمك» «3» ، فالسقم والهرم متفقان وزنا مع اختلافهما فى اللفظ، وقوله: ولقد

أبلغ فى الإعذار من تقدم بالإنذار، فالإعذار والإنذار مختلفان لفظا متماثلان فى الزنة، ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى ذلك قوله: «حتى إذا انصرمت الأمور، ونقصت الدهور، وأزف النشور، أخرجهم من ضرائح القبور، وأوكار الطيور» ، وقوله: «رعيلا صموتا قياما صفوفا» ، وقوله: «واحمر العرق، وعظم الشفق» ، فهذه الألفاظ متماثلة فى الأوزان مختلفة فى الألفاظ، وقوله: «وبادر من وجل، وأكمش فى مهل، ورغب فى طلب، فكفى بالله منتقما ونصيرا، وكفى بالقرآن حجيجا وخصيما» ، وقوله: «وحذركم عدوا نفذ فى الصدور خفيا ونعب فى الآذان نجيا، إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة فى كلامه على التقرير الذى ذكرناه، ومن الأمثال المنظومة قول أبى تمام «1» : مها الوحش إلّا أنّ هاتا أوانس ... قنا الخط إلّا أنّ تلك ذوابل فقوله أوانس وذوابل من الموازنة اللفظية، لأن أوزانهما متماثلة على فواعل، ومن هذا قول البحترى «2» : فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا فالمهرب والمطمع متماثلان فى الزنة، ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء: بأشدّهم بأسا على أعدائه ... وأعزّهم فقدا على الأصحاب فقوله بأشدهم وأعزهم وقوله بأسا وفقدا متماثلان فى الأوزان ومن ذلك ما قالته الخنساء فى أخيها صخر ترثيه «3» : حامى الحقيقة محمود الخليلقة ... ميمون الطريقة نفّاع وضرّار جوّاب قاصية جزّاز ناصية ... عقّاد ألوية للخيل جرّار فقولها محمود، وميمون، من الموازنة وقولها نفاع وضرار، وجواب وجزاز وعقاد، من الموازنة أيضا، ولنكتف بهذا القدر فى الموازنة ففيه كفاية.

الصنف الثانى عشر فى تحويل الألفاظ واختلافها، بالإضافة إلى كيفية استعمالها

الصنف الثانى عشر فى تحويل الألفاظ واختلافها، بالإضافة إلى كيفية استعمالها وهو من هذه الصناعة فى مكان مغبوط، ومحل محوط، ومن لم يكن فيه على قدم راسخة وحال مؤكدة، فإنه لا يأمن من وقوعه فى مكروهات الاستعمالات اللغوية، ويرد فى الموارد المستقبحة. واعلم أن الألفاظ على وجهين فى استعمالها مفردة، أحدهما أن تكون فصيحة مستعملة فى كل أحوالها فى الإفراد والتثنية، والجمع، والتذكير والتأنيث، والإظهار، والإضمار وغير ذلك من الاستعمالات، وهذا هو الأكثر فى ألسنة العرب، وهذا كلفظ الدينار والدرهم والفرس والإنسان، وغير ذلك من الألفاظ العربية، وثانيهما: أن تكون أحوالها مختلفة بالإضافة إلى استعمالاتها، فتارة يقبح استعمالها فعلا ولا يقبح استعمالها اسما، ومرة يقبح استعمالها مفردة، ولا يقبح استعمالها مجموعة، وبالعكس من هذا. ونحن نذكر من ذلك أمورا تقبح على وجه، وتحسن على وجه، ننبه بالقليل من ذلك على الكثير. وجملة ما نورده من ذلك أمور عشرة، أولها لفظة «خود» فإنها إذا كانت اسما، كان استعمالها فصيحا فى الاسمية، هى عبارة عن المرأة الناعمة، فهى إذا استعملت اسما حسنة رائقة لذيذة طيبة، وهى إذا كانت مستعملة على صيغة الفعل، لم يحسن استعمالها، ثم هى فى ذلك على وجهين، أحدهما أن تكون واردة على جهة الحقيقة فيعظم فيها القبح كما قال أبو تمام: وإلى بنى عبد الكريم تواهقت ... رتك النّعام رأى الطريق فخوّدا «1» وقد أخذ على أبى تمام، فى هذا البيت استعمال «خوّد» على صيغة الفعل، وهى مستكرهة، يقال فيها خود البعير «بتثقيل الحشو» إذا أسرع فى مشيه، ثم قوله رتك النعام، يقال رتك البعير إذا قارب خطوه فاستعمله فى النعام، واستعماله إنما يكون فى الإبل، فإذا كانت مستعملة على جهة الحقيقة فى الفعل كانت مستكرهة، وثانيهما أن تكون واردة على جهة المجاز كقول بعض الشعراء من أهل الحماسة: أقول لنفسى حين خوّد رألها ... رويدك لما تشفقى حين مشفق

والرأل النعام، والمراد، ههنا أن نفسه فزعت وعظم فرارها، وشبهها فى فزعها وفرارها بإسراع النعام إذا فزع وفر، وهى إذا كانت مجازا فاستعمالها فعلا، وإن كان مستكرها، لكنه يخف قبحه، لما كان مستعملا استعمال المجاز، وإدراك ما ذكرناه من حسن الاستعمال وقبحه فى كونها اسما أو فعلا، يدرك بالذوق الصافى والقريحة المستقيمة عن شوائب البلادة، وثانيها: قولنا «وذر ودع» فإنهما من جملة الأفعال، ولا يستعملان فى الأزمنة الماضية استغناء عنهما بقولنا ترك، قال الله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) [البقرة: 17] فإذا استعملا فى الماضى كان فيهما ركة ونزول عن الكلام الفصيح، وهذا من غريب الاستعمال وبديعه، أن يكون الماضى وإن كان أصلا لغيره من الأفعال، بعيدا فى الاستعمال، وفى هذا دلالة على أن الفصيح لا يوجد بطريق الأصالة والفرعية، وإنما طريقه كثرة الاستعمال والاطراد، فأما استعمالهما على جهة الدلالة على الأزمنة المستقبلة، إما مضارعا كقوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) [الأنعام: 110] وقوله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] وإما على جهة الأمر كقوله: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحجر: 3] وهكذا الأمر فى يدع، فإنه يستعمل للمضارع كقوله عليه السلام لو مدّ لنا الشهر لو اصلنا وصالا يدع المتعمّقون له تعمقهم، وفى الأمر كقول أمير المؤمنين متمثلا بقوله: «دع عنك نهبا صيح فى حجراته» وكقول زهير: «فدع ذا وعد القول فى هرم» فأما استعمالها على جهة المضى فلا يرد فى كلام فصيح، واستعمال «وذر» فى الماضى أقبح من استعمال «ودع» ، وثالثها لفظة «الحبر» فإنها إذا وردت مجموعة أفصح من ورودها مفردة، ولهذا لم تأت فى القرآن إلا مجموعة كقوله تعالى: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ [التوبة: 34] وقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ [التوبة: 31] ولم ترد مفردة فى القرآن فلا جرم حكمنا بأن موقعها فى الجموع أحسن من موقعها فى الإفراد، ومفردها حبر بكسر الحاء وفتحها، ورابعها عكس ذلك، وهو أن يكون استعمالها مفردة أحسن من استعمالها مجموعة، ومثاله لفظة «الأرض» فإنها لم ترد فى القرآن إلا مفردة، وجمعها إما على السلامة اللفظية كقولنا «أرضون» وإما على التكسير كأراض، وقد يستعمل

على أرضات أيضا، وأحسن الاستعمال فيها أن تكون مفردة كما ذكرناه، فإذا جىء بالسموات مجموعة جىء بها مفردة فى عدة من المواضع، فإن احتيج إلى جمعها أتى بما يدل على جمعها دون جمع لفظها، كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ [الطلاق: 12] والسر فى ذلك أن كل واحدة من السموات السبع مختصة بعالم من الملائكة يخالف الآخر فلهذا كانت متنوعة مغايرة فجمعت بخلاف الأرض فإنها وإن كانت سبعا كما ورد الشرع بذلك، فإن الانتفاع بما يلينا منها دون غيرها، فلهذا جرت مجرى الأرض الواحدة، فلا جرم كانت مفردة. وخامسها لفظة «البقعة» فإن الفصيح فى استعمالها إنما هو على جهة الإفراد، كما قال تعالى: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص: 30] ولم يجر استعمالها على جهة الجمع، فإن جمعت كان استعمالها على الإضافة، فيقال بقاع الأرض، وفى الحديث، إذا تاب ابن آدم أنسى الله حافظيه وبقاع أرضه خطاياه، ولم يرد فى استعمالها جمعا وتعريفا باللام فى كلام فصيح، وإن ورد فإنما يرد على جهة الندرة والقلة وسادسها: لفظة «الأكواب والأباريق» فإن استعمالها على الجمع أكثر من استعمالها على جهة الإفراد، ولهذا فإنهما لم يردا فى القرآن إلا مجموعين، وهذا كقوله تعالى: بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ [الواقعة: 18] ولم يستعمل فى الفصيح كوب وإبريق، وإنما تروى فى قول بعضهم. ثلاثة تعطى الفرح ... كأس وكوب وقدح فالذى حسن من وقوعه مفردا انضمامها مع الكأس والقدح، فلا جرم اغتفر إفرادها، وهذا بخلاف الكأس فإن الفصيح فى استعماله إنما يكون على جهة الإفراد كقوله تعالى: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) [الواقعة: 18] وقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ [الإنسان: 5] . وسابعها: لفظة «اللّبّ» وهى مقولة على معنيين، أحدهما عبارة عن اللب الذى هو العقل، والآخر عبارة عن اللب الذى تحت القشر من كل شىء، فأما لب العقل فأحسن استعمالاته إذا كان مفردا عن الإضافة أن يكون على جهة الجمع كقوله تعالى: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [ص: 29] وقوله: وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) [ص: 43] وقد يستعمل مضافا إليه كقولك. لا يعقل هذا إلا ذو لب قال جرير «1» :

إنّ العيون التى فى طرفها حور ... قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا وقد يستعمل مضافا كما ورد فى الحديث فى ذكر النساء ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن يا معشر النساء، فأحسن استعمالاته ما ورد على ما ذكرناه، فأما استعماله مفردا عن اللام والإضافة فلا يكون حسنا، وإذا تأملت القرآن وسائر الكلام الفصيح وجدتها على ما ذكرناه، وثامنها: لفظة «طيف» وهو طيف الخيال، فإنها لا تستعمل إلا مفردة، واستعمالها مجموعة فيه ركة وثقل على اللسان، لأن جمعها إما أطياف، وإما طيوف، وكلاهما فيه بشاعة، وهى تخالف أختها وهى قولنا «ضيف» فإنها تفيد رقة ولطافة، ومن أجل هذا استعملت مفردة كقوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الذاريات: 24] ومثناة كقولك: ضيفان، ومجموعة كقولك: ضيوف وأضياف، وهذا من عجائب الصيغة ودقيق الأسرار العجيبة، حيث كان ههنا لفظتان مستويتان فى العدة والوزن، فاستعملت إحداهما على ما ذكرناه دون الأخرى، وهذا مما يعلمك أن السر فى ذلك هو الذوق السليم والطبع المستقيم فى التفرقة بين اللفظتين، وتاسعها: لفظة «الصوف» فإن استعمالها مجموعة هو الفصيح كقوله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها [النحل: 80] واستعمالها مفردة ليس لائقا بالفصاحة، ومن أجل هذا لما احتيج إلى استعمالها مفردة جاء بما يخالفها فى لفظها كقوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) [القارعة: 5] والعهن هو الصوف، فبدلها لما كانت غير فصيحة فى الإفراد، وفى قراءة ابن مسعود «كالصّوف المنفوش» فانظر ما بين العهن والصوف من التفاوت فى الذوق والرقة والرشاقة، وعاشرها: لفظة «الأمّة» بالضم، فإنها الجماعة من الناس وهى كلمة فصيحة قال الله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] ووَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ [القصص: 23] بخلاف الإمة بالكسر وهى النعمة، فإنها غير فصيحة، ولهذا لا تكاد تستعمل فى كلام فصيح، وحكى ابن الأثير أن صاحب الفصيح كان له إملاء سماه الفصيح أوردها فيه واستحسنها، وقد أنكر عليه فى إعجابه بها ولعمرى إن ما قاله

ابن الأثير هو الأجود اللائق بالفصاحة فإنها ركيكة جدا فلا وجه لعدها من الفصيح فضلا عن الأفصح، وهكذا قولنا «لهاميم» وهم الرؤساء فإن استعماله مجموعا أفصح من استعماله مفردا، وكذا بهاليل، فأما المفردان منهما فلا يكادان يستعملان فى الفصاحة، وهذا بخلاف عرجون وعراجين، وجمهور وهم الجماعة من الناس وجماهير، فإنهما يستعملان فى الفصيح فى الإفراد كما أشرنا إليه. ولنكتف بهذا القدر من التنبيه على ما يستعمل من الألفاظ المفردة على حال دون حال ليقاس على غيره مما يكون واردا على مثاله، ولقد كان هذا الصنف خليقا بإيراده فى الباب الثانى حيث تكلمنا فيه على الألفاظ المفردة وما يتعلق بأحكامها فى الإفراد، وليس يعد من أصناف البديع فيورد فيه لأن البديع إنما يتعلق بالمعانى دون الكلم المفردة، ويختص بالمركب من الكلام دون المفرد، وأكثر ما يرد فى الاستعارة من أبواب المجاز، لكنه محبوس بطرفين، أحدهما أنه كلام فيما يعرض للكلمة الواحدة من اختلاف الأحوال بحسب مواقعها فى البلاغة، وثانيهما أنه كلام فيما يتعلق بها من التركيب، وكلاهما مختص بعلم البديع، فلا جرم كان كل واحد من هذين الغرضين مصوبا لإيراده فى هذا الصنف، خلا أن موضعه الخاص به ما ذكرناه.

الصنف الثالث عشر فى المعاظلة

الصنف الثالث عشر فى المعاظلة اعلم أن المعاظلة قد تكون وصفا عارضا للمعنى، وقد تكون من عوارض الألفاظ، فأما تعلقها بالمعانى فسنذكره عند ذكرنا الأحاجى المعنوية، فذكرها هناك أخص من غيره ولكنا إنما نذكر ههنا ما يختص بالمعاظلة وهى من عوارض التركيب والتأليف فى الكلام، وقد اختلف فى معناها على قولين: فالقول الأول منهما يحكى عن قدامة بن جعفر الكاتب قال المعاظلة فى الكلام هو إدخالك فيه ما ليس من جنسه وإلزامه إياه، ومثله بقول أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا «1» فسمى الصبى تولبا، والتولب ولد الحمار، وهذا لا وجه له لأمرين، أما أولا فلأنه يلزم أن تكون الاستعارة معاظلة، وهو فاسد، وأما ثانيا فلأنه إنما يكون الاعتراض والاستطراد وغير ذلك من الكلمات الدخيلة معاظلة، فبطل ما قاله. القول الثانى أن المعاظلة هى تركيب الكلام وترادف ألفاظه على جهة التكرير، واشتقاقه من قولهم: تعاظلت الجراد، إذا ركب بعضها بعضا عند الازدحام، وغالب الظن أن «قدامة» إنما سمى ما ذكره معاظلة، اشتقاقا له من قولهم تعاظلت الكلاب إذا لزم بعضها بعضا عند السفاد، فلما ألزم الكلام ما ليس منه كان عظالا، فإذن المعاظلة إنما تكون عارضة فى تركيب الكلام وتأليفه، وتنحصر فى خمسة أضرب. الضرب الأول منها فى المعاظلة بتكرير الأحرف المفردة اعلم أن العرب الذين هم الأصل فى هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف المتماثلة فى كثير من كلامهم إلى الإدغام وما ذاك إلا لأجل ثقله على ألسنتهم، وهكذا فعلوا فى المتقاربين أيضا فقالوا: مد وشد، والأصل فيه مدد وشدد إلى غير ذلك من الأحرف المتماثلة، ومن أجل شدة كراهيتهم لتلك أبدلوا من أحد حرفى التضعيف حرف لين حذرا من ذلك، وهذا كما قالوا: تسريت فى تسررت وتطبيت فى تطببت وفى نحو ديوان وديباج والأصل فيه

الضرب الثانى فى بيان المعاظلة فى الألفاظ المفردة

دوّان ودبّاج، فإذا تكرر الحرف الواحد فى الكلام المنظوم والمنثور، كان ثقيلا على الأنفس نازلا عن الفصاحة، معيبا فى البلاغة، فمن ذلك ما قاله بعض الشعراء: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر «1» فهذه القافات والراءات من الأحرف قد تكررت وتقاربت فأكسبت الكلام ثقلا وركة تبعد به عن الفصاحة وتنأى لأجله عن البلاغة، وقد قيل إن هذا البيت من شعر الجن، ولهذا قيل إن أحدا لا يكاد ينشده ثلاث دفعات إلا عثر لسانه، وفى هذا دلالة على بعده عن السلاسة وقربه من الغثاثة، وهكذا ورد فى الحريريات وعد من ركيكها قوله: وازورّ من كان له زائرا ... وعاف عافى العرف عرفانه فلما تكررت الراء والفاء فيه، كان محتاجا إلى بيكار يضعه الناطق به فى شدقه حتى يديره على تأليفه الذى خرج عن حد الاعتدال، وهكذا ما فعله فى رسالتيه اللتين جعل إحداهما على حرف السين، والأخرى على حرف الشين، فنالهما الثقل ومستهما البرودة من أجل ذلك، ويحكى عن بعض الوعاظ أنه قال فى كلام له أورده: حتى جنأت وجنات الحبيب، فصاح رجل من الحلقة وماد وغشى عليه، فقيل له ما حدث عليك فقال سمعت جيما فى جيم فى جيم فصحت، وفى هذا دلالة على أنه يجب على البلغاء تجنبه والإعراض عنه. الضرب الثانى فى بيان المعاظلة فى الألفاظ المفردة وهذا يخالف ما سبقه لأن الأول معاظلة فى حروف مفردة كما مر بيانه، وهذه معاظلة فى الكلم المفردة كالأدوات نحو من، وإلى، وعن، وعلى، وما شاكلها من أحرف المعانى، فإذا وقعت فى الكلام وكان السبك بها تاما جاريا على جهة الانتظام فهو حسن، ومتى جاءت متقاربة أفادت التنافر والثقل على اللسان وكان ذلك مجانبا لجيد البلاغة وملح الكلام ورشيقه، ومثاله قول المتنبى: وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد «2»

الضرب الثالث فى بيان المعاظلة بالصيغ المفردة من غير الأدوات

فقوله: لها منها عليها، من قبيح السبك وسوء التأليف، وما ذاك إلا لأجل تكرر أحرف المعانى فأكسبته هذا الثقل الذى تعافه النفوس، وهكذا ورد فى قوله أيضا وإن كان بالضرب الأول أشبه: وقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلّهنّ قلاقل «1» فالقاف وإن كانت من أنصع حروف العربية وأثبتها جرسا وأصفاها فى النطق وأوضحها مخرجا، خلا أنها لما تكررت كانت بمنزلة مشى البغل يتقدم وهو يخطو إلى الوراء، ومن ذلك ما ورد فى شعر أبى تمام قوله «2» : كأنه فى اجتماع الرّوح فيه له ... فى كل جارحة من جسمه روح فقوله: فيه له فى كل، من الردىء المستثقل، وليس ذلك إلا من أجل تكرر حروف المعانى. الضرب الثالث فى بيان المعاظلة بالصيغ المفردة من غير الأدوات وهذا نحو توارد الصيغ المتماثلة من الأوامر الفعلية، وهو فى ذلك على وجهين، أحدهما: أن ترد مجردة عن العطف، ومثاله قول أبى الطيب المتنبى «3» : أقل أنل أقطع احمل علّ سلّ أعد ... زد هشّ بشّ تفضّل أدن سرّ صل فهذه الألفاظ جاءت على صيغة واحدة وهى مثال الأمر، كأنه قال افعل افعل وهكذا إلى آخر البيت، فما هذا حاله فتكرير للصيغة، وإن لم يكن تكريرا لحروف المعانى، وفيها ما ترى من الثقل على المسموع من أجل تكريرها على هذا الوجه، وقد تضمن سياقها تركيبا وتداخلا مكروها، وثانيهما: أن يرد مع واو العطف، ومثاله ما يحكى عن عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن قال: احل وامرر وضرّ وانفع ولن واخ ... شن ورش وأمر وانتدب للمعالى

الضرب الرابع فى بيان المعاظلة بالصفات المتعددة

فهذا كالأول فى التكرير، خلا أن هذا ليس فى الكراهة كالوجه الأول فى الثقل، وما ذاك إلا من أجل توسط الواو فأكسبته خفة ورقة، لا يقال فلو كان هذا مكروها لم يرد فى كتاب الله تعالى: وقد ورد كقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5] لأنا نقول هذا فاسد فإنه لم يتكرر مع الواو إلا قوله: وخذوهم واحصروهم، فأما الجملة الأولى فهى مغايرة لتعلقها بقوله حيث وجدتموهم، وهكذا حال الرابعة، فإنها متعلقة بغيرها فلم يبق إلا قوله: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وقد تضمنا الواو، وفيهما من حسن السبك وجودة التأليف وخفته على الآذان ما لا يخفى، فأين هذا من ذاك. الضرب الرابع فى بيان المعاظلة بالصفات المتعددة ومثاله قوله أبى الطيب المتنبى «1» : دان بعيد مبغض بهج ... أغرّ حلو ممرّ ليّن شرس ند أبى غر واف أخى ثقة ... جعد سرىّ نه ندب رضى ندس ومن هذا قول أبى تمام يصف رمحا «2» : مارنه لدنه مثقفه ... عراصه فى الأكف مطّرده وقال أيضا يصف سحابة: مسفّة ثرّة مسحسحة ... وابلة مخضلّة برده فلما حصلت هذه الأوصاف على هذه الصفة ثقلت على الألسنة ومجتها الآذان، وصارت بمنزلة سلسلة بلا شك، وقطع فضة أو ذهب مبددة من غير سبك، وليس يخفى على من له أدنى ذوق مخالفة هذا لقوله تعالى: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: 23] ، مع كونها أوصافا متعددة من غير واو، لكن بينها بعد لا يدرك أمده، ولا ينال حصره ولا عدده، فى حسن التأليف وجودة السبك ولذة المسموع وسهولة الأسلوب.

الضرب الخامس فى بيان المعاظلة بالإضافة المتعددة

الضرب الخامس فى بيان المعاظلة بالإضافة المتعددة ومثاله قولك لبد، سرج، فرس، غلام، دابة، زيد وما هذا حاله فإنه يثقل على الأذن فى سماعه، وتنفر النفوس عن تأليفه، ونحوه قول من قال من الشعراء «1» : حمامة جرعى حومة الجندل اسجعى ... فأنت بمرأى من سعاد ومسمع فلما أضاف حمامة إلى جرعى، وأضاف جرعى إلى حومة، وأضاف حومة إلى الجندل، أكسبه ذلك ركة، ونزولا، فهذا ما أردنا ذكره فى المعاظلة، وهى وإن كانت مكروهة فى بليغ الكلام وفصيحه، لكن غيرها ربما كان أدخل فى الكراهة، وأبعد عن أساليب الفصاحة.

الصنف الرابع عشر فى بيان المنافرة بين الألفاظ ومراعاة حسن مواقعها

الصنف الرابع عشر فى بيان المنافرة بين الألفاظ ومراعاة حسن مواقعها اعلم أن حسن التأليف وجودة السبك له موقع عظيم فى البلاغة، والفرق بين هذا الصنف والذى قبله، هو أن المعاظلة آئلة إلى البعد عن تراكب الألفاظ وترادفها كما فصلنا أمثلته، وهذا النوع ليس فيه تراكب ولا تداخل، وإنما حاصله هو أن إيراد اللفظة غير لائق بموضعها التى وردت فيه فتورث فى الكلام تنافرا، وتكون بمنزلة نواة فى عقد در، وبعرة بين لآلىء إلى غير ذلك من المباينة، فحاصل الأمر فى المنافرة أن معناها وقوع الكلام غير ملائم لما قبله ولا مناسب له، ثم هى فى وقوعها فى الكلام على وجهين: الوجه الأول منهما أن يكون التنافر واقعا فى كلمة واحدة ومثاله قول أبى الطيب المتنبى «1» : لا يبرم الأمر الذى هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذى هو يبرم فقوله: «حالل» ينبو الفهم عنها لكونها غير لائقة لأجل لفظها؛ فأما معناها فهو مستقيم، ولهذا فإنه لو أبدلها بقوله فلا يبرم الأمر الذى هو ناقض ولا ينقض الأمر الذى هو يبرم لكانت صحيحة غير نافرة، فظهر بما قررناه أن النفار عنها إنما كان من أجل صيغتها وهو تفكيك الإدغام الذى كان فيها لا غير، ولهذا فإن لفظة «يحلل» مخالف «لحالل» فإنه جاء الفك فى الفعل المضارع كقوله تعالى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي [طه: 11] والسر فى ذلك هو أن حركة اللام فى الإسم لازمة لأجل الإعراب، فلهذا التزم إدغامه لأن الإدغام إنما يكون بساكن فى متحرك، بخلاف الفعل، فإن حركة اللام غير لازمة لأجل الجازم، فلهذا جاء فيه الفك، وقد وضح ذلك بما ذكرناه لك أن تبديل «حالل» «بناقض» هو الوجه، وأن حاللا ليس فصيحا كما قررناه، وحكى عن المعرى أنه كان كثير الغرام بشعر أبى الطيب المتنبى، وكان يسميه الشاعر، ومن عداه يسميه باسمه، وكان يقول ليس فى شعره لفظة يكون غيرها أحسن منها، وهذا لا وجه له، فإن الحق أحق أن يتبع، فإن الأفصح خلاف ما أتى به فى هذا البيت كما أشرنا إليه، ومن ذلك ما أنشده بعض الأدباء لدعبل: شفيعك فاشكر فى الحوائج إنه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق

فالفاء فى قوله «فاشكر» لا موقع لها وهى فى اعتراضها بمنزلة ركبة البعير، وقد زعم بعضهم أن الفاء فى قوله «شفيعك فاشكر» بمنزلة الفاء فى قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) [المدثر: 3] وهذا فاسد لأمرين أما أولا: فلأن الفاء فى قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) جاءت مؤذنة بعطف الفعل على ما قبله، فى قوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) [المدثر: 2- 3] بخلاف هذه، فإن ما قبلها ليس صالحا للعطف عليه، وأما ثانيا: فلما ترى فيها من الخفة على اللسان والسلاسة فى الحلق، بخلاف قوله «شفيعك فاشكر» فإنها غير مريئة على الفؤاد، ولا عهد لها بالعذوبة. الوجه الثانى: أن توجد فى الألفاظ المتعددة ومثاله قول أبى الطيب المتنبى «1» : لا خلق أكرم منك إلّا عارف ... بك داء نفسك لم يقل لك هاتها فإن صدر هذا البيت فى غاية الرقة واللطافة، خلا أن عجزه ليس ملائما لصدره، ولكنه وقع منافرا له كما ترى ومنه قوله أيضا «2» : وما بلّد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق وقوله أيضا: كلّ آخائه كرام بنى الدنيا «3» ... وكان الأحسن إخوانه فهذا البيت مما يعد فى الوجه الأول، ثم أقول إن هذه الأبيات التى أوردها أهل البلاغة نقما على المتنبى وتمثيلا للمنافرة فى هذه الألفاظ هى عندى فى غاية الرقة والرشاقة، وما فيها عيب إلا كما يقال فى الخبيص إنه كثير سكره، أو فى طبيخ إنه زاد زعفرانه، نعم التعريف بموقع هذا الصنف مقصود، وأنه ينبغى للناظم والناثر تجنبه وتوخى الألفاظ الرقيقة وحسن مواقعها فى التأليف.

الصنف الخامس عشر فى التورية

الصنف الخامس عشر فى التورية اعلم أن هذا الاسم عبارة عن كل ما يفهم منه معنى لا يدل عليه ظاهر لفظه ويكون مفهوما عند اللفظ به، واشتقاقه من قولهم وريت عن كذا إذا سترته، وفى الحديث كان إذا أراد سفرا ورى بغيره، أى ستره وكنى عنه وأوهم أنه يريد غيره، وهذا نحو الكناية والتعريض، والمغالطة والأحاجى والألغاز، فهذه الأمور كلها مشتركة فى كونها دالة على أمور بظاهرها، ويفهم عند ذكرها أمور أخر غير ما تعطيه بظواهرها، فأما الكناية والتعريض فقد قدمنا الكلام فيهما، وذكرنا أمثلتهما، وأظهرنا التفرقة بينهما فأغنى ذلك عن إعادته، والذى نذكره ههنا، إنما هو المغالطة والإلغاز والأحجية وهى مندرجة تحت الإلغاز، وليس بينهما تفرقة، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما، وهذه الأمور كلها، وإن كانت قريبة المأخذ سهلة المدرك، وليس يتعلق بها كبير بلاغة ولا عظيم فصاحة، ولكنها غير خالية عن تفنن فى الكلام واتساع فيه، وتدل على تصرف بالغ وقوة على تصريف الألفاظ واقتدار على المعانى فهى غير خالية عن فن من فنون البلاغة وعلم البديع، وقد جرت عادة العلماء من أهل البلاغة على ذكرها والكلام عليها، فلا جرم أوردناها ولم نخل هذا الكتاب عنها. الضرب الأول فى المغالطة المعنوية اعلم أن المغالطة المعنوية هى أن تكون اللفظة الواحدة دالة على معنيين على جهة الاشتراك فيكونان مرادين بالنية دون اللفظ، وذلك لأن الوضع فى اللفظة المشتركة أن تكون دالة على معنيين فصاعدا على جهة البدلية، هذا هو الأصل فى وضع اللفظ المشترك، فإذا كان المعنيان مرادين عند إطلاقها، فإنما هو بالقصد دون اللفظ، والتفرقة بين المغالطة والإلغاز هو أن المغالطة كما ذكرناه إنما تكون بالألفاظ المشتركة وهى دالة على أحدهما على جهة البدلية وضعا، وقد يرادان جميعا بالقصد والنية، بخلاف الإلغاز، فإنه ليس دالا على معنيين بطريق الاشتراك ولكنه دال على معنى من جهة لفظه وعلى المعنى الآخر من جهة الحدس لا بطريق اللفظ فافترقا بما ذكرناه، ويتضح الحال فى المغالطة المعنوية بذكر أمثلتها، المثال الأول ما قاله أبو الطيب المتنبى «1» : يشلّهم بكلّ أقبّ نهد ... لفارسه على الخيل الخيار

وكلّ أصمّ يعسل جانباه ... على الكعبين منه دم ممار يغادر كلّ ملتفت إليه ... ولبّته لثعلبه وجار فالثعلب هو الحيوان المعروف، والثعلب هو طرف سنان الرمح مما يلى الصعدة، فلما اتفق الاسمان حسن لا محالة ذكر الوجار. لما كان الوجار يصلح لهما جميعا، فاللبة وجار ثعلب السنان وهو بمنزلة جحر الثعلب أيضا، ومن ذلك ما أنشد لبعض العراقيين يهجو رجلا كان على مذهب أحمد بن حنبل ثم انتقل إلى مذهب الشافعى قال فيه: فمن مبلغ عنى الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدى لديه الرسائل تمذهبت للنّعمان بعد ابن حنبل ... وفارقته إذ أعوزتك المآكل وما اخترت رأى الشافعى تديّنا ... ولكنّما تهوى الذى هو حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فاسمع لما أنا قائل فمالك ههنا يصلح أن يكون مالك بن أنس صاحب المذهب ويصلح أن يكون مالكا خازن النار، فهذه مغالطة لطيفة كما ترى على الوصف الذى ذكرناه، ومن ألطف ما قيل فى المغالطات المعنوية ما قاله بعضهم يهجو الشعراء: فخلطتم بعض القرآن ببعضه ... فجعلتم الشّعراء فى الأنعام فالشعراء ههنا كما يصلح اسمه للسورة المعروفة، والأنعام أيضا اسم للسورة، فهما يصلحان أن يكون الشعراء جمع شاعر، وأن الأنعام جمع نعم، وهى البقر والغنم والإبل، فهذه مغالطة رشيقة لاشتمالها على ذكر الأمرين جميعا، ومن ذلك قوله فى صفة الإبل: صلب العصا بالضرب قد أدماها ... تودّ أن الله قد أفناها إذا أرادت رشدا أغواها ... تخاله من رقّة أباها فالضرب لفظ مشترك يطلق على الضرب بالعصا وعلى السير فى الأرض، وهكذا قوله قد أدماها فإنه يقال: أدماه إذا أسال دمه، وأدماه إذا جعله كالدمية، وهى الصورة، وقوله أفناها. يقال أفناه إذا أذهبه، وأفناه إذا أطعمه الفناء وهو عنب الثعلب، وقوله أغواها. يقال أغواه إذا أطعمه الغوىّ، وأغواه إذا أزاله عن رشده، فالفناء والغوى شجران كما ترى، فهذه هى أمثلة المغالطة المعنوية وهى مقررة على الاشتراك كما أشرنا إليه.

الضرب الثانى فى أمثلة الإلغاز وهو الأحجية

الضرب الثانى فى أمثلة الإلغاز وهو الأحجية وهو ميلك بالشىء عن وجهه، واشتقاقه من قولهم طريق لغز إذا كان يلتوى ويشكل على سالكه، ويقال له المعمى أيضا ويفارق ما ذكرناه من المغالطة المعنوية فإنها مبنية على اشتراك اللفظ بين معنيين كما أسلفنا تقريره، بخلاف اللغز، فإنه إنما يوجد من جهة الحدس والحزر لا من جهة دلالة اللفظ بحقيقته، ولا بمجازه، ومثاله قول بعض الشعراء فى الضرس: وصاحب لا أملّ الدهر صحبته ... يسعى لنفعى ويسعى سعى مجتهد ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت ... عينى عليه افترقنا فرقة الأبد فما هذا حاله من الكلام ليس فيه دلالة على الضرس لا من جهة حقيقة اللفظ ولا من جهة مجازه، وإنما هو شىء يعرف بدقة الذكاء وجودة الفطنة، ومن أجل هذا تختلف القرائح فى السرعة والإبطاء فى فهمه، ومن الأمثلة ما قال بعض الشعراء فى أيام الأسبوع ولياليه: سبع رواحل ما ينخن من الونى ... شيم تساق بسبعة زهر متواصلات لا الدّءوب يملّها ... باق تعاقبها على الدهر فما ذكره لا يفهم من طريق الحقيقة ولا من جهة المجاز ولا من جهة المفهوم، وإنما يفهم بطريق الحدس والحزر، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى يصف السفن فى قصيدته التى يمدح بها سيف الدولة عند ذكره لصورة الفرات التى مطلعها (الرأى قبل شجاعة الشجعان) قال فيها: وحشاه عادية بغير قوائم ... عقم البطون حوالك الألوان تأتى بما سبت الخيول كأنها ... تحت الحسان مرابض الغزلان «1» وهذا من جيد ما يذكر فى الإلغاز وبديعه لما فيه من الرشاقة والحسن، ومن ذلك ما قاله بعضهم يصف حجر المحكّ الذى تستعمله الصاغة: ومدّرع من صبغة الليل برده ... يفوق طورا بالنّضار ويطلس إذا سألوه عن عويصين أشكلا ... أجاب بما أعيى الورى وهو أخرس

وقد أجاب بعض الشعراء عن لغز هذين البيتين فقال: سؤالك جلمود من الصخر أسود ... خفيف لطيف ناعم الجسم أملس أقيم بسوق الصّرف حكما كأنه ... من الزّنج فاض بالخلوق مطلّس ومن لطيف الإلغاز ورشيقه ما قاله بعض الشعراء فى الخلخال: ومضروب بلا جرم ... مليح اللون معشوق له قدّ الهلال على ... مليح القد ممشوق وأكثر ما يرى أبدا ... على الأمشاط فى السّوق فهذا ما أردنا ذكره من أمثله الإلغاز فى المنظوم، فأما أمثلته من المنثور فهى كثيرة، وقد ورد فى الحريريات كالذى ضمنه المقامة الثامنة فى الإبرة والمرود وغير ذلك فيها، فأما القرآن الكريم فليس فيه شىء من ذلك، لأن ما هذا حاله إنما يعرف بالحدس والنظر، والقرآن خال عن ذلك، لأن معرفة معانيه مقررة على ما يكون صريحا لا يحتمل سواه من المعانى، أو ظاهرا يحتمل غيره، أو مجملا يفتقر إلى بيان، فأما ما يعلم بالحزر والحدس فلا وجه له فى القرآن، وأما السنة فقد روى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان سائرا بأصحابه يريد بدرا فلقيه بعض العرب فقال لهم ممن القوم؟ فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نحن من ماء» ، فأخذ الرجل يفكر ويقول من ماء من ماء لينظر أى العرب يقال له ماء؟، وهذا ليس يعد من الإلغاز وإنما يعد من المغالطة المعنوية، لأن قوله «ماء» يحتمل أن يكون بعض بطون العرب يقال له «ماء» كما يقال هو «ماء السماء» ويحتمل أن يكون مراده أنهم مخلوقون من الماء، أى النطفة، فهو كما ذكرناه صالح للأمرين على جهة الاشتراك، ودلالة الإلغاز إنما هى من جهة الحدس لا من جهة اللفظ كما أشرنا إليه، فإذن فالقرآن والسنة جميعا منزهان عما ذكرناه من الإلغاز، ويحكى عن امرىء القيس أنه تزوج امرأة فأراد امتحانها من هذه الإلغازات، فقال لها قبل أن يتزوجها ما اثنان، وما ثلاثة، وما ثمانية، فقالت: أما الاثنان فثديا المرأة، وأما الثلاثة فأخلاف الناقة، وأما الثمانية فأطباء الكلبة، وهو كثير فى كلام العرب فى منظومها ومنثورها كما أشرنا إليه.

الصنف السادس عشر فى التوشيح

الصنف السادس عشر فى التوشيح اعلم أن هذا النوع إنما لقب بالتوشيح لأن معناه أن يبنى الشاعر قصيدته على بحرين من البحور الشعرية، فإذا وقف على القافية الأولى فهو شعر كامل مستقيم، وإذا وقف على الثانية كان بحرا آخر، وكان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر، فلما كان ما يضاف إلى القافية الأولى زائدا على الثانية سمى توشيحا، لأن الوشاح ما يكون من الحلى على الكشح زائدا عليه، ويقال له التشريع أيضا، لأن ما هذا حاله من الشعر فإن النفس تشرع إلى تمام القافية وكمالها، وقد يقع فى المنثور أيضا على معنى أن الفقرة الأولى تكون مختصة بتسجيعتين وتكون الثانية تابعة لها على هذا الحد، وهذا التوشيح إنما يقع ممن كان يتعاطى التمكن من صناعة النظم، عظيم البراعة فى ذلك مقتدرا على كثير من الأساليب، ومن أمثلته ما قاله بعض الشعراء: اسلم ودمت على الحوادث ما رسا ... ركنا ثبير أو هضاب حراء ونل المراد ممكّنا منه على ... رغم الدهور وفز بطول بقاء فإذا اقتصرت على القافية الأولى وهى ما رسا ركنا ثبير، كان شعرا تاما قد اختص ببحر مخصوص، وإذا زدت عليه قولك أو هضاب حراء، كان شعرا آخر مختصا ببحر آخر، وهكذا حال البيت الثانى كما ترى، وهكذا قوله «1» : وإذا الرّياح مع العشىّ تناوحت ... هدج الرّئال تكبّهنّ شمالا ألفيتنا نقرى العبيط لضيفنا ... قبل العيال ونقتل الأبطالا فالاقتصار على قوله هدج الرئال بيت على حياله على بحر من بحور الشعر، فإذا زدت قوله تكبهن شمالا، كان شعرا وخرج عن البحر الأول، وهكذا حال البيت الثانى فى قوله قبل العيال مع قوله ونقتل الأبطالا، وقد وقع فى الحريريات كقوله «2» : يا خاطب الدنيا الدّنية إنها ... شرك الرّدى وقرارة الأكدار فقوله شرك الردى، بيت كامل على بحر مخصوص، وإذا أضفت إليه قوله وقرارة الأكدار، كان شعرا وكان من بحر آخر، وقد روى عن بعض الشعراء أنه كان ينظم القصيدة على ثلاثة أبحر من الشعر ثم ينشد كل واحد منها على حياله مخالفا للآخر، واقترح عليه بعض أصحابه أن يصنع مثل ذلك فصنعه وأجاد فيه، نعم وإن كان واردا فى المنظوم والمنثور كما ذكرناه، ولكن وروده فى المنظوم أحسن بهجة وأرسخ عرقا فى البلاغة.

الصنف السابع عشر فى التجريد

الصنف السابع عشر فى التجريد اعلم أن التجريد فى أصل اللغة هو إزالة الشىء عن غيره فى الاتصال، فيقال: جرّدت السيف عن غمده، وجردت الرجل عن ثيابه، إذا أزلتهما عنهما، ومنه قوله عليه السلام «لا مد ولا تجريد» يعنى فى حد القذف وحد الشرب، وأراد أن المحدود لا يمد على الأرض ولا يجرد عن ثيابه، فأما فى مصطلح علماء البيان فهو مقول على إخلاص الخطاب إلى غيرك وأنت تريد به نفسك، وقد يطلق على إخلاص الخطاب على نفسك خاصة دون غيرها، وهو من محاسن علوم البيان ولطائفه، وقد استعمل على ألسنة الفصحاء كثيرا فصار مقولا على هذين الوجهين، فلنقصر الكلام فيه عليهما، ونذكر له تقريرين. التقرير الأول فى التجريد المحض وهو أن تأتى بكلام يكون ظاهره خطابا لغيرك وأنت تريده خطابا لنفسك فتكون قد جردت الخطاب عن نفسك وأخلصته لغيرك، فلهذا يكون تجريدا محققا، وهذا كقول بعض الشعراء فى مطلع قصيدة له: إلام يراك المجد فى زىّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير إنّك فارس ل ... مقال ومحيى الدارسات الغوائر وإنّك أعييت المسامع والنّهى ... بقولك عمّا فى بطون الدّفاتر فهذا وما شاكله من أحسن ما يوجد فى التجريد، ألا تراه فى جميع هذه الخطابات ظاهرها يشعر بأنه يخاطب غيره والغرض خطاب نفسه، وهذا هو السر واللباب فى التجريد كما أسلفنا تقريره. التقرير الثانى فى بيان التجريد غير المحض وهو أن تجعل الخطاب لنفسك على جهة الخصوص دون غيرها، والتفرقة بين هذا، والأول ظاهرة، فإنك فى الأول جردت الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، فإطلاق اسم التجريد عليه ظاهر، بخلاف الثانى، فإنه خطاب لنفسك لا غير، وإنما قيل له تجريد لأن نفس الإنسان لما كانت منفصلة عن هذه الأبعاض والأوصال، صارت كأنها منفصلة عنها فلهذا سمى تجريدا، ومثاله ما قاله عمرو بن الإطنابة «1» :

المذهب الأول أنه لا يطلق عليه اسم التجريد، وإنما يقال له نصف تجريد، وهذا هو الذى زعمه ابن الأثير،

أقول لها وقد جشأت وجأشت ... مكانك تحمدى أو تستريحى ومن هذا ما قاله بعض الشعراء: أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد «1» ومن ذلك ما قاله الأعشى «2» : ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل فهو فى هذه الأبيات كلها خطابه مقصور على نفسه دون غيره، فإذا تمهدت هذه القاعدة فهل يطلق اسم التجريد على النوع الثانى على جهة الحقيقة أم لا، وفيه مذهبان، المذهب الأول أنه لا يطلق عليه اسم التجريد، وإنما يقال له نصف تجريد، وهذا هو الذى زعمه ابن الأثير، فإن التجريد الحقيقى هو ما ذكرناه فى النوع الأول، وهو أن تخاطب غيرك وتوجه الخطاب إليه وأنت تريد نفسك، وأما ما هذا حاله فإنك توجه الخطاب فيه إلى نفسك، فلهذا كان نصف تجريد كما ترى، والحقيقة هى أن الإنسان لا يخاطب نفسه، وإنما يخاطب غيره. المذهب الثانى أن اسم التجريد يطلق عليه وهذا هو الذى ذكره أبو على الفارسى وهذا وهو الأقرب، وتقريره هو أن الإنسان حقيقة ليس عبارة عن هذه الصورة المدركة من الأبعاض والأوصال، وإنما هو أمر وراء ذلك، وللعلماء فيه خوض عظيم وتفاصيل طويلة، وأقربها مذهبان، أحدهما وهو الذى عول عليه المعتزلة وهو مذهب أئمة الزيدية، أن حقيقة الإنسان عبارة عن مجموع آسان متصلة به تقصد بالمدح والذم والثواب والعقاب والأمر والنهى وغير ذلك مخالفة لسائر الحقائق وهى الإنسانية، وهى مؤلفة من أجزاء جسمانية، وثانيهما مذهب أكثر الفلاسفة، وهو أن الإنسانية عبارة عن النفس الناطقة، وهى أمر حاصل فى الإنسان ليست جسما ولا عرضا، ولكنها حقيقة معقولة إلى غير ذلك من التفاصيل لمذهبهم، فإذا كان الأمر كما قلناه فحاصل كلام الفارسى أن العرب تعتقد

أن فى الإنسان معنى كامنا فيه، فتعتقد أنه أمر خارج عن الإنسان فتخاطبه بالخطاب والغرض غيره، فلهذا كان هذا تجريدا مشبها للأول، وهذا الذى يمكن أن يقرر عليه كلام الفارسى فى تسمية ما هذا حاله تجريدا، وقد عاب ابن الأثير على الفارسى هذه المقالة ووجه الخطأ عليه من وجهين، الوجه الأول منهما أنه قال: إن حقيقة الإنسان معنى كامن فيه، هو حقيقته، ولا وجه لذلك، فإن المعقول من صفة الإنسان هو هذه البنية المشار إليها من غير تخصيص هناك فيها، وهذا فاسد فإن الحق ما قاله الفارسى كما حكيناه عن أهل الإسلام، والمعتزلة وغيرهم، وعن الفلاسفة من أن حقيقة الإنسان هى أمر حاصل فيه، ولم ينكره ابن الأثير إلا لأنه قليل الخلطة بالمباحث الكلامية والعلوم العقلية، ولو اطلع على مقالة العقلاء من المسلمين والفلاسفة واضطراب أقوالهم فيها، لم ينكر على الفارسى هذه المقالة ولتحقق يقينا لا شك فيه أن فى الزوايا خبايا، وأن فى الخبايا خفايا، الوجه الثانى أنه قال: إنه قد أدخل فى التجريد ما ليس منه، وهذا فاسد أيضا فإنه إذا تحقق ما قلناه من أن حقيقة الإنسان أمر مخالف لهذه البنية المدركة المحسوسة عقل التجريد، وكأنها هى المخاطبة بالخطابات والمراد غيرها كما قلناه فى التجريد المحقق من أن الخطاب موجه إلى غيرك وأنت فى الحقيقة تريد به نفسك، فهذا ما أردنا ذكره من حقائق التجريد وذكر وجوهه والخلاف فيه والله أعلم.

الصنف الثامن عشر التدبيج

الصنف الثامن عشر التدبيج ومعناه أن تذكر فى الكلام ألوانا من الأصباغ تدل على المدح والذم، واشتقاقه من الديباج، وهو نوع من الحرير وله فى البلاغة موقع عظيم وهو يكسب الكلام بلاغة ويزيده حلاوة، ويرد على وجهين: الوجه الأول: أن يكون واردا فى المدح، وهذا كقول أبى تمام «1» : تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهى من سندس خضر يعنى أنه لبس ثياب الدنيا وهى حمر من الدماء فى الجهاد ثم استشهد بعد ذلك فما أتى الليل إلا وقد خرجت روحه من الدنيا وفارق الحياة وصار إلى الجنة لابسا ثياب السندس من عبقرى الجنان، فكنى عن حال القتال بالثياب الحمر، وكنى عن دخول الجنة بالثياب الخضر، ففيه من الحسن ما فيه، ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء يمدح أقواما بالكرم وشرف الخصال: إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار ... النّقع خضر الأكناف حمر النّصال «2» الوجه الثانى: أن يكون واردا فى الذم، ومثاله ما قاله بعض الشعراء: وأحببت من حبّها الباخلين ... حتى ومقت ابن سلم سعيدا إذا سيل عرفا كسا وجهه ... ثيابا من اللّؤم بيضا وسودا ومما شاكل ذلك ما ورد فى الحريريات: «فمذ ازور المحبوب الأصفر، واغبر العيش الأخضر اسود يومى الأبيض، وابيض فودى الأسود، حتى رثى لنا العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر» . وله أصل فى البلاغة راسخ، وفرع فى الفصاحة باسق شامخ.

الصنف التاسع عشر التجاهل

الصنف التاسع عشر التجاهل اعلم أن هذه الصيغة أعنى «تفاعل» موضوعة على أن تريك الفاعل على صفة ليس هو عليها، وهذا كقولك لغيرك تضارر وما به ضرر، وتعامى عن الحق وما به عمى، وتجاهل وما به جهل، هذا ما تفيده باعتبار وضعها، والتجاهل مصدر تجاهل، فالتجاهل يعطى ما يعطيه قولنا تجاهل، وهو ما ذكرناه، وأما وضعه فى اصطلاح علماء البيان، فهو منقول إلى فن من فنون البديع، وهو أن تسأل عن شىء تعلمه موهما أنك لا تعرفه وأنه مما خالجك فيه الشك والريبة وشبهة عرضت بين المذكورين، وهو مقصد من مقاصد الاستعارة، يبلغ به الكلام الذروة العليا، ويحله فى الفصاحة المحل الأعلى، ومثاله قول بعض الشعراء: أياظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا آنت أم أمّ سالم فانظر إلى عمله فى هذا البيت كيف جهل نفسه وأنزلها منزلة غبى لا يفرق بين أم سالم وبين الظبية الوحشية فى الصورة، وأنها متلبسة عليه بها، وأوهم فى كلامه هذا أنه أشكل عليه المسمى باسم الظبية على جهة الحقيقة، وأنه لا يميز بين الأمرين، هل اسم الظبية مستعار لأم سالم من الظبية الوحشية، أو يكون الأمر على العكس من ذلك، فلما كان الأمر كما قلناه سأل عن ذلك واستفهم عنه، فمتى سيق الكلام على هذا المساق، بلغ فى الفصاحة مكانا رفيعا، ويقرب من ذلك ما قاله بعضهم «1» : بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر فانظر إلى تحيره هل ليلاه من الإنس، أم من الوحش، وهمزة الاستفهام محذوفة، وقد دل عليها بقوله أم، لأنها تشعربها وتحذف معها كثيرا، إلا أن تكون أم منقطعة، فقد تأتى بغير همزة كما هو محقق فى علم الإعراب، ومن ذلك ما قاله زهير «2» : وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء

فلما أشكل عليه الأمر هل لهم صفة الذكورة أو صفة الأنوثة، سأل عن حقيقة الأمر فى ذلك واستفهم عنه. ومما يلحق بأذيال هذا الصنف ويجىء على أثره الهزل الذى يراد به الجد، مثاله قول بعضهم: إذا ما تميمىّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّب فالاستفهام جامع لهما جميعا، لكنه أورده على جهة التهكم به والهزء والسخرية، والغرض به الجد، والمعنى فى هذا عد عن المفاخرة التى أنت تطلبها فإنها مرتبة عالية سنية، ولكن حدثنى عن أكلك للضب كما هى عادتك، فهو يماثل التجاهل كما ترى وإن كان بينهما تفرقة ظاهرة.

الصنف الموفى عشرين وهو الترديد

الصنف الموفى عشرين وهو الترديد والترديد تفعيل من قولهم: ردد الثوب من جانب إلى جانب، وردد الحديث ترديدا أى كرره، ومعناه فى مصطلح علماء البيان أن تعلّق اللفظة بمعنى من المعانى ثم تردّها بعينها وتعلقها بمعنى آخر، وعند هذا يحسن رصفه ويعجب تأليفه هذا كقول أبى نواس فى وصف الخمر «1» : صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسّها حجر مسّته سرّاء فأضاف المس الأول إلى الحجر فى الأول ثم أضاف المس إلى السراء فى الثانى ليكون الكلام متناسبا مفيدا لفائدة جديدة وكقول ابن جبلة: مضطرب يرتجّ من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب إذا تظنّينا به صدّقنا ... وإن تظنّى فوقه الدهر كذب لا يبلغ الجهد به راكبه ... ويبلغ الريح به حيث طلب ففى كل واحد من هذه الأبيات لفظة مكررة قد علق عليها فى الأول ما لم يعلق عليها فى الثناء كما تراه حاصلا فى صورته، وما هذا حاله يقال له التعطف لأنه يتعطف على الكلمة الواحدة فيوردها مرتين، ومنه تعطفت الناقة على ولدها إذا كانت ترضعه مرة بعد مرة، فهذا ما أردنا ذكره فى هذا النمط من أنواع البديع المتعلقة بالفصاحة اللفظية، قد اقتصرنا فيه على هذا القدر ففيه كفاية، ونحن وإن أخللنا بشىء من أوصافه فإنه مندرج تحت ما ذكرناه من هذه الأصناف بمعونة الله تعالى.

النمط الثانى من أنواع البديع وأصنافه مما يتعلق بالفصاحة المعنوية

النمط الثانى من أنواع البديع وأصنافه مما يتعلق بالفصاحة المعنوية اعلم أنا قد اخترنا إيراد أنواع البديع على هذين النمطين وهما فى الحقيقة متقاربان، لأنه لا بد من اعتبار اللفظ والمعنى فيهما جميعا، خلا أن الأول الغرض فيه الاعتماد على فصاحة الألفاظ وعلى هذا يكون المعنى تابعا، النمط الثانى المقصود منه هو الاعتماد على بلاغة المعانى وتكون الألفاظ تابعة، وعلى هذا يعقل التغاير بين النمطين، وكل ما ذكرناه خوض فى علم البديع وبيان أنواعه، ويشتمل هذا النمط على خمسة وثلاثين صنفا نوردها الأول فالأول. الصنف الأول التفويف وهو فى علم البديع فى الذروة العليا، وهو فى مصطلح علماء البيان ما يدل على معنى آخر بقرينة أخرى كما ستراه موضحا بالأمثلة، واشتقاقه من قولهم برد مفوّف، وهو الذى يكون على لون ثم يخالطه لون أبيض، وقد يرد التفويف فيه تارة من جهة لفظه وتارة من جهة معناه، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما ونمثله بمعونة الله تعالى الضرب الأول منهما راجع إلى المعنى، وضابطه هو أن تصف الممدوح بما يدل على مدحه من صفات المكارم وسمات المحامد، ثم تورد صفات دالة على ذمه، لكن اقترن بها ما يرشد إلى كونها مدحا، فالتفويف داخل فى هذه الجهة، ومثاله قول جرير «1» : هم الأخيار منسكة وهديا ... وفى الهيجاء كأنّهم صقور بهم حدب الكرام على المعالى ... وفيهم عن مساويهم فتور خلائق بعضهم فيها كبعض ... يؤمّ كبيرهم فيها الصّغير عن النّكراء كلهم غبىّ ... وبالمعروف كلّهم بصير فكل واحد من هذه الأبيات قد تضمن ما يرشد إلى الذم، لكنه اقترن به ما أخرجه إلى المدح فقوله «كأنهم صقور» صفة ذم لأن من شأن الصقور الخطف والبغى لكنه لما اقترن بقوله «الهيجا» كان مدحا لأن الإنسان إذا كان فى الحرب كالصقر يغلب غيره ويسلبه فهو

الضرب الثانى أن يكون راجعا إلى الألفاظ

مدح لا محالة، وهكذا قوله «وفيهم عن مساويهم فتور» لأن الفتور هو الضعف والعجز وهما ذمان، خلا أنه اقترن بقوله «بهم حدب الكرام على المعالى» فصيره مدحا لأن الإنسان إذا كان عظيم الولوع بالخصال السامية والمراتب العالية وكان ضعيفا متكاسلا عن المساوى ففيه نهاية المدح وهكذا قوله «يؤم كبيرهم فيها الصغير» فإنه يكون ذما لأنه لا خير فى الكبير إذا كان مقتديا بالصغير، وإنما المدح هو عكسه لكنه لما اقترن بقوله «خلائق بعضهم فيها كبعض» أفهم أن الصغير والكبير فيهم سواء فى فعل المعروف والإحسان، وهكذا قوله: «عن النكراء كلهم غبى وبالمعروف كلهم بصير» فإن الغباوة صفة ذم، خلا أنه لما اقترن به قوله: «وبالمعروف كلهم بصير» كان دليلا على المدح فهذا ما يحتمله هذا الضرب. الضرب الثانى أن يكون راجعا الى الألفاظ وهو أن تأتى بجمل مقطعة، وهذا كقول من قال يصف السحاب «1» : تسربل وشيا من حرير تطرّزت ... مطارفها لمعا من البرق كالتبر فوشى بلا رقم ونقش بلا يد ... ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر فهذا وأمثاله يعد فى التفويف لما جاء مقطعا على أوزانه فى العروض. الصنف الثانى التنبيه وحاصله أن تطلق كلاما ثم تردفه بما يؤيده ويقرر معناه، ومثاله قول من قال: هو الذئب أو للذئب أوفى أمانة ... وما منهما إلّا أذلّ خؤون فأطلق قوله هو الذئب للإخبار عنه بالغدر والمكر، ثم أردفه بقوله «أو للذئب أوفى أمانة» تنبيها على قول من يقول وأى أمانة للذئب، فقال مستدركا مقررا للمعنى «وما منهما إلا أذل خؤون» فالتنبيه إنما كان بقوله «أو للذئب أوفى أمانة» ليستدعى قوله «وما منهما إلا أذل خؤون» ومنه قول الآخر: وقد أعددت للحدثان حصنا ... لو انّ المرء تنفعه العقول فقوله «أعددت للحدثان حصنا» تنبيه على قول قائل: وهل يمنع من الحدثان حصن؟ فتلافاه بقوله «لو أن المرء تنفعه العقول» وقال بعض الشعراء:

الصنف الثالث التوشيع

إذا ما ظمئت إلى ريقها ... جعلت المدامة عنها بديلا وأين المدامة من ريقها ... ولكن أعلّل قلبا عليلا فنبه بقوله: «وأين المدامة من ريقها» على قول قائل: هل تكون المدامة بدلا عن ريقها، فاستدرك عند ذلك بقوله: «ولكن أعلل قلبا عليلا» . ومما هو منسحب فى أذيال التنبيه «التتميم» وهو أن تأخذ فى بيان معنى فيقع فى نفسك أن السامع لم يتصوره على حد حقيقته وإيضاح معناه فتعود إليه مؤكدا له فيندرج تحت ما ذكرناه من خاصة التنبيه، وهذا كقول ابن الرومى «1» : آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصباح ... تجلو الدّجى والأخريات رجوم فقوله «نجوم» ورد غير مشروح، لأنه لا يفهم منه ما ذكره من التفصيل فى البيت الآخر، فلهذا كان مبهما، فلما شرح تقاسيم النجوم فى البيت الثانى جاء متمما له ومكملا لمعناه فلا جرم كان معنى التتميم فيه حاصلا، وكان فيه التنبيه على ما ذكرناه، فلهذا أوردناه على أثر التنبيه لما كان قريبا منه وملتصقا به فكان أحق بالإيراد على أثره وبالله التوفيق. الصنف الثالث التوشيع ويقال له التوسيع، فأما التوشيع بالشين المثلثة الفوقانية، فاشتقاقه من توشيع الشجرة وهو تفريع أصلها، وأما التوسيع بالسين المهملة فاشتقاقه من قولهم وسع فى حفر البئر إذا فسح فيه، ومنه فسح فى المجلس، إذا وسعه لمن يجلس فيه، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن أن يأتى المتكلم بمثنى يفسره بمعطوف ومعطوف عليه، وذلك من أجل أن التثنية أصلها العطف، فيوسع الاسم المثنى بما يدل على معناه ويرشد إليه على جهة العطف، ومثاله قوله عليه السلام يكبر ابن آدم ويشب معه خصلتان، الحرص وطول الأمل، وقوله عليه السلام خصلتان لا يجتمعان فى مؤمن، البخل وسوء الخلق، ومنه قول ابن الرومى يمدح عبد الله بن سليمان بن وهب: إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر وإن أضاءت لنا أنوار غرّته ... تضاءل النّيران الشمس والقمر

الصنف الرابع التطريز

وإن نضا حدّه أوسلّ عزمته ... تأخّر الماضيان السيف والقدر من لم يبت حذرا من سطو سطوته ... لم يدر ما المزعجان الخوف والحذر ينال بالظنّ ما يعيا العيان به ... والشّاهدان عليه العين والأثر كأنه وزمام الدهر فى يده ... يدرى عواقب ما يأتى وما يذر «1» وأحسن منه نظما وأرق جلدة وأدق فهما ما قال بعض المتأخرين: يا من له الأطيبان المجد والكرم ... ومن له الماضيان السيف والقلم ومن خلائقه كالروض ضاحكة ... فطبّعه الأحسنان الجود والشّيم أنت الجواد وأنت البدر لا كذب ... يمحى بك الأسودان الظلم والظلم هناك ربّك ما أولاك من نعم ... لا مسّك المؤذيان السقم والألم وعادك الشهر أعواما مكرّرة ... ما عظّم الأشرفان البيت والحرم فهذه الأبيات من أعجب ما يأتى فى أمثلة التوشيع، وهى من أرق الشعر وأمدحه، وأدخله فى حسن الانتظام وأفصحه. الصنف الرابع التطريز وهو تفعيل من طرزت الثوب إذا أتيت فيه بنقوش مختلفة، واشتقاقه من الطراز، وهو فارسى معرب، وهو فى مصطلح علماء البيان مقول على ما يكون صدر الكلام والشعر مشتملا على ثلاثة أسماء مختلفة المعانى ثم يؤتى بالعجز فتكرر فيه الثلاثة بلفظ واحد، ومن أمثلته ما قاله بعضهم: وتسقينى وتشرب من رحيق ... خليق أن يلقّب بالخلوق كأنّ الكأس فى يدها وفيها ... عقيق فى عقيق فى عقيق «2» وأراد بالثلاثة يدها، والكأس، والخمر، وكلها محمرة فكرر لفظة العقيق إشارة إلى ما ذكرناه، قال ابن الرومى يذم بنى خاقان: أمور من بنى خاقان عندى ... عجاب فى عجاب فى عجاب قرون فى رءوس فى وجوه ... صلاب فى صلاب فى صلاب «3»

الصنف الخامس فى الاطراد

ولأبى نواس: فثوبى مثل شعرى مثل نحرى ... بياض فى بياض فى بياض ومن عجيب ما جاء فى التطريز من أبيات: ... فثوبك مثل شعرك مثل بختى سواد فى سواد فى سواد فالأول مقول فى لابس ثوب أبيض والثانى فى لابس ثوب أسود، ولقد أحسنا فى ذلك غاية الإحسان. الصنف الخامس فى الاطّراد وهو مخالف لما ذكرناه من قبل من الاستطراد، فإنا قد ذكرنا أن الاستطراد يكون كلام ثم تدخل عليه كلاما أجنبيا عنه ثم ترجع إلى الأول، بخلاف الاطراد، فإنه ذكر اسم الممدوح بعينه ليزداد إبانة وتوضيحا على ترتيب صحيح ونسق مستقيم من غير تكلف فى النظم ولا تعسف فى السبك حتى يكون ذكر الاسم فى سهولته كاطراد الماء وسهولة جريه وسيلانه ومثاله ما قال بعض الشعراء «1» : إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب قال الأعشى «2» : أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت امرؤ يرجو شبابك وائل وقال دريد بن الصمة «3» : قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب وقال آخر: من يكن رام حاجة بعدت عن ... هـ وأعيت عليه كل العياء فلها أحمد المرحّى ابن يحيى ب ... ن معاذ بن مسلم بن رجاء» فأما ذكر الأمهات والجدات فليس محمودا عند البلغاء وأهل العلم بالمدائح الشعرية لما فيه من الركة وإنزال قدر الممدوح، وقد عيب على أبى نواس فى مدحه لمحمد الأمين ذكره

الصنف السادس: القلب

لأمه فى مدحه حيث قال: أصبحت بابن زبيدة ابنة جعفر ... أملا لعقد حباله استحكام فإن مثل هذا مما يعد فى القبح فى مثل هذا المقام، وهكذا قوله: وليس كجدّتيه أمّ موسى ... اذا نسبت ولا كالخيزران وإنما كان هذا مكروها، لأن شرف الإنسان إنما يكون بالرجال لا من جهة النساء. الصنف السادس: القلب وهو من جملة أفانين البلاغة، وفيه دلالة على الاقتدار فى الكلام والإغراق فيه، ويأتى على أوجه خمسة: أولها «التبديل» وهو عكس الكلمات فى نظامها وترتيبها، ومثاله قولهم كلام الملوك ملوك الكلام، وفى الحريريات قوله الإنسان صنيعة الإحسان ورب الجميل فعل الندب، وشيمة الخير ذخيرة الحمد، وكسب الشكر استثمار السعادة، وعنوان الكرم تباشير البشر، وكقول المتنبى «1» : فلا مجد فى الدّنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال فى الدنيا لمن قلّ مجده ومنه قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ [يونس: 31] . وثانيهما قلب البعض ومثاله قوله: وقالوا أىّ شىء منه أحلى ... فقلت المقلتان المقتلان فأخر ما قدمه فى أحدهما، وقدم ما أخره كما ترى. وثالثها قلب الكل من الكلمة ومثاله قوله «2» حسامك منه للأحباب فتح ... ورمحك فيه للأعداء حتف «ففتح» مقلوبه من آخره «حتف» ويخالف ما سبقه فإن القلب فى المقلتين والمقتلين ليس إلا بعض الكلمة لا غير، ورابعها «المجنح» وهو أن يكون القلب فى أول كلمة من البيت وآخر كلمة منه وهذا كقوله «3» : لاح أنوار الهدى ... فى كفّه فى كلّ حال فقوله «لاح» فى أول البيت مقلوبه «حال» فى آخره.

