الضياء اللامع من الخطب الجوامع

ابن عثيمين

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فإن الله أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم برسالة خالدة صالحة لكل زمان ومكان وأمره أن يبلغ هذه الرسالة إلى أمته فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] فقام صلى الله عليه وسلم بعون الله وتوفيقه بتبليغ تلك الرسالة وأداء الأمانة على أكمل وجه وأبلغه مستعملا في ذلك جميع وسائل التبليغ الراتبة والطارئة وكان من وسائل التبليغ الراتبة ما يخطب به الناس كل جمعة مبينا لهم ما تقتضيه الحال، ويتطلبه الموقف من شرح الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه واليوم الآخر وصفة الجنة والنار وغير ذلك. وسار على نهجه دعاة الحق في كل زمان ومكان من الخلفاء والولاة والوعاظ وأهل العلم إلى وقتنا هذا وكان ممن حباه الله وحمله هذه المهمة العظيمة مهمة الدعوة والتبليغ شيخنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي حيث تولى الخطابة يوم الجمعة في المسجد الجامع الكبير بعنيزة وخطابة العيدين فكان مثالا يحتذى في إخلاص النية وإصلاح العمل وتوجيه الناس إلى الخير بقدر ما يستطيع بأسلوب بين واضح للعام والخاص وبقي على ذلك حتى التحق بجوار ربه في جمادي الثانية عام ست وسبعين وثلثمائة وألف. وقد من الله وله الحمد والمنة علينا بخلافته في هذا المنصب الجليل فاقتدينا به في فكرته وأسلوبه وهيأنا خطبا مناسبة بقدر ما نستطيع وجمعنا من ذلك ما تيسر وقد رأينا من المصلحة أن نقوم بطبعها ونشرها لتعم بها الفائدة وتكون كالتكميل لما ابتدأه شيخنا رحمه الله فانتقينا من

ذلك جملة صالحة يزيد عددها على مئة وربع المئة وضممنا إليها خطبا في العيدين والاستسقاء وقسمناها أقساما وفروعا على النحو التالي: القسم الأول في العلم وهو فرع واحد. القسم الثاني في أصول الدين وهو تسعة فروع: 1 - في أسماء الله. 2 - في آيات الله. 3 - في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وأخلاقه. 4 - في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم. 5 - في أشراط الساعة. 6 - في أحوال القيامة والجنة والنار. 7 - في الإيمان بالقدر. 8 - في محاسن الإسلام. 9 - في آداب إسلامية. القسم الثالث في العبادات وهو ستة فروع: 1 - في الطهارة وما يتعلق بها. 2 - في الصلاة وما يتعلق بها. 3 - في الزكاة. 4 - في الصيام وزكاة الفطر وعيد الفطر. 5 - في الحج والأضحية وعيد الأضحى. 6 - في الجهاد. القسم الرابع في المعاملات وهو ثلاثة فروع: 1 - في النصيحة والأمانة. 2 - في البيوع واكتساب المال. 3 - في الوقف والوصية. القسم الخامس في النكاح وهو فرعان: 1 - في شروط النكاح. 2 - في الصداق. القسم السادس في تربية الأولاد وهو فرع واحد. القسم السابع في الحدود والقصاص وهو فرعان: 1 - في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2 - في القصاص والحدود. القسم الثامن في النفقات والأطعمة وهو فرع واحد. القسم التاسع في مواضيع عامة. القسم العاشر في خطب خاصة في أشهر معينة ووداع العام وهو فرع واحد. نسأل الله أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، نافعا لعباده وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه أكرم مسئول وأقرب مجيب وهو حسبنا ونعم الوكيل. المؤلف

القسم الأول العلم

[القسم الأول العلم] [الخطبة الأولى الحث على العلم والعمل به] بسم الله الرحمن الرحيم القسم الأول العلم وهو فرع واحد الخطبة الأولى الحث على العلم والعمل به الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، والحمد لله الذي فضل العلم على الجهل، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بمن يصلح للعلم والدين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، القائل: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتعلموا أحكام شريعته بطلب العلم النافع، فإن العلم نور وهدى، والجهل ظلمة وضلال، تعلموا ما أنزل الله على رسوله من الوحي، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء ما ورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر من ميراثهم، تعلموا العلم فإنه رفعة في الدنيا والآخرة، وأجر مستمر إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له» انظروا إلى آثار العلماء الربانيين لم تزل موجودة إلى يومنا هذا طوال الشهور والسنين، آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة، وذكرهم مرفوع، وسعيهم مشكور، إن ذكروا في المجالس ترحم الناس عليهم ودعوا لهم، وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية فهم قدوة الناس فيها. أيها الناس تعلموا العلم واعملوا به فإن تعلم العلم جهاد في سبيل الله والعمل به نور وبصيرة من الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] أيها الناس إننا على أبواب عام دراسي جديد يستقبل فيه المتعلمون ما يلقى إليهم من

العلوم ويستقبل فيه المعلمون من يتلقى عنهم العلوم والآداب والأخلاق، فيا ليت شعري ماذا أعد كل واحد منهم لما يستقبله؟ إن على المتعلمين أن يعدوا لهذا العام الجد، والنشاط، وأن يحرصوا ما استطاعوا على تحصيل العلم من كل طريق وباب، وأن يبذلوا غاية الجهد لرسوخ العلوم في قلوبهم فيجتهدوا عليها من أول العام ففي ذلك سبب لرسوخ العلم وتيسير حصوله لأنه إذا اجتهد من أول العام أخذ العلم شيئا فشيئا فسهل عليه وأما إذا توانى في أول السنة فإنه يصعب عليه بعد ذلك وتتراكم عليه العلوم ويكون تصوره لها تصورا سطحيا لا يرسخ في قلبه ولا يبقى في ذهنه وإن من واجب المتعلم إذا أحاط علما بالمسألة أن يطبقها على نفسه ويعمل بها ليكون علمه نافعا له فإن العلم النافع هو ما طبقه الإنسان عمليا والعمل بالعلم هو ثمرة العلم ولجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فإن العلم سلاح فإما أن يكون سلاحا لك على عدوك وإما أن يكون سلاحا عليك أيها المتعلم إذا علمت مسألة دينية فاعمل بها وإلا فما فائدة العلم أرأيت لو أن شخصا تعلم الطب ولكن لم يتطبب ولم يعالج نفسه ولا غيره فما فائدة علمه إذن فهكذا العلوم الشرعية إذا لم تطبقها بل هي أبلغ فإنك إذا عملت بها كانت أنفع العلوم وإن خالفتها كانت حجة عليك. أيها المعلمون إن عليكم لأمتكم ومن يتعلمون منكم حقوقا عظيمة فقوموا بها لله مخلصين وبه مستعينين ولنفع أبنائكم ومن يتلقون العلم منكم قاصدين أخلصوا في التعليم واسلكوا أسهل السبل وأقربها للتفهيم ونزلوا الفصول منازلها فليس تعليم المنتهين مثل المبتدئين وعليكم أن تمثلوا أمام الطلبة بكل خلق فاضل كريم وأن تتجنبوا كل خلق سافل لئيم فإن المتعلم يتلقى من معلمه الأخلاق كما يتلقى منه العلوم ووجهوا أبناءكم الطلبة في كل مناسبة ترون فيها الفرصة لذلك فإن المعلم الناصح من يجمع بين التعليم والتربية الحسنة والله يحب المحسنين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ - اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 1 - 2] بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية في فضيلة العلم

[الخطبة الثانية في فضيلة العلم] الخطبة الثانية في فضيلة العلم الحمد لله الذي فقه من أراد به خيرا في الدين ورفع منازل العلماء فوق العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهد لنفسه بالوحدانية وشهد بها ملائكته والعلماء من المؤمنين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث هدى للعالمين وحجة على العباد أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دينكم فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين معرفة ما أنزل الله على رسوله من الأحكام بأدلتها وما يترتب عليها من ثوابها وعقوبتها فإنه بمعرفته ذلك يكون متعبدا لله على بصيرة ونافعا لعباد الله في عباداتهم ومعاملاتهم الدقيقة والجليلة ولا شك أن هذا خير عظيم وفضل جسيم في التفقه في الدين يرفع الله الدرجات ويجرى للعبد عمله في الحياة وبعد الممات في التفقه في الدين يكون المرء وارثا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام في التفقه في الدين ييسر للمرء الطريق إلى الجنات والوصول إلى رب الأرض والسماوات في التفقه في الدين يكون المرء من العلماء أهل الخشية لله والمحسنين إلى عباد الله، طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها وتضعها له رضاء بما يطلب فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وقال: « (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا) قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: " مجالس العلم" وفي رواية " حلق الذكر» كان ابن مسعود رضي الله عنه إذا ذكر هذا الحديث قال: أما إني لا أعنى القصاص ولكن حلق الفقه وفي مسند الإمام أحمد عن قبيصة رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك فقلت كبر سني ورق عظمي وأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به فقال: يا قبيصة ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك» فهذه

الأحاديث وأمثالها وأضعافها كلها دالة على فضل العلم الشرعي تعلمه وتعليمه كيف لا يكون العلم بهذا الفضل وفيه حفظ دين الرسول وكيف لا يكون بهذه المنزلة الرفيعة وبسببه يحصل كل خير مأمول واعلموا رحمكم الله أن من حضر منكم مجلسا واحدا من مجالس العلم فاستفاد مسألة عمل بها وعلمها إخوانه فإنه يحصل خيرا كثيرا ويجرى له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ولا تظنوا أن فضل العلم لا يحصل إلا لمن تفقه كثيرا فإن الله تعالى سوف يجزي كل عامل بعمله وإن قل ولا يظلمون نقيرا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] بارك الله ولي ولكم. . .

الخطبة الثالثة في فضيلة أئمة الدين

[الخطبة الثالثة في فضيلة أئمة الدين] الخطبة الثالثة في فضيلة أئمة الدين الحمد لله ذي النعم الكثيرة والآلاء الغني الكريم الواسع العطاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام النجباء وعلى أتباعهم في هديهم القويم إلى يوم الميعاد والمأوى وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى واستمسكوا بدينكم الذي شرعه نبيكم فهو العروة الوثقى واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي تسعدون به في حياتكم وبعد مماتكم وعند قيامكم لرب العالمين أما ترون إلى هذه الأمم الكافرة الضالة كيف كانت في جهل عميق من دينها وفي شبهات وضلالات تبعدها عن إيمانها ويقينها أمم لا تريد سوى العلو في الأرض والفساد والاعتداء على دين الله تعالى واستعمار العباد ترقت في صناعتها ومادتها وانحطت في دينها وأخلاقها وشطحت عن سعادتها وأنتم ولله الحمد قد يسر الله لكم دينا سليما وصراطا مستقيما جعلكم من أمة محمد خير الأمم وأبرها وأزكاها وحفظ لكم دينكم حتى وصل إليكم ولله الحمد نقيا من البدع والإشراك وبريئا من طرق الغي والهلاك بما أقام الله لكم من أئمة الدين والجهابذة المرشدين المخلصين فمن أولئك السادة الأبرار إمام الأئمة ناصر السنة وقامع البدعة أحمد بن حنبل فإنهم نصروا السنة وبينوها وقمعوا البدعة وهتكوها حتى صاروا يضرب بهم المثل في اتباع السنة والكتاب وبهم يوزن السني من البدعي من سائر الطوائف والأضراب ومنهم شيخ الإسلام والمسلمين أحمد بن تيمية تقي الدين الذي جاهد الكفار والمنافقين وهتك أستار المحرفين والمبتدعين وأظهر من صريح السنة وعلومها وأعلامها ما يتبين به الحق للمعتبرين وسلك طريقه تلامذته من العلماء المحققين حتى آلت النوبة لشيخ الجزيرة العربية وإمامها الأواب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فلم يزل مع خصومه في جلاد وجهاد وتبيين للسنة والتوحيد الخالص بين العباد ويسر الله له من يقوم بعونه من الملوك المخلصين حتى صفت هذه الجزيرة ولله الحمد بمساعيهم من الشرك والضلال المبين فلم تجد ولله الحمد قبة للمشرك ولا مشهدا ولا توسلا بالمخلوقين ولا مولدا ولا معبدا ولا تجد فيها ولله الحمد من يحرف نصا من نصوص الصفات أو ينفي ما ثبت لله تعالى من النزول إلى السماء الدنيا

والاستواء على عرشه فوق المخلوقات فكل ما جاء من صفات الله تعالى فإنهم يقرون به ولا يؤلونه ولا يجحدون منه حرفا ولا معنى ولا يكيفون فاحمدوا الله تعالى على هذه النعمة واشكروه واسألوه أن يثبتكم على دينه وسنة نبيه إلى أن تلاقوه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . . الخ.