وخامسها «المستوى»

وخامسها «المستوى» وهو الذى من أوله وآخره على جهة الاستواء، وهو قليل نادر صعب المسلك، وعر المرتقى لا يكاد يأتى به إلا من أفلق فى البلاغة، وتقدم فى الفصاحة، وقد يأتى فى النثر والنظم، فمما جاء فى كتاب الله تعالى قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) [الأنبياء: 33] وقوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) [المدثر: 3] ومنه قول بعضهم مودتى لعلى تدوم، وقال آخر دام على العماد، وفى الحريريات قوله: من يرب إذا بر ينم، وقوله سكت كل من نم لك تكس، وقوله كبر رجاء أجر ربك، ومن الشعر قوله «1» : أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا أسند أخا نباهة ... أبن إخاء دنّسا اسل جناب غاشم ... مشاغب إن جلسا أسر إذا هبّ مرا ... وارم به إذا رسا اسكن تقوّ فعسى ... يسعف وقت نكسا وأعجب الحسن فى هذه الأمور أن تكون الألفاظ تابعة للمعانى، فعند هذا تروق وتحسن، فأما إذا جاءت على العكس من هذا نزل قدره ولم يكن معجبا كل الإعجاب الصنف السابع: التسميط اعلم أن من الناس من يعد هذا النوع من أنواع التسجيع، والحق ما قاله الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: إنّه مخالف لأنواع السجع، وهو أن يؤتى بالبيت من الشعر على أربعة مقاطع، فثلاثة منها على سجع واحد مع مراعاة القافية فى الرابعة إلى أن تنقضى القصيدة على هذه الصفة، واشتقاقه من قولهم: عقد مسمط إذا روعى فيه هذه الحال، ومن أمثلته قول جنوب الهذلية: وحرب وردت وثغر سددت ... وعلج شددت عليه الحبالا ومال حويت وخيل حميت ... وضيف قريب يخاف الوكلا وكقول امرىء القيس يصف رجلا قتله «2» : ومستلئم كشّفت بالرّمح ذيله ... أقمت بعضب ذى سفاسق ميله فجعتبه فى ملتقى الحىّ خيله ... تركت عتاق الطير تحجل حوله

الصنف الثامن كمال البيان ومراعاة حسنه

كأنّ على سرباله نضح جريال فهذا حباء على أربعة مقاطيع، والخامسة هى القافية، والأول أربعة رابعتها القافية، ومن الخمسة قوله: يا خليلىّ اسقيانى بالزّجاج ... حلب الكرمة من غير مزاج أنا لا ألتذّ سمعا باللّجاج ... فاسقنيها قبل تغريد الدّجاج قبل أن يؤذن صبحى بانبلاج ... إن أردت الرّاح فاشربها صباحا ومن ذلك ما ورد فى الحريريات قوله: لزمت السّفار وجبت القفار ... وعفت النفار لأجنى الفرح وخضت السّيول ورضت الخيول ... بجرّ ذيول الصّبا والمرح وقوله: أيا من يدّعى الفهم ... إلى كم يا أخا الوهم تعبّى الذنب والذّم ... وتخطى الخطأ الجم الصنف الثامن كمال البيان ومراعاة حسنه اعلم أن لهذا الصنف من المكانة فى البلاغة موقعا عظيما، وحاصله فى لسان أهل البلاغة أنه كشف المعنى وإيضاحه حتى يصل إلى النفوس على أحسن شىء وأسهله، وهو يأتى على ثلاثة أوجه نفصلها بمعونة الله تعالى، وينقسم إلى ما يكون قبيحا فى البيان وإلى ما يكون حسنا، وإلى ما يكون متوسطا فهذه وجوه ثلاثة، الوجه الأول أن يكون قبيحا، وهو ما يكون فيه دلالة على العى، وهذا كالذى يحكى عن «باقل» وقد سئل عن ثمن ظبى وهو ممسك له، فقيل له كم ثمن هذا الظبى، فأراد أن يقول أحد عشر درهما فأدركه العى والحمق فأرسل الظبى وفرق بين أصابع يديه وأدلع لسانه إشارة إلى أنه بأحد عشر درهما فأفلت الظبى عن يده، ومن ركيك البيان ونازل القدر فيه أن رجلا كانت فى يده محبرة من زجاج فقيل كم أصحاب الكسا، ففتح كفه وأشار بأصابعه الخمس فسقطت المحبرة من يده وانكسرت، ولقد كان يغنيه عن ذلك أن يحرك لسانه وينطق بلفظة الخمسة فيسلم من ذلك، فهذا وما شاكله من البيانات معدود فى غاية القبح والركة، ولا يكاد يفعله إلا أهل البلاهة، ومن لا لب له، الوجه الثانى ما يعد فى الحسن، وهو ما يأتى موضحا للمعنى من غير زيادة فيكون فضلا، ولا نقصان فيكون فيه إخلال، وتارة يأتى مع الإيجاز وتارة

الوجه الثالث فى المتوسط من البيان،

مع الإطناب، فهاتان خاصتان، الخاصة الأولى مجيئه مع الإيجاز ومثاله قول الشاعر: له لحظات عن حفافى سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل «1» فإنه قد جمع إلى إيجازه وصف الممدوح بالخلافة ومدحه بالقدرة وشدة الانتقام وإعطاء المعروف والهيبة والجلالة والعظمة والأبهة، الخاصة الثانية مجيئه مع الإطناب ومثاله قول بعض الشعراء يمدح رجلا فأطنب فى مدحه ووصفه بالخصال الباهرة: لقد وقفت عليه فى الجموع ضحى ... وقد تعرّضت الحجّاب والخدم حييته بسلام وهو مرتفق ... وضجّة الناس عند الباب تزدحم فى كفّه خيزران ريحه عبق ... فى كف أروع فى عرنينه شمم يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم «2» فانظر إلى ما أودعه فى هذه الأبيات من الإطناب فى مدحه بهذه الخصال كلها، وذكرها مفصلة فيه أقوى دلالة على الإطناب، فهذه أمثلة البيان الحسن، الوجه الثالث فى المتوسط من البيان، وهو ما ليس فيه قبح كالذى حكيناه عن «باقل» ولا فيه دلالة على الإيجاز والإطناب فيكون بالغا فى الحسن، ومثاله إذا قيل: كم أصحاب الكسا، فقيل خمسة، وكم المبشرون بالجنة من الصحابة، فقلت عشرة، فهذا بيان متوسط. الصنف التاسع: الإيضاح وهو إفعال من أوضحت الكلام إذا بينته ودرهم وضح، إذا كان مضروبا، فاشتقاقه من الظهور، يقال وضح الفجر إذا كان بينا، وفى مصطلح علماء البيان عبارة عن أن يرى فى كلامك لبسا يكون موجها، أو خفى الحكم فتردفه بكلام يوضح توجيهه ويظهر المراد منه، فهذان وجهان، الوجه الأول أن يكون الذى يؤتى به من الكلام موضحا لتوجيهه، ومثاله قول الشاعر: يذكّرنيك الخير والشّرّ كلّه ... وفيك الحيا والعلم والحلم والجهل فألفاك عن مكروهها متنزّها ... وألقاك فى محبوبها ولك الفضل «3»

الصنف العاشر التتميم

فالبيت الأول دال على التوجيه بمعنى أنه يحتمل أن يريد مدحه وأن يريد ذمه لأنه صرح بأن فيه الخير والشر، وفيه الحلم والجهل، فيحتمل أن يكون المراد مدحه، ويحتمل أن يريد ذمه، فإذا قال بعد ذلك فى البيت الثانى إنه برىء عن مكروهها، ومنزه عنه، وأنه فى محبوبها له الزيادة على غيره فى الصفات المحمودة، أزال ما يحتمله الأول من الذم، وأزال توجيهه الذى يحتمله. الوجه الثانى أن يكون الذى يؤتى به من الكلام موضحا لحكم خفى ومثاله ما يقوله بعض الشعراء: ومقرطق يغنى النديم بوجهه ... عن كأسه المملى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... فى مقلتيه ووجنتيه وريقه «1» فالبيت الأول حكمه خفى لإيراد القصد فيه، لأنه لم يفصح بمقصوده عن كون النديم يغنى بوجهه، وما الذى أغناه عن حمل الكأس والإبريق، فلما قال فى البيت الثانى: فعل المدام ولونها ومذاقها ... فى مقلتيه ووجنتيه وريقه وأراد أن المقلتين يسكران من نظر إليهما ويخجلانه كما تسكر الخمر العقول وتحيرها وتدهشها وحمرة المدام تشبهها حمرة خديه، ومذاق المدام يشبه ريقه، صار البيت موضحا لهذه الأمور الثلاثة مبينا لها ولحكمها، والمقرطق بالقافين، لابس القباء، والمقرطف. بقاف وفاء هو اللابس لثوب له خمل والله أعلم. الصنف العاشر التتميم وهو تفعيل من قولهم تممه إذا أكمله، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن تقييد الكلام بفضلة لقصد المبالغة، أو للصيانة عن احتمال الخطأ، أو لتقويم الوزن، فهذا تقرير معناه فى مراد علماء البلاغة، ثم يرد على أوجه ثلاثة، إما للمبالغة، وإما للصيانة، وإما لإقامة الزنة على حد ما ذكرناه فى شرح ماهيته، أولها أن يكون واردا على جهة المبالغة بأن تكون الفائدة فى تلك الفضلة إنما هى المبالغة لا غير، ومثاله قول زهير: من يلق يوما على علّاته هرما ... يلق السّماحة منه والنّدى خلقا «2»

فقوله «على علاته» تتميم للمبالغة، فوقعت فى غاية الحسن والرشاقة كما ترى، والمراد بقوله على علاته أى على حالاته وكقوله يمدح هرما أيضا: إن الكريم على علاته هرم فهذه اللفظة حصل من أجلها مبالغة فى المدح لا يخفى. وثانيها أن تكون واردة على جهة الصيانة عن احتمال الخطأ فترد رافعة له، ومثاله ما قاله بعض الشعراء: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الرّبيع وديمة تهمى «1» فقوله غير مفسدها فضلة واردة لرفع الإيهام الحاصل ممن يدعو على الديار بكثرة المطر ليكون مفسدا لها، فانظر إلى موقع هذه اللفظة ما أرقه وما ذاك إلا من أجل ما اشتملت عليه من هذا الاحتراز الذى ذكرناه، وهكذا قول من قال: لئن كان باقى عشينا مثل ما مضى ... فللحبّ إن لم يدخل النار أروح «2» فقوله إن لم يدخل النار معناه سلامة العاقبة، وأراد أن أول الحب كان فيه بلهنية وخفض عيش ولذة وراحة، فإن كان آخره مثل أوله فالحب لا محالة أحمد عاقبة، لكن بشرط أن تكون العاقبة فيه سليمة عما يشوبها، لأن الحب الأكثر فيه أن يكون خطأ تكاد أن تكون عقابه وخيمة يدخل بسببها النار، فإذا كان هذا سليمة عواقبة فهو أروح، يعنى مشتهى لسلامته عما لا يكاد ينفك عنه. وثالثها أن يكون واردا على جهة الاستقامة للوزن ولا يحتاج إليه فى المبالغة ولا للاحتراز، ومثاله قول المتنبى: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتى لرأيت فيه جهنّما «3» فإن المعنى تام، لكنه لما كان الوزن غير مستقيم لو انخرم عن قوله يا جنتى، أتى بها من أجل استقامة الزنة لا غير، فحصل طباق وحسن موقع لا يوجد مع حذفها، ولو قال عوضها «يا منيتى» لاستقام الوزن، لكن لا طباق فيها ولا يكون لها موقع حسن، وقد ذكرنا فيما سلف الاعتراض، وبينا ما يحسن منه وما يقبح، فأغنى عن الإعادة وبالله التوفيق.

الصنف الحادى عشر الاستيعاب

الصنف الحادى عشر الاستيعاب وهو استفعال من قولهم: استوعبت ما فى القدح من اللبن شربا، إذا أتيت عليه. وهو فى لسان أهل البلاغة عبارة عن أن يتعلق بالكلام معنى له أقسام متعددة فيستوعبها فى الذكر ويأتى عليها، ومثاله قول عمر بن أبى ربيعة: تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت تقصر ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا نأيها يسلى ولا أنت تصبر «1» فانظر إلى استيعابه جميع متعلقات قوله «تهيم بحيث لو عددها بحرف العطف لكان ذلك صحيحا جامعا، وقد جاء فى القرآن ما هذا حاله كقوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً [الشورى: 49] فهذا التقسيم حاصر لا مزيد على حصره مع ما فيه من البلاغة التى ليس وراءها غاية، لأنه فى معنى، الناس على طبقاتهم واختلاف أحوالهم على أربعة أصناف، فمنهم من له بنات لا غير، ومنهم من له بنون، ومنهم ذو بنات وبنين، ومنهم من هو عقيم لا ولد له من ابن ولا بنت فهذه الآية مستوعبة لما ذكرناه، وكقول بشار: فراح فريق فى الأسارى ومثله ... قتيل وقسم لاذ بالبحر هاربه «2» فاستوعب أنواع التنكيل وتفريق الشمل، كأنه قال صاروا بين أسير ومقتول وهارب فى البحار لعله ينجو، وكما فعله عمرو بن الأهتم بهذيل فى قوله: اشربا لا شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير «3» فاستوعب ما وقعوا فيه من أنواع العذاب بالقتل والأسر والتطريد، وكما قال بعض أهل الحماسة: فهبها كشىء لم يكن أو كنازح ... به الدّار أو من غيّبته المقابر «4» فجمع فى ذلك بين أنواع العدم حتى استوعبها، وكما قال نصيب: فقال فريق القوم لمّا سألتهم ... نعم وفريق أيمن الله ما ندرى «5»

الصنف الثانى عشر الإكمال

فاستوعب جميع نوعى الجواب فى النفى والإثبات، فلم يبق بعد ذلك شىء، فما هذا حاله إذا ورد فى الكلام فى نظمه أو نثره كان أدل ما يكون على البلاغة وأقوم شىء فى الفصاحة، ولا يكاد يختص به إلا من رسخت قدمه فيها. الصنف الثانى عشر الإكمال وهو إفعال، من أكمل الشىء إذا حصله على حالة لا زيادة عليها فى تمامه، وهو فى مصطلح علماء البيان مقول على أن تذكر شيئا من أفانين الكلام، فترى فى إفادته المدح كأنه ناقص لكونه موهما بعيب من جهة دلالة مفهومه فتأتى بجملة فتكمله بها تكون رافعة لذلك العيب المتوهم، وهذا مثاله أن تذكر من كان مشهورا بالشجاعة دون الكرم، ومن كان عالما بالبلاغة دون سداد الرأى ونفاذ العزيمة، فترى فى ظاهر الحال أنه ناقص بالإضافة إلى عدم تلك الصفة المفقودة عنه، فتذكر كلاما يكمل المدح ويرفع ذلك التوهم كما قال كعب بن سعد الغنوى فى ذلك: حليم إذا ما الحلم زيّن أهله ... مع الحلم فى عين العدوّ مهيب «1» فإنه لو اقتصر على قوله «حليم إذا ما الحلم زين أهله» لأوهم إلى السامع أنه غير واف بالمدح، لأن كل من لا يعرف منه إلا الحلم ربما طمع فيه عدوه فنال منه ما يذم به، فلما كان ذلك متوهما عند إطلاقه أردفه بما يكون رافعا للاحتمال مكملا للفائدة بوصف الحلم، وهو قوله «مع الحلم فى عين العدو مهيب» ليدفع به ما ذكرناه من التوهم، وكقول السموءل بن عادياء: وما مات منا سيّد فى فراشه ... ولا طلّ منا حيث كان قتيل «2» فلو اقتصر على قوله: «وما مات منا سيد فى فراشه» لأوهم أنهم صبر على الحروب والقتل دون الانتصار من أعدائهم فلا جرم أكمله بقوله «ولا طل منا حيث كان قتيل» فارتفع ذلك الاحتمال المتوهم وزال، وكما قال ابن الرومى نثرا: إنى وليّك الذى لم يزل تنقاد إليك مودته من غير طمع ولا جزع، وإن كنت ولذى الرغبة مطلبا، ولذى الرهبة مهربا، فلو سكت على قوله إنى وليك الذى لم يزل تنقاد إليك مودته من غير طمع ولا

الصنف الثالث عشر فى التذييل

جزع، لأوهم أنه لا يطمع فيه لقلة ذات يده ولا يرهب منه لعجزه، فلما قال وإن كنت لذى الرغبة مطلبا لذى الرهبة مهربا، أكمله ورفع الاحتمال الذى ذكرناه، والتفرقة بين الإكمال والتتميم ظاهرة مع كونهما مشتركين فى أنهما إنما زيدا من أجل رفع الوهم عن تخيل ما يحط من المدح ويسقطه، وحاصلها من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، أما من جهة اللفظ فهو أن التتميم إنما يقال فى شىء نقص ثم تمم بغيره، بخلاف الإكمال فإنه تام لم ينقص منه شىء، خلا أنه أكمل بغيره، فصار الأول بالزيادة تاما، وصار الثانى بالزيادة كاملا، وأما من جهة المعنى فهو أن التتميم إنما يذكر من أجل رفع احتمال متوهم، فلهذا افترقا، فالإتمام يرفع الخطأ مما ليس ذما، والإكمال يرفع الذم المتوهم إذا لم يذكر، فهذا تقرير ما يمكن من التفرقة بينهما، ومن عرف أمثلتهما تحقق ما ذكرناه. الصنف الثالث عشر فى التذييل وهو تفعيل من قولهم ذيّل كلامه إذا عقّبه بكلام بعد كمال غرضه منه، فأما معناه فى اصطلاح علماء البلاغة فهو عبارة عن الإتيان بجملة مستقلة بعد إتمام الكلام لإفادة التوكيد وتقرير لحقيقة الكلام، وذلك التحقيق قد يكون لمنطوق الكلام، وتارة يكون لمفهومه فهذان وجهان، الوجه الأول أن يكون سوقه من أجل تأكيد منطوق الكلام، ومثاله قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) [سبأ: 17] لأن حاصل قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ظاهره وصريحه يدلان على أن الوجه فى استحقاقهم لما استحقوه من نزول العذاب، إنما كان من أجل كفرهم لأن قوله: بِما كَفَرُوا تعليل للجزاء من أجل الكفر، فقوله بعده وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) تقرير وتأكيد لما سبق من الجملة الأولى وتحقيق لها، لأنه دال عليها ومحقق لفائدتها وهكذا قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء: 34- 35] فلما قال وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ذيلها بتذييلين، كل واحد منهما محقق لفائدتها ودال على مضمونها، الأول منهما قوله: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) فهذا الاستفهام وارد على جهة الإنكار عليهم فى زعمهم الخلود، وأراد أنه لا تتصور أن تكون أنت ميتا، وهم خالدون بعدك فإذا كان لا خلود لك مع ما اختصصت به من المكانة والزلفة عند الله تعالى فهم أحق بالانقطاع والزوال لا محالة، والثانى قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ فهذا أيضا توكيد لقوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ لأن هذا العموم قاطع لكل ظن ويأس عن كل أمر يطمع بالخلود، ومن الأمثلة فى ذلك ما قاله بعض الشعراء فى ممدوحه:

الصنف الرابع عشر فى التفسير

لم يبق جودك لى شيئا أؤمّله ... تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل «1» فقوله «تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل» مؤكد لما دلت عليه الجملة الأولى بظاهرها، وهو قوله «لم يبق جودك لى شيئا أؤمله» لأنه مصرح بأن جوده لم يترك له أمنية يتمناها. فلم يبق له أمل فى الدنيا يرجو حصوله بحال، وهذا نهاية المدح، وقد أخذه المتنبى وزاد عليه فى قوله من قصيدة يمدح بها سيف الدولة: تمسى الأمانىّ صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشىء ليت ذلك لى «2» وهذا أعظم من الأول فى المدح وأدخل فى الأدب مع الممدوح، حيث جعله فى قبيل من لا يتمنى شيئا أصلا. الوجه الثانى أن تكون الجملة الثانية مسوقة من أجل تأكيد مفهوم الكلام، ومثاله بيت النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أىّ الرّجال المهذّب «3» فقوله «ولست بمستبق أخا لا تلمه» دال من جهة مفهومه على نفى الكامل من الرجال، ثم أكد هذا المفهوم بقوله «أى الرجال المهذب» لأن معناه أنا أستفهمك عنه فإنى لا أكاد أجده، ومن ذلك ما قاله الحطيئة: نزور فتى يعطى على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يحمد «4» فمفهوم قوله «يعطى على الحمد ماله» أنه لا يعطى ماله إلا لأجل أن يحمد، وقوله بعد ذلك «ومن يعط أثمان المكارم يحمد» محقق له ومؤكد لفائدته، فلأجل هذا كان ما هذا حاله تذييلا، واشتقاقه من ذيل الفرس، إما لأنه زائد على كمال خلقها، كما أن هذا مزيد على جهة التوكيد، وإما لأنه فى عجزها كما أن هذا إنما يأتى على أدبار الجمل مقررا لها. الصنف الرابع عشر فى التفسير وهو تفعيل من الفسر، وهو البيان، يقال فسر الكلام يفسره إذا بيّنه، ويقال لنظر الطبيب إلى بول الرجل فسر لأنه يتبين به حاله، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن أن يقع فى مفردات كلامك لفظ مبهم أو عدد مجمل أو غير ذلك مما يفتقر إلى بيان، فتأتى بما يقرر ذلك ويكون شرحا له من بيان وكشف، ثم إن وقوعه يكون على وجهين،

الوجه الأول أن يكون الإبهام واقعا فى أحد ركنى الإسناد،

الوجه الأول أن يكون الإبهام واقعا فى أحد ركنى الإسناد، فيكون بيانه بالركن الآخر ومثاله قول بعض الشعراء: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر يحكى أفاعيله فى كلّ نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذّكر «1» فالإبهام إنما وقع فى قوله ثلاثة تشرق الدنيا، وهو واقع فى موضع المبتدأ وبيانه إنما وقع بركنه الثانى وهو خبر المبتدأ، وهكذا قوله «يحكى أفاعيله» فإن الإبهام واقع فيه، وقد فسره بقوله الغيث والليث والصمصامة الذكر، فهذه الأمور كلها فاعلة لقوله يحكى أفاعيله، فلأجل هذا قضينا فيها بأن الركن الثانى وهو الفاعل يفسر الركن الأول، وهو قوله يحكى أفاعيله، فلأجل ملازمة أحد الركنين لصاحبه لا جرم جاز أن يكون أحدهما مفسرا للآخر كما أشرنا إليه، الوجه الثانى أن يأتى على خلاف الأول، وهو أن يكون الثانى مفسرا للأول بالصفة، وهذا كقول الفرزدق يمدح أقواما: لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم لألفيت منهم معطيا أو مطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوّم «2» فلما عدّد تلك الأمور الثلاثة المجحفة بالإنسان الطّرد والثّقل والإعدام على من رواه «معدم» فأما من رواه بالراء وهو الصحيح فهما أمران، الطرد وحمل الثقل الذى يغرم لأجله عقّبه بأمرين كل واحد منهما موضح لما قاله على جهة المقابلة بما يصلح له فقابل الطّرد بالطعان حوله حتى يستنصر من حقه، وقابل قوله حمل ثقل المعدم، بقوله معطبا ليجبر فقره فهكذا حال التفسير يأتى على هذين الوجهين وما أشبههما، فإذا حصل على الصفة التى يكون فيها بيان لما سبقه فهو تفسير، وإن اختلفت فيه الأمثلة. الصنف الخامس عشر فى المبالغة وهى مصدر من قولك بالغت فى الشىء مبالغة إذا بلغت أقصى الغرض منه، وفى مصطلح علماء البيان هى أن تثبت للشىء وصفا من الأوصاف تقصد فيه الزيادة على غيره، إما على جهة الإمكان، أو التعذر، أو الاستحالة. فقوله أن تثبت للشىء وصفا عن الأوصاف عام يندرج فيه ما فيه مبالغة، وما ليس فيه مبالغة، وقوله تقصد فيه الزيادة على

الفائدة الأولى فى ذكر مذاهب الناس فيها

غيره، يخرج عنه ما ليس كذلك، فإن حقيقة المبالغة الزيادة لا محالة وقوله وصفا من الأوصاف، عام فى المدح والذم، والحمد، والشكر وسائر الأوصاف التى يمكن فيها الزيادة وقوله إما على جهة الإمكان، أو التعذر، أو الاستحالة، يشمل أنواع المبالغة، لأن ما ذكرناه يقال له مبالغة إذا كان يصح وقوعه، أو يكون متعذرا مع إمكانه، أو مستحيلا لا يمكن وقوعه فكله معدود فى المبالغة، فإذا عرفت هذا فلنذكر مذاهب الناس فيها، ثم نذكر طرقها، ثم نردفه بذكر أنواعها فهذه فوائد ثلاث نفصلها بمعونة الله تعالى. الفائدة الأولى فى ذكر مذاهب الناس فيها اعلم أن لعلماء البيان فى المبالغة مذاهب ثلاثة فى كيفية مدخلها فى الكلام وإفادتها لما تفيده، وهل تعد من فنون علم البديع أم لا: المذهب الأول أنها غير معدودة من محاسن الكلام، ولا من جملة فضائله، وحجتهم على هذا هو أن خير الكلام ما خرج مخرج الحق وجاء على منهاج الصدق من غير إفراط ولا تفريط، والمبالغة لا تخلو عن ذلك كما جاء فى أشعار المتأخرين من الإغراق والغلو، وجه آخر وهو أن المبالغة لا يكاد يستعملها إلا من عجز عن استعمال المألوف والاختراع الجارى على الأساليب المعهودة، فلا جرم عمد إلى المبالغة ليسد خلل بلادته بما يظهر فيه من التهويل ولهذا تراها مخرجة للكلام إلى حد الاستحالة، فهذا تقرير كلام من منع المبالغة. المذهب الثانى على عكس هذا وهو أن المبالغة من أجل المقاصد فى الفصاحة، وأعظمها فى البراعة، ومن أجلها نشأت المحاسن فى المعانى الشعرية، وحجتهم على هذا أن خير الشعر أكذبه، وأفضل الكلام ما بولغ فيه، ولهذا فإنك ترى الكلام إذا خلا عنها وبعد عن استعمالها كان ركيكا نازلا قدره، ومتى خلط بها ظهرت فصاحته وراق رونقه وحسن بهاؤه وبريقه، فهذا تقرير مقالة من قبلها واستعملها. المذهب الثالث مذهب من توسط، وهو أن المبالغة فن من فنون الكلام ونوع من محاسنه، ولا شك أن

للكلام بها فضل بهاء وجودة رونق وصفاء لا يخفى على من كان له أدنى ذوق، ولكن ليس على جهة الإطلاق، فإن الصدق فضله لا يجحد، وحسنه لا ينكر، فمهما كانت المبالغة جارية على جهة الاعتدال بالصدق فهى حسنة جميلة، ومهما كانت جارية على جهة الغلو والإغراق فهى مذمومة، فهذه مذاهب المتكلمين فى حكم المبالغة قد حصرناها وضبطناها ليتضح الحق ويظهر أمره، والمختار عندنا وعليه تعويل أهل التحقيق من علماء البيان تقرير نشير إلى مباديه، ونرمز إلى أسراره ومعانيه، فنقول أما من عاب المبالغة فقد أخطأ، فإن المبالغة فضيلة عظيمة لا يمكن دفعها ولولا أنها فى أعلى مراتب علم البيان لما جاء القرآن ملاحظا لها فى أكثر أحواله، وجاءت فيه على وجوه مختلفة لا يمكن حصرها، فقد أخطأ من عابها على الإطلاق، وأما من استجادها على الإطلاق فغير مصيب على الإطلاق أيضا لأن منها ما يخرج عن الحد فيعظم فيه الغلو والإغراق فيكون مذموما كما سيحكى عن أقوام أغرقوا فيها وتجاوزوا الحد بحيث لا يمكن تصور ما قالوه على حال قرب ولا بعد، لكن خير الأمور أوساطها، فما كان من الكلام جاريا على حد الاستقامة من غير إفراط ولا تفريط فهو الحسن لا مراء فيه، فيكون فيه نوع من المبالغة من غير خروج ولا تجاوز حد، وأحسن بيت ما قاله زهير وهو من بدائع حكمه الشعرية: ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم «1» فما هذا حاله من أعجب الأبيات وأصدقها حكمة، وأدخلها فى معرفة أخلاق الناس، ومن ذلك ما قاله حسان بن ثابت فى حسن الصدق: وإنما الشعر لبّ المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا فإنّ أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا «2» ومن أجل الإخلال بالمبالغة ومراعاتها عيب على حسان فى قوله: لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما «3» فعيب عليه قوله الجفنات، وهو جمع قلّة، وليس هذا من مواضع القلة، وكان الأحسن فيه الجفان وقوله «الغر» والغر إنما تستعمل فى مدح الشىء بالوضوح، وليس هذا من

الفائدة الثانية فى ذكر طرق المبالغة

مواضعه، وكان الأحسن «يمرعن» من كثرة الدهن وقوله يلمعن بالضحى، فإن كل شىء يلمع عند طلوع الشمس عليه، وكان الأفصح فيه، يلمعن فى سواد الليل من كثرة الأصباغ، وقوله وأسيافنا جمع قلة، وهذا ليس من مواضعه وكان الأفصح ذكر جمع الكثرة كالسيوف، وقوله «يقطرن» لأن القطرة قليلة حقيرة وكان الأفصح «يسلن» عوض يقطرن، فعرفت بما ذكرناه أن الكلام متى عرى عن استعمال المبالغة كان مذموما نازل القدر، فينحل من مجموع ما ذكرنا هاهنا معرفة ما يقبل فى المبالغة وما يردّ، وما يكون محمودا أو مذموما بما قررناه والله أعلم بالصواب. الفائدة الثانية فى ذكر طرق المبالغة اعلم أن المبالغة إذا كانت مستعملة فى الكلام مكسبة له رونقا وحلاوة، فلا بد فيها من طريق يوصل إليها، وجملة ما يذكر من ذلك طرق ثلاث: الطريق الأولى أن يستعمل اللفظ فى غير ما وضع له فى الأصل إما على جهة الاستعارة، أو الكناية، أو التمثيل، على ما سبق تقريره فى الأنواع المجازية، فإنه إنما استعمل فيها على تلك الأوجه من أجل المبالغة فى معناها، فإن قولنا مررت بالرجل الأسد يخالف قولنا مررت بالرجل الشجاع البالغ فى الشجاعة كل مبلغ، وما ذاك إلا لما فيه من المبالغة بكونه مجازا، وكما قال بعض الشعراء فى وصف القرطاس: ويرى الصحيفة حلبة وجيادها ... أقلامه وصريرهنّ صهيلا وكقول المتنبى: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا «1» إلى غير ذلك من رقيق الاستعارة وبديعها. الطريق الثانية أن ترادف الصفات وتكون متكررة لإعظام حال الموصوف ورفع شأنه، ومن أجل

الطريق الثالثة إتمام الكلام بما يوجب حصول المبالغة فيه وإكماله به

قصد التهويل فى المعنى المقصود وإشادة أمره من مدح أو ذم كقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: 35] فانظر إلى تعديد هذه الجمل ومجيئها من غير حرف عطف، كيف أفادت المبالغة فى حال الموصوف، وأشادت من قدره ورفعت من حاله، وأبانت المقصود على أحسن هيئة، وكقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40] فتأمل هذه الأوصاف فى نعت النور والظلمة، كيف أصابت المجزّ، وطبّقت المفصل فى تحصيل المقصود وإظهار المبالغة فيه كما ترى. الطريق الثالثة إتمام الكلام بما يوجب حصول المبالغة فيه وإكماله به وهذا كقول من قال يمدح نفسه وقومه: ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث كانا «1» فإنه لم يكتف بما صدّره فى أول البيت من مقدار ما هو عليه وقومه من الإحسان إلى الجار والقيام بحقه وبذل الجهد فى المعروف إليه، حتى شفعه بقوله «ونتبعه الكرامة حيث كانا» مشتملا على زيادتين، الزيادة الأولى لحوق الكرامة له من الإتحاف والإلطاف وكثرة الإحسان والتبجيل والتعظيم، والزيادة الثانية قوله «حيث كانا» وأراد به حيث يسير من سائر الجهات من برّ أو بحر أو سهل أو جبل، فحصول هاتين الزيادتين قد اشتمل على المبالغة فيما ذكرناه، وكقول أبى تمام فى صفة الفرس ومدحه بصبره وتجلده على الجرى: وأصرع أىّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب» فلما مدحه بأنه يلحق كل وحش عليه ولم يستثن شيئا من ذلك عقبه بأعظم منه مدحا وأكثر مبالغة بقوله «وأنزل عنه مثله حين أركب» فى جموم جريه وكثرة نشاطه، أو أنه لا يعرق مع كثرة جريه لمزيد القوة وشدة صلابته.

الفائدة الثالثة فى ذكر أنواع المبالغة

الفائدة الثالثة فى ذكر أنواع المبالغة اعلم أن المبالغة ترجع حقيقة أمرها إلى دعوى المتكلم للوصف اشتدادا فيما سيق من أجله على مقدار فوق ما يسلّمه العقل ويستقر به، ثم ذلك المقدار فى نفسه إما أن يكون ممكنا أو غير ممكن، والممكن إما أن يكون واقعا أو غير واقع، فدعوى كون الوصف على مقدار مستبعد يصح وقوعه عادة، يسمى مبالغة، ودعوى كون الوصف على مقدار ممكن يمتنع وقوعه عادة، يسمى إغراقا، ودعوى كون الوصف على مقدار غير ممكن يسمى غلوّا، فهذه ضروب ثلاثة نذكر ما يتوجه فى كل واحد منها بمعونة الله تعالى. الضرب الأول منها ما يستبعد فى العقل، لكن وقوعه صحيح وهو المبالغة، ومثاله قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] فما هذا حاله معدود فى المبالغة، ولو قال عوض هذه المقالة تواضع لوالديك وللمؤمنين لرأيته خاليا عن ديباج البلاغة وعاريا عن ثوبها وكقول زهير: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلّا صورة اللحم والدّم «1» فلقد بالغ فيما قاله حتى جعل حقيقة الإنسان إنما تكون بلسانه وقلبه، وبهما يحصل تمييزه عن سائر الحيوانات، ولو قال عوض هذا الكلام، تميّز الإنسان عن أصناف الحيوان هو بقلبه ولسانه لعزل البلاغة عن سلطانها، وأزالها عن رفيع محلها ومكانها، وكقول ابن دريد: والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا فانظر إلى مبالغته فيما ذكره من جعله ألفا من الناس كالواحد فى الإغناء وأنهم مع كثرتهم بمنزلة واحد من الخلق، وأن الواحد بمنزلة الألف فى كونه كافيا عنهم، كل ذلك مبالغة فى مدح الواحد من الناس لما كان مغنيا عن الكثير لجمعه للأوصاف الجميلة والمحامد الحسنة، وفى ذمه للكثير من الناس حيث كانوا فى الإغناء لا يسدون مسد واحد وإن كانوا عدة كثيرة، فهذه الأمثلة كلها دالة على المبالغة من غير إغراق ولا غلو، وهو المحمود فى المبالغة كما مر بيانه.

الضرب الثانى ما كان ممكن الوقوع لكنه ممتنع وقوعه فى العادة وهو الإغراق

الضرب الثانى ما كان ممكن الوقوع لكنه ممتنع وقوعه فى العادة وهو الإغراق ثم هو على وجهين الوجه الأول منهما وهو أعجبهما وأدخلهما فى العقول وصحة الإصغاء إليه، وهو كل ما يقترن به كاد، ولو، ولولا، وحرف التشبيه وهو «كأن» فمتى اقترنت به أحد هذه الأمور ازداد حسنه وظهر إعجابه وهذا كقول امرىء القيس: من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من النّمل فوق الإتب منها لأثّرا «1» أراد وصفها فى رقتها ونعومة جسمها بما ذكره، فلفظة «لو» قد قرّبت الدعوى وجعلتها بحيث يمكن السامع سماعها، ومن ذلك ما قاله المتنبى: كفى بجسمى نحولا أننى رجل ... لولا مخاطبتى إيّاك لم ترنى «2» ومن ذلك ما قاله الفرزدق يمدح به زين العابدين علىّ بن الحسين عليه السلام: يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم «3» فهذه الكلمات أعنى كاد، ولو، ولولا، قد أكسبته جمالا، وزادته رقه وكمالا، والوجه الثانى أن يأتى مجردا مما ذكرناه، وهذا يرد كثيرا كقول ابن المعتز: ملك تراه احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والصفوف قيام «4» فوصفه بطول قامته على هذه الحالة، ومن ذلك ما قاله امرؤ القيس فى وصف النار: تنوّرتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال «5» فإنه وإن امتنع من جهة العادة إدراك نار من مثل هذه المسافة لكنه ممكن عقلا، إذ لا يمتنع خلو هذه المسافة عن كل حائل من جبل وغيره فيمكن إدراكها، فما كان يمتنع عادة مع كونه ممكنا عقلا فهو الإغراق كما قررناه. الضرب الثالث ما كان ممتنعا وقوعه وهو الغلو ويكاد المفلقون فى الشعر يستعملونه فى مدحهم وهجوهم، ثم هو على وجهين،

الوجه الأول منهما أن يقترن به ما يقربه إلى الإمكان،

الوجه الأول منهما أن يقترن به ما يقرّبه إلى الإمكان، وهذا كقول من قال يصف فرسا له بسرعة جرى: ويكاد يخرج سرعة من ظلّه ... لو كان يرغب فى فراق رفيق «1» أراد أنه يقرب أن يفارق ظله عند جريه، وما يمنعه عن المفارقة إلا أن ظله رفيق له، ومن شيمه أن لا يفارق حميمه ورفيقه، ومنه قول مهلهل: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور وكان بين حجر ومكان الوقعة مسيرة عشرة أيام، وأحسن من هذا قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: 35] ومن أرق ما قيل فى هذا ما قاله النابغة فى وصف السيوف من شدة قطعها قال: تقدّ السّلوقىّ المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصفّاح نار الحباحب «2» أراد أنهن يقطعن الدروع ثم من بعد قطعها تقدح النار فى الحجارة من شدة وقعها، فهذا مما يقرّب. الوجه الثانى مالا يقترن به ما يسوّغ قبوله فيكون مردودا وهذا كقول النمر بن تولب يصف سيفه: يكاد يحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذّراعين والساقين والهادى «3» يريد أنه يغيب فى الأرض بعد قطعه لهذه الأشياء، ومن ذلك ما قاله المتنبى: أو كان صادف رأس عاذر سيفه ... فى يوم معركة لأعيا عيسى «4» ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء يغلو فيه: كأنى دحوت الأرض من خبرتى بها ... كأنّى بنى الإسكندر السّدّ من عزمى «5» فشبه نفسه أولا بالخالق جل جلاله فى دحوه الأرض ثم انحط منه إلى ما شبه نفسه بالإسكندر، فهذا ما أردنا ذكره فى المبالغة والله أعلم.

الصنف السادس عشر فى الإيغال

الصنف السادس عشر فى الإيغال الإيغال فى أصل اللغة هو سرعة السير، ويستعمل فى المبالغة فى الشىء، يقال فلان يوغل فى نظره وفى قراءته أى يبالغ فيهما وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن الإتيان فى مقطع البيت وعجزه أو فى الفقرة الواحدة بنعت لما قبله مفيد للتأكيد والزيادة فيه ومثاله قول الخنساء: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم فى رأسه نار «1» فقولها فى «رأسه نار» ، من الإيغال الحسن لأنها لم تكتف بكونه جبلا عاليا مشهورا، بل زادت لكثرة إيغالها فى مدحه وشهرته بقولها «فى رأسه نار» لما فيه من زيادة الظهور والانكشاف، لأن الجبل ظاهر فكيف به إذا كان فى رأسه نار، والنار ظاهرة فكيف حالها إذا كانت فى رأس جبل، ومن ذلك ما قاله امرؤ القيس يصف نفسه بكثرة الصيد: كأنّ عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذى لم يثقّب «2» فقد حصل الغرض بقوله «عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع» ، ولكنه منقوص لكونه مطلقا فلم يفد هناك مبالغة وإيغالا فى التشبيه، فلما أردفه بقوله «لم يثقب» تأكد التشبيه وظهر رونقه. ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء: حملت ردينيا كأنّ سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان «3» فقوله سنا لهب، ليس فيه قوة للتشبيه لما كان مطلقا، فلما قيده بقوله لم يتصل بدخان، كان موغلا فى التشبيه لإكماله بما ذكره من التقييد فحصل الإيغال بقوله لم يتصل بدخان وتمت به المبالغة وجاء على صفة الإعجاب وحاز الطرافة مع حسن التأليف.

الصنف السابع عشر فى التفريع

الصنف السابع عشر فى التفريع وهو تفعيل من قولك فرّعت هذا إذا قررته على أصله، ومنه فروع الشجرة، لأنها ثابتة على أصولها، وكل ما كان مبنيا على غيره فهو فرع له، وأما مفهومه فى مصطلح علماء البلاغة فهو عبارة عن إتيانك بقاعدة تكون أصلا ومقدمة لما تريده من المدح أو الذم ثم تأتى بعد ذلك بتفصيل المديح وتعيّنه بعد إجمالك له أولا، فالكلام الأول يؤتى به على جهة المقدمة، وبالآخر على جهة الإكمال والتتميم والتفريع لما أصلته من قبل، ثم يكون على وجهين، الوجه الأول منهما أن يصدر الكلام الأول بحرف النفى وهو «ما» وتجعله أصلا لما تريد ذكره من بعده، ثم تأتى بعد ذلك بأفعل التفضيل وهذا كقول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة ... غنّاء جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النّبت مكتهل يوما بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل «1» فمجيئه «بما» فى أول الكلام «وبأفعل» فى آخره هو كمال التفريع، وكقول أبى تمام: ما ربع ميّة معمورا يطوف به ... غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظرى من خدّها التّرب «2» ولأمير المؤمنين المنصور بالله فى هذا ما يروق الناظر حيث قال مثنيا على امرأته متعة بنت ابن عمران اليامى: وما شادن بالرمل يرعى وربما ... أشاح حذارا عند جرس العواصف وما غصن بان نطّق الرمل حقوه ... بأحسن من بيض الملا والملاحف وما بيضة بات الظّليم يحفها ... وما لحنها من رقّة المترادف وما دمية من زخرف فى رخامة ... يشابه متناها متون الصّحائف وما بدرتمّ بعد عشر وأربع ... تردّى من الهالات خضر المطارف وما عسجدىّ برمكىّ مشوّف ... خلاص تهاداه أكفّ الصيارف

وما درّة الغوّاص صبّر نفسه ... ليغنم منها عرضة للمتالف بأحسن من بنت ابن عمران فى الدّنا ... يراع لها من هزّة كلّ واصف فانظر إلى ما حوته هذه الأبيات من التشبيه الحسن، والتفريع اللائق. الوجه الثانى ما يكون على خلاف هذه الصفة، وهو أن يأتى المتكلم بصفة يقرب إليها ما هو أبلغ منها فى معناها فيذكرها ليفرع عليها غيرها، وهذا كما قال بعض الشعراء: أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفى من الكلب «1» ففرع عن وصفه لهم بشفاء أحلامهم لسقام الجهالات، شفاء دمائهم من دماء الكلاب الكلبة، وكما قال ابن المعتز: كلامه أخدع من لحظه ... ووعده أكذب من طيفه «2» فبينا هو يصف خدع كلامه، إذ فرّع عليه وصف كذب وعده، وقوله أيضا: وكأنّ حمرة لونها من خدّه ... وكأنّ طيب نسيمها من نشره حتى إذا صبّ المزاج تشعشعت ... عن ثغره فحسبته من ثغره «3»

الصنف الثامن عشر فى التوجيه

الصنف الثامن عشر فى التوجيه وهو تفعيل من قولك وجّهت هذا البرد، إذا جعلت له وجها يحسن لأجله ويرغب فيه، هذا فى اللغة، وأما فى مصطلح علماء البيان فهو أن يكون الكلام له وجهان، ثم إنه يرد فى البلاغة على استعمالين نذكرهما بمعونة الله تعالى. الاستعمال الأول أن يؤكد المدح بما يكون مشبها للذم بأن تنفى عن الممدوح وصفا معينا ثم تعقبه بالاستثناء فتوهم أنك استثنيت ما يذم به فتأتى بما من شأنه أن يذم به وفيه المبالغة فى مدح الممدوح ومثاله قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ومن ذلك ما قاله ابن الرومى: وما تعتريها آفة بشريّة ... من النوم إلا أنها تتحيّر «1» كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الأنام تغيّر وأحسن من هذا ما قاله بعض الشعراء يمدح قومه ويثنى عليهم: ولا عيب فينا غير أنّ سماحنا ... أضرّ بنا والناس من كل جانب فأفنى الرّدى أرواحنا غير ظالم ... وأفنى النّدى أموالنا غير غاصب أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أبا واحدا أغناهم بالمناقب «2» وكقول ابن الإصبع فى تأكيد الذم بما يشبه المدح: خير ما فيهم ولا خير فيهم ... أنّهم غير مؤثمى المغتاب «3» وأراد وصفهم بقلة الخير والمعروف وما فيهم من الخير إلا أنهم لا ينكرون على من عاب أحدا فى مجالسهم ولا يمنعونه عن ذلك. الاستعمال الثانى من التوجيه، وهو أن يمدح شىء يقتضى المدح بشىء آخر وهذا كقول المتنبى:

نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنّئت الدّنيا بأنك خالد فأول البيت دال على المدح بالشجاعة، وآخره دال على علو الدرجة، ومن هذا قول بعضهم من النثر، هم بحار العلى إلا أنهم جبال الحلسم، وكقول بعض الشعراء: هو البدر إلّا أنه البحر زاخرا ... خلا أنّه الضر غام لكنه الويل «1» ومما يحتمل المدح والذم على جهة الاستواء قولك للأعور «ليت عينيك سواء» فيحتمل أن تكون العوراء مثل الصحيحة فى الرؤية، ويحتمل عكس ذلك.

الصنف التاسع عشر التعليل

الصنف التاسع عشر التعليل والتعليل تفعيل من قولهم علّل ماشيته إذا سقاها مرة بعد مرة، وعلّلت هذا إذا جعلت له علّة وسببا، وسمى المرض علة لأنه سبب فى تغيّر حال الإنسان وفساد صحته، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن أن تقصد إلى حكم من الأحكام، فتراه مستبعدا من أجل ما اختص به من الغرابة واللطف والإعجاب أو غير ذلك، فتأتى على جهة الاستطراف بصفة مناسبة للتعليل فتدّعى كونها علة للحكم لتوهّم تحقيقه وتقريره نهاية التقرير من أجل أن إثبات الشىء معلّلا آكد فى النفس من إثباته مجردا عن التعليل، ثم مجيئه فى ذلك على وجهين: الوجه الأول أن يأتى التعليل صريحا، إما باللام كقول ابن رشيق يعلل قوله عليه السلام «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» فقال فى معنى ذلك: سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهرا وطيبا فقالت غير ناطقة لأنى ... حويت لكلّ إنسان حبيبا «1» ولقد أحسن فى الاستخراج وألطف فى التعليل، فلأجل ما قاله كان ذلك علة فى كونها طهورا ومسجدا وكقول أبى نواس: ولو لم تصافح رجلها صفحة الثّرى ... لما كنت أدرى علة للتيمّم «2» فقد صرح بأن الوجه الباعث على جواز التيمم بالترب شرعا، هو ما ذكره من وطئها له بأخمص قدمها فلأجل ذلك كان جائزا. الوجه الثانى أن لا يكون التعليل صريحا فى اللفظ، وإنما يؤخذ من جهة السياق والنظم والمعنى، وهذا كقول بعض الشعراء: يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنسانى من الغرق «3»

فلقد أبدع فيما قاله وأظنه يحكى عن مسلم بن الوليد وهو من رقائقه التى اختص بها ونفائس ما نظمه وأراد أن الواشى مذموم لا محالة لما يفعله من القبيح، لكن العلة فى حسن إساءته؛ هو أنه يخاف على محبوبته من وشايته، فامتنع دمع عينيه من أجل الخوف والفشل فسلم إنسان عينه من أن يغرق بدموعه لمّا كان خائفا مذعورا من الوشاية، فلا وجه لتعليل حسن الوشاية إلا هذا وكقول من قال من الشعراء: فإن غارت الغدران فى صحن وجنتى ... فلا غرو منه لم يزل وابل يهمى وألحق به ما هو بمعناه وهو التعجب كقوله: أيا شمعا يضىء بلا انطفاء ... ويا بدرا يلوح بلا محاق فأنت البدر ما معنى انتقاصى ... وأنت الشمع ما سبب احتراقى

الصنف العشرون فى التفريق والجمع والتقسيم

الصنف العشرون فى التفريق والجمع والتقسيم هذه الأمور الثلاثة من عوارض البلاغة، وإذا وقعت فى الكلام بلغ مبلغا عظيما فى حسن التأليف وإعطاء الفصاحة حقها، وحاصله ضروب ثلاثة. الضرب الأول التفريق المفرد وهو تفعيل من قولك فرقت الدراهم إذا أعطيتها عددا عددا، وهو فى لسان علماء البلاغة أن تعمد إلى نوعين يندرجان تحت جنس واحد فتوقع بينهما تباينا فى المدح أو الذم أو غيرهما، ومثاله قول بعض الشعراء: ما نوال الغمام يوم ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء «1» فالنوالان مفترقان كما ترى، لكنهما يندرجان جميعا تحت اسم النوال والعطاء، ثم هما يفترقان كما ذكر فى العلو والدّنو، ففرق بينهما كما ترى. الضرب الثانى: الجمع المفرد وهو أن تجمع بين شيئين فصاعدا مختلفين فى حكم واحد، وهذا كقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 46] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها [البينة: 6] وكقول الشاعر: إنّ الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أىّ مفسده «2» وقوله: وأحوالى وصدغك واللّيالى ... ظلام فى ظلام فى ظلام فكل ما ترى من باب الجمع، لأنه جمعها وأخبر عنها بحكم واحد. الضرب الثالث الجمع مركبا مع غيره وليس مفردا، وهو يأتى على وجهين أولهما الجمع مع التفريق، وهو أن يشبه بشىء واحد ثم يفّرق بينهما فى وجه الشبه، ومثاله قول بعض الشعراء:

وثانيهما الجمع مع التقسيم،

فوجهك كالّنار فى ضوئها ... وقلبى كالنّار فى حرّها فانظر إلى ما فعله ههنا حيث جمع بين وجه المعشوق وقلبه، ثم إنه بعد ذلك فرق بينهما، فشبه الوجه بالنار فى الحسن والإنارة والضوء، وشبه القلب بها فى الحرارة والاحتراق وكقول من قال: أسود كالمسك صدغا ... قد طاب كالمسك خلقا «1» فقد جمع بين الصّدغ والخلق فى التشبيه بالمسك، ثم إنه فرق بينهما فالصدغ يشبه المسك فى سواده والخلق يشبه المسك فى طيبه وحسنه، وثانيهما الجمع مع التقسيم، وهو أن تجمع أمورا مندرجة تحت حكم واحد، ثم تقسّمها، ثم ليس يخلو حاله إما أن يجمع ثم يقسم بعد ذلك، أن يقسم ثم يجمع، فهاتان حالتان، الحالة الأولى الجمع ثم القسمة بعده، ومثاله ما قاله المتنبى: الدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع للسّبى ما نكحوا للقتل ما ولدوا ... للنّهب ما جمعوا والنار ما زرعوا «2» فانظر إلى ما فعله فى البيت الأول حيث جمع أرض العدو وما فيها من كونها خالصة له على جهة الإجمال من غير إشارة فيه إلى تفصيل حالها، ثم إنه قسم حالها فى البيت الثانى إلى ما يكون منها للسبى، وما يكون للقتل، وما يكون للنهب والنار جميعا، الحالة الثانية أن يقسم أولا ثم يجمع ثانيا، ومثاله ما قاله حسان: قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم ... أو حاولوا النّفع فى أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع «3» فقد أعمل فى البيت الأول التقسيم إلى ما ذكره من خصالهم، ثم جمعها فى البيت الثانى من غير إشارة إلى تفصيل، فهذا وما شاكله له موقع فى الفصاحة لا يمكن جحده ولا يسع إنكاره.

الصنف الحادى والعشرون الائتلاف

الصنف الحادى والعشرون الائتلاف وهو افتعال من قولهم ألّف الخرز بعضها إلى بعض إذا جمعها، وهو يأتى على أوجه أربعة، الوجه الأول منها تأليف اللفظ مع المعنى، وهو أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له، فإذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا، وإذا كان المعنى رقيقا كان اللفظ رقيقا، فيطابقه فى كل أحواله، وهما إذا خرجا على هذا المخرج وتلاءما هذه الملائمة وقعا من البلاغة أحسن موقع، وتألفا على أحسن شكل وانتظما فى أوفق نظام، وهذا باب عظيم فى علم البديع، وجاء القرآن الكريم على هذا الأسلوب، فإذا كان المعنى وعيدا وزجرا أو تهديدا، أو إنزال عذاب، أو إيقاع واقعة، أتى فيه بالألفاظ الغريبة الجزلة، وإذا كان المعنى وعدا وبشارة، أتى فيه بالألفاظ الرقيقة العذبة وهذا كقوله تعالى: قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) [يوسف: 85] فلما كان مفخّما للخطب ومهولا له وخيف على يعقوب عليه السلام من دوام حزنه وطول أسفه جاء بالألفاظ الغريبة كقوله «تفتؤ» «والحرض» ، هو الإشفاء على الهلاك يقال حرض المريض إذا دنا من الهلاك، وكما قال زهير: أثافى سفعا فى معرّس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلّم «1» فلمّا عرفت الدّار قلت لربعها ... ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم «2» فالبيت الأول ألفاظه غريبة لما كان المعنى المقصود جزلا لكونه غير معروف مجهولا حاله، فلمّا عرفه أتى فى البيت الثانى بما يلائم المعنى من رقة اللفظ وحسنه ورشاقته لما فيها من البيان والظهور وكثرة الاستعمال. الوجه الثانى ائتلاف اللفظ مع اللفظ وهو أن تريد معنى من المعانى تصح تأديته بألفاظ كثيرة ولكنك تختار واحدا منها لما يحصل فيه من مناسبة ما بعده وملائمته، ومثاله قول البحترى فى وصف الإبل بالهزال: كالقسىّ المعطّفات بل ال ... أسهم مبريّة بل الأوتار «3»

الوجه الثالث ائتلاف المعنى مع المعنى

فإنه إنما اختار وصفها بالقسى مع أن هذا المعنى يحصل بتشبيهها بالعراجين والأخلة والأطناب وغير ذلك، لكنه اختار القسى لما أراد ذكر الأسهم والأوتار، فيحصل بذكر القسى ملائمة لا تحصل بذكر غيره فلهذا آثره، ولقد أحسن فيه لما اشتمل عليه من حسن التأليف وجودة النظم ومراعاة المناسبة فيما ذكره وكما قال المتنبى: على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأن النّبل فى صدره وبل «1» فالسابح، الحصان، فلما وصفه بالسباحة عقبه بذكر الموج، وذكر النبل، وعقبه بذكر الوبل لما كان يشبه النبل فى شدة وقعه وسرعة حركته، ثم واصل بين الوبل والموج لما بينهما من الملائمة، وأحسن من هذا ما قاله ابن رشيق من شعره: أصحّ وأقوى ما رويناه فى الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم «2» فلاءم بين الصحة والقوة، وبين الرواية والخبر، لأنها كلها متقاربة فى ألفاظها، ثم قوله أحاديث، تقارب الأخبار ثم أردفها بقوله السيول، ثم عقّبه بالحيا، لأن السيول منه، ثم عن البحر، لأنه يقرب من السيل، ثم تابع بعد ذلك بقوله «عن جود الأمير تميم» فهذه الأمور كلها متقاربة، فلأجل هذا لاءم بينها فى تأليف الألفاظ، فصار الكلام بها مؤتلف النسج محكم السّدى. الوجه الثالث ائتلاف المعنى مع المعنى وهو أن يكون الكلام مشتملا على أمرين فيقرن بكل واحد منهما ما يلائمه من حيث كان لاقترانه به مزية غير خافية ومثاله ما قاله المتنبى فى السيفيّات: تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم وقفت وما فى الموت شكّ لواقف ... كأنك فى جفن الرّدى وهو نائم «3» فإن عجز كل واحد من البيتين ملائم لكل واحد من صدريهما وصالح لأن يؤلّف معه، لكنه اختار ما أورده فى البيت لأمرين، أما أولا فلأن قوله «كأنك فى جفن الردى وهو نائم» إنما سيق من أجل التمثيل للسلامة فى موضع العطب فجعله مقرّرا للوقوف

والبقاء فى موضع يقطع على صاحبه بالموت أحسن من جعله مقرّرا لثباته فى حال هزيمة الأبطال، وأما ثانيا فلأن جعل قوله «ووجهك وضاح وثغرك باسم» تتمة لقوله «تمر بك الأبطال» أحسن من جعله تتمة لقوله «وقفت وما فى الموت شك لواقف» لأن الإنسان فى حال الهزيمة يلحقه من ضيق النفس وعبوس الوجه ما لا يخفى، فلهذا ألصق كل واحد منهما بما يكون فيه ملاءمة وحسن انتظام من أجل المبالغة فى المعانى، ويحكى أنه لما أنشد سيف الدولة هذه القصيدة نقم عليه هذين البيتين، قال هلا جعلت عجز أحدهما عجزا للآخر فأجابه بما ذكرناه من بلاغة المعنى إذا كان على هذه الصفة، فاستحسن سيف الدولة ما قاله من ملاحظة المعانى التى هى مغازيه فى قصائده وزاد فى عطيته، ومن هذا قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) [طه: 118- 119] ولم يقل فإنك لا تجوع فيها ولا تظمى، وأنك لا تعرى فيها ولا تضحى، فإنه لم يراع ملاءمة الرى للشبع، ولا أراد مناسبة الاستظلال للضّحا، وإنما أراد مناسبة أدخل من ذلك، فقرن الجوع بالعرى لما للإنسان فيهما من مزيد المشقة وعظيم الألم بملابستهما، وأراد مناسبة الاستظلال للرىّ، فقرن بينهما لما فى ذلك من مزية الامتنان، وإكماله، ووجه آخر وهو أن الجوع يلحق منه ألم فى باطن الإنسان وتلتهب منه أحشاؤه، والعرى يلحق منه ألم فى ظاهر جسد الإنسان فلهذا جمع بينهما لما كان أحدهما يتعلق بالظاهر والآخر يتعلق بالباطن، وهكذا حال الظمأ فإنه يحرق كبد الإنسان ويوقد فى فؤاده النار، والضّحا يحرق جسده الظاهر فلأجل هذا ضمّ كل واحد منهما إلى ما له به تعلق لتحصل المناسبة، ومن جيد ما يورد مثالا ههنا ما ذكره المتنبى فى السيفيات: فالعرب منه مع الكدرىّ طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل «1» يصف انهزام الناس من خوفه وشدة سطوته، فالكدرىّ والحجل طائران، لكن الكدرىّ أكثر ما يكون فى الصحارى والقفار والمفازات، فضمه مع العرب، لأن أكثر ما يسكنون هذه المواضع، وضم الحجل إلى الروم، لأنها أكثر ما تأوى إلى الأمواه وشطوط الأنهار، وبلاد الروم فيها الأنهار الكثيرة، فلأجل هذه المناسبة والتزامها ضم كل واحد إلى ما يليق به ويناسبه بعض مناسبة، وقوله «طائرة» فيه وجهان، أحدهما أن يريد أنها كالطير فى سرعة هربها وخفّة جريها فرقا منه وخوفا من بأسه، وثانيهما أن يريد أنها متفرقة فى

الوجه الرابع الائتلاف مع الاختلاف

الشعاب والأودية وفى كل الأصقاع فرارا منه، أخذا له من تطاير الشرار، إذا ذهب يمينا وشمالا، وهذا من معانيه البديعة، وفحالة شعره الغريبة، ومغازيه الدقيقة فى أعظم قصائده كلها. الوجه الرابع الائتلاف مع الاختلاف وله حالتان: الحالة الأولى أن تكون المؤتلفة بمعزل عن المختلفة، وأحدهما منته عن الآخر، ومثاله قول من قال من الشعراء: أبى القلب أن يأتى السّدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غرير به البقّ والحمّى وأسد تحفّه ... وعمرو بن هند يعتدى ويجور «1» الحالة الثانية أن تكون المؤتلفة منها مداخلة للمختلفة، وهذا كقول عباس بن الأحنف يهجو قوما: وصالكم هجر وحبّكم قلى ... وعطفكم صدّ وسلمكم حرب «2» فكل واحد من هذه مقرون مع ضده مؤلف معه، فهذا ما أوردنا ذكره من الائتلاف، وبعد هذه الأقسام أمور تتعلق بالقوافى الشعرية، وليس وراءها كبير فائدة فأعرضنا عنها لقلة جدواها وفائدتها.

الصنف الثانى والعشرون الترجيع فى المحاورة

الصنف الثانى والعشرون الترجيع فى المحاورة والترجيع تفعيل من قولك رجّعت الشىء إذا رددته، ويسمى الترجيع رجيعا، وهو ما يخرج من بطن ابن آدم «1» لأنه يتردد فيه، ويقال للسماء ذات الرجع، لأن المطر يتردد فى نزولها منها. وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن أن يحكى المتكلم مراجعة فى القول ومحاورة جرت بينه وبين غيره بأوجز عبارة وأخصر لفظ فينزل فى البلاغة أحسن المنازل وأعجب المواقع، ومن جيد ما يورد من أمثلتها ما قاله بعض الشعراء: قالت ألا لا تلجن دارنا ... إنّ أبانا رجل غائر أما رأيت الباب من دوننا ... قلت فإنّى واثب ظافر قالت فإنّ الليث عاديّة ... قلت فسيفى مرهف باتر قالت أليس البحر من دوننا ... قلت فإنى سابح ماهر قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر قالت فإمّا كنت أعييتنا ... فأت إذا ما هجع السّامر واسقط علينا كسقوط النّدى ... ليلة لا ناه ولا آمر «2» وألطف من هذا قول أبى نواس فى شعره: قال لى يوما سليما ... ن وبعض القول أشنع قال صفنى وعليا ... أيّنا أتقى وأورع قلت إنّى إن أقل ما ... فيكما بالحقّ تجزع قال كلّا قلت مهلا ... قال قل لى قلت فاسمع قال صفه قلت يعطى ... قال صفنى قلت تمنع «3» ومن جيده ما قاله البحترى:

بتّ أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الكاس مائلا يتكفّا قلت عبد العزيز تفديك نفسى ... قال لبّيك قلت لبيك ألفا هاكها قال هاتها قلت خذها ... قال لا أستطيعها ثم أغفى «1» فهذا وما شاكله من جيد ما يؤثر فى المحاورة، وترجيع الخطاب على جهة الملاطفة والاستعطاف.

الصنف الثالث والعشرون فى الاقتسام

الصنف الثالث والعشرون فى الاقتسام وهو افتعال من قولهم اقتسم اقتساما وقاسم مقاسمة وقاسم قساما إذا حلف، ومنه قوله تعالى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 21] ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الأنعام: 109] وهو مصطلح علماء البيان عبارة عن أن يحلف على شىء بما فيه فخر، أو مدح، أو تعظيم، أو تغزل، أو زهو، أو غير ذلك مما يكون فيه رشاقة فى الكلام وتحسين له، ولنذكر من ذلك ما هو الأكثر وهو أمور خمسة، أولها الامتنان والفخر، فأما الامتنان فكقوله تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات: 23] فامتنّ الله تعالى وأكد امتنانه بما قرره من القسم، وأما الافتخار فكقول الأشتر النخعى: بقّيت وفرى وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافى بوجه عبوس إن لم أشنّ على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من نهاب نفوس «1» فضمّن هذا القسم على الوعيد، ما فيه افتخار من الجود والشرف والسؤدد والشجاعة والبسالة، وهذا الرجل كان من أمراء أمير المؤمنين علّى كرم الله وجهه، ولقد كان عظيم الشوكة على من خالف أمر الله وأمر أمير المؤمنين، وهو مالك بن الحارث، ولقد قال فيه أمير المؤمنين: إنه كان أشد على الفجّار من حريق النار ولما دخل الطّرمّاح على معاوية، قال له معاوية إنى قد أعددت لحرب ابن أبى طالب رجالا بعد جاورس الكوفة، والجاورس هو حبّ الدّخن، فقال له الطرماح والله إنى لأعلم ديكا يلتقط هذا الحب كله، فسكت معاوية، وأراد بما ذكره مالك بن الحارث الأشتر، وثانيها المدح والثناء كقول الشاعر: آثار جودك فى القلوب تؤثر ... وجميل بشرك بالنجاح يبشّر إن كان فى أمل سواك أعدّه ... فكفرت نعمتك التى لا تكفر «2» فهذا إنما ورد ههنا على جهة المدح والثناء على الممدوح بما هو أهله، وثالثها تعظيم القدر كقوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) [الحجر: 72] أقسم الله تعالى بحياة

الرسول تعظيما لقدره، ورفعا لحالته وإشادة لذكره، وإبانة عن مكانه، ومنه قول عمر بن أبى ربيعة: قالت وعيش أخى وحرمة والدى ... لأنبّهنّ الحىّ إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أنّ يمينها لم تخرج فضممتها ولثمتها وفديت من ... حلفت علىّ يمين غير المخرج «1» فانظر إلى ما حكاه من يمينها على جهة الإعظام لها ورفع القدر منها، ورابعها ما يكون على جهة التغزل ومثاله ما قاله بعض الشعراء: جنى وتجنّى والفؤاد يطيعه ... فلا ذاق من يجنى علىّ كما يجنى فإن لم يكن عندى كعينى ومسمعى ... فلا نظرت عينى ولا سمعت أذنى «2» فقوله «فإن لم يكن عندى كسمعى» فيه دلالة على القسم، وهو متضمن له على جهة التغزل والإعجاب كأنه قال: فو الله إنه عندى بمنزلة سمعى، وإن لم أكن صادقا فيما قلت فأعمى الله عينى، وأصم سمعى، وخامسها أن يكون واردا على جهة الزهو والطرى ومثاله قول من قال من الشعراء: حلفت بمن سوّى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان ومن قام فى المعقول من غير رؤية ... بأثبت من إدراك كلّ عيان لما خلقت كفّاك إلا لأربع ... عقائل لم يعقل لهنّ ثوان لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندىّ وحبس عنان «3» فهذا وما شاكله وارد فى القسم على جهة الإعظام فى المديح والإطراء على ممدوحه وإشادة ذكره وإظهار أمره.

الصنف الرابع والعشرون فى الإدماج

الصنف الرابع والعشرون فى الإدماج وهو إفعال من قولهم أدمج حديثه إذا أدخل بعضه فى بعض، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن إدخال نوع من البديع فى نوع آخر، فيظهر أحدهما ويدمج الآخر، ثم هو على وجهين، الوجه الأول منهما أن يكون ظاهره التهنئة فيدمج شكوى الزمان فيه، ومثال قول من قال: أبى دهرنا إسعافنا فى نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم فقلت له نعماك فيهم أتّمها ... ودع أمرنا إن المهمّ المقدم «1» فتأمل إدماجه شكوى الزمان وما عليه من اختلال الأحوال فيما يظهره من التهنئة فأحسن الأمر فى ذلك وأجاد فيه كل الإجادة، وتلطف حيث صان نفسه عن ظهور المسألة بالتصريح بها، وكقول من قال: ولا بدّ لى من جهلة فى وصاله ... فمن لى بخلّ أودع الحلم عنده «2» فأدمج الهجر فى التغزل حيث قال «من جهلة فى وصاله» وفى هذا دلالة على كونه هاجرا لمحبوبه، وأدمج شكوى الزمان بأحسن عبارة، حيث استفهم عن كونه لا يجد أحدا يودع عنده حلمه، ثم كنى عن نفسه بكثرة التزامه للحلم حيث كان لا يفارقه فى حال، فكل هذه المعانى مدمجة فى ظاهر ما يبدو من الغزل فى البيت، فهذه معان متداخلة كما ترى يشتمل عليها هذا الوجه. الوجه الثانى: أن يكون الإدماج واردا فى نوعين من أنواع البديع فيندرج أحدهما تحت الآخر، ويخالف ما ذكرناه فى الوجه الأول، فإنه إدماج لأغراض ومقاصد لا غير، ومثاله قول من قال من أهل الرقائق: أأرضى أن تصاحبنى بغيضا ... مجاملة وتحملنى ثقيلا وحقّك لا رضيت بذا لأنى ... جعلت وحقّك القسم الجليلا «3»

فأدمج المبالغة فى القسم وجعله مندرجا تحتها، لأن المبالغة ظاهرة فى البيت، لكن القسم غير ظاهر، لأنه لم يقل «وحياتك» إنما قال «وحقك القسم الجليلا» فلهذا كان القسم مدمجا فى المبالغة كما ترى، ومن هذا قوله تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: 70] فأدمج الطباق، وجعل المبالغة مندرجة تحته، لأن الإدماج كما قررنا أن يكون أحدهما مندرجا فى الآخر فيما كان من المعانى ظاهرا فهو المدمج فيه، وما كان خافيا فهو المدمج، وهذا كثير الدّور فى لسان الفصحاء فإنهم يستعملونه كثيرا، وإنما يظهر بنظر دقيق واستخراج خفىّ وتفطّن لطيف، والله أعلم.

الصنف الخامس والعشرون فى التعليق

الصنف الخامس والعشرون فى التعليق وهو تفعيل من قولهم علقت السقاء، وعلقت القوس، اذا شددتهما بغيرهما، وهو فى لسان علماء البيان مقول على حمل الشىء على غيره لملازمة بينهما، ثم هو وارد على وجهين أحدهما أن يكون التعليق بالشرط للدلالة على المبالغة، ومثاله قول أبى تمام: فإن أنا لم يحمدك عنى صاغرا ... عدوّك فاعلم أنّنى غير حامد «1» فعلق عدم حمده بمن يمدحه على عدم حمد عدوه على وجه الكره منه، لكن حمد عدوه موجود لأجل مدائحه وترددها على لسانه، فلا جرم كان حمده موجودا، وثانيهما أن يأتى بشىء من المعانى بمقصد تام توطئة لما يريد ذكره بعده من معنى آخر، وهذا كقول أبى نواس يهجو رجالا: لهم فى بيتهم نسب ... وفى وسط الملا نسب لقد زنّوا عجوزهم ... ولو زنيتها غضبوا «2» فعلق هجوهم بالسّخف والحماقة، فصدّره بهجو أبيهم حيث لم يرضوا الانتساب إليه لدناءته وادّعوا غيره، وعلّق عليه هجو أمهم لكونها زانية لا تنزه عن إتيان الفاحشة. ومن البديع النادر فن يقال له المتزلزل، وحاصله أن يندرج فى الكلام لفظة لو غير إعرابها لا نتقل المعنى إلى غيره، وقيل له هذا اللقب لأنه غير ثابت القدم، لأنك بينا تراه على صورة إذ خرج إلى صورة أخرى، ومنه قولهم فلان متزلزل، إذا كان على غير ثبات ولا استقرار، ومثاله قولنا: ولّد الله عيسى، فإنك إذا شدّدته كان معناه مستقيما، لأن المعنى فيه أنه ولّده، أى أخرجه من بطن أمه بتوليده لها، وإذا خفّفته كان كفرا صريحا، لقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون: 91] وقوله: لَيَقُولُونَ «3» (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) [الصافات: 151- 152] . وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] فلو رفعت اسم الله تعالى لكان خطأ، لأن الله تعالى: لقدرته على كل الممكنات فإنه لا يخشى أحدا، ولو نصبته لكان المعنى مستقيما بمعنى أنه لا يخشاه من الخلق أحد سوى العلماء، فإن الخشية مقصورة عليهم له، وهكذا القول فيما شاكله.

الصنف السادس والعشرون فى التهكم

الصنف السادس والعشرون فى التهكم وهو تفعل من قولهم تهكّمت البئر، إذا تساقطت جوانبها، وهو عبارة عن شدة الغضب لأن الإنسان إذا اشتد غضبه فإنه يخرج عن حد الاستقامة وتتغير أحواله، وفى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الغضب فإنه يوقد فى فؤاد ابن آدم النار، ألا تروه إذا غضب كيف تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه» «1» ، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن إخراج الكلام على ضد مقتضى الحال استهزاء بالمخاطب، ودخوله كثير فى كلام الله تعالى: وكلام رسوله وعلى ألسنة الفصحاء، وله موقع عظيم فى إفادة البلاغة والفصاحة، ويرد على أوجه خمسة، أولها أن يكون واردا على جهة الوعيد بلفظ الوعد تهكما، وهذا كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) [التوبة: 34] وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) [النساء: 138] فلفظ البشارة دال على الوعد وعلى حصول كل محبوب، فإذا وصل بالمكروه كان دالا على التهكم لإخراجه المحبوب فى صورة المكروه، وثانيها أن تورد صفات المدح والمقصود بها الذم، ومثاله قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) [الدخان: 49] لأن المقصود هو الاستخفاف والإهانة، ولهذا ورد فى حق من كان يدخل النار، والغرض منه الذليل المهان، ولكنه أخرجه هذا المخرج للتهكم، وثالثها قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب: 18] وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور: 64] وقوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33] فما هذا حاله دال على القلة، لأن المضارع إذا لصق به قد، فهو دال على القلة والغرض ههنا التكثير والتحقيق للعلم بما ذكره، وإنما أورده على جهة التهكم بهم والاستهانة بحالهم حيث أسروا الخدع والمكر جهلا بأن الله تعالى غير مطلع على تلك الخفايا ولا محيط بتيك السرائر، فأورده على جهة التقليل، والغرض به التحقيق انتقاصا بحالهم فى ظنهم لما ظنوه من ذلك، ورابعها قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) [الحجر: 2] فأورده على جهة التقليل، وأخرجه مخرج الشك، والغرض به التكثير والتحقيق فى حالهم تلك، لأنهم فى تلك الحالة يتحققون ويقطعون بأنهم لو كانوا على الإسلام قطعا ويقينا لما

ينالون من العذاب ويتحققونه من النكال، ولا خلاص عن ذلك إلا بالإسلام، فلهذا قطعنا بتحقق المحبة والود للإسلام، وإنما أخرجه مخرج التهكم والاستهزاء، وخامسها قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) [هود: 87] فلم يخرجوه على جهة استحقاقه للمدح بهاتين الصفتين مع كونه أهلا لهما، وإنما أخرجوه مخرج الاستهزاء والتهكم بحاله، تمردا واستكبارا، وغرضهم إنك لأنت السفيه الجاهل، حيث أمرهم بما أمرهم من الخير والمعروف فأبوا إلا ما كان عليه الأسلاف، فلا جرم أخرجوه هذا المخرج من أجل ذلك، وليس له ضابط يضبطه، وإنما الجامع لشتات معانيه هو ما ذكرناه من إخراج الكلام على خلاف مقتضى الحال، فلا بد من مراعاة ما ذكرناه وإن اختلفت صوره، وكقوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] والمعقبات هم الحرس حول السلطان يحفظونه على زعمه من أمر الله، فهو وارد على جهة التهكم، لأن أمر الله إذا جاء وقضى لا يحفظ عنه حافظ، ولا يمكن رده، ولا يستطاع دفعه بحال، ومن الأبيات الشعرية ما كان واردا على جهة التهكم كقول من قال فى رجل يتهكم برجل محدودب الظهر: لا تظنّنّ حدبة الظّهر عيبا ... هى فى الحسن من صفات الهلال وكذاك القسىّ محدودبات ... وهى أنكى من الظّبا والعوالى كوّن الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الإفضال فأتت ربوة على طود حلم ... طال أو موجة ببحر نوال وإذا لم يكن من الوصل بدّ ... فعسى أن تزورنى فى الخيال «1» فظاهر ما أورده مدح كامل كما ترى لما يظهر من صورته، وإنما أورده على جهة التهكم به والاستهزاء بحاله، وكقول امرىء القيس يصف كلبا: فأنشب أظفاره فى النّسا ... فقلت هبلت ألا تنتصر «2» فقوله: «هبلت ألا تنتصر» تهكم بحاله فى غاية اللطف والرشاقة لأن ما فعله الكلب بالصيد هو غاية الانتصار.

الصنف السابع والعشرون فى الإلهاب والتهييج

الصنف السابع والعشرون فى الإلهاب والتهييج والإلهاب «إفعال» من قولهم ألهب النار إذا أسعرها حتى التهبت وطال لهبها، والتهييج «تفعيل» من قولهم هاجت الحرب إذا ثارت، هذا معناهما فى اللغة، وأما فى مصطلح علماء البلاغة فهما مقولان على كل كلام دال على الحث على الفعل لمن لا يتصور منه تركه وعلى ترك الفعل لمن لا يتصور منه فعله، ولكن يكون صدور الأمر والنهى ممن هذه حاله على جهة الإلهاب والتهييج له على الفعل أو الكف لا غير، فالأمر مثاله قوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) [الزمر: 2] وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] وقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] والمعلوم من حاله عليه السلام أنه حاصل على هذه الأمور كلها من عبادة الله تعالى وإقامة وجهه للدين والاستقامة على الدعاء إليه لا يفتر عن ذلك ولا يتصور منه خلافها، لأن خلافها معصوم منه الأنبياء، فلا يمكن تصوره من جهتهم بحال، ولكن ورودها على هذه الأوامر إنما كان على جهة الحث له بهذه الأوامر وأمثالها، وكذلك ورد فى المناهى كقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) [الأنعام: 35] وقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) [الزمر: 65] وحاشاه أن يكون جاهلا، أو أن يفعل أفعال السفهاء والجهال، وأنى يخطر بباله الشرك بالله وهو أول من دعا إلى عبادته وحث عليها، وهكذا القول فيما كان واردا فى الأوامر والنواهى له عليه السلام، فإنما كان على جهة الإلهاب على فعل الأوامر، والانكفاف عن المناهى والتهييج لداعيته، وحثا له على ذلك، فالأمر فى حقه على تحصيل الفعل، والكف عن المناهى فيما كان يعلم وجوبه عليه ويتحقق الانكفاف عنه، إنما هو على جهة التأكيد والحث بالتهييج والإلهاب، فهذان نوعان من الكلام يردان فى الكلام الفصيح والخطب البالغة، ولولا موقعهما فى البلاغة أحسن موقع، لما وردا فى كتاب الله تعالى الذى أعجز الثقلين الإتيان بمثله أو بأقصر سورة من سوره.

الصنف الثامن والعشرون فى التسجيل

الصنف الثامن والعشرون فى التسجيل وهو «تفعيل» من قولهم سجّل الحاكم عليه تسجيلا، إذا كتب كتاب الحكم وأمضاه، وأسجل الكلام إسجالا إذا أطال ذيوله، والسّجيل الطويل من الضروع قاله الجوهرى، فهو مؤذن بالطويل فى كل ما سيق منه كما ترى، هذا فى اللغة، وأما معناه فى مصطلح علمآء البلاغة فهو تطويل الكلام والمبالغة فيما سيق من أجله من مدح أو ذم، وهو نوع من الإطناب، خلا أن الإطناب عام فى كل مقصود من الكلام، والتسجيل خاص فى المبالغة فى المدح أو الذم، والمثال فيه قوله تعالى فى ذم عبادة الأوثان والأصنام وتهجين من عبد سواه، فإنه سجل عليهم غاية التسجيل، ونعى إليهم أفعالهم، ووبخهم وسفه حلومهم، واسترك عقولهم على جهة التسجيل والتنويه بما عملوا: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) [الحج: 73] فانظر ماذا حازته هذه الآية من الإبانة عن نقص عقولهم، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ [الأعراف: 194] الآية وقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) [فاطر: 13] الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تسفيه عقولهم وإظهار جهلهم، ومن ذلك ما ورد فى ذم الكفار من أهل الكتاب والمشركين فى صدر سورة البقرة فإن الله تعالى نعى عليهم تلك الأفعال الخبيثة وسجّلها عليهم، وذكر ما أكنّته صدورهم وأضمرته نفوسهم من الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والإصرار على الكفر، والتمادى فى النفاق، والإعراض عما جاء به من النور المبين والصراط المستقيم، وتصميمهم على جحود ذلك وإنكاره، ومن ذلك ما كان من بنى إسرائيل من كتمان ما أنزل الله عليهم فى التوراة فى وصف رسول الله وتصديق ما جاء به، ونصب العداوة والمكر والخديعة، فأظهر الله ما كتموه من العداوة، وكشف ما أضمروه من الحسد

والجحود والإنكار، وسجل عليهم غاية التسجيل، فهذا ما يتعلق بأمثلة التسجيل فى الذم، وأما مثال التسجيل فى المدح فكقوله تعالى فى صفة المؤمنين فى صدر سورة البقرة، حيث ذكرهم بالصفات المحمودة، وأثنى عليهم بالمناقب المعهودة، وبما شرح الله صدورهم بالإيمان بالله تعالى وبرسوله وكتبه المنزّلة قديما وحديثا، وبما كان منهم من التصديق بما جاءت به من أحوال القيامة والحشر والنشر وغير ذلك من علوم الآخرة، ومن ذلك ما كان فى صفة المؤمنين فى سورة المؤمنين حيث صدّر مدحهم بالخشوع فى الصلاة، ثم عقبه بالصفات الحسنة، والأفعال المحمودة المستحسنة، فأشاد ذكرهم بما وصفهم به وسجل فيه نهاية التسجيل، وهكذا القول فيما يرد فى القرآن على هذا النحو، فإنه يكون مثالا لما ذكرناه من التسجيل فى المدح والذم، وفى الخطب والقصائد، إذا جرى على هذا المجرى فهو تسجيل.

الصنف التاسع والعشرون فى المواردة

الصنف التاسع والعشرون فى المواردة وهى مفاعلة من قولهم هما يتواردان الحوض، أى يرد منه هذا، ويرد منه هذا، ويتواردان المسألة، أى يسأل أحدهما صاحبه مرة، ويسأله الآخر مرة أخرى، هذا فى اللغة، والمواردة فى اصطلاح علماء البيان، أن يتفق الشاعران إذا كانا متعاصرين أو كان أحدهما متأخرا عن الآخر على معنى واحد، يوردانه جميعا بلفظ واحد من غير أخذ ولا سماع، واشتقاقه من ورد الحيين الماء من غير مواعدة بينهما، فمن ذلك ما ذكره أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابى، قال أنشدنى ابن ميادة لنفسه: مفيد ومتلاف إذا ما أتيته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد فقيل له أين يذهب بك، هذا للحطيئة، فقال أكان ذلك، فقيل له نعم، فقال الآن علمت أنى شاعر حين وافقته على ما قاله، وما سمعت به إلا الساعة، وليس هذا من باب السرقة الشعرية، لأن ذلك إنما يكون فيمن علم حاله بالسبق لذلك الكلام، ثم يأخذه غيره مع علمه بأنه له، كسرقة المتاع، يأخذه السارق وهو حق لغيره على جهة الخفية، وسنقرر الكلام فى السرقات الشعرية، ونظهر أنواعها لاختصاصها بفوائد جمة، ونكت غزيرة بمعونة الله تعالى.

الصنف الثلاثون فى التلميح

الصنف الثلاثون فى التلميح وهو نوع من أنواع البديع، له فى البلاغة موقع شريف، ويحل من الفصاحة فى محل مرتفع منيف، وهو «تفعيل» بتقديم اللام على الميم: يقال لمحه وألمحه، إذا أبصره بنظر خفى، ولمح البرق إذا أضاء ولمع، وفى فلان من أبيه لمحة، أى شبه وفيه ملامح من أبيه، أى مشابهات، وجمعها ملامح على غير قياس، والقياس فيه لمحات، هذا هو معناه اللغوى، وفى مصطلح علماء البيان هو أن يشير المتكلم فى أثناء كلامه ومعاطف شعره أو خطبه إلى مثل سائر، أو شعر نادر، أو قصة مشهورة فيلمحها فيوردها لتكون علامة فى كلامه، وكالشامة فى نظامه، فيحصل الكلام من أجل ذلك على لطافة رشيقة، وبراعة رائقة، وقد وقع ذلك فى كلام الله تعالى: كقوله: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] يشير بذلك إلى المثل السائر: أرقّ من نسج العنكبوت، وأضعف من بيتها، وكقوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] يشير به إلى قولهم فى الأمثال السائرة: أجهل من حمار، وأبلد من عير، وقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) [القارعة: 4] يشير إلى قولهم: أعظم تهورا من فراشة، وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] يشير به إلى قولهم: فلان ألهث من كلب، وأما أمثلته من السنة النبوية فكقوله عليه السلام: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل» «1» ، وقوله عليه السلام: «بئس مطية الرجل زعموا» «2» ، وفى حديث آخر: «مطية الكذب زعموا» ، وأراد بما ذكره عليه السلام من يكون أكثر كلامه: زعم زعم، فلا يزال يكرر فى أثناء خطابه هذه اللفظة ويرددها على لسانه، والمعنى فيها بئس ما يكرره الإنسان فى كلامه ويستروح إليه، هذه اللفظة، لما فيها من التوهم والظن، ولهذا فإنها ما وردت فى كلام الله تعالى إلا من جهة الكفار والمكذبين بأمر الآخرة وحال المعاد الأخروى، كقوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ «3» أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الفتح: 12] وقوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ [التغابن: 7] فقوله

عليه السلام بئس مطية الرجل زعموا، تلميح لما فيه من الإشارة إلى موقع هذه الكلمة، ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه فى خطبته الشّقشقية: فصبرت وفى العين قذى، وفى الحلق شجى، أرى تراثى نهبا، حتى إذا مضى الأول لسبيله «يعنى أبا بكر» أدلى بها لى فلان بعده «يعنى عمر» لأنه عقد له بالخلافة قبل وفاته، ثم تمثل أمير المؤمنين ببيت الأعشى: شتان ما يومى على كورها ... ويوم حيّان أخى جابر «1» فاستشهاده بهذا البيت واقع موقع التلميح فى كلامه هذا لكونه مطابقا لمقصده، موافقا لغرضه، لأن غرضه من ذلك تباين الحال ومفارقة الأمر بين ولايته وولاية غيره كما يشهد له ظاهر البيت، ومن ذلك ما قاله متمثلا به لما شكا من أصحابه تقاعدهم عن الجهاد وميلهم إلى الدعة والإعراض عن أمره، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح فى الماء، والله لوددت أن لى بكم ألف فارس من فراس بن غنم: هنالك لو دعوت أتاك منهم ... فوارس مثل أرمية الحميم «2» فهذا البيت واقع على جهة التلميح لأن فيه إشارة إلى سرعة إجابتهم لمن يدعوهم ويعرض فيه بأصحابه لتثاقلهم عن إجابة أمره، والحميم ههنا هو وقت الصيف، وإنما خص الشاعر سحاب الصيف لأنه أشدّ جفولا، وأسرع زوالا وحركة؛ لأنه لا ماء فيه، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء كما قال تعالى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) [الرعد: 12] وذلك إنما يكون فى مطر الربيع، وهذا إنما يكون فى الشأم، فأما اليمن فأكثر المطر فيه يكون فى الصيف والخريف وكما قال بعض الشعراء: المستغيث بعمرو يوم كربته ... كالمستغيث من الرّمضاء بالنّار «3» يشير بذلك إلى قصة كانت لعمرو، وكقوله فى الحريريات إبطاء فند، وصلود زند، يشير بذلك إلى قصة كانت لفند، فما هذا حاله يقال له التلميح كما ذكرنا فى اشتقاقه، ولو قيل فى لقبه التمليح، بتقديم الميم على اللام لكان حسنا جيدا مطابقا للاشتقاق، يقال ملحت القدر وأملحتها وملّحتها تمليحا فملح وأملح إذا طرحه بقدر يصلحها، وملّحها إذا زاد فى ملحها حتى أفسدها، والمعنى فى تلقيبه بهذا اللقب هو أنه إذا أشار إلى قصة نادرة أو بيت حسن، أو مثل سائر فقد ملحه وزاد فى حسنه كما يزيد الملح فى حسن الطعام ومساغه، فهذا الاشتقاق يكون سائغا ويلقّب به.

الصنف الحادى والثلاثون الحذف

الصنف الحادى والثلاثون الحذف وهو فى أصل اللغة الرّجم بالشىء، يقال حذفه بالعصا إذا رجمه بها، وفى الحديث: أتى إليه ببيضة من ذهب فحذفه بها، فلو أصابته لعقرته، وفى حديث عمر إيّاى وأن يحذف أحدكم الأرنب، أى يزرقها بالمعراض، نهى المحرم عن ذلك، وهو فى مصطلح علماء البيان عبارة عن التجنب لبعض حروف المعجم عن إيراده فى الكلام، كما روى عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه حكى بمجلسه كثرة دوران الألف فى الكلام وأنه لا يخلو كلام عنها، فأنشأ فى ذلك خطبة سماها المونقة ليس فيها ألف، وكما يحكى عن واصل بن عطاء: أنه كان يتجنب فى كلامه لفظة الراء لما كان يلثغ فيها ويخرجها عن غير مخرجها، وأنشد الزمخشرى رحمه الله فى هذا المعنى: ولا تجعلنّى مثل همزة واصل ... فيسقطنى حذف ولا راء واصل ويحكى أن رجلا أراد امتحانه فقال قل: رجل ركب فرسه، وجر رمحه، فقال له: غلام اعتلى جواده، وسحب ذابله، فانظر إلى ما أتى به لقد جانب فيه الراء، فكان أبلغ وأفصح مما سئل عنه، وإنما عددناه فى علم البديع لأن ما هذا حاله إنما يصار إليه عند الاقتدار على البلاغة والإغراق فى الفصاحة بحيث يمكنه الخوض فى كل أسلوب من أساليبها، والجرى فى ميدان أعاجيبها، وكما فعل الحريرى فيما أورده فى مقاماته من تجنب النقط فى خطبته التى مطلعها الحمد لله الممدوح الأسماء المحمود الآلاء الواسع العطاء، وفى خطبته الثانية التى مبدؤها قوله: الحمد لله الملك المحمود، المالك الودود، مصور كل مولود، ومآل كل مطرود، إلى آخرها فكل واحدة من الكلم فى هاتين الخطبتين لا نقط فيها بحال أصلا عند الكتاب، ومن أمثلة المنظوم ما قاله بعض الشعراء: دار لمهدد دارس أعلامها ... طمس المعالم مورها ورهامها ومن ذلك ما أورده فى الحريريات: أعدد لحسّادك حدّ السّلاح ... وأورد الآمل ورد السّماح فهذان البيتان لا نقط فى شىء من ألفاظهما كما ترى، والحروف المهملة التى لا نقط لها يجمعها قولنا: كما صل أو حطّ له درسع، وجملتها خمسة عشر حرفا كما ترى، وأما الحروف المعجمة بالنقط فيجمعها قولنا. بزنديق فى جثّ خشّ غظ، فجملتها أربعة عشر حرفا، فكملت حروف العربية ما ينقط منها ومالا ينقط على هذا التقدير والله أعلم بالصواب.

الصنف الثانى والثلاثون فى الخيف

الصنف الثانى والثلاثون فى الخيف وهو فن من فنون البلاغة حسن التأليف والانتظام مشتمل على ما يجوز فيه من الكلم الإهمال والإعجام، وهو أن يكون الكلام من المنثور والمنظوم معقودا من جزءين إحدى كلمتى العقد منقوطة كلها، والأخرى مهملة كلها، واستعارة هذا اللقب من قولهم فرس أخيف إذا كان إحدى عينيه سوداء والأخرى زرقاء، فأما مثاله من النظم ما قاله فى الحريريات: اسمح فبثّ السماح زين ... ولا تخب آملا تضيّف فأنت إذا اعتبرت ما ذكرناه وجدته مطابقا لكلمات هذا البيت، ألا ترى أن قوله «اسمح» لا ينقط شىء من حروفه بحال، بل هى مهملة، وقوله «فبث» منقوطة كلها، وهكذا القول فى سائر كلمات البيت، وأما مثاله من النثر فكقوله أيضا: الكرم ثبّت الله جيش سعودك يزين، والّلؤم غضّ الدهر جفن حسودك يشين، والأروع يثيب، والمعور يخيب، والحلاحل يضيف، والماحل يخيف، إلى آخر كلامه فى هذه الرسالة، فتعتبرها على ما ذكرناه من هذا الاعتبار فتجدها كذلك، فهذه رسالة سبكها على هذا السبك، وألفها على هذا الانتظام فى السّلك، ومما يجىء على أثره ويسبك من خلاصة جوهره نوع آخر من هذه الرسائل يلقّب بالرّقطاء، وهى مخالفة لما ذكره فى الخيف، لكنها تختص بها نوعا من الاختصاص، وهى أن تكون الكلمة الواحدة أحد حروفها منقوط، والآخر مهمل لا نقط فيه، واشتقاقه من قولهم شاة رقطاء، وهى التى فى جلدها نقط من سواد وبياض، وليس وراء هذا شىء، خلا ما ذكرناه من الأحكام فى البلاغة، وعلو مراتب الفصاحة وسلاطة اللسان، وجودة القريحة، وصفاء الذهن إلى غير ذلك من المواد التى يجعلها الله فى بعض الأشخاص دون بعض، فأما مثاله من النثر فكقوله فى الحريريات أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته تلبّ، فالهمزة مهملة، والخاء منقوطة، واللام مهملة، والقاف منقوطة وهكذا قوله سيدنا على هذه العدة من غير تفاوت، ثم قال وقربه تحف، ونأيه تلف، وأما

من النظم فكقوله أيضا: سيّد قلّب سبوق مبرّ ... فطن مغرب عزوف عيوف مخلف متلف إذا ناب هيا ... ج وجلّ خطب مخوف «1» ثم قال بعد ذلك من هذه الرسالة، مناظم شرفه تأتلف، وشؤبوب حيائه يكف، ونائل يده فاض، وشحّ قلبه غاض، حتى تمت هذه الرسالة على هذه الصفة.

الصنف الثالث والثلاثون حسن التخلص

الصنف الثالث والثلاثون حسن التخلص اعلم أنا فيه قد ذكرنا من قبل، حسن المبادىء والافتتاحات، ورمزنا فيها إلى قول بالغ، يطلع على نكت جمة، ولطائف عجيبة، والذى نذكره ههنا هو ما ينبغى لكل متكلم من شاعر أو خطيب إذا كان قد أتى بما يصلح من الافتتاحات الحسنة فلا بد له من مراعاة التخلص الحسن، لأنه لابد له من تقديم الغزل، أو ذكر الفخر، أو ذكر أطروفة بأدب، ثم يذكر على أثره المدح، وعلى قدر براعة الشاعر والخطيب والمصنف يكون حسن التخلص إلى المقصود، بعد تقديم ما ذكرناه وقلّ ذلك أعنى حسن التخلص فى كلام المتقدمين، وقد جاء فى قول زهير: إنّ البخيل ملوم حيث كان ... ولكنّ الكريم على علاته هرم «1» ثم إن حسن التخلص يأتى على أوجه، فأحسن ما يأتى فى بيت واحد وهذا كقول مسلم بن الوليد يمدح البرامكة: أجدّك ما تدرين أن ربّ ليلة ... كأنّ دجاها من قرونك ينشر سريت بها حتى تجلّت بغرّة ... كغرّة يحيى حين يذكر جعفر «2» فما هذا حاله قد فاق فى حسن التخلص من الغزل إلى المديح مع قصر الكلام وتقارب أطرافه، لما فيه من إدماج المبالغة فى مدح يحيى بالبر لابنه وجمعه فيه من المحاسن، وقد جاء فى بيتين كقول أبى تمام: تقول فى قومس قومى وقد أخذت ... منّا السّرى وخطا المهريّة القود «3» أمطلع الشمس تبغى أن تؤمّ بنا ... فقلت كلّا ولكن مطلع الجود فانظر إلى ما أبرزه من التخلص الرائق والمخرج الفائق، وربما جاء فى ثلاثة أبيات، ومثاله ما قاله أبو نواس يمتدح بنى العباس:

وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كلّه فى الكاس وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للنّاس وإذا أردت مديح قوم لم تلم ... فى مدحهم فامدح بنى العبّاس «1» فقاتله الله، ما أرق كلامه، وما أعجب ما جاء به من النسيب وحسن التخلص، فكأن ما جاء به رحيق مفلفل، أو نهر جار تسلسل، ومما جاء من التخلص الحسن فى بيتين قول أبى الطيب المتنبى: مرّت بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشّادن العربا فاستضحكت ثمّ قالت «كالمغيث» يرى ... ليث الشّرى وهو من عجل إذا انتسبا «2» ويكثر وجوده فى أشعار المتأخرين، كالمتنبى وأبى تمام والبحترى، ويعز وجوده فى قصائد المتقدمين أعنى التخلص القصير، فأما التخلصات الطويلة فلا بد لكل مادح منها وإن وجدت على تطويل فى القصائد الطوال، وإنما البراعة ما وجد من التخلص الرائق فى الكلام القصير كما أشرنا إليه والله أعلم، ومن نفيس ما يذكر فى التخلصات ما قاله أبو الطيب المتنبى أيضا: أقبلتها غرر الجياد كأنما ... أيدى بنى عمر ان فى جبهاتها «3» فهذا من أعجب ما يذكر من الخلاص من النسيب إلى المديح فى أخصر لفظ وأقصره، وهو من بدائعه الحسنة، وعجائبه المستحسنة التى فاق بها على نظرائه، من أبناء زمانه، وتميز بها من بين أترابه وأقرانه، ومن رقيق التخلص ودقيقه ما قاله ابن الرومى يمدح رجلا بالكرم: ما من مزيد فى بليّة عاشق ... وندىّ وجود فى أبى إسحاق فهذا وما شاكله من مليح ما يذكر فى التخلصات القصيرة ويورد فى أمثلتها.

الصنف الرابع والثلاثون فى الاختتام

الصنف الرابع والثلاثون فى الاختتام اعلم أنا قد قدّمنا فى فواتح الكلام ومبادئه وذكرنا ما يتعلق بالتخلصات، والذى نذكره الآن إنما هو كلام فى حسن الخاتمة، فينبغى لكل بليغ أن يختتم كلامه فى أى مقصد كان بأحسن الخواتم فإنها آخر ما يبقى على الأسماع، وربما حفظت من بين سائر الكلام لقرب العهد بها، فلا جرم وقع الاجتهاد فى رشاقتها وحلاوتها، وفى قوتها وجزالتها، وينبغى تضمينها معنى تاما يؤذن السامع بأنه الغاية والمقصد والنهاية، ولهذا قال عليه السلام: «ملاك العمل خواتمه» ، وفى حديث آخر: «ألا إنما الأعمال بخواتيمها» ، وفى حديث آخر: «لا تعجبوا بعمل أحد حتى تدروا بم يختم له» «1» ، فالخاتمة فى كل شىء هى العمدة فى محاسنه، والغاية فى كماله، فأما المتقدمون من الشعراء كامرىء القيس، والنابغة، وطرفة، وغيرهم من شعراء الجاهلية فليس لهم فيه كل الإجادة، وإنما الذى أجاد فيه المتأخرون، كأبى نواس، والمتنبى، والبحترى، وأبى تمام، ولنضرب فى ذلك أمثلة: المثال الأول: من آى التنزيل فإن الله تعالى ختم كل سورة من سوره بأحسن ختام، وأتمها بأعجب إتمام، ختاما يطابق مقصدها، ويؤدى معناها، من أدعية، أو وعد أو وعيد، أو موعظة أو تحميد، أو غير ذلك من الخواتيم الرائقة، ألا ترى إلى ما ختم به سورة البقرة وسورة الفاتحة، فأما الفاتحة فختمها بما يناسب معناها ويطابق لفظها، من حسن التأليف وجودة الجزالة بذكر الصنفين المغضوب عليهم من اليهود والنصارى، وأن لا يجعلنا منهما، ويتم لنا هدايته الكاملة، إلى حججه الواضحة، وبراهينه النيّرة، واختتم سورة البقرة بتعليم الابتهال إليه فى مغفرة الخطايا وترك تحمل الأثقال والإصر والنصرة على الكفار، ونحو اختتام سورة آل عمران بالخواتيم الحسنة من الوصايا بالصبر على المكاره، والمصابرة على الجهاد لأعداء الله، وإشادة معالم الدين وإظهار أحكامه، والرابطة للخيل فى الجهاد وإعدادها للغزو، وبالتقوى التى هى قوام الدين وملاكه، فمن أجل ذلك يحصل السبب فى الفلاح فى كل الأمور، وفى خاتمة سورة النساء بالتبجيل والتعظيم بالبيان والهداية، وبما كان من الوعد، والوعيد فى خاتمة سورة الأنعام بقوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ

الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) [الأنعام: 165] وبما كان من إظهار الجلال والعظمة فى خاتمة سورة المائدة، فهذه الخواتيم كلها فى كل سورة على نهاية الحسن والرشاقة، وهكذا الكلام فى كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى كتبه ومواعظه وخطبه، فإنك ترى خواتيمها معجبة لما تضمنته، ونحو هذا كلام أمير المؤمنين فى كتبه ومواعظه وهذا كقوله عليه السلام فى ذم الدنيا، وغدرها بأهلها، وذهابها عن أيديهم، وعدم التمسك بها «ولات حين مناص، هيهات هيهات، قد فات ما فات وذهب ما ذهب» ثم ختمها بآية من القرآن مناسبة لها وهى قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) [الدخان: 29] إلى غير ذلك من الخواتيم الحسنة فى خطبه وكلامه، فهذا ما أردنا ذكره من أمثلة المنثور. المثال الثانى: من المنظوم فمن أحسن ما قيل فى ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى قد شرّف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا «1» فهذه الخاتمة إذ قرعت سمع السامع عرف بها أن لا مطمع وراءها، ولا غاية بعدها، وهى الغاية المقصودة، والبغية المطلوبة، وبها يعلم انتهاء الكلام وقطعه، كقول أبى نواس يمدح المأمون: فبقيت للعلم الذى تهدى له ... وتقاعست عن يومك الأيّام «2» فانظر إلى حسن هذه الخاتمة كيف تضمنت الدعاء بالبقاء مع نهاية المدح والإعظام لحاله، وغاية حسن الخاتمة أن يعرف السامع انقضاء القصيدة وكمالها، فهذه علامة حسنها ورونقها، ومن ذلك ما قاله بعض الشعراء يمدح رجلا استماحه: وإنى جدير إن بلغتك بالمنى ... وأنت بما أمّلت منك جدير فإن تولنى منك الجميل فأهله ... وإلّا فإنى عاذر وشكور «3» ومن ذلك ما قاله أبو تمام يذكر فتح عمورية ويهنىء المعتصم بها: إن كان بين صروف الدهر من رحم ... موصولة أو ذمام غير مقتضب فبين أيّامك اللاتى نصرت بها ... وبين أيّام بدر أقرب النّسب

أبقت بنى الأصفر المصفرّ كاسمهم ... صفر الوجوه وجلّت أوجه العرب «1» فهذه خاتمة ترى على وجهها الطلاوة، وعصارة الرشاقة، وحسن الخواتم فى كلام المتأخرين أكثر من أن تعد وتحصى، ومن ذلك ما قاله المتنبى فى بعض قصائده السيفيات: فلا حطّت لك الهيجاء سرجا ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا «2» وقال أيضا: لا زلت تضرب من عاداك عن عرض ... تعاجل النصر فى مستأجر الأجل «3» وقال أيضا فى بعض قصائده وقد عرض ذكر الخيل: فلا هجمت بها إلّا على ظفر ... ولا وطئت بها إلّا إلى أمل «4» وقال بعض المتأخرين فى رجل مدحه بقصيدة مستملحة: إنّى جدير بالنجاح لأننى ... أملت للخطب الجليل جليلا لا زال فعلك بالعلاء مرصّعا ... أبدا وعرضك بالعفاف صقيلا وقال آخر فى تعزية عزاها فى أخ له قال فى خاتمها: وكلّ خطب وإن جلّت عظائمه ... فى جنب مهلكه مستصغر جلل سقى ضريحا حواه صوب غادية ... مثعنجر الودق وكّاف الحيا هطل فهذه الخواتم كلها رائقة ملائمة لما قبلها. وإن الاختتام لفن من البديع بمكان، وإنه لحقيق من بينها بالإحراز والإتقان، وهو آخر الكلام فى أصناف البديع المتعلقة بالفصاحة المعنوية والفصاحة اللفظية، كما مر تقريره، وقد أتينا على معظم أبواب البديع وأصنافه، فإن شذّ شىء على جهة النّدرة، فإنه مندرج تحت ما ذكرناه من هذه الأصناف بل لا يشذ إلا قليل لا يعول عليه.

الصنف الخامس والثلاثون فى إيراد نبذة من السرقات الشعرية

الصنف الخامس والثلاثون فى إيراد نبذة من السرقات الشعرية اعلم أن معنى السرقة فى الأشعار هى أن يسبق بعض الشعراء إلى تقرير معنى من المعانى واستنباطه، ثم يأتى بعده شاعر آخر يأخذ ذلك المعنى ويكسوه عبارة أخرى، ثم يختلف حال الأخذ، فتارة يكون جيدا مليحا، وتارة يكون رديئا قبيحا، على قدر جودة الذكاء والفطنة والفصاحة بين الشاعرين كما سنقرره ونظهر أمثلته، فمن الشعراء من يأخذه كرة وبعرة ويردّه ياقوتة ودرة، ومن الناس من يأخذه ديباجة ويرده عباءة إلى غير ذلك من الأمثال فى النقائض والأضداد فى الأخذ والرد، وهل تعد السرقة الشعرية من علم البديع أم لا، فيه وجهان، أحدهما أنها تكون معدودة فيه، لأن كل واحد من السابق واللاحق إنما يتصرف فى تأليف الكلام ونظمه، وترديده بين الفصيح والأفصح والأقبح والأحسن، وهذه هى فائدة علم البديع وخلاصة جوهره، وثانيهما أنها غير معدودة فى علم البديع، لأن معنى السرقة هو الأخذ، ومجرد الأخذ لا يكون متعلقا بأحوال الكلام ولا بشىء من صفاته، فلأجل هذا لم تكن معدودة فى علم البديع، والأول أقرب، وهو عدّها من جملة أصنافه، والبرهان القاطع على ما ذكرناه، هو أن علم البديع أمر عارض لتأليف الألفاظ وصوغها وتنزيلها على هيئة تعجب الناظر، وتشوق القلب والخاطر، وهذا موجود فى السرقات الشعرية، فإن الشاعرين المفلقين يأخذ كل واحد منهما معنى صاحبه، ويصوغه على خلاف تلك الصياغة، ويقلبه على قالب آخر، فإما زاد عليه، وإما نقص عنه، وكل ذلك إنما هو خوض فى تأليف الكلام ونظمه، فإذن الأخلق عدها منه لما ذكرناه، بل هى أخلق بذلك، لأنا إذا عددنا الطباق، والتجنيس، والترصيع، والتصريع، من علوم البديع مع أنها إنما اختصت بما اختصت به من التأليف وتنزيلها على تلك الهيئات من لسان واحد فكيف حالها إذا كانت مختصة بما ذكرناه من لسانين على هيئتين مختلفتين، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن السرقات الشعرية وإن كثرت شجونها واختلفت فنونها، فإنها لا تنفك أصولها عن خمسة أنواع نفصلها بمعونة الله تعالى: ونشير إلى جملتها.

النوع الأول منها النسخ

النوع الأول منها النسخ واشتقاقه من قولهم نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى غيره، وذلك لأن أحد الشاعرين يأخذ معنى صاحبه وينقله إلى تأليف آخر، ثم النسخ يكون على وجهين، الوجه الأول منهما أن يأخذ لفظ الأول ومعناه، ولا يخالفه إلا بروىّ القصيدة، ومثاله قول امرىء القيس: وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتحمّل «1» أخذه طرفة بن العبد واسترقه وأجراه على منواله الأول فقال: وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد «2» فانظر إلى هذه الموافقة فى الألفاظ والمعانى من غير مخالفة هناك إلا فيما ذكراه من حرف الروى، فالأولى لامية، والأخرى دالية، وكما قال الفرزدق فى مهاجاته لجرير: أتعدل أحسابا لئاما حماتها ... بأحسابنا إنى إلى الله راجع «3» فأجابه جرير واسترق ما ذكره بأحسن ما يكون وأعجبه قال: أتعدل أحسابا كراما حماتها ... بأحسابكم إنى إلى الله راجع «4» الوجه الثانى: وهو الذى يؤخذ فيه المعنى وأكثر اللفظ مثاله ما قال بعضهم يمدح معبدا صاحب الغناء، ويذكر فضله على غيره ممن تولع بالغناء: أجاد طويس والسّريجىّ بعده ... وما قصبات السّبق إلّا لمعبد «5» ثم قيل بعد ذلك: محاسن أوصاف المغنّين جمة ... وما قصبات السّبق إلّا لمعبد «6» فأورد المعنى بعينه مع أكثر اللفظ الأول، فهذا وأمثاله يورد فى أمثلة النسخ. النوع الثانى السلخ وهو أخذ بعض المعنى، ولا تعويل فيه على إيراد اللفظ واشتقاقه من سلخ أديم الشاة، وهو أخذ بعض جسم المسلوخ، ويرد على أوجه كثيرة وأنحاء متعددة، ولكنا نقتصر على

إيراد المهم منها، فهى كفاية وبالله التوفيق، ثم إنه يأتى على أوجه ثلاثة، الوجه الأول أن تكون السرقة مقصورة على المعنى لا غير، من غير إيراد لفظ ما سرق منه، وهذا من أدق السرقات مسلكا وأحسنها صورة، وأعجبها مساقا، ومثاله قول بعض أهل الحماسة: لقد زادنى حبا لنفسى أنّنى ... بغيض إلى كلّ امرىء غير طائل «1» فقد أخذ المتنبى هذا المعنى واستخرج منه ما يشبهه من جهة معناه، ولم يورد شيئا من ألفاظه ولكنه عول فيه على المعنى وقصره عليه: وإذا أتتك مذمّتى من ناقص ... فهى الشهادة لى بأنّى كامل «2» فمن كثر عراكه للأشعار، وممارسته لها فإنه لا يغرب عن فهمه أن ما ذكره المتنبى مأخوذ معناه من بيت الحماسة، فصاحب الحماسة يقول إن نقص الدنىء إياى مما يزيد نفسى حبا عندى لكون الذى نقصها لا فضل له، فيعرف فضلى، والمتنبى يقول إنّ ذم الناقص إياى شاهد بفضلى، فذم الناقص له مثل نقص الذى هو غير طائل فهما متفقان من جهة المعنى. الوجه الثانى: أن تكون السرقة بأخذ المعنى وشىء يسير من اللفظ، فمن ذلك ما قاله حسان بن ثابت يصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويمدحه: ما إن مدحت محمّدا بمقالتى ... لكن مدحت مقالتى بمحمّد «3» فأخذه أبو تمام فأكمل معناه، واسترق شيئا من لفظه على القلة قال: ولم أمدحك تفخيما لشعرى ... ولكنّى مدحت بك المديحا «4» فانظر إلى تكريرهما لفظ المدح فى البيتين من غير زيادة، وكذلك قول ابن الرومى: وما لى عزاء عن شبابى علمته ... سوى أنّنى من بعده لا أخلّد استرقه من بيت لمنصور النمرى قال فيه: قد كدت أقضى على فوت الشباب أسى ... لولا تعزّىّ أنّ العيش منقطع وهكذا قول أبى تمام يمدح رجلا بالجود والسخاء والكرم: وإذا المجد كان عونى على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضى استرقه منه ابن الرومى بأحسن استراق فى أخذ معناه قال:

النوع الثالث المسخ

ووكلت مجدك فى اقتضائك حاجتى ... وكفى به متقاضيا ووكيلا فهذه السرقات كلها معنوية مع إعادة بعض اللفظ كما ترى. الوجه الثالث: من السلخ أن يؤخذ بعض المعنى فمن ذلك ما قاله بعض الشعراء: عطاؤك زين لامرىء إن حبوته ... ببذل وما كلّ العطاء يزين وليس بشين لا مرىء بذل وجهه ... إليك كما بعض السّؤال يشين فأخذه أبو تمام ونقص من معناه بعض النقصان قال فيه: تدعى عطاياه وفرا وهى إن شهرت ... كانت فخارا لمن يعفوه مؤتنفا ما زلت منتظرا أعجوبة زمنا ... حتى رأيت سؤالا يجتنى شرفا «1» فالأول أتى بمعنيين، أحدهما أن عطاءك زين والآخر أن عطاء غيرك شين، وأما أبو تمام فإنه أتى بالمعنى الأول لا غير، وهو أن عطاءه زين، فهذا ما أردنا ذكره مما يتعلق بالسلخ، وفيه أوجه غير هذه تركنا ذكرها للاستغناء بما ذكرنا عنها، ومن عرف ما قلناه أمكنه إدراك ما عداه من هذا النوع. النوع الثالث المسخ وهو إحالة المعنى إلى ما هو دونه، واشتقاقه من قولهم مسخت هذه الصورة الآدمية إلى صورة القردة والخنازير، فتارة تكون صورة الشعر حسنة فتنقل إلى صورة قبيحة، وهذا هو الأصل فى المسخ، وتارة تكون الصورة قبيحة فتنقل إلى صورة حسنة، فهذان وجهان نذكر ما يتوجه منهما بمعونة الله. الوجه الأول: أن ينقل الأحسن من الشعر إلى صورة قبيحة، ومثاله ما قاله عبد السلام ابن رغبان الملقب بديك الجن: بحقّ تعزّيك ومنك الهدى ... مستخرج والصبر مستقبل تقول بالعقل رأيت الذى ... تأوى إليه وبه تعقل إذا عفا عنك وأودى بنا الدّ ... هر فذاك المحسن المجمل أخذه أبو الطيب المتنبى فأتى به على عكس صورته وقلب أعلاه أسفله:

إن يكن صبر ذى الرّزيئة فضلا ... تكن الأفضل الأعزّ الأجلّا أنت يا فوق أن تعزّى عن الأ ... حباب فوق الذى يعزّيك عقلا وبألفاظك اهتدى فإذا عزّا ... ك قال الذى له قلت قبلا «1» فالبيت الآخر من هذه المقطوعة هو الذى وقع به المسخ، فانظر إلى ما بينهما من التفاوت فى الرقة واللطافة والجودة والرشاقة. الوجه الثانى: عكس هذا وهو أن ينقل من صورة قبيحة إلى صورة حسنة، وهو معدود فى السرقات، وإن كان بعضهم لا يعده منها وهذا كقول المتنبى: لو كان ما يعطيهم من قبل أن ... يعطيهم لم يعرفوا التأميلا «2» وقد أخذه ابن نباتة السعدى فأجاد فيه كل الإجادة قال: لم يبق جودك لى شيئا أؤمّله ... تركتنى أصحب الدنيا بلا أمل «3» فانظر كيف أخذه عباءة وزجاجة، ثم رده ياقوتة وديباجة، فبينهما بعد متفاوت ودرجات متبانية، ومن ذلك ما قاله أبو نواس يذكر لعب الخيل بالصولجان من أرجوزة له يصف ذلك: جنّ على جنّ وإن كانوا بشر ... كأنما خيطوا عليها بالإبر أخذه المتنبى فأذاقه حلاوة، وأكسبه رونقا وطلاوة، قال: فكأنما نتجت قياما تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها «4» فقاتله الله، لقد تباهى فى الإعجاب، وأتى بما يدهش العقول، ويسحر الألباب، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب أيضا وقد أنشدناه من قبل هذا: إنى على شغفى بما فى حرها ... لأعفّ عمّا فى سرا ويلاتها «5» أخذه الشريف الرضى فأحسن فيه كل الإحسان قال فيه: أحنّ إلى ما يضمن الخمر والحلى ... وأصدف عمّا فى ضمان المآذر

النوع الرابع عكس المعنى

النوع الرابع عكس المعنى وما هذا حاله فهو بالغ فى المجد كل مبلغ، ومن لطافته ورقته ورشاقته يكاد يخرجه عن حد السرقة، فمن ذلك ما قاله أبو نواس فى مدح نكاح الصغار واللاتى لم ينكحن: قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطىّ إلىّ ما لم تركب كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقب فعكس ما قاله مسلم بن الوليد فقال: إن المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتى تذلّل بالزمام وتركبا والحبّ ليس بنافع أربابه ... حتى يفصّل فى النظام ويثقبا ومن ذلك ما قاله ابن جعفر فى الوصل والقلى: ولما بدا لى أنها لا تريدنى ... وأنّ هواها ليس عنّى بمنجلى تمنّيت أن تهوى سواى لعلّها ... تذوق صبابات الهوى فترقّ لى فأخذ هذا المعنى بعضهم وعكسه على حسنه قال: ولقد سرّنى صدودك عنّى ... فى طلابيك وامتناعك منّى حذرا أن أكون مفتاح غيرى ... وإذا ما خلوت كنت التمنّى فانظر إلى كلام ابن جعفر فلم يبال فى إلقاء رداء الغيرة عن منكبه ومشاركة غيره له فى مواصلة محبوبه، وأما الآخر فهو على الضد من ذلك، ومن ذلك ما قاله أبو الشّيص فى الغرام بمحبوبه: أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حبّا بذكرك فليلمنى اللّوّم «1» فأخذه أبو الطيب المتنبى وعكس ما قاله عكسا لائقا قال فيه: أأحبّه وأحبّ فيه ملامة ... إنّ الملامة فيه من أعدائه «2» وما هذا حاله فإنه من السرقات الخفية كما أشرنا إليه، وقد قال بعض الحذاق إن ما هذا حاله بأن يسمى ابتداعا أحق من أن يسمى سرقة، ومن هذا ما قاله بعض الشعراء فى صفة الكرام ومدحهم: لولا الكرام وما استنّوه من كرم ... لم يدر قائل شعر كيف يمتدح

النوع الخامس فى أخذ المعنى والزيادة عليه معنى آخر

وقد سبقه بهذا المعنى أبو تمام خلا أن أبا تمام جعله فى الكرم، وهذا جعله فى المدح، قال أبو تمام فى ذلك فأجاد كل الإجادة: ولولا خلال سنّها الشّعر ما درى ... بغاة النّدى من أين تؤتى المكارم فهذا ما تحصّل من الأمثلة فى العكس. النوع الخامس فى أخذ المعنى والزيادة عليه معنى آخر فمن ذلك ما قاله جرير: غرائب ألّاف إذا حان وردها ... أخذن طريقا للقصائد معلما «1» فأخذه أبو تمام وزاد عليه زيادة بديعة فأعجب كل الإعجاب: غرائب لاقت فى فنائك أنسها ... من المجد فهى الآن غير غرائب فحاصل كلام جرير أن قصائده لا يماثلهن غيرهن، فإنهن مفردات عن أشكالهن، وحاصل كلام أبى تمام أن لهن أمثالا صادفنها فأنسن إليها، فكلاهما قد أورد الغرائب فى شعره، خلا أن ابا تمام زاد عليه بأن قرنها بذكر الممدوح، فلهذا كانت لائقة حسنة لذلك، ومن ذلك ما قاله أبو تمام يمدح كريما: يصدّ عن الدنيا إذا عنّ سؤدد ... ولو برزت فى زىّ عذراء ناهد «2» وقد أخذه من قول بعض الشعراء: ولست بنظّار إلى جانب الغنى ... إذا كانت العلياء فى جانب الفقر «3» خلا أن أبا تمام زاد عليه قوله «برزت فى زىّ عذراء ناهد» ولم يتضمنه قول الشاعر الثانى، ومن ذلك ما قاله البحترى: ركبوا الفرات إلى الفرات وأمّلوا ... جذلان يبدع فى السّماح ويغرب أخذه من قول مسلم بن الوليد: ركبت إليه البحر فى ماخراته ... فأوفت بنا من بعد بحر إلى بحر خلا أن البحترى زاد عليه قوله «جذلان يبدع فى السماح ويغرب» فهذه الزيادة زادته

حسنا إلى حسنه، وإعجابا إلى إعجابه كما تراه ههنا، ومن ذلك ما قاله جرير يمدح بنى تميم: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلّهم غضابا «1» فأخذه أبو نواس فى قوله: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم فى واحد «2» وزاد عليه زيادة رشيقة، وذلك أن جريرا جعل الناس كلهم بنى تميم، وأبو نواس جعل العالم كلهم فى واحد، فلا جرم كان ما قاله أبلغ وأدخل فى المدح والإعظام، ومن ذلك ما قاله الفرزدق: علام تلفّتين وأنت تحتى ... وخير الناس كلّهم أمامى متى تأتى الرّصافة تستريحى ... من الأنساع والدّبر الدّوامى «3» أخذه أبو نواس وزاد فيه زيادة صار بها فى غاية الحسن والإعجاب فقال: وإذا المطىّ بنا بلغن محمدا ... فظهورهنّ على الرجال حرام فالفرزدق أراد أنها تستريح من الشد والرّحل فيدميها ذلك ويدبرها، وليس استراحتها بمانعة من معاودة إتعابها مرة أخرى، وأما أبو نواس فإنه حرم ظهورهن على الرجال وأعفاهن من الأسفار إعفاء مستمرا، فلهذا كان بليغا بهذه الزيادة كما ترى، ومن ذلك ما قاله أبو نواس فى مدح كتيبة: أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد فأخذه أبو الطيب المتنبى وزاد عليه زيادة هى الغاية فى الكمال فقال: وملمومة زرد ثوبها ... ولكنّها بالقنا مخمل فانظر إلى حسن ما ذكره فى القنا حيث جعله خملا لثوب الزرد، فناسبه نهاية المناسبة، وكان ملائما غاية الملائمة، وهذا المعنى غير حاصل فى بيت أبى نواس وهو من عجائبه التى انفرد بها، وملحه الفائقة لمن نظر فيها، ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى يمدح رجلا بالكرم: وإن جاد قبلك قوم مضوا ... فإنّك فى الكرم الأوّل

ولنختم كلامنا فى الباب الرابع الذى رسمناه لبيان أصناف البديع ومعرفة أسراره بذكر تنبيهات ثلاثة

أخذه بعض الشعراء وزاد عليه فأجاد فيما قاله وأصاب فيه «أنت فى الجود أول وقضى الله أن لا يرى لك الدهر ثانى» . فما ذكره من المعنى الجزل والمدح العالى ليس حاصلا فى بيت أبى الطيب، ولنقتصر على هذا القدر من السرقات الشعرية وبيان أمثلتها ففيه مقنع وكفاية فى التنبيه على ما وراءه من ذلك، فإنه باب واسع من الفنون الشعرية، وفيه أودية، وله شجون وفنون، وفيما أوردناه غنية، وبتمامه يتم الكلام على النمط الثانى من بيان أنواع الفصاحة المعنوية من أنواع البديع، وقد نجز الكلام على الباب الرابع الذى رسمناه فى علوم البديع وأصنافه، والله الموفق للصواب. ولنختم كلامنا فى الباب الرابع الذى رسمناه لبيان أصناف البديع ومعرفة أسراره بذكر تنبيهات ثلاثة هى لائقة ههنا حيث لم تذكر فى صدر الباب لبيان معنى البديع وتقرير أقسامه على جهة الإجمال وبيان مواقعه، فهذه تنبيهات لا غنى عن ذكرها لمن أراد الخوض فى علم البديع. التنبيه الأول فى بيان معناه واعلم أن لفظ البديع، فعيل بمعنى مفعول، كقولنا جريح وقتيل، أو فعيل بمعنى مفعل نحو حكيم بمعنى محكم وأنشد النحاة: وقصيدة تأتى الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها وهو فى كلا وجهيه بمعنى مفعول، ولا يختلفان إلا فى أن أحدهما مأخوذ من الثلاثى المجرد فتقول بدع هذا يبدعه فهو بديع، أى مبدوع، والثانى مأخوذ من الثلاثى المزيد فتقول فيه أبدع هذا يبدعه فهو مبدع، والفاعل مبدع، قال الله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 117] أى مبدعهما ومعنى البديع الموجد بالقدرة لا على جهة الاحتذاء، فالمبدىء والمبدع سيّان فى أن كل واحد منهما حاصل من غير مثال سابق ولا احتذاء متقدم، وأما فى مصطلح علماء البلاغة فهو عبارة عن الكلام المؤلف على جهة الإسناد المجازى من حيث الاستعارة، ولنفسر مقصودنا بهذه القيود بمعونة الله، فقولنا عبارة عن الكلام، إعلام بأن البديع إنما هو خاص بالكلام دون سائر الأفعال كلها، فإنه لا مدخل له فيها، فلا يقال فى رشاقة القدّ وحسن الدلّ، إنه من البديع، فهو إنما يكون من عوارض الكلام لا غير، وقولنا «المؤلف» يحترز به عن الكلم المفردة بالإضافة إلى كل واحدة من أعدادها،

التنبيه الثانى فى ذكر أقسامه

فإنه لا يقال له بديع، لأنه مخصوص بما كان مؤتلفا من أجزاء، وقولنا «على جهة الإسناد» يحترز به عما إذا كان التركيب حاصلا، لكن من غير جهة الإسناد، كقولك زيد، عمر، بكر، خالد، فإن ما هذا حاله وإن كان مركبا لكنه غير مسند، لأن الإسناد فى مثل قولك زيد قائم وعمرو خارج وغير ذلك، والبديع إنما يكون حيث تحصل الفائدة، فأما ما لا فائدة فيه فلا موقع لعلم البديع فيه، وإنما يزداد حسنا فيما كان تركيبه مفيدا، وقولنا «المجازى» يحترز به عن الحقائق فإنه لا مدخل لعلم البديع فيما كان جاريا على جهة الحقيقة، وإنما موضعه المجازات البليغة، وقولنا «من جهة الاستعارة» يحترز به عن أكثر أنواع المجازات، فإنه لا مدخل للبديع فيها، وهذا نحو مجاز الزيادة، ومجاز النقصان، وغير ذلك من المجازات، فالمجاز أعمّ من البديع، ولهذا فإن كل بديع فهو مجاز، وليس كل مجاز بديعا، بل هو مخصوص بمجاز الاستعارة دون غيرها من سائر المجازات، وهكذا القول فى التشبيه المظهر الأداة، فإنه لا يدخله البديع، لأنه ليس من جملة المجاز فيقال بأنه داخل فى علم البديع، وإذا لم يكن داخلا فى المجاز فلأن يمتنع دخوله فى البديع أولى وأحق، فهذا تقرير ماهية البديع لغة واصطلاحا. التنبيه الثانى فى ذكر أقسامه اعلم أنا قد فرغنا من ذكر أصنافه فيما سبق، ولكنا نورد تقسيمه على جهة الإجمال، ونكتفى فى التفاصيل بما سبق شرحه، ليكون الناظر على استحضار فيه، وهو فى التقسيم منقسم إلى أضرب ثلاثة: الضرب الأول منها ما يكون راجعا إلى الفصاحة اللفظية وهذا هو المراد بعلم البيان، ثم منه ما يرد فى المنظوم والمنثور كالتجنيس، والترصيع، ولزوم ما لا يلزم، وغير ذلك من أصناف البديع، ومنه ما يكون مختصا بالنظم، وهذا التصريع، فإنه مخصوص بالقوافى لا يرد إلا فيها، وضابطه أن كل ما كان متعلقه ما يرجع إلى الألفاظ فهو بفصاحة الألفاظ أشبه. الضرب الثانى ما يكون راجعا إلى الفصاحة المعنوية، وهذا هو المراد بعلوم المعانى، وهذا نحو التخييل، والاستطراد، والتفويف، والتوشيح. وغير ذلك من الأصناف المتعلقة بعلوم البلاغة، والضابط فى مثل هذا أن كل ما كان متعلقا بالمعانى فهو من باب الفصاحة

الضرب الثالث ما يكون بمعزل عن الفصاحة اللفظية والفصاحة المعنوية على الخصوص،

المعنوية، وهذا هو الغرض بقولنا علم المعانى وعلم البيان كما سبق تقريره. الضرب الثالث ما يكون بمعزل عن الفصاحة اللفظية والفصاحة المعنوية على الخصوص، ولكنه ينزل منزلة التتمة والتكملة لهما، ويكون تحسينا لهما وتزيينا لمواقعهما، وهذا نحو الكمال، والإيضاح، وحسن البيان، ونحو التتميم، والاستيعاب، والتذييل إلى غير ذلك من الأوصاف التى لا تستقل بنفسها، وإنما يكون حصولها على ما ذكرناه من مراعاة الإكمال وتحسين الهيئة كما أشرنا إليه فى الأصناف السابقة، ونظيره من علم الإعراب قولك: ضرب زيدا عمرو، بتقديم المفعول على الفاعل، فإن ما هذا حاله قد أفاد كلاما مطابقا لقوانين العربية، خلا أنه لم يفت منه إلا تحسين الكلام وتزيينه، حيث لم يكن الفاعل لاصقا بالفعل، والمفعول متأخرا عن الفاعل، فهذا يجرى مجرى التحسين والإكمال للجملة لا غير، فهكذا ما قلناه من هذه الأبواب إنما وردت على جهة الإكمال والتحسين وإعطاء الهيئة الحسنة والتأليف العجيب فى الكلام، فأما أصل البلاغة والفصاحة، فهما حاصلان من دون هذه الأبواب كما يدريه العاقل الخبير بموارد البلاغة والفصاحة ومصادرها، وهذه الأبواب أيضا متقاربة، والأصناف وإن تعددت متدانية، لكنا أجريناها على هذا التقسيم جريا على عادة أهل البلاغة، واقتفاء لآثارهم، وهى عندنا فى الحقيقة متقاربة. التنبيه الثالث فى بيان مواقع البديع اعلم أن كل موضع من الكلام ليس صالحا لعلم البديع وإنما يصح فى مواضع من الكلم دون مواضع، فهذان تقريران نذكرهما بمعونة الله تعالى: التقرير الأول فى ذكر المواضع التى يصح دخوله فيها وجملة المداخل التى يختص بها شروط أربعة. الشرط الأول: أن يكون واردا فى الكلام المنظوم من هذه الأحرف المعتادة، أعنى حروف العربية، وهى التسعة والعشرون، فلا يجوز دخوله إلا فيما كان مؤلفا منها من الكلمات العربية دون غيرها من الكلم الفرسية والعبرانية والتركية، فهو مختص من بين سائر اللغات باللغة العربية، الشرط الثانى: أن يكون واردا فى الكلام الإسنادى التركيبى الذى يختص بالمعانى المفيدة، ولهذا فإنك لو أفردت الكلم المفردة فقلت زيد، عمرو، بكر، خالد، لم يكن مفيدا فائدة لعدم الإسناد،

التقرير الثانى فى بيان المواضع التى لا يصح دخوله فيها

فلا يكفى فيه وجود الكلم العربية المفردة، بل ولو اختص بالكلم العربية المفردة فلابد من أن يكون واردا فيما كان مسندا، لأنه لابد من اختصاصه بالإفادة، وليس يكون مفيدا إلا بالإسناد الذى تحصل من أجله فائدة الكلام. الشرط الثالث: أن يكون واردا فى المجاز فلا يعقل البديع إلا إذا كان الكلام واقعا فى رتبة المجاز، فأما ما كان من الكلام موضوعا على أصل حقيقته فلا مدخل له فيه، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن السّعة فى الكلام والافتتان فيه إنما يكون حاصلا بالدخول فى الأنواع المجازية، فأما الحقائق فهى قليلة بالإضافة إلى المضطربات المجازية، وهو الذى أوجب انشعاب البديع إلى تلك الأصناف التى أسلفناها، فإنه لم يقع اختلافها إلا لما يتعلق بها من التصرف فى المجاز والدخول فيه كل مدخل، ولهذا فإن العرب ممتازون فى كلامهم على العجم بهذه الخصلة، فإن الشاعر من العجم ربما ذكر كتابا طويلا من أوله إلى آخره شعرا على صفة واحدة من غير اختلاف فيه، كما تفعله العرب فى قصائدها من اختلاف بحورها ورويها، ومقاصدها ومغازيها المتباينة، كما يحكى عن الفردوسى من شعراء العجم أنه نظم كتابا وجعله ستين ألف بيت يشتمل على تاريخ الفرس، ومثل هذا لا يقصد فى لغة العرب مع أن اتساعها أكثر من اتساع لغة العجم، الشرط الرابع: أن يكون المجاز حاصلا فى الاستعارة من بين أودية المجاز والكناية، والتمثيل المضمر الأداة، لأن بهذه الأمور يحصل اليقين فى الكلام، ويكثر الاتساع لأجلها، فهذه الشرائط لا بد من اعتبارها فى علم البديع وإحرازه. التقرير الثانى فى بيان المواضع التى لا يصح دخوله فيها وهو عكس هذه الأمور الأربعة، لأنها إذا كانت شرطا فى صحته كان ما خلافها مبطلا له، فلا يرد فى الكلم المفردة، ولا يكون واردا فى المركبات التى لا إسناد فيها لبطلان فائدته، ولا يدخل فى حقائق الكلام، وهو ما أريد به ما وضع له فى الأصل، ولا يرد فى التشبيه المظهر الأداة لأنه ليس معدودا على الصحيح فى أودية المجاز، فأما التشبيه المضمر الأداة فهو نوع من أنواع الاستعارة، فلا يمتنع وروده فيه، ويرد فى الكناية أيضا، فهذه جملة ما يجب اعتباره فى كون البديع من الكلام بديعا، وما لا يعتبر فيه، وبتمامه يتم القول على الباب الرابع من أبواب الفن الثانى الذى رسمناه للمقاصد، ونشرح الآن الفن الثالث وهو التكملات اللاحقة.