الخطبة الرابعة في مقام أهل العلم في الناس

[الخطبة الرابعة في مقام أهل العلم في الناس] الخطبة الرابعة في مقام أهل العلم في الناس الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ويتحقق العدل بين المخلوقين وجعل لهم خلفاء يخلفونهم في أممهم علما وعملا ليكونوا قدوة للعاملين ومنارا للسالكين وشهداء على العالمين وهؤلاء الخلفاء هم العلماء الربانيون الذين اكتسبوا العلم ابتغاء وجه ربهم وربوا به الأمة علما وعملا فكانوا هداة مهتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين فليس بعده نبي وإنما هم العلماء كالأنبياء في هداية العالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أكبر نعمة عليكم أن حفظ عليكم هذا الدين برجاله المخلصين وهم العلماء العاملون الذين كانوا أعلاما يهتدى بهم وأئمة يقتدى بهم وأقطابا تدور عليهم معارف الأمة وأنوارا تتجلى بهم غياهب الظلمة فإن في وجود أمثال هؤلاء في الأمة حفظا لدينها وصونا لعزتها وكرامتها فإنهم السياج المتين يحول بين الدين وأعدائه والنور المبين تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه وهم ورثة الأنبياء في أممهم وأمناؤهم على دينهم فإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر وهم شهداء الله في الأرض الذين شهدوا بالحق وأعلنوها على الملأ بأنه لا إله إلا الله وأنه سبحانه هو القائم بالقسط وأن كل حكم يخالف حكمه فهو ظلم وجور، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وهم شهداء الله في أرضه يشهدون أن رسله صادقون مصدقون وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده وهم شهداء الله في أرضه يشهدون بأحكامه على خلقه يقرؤون كتاب الله وسنة رسوله ويفهمونهما فيشهدون على الخلق بما فيهما من أحكام عادلة وأخبار صادقة فليس في الأمة كمثلهم ناصحا مخلصا يعلمون أحكام الله ويعظون عباد الله ويقودون الأمة لما فيه الخير والصلاح فهم القادة حقا وهم الزعماء المصلحون وهم أهل الخشية لله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ولهذا تكاثرت

النصوص في فضل العلم وأهله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وقال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة» وقال «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء» ، أيها الناس: " إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، " وإن فقيها واحدا أشد على الشيطان من ألف عابد" وذلك لأن العابد منفعته قاصرة على نفسه أما الفقيه فقد حفظ دين الله ونفع عباد الله فهو يقود الأمة إلى الخير ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد والشيطان يقودهم إلى الشر {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] فدعوة الفقيه ودعوة الشيطان ضدان والشيطان والداعي إلى الخير متعاديان فلذلك كان الشيطان يفرح بموت العلماء لأنهم أعداؤه يحولون بينه وبين ما يريد. أيها الناس إذا كان هذا فضل العلم وحال العالم أفلا يليق بنا أن نبذل الجهد لتحصيل العلم النافع بالسؤال والقراءة والبحث والتحقيق لنفوز بإرث الأنبياء الكرام وبصحبتهم في دار السلام فنعم الموروث الأنبياء ونعم الرفيق. أيها الناس إذا كانت هذه منزلة العالم من أمته ودينه أفلا يجدر بنا أن نأسف على موت العلماء لأن فقد العالم ليس فقدا لشخصيته فحسب ولكنه فقد لجزء من تراث النبوة، جزء كبير بحسب ما قام به هذا العالم المفقود من التحقيق فوالله إن فقد العالم لا يعوض عنه مال ولا عقار ولا متاع ولا دينار بل فقده مصيبة على الإسلام والمسلمين لا يعوض عنه إلا أن ييسر الله من يخلفه بين العالمين فيقوم بمثل ما قام به من الجهاد ونصرة الحق. وإن فقد العلماء في مثل هذا الزمان لتتضاعف به المصيبة لأن العلماء العاملين أصبحوا ندرة قليلة بين الناس وكثر الجهل والتشكيك والإلباس ولكننا لن نيأس من روح الله ولن نقنط من رحمته فلقد أخبر الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم: «أنه لن تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» . نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها وينصر به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة الخامسة في الاستفتاء

[الخطبة الخامسة في الاستفتاء] الخطبة الخامسة في الاستفتاء الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم والحمد لله الذي من على عباده بإنزال الكتب وإرسال الرسل فلم يبق على الله للخلق حجة وفتح العقول وفهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الكريم الأكرم علم القرآن وخلق الإنسان وعلمه البيان وأعطى وتكرم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرشد إلى السبيل الأقوم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وبارك وسلم. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دين الله لتعبدوا الله على بصيرة فإن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين فالفقه في الدين أساس الخير والعمل الصالح، فبه يعرف العبد كيف يعبد ربه، به يعرف كيف يتوضأ وكيف يغتسل، به يعرف كيف يصلي وكيف يصوم وكيف يزكي وكيف يحج وكيف يعتمر، به يميز بين الواجبات وبين السنن، به يعرف كيف يسير إلى ربه في نور العلم إذا انعقدت غيوم الجهل والفتن، به يعرف كيف يعامل الناس بالبيع والشراء يعطي الحق الذي عليه ويطلب الذي له أو يتسامح عنه، به يعرف كيف ينكح وكيف ينفق وكيف يكفر عن آثامه وكيف يعتق، به يكون العبد سراجا في أمته يهديهم الصراط المستقيم ويبين لهم النهج القويم بالعلم يستنير في حياته وبعد وفاته فهو نور القلب ونور القبر ونور الحشر ونور الصراط، العالم حي بعد مماته والجاهل ميت في حياته: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9] «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له» وما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء: إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» . أيها الناس: من استطاع منكم أن يتفرغ للعلم وتحصيله فليفعل فإنه ليتأكد في هذا الزمان الذي قل فيه الفقهاء في دين الله وكثر فيه طلب الدنيا بشتى الوسائل والإقبال عليها

ومن لم يستطع منكم ذلك فليستمع إلى الذكر وليجلس إلى أهل العلم فيستفيد منهم ويفيد غيره ومن لم يتسطع فلا أقل من أن يسأل عن دينه عن طهارته وصلاته وزكاته وصيامه وحجه وبيعه وشرائه وأخذه وعطائه ونكاحه وغير ذلك مما له صلة بدينه إذا عرض له فيه إشكال واشتباه. عباد الله: إن بعض الناس يصنع أمرا محرما لا يجوز في الاستفتاء، تجده يأتي إلى أحد ليستفتيه راضيا بفتواه معتقدا أن ما يقوله هو دين الله وهو الحق الذي يجب عليه التزامه فإذا أفتاه بشيء ولم تناسبه الفتوى إما لاستبعاده لها وإما لصعوبتها عليه في نظره ذهب يطلب مفتيا آخر لعله يكون أنسب له وهذا العمل حرام عليه فإن المطلوب في حق المستفتي أن يتحرى من يظنه أقرب إلى الحق لكثرة علمه وقوة ورعه فإذا غلب على ظنه أنه أقرب إلى الحق من غيره فليسأله ثم ليأخذ بقوله ولا يستفتى غيره إلا أن يتبين له بعد ذلك أنه مخطيء مخالف للكتاب أو السنة فحينئذ يأخذ بما دل عليه الكتاب والسنة وقد ذكر الله تعالى في كتابه وظيفة الإنسان إذا لم يكن له علم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ - بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 - 44] فإذا كنت مأمورا بسؤال أهل العلم فإن العاقل لا بد أن يتحرى لدينه من هو أعلم وأروع الأمثل فالأمثل فاتقوا الله أيها الناس ولا تتلاعبوا بدينكم تسألون هذا وهذا وهذا فتختلف عليكم الأمور وتكونوا ممن اتبعوا أهواءهم. والإنسان متى قام بالواجب فسأل من يظنه أقرب إلى الحق فقد برئت ذمته فيما بينه وبين الله قال في المنتهى وشرحه: ومن لم يجد إلا مفتيا لزم أخذه بقوله وكذا ملتزم قول مفت وثم غيره أي فإنه يلزمه الأخذ بفتوى من التزم بقوله وقال في شرحه نقلا عن شرح مختصر التحرير: لو أفتى المقلد مفت واحد وعمل به المقلد لزمه قطعا وليس له الرجوع إلى فتوى غيره في تلك الحادثة بعينها إجماعا نقله ابن الحاجب وغيره وقد ذكر ذلك صاحب الإقناع وشرحه والغاية وشرحها. نعم لو سأل أمثل من يجد من غير أن تسكن إليه نفسه ويطمئن إليه قلبه ولكن للضرورة فهذا يجوز أن يسأل غيره فيما بعد ممن يظن أنه أقرب إلى الحق منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] بارك الله. . . الخ.

القسم الثاني في أصول الدين

[القسم الثاني في أصول الدين] [الفرع الأول أسماء الله تعالى] [الخطبة الأولى في شرح بعض الأسماء الحسنى] بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثاني في أصول الدين الفرع الأول أسماء الله تعالى الخطبة الأولى في شرح بعض الأسماء الحسنى الحمد لله ذي الصفات الكاملة العليا والأسماء الفاضلة الحسنى خلق الأرض والسماوات العلي الرحمن على العرش استوى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وتدبيره ولا نظير له في صفاته ولا راد لتقديره وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي خضع لربه واستعان به في صغير أمره وجليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا الحق بدليله وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله لا شريك له في جميع صفاته ولا مضاهي له في أسمائه وتقديراته فهو (الله) الذي تألهه القلوب بالمحبة والود والتعظيم وهو (الرحمن الرحيم) الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها فما من نعمة وجدت إلا من رحمته وما من نقمة دفعت إلا من آثار رحمته وهو (الملك) مالك العالم كله علوه وسفله لا يتحرك متحرك إلا بعلمه وإرادته وما يسكن من ساكن إلا بعلمه وإرادته وهو (القدوس) الذي تقدس وتنزه عن النقائص والعيوب فلقد خلق السماوات بما فيها من النجوم والأفلاك وخلق الأرض بما فيها من البحار والأشجار والجبال والمصالح والأقوات خلق كل ذلك وما بين السماوات والأرض في ستة أيام سواء للسائلين وما مسه من تعب ولا آفات وهو (القوي القهار) فما من مخلوق إلا وتحت قدرته وقهره وما من جبروت إلا وقد ذل لعظمته وسطوته وهو (العليم) الذي يعلم السر وأخفى ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه يعلم ما توسوس به نفس العبد قبل أن يتكلم به وهو الرقيب الشاهد عليه في كل حالاته وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر وهو (العلي الأعلى) هو العلي في ذاته فوق عرشه العلي في صفاته فما يشبهه أحد من

خلقه وهو (الجبار) الذي يجبر الكسير والضعيف ويأخذ القوي بالقهر المنيف وهو (الغفور) الذي يغفر الذنوب وإن عظمت ويستر العيوب وإن كثرت وفي الحديث القدسي عنه تبارك وتعالى قال: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بملئها مغفرة» . وهو (الخلاق القدير) الذي أمسك بقدرته السماوات والأرض أن تزولا ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وهو (الحكيم) في شرعه وقدره فما خلق شيئا عبثا ولا شرع عبادة لهوا ولعبا ومع ذلك فله الحكم آخرا وأولا وهو (الغني) بذاته عن جميع مخلوقاته وهو (الكريم) بجزيل عطائه وهباته فيده لا تغيضها نفقة ملآى سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وفي الحديث قال الله تعالى: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» وفي رواية: «ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون» . إخواني: هذا شيء يسير من أسماء الله تعالى وما لها من المعاني وإن أسماءه تعالى لا يحصى لها تعداد وله منها تسعة وتسعون من أحصاها دخل الجنة وإحصاؤها هو معرفتها لفظا ومعنى والتعبد لله بها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا

[الخطبة الثانية في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا] الخطبة الثانية في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا الحمد لله العلي الأعلى الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من سوء المأوى وآمل بها الفوز بالنعيم المقيم والدرجات العلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد والجزاء وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لله تعالى من الأسماء والصفات فإن معرفة ذلك زيادة في الإيمان وبصيرة في دين الله وعرفان، ولله تعالى تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة ألا وإن إحصاءها أن يعرف العبد لفظها ومعناها ويتعبد لله تعالى بموجبها ومقتضاها. فمن أسمائه تعالى (الحي القيوم) وهو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فهو الحي الكامل في حياته حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال فهو الحي الذي لا يموت وهو الباقي وكل من عليها فان، أما القيوم الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع خلقه وفي الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: «يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون» وللقيوم معنى آخر وهو القائم على غيره فكل ما في السماوات والأرض فإنه مضطر إلى الله لا قيام له ولا ثبات ولا وجود إلا بالله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] ومن أسمائه تعالى (العليم) الذي يعلم كل شيء جملة وتفصيلا فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحديد: 4]

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] ومن أسمائه تعالى (القدير) ذو القدرة الكاملة فما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون أرأيتم كيف خلق هذا الكون العظيم في ستة أيام ثم استوى على العرش خلق هذا الكون بأرضه وسمائه وشمسه وقمره وبحره وبره ووهاده وجباله وأنهاره وبحاره وبقوله وأشجاره ورطبه ويابسه وظاهره وباطنه خلق هذا الكون على أحسن نظام وأتمه لمصالح عباده خلقه كله في ستة أيام ولو شاء لخلقه بلحظة ولكنه حكيم يقدر الأمور بأسبابها. أيها المسلمون إن ما غاب عنا من مشاهد قدرته أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده فلقد جاء في الحديث: «إن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي وسع السماوات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن نسبة هذا الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» فسبحان الله العلي الكبير القوي القدير. ومن أسمائه تعالى (السميع البصير) يسمع كل شيء ويرى كل شيء لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث إن جهرت بقولك سمعه وإن أسررت به لصاحبك سمعه وإن أخفيته في نفسك سمعه وأبلغ من ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك وإن لم تنطق به. إن فعلت فعلا ظاهرا رآك وإن فعلت فعلا باطنا ولو في جوف بيت مظلم رآك وإن تحركت بجميع بدنك رآك وإن حركت عضوا من أعضائك رآك وأبلغ من ذلك أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومن أسماء الله تعالى (الرحمن الرحيم) فكل ما نحن فيه من نعمة فهي من آثار رحمته معاشنا من آثار رحمته وصحتنا من رحمته وأموالنا وأولادنا من رحمته. الليل والنهار والمطر والنبات من رحمته. الأمن والرغد من رحمته. إرسال الرسل وإنزال الكتب من رحمته.: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثالثة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا

[الخطبة الثالثة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا] الخطبة الثالثة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا الحمد لله المتفرد بكمال الصفات المتنزه عن العيوب والنقائص والآفات خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ولو شاء لخلقها في لحظات له الملك وله الحمد وله الخلق وله الأمر في جميع الأوقات فسبحانه من إله عظيم وملك رب رحيم ولطيف بالعباد عليم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به في ألوهيته وربوبيته والأسماء والصفات وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع البريات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا فإن معرفة ذلك زيادة في الإيمان وتثبيت على الحق وإيقان وعبادة الله على بصيرة وبرهان فمن أسماء الله تعالى "الملك" وهو ذو السلطان الكامل والملك الشامل المتصرف بخلقه كما يشاء من غير ممانع ولا مدافع {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] له الملك المطلق {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير بيده ملكوت السماوات والأرض يحيي ويميت يغني فقيرا ويفقر غنيا ويضع شريفا ويرفع وضيعا ويوجد معدوما ويعدم موجودا ويبتلي بالنعم ويبتلي بالمصائب ليبلو عباده أيشكرون النعمة أم يكفرون وهل يصبرون على المصائب أو يجزعون يقلب الله الليل والنهار بالرخاء والشدة والأمن والمخافة كل يوم في شأن، ملكه ظاهر في السماوات وفي الأرض ويظهر تماما حينما يتلاشى الملك عن كل أحد حينما يعرض الخلائق عليه فرادى كما خلقوا أول مرة هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. ومن أسمائه تعالى (الجبار) وله ثلاث معان جبر القوة وجبر الرحمة وجبر العلو فأما جبر القوة فهو تعالى الجبار الذي يقهر الجبابرة ويغلبهم بجبروته وعظمته فكل جبار وإن عظم فهو تحت قهر الله وجبروته وفي يده وقبضته وأما جبر الرحمة فإنه سبحانه يجبر الضعيف بالغنى والقوة ويجبر الكسير بالسلامة ويجبر المنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها وإحلال الفرج والطمأنينة فيها وما يحصل لهم من الثواب والعاقبة الحميدة إذا صبروا على ذلك من أجله وأما جبر العلو

فإنه سبحانه فوق خلقه عال عليهم وهو مع علوه عليهم قريب منهم يسمع أقوالهم ويرى أفعالهم ويعلم ما توسوس به نفوسهم. ومن أسمائه تعالى (القدوس السلام) فأما القدوس فهو الذي تقدس وتعالى عن كل نقص وعيب فالنقص لا يجوز عليه ولا يمكن في حقه لأنه تعالى الرب الكامل المستحق للعبادة وأما السلام فهو السالم من كل نقص وعيب ومن مشابهة المخلوقين أو مماثلتهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وفي الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون قبل أن يفرض عليهم التشهد: السلام على الله من عباده السلام على جبريل السلام على فلان وفلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا السلام على الله من عباده فإن الله هو السلام» . أيها الناس: تفكروا في أسماء الله وصفاته واعرفوا معناها وتعبدوا لله تعالى بها وانظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله فيهما من الآيات الدالة عليه التي هي مقتضى أسمائه وصفاته فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الرابعة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا

[الخطبة الرابعة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا] الخطبة الرابعة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العليا رب السماوات ورب الأرض ورب الآخرة والأولى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والجود الذي لا يحصى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله ودعا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأعلموا أن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة واحصاؤها معرفة لفظها ومعناها والتعبد لله بها فمن أسمائه تعالى (الله الحي القيوم العليم القدير السميع البصير الرحمن الرحيم العزيز الحكيم القوي الملك القدوس السلام الجبار) ومن أسمائه تعالى (المتكبر) أي ذو الكبرياء والعظمة فالكبرياء وصفه المختص به فليس لأحد من المخلوقين أن ينازعه في ذلك ومن نازعه في الكبرياء أذاقه الله الذل والهوان والمتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم. أما الباريء فإنه لكمال عظمته وعزه وقهره وملكه اختص سبحانه بالكبرياء والعظمة ومن أسمائه تعالى (الخالق) الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المصالح وما بينهما من المخلوقات خلقها الله تعالى كلها في ستة أيام وأحسن خلقها وأكمله ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ولا تناقض: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ - ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4] {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6] {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة غشاء الجنين في بطن أمه ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو فأنى تصرفون يقدر لكم في ذلك الموضع من الغذاء ما لا يستطيع أحد أن يوصله إليكم وذلك بواسطة السرة المنغرسة في عروق الرحم فتمتص من الدم وما يتغذى به جسم الجنين ولا يحتاج معه إلى البول والغائط فسبحان الله رب العالمين خلق الله تعالى كرسيه وعرشه وهما من أعظم المخلوقات فالكرسي وسع السماوات والأرض وما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة إليه إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض والعرش استوى عليه الرحمن وهو أعظم المخلوقات

وأعلاها وما الكرسي بالنسبة إليه إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض. أيها المسلمون: إن هذه المخلوقات العظيمة وما فيها من الإتقان والكمال لتدل دلالة ظاهرة على عظمة خالقها وكماله وأنه أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه فتبارك الله أحسن الخالقين. ومن أسماء الله تعالى (الرزاق) الذي عم برزقه كل شيء فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. رزق الله الأجنة في بطون الأمهات والحيتان في قعار البحار والسباع في مهامه القفار والطيور في أعالي الأوكار ورزق كل حيوان وهداه لتحصيل معاشه فأعطى كل شيء خلقه ثم هدى ولو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو في الصباح خماصا جائعة ثم تروح في المساء بطانا ممتلئة بطونها بما يسر الله لها من الرزق والأقوات ومن رزق الله تعالى ما يمن الله به على من شاء من خلقه من حسن الخلق وسماحة النفس ومن رزقه تعالى ما يمن الله به على من يشاء من العلم النافع والإيمان الصحيح والعمل الصالح الدائب وهذا أعظم رزق يمن الله به على العبد: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3] وهو سبحانه المعطي المانع فكم من سائل أعطاه سؤله وكم من محتاج أعطاه حاجته ودفع ضرورته وإنه تعالى ليستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا وكم منع سبحانه من بلاء انعقدت أسبابه فمنعه عن عباده ودفعه عنهم فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو سبحانه الذي بيده النفع والضر إن جاءك نفع فمن الله وإن حصل عليك ضر لم يكشفه سواه ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمع الناس على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك فربك هو هو المدبر المتصرف بخلقه كما يشاء فالجأ إليه عند الشدائد تجده قريبا وافزع إليه بالدعاء تجده مجيبا وإذا عملت سوءا أو ظلمت نفسك فاستغفره تجده غفورا رحيما. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] بارك الله لي ولكم. . . الخ.

الخطبة الخامسة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا

[الخطبة الخامسة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا] الخطبة الخامسة في شرح بعض أسماء الله الحسنى أيضا الحمد لله العلي الأعلى الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من سوء المأوى ونؤمل بها الفوز بالنعيم المقيم والدرجات العلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء وسلم تسليما. أما بعد؛ فإن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وإحصاؤها هو معرفة لفظها ومعناها والتعبد لله بمقتضاها فاتقوا الله أيها المسلمون وحققوا هذه الأسماء وما تدل عليه من الصفات العظيمة والمعاني الجليلة لتعبدوا ربكم على بصيرة فإنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. أيها الناس: في هذه الجمعة سنتكلم على ثلاثة أسماء من أسماء الله تعالى (العزيز) فلله العزة جميعا ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فهو العزيز الذي لا يغلب فما من جموع ولا أجناد ولا قوة إلا وهي ذليلة أمام عزة الله ذلت لعزته الصعاب ولانت لقوته الشدائد الصلاب: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] ومن أسماء الله تعالى (الحكيم) فهو سبحانه الحاكم والخلق محكومون له الحكم كله وإليه يرجع الأمر كله يحكم على عباده بقضائه وقدره ويحكم بينهم بدينه وشرعه ثم يوم القيامة يحكم بينهم بالجزاء بين فضله وعدله فلا حاكم إلا الله ولا يجوز تحكيم قانون ولا نظام سوى حكم الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فهو سبحانه الحاكم على عباده لا راد لحكمه وقضائه ولا حكم فوق حكمه. وللحكيم معنى آخر وهو ذو الحكمة. والحكمة ضد السفه فهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ولذلك كانت أحكام الله الكونية والشرعية والجزائية مقرونة بالحكمة ومربوطة بها فلم يخلق سبحانه شيئا عبثا ولم يترك خلقه سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون فما أعطى الله شيئا إلا لحكمة وما منع شيئا إلا لحكمة ولا أنعم إلا لحكمة ولا أصاب

بمصيبة إلا لحكمة وما أمر الله بشيء إلا والحكمة في فعله والتزامه ولا نهى عن شيء إلا والحكمة في تركه واجتنابه يقول الله تعالى مقررا هذه الصفة العظيمة صفة الحكمة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ - أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 27 - 28] أيها المسلمون: لقد تبين أن للحكيم معنيين أحدهما الحاكم الذي له الحكم المطلق الكامل من جميع الوجوه والمعنى الثاني أنه ذو الحكمة الذي لم يخلق شيئا عبثا ولم يشرع شيئا باطلا ولم يجز عاملا إلا بما عمل، المحسن بالإحسان والمسيء بمثل سيئته وله معنى ثالث وهو المحكم الذي أحكم كل شيء خلقه فما في خلق الرحمن من تفاوت ولا تناقض ولا خلل صنع الله الذي أتقن كل شيء وليس في شرعه من تناقض ولا اختلاف ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. ومن أسماء الله تعالى "القوي" والقوة ضد الضعف فهو سبحانه وتعالى يخلق المخلوقات العظيمة من غير ضعف فلم يزل ولا يزال قويا والخلق ضعفاء، ضعفاء في ذاتهم وضعفاء في أعمالهم يقول الله تعالى مقررا هذه الصفة العظيمة: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] يعني من تعب ولا ضعف فهو القوي ذو القوة الكاملة والخلق ضعفاء مهما بلغت قوتهم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وهؤلاء عاد إرم ذات العماد والقوة، كان بعضهم يحمل الصخرة العظيمة من غير مبالاة حتى بلغ بهم الغرور أن قالوا من أشد منا قوة فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] فكل قوة مهما عظمت فهي ضعيفة أمام قوة الخالق العظيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] بارك الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة السادسة في الحث على الإيمان بأسماء الله

[الخطبة السادسة في الحث على الإيمان بأسماء الله] الخطبة السادسة في الحث على الإيمان بأسماء الله الحمد لله الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين حتى شاهدوا بعين البصيرة ونور العلم ما كان غائبا عن العيون وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الكامل في حياته العليم الكامل في علمه القدير الكامل في قدرته فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين وخاتم النبيين وسيد الموقنين آمن فأيقن وعمل فأتقن واستمر على ذلك حتى أتاه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وآمنوا به وحققوا ايمانكم بمعرفة ربكم بأسمائه وصفاته وأفعاله وبالعمل بما تقتضيه وتوجبه تلك الأسماء والصفات آمنوا بأن الله حي قيوم حياته كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء فكل شيء هالك إلا وجهه فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء هو قيوم السماوات والأرض قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد من خلقه وفي الحديث الصحيح أنه تبارك وتعالى يقول: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» وهو الذي قامت السماوات والأرض بأمره ولم يستغن عنه أحد من خلقه فالعباد مضطرون إليه في جميع أحوالهم وأوقاتهم لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين. آمنوا بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء حفيظ رقيب وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] فجميع حركاتكم وسكناتكم وأقوالكم وأفعالكم معلومة عند ربكم محفوظة لكم مسجلة عليكم في كتاب مبين. فحققوا رحمكم الله الإيمان بهذه الصفة صفة العلم حققوها تحقيقا عمليا تطبيقيا كما أنكم مأمورون بتحقيقها تحقيقا علميا. فإذا علمتم أن الله يعلم سركم وجهركم ويحفظ ذلك لكم فإن مقتضى ذلك أن تعبدوه سرا وجهرا وأن تقدموا طاعته وخشيته على كل خشية وشريعته على كل شريعة ونظام.