الفن الثالث من علوم هذا الكتاب فى ذكر التكملات اللاحقة

الفن الثالث من علوم هذا الكتاب فى ذكر التكملات اللاحقة اعلم أن ما يتعلق بالأسرار البيانية، والعلوم البلاغية، قد ذكرناه ورمزنا إلى أسراره ومقاصده، والذى نريد ذكره فى هذا الفن هو الكلام فيما يتعلق بأسرار القرآن، ونحن وإن ذكرناه على جهة التتمة والتكملة، فهو فى الحقيقة المقصود، والغرض المطلوب، فنذكر فصاحته وأنه قد وصل الغاية التى لا غاية فوقها، وأن شيئا من الكلام وإن عظم دخوله فى البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه، ونذكر كونه معجزا للخلق، وأن أحدا لا يأتى بمثله، نذكر وجه إعجازه، ثم نذكر أقاويل العلماء فى ذلك، ثم نردفه بذكر المختار، فهذه أربعة فصول قد اشتمل عليها هذا الفن، نفصلها ونذكر ما تضمنته من الأسرار والتفاصيل، والله الموفق للصواب.

الفصل الأول فى بيان فصاحة القرآن

الفصل الأول فى بيان فصاحة القرآن اعلم أن فصاحة القرآن وبلاغته أظهر من أن تكشف، ولا خلاف بين العقلاء فى فصاحته وبلاغته، وإنما يؤثر الخلاف: هل فى المقدور ما هو أفصح منه وأبلغ، والمختار أن فى مقدور الله ما هو أبلغ وأدخل فى الفصاحة والبلاغة، لأن خلاف ذلك يمكن، والقدرة الإلهية لا تعجز عن أبلغ منه وأوضح، وأعلا مرتبة منه، ولكنا نذكر فصاحته على جهة التأكيد والاستظهار، ولنا فى تقرير فصاحته طريقتان: الطريقة الاولى منهما مجملة وفيها مسالك ثلاثة: المسلك الأول منها هو أنا قد قررنا فيما سبق معنى البلاغة والفصاحة وحقائقهما، وأشرنا إلى بيان التفرقة بينهما، وتلك المعانى التى ذكرناها فيهما حاصلة فى القرآن، فيجب القضاء بكونه فصيحا، سواء قلنا إن الفصاحة راجعة إلى الألفاظ، والبلاغة راجعة إلى المعانى، كما هو المختار عندنا، وقد سبق تقريره، أو سواء قلنا إنهما شىء واحد يقعان على فائدة واحدة، فكل كلام فصيح فهو بليغ، وكل بليغ من الكلام فهو فصيح، فعلى جميع وجوههما فهما حاصلان فى القرآن على أوضح حصول وأكمله، فيجب القضاء بكونه فصيحا، وهذا هو المقصود من الدلالة. المسلك الثانى هو أنك إذا فكرت وأمعنت النظر فى كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفى كلام أمير المؤمنين، وغيرهما ممن كان معدودا فى زمرة الفصحاء وكان له منطق فى البلاغة فى المواعظ والخطب، والكلم القصيرة، ومواقع الإطناب، والاختصار فى المقامات المشهودة، والمحافل المجتمعة، وجدت القرآن متميزا عن تلك الكلمات كلها تميزا لا يتمارى فيه منصف، ولا يشتبه على من له أدنى ذوق فى معرفة بلاغة الكلام وفصاحته، وذلك التميز تارة يكون راجعا إلى ألفاظه من فصاحة أبنيتها، وعذوبة تركيب أحرفها، وسلاسة صيغها، وكونها مجانبة

للوحشى الغريب، وبعدها عن الركيك المسترذل، ألا ترى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ [الشورى: 32] لم يقل الفلك لما فى الجرى من الإشارة إلى باهر القدرة، حيث أجراها بالريح، وهى أرق الأشياء وألطفها، فحركت ما هو أثقل الأمور وأعظمها فى الجرم، وقال: فِي الْبَحْرِ ولم يقل فى الطّمطام، ولا فى العباب وإن كانت كلها من أسماء البحر، لكون البحر أسهل وأسلس، ثم قال: كَالْأَعْلامِ ولم يقل كالروابى، ولا كالآكام، إيثارا للأخف الملتذ به، وعدولا عن الوحشى المستركّ، وتارة يكون راجعا إلى المعانى لإغراقها فى البلاغة ورسوخها فى أصلها، وسببها حسن النظم وجودة السبك، فمن أجل ذلك يحصل قانون البلاغة ويبدو رونقها، ولا شك أن ما هذا حاله قد حصل فى القرآن على أتم وجه وأكمله، وإن اعتاص عليك ما ذكرته من معرفة هذه الأسرار فى كتاب الله تعالى، ودق عليك تمييز بلاغة معانيه وفصاحة ألفاظه، وصعب عليك معرفة حسن التأليف منه وعجيب انتظامه وجودة سياقه، فاعمد إلى أفصح كلام تجده من غير القرآن، وقابل به أدنى سورة من سورة أو آية من آياته فى وعظ، أو وعد، أو وعيد، من تمثيل أو استعارة، أو تشبيه أو غير ذلك من أفانين الكلام وأساليبه، فإنك إذا خلعت ربقة الهوى، وسلبت عن نفسك رداء التعصب، وجدت مصداق ما قلته من ذلك، فهذا كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بعد كلام الله تعالى إلا كلامه، وهو أفصح من غيره من سائر الكلام، فإذا قابلت قوله تعالى: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) [العنكبوت: 64] بقوله عليه السلام، «كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأن الذى نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون» فهاهما قد اتفقا على وصف معنى واحد، وهو الموت والعود إلى الآخرة، وتصرّم الدنيا وانقضاء أحوالها وطيّها، والورود إلى الآخرة، ولكن القرآن متميز فى تحصيل هذا المعنى وتأديته، تمييزا لا يدرك بقياس، ولا يعتوره التباس، وإذا كان القرآن فائقا على كلام الرسول وكلام أمير المؤمنين، مع أنهما النهاية فى البلاغة والفصاحة فهو لغيرهما أفوق، وعلوه عليها أبلغ وأحق، وهذه طريقة مرضية فى الدلالة على فصاحة القرآن، ويتضح ذلك بمثال، وهو أن أهل بلد لو كانوا أربعين، فأرادوا مناظرة رجل واحد فاختاروا من أولئك الأربعين أربعة من كل عشرة واحدا، ثم اختاروا من تلك الأربعة رجلا واحدا، فناظر ذلك العالم، ثم إن ذلك العالم استطال عليه وقطعه وحده

المسلك الثالث

وبلّده، فإنه يكون لا محالة لغيره أقطع، وعلى تحيرهم وإدهاشهم أقدر، فهكذا حال القرآن إذ كان فائقا لكلام رسول الله وكلام أمير المؤمنين، فهو لغيرهما بذلك أحق لعلو الرتبة، وأعظم استبدادا بالفصاحة وأحوى لأسرار البلاغة. المسلك الثالث هو أنه صلّى الله عليه وسلّم لما أيده الله بالقرآن وجعله له معجزة باقية على وجه الدهر لا تنقضى عجائبه، ولا تخلق على كثرة الترداد جدّته. وقد عرضه على من كان فى وقته من أهل الفصاحة من قريش وغيرهم، فحيّر ألبابهم، وأدهش أفهامهم، وخرق قراطيس أسماعهم، وما ذاك إلا لما تحققوا وعرفوا من بلوغه الغاية فى فصاحته، وإنافته على كل كلام فى جزالته وبلاغته، حتى قال الوليد بن المغيرة فيه ما قال حين جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال له اتل على يا محمد ما أنزل إليك، فأسرع الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك طمعا فى الانقياد، فقرأ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ إلى آخر حم السجدة، فقال إن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، فما تيسر منهم إنسان، ولا فاه لأحد منهم لسان، إلى مماثلة شىء من أساليبه، ولا إلى الإتيان بأقصر سورة من سوره، وهذا يدلّك على أمرين، أحدهما اختصاصه بما لا يقدرون عليه ولهذا أظهروا الإعجاب من نفوسهم، وخرجوا بالاستطراف من ألسنتهم، وثانيهما علمهم بالعجز واعترافهم بالقصور، فهذا ما أردنا ذكره من الدلالة على كونه بالغا أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة من جهة الإجمال، والله تعالى أعلم بالصواب.

الطريقة الثانية من جهة التفصيل

الطريقة الثانية من جهة التفصيل اعلم أنه لا مطمع لأحد من الخلق وإن عظم حاله فى الإحاطة بجميع مزايا القرآن والاستيلاء على عجائبه، وما اختص به من دقائق المعانى وكنوز الأسرار وعلو مرتبته فى الفصاحة، وكونه فائقا فى البلاغة، ومباينته لكلام فصحاء العرب، وكل ذلك فيه دلالة على شرفه، وأنه فائق على غيره من سائر الكلام كله بحيث لا يدانيه كلام، ولكنى أنبه من تلك الأسرار على أدناها مستعينا بالله تعالى، مستمدا من فضله، طالبا للإرشاد فى كل مقصد ومراد، وليس تخلو تلك المزية التى تميز بها حتى صار فى أعلا ذروة الفصاحة ومقتعد صهوة البلاغة، إما أن تكون راجعة إلى الألفاظ، أو إلى المعانى، فهاتان مرتبتان. المرتبة الأولى فى المزايا الراجعة إلى ألفاظه تارة ترجع إلى مفردات الحروف، وتارة إلى تأليفها من تلك الأحرف، ومرة إلى مفردات الألفاظ، ومرة إلى مركباتها، فهذه أوجه أربعة لابد من اعتبارها فى كون اللفظ فصيحا، وكلها حاصلة فى القرآن على أتم وجه وأكمله. الوجه الأول منها مفردات الأحرف، ولابد من أن تكون مستعملة من هذه الأحرف التسعة والعشرين، فإنها جميعا حروف العربية، فلا يكون اللفظ الفصيح مؤتلفا إلا منها، وما خرج عنها فقد يكون مستعملا، وقد يكون مستهجنا، فأما المستعمل فهو همزة بين بين، وألف الإمالة، والتفخيم نحو إمالة هدى وهاد، ونحو الصلوة فى التفخيم، والنون الساكنة نحو عنك، فإن هذه وإن كانت خارجة عن أحرف العربية التسعة والعشرين، لكنها فصيحة مستعملة فى كتاب الله تعالى، وفى كل كلام فصيح، وأما المستهجن فهو الطاء التى كالتاء فى نحو «تالب» فى «طالب» والظاء التى كالثاء نحو فى «ثالم» فى «ظالم» والفاء التى كالباء فى نحو قولك «ضرف» فى «ضرب» والجيم التى كالكاف فى نحو «كابر» فى مثل قولنا «جابر» إلى غير ذلك مما يكون خارجا عن اللغة الفصيحة، فما هذا حاله لا يكون فى الكلام الفصيح، وإنما الغالب عليه لغة الأنباط والأعاجم والأكراد، فما هذا حاله فكتاب الله تعالى مجنّب عنه لا يجوز دخوله فيه، لما فيه من الركة والتواء اللسان، فأما الجيم الذى أطبق من قوله: جَعَلَ رَبُّكِ [مريم: 24] وفى نحو قوله: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا [التوبة: 97] فهى فصيحة مقروء بها فى السبعة، فما هذا حاله لا يجب تنزيه كتاب الله تعالى عنه.

الوجه الثانى فى حسن تأليفها

الوجه الثانى فى حسن تأليفها وهى وإن حصلت على ما ذكرناه من كونها من حروف العربية، فلابد من كونها مؤلفة تأليفا يسهل النطق به ويرق على اللسان ويعذب، فإذا تباعد المخرجان كان أحسن ما يكون وألطف، وإذا تقارب المخرجان كان دون ذلك فى الحسن كقولك. «أمر أب» فإن الهمزة من الحلق والباء والميم من الشفة، فلا جرم كان حسنا بخلاف قولنا «هعخع» اسم شجر، فإن تأليفه متنافر لما كانت المخارج متقاربة، لأنها كلها من الحلق، فلهذا صعب مخرجها على اللسان، لما فيها من الثقل، وهكذا قولنا «ملع» فإنها ركيكة التأليف لما كانت متقاربة المخارج، فإن حروفها كلها من الفم والحلق، لكن لما تقدم حرف الفم ثقلت، فلو تقدم حرف الحلق كان حسنا، فإذا قلبت تأليفها «بعلم وعمل» كان رقيقا خفيفا، فينحلّ من مجموع ما ذكرناه أنه لابد من مراعاة أحوال الحروف المفردة، من رقتها ولطافتها وأن تكون مألوفة مستعملة فى اللغة العالية، وأن يكون بريئا من الحروف النادرة المستهجنة، نحو ما روى من كشكشة بنى تميم، وهى إبدالهم من كاف المؤنث شينا، فيقولون مررت بش قال شاعرهم: فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... ولكنّ عظم الساق منش رقيق وكسكسة بنى بكر، وهى إلحاق كاف المؤنث سينا، فيقولون مررت بكس، والكشكشة فى بنى تميم هى بالشين بثلاث من أعلاها، والكسكسة بالسين، وهى فى بنى بكر، ونحو الطّمطمانية فى حمير وهى عدم الإبانة فى الكلام والإفصاح فيه، ونحو الغمغمة فى قضاعة، وهى اللّكنة فى الكلام، ونحو الفراتية فى أهل العراق، واللخلخانية فيهم، وهما العجمة فى الكلام، وهذه كلها عاهات فى الكلام ولكنة فيه، وكتاب الله تعالى منزه عن هذه اللغات، لبعدها عن الفصاحة وميلها عن الأحرف العربية، وأنه لابد من مراعاة حسن التأليف مع حسن الأحرف ورقتها، فمتى حصل الأمران أعنى عذوبة الأحرف ورشاقة تأليفها، كان الكلام فى غاية الحسن والإعجاب، فإذن لابد لاعتبار كون الكلمة فصيحة من أمور ثلاثة، أما أولا: فبأن تكون حروفها صافية الذوق فى مخارجها، لذيذة السماع طيبة المجرى على اللسان، وأما ثانيا: فبأن تكون معتدلة فى تأليفها، بأن تكون ثلاثية، لأن ما دونها لا يعد من الأسماء لنقصان وزنه، أو فوق الثلاثى، من الرباعى والخماسى، وإن كانت مستعملة، لكن الثلاثى أعدلها فى الوزن، وأخفها على الألسنة، وأما ثالثا: فتكون

الوجه الثالث فى بيان ما يكون راجعا إلى مفردات الألفاظ،

تارة ساكنة الوسط، لأنها إذا كانت كلها متحركة كانت ثقيلة على اللسان بعض الثقل، فيحصل من أجله صعوبة فى النطق، وإن تحرك وسطها كان تحركه بالفتح أخف من تحركه بالضم والكسر، لما فيهما من مزيد الثقل الحاصل بالحركة، فلابد من مراعاة ما ذكرناه لتحصل الفصاحة فى الألفاظ، وإذا تأملت كتاب الله تعالى: وجدته على ما ذكرناه من اعتبار هذه الشرائط فيه كلها. الوجه الثالث فى بيان ما يكون راجعا إلى مفردات الألفاظ، وقد زعم بعض الخائضين فى هذه الصناعة أنه لا قبح فى الألفاظ، فإن مستندها هو الوضع، والواضع لا يضع إلا ما كان حسنا، وهذا فاسد، فإن فيها الخفيف، والثقيل، والشاذ، والمستعمل، من جهة وضعها، فأحوالها متباينة كما ترى، ولهذا فإن الخمر أحسن من قولنا: زرجون، وأسد، أحسن من قولنا: غضنفر، والغضنفر أحسن من قولنا: فدوكس، وهرماس، وسيف أحسن من قولنا: خنشليل، فإذا تقرر ما قلناه فلا بد من مراعاة محاسن الألفاظ فى كون اللفظ فصيحا، وذلك يكون بمراعاة أمور ثلاثة، أما أولا: فلابد من اعتبار كونها عربية، فلا تكون معربة، فارسية، ولا رومية، ولا حبشية، ولا سندية، لأنها إذا كانت خالصة كانت أدخل فى فصاحة اللفظ، وأما ثانيا: فأن تكون مألوفة مستعملة، ولا تكون شاذة نادرة، فما هذا حاله من الألفاظ لا يعد فصيحا، ولا يكون جاريا فى أساليب الفصاحة، وأما ثالثا: فأن تكون خفيفة على السماع طيبة الذوق فى تأليفها، ولا تكون وحشية غريبة، وقد زعم بعضهم أن الكلام إنما يكون فصيحا إذا كان فيه عنجهانيّة وبعد عن الأفهام، وهذا فاسد، فما هذا حاله عند النّظار لا يكون معدودا فى الفصاحة، وإنما الفصيح ما كان معتادا مألوفا يفهمه كل أحد من الناس، فحصل من هذا أن كلام الله حائز لهذه الخصال متميز بها عن سائر الكلام فى جميع ألفاظه لا يوجد فيه شىء من هذه العاهات التى ذكرناها.

الوجه الرابع أن يكون راجعا إلى تركيب مفردات الألفاظ العربية،

الوجه الرابع أن يكون راجعا إلى تركيب مفردات الألفاظ العربية، وهذا معدود من جملة المحاسن المعدودة فى فصاحة الكلام وبلاغته، ولابد فيه من مراعاة أمرين، أما أولا فأن تكون كل كلمة منظومة مع ما يشاكلها ويماثلها: كما يكون فى نظام العقد، فإنه إنما يحسن إذا كان كل خرزة مؤتلفة مع ما يكون مشاكلا لها، لأنه إذا حصل على هذه الهيئة كان به وقع فى النفوس وحسن منظر فى رأى العين، وأما ثانيا فإذا كانت مؤتلفة، فلابد أن يقصد ما وضع لها بعد إحراز تركيبها، والمثال الكاشف عما ذكرناه، العقد المنظوم من اللآلىء ونفائس الأحجار، فإنه لا يحسن إلا إذا ألف تأليفا بديعا بحيث يجعل كل شىء من تلك الأحجار مع ما يلائمه، ثم إذا حصل ذلك التركيب على الوجه الذى ذكرناه، فلابد من مطابقته لما وضع له، بأن يجعل الإكليل على الرأس، والطوق فى العنق، والشّنف فى الأذن، ولو ألف غير ذلك التأليف فلم يجعل كل شىء فى موضعه، بطل ذلك الحسن، وزال ذلك الرونق، فلو جعل الإكليل فى موضع الخلخال من الرّجل، لم يكن حسنا، لعدم المطابقة لوضعه، وهكذا لو جعل الطوق على الأذن، لم يحصل المقصود به، وهكذا حال الكلام إذا كان مؤلفا تأليفا بديعا ولم يقصد به مطابقة الغرض المطلوب، لم يكن معدودا فى البلاغة، ولا كان فصيحا، وكلام الله تعالى قد أحسن تأليفه كما ترى فى ألفاظه، فإنها معجبة رائقة فى تأليفها، ثم إنها قد قصد فى حقها مطابقة الأغراض المقصودة، بحيث لا تخالف ما قصدت به، فهذا ما أردنا ذكره من إحراز القرآن لهذه اللطائف الراجعة إلى الألفاظ بتمامها وكمالها، ولنورد مثالا من القرآن العظيم جامعا لما ذكرناه من الأوجه الأربعة وهو قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ [هود: 44] فانظر إلى مفردات أحرف هذه الآية، ما أسلسها وأرقها، وألطفها، ثم فى تأليفها ما أسهله على اللسان، ثم انظر إلى مفردات ألفاظه، ما أعذبها وأجراها على الألسنة من غير صعوبة ولا عسرة، ثم انظر إلى تأليف مفرداتها، كيف طابقت الغرض المقصود منها، وسيقت على أتم سياق وأعجبه، فلما كان من أمر الطوفان ما كان من تطبيقه للأرض ذات الطول والعرض، وإذن الله بإهلاك قوم نوح به، واقتضت الحكمة الإلهية إخراجه ومن معه من الفلك إلى الأرض، ابتدأ بقوله وَقِيلَ إبهاما للقائل وإعظاما لأمره، حيث بنى لما لم يسمّ فاعله، تهويلا للأمر وإعظاما

لحاله، ولم يقل: قال الله، ثم نادى الأرض بالابتلاع للماء، فيحتمل أن يكون هناك خطاب كما هو ظاهر، ويحتمل أن لا يكون هناك خطاب كما فى قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ (82) [يس: 82] ليس الغرض أنه لابد فى التكوين من قوله: كُنْ ولكن كنى بذلك عن سرعة الإجابة عند الإرادة للفعل، بحصول الداعية إليه من غير أن يكون هناك خطاب، ثم أمر السماء بالإقلاع، جريا على ما ذكرناه فى الأرض، ثم قال: وَغِيضَ الْماءُ تصديقا لقوله: ابْلَعِي ، أَقْلِعِي لأنه مهما حصلا، غاض الماء لا محالة، لعدم ما يمده، ثم قال: وَقُضِيَ الْأَمْرُ إما فى إهلاكهم وإما بحصول المرادات فى الأرض بإخراجهم إليها، ثم قوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ إخبار بالاستقرار للسفينة على هذا الجبل، وأن خروجهم منها كان إليه، وقوله: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) فيه إشارة إلى عظم الغضب واستحقاق العقوبة الأبدية، فهذا تنبيه على أسرار الآية على جهة الإجمال والإحاطة لمعانيها على جهة التفصيل مما لا تقدر عليه القوى البشرية، ولكنا نرمز إلى ما يحضرنا من لطائفها، ونشير من ذلك إلى مباحث خمسة:

البحث الأول بالإضافة إلى موقعها من علم البيان

البحث الأول بالإضافة إلى موقعها من علم البيان اعلم أن علم البيان من عوارض الألفاظ، ومورده المجاز على أنواعه، ومعناه إيراد المعنى الواحد فى طرق مختلفة فى وضوح الدلالة عليه والنقصان، فعلى قدر إغراق المجاز وحسنه، يزيد المعنى وضوحا، وعلى قدر نزوله وبعده، ينتقص المعنى، فالنظر فى هذه الآية من جهة ما اشتملت عليه من الأنواع المجازية، كالاستعارة، والتشبيه، والكناية، فنقول إن الله عز سلطانه لما أراد أن يظهر فائدة الخطاب اللغوى، وهو أنا نريد أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان الماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضى أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضى، وأن تقر السفينة على الجودى فاستقرت، وأن نلقى الظلمة غرقى، وأن نبعدهم عن رحمتنا بالعقوبة، فلما أراد الله تعالى أن يؤدى هذه المعانى اللغوية على أساليب العلوم البيانية، باستعماله المجازات فيها، وترك العبارات اللغوية جانبا، فلا جرم ساق الكلام على أحسن سياق بتشبيه المراد منه هذه الأمور، بالأمور الذى لا يتأتى منه التأخير عما أريد منه، لكمال الأمر وجلال هيبته، ونفوذ سلطانه، وشبه تكوين المراد بالأمر الحتم النافذ فى تكوين المقصود، إرادة لتصوير اقتداره الباهر، وتقريرا لاستيلاء سلطانه القاهر، وأن السموات والأرضين على ما اشتملا عليه من هذه الأجرام العظيمة والاتساعات الممتدة، تابعة لإرادته فى الإيجاد والإعدام، ومنقادة لمشيئته فى التغيير والتبديل، وأغرق فى التشبيه، بأن جعلهم كأنهم عقلاء مميّزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه، فحتّموا على أنفسهم بذل المجهود فى مطابقة أمره وتحصيل مراده، لما وقع فى أنفسهم من مزيد اقتداره، وتصوروا فى ذات عقولهم كنه عظمته، فعند ذلك عظمت المهابة له فى نفوسهم، واستقرت حقيقة الخوف من سطوته فى قلوبهم، فضربت سرادقات المهابة والخوف فى أفئدتهم، فألقت أثقالها فى ساحات ضمائرهم علما بما تستحقه من جلال الإلهية، وتحققا لما يختص من سمات الربوبية، تخفق على رءوسهم رايات المحامد، بتحقق معرفته، وتعقد عليهم ألوية المهابة والخشية، من خشيته، فلا مطمع لهم فى خلاف مراده، ولا تشوّق لهم إلى التأخر عن مقصوده، وكلما لاح لهم وميض من برق إشارته، كان المشار إليه مقدما، وكلما توهموا ورود أمره، كان ذلك الأمر بسرعة الامتثال مكملا متمما، فلا يتلقون إشاراته، بغير الامتثال، ولا يقابلون أوامره بغير

الانقياد، فسبحان من شملت قدرته جميع الممكنات، تكوينا وإيجادا، وأحاط بكل المعلومات إحكاما وإتقانا، فهذا تقرير نظم الكلام وتأليفه، ثم إنا نعطف على بيان روابط المجاز وعلائقه فى الآية، فقال عز من قائل وَقِيلَ على جهة المجاز عن الإرادة، ثم إنه حذف الفاعل، وجعله فى طىّ الفعل، إبهاما وإعظاما لحاله عن الذكر عند عروض أمر هذه المكونات على جهة الذل والتسخير، ثم جعل قرينة المجاز مخاطبته للجمادات كما فى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] ، على جهة التشبيه لمّا جعلا بمنزلة من عقل الأمر وفهم عظم الاستيلاء، ثم استعار لفور الماء فى الأرض اسم البلع الذى يطلق على القوة الجاذبة للمطعوم، لانعقاد الشبه بينهما، وهو الإذهاب إلى مقر خفى، ثم استعار الماء للغذاء على جهة الكناية، تشبيها له بالغذاء، لأن الأرض لما كانت تتقوى بالماء فى الإنبات للزرع والأشجار والثمار، تقوىّ الآكل بالطعام، وجعل القرينة الدالة على الاستعارة فى لفظ ابْلَعِي هو كونها موضوعة للاستعمال فى الغذاء دون الماء، ثم إنه وجه الخطاب لها بالأمر على جهة الاستعارة لما ذكرناه من التنبيه المتقدم، حيث نزلها منزلة العقلاء الذين تسربلوا سرابيل المهابة، وتلفعوا بأردية التّذلل منقادين فى حكمة القهر عليهم ببؤس الاستكانة، وضرع الاستسلام والذلة، وخاطب بالأمر ترشيحا للاستعارة فى النداء، ثم قال ماءَكِ مضيفا الماء إلى الأرض على جهة الاستعارة لما لها به من الاختصاص، وجعل الإضافة باللام تشبيها للأرض بالمالك، حيث كانت متصرفة فيه بالابتلاع والذهاب فيه. وانتفاعها به، ثم إنه قدّم الأرض على السماء لأوجه خمسة، أما أولا: فلما للخلق من الانتفاع بالأرض بالاستقرار وكونها بساطا لهم، وأما ثانيا: فلأنها لما كانت مقرا للسفينة التى تكون بها النجاة لمن ركبها، وأما ثالثا: فلأنها لما كانت مقرا لمائها وماء السماء، وحيث يكون اجتماعها كانت أحق بالتقديم، وأما رابعا: فلأن الغرض هلاكهم فى الأرض لأجل ما حصل من العصيان والمخالفة فيها، وأما خامسا: فلأن البداية بالغرق كانت من جهة الأرض، ولهذا قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [المؤمنون: 27] فكان أول نبوع الماء من الأرض، فلأجل هذه الأمور كانت مقدمة فى الخطاب ثم إنه تعالى أقبل على خطاب السماء بمثل ما خاطب به الأرض، لما كان الماء النازل منها هو السبب فى الإهلاك بالغرق، فلأجل ذلك عطف خطابها على خطاب الأرض فقال: وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] وما ذكرناه فى نداء الأرض وخطابها من الاستعارة فهو حاصل فى خطاب السماء، وإنما اختار لاحتباس المطر

اسم الإقلاع الذى هو ترك الفعل من جهة الفاعل، فإنه يقال فى حال من استمر من جهته فعل من الأفعال ثم تركه: أقلع عنه، لأن إنزال المطر لما كان صادرا منها على سبيل الاستمرار ثم رفع، كأنها أقلعت عن فعله، وإنما ذكر متعلق فعل الأرض بقوله: ابْلَعِي ماءَكِ ولم يذكر متعلق فعل السماء فلم يقل: ويا سماء أقلعى عن صب مائك، من جهة أن الأرض لما كان لها اعتمال فى بلع الماء، فلأجل هذا ذكر متعلق فعلها، بخلاف السماء فإنه لا عمل لها هناك إلا ترك الصب والكف، فلأجل ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر متعلقها، وإنما وجه أمر الأرض بالفعل المتعدى، ووجه أمر السماء بالفعل اللازم، من جهة تصرف الأرض فى الماء، بصيرورته فى بطنها بخلاف السماء فإن الغرض بقوله: أَقْلِعِي أى كونى ذات إقلاع وكفّ عن الصب لا غير، ولذا يقال ابتلعت الخبز، وأقلعت السماء إذا صارت ذات إقلاع فى سحابها، ثم قال بعد ذلك: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ [هود: 44] فأتى بهذه الجمل الخبرية عقب تلك الأوامر على جهة الإبهام لفاعلها، إعلاما بأن مثل هذه الأمور العظيمة والخطوب الهائلة، لا تصدر إلا من ذى قدرة، لا تكتنهه العقول ولا تناله الأفهام، وتعريفا بأن الوهم لا يذهب إلى أن غيره قائل: يا أرض ابلعى وياسماء أقلعى، ولا يغيض الماء، ولا يقضى الأمر فى هلاكهم، ولا تستوى السفينة على الجودى، ولا يبعدهم عن الرحمة باستحقاق العقوبة إلا هو، فلا جرم أبهم ذكره من أجل ذلك، ثم إنه ختم الكلام على جهة التعريض بقوله: وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) [هود: 44] تنبيها على أن ذلك إنما كان من أجل ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل وإعراضهم عما جاءوا به من الحجج الظاهرة، والأعلام النيرة، وأن من كان على مثل حالهم فإن الهلاك واقع به لا محالة من غيرهم ممن بعدهم، وفيه وعيد لقريش ومن حذا حذوهم فى تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إيّاك أعنى فاسمعى يا جارة» وإنما كرر قوله: وَقِيلَ بُعْداً ولم يكرره فى خطاب السماء فيقول: «وقيل يا أرض وقيل يا سماء» من جهة أن السماء من جنس الأرض فى مقصود الأمر منهما، وهو إزالة الماء عنهما، فاكتفى بإظهاره فى إحداهما وحذفه من الأخرى، بخلاف قوله بُعْداً فإنه مصدر وجّه على جهة الدعاء، ليس مجانسا لما سبق، فلهذا كرر القول فيه إعلاما بأنه من جملة القول، واهتماما بالدعاء عليهم بالإبعاد عن الرحمة باستحقاق العقوبة السرمدية، أعاذنا الله منها برحمته، فهذه جملة ما يتعلق بالآية من العلوم البيانية، وتحتها أسرار أوسع مما ذكرناه.

البحث الثانى بالإضافة إلى موقعها من علم المعانى

البحث الثانى بالإضافة إلى موقعها من علم المعانى اعلم أن منزلة المعنى من اللفظ هى منزلة الروح من الجسد، فكل لفظ لا معنى له فهو بمنزلة جسد لا روح فيه ومفهوم علم المعانى، هو إدراك خواص مفردات الكلم بالتقديم والتأخير، وفهم مركباتها، ونعنى بقولنا إدراك خواص المفردات فى التقديم والتأخير ما يفهم من قولنا زيد منطلق، ومنطلق زيد، ومن الكرام زيد، وزيد من الكرام، وبقولنا وفهم مركباتها، وهو ما فى قولك زيد قائم، وإن زيدا لقائم، فكل واحد من هذه الصور يفيد معنى غير ما يفيده الآخر من أجل التركيب، وهكذا القول فى جميع التراكيب، فإنها دالة على معان بديعة، ومرشدة إلى أسرار عجيبة، فإذا عرفت هذا فالنظر فى هذه الآية من جهة من علوم المعانى إما أن يكون نظرا فى مفرداتها، وتقديم ما يقدم منها، وتأخير ما يؤخر، وإما أن يكون نظرا فى تركيب جملها، فهذان نظران نتصدى للنظر فيهما.

النظر الأول فى مفرداتها وتقديم بعضها على بعض

النظر الأول فى مفرداتها وتقديم بعضها على بعض إنما اختير لفظ «يا» من بين سائر أحرف النداء من جهة أنها كثيرة الدور فى الاستعمال، وأنها موضوعة للدلالة على بعد المنادى، والبعد هنا يجب أن يكون معنويا، لأن البعد الحسى على الله تعالى محال، من جهة استحالة الجهة على ذاته، وذلك أن المعنوى يكون من جهات خمس، أولها: أنه تعالى لما كان مختصا بعدم الأولية فى ذاته سابقا على وجود الممكنات سبقا أوليا بلا نهاية، وأن الأرض من جملة الممكنات التى لها بداية، ولا شك أن كل ما كان لا أول له فهو فى غاية البعد عما له أول، وثانيها: من جهة عدم التناهى فى ذاته تعالى من كل وجه، بخلاف الأرض، فإنها متناهية فى ذاتها من كل وجه، وليس يخفى ما بين التناهى وعدم التناهى من البعد العظيم، وثالثها: اختصاص ذاته بالعظمة والكبرياء، واختصاص الأرض بنقيضها من التسخير والقهر، ورابعها: اختصاص ذاته بالاستغناء من كل وجه فى ذاته وصفاته، بخلاف الأرض، فإنها مفتقرة فى ذاتها من كل وجه إلى فاعل ومدبر، ومن كان مستغنيا فى ذاته وصفاته فإنه فى غاية البعد المعنوى عما يكون مفتقرا فى ذاته وصفاته إلى غيره، وخامسها: أنه نداء من اختص بكمال العزة لمن هو فى غاية الذلة، كما ينادى السيد عبده، فلما كانت الأرض مختصة بما ذكرناه من البعد من هذه الأوجه، لا جرم كان نداؤها مختصا ب «يا» من بين صيغ النداء، وإنما قال: يا أَرْضُ ولم يقل: «يا أرضى» إيثارا لتحقيرها، لأنه لو أضافها إلى نفسه، لكان قد أقام لها وزنا عنده بإضافتها إليه، لأن المضاف أبدا يكتسى من المضاف إليه شرفا وتخصيصا وتعريفا، ولم يقل: «يا أيّتها الأرض» إيثارا للاختصار، وعملا على الإيجاز، وتحرزا عن الإيقاظ بما يظهر من لفظ التنبيه الذى لا يليق بمقام الخطاب الإلهى، لاستحالته فيه، واختير لفظ الأرض لأمرين، أما أولا: فلأن المدحوّة والمبسوطة والمهاد وغير ذلك، مما يستعمل فى الأرض صفات زائدة تابعة للفظ الأرض، وأما ثانيا: فلأن لفظ الأرض أخف وأكثر دورا واستعمالا مما ذكرناه، فلهذا وجب إيثاره على غيره من أسمائها، واختير لفظ

ابْلَعِي ولم يقل «ابتلعى» لأمرين، أما أولا فلأن ابْلَعِي أخف وزنا وأسهل على اللسان من «ابتعلى» وأما ثانيا فلأن فى الابتلاع نوع اعتمال فى الفعل وتصرف فيه يؤذن بالمشقة، بخلاف قوله: ابْلَعِي فإنه دال على السهولة، فيكون فيه دلالة على باهر القدرة، حيث أمرت بالبلع لهذا الأمر الهائل من الماء بحيث لا يمكن تصوره على أسهل حالة، وإنما اختير إفراد الماء دون جمعه لأمرين، أما أولا فلأن فى الجمع نوع تكثير، فلا يليق ذكره بمقام الكبرياء وإظهار العظمة، وأما ثانيا: فلأن فى الإفراد نوع تحقير وذلة، وهو لائق بمقام القهر والاستيلاء فى الملكة، وهذا هو الوجه فى إفراد السماء والأرض، وإنما ذكر مفعول: ابْلَعِي لأنه لو اقتصر على ذكر البلع لدخل فيه ما ليس مرادا من بلع الجبال والبحار، وأنواع الأشجار والسفينة ومن فيها، نظرا إلى عموم الأمر الذى لا يخالف ولا يرد عن مجراه، لأن المقام مقام عظمة وكبريآء، وقول ابن عباس فى قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) [الأنبياء: 69] إنه لو لم يقل «وسلاما» لم ينتفع بالنار، لشدة بردها، يشير به إلى ما ذكرناه من مضاء الأمر ونفوذه، وإنما لم يظهر ذكر المسبب عند ذكر سببه، فيقول يا أَرْضُ ابْلَعِي فبلعت، وياسماء أقلعى فأقلعت، لأمرين أما أولا: فلما فى ذلك من الاختصار العجيب، والإيجاز البليغ، فاكتفى بذكر السبب عن ذكر مسببه، وهذا كثير فى القرآن كقوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] لأن المعنى فضرب فانفجرت، وأما ثانيا: فلما فيه من الإشارة إلى باهر القدرة فى سرعة الإجابة، ووقوع الامتثال، وحصول الأمور: من غير مخالفة هناك، فترك ذكره اتكالا على ما ذكرناه، وأنه كائن لا محالة لا يمكن تأخره، واختير بناء وَغِيضَ لما لم يسم فاعله على «غيّض» بتشديد الياء مبنيّا للفاعل لأمرين، أما أولا: فمن أجل الإيجاز، لطرح الفاعل، والاختصار فيه، وأما ثانيا: فمن أجل الاستحقار عن تعريض ذكر الله تعالى على أحقر المقدورات بالإضافة إلى جلاله، والمقام مقام الكبرياء والعظمة، وإنما اختير لفظ «الماء» ولم يقل الطوفان، ولا المطر، إيثارا للاختصار، ولما فيه من الإشارة باللام التى للعهد، كأنه قال: وغيض الماء الذى أمرنا الأرض والسماء بإيقاعه، بيانا لحاله وإيضاحا

لأمره، وأنه الذى وقع الإهلاك به لقوم نوح، فيعظم الامتنان على من بقى فى السفينة بإزالته، وإنما قال «الأمر» فى قوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ ولم يقل وقضى أمر نوح، أو قضى الهلاك، أو قضى الإغراق، لأمرين، أما أولا: فلأجل إيثار الاختصار، وتعويلا على الإيجاز، وأما ثانيا: فلأن وقوع ما وقع إنما كان من أجل العناية بنوح فى إغراق قومه، وإظهار الانصار له، فجاء باللام العهدية إشارة إلى ذلك، مع ما تضمن من الفخامة فى معرض الامتنان على نوح بالانتقام من قومه بما كذبوه، وإنما اختير وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ [هود: 44] ولم يقل: سويت كما قال: وغيض، وقضى، على البناء للمفعول لأمرين، أما أولا فمن أجل ثقل الفعل بالتضعيف عند بنائه لما لم يسم فاعله، فلهذا أوثر الأخف، وأما ثانيا فلأن الأكثر فى الاستعمال إضافة الأفعال إلى هذه الآيات، فيقال: هبت الريح، ومطرت السحابة، واستوت السفينة على الماء، قال تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ [هود: 42] فأضاف الجرى إليها فلأجل ذلك اختير إضافة الاستواء إليها، وإنما اختير بُعْداً ولم يقل: ليبعدوا لأمرين، أما أولا: فلأن فى المصدر نوع تأكيد لا يؤدى به الفعل لو نطق به. وأما ثانيا: فلأنه لو وجهه بالفعل كان مقيدا بالزمان، وهو إذا كان موجها بالمصدر كان مطلقا من غير زمان، فلهذا كان أبلغ من ذكر الفعل، وإنما عرّف القوم باللام إشارة إلى أنهم هم المخصوصون بهذه الأنواع من التنكيل دون غيرهم، وإنما أتى بلام الجر ولم يقل: فبعدا من القوم، لما فيها من الاختصاص المشعرة به اللام دون «من» فإنها غير مؤدية لهذا المعنى، وإنما أطلق صفة الظلم، ولم يقل الظالمين لأنفسهم تنبيها على شمول ظلمهم من جميع الوجوه، وفيه تنبيه على فظاعة شأنهم، وسوء اختيارهم لأنفسهم فيما كان فيهم، من تكذيب الرسل، وفيه شرح لصدر الرسول بالانتصار له على من كذبه، والتأسى بالصبر ووعيد لمن كذّبه بالنّصفة والانتقام منه.

النظر الثانى فى تأليف الجمل وذكر بعضها عقيب بعض

النظر الثانى فى تأليف الجمل وذكر بعضها عقيب بعض تقديم بعض الجمل على بعض ليس خاليا عن فائدة وسرّ، وإنما قدم النداء على الأمر فقال: يا أرض ابلعى ويا سماء أقلعى، ولم يقل عكس ذلك، ابلعى يا أرض وأقلعى يا سماء، لأمرين، أما أولا فلما فى ذلك من الملاطفة والمبالغة فى تحصيل المراد، لأن كل من ناديته فإن نفسه تنزع وله توقان إلى الإجابة وتطلع إلى ما يراد من الدعاء من أمر أو نهى، فلا تزال النفس تنزع لتعلم ما هو المطلوب، فمن أجل ذلك قدم الدعاء على الأمر لما فيه من الشوق والتوقان للنفوس، وأما ثانيا فجريا على ما ألف من الإيقاظ والتنبيه، لأن كل من طالب أمرا من الأمور من غيره، فلابد من إيقاظه وتنبيهه عليه، ليكون مستعدا للامتثال له، فلأجل ذلك قدم النداء على الأمر على جهة الإيقاظ والتنبيه مما يطلب من المأمورات، ثم إنه قدم نداء الأرض على نداء السماء لما ذكرناه من العناية بأمر الأرض من تلك الأوجه الخمسة، وقد ذكرناها فأغنى عن تكريرها، ولكونها صارت أصلا لما يرد من هذه الأمور الهائلة من الإغراق والاستواء للسفينة، وإخراج من كان فيها إلى الأرض، ثم إنه عز سلطانه أردفها بقوله: وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] لاتصاله بقصة الأرض، وأخذه بحجزتها فلأجل ذلك أتبعه بها، لما فى ذلك من حسن الانتظام، ورونق الرصف، ألا ترى أن أصل الكلام: وقيل يا أرض ابلعى ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعى عن إرسال ماءك، فأقلعت عن صبه، فلا جرم حسن أن يقال: وغيض الماء النازل من السماء، والنابع من الأرض، ثم إنه جعل وتقدس، أتبعه بما هو المهم المقصود من القصة، وهو قوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ والمعنى به أنه أنجز الموعود من إهلاك الكفار، ونجاة نوح ومن معه فى السفينة، وإخراجهم إلى الأرض، لما أراد منهم من العبادة وعمارتها، والتناسل فيها، ثم إنه تعالى أتبعه بحديث السفينة وذكرها، وهو قوله تعالى إعلاما لهم بما يريد من الأمور التابعة للمصلحة، ثم إنه تعالى ختم القصة بالدعاء عليهم بالإبعاد، فلما كانت القصة من أولها دالة على العذاب العظيم من الإهلاك بالغرق، ختمها بما يجانسها من سوء العاقبة بالإبعاد والطرد، كما هو موضوع فى أساليب التنزيل، من حسن الفواتح والخواتم.

البحث الثالث فى بيان موقعها من الفصاحة اللفظية

البحث الثالث فى بيان موقعها من الفصاحة اللفظية اعلم أن الفصاحة من عوارض الكلم اللفظية، وهى خلاصة علم البيان وصفوة جوهره، ويوصف به المفرد والمركب، وهى أخص من البلاغة، ولهذا يقال كل بليغ من الكلام فصيح، وليس كل فصيح بليغا، ولا يكون الكلام فصيحا إلا إذا كان مختصا بصفات ثلاث، الأولى منها أن يكون خالصا من تنافر الأحرف فى تأليف اللفظة ونظامها، فيسلم من مثل قولنا «عنجق» وعن مثل قولك «هعخع» فإن ما هذا حاله مجانب للفصاحة بمعزل عن أساليبها، ولهذا عيب على امرىء القيس قوله «غدائره مستشزرات إلى العلى» لما فى «مستشزرات» من التنافر المورث للثقل والبشاعة، الثانية أن يكون مجنّبا عن الغرابة والعنجهانية، فما هذا حاله يكون عاريا عن الفصاحة، وهذا كقولك فى الخمر إنها «الزّرحون» وإنها «القرقف» فيعدّ هذا من وحشى الكلام وغريبه، فما ألف كان أدخل فى الفصاحة. الثالثة أن يكون موافقا للأقيسة الإعرابية، فلا يخالفها فى تصريف ولا إعراب، فيجب إعلال الكلمة على القوانين الجارية فى علم الإعراب، فلا يقال فى «قام» قوم، ولا فى «قائم» قاوم، وإن كان أصلا، ولا يقال «الحمد لله العلى الأجلل» وإن كان هو الأصل، بل يجب إجراء ذلك على الإعلال والإدغام، وإلا كان خارجا عن الفصيح من الكلام، وقد قررنا شرح هذه القاعدة فى أول الكتاب فأغنى عن الإعادة، فإذا تمهدت هذه القاعدة، فإنك إذا تحققت الألفاظ الواردة فى هذه الآية وجدتها سالمة عن التنافر فى بنائها، عربية مألوفة جارية على الأقيسة المطردة فى الإعراب والتصريف، بعيدة عن الغرابة، سليمة عن العنجهانية، تشبه العسل فى الحلاوة، والماء فى الرقة والسلاسة، وكالنسيم فى السهولة، لا تنبو عن قبولها الأذهان، ولا تمجّها الآذان. البحث الرابع فى بيان موقعها من الفصاحة المعنوية اعلم أن الفصاحة المعنوية هى غاية علم المعانى، والفصاحة المعنوية المراد بها البلاغة، وهى من عوارض المعانى، وهى متضمنة للفصاحة اللفظية، ولهذا فإن الكلام البليغ لا يكون بليغا إلا مع إحرازه للفصاحة، فهى فى الحقيقة راجعة إلى المعنى واللفظ جميعا، ولها

البحث الخامس فى بيان موقعها من علم البديع

طرفان، أعلى، وهو ما يبلغ به الكلام حد الإعجاز، وأدنى، وهو الذى يقدر فيه أنه إذا أزيل عن نظامه الذى ألف عليه، التحق بالكلام الركيك، فلم تخف عليك غثاثته، وبين هذين الطرفين مزايا ومراتب ودرجات متفاوتة، فإذا عرفت هذا وفكرت فى نظام هذه الآية، وجدتها قد ألفت على أتم تأليف، وأديت على أعجب نظام، ملخصة معانيها، مرصوفة مبانيها، لا يعثر اللسان فى ألفاظها، ولا يغمض على الفكر طلب المراد منها، فإذا خرقت قراطيس الأسماع وجدتها تسابق معانيها ألفاظها، وألفاظها معانيها، لا تحتاج لوضوحها إلى ترجمة، ولا يملّ سامعها وإن تكررت فى كل ساعة وأوان، فهذا ما سنح لى فى هذه الآية من علوم الفصاحة، والبلاغة والعلوم المعنوية، والعلوم البيانية. البحث الخامس فى بيان موقعها من علم البديع اعلم أن البديع لقب فى هذه الصناعة تعرف به وجوه تحسين الكلام بعد إحرازه لمعانى البلاغة وأنواع الفصاحة، ووضوح دلالته، وجودة مطابقته، ثم إنه على رشاقته ضربان، لفظى، ومعنوى، فالضرب الأول يتعلق بالأمور اللفظية، وهذا نحو التجنيس، وهو أن تكون الألفاظ متشابهة فى الأعجاز والأوزان وغير ذلك، وقد يقع فى المتواطىء كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] وقد يكون فى المشترك كقولهم ما ملأ الراحة، من استوطن الراحة، ومنه التسجيع، وهذا كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) [نوح: 13- 14] وأكثر القرآن وارد على جهة التسجيع، ومنه رد العجز على الصدر كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] ومنه الموازنة كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) [الغاشية: 15] ومنه القلب كقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33] وقوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) [المدثر: 3] إلى غير ذلك مما يتعلق بأحوال الألفاظ كما ترى. والضرب الثانى ما يتعلق بالأمور المعنوية، وهو أكثر دورا وأعظم إعجابا فى البلاغة، وهذا نحو الطباق، وهو ذكر النقيضين كقوله تعالى: يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [الفرقان: 62] وقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] والطباق كثير الاستعمال فى كتاب الله تعالى، ومنه اللف والنشر كقوله تعالى:

دقيقة

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] إلى غير ذلك من أنواع البديع وضروبه، وقد أتينا على جميع أنواعه كلها، وأوردنا لها شواهد وأمثلة. فأغنى عن التكرير والإعادة فى ذلك. دقيقة اعلم أن هذه الأنواع الثلاثة أعنى علم المعانى والبيان وعلم البديع، مآخذها مختلفة، وكل واحد منها على حظ من علم البلاغة والفصاحة، ولنضرب لها مثالا ليكون دالا عليها ومبينا لموقع كل واحد منها، وهو أن تكون حبات من ذهب ودرر ولآلىء ويواقيت، وغير ذلك من أنواع الأحجار النفيسة، ثم إنها ألفت تأليفا بديعا بأن خلط بعضها ببعض وركبت تركيبا أنيقا، ثم بعد ذلك التأليف، تارة تجعل تاجا على الرأس، ومرة طوقا فى العنق، ومرة بمنزلة القرط فى الأذن، فالألفاظ الرائقة بمنزلة الدرر واللآلى، وهو علم المعانى، وتأليفها وضم بعضها إلى بعض، هو علم البيان، ثم وضعها فى المواضع اللائقة بها عند تأليفها وتركيبها، هو علم البديع، فوضع التاج على الرأس بعد إحكام تأليفه هو وضع له فى موضعه، ولو وضع فى اليد أو الرجل، لم يكن موضعا له، وهكذا الكلام بعد إحكام تأليفه يقصد به مواضعه اللائقة به، وما ذكرناه من المثال هو أقرب ما يكون فى هذه العلوم الثلاثة وتمييز مواقعها، فإذا عرفت هذا فاعلم أن الآية قد اشتملت من علم البديع على أجناس ثلاثة: الجنس الأول منها، الجناس اللاحق، وهو أن تتفق الكلمتان فى جميع حروفهما إلا فى حرفين لا تقرب بينهما، وهذا هو قوله تعالى: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي [هود: 44] ، فقوله ابلعى وأقلعى، جناس لاحق، لا يختلفان إلا فى القاف والباء، وهما غير متقاربين، كقولك سعيد، بعيد، وعابد، عاتب، فهذا كله يقال له جناس لاحق. الجنس الثانى الطباق المعنوى وهو قوله: «أقلعى وابلعى» لأن المعنى فى بلع الأرض، إنما هو إدخاله فى جوفها، وإقلاع السماء، وهو إخراجه عنها، وهذا تطبيق من جهة المعنى، ومن جهة أن الإدخال والإخراج ضدان، وهذا كقوله تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] لأن الرحمة هى لين القلوب وتعطفها، وهو ضد الشدة. الجنس الثالث الاستطراد، وهو توسيط كلام أجنبى بين كلامين متماثلين، وهذا قوله

تعالى: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) [هود: 44] فإنه وسّطه بين قصة نوح وإغراق قومه وحالة السفينة، ثم رجع إلى حال القوم، وما هذا حاله فإنه يكون من الاستطراد الحسن وأعجب شأن التنزيل، فما أغزر أسراره، وأكثر عجائبه، ولله در مغاصاته المخرجة بخلاص عقيانه، والمبرزة بحصباء درره ومرجانه، فهذا ما أردنا ذكره من عجائب ما اشتملت عليه علوم هذه الآية، وبتمامه يتم الكلام على المزايا الراجعة إلى ألفاظ القرآن الكريم، وقد أطلنا فيه التقرير بعض الإطالة، أحوج إلى ذلك الكلام فى هذه الآية التى ذكرناها.

المرتبة الثانية فى بيان المزايا الراجعة إلى معانيه

المرتبة الثانية فى بيان المزايا الراجعة إلى معانيه اعلم أن بإحكام النظر فى هذه المرتبة، وإمعان الفكرة فيها، تظهر عجائب التنزيل، وتبرز بدائعه وغرائبه وتتجلى محاسنه، وتصفو مشاربه، لما فيها من الكشف لأسراره والإحاطة بغوائله وأغواره، ولن يحصل ذلك كل الحصول، ولا تطلع أقمار بعد الأفول، إلا بعد ذكر ما يتعلق بعلوم الإعجاز، لأنها تكون كالآلة فى تقرير تلك المحاسن، وإظهار كنوز تلك المعادن، فنذكر ما يتعلق بالعلوم المعنوية، ثم نردفه بما يتعلق بالأسرار البيانية، ثم نذكر ما يتعلق بالبلاغة اللفظية، ثم بالبلاغة المعنوية، ثم نذكر على إثرهما ما يتعلق بأسرار البديع، فهذه أقسام ثلاثة، بإحرازها، والاطلاع على رموزها، يظهر الإعجاز للإنسان ظهور المرئى فى العيان، ولقد سبق صدر من هذا الكلام فى الدلائل الإفرادية، ولكن ذكره ههنا على جهة الاختصاص بمعانى التنزيل، والإشارة إلى كنه حقائقها، ونحن الآن نذكر ما يتعلق بكل قسم من هذه الأقسام بمعونة الله تعالى. القسم الأول ما يتعلق بالعلوم المعنوية وهو فى لسان علماء هذه الصناعة عبارة عما ينشأ من الألفاظ العربية على اختلاف أحوالها، وحقيقته آئلة إلى أنه علم تدرك به أحوال الألفاظ العربية على حسب المقصود منها، فقولنا «علم تدرك به أحوال الألفاظ» نحترز به عن علم البيان، فإنه يدرك به أسرار تنشأ عن التراكيب كما سنوضحه، وقولنا «على حسب المقصود منها» نشير به إلى الأمور الخبرية، والأمور الإنشائية الطلبية، وغيرهما مما يكون مفهوما من الألفاظ العربية، وينحصر المقصود منه فى أنظار خمسة. النظر الأول ما يكون متعلقا بالأمور الخبرية، وحقيقة الخبر إسناد أمر إلى غيره، إما على جهة المطابقة، أو خلافها، فقولنا «إسناد أمر إلى غيره» يعم الطلب والخبر، لأن كل واحد منهما لابد فيه من الإسناد، وقولنا «إما على جهة المطابقة أو غيرها» تخرج عنه الأمور الإنشائية، فإنه لا يعتبر فيها عدم المطابقة ولا ثبوتها بحال، وينقسم إلى صدق وكذب لا غير، لأنه إن طابق مخبره فهو الصدق، وإن كان غير مطابق فهو الكذب بعينه، ولا واسطة بين الصدق والكذب، وزعم الجاحظ أن كل ما طابق من الأخبار المخبر مع الاعتقاد أو الظن فهو صدق، وما لا يطابق معهما

فهو الكذب، وما عداهما فليس صدقا ولا كذبا، وهذا فاسد، فإنه لا واسطة تعقل بين النفى والإثبات، فإن طابق فهو الصدق بكل حال، وإن لم يطابق فهو كذب بكل حال، فلو جاز إثبات واسطة لكان فيه خروج عن القضايا العقلية، بإثبات الواسطة بينهما، وهو محال، وأقل ما يكون الإسناد، من جزءين كقولك زيد قائم، وعمرو خارج، إذ لابد من أمرين، مضاف ومضاف إليه، والغرض بالخبر إفادة السامع ما لا يعرفه، فينبغى أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، والأخبار واردة فى كتاب الله تعالى أكثر من أن تحصى كالإخبار عن العلوم الغيبية، وكقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) [الفتح: 1] وقوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1- 4] وقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها [الفتح: 2] وهكذا الكلام فى قصص الأنبياء مع قومهم وأخبارهم، كقصة موسى، وفرعون، إلى غير ذلك مما حكاه الله تعالى عما كان وسيكون، ثم إن وروده على أوجه ثلاثة، أحدها أن يكون الخبر خاليا من التردد، وما هذا حاله من الأخبار، فإنه يكون مستغنيا عن مؤكدات الحكم، كقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى [القصص: 20] وقوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات: 104- 105] إلى غير ذلك من الأخبار التى وردت ساذجة، لأنه لم يعرض فى حقها شىء، والغرض منها مطلق الإخبار، فلهذا وردت مطلقة كما ترى، وثانيها أن يطلب منها حسن تقوية بمؤكد إذا كان هناك تردد وهذا كقوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ [القمر: 27] وقوله تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [العنكبوت: 34] إلى غير ذلك مما يطلب به توكيد وتقوية للخبر، ولهذا وردت هذه الأخبار مؤكدة بإن، كما هو ظاهر، وثالثها أن يكون الخبر يعتقد إنكاره، فيجب تأكيده، وهذا كقولك: إن زيدا لقائم، لمن ينكر ذلك ويحيله، ولهذا قال تعالى فى المرة الأولى: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) [يس: 14] لما أنكروا وكذبوا، وفى الثانية إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) [يس: 16] تأكيدا بحرفين لما ازداد إنكارهم وتكذيبهم، ويسمى الأول من الأخبار «ابتدائيا» لما كان الغرض به مطلق الخبر من غير تعرض لما وراءه، ويسمى الثانى «طلبيا» لما كان المقصود به الطلب، فيؤكد تقريره فى النفس ويوضحه، ويسمى الثالث «إنكاريا» لما كان المطلوب منه وجوب تأكيده بالحروف لأجل إنكاره، ومن المطلق قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: 1] وليس منه قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) [البقرة: 254] وقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا [المنافقون: 7] وقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164]

ومن المؤكد قوله تعالى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ [سورة ص: 46] وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر: 1] فهذا وما شاكله مؤكد بحرف واحد، ومن المؤكد بحرفين قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) [سورة ص: 47] وقوله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) [سورة ص: 40] وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى [سورة ق: 37] وهذا الخبر المؤكد قد يرد مؤكدا، إما من غير إنكار فيكون تأكيده حسنا، وقد يرد على جهة الإنكار فيكون تأكيده واجبا، والأمثلة فيه كثيرة، ثم إن الإسناد وارد على وجهين، الوجه الأول منهما حقيقى، وهو أن يكون الفعل مضافا إلى فاعله، وهذا كقولك: قام زيد، وضرب عمرو، وكقول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: 9] وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 45] وقوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: 51] إلى غير ذلك من الأخبار التى يكون إسنادها إلى فاعلها على جهة الحقيقة. الوجه الثانى أن يكون الإسناد على جهة المجاز العقلى، والمراد من هذا هو أن إسنادها 7 لى فاعلها يقضى العقل باستحالته، فلا جرم كان مجازا عقليا، وهو فى القرآن كثير، ويقال له المجاز المركب، والغرض أن مجازه ما كان إلا من أجل تركيبه، وهذا كقوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة: 2] فإن الإخراج حقيقة فى الدلالة على معناه، والأرض حقيقة، لأنها موضوعة على معناها الأصلى، والمجاز إنما نشأ من جهة إسناد الإخراج إلى الأرض وهكذا قوله تعالى: وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً [الأنفال: 2] فإن قوله: تُلِيَتْ دالة على حقيقته، والآيات على حقيقتها، لكن المجاز جاء من جهة إسناد تُلِيَتْ إلى الآيات «1» ، ونحو قوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] فالأخذ على حقيقته، والأرض على حقيقتها، لكن المجاز حاصل من جهة إسناد الأخذ إلى الأرض، وقوله تعالى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ [القصص: 4] فى قصة فرعون، فإن الذبح والأبناء دالان على معنييهما بالحقيقة، لكن المجاز إنما كان من أجل إسناد الذبح إلى فرعون، وليس ذابحا، وإنما الذابح غيره، هكذا حال الاستحياء فى قوله تعالى: وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: 4] فإذا عرفت أن المجاز ههنا إنما حصل من جهة الإسناد لا غير، فلا بد من مسند ومسند إليه، وقد يكونان حقيقتين، ومجازين، ومختلفين، فهذه أوجه أربعة، أولها أن يكونا على جهة الحقيقة، ومثاله قولك: أنبت الربيع البقل، فإن لفظتى أنبت، والربيع، دالان على حقيقتيهما، والمجاز من جهة الإسناد وقوله تعالى: يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) [المزمل: 17]

دقيقة

فيجعل، والولدان، على حقيقتيهما والمجاز فى إسناد الجعل إلى اليوم كما ترى، وثانيها أن يكون على جهة المجاز، ومثاله قولنا: أحيا الأرض شباب الزمان، فإن الإحياء مجاز، والشباب مجاز، وإسناد الإحياء إلى الشباب مجاز أيضا، وثالثها أن يكون المسند فى نفسه، وهو قولنا: أنبت، حقيقة، والمسند إليه مجاز، وهو قولنا «شباب الزمان» فإسناد الإنبات إلى الشباب مجاز، ورابعها أن يكون المسند فى نفسه مجازا، والمسند إليه حقيقة، ومثاله قولنا: أحيا الأرض الربيع، فالإحياء مجاز، والربيع حقيقة، وإسناد الإحياء إلى الربيع مجاز أيضا، فصار واقعا على هذه الأوجه لا يخرج عنها، ويعرف كونه مجازا، إما بالقرينة العقلية فى مثل قولك: أحيانى اكتحالى بطلعتك، ومحبتك جاءت بى إليك، فإن إسناد الإحياء إلى الاكتحال، والمجىء إلى المحبة، يستحيل من جهة العقل، فلهذا قضينا بكونه عقليا، وإما بالقرينة العادية فى مثل قولك: هزم الأمير الجند، والحقيقة أن الهازم عسكره، ونحو قولك: قتل الأمير اللص، والقاتل هو غيره، وإما بالقرينة اللفظية كقولنا: عيشة راضية، والحقيقة مرضية، وشعر شاعر، والحقيقة مشعور به، وليله قائم، أى مقوم فيه، ونهاره صائم، فإسناد هذه الألفاظ هو الذى أوجب كون هذه الأخبار مجازا، فلأجل ذلك كانت هذه القرينة لفظية، وإنما عدل فيما ذكرناه عن حقيقته، لما كان المجاز مشتملا على المبالغة الرائقة. دقيقة اعلم أن ما ذكرناه من المجاز الإسنادى العقلى هو الذى قرره الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجانى، واستخرجه بفكرته الصافية، وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل هذه الصناعة، كالزمخشرى، وابن الخطيب الرازى، وغيرهما من النظار، وقرروه على ما حكيناه ولخصناه، وقد يتأكد فى قبوله، وأنكره الشيخ أبو يعقوب السكاكى، صائرا إلى أن ما ذكرناه منه إنما هو استعارة بالكناية من غير حاجة إلى كونه مجازا عقليا، ورغم أن المراد بالربيع، فى قولنا: أنبت الربيع البقل، هو الفاعل الحقيقى، بقرينة نسبة الإنبات إليه، وهكذا القياس فى سائر الأمثلة التى ذكرناها، وهو تعسف لا حاجة إليه، لأنه يلزم أن لا يكون الإخراج مضافا إلى الأرض، وأن لا يكون الأمر بالبناء مضافا إلى هامان، وهو خلاف الظاهر، فيجب التعويل على ما حكيناه عن غيره، فهذا ما أردنا ذكره من بيان ما يتعلق بمطلق الإسناد، ولنردفه بما يتعلق بتفاصيله، من ذكر المسند والمسند إليه، فهذان ضربان، نذكر ما يخصهما بمعونة الله تعالى.

الضرب الأول فى بيان خصائص المسند إليه

الضرب الأول فى بيان خصائص المسند إليه وتعرض له حالات، بعضها يستحقها بالأصالة، وبعضها بالعروض لأغراض وفوائد نفصلها، وجملتها أمور عشرة، أولها ذكر المسند إليه، إما على جهة الابتداء، كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ [النور: 45] وإما على جهة الفاعلية، كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: 9] لأن كل واحد من الفاعل والمبتدأ مسند إليهما، فذكرهما هو المطّرد المعتاد، إما لكونه هو الأصل، وإما لزيادة الإيضاح والتقرير كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ [الروم: 40] وإما لإظهار التعظيم كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] وإما لبسط الكلام، من أجل الاعتناء به بذكر المسند إليه كقوله تعالى: هِيَ عَصايَ [طه: 18] وإما للتنبيه على فضله وعظم منزلته كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وإما للاحتياط لضعف التعويل على القرينة كقوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) [الزلزلة: 2] إلى غير ذلك من الأوجه والمعانى الموجبة لذكره، فاعلا كان أو مبتدأ، وثانيها حذفه، إما للدلالة على الجواز كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] بالرفع على تأويل هو ملك يوم الدين، وإما للاحتراز عن العبث بناء على الظاهر حيث يكون معلوما، فتحذفه اتكالا على العلم به كقوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 18] أى فأمرى صبر جميل، فإنما حذف لما ذكرناه من وضوح الأمر فيه، فلا جرم كان مسلطا على حذفه، ومن حذف المسند إليه قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) [يوسف: 35] لأن التقدير فيه ثم بدا لهم أمر، ومنه قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة: 2] أى هو هدى فى أحد وجوهه، وثالثها تنكيره، إما للإفراد كقوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى [القصص: 20] وإما للنوعية كقوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] فإن المراد من ذلك، وعلى أبصارهم نوع من الغشاوات المغطية، ويحتمل أن يكون المراد به الوحدة، أى واحدة من الأمور التى حجبت أعينهم عن إبصار الحق واتباعه، وإما للتكثير أو التعظيم كقوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] أى رسل ذوو عدد كثير أو رسل لهم شأن عند الله وقدر عظيم، خصهم بمعجزات باهرة، وآيات عظيمة، ومن التعظيم قوله

تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] أى رضوان أىّ رضوان، أو رضوان لا تحيط بوصفه العقول، ومنه قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] أى حياة عظيمة وقوله تعالى: وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس: 57] أى شفاء أى شفاء، وخامسها تعريفه، وتختلف معانيه بحسب ما يعرض له من أنواع التعريفات، كالإضمار والعلمية، والإشارة والموصولية، وباللام، وبالإضافة ولنشر إلى حقائقها وخواصها اللائقة بها، أما تعريفه بالإضمار، فمن أجل الحاجة إلى التكلم، كقوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها [العنكبوت: 32] وقوله تعالى: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: 51] أو من أجل الحاجة إلى الخطاب كقوله تعالى: قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) [الصافات: 54] وقوله تعالى: أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) [الشعراء: 76] وقوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الصافات: 54] وإما الحاجة إلى الغيبة كقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) [الدخان: 9] وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى [الصف: 9] وأصل الخطاب أن يكون واردا على جهة التعيين، وقد يعدل به إلى غير ذلك ليعم كل مخاطب كقوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) [الفيل: 1] وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة: 12] فيحتمل أن يكون الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو الأصل، ويحتمل أن يكون على جهة العموم من غير تعيين. ويكون المعنى إن حال أصحاب الفيل، وحال المجرمين، قد بلغا مبلغا عظيما فى الظهور، بحيث لا يختص به مخاطب، لبلوغهما فى الانكشاف كل غاية، وأما تعريفه بالعلمية، فقد يكون لإحضاره فى ذهن السامع ابتداء باسم يختص به كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 255] أو تعظيمه كقوله تعالى: قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) [الشعراء: 26] لأن التقدير فيه، الله ربكم ورب آبائكم الأولين، وهذا مبنى على أن قولنا: الله اسم، وليس صفة كما زعمه بعضهم، وعلى أنه لقب غير حقيقى، لبطلان تحويله وتبديله، ومن شأن الألقاب الحقيقية جواز تغييرها وتبديلها، فبما فيه من الاسمية تكون الصفات الإلهية تابعة له، إذ لا بد لها من موصوف تستند إليه، وبما فيه معنى اللقب يكون مفيدا للاختصاص كإفادة الألقاب لما هى مختصة به كزيد، وعمرو، وهل يكون جامدا أو مشتقا، فيه تردد، وإن قلنا بكونه مشتقا فإما من التحير «1» لأن العقول تحيرت فى ذاته تعالى، وإما من الاحتجاب «2»

لأنه تعالى محتجب عن إدراك العيون، وإما من غير ذلك، فأما من زعم كونه اسما عجميا سريانيا، فقد أبعد، إذ لا دلالة على ذلك، والقرآن كله عربى، إلا ما قام البرهان القاطع على كونه فارسيا أو روميا، وقد يذكر العلم المسند إليه، والمراد به التحقير كقوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) [المسد: 1] فإيراده هنا باسمه دال على تحقيره وإهانته، والمعنى تبت يدا رجل حقير مهين، أو يراد بذكره كناية، كأنه قال تبت يدا من يستحق اللعن والعذاب العظيم، وهو هذا، فلقبه هذا نازل منزلة العلم فى حقه لما فيه من الإشادة والإشهار به، فمن أجل ذلك ذكره الله تعالى به، وحذف اسمه العلم، وهو «عبد العزّى» لاشتماله على ما ذكرناه من صفاته المذمومة، كأنه قال صاحب هذه الكنية هو الكافر اللعين المتمرد صاحب العداوة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمستحق لغضب الله تعالى وسخطه، وأما تعريفه بالإشارة فقد يكون لتعريف حاله وإيضاحه، إما لتعظيم حاله بالإشارة الموضوعة للبعد كقوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] وإما للتحقير كقوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [آل عمران: 175] وقد يرد لتعظيم حاله بالإشارة الموضوعة للقريب كقوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) [قريش: 3] أو للتحقير كقوله تعالى وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 36] وقد يرد بالإشارة المتوسطة، إما للتعظيم وكمال العناية به كقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة: 5] وإما للتحقير كقوله تعالى: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) [المؤمنون: 103] ومما ورد على جهة الإشارة فى البعد قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] ولم يقل: هذا يوسف، ولا قال: فذاك، على جهة القرب والتوسط، وإنما أشار إليه بما يقتضى البعد، رفعا لمنزلته فى الحسن، واستبعادا عن أن يدانى فيه، وتنبيها على كونه مستحقا لأن يحب ويفتتن به، ومن قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) [الزخرف: 72] ولطائف هذا الجنس لا تكاد تنحصر، ومواقعه أكثر من أن تحصى، وقد جرى فى تعريف الإشارة ما ليس على جهة المسند إليه كقوله تعالى فى الإشارة إلى القريب لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) [قريش: 3] فإنه ليس من المسند إليه فى شىء، وجريه كان على جهة التوسع فى التمثيل، وأما تعريفه بالموصولية، فإنه يقصد بتعريفه بالصلة، إحضاره فى الذهن بجملة معلومة للمخاطب، ومن ثم اشترط فيها أن تكون

معلومة له، كقولك: هذا الذى قدم من الحضرة، لمن لا تعرفه، وتفيد مع ذلك أغراضا غير ذلك، كإفادة التعظيم فى نحو قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ [الشورى: 22] ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] ولزيادة التقرير كقوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: 23] وقد يرد لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) [طه: 78] وربما سيق لتعظيم شأن القضية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) [المؤمنون: 57- 59] فهذا وارد على جهة تعظيم هذه القضية كما ترى، ومنه قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) [الأعلى: 1- 4] ومن هذا قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) [الشعراء: 78- 82] فهذه الأمور كلها واردة على إفادة مقصد التعظيم والامتنان بهذه النعم، وغير ذلك من الفوائد التى لا تحصى، وإنما ننبه بالأدنى على الأعلى، وبالأقل على الأكثر وأما تعريفه باللام، فاعلم أنه متى كان معرفا باللام، فتارة تفيد الاستغراق كقوله تعالى وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر: 1- 2] لأن المعنى أن كل إنسان متقلب فى خسارة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر: 3] فإنهم على خلاف ذلك، ويصدّق استغراقه ورود الاستثناء منه، وهو لا يصح إلا فى مستغرق، ومنه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] أى كل سارق وسارقة، وقوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) [طه: 69] أى كل ساحر فهو غير مفلح فى سحره، وتارة تفيد العهدية كقوله تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران: 36] أى ليس الذكر الذى طلبته كالأنثى التى أعطيتها، وتارة تفيد الإشارة إلى الحقيقة فى نحو قولك: أهلك الناس الدينار والدرهم، والرجل خير من المرأة، ومن المعهود فى غير الإسناد قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 15- 16] يريد موسى عليه السلام، وأما تعريفه بالإضافة، فإذا خلى المسند إليه عن سائر أنواع التعريف المختصة به وأريد تعريفه من جهة غيره أضيف إلى معرفة فيكتسب منها تعريفها، وقد ترد لأمور أخر غير التعريف، كالتعظيم فى مثل قولك: عبد الله، وعبد الرحمن،

وعبد الرحيم، وقد يقصد به الإهانة كقولك: عبد اللات، وعبد العزّى، فى حق الموحدين دون غيرهم ممن يعظم الأصنام، ولإفادة الرحمة كقوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186] فإضافتهم إليه دلالة على أن من شأن السيد أن يرحم عبده، ولإفادة مزيد الشرف وقرب المنزلة، كما يقال فى بعض كلمات الله: عبدى من آثر طاعتى على هواه. وتحت الإضافة أسرار ورموز تختلف أحوالها بحسب اختلاف مواقعها، وعلى الفطن إعمال نظره واستنهاض فكرته ليحصل عليها، فهذه مواضع التعريفات قد حصرناها. وسادسها: وصفه، الوصف يراد للتفرقة بين ملتبسين فى اللقب، فتقول جاءنى زيد الطويل، تحترز به عن زيد القصير، وقد يجىء للمدح والتعظيم، وهذه هى الأوصاف الجارية فى حق الله تعالى، فإنه لا يعقل فيه معنى سواه، كقوله تعالى: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر: 24] وقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] وقد يرد للذم والإهانة كقولك: فلان الفاسق، الخبيث، ويرد للتأكيد، كقولك: أمس الدّابر، ونفخة واحدة. وسابعها: بيان ما يقتضى تخصيصه، إما بالتأكيد، وعطف البيان، والبدل، والعطف عليه، فهذه الأمور كلها متفقة فى كونها موضحة له ومبيّنة، فأما بيانه بالتوكيد، فقد يكون لإزالة الشكّ، والوهم الواقع فى ذهن السامع، فى نحو قولك: جاء زيد نفسه، إزالة لأن يكون الجائى كتابه أو رسوله، قال تعالى: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117] وقد يفيد تقرير الشىء فى نفسه فى مثل قولك: جاء زيد نفسه، وقد يفيد الشمول والإحاطة فى نحو قولك: جاء الرجال كلهم، والرجلان كلاهما، إلى غير ذلك من الأمور المؤكدة، وأما بيانه بعطف البيان، فالمقصود به الإيضاح باسم مثله، نحو جاءنى أخوك زيد، ومنه قوله: أقسم بالله أبو حفص عمر، وقد يرد على خلاف هذه الصفة كقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] فذكر الأرض مع قوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ وذكر قوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ مع تقدّم طائر، إنما وردا على قصد البيان للفظ الدابة، ولفظ طائر، وتقريرا لمعناهما، ورفعا لما يحتملانه من غير المقصود، وهكذا قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26] فقوله من فوقهم، إنما ورد على جهة البيان ورفع الاحتمال من لفظة السقف، وأما بيانه بالبدل منه، فلزيادة الإيضاح والتقرير، إما ببدل الكل، كقولك جاءنى زيد أخوك، وإما ببدل البعض، كقولك: جاءنى القوم أكثرهم أو بعضهم، وإما

ببدل الاشتمال فى مثل قولك: أعجبنى زيد علمه، وقد جاء الكل فى كتاب الله تعالى فى غير المسند إليه، فأما بدل الغلط فى مثل قولك: جاءنى زيد عمرو، فإنما يكون فى بداية الكلام وفيما يصدر على جهة الذهول، وكل الأبدال الثلاثة متفقة فى كونها بيانا على جهة القصد لها، بخلاف عطف البيان، فإن المقصود هو الأول منها كما هو مقرر فى علم النحو، فهى مختلفة فى البيان، مع كونها متفقة فى مطلق البيان، وأما العطف على المسند إليه، فهو غير وارد على جهة البيان، لأجل ما بينهما من المغايرة، فلا وجه لكونه بيانا له، وإنما هو وارد على جهة الاقتصاد للعامل، فلهذا تقول جاءنى زيد وعمرو، إذا لم تقصد الترتيب، وجاء زيد فعمرو، إذا قصدت الترتيب، من غير مهلة، وجاءنى زيد ثم عمرو، إذا كنت قاصدا للترتيب مع المهلة، وقد يرد تعليقا للحكم بأحد المذكورين، إما على جهة التعيين، نحو لا، وبل، ولكن، وقد يكون تعليقا للحكم بأحد المذكورين من غير تعيين كأو، وإما، وأم، ولسنا بصدد الإطناب فيما هو مفروغ من تقريره فى علم الإعراب إلا أن أحدا لا يجوز إلى مثل هذه الغايات، ولا يقف على حد هذه النهايات، إلا بعد إحراز علم الإعراب، وكد قريحته فى إتقان قواعده، وإقصاء فكرته فى حصر فوائده، وبعد ذلك يخوض فى علم البيان، الذى هو مصاص سكره، وياقوت جوهره، وينزل من علم الإعراب منزلة الإنسان من السواد، ومن أراد الاطلاع على أسرار علم التنزيل، وأن يحلى بعقيان عسجده جيده، وأن تعبق بعبير عنبره يده، فليشغل قلبه بإحراز تلك اللطائف، التى مثلها فى الرقة كلمحة بارق خاطف، ويمعن فى طلبها غاية الإمعان، متوقيا من أشخاص أهملوها وألحقوها لقصر هممهم بخبر كان، وثامنها: تقديمه على المسند نفسه، وذلك يكون لأحوال نرمز إلى شىء منها، إما لأن تقديمه هو الأصل ولم يعرض ما يقتضى العدول عنه، وإنما كان هو الأصل من جهة أنه طريق إلى معرفة ما يذكر بعده، ومن ثم اشترط تعريفه إلا بعارض، وإما لأنه استفهام فيستحق التصدير، كقولك: أيهم عندك، قال الله تعالى: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) [مريم: 69] فى أحد وجوهه، وإما لأنه وارد على جهة الشأن والقصة، كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1] وإما لأن فى تقديمه تشويقا للسامع إلى ما يكون بعده من الخبر، كقولك: الأمير قادم، والخليفة خارج إلى غير ذلك، وإما لأن يتقوى إسناد الخبر إليه لأجل تقديمه كقوله تعالى فى سورة النحل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا (81) [النحل: 81] فكرر ذكر اسمه

وقدمه، لما يريد من تعديد نعمه وظهور قدرها، وعلو أمرها على الخلق، وإما من أجل تعظيمه كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 258] إلى غير ذلك من الأمور المقتضية لتقديمه المؤذنة بأسرار تحت التقديم لا تكون مع التأخير، ومما يوجب تقديمه على المسند به التخصيص، والعموم، فهاتان صورتان، الصورة الأولى: العموم. وهذا إنما يكون فى نحو قولك: كل إنسان لم يقم، فإنه يفيد نفى الحكم عن الجملة والآحاد، بخلاف ما لو تأخر، فقيل لم يقم كل إنسان، فإنه إنما يفيد نفى الحكم عن جملة الأفراد، لا عن كل فرد، فالأول يناقضه قولك: قام واحد من الناس، والثانى: لا يناقضه قام واحد من الناس، والمعيار الصادق، والفيصل الفارق، بين تقديم المسند إليه وهو اسم الشمول على حرف النفى، وبين تأخره، ما قاله الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجانى، فإنه قال: إن كانت كل داخلة فى حيز النفى، بأن تأخرت عن أداته، نحو قوله «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» أو معمولة للفعل المنفى نحو: ما جاء القوم كلهم، ولم آخذ كل الدراهم، أو كل الدراهم لم آخذ، توجه النفى إلى الشمول خاصة، وأفاد ثبوت الفعل، أو الوصف، لبعض، أو تعلقه به، وإلا عمّ، كقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما قال له ذو اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» ، فقال له: «كل ذلك لم يكن» «1» وعليه قول أبى النجم: قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى ... علّى ذنبا كلّه لم أصنع «2» انتهى كلامه، فينحل من هذه القاعدة أن اسم الشمول، وهو «كلّ» إذا كان مندرجا فى ضمن النفى، واقعا بعده، سواء كان الفعل المنفى عاملا فيه أو غير عامل، فإنه يكون واقعا على الشمول، فلا يناقضه إثباته لبعض الآحاد، وإذا كان واقعا قبل حرف النفى وليس مندرجا تحته، كان النفى عاما للآحاد والمجموع، وهو أحسن كلام وأوقعه فى ضبط هذه القاعدة، ولقد وقفت على كلام لغيره من علماء البيان فى تقرير هذه القاعدة، بناه على قانون المنطق، ونزّله على منهاج السالبة المهملة، والمعدولة، فأورث فيه دقة وأكسبه ذلك حموشة وغموضا، من جهة أن مبنى علم البيان، وعلم المعانى على معرفة اللغة وعلم الإعراب، فلا ينبغى أن يمزج بعلم لم يخطر للعرب، ولا لأحد من علماء الأدب على

بال، ولا يشعر به، والصورة الثانية: أن يكون تقديمه على جهة الاختصاص بالخبر الفعلى، وذلك يكون على وجهين، أحدهما أن يكون واردا على جهة التخصيص، ردّا على من زعم أنه انفرد بالفعل، أو شارك فيه فى نحو قولك: أنا سعيت فى حاجتك، ويؤكد الأول بنحو قولك: لا غيرى، دفعا لمن زعم انفراد غيره به ويؤكد الثانى بنحو قولك: وحدى، دفعا لمن زعم المشاركة، وثانيهما أن يكون مفيدا للاختصاص مع توهم المشاركة فى نحو قولك: ما أنا قلت ذاك، والمعنى إنى لم أقله مع كونه مقولا، ولهذا فإنه لا يصح أن يقال: ما أنا قلت ذاك ولا غيرى، لما كان متحققا أن يقوله سواك، وقد يكون مقدما على جهة التقوى للحكم فى مثل قولك: أنت لا تكذب، فإنه أبلغ وأشد لنفى الكذب من قولك: لا تكذب، من جهة أنه قدم ذكر المسند إليه، وأتى بالقضية السلبية على إثره مسندا لها إليه، فمن أجل ذلك كان مفيدا للمبالغة، بخلاف الصورة الثانية، ومما يكون تقديمه كاللازم، غير، ومثل، كقولك مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، لأن المعنى فيه أنت لا تبخل، وأنت تجود، فتأتى به مجردا من غير تعريض لغير المخاطب، فمن أجل ذلك كان مفيدا للمبالغة، وتاسعها تأخيره، إما لاتصال حرف الاستفهام بالخبر كقولك: أين زيد، ومتى القتال، كما سنقرره فى وجه تقديم المسند به، وإما على جهة الإنكار على من يزعم خلاف ذلك فى نحو قولك: قائم زيد، فإنه يكون واردا، إنكارا على من ظن خلاف ذلك، فيقدمه تنبيها عليه، وإما على جهة الاهتمام والعناية فى نحو قولك: نعم رجلا زيد، على رأى من زعم أن رفع زيد على الابتداء، وما تقدم خبره، فأما من قال: إنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ فهو خارج عن التمثيل. وعاشرها التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، فى نحو قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ [المائدة: 107] ونحو قوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] فى نحو جمع السلامة، وجمع التكسير فى نحو قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ [الأنفال: 75] وقوله تعالى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الفتح: 25] وقوله تعالى فى التذكير والتأنيث وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة: 38] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: 2] فهذه أحوال عارضة للمسند إليه، تعرض لمعان وأغراض وتفيد فوائدها كما ترى فى مواقع الخطاب بحسب الأغراض، فهذا ما أردنا ذكره فيما يتعلق بأحوال المسند إليه والله أعلم.

الضرب الثانى فى بيان المسند به

الضرب الثانى فى بيان المسند به ويعرض له ما يعرض للمسند إليه فى وجوه، ويخالفه فى وجوه، وجملة ما يذكر من حاله أمور عشرة، أولها ذكره للبيان كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] وقوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: 10] وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10] إلى غير ذلك من الآيات التى يذكر فيها الخبر عن المبتدأ، أو الفعل المسند إلى فاعله، وثانيها حذفه للاتكال على القرينة كقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الإسراء: 100] فإنما حذف الفعل ههنا، لقيام حرف الشرط وهو «لو» مقام الفعل، من أجل كونه مؤذنا بالفعل، من جهة أن الشرط لا يليه إلا الفعل، لأن التقدير فيه قل لو ملكتم، فلما حذف الفعل لا جرم انفصل الضمير، ونحو قوله تعالى: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 18] أى فصبر جميل أجمل، فحذف الخبر للقرينة الدالة على حذفه، وهذا قد ذكرناه مثالا فى جواز حذف المبتدأ فهو محتمل للأمرين كما ترى «نعم» يقال أيهما يكون أرجح فنقول: كلا الوجهين لا غبار عليه، خلا أن حذف الخبر فيه يكون أقوى لأمرين، أما أولا فلأن حذف الخبر أكثر وجودا، وأعم جريانا فى لغة العرب، فكان حمله على الأكثر أحق من حمله على الأقل، وأما ثانيا فلأنا نجد فى كلام العرب أن حذف الخبر قد يكون قياسا فى نحو قولك: لولا زيد لأكرمتك، ولا يكاد يكون حذف المبتدأ قياسا، فلهذا كان حمله عليه أولى، وقد نظرنا فى كتاب الإيجاز: أن الأقوى هو حذف المبتدأ قياسا، فلهذا كان حمله عليه أولى، وقد نظرنا فى كتاب الإيجاز: أن الأقوى هو حذف المبتدأ لأمر ذكرناه هناك، ومن أمثلته قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] أى خلقهن الله، فحذف المسند به لقيام القرينة على حذفه، وتقول: زيد منطلق وعمرو، فتحذف خبر عمرو، لتقدم ما يدل عليه، ونحو قولك: خرجت فإذا الأسد، أى فإذا الأسد واقف، وثالثها كونه اسما لأنه هو الأصل، وإنما يعدل إلى غيره لقرينة، نحو زيد منطلق، وزيد أخوك، قال الله تعالى اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ [الشورى: 15] وقال تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] وإنما كان اسما لأنه يفيد الاستمرار على تلك الصفة من غير تجدد، بخلاف ما لو كان فعلا فإنه يدل على خلاف ذلك، وأنشد النحاة:

لا يألف الدرهم المضروب صرّتنا ... لكن يمرّ عليها وهو منطلق «1» ورابعا أن يكون فعلا كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 45] وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] وإنما جاز كونه فعلا للدلالة على الأزمنة المستقبلة، والماضية، وللإشعار بالتجدد أيضا، وهذه المعانى تختلف باختلاف مواقعها، فتارة يؤثر ذكر الاسم، وتارة يؤثر ذكر الفعل، على حسب ما يعن من المعانى. وخامسها أن يكون شرطا، إما بإن، وإما بلو، وإما بإذا، فهذه كلها أدوات للشرط، فإن، إنما يكون ورودها فى الأمور المحتملة المشكوك فى وقوعها كقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] وقوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] وتختص بالأزمنة المستقبلة، لأن الشرط لا يعقل إلا فيما كان مستقبلا، وأما «إذا» فإنما تستعمل فى الأمور المحققة كقوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) [الزلزلة: 1] وقوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) [التكوير: 1] وقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار: 1] وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: 102] إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة، فهذه الأمور كلها محققة فلهذا حسن دخول «إذا» فيها، وأما «لو» فهى شرط فى الماضى عكس «إن» ومعناها امتناع الشىء لامتناع غيره فى مثل قولك: لو قمت قمت، فامتناع الثانى إنما كان من جهة امتناع الأول، وحكى عن الفرآء أنها شرط فى المستقبل مثل «إن» والأكثر خلاف ذلك كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ [البقرة: 20] وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها [الأعراف: 76] وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] وإن دخلت على الفعل المضارع فعلى جهة المجاز فى نحو قوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 7] وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ [محمد: 30] إلى غير ذلك من الآيات الواردة فى الأزمنة المستقبلة، وإنما كان ذلك لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا كقوله تعالى: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم: 17] . وسادسها تنكيره، إما لإرادة الأصل فيه، لأنه إنما يخبر بما لا يكون معلوما، وإما لإرادة عدم الحصر كقوله تعالى: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (118) [التوبة: 117] وقوله تعالى: اللَّهُ

لَطِيفٌ بِعِبادِهِ [الشورى: 19] وقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] وإما لإرادة التفخيم كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة: 2] لأن المراد إنما هو هدى أى هدى، أو لإرادة التكثير كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) [هود: 107] وسابعها تعريفه، إما لإفادة السامع الحكم بأمر معلوم على أمر معلوم كقوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) [البروج: 14- 15] أو من أجل إفادة تعريف الجنس كقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر: 24] إذا جعلناه خبرا لا صفة، وإن جعلناه صفة فهو ظاهر، وإما على جهة الحصر كقوله تعالى وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر: 9] أى الله المرسل، ومعناه أنه لا مرسل سواه. وثامنها كونه جملة، وهو وارد على خلاف الأصل من جهة أن أصل الخبر يكون بالمفردات، إما للتقوّى، لأن الخبر بالجملة أقوى من الخبر بالمفرد، وإما لكونه سببيا كقولك: زيد أبوه منطلق، ومن الخبر بالجملة قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27] وبالجملة الماضية كقوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النحل: 78] وبالجملة الابتدائية كقوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) [الشعراء: 9] والجملة نوعان إما جملة ابتدائية، وإما جملة فعلية، إما شرطية، وإما ظرفية وإما حرفية، وكلها مندرجة تحت الجملة الفعلية. وتاسعها تقديمه، إما للاهتمام به كقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ 83 [الصافات: 83] وإما لتخصيصه بالمسند إليه كقوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] بخلاف خمور الدنيا، ومن أجل هذا لم يقدم الظرف فى قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] مخافة أن يكون فيه تعريض، بالريب فى غيره من الكتب السماوية، كالتوراة والإنجيل. وعاشرها التثنية والجمع، لأجل المطابقة لما هو خبر عنه كقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [النساء: 162] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) [المعارج: 33] وهكذا حال التذكير والتأنيث فإن هذه إنما وردت فى المسند به لأجل المطابقة بين المسند إليه والمسند به، لأنهما صارا مقولين على ذات واحدة، فهذا ما أردنا ذكره فى الأمور الخبرية والله أعلم.

النظر الثانى فى بيان الأمور الإنشائية الطلبية

النظر الثانى فى بيان الأمور الإنشائية الطلبية اعلم أن الطلب مغاير فى الحقيقة لماهية الخبر، فالخبر دال كما ذكرناه من قبل على حصول أمر فى الخارج، فإن كان مطابقا له فهو الصدق، وإلا فهو الكذب، بخلاف الإنشاء، فإنه لا يدل على حصول أمر، بل من حقيقة الطلب أن لا يكون مطلوبا إلا مع كونه معدوما فى حال طلبه، ليتحقق الطلب فى حقه، فإذن ماهيته استدعاء أمر غير حاصل ليحصل. وينقسم إلى طلب سلبى، وإلى طلب إيجابى فالطلب الإيجابى هو الأمر، والتمنى، والطلب السلبى هو النهى، وكلا الأمرين وارد فى كتاب الله تعالى فإنه مملوء من الأمر والنهى وغيرهما، من الأمور الطلبية، وجملة ما نورد من الأمور الطلبية الأمر، والنهى، والاستفهام، والتمنى، والعرض، والدعاء، والنداء، فهذه ضروب سبعة نشرحها، ونبين ما يختص بها من الحقائق المعنوية وما يتعلق بها من الخصائص القرآنية، التى من أنعم فيها نظره وفكره، واستجمع فى تقريرها خاطره، أطلعته على حقائق محجوبة تحت أستار، وكشفت له عن وجوه الإعجاز ومكنتها فى نفسه عن تحقق واستبصار، وألحقت نور البصيرة بمرأى البصر فى ضوء النهار، فإن ملاك الأمر فى ذلك كله مؤسس على علم المعانى، وعلم البيان، فإن عليهما تدور رحاه، ويستحكم أساسه وبناه، وقصاراهما آئلة إلى تحكيم الذوق السليم، والطبع المستقيم، فمن أحرز هذا وذاك فقد فاز بالخصل، وظفر بالنجح من الإعجاز، ونال أعلى ذروته وتمكّن من الاستواء على صهوته. الضرب الأول: الأمر وهو صيغة تستدعى الفعل، أو قول ينبىء عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء، فقولنا «صيغة تستدعى، أو قول ينبىء» ، ولم نقل «افعل» ، «ولتفعل» كما يقوله المتكلمون والأصوليون لتدخل جميع الأقوال الدالة على استدعاء الفعل فى نحو الفرسيّة، والتركية، والرومية، فإنها كلها دالة على الاستدعاء من غير صيغة «افعل» ، «ولتفعل» ، ونحو قولنا: نزال، وصه، فإنهما دالان على الاستدعاء من غير صيغة «افعل» وقولنا: «من جهة الغير» ، نحترز به عن أمر الإنسان نفسه، فإن ذلك إنما يكون أمرا على جهة المجاز، وقولنا «على جهة الاستعلاء» ، نحترز به عن الرتبة فإنها غير معتبرة فى ماهية

الضرب الثانى: النهى

الأمر، بدليل أن العبد يجوز أن يأمر سيده بما هو على جهة الاستعلاء، ولا يصفونه بالحماقة، ولو كانت الرتبة معتبرة لم يعقل ذلك فى حق العبد، لبطلانها فيه، فهذه هى الماهية الصالحة للأمر فى نحو قولك «افعل» للمخاطب، و «ليفعل» للغائب، إلى غير ذلك من الصيغ المقررة فى علم الإعراب، وحقيقة قولنا: «افعل» ، الطلب والتردد فيه هل هو حقيقة فى الوجوب، مجاز فى الندب، أو بالعكس، أو مشترك بينهما. فأما ما عدا ذلك من الإباحة كقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة: 60] أو التسخير كقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً [البقرة: 65] أو الإهانة، كقوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) [الإسراء: 50] أو التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] أو التسوية، كقوله تعالى: اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا [الطور: 16] أو غير ذلك من المعانى المستعملة فى غير الطلب، فإنها على جهة المجاز، وهذا كقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي [البقرة: 152] وقوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [غافر: 60] ونحو قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] وقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] إلى غير ذلك من الأوامر الشرعية، والمطلوبات الواجبة والنفلية، والأمر بالإضافة إلى تعلقاته، هل يفيد التكرار أو لا؟ وهل يقتضى الفور فيما كان من الأوامر الطلبية أو لا؟ حكى عن السكاكى أنه مفيد للفور، لأنه الظاهر من الطلب، ولتبادر الفهم إلى التحصيل، وفيه نظر، والحق أن الأوامر ساكته، بالإضافة إلى التكرار، وبالإضافة إلى الفور، وليس فى ظاهرها ما يدل على واحد من هذين الأمرين إلا لدلالة خارجة عن ظاهر الأمر، وقد قررنا هذه المسألة فى الكتب الأصولية، فإن فيها محطّ رحالها، وعليها حمل عبئها وأثقالها، والإحاطة بعلوم البيان لا تكفى فى تحقيق هذه المسألة، بل لها مأخذ آخر موكول إلى علماء الأصول، ولقد صدق من قال: إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر الضرب الثانى: النهى وهو عبارة عن قول ينبىء عن المنع من الفعل على جهة الاستعلاء، كقولك: لا تفعل، ولا تخرج. فقولنا: «قول ينبىء» ، يدخل فيه جميع ما يدل على المنع من الفعل فى سائر اللغات، وقولنا «على جهة الاستعلاء» ، نحترز به عن الرتبة، فإنها غير معتبرة، ومن

دقيقة

العلماء من ذهب إلى اعتبارها فى الأمر والنهى، والصحيح خلافه، وقد يرد على جهة التهديد كقول المعلم لصبيانه، «لا تقرءوا» ، وقد زعم السكاكى التكرار والفور فيهما جميعا، بناء على التوهم الذى حكيناه عنه، وهو فاسد، فإن كلامنا إنما هو فى مطلق الصيغة فيهما جميعا، هل تدل على شىء من هذه اللوازم العارضة، كالفور والتراخى، والتكرار وعدمه، والمختار عندنا أنهما بالإضافة إلى مطلق صيغهما لا دلالة لهما على شىء من هذه اللوازم، وإنما تعرف هذه اللوازم بأدلة منفصلة من وراء الصيغة، والذى يدل عليه بمطلقهما، هو الطلب فى الأمر، والمنع فى النهى، لأن هذين الأمرين من حقائقهما، فلا جرم كانا دالين عليهما، فأما ما وراء ذلك من تلك الأمور اللازمة، فإنما تعرف بأدلة شرعية لا من نفس الصيغة، ومثال ذلك من التنزيل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام: 151] ، ولا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] ، وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء: 34] إلى غير ذلك من المناهى الشرعية، فإنها دالة على المنع والتحريم. دقيقة اعلم أن الأمر والنهى يتفقان فى أن كل واحد منهما لابد فيه من اعتبار الاستعلاء، وأنهما جميعا يتعلقان بالغير فلا يمكن أن يكون الإنسان آمرا لنفسه، أو ناهيا لها، وأنهما جميعا لابد من اعتبار حال فاعلهما فى كونه مريدا لهما، إلى غير ذلك من الوجوه الاتفاقية، ويختلفان فى الصيغة، لأن كل واحد منهما مختص بصيغة تخالف الآخر، ويختلفان فى أن الأمر دال على الطلب، والنهى دال على المنع، ويختلفان أيضا فى أن الأمر لابد فيه من إرادة مأمورة، وأن النهى لابد فيه من كراهية منهية، إلى غير ذلك من الوجوه الخلافية، واستغراقها يكون بالمسائل الأصولية، وقد رمزنا إليها.

الضرب الثالث منها فى الاستفهام

الضرب الثالث منها فى الاستفهام ومعناه طلب المراد من الغير على جهة الاستعلام، فقولنا: طلب المراد، عام فيه وفى الأمر، وقولنا، على جهة الاستعلام، يخرج منه الأمر، فإنه طلب المراد على جهة التحصيل والإيجاد، وآلاته على نوعين، أسماء، وحروف، فالحروف، الهمزة، وهل، لا غير، والأسماء على وجهين أيضا، ظروف وأسماء، فالظروف الزمانية نحو متى، وأيّان، والظروف المكانية نحو أين، وأنّى، وأما الأسماء فهى من، وما، وكم، وكيف فهذه آلات كلها كما ترى للاستفهام، ثم إنها تنقسم باعتبار ما تؤديه من المعنى إلى ثلاثة أقسام، فالقسم الأول منها موضوع للتصور، وهو من، وما، وكم، وكيف، وأين، وأنى، ومتى، وأيان، ومعنى قولنا إنها دالة على التصور، هو أنها موضوعة للسؤال عن الماهية الحاصلة فى الذهن من غير أن يضاف إليها حكم من الأحكام، مما هو موضوع للتصور فى السؤال، كقولك ما الجسم وما العرض، وما الملك؟ ولهذا فإنه يحق على المجيب أن يجيب بذكر ماهية هذه الأمور، ليكون جوابه مطابقا لسؤال السائل، وقد يسأل بها عن اللفظ، فيقال ما العقار، وما الزرجون؟ فيقال الخمر، قال السكاكى: وقد يسأل بها عن الصفة، فيقال ما زيد، وجوابه الطويل، أو القصير. وأما «من» ، فهى دالة على التصور أيضا كقولك: من جبريل، أى من أى الحقائق هو، أبشر هو، أم جنىّ، أم ملك، وتقع سؤالا عن الشخص من أولى العلم، كقولك: من فى الدار، فتقول: زيد، قال الله تعالى فى السؤال: «بما» فى قصة البقرة قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها [البقرة: 69] يعنى من أى حقيقة الألوان لونها، فأجاب: بأنها صفراء، ثم قال: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] وقال فى سؤال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) [الشعراء: 23] فأجابه الله تعالى بذكر الصفة وحقيقتها، فهذا كله دال على أنها موضوعة للتصور فيما كانت سؤالا عنه، سواء كان ذاتا أو صفة، وقال الله تعالى فى السؤال «بمن» أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً [النمل: 61] وقال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] فهذا سؤال عن حقيقة الشىء وتصور ماهيته.

القسم الثانى فى بيان ما يكون دالا على التصور والتصديق جميعا،

وأما «أى» فإنه سؤال عن تصور حقيقة البعضية كما قال تعالى: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] والمعنى أنحن، أم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، وقال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] يعنى من هذه الذات المتصورة، أو هذه الصفات المتصورة. وأما «كم» فإنها سؤال عن تصور حقيقة العدد، قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ [النجم: 26] وقال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ [الإسراء: 17] وقال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء: 11] . وأما كيف، فإنها سؤال عن حقيقة الحال وتصوره، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفيل: 1] وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] وأما «أين» فإنه سؤال عن تصور حقيقة المكان، قال الله تعالى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام: 22] وقال تعالى أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) [الشعراء: 92] وأما «أيان» ، فإنه سؤال عن تصور حقيقة الزمان المستقبل، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الأعراف: 187] وقيل إنه مختص بالأمور الهائلة العظيمة. وأما «متى» ، فإنه مختص بتصور حقيقة الزمان، قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) [النمل: 71] وقال تعالى: وَيَقُولُونَ «1» مَتى هُوَ [الإسراء: 51] فهذا كله حكم هذه الأسماء إذا كانت مستعملة فى الطلب. القسم الثانى فى بيان ما يكون دالّا على التصور والتصديق جميعا، وهذا هو الهمزة، فإفادتها للتصور فى مثل قولك: أإدامك زيت أم عسل؟ وأعمامتك قطن أم حرير؟ وأما كونها سؤالا عن التصديق ففى نحو قولك: أقام زيد؟ وأزيد قاعد؟ ونحو أأنت راكب؟ ففى الأول يكون الجواب بذكر حقيقة الشىء وتصور ماهيته، وفى الثانى يكون الجواب بذكر حصول الصفة أو نفيها، وهذه هى فائدة التصور والتصديق، وقد يكون سؤالا عن العلة فى نحو قولك: أللعالم صانع، ولهذا تجيبه بذكر المؤثر أو عدمه.

القسم الثالث أن يكون موضوعا للسؤال عن التصديق لا غير،

القسم الثالث أن يكون موضوعا للسؤال عن التصديق لا غير، وهو هل، فإنك تقول هل قام زيد أو قعد، وهل عمرو خارج، ويكون بمعنى «قد» قال الله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان: 1] فهذا تقرير الكلام على كون هذه الآلات دالة على الطلب، وكيفية استعمالها فيه، وقد ترد مستعملة فى غير الطلب على جهة المجاز، فالهمزة قد تستعمل للتقرير كقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) [الشرح: 1] وقوله تعالى: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18] وللإنكار كقوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الأنعام: 40] وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] وللتكذيب كقوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء: 40] وقد ترد للتهكم كقوله تعالى: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: 87] وهل قد تستعمل بمعنى قد، كما أشرنا إليه، وقد ترد «ما» للتعجب كقوله تعالى: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل: 20] وتستعمل «من» للتعظيم كقراءة ابن عباس فى قوله تعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ [الدخان: 30- 31] بدليل: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) [الدخان: 31] وللتحقير كقولك: من هذا، تحقيرا لحاله، ومن التعظيم قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245] و «كم» تستعمل للاستبطاء كقولك: كم دعوتك، و «أنى» تستعمل للاستبعاد كقوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى [الدخان: 13] . الضرب الرابع: التمنى وهو عبارة عن توقع أمر محبوب فى المستقبل، والكلمة الموضوعة له حقيقة هى «ليت» وحدها، وقد يقع التمنى «بهل» كقوله تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا [الأعراف: 53] و «بلو» كقوله تعالى: قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [هود: 80] وليس من شرط المتمنى أن يكون ممكنا بل يقع فى الممكن وغير الممكن، قال الله تعالى: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ [القصص: 79] وقال تعالى: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف: 53] وقال تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ [النساء: 73] فأما لولا، ولوما، وهلا، وألا، بقلب

الضرب الخامس النداء

الهاء همزة، فإنها مركبة من لو، وهل، مزيدتين معهما، ما، ولا، لإفادة التحضيض فى الأفعال المضارعة فى نحو قولك: هلا تقوم، ولوما تقوم، والتوبيخ فى الماضى كقولك: هلا قمت، وألّا خرجت، ففى الأول حث على الفعل ليفعله فى المستقبل، وفى الثانى توبيخ على الفعل، لم لم يفعله، وتنديم له على تركه، والعرض هو نحو قولك: ألا تنزل فتصيب خيرا، وهو مولّد عن الاستفهام، خلا أنه لما توجه بحكم قرينة الحال أنه ليس الغرض هو الاستعلام، وإنما المقصود منه: ألا تحب النزول مع تحياته، فلهذا كان عرضا، وأما لعل، فهو للتوقع فى مرجو أو مخوف، فالمرجو فى مثل قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ [غافر: 36- 37] والمخوف فى مثل قوله تعالى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ 17 [الشورى: 17] قد تستعمل لعل فى التمنى فى مثل قوله: «لعلى أزورك فتكرمنى» فهى مولدة للتمنى، والسبب فى ذلك هو بعد المرجو عن الحصول، فلهذا أشبه المتمنى لما كان قد يكون فى الممكن وغير الممكن، والسبب فى خروج بعض هذه المعانى إلى بعض، هو تقاربها، والمعتمد فى ذلك على قرائن الأحوال فلأجل ذلك يجوز استعمال بعضها مكان بعض. الضرب الخامس النداء وهو من جملة المعانى الإنشائية الطلبية، ولهذا فإنه إذا قيل: يا زيد، لم يقل فيه: صدقت أو كذبت لما كان إنشاء، وحروفه يا، وأخواتها، فمنها ما يستعمل للقريب كالهمزة، ومنها ما يستعمل للبعيد كأيا، ومنها ما يستعمل فيهما جميعا، وهو «يا» كما هو مقرر فى علم الإعراب، ومعنى النداء هو التصويت بالمنادى لإقباله عليك، هذا هو الأصل فى النداء، وقد تخرج صيغة النداء إلى أن يكون المراد منها غير الإقبال، بل يراد منها التخصيص، كقولك: أما أنا فأفعل كذا أيها الرجل، ونحن نفعل كذا أيها القوم، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة، ولم يعنو بالرجل، والقوم، إلا أنفسهم، وهكذا مرادهم بأنا، ونحن، فلو كان منادى لكان المقصود غيره، كما إذا قلت: يا زيد، فإن المنادى الطالب هو غير المنادى المطلوب، فهذا ما أردنا ذكره من الأمور الإنشائية الطلبية والله أعلم.

دقيقة

دقيقة اعلم أن الخبر والإنشاء متضادان، لأن الخبر ما كان محتملا للصدق والكذب، والإنشاء ما ليس يحتمل صدقا ولا كذبا، فلا يجوز فى صيغة واحدة أن تكون حاملة إنشاء وخبرا، لما ذكرناه من التناقض بينهما، نعم قد ترد صيغة الخبر والمقصود بها الإنشاء، إما لطلب الفعل، وإما لإظهار الحرص على وقوعه، وهذا كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233] ونحو قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] فليس واردا على جهة الإخبار فيهما جميعا، لأنه يلزم منه الكذب، وهو محال فى كلامه تعالى، لأن كثيرا من الوالدات لا ترضع الحولين، بل تزيد وتنقص، وهكذا قد يدخل البيت من هو خائف، فلهذا وجب تأويله على جهة الإنشاء، والمعنى فيه، لترضع الوالدات أولادهن حولين على جهة الندب والإرشاد إلى المصالح، وهكذا قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً معناه ليأمن من دخله، ومخالفة الأوامر لا فساد فيها، ولا يلزم عليه محال، بخلاف الأخبار فإنه يلزم من مخالفتها الكذب، ولا يرد الإنشاء، ويكون فى معنى الخبر إلا على جهة الندرة فى مثل قولك: وجدت الناس «اخبر تقله» أى وجدت الناس يقال عندهم هذا القول، والسر فى ذلك هو أن الإنشاء إذا ورد بمعنى الخبر فليس فيه مبالغة، بخلاف عكسه، فإنه يفيد المبالغة، وهو الدوام والاستمرار كما مثلناه فى الآيتين اللتين تلوناهما، وتحت هذه الأمور التى ذكرناها من هذا القسم فى المسائل الخبرية والطلبية، من المعانى القرآنية، والأسرار التنزيلية، مما يكون متعلقا بفن المعانى ما لا يحصى عده، ولا يحصر حده، يدريه كل ألمعىّ نحرير، ويفهمه كل ذكى بصير، ولا يزداد على كثرة الرد والمطالعة إلا وضوحا وتقريرا.

النظر الثالث فى التعلقات الفعلية

النظر الثالث فى التعلقات الفعلية اعلم أن الفعل يذكر وله تعلقات تخصه، من الذكر والحذف، والشرط، ويذكر الفاعل، وله تعلقات تخصه أيضا، ويذكر المفعول، وله تعلقات من الذكر والحذف، فهذه ضروب ثلاثة نذكر ما يخص كل واحد منها، وإنما صدرنا هذا النظر بذكر تعلقات الأفعال، لما كان أصل التعلق لها، فلهذا كان مصدّرا بها والله الموفق. الضرب الأول فى بيان ما يكون مختصا بالأفعال أنفسها، والأصل هو ذكر الفعل، لأنه هو الأصل فى البيان، كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] وقال الله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] إلى غير ذلك من الآيات التى يذكر فيها الفعل، مما لا يحصى كثرة، ولكن يعرض له التقديم والتأخير، والحذف، وتعلق الشرط به، فهذه حالات ثلاث نذكرها بمعونة الله. الحالة الأولى: تقديمه وتأخيره، وذلك يكون على أوجه ثلاثة، الوجه الأول أن يكون مؤخرا، وإنما حسن فيه ذلك لأمرين، أما أولا: فلأن تقديم المفعول ربما كان من أجل الاهتمام به، والعناية بذكره، ومثال هذا من يكون له محبوب يتغيب عنه، فيقال له: ما تتمنى، فيقول معاجلا وجه الحبيب أتمنى، وكمن يمرض كثيرا فيقال له: ما تسأل الله تعالى، فيجيب تعجلا للإجابة: العافية أسأل، وأما ثانيا: فبأن يكون أصل الكلام هو التقديم، لكن فى مقتضى الحديث ما يقتضى تأخيره لعارض لفظى، ففى هذين الوجهين إنما حسن تأخيره من جهة الاهتمام بغيره، فهذا كان أحق بالذكر، وإذا حسن تقديم مفعوله كان مؤخرا، وثانيها: تقديمه وهو الأصل كقولك: ضربت زيدا، وأكرمته، فتقدم الفعل لما كان الأصل هو تقديمه، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: 9] وقال الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ [الأحزاب: 25] إلى غير ذلك، وهو كثير، فاكتفينا بالأمثلة القليلة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الفعل إذا كان مقدما فهو الأصل، لأنه عامل، ومن حق العامل أن يكون مقدما على معموله، وإذا كان مؤخرا فهو على خلاف الأصل لغرض وفائدة كما نبهنا عليه، وثالثها توسطه بين مفعوليه، وإنما كان كذلك من أجل الاهتمام بالمقدم منهما.

الحالة الثانية: حذفه،

الحالة الثانية: حذفه، وهو يكون على أوجه ثلاثة، أولها [الوجه الاول] أن يكون جوابا كقولك: من جاءك، فتقول زيد، أى جاءنى زيد، وإنما جاز حذفه لأجل القرينة الحالية، فلأجل هذا كانت مغنية عن ذكره، قال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38] وتقديره خلقهن الله، وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 63] والمعنى نزله الله فهذان الفعلان قد حذفا، اتكالا على القرينة الدالة عليهما [الوجه الثانى] وثانيها أن يكون المسلط على حذفه هو كثرة الاستعمال مع قيام حرف الجر مقامه، ومثال ذلك قولنا «بسم الله» فإنه إنما يذكر للتبرك عند كل فعل من الأفعال، فإن الفعل ههنا يكون محذوفا، لما ذكرناه من الكثرة، وهكذا فى مثل قولهم «بالرفاء والبنين» دعاء للعرس، والمعنى نكحت، أو تزوجت بالرفاء والبنين، [الوجه الثالث] وثالثها أن يكون هناك ما يدل على الفعل المحذوف، مما يشعر بالفعل، كحرف الشرط فى نحو قولهم «إن ذو لوثة لآنا» والمعنى إن لان ذو لوثة لانا، وقولهم «لو ذات سوار لطمتنى» والتقدير لو لطمتنى ذات سوار، قال الله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي [الإسراء: 100] لأن التقدير فيه: لو تملكون، فلما حذف الفعل انفصل الضمير لا محالة، وقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ [النساء: 176] أى هلك امرؤ هلك، والذى جرّا على حذفه هو دلالة حرف الشرط عليه، لأن الشرط إنما يتصل بالفعل لا غير ويختص به. الحالة الثالثة: تعلق الشرط به، واعلم أن جميع الشروط كلها مختصة بالأفعال، لأنها تتجدد، والأفعال متجددة، فلا جرم ناسب معناها الفعل فاختصت به، فإن الشرطية، لا تقع إلا فى المواضع المحتملة المشكوك فيها، قال الله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] وقال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر: 4] وقال تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة: 42] فإن استعملت فى مقام القطع، فإما أن يكون على جهة التجاهل وأنت قاطع بذلك الأمر، ولكنك ترى أنك جاهل به، وإما على أن المخاطب ليس قاطعا بالأمر، وإن كنت قاطعا به، كقولك لمن يكذبك فيما تقوله وتخبر به: إن صدقت فقل لى ماذا تفعل، وإما لتنزيل المخاطب منزلة الجاهل، لعدم جريه على موجب العلم، وهذا كما يقول الأب لابن لا يقوم بحقه: إن كنت أباك فاحفظ لى صنيعى فيك.

وأما «إذا» فإنها تكون شرطا فى الأمور الواضحة كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) [الروم: 33] وتقول إذا طلعت الشمس جئتك، وقال تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ [النساء: 83] . و «من» للتعميم فى أولى العلم، قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 7- 8] . و «أى» لتعميم ما تضاف إليه فى أولى العلم وغيرهم، قال الله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) [مريم: 69] لأن تقديره ننزعه، فى أحد وجوهها و «متى» للتعميم فى الأوقات المستقبلة، وتستعمل مجردة عن «ما» وتستعمل مؤكدة «بما» كقولك: متى ما تأتنى آتك. و «أين» لتعميم الأمكنة، قال الله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: 87] وقال تعالى: يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً [البقرة: 148] . و «أنى» لتعميم الأحوال، كقولك: أنى تكن أكن و «حيثما» لتعميم الأمكنة، قال الله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] . و «ما» تكون للتعميم فى كل الأشياء قال الله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) [البقرة: 215] وقال تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ [المزمل: 20] و «مهما» أعم، قال الله تعالى: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) [الأعراف: 132] . وأما «لو» فهى للشرط فى الماضى دالة على امتناع الشىء لامتناع غيره قال الله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] أى امتنع الفساد لامتناع وجود الآلهة. وأما «إمّا» المكسورة، فهى «إن» أكدت «بما» فأكد شرطها بالنون المؤكدة، قال الله تعالى فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم: 26] وأما المفتوحة فهى للتفصيل، وفيها معنى الشرط، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ [هود: 106] وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ [هود: 108] فهذا كلام فيما يختص بالفعل نفسه من هذه الأمور.

الضرب الثانى فى بيان الأمور المختصة بالفاعل نفسه

الضرب الثانى فى بيان الأمور المختصة بالفاعل نفسه وتعرض له أحوال لابد من ذكرها، أما حذفه فقليل ما يوجد، لأنه صار معتمدا للحديث، وقد جاء حذفه مع قيام الدلالة عليه فى نحو قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) [يوسف: 35] أى بدا لهم سجنه، وفى ضمير الشأن والقصة، فى مثل كان زيد قائم، أى الأمر والشأن، وإنما جاز حذفه لما كانت هذه الجملة قائمة مقامه، وسادة مسدّه ومفسرة له، وفى مثل: نعم رجلا زيد، لأن التقدير فيه: نعم الرجل رجلا زيد، وإنما جاز حذفه، لمكان ما ذكر من التفسير بقولنا: رجلا، ولا يجوز الإقدام على حذفه إلا مع قرينة تدل عليه دلالة ترشد إليه، والأقرب أن يقال فى نعم وبئس، وضمير الشأن، إنه مضمر وليس محذوفا، لأن ما يقتضى الإضمار حاصل وهو الفعل، فلهذا كان جعله مضمرا أحق. وأما ذكره فهو الأكثر المطرد، إما ظاهرا كقوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ [الأحزاب: 25] وإما مضمرا كقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40] وإما مشارا إليه كقولك جاءنى هذا، وإما موصولا كقوله تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ . [النمل: 40] وأما تقديمه على الفعل فلا يجوز عند الأكثر من النحاة، لأن الفعل عامل فيه، ومن حق العامل أن يكون سابقا على معموله، فأما المفعول فإنما جاز تقديمه وتأخيره لدلالة دلت عليه.

الضرب الثالث فى بيان الأمور المختصة بالمفعول

الضرب الثالث فى بيان الأمور المختصة بالمفعول أما ذكره فمن أجل البيان، كقوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40] ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي [البقرة: 152] وقوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف: 163] ، فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الإسراء: 101] ظاهرا ومضمرا، ومشار إليه، كقولك: اضرب هذا، وموصولا كقوله تعالى: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ [يونس: 94] . وأما حذفه فهو على نوعين، فالنوع الأول أن يحذف لفظا ويراد معنى وتقديرا، وهذا كقوله تعالى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) [الأنعام: 149] والتقدير فيه لو شاء هدايتكم لهداكم، لكنه حذف لما كان سياق الكلام دالا عليه، وهكذا قوله تعالى: (وما عملت أيديهم) «1» أى عملته، وقوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] والتقدير ما كان لهم الخيرة فيه، وقد يحذف للتعميم مع إفادة الاختصار، كقول من قال: قد كان منك ما يؤلم أى كل أحد، وعليه دل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: 25] أى كل أحد، فحذف لدلالة الكلام عليه، ومن هذا ما يكون محذوفا على طريق الاختصار، نحو أصغيت إليه، أى أذنى، ومنه قوله تعالى: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] أى أرنى ذاتك، وقد يحذف رعاية للفاصلة كقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضحى: 2] والتقدير وما قلاك، لكنه حذفه ليطابق ما قبله من الفاصلة، وقد يحذف لاستهجان ذكره كما حكى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت منه ولا رأى منى، والمراد العورة، فهذا تقدير ما يحذف لفظا، ويراد من جهة المعنى. وأما النوع الثانى وهو ما يحذف ويجعل كأنه صار نسيا منسيا، فهو على وجهين، أحدهما أن يجعل الفعل المذكور كناية عنه متعديا كقول البحترى: شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واعى «2»

فجعل قوله: أن يرى مبصر ويسمع واعى، كناية عن الفعل ومفعوله، وعلى هذا يكون المعنى أن يكون ذا رؤية وذا سمع فيدرك محاسنه وأوصافه الظاهرة وأخباره الدالة على استحقاقه للإمامة والخلافة، فلا يكون منازعا فيها، وثانيهما أن يكون المراد ذكر الفعل مطلقا من غير تفريع على ذكر متعلقاته، كقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ومن هذا قولهم: فلان يعطى ويمنع، ويصل ويقطع، فالغرض هو ذكر الفعل من غير حاجة إلى أمر سواه، فهذا ما أردنا ذكره فى التعلقات الفعلية.

النظر الرابع فى الفصل والوصل

النظر الرابع فى الفصل والوصل ولهما محل عظيم فى علم المعانى، وواقعان منه فى الرتبة العلياء، ونحن الآن نشير إلى زبد منهما مما يتعلق بغرضنا، أما الفصل فهو فى لسان علماء البيان، عبارة عن ترك الواو العاطفة بين الجملتين، وربما أطلق الفصل على توسط الواو بين الجملتين، والأمر فى ذلك قريب بعد الوقوف على حقيقة المعانى، لكن ما قلناه أصدق فى اللقب من جهة أن الجملة الثانية منفصلة عما قبلها، فلا تحتاج إلى واصل هو الواو، فلأجل هذا كان ما ورد من غير واو بين الجملتين أحق بلقب الفصل، وهذا يرد فى التنزيل على أوجه نذكرها، أولها أن تكون الجملة واردة على تقدير سؤال يقتضيه الحال، فلأجل هذا وردت هذه الجملة مجردة عن الواو، جوابا له، ومثاله قوله تعالى فى قصة موسى عليه السلام مع فرعون: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) [الشعراء: 23] فإنما جاءت من غير واو على تقدير سؤال تقديره، فماذا قال فرعون، لما دعاه موسى إلى الله تعالى، قال فرعون: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) ثم قال موسى: قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) [الشعراء: 24] وإنما جاءت من غير واو لأنها على تقدير سؤال كأنه قال: فما قال موسى، قال: الآية، وهلم جرا إلى آخر الآيات التى أتت من غير واو كقوله تعالى: قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) [الشعراء: 25- 31] فانظر إلى مجىء القول من غير واو على جهة الاتصال بما قبله على تقدير السؤال الذى ذكرناه، وهكذا ورد فى سورة الذاريات قال الله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25] ثم قال فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) [الذاريات: 27] وهذا من الاختصار العجيب اللائق بالتنزيل، وثانيها: أن تكون الجملة الثانية واردة على جهة الإيضاح والبيان بالإبدال، كقوله تعالى: بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) [المؤمنون: 81- 82] فالقول الأول هو الثانى، أورد على جهة الشرح والبيان، لما دل عليه الأول وقوله تعالى: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما

تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) [الشعراء: 132- 134] فانظر كيف شرح الإمداد الثانى، إيضاحا للأول وتقوية لأمره، وقوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) [يس: 20- 21] فالاتباع الثانى وارد على جهة الإيضاح، هكذا القول فى كل جملة أتت عقب أخرى على الإبدال منها، فإنها تأتى من غير واو لما ذكرناه. وثالثها: أن تكون الجملة الأولى واردة على جهة الخفاء، والمقام مقام رفع لذلك اللبس، فتأتى الجملة الثانية على جهة الكشف والإيضاح لما أبهم من قبل، ومثاله قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) [البقرة: 8] ثم قال: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة: 9] فجرد قوله يُخادِعُونَ اللَّهَ عن الواو، إرادة لإيضاح ما سلف من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) ومراده أن كل ما كان قولا باللسان من غير اعتقاد فى القلب فهو خداع لا محالة، وهذه هى حالتهم فيما صدر منهم من الإيمان باللسان، وقوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ [طه: 120] فأتى بقوله: قالَ يا آدَمُ مجردا عن الواو، تنبيها على إيضاح الوسوسة وكشف غطاها وشرح تفاصيلها، ولو أتى بالواو لم يعط هذا المعنى لما فيها من إيهام التغاير المؤذن بعدم الكشف والإعراض عن التقرير، ورابعها: أن تكون الجملة الثانية واردة على جهة رفع التوهم عن الجملة الأولى عن أن تكون مسوقة على جهة التجوّز والسهو والنسيان، ومثاله قوله تعالى فى صدر سورة البقرة الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1- 2] فلما كانت هذه الجملة واردة على جهة الإيضاح بأن هذا القرآن قد بلغ أعلى مراتب الكمال، وسيقت على المبالغة بإعظامه، وأنه لا رتبة فوقه، حيث صدّر السورة بالأحرف المقطعة، إشعارا ببلاغته، وجىء باسم الإشارة مع اللام تنبيها على ما تضمنته من البعد، على صفة الإغراق فى وصفه، فلما كان الأمر فيه هكذا، سبق إلى فهم السامع أن ما يرقى به من هذه السمات البالغة، إنما هى على جهة الخرف والسهو والذهول، وأنه لا حقيقة لها، أراد رفع الوهم بما عقبه من الجمل المرادفة، فلهذا وردت من غير واو، إشعارا بما ذكرناه، فقال لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] أى ليس أهلا لأن يكون مرتابا فيه، وأن يكون محطا للريبة ومحلّا لها، ثم أردفه بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) [البقرة: 2] أى إنه هاد لأهل التقوى معطيا لهم حظ الهداية به، ومن هذا قوله تعالى: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] ثم قال إِنْ هذا إِلَّا

مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) [يوسف: 31] فقوله: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) سيق من أجل رفع الوهم بالجملة الأولى، غير أن تكون على ظاهرها من الدلالة على الإغراق فى مدحه، ومنه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [لقمان: 7] فقوله كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً إنما ورد على جهة الاتصال من غير واو، تقريرا لما سبق من الجملة الأولى من عدم السماع، وإيضاحا لها. وخامسها أن تكون الجملة الثانية واردة على إرادة قطع الوهم على ما قبلها من الجمل السابقة، ومثاله قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] فإنما وردت من غير واو، دلالة على أن عطفها على ما تقدم من الجملة السابقة متعذر، فلهذا وردت من غير واو، رفعا لهذا التوهم وقطعا له، ويجوز أن تكون واردة على جهة الاستئناف، تنبيها على البلاغة بمطابقة محزّها ومفصلها، وإعلاما من الله تعالى بأنهم من أجل خداعهم ومكرهم مستحقون من الله تعالى غاية الخزى والنّكال، وتسجيلا عليهم بأن الله تعالى هو المتولى لذلك دون سائر المؤمنين، ونبّه بالفعل المضارع فى قوله: يَسْتَهْزِئُ بحدوث الاستهزاء وتجدده، فأما قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) [البقرة: 14] فإنما أتى من غير واو، لاندراجه على جهة البيان تحت قولهم: إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: 14] أى إنا معكم على الموافقة على ذنبكم فى التكذيب والجحود غير مفارقين لكم مستمرين على اليهودية، وكوننا معهم ليس على جهة التصديق، إنما كان على جهة الاستهزاء والسخرية بما هم عليه من الإيمان، فبهذا يكون ورود الفصل فى كتاب الله تعالى، ولله در لطائف التنزيل، لقد أطلعت طلابها على مطالع أنوارها، وأوضحت لهم المنار، فاستضاءوا بضوء شموسه وأنوار أقمارها، وأما الوصل فهو عطف الجملة على الجملة، والمفرد على مثله، بجامع ما، وهو قد يرد لرفع الإيهام، كقولك: لا، وأيدك الله، فالواو ههنا جاءت لرفع الوهم عن أن يكون دعاء عليه فى ظاهر الأمر كما ترى، وكما يرد فى المفرد فقد يرد فى الجمل، فهذان ضربان، نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمعونة الله تعالى.

الضرب الأول فى بيان عطف المفردات بعضها على بعض بالواو

الضرب الأول فى بيان عطف المفردات بعضها على بعض بالواو وإنما قدمناه فى الترتيب من جهة أن المفرد سابق على الجملة المركبة، ونذكر فيه من التنزيل آيتين، الآية الأولى قوله تعالى فى سورة الغاشية أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) [الغاشية: 17- 18] إلى آخر الآية، فعطف بعض هذه المفردات على بعض، ولا بد هناك من رعاية الملائمة والمناسبة فى تقديم بعضها على بعض لئلا يخلو التنزيل عن أسرار معنوية، ودقائق خفية، يتفطّن لها أهل البراعة، ويقصر عن إدراكها من لا حظورة له فى معرفة هذه الصناعة، فلابد من أن يكون لتقديم المعطوف عليه على المعطوف وجه يسوّغه، وإلا كان لغوا، ولهذا ضعف، زيد قائم وعمرو باع داره، إذ لا علقة بين هاتين الجملتين تكون سببا لعطف إحداهما على الأخرى، ولهذا عيب على أبى تمام قوله: لا والّذى هو عالم أنّ النّوى ... صبر وأنّ أبا الحسين كريم «1» إذ لا مناسبة بين مرارة النوى، وكرم أبى الحسين، فأما الآية فلنشر إلى الأسرار التى لأجلها قدّم بعضها على بعض، فأما تقديم الإبل، فإنما كان ذلك من أجل أن الخطاب للعرب من أهل البلاغة، فمن أجل ذلك كان الاستجلاء على حسب ما يألفونه، وذلك أن العرب أكثر تعويلهم فى معظم تصرفاتهم على المواشى فى المطاعم والمشارب والمراكب، وأعمها نفعا هى الإبل، لأن أكثر المنافع هذه لا تصلح إلا فيها على العموم، مع ما اختصت به من الخلق العظيم والإحكام العجيب، فمن أجل ذلك صدرها بالنظر فيها لذلك، ثم إنه أردفها بذلك النظر فى خلق السموات، ووجه الملائمة بينهما، هو أن قوام هذه الأنعام ومادة المواشى، إنما هو بالرعى وأكل الخلى، وكان ذلك لا يكون إلا بنزول المطر من السماء، مع ما اختصت به من التأليف الباهر والامتداد العظيم، والسعة الكلية، فمن أجل ذلك عقّب بها ذكر الإبل، إشارة إلى ما قلناه، ثم أردف ذلك بذكر النظر فى

الجبال وما تضمنته من العجائب العظيمة من أجل أنهم إذا قعدوا فى البرارى وبطون الأودية، لا يأمنون التخطف لهذه الأنعام والنفوس والأموال، فأشار إليها لما فيها من التحفظ على أموالهم ونفوسهم، بارتفاعها وكونها شوامخ لا يوصل إليها لعلوها وارتفاعها، فعقب بها ذكر السماء، لما أشرنا إليه، ووجه آخر وهو أنها لما كانت فى غاية الارتفاع والسمو أشبهت السماء فى علوها وارتفاعها، فلهذا عقبها بها، ثم أردفها بذكر الأرض، ومنبها على ما لهم فيها من المعاش والاستقرار بأنواع الارتفاقات التى لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى من الأرزاق والثمار والفواكه والمعادن ومجارى العيون والأمواه، وغير ذلك، فأشار الله تعالى إلى هذه العجائب الأربعة، لمّا كانت من أعظم الآيات الباهرة، وقد عددنا هذه فى عطف المفردات نظرا إلى عطف المجرورات بعضها على بعض وكان ما بعدها منفصلا عنها، فهذا هو الذى حسن منه، والأقرب أن يكون من الجمل، لأن ما تقدم من المجرورات هو متعلق بالجمل بعدها، فلهذا كان معدودا من الجمل، الآية الثانية ذكرها فى سورة آل عمران وهى قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14] فانظر إلى عجائب هذه الآية ولطافة معناها فى تقديم بعضها على بعض، فلما كانت الآية مسوقة من أجل تزيين المشتهيات فى أفئدة بنى آدم واستيلائها عليها قدّم ما هو الأدخل فى ذلك، فصدرها بذكر النساء، تنبيها على أن لا مشتهى يغلب على العقول مثلهن على القلوب من توقان النفوس إليهن وعن هذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت أغلب لذوى العقول من النساء، وعن إبليس: ما نصبت فخا أثبت فى نفسى من فخ أنصبه بامرأة، وفى هذا دلالة على استيلائهن على العقول، لأنهن أدخل فى المشتهيات، ثم عقّبه بذكر البنين لما كانوا مما يلى النساء فى الرقة والرحمة والشفقة والحنو، مع المشاكلة فى الخلقة والصورة، ثم أردف ذلك بالأموال الذهبية والفضية، لما يحصل فيها من اللذة والسرور والاطمئنان وانشراح الصدور بها والاستطالة والقوة، كما يحصل بالأبناء، ولكن الأولاد أدخل فرحا وأشد محبة، وأكثر بهم رحمة ورأفة، وقوله: «القناطير المقنطرة» مبالغة فى وصفها، كما

قالوا: إبل مؤبلة، وظلف ظالف، أى شديد، ثم عقب ذلك بذكر الخيل، لما يحصل بها من الجمال والهيئة الحسنة والقوة والاستطالة على الأعداء بالقهر، وأردفها بذكر الأنعام لما يحصل بها من المنافع، وهى دون منافع الخيل، وأتبعها بذكر الحرث، وختم هذه المنافع بذكره، لأن كل واحد من هذه الأشياء على مرتبة فى السبق على قدر حالها فى الجمال والمنفعة، وقد أشار الله تعالى إلى ترتيبها كما سردها، تنبيها على أن ما تقدم منها فهو أحق من غيره، لاختصاصه بما اختص به، ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على درجات الفصل وأغفلنا ذكر ما يتعلق بهاتين الآيتين من العلوم المعنوية والعلوم البيانية، وما يليق بهما من علم البديع، ميلا إلى الاختصار، وهذا من مغاصات بحار التنزيل المحصّلة لخالص عقيانه، وأسماط عقوده المؤلفة من درره وحصيد مرجانه، وقد استخرجها النقاد والغاصة، واستولوا على لباب تلك الأسرار. وأحاطوا منها بالخلاصة.