أيها المسلم: ربما تعصي الله جهارا علنا من غير مبالاة وربما تعصي الله سرا وخفاء خوفا أو حياء من الناس فاعلم أنك في كلتا الحالتين لا تخفى على الله حالك وأن الله يعلم بك ويسمع ما تقول ويرى ما تفعل ويحفظ ذلك في كتاب مبين. فهل يليق بك أن تعصيه بعد ذلك بمخالفة أمره أو ارتكاب نهيه. عباد الله: آمنوا بأن الله على كل شيء قدير وأنه جواد كريم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] فهو قدير على تغيير الأمور وتحويلها وعلى منع الأمور وتيسيرها. قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] وكأين من آية في السماوات والأرض تبرهن على قدرته وأن جميع الأمور بيده فإذا حققتم ذلك أوجب لكم أن تعلقوا رجاءكم به عند الشدائد وأن تسألوه ما تحبون عند المطالب وأن تعلموا أن قدرته وإرادته فوق الأسباب وكم من أمور حدثت مع استبعاد الناس حدوثها وكم من أمور عدمت مع استبعاد الناس عدمها كل ذلك دليل على أن قدرته فوق كل تقدير وتدبيره فوق كل تدبير. عباد الله: آمنوا بأن الله حكيم يضع الأمور في مواضعها فلم يخلق خلقا عبثا ولم يشرع شرعا سفها فكل ما قضاه وقدره فلحكمة وكل ما شرعه لعباده من أمر ونهي فلحكمة فإذا آمنتم بذلك حق الإيمان أوجب لكم أن تقفوا عند أفعال الله وأحكامه وأن لا تعترضوا على شرعه وخلقه وأن تتأدبوا بالأدب الواجب تجاه حكمة الله فإن تبينت لكم الحكمة فذلك من فضل الله ومن نعمته وإن لم تتبين لكم الحكمة فكلوا الأمر إلى العليم الحكيم واعرفوا كمال علم الله وحكمته ونقص علمكم وحكمتكم وقولوا رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. كيف يعترض على شرع الله من كان مؤمنا بالله وعلمه وحكمته. أيها المسلمون: آمنوا بأن الله حكم عدل قهار فإذا حققتم الإيمان بذلك أوجب عليكم الإنصاف من أنفسكم والامتناع عن الظلم لأن فوق أيديكم يد الواحد القهار واعلموا أن لكم موقفا بين يدي الله عز وجل يقضي فيه للمظلوم من الظالم حتى يتمنى القاضي العادل أنه لم يقض بين اثنين في تمرة لما يرى من أخذ الظلمة فيخاف أن يكون قد ظلم فيتمنى أن

يكون قد سلم لكن القاضي العادل الذي علم الحق فقضى به ليس عليه إثم ولا وبال بل هو في الجنة وغير القاضي من الولاة مثله فليحذر من ولاه الله على شيء أن يظلم وليتذكر أن الله حكم عدل قهار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] بارك الله لي ولكم. . الخ.

الفرع الثاني في آيات الله

[الفرع الثاني في آيات الله] [الخطبة الأولى في ذكر بعض الآيات الكونية] الفرع الثاني في آيات الله الخطبة الأولى في ذكر بعض الآيات الكونية الحمد لله الملك الحق المبين الذي أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين وهداية للمهتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما أراكم من آياته الدالة على وحدانيته وعلى كمال ربوبيته فإن في كل شيء له آية تدل على أنه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة فمن آياته خلق السماوات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وقوتها عرف بذلك تمام قدرته تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ - ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] ومن نظر إلى الأرض كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه فيحرثون ويزرعون ويسخرجون منها الماء فيسقون ويشربون وكيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب بهم ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] مختلفة في ذاتها وصفاتها ومنافعها وفي الأرض جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل فمن تأمل ذلك علم كمال قدرة الله تعالى ورحمته بعباده ومن آياته ما بث الله تعالى في السماوات والأرض من دابة ففي السماء ملائكته لا يحصيهم إلا الله تعالى ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله تعالى أو راكع أو ساجد يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى

أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده هذه الدواب مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي به يعرفون كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف الإنسان به قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وكل هذه الدواب رزقها على خالقها وبارئها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] ومن آياته تعالى الليل والنهار الليل جعله الله تعالى سكنا للعباد يسكنون فيه وينامون ويستريحون والنهار جعله الله تعالى معاشا للناس يبتغون فيه من فضل الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ - وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73] ومن آيات الله تعالى الشمس والقمر حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله تعالى حتى يأذن بخراب العالم يجريان بسير منتظم لا تغير فيه ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ - لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40] ومن آياته تعالى هذه الكواكب والنجوم العظيمة التي لا يحصيها كثرة ولا يعلمها عظمة إلا الله تعالى فمنها السيارات ومنها الثوابت ومنها المتصاحبات التي لا تزال مقترنة ومنها المتفارقات التي تجتمع أحيانا وتفترق أحيانا تسير بأمر الله تعالى وتدبيره زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدي بها فالكون كله من آيات الله جملة وتفصيلا هو الذي خلقه وهو المدبر له وحده لا يدبر الكون نفسه ولا يدبره أحد غير الله يقول الله تعالى مبرهنا على ذلك: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36] نعم فالعالم لم يخلق نفسه ولم يكن مخلوقا من غير شيء بل لا بد له من خالق يخلقه ويقوم بأمره وهو الله سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه أيها الناس: لو حدثتم بقصر مشيد مكتمل البناء قد بنى نفسه

لقلتم هذا من أكبر المحال ولو قيل لكم إن هذا القصر وجد صدفة لقلتم هذا أبلغ محالا إذن فهذا الكون الواسع كون العالم العلوي والعالم السفلي لا يمكن أن يوجد نفسه ولا يمكن أن يوجد صدفة بلا موجد بل لا بد له من موجد واحد عليم قادر وهو الله سبحانه وتعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في ذكر بعض آيات الله الكونية أيضا

[الخطبة الثانية في ذكر بعض آيات الله الكونية أيضا] الخطبة الثانية في ذكر بعض آيات الله الكونية أيضا الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وجعل في ذلك من المصالح العظيمة والحكم البالغة ما تتقاصر دونه فهوم ذوي الأفهام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام ومصباح الظلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واشكروه على ما هداكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون علمكم ما فيه صلاح دينكم ودنياكم وحجب عنكم من العلم ما لا تدركه عقولكم ولا تتعلق به مصالحكم رحمة بكم وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. علمكم كيف ابتدأ خلق هذا العالم وهو الأمر الذي لا يمكن علمه إلا من طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فكل من ذكر شيئا عن كيفية خلق السماوات والأرض فإن الواجب أن نعرض قوله على ما جاءت به الرسل فإن طابقه فهو مقبول وإن خالفه فهو مردود وإن كان مسكوتا عنه فيما جاءت به الرسل فإننا نتوقف فيه حتى يتبين لنا أمره من حق أو باطل. لقد علمنا الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سموات في يومين وأوحي في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام خلق الله فيها السماوات والأرض وأودع فيهن مصالحهن فأخرج من الأرض ماءها ومرعاها وقدر الأقوات فيها تقديرا يناسب الزمان والمكان لتكون الأقوات متنوعة ومستمرة أنواعها في كل زمان وليتبادل الناس الأقوات فيما بينهم يصدر هذا إلى هذا وهذا إلى هذا فيحصل بذلك من المكاسب والاتصال بين الناس ما فيه مصلحة الجميع وزين الله السماء الدنيا بمصابيح وهي النجوم وجعلها رجوما للشياطين التي تسترق السمع من السماء وعلامات يهتدي بها الناس في البر والبحر. وسخر لعباده الليل والنهار يتعاقبان على الأرض لتقوم مصالح العباد في دينهم ودنياهم

وقد بين الله تعالى فضله علينا في ذلك حيث يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ - وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73] واختلاف الليل والنهار يكون بسبب دوران الشمس على الأرض فإن الله سخر لنا الشمس والقمر دائبين وجعلهما آيتين من آيات الله الدالة على كمال قدرته وسعة رحمته فمنذ خلقهما الله تعالى وهما يسيران في فلكيهما على حسب أمر الله لا يرتفعان عنه صعودا ولا ينحدران عنه نزولا ولا يميلان يمينا ولا شمالا وقدرهما منازل لتعلموا عدد السنين والحساب فباختلاف منازل القمر تختلف الأهلة والشهور وباختلاف منازل الشمس تحتلف الفصول فإذا حلت الشمس آخر البروج الشمالية انتهى النهار في الطول ودخل فصل القيظ ثم ترجع شيئا فشيئا حتى ترجع إلى البروج اليمانية فإذا حلت آخر برج منها انتهى الليل في الطول ودخل فصل الشتاء وفي اختلاف الفصول من المصالح وتنوع الأقوات ما يعرف به قدر نعمة الله ورحمته وحكمته. وهكذا تسير الشمس والقمر في فلكيهما في انتظام باهر وسير محكم كل يجري إلى أجل مسمى إلى أن يأذن الله بخراب هذا العالم فتخرج الشمس من مغربها كما في صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غربت الشمس: أتدري أين تذهب قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها وتوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها» . وفي هذا الحديث دليل ظاهر على أن الشمس تسير بنفسها كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان: 29] وقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فهذه الأدلة تكذب ما يقال من أن الشمس ثابتة لا تدور وتدل على أنه قول باطل يجب رده وتكذيبه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ - وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34] أقول قولي هذا. . . الخ.

الخطبة الثالثة في بيان أن السماوات أجرام محسوسة

[الخطبة الثالثة في بيان أن السماوات أجرام محسوسة] الخطبة الثالثة في بيان أن السماوات أجرام محسوسة الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عماد ووضع الأرض وهيأها للعباد وجعلها مقرهم أحياء وأمواتا فمنها خلقهم وفيها يعيدهم ومنها يخرجهم تارة أخرى يوم الحشر والتناد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العزة والقوة والاقتدار وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه وصدقوا بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب واعتقدوه وارفضوا ما خالف الكتاب والسنة من أقوال الناس واطرحوه فإن كل ما خالفهما فهو باطل كذب ليس له حقيقة وكل ما وافق الكتاب والسنة فهو حق لقيام الدليل عليه والحجة الوثيقة فإن كلام الله وكلام رسوله هما أصدق الكلام وأبينه وأظهره للأنام واعلموا أن الله تعالى خلق فوقكم سبع سموات طباقا شدادا وهذه السماوات أجرام محسوسة ظاهرة لا تقبل شكا ولا جدالا ولا عنادا قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] أي قوية: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] أي شقوق: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] فهذه الآيات وأمثالها تدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك على أن السماوات أجرام محسوسة حقيقية تدل على ذلك دلالة قاطعة لا تقبل الشك فالطرائق والطباق والرفع والسمك والسقف والطي (يعني الطوي) كل ذلك نص صريح قاطع في أن السماوات ذات أجرام محسوسة ثم إن إثبات الأبواب لها ونفي الفروج والفطور عنها وهي الشقوق ونفي وقوعها على الأرض كل ذلك دليل على أن السماوات ذات أجرام محسوسة ظاهرة والنبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به كان يصعد إلى السماوات

سماء سماء وفي كل سماء يسلم على نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقد تواتر ذلك بين المسلمين وأجمعوا عليه. فمن أنكر شيئا منها أو شك فيه فهو كافر لأنه مكذب لله ولرسوله وإجماع المؤمنين: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] وإنما قررنا هذا ونبهنا عليه لأنه يوجد من زنادقة الفلكيين وملحديهم من ينكر أن تكون السماوات أجراما محسوسة فيخشى أن يروج هذا الباطل على من لا علم له بالكتاب والسنة وجميع الأقاويل التي يتكلم به الفلكيون في هذه الأمور لا تعتقد حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله فإن وجد فيها ما يدل عليها فهي حق مقبولة وإن وجد في الكتاب والسنة ما يكذبها فهي باطل مردودة وإن كان الكتاب والسنة ليس فيهما ما يدل على تلك الأقاويل لا نفيا ولا إثباتا وجب التوقف فيها حتى يقوم دليل علمي أو عقلي على صحتها وإنما قلنا بوجوب التوقف فيها حتى يقوم الدليل عليها لأننا لا يمكن أن نأخذ أقوالهم مسلمة مع أنهم يختلفون فيما بينهم أحيانا لأنها قد تكون خطأ وقد تكون صوابا وهذه السماوات لا يمكن لأحد أن يخترقها أو يجاوزها لا بقوة صناعة ولا غيرها إلا بإذن الله فلقد عرج بأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم بصحبة جبريل صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة والمكانة الجليلة فكانا لا يأتيان سماء من السماوات إلا كانا يستفتحان حتى يفتح لهما. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الفرع الثالث في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وأخلاقه

[الفرع الثالث في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وأخلاقه] [الخطبة الأولى في بيان بدعة عيد المولد] الفرع الثالث في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وأخلاقه الخطبة الأولى في بيان بدعة عيد المولد الحمد لله الذي من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين الذي أسبغ على عباده نعمه ووسعهم برحمته وهو أرحم الراحمين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويكمل لهم به الدين فلم يترك شيئا يقرب إلى الله وينفع الخلق إلا بينه وأمر به ولا شيئا يبعدهم عن ربهم أو يضرهم إلا حذر عنه حتى ترك أمته على ملة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وكان من أعظمهم قدرا وأبلغهم أثرا وأعمهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى لهداية الخلق أجمعين وختم به النبيين بعثه الله على حين فترة من الرسل والناس أشد ما يكونون حاجة إلى نور الرسالة فهدى الله به من الضلالة وألف به بعد الفرقة وأغنى به بعد العيلة فأصبح الناس بنعمة الله إخوانا وفي دين الله أعوانا فدانت الأمم لهذا الدين وكان المتمسكون به غرة بيضاء في جبين التاريخ فلما كانت الأمة الإسلامية حريصة على تنفيذ شرع الله متمشية في عباداتها ومعاملاتها وسياستها الداخلية والخارجية على ما كان عليه قائدها وهاديها محمد صلى الله عليه وسلم لما كانت الأمة الإسلامية على هذا الوصف كانت هي الأمة الظاهرة الظافرة المنصورة ولما حصل فيها ما حصل من الانحراف عن هذا السبيل تغير الوضع فجعل بأسهم بينهم وسلط عليهم الأعداء وكانوا غثاء كغثاء السيل فتداعت عليهم الأمم وفرقتهم الأهواء ولن يعود لهذه الأمة مجدها الثابت وعزها المستقر حتى تعود أفرادا وشعوبا إلى دينها الذي به عزتها وتطبق هذا الدين قولا وعملا وعقيدة وهدفا على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وإن من تمام تطبيقه أن لا يشرع شيء من العبادات