الضرب الثانى فى بيان عطف الجمل بعضها على بعض

الضرب الثانى فى بيان عطف الجمل بعضها على بعض وما هذا حاله فهو كثير الدّور فى كتاب الله تعالى، ولابد أن يكون بينهما نوع ملاءمة لأجله جاز عطف إحداها على الأخرى، كقوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142] وقوله تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) [النساء: 142] ونحو قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] فأما قوله تعالى: إِنَّهُ «1» لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) [الأعراف: 31] فإنما ورد من غير ذكر الواو، لما كان واردا على جهة التعليل، فلهذا لم ترد فيه واو، كقوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ [الأنفال: 13] ومن هذا قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) [الانفطار: 1- 4] فهذه الأمور كلها عطف بعضها على بعض بجامع يجمعها، وهو كونها من أمارات القيامة، ومن هذا قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق: 12- 14] فإنما جاز العطف فى هؤلاء بعضهم على بعض، باعتبار أمر جامع، وهو تكذيب الرسل وجحد ما جاءوا به من المعجزات الظاهرة، فهم وإن اختلفوا وتباينوا فهم متفقون فيما ذكرناه، وهكذا قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] إنما عطف أحدهما على الآخر باعتبار كونهما ضدين، والضد ملازم لضده، فهذا هو الذى سوغ العطف فيهما، ولا تزال فى تصفحك لآى التنزيل، واستهلال أسراره تطلع على فوائد جمة، ونكت غزيرة.

النظر الخامس فى الإيجاز والإطناب والمساواة

النظر الخامس فى الإيجاز والإطناب والمساواة اعلم أن الكلام بالإضافة إلى معناه كالقميص بالإضافة إلى قد من هو له، فربما كان على قدر قدّه من غير زيادة ولا نقصان، وهذا هو المساواة، وتارة يكون زائدا على قده وهذا هو الإطناب، وربما نقص عن قده، وهذا هو الإيجاز، فإذن الكلام لا يخلو عن هذه الأنواع الثلاثة، ونحن نذكرها. النوع الأول الإيجاز وهو فى مصطلح أهل هذه الصناعة عبارة عن تأدية المقصود من الكلام بأقل عبارة متعارف عليها، ثم إنه يأتى على وجهين، أحدهما القصر، وهو الإتيان بلفظ قليل تحته معان جمة، وهذا كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] فإنه قد دلّ على معناه بأوجز عبارة وأخصرها، وقد فاق على ما أثر عن العرب فى معناه من قولهم: «القتل أنفى للقتل» من أوجه، من جهة إيجازه، فإن حروفه عشرة، وما قالوه أربعة عشر حرفا، ومن جهة سلامته عن التكرار، ومن جهة تصريحه بالمقصود، وهو لفظ الحياة، ومن جهة بلاغة معناه، فإن تنكير الحياة أعظم جزالة، وأبلغ فخامة، وغير ذلك من الأوجه التى تميز بها عن غيره، وكقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] فهذا كلام مختصر وجيز دال على معناه بحيث لا يدرك إيجازه، ولا ينال كنهه، ومنه قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 7- 8] وثانيهما إيجاز بالحذف، ومثاله قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [يوسف: 82] فإن الغرض أهل القرية، ويتبع فى ذلك الأمور المحذوفة من حذف علة، أو جواب شرط، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] المعنى لتنفد كلمات الله ما نفدت، ومنه قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: 31] التقدير لكان هذا القرآن، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27] التقدير فيه لشاهدوا ما تقصر العبارة عن كنهه، أو لتحسّروا وانقطعت أفئدتهم، لأن المقام مقام تهويل، فلا بد من تقديره كما ترى، وكقوله تعالى:

النوع الثانى الإطناب

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) [يس: 45] التقدير فيه أعرضوا عن استماعه ونكصوا عن قبوله، ويدل عليه ما بعده، ومن أراد الاطلاع على حقيقة البلاغة من الإيجاز بالحذف، فعليه بتلاوة سورة يوسف، فإنه يجد هناك ما فيه شفاء لكل علة، وبلال لكل غلّة. النوع الثانى الإطناب وهو تأدية المقصود من الكلام بأكثر من عبارة متعارف عليها، ثم إنه يأتى على أوجه ثلاثة، أولها أن يكون مجيئه على جهة التفصيل، ومثاله قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 136] فهذا وما شاكله فيه تفصيل بالغ وتعديد لمن يجب الإيمان به من الأنبياء، وما أوتوا من الكتب المنزلة على أتم وجه وأبلغه، ولو آثر إيجازه لقال: قولوا آمنا بالله وبجميع رسله وما أوتوا، لكنه بسطه على هذا البسط العجيب، لما فيه من وفائه بالإيمان بالله وبرسله وما اشتمل عليه من ذكر هذه الزوائد المؤكدة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) [البقرة: 164] فلينظر الناظر، وليحكّ قريحته بالتأمل البالغ فيما اشتملت عليه هذه الآية الباهرة من شرح عجائب هذه المخلوقات، واختلاف أنواع المكونات، وترتيبها على هذه الهيئة التى تعجز عن إدراكها القوى البشرية، فقد نزلها على مراتب ثلاث. المرتبة الأولى الإشارة إلى المكونات السماوية وما اشتملت عليه من عجائب الملكوت وإتقان الصنعة، وبديع الحكمة فى تكوينها ورفعها، وما فيها من المخلوقات العظيمة فى أطباقها من أصناف الملائكة وحشوها بهم فى أرجائها، مع ما اختصوا به من عظم الخلق ونيل الزلفى والقرب إلى الله تعالى، وأنه لا خلق أعظم ولا أرفع منزلة عند الله تعالى منهم، لما خصهم به من امتثال أمره والاعتراف بعظمته. المرتبة الثانية الإشارة إلى المكونات الأرضية وما اشتملت عليه من الاختصاص بمنافع الخلق من

المرتبة الثالثة الإشارة إلى المكونات الحاصلة بين السماء والأرض

أنواع الحيوانات والنبات والفواكه والأشجار والمعادن، وأنها صارت موضعا ومستقرا لهم يتقلبون فى منافعهم ودفع مضارهم عليها، وسهل لهم من سلوك مناكبها فى البر والبحر. المرتبة الثالثة الإشارة إلى المكونات الحاصلة بين السماء والأرض من نزول الأمطار لإحياء الأرض ونمو الثمار والزروع وتصريف الرياح فى مهابّها للمصالح الأرضية كلها، واختلاف الليل والنهار وما ناط بالسماء من هذه الكواكب النيرة، الشمس والقمر والنجوم، وجعلها إعلاما للخلق، واهتداء إلى مصالحهم، وما بث فيها من الحيوانات العظيمة على اختلاف أجناسها وأنواعها، فقد أشار إلى ما ذكرناه من هذه التفاصيل فى هذه الآية على أتم نظام وأعجب سياق، ولو آثر الإيجاز على ذلك لقال تعالى (إنّ فى خلق المكونات لآيات للعقلاء) وثانيها مجيئه على جهة التتميم ومثاله قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] فقوله: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى إطناب على جهة التتميم لما قبله، ومنه قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] فذكره لهما إطناب على جهة التتميم لما سبق، وقوله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) [طه: 25- 26] فإنما كرر ذكر الجار والمجرور فى قوله «لى» إطنابا على جهة التتمة والتكملة لما قبله، وثالثها مجيئه على جهة التذييل، ومعناه تعقيب جملة بجملة توكيدا لمعنى الأولى وإيضاحا لها، ومثاله قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) [الإسراء: 81] فقوله: إن الباطل كان زهوقا، خارج مخرج المثل تقريرا لما سلف من ذكر الجملتين قبله، وقوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي «1» إِلَّا الْكَفُورَ (17) [سبأ: 17] فقوله: وَهَلْ نُجازِي وارد على جهة الإطناب، تذييلا لما قبله من الجملة على جهة الإيضاح، وهكذا يكون ورود الإطناب فى شرح حقائق الوعد لأهل الجنة، والوعيد لأهل النار بذكر ما يليق بكل واحد منهما من الأوصاف، وإذا أمعنت فيه فكرتك، وجدته كما شرحت لك من الإطناب الطويل والشرح الكثير.

النوع الثالث المساواة

النوع الثالث المساواة هى فى مصطلح فرسان البيان عبارة عن تأدية المقصود بمقدار معناه من غير زيادة فيه ولا نقصان عنه، ثم إنها جارية على وجهين، أحدهما أن يكون مساواة مع الاختصار، وهذا نحو أن يتحرى البليغ فى تأدية معنى كلامه أوجز ما يكون من الألفاظ القليلة الأحرف، والكثيرة المعانى، التى يتعسر تحصيلها على من دونه فى البلاغة، ومن هذا قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [الرحمن: 60] وقوله تعالى: وَهَلْ نُجازِي «1» إِلَّا الْكَفُورَ (17) [سبأ: 17] فهذه أحرف قليلة تحتها فوائد غزيرة، ونكت كثيرة، فهذا نوع من المساواة، وثانيهما أن يكون المقصود المساواة من غير تحرّ ولا طلب اختصار، ويسمى «المتعارف» والوجهان محمودان فى البلاغة جميعا، خلا أن الأول أدل على البلاغة وأقوى على تحصيل المراد، ولهذا فإنك ترى أهل البلاغة متفاوتين فى ذلك، فأعظمهم قدرا فيها من كان يمكنه تأدية مقصوده فى أخصر لفظ وأقله، وهذا لا يكون إلا لمن كان له موقع فيها بحيث يمكنه التقصير والاختصار فى لفظ قليل، ولنقتصر على هذا القدر من العلوم المعنوية، ففيه كفاية للمطلوب، فأما التقديم، والتأخير، والتعريف، والتنكير، والإظهار، والإضمار، فى المسند والمسند إليه، فهو وإن كان جزءا من العلوم المعنوية، لكنا قد أوردناه فى الإسناد، وذكرنا هذه الأحوال، وأظهرنا التفرقة بينها، وقررنا الوجه الذى لأجله جىء بها، فلهذا كان ذكرها هناك مغنيا عن الإعادة والله أعلم.

القسم الثانى ما يتعلق بالعلوم البيانية

القسم الثانى ما يتعلق بالعلوم البيانية وهو فى مصطلح أرباب هذه الصناعة، عبارة عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة بالزيادة فى وضوح الدلالة وبالنقصان عنها، ومثاله أنك إذا أردت أن تحكى عن زيد بأنه شجاع، فبالطريق اللغوية أن تقول: زيد شجاع يشبه الأسد فى شجاعته، وإذا أردت الإتيان بهذا المعنى على طريق البلاغة، فإنك تقول فيه: رأيت الأسد وكأن زيدا الأسد، فالأول هو الاستعارة، والثانى على طريق التشبيه، فعلم البيان إنما يكون متناولا للدلالة الثانية، لأن فيها تحصيل الزيادة والنقصان فى المعنى المقصود، وفائدته الاحتراز عن الخطأ فى مطابقة الكلام لتمام المراد منه، فصارت الدلائل ثلاثا، دلالة المطابقة، وهى الدلالة اللغوية، كدلالة لفظ الإنسان والفرس على هاتين الحقيقتين المخصوصتين، وهى دلالة لغوية تختلف باختلاف الاصطلاحات والأوضاع، ودلالة الالتزام، وهى التى تدل على أمر خارج غير المسمى، ومثاله دلالة لفظ الفرس، والإنسان، على ما يكون لازما لهما عقلا، نحو الكون فى الجهة والحصول فى الأماكن، فهذه دلالة التزامية لأنه لا ينفك عما ذكرناه، ودلالة التضمن، وهى الدلالة على جزء من أجزائه، كدلالة الفرس والإنسان على أجزائهما. واعلم أن المقصود الأعظم من هذه القاعدة هو بيان أن القرآن قد نزل فى أعلى طبقات الفصاحة، وأن كل كلام غيره وإن بلغ كل غاية فى البلاغة، فإنه لا يدانيه، ولا يماثله وأن الثقلين من الجن والإنس لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، أو بآية، ما قدروا، كما حكى الله تعالى من تصديق هذه المقالة بقوله تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88] وقد حصل عجز الخلق عن الإتيان بمثله قطعا كما سنقرره بعد هذا بمشيئة الله تعالى، سواء أكان العجز بالإضافة إلى ما تضمنه من علوم المعانى، أم كان العجز بالإضافة إلى ما تضمنه من علوم البيان، وقد مر الكلام على ما تضمنه من علوم المعانى، والذى نذكره ههنا هو ما تضمّنه من علوم البيان، فنذكر ما تضمنه من التشبيه، ثم نردفه

بما تضمنه من الاستعارة، ثم نذكر على إثره ما تضمنه من الكناية، ثم نذكر التمثيل، ونختم الكلام فيه بالأسرار التى تضمنها من الحقائق والمجازات، وقد أشرنا فى أول الكتاب إلى حقائق هذه الأشياء فى تقرير قواعدها، والذى نشير إليه ههنا هو أنه قد فاق فى هذه المعانى على غيره، وأن شيئا من الكلام المتقدم لا يدانيه ولا يقاربه فيها، ليحصل الناظر من ذلك على كونه قد بلغ الغاية بحيث لا غاية فوقه، وأنه فائت لكلام أهل البلاغة فى جميع أحواله.

النظر الأول فى التشبيه

النظر الأول فى التشبيه يتحصل المقصود منه بأن نرسم الكلام فى أربعة أطراف. الطرف الأول فى بيان آلاته وهى الكاف، وكأنّ ومثل، فالكاف فى نحو قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) [الفيل: 5] ونحو قوله تعالى: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إبراهيم: 18] وقوله تعالى: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ [يونس: 24] . وأما «كأن» فكقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 58] وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) [الصافات: 49] . وأما «مثل» فكقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً [البقرة: 17] وقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ [يونس: 24] وقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] فحاصل الأمر أن التشبيه بالإضافة إلى آلته، يرد على وجهين، أحدهما أن يكون واردا على جهة الإنشاء، كقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) وغير ذلك، والغرض بكونه إنشاء، أنه لا يحتمل صدقا ولا كذبا، وثانيهما أن يكون واردا على جهة الإخبار، كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف: 176] إلى غير ذلك مما يكون واردا على طريقة الإخبار، وهما مستويان فى الإفادة لمقصود التشبيه وإن اختلفا فيما ذكرته. الطرف الثانى فى بيان الغرض من التشبيه اعلم أن الغرض من حال التشبيه أن يكون المشبه به أعظم حالا من المشبه فى كل أحواله، وقد يأتى على العكس كقول من قال: وبدا الصّباح كأنّ غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح «1» فبالغ حتى جعل المشبه أعلى حالا من المشبه به، فى الوضوح والجلاء، لأن الغالب فى

العادة هو تشبيه بياض الوجه بغرة الفجر، فأما ههنا فعلى العكس من ذلك، وقد يرد لأغراض كثيرة، أولها التقرير والتمكين فى النفس، كمن يراه يسعى فى أمر لا طائل فيه ولا ثمرة له، فيقال له: ما سعيك فى هذا الأمر إلا كمن يرقم على الماء ويخطّ على الهواء، فيترك الأمر لعدم فائدته وبطلان جدواه، وثانيها أن يكون المقصود بيان جنس المشبه، إما فى علو نفسه، كتشبيه بعض الأشخاص بالملائكة، لطهارة نفسه وعفة أثوابه قال: فلست لإنسىّ ولكن لملأك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب «1» وإما فى نزول همته، كتشبيه بعض الأشخاص بالسباع، كما شبه الله المنافقين فى ذهابهم عن الدين، وضعف أفهامهم عن قبول الحق بقوله: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) [المدثر: 50- 51] فمثل حالهم فى نفارهم عن الحق وبعدهم عن قبوله، كمثل حمير الوحش عند نفارها ودهشها وقلقها، برؤية بعض الآساد، فما تتمالك فى الهرب، ولا ترعوى عند رؤيته، وتركب الصعب والذّلول، وهكذا حال اليهود، فإنه تعالى مثلهم فيما حملوا من أحكام التوراة ثم أعرضوا عنها وتركوها وراء ظهورهم، بحمار يحمل كتبا كثيرة فوق ظهره، لا يدرى ما اشتملت عليه من أنواع الهداية، فهكذا حال اليهود يتلون التوراة وهم أبعد الناس عن العمل بها، وعن المواظبة على ما تضمنته من الأوامر والنواهى، وثالثها ضعف الإيمان ورقته وتلاشى أمره، وعدم الثبوت عليه، وأنه يضمحل عن القلوب بأدنى شىء، كما ضربه الله مثلا لمن هذه حاله فى ضعف إيمانه، وأنه على غير قرار من أمره فيه، وأنه على شرف الانقلاب إلى الكفر، بغزل العنكبوت وبيتها، فإنه من أضعف الأشياء قواما، وأرقها حالة، يتغير بقوة الريح، فضلا عما وراء ذلك من الأمور الصلبة التى تقاربه، فهكذا حال من لا وثاقة له فى الدين، فإنه عن قريب ينكص على عقبيه، ورابعها التلاشى فى البطلان، كما قال الله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة: 264] وضربه الله تعالى مثلا لبطلان أعمال الكفرة وأنه لا فائدة فيما عملوه ولا جدوى له، بالتراب الدقيق الواقع على حجر صلد أملس، فيصيبه المطر، فإنه أسرع شىء فى الذهاب، وأبطل ما يكون عند وقوع الماء عليه، فهكذا حال الكفر، فإنه إذا صادف الأعمال من غير قرار على الإيمان، فإنه يبطلها ويذهبها لا محالة، وخامسها قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ

الطرف الثالث فى كيفية التشبيه

السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: 19] فالغرض مما ذكره من التشبيه، هو تشبيه حال الكفار فيما هم فيه من الكفر، والتمادى على الجحود، والإصرار، بمن أصابته هذه الأمور الهائلة، فهو على قلق وخوف وإشفاق على نفسه مع الغم والألم مما يلاقى من هذه الأشياء النازلة به، فهكذا حال الكفار فيما وقعوا فيه من ظلم الكفر وحيرته، لا يأمنون مما يقع عليهم من الحوائج العظيمة، والإيلامات المهلكة، فهكذا ترى جميع التشبيهات الواقعة فى التنزيل، فإن لها مقاصد عظيمة، ومضمّنة لأغراض دقيقة يعقلها من ظفر فى هذه الصناعة بأوفر حظ وكان له فيها أدنى ذوق، وحام حول تلك الدقائق بذهن صاف عن كدور البلادة، فعن قريب يحصل على البغية بلطف الله تعالى وحسن توفيقه. الطرف الثالث فى كيفية التشبيه وهو فى وروده يكون على أوجه أربعة، أولها أن يكونا- أعنى المشبه والمشبه به جميعا- مدركين بالحسّ، وهذا نحو تشبيه الخدّ بالورد، والشعر الفاحم بالليل، ومن هذا قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 58] وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) [الصافات: 49] . وغير ذلك مما يكون طريقه الحس والمشاهدة، وهو أجلى ما يكون من التشبيهات، لقوته وظهور طريقه، وثانيها أن يكونا جميعا عقليين من غير إحساس، كالعلم بالحياة، فيشبه العلم بالحياة لما فيه من النفع فى الآخرة، ويشبه الجهل بالموت، لما فيه من خمول الذكر، وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: 122] فالإحياء، والإماتة، هنا مجاز فى العلم والجهل، وأن المقصود من الآية، تفاوت ما بين الحالتين، بين من أحياه الله تعالى بالعلم، وبين من أماته الله تعالى بالجهل، كما أن من كان فى الظلمة ليس حاله كحال من هو فى النور، يتصرف ويتقلب، وثالثها أن يكون أحدهما حسيا، والآخر عقليا، كالمنيّة بالسّبع، فالمنية ههنا هى المشبهة وهى عقلية، بالسّبع، وهو حسى، قال: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع «1» ورابعها أن يكون المشبه حسيّا والمشبة به عقليا كالعطر بخلق الكريم ومنه قوله تعالى: أَوْ

الطرف الرابع فى حكم التشبيه

كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ [النور: 40] فشبه حال الكفرة فيما هم فيه من الكفر والجحود والإصرار والتمادى على الباطل، بظلمات بعضها فوق بعض فلا يدرك لها حالة فى النور ولا يهتدى إليه. الطرف الرابع فى حكم التشبيه وربما كان قريبا، وربما كان بعيدا، وتارة يكون واضحا، ومرة يكون خفيا، وربما كان غريبا وحشيا، وربما كان مألوفا، وقد قررنا أمثلة البعيد والقريب، والواضح الجلى، فى قاعدة التشبيه فى صدر هذا الكتاب فأغنى عن تكريره، واعلم أن جميع التشبيهات الواردة فى كتاب الله تعالى خالية عن هذه الشوائب كلها، أعنى الغرابة والبعد فى مفرداتها ومركباتها لا يعترضها شىء من هذه العوارض فى التشبيهات الواردة فى غيرها، والحمد لله. فأما المفردة فهى كل ما كان التشبيه فيها حاصلا باعتبار صورة بصورة، أو معنى بمعنى من غير زيادة، وهذا كقوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) [الرحمن: 37] فشبه السماء يوم القيمة بالدهان، وهو الجلد الأحمر ونحو قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ [النمل: 10] فشبه العصا بالجان لا غير، من غير زيادة وهى كثيرة فى القرآن، أعنى التشبيهات المفردة، وهى فى ورودها على جهة القرب فى تشبيهها غير بعيدة ومألوفة غير مستنكرة، قد حازت من اللطافة والرقة ما لا يخفى حاله على ناظر، ومثال البعيد تشبيه الفحم إذا كان فيه جمر، ببحر من مسك موجه ذهب، ونحو تشبيه الدم بنهر من ياقوت، فما هذا حاله يصعب وجوده إلا على جهة التصور، ومثال الخفى تشبيه الأمور المحسوسة بالمعانى، كما شبّهت النجوم فى الظلام بالسنن خالطتهن البدعة، فما هذا حاله من التشبيهات خال عن تشبيهات القرآن العظيم وبمعزل عنها كما قلناه. «وأما» المركبة فكقوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم: 26] وقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: 171] وقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] وحاصل المركبة أنها فى مقصود التشبيه، تشبيه أمرين بأمرين، أو أكثر، إلى غير ذلك من التركيبات، ومن تشبيه المفرد بالمركب قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ [النور: 35] فشبه النور المفرد بالمشكاة المركبة من هذه الأجزاء والأوصاف، فأما تشبيه المركب بالمفرد فلم أجد فى القرآن مثالا له، وما ذاك إلا

النظر الثانى من علوم البيان فى الاستعارة

لقلتّه وغرابته، وهو موجود فى الشعر على جهة الندرة، فقد حصل لك مما ذكرنا أن التشبيهات الواردة فى القرآن جامعة للأوصاف التامة المعتبرة فى البلاغة ليس فيها غرابة ولا بعد عن المألوف، والله أعلم بالصواب. النظر الثانى من علوم البيان فى الاستعارة اعلم أن الاستعارة من أشرف ما يعد فى القواعد المجازية، وأرسخها عرقا فيه، ولا خلاف بين علماء البيان فى كونها معدودة من المعانى المجازية، وإنما الخلاف إنما وقع فى قاعدة التشبيه، هل يعد من المجاز أولا، وفيه خلاف قد شرحناه، وأظهرنا وجه الحق فى ذلك، فأغنى عن تكريره، وقد أشرنا إلى بدائع أسراره من قبل، والذى نذكر ههنا هو كيفية وقوعها فى التنزيل، وهى واقعة على أضرب أربعة. الضرب الأول منها استعارة المحسوس للمحسوس وهذا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فالمستعار هو النار، والمستعار له، هو الشيب بواسطة الانبساط والإسراع فالطرفان محسوسان كما ترى، والجامع بينهما محسوس، ولكنه فى النار أظهر، ويلحق بهذا الضرب قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) [الذاريات: 41] فالمستعار له هو الريح، والمستعار منه هو المرأة، والجامع بينهما عدم الإنتاج وظهور الأثر، فالطرفان ههنا حسيان، لكن الجامع بينهما أمر عقلى، بخلاف الأولى، فإن الجامع أمر حسى كما أوضحناه، ومن هذا قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] فالمستعار له هو ظهور النهار من الليل وظلمته، والمستعار منه هو ظهور المسلوخ من جلده، فالطرفان حسيان كما ترى، والجامع بينهما ما يعقل من ترتيب أحدهما على الآخر، ومنه قوله تعالى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [يونس: 24] فالمستعار له هو الأرض المتزخرفة المتزينة بالنبات، والمستعار منه هو نباتها، وهما حسيان، والجامع بينهما الهلاك، وهو أمر معقول غير محسوس، ومن هذا قوله تعالى: حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) [الأنبياء: 15] فأصل الخمود للنار، فالمستعار منه هو للنار، والمستعار له هو القوم المهلكون، والجامع بينهما هو الهلاك، ونحو قوله تعالى:

الضرب الثانى استعارة معقول من معقول بواسطة أمر معقول

وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] فالمستعار منه هو الطائر، والمستعار له هو الولد، والجامع بينهما هو لين العريكة وانحطاط الجانب، وهو معقول غير محسوس، ومن هذا قوله تعالى: إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) [الذاريات: 42] والرميم هو العظم البالى، استعير للإهلاك، والأمثلة فى التنزيل أكثر من أن تحصى بجانب الاستعارة. الضرب الثانى استعارة معقول من معقول بواسطة أمر معقول وهذا كقوله تعالى: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] فالمستعار هو الرقاد، والمستعار له هو الموت، والجامع بينهما هو سكون الأطراف وبطلان الحركة، وهكذا قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف: 154] فوصف الغضب بالسكوت على جهة الاستعارة، فالمستعار هو السكوت، والمستعار له هو الغضب، والجامع بينهما هو زوال الغضب، كما أن السكوت زوال الكلام، وهذه كلها أمور عقلية، ومن هذا قوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 8] فالتّميز ههنا هو شدة الغضب، فالمستعار منه هو حالة الإنسان عند غضبه، استعيرت للنار عند شدة تلهبها، والجامع بينهما هو الحالة المتوهّمة عند شدة الغيظ، فهى مستعارة للنار، اللهم أجرنا منها برحمتك الواسعة. ومن هذا قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان: 23] ففيه استعارتان، الأولى فيهما قوله تعالى: وَقَدِمْنا فإنما يستعمل فى حق الغائب، فاستعير لعرض أعمال الكفار على الله تعالى، والجامع بينهما أمر معقول، وهو تصييرها إلى البطلان والتلاشى، والثانية قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) والهباء حقيقته، الغبار الثائر من الأرض عند دخول الشمس من الكوة، وهو مستعار للأعمال الباطلة، والجامع بينهما هو التلاشى والبطلان، وهذان المثالان حسيان، لكنا إنما أوردناهما فى هذا الضرب وإن كان استعارة المعقول من المعقول، لما كان الجامع بينهما أمرا معقولا كما ترى. الضرب الثالث استعارة المحسوس للمعقول ومثاله قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء: 18] والغرض من هذا

الضرب الرابع استعارة المعقول للمحسوس

إثبات الصفات المحسوسة للأمور المعقولة على جهة الاستعارة، وبيانه هو أن القذف والدمغ من صفات الأجسام، يقال دمغه إذا هاض قحف رأسه، وقذفه بالحجر، إذا رماه به، وقد استعير ههنا للحق والباطل، والجامع بينهما هو الإعدام والذهاب، ومن هذا قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] والصدع من صفات الأجسام، يقال انصدع الإبريق والقارورة، وقد استعير ههنا لوضوح أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من الحق وإظهار النبوة، والجامع بينهما هو التفرقة بين الحق والباطل وإزالة التباس أحدهما بالآخر، ومن هذا قوله تعالى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [البقرة: 214] فالزلزلة حقيقتها هى الاضطراب فى الأجسام، وقد استعيرت ههنا للفشل والاضطراب فى الأحوال، والجامع بينهما هو تغير الأحوال، وهكذا قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران: 187] فحقيقة النبذ إنما يكون مستعملا فى طرح الشىء من أعلى إلى أسفل، ثم استعمل مجازا على جهة الاستعارة فى إلقاء ما حملوه من التكاليف عن أنفسهم بترك الامتثال، والجامع بينهما هو الإعراض عما ألزموا به من تلك الأمور كلها، إلى غير ذلك من الاستعارات الرائقة من محسوس بمعقول. الضرب الرابع استعارة المعقول للمحسوس ومثاله قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) [الحاقة: 11] فالطغيان هو التكبر والاستعلاء بغير حق وهما أمران معقولان، ثم استعير الطغيان للماء، وهو محسوس، والجامع بينهما هو الخروج عن الحد فى الاستعلاء على جهة الإضرار، ومن هذا قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) [الحاقة: 6] فالعتو هو التكبر، وهو من الأمور المعقولة، استعير ههنا للريح، وهى محسوسة، والجامع بينهما هو الإضرار الخارج عن حد العادة، ولنقتصر على هذا القدر من لطيف الاستعارة ففيه كفاية لما أردناه ههنا.

النظر الثالث من علوم البيان فى أسرار الكناية

النظر الثالث من علوم البيان فى أسرار الكناية اعلم أن الكناية فى لسان علماء البيان ما عوّل عليه الشيخ عبد القاهر الجرجانى، وحاصل ما قاله هو أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعانى، فلا يذكر باللفظ الموضوع له بل يأتى بتاليه، فيومىء به إليه ويجعله دليلا عليه، وتلخيص ما قاله هو اللفظ الدال على ما أريد به بالحقيقة والمجاز جميعا، ومثاله قولهم: فلان كثير رماد القدر، فإن هذا الكلام عند إطلاقه قد دل على حقيقته ومجازه معا، فإنه دال على كثرة الرماد، وهو حقيقته، وقد دل على كثرة الضّيفان، وهذا مجازه، وهذا يخالف الاستعارة، فإنك إذا قلت: جاءنى الأسد، وأنت تريد الإنسان، فإنه دال على المجاز لا غير، والحقيقة متروكة، وهذه هى التفرقة بين الكناية والاستعارة، والتفرقة بين التعريض والكناية، هو أن الكناية دالة على ما تدل عليه بجهة الحقيقة والمجاز جميعا، بخلاف التعريض، فإنه غير دالّ على ما يدل عليه حقيقة ولا مجازا، وإنما يدل عليه بالقرينة، فافترقا، وأمثلة الكناية كثيرة فى كتاب الله تعالى ولكنا نقتصر منها على قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12] فهذه الآية الكريمة قد اشتملت على أسرار فى الكناية قد أشرنا إليها ورمزنا إلى مقاصدها فى قاعدة الكناية من الكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] فهو دال على ما وضع له فى أصله من إفادته لحقيقة الأكل، ولكنه مقصود به قضاء الحاجة، وهو مجاز فى حقه، فلهذا قلنا بأن الكناية دالة على حقيقة الكلام ومجازه، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [الأحزاب: 27] فقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها كما يحتمل الحقيقة وهى الأرض المنبتة فهو يحتمل أن يراد به المجاز، وهو الفروج التى ملكهم إيّاها بالاسترقاق، فلهذا أحل الوطء، ويصدق هذه الكناية قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] فأما التعريض فهو كما أشرنا إليه دال بالقرينة وليس دالا على حقيقة ولا مجاز، وهذا كقوله تعالى فى قصة إبراهيم عليه السلام: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) [الأنبياء: 62- 63] فهذه الآية إنما وردت كناية وتعريضا بحالهم، وتهكما واستهزاء بعقولهم، ولم يرد إسناد

الفعل إلى كبيرهم فذلك مستحيل لكونه جمادا، ولكنه أراد التسفيه لحلومهم، والاستضعاف لعقولهم، كأنه قال: يا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يسمع ولا يعقل ولا يجيب سؤالا ولا يحير جوابا، وتجعلونه شريكا لخالق السماء والأرض فى العبادة، فإن كان كما تزعمون فهو إنما فعله كبيرهم فاسألوهم إن كانوا ينطقون، ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج: 73- 74] فهذه الآية إنما وردت على جهة التعريض بحال الكفار من عبدة الأوثان والأصنام، وأن من هذا حاله فى الضعف والهوان والعجز كيف يستحق أن يكون معبودا، وأن توجه إليه العبادة، وهو لا يستنقذ شيئا من أضعف الحيوانات، ولا يقدر على دفعه لو أراد به سوءا، فهذه فى دلالتها على ما تدل عليه لم تبق عليهم فى النعى شيئا، ولا تركت عليهم بقية فى نقص عقولهم، والازدراء بأحلامهم، والتسفيه لما هم عليه من ذلك، فصدر الآية بما هو المقصود على جهة التأكيد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف: 194] ولم يقل إن هذه الأوثان، تقريرا بالصلة والموصول لما هم عليه من اتخاذهم شركاء، واسم الأوثان والأصنام لا يؤدى هذا المعنى، ثم عقبها بالنفى على جهة التأكيد بلن فى المستقبل بقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً دلالة على العجز وإظهارا فى أن من هذا حاله فلا يستحق أن يكون معبودا، ولا يستأهل الشركة فى الإلهية، ثم بالغ فى استحالة الخلق منهم للذباب بقوله تعالى: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ لأن بالأجتماع تكون المظاهرة حاصلة، فإذا كان الإياس من خلقه مع الاجتماع، فهو مع الانفراد أحق لا محالة، ثم أكد ذلك بقوله: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ يشير بذلك إلى أنهم عاجزون عن خلق الذباب وتدبيره نهاية العجز، ويدل على ذلك أنهم لو أخذ منهم الذباب شيئا على جهة السلب والاستيلاء ما قدروا على أخذه والانتصار منه، وهذا هو النهاية فى تقاصر الهمم وحقارتها وأنهم فى الحقيقة جامعون بين خصلتين، كل واحدة منهما كافية فى العجز، فضلا عن اجتماعهما، إحداهما عدم القدرة على خلق الذباب، والثانية عدم الانتصار منه إذا رام أخذ شىء منهم، وخلاصة هذا الكلام وغايته، أنه يستحيل عليهم بإدخال النقص فى حلومهم وضلالهم عن الحق فيما جاءوا من عبادة هذه الأصنام، أن أذل المخلوقات وأحقرها وأضعفها حالة، وأصغرها حجما، يقهرها ويسلبها ويأخذ

متاعها لا تنتصر منه، وأدخل من هذا فى العجز أنه قادر على سلبهم فلا يمتنعون منه، ثم قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) [الحج: 73] فعقّب هذه الآية دلالة على الاستواء فى الضعف بالإضافة إلى جلال الله تعالى وعظم قدرته وأن الكل، من الذباب والأصنام ضعيفة حقيرة بل لا متنع أن يكون الذباب أتم خلقا لكونه حيوانا قادرا، والأصنام جمادا لا حراك بها، ولا شك أن خلق الحيوان أتم من خلق الجماد وأكمل حالة، وحكى عن ابن عباس: أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، ويضعون على رءوسها العسل، فيأتى الذباب فيقع على رءوسها من الكوى فلا تنتصر منه، ثم قال: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج: 74] فى ادعاء الشركة بينه وبين الأصنام فى استحقاق الإلهية والعبادة، فجعلها ختاما لما قدم من حكاية حالهم فى نهاية الضعف والعجز، ولنقتصر على هذا القدر من التنبيه على ما اشتملت عليه هذه الآية، وتحتها من الأسرار واللطافة ما لو ذكرناه لسودنا أوراقا كثيرة ولم نذكر منه أطرافا.

النظر الرابع من علوم البيان فى ذكر التمثيل

النظر الرابع من علوم البيان فى ذكر التمثيل اعلم أن التمثيل نوع من أنواع البيان. وهو مخالف للتشبيه، فإن التشبيه إنما يكون فى المظهر الأداة، وهذا نوع من الاستعارة، وهو معدود من أنواع المجاز، وإنما قلنا إنه من الاستعارة من جهة أن الاستعارة حاصلة فيه، وإنما تقع التفرقة من جهة أن الوجه الجامع، إن كان منتزعا من عدة أمور فهو التمثيل، وإن كان مأخوذا من أمر واحد فهو الاستعارة، ثم إنه قد يتفاوت فى الحسن، لأنه يستعمل على وجهين: أحدهما أن لا يظهر وجه التشبيه فى الأستعارة، بل يكون تقدير التشبيه فيها عسرا صعبا، فما هذا حاله يعد من أحسن الاستعارة وهذا كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] وقوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 24] فما هذا حاله استعارة لا يظهر فيها وجه التشبيه، فلو أردت التكلّف فى إظهار وجه المشابهة لخرج الكلام عن حد البلاغة، وكلما ازدادت الاستعارة خفاء ازدادت حسنا ورونقا، وهذا هو مجراها الواسع المطّرد، وثانيهما أن يكون هناك مشبه ومشبه به من غير ذكر أداة التشبيه، فما هذا حاله من الاستعارة دون الأول فى الحسن، والتمثيل فى القرآن كقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) [البقرة: 18] فالآية إنما جاءت مسوقة على أن حال هؤلاء الكفار قد بلغوا فى الجهل المفرط والعمى المستحكم فى الإصرار والجحود على ما هم عليه من الكفر والعناد، بمنزلة من هو أصم أبكم أعمى، فلا يهتدى إلى الحق ولا يرعوى عما هو عليه من الباطل، ومنه قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: 23] فحاصل الأمر أن كل من انقاد لهواه، وأعرض عن حكم عقله فى كل أحواله، وصار العقل منقادا فى حكمة الذل موطوءا بقدم الهوى، فإنه ينزل فيما هو فيه منزلة من ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو معرض عما يأتيه من الحق صادف عنه وهكذا قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى

سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] فما هذا حاله معدود فى التمثيل، وتقريره أنهم لما نكصوا عن قبول الحق وأعرضوا عما جاء به الرسول من نور الهدى، صاروا فى حالتهم هذه بمنزلة من ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فمن هذا حاله لا اهتداء له إلى الحق ولا طريق إليه، فهكذا حال التمثيل فى جميع مجاريه يكون مخالفا للتشبيه المظهر الأداة، ومخالفا للاستعارة أيضا، فيكون على ما ذكرناه من أحد نوعى الاستعارة، وهو الذى يكون الوجه الجامع منتزعا من عدة أمور، وإذا وقفت على حقيقة الأمر فيه فلا عليك فى التلقيب، وفيما ذكرناه كفاية فى التنبيه على ما أردنا ذكره من العلوم البيانية مع ما سلف ذكره فى أول الكتاب، والله الموفق للصواب.

القسم الثالث من علوم البلاغة علم البديع

القسم الثالث من علوم البلاغة علم البديع اعلم أن هذا الفن من التصرف فى الكلام مختص بأنواع التركيب، ولا يكون واقعا فى المفردات، وهو خلاصة علمى المعانى والبيان ومصاص سكّرهما، وقد قررنا فيما سبق ماهية الفصاحة والبلاغة. فأغنى عن ذكرهما. وعلم البديع هو تابع للفصاحة والبلاغة، فإذن هو صفو الصفو وخلاص الخلاص، وبيان ذلك هو أن العلوم الأدبية بالإضافة إلى حاجته إليها وترتّبه عليها على خمس مرات، كل واحدة منها أخص من الأخرى، وهو الغاية التى تنتهى إليه كلها إذ «ليس وراء عبّادان قرية» . المرتبة الأولى علم اللغة وهو علم الألفاظ المجردة الموضوعة للدلالة على معانيها المفردة كالإنسان، والفرس، والجدار، وغير ذلك، فإنه لا يستفاد منه إلا ما ذكرناه من المعانى المفردة من غير زيادة عليه. المرتبة الثانية علم التصريف وهو علم جليل القدر من علوم الأدب متعلّقه العلم بتصحيح الألفاظ، وهو أخص من علم اللغة، لأن متعلقه ليس إلا سلامة الألفاظ ومعرفة أصليّها من زائدها وصحيحها من عليلها، وإجراء إعلالها على القوانين المألوفة. المرتبة الثالثة علم الإعراب وهو أخص مما سبقه، لأن ما سبقه من علم اللغة والتصريف، يختصان بالأمور المفردة، وهذا مختص بالكلم المركبة، لأن الإعراب لا يستحق إلا بعد العقد والتركيب، فمن أجل ذلك كان أخص حكما فيهما لما ذكرناه، ومحصوله فائدة التركيب وهو إفادة الكلام. المرتبة الرابعة علم المعانى وهو أخص من علم الإعراب من جهة أن علم الإعراب تحصل فائدته بمطلق التركيب، وعلم المعانى له فائدة وراء ما ذكرناه من التركيب، وهو ما يتعلق بالأمور الخبرية، من تعريفها، وتنكيرها، وتقديمها، وتأخيرها، وفصلها، ووصلها، وبالأمور الطلبية الإنشائية، كالأوامر، والنواهى، والتمنى، والترجى، والدعاء، والنداء، والعرض، فانظر فيها أخص من النظر فى علم الإعراب كما ترى.

المرتبة الخامسة علم البيان

المرتبة الخامسة علم البيان وهو أخص من علم المعانى، لأن حاصل دلالته على ما يدل عليه، ليس من جهة الإنشاء، ولا من جهة الخبر، ولكن من دلالة أخص من ذلك، وهى دلالة اللفظ على معناه، إما بحقيقته، بتشبيه، أو غير تشبيه، وإما من جهة مجازه، إما بطريق الاستعارة، أو بطريق الكناية، أو بطريقة التمثيل كما مر تقريره، وهى التى تكسب الكلام الذوق والحلاوة، والرونق والطلاوة، فى البلاغة والفصاحة، فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن علم البديع حاصله معرفة مقصود بلاغة الكلام وفصاحته، وهذا لا يحصل بتمامه وكماله إلا بإحراز ما سلف من العلوم الأدبية، فهو خلاصتها وصفوها ونقاوتها، وهى وصلة إليه، وأنا الآن أعلو ذروة لا ينال حضيضها فى ضرب مثال لهذه العلوم من الأمثلة الحسنة، يظهر به جوهرها ويروق حسنها، فأقول هذه العلوم الأدبية بمنزلة عقد نفيس مؤلف من الدرر واللآلىء سالمة جواهره من الصدع والانشقاق، مؤلف تأليفا بديعا، فتارة يجعل طوقا فى العنق، وتارة إكليلا على الجبين، وتارة يكون وشاحا على الخصر، موضوعا على شكل يتلاءم تأليفه، فالكلم اللغوية المفردة بمنزلة اللآلىء والدّرر المبددة، وعلم التصريف هو سلامته عن الشقوق والانصداع، وتأليفها هو بمنزلة علم الإعراب، فإذا جعلت طوقا، أو إكليلا، أو قرطا ورعاثا، فهو بمنزلة علم المعانى، فإذا جعل الإكليل على الجبين، وجعل الطوق فى العنق، والقرط فى الأذن، فهو بمنزلة علم البيان، فإذا جعل الإكليل على الجبين مطولا بطوله، والطوق على تدوير العنق، وجعلت على المساحة اللائقة بلبسها، كانت بمنزلة علم البديع، ألا ترى أنه لو وضع الإكليل معترضا على الخد، لم يكن ملائما لحقيقة تأليفه، فكل واحد من هذه العلوم على محلّ ومنزلة فى الحاجة منها، كما فصلته لك كما أن كل واحدة من هذه المزايا فى العقد على حظّ ومرتبة فيه، بحيث لو أخلّ بها، فات الغرض المقصود به، فهذا هو المثال الكاشف عن حال هذا العلم بالإضافة إلى العلوم الأدبية، وهو مطابق لما ذكرت من العقد المؤلف على الحد الذى قررته، فليكن من الناظر تأمّله بعين الإنصاف، فإذا عرفت هذا فلنذكر علم البديع وأسراره، وهى منقسمة إلى ما يكون متعلقا بالفصاحة اللفظية، وإلى ما يكون متعلقا بالفصاحة المعنوية، فهذان طرفان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما من الأمثلة والله تعالى الموفق للصواب.

الطرف الأول فى بيان ما يتعلق بالفصاحة اللفظية

الطرف الأول فى بيان ما يتعلق بالفصاحة اللفظية اعلم أنا إنما جعلنا هذا الطرف متعلقه الفصاحة اللفظية، لما كان أمره وشأنه متعلقا بالألفاظ ومشاكلة الكلم وازدواج الألفاظ، فلأجل هذا جعلناه متعلقا باللفظ، وجملة ما نذكر من ذلك ضروب عشرة. الضرب الأول منها التجنيس وهو على تنوعه عبارة عن اتفاق اللفظين فى وجه من الوجوه مع اختلاف معانيهما، وهو عظيم الموقع فى البلاغة، جليل القدر فى الفصاحة، ولولا ذلك لما أنزل الله كتابه المجيد على هذا الأسلوب، واختاره له كغيره من سائر أساليب الفصاحة، ثم ينقسم إلى كامل، وإلى ناقص، فالكامل هو أن تتفق الكلمتان فى الوزن، والحركات والسكنات، ويقع الاختلاف فى المعانى، ولم يقع فى كتاب الله تعالى تجنيس كامل إلا فى قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] وأما الناقص فأبنيته كثيرة ومضطرباته واسعة، فمنه التجنيس الناقص، وهو أن تكون إحدى الكلمتين مشتملة على لفظ الأخرى مع زيادة، ومثاله قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) [القيامة: 29- 30] فزيادة الميم فى المساق هو الذى أوجب كونه جناسا ناقصا، وهذا يقال له «المذيّل» أيضا، ومنه «المصحّف» وهو أن تتفق الكلمتان خطا لا لفظا، ومثاله قوله تعالى وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) [الكهف: 104] ومنه «المضارع» وهو أن تتفق الكلمتان فى حرف واحد، سواء وقع أولا أو آخرا أو وسطا، ومثاله قوله تعالى وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ [النساء: 83] فقد اتفق الأمر والأمن، فى الهمزة والميم، ومنه «المتوازن» وهو أن تتفق الكلمتان فى الوزن ويختلفا فيما عداه، ومثاله قوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) [الغاشية: 15- 16] ومنه «المعكوس» ومثاله قوله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) [يس: 40] ومعنى العكس فى هذا أنه يقرأ من آخره كما يقرأ من أوله ونحو قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) [المدثر: 3] وقد يجىء العكس على غير هذا فى الكلم فى مثل قولهم: «عادات السادات سادات العادات» ومنه «الاشتقاقى» وهو أن تتفق الكلمتان

الضرب الثانى التسجيع

فى معنى واحد يجمعهما، ومثاله قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ [الروم: 43] وقوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) [الرحمن: 54] وقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] ونحو قوله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: 89] فهذا ما أردنا ذكره من التجنيس. الضرب الثانى التسجيع وهو فى كتاب الله تعالى أكثر من أن يعد ويحصى، وهو فى النثر نظير التقفية فى الشعر، ويرد تارة طويلا، وتارة قصيرا، ومرة على جهة التوسط، فهذه وجوه ثلاثة، أولها القصير، كقوله تعالى فى سورة المدثر: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر: 3- 5] ، إلى آخر الآيات بعد قوله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) [المدثر: 1- 2] وقوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 1- 4] وثانيها الطويل، ومثاله قوله تعالى: فى سورة الملك الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) [الملك: 2- 3] وثالثها أن يكون متوسطا، ومثاله قوله تعالى: يْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) [الغاشية: 6- 7] وقوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) [الغاشية: 17- 18] وأكثر العلماء على حسن استعماله، ولهذا ورد القرآن على استعماله، ومنهم من أنكره، ثم إن الفواصل التى تكون مقررة عليها الآى، أقلّها فاصلتان، ويردان على أوجه ثلاثة، أولها أن تكونا متساويتين فى أنفسهما من غير زيادة ولا نقصان، وهذا كقوله تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) [العاديات: 1- 3] وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى: 9- 10] وثانيها أن تكون الفقرة الثانية أطول من الأولى، ومثاله قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) [الفرقان: 11- 13] فالثانية كما ترى أطول من الأولى، وثالثها عكس هذا، وهو أن تكون الثانية أقصر من الأولى، وهو معيب عند جماهير أهل هذه الصناعة، ولا يكاد يوجد من هذا الضرب شىء فى القرآن، وإنما أكثر وروده على الوجهين الآخرين.

الضرب الثالث لزوم ما لا يلزم

الضرب الثالث لزوم ما لا يلزم ويقال له الإعنات أيضا، وقد ورد فى كتاب الله تعالى، وحاصله أن يلتزم الناثر حرفا مخصوصا مع اتفاق الكلمتين فى الأعجاز، ومثاله قوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [الطور: 1- 2] فالتزم وجود الواو مع التزام الراء فى آخر السجعتين، ونحو قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) [العلق: 1- 2] وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى: 9- 10] وقوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [الواقعة: 28- 29] وهو كما يرد فى النثر، فهو وارد فى النظم، وقد ذكرناه أمثلته فيما تقدم فأغنى عن التكرير. الضرب الرابع رد العجز على الصدر وهو أن يأتى فى آخر الكلام بما يوافق أوله ومثاله قوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] وقوله تعالى: لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) [طه: 61] فهذه أمثلة لرد العجز على الصدر مع الزيادة، وقد يكون الاتفاق على جهة المساواة، كقولهم الحيلة ترك الحيلة، والقتل أنفى للقتل. الضرب الخامس المطابقة ويقال الطباق أيضا، والتضاد، والتكافؤ والمقابلة وحاصله الإتيان بالنقيضين والضدين ومثاله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] فانظر إلى ما تضمنته هذه الآية من المقابلات الحالية، والمتضادات المتكافئة، فالأمر قد اشتمل على ثلاث مقابلات، والنهى قد اشتمل على عكسها وضدها، ثم إن الأمر فى نفسه يقتضى النهى كما ترى، وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] فالأمر يقتضى النهى، والعبادة نقيضها الشرك إلى غير ذلك من التقابل العجيب الذى اشتمل عليه القرآن.

الضرب السادس الترصيع

الضرب السادس الترصيع وهو من علم البديع بمحل ومكان رفيع، ولم يرد فى القرآن شىء منه على علو قدره وظهور بلاغته، وهو قليل نادر لصعوبة الأمر فيه، ولولا ما ورد من اختلاف الجمعين فى الأبرار، والفجار، وفى قوله: لَفِي نَعِيمٍ (13) لكان ترصيعا فى قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) [الانفطار: 13- 14] فإنه لو أبدل الفجار بلفظ يوازن الأبرار وأبدل لفظ فى، لكان ترصيعا، لكن لما ورد هكذا لم يعد ترصيعا، فلو قال مثلا: إن الأبرار لفى نعيم، وإن الأشرار لمن جحيم، لكان ترصيعا، ولكنه جمع الفجار، للكثرة وجمع الأبرار للقلة، فأخرجه عما يرد من الترصيع تنبيها على قلة أهل الإيمان وكثرة أهل الفجور، وقد عرفت مثاله لو ورد على ما قلناه. الضرب السابع اللف والنشر وهو ذكر الشيئين على جهة الاجتماع مطلقين من غير تقييد، ثم يرمى بما يليق بكل واحد منهما اتكالا على قريحة السامع، بأن يلحق بكل واحد منهما ما يستحقه، ومثاله قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] فجمع أولا بين الليل والنهار بواو العطف ثم إنه بعد ذلك أضاف إلى كل واحد منهما ما يليق به، فأضاف السكون إلى الليل، من جهة أن تصرف الخلق يقل ليلا لأجل ما يعتريهم من النوم، ثم قال بعد ذلك: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أضافه إلى النهار، لأن ابتغاء الأرزاق إنما يكون نهارا بالتصرف والاحتيال، واكتفى فى البيان والتفصيل بما يظهر من قرينة الحال فى معرفة حكم كل واحد منهما كما مر بيانه. الضرب الثامن الموازنة وهو اتفاق آخر الفقرتين فى الوزن، وإن لم يتجانسا فى الأحرف، ومثاله قوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) [الصافات: 117- 118] فقوله

الضرب التاسع المقابلة

المستبين، والمستقيم، وزنهما واحد كما ترى، ونحو قوله تعالى: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) [مريم: 81] ثم قال بعد ذلك: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (81) [مريم: 82] فالعز والضد مستويان فى الزنة، وهكذا قوله تعالى: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) [مريم: 83] مع قوله: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) [مريم: 84] وهو كثير الورود فى كتاب الله تعالى. الضرب التاسع المقابلة وحاصلها مقابلة اللفظ بمثله، ثم هى تأتى على وجهين، أحدهما مقابلة المفرد بالمفرد، ومثاله قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) [الرحمن: 60] وقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم: 44] وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وثانيهما مقابلة الجملة بالجملة، ومثاله قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) [آل عمران: 54] وقوله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي [سبأ: 50] فما هذا حاله من المقابلة فى الوجهين جميعا له حظ فى البلاغة، ومقصد عظيم لا يخفى على من له أدنى ذوق مستقيم. الضرب العاشر الترديد وفائدته أن تورد اللفظة لمعنى من المعانى، ثم تردها بعينها وتعلّق بها معنى آخر، ومثاله قوله تعالى: حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ الله أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام: 124] وهو كثير دوره فى المنظوم والمنثور من كلام الفصحاء، وقد يحصل فى مصراع واحد كما قال بعض الشعراء: ليس بما ليس به بأس باس ... ولا يضرّ المرء ما قال الناس «1» فانظر إلى تكرير هذه اللفظة وترديدها، وإفادتها لمعان مختلفة، ولنقتصر على هذا القدر من الفصاحة اللفظية.

الطرف الثانى فى بيان ما يتعلق بالفصاحة المعنوية

الطرف الثانى فى بيان ما يتعلق بالفصاحة المعنوية وإنما أوردنا هذا بيانا للفصاحة المعنوية لما كان متعلّقا بالمعانى دون الألفاظ، وجملة ما نورده من ذلك ضروب عشرة، ففيها كفاية فى غرضنا. الضرب الأول التتميم وهو الإتيان بجملة عقيب كلام متقدم لإفادة التوكيد له والتقرير لمعناه، ومثاله قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وهل يجازى إلا الكفور (17) [سبأ: 17] فقوله: وهل يجازى إنما ورد على جهة التوكيد لما مضى من الكلام الأول، وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34] ثم قال: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) [الأنبياء: 34] فأورده على جهة توكيد الكلام الأول، ثم قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] تأكيدا ثانيا لما سلف من الجملة الأولى والله أعلم بالصواب. الضرب الثانى الائتلاف والملائمة وهو أن يكون اللفظ ملائما للمعنى، فإذا كان الموضع موضعا للوعد والبشارة، كان اللفظ رقيقا ومثاله قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) [التوبة: 21] وقوله تعالى: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) [الصف: 13] فانظر إلى هذه الألفاظ، كيف رقت وكان فيها من السلاسة ما لا يخفى، وإذا كان الموضع موضعا للوعيد والنذارة، وكان اللفظ جزلا، ومثاله قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا [الأنعام: 27] وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) [القصص: 62] فانظر إلى التفاوت بين المقامين فى الجزالة، والرقة، وكل واحد منهما ملائم للمعنى الذى جىء به من أجله، وهكذا تجد ألفاظ القرآن على هذه الصفة، وهذا إنما يدرك بالقريحة الصافية، والذوق السليم.

الضرب الثالث الجمع والتفريق

الضرب الثالث الجمع والتفريق وهما أيضا من أوصاف البلاغة، فأما الجمع فكقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14] وقوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الكهف: 46] فهذه الأمور قد جمعها، وأما التفريق فكقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) [هود: 106] ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ [هود: 108] وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ [آل عمران: 106] وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ [آل عمران: 107] إلى غير ذلك من أفانين الجمع والتفريق، وهما كثيرا الورود فى كتاب الله تعالى. الضرب الرابع التهكم وهو إنما يكون عن شدة الغضب، ومثاله قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) [آل عمران: 21] فالبشارة إنما تورد فى الأمور السارة اللذيذة، وقد أوردها هنا فى عكسها تهكما بهم وغضبا عليهم، ونحو قوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) [هود: 87] فالغرض من مقصودهم إنك السفيه الجاهل، ولكنهم أخرجوه على هذا المخرج تهكما به، وإنزالا لدرجته عندهم، ووروده فى القرآن أكثر من أن يحصى على أفانين مختلفة، وقد أشرنا إليها فيما سبق. الضرب الخامس التسجيل وهو عبارة عن تطويل الكلام لإفادة مدح أو ذم، ومثاله الآيات الواردة فى عبدة الأوثان والأصنام، فإن الله تعالى ما ذكرهم إلا وسجّل عليهم بالنّعى لأفعالهم والذم لمقالتهم، والاستهجان لعقولهم، والإنزال لدرجاتهم، وهذا كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الأعراف: 194] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ

الضرب السادس الإلهاب والتهييج

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ [الحج: 73] فهذا كله مثال فى تسجيل الذم، وأما التسجيل فى المدح، فكالأوصاف التى ذكرها الله وأطنب فى شرحها فى حق أهل الإيمان، كالآيات التى فى فواتح سورة البقرة فى صفة المتقين، والآيات التى فى صدر سورة المؤمنين، فهذا كله معدود فى التسجيل. الضرب السادس الإلهاب والتهييج وهما عبارتان عن الحثّ على الفعل لمن لا يخلو عن الإتيان به، وعلى ترك الفعل لمن لا يتصور منه تركه، ومثاله قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) [الزمر: 65] وقوله تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) [الزمر: 66] ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) [الزمر: 2] وقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم: 30] وقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وقوله تعالى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) [الأنعام: 35] فهذا كله وارد على جهة الحث لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتحذير له عن مواقعة هذه الأفعال. الضرب السابع التلميح وهو عبارة عن الإشارة فى أثناء الكلام إلى الأمثال السائرة، ومثاله قوله تعالى: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف: 176] وقوله: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] فما هذا حاله إذا ورد فى الكلام فإنه يكسبه بلاغة ورشاقة، ويزيده وضوحا ويصير كالشّامة فى بدن الإنسان ويزيده فى الأذهان قبولا ونضارة. الضرب الثامن جودة المطالع والاستفتاحات للكلام اعلم أن ما هذا حاله تتفاوت الناس فيه كثيرا، فإنه إذا كان حسنا كان مفتاحا للبلاغة،

الضرب التاسع التخلص

وديباجة للبراعة، ولهذا فإنك تجد الافتتاحات فى القرآن الكريم على أحسن ما يكون وأبلغه، للملائمة المقصود بالسورة من إيقاظ كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) [المزمل: 1] ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدثر: 1] ، يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1] ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 1] ، وغير ذلك، أو بشارة كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: 1] أو إنذار كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) [الحج: 1] وهكذا جميع السور فإنها دالة على المقصود فى الابتداء. الضرب التاسع التخلص وهو عبارة عن الخروج إلى المقصد المطلوب عقيب ما ذكره من قبل، ومثاله قوله تعالى فى سورة المدثر: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) [المدثر: 1- 2] ثم تخلص بعد ذلك إلى ما هو المقصود بقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) [المدثر: 11] فلما اتعظ الرسول بالأمر بالإنذار، عقبه بالوعيد الشديد للوليد بن المغيرة بقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) إلى آخر الآيات وهكذا فى كل سورة تجده يتخلص إلى المقصود بأعجب خلاص كما قال تعالى فى سورة النور: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور: 1] ثم تخلّص بذكر حكم الزانية والزانى إلى ما هو المقصود بعد ما قدم ما قدمه من ذكر السورة المفروضة المحكمة. الضرب العاشر الاختتامات وهو عبارة عن توخّى المتكلم ختم كلامه بما يشعر بالنجاح والتمام لغرضه، وهذا تجده فى القرآن على أحسن شىء وأعجبه، فإن الله تعالى ختم سورة البقرة، بالدعاء، والإيمان بالله تعالى والتصديق لرسله، وختم سورة آل عمران بالتنبيه على النظر فى المخلوقات والأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة إلى غير ذلك من جميع السور، فإنك تجدها ملائمة، وتجد المطالع والمقاصد والخواتيم كلها مسوقة على أعجب نظام وأكمله، ولنقتصر على هذا القدر من تعريف ما وقع من علم البديع فى كتاب الله تعالى، وقد أشرنا إلى هذه الأساليب فى أول الكتاب بأكثر من هذا وقررناه بالأمثلة، فأغنى عن الإطالة.

خاتمة لما أوردناه فى هذا الفصل

خاتمة لما أوردناه فى هذا الفصل اعلم أن المقصود بما ذكرناه هو بيان أن القرآن فى أعلا طبقات الفصاحة وقد مهّدنا طريقه، وذكرنا أنه حاصل على الوجوه اللائقة بالبلاغة والأسرار المتعلقة بالفصاحة بحيث لا تتصور فى غيره إلا وهى فيه أتم وأخلق، ولا توجد فى غيره إلا وهى فيه أقدم، وأسبق، وما ذاك إلا لأنه لم تصغه أسلات الألسنة، ولا أنضج بنار الفكرة، وإنما هو كلام سماوى ومعجز إلهى، ما زالت رحال الخواطر الذكية معقولة بفنائه لتطّلع على رموزه، وما برحت الأنظار الصافية مأسورة فى رق ملكه لتقع على أدنى جوهر كنوزه، فأبى الله من ذلك إلا ما سمح به للخاصة من أوليائه، والمرموقين بعين المحبة والمودة من أصفيائه، الذين شغلوا أنفسهم، وأتعبوا خواطرهم فى إدراك سرّه وتحقيقه، وتعطشوا لنيل مخزون تلك الأسرار، فسقوا من صفو رحيقه وجهدوا أنفسهم فى إدراكها، وأظمأوا هو اجرهم فى طلبها حتى صاروا أئمة مقصودين، وسادة معدودين: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) [العنكبوت: 69] ونخوض الآن فى الكلام فى إعجاز القرآن بمعونة الله تعالى.

الفصل الثانى فى بيان كون القرآن معجزا

الفصل الثانى فى بيان كون القرآن معجزا اعلم أن الكلام فى هذا الفصل وإن كان خليقا بإيراده فى المباحث الكلامية، والأسرار الإلهية، لكونه مختصا بها ومن أهم قواعدها، لما كان علامة دالة على النبوة وتصديقا لصاحب الشريعة، حيث اختاره الله تعالى بيانا لمعجزته، وعلما دالا على نبوته، وبرهانا على صحة رسالته، لكن لا يخفى تعلّقه بما نحن فيه تعلقا خاصا، والتصاقا ظاهرا، فإن الأخلق بالتحقيق أنا إذا تكلمنا على بلاغة غاية الإعجاز بتضمنه لأفانين البلاغة، فالأحق هو إيضاح ذلك، فنظهر وجه إعجازه، وبيان وجه الإعجاز، وإبراز المطاعن التى للمخالفين، والجواب عنها، والذى يقضى منه العجب، هو حال علماء البيان، وأهل البراعة فيه عن آخرهم، وهو أنهم أغفلوا ذكر هذه الأبواب فى مصنفاتهم بحيث إن واحدا منهم لم يذكره مع ما يظهر فيه من مزيد الاختصاص وعظم العلقة، لأن ما ذكروه من تلك الأسرار المعنوية، واللطائف البيانية من البديع وغيره، إنما كانت وصلة وذريعة إلى بيان السر واللّباب، والغرض المقصود عند ذوى الألباب، إنما هو بيان لطائف الإعجاز، وإدراك دقائقه، واستنهاض عجائبه، فكيف ساغ لهم تركها وأعرضوا عن ذكرها، وذكروا فى آخر مصنفاتهم ما هو بمعزل عنها، كذكر مخارج الحروف وغيرها مما ليس مهمّا، وإنما المهم ما ذكرناه، ثم لو عذرنا من كان منهم ليس له حظ فى المباحث الكلامية، ولا كانت له قدم راسخة فى العلوم الإلهية، وهم الأكثر منهم كالسكاكى، وابن الأثير، صاحب التبيان، وغيرهم ممن برّز فى علوم البيان، وصبغ بها يده، وبلغ فيها جدّه وجهده، فما بال من كان له فيها اليد الطولى، كابن الخطيب الرازى، فإنه أعرض عن ذلك فى كتابه المصنف فى علم البيان، فإنه لم يتعرض لهذه المباحث، ولا شم منها رائحة، ولكنه ذكر فى صدر كتاب النهاية كلاما قليلا فى وجه الإعجاز لا ينقع من غلّة، ولا ينفع من علّة، فإذا تمهد هذا فاعلم أن الذى يدل على إعجاز القرآن مسلكان. المسلك الأول منهما من جهة التحدّى، وتقريره هو أنه عليه السلام تحدّى به العرب الذين هم النهاية فى الفصاحة والبلاغة، والغاية فى الطلاقة والذّلاقة، وهم قد عجزوا عن معارضته، وكلما

كان الأمر فيه كما ذكرناه فهو معجز، وإنما قلنا: إنه عليه السلام تحدّاهم بالقرآن لما تواتر من النقل بذلك فى القرآن، وقد نزلهم الله فى التحدّى على ثلاث مراتب، الأولى بالقرآن كله، فقال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88] الثانية بعشر سور منه كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] الثالثة بسورة واحدة كما قال تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: 23] ثم قال بعد ذلك: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] فنفى القدرة لهم على ذلك بقضية عامة، وأمر حتم لا تردّد فيه، فدلّت هذه الآيات على التحدى، مرة بالقرآن كله، ومرة بعشر سور، ومرة بسورة واحدة، وهذا هو النهاية فى بلوغ التحدى، وهذا كقول الرجل لغيره: هات قوما مثل قومى، هات كنصفهم، هات كربعهم، هات كواحد منهم، وإنما قلنا: إنهم عجزوا عن معارضته لأن دواعيهم متوفّرة على الإتيان بها، لأنه عليه السلام كلف العرب ترك أديانهم، وحطّ رئاستهم، وأوجب عليهم ما يتعب أبدانهم، وينقص أموالهم، وطالبهم بعداوة أصدقائهم، وصداقة أعدائهم، وخلع الأنداد والأصنام من بين أظهرهم، وكانت أحب إليهم من أنفسهم من أجل الدين، ولا شك أن كل واحد من هذه الأمور مما يشق على القلوب تحمله، ولا سيما على العرب مع كثرة حميّتهم، وعظيم أنفتهم، ولا شك أن الإنسان إذا استنزل غيره عن رئاسته، ودعاه إلى طاعته، فإن ذلك الغير يحاول إبطال أمره بكل ما يقدر عليه ويجد إليه سبيلا، ولما كانت معارضة القرآن بتقدير وقوعها مبطلة لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، علمنا لا محالة قطعا توفّر دواعى العرب عليها، وإنما قلنا: إنه ما كان لهم مانع عنها لأنه صلّى الله عليه وسلّم ما كان فى أول أمره بحيث تخاف قهره كل العرب، بل هو الذى كان خائفا منهم، وإنما قلنا: إنهم لم يعارضوه لأنهم لو أتوا بالمعارضة لكان اشتهارها أحق من اشتهار القرآن، لأن القرآن حينئذ يصير كالشبهة، وتلك المعارضة كالحجة، لأنها هى المبطلة لأمره، ومتى كان الأمر كما قلناه وكانت الدواعى متوفرة على إبطال أبهة المدعى وإبطال رونقه، وإزالة بهائه، كان اشتهار المعارضة أولى من اشتهار الأصل، فلما لم تكن مشتهرة علمنا لا محالة بطلانها، وأنها ما كانت، وإنما قلنا إن كل من توفرت دواعيه إلى الشىء ولم يوجد مانع منه، ثم لم يتمكن من فعله، فإنه يكون عاجزا، لأنه لا معنى للعجز إلا ذاك، وبهذا الطريق نعرف عجزنا عن كل ما

نعجز عنه كخلق الصور والصفات، ويؤيد ما ذكرناه من عجزهم ويوضحه، أنهم عدلوا عن المعارضة 7 لى تعريض النفس للقتل، مع أن المعارضة عليهم كانت أسهل وما ذاك إلا لما أحسوا به من العجز من أنفسهم عنها، فثبت بما ذكرناه كون القرآن معجزا، وتمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة الواردة عليها والانفصال عنها. اعلم أن للملاحدة لعنهم الله وأبادهم، أسئلة ركيكة على كون القرآن معجزا، ولابد من إيرادها، وإظهار الجواب عنها، وجملة ما نورده من ذلك أسئلة ثمانية. السؤال الأول: منها قولهم: لا نسلّم أن القرآن معجز، وعمدتكم فى إعجازه إنما هو التحدى وقررتم التحدى على تلك الآيات التى تلوتموها، ونحن ننكر تواترها، فإن المتواتر من القرآن إنما هو جملته دون الآحاد منه، ويؤيد ما ذكرناه، ما وقع من التردد والاختلاف فى مفرداته، دون جملته، بدليل أمور ثلاثة، أما أولا فلأنه نقل عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه أنكر الفاتحة والمعوذتين أنها من القرآن، وبقى هذا الإنكار إلى زمن أبى بكر، وعمر، وعثمان، وأما ثانيا فلما وقع من الخلاف الشديد فى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) [الفاتحة: 1] هل هى من القرآن أولا، وقد أثبتها ابن مسعود فى صدر سورة براءة، ونفاها أبى بن كعب وزيد بن ثابت، وأما ثالثا فلما يحكى عن أبى بن كعب، أنه أثبت فى القرآن آية القنوت وهى قوله: «اللهمّ اهدنى فيمن هديت» وقوله: «لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثا» «1» ونفى ذلك ابن مسعود وغيره فهذه الأمور كلها دالة على أنه غير متواتر فى تفاصيله، وآيات التحدى من جملة التفاصيل، فلهذا لم يحكم بثبوتها فى المصحف، فلا يكون فيها دلالة. وجوابه من وجهين: أما أولا فلأنا نقول القرآن بجملته وتفاصيله كلها منقول بالتواتر، سواء، من غير تردد فى ذلك، والبرهان على ذلك هو أنا نعلم بالضرورة من غير شك، أن فى هذا الزمان لو حاول أحد أن يدخل فيه حرفا ليس منه أو يخرج منه حرفا هو فيه، لوقف على موضع الزيادة والنقصان، جميع الصبيان، فضلا عن أكابر العلماء وأفاضل الناس، فكيف تصح هذه الدعوى، بأن تكون تفاصيله غير متواترة. وأما ثانيا: فلأنا نعلم بالضرورة أن حال الناس فى التشدد عن المنع من تغيير القرآن وتبديله فى عهد الصحابة رضى الله عنهم، إن لم يكن أقوى من حال زماننا هذا، فإنه ما

كان أقل منه، فإذا لم يؤثر فيه خلاف وتردد فى زماننا فهكذا حال من قبل، وهذا يبطل كلام الملاحدة فى أنه غير متواتر التفاصيل. قولهم: إن ابن مسعود أنكر الفاتحة والمعوذتين أنها من القرآن، قلنا: هذه الرواية عن ابن مسعود من باب الآحاد فلا تعارض ما كان مقطوعا به، وأيضا فإنه لم ينكر نزولهما من عند الله، وأنه جاء بهما جبريل، ولكن ادّعى أن المعوذتين نزلتا عوذة للحسنين، وأن الفاتحة إنما أنزلت من أجل الصلاة تفتتح بها، ولم ينكر ما ذكرناه من ثبوت أحكام القرآن فيها، فهو يسلّم أنها من القرآن بالمعنى الذى ذكرناه، وينكر كتبها فى جملة القرآن، وهذا خلاف لفظى لا طائل وراءه. قولهم: الناس قد اختلفوا فى التسمية، قلنا: خلاف من خالف فى أنها ليست من القرآن ليس ينكر أنّ جبريل نزل بها ولا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يقرؤها، ولكن زعم أنها للتبرك، والفصل بين السور، فقد أقرّ بكونها من القرآن بالمعنى الذى ذكرناه، وزعم أن فيها غرضا آخر، وهو مساعد له. قولهم: إن أبيّا أثبت آية القنوت، وقوله: «ولو أن لابن آدم واديين من ذهب ... » قلنا هذه الرواية من باب الآحاد فلا تعارض القواطع، ثم إنه ولو كتبها فى المصحف لم يثبت عنه أنها من جملته، وعلى الجملة فما ذكروه أمور خيالية وهمية، ولا تعارض الأمور القطعية. السؤال الثانى: هب أنا سلّمنا أن آيات التحدى متواترة، فلا نسلّم دلالتها على التحدى، وبيانه هو أنه لو كان الغرض من إيرادها استدلاله بالقرآن على كونه نبيّا لاشتهر ذلك من نفسه كاشتهار أصل نبوته، ولكنه لم ينقل عن أحد من أهل الأخبار، أنه استدل على مخالفيه بالقرآن، ولم ينقل عن أحد ممن آمن به أنه آمن به لدليل القرآن، فعلمنا بذلك أنه ما كان يعوّل فى إثبات نبوته على القرآن، وإذا صح ذلك علمنا أن الغرض بإيراده هذه الآيات ما يذكره كل واحد من الخطباء والشعراء، من الدعاوى العظيمة والافتخارات التى لا حقيقة لها بحال. وجوابه من وجهين: أما أولا: فلأنا نعلم بالضرورة، أنه كان يغشى محافلهم ويتلو عليهم القرآن، ويقرع مسامعهم، ولا وجه لذلك إلا أنه يتحداهم به ويوجب عليهم طاعته، وهذا أمر ظاهر لا يمكن جحده ولا إنكاره. وأما ثانيا: فهب أنا سلّمنا أنه لم ينقل ما ذكرناه، ولكنه استغنى بما فى القرآن من آيات

التحدى عما كان منه من ذلك إذ لا فائدة فى تكريره. السؤال الثالث: سلمنا وقوع التحدى، ولكن هل وصل خبر التحدى إلى كل العالم، أو إلى بعضه، وباطل أن يكون واصلا إلى كله، لأنا نعلم بالضرورة أن أهل الهند والصين والروم، وسائر الأقاليم البعيدة، ما كانوا يعلمون وجود محمد صلّى الله عليه وسلّم فى الدنيا، فضلا عن أن يقال: إنهم عالمون بتحديه بالقرآن، وباطل أن يكون واصلا إلى بعضهم، لأنهم ولو عجزوا عن المعارضة فإنه لا يكفى فى صحة دعوى النبوة، عجزهم عن معارضته، لأنهم بعض الخلق، وعجز بعض الخلق لا يكون عجزا لجميعهم، وإلا لزم فى بعض الحذاق فى صناعته إذا تحدى أهل قريته، ثم عجزوا عن ذلك، أن يكون نبيا لمكان دعواه، وهذا ظاهر الفساد وهذا يبطل ما ذكرتموه من التحدى بالقرآن. وجوابه من وجهين: أما أولا فلأنا نعلم بالضرورة أن العرب الذين قرع أسماعهم التحدى، وخوطبوا به «العين للعين» كانوا لا محالة أقدر على معارضته من غيرهم، لاختصاصهم بما لم يختص به غيرهم من سائر الأقاليم من الفصاحة والبلاغة، فلما عرفنا عجزهم كان غيرهم لا محالة أعجز من ذلك لما ذكرناه، وأما ثانيا فهب أن خبر تحدّيه بالقرآن ما وصل إلى كل العالم فى زمانه، لكن لا شك فى وصوله إليهم الآن، مع أنهم لم يعارضوه، وفى هذا دلالة على صحة نبوته، ويؤيد ما ذكرناه أنا نرى من يصنف كتابا فى أى علم كان، ويظن أنه قد أتى فيه باليد البيضاء، فلا يلبث إلا مقدار ما يصل إلى الأقاليم والبلاد، ويحصل بعد ذلك ما يبطله ويدل على تناقضه وضعفه على القرب لأجل شدة الحرص على ذلك، وهذا ظاهر فى جميع التصانيف كلها، فلو كان ثم معارضة توجد للقرآن، لكانت قد حصلت فى هذه الأزمان المتمادية، والسنين المتطاولة، ولا شك فى بلوغه لهذه الأقاليم التى زعمتم، وفى هذا بطلان ما زعمتموه. السؤال الرابع: سلّمنا تواتره إلى كافة الخلق، لكنا لا نسلم توفر دواعيهم إلى المعارضة، وبيان ذلك بأوجه ثلاثة، أما أولا: فلعلهم اعتقدوا أن المعارضة لا تبلغ فى قطع المادة وحسم الشّغب وإبطال أمره، مبلغ الحرب، فلا جرم عدلوا إلى الحرب، وأما ثانيا: فلأنا لا نمنع أن يكونوا عدلوا إلى الحرب لأنهم لو عارضوا لكان الخلاف غير منقطع بوقوعها، لجواز أن يقول قوم: إنها معارضة، ويقول قوم آخرون: إنها ليست معارضة، ويتوقف فريق ثالث، لالتباس الأمر فيه، فيشتد الخلاف ويعظم الخطب، وفى أثناء ذلك الخلاف لا

يمتنع اشتداد شوكته، فلأجل الخوف من ذلك، عدلوا إلى الحرب، وأما ثالثا: فلأنه يحتمل أن يكون عدولهم عن المعارضة، لأن التحدى إنما وقع بمثله، ولم يعرفوا حقيقة المماثلة، هل تكون بالفصاحة، أو البلاغة، أو بالنظم، أو بهذه الأمور كلها، أو فى الإخبار عن العلوم الغيبية، أو فى استخراج الأسرار الدقيقة، أو غير ذلك مما يكون القرآن مشتملا عليه، فلهذا عدلوا عن المعارضة، فصح بما ذكرناه أن دواعيهم إلى المعارضة غير متوفرة لأجل هذه الاحتمالات التى ذكرناها. وجوابه أنا قد أوضحنا توفر دواعيهم إلى معارضته بما لا مدفع له إلا بالمكابرة، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه، أن الأمر المطلوب إذا كان لتحصيله طرق كثيرة وكانت معلومة فى نفسها، ثم بعضها يكون أسهل وأقرب فى تحصيل المقصود، فإنا نعلم من حال العاقل اختيار الطريق الأسهل، وقد علمنا بالضرورة أن أسهل الطرق فى دفع من يدعى مرتبة عظيمة على غيره، معارضتها بمثلها إن كانت المعارضة ممكنة، ونعلم أن هذا العلم الضرورى حاصل لكل العقلاء، حتى نعلم أن طفلا من الأطفال لو ادعى على غيره من سائر الأطفال شيلان حجر، أو طفر جدول، أو رمى غرض، فإنهم يتسارعون إلى معارضته بمثل دعواه، وهذه الجملة تفيد توفر دواعى العرب على إبطال أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمعارضة دعواه بمثلها لو كانت ممكنة لهم، فإذا كان هذا حاصلا فى حق الأطفال، فكيف من بلغ حالة عظيمة فى الحنكة والتجربة. قولهم: أولا لعلهم اعتقدوا أن المعارضة لا تحسم دعواه، قلنا هذا فاسد، لأنهم فى استعمال الحرب غير واثقين بحصول المطلوب، لأنهم غير واثقين بالظفر عليه، بخلاف المعارضة، فإنهم ليسوا على خطر منها، لأنهم واثقون ببطلان أمره عند وقوعها، وقولهم ثانيا: لو عارضوا لكان الخلاف غير منقطع بوقوعها، قلنا هذا فاسد أيضا: فإنه ليس الغرض هو حصول المماثلة من كل الوجوه، لأنه لا يدرك مماثلة الكلامين من جميع الوجوه إلا بالقطع بالاشتراك فى كل الأحكام، وهذا مما يعلمه الله دون غيره، بل المقصود من التحدى، إنما هو الإتيان بما يظن كونه مثلا، أو قريبا من المثل، وأمارة ذلك وقوع الاختلاف بين الناس فى كونه مثلا، أو غير مثل، وقولهم ثالثا: إنهم لم يعرفوا حقيقة المثل الذى طلبه فيه المعارضة هل هو الفصاحة، أو الأسلوب، أو الإخبار عن علوم الغيب؟ قلنا هذا فاسد لأمرين، أما أولا فلأنه لو اشتبه عليهم لاستفهموه عما يريد، لكن الأمر فى

ذلك معلوم لهم، فلهذا لم يعالجوه فى شىء من ذلك، لتحققهم أنهم لو أتوا بما يماثله، لبطل أمره، فسكوتهم عنه دلالته على تحققهم من ذلك، وأما ثانيا فلأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أطلق التحدى ولم يخصه بشىء من دون شىء، اتكالا منه على ما يعلم من ذلك بمجرى العادة واطرادها فى التحدى بين الشعراء والخطباء، فلأجل ذلك لم يكن محتاجا إلى تفسير المقصود. السؤال الخامس: سلمنا توفر دواعيهم إلى المعارضة كما قلتم، لكن لا نسلم ارتفاع المانع عن المعارضة كما قلتم، فلم ينكرون على من يقول إنه منعهم عن المعارضة اشتغالهم عنها بالحروب العظيمة، فإن فيها شغلا عن كل شىء، أو يقول خوفهم من أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأنصاره وأعوانه، لأن قوة الدولة والشوكة تمنع من ذلك، ولهذا فإن ابن عباس رضى الله عنه لم يمكنه إظهار مذهبه فى العول أيام عمر خوفا من سطوته، ولا شك أن الخوف مانع عما يريده الإنسان فى أكثر أحواله. وجوابه من أوجه ثلاثة: أما أولا: فلأن المعارضة للقرآن إنما هى من قبيل الكلام، والحرب غير مانعة من وجود الكلام، ولهذا فإنهم كانوا والحرب قائمة يتمكنون من الأشعار والخطب فى المحافل، فكيف يقال إن الحرب مانعة من وجود المعارضة، وأما ثانيا: فلأن الحرب لم تكن دائمة، وإنما كانت فى وقت دون وقت، فلم لا يشتغلون بالمعارضة فى أوقات الفراغ عن الحرب، وأما ثالثا: فلأنه عليه السلام ما كان يحارب كل العرب، ولا شك أن الفصحاء منهم كانوا قليلين، فكان الواجب على الشجعان الاشتغال بالحرب، وأن يقعد أهل الفصاحة للاشتغال بالمعارضة، ومن وجه رابع: وهو أنه ما حاربهم قبل الهجرة فكان ينبغى لهم الاشتغال بالمعارضة، إذ لا حرب هناك قائمة بينهم وبينه، ومن وجه خامس: وهو أنه كان يجب عليهم أن يقولوا إنك شغلتنا بالحرب عن معارضتك، فاترك الحرب حتى نتمكن من معارضتك، وهم لم يقولوا ذلك ولا خطر لأحد منهم على قلب، وفى هذا دلالة على أنه لا مانع لهم من المعارضة بحال. السؤال السادس: سلمنا أنه لا مانع لهم من المعارضة، وأن دواعيهم متوفرة إليها، فلم قلتم باستحالة تأخر المعارضة والحال هذه، وبيان ذلك أن الفعل عند توفر الدواعى وزوال الموانع، لا يخلو الحال هناك، إما أن يجب الفعل أو لا يجب، فإن وجب لزم الجبر وهو فاسد عندكم، وإما أن لا يجب الفعل والحال ما قلناه، فلم يلزم من توفر الداعى وزوال الموانع وجود المعارضة، وعند هذا لا يكون تأخرهم عنها دلالة على عجزهم عنها، لجواز كونهم قادرين عليها ولا يلزم وقوعها.

وجوابه: أنا نقول قد تقرر فى القضايا بالعقلية، وثبت بالأدلة القطعية، أن القادر متى توفرت دواعيه على الفعل، ولم يكن هناك مانع فإنه يجب وقوعه، ومتى خلص الصارف فإنه يتعذر وقوعه، وهذا معلوم بأوائل العقول لا شك فيه. قوله: إذا وجب الفعل عند الداعية، وجب الجبر، وهو فاسد. قلنا: هذا خطأ، فإن الوجوب له معنيان، أحدهما أن الفعل واجب على معنى أن عدمه مستحيل، وهذا هو الذى يبطل الاختيار، ونحن لا نعتقده، وثانيهما أن يكون الغرض بالوجوب هو أولوية الوقوع والحصول، لا على معنى أنه يستحيل خلافه، ولكن على معنى أنه أحق بالوجود عند تحقق الداعية، هذا ملخص ما قاله الشيخ محمود الخوارزمى الملاحمى فى تفسير الوجوب، لئلا يبطل الاختيار، والمختار أن الفعل عند تحقق الداعية وخلوصها، واجب الحصول على معنى أنه يستحيل خلافه بالإضافة إلى الداعية، وواجب الحصول وجوبا لا يستحيل خلافه بالإضافة إلى القدرة، ومع هذا التوجيه لا يبطل الاختيار، وعلى كلا الوجهين، فإنا نعلم توفر دواعيهم إلى تحصيل المعارضة، وأنه يجب وقوعها وحصولها منهم إذا كانت ممكنة، فلما لم تقع مع توفر الداعى دل على أن الوجه فى تأخرها عدم الإمكان لا محالة. السؤال السابع: سلمنا توفر دواعيهم إلى المعارضة وأنها واجبة الوقوع عند توفر الدواعى إليها، ولكنا لا نسلم أنها غير واقعة فما برهانكم على ذلك. وجوابه من أوجه أربعة: أما أولا: فلأن ما هذا حاله لا يخفى وقوعه لو وقع كسائر الأمور العظيمة التى لا تخفى، بل نقول إن هذه المعارضة يجب أن تكون أكثر اشتهارا من القرآن، لأن القرآن يصير هو الشبهة، وهذه المعارضة هى الدلالة فتكون أحق بالاشتهار لما ذكرناه، وأما ثانيا: فلأن غير القرآن من القصائد فى الجاهلية والإسلام لم يخف حاله، وأنه ظاهر، فكيف حال ما يكون معارضا للقرآن وهو بالاشتهار لا محالة أحق، وأما ثالثا: فلأن خرافات «مسيلمة» قد نقلت مع ركتها وضعف حالها وقدرها، وقد اهتم العلماء فى نقلها، فكيف حال ما هو أدخل منها فى التحقق، وأما رابعا فلأن حرص المخالفين على نقل هذه المعارضة شديد، كاليهود والنصارى، وسائر الملل الكفرية، من الملاحدة وغيرهم، لما فيه من التنويه بإبطال أمره صلّى الله عليه وسلّم، فلا جرم يزداد الحرص وتعظم الدواعى، لأن فيها إبطال أمره على سهولة بوقوع هذه المعارضة.

السؤال الثامن: سلمنا أنها لو كانت واقعة لاشتهرت اشتهارا عظيما، لكنا لا نسلم أنها غير مشتهرة، بل قد وقع هناك معارضات للقرآن، فإن العرب قد عارضوه بالقصائد السبع وعارضه «مسيلمة» الكذاب بكلامه الذى يحكى عنه، وعارضه النضر بن الحارث بأخبار الفرس وملوك العجم، وعارضه ابن المقفع من كلامه وقابوس بن وشمكير، والمعرى، فكيف يقال إن المعارضة ما وقعت. وجوابه هو أن النظار من أهل الفصاحة والبلاغة مجمعون على أن المعارضة بين الكلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر، وكل عاقل يعلم بالضرورة أن هذه القصائد السبع ليس بينها وبين القرآن مقاربة ولا مداناة، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر، وكيف لا وهذه القصائد من فن الشعر، والقرآن ليس من فنون الشعر فى ورد ولا صدر، فلا يجوز كونها معارضة له، وأما ما حكى عن النضر بن الحارث، فإنما نقل حكايات ملوك العجم، وليس من أسلوب القرآن، فلا يكون معارضا له، وأما ما يحكى عن «مسيلمة» الكذاب فهو بالخلاعة أحق منه بالمعارضة، لنزول قدره، وتمكنه فى الحماقة، لأن من حق ما يكون معارضا، أن يكون بينه وبين المعارض مقاربة ومداناة، بحيث يشتبه الأمر فيهما، فأما إذا كان الكلامان فى غاية البعد والانقطاع، فلا يعد أحدهما معارضا للآخر، ولنقتصر على هذا القدر من الأسئلة الواردة على الإعجاز ففيها كفاية فى مقدار غرضنا، لأن الكلام فى هذا الكتاب له مقصد آخر، وهو كالمنحرف عن هذه المقاصد، فإنه إنما يليق استقصاؤها بالمباحث الكلامية، وقد أشرنا فى الكتب العقلية إلى حقائقها وأشرنا إلى الأجوبة عنها وبالله التوفيق. لا يقال: فلعل العرب إنما عجزوا عن معارضة القرآن ليس لأنهم غير قادرين عليها، وإنما تأخروا عن المعارضة، لعدم علمهم بما اشتمل عليه القرآن، من شرح حقائق صفات الله تعالى، والبعث والنشور وأحكام الآخرة، وأحوال الملائكة، وغير ذلك مما لا مدخل لأفهامهم فى تعقله وإتقانه، لأنا نقول هذا فاسد لأمرين: أما أولا فهب أن العرب كانوا غير عالمين بحقائق هذه الأشياء، لكن اليهود كانوا بين أظهرهم وكان عليهم السؤال عنها، ثم يكسونها عبارات يعارضون بها القرآن، وأما ثانيا فلأن اليهود أنفسهم كان فيهم فصحاء، فكان يجب مع علمهم بها أن يعارضوه، فلما لم تكن هناك معارضة لا من جهة اليهود، ولا من جهة غيرهم، دل على بطلانها وتعذرها، فهذا ما أردنا ذكره على هذا المسلك من الأسئلة والأجوبة عنها والله أعلم.

المسلك الثانى فى الدلالة على أن القرآن معجز من جهة العادة.

المسلك الثانى فى الدلالة على أن القرآن معجز من جهة العادة. وتقريره أن الإتيان بمثل كل واحدة من سور القرآن، لا يخلو حاله إما أن يكون معتادا، أو غير معتاد، فإن كان معتادا كان سكوت العرب مع فصاحتهم وشدة عداوتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومع توفر دواعيهم على إبطال أمره، والقدح فى دعواه بمبلغ جهدهم وجدهم، يكون لا محالة من أبهر المعجزات، وأظهر البينات على عجزهم عن الإتيان بمثل سورة منه، وأما إن لم يكن معتادا، كان القرآن معجزا، لخروجه عن المألوف والمعتاد، فثبت بما ذكرناه أن القرآن سواء كان خارقا للعادة أو لم يكن خارقا، فإنه يكون معجزا، وهذه نكتة شريفة حاسمة لأكثر أسئلة المنكرين التى يوردونها على كونه خارقا للعادة كما ترى.

الفصل الثالث فى بيان الوجه فى إعجاز القرآن

الفصل الثالث فى بيان الوجه فى إعجاز القرآن اعلم أن الكلام فى الوجه الذى لأجله كان القرآن معجزا دقيق، ومن ثم كثرت فيه الأقاويل واضطربت فيه المذاهب، وتفرقوا على أنحاء كثيرة، فلنذكر ضبط المذاهب، ثم نردفه بذكر ما تحتمله من الفساد، ثم نذكر على أثره المختار منها، فهذه مباحث ثلاثة. المبحث الأول فى الإشارة إلى ضبط المذاهب فى وجه الإعجاز فنقول كون القرآن معجزا ليس يخلو الحال فيه، إما أن يكون لكونه فعلا من المعتاد، أو لكونه فعلا لغير المعتاد، فالأول هو القول بالصرفة، ومعنى ذلك أن الله تعالى صرف دواعيهم عن معارضة القرآن مع كونهم قادرين عليها، فالإعجاز فى الحقيقة إنما هو بالصرفة على قول هؤلاء، كما نسحقق خلافهم فى الرد عليهم بمعونة الله تعالى، ونذكر من قال بهذه المقالة، وإن كان الوجه فى إعجازه هو الفعل لغير المعتاد، فهو قسمان: القسم الأول أن يكون لأمر عائد إلى ألفاظه من غير دلالتها على المعانى، ثم هذا يكون على وجهين، أحدهما أن يكون مشترطا فيهم اجتماع الكلمات وتأليفها، وهذا هو قول من قال: الوجه فى إعجازه هو اختصاصه بالأسلوب المفارق لسائر الأساليب الشعرية والخطابية، وغيرهما، فإنه مختص بالفواصل والأسجاع، فمن أجل هذا جعلنا هذا الوجه مختصا بتأليف الكلمات، وثانيهما أن يكون إعجازه لأمر راجع إلى مفردات الكلمات دون مؤلفاتها، وهذا هو رأى من قال: إنه إنما صار معجزا من أجل الفصاحة بالبراءة عن الثقل والسلامة عن التعقيد، واختصاصه بالسلاسة فى ألفاظه. القسم الثانى أن يكون إعجازه إنما كان لأجل الألفاظ باعتبار دلالتها على المعانى، وهذا هو قول من قال: إن القرآن إنما كان معجزا لأجل تضمنه من الدلالة على المعنى، وهذا القسم يمكن تنزيله على أوجه ثلاثة.

الوجه الأول: أن تكون تلك الدلالة على جهة المطابقة وفيه مذاهب ثلاثة، أولها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه، وهذا هو قول من قال: إن وجه إعجازه، هو سلامته عن المناقضة فى جميع ما تضمنه، وثانيها أن يكون لأمر حاصل فى كل ألفاظه وأبعاضها، وهذا هو قول من قال: إن إعجازه إنما كان لما فيه من بيان الحقائق والأسرار، والدقائق مما يكون العقل مشتغلا بدركها، فإن العلماء من لدن عصر الصحابة رضى الله عنهم إلى يومنا هذا ما زالوا يستنهضون منه كل سر عجيب، ويستنبطون من ألفاظه كل معنى لطيف غريب، فهذا هو الوجه فى إعجازه على رأى هؤلاء، وثالثها أن يكون وجه إعجازه لأمر حاصل فى مجموع ألفاظه وأبعاضها، مما لا يستقل بدركه العقل، وهذا هو قول من قال إن الوجه فى إعجازه ما تضمنه من الأمور الغيبية، واللطائف الإلهية، التى لا يختص بها سوى علامها، فهذه هى أقسام دلالة المطابقة، تكون على هذه الأوجه الثلاثة التى رمزنا إليها. الوجه الثانى: أن تكون تلك الدلالة على جهة الالتزام، وهذا مذهب من يقول: إن القرآن إنما كان معجزا لبلاغته، وفسر البلاغة باشتمال الكلام على وجوه الاستعارة، والتشبيه المضمر الأداة، والفصل، والوصل، والتقديم، والتأخير، والحذف، والإضمار، والإطناب، والإيجاز، وغير ذلك من فنون البلاغة. الوجه الثالث أن تكون تلك الدلالة من جهة تضمنه لما يتضمنه من الأسرار المودعة تحت ألفاظه التى لا تزال على وجه الدهر غضة طرية يجتليها كل ناظر، ويعلو ذروتها كل خريت ماهر، فظهر بما لخصناه من الحصر أن كون القرآن معجزا إما أن يكون للصرفة، أو للنظم، أو لسلامة ألفاظه من التعقيد، أو لخلوه عن التناقض، أو لأجل اشتماله على المعانى الدقيقة، أو لاشتماله على الإخبار بالعلوم الغيبية، أو لأجل الفصاحة والبلاغة، أو لما يتركب من بعض هذه الوجوه، أو من كلها، كما فصلناه من قبل، ونحن الآن نذكر كل واحد من هذه الأقسام كلها، ونبطله سوى ما نختاره منها والله الموفق.

المبحث الثانى فى إبطال كل واحد من هذه الأقسام التى ذكرناها سوى ما نختار منها

المبحث الثانى فى إبطال كل واحد من هذه الأقسام التى ذكرناها سوى ما نختار منها وجملة ما نذكره من ذلك مذاهب: المذهب الأول منها الصرفة وهذا هو رأى أبى إسحاق النظام، وأبى إسحاق النصيبى، من المعتزلة واختاره الشريف المرتضى من الإمامية، واعلم أن قول أهل الصرفة يمكن أن يكون له تفسيرات ثلاثة، لما فيه من الإجمال وكثرة الاحتمال كما سنوضحه. التفسير الأول أن يريدوا بالصرفة أن الله تعالى سلب دواعيهم إلى المعارضة، مع أن أسباب توفر الدواعى فى حقهم حاصلة من التقريع بالعجز، والاستنزال عن المراتب العالية، والتكليف بالانقياد والخضوع، ومخالفة الأهواء. التفسير الثانى أن يريدوا بالصرفة أن الله تعالى سلبهم العلوم التى لا بد منها فى الإتيان بما يشاكل القرآن ويقاربه، ثم إن سلب العلوم يمكن تنزيله على وجهين، أحدهما أن يقال: إن تلك العلوم كانت حاصلة لهم على جهة الاستمرار، لكن الله تعالى أزالها عن أفئدتهم ومحاها عنهم، وثانيهما أن يقال: إن تلك العلوم ما كانت حاصلة لهم، خلا أن الله تعالى صرف دواعيهم من تجديدها، مخافة أن تحصل المعارضة. التفسير الثالث أن يراد بالصرفة أن الله تعالى منعهم بالإلجاء على جهة القسر عن المعارضة، مع كونهم قادرين وسلب قواهم عن ذلك، فلأجل هذا لم تحصل من جهتهم المعارضة، وحاصل الأمر فى هذه المقالة: أنهم قادرون على إيجاد المعارضة للقرآن، إلا أن الله تعالى منعهم بما ذكرناه، والذى غر هؤلاء حتى زعموا هذه المقالة، ما يرون من الكلمات الرشيقة، والبلاغات الحسنة، والفصاحات المستحسنة، الجامعة لكل الأساليب البلاغية فى كلام العرب الموافقة لما فى القرآن، فزعم هؤلاء أن كل من قدر على ما ذكرناه من تلك الأساليب البديعة، لا يقصر عن معارضته، خلا ما عرض من منع الله إياهم بما ذكرناه من الموانع، والذى يدل على بطلان هذه المقالة براهين. البرهان الأول منها: أنه لو كان الأمر كما زعموه، من أنهم صرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها، لوجب أن يعلموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأن يميزوا بين أوقات

المنع، والتخلية، ولو علموا ذلك لوجب أن يتذاكروا فى أى حال هذا المعجز على جهة التعجب، ولو تذاكروه لظهر وانتشر على حد التواتر، فلما لم يكن ذلك دل على بطلان مذاهبهم فى الصرفة لا يقال: إنه لا نزاع فى أن العرب كانوا عالمين بتعذر المعارضة عليهم، وأن ذلك خارج عن العادة المألوفة لهم، ولكنا نقول من أين يلزم أنه يجب أن يتذاكروا ذلك ويظهروه، حتى يبلغ حد التواتر، بل الواجب خلاف ذلك، لأنا نعلم حرص القوم على إبطال دعواه، وعلى تزييف ما جاء به من الأدلة، فاعترافهم بهذا العجز من أبلغ الأشياء فى تقرير حجته، فكيف يمكن أن يقال بأن الحريص على إخفاء حجة خصمه يجب عليه الاعتراف بأبلغ الأشياء فى تقرير حجته، وهو إظهاره وإشهاره، لأنا نقول هذا فاسد، فإن المشهور فيما بين العوام فضلا عن دهاة العرب، أن بعض من تعذر عليه بعض ما كان مقدورا له، فإنه لا يتمالك فى إظهار هذه الأعجوبة والتحدث بها، ولا يخفى دون هذه القضية، فضلا عنها، فكان من حقهم أن يقولوا: إن كل واحد منا يقدر على هذه الفصاحة، ولكن صار ذلك الآن متعذرا علينا، لأنك سحرته عن الإتيان بمثله، فلما لم يقولوا ذلك، دل على فسادها. البرهان الثانى لو كان الوجه فى إعجازه هو الصرفة كما زعموه، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، فلما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: إن أعلاه لمورق وإن أسفله لمغدق، وإن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة، فإن المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنه يدهش عقله ويحير لبه، وما ذاك إلا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف، وحسن مواقع التصريف فى كل موعظة، وحكاية كل قصة، فلو كان كما زعموه من الصرفة، لكان العجب من غير ذلك، ولهذا فإن نبيا لو قال: إن معجزتى أن أضع هذه الرمانة فى كفى، وأنتم لا تقدرون على ذلك، لم يكن تعجب القوم من وضع الرمانة فى كفه، بل كان من أجل تعذره عليهم، مع أنه كان مألوفا لهم ومقدورا عليه من جهتهم، فلو كان كما زعمه أهل الصرفة، لم يكن للتعجب من فصاحته وجه، فلما علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دل على فساد هذه المقالة. البرهان الثالث الرجع بالصرفة التى زعموها، وهو أن الله تعالى أنساهم هذه الصيغ فلم يكونوا ذاكرين لها بعد نزوله، ولا شك أن نسيان الأمور المعلومة فى مدة يسيرة، يدل على نقصان العقل، ولهذا فإن الواحد إذا كان يتكلم بلغة مدة عمره، فلو أصبح فى بعض

المذهب الثانى قول من زعم أن الوجه فى إعجازه إنما هو الأسلوب،

الأيام لا يعرف شيئا من تلك اللغة، لكان ذلك دليلا على فساد عقله وتغيره، والمعلوم من حال العرب أن عقولهم ما زالت بعد التحدى بالقرآن وأن حالهم فى الفصاحة والبلاغة بعد نزوله كما كان من قبل، فبطل ما عول عليه أهل الصرفة، وكلامهم يحتمل أكثر مما ذكرناه من الفساد، وله موضع أخص به، فلا جرم اكتفينا ههنا بما أوردناه. المذهب الثانى قول من زعم أن الوجه فى إعجازه إنما هو الأسلوب، وتقريره أن أسلوبه مخالف لسائر الأساليب الواقعة فى الكلام، كأسلوب الشعر، وأسلوب الخطب والرسائل، فلما اختص بأسلوب مخالف لهذه الأساليب، كان الوجه فى إعجازه، وهذا فاسد لأوجه، أولها أنا نقول: ما تريدون بالأسلوب الذى يكون وجها فى الإعجاز، فإن عنيتم به أسلوبا أى أسلوب كان، فهو باطل، فإنه لو كان مطلق الأسلوب معجزا لكان أسلوب الشعر معجزا، وهكذا أسلوب الخطب والرسائل، يلزم كونه معجزا، وإن عنيتم أسلوبا خاصا، وهو ما اختص به من البلاغة والفصاحة، فليس إعجازه من جهة الأسلوب، وإنما وجه إعجازه الفصاحة والبلاغة كما سنوضحه من بعد هذا عند ذكر المختار، وإن عنيتم بالأسلوب أمرا آخر غير ما ذكرناه فمن حقكم إبرازه حتى ننظر فيه فنظهر صحته أو فساده، وثانيها أن الأسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله، فلو كان الأمر كما زعمتموه، جازت معارضة القرآن بمثله، لأن الإتيان بأسلوب يماثله سهل ويسير على كل أحد، وثالثها أنه لو كان الإعجاز إنما كان من جهة الأسلوب لكان ما يحكى عن «مسيلمة» الكذاب معجزا وهو قوله: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، وقوله: والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، لأن ما هذا حاله مختص بأسلوب لا محالة، فكان يكون معجزا، وأنه محال، ومن وجه رابع، وهو أنه لو كان وجه إعجازه الأسلوب، لما وقع التفاوت بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] وبين قول الفصحاء من العرب «القتل أنفى للقتل» لأنهما مستويان فى الأسلوب، فلما وقع التفاوت بينهما دل على بطلان هذه المقالة والله أعلم.

المذهب الثالث قول من زعم أن وجه إعجازه إنما هو خلوه عن المناقضة،

المذهب الثالث قول من زعم أن وجه إعجازه إنما هو خلوه عن المناقضة، وهذا فاسد لأوجه، أما أولا فلأن الإجماع منعقد على أن التحدى واقع بكل واحدة من سور القرآن، وقد يوجد فى كثير من الخطب، والشعر، والرسائل، ما يكون فى مقدار سورة خاليا عن التناقض، فيلزم أن يكون معجزا، وأما ثانيا فلأنه لو كان الأمر كما قالوه فى وجه الإعجاز، لم يكن تعجبهم من أجل فصاحته، وحسن نظمه، ولوجب أن يكون تعجبهم من أجل سلامته عما قالوه، فلما علمنا من حالهم خلاف ذلك بطل ما زعموه، وأما ثالثا فلأن السلامة عن المناقضة ليس خارقا للعادات، فإنه ربما أمكن كثيرا فى سائر الأزمان، وإذا كان معتادا لم يكن العلم بخلو القرآن عن المناقضة والاختلاف معجزا، لما كان معتادا، ومن حق ما يكون معجزا أن يكون ناقضا للعادة، وأيضا فإنا نقول جعلكم الوجه فى إعجازه خلوه عن المناقضة والاختلاف ليس علما ضروريا، بل لا بد فيه من إقامة الدلالة، فيجب على من قال هذه المقالة تصحيحها بالدلالة لتكون مقبولة، وهم لم يفعلوا ذلك. المذهب الرابع قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز اشتماله على الأمور الغيبية بخلاف غيره، وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأن الإجماع منعقد على أن التحدى واقع بجميع القرآن، والمعلوم أن الحكم والآداب وسائر الأمثال ليس فيها شىء من الأمور الغيبية، فكان يلزم على هذه المقالة أن لا يكون معجزا وهو محال، وأما ثانيا فلأن ما قالوه يكون أعظم عذرا للعرب فى عدم قدرتهم على معارضته، فكان من حقهم أن يقولوا: إنا متمكنون من معارضة القرآن، ولكنه اشتمل على ما لا يمكننا معرفته من الأمور الغيبية، فلما لم يقولوا ذلك دل على بطلان هذه المقالة. المذهب الخامس قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز هو الفصاحة، وفسر الفصاحة بسلامة ألفاظه عن التعقيد الحاصل فى مثل قول بعضهم: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر «1»

المذهب السادس قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز إنما هو اشتماله على الحقائق وتضمنه للأسرار والدقائق التى لا تزال غضة طرية على وجه الدهر، وما تنال لها غاية، ولا يوقف لها على نهاية، بخلاف غيره من الكلام، فإن ما هذا حاله غير حاصل فيه،

وهذا فاسد لأمرين، أما أولا فلأن أكثر كلام الناس خال عن التعقيد فى الشعر والخطب، والرسائل، فيلزم كونها معجزة، وأما ثانيا فلأنه لو كان الأمر كما زعموه لم يفترق الحال بين قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) [الشورى: 32- 34] وبين قول من قال: وأعظم العلامات الباهرة جرى السفن على الماء، فإما أن يريد هبوب الريح فتجرى بها، أو يريد سكون الريح فتركد على ظهره، أو يريد إهلاكها بالإغراق بالماء، لأن ما هذا حاله من المعارضة سالم عن التعقيد، فكان يلزم أن يكون هذا الكلام معارضا للآية، لاشتراكها فى الخفة والبراءة عن الثقل والتعقيد، ومن وجه ثالث وهو أنه كان يلزم أن لا يقع تفاوت بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] وبين قول العرب «القتل أنفى للقتل» لاشتراكهما جميعا فى السلامة عن الثقل وهذا فاسد. المذهب السادس قول من زعم أن الوجه فى الإعجاز إنما هو اشتماله على الحقائق وتضمنه للأسرار والدقائق التى لا تزال غضة طرية على وجه الدهر، وما تنال لها غاية، ولا يوقف لها على نهاية، بخلاف غيره من الكلام، فإن ما هذا حاله غير حاصل فيه، فلهذا كان وجه إعجازه، وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأن الأصل فى وجه الإعجاز أن يكون القرآن متميزا به لا يشاركه فيه غيره، وما ذكرتموه من هذه الخصلة فإنها مشتركة، وبيانه هو أنا نرى بعض من صنف كتابا فى العلوم الإسلامية واعتنى فى قبصه واختصاره، فإن من بعده لا يزال يجتبى منه الفوائد فى كل وقت ويستنبطها من ألفاظه وصرائحه كما نرى ذلك فى الكتب الأصولية والكتب الدينية والفقهية، وسائر علوم الإسلام، وإذا كان الأمر كما قلناه وجب الحكم بإعجازها وهم لا يقولون به، وأما ثانيا فلأن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] وقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] وقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1] صريحة فى إثبات الوحدانية لله تعالى بظاهرها وصريحها، وما عدا ذلك من المعانى لا يخلو حاله، إما أن يستقل العقل بدركه أولا يستقل بدركه، فإن استقل بدركه فقد أحاط به كغيره من سائر الكلام، فلا تفرقة بينه وبين غيره، وإن كان لا يستقل العقل بدركه، فذلك هو الأمور الغيبية، وهى باطلة بما أسلفناه على

المذهب السابع قول من زعم أن الوجه فى إعجازه هو البلاغة،

من قال بها فحصل من مجموع ما ذكرناه ههنا أنه لا وجه لجعل دلالته على الأسرار والمعانى وجها فى إعجازه لأن غيره مشارك له فى هذه الخصلة، وما وقعت فيه الشركة فلا وجه لاختصاصه وجعله وجها فى كونه معجزا. المذهب السابع قول من زعم أن الوجه فى إعجازه هو البلاغة، وفسر البلاغة باشتماله على وجوه الاستعارة، والتشبيه، والفصل، والوصل، والتقديم، والتأخير، والإضمار، والإظهار، إلى غير ذلك، وهؤلاء إن أرادوا بما ذكروه أنه صار فصيحا بالإضافة إلى ألفاظه، وبليغا بالإضافة إلى معانيه، ومختصا بالنظم الباهر، فهذا جيد لا غبار عليه كما سنوضحه عند ذكر المختار، وإن أرادوا أنه بليغ بالإضافة إلى معانيه دون ألفاظه، فهو خطأ، فإنه صار معجزا باعتبار ألفاظه ومعانيه جميعا، وغالب ظنى أن هذا المذهب يحكى عن أبى عيسى الرمانى. المذهب الثامن قول من زعم أن الوجه فى إعجازه هو النظم، وأراد أن نظمه وتأليفه هو الوجه الذى تميز به من بين سائر الكلام فهؤلاء أيضا يقال لهم ما تريدون باختصاصه بالنظم، فإن عنيتم به أن نظمه هو المعجز من غير أن يكون بليغا فى معانيه، ولا فصيحا فى ألفاظه، فهو خطأ، فإن الإعجاز شامل له بالإضافة إلى كلا الأمرين جميعا، وإن عنيتم أنه مختص بالبلاغة والفصاحة، خلا أن اختصاصه بالنظم أعجب وأدخل، فلهذا كان الوجه فى إعجازه فهذا خطأ، فإن مثل هذا لا يدرك بالعقل، أعنى تميزه بحسن النظم عن حسن البلاغة والفصاحة، وأيضا فإن ما ذكروه تحكم لا مستند له عقلا ولا نقلا، وأيضا فإنا نقول: هل يكون النظم وجها فى الإعجاز مع ضم البلاغة والفصاحة إليه، أو يكون وجها من دونهما، فإن قالوا بالأول فهو جيد، ولكن لم قصروه على النظم وحده ولم يضموهما إليه؟ وإن قالوا: إنه يكون منفردا بالإعجاز من دونهما، فهذا خطأ أيضا، فإن نظم القرآن لو انفرد عن بلاغته وفصاحته لم يكن معجزا بحال.

المذهب التاسع مذهب من قال: إن وجه إعجازه إنما هو مجموع هذه الأمور كلها،

المذهب التاسع مذهب من قال: إن وجه إعجازه إنما هو مجموع هذه الأمور كلها، فلا قول من هذه الأقاويل إلا هو مختص به، فلا جرم جعلنا الوجه فى إعجازه مجموعها كلها، وهذا فاسد، فإنا قد أبطلنا رأى أهل الصرفة، وزيفنا كلامهم، فلا وجه لعده من وجوه الإعجاز، وهكذا فإنا قد أبطلنا قول من زعم أن الوجه فى إعجازه اشتماله على الإخبار بالأمور الغيبية، وأبطلنا قول أهل الأسلوب وغيره من سائر الأقاويل، فلا يجوز أن تكون معدودة فى وجوه الإعجاز، لأن الأمور الباطلة لا يجوز أن تكون عللا للأحكام الصحيحة، ومن وجه ثان وهو أن الفصاحة والبلاغة إذا كانتا حاصلتين فيه فهما كافيتان فى الإعجاز، فلا وجه لعد غيرهما معهما. المذهب العاشر أن يكون الوجه فى إعجازه إنما هو ما تضمنه من المزايا الظاهرة والبدائع الرائقة فى الفواتح، والمقاصد، والخواتيم فى كل سورة، وفى مبادىء الآيات، وفواصلها، وهذا هو الوجه السديد فى وجه الإعجاز للقرآن كما سنوضح القول فيه بمعونة الله تعالى، فهذا ما أردنا ذكره من المذاهب فى الوجه الذى لأجله صار القرآن معجزا للخلق كلهم. المبحث الثالث فى بيان المختار من هذه الأقاويل والذى نختاره فى ذلك ما عول عليه الجهابذة من أهل هذه الصناعة الذين ضربوا فيها بالنصيب الوافر، واختصوا بالقدح المعلى والسهم القامر، فإنهم عولوا فى ذلك على خواص ثلاثة هى الوجه فى الإعجاز. الخاصة الأولى الفصاحة فى ألفاظه على معنى أنها بريئة عن التعقيد، والثقل، خفيفة على الألسنة تجرى عليها كأنها السلسال، رقة وصفاء وعذوبة وحلاوة. الخاصة الثانية البلاغة فى المعانى بالإضافة إلى مضرب كل مثل، ومساق كل قصة، وخبر، وفى الأوامر والنواهى، وأنواع الوعيد، ومحاسن المواعظ، وغير ذلك مما اشتملت عليه العلوم القرآنية، فإنها مسوقة على أبلغ سياق. الخاصة الثالثة جودة النظم وحسن السياق، فإنك تراه فيما ذكرناه من هذه العلوم

منظوما على أتم نظام وأحسنه وأكمله فهذه هى الوجه فى الإعجاز، والبرهان على ما ادعيناه من ذلك هو أن الآيات التى يذكر فيه التحدى واردة على جهة الإطلاق ليس فيها تحد بجهة دون جهة، لأنه لم يذكر فيها أنه تحداهم، لا بالبلاغة ولا بالفصاحة، ولا بجودة النظم والسياق، ولا بكونه مشتملا على الأمور الغيبية، ولا لاشتماله على الأسرار والدقائق، وتضمنه المحاسن والعجائب، ولا أشار إلى شىء خاص يكون مقصدا للتحدى، وإنما قال: بمثله، وبسورة، وبعشر سور على الإطلاق، ثم إن العرب أيضا ما استفهموه عما يريد بتحديهم فى ذلك، ولا قالوا ما هو المطلوب فى تحدينا، بل سكتوا عن ذلك، فوجب أن يكون سكوتهم عن ذلك لا وجه له إلا لما قد علم من اطراد العادات المقررة بين أظهرهم أن الأمر فى ذلك معلوم أنه لا يقع إلا بما ذكرناه من البلاغة والفصاحة وجودة السياق والنظم، فإن المعلوم من حال الشعراء والخطباء، وأهل الرسائل والكلام الواقع فى الأندية المشهورة والمحافل المجتمعة، أنهم إذا تحدى بعضهم بعضا فى شعر، أو خطبة أو رسالة، فإنه لا يتحداه إلا بمجموع ما ذكرناه من هذه الأمور الثلاثة ولم يعهد قط فى الأزمنة الماضية والآماد المتمادية، أن أحدا تحدى أحدا منهم برقة شعره، ولا باشتماله على أمور محجوبة، ولا بعدم التناقض فيها، وفى هذا دلالة كافية على أن تعويلهم فى التحدى إنما هو على ما ذكرناه فيجب حمل القرآن فى الآيات المطلقة عليه، وفى ذلك حصول ما أردناه، وتمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة عليها والانفصال عنها. السؤال الأول منها قد زعمتم أن وجه إعجاز القرآن إنما هو الفصاحة، والبلاغة، والنظم، وحاصل هذه الأمور كلها إما أن تكون راجعة إلى مفردات الكلم، أو تكون راجعة إلى مركباتها، ولا شك أن العرب قادرون على المفردات لا محالة ولا شك أن كل من قدر على المفردات فهو قادر على مركباتها، فلو كان كما ذكرتموه لكان العرب قادرين على المعارضة، وهذا يدل على أن وجه إعجازه ليس أمرا راجعا إلى البلاغة، والفصاحة، والنظم، وهذا هو المطلوب. وجوابه إنما يكون بعد تمهيد قاعدة، وهو أن التفاوت بين الكتابين فى الجودة والكتابة إنما يكون من جهة العلم بإحكام التأليف بين الحروف وتنزيلها على أحسن هيئة فى الإيقاع، فمن كان أجود علما بإحكام التأليف كانت كتابته أعجب، ومن كان عادما للعلم بما ذكرناه نقص إتقان كتابته، فكل واحد منهما قد أحرز ما تحتاج إليه الكتابة من الآلات

كالقلم والدواة، والقرطاس، واليد، وغير ذلك مما يكون شرطا فى الكتابة، ولم يتميز أحدهما عن الآخر إلا بما ذكرناه من العلم بإحكام التأليف، وهكذا حال أهل الحرف والصناعات فإنهم كلهم متمكنون من أصول الصناعات وما تحتاج إليها، كالصناعة للذهبيات والفضيات، والحاكة للديباج، فإن تفاوتهم إنما يظهر فى ما ذكرناه لا غير فإذا عرفت هذا فالعرب لا محالة قادرون على مفردات هذه الكلم، الموضوعة، وقادرون على حسن التأليف لهذه الكلمات، لكنهم غير قادرين على كل تأليف، فإن من التأليف ما لا زيادة عليه فى الإعجاب، وهو المعجز، ومنه ما تنقص رتبته عن ذلك، وليس معجزا، وعلى هذا يكون المعجز إنما كان من جهة عدم العلم بإحكام تأليف هذه الكلمات، فقد ملكوا القدرة على آحادها، وملكوا القدرة على نوع من تأليفها مما لم يكن معجزا، فأما ما كان معجزا من التأليف فلم يكونوا مالكين له فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الإعجاز ليس إلا تأليف هذه الكلمات على حد لا غاية فوقه، فإلى هذا يرجع الخلاف، ويحصل التحقق بأن عجزهم إنما كان من جهة عدم العلم بهذا التأليف المخصوص فى الكلام، لا يقال فحاصل هذا الجواب أن الله تعالى لم يخلق فيهم العلم بإحكام التأليف الذى يحتاج إليه فى كون الكلام معجزا، وهذا قول بمقالة أهل الصرفة، فإن حاصل مذهبهم هو أن الله تعالى سلبهم الداعى إلى معارضة القرآن، وأعدم عنهم العلوم التى لأجلها يقدرون على المعارضة، وأنتم قد زيفتم هذه المقالة وأبطلتموها، فقد وقعتم فيما فررتم منه لأنا نقول هذا فاسد فإنا نقول إنهم عادمون لهذه العلوم قبل المعجز وبعده، وأنها غير حاصلة لهم فى وقت من الأوقات فلهذا استحال منهم معارضة القرآن كما قررناه من قبل، بخلاف مقالة أهل الصرفة فإن عندهم أن علوم التأليف كانت حاصلة معهم قبل ظهور المعجز، لكن الله تعالى سلبهم إياها كما مر تقريره، فلهذا كان ما ذكرناه مخالفا لما قالوه. السؤال الثانى: لو كانت الفصاحة هى الوجه فى كون القرآن معجزا لما كان فيه دلالة على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد تقرر كونه دالا على صدقه فيجب أن لا يكون الوجه فى إعجازه هى الفصاحة، بل الصرفة كما تقول أصحابها، أو وجه آخر غير الفصاحة، وإنما قلنا: إنه لو كان الوجه فى إعجازه الفصاحة لما كان فيه دلالة على الصدق، فلأن الدلالة على الصدق، إنما تقع إذا كانت موجودة من جهة الله تعالى إلا أنه تعالى ليس فاعلا

للفصاحة من جهة أن الفصاحة المرجع بها إلى خلوص الكلام من التعقيد، والبلاغة ترجع إلى مطابقة الكلام وحسن تأليفه، وهذه كلها مقدورة لنا، ولهذا بطل أن يكون الإعجاز حاصلا بها، فإذن لا بد من أن يكون وجه الإعجاز متعلقا بقدره الله تعالى، لأنه هو المتولى لصدق أنبيائه، فكل ما كان من المعجزات لا يقدر كونه من جهته، فإنه لا يكون فيه دلالة على صدق من ظهر عليه، وإنما قلنا: 7 ن فيه دلالة على الصدق، وهذا ظاهر لا يمكن إنكاره، فإن القرآن من أبهر الأدلة على صدق صاحب الشريعة صلوات الله عليه، فلو كان وجه إعجازه هو الفصاحة لم يكن فيه دلالة على الصدق، لأن الفصاحة والبلاغة المرجع بهما إلى انتظام الكلام على وجه مخصوص لا مزيد عليه، وما من وجه من وجوه النظم إلا وهو مقدور للعباد بكل حال، وهذا يبطل كونه دالا على صدقه، وقد تقرر كونه دليلا على الصدق، فبطل كون إعجازه هو الفصاحة. وجوابه أنا قد قررنا أن الوجه فى إعجازه هو الفصاحة والبلاغة مع النظم بما لا مطمع فى إعادته. قوله لو كانت الفصاحة وجها فى إعجازه لما كان له دلالة على الصدق، قلنا: هذا فاسد فإن النظم وإن كان مقدورا لنا، لكنه قد يقع على وجه لا يمكن كونه مقدورا لنا ولهذا فإن العلم مقدور لنا، والفعل من جنس العلوم، وقد استحال كونها مقدورة للعباد، لما كانت واقعة على وجه يستحيل وقوعه فى حق العباد، فإن جنس الحركة مقدور لنا، وحركة المرتعش وإن كانت من جنس الحركة، لكنها لما وقعت على وجه يتعذر على العباد جاز الاستدلال بها على الله تعالى، فهكذا حال البلاغة، فإنها وإن كانت من قبيل النظم والتأليف. وهو مقدور لنا، لكنه لما وقع على وجه يتعذر تحصيله من جهتنا، كان دليلا على الصدق من هذه الجهة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن القرآن دال على صدق من ظهر على يده، وما ذاك إلا لكونه مختصا بالوقوع من جهة الله تعالى مع كون جنسه من مقدور العباد، وفيه دلالة على صدقه كما نقوله فى سائر المعجزات الدالة على صدقه، وإن لم يكن لها تعلق بمقدور العباد، كإطعام الخلق الكثير، من الطعام اليسير، ونبوع الماء من بين أصابعه، إلى غير ذلك من المعجزات الباهرة له عليه الصلاة والسلام. السؤال الثالث: هو أن الصحابة رضى الله عنهم لما اهتموا بجمع القرآن بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يطلبون الآية، والآيتين، ممن كان يحفظها منهم، فإن كان الراوى مشهور

العدالة قبلوها منه، وإن كان غير مشهور العدالة لم يقبلوها منه، وطلبوا على ذلك بينة، فلو كان الوجه فى إعجازه هو الفصاحة كما زعمتم، لكان متميزا عن سائر الكلام وكان لا وجه للسؤال لما يظهر من التمييز، وفى هذا دلالة على أن وجه إعجازه هو الصرفة، أو غيرها، دون الفصاحة. وجوابه من وجهين، أما أولا: فلأنا لا نسلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم توفاه الله تعالى ولم يكن القرآن مجموعا، بل ما مات عليه السلام إلا بعد أن جمعه جبريل، وهذه الرواية موضوعة مختلفة لا نسلمها، ولهذا قال لما نزل صدر سورة براءة «أثبتوها فى آخر سورة الأنفال» فما قالوه منكر ضعيف، وأما ثانيا فلأن الاختلاف إنما وقع فى كتب القرآن وجمعه فى الدفاتر، فأما جمعه فمما لم يقع فيه تردد أنه كان فى أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا فإن المصاحف قد كانت كثرت بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلما وقع فيه الخلاف، فعل «عثمان» فى خلافته ما فعل من محوها كلها، وكتبه مصحفه الذى كتبه. السؤال الرابع: هو أن ابن مسعود رضى الله عنه اشتبه عليه الفاتحة والمعوذتان، هل هن من القرآن أو لا، فلو كان الوجه فى الإعجاز هو الفصاحة لكان لا يلتبس عليه شىء من ذلك. وجوابه من وجهين: أما أولا: فلأن ابن مسعود لم ينكر كونها نزلت من اللوح المحفوظ، وأن جبريل أتى بها من السماء فهن قرآن بهذه المعانى، وإنما أنكر كتبها فى المصاحف وقال هن واردات على جهة التبرك والاستعاذة، فلهذا كن قرآنا بما ذكرناه من المعانى، ولم يكن قرآنا لورودها لهذا المقصد الخاص، وهذا فى التحقيق يؤول إلى العبادة، والمقاصد المعنوية متفق عليها كما ترى، وأما ثانيا فلأن هذا رأى لابن مسعود فلا يكون مقبولا، والحق فى المسألة واحد، فخطؤه فيها كخطإ غيره ممن خالف دلالة قاطعة، ولنقتصر على هذا القدر من الأسئلة ففيه كفاية لغرضنا، واستقصاء الكلام على مثل هذه القاعدة، إنما يليق بالمباحث الكلامية، والمقاصد الدينية، وإن نفس الله لنا فى المهلة، وتراخت مدة الإمهال، ألفنا كتابا نذكر فيه كيفية دلالة المعجز على صدق من ظهر على يده، ونجيب فيه عن شكوك المخالفين بمعونة الله تعالى، فالنية صادقة فى ذلك إن شاء الله تعالى.

تنبيه

تنبيه نجعله خاتمة للكلام فى الوجه الذى لأجله حصل الإعجاز، اعلم أن القرآن إنما صار معجزا لكونه دالا على تلك المحاسن والمزايا التى لم يختص بها غيره من سائر الكلام، ولا يجوز أن تكون راجعة إلى الدلالات الوضعية، سواء كانت باعتبار دلالتها على معانيها الوضعية، أو مجردة عنها، وقد ذهب إلى ذلك أقوام. وهو فاسد لأمرين، أما أولا: فلأن الكلمة الواحدة قد تكون فصيحة إذا وقعت فى محل، وغير فصيحة إذا وقعت فى محل آخر، فلو كان الأمر فى الفصاحة والبلاغة راجعا إلى مجرد الألفاظ الوضعية، لما اختلف ذلك بحسب اختلاف المواضع، وأما ثانيا فلأن الاستعارة، والتشبيه، والتمثيل، والكناية، من أعظم قواعد الفصاحة وأبلغها. وإنما كانت كذلك باعتبار دلالتها على المعانى لا باعتبار ألفاظها. فصارت الدلالة على وجهين: الوجه الأول دلالة وضعية، وهذه لا تعلق لها بالبلاغة والفصاحة كما مهدنا طريقه، وثانيهما الدلالة المعنوية، ودلالتها إما بالتضمن، أو بالالتزام، وهما عقليان من جهة أن حاصلهما، هو انتقال الذهن من مفهوم اللفظ إلى ما يلازمه، ثم تلك الملازمة إما أن تكون دلالة على جزء المفهوم، أو تكون دلالة على معنى يصاحب المفهوم، فالأول هو الدلالة التضمنية، والثانى هو الدلالة الخارجية وهما جميعا من اللوازم، ثم إن تلك اللوازم تارة تكون قريبة، وتارة تكون بعيدة، فمن أجل ذلك صح تأدية المعانى بطرق كثيرة، بعضها أكمل من بعض، وتارة تزيد، ومرة تنقص، فلأجل هذا اتسع نطاق البلاغة وعظم شأنه، وارتفع قدره وعلا أمره، فربما علا قدر الكلام فى بلاغته حتى صار معجزا لا رتبة فوقه، وربما نزل الكلام حتى صار ليس بينه وبين نعيق البهائم إلا مزية التأليف والتركيب، وربما كان متوسطا بين الرتبتين، وقد يوصف اللفظ بالجودة، لكونه متمكنا فى أسلات الألسنة غير ناب عن مدارجها، ولا قلق على سطح اللسان، جيدا سبكه صحيحا طابعه، وأنه فى حق معناه من غير زيادة عليه ولا نقصان عنه، وقد يذمونه بنقائض هذه الصفات بأنه معقد جرز، وأنه لتعقيده استهلك المعنى، يمشى اللسان إذا نطق به كأنه مقيد، وحشى، نافر، نازل القدر، طويل الذيول من غير فائدة، ولا معنى تحته، وقد يصفون

المعنى بالجودة، بأنه قريب جزل، يسبق إلى الأذهان، قبل أن يسبق إلى الآذان، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، حتى كأنه يدخل إلى الأذن بلا إذن، وقد يذمونه بكونه ركيكا نازل القدر، بعيدا عن العقول، وهلم جرا إلى سائر ما ذكرناه من جهة المعنى على هذه المزايا موجودة فيه على أكمل شىء وأتمه، فلله دره من كتاب اشتمل على علوم الحكمة وضم جوامع الخطاب، وأودع ما لم يودع غيره من الكتب المنزلة من حقائق الإجمال ودقائق الأسرار المفصلة، وإذا أردت أن تكحل بصرك بمرود التخييل والاطلاع على لطائف الإجمال والتفصيل، فاتل قصة زكرياء عليه السلام، وقف عندها وقفة باحث وهى قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] فإنك تجد كل جملة منها بل كل كلمة من كلماتها تحتوى على لطائف، وليس فى آى القرآن المجيد حرف إلا تحته سر ومصلحة فضلا عما وراء ذلك، والكلام فى تقرير تلك اللطائف الإجمالية، وما يتلوها من الأسرار التفصيلية، مقرر فى معرفة حد الكلام وأصله، وأن كل مرتبة من مراتب الإجمال متروكة فى الآية وسياقها، وجملة ما نورده من ذلك درجات عشر، كل واحدة منها على حظ من الإجمال، بعدها درجة أخرى على حظ من التفصيل، حتى تكون الخاتمة هو ما اشتمل عليه سياقها المنظوم على أحسن نظام، وصار واقعا فى تتميم بلاغتها أحسن تمام. الدرجة الأولى: نداء الخفية، فإنه دال على ضعف الحال وخطاب المسكنة والذل حتى لا يستطيع حراكا وهو من لوازم الشيخوخة والهزال، لما فيه من التصاغر للجلال والعظمة بخفض الصوت فى مقام الكبرياء، وعظم القدرة فهذه الجملة مذكورة كما قررناه، وهى مناسبة لحاله، ولهذا صدرها فى أول قصته لما فيها من ملائمة الحال وهضم النفس، واستصغارها، وافتتاحها بذكر العبودية يؤكد ما ذكرناه ويؤيده. الدرجة الثانية: كأنه قال، يا رب إنه قد دنا عمرى وانقضت أيام شبابى، فإن انقضاء العمر دال على الضعف، والشيخوخة لا محالة، لأن انقضاء الأيام والليالى هو الموصل إلى الفناء والضعف وشيب الرأس، ثم إن هذه الجملة صارت متروكة لتوخى مزيد التقرير إلى ما هو أكثر تفصيلا منها مما يكون بعدها. الدرجة الثالثة: كأنه قال قد شخت فإن الشيخوخة دالة على ضعف البدن وشيب الرأس، لأنها هى السبب فى ذلك لا محالة.