والمواسم الدينية إلا ما كان ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس إنما أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فمن تعبد لله بما لم يشرعه الله فعمله مردود عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وهو في نظر الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة. وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشرة منه في المساجد أو في البيوت فيصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بصلوات مبتدعة ويقرؤون مدائح للنبي صلى الله عليه وسلم تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وربما صنعوا مع ذلك طعاما يسهرون عليه فأضاعوا المال والزمان وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة ولا التابعون بإحسان ولو كان خيرا لسبقونا إليه ولو كان خيرا ما حرمه الله تعالى سلف هذه الأمة وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة وما كان الله تعالى ليحرم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيرا ثم يأتي أناس من القرن الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) : ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع ولو كان خيرا محضا أو راجحا كان السلف أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهرا وباطنا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه اهـ كلامه رحمه الله تعالى. أيها المسلمون إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلك الليلة وقد اضطربت أقوال المؤرخين في ذلك فبعضهم زعم أن ولادته في اليوم الثاني من الشهر وبعضهم في الثامن

وبعضهم في التاسع وبعضهم في العاشر وبعضهم في الثاني عشر وبعضهم في السابع عشر وبعضهم في الثاني والعشرين فهذه أقوال سبعة ليس لبعضها ما يدل على رجحانه على الآخر فيبقى تعيين مولده صلى الله عليه وسلم من الشهر مجهولا إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه كان في اليوم التاسع. وإذا لم يكن لبدعة عيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أساس من التاريخ فليس لها أساس من الدين أيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها ولم يأمر بها ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» . وكان يقول في خطبة الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» . والأعياد والمواسم الدينية التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى بتعظيمه وتعظيم نبيه صلى الله عليه وسلم هي من العبادات فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى ورسوله ولا يتعبد أحد بشيء منها إلا ما جاء عن الله ورسوله. وفيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث. فاتقوا الله عباد الله واستغنوا بما شرعه عما لم يشرعه وبما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لم يسنه. أيها المسلمون إننا لم نتكلم عن هذه البدعة لأنها موجودة في بلادنا فإنها ولله الحمد لم تعرفها ولا تعمل بها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولكن لما كان الكثير قد يسمع عنها في الإذاعات أردنا أن نبين أصلها وحكمها حتى يكون المسلمون على بصيرة منها وأن يأخذوا من دينهم باللب دون القشور التي لا أصل لها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته ووفاته

[الخطبة الثانية في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته ووفاته] الخطبة الثانية في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته ووفاته الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما مزيدا. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من بعثة هذا النبي الكريم الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور وهداكم به من الضلالة وبصركم به من العمى وأرشدكم به من الغي فلله الحمد رب العالمين. لقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل على رأس الأربعين من عمره فجاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء وهو الغار الذي في أعلى الجبل المسمى جبل النور شرقي شمال مكة على يمين الداخل إليها فأول ما نزل عليه قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] ثم ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وكان ورقة قد دخل في دين النصارى وعرف الكتاب فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما حصل له من الوحي فقال ورقة يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم. استبعد صلى الله عليه وسلم أن يخرجه قومه من بلاده فقال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم أنزل الله تعالى على رسوله بعد أن فتر الوحي مدة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] فقام صلى الله عليه وسلم بأمر ربه فبشر وأنذر وكان أول من أجابه من غير أهل بيته أبو بكر رضي الله عنه وكان صديقا له قبل النبوة فلما دعاه صلى الله عليه وسلم بادر إلى التصديق به وقال بأبي وأمي أهل الصدق أنت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصار من دعاة الإسلام حينئذ فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم ومكث صلى الله عليه وسلم يدعو الناس

سرا حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] فصدع بأمر الله تعالى وجهر بدعوته فجعلت قريش تسخر به وتستهزئ به ويؤذونه بالقول وبالفعل وكان من أشد الناس إيذاء له وسخرية به عمه أبو لهب الذي قال الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى آخر السورة حتى بلغ من إيذائهم له أن ألقوا عليه فرث الناقة وسلاها وهو ساجد فلم يقدر أحد على رفعه عنه فلم يزل ساجدا حتى جاءت ابنته فاطمة فألقته فلما رأى صلى الله عليه وسلم استهانة قريش به وشدة إيذائهم له ولأصحابه خرج إلى أهل الطائف يدعوهم فقابل رؤساءهم وعرض عليهم فردوا عليه ردا قبيحا وأرسلوا غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه صلى الله عليه وسلم فرجع عنهم ومد يد الافتقار إلى ربه فدعا بدعاء الطائف المشهور: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على عبادة الله وحده لا شريك له وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأذن الله لرسوله بالهجرة إليهم فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان بصحبته أبو بكر فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجه حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فيقول أبو بكر يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما» فلما سمع بذلك الأنصار جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة يستقبلون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يردهم حر الظهيرة فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم هو أنور يوم وأشرفه فاجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطين به متقلدين سيوفهم وخرج النساء والصبيان وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن

يكون نزوله عنده وهو يقول دعوها فإنها مأمورة حتى إذا أتت محل مسجده اليوم بركت فيذكر أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل فقامت فسارت غير بعيد ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحللت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن دار أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه ثم بعد ذلك أذن الله له بقتال أعدائه الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون فأظهره الله عليهم وأيده بنصره وبالمؤمنين ولما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فابتدأ به المرض في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول فخرج إلى الناس عاصبا رأسه فصعد المنبر فتشهد وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قتلوا في أحد ثم قال: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» ففهمها أبو بكر رضي الله عنه فبكى وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وأنفسنا وأموالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على رسلك يا أبا بكر ثم قال: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس» ولما كان يوم الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة اختاره الله تعالى لجواره فلما نزل به جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح به وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم شخص بصره نحو السماء وقال: اللهم في الرفيق الأعلى فتوفي يوم الاثنين فاضطرب الناس عند ذلك وحق لهم أن يضطربوا حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال «أما بعد فإن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] » فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل النبي صلى الله عليه وسلم في ثيابه تكريما له ثم كفن وصلى الناس عليه أرسالا بدون إمام ثم دفن ليلة الأربعاء صلوات الله وسلامه عليه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ - وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144 - 145] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثالثة في ذكر شيء من آيات النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة الثالثة في ذكر شيء من آيات النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة الثالثة في ذكر شيء من آيات النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أيد رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالآيات البينات واختصه بالفضائل الكثيرة والكرامات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع المخلوقات المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للسالكين إلى رب الأرض والسماوات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأعمال والاعتقادات وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أيد الله به نبيكم صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات فإن الله أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر وأبلغ ما أوتيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم ففيه عبرة لمن اعتبر، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم اشتمل على ذكر أخبار الأولين والآخرين وعلى الفصاحة والبلاغة اللتين عجزت عنهما مدارك الجن والإنس السابقين منهم واللاحقين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] أي معاونا ألا وإن من أعظم آياته سيرته في عبادته ومعاملاته وأخلاقه كان صلى الله عليه وسلم أتقى الناس لله تعالى وأجود الناس وأشجعهم وأصبرهم وأحسنهم مجالسة وألطفهم مكالمة وألينهم جانبا وأبلغهم في جميع صفات الكمال ألا وإن من آياته صلى الله عليه وسلم انشقاق هذا القمر فرقتين كل فرقة منهما على جبل حين طلب أهل مكة من النبي صلى الله عليه وسلم آية ألا وإن من آياته صلى الله عليه وسلم إجابة دعائه في استسقائه واستصحائه وغير ذلك ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة يعني قطعة غيم فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته حتى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير إلى ناحية من السماء إلا انفرجت وصارت المدينة

في مثل الجوبة» يعني أن ما فوقها صحو وما على جوانبها ليس بصحو وإنما يمطر ومن آياته صلى الله عليه وسلم أنه حضرت الصلاة ذات يوم وهو في أصحابه وليس عندهم ما يتوضئون به فجيء بقدح فيه ماء يسير فأخذه نبي الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ منه ثم مد أصابعه الأربع على القدح فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم أجمعون وكانوا ثمانين رجلا. وأتى بإناء فيه ماء يسير لا يغطي أصابعه فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم أجمعون وكانوا ثلثمائة رجل ومن آياته صلى الله عليه وسلم أنه أراد ذات يوم أن يقضي حاجته فنظر فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت عليه كالبعير الذي يصانع قائده ثم فعل بالأخرى مثلها ثم جمعهما فقال التئما علي بإذن الله فالتأمتا عليه فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق وقال له جبريل: أتحب أن أريك آية قال نعم فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها فجاءت تمشي حتى وقفت بين يديه فقال جبريل: مرها فلترجع فأمرها فرجعت إلى مكانها «وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله» ، «وجاء قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن لنا بعيرا قد ند في حائط فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البعير فقال تعال فجاء البعير مطأطئا رأسه حتى خطمه وأعطاه أصحابه فقال أبو بكر: يا رسول الله كأنه علم أنك نبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين لابتيها أحد لا يعلم أني نبي الله إلا كفرة الجن والإنس» . وآياته الدالة على أنه رسول الله كثيرة جدا. فسبحان من أيد هذا النبي بأنواع الآيات البينات ورفع له ذكره بين جميع المخلوقات اللهم فأحينا على سنته وتوفنا على ملته وأوردنا حوضه واسقنا منه إنك جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة الرابعة في ذكر شيء من آيات الرسل الكرام

[الخطبة الرابعة في ذكر شيء من آيات الرسل الكرام] الخطبة الرابعة في ذكر شيء من آيات الرسل الكرام الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله تعالى له تمام الملك وكمال الحمد فمن تمام ملكه وكماله أنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض وأنه ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو خالقه ومالكه ومدبره ومن تمام حمده وكماله أنه لم يقدر شيئا ولم يشرع مشروعا إلا لحكمة وعلى وفق الحكمة ومن ذلك ما يقدره الله تعالى من الآيات الدالة على صدق الرسل تأييدا لهم وإقامة للحجة على أممهم فهذه النار الحارة المهلكة كانت بردا وسلاما على إبراهيم نبي الله وخليله عليه الصلاة والسلام حين ألقاه فيها كفار قومه قال ابن عباس رضي الله عنهما لولا أن الله قال وسلاما لآذى إبراهيم بردها وهذا نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم ضرب بعصاه البحر فانفلق اثني عشر طريقا حتى ظهرت أرض البحر يبسا وكان الماء السائل من بين هذه الطرق كالجبال راكدا لا يسيل ولما استسقى لقومه أمر أن يضرب بعصاه الحجر فتفجر الحجر عيونا اثنتي عشرة عينا وكان يضع عصاه فتنقلب حية تسعى فإذا أخذه رجع على حاله الأولى وهذا عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم كان يحيي الموتى بإذن الله فيأتي إلى القبر فيدعو صاحبه فيخرج بإذن الله وكان يخلق من الطين على صورة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا يطير بإذن الله وهذا رسول الله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم جرى له من الآيات الدالة على صدقه شيء كثير فمن ذلك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما ثبت ذلك بطرق متواترة قطعية واتفق عليه العلماء والأئمة وكان إذا قحط المطر يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب قال أنس رضي الله عنه «رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه يستسقي وما رأينا في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال: فمطرنا إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك

الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا " فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الإكليل والمطر حولها يمينا وشمالا» وعطش الناس يوم الحديبية وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ركوة (الركوة إناء من جلد يشرب منه الماء) يتوضأ منها فجهش الناس نحوه فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قيل لجابر كم كنتم قال لو كنا مئة ألف لكفانا كنا ألفا وخمسمائة أو قال ألفا وأربعمائة وكان المسلمون في سفر مع نبيهم صلى الله عليه وسلم فاحتاجوا إلى الطعام فدعا ببقايا طعام كانت معهم فدعا الله فيها بالبركة ثم أمرهم أن يأتوا بأوعيتهم فجاؤوا بها فملأها وفضل فضل كثير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني عبد الله ورسوله ومن لقي الله عز وجل بهما غير شاك دخل الجنة وكان له صلى الله عليه وسلم جذع نخلة يسند ظهره إليه يوم الجمعة فلما صنع له المنبر وخطب عليه جعل الجذع يئن كما يئن الصبي حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فسكنه كما يسكن الصبي حتى سكن. ولله تعالى من الآيات وخوارق العادات ما يشهد بتمام ملكه وقدرته وما هو أعظم برهان على علمه وحكمته قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الخامسة في بيان شيء من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة الخامسة في بيان شيء من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة الخامسة في بيان شيء من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله ذي الفضل والإحسان والكرم والامتنان اصطفى نبينا محمد اصلى الله عليه وسلم على جميع بني الإنسان وأدبه فأحسن تأديبه فكان خلقه القرآن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات الحسان وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بمكارم الأخلاق وأتم الأديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا أخلاق نبيكم المصطفى فإنها مشتملة على القيام بحق الله وحقوق عباده وبها الحياة السعيدة والغايات الحميدة كان صلى الله عليه وسلم قائما بشكر ربه منيبا إليه كثير التوبة والاستغفار «فلقد قام يصلي حتى تورمت قدماه فقيل يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا» ، «وقد خير بين أن يكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا فقال لا بل أكون عبدا نبيا» وقال صلى الله عليه وسلم «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وكان أشد الناس خوفا من الله «فكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه فقالت عائشة يا رسول الله الناس يفرحون رجاء المطر وأنت تعرف الكراهية في وجهك فقال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح» وكان مع ذلك أعظم الناس شجاعة وأشدهم بأسا «فلقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا» وكان صلى الله عليه وسلم حليما رفيقا «أدركه أعرابي فجذبه جذبا شديدا وكان عليه برد غليظ الحاشية فأثرت حاشيته في عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة جذب الأعرابي فقال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء» وخدمه أنس بن مالك رضي الله عنه عشر سنين في الحضر والسفر فما قال له أف قط ولا قال لشيء صنعه لم صنعته ولا لشيء تركه لم تركته وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئا قط لا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد

في سبيل الله وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله وكان أحسن الناس خلقا فلم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سبابا ولا لعانا وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فيكون أبعد الناس عنه وكان أجود الناس فما سئل على الإسلام شيئا إلا أعطاه فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة وكان أزهد الناس في الدنيا فقد خير بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه وكان يلتوي من الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه ومات ولم يخلف دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا إلا سلاحه وبغلته ودرعه مرهونة عند يهودي بشعير ابتاعه لأهله وكان بيده عقار ينفق على أهله منه والباقي يصرفه في مصالح المسلمين وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله ويكون في مهنة أهله ويمشي مع الأرامل والمساكين ويجيب دعوتهم ويقضي حاجتهم ويسلم على الصبيان إذا مر عليهم وكان يمزح ولا يقول إلا حقا وكان طويل الصمت قليل الضحك كثير التبسم وكان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ وكان محترما مفخما إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير وإذا سكت تكلموا وكان أشد حياء وأفصحهم لسانا وأبلغهم بيانا صلى ذات يوم الفجر فصعد المنبر فخطب الناس حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر حتى حضرت العصر فنزل فصلى ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرهم بما كان وما هو كائن. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ - مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ - وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ - وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الفرع الرابع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم

[الفرع الرابع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم] [الخطبة الأولى غزوة أحد] الفرع الرابع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة الأولى غزوة أحد الحمد لله له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله تعالى من غير توان ولا تقصير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يرجعون وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما أبلاه سلف هذه الأمة من بلاء حسن في نصرة هذا الدين وما صبروا عليه من الشدائد في إعلاء كلمة رب العالمين فإنهم جاهدوا في سبيل الله لم يجاهدوا لعصبية ولا لوطنية ولا لفخر وخيلاء وفي شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة أحد وهو الجبل الذي حول المدينة والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه وذلك أن المشركين لما أصيبوا بفادحتهم الكبرى يوم بدر خرجوا ليأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ثلاثة آلاف رجل ومعهم مائتا فرس مجنبة فلما علم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الخروج إليهم فخرج بنحو ألف رجل فلما كانوا في أثناء الطريق انخزل عبد الله بن أبي رأس المنافقين بمن اتبعه من أهل النفاق والريب وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في سبعمائة رجل فقط ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وقال: انضحوا عنا الخيل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبتوا مكانكم فأنزل الله نصره على المؤمنين وصدقهم وعده فكشفوا المشركين عن المعسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها ولكن الله قضى وحكم ولا معقب لحكمه وهو السميع العليم فإن الرماة لما رأوا هزيمة الكفار ظنوا أنهم لا رجعة لهم فتركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومه فكر فرسان من المشركين ودخلوا من ثغر الرماة ففاجئوا المسلمين من خلفهم واختلطوا بهم حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته

اليمنى السفلى وهشموا البيضة بيضة السلاح على رأسه ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فعض عليهما أبو عبيدة فنزعهما وسقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ونادى الشيطان بأعلى صوته أن محمدا قد قتل فوقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم فبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يردهم عنا وله الجنة» فتقدم الأنصار واحدا واحدا حتى قتلوا وترس أبو دجانة في ظهره على النبي صلى الله عليه وسلم والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك واستشهد في هذه الغزوة سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء ومنهم عبد الله بن جحش دفن هو وحمزة في قبر واحد ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه صاحب اللواء ومنهم سعد بن الربيع رضي الله عنه بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت يقرئه السلام فوجده في آخر رمق وفيه سبعون ضربة فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام ويقول كيف تجدك قال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام قل له أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف ثم فاضت نفسه رضي الله عنه ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال ما تنتظرون قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم لقي سعد بن معاذ فقال يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به نحوا من سبعين ضربة فلما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان وكان رئيس المشركين يومئذ ثم أسلم بعد أشرف على الجبل يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يجيبوه إهانة له واحتقارا قال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك ثم قال أبو سفيان مفتخرا بصنمه اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» ثم انصرف أبو سفيان بأصحابه فلما كانوا في أثناء الطريق تلاوموا فيما بينهم ليرجعوا إلى النبي

صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيستأصلونهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس ليخرجوا إلى عدوهم وقال: «لا يخرج معنا إلا من شهد القتال في أحد» فاستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح والبلاء المبين حتى بلغوا حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174] رزقني الله وإياكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم ظاهرا وباطنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الثانية في غزوة الخندق

[الخطبة الثانية في غزوة الخندق] الخطبة الثانية في غزوة الخندق الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وكان الله قويا عزيزا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بما أمد به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من النصر العزيز والفتح المبين وهذه سنة الله التي لا تبديل لها فمن ينصر الله ينصره إن الله لقوي عزيز. أيها المسلمون في هذا الشهر أعني شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة كانت وقعة الخندق التي اجتمع فيها أحزاب الشيطان على أولياء الرحمن وذلك أن يهود بني النضير حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة أرادوا أن يأخذوا بالثأر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب جمع منهم إلى قريش وغطفان وحرضوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم فتحزب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت قريش بأربعة آلاف مقاتل وخرجت غطفان ومعهم ألف فارس وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة وخرجت بنو أشجع وبنو سليم في نحو سبعمائة مقاتل وخرجت بنو أسد وكان عدد الأحزاب عشرة آلاف مقاتل فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه أيخرج إليهم أم يبقى في المدينة فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقا على المدينة يمنع العدو عنها فأمر صلى الله عليه وسلم بحفره شمالي المدينة من حرتها الشرقية إلى حرتها الغربية وشاركهم في حفره وكان المسلمون ثلاثة آلاف رجل وقد لحقهم من الجهد والجوع ما وصفه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا نحفر يوم الخندق فعرضت كدية شديدة فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله: هذه كدية عرضت في الخندق فقام وبطنه من الجوع معصوب بحجر فلبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضربه فكان كثيبا مهيلا قال جابر فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت أهلي وقلت لامرأتي لقد رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان عليه من صبر فهل عندك من شيء قالت صاع شعير وعناق وهي الصغيرة من المعز فذبحتها وطحنت الشعير

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله طعيم لي فقم أنت ورجل أو رجلان معك فقال: ما هو فقلت: شعير وعناق فقال كثير طيب ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار وقال ادخلوا ولا تزاحموا فجعل يكسر من هذا الخبز ويجعل عليه من اللحم وكلما أخرج شيئا من اللحم غطى القدر ومن الخبز غطى التنور فما زال كذلك حتى شبع المهاجرون والأنصار وبقيت بقية واشتدت الحال بالمسلمين وكان مما زاد الأمر أن يهود بني قريظة وكانوا شرقي المدينة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضاق الأمر بالمسلمين كما قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10] يعني الأحزاب {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] يعني بني قريظة {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] وانقسم الناس إلى قسمين فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا والمؤمنون قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما، ومكث الأحزاب محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم قريبا من شهر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قوية أسقطت خيامهم وأطفأت نيرانهم وزلزلت بهم وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] وبعد تفرق الأحزاب توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة الذين نقضوا عهده فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى طال عليهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فلما اشتدت بهم الحال طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه وكان سيد الأوس الذين هم حلفاء بني قريظة في الجاهلية وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب بسهم يوم الخندق في أكحله فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة الذين نقضوا العهد فاستجاب الله دعاءه فطلبه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم في بني قريظة فلما أقبل قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فلما جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم «إن هؤلاء وأشار إلى اليهود قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت، قال وحكمي نافذ عليهم قال نعم قال وعلى من ها هنا وأشار

إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم قال إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإخدود فخدت فجيء باليهود مكتفين فضربت أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة رجل وسبيت ذريتهم ونساؤهم وأموالهم وهكذا انتهت هذه الغزوة العظيمة بهذا النصر العزيز بعد أن لحق المسلمين ما لحقهم من المشقة والبلاء فكانت العاقبة لهم لأنهم يقاتلون لله وبالله لا يقاتلون رياء ولا سمعة ولا عصبية ولا يقاتلون بإعجاب بأنفسهم واعتماد على قوتهم دون الله عز وجل وإنما يقاتلون دفاعا عن الحق وإذلالا للباطل وإعلاء لكلمة الله وصيانة لدين الله فكان الله معهم يتولاهم بولايته ويعزهم بنصره وهو نعم المولى ونعم النصير وكانت النتيجة كما قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا - وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25 - 27] أقول قولي هذا وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع المسلمين على الحق وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثالثة في غزوة خيبر

[الخطبة الثالثة في غزوة خيبر] الخطبة الثالثة في غزوة خيبر الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فأظهره على الباطل أيده الله بنصره وبالمؤمنين فكانوا متآلفين متحابين مجتمعين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، عباد الله لم يزل اليهود في عداء الإسلام متمردين يريدون القضاء عليه وعلى أهله حسدا وبغيا واعتداء والله لا يحب المعتدين فلقد كانت لهم مواقف عدائية مع النبي صلى الله عليه وسلم يعرفها من قرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ حياته كانوا من أعظم الناس تهييجا للأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الدائرة ولله الحمد تكون عليهم في جميع مواقفهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي شهر المحرم من السنة السابعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزوهم في خيبر وكانت خيبر حصونا لهم زراعية ثمانية حصون أو خمسة تبعد عن المدينة نحو مئة ميل من الشمال الغربي فحاصر النبي صلى الله عليه وسلم أول حصن من حصونهم فمكث عليه ستة أيام لم يصنع شيئا وفي الليلة السابعة ظفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيهودي خارج من الحصن فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أدركه الرعب قال إن أمنتموني أدلكم على أمر فيه نجاحكم فقال إن أهل هذا الحصن أدركهم التعب والملل وهم يبعثون بأولادهم إلى الحصن الذي وراءه وسيخرجون لقتالكم غدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله علي يديه» فلما أصبح سأل عن علي بن أبي طالب فقيل إنه يشتكي عينيه فدعا به فبصق في عينيه فشفاهما الله في الحال كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فحمل المسلمون على اليهود حتى فتح الحصن ومازال المسلمون يفتحونها حصنا حصنا حتى أتم الله فتحها ولله الحمد وأذل اليهود ونصر المسلمين عليهم وغنموا منهم مغانم كثيرة وملكوا أرضهم ولكنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا فيها يعمرونها ويزرعونها على النصف فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال نقركم ما شئنا فلما كان زمن عمر أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى تيما وأريحا وكان من أسباب إجلاء

عمر إياهم أنهم حرضوا عبدا على قتل أحد الأنصار وكان قد بات بخبير وأنهم فدعوا يدي عبد الله بن عمر ورجليه ثم إن المسلمين استغنوا عن بقائهم بخيبر وكان الشرط الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنا نقرهم ما شئنا فلما حصل منهم العدوان واستغنى عنهم المسلمون أجلاهم عمر سنة عشرين من الهجرة إلى تيما وأريحا. وفي هذه الغزوة «أهدت امرأة يهودية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأكل منها هو وبعض أصحابه لكنه صلى الله عليه وسلم مضغها ولم يسغها ولفظها ثم دعا بالمرأة فقال ما حملك على ذلك قالت أردت إن كنت تريد الملك أن نستريح منك وإن كنت نبيا فستخبر بها» قال أنس فما زلت أعرفها في لهوات النبي صلى الله عليه وسلم «وقالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر» فهذا تاريخ اليهود مع الإسلام وأهله قاتلهم الله وأذلهم وقلبهم على أعقابهم خائبين إنه جواد كريم قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

الفرع الخامس في أشراط الساعة

[الفرع الخامس في أشراط الساعة] [الخطبة الأولى في الدجال ونزول عيسى بن مريم] الفرع الخامس في أشراط الساعة الخطبة الأولى في الدجال ونزول عيسى بن مريم الحمد لله الذي يسر لنا الأسباب المانعة من الضلال والافتتان ووضح لنا الفتن وبين لنا الأسباب التي نتحصن بها أعظم بيان واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة مستمرة باستمرار الزمان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة وأماراتها حق يجب اعتقاده وقد ذكر للساعة أشراطا كثيرة منها ما مضى ومنها ما هو حاضر ومنها ما هو مستقبل وأبلغ ما يكون من أشراطها وأعظمه فتنة هي فتنة المسيح الدجال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال وأنه ما من نبي إلا وقد أنذر به أمته وأنه يجيء معه بمثل الجنة والنار فالتي يقول إنها جنة نار تحرق والتي يقول إنها نار ماء عذب طيب فمن أدرك ذلك منكم فليقع فيه» وقال صلى الله عليه وسلم «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط أعور العين اليسرى مكتوب على عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب فمن أدركه منكم فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا يا رسول الله فاليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدة قال لا اقدروا له قدره وأما إسراعه في الأرض فكالغيث استدبرته الريح يأتي على القوم يدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت ويدعو قوما آخرين فيردون دعوته فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين يمر بالخربة فيأمرها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ويؤتى برجل فيقول أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر به الدجال فيوسع ظهره وبطنه ضربا ثم يقول أوما تؤمن بي فيقول أنت المسيح الكذاب فيؤمر به فيوشر بالميشار من مفرقه حتى رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له قم فيستوي

قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت فيك إلا بصيرة فيأخذه الدجال ليذبحه فلا يسلط عليه» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال قالت أم شريك فأين العرب يومئذ قال هم قليل ويتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا فيخرج همته المدينة فتصرف الملائكة وجهه عنها لأن على كل باب منها ملكين يمنعانه من الدخول فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين (أي حلتين مصبوغتين بورس أو زعفران) واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي إليه طرفه فيطلب الدجال حتى يدركه بباب لد فيقتله» فسبحان من مكن هذا الدجال من هذه المعجزات فتنة لعباده وبين لهم العلامات التي تبين من بطلان ما ادعاه وفساده فإنه أعور ناقص في ذاته وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن إنه إذا قتل الرجل ثم أحياه لم يقدر عليه بعد ذلك فهو ناقص في قدرته إن جنته نار وناره ماء طيب عذب فما جاء به باطل إنه مخلوق وجد بعد أن لم يكن إنه يفنى ويقتل وإنه في الأرض لا في السماء وكل هذه صفات المخلوق الناقص التي تبرهن على أنه ليس بإله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 3 - 4] بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية في ذكر يأجوج ومأجوج

[الخطبة الثانية في ذكر يأجوج ومأجوج] الخطبة الثانية في ذكر يأجوج ومأجوج الحمد لله العلي القدير السميع البصير الذي أحاط بكل شيء علما وهو اللطيف الخبير علم ما كان وما يكون وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور وأشهد أن محمدا عبده وسوله البشير النذير السراج المنير صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير وسلم تسليما. أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى واستعدوا لليوم الآخر فقد أنذرتموه واستقبلوه بالأعمال الصالحة واخشوا من عقابه واحذروه وقد قدم الله تعالى بين يدي هذا اليوم أشراطا وعلامات وذلك لعظم هوله وشدته فإنه اليوم الذي يجازي فيه الخلائق فيجزي المؤمن بحسناته ويجزي المسيء بالسيئات. الا وإن من أشراط الساعة خروج يأجوج ومأجوج وهم قوم من بني آدم على صفة الآدميين وأما ما يعتقده بعض الناس من أن فيهم الطويل المفرط وفيهم القصير جدا وأنهم على أشكال غريبة فإن هذا الاعتقاد مبني على غير دليل صحيح وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعور وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم العرب من خروج يأجوج وماجوج لأنهم مفسدون في الأرض والعرب حملة راية الإصلاح إلى العالم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فيهم فعن زينب أم المؤمنين رضي الله عنها قالت «استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه محمرا وجهه وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب فقلت يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث» فأما وقت خروجهم الذي تكون به نهايتهم وهلاكهم فإنه إذا قتل عيسى بن مريم الدجال أوحى الله إليه إني قد أخرجت عبادا لي لا قوة لأحد على قتالهم يعني يأجوج ومأجوج فيبعثهم الله من كل حدب ينسلون أي من كل موضع مرتفع يأتون سراعا وهذا دليل على كثرتهم وقوتهم وجشعهم فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم على البحيرة وقد شرب ماؤها فيقولون لقد كان في هذه مرة ماء ثم يسيرون حتى يصلوا إلى جبل

بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما فتنة لهم وينحصر نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الطور ويضيق عيشهم قال النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مئة دينار لأحدكم اليوم فيبتهل النبي صلى الله عليه وسلم عيسى وأصحابه إلى الله تعالى أن يهلك يأجوج ومأجوج فيرسل الله عليهم دودا في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه من الطور فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا وقد ملأه زهم يأجوج ومأجوج ونتنهم فيبتهل عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل على جثث يأجوج ومأجوج طيرا كأعناق الإبل البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ثم يرسل الله تعالى مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يدعها كالمرآة في نظافتها ثم يقال لها أنبتي ثمرتك وردي بركتك فتنزل البركة في الثمرات والدر حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمير فعليهم تقوم الساعة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 96 - 97] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الثالثة في ذكر عدد من أشراط الساعة

[الخطبة الثالثة في ذكر عدد من أشراط الساعة] الخطبة الثالثة في ذكر عدد من أشراط الساعة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب فمنه بدأ وإليه يعود والحمد لله الذي بوأ لإبراهيم مكان البيت للركوع والسجود وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وعنده علم الساعة وإليه المآب والرجوع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ شهيد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في التقوى والقول السديد وسلم تسليما. أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله سبب لسعادة الدنيا والآخرة ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا وييسر له أمره وينور له قلبه ويغفر له ذنبه ألا وإن التقوى هي اتخاذ ما يقي من عذاب القبر وعذاب الجحيم ولا يكون ذلك إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي والخوف من الرب العظيم ولا يكون ذلك إلا بتقديم العدة والاستعداد لليوم الآخر العظيم ذلك اليوم الذي تحشرون فيه إلى الله حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم ذاهلة عقولكم ولما كان هذا اليوم عظيم الأهوال شديد الأحوال قدم الله بين يديه من العلامات والدلائل ما يبين به اقترابه ليستعد له ويحذر عذابه وقد سبق لنا من علامات الساعة خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج، ألا وإن من علامات الساعة طلوع الشمس من مغربها ففي صحيح البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويمكن أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» وإنما كان طلوع الشمس من مغربها من علامات الساعة لأن هذه الشمس من آيات الله ولم يتغير مجراها منذ خلقها الله تعالى حتى يأتي أمر الله فإذا تغير نظامها دل ذلك على أن العالم قد آذن بالخراب والزوال ألا وإن من أشراط الساعة بعثة النبي صلى الله عليه

وسلم ومن أشراطها رفع هذا القرآن العظيم عندما يعرض الناس عن العمل به إعراضا كليا فإنه من كرامته أن يرفع عن الناس حتى لا يبقى بين قوم يمتهنونه فلا يصدقون أخباره ولا يعملون بأحكامه يرفع فلا يبقى في المصاحف منه آية ولا في الصدور منه كلمة. ومن أشراط الساعة هدم الكعبة المكرمة بيت الله العظيم فإنه يهدمه في آخر الزمان رجل حبشي أسود أفحج دقيق الساقين ينقضها حجرا حجرا حتى يأتي إلى آخرها. فهذه الأشراط وأمثالها مما جاء به كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المسلمين أن يقروا بها ويعتقدوها وأن يعتقدوا أنها حق على حقيقتها فلا يحرفوها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الفرع السادس أحوال القيامة والجنة والنار

[الفرع السادس أحوال القيامة والجنة والنار] [الخطبة الأولى في ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر] الفرع السادس أحوال القيامة والجنة والنار الخطبة الأولى في ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور قسم عباده إلى قسمين فمنهم شاكر ومنهم كفور وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهديهم إلى يوم الحشر والمصير وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. عباد الله: اعلموا أن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعبور ودار عمل وكدح للعباد فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور فتذكروا ما أنتم إليه صائرون من الموت وما بعده يوم تحشرون تذكروا حالتكم عند حلول الآجال ومفارقة الأوطان والأهل والعيال تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم وأنتم مقبلون إليها مدبرين عن الدنيا تذكروا حينما ينقسم الناس إلى قسمين فمنهم من توفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32] ومنهم من توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50] {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] تذكروا إذا حملتم على الرقاب إلى القبور فانفردتم بها عن الأهل والأولاد والأموال والقصور جليسكم الأعمال فإما خير تسرون به إلى يوم القيامة وإما شر تجدون به الحسرة والندامة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] تذكروا إذا نفخ في الصور فصعق

من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه. عباد الله: تذكروا هذا اليوم العظيم الذي يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم الصبر: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49 - 50] هذا اليوم الذي تندك فيه الجبال وتعظم فيه الأهوال وينزل فيه للقضاء بين العباد الملك الكبير المتعال يوم يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا تذكروا هذا اليوم الذي سماه الله يوم التغابن لأنه هو الذي فيه الغبن العظيم الغبن الحقيقي لأن الناس يحشرون على حسب أعمالهم فمنهم المتقون الذين يحشرون إلى الرحمن وفدا فنعم الوفد ونعم الموفود إليه الوفد عباد الرحمن والموفود إليه الملك الكريم المنان ومنهم المجرمون الذين يساقون إلى جهنم وردا يظمئون عطشا فتمثل لهم النار كأنها السراب يساقون إليها ولكن لا ترويهم من ظمأ وإنما يجدون فيه النار والسعير والحر والزفير: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14 - 16] فما أعظم هذا اليوم وما أشد هوله لقد قال الله في وصفه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] مقداره خمسون ألف سنة تدنو فيه الشمس من الناس حتى تكون بقدر ميل فقط ويبلغ العرق منهم كل بحسب عمله إن التغابن والله في هذا اليوم هو التغابن وليس التغابن في نيل عرض الدنيا وزخارفها فإنما هي لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد تزدهر قليللا ثم تزول سريعا: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] فتنافسوا أيها المسلمون في أعمال الآخرة لتدركوا بذلك الدنيا والآخرة وإياكم أن تؤثروا الدنيا عليها فتخسروا الدنيا والآخرة فإن الدنيا

مزرعة الآخرة فإذا لم يزرع فيها لآخرته فقد خسرها وخسر آخرته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى - يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى - فَأَمَّا مَنْ طَغَى - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 34 - 41] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في أن الحياة الحقيقية حياة الآخرة

[الخطبة الثانية في أن الحياة الحقيقية حياة الآخرة] الخطبة الثانية في أن الحياة الحقيقية حياة الآخرة الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وجعل للوصول إليه طرائق واضحة وسبلا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها عالي الجنان نزلا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أقوم الخلق دينا وأهداهم سبلا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا حتى أوجدكم الله من العدم وأسبغ عليكم النعم ودفع عنكم النقم ويسر لكم من أسباب البقاء وأسباب الهداية وبين لكم ما ينفعكم وما يضركم بين لكم أن للإنسان دارين دار ممر وزوال ودار مقر وخلود أما الدار التي هي دار ممر وزوال فهي دار الدنيا التي كل ما فيها فهو ناقص إلا ما كان مقربا إلى الله تعالى آمالها آلام وصفوها أكدار لو تبصر العاقل فيها أقل تبصر لعرف قدرها وهوانها وعرف كيف غدرها وخداعها تتراءى لعاشقيها كالسراب يحسبه الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وتتزين لهم بأنواع الزخارف والمغريات حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمر الله ليلا أو نهارا فجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس فمآلها عدم وفناء وجمالها عذاب وشقاء هذه هي الدنيا: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] أيها الناس أما الدار الآخرة فهي الحياة الحقيقية التي فيها جميع مقومات الحياة من البقاء والسرور والسلام والحبور هي الحياة الحقيقية التي ينطق الإنسان إذا شاهد حقائقها يقول يا ليتني قدمت لحياتي فالحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة التي يحيا الناس فيها فلا يموتون: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ - تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 102 - 104] أيها الناس اتقوا الله تعالى وانظروا نظر العاقل البصير المرمن، قارنوا بين الحياة الدنيا وحياة الآخرة لتعرفوا الفرق بين الدارين ففي الدار الآخرة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهي دار السلام سالمة من كل نقص ومن كل بلاء لا مرض فيها ولا موت ولا بؤس ولا هرم يقول النبي صلى الله عليه

وسلم «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» وهذا كلام الصادق المصدوق إن موضع العصا في الجنة خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها بكل ما فيها من نعيم وترف إذا كان هذا خيرا من الدنيا كلها فكيف بما أدركت منها من الزمن القليل وإذا كان موضع السوط خيرا من الدنيا كلها فكيف بمنازل أدنى منزلة فيها مسيرة ألفي عام يرى أقصاها كما يرى أدناها. أيها الناس: إن من العجب أن يؤثر أقوام الحياة الدنيا على الآخرة والآخرة خير وأبقى يؤثرونها على الآخرة فيعملون لها ويدعون عمل الآخرة يحرصون على تحصيل الدنيا وإن فوتوا ما أوجب الله عليهم ينغمسون في شهواتهم وسهواتهم وينسون شكر من أنعم بها عليهم علامة هؤلاء أنهم يتكاسلون عن الصلوات ويتثاقلون ذكر الله ويخونون في الأمانات ويغشون في المعاملات ويكذبون في المقالات ولا يوفون بالعهود ولا يبرون الوالدين ولا يصلون الأقارب. أيها الناس: إن من آثر الحياة الآخرة على الدنيا حصل له نعيم الآخرة والدنيا لأن عمل الآخرة يسير على من يسره الله عليه ولا يفوت من الدنيا شيئا فإن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه والله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] أما من آثر الحياة الدنيا على الآخرة فإنه قد يؤتى من الدنيا ولكن ليس له في الآخرة من نصيب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16] اللهم اجعلنا ممن آثروا الآخرة على الدنيا وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أقول قولي هذا. . الخ.