الدرجة الرابعة: كأنه قال وهنت عظام بدنى، جعله كناية عن ضعف حاله، ورقة جسمه، ثم تركت هذه الجملة إلى جملة أخرى أكثر تفصيلا منها. الدرجة الخامسة: كأنه قال أنا وهنت عظام بدنى، فأعطيت مبالغة، لما قدم المبتدأ ببناء الكلام عليه كما ترى. الدرجة السادسة: كأنه قال إنى وهنت العظام من بدنى فأضاف إلى نفسه، تقريرا مؤكدا «بإن» للأمر، واختصاصها بحاله، ثم تركت هذه الجملة بجملة غيرها. الدرجة السابعة: كأنه قال إنى وهنت العظام منى، فترك ذكر البدن، وجمع العظام، إرادة لقصد شمول الوهن للعظام ودخوله فيها. الدرجة الثامنة: ترك جمع العظام إلى إفراد العظم، واكتفى بإفراده فقال: إنى وهن العظم منى. الدرجة التاسعة: ترك الحقيقة، وهى قوله أشيب، أو شاب رأسى، لما علم أن المجاز أحسن من الحقيقة، وأكثر دخولا فى البلاغة منها، ثم تركت هذه الجملة بجملة أخرى غيرها. الدرجة العاشرة: أنه عدل عن المجاز إلى الاستعارة فى قوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] وهى من محاسن المجاز، ومن مثمرات البلاغة، وبلاغتها قد ظهرت من جهات ثلاث. الجهة الأولى إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال بجميع الرأس، بخلاف ما لو قال: اشتعل شيب رأسى، فإنه لا يؤدى هذا المعنى بحال، فاشتعل رأسى وزان اشتعلت النار فى بيتى، واشتعل رأسى شيبا، وزان اشتعل بيتى نارا. الجهة الثانية الإجمال والتفصيل فى نصب التمييز، فإنك إذا نصبت شَيْباً كان المعنى مخالفا لما إذا رفعته، فقلت: اشتعل شيب رأسى، لما فى النصب من المبالغة دون غيره. الجهة الثالثة تنكير قوله شيبا، لإفادة المبالغة، ثم إنه ترك لفظ (منى) فى قوله واشتعل الرأس شيبا، اتكالا على قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ثم إنه أتى به فى الأول، بيانا للحال وإرادة للاختصاص بحاله فى إضافته إلى نفسه، ثم عطف الجملة الثانية على الجملة الأولى بلفظ الماضى، لما بينهما من التقارب والملائمة، فانظر إلى هذا السياق المثمر المورق، وجودة هذا الرصف المعجب المونق، كيف ترك جملة إلى جملة، إرادة للإجمال بعده

التفصيل، من أجل إيثار البلاغة حتى انتهى إلى خلاصها، ودهن لبها ومصاصها. وهو جوهر الآية ونظامها بأوجز عبارة وأخصرها، وأظهر بلاغة وأبهرها واعلم أن الذى فتق أكمام هذه اللطائف حتى تفتحت أزرار أزهارها، وتعانقت أغصانها وتأنقت أفنانها، وتناسبت محاسن آثارها، هو مقدمة الآية وديباجتها، فإنه لما افتتح الكلام فى هذه القصة البديعة بالاختصار العجيب، بأن طرح حرف النداء من قوله «رب» وياء النفس من المضاف، أشعر أولها بالغرض، فلأجل تأسيس الكلام على الاختصار عقبه بالاختصار والإجمال، واكتفى بذكر هاتين الجملتين عما وراءهما من تلك المراتب العشر التى نبهنا عليها والحمد لله.

الفصل الرابع فى إيراد المطاعن التى يزعمونها على القرآن والجواب عنها

الفصل الرابع فى إيراد المطاعن التى يزعمونها على القرآن والجواب عنها اعلم أن للمخالفين لنا فى كلام الله تعالى اعتراضات ومطاعن يرومون بذلك إبطاله وإبطال دلالته، لما كان من أعظم حجج الله على خلقه، فلأجل هذا كثرت عنايتهم بالطعن فيه، ومطاعنهم فيه من جهات عشرين. الجهة الأولى: من حيث حقيقته، وحاصل ما قالوه: هو أن القرآن كلام الله تعالى، وليس يخلو الحال فى بيان ماهيته، إما أن يكون المرجع بحقيقته إلى أنه معنى قائم بذاته تعالى موجب لذاته المتكلمية كما هو رأى قدماء الأشعرية، كالإسفرائينى، والنجارية، والكلابية، وإلى هذا ذهب القاضى الباقلانى منهم، وإما أن يكون المرجع بالكلام إلى حالة الله تعالى، وهى المتكلمية، كما هو رأى المتأخرين من الأشعرية، له تعلقات كتعلقات العالمية، وهذه المذاهب فاسدة عندكم، وإما أن يكون المرجع بحقيقة الكلام إلى هذه الأحرف والأصوات المقطعة، كما هو رأى المعتزلة وأئمة الزيدية، وقد أفسدوه بأنا نعلم ماهية الكلام قبل إيجاد هذه الأحرف والأصوات، ونتصور ماهيته، وفى هذا دلالة على أنه أمر مخالف للأصوات والحروف، وإما أن يراد بحقيقة الكلام، أمر آخر وراء ما ذكرناه، فلابد من إبرازه لنعلم صحته أو فساده، فقد وضح بما ذكرناه، أن حقيقة الكلام مشكلة فلابد من الإحاطة بها، لأن الكلام فى كونه حجة قائمة على الخلق فرع تصور ماهيته، ولم يفرغ من ذلك. والجواب عما أوردوه من ذلك: هو أنا إذا قررنا ماهية الكلام بطلت هذه المذاهب كلها، والبرهان القاطع على أن الكلام هو هذه الأحرف المقطعة، أن المعقول من ماهية الكلام هو ما ذكرناه كما أن المعقول من ماهية الأسود، هو حصول السواد فى المحل، فلو عزلنا عن أنفسنا العلم بهذه الأحرف، لم نعقل حقيقة الكلام ولهذا فإن الكتابة لا يسمونها كلاما وكذا الإشارة، لعدم النطق بهذه الأحرف فحصل من هذا أن تقطيع هذه الأصوات هى الأصل فى كون الكلام كلاما، وأن إطلاق الكلام على ما ليس بهذه الصفة إنما كان على جهة المجاز كما يقول القائل فى نفسى كلام، فمن أدرك ما ذكرناه فقد أحاط بماهية الكلام، ومن لا يفهم هذه الأحرف فإنه بمعزل عن فهم ماهية الكلام، ويؤيد ما ذكرناه

الجهة الثانية من حيث القدم،

أن جميع من تكلم فى ماهية الكلام فإنه لا بد من ذكر ما قلناه من الأصوات المقطعة والحروف المنظومة من أئمة الأدب وأهل اللغة، وأهل النحو، والتصريف، وأهل علم البيان، والعروضيين وغيرهم ممن كان مختصا بالكلام، فإنه لا يورد فى ماهيته إلا ما ذكرناه من هذه الأصوات وهذه الحروف، وفى هذه دلالة قاطعة على أنها أصل فى معقول معناه، وقاعدة فى فهم ماهيته، فلا يخطر ببال أحد منهم سوى ذلك. الجهة الثانية من حيث القدم، الملاحدة، وحاصل ما قالوه هو أن بعض أهل القبلة من المسلمين قد زعم كونه قديما، وهؤلاء هم الأشعرية على طبقاتهم، فإنهم قد اتفقوا على أن كلام الله تعالى قديم لا أول له، ومهما كان قديما فإنه لا يفيد فائدة، ولا يوجد منه شىء من الأحكام، لأن الكلام إنما يعقل معناه إذا كان مؤلفا من هذه الأحرف، فأما إذا كان قديما لم يعقل تقدم بعضه على بعض، فإذا كان قديما كان عريّا عن الفائدة لا يمكن أن يحتج به ولا يكون فيه دلالة فمهما جوز قدمه بطل الاحتجاج به. والجواب عما أورده هؤلاء إنما هو ببيان حقيقة الكلام، فإذا تقرر أنه هذه الأصوات والأحرف المقطعة فأمارة الحدوث فيها ظاهر من جهة أن المسبوق منها محدث لتقدم غيره عليه، والمتقدم على المحدث بأوقات يجب القضاء بحدوثه، لأن من حق القديم أن يكون سابقا على الحوادث بما لا نهاية له، فإذا كان لتقدمه غاية، كان محدثا، واعلم أنه لا خلاف فى كون هذه الحروف المقطعة والأصوات المنتظمة محدثة، لظهور أمارة الحدوث فيها، لجواز العدم عليها، وتقدم بعضها على بعض، وكل ما ذكرناه علامة الحدوث ودليل عليه، فلهذا قلنا: إن كلام الله تعالى محدث لما كان معقول الكلام هو هذه الأصوات من غير زيادة، وهكذا حال جميع الفرق، فإنهم لا يخالفوننا فى حدوث هذه الأحرف، وإنما يحكى الخلاف عن الأشعرية وجميع فرق المجبرة من النجارية، والكلابية، فإنهم متفقون على قدمه، وزعموا على هذا أن كلام الله تعالى شىء مغاير لهذه الأحرف والأصوات المقطعة ووصفوه بالقدم، وحاصل قولهم: أن الكلام معنى قديم قائم بالذات، فإذا تقرر كون الكلام ما وصفناه من هذه الأحرف وأن ما قالوه غير معقول، ثبت حدوثه لا محالة، فإذن الخلاف بيننا وبين جميع طبقات المجبرة فى قدم القرآن مرتد إلى ماهية الكلام، فإن كان

الجهة الثالثة من الطعن

الحق ما قلناه: من أنه هذه الأحرف المقطعة فالقرآن محدث، وجميع كلام الله تعالى، وإن قدرنا أن حقيقة الكلام ما قالوه من كونه صفة قائمة بالذات لم نمنع قدمه إذا قامت عليه دلالة، فأما مع الإقرار أو قيام البرهان على أن معقول الكلام هو هذه الأحرف المقطعة فلا سبيل للقول بقدمه على حال، لأن ذلك غير معقول أصلا. الجهة الثالثة من الطعن ذهب أكثر الأشعرية إلى أن كلام الله تعالى متحد غير متعدد، وأنه معنى واحد قرآن، وتوراة وإنجيل وزبور، وأمر ونهى، ووعد، ووعيد، إلى غير ذلك من الأوجه المختلفة فى الكلام، وزعم فريق من الأشعرية وهم الأقلون أن كلام الله تعالى متعدد إلى وجوه خمسة: أمر، ونهى، ودعاء، ونداء، وخبر، وهو محكى عن أبى إسحاق الإسفرائينى منهم، وهو فى هذين الوجهين لا تعقل دلالته بحال، لأنه إذا كان متحدا لم يعقل فيه أمر ونهى، لأن الشىء الواحد لا يكون على هذه الأوجه، لما فيها من التناقض، وإن كان متعددا إلى هذه الأوجه الخمسة فهو خطأ أيضا، إذ لا دلالة على حصره فى هذه الأوجه، فإذن لا يتم كون القرآن دالا على الأحكام الشرعية إلا بعد إبطال هذين المذهبين، لأنهما مهما صحا بطلت دلالته فهذا من أعظم المطاعن على الاستدلال به. والجواب أنا قد قررنا أن ماهية الكلام ومعقوله إنما هو هذه الأصوات المقطعة من غير زيادة على ذلك، وأن حقيقته غير مختلفة، شاهدا وغائبا، لأن ماهيات الأشياء وحقائقها لا تختلف باعتبار الشاهد والغائب، وإذا كان الأمر فيها كما قلناه فلا معنى لقول من قال: إن الكلام متحد، أو متعدد، بل يجب أن يكون لكل من هذه المعانى صيغة تدل عليه، ولا وجه لكونه حقيقة واحدة متحدة، ولا وجه أيضا لقصره على خمسة معان كما زعموه، وإنما بنوا هذه المقالة فى التعدد والاتحاد، على أن ماهية الكلام وحقيقته آئلة إلى أنه مغاير لهذه الأصوات المقطعة، وأنه معنى حاصل فى النفس، فلأجل هذا قالوا فيه بالتعدد والاتحاد، فإذا بطل كون الكلام معنى واحدا بطل ما بنى عليه من التعدد والاتحاد، ويدل على بطلان هذه المقالة أن كلام الله إذا كان معنى واحدا على زعمهم فكيف يعقل تعدده، وأن يكون خمس كلمات أمرا، ونهيا، ودعاء، ونداء، وخبرا، وفى هذا جمع بين النقيضين، فلا يكون مقبولا، لأنه من حيث إنه واحد فلا يعقل تعدده، ومن حيث إنه خمس كلمات يكون متعددا، فيكون متعددا غير متعدد وهو محال، فبطل ما قالوه.

الجهة الرابعة من الطعن على كونه حجة،

الجهة الرابعة من الطعن على كونه حجة، وحاصلها أن القرآن إنما يستقيم كونه حجة، إذا تقرر كونه من جهة الله تعالى، ومن الجائز أن يكون ألقاه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعض الملائكة، أو بعض الجن، أو الشياطين فلا يستقيم كونه حجة إلا بعد بطلان هذا الاحتمال. والجواب عما ذكروه من هذا الاحتمال البعيد يجرى على وجهين، الوجه الأول منهما إجمالى، وذلك من أوجه ثلاثة أولها أنا لو ساعدناكم على ذلك، وكان مدعى النبوة كاذبا، لوجب على الله تعالى أن يمنعه من ذلك لئلا يفضى إلى الإضلال بالخلق، والتلبيس عليهم فى أحوال دينهم، لأن الحكمة مانعة، فإن الله تعالى لا يجوز أن يسلط الشّبه على وجه لا يمكننا حالها، وثانيها أنا لو جوزنا ذلك لجاز أن يكون جرى الشمس، والقمر والنجوم، والأفلاك كلها، وجرى الفلك فى البحر وغير ذلك من الأمور الهائلة لواحد من هذه الاحتمالات، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، وثالثها أن هذه الوجوه لو كانت محتملة لذكرتها العرب فى القدح فى نبوته، لأن من المعلوم ضرورة حرصهم على ما كان مبطلا لدعواه فلما لم يذكروا شيئا من هذه الاحتمالات دل على بطلانها وفسادها. الوجه الثانى منهما تفصيلى: وذلك يكون من أوجه، أولها أنا نعلم بالضرورة علما لا مرية فيه، أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو الآتى بالقرآن، فإذا كان ما ذكرتموه من الاحتمال يدفع هذا العلم، وجب القضاء بفساده، وثانيها أنه لا طريق إلى إثبات الجن، والملائكة، والشياطين، إلا بالسمع، فكيف يصح الطعن فى النبوة والقرآن بما لا يكون ثابتا إلا بعد ثبوتهما، وثالثهما أنه قد تحدى جميع الخلق الأحمر، والأسود، والجن، والشياطين، بالقرآن، وادعى عجزهم عنه، فلو كان ذلك من فعلهم لتوفرت دواعيهم إلى معارضته، لأن كل من نسب إلى العجز عن الشىء وكان قادرا عليه، فإنه لا بد من أن يكون إثباته كما قررناه فى حال الإنس، ورابعها أنه كان ينهى عن متابعة الشياطين، ويأمر بلعنهم والبراءة منهم، ويحذر عن ملابستهم فى المطاعم، والمشارب، والمساكن، فلو كان الفاعل للقرآن هو الجن والشياطين لاستحال منهم نصرته مع شدة عداوته لهم، وأمره بالبعد عنهم واللعن لهم، وخامسها أن القرآن الذى ظهر على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم، لو جاز إسناده إلى الجن كما زعموه، لجاز ذلك فى كل كتاب يدعى كل إنسان أن تصنيفه، أن يكون ذلك الكتاب من قبيل الجن، وعند هذا يلزم فى هذه الكتب المشهورة أن لا تكون مضافة إلى قائليها لمثل ما ذكروه فى القرآن، وهذا يؤدى إلى التشكيك فى الأمور الضرورية وهو محال، فبطل ما قالوه.

الجهة الخامسة من الاعتراض والطعن من جهة الصدق

الجهة الخامسة من الاعتراض والطعن من جهة الصدق وحاصل هذه الجهة أن القرآن إنما يراد لكونه حجة مقطوعا به، وذلك لا يحصل إلا مع القطع بكونه صدقا، والعلم بصدقه متوقف على العلم بأن الله تعالى صادق فى خبره، لأنا لو جوزنا على الله الكذب لم نقطع بصدق القرآن، فإذن لابد من الدلالة على صدق الله تعالى ليحصل العلم بصدق القرآن، وأنتم لم تفرغوا من بيان هذه القاعدة، وهى من أهم القواعد على صدق القرآن وكونه حجة على الأحكام الشرعية والأسرار الدينية وصحة ما تضمنه من العلوم. والجواب عما أوردوه أن الذى يدل على صدق الله تعالى عندنا هو ما تقرر من قواعد الحكمة، وحاصلها أن الله تعالى حكيم لا يجوز عليه الكذب، لأنه قد فقد داعيه إلى فعل الكذب، وهو الجهل والحاجة، وخلص صارفه عنه، وهو كونه عالما بقبحه، فيجب على هذا أن لا يفعله الله تعالى كما نقوله فى سائر الأمور القبيحة، فإن عمدتنا فى أن الله تعالى لا يفعلها، هو ما ذكرناه من تقرير قاعدة الحكمة، وهذا هو الأصل فى تنزيهه عن كل قبيح وعن الإخلال بكل واجب، فأما الأشعرية فلهم على أن الله صادق مسلكان: المسلك الأول منهما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن كونه صادقا «1» ، فيجب القضاء بصدقه، وأخبر عن كون الكذب ممتنعا على الله تعالى، وما ذكروه فاسد جدا لا يليق ذكره بأهل الفطانة ولولا أن ابن الخطيب أورده لما أوردناه، لما اشتمل عليه من الضعف والركة، وبيانه أن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم متوقف على دلالة المعجز على صدقه، والمعجز قائم مقام التصديق بالقول، فإذن صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم مستفاد من تصديق الله، وتصديق الله إياه إنما يدل على صدقه، لو ثبت كونه تعالى صادقا، إذ لو جاز عليه الكذب لم يلزم من تصديقه تعالى أن يكون صادقا كما لا يلزم من تصديق الواحد منا غيره كون ذلك الغير صادقا، لأجل جواز الكذب علينا، فإذن العلم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم موقوف على العلم بصدق الله تعالى، فلو وقف العلم بصدق الله على العلم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لزم الدور، وأنه محال لما ذكرناه. المسلك الثانى هو أن كلام الله تعالى قائم بنفسه، ويستحيل الكذب فى الكلام النفسى، لأنه يقوم

الجهة السادسة من الطعن على القرآن بأنه قد أتى بمثله

بالنفس على وفق العلم من غير مخالفة، فمهما كان الجهل على الله تعالى محالا، كان الكذب عليه محالا، وهذا فاسد أيضا لأمرين، أما أولا فلأنهم ما أقاموا برهانا قاطعا على أن كل من استحال فى حقه الجهل فإنه يستحيل من جهته الكذب، وأن يكون مخبرا بالخبر النفسى على خلاف ما هو به، وهذه القضية غير معلومة بالضرورة، فلا بد فيها من إقامة الدلالة، وأما ثانيها فهب أنا سلمنا أنه يستحيل عليه الكذب فى الكلام القائم بنفسه، فلم لا يجوز أن يكون كاذبا فى الكلام الذى نسمعه ونقرؤه الذى بين أظهرنا، فهذان المسلكان هما العمدة لهم فى تقرير صدق الله تعالى، وقد عرفت ما فيهما من الفساد، وليس العجب من قدماء الأشعرية فى إيراد هذه الأمور الركيكة، وإنما العجب من ابن الخطيب فى إيراده لمثل ذلك مع أنه الرجل فيهم والمتولى على دقائق علم الكلام والمتبحر فى مغاصاته. الجهة السادسة من الطعن على القرآن بأنه قد أتى بمثله وحاصل هذه المقالة أن كل من قرأ سورة البقرة وجميع القرآن، فإنه قد أتى بمثله، وما هذا حاله فلا يكون معجزا، وإنما قلنا: إن كل من قرأه فقد أتى بمثله، لأنا نعلم بالضرورة أنه لا معنى للكلام إلا الأصوات المقطعة تقطيعا مخصوصا الموضوعة لإفادة معانيها، ونعلم بالضرورة أن الأصوات الحاصلة فى لهوات زيد غير الأصوات الحاصلة فى لهوات عمرو، وإذا تقرر ذلك حصل غرضنا من أن كل من قرأ القرآن فقد أتى بمثله فلا يكون معجزا بحال. والجواب من وجهين، أما أولا فما هذا حاله من الكلام ركيك جدا، فإنا نعلم بالضرورة أن كل من أنشأ رسالة أو خطبة، أو قال قصيدة، أو غير ذلك من سائر الكلام، ثم أنشأها إنسان آخر فحفظها ورواها مرة أخرى فإنه لا تكون قراءته لتلك الرسائل، والقصائد، والخطب، إتيانا بما يعارضها، وإنما هى مضافة إلى قائلها، وما يكون من جهة القارىء فإنما يكون على جهة الاحتذاء، دون الابتداء والإنشاء، وهذا ظاهر لا يشك فيه أحد من النظار والفصحاء ثم إنهم يقولون للكلام إضافتان، فالإضافة الأولى إلى من ابتدأه وأنشأه، وهذه هى الإضافة الحقيقية، والإضافة الأخرى، وهى لمن حفظه وحكاه، ونعلم قطعا أن كل من قال: قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل «1» لا يكون معارضا لامرىء القيس فيما قاله من هذه القصيدة، بل إنما جاء بها على جهة

الجهة السابعة من الطعن فى القرآن بالإضافة إلى ألفاظه والاختلاف فيها

الاحتذاء لقائلها، وهذا الجواب على رأى من قال: الحرف هو الصوت من غير مغايرة بينهما، وهو المختار، لأنه لو كان أحدهما غير الآخر، لصح انفراد الحرف عن الصوت، إذ لا ملازمة بينهما فتوجد أحرف قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [الفاتحة: 2] ولا توجد أصواتها، أو توجد هذه الأصوات المقطعة ولا توجد أحرفها، وهذا لا وجه له، وأما ثانيا فإنه يأتى على رأى من قال: الحرف غير الصوت كما هو محكى عن الشيخين، أبى الهذيل، وأبى على الجبائى، والسبب فى هذه المقالة لهما هو ما ذكرناه من هذه الشبهة، وعلى هذا فإن الحاكى وإن أتى بالصوت، فإنه غير آت بالحرف، فيكون الإعجاز بالحرف دون الصوت، ولعمرى إن الجواب عن الشبهة على هذا القول سهل، لكن هذا القول محال وخطأ لما ذكرناه، والجواب عنها يكون بما أشرنا إليه وبالله التوفيق. الجهة السابعة من الطعن فى القرآن بالإضافة إلى ألفاظه والاختلاف فيها يكون على أوجه أربعة، أولها فى نفس الألفاظ كقراءة من قرأ (وتكون الجبال كالصوف المنفوش (5)) [القارعة: 5] بدل كَالْعِهْنِ وقراءة (فامضوا إلى ذكر الله) [الجمعة: 9] بدل فَاسْعَوْا وقراءة (فكانت كالحجارة أو أشد قسوة) [البقرة: 74] بدل فَهِيَ كَالْحِجارَةِ وقراءة (فاقطعوا أيمانهما) [المائدة: 38] عوض أَيْدِيَهُما وقراءة مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة: 4] بدل ملك إلى غير ذلك من الاختلاف فى ألفاظه وثانيها فى ترتيب ألفاظه كقوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: 61] وقرىء (ضربت عليهم المسكنة والذلة) وقرىء: (وجآءت سكرة الحق بالموت) عوض قوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ [ق: 19] وقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] برفع «آدم» وقرىء فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ برفع «كلمات» فإذا رفع «كلمات» كانت مقدمة، وغيرها مؤخر، لأنها فاعلة، وإذا رفع «آدم» كان مقدما وغيره مؤخر، وثالثها الزيادة كقوله تعالى: (النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) [الأحزاب: 6] وقال تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم أكثرهم لا يعقلون) [الحجرات: 4] وقوله تعالى: (له تسع وتسعون نعجة أنثى) [سورة ص: 23] وقوله تعالى: (والسارقون والسارقات) [المائدة: 38] ورابعها ما يقع من اختلاف الحركات كقوله تعالى رَبَّنا باعِدْ [سبأ: 19] على لفظ الماضى وقرىء باعِدْ بلفظ الأمر، فالعين تارة تكون مفتوحة، وتارة تكون مكسورة، والمعنى مختلف فى ذلك، وقوله تعالى لَقَدْ

جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] قرىء بضم الفاء جمع نفس، وقرىء بفتحها يعنى أعلاها، وقوله تعالى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة: 112] برفع «الرب» على الفاعلية وقرىء هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بنصبه على المفعولية، فهذه الاختلافات واقعة فيه، فلو كان القرآن من جهة الله تعالى لما وقع فيه هذا الاختلاف، لقوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء: 82] فعدم الخلاف دليل على أنه من الله، ووجود الخلاف ينفيه، وقد وجد كما ذكرناه، فيجب نفيه عنه. والجواب من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن وجود الخلاف إنما يكون دالا على أنه ليس من جهة الله تعالى أن لو قال «ولو كان من عند الله لما وجدوا اختلافا» فأما وقد قال وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً فلا يلزم مع اختلافه أن لا يكون من عند الله، كما لو قال القائل: لو كان هذا سوادا لكان لونا، فإنه لا يلزم من عدم كونه سوادا أن لا يكون لونا، فهكذا ما نحن فيه، فلا يلزم من وقوع الاختلاف أن لا يكون من جهة الله تعالى، وأما ثانيا فلأن الآية لم تدل إلا على عدم الاختلاف مطلقا، وليس فيها دلالة على عدم الاختلاف من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه لكنا نحملها على عدم الاختلاف من بعض الوجوه، وهو عدم الاختلاف فى فصاحته، فإنها شاملة له من جميع الوجوه، وبها تميز عن سائر الكتب، فإن الظاهر من حال من صنف كتابا طويلا على مثل طوله، أن لا يبقى كلامه فى الفصاحة على حد واحد ونظم متفق، بل يكون كلامه فى بعض المواضع صحيحا وفى بعضها ركيكا فاسدا بخلاف القرآن، فإنه حاصل على طريقة واحدة فى البلاغة والفصاحة، وحسن الانتظام وجودة الاتساق، وأما ثالثا فلأنا نسلم وقوع الاختلاف فيه كما ذكروه فى أحرف القرآن المختلفة، ولكنه حق وصواب، ولهذا جاء فى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن من سبع سموات على سبعة أحرف كل حرف منها شاف كاف» «1» ، وهذه الأحرف السبعة عبارة عن اللغات، لكن منها ما كان متواتر النقل، وهو ما كان عن القراء السبعة، ومنها ما يكون منقولا بالآحاد، وكله حاصل من جهة الرسول ونزل به جبريل، وأخذه من اللوح المحفوظ، فإذن حصول هذا الاختلاف لا يمنع من كونه قرآنا، ولا من كونه نازلا من السماء على ألسنة الملائكة والرسل، وفى ذلك بطلان ما قالوه والحمد لله.

الجهة الثامنة من الطعن على القرآن بظهور المناقضة فيه

الجهة الثامنة من الطعن على القرآن بظهور المناقضة فيه وهذا ظاهر لمن تأمله، فإن آيات التنزيه لذاته عن مشابهة الممكنات كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى: 11] تناقضها آيات التشبيه كقوله تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] وآيات الجهة كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] وقوله تعالى: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) [طه: 5] وهكذا آيات الجبر فى مثل قوله تعالى: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] وقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) [الصافات: 96] تناقض آيات التنزيه عن خلق القبائح كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس: 44] وقوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) [الكهف: 49] إلى غير ذلك من الآيات المتناقضة فى ظواهرها. والجواب عما أوردوه أن برهان العقل قد دل على تنزيه الله تعالى فى ذاته عن مشابهة الممكنات، ودل على تنزيهه عن نسبة القبيح إليه، فإذا ورد فى الشرع ما يناقض قاعدة العقل، يجب تأويله على ما يكون موافقا للعقل، لأن هذه الظواهر محتملة، ومادل عليه العقل غير محتمل، فيجب تنزيل المحتمل على ما يكون محتملا، يؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن البراهين العقلية لا يخلو حالها، إما أن تكون محتملة للخطأ، أو غير محتملة، فإن كان الأول، لزم تطرق الخطأ إلى الأمور السمعية كلها، لأنه لا يمكن القطع بكون الكتاب والسنة حجة إلا بالعقل، فالقدح فى الأصل يتضمن لا محالة القدح فى الفرع، وإن كان الثانى فنقول حمل الكلام على المجاز محتمل فى جميع هذه الظواهر، وحمل الأدلة العقلية على غير مدلولها غير محتمل، فإذا تعارضا كان التصرف فى المحتمل أحق من التصرف فى غير المحتمل، فهذا القانون كاف فى دفع التناقض عن الظواهر القرآنية، ويجب ردها إليه فأما تأويل كل آية على حيالها، والجواب عما ورد من ظواهر الآى المتناقضة، فالكلام فيه طويل، وقد أفرد لها العلماء كتبا، وقد أوردها الشيخ العالم النحرير الطريثيثى فى كتابه فأغنى ذلك عن إيرادها. الجهة التاسعة من الطعن على القرآن فى وصفه وحاصل ما قالوه فى هذه وهى مخالفة لما

قبلها من المناقضة، فإن تلك المناقضة فيه على زعمهم من جهة معناه، وهذه من جهة وصفه، وذلك أن الله تعالى وصف كتابه الكريم بالبيان، حيث قال تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وبالنور فى قوله تعالى: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً [الشورى: 52] وبالبراءة عن التعقيد فى قوله تعالى فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) [الإسراء: 12] وقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه لا لبس فيه ولا تعقيد فى ألفاظه، وقد رأيناه على خلاف ذلك، فيجب أن لا يكون كلام الله تعالى، وإنما قلنا: إنه ليس كذلك لأمور ثلاثة، أما أولا فلأن الحروف التى فى أوائل السور من المفردة نحو ق ون والمثناة نحو حم* وطس والمثلثة نحو الر والم والرباعية نحو المر والمص والخماسية نحو حم عسق وكهيعص غير معلوم المراد منها، وأما ثانيا فلأن أكثر المفسرين اضطربوا فى تفسير الآيات اضطرابا عظيما، وذكروا فى كل آية وجوها مختلفة، ولا يتمكنون من القطع بتفسير واحد، والقدح فيما عداه، وأما ثالثا فلأنه لا يوجد فيه آية دالة على شىء إلا والمنكر لذلك الشىء يعارضها بآية أخرى، ويذكر لها تأويلا يمنع من دلالتها على ذلك الشىء وهذه الأمور كلها دالة على أنه فى غاية التعقيد والإبهام ينقض بعضه بعضا. والجواب عما أوردوه أن القرآن كما وصفه الله تعالى فى غاية البيان، لما تضمنه من الحقائق، وأشير إليه من مشكلات الدقائق، واضحة جلية. قوله الحروف التى فى أوائل السور غير مفهومة، قلنا: قد ذكر العلماء فيها وجوها كثيرة، إما أنها أسماء للسور، وإما أنها وردت على جهة الإفحام لمن تحدّى بالقرآن، وإما لغير ذلك من الأسرار، فكيف أنها لا تعقل معانيها، ويكفى وجه من هذه الأوجه فى 7 خراجها عن كونها غير معقولة المعانى. وقوله: إن أكثر المفسرين اضطربوا فى تفسير الآيات كلها، قلنا: التفاسير المختلفة ليس يخلو حالها، إما أن تكون مشتركة فى معنى واحد، فيكون ذلك المعنى هو المقصود لله تعالى لاتفاقهم عليه، وإن لم يكن الأمر فيه كما أشرنا إليه فمن جوز حمل الكلام المشترك على كلا مفهوميه، فإنه يحمله عليهما جميعا، فيكونان مقصودين على هذا، ومن لم

الجهة العاشرة فى الطعن على القرآن من مخالفة اللغة العربية

يجوز ذلك فإنه يطلب مرجحا لأحد المعنيين على الآخر، فإن وجد مرجحا حمل عليه وكان المرجوح غير مقصود لله تعالى، وإن لم يجد مرجحا وجب التوقف، وهذا لا ينافى وصف القرآن بكونه بيانا ونورا وضياء من جهة أن وصف الكتاب بالبيان لا ينافى كون بعض آياته مفتقرا إلى البيان، وقوله لا توجد فيه آية دالة على معنى إلا ويوجد فيه ما يعارض ذلك المعنى على المناقضة، قلنا: إن كان للعقل فيها حكم وتصرف فالمقصود من الآية لله تعالى هو ما طابق العقل، لأنه لا يمكن معارضة العقل فيما دل عليه، وإن لم يكن للعقل فيه حكم كان الأمر فيه على ما ذكرناه فى حكم التفاسير المختلفة، فلا وجه لتكريره. الجهة العاشرة فى الطعن على القرآن من مخالفة اللغة العربية وذلك من أوجه ثلاثة، أما أولا فقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] والقياس فيه إن هذين لساحران، وأما ثانيا فقوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) [نوح: 22] والقياس كبيرا، لأن كبارا لم يعهد فى لغة قريش، وأما ثالثا فلأن الهمزة واردة فى كتاب الله تعالى، وليس من لغة قريش، ووجه الاستدلال بما ذكرناه هو أن هذه الأمور الثلاثة غير واردة فى لغة قريش، والقرآن لا شك فى كونه واردا على لغتهم، لأن الله تعالى يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] وهو غير وارد على لغة قوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما ذكرناه. والجواب عما زعموه من وجهين، أما أولا فلأن المقاييس النحوية تابعة للأمور اللغوية، فيجب تنزيلها على ما كان واقعا فى اللغة، فإذا ورد ما يخالف الأقيسة النحوية من جهة الفصحاء وجب تأويله، ويطلب له وجه فى مقاييس النحو، ولا يجوز رده لأجل مخالفته للنحو، ولهذا فإنه لما أنكر على الفرزدق ما يأتى من العويص فى شعره المخالف لظاهر الإعراب عيب عليه فى ذلك فقال على أن أقول، وعليكم أن تحتجوا فدل ذلك على ما ذكرناه، وأما ثانيا فلأنه لو كان لحنا كما زعموا، لكان من أعظم المطاعن للعرب عليه، لكونه مخالفا لما عليه أهل اللغة العالية فلما لم يثلموا فيه شيئا دل ذلك على أنه قد طابق اللغة وأنه لا مطعن فيه بحال، قوله: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] قلنا لأئمة العربية فيه تأويلات كثيرة قوية تخرجه عما زعمتموه من اللحن، وقوله: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) [نوح: 22] وقلنا كُبَّاراً وإن لم يكن فى لغة قريش، لكنه وارد فى لغة العرب، فلا مطعن به لأنه فصيح، وإن لم يكن أفصح، فبطل ما توهموه، وقوله الهمزة واردة فى القرآن وليست من لغة قريش، والقرآن وارد على لغتهم لقوله: بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]

الجهة الحادية عشرة من الطعن على القرآن بالإضافة إلى ما يكون متكررا فيه

قلنا: العرب كلهم قوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه منهم، فالهمزة وإن لم ترد فى لغة قريش، لكنهم التزموا تخفيفها، والعرب جوزوا فيها الوجهين جميعا، ومن أراد الاطلاع على أسرارها فى التفاصيل فعليه بالكتب التفسيرية، فإنه يجد فيها ما يكفى ويشفى، والحمد لله رب العالمين. الجهة الحادية عشرة من الطعن على القرآن بالإضافة إلى ما يكون متكررا فيه اعلم أن التكرير وارد فيه على وجهين، أحدهما أن يكون من جهة اللفظ كالذى أورده فى سورة الرحمن من قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] وكما ورد فى سورة القمر من قوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) [القمر: 16] وكما ورد فى سورة المرسلات من قوله تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) [المرسلات: 15] وكما ورد فى سورة النساء من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 116] فهذا تكرير من جهة اللفظ، وثانيهما أن يكون التكرير من جهة المعنى، وهذا نحو قصة موسى، وفرعون، فإنها واردة فى سور كثيرة، وكما ورد فى قصة آدم وإبليس فإنها وردت فى مواضع من القرآن، فقالوا إن هذا التكرير لغير فائدة لا يليق بما كان بالغا فى الفصاحة كل غاية فلو كان القرآن على ما قلتموه من ذلك لم يكن فيه تكرير. والجواب من أوجه ثلاثة: أما أولا فلأن الله تعالى إنما كرر هذه القصص على جهة الشرح لفؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والتسلية له عما كان يصيبه من تكذيب قريش، فلهذا كررت القصص، وأما ثانيا فإنه إنما كرر القصص لفوائد تحصل عند تكررها وما هذا حاله فليس تكرارا فى الحقيقة وأما ثالثا فلأن الله تعالى لما تحدى العرب بالإتيان بمثل القرآن ربما توهم متوهم أن الإتيان بمثله مستحيل من جهة الله تعالى، فلا جرم كرر القصص ليعلم أنه غير مستحيل من جهته، وإنما الاستحالة كانت متعلقة بالخلق دونه، فهذه الأمور كلها دالة على جواز التكرير بمثل هذه الأغراض الحسنة، ومن وجه آخر هو أن التكرير إنما ورد لتأكيد الزجر والوعيد كقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3- 5] ثم إن التأكيد مستحسن فى لغة العرب، فلهذا وردت هذه التكريرات على جهة التأكيد، ولو كان ما أتى به مخالفا لأساليب العرب فى كلامهم، لكان ذلك من أعظم المطاعن لهم، فلما سكتوا عن ذلك، دل على بطلان ما زعموه من الطعن بالتكرير.

الجهة الثانية عشرة من المطاعن على القرآن ما تضمنه من الأمور الخبرية التى هى على خلاف مخبراتها فيكون من جملة الأكاذيب،

الجهة الثانية عشرة من المطاعن على القرآن ما تضمنه من الأمور الخبرية التى هى على خلاف مخبراتها فيكون من جملة الأكاذيب، وهذا كقوله تعالى وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: 83] ولا شك أنه ليس جميع الناس مسلمين، بل أكثرهم كافرون، فقد أخبر بما ليس صدقا، وهكذا قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) [النحل: 49] ولا شك أن أكثر الناس غير ساجد لله تعالى، بل إما لأنه لا يسجد أصلا، وإما لأنه يسجد لغيره. والجواب عما أوردوه أن ما هذا حاله من دسائس الملاحدة وكذبهم على الله تعالى، ومحبة للتحريف فى كتاب الله تعالى، وتدرجا إلى إغواء الخلق وميلهم عن الدين، بأن يأتوهم من حيث لا يشعرون، فأما الإسلام فالغرض به الانقياد لأمر الله تعالى فى التكوين والإرادة من غير مخالفة عند حصول الداعية إلى إيجاد المصلحة، وما هذا حاله فإنه يكون عاما لجميع من فى السموات والأرض من المخلوقات، أعنى الانقياد للإرادة والتكوين، وأما قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فالغرض بالسجود ههنا، هو الخضوع والذلة لأمره، ولما ينفذ فيه من الأقضية الواقعة على أمره، فالسجود حقيقة إنما يعقل من جهة الملائكة والثقلين، الجن والإنس، وما عداهم إنما دخل على جهة التغليب فى الخطاب، أو يكون الغرض من سجود من لا يتأتى منه السجود إنما هو الإذعان والانقياد لأوامره ونواهيه فى إيجاده وتكوينه، وتفريقه وإذهابه، فإنه لا مانع لأمره، ولا معقب لحكمه، وهكذا القول فيما يوردونه من هذه المطاعن الركيكة، والمساعى السخيفة، تجرى على نحو ما ذكرناه والذى حملهم على هذه المطاعن الركيكة هو ما هم عليه من عداوة الإسلام وأهله، فيريدون كيده بأى حيلة يجدون إليها سبيلا، ولجهلهم بالمجازات الرشيقة، والاستعارات الأنيقة التى أنكرتها طباعهم، ولم تتسع لها حواصلهم، وهكذا يفعل الله بمن لم يرد توفيقه، فنعوذ بالله من خبال العقل وتهمة الجهل. الجهة الثالثة عشرة من المطاعن على القرآن سوء الترتيب والنظم وهذا كقوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة: 5] فقدم العبادة على الاستعانة وكان من حقه العكس، من جهة أن الاستعانة هى نوع من الألطاف، ومن حقها التقدم على الفعل، لأنها داعية إليه. وكقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] كان الأحسن فى الترتيب، وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، ومن حق ما يكون معجزا أن يكون

الجهة الرابعة عشرة من المطاعن على القرآن كونه موضحا للأمور الواضحة،

حاصلا على الانتظام العجيب، فوروده على هذه الصفة لا محالة يقدح فى إعجازه. والجواب عن قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ أنه إنما قدم العبادة على الاستعانة من جهة أن الاهتمام كان من أجل العبادة، فلهذا قدمها لأن العبادة من جهتهم، والإعانة إنما هى حاصلة من جهته، فكأن الذى يكون من جهته حاصل لا محالة غير متأخر لقوة الداعية إليه، بخلاف الذى يكون من جهتهم، فإنه ربما وقع، وربما لم يقع، فمن أجل ذلك كانت العناية بتقديم العبادة أعظم، ومن وجه آخر، وهو أن تقديم الوسيلة ربما كان أدخل فى إنجاح المطلوب وأسرع إلى تحصيله. فأما قوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الأعراف: 4] فقد ذكر المفسرون فيها وجوها، إما على أن التقدير فيها «وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا» فالعطف لمجىء البأس إنما كان على الإرادة، وهى سابقة لا محالة، وإما على أن التقدير، وكم من قرية أهلكناها فحكمنا بمجىء البأس بعد الإهلاك، لأن الحكم بمجىء البأس لا يكون إلا بعد وقوعه وحصوله، وإما على أن الإهلاك ومجىء البأس فى الحقيقة أمر واحد، وحقيقة واحدة يجوز تقديم أحدهما على الآخر من غير ترتيب بينهما، وعلى هذا تقول: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا، وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، فلا يعقل بينهما ترتيب، لما كانت حقيقتهما واحدة، كما تقول سرت إلى السوق فجئته وجئت السوق فسرت إليه، فالقرآن الكريم لا يخلو عن هذه اللطائف والأسرار الجارية على القوانين الإعرابية، والأسرار الأدبية، بحيث لا يخالفها من تفطن لها منه وأخذها أخذ مثلها مع استيلائه على حقائق هذين العلمين علم المعانى وعلم البيان. الجهة الرابعة عشرة من المطاعن على القرآن كونه موضحا للأمور الواضحة، وهذا كقوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] هذا حاله فهو جلى لا يحتاج إلى بيان، لأن الثلاثة إلى السبعة، هى عشرة أعداد لا محالة، فقوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ خلو عن الفائدة، وما هذا حاله فإنه لا يليق بما كان معجزا، ثم إذا كان بهذه الحالة فكيف زعمتم أنه تؤخذ منه الأسرار الدقيقة، وتستنبط منه المعانى الغريبة فما هذا حاله فى الكلام لا يكون خليقا بما ذكرتموه. والجواب عما أوردوه من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن الإيضاح والبيان مقصدان من مقاصد الفصاحة والبلاغة، وقد تكلم علماء البيان فيهما جميعا، وأنهما مما يزيد الكلام

الجهة الخامسة عشرة من الطعن على القرآن بالإضافة إلى المقصود منه؛

حسنا، ويكسبانه رشاقة، فكيف يكونان معدودين من آفات الكلام ورذائله، فما هذا حاله فهو جهل بمواقع البلاغة، ومحاسن الفصاحة، وهما أيضا معدودان من أنواع البديع، أعنى المبالغة فى البيان والإيضاح، ويعدون ما كان غريبا وحشيا، فيه عنجهانية، ومن الكلام المجانب لمحاسن الفصاحة، وأما ثانيا فلأن ما هذا حاله فإنه يستحسنه الكتاب وأهل العلم بالحساب وهو أنهم إذا ذكروا عددين، ثم ضموا أحدهما إلى الآخر، فلا بد من ذكر تلك الجملة، التى يؤولان إليها عند اجتماعهما، ويسمون ذلك الفذلكة، فإذا قال: عندى له عشرون، وثلاثون، وخمسون، قال: فالجملة مائة كاملة، فما ذكروه جهل بهذه المقاصد وعدم إحاطة بما اشتملت عليه الأسرار القرآنية من المحاسن التى تفطن لها الأذكياء، وتقاعد عن فهمها الأغمار الأغبياء، وأما ثالثا فلأن المعيب بالإيضاح، إما أن يكون هو ذكر العشرة بعد ذكر السبعة، والثلاثة، فهذا خطأ قد ذكرنا وجهه على العلم بالأمور الحسابية، وإما أن يكون العيب بالإيضاح هو قوله عشرة كاملة، فإنه لا فائدة فى ذكر الكمال، فهذا خطأ أيضا، فإنه إنما ذكر الكمال اعتناء بصومها وحتما على عدم التفريق بينها، ولو أطلق وصف العشرة من غير وصف الكمال، لتوهم جواز الفصل بينها عند العودة إلى الأهل، ويجوز أن يكون أتى بها على جهة التأكيد المعنوى، كقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) [الحاقة: 13] وقوله تعالى: فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) [الحاقة: 14] فإن ذكر الوحدة إنما كان على جهة التأكيد من جهة المعنى بالصفة، ولو أوفوا النظر حقه لما عولوا على هذه الأنظار الركيكة، والمقاصد الفاسدة. الجهة الخامسة عشرة من الطعن على القرآن بالإضافة إلى المقصود منه؛ وحاصل ما قالوه أن الغرض بالقرآن إنما هو هداية الخلق وتعريفهم الأحكام الشرعية، والتفرقة بين الحلال والحرام، وإعلامهم بما يجوز على الله، وما يجب، وما يستحيل، إلى غير ذلك من المقاصد العظيمة، والمنافع الجزلة، وهذا إنما يحصل إذا كان كله محكما يفهم المراد من ظاهره، لكن قد تقرر اشتماله على الأمور المتشابهة التى قصد بها خلاف ظواهرها فلو كان المقصود به هداية الخلق وإعلامهم بأحكام الأفعال العملية، لكان يجب أن يكون كله محكما، فلما ورد فيه المتشابه دل على أنه المقصود منه ليس هداية الخلق لأنه صار سببا للزلل، ومنشأ لضلال من يضل من الفرق، وأكثر ضلال أكثر الفرق، ما كان إلا من جهته، ولا وجه لذلك إلا الخطاب بالمتشابه.

والجواب أن الله تعالى لم يجعل كتابه الكريم حاصلا على جهة الإحكام، ولا على جهة المتشابه مطلقا، وإنما خلطه بالمحكم مرة، وبالمتشابه أخرى، فقال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] وما ذاك إلا من أجل فوائد نذكرها بمعونة الله تعالى. الأولى الدعاء إلى النظر والحث عليه فى القرآن العظيم للمحق والمبطل، جميعا، فأما المحق فيزداد بالنظر قوة وانشراحا فى صدره، وسعة فى أمره، بإبطال الشبهة، وتجلى الحق له، وأما المبطل فلأنه بطول تأمله ربما زال عن باطله ورجع إلى الحق، فلو كان جميعه محكما لم يحصل هذا الوجه، لأن المحكم إنما يكون بالتنصيص عليه، وما كان حاصلا بالنص لا يفتقر إلى تأمل ونظر. الفائدة الثانية أن القرآن إنما كان مشتملا على المحكم، والمتشابه، لأن ذلك يدعو الناظر إلى الميز بينهما، وفصل أحدهما عن الآخر، فإذا فعل ذلك دعاه إلى التمييز فى أدلة العقول بين الحق والباطل، وهذه فائدة عظيمة لا يخفى موقعها، فيكون نظره فى متشابه القرآن ومحكمه على جهة الإرهاص لأدلة العقل، ويميز الحق عن الشبهة فيها. الفائدة الثالثة أن القرآن إذا كان مخلوطا بالمحكم والمتشابه، فإن ما هذا حاله يدعو إلى مراجعة العلماء ويعرف جليلة ذلك من جهتهم، ومجالسة العلماء ومحادثتهم هو زيادة فى الدين وتحفظ عليه، فيرتد عن العمى، ويسترشد إلى الهدى، ولهذا ودد الشرع تأكيدا لذلك حيث قال: جالسوا العلماء تعلموا. الفائدة الرابعة أن القرآن إذا كان غير وارد بالأمرين جميعا، أعنى المحكم والمتشابه، كان أقرب إلى الاتكال على الحمل على ظاهره، بخلاف ما إذا ورد مجموعا من الأمرين، فإنه يكون أقرب إلى ترك التقليد، إذ ليس اتباع المحكم أولى وأحق من اتباع المتشابه، فإذا كان لا ترجيح هناك بالإضافة إلى التقليد، وجب إهماله والاتكال على النظر المخلص عن ورط الحيرة بالتقليد. الفائدة الخامسة أن الله تعالى إذا كان يعلم أنه إذا خلط محكمه بمتشابهه، ازداد الثوب والأجر بكثرة النظر وإتعاب الفكرة جاز له تعريضهم لذلك فيصلون بذلك إلى درجات لا تنال إلا بالنظر، فهذه الفوائد كلها حاصلة فيما ذكرناه من الخطاب بالمتشابه وإذا كانت حاصلة بطل قولهم: إنه لا غرض لله تعالى فى الخطاب بالمتشابه.

الجهة السادسة عشرة فى الطعن على القرآن بكونه مستبهما لا يعقل معناه

الجهة السادسة عشرة فى الطعن على القرآن بكونه مستبهما لا يعقل معناه . وبيانه أن الصحابة رضى الله عنهم، وهم الغواصون على علوم القرآن، والمحيطون بعلوم الشريعة، كانوا عاجزين عن إدراك حقائقه وتفاصيلها، فإذا كانوا عاجزين فغيرهم أعجز، وإنما قلنا إنهم قد عجزوا عن إدراك معانيه، لما روى عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أنه لما سأله ابن الكواء وكان أحد أمرائه عن قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) [الذاريات: 1] غضب عليه، فلما ألح عليه، قال: هى الرياح، وعن أبى بكر أنه امتنع عن التفسير، وأما عمر فروى أنه سئل عن قوله تعالى: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) [النازعات: 1] فضرب السائل على أم رأسه، وحرم كلامه فكلامهم هذا فيه دلالة على أن معانيه غير معقولة، وأنها غير مدركة لأحد من العقلاء، وهذا يبطل المقصود به ويحط من إعجازه. والجواب عما زعموه هو أن الصحابة رضى الله عنهم أعرف بكتاب الله تعالى وأكثر إحاطة بعلوم السنة، ومنهم تؤخذ أسرارها، وعنهم تصدر جميع الأحكام والأقضية فى مصادر الشريعة ومواردها، والقرآن والسنة فى أيامهم غضان طريان، لقربهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومشافهتهم له بأحكام الوقائع كلها، ولسنا نبعد أن يتعذر عليهم الإحاطة ببعض دقائق القرآن وأسراره، ويختص الله تعالى بالعلم بها ورسوله، ولكنا نقول: إن أكثر معانى القرآن حاصلة فى حقهم يعرفونها ويفتون بها ويفصلون الخصومات والشجار الحاصلين بين الخلق، بما يفهمونه من عمومات القرآن وظاهره، فأما ما عرض من أمير المؤمنين من الإنكار وغيره كأبى بكر وعمر فإنما كان ذلك إذا كانت الرواية صحيحة لأحوال عارضة وما أفتوا به وعملوا عليه أكثر مما سكتوا وتوقفوا فيه، وكيف لا وقد قال أمير المؤمنين: سلونى قبل أن تفقدونى، فو الله إنى بطرق السماء لأعلم منى بطرق الأرض، وقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم «أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» «1» ، فمن هذا حاله فى العلم كيف يقال إنه غير محيط بأسرار كتاب الله تعالى وغير مشتمل على تفاصيلها فبطل ما توهموه. الجهة السابعة عشرة من الطعن على القرآن من جهة فائدته؛ وحاصل ما قالوه هو أن المقصود بالقرآن إنما هو إظهار الدلالة على نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودلالته على ذلك ليس إلا من

جهة كونه خارقا للعادة مطابقا لدعواه، ولا شك أن الفعل الخارق للعادة لا يدل على النبوة، ولهذا فإنه يحكى عن ابن زكريا المتطبب الرازى أنه قال: إن رجلا كان يتكلم من إبطه فجاءنى يوما يشكو علة به فمازحه بعض جلسائى، وقال قل للصبى يشكو، فرد يده إلى إبطه وشكا إليه بكلام، كأنه كلام إنسان رقيق الصوت به علة، وهو كلام مفهوم، ثم إن أحدا لم يفعل ذلك، ثم إن ما هذا حاله غير دال على نبوته، وحكى ابن زكريا أن رجلا كان لا يأكل الطعام سبعة وعشرين يوما، ومثل هذا خارق للعادة، ولا يكون دالا على النبوة، فهكذا حال القرآن وإن خرق العادة، لا يكون دالا على نبوته عليه السلام. والجواب عما زعموه أن ما ذكروه إنما يتقرر الجواب عليه إذا فرقنا بين المعجزة، والشعوذة، والتفرقة بينهما إنما تليق بالمباحث الكلامية، وقد فصلنا ذلك تفصيلا شافيا، فأغنى عن الإعادة، فأما ما قالوه من الكلام فى الإبط، فإنما كان الأمر كذلك من إحداث الأصوات المقطعة المتولدة عن الاعتمادات على الاصطكاك، فلا يمتنع إذا أدخل يده فى إبطه أن يضغط على شىء من الأصابع على كيفية مخصوصة، فيتولد الصوت المقطع عن الاعتماد، كما تقول فى هذه الألحان الطيبة، والأوتار الموترة على تأليف مخصوص فإنه يحصل منها تقطيعات عظيمة، تكاد أن تلحق بالقراءة لمكان تقطيعها وحاصل هذه الأمور كلها أنها مفتقرة إلى الآلات بحيث لا يمكن حصولها إلا بها، بخلاف ما ذكرناه من المعجزات الباهرة فإنها غير مفتقرة إلى الآلة، ولهذا فإن انقلاب العصا حية، ما كان بحيلة، ولا بإعمال قوة، ولا بأدوات، ولا بتحصيل آلات كما يفعله أهل الشعوذة، ومن كان ماهرا فى دقائق الحيل كأصحاب النّيرنجات وأهل الطلسمات فإنهم يعملون الحيل فى مزج قوى الجواهر لتحصل منها أمور غريبة وهذه هى النيرنجات كما يفعله أهل خفة اليد، وأما الطلسمات فحاصلها مزج القوى الفعالة السماوية بالأرض المنفعلة الأرضية، كنقش خاتم عند طلوع كوكب، فيحصل من استعماله على أمور غريبة، وكل ذلك لابد فيه من إعمال القوى وكد الحواس فى استخراج قوانينه واستنهاض غرائبه، فأما المعجزات السماوية فمما لا يحتاج فيها إلى استعمال شىء من الأشياء لكونها قد وقعت على وجه أدهش العقول، وحير الألباب، واضطرها إلى معرفة صدق من ظهرت عليه من غير كلفة ولا مشقة هناك، إلا ما كان من الجحود والعناد، فأما ما يحكى ممن كان لا يأكل الطعام أياما كثيرة، فذلك إنما كان من جهة الرياضة وقد حكى عن هذا الرجل فى ذلك بعد ما

الجهة الثامنة عشرة فى الطعن على القرآن بعدم الثمرة فيه،

امتحنت قوته بجذب قوسين، فقال إنما كان هذا من أجل الاعتياد والرياضة، والغرض أنه ألفه وراض نفسه بترك الطعام قليلا قليلا حتى صار إلى هذه الغاية، والرياضة تقضى بأكثر من هذا المقدار. الجهة الثامنة عشرة فى الطعن على القرآن بعدم الثمرة فيه، وحاصل ما قالوه هو أن الله تعالى إنما أنزل القرآن منة عظيمة على الخلق، وتعريفا لهم بما كلفهم من التكاليف الشرعية، وعلمهم فيه من الحلال والحرام، والأمر والنهى، وغير ذلك من سائر التكاليف، وهذا غير حاصل من جهة العباد، وبيانه هو أن القدرة غير صالحة للضدين، وإذا كان الأمر كذلك كان الفعل واجبا، فلا يتناوله التكليف بحال أصلا، ثم إن سلمنا أنها صالحة للضدين، فلابد من تحصيل الداعية لاستحالة حصول الفعل من غير داع، ثم إذا حصلت الداعية، فإما أن يجب الفعل أولا يجب، فإن لم يجب، احتاج إلى مرجح آخر، فيتسلسل إلى ما لا غاية له، وهو محال، وإما أن يجب الفعل عند حصول الداعية، وعند هذا يجب الفعل، ويبطل التكليف، وعلى كلا الوجهين يكون الفعل واجبا، فلا يتناوله التكليف، بل تكون الأفعال كلها من جهة الله تعالى، ولا يتعلق فعل بالعبد، وفى ذلك بطلان التكليف وطى بساطه، وفى هذا بطلان ثمرة القرآن وإبطال الغرض الذى أنزل من أجله. والجواب عما أوردوه من هذه الشبهة هو مبنى على قاعدة الجبر، وفيه بطلان الأمر والنهى، والوعد والوعيد، وإرسال الرسل، وبطلان المدح والذم، وما هذا حاله فبطلانه معلوم بالضرورة. قوله القدرة غير صالحة للضدين، قلنا: إذا كانت غير صالحة فإنها موجبة لمقدورها، وفيه وقوع المحذور الذى ذكرناه من بطلان الشرائع والأمر والنهى، وإبطال إرسال الرسل إلى غير ذلك، من الشناعات، فيجب القضاء ببطلانه. قوله إن سلمنا كونها صالحة للضدين فلابد من الداعية وهى أيضا موجبة للفعل، قلنا: هذا فاسد أيضا، فإن الداعى غير موجب للفعل أصلا بالإضافة إلى القدرة، وإنما هو موجب للفعل بالإضافة إلى الداعى، ومثل هذا لا يبطل الاختيار، وكل هذا يليق استقصاؤه بالمباحث الكلامية، والقواعد الدينية، فإنه من أهم مقاصدها، وأعلى مراتبها، فإذا تقرر ذلك من ثبوت الاختيار للعبد، بطل ما قالوه من أن القرآن لا ثمرة له. الجهة التاسعة عشرة من المطاعن على القرآن من جهة كتبه فى المصاحف؛ قالوا: روى

أن الصحابة رضى الله عنهم اختلفوا فى كتبه فى المصاحف اختلافا شديدا، وزيف كل واحد منهم مصحف الآخر وأنكره، وفى هذا دلالة على أنهم على غير حقيقة فى نقله، وعلى غير ثقة من أمره، فاشتهر أن عثمان حرق مصحف عبد الله بن مسعود فى خلافته، وقال ابن مسعود: لو تملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم مثل ما صنعوا، وكان ابن مسعود يطعن فى زيد بن ثابت ويذمه، حتى قال: إنه قرأ القرآن وإنه لفى صلب كافر، يعنى «زيدا» وروى ابن عمر أن عمر وضع القرآن فى مصحف وهو المصحف الذى كان عند «حفصة» وهو الذى أرسل مروان، وهو والى المدينة إلى عبد الله بن عمر يوم ماتت «حفصة» يطلب ذلك المصحف منه، فبعث ابن عمر به إليه، فأمر بإحراقه مخافة الاختلاف، فما ذكرناه دال على تفرقهم فيه، واختلافهم فى حاله، وأنه غير متواتر النقل ولا مقطوع بأصله. والجواب أن المصاحف المشهورة ثلاثة، مصحف ابن مسعود، ومصحف أبى بن كعب، ومصحف زيد بن ثابت فأما ابن مسعود فإنه قرأ القرآن بمكة، وعرضه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم هناك، وأما أبى بن كعب، فإنه قرأه بعد الهجرة وعرضه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك الوقت، وأما زيد بن ثابت فإنه قرأه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعدهما وكان عرضه على الرسول صلّى الله عليه وسلّم متأخرا عن الكل، وكان آخر العرض قراءة زيد، وبها كان يقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبها كان يصلى إلى أن انتقل إلى جوار رحمة الله تعالى، ومن المعلوم أنه كان يقرأ الآية الواحدة فى الصلاة بالأحرف المختلفة، فلما كان الأمر كما قلناه: اختار المسلمون ما كان آخرا، وكان ذلك اختيار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختيار الله له، فلما كان ابن مسعود أقدم الثلاثة كان السامعون لحرف عبد الله أقل من السامعين لحرف أبى بن كعب، والسامعون لحرف أبى أقل من السامعين لحرف زيد، ولا شك أن الحرف الواحد كلما كان أكثر استفاضة كان أحق بالقبول، فلأجل ذلك اتفقوا على حرف زيد لما ذكرناه، ثم إن سائر الحروف وإن كانت صحيحة، خلا أنهم خافوا من وقوع الاختلاف فى الروايات للقرآن، ويخرج القرآن عن أن يكون منقولا بالتواتر، فرأو بعد ذلك أن الأصوب حمل الناس على ذلك الحرف، ومنعهم عن القراءة بسائر الأحرف لئلا يكون القرآن فى محل الخلاف، ثم إن بعضهم رأى قراءة القرآن بسائر الأحرف وهى القراءات الشاذة، ولا مضرة فيه، ومنهم من منع من ذلك، فلأجل ذلك تكلم بعضهم فى مصحف الآخر، وذلك مما لا

الجهة العشرون من المطاعن على القرآن من جهة قصوره؛

يقضى بالقدح فى أصل القرآن، فصار الذى فى أيدى القراء السبعة فى زماننا هذا، هو حرف واحد وهو المتواتر، وما عداه فإنه باقى الأحرف السبعة التى نزل القرآن بها، وهو الشاذة المنقولة بالآحاد، وقد ذكرها المفسرون وتكلموا على معانيها، فبطل بما ذكرناه، ما وجهوه فى هذه الشبهة على القرآن بحمد الله. الجهة العشرون من المطاعن على القرآن من جهة قصوره؛ وحاصل ما قالوه هو أن القرآن قد دل ظاهره على أن الجن والإنس لا يأتون بمثله كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88] وما ذلك إلا لعلو شأنه وارتفاع قدره ومكانه، ثم إنا نرى فيه مالا يليق بهذا الوصف من وجهين، أحدهما: أنه خال عن أكثر المسائل الكلامية، نحو مسألة الحيز، والخلاء، وحقيقة الحركة والسكون، والزمان، والمكان، وعلوم الحساب، والهندسة والطب، وعلم النجوم إلى غير ذلك من المسائل الدقيقة، وثانيهما أنا نراه خاليا عن أكثر المسائل الشرعية، كدقائق علم الفرائض والوصايا، والحيض، والقراض، والمساقاة، والإجارة، والاستيلاد إلى غير ذلك من المسائل الفقهية، والأسرار الشرعية، وقد قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] . وقال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) [الأنعام: 59] وما ذكرناه يناقض هذا العموم ويبطله. والجواب عما زعموه أن القرآن لم يدل بظاهره على اشتماله على كل العلوم فيكون طعنا عليه، فأما قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) [يس: 12] وقوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) [الأنعام: 59] وقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] فإن المراد به اللوح المحفوظ، ثم إنا نقول: الغرض بهذه العمومات هو ما يحتاجه الخلق فى إصلاح أديانهم من العلوم، وما هذا حاله فإنه قد تضمنه القرآن، إما بظاهره، وإما بنصه، وإما من جهة قياسه، وكله دال عليه القرآن من هذه الخصال التى ذكرناها، وليس فى هذا إلا أن العموم مخصوص، وهذا لا مانع منه، فإن أكثر

العمومات الشرعية مخصوص، إلا عمومين، أحدهما قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وثانيهما قوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) [البقرة: 29] وما عداهما عمومات مخصوصة، فإن هذه العمومات إنما تتناول ما يتعلق بأحوال المكلفين دون من سواهم، فهذا ما أردنا ذكره من الكلام على هذه المطاعن وفيها كثرة، ومن أحاط علما بما ذكرنا، هان عليه إبطال ما يرد عليه من ذلك ثم أقول معاشر الملاحدة الطاعنين فى التنزيل، الحائدين عن جادة الحق والمائلين عن سواء السبيل، ما دهاكم، وما الذى اعتراكم، أنى تؤفكون، ما لكم كيف تحكمون، زعمت الملاحدة العماة، الراكبون فى الضلالة كل مهواة، أن الحق ما زينته كواذب الأوهام، وأن الباطل ما قامت عليه واضحات الأعلام، استحسانا لترجيحات الأوهام والظنون، وما لهم به من علم إن هم إلا يظنون، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بالحق فهم عن ذكرهم معرضون، تالله لقد عدلوا عن الارتواء من نمير سلساله، وحادوا عن الكروع من بارد زلاله، ونكصوا عن التفيؤ فى ممدود ظلاله، فماذا عليهم لو آمنوا بالله وصدقوا بمحكم فرقانه، واستضاءوا فى ظلم الحيرة بشعاع شمسه ونور برهانه، ولكن لووا رءوسهم صادين، وشمخوا بآنافهم مستكبرين، ونفخ الشيطان فى مناخرهم وألقاهم فى الضلالة، ومهاوى العماية، عن آخرهم، فيا لله الملاحدة، ضل سعيها، ما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، وأكذبنا أمانى الشبهات حين استهوتنا، وأنسنا أنوار المعرفة فاتبعناها، وشمنا بوارق الهداية فانتجعناها، وقلنا واثقين بالله: إنّ هدى الله هو الهدى، وما لنا أن لا نتوكّل على الله وقد هدانا سبلنا، وبلغنا من عرفان الحقيقة أملنا، يا حسرة عليهم، حين تنقطع عنهم أسباب الأهواء المحرفة، وتسلمهم الأضاليل المزخرفة وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) [القصص: 74- 75] ، اللهم اشرح صدورنا بكتابك الكريم لمعرفة حقائقه، وثبتنا عن الزلل فى مسالكه ومداحض مزالقه، ونور بصائرنا بالاطلاع على لطائفه، وأشحذ عزائم أفئدتنا

للاستكثار من مزيد عوارفه، وأعنا على إدراك دقائق أسراره ومعانيه، وقونا بألطافك الخفية على إحراز مغاصات درره ولآلئه، فننعم فى رياضه، ونكرع فى موارده وحياضه حتى نلقاك بوجوه مسفرة، ضاحكة مستبشرة، فائزين بجوارك فى دار مقامك، مبتهجين بعفوك ظافرين بإكرامك، ونعوذ بك أن نكون من التاركين لذكره، وأن نكون ممن رفضه وجعله وراء ظهره، فنرتد فى الحافرة، ونرجع بصفقة خاسرة، واختم أعمالنا بالخاتمة الحسنى، ووفقنا لإحراز رضوانك الأسنى، إنك على كل شىء قدير، وبالإجابة حقيق جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

§1/1