الخطبة الثالثة في ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر

[الخطبة الثالثة في ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر] الخطبة الثالثة في ذكر شيء من أوصاف اليوم الآخر الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير أرسله الله بين يدي الساعة فختم به الرسالة وأكمل له الدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا اتقوا يوما يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة. اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون يوما يجمع الله فيه الخلائق الأولين منهم والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، أجسامهم عارية وأقدامهم حافية وقلوبهم وجلة خائفة مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر.: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] لا تغرنكم الحياة الدنيا بزخارفها ولذاتها فإنها فيء زائل عن قريب ثم تنقلون إلى الدار الآخرة لتجزوا بما كنتم تعملون فحققوا رحمكم الله عبادة ربكم واتقوه لعلكم تفلحون ومن عذاب الآخرة تسلمون فلا سلامة من عذاب الله إلا بتقوى الله كونوا من الذين قالوا سمعنا وأطعنا فالقرآن يتلى عليكم وأنتم تتلونه بأنفسكم وفيه موعظة وشفاء لما في الصدور فاتعظوا بما فيه ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون قالوا علمنا وهم لا يعلمون ألم تعلموا أن أمامكم يوما تشيب فيه الولدان وتندك صم الجبال ويذهل فيه المرء عن القريب والصديق والخلان ألم يبلغكم أن الله يطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وأن الأرضين بيده الأخرى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ألم يبلغكم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك

وسعديك والخير كله في يديك فيقول الله له أخرج بعث النار من ذريتك قال آدم وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذا الحديث فتح الله عليهم أن يسألوا نبيهم يا رسول الله وأينا ذلك الواحد فقال أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا ثم قال والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله فقال أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله فقال أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود أيها المسلمون ألم تعلموا أن الأرض يومئذ تحدث أخبارها فتشهد على كل أحد بما عمل عليها من خير أو شر ألم تعلموا أن الرجل يختم على فمه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بما عملت: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24 - 25] وفي الكتاب والسنة من تفاصيل أحوال ذلك اليوم ما هو عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين اقرؤوا قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] إلى قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] فإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الرابعة في ذكر بعض الأمور التي تقع يوم القيامة

[الخطبة الرابعة في ذكر بعض الأمور التي تقع يوم القيامة] الخطبة الرابعة في ذكر بعض الأمور التي تقع يوم القيامة الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم التناد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العباد الذي دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة وهداها إلى سبيل الرشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأفعال والاعتقاد وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه يوم يحشر الناس ذاهلة عقولهم شاخصة أبصارهم عارية أجسامهم حافية أقدامهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بلقب سليم يوم يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف مشاة وصنف ركبانا وصنف يمشون على وجوههم يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن وهو الصوف المنفوش يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل فيعرقون على قدر أعمالهم فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ليس هناك ليل ولا نهار ولا قمر ولا شمس قد كورت الشمس وانكدرت النجوم وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ويومئذ تنصب الموازين لوزن الأعمال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] يوم يؤتى بالرجل له صلاة وصيام وزكاة قد ضرب هذا وأخذ مال هذا وشتم هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته حتى تفنى فإن بقي لهم حق أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار فلتؤدين الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء وعن أنس رضي الله عنه قال «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ مظلمتي من أخي فقال الله كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء قال يا رب فليحمل من

أوزاري وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن تحمل عنهم من أوزارهم» ويومئذ تتطاير صحائف الأعمال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا - إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا - إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 7 - 14] أي ظن أنه لا يبعث، هناك تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكفار المعتدين هناك تحدث الأرض أخبارها أتدرون ما أخبارها إنها تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا. إخواني كلنا ولله الحمد يؤمن بيوم الحساب وما عندنا فيه من شك ولا ارتياب غير أننا في غفلة ساهون وعن الاستعداد له معرضون وفي دنيانا الدنيئة ولذائذنا منغمسون ولاهون إننا لنعمل لها كأننا نعمر فيها وإننا لنفرط بأعمال وأوقات لا يمكننا تلافيها فاتقوا الله أيها المسلمون وابتدروا الأعمال الصالحة ففي ذلك فليتنافس المتنافسون فما بعد الشباب إن قدر للإنسان البقاء إلا الهرم وحينذاك يقرب الموت ويستولي الهم والحزن والندم. وفقني الله وإياكم لاغتنام الفرص والأوقات وجعل أعمالنا مقرونة بالتسديد والإخلاص وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يوم الأخذ بالنواصي إنه سميع مجيب رحيم قريب.

الخطبة الخامسة في أحوال الناس يوم القيامة

[الخطبة الخامسة في أحوال الناس يوم القيامة] الخطبة الخامسة في أحوال الناس يوم القيامة الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله على كل شيء قدير ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير المبعوث بأسس الحق وأصول الإيمان والخضوع للملك الديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واعلموا أنه ما خلقكم عبثا ولن يترككم سدى وإنما خلقكم لتعبدوه وتقدموا بدينه وتطيعوه وتقدموا لليوم الآخر فلا بد أن تلاقوه.: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] في ذلك اليوم تندك الأرض وتسير الجبال وفي ذلك اليوم تشتد الأمور وتعظم الأهوال وفي ذلك اليوم ينزل للقضاء بين عباده الحكم العدل المتعال في ذلك اليوم تحشرون حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم واجفة قلوبكم في ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين من الإنس والجن والدواب في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر في ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه في ذلك اليوم يقبض الله الأرض بيده ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون وفي ذلك اليوم تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى تكون قدر ميل فيعرق الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما فعند ذلك يبلغهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيذهبون إلى آدم فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيعتذر

ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيذهبون إلى موسى فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيذهبون إلى عيسى فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون نبي الله محمدا صلى الله عليه وسلم فيشفع في الناس ليقضي بينهم وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] وفي هذا اليوم يحاسب الله الخلائق على أعمالهم فأول ما يحاسب عليه العبد صلاته فإن كانت صالحة أفلح ونجح وإن كانت فاسدة خاب وخسر. ويقضي بين الخلائق فترد المظالم إلى أهلها من حسنات الظالم فإن لم يبق شيء من حسناته أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه ثم طرح في النار في ذلك اليوم ينصب الميزان فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون. في ذلك اليوم تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال فيأخذ المؤمنون كتابهم بأيمانهم مستبشرين مغتبطين ويأخذ الكافرون كتابهم بشمائلهم أو خلف ظهورهم حزنين خاسرين ويوضع الصراط على متن جهنم فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالطير وكأشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول يا رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع المشي إلا زحفا وفي يوم القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم طوله شهر وعرضه شهر عليه ميزابان أحدهما ذهب والآخر فضة يصبان فيه من الكوثر وهو النهر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وماؤها أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك وأبرد من الثلج آنيته كنجوم السماء في كثرتها وحسنها من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا فيرد عليه المؤمنون من أمته صلى الله عليه وسلم غرا محجلين من آثار الوضوء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم عليه ينظر من يرد عليه من أمته فيقتطع أناس دونه فيقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة السادسة في ذكر شيء من نعيم الجنة

[الخطبة السادسة في ذكر شيء من نعيم الجنة] الخطبة السادسة في ذكر شيء من نعيم الجنة الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ونوع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى والوصول إلى جنات المأوى ولم يتخذ سواها شغلا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] سارعوا إلى دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مفتاحها قول لا إله إلا الله وأسنانه شرائع الإسلام فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح له ومن جاء بمفتاح بلا أسنان أوشك أن لا يدخل أبوابها ثمانية فمن أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان وقد يدعى الإنسان من جميع الأبواب ما بين مصراعين من مصاريعها كما بين مكة وهجر بناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها للمؤمن فيها خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مئة عام لا يقطعها قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في نواحيها مئة عام يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر جنتان فيهما من كل فاكهة زوجان

وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان وليست تلك الفواكه والنخل والرومان كهيئتها في الدنيا وإنما الاسم هو الاسم والمسمى غير المسمى قد ذللت قطوفها تذليلا إن قام تناولها بسهولة وإن قعد تناولها بسهولة وإن اضطجع تناولها بسهولة كلما قطع منها شيئا خلفه آخر كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها في اللون والهيئة مختلفا في الطعم ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا يدعون فيها بكل فاكهة آمنين من الموت آمنين من الهرم آمنين من المرض آمنين من كل خوف ومن كل نقص في نعيمهم أو زوال خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فيها أنهار من ماء غير آسن أي لم يتغير ولا يتغير أبدا وأنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة ولا فساد وأنهار من خمر لذة للشاربين لا يصدع الرؤوس ولا يزيل العقول وأنهار من عسل مصفى تجري هذه الأنهار من غير حفر سواق ولا إقامة أخدود يصرفونها كما يشاؤون يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم في جمالهم وانتشارهم في خدمة أسيادهم لؤلؤا منثورا يطوفون عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا يعطى الواحد منهم قوة مئة في الطعام والشراب ليأكلوا من جميع ما طاب لهم ويشربوا من كل ما لذ لهم ويطول نعيمهم بذلك ثم يخرج طعامهم وشرابهم جشاء ورشحا من جلودهم كريح المسك فلا بول ولا غائط ولا مخاط لهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس والبول وكل أذى وقذر هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم أنشأهن الله إنشاء فجعلهن أبكارا كلما جامعها زوجها عادت بكرا وجعلهن عربا أترابا والعروب هي المرأة المتوددة إلى زوجها؛ أترابا على سن واحد فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون لا يبغون عنها حولا ولا هم عنها مخرجون ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وفوق ذلك كله أن الله أحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا وفوق ذلك كله ما يحصل لهم من النعيم برؤية ربهم البر الرحيم الذي من عليهم حتى أوصلهم بفضله إلى دار السلام والنعيم فإنهم يرونه عيانا بأبصارهم كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» فإن استطعتم أن

لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا فإن سألتم عن أهل هذه الجنات وساكني تلك الغرفات فهم الذين وصفهم الله في محكم الآيات بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11] اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل اللهم تب علينا واغفر لنا وارحمنا إنك أنت التواب الغفور الرحيم.

الخطبة السابعة في ذكر نماذج من عذاب النار

[الخطبة السابعة في ذكر نماذج من عذاب النار] الخطبة السابعة في ذكر نماذج من عذاب النار الحمد لله مستحق الحمد وأهله المجازي خلقه جزاء دائرا بين عدله وفضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعي هديه وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون اتقوا ذلك بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا اتقوا النار فإنها دار البوار والبؤس ودار الشقاء والعذاب الشديد دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ساكنوها شرار خلق الله من الشياطين وأتباعهم قال الله تعالى لإبليس: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 84 - 85] دار فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم ولئن سألتم عن مكانها فإنها أسفل السافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين طعام أهلها الزقوم وهو شجر خبيث مر المطعم كريه المنظر لا يسمن ولا يغني من جوع وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم» رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح هذا طعامهم إذا جاعوا فإذا أكلوا منها التهبت أكبادهم عطشا وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب يشوي وجوههم حتى تتساقط لحومها فإذا شربوه على كره وضرورة قطع أمعاءهم ومزق جلودهم هذا شرابهم كالمهل في حرارته وكالصديد في نتنه وخبثه يضطر شاربه إلى شربه اضطرارا يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ أما لباسهم فلباس الشر والعار قطعت لهم ثياب من نار سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار فلا يقيهم هذا اللباس حر جهنم وإنما يزيدها اشتعالا وحرارة ولا يستطيعون أن يقوا به وهج النار وحرها عن وجوههم: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ - وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ - كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 19 - 22] عباد الله اتقوا النار فإن حرها شديد قد فضلت على نار الدنيا كلها بتسع وستين جزءا

يصلاها المجرمون فتنضج جلودهم قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] يرتفع بهم اللهب حتى يصلوا إلى أعلاها وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون عذابهم فيها دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون يتكرر عليهم فلا يستريحون ويسألون الخلاص منه ولو ساعة فلا يجابون يقولون لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فتقول الملائكة لهم أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلن يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حينما دعوهم إلى الله تعالى فكان الجزاء من جنس العمل قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيقول الله لهم على وجه الإهانة والإذلال اخسؤوا فيها ولا تكلمون فحينئذ ييئسون من كل خير ويعلمون أنهم فيها خالدون فيزدادون بؤسا إلى بؤسهم وحسرة إلى حسرتهم كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 65 - 66] عباد الله اتقوا النار فإن قعرها بعيد وأخذها شديد قال أبو هريرة رضي الله عنه «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة أي صوت شيء وقع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم قال هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفا أي سنة فالآن حين انتهى إلى قعرها» رواه مسلم إذا رأت أهلها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا تتقطع منه القلوب فإذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تتميز من الغيظ أي تكاد تتقطع من شدة الغيظ والغضب على أهلها فهي دار حانقة غاضبة على أهلها وهم في جوفها فما ظنك أن تفعل بهم؟ عباد الله اتقوا النار احذروا أن تكونوا من أهلها ولقد بين الله لكم صفات أهل النار وصفات أهل الجنة جملة وتفصيلا لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41] اللهم إنا نسألك النجاة من النار والفوز بدار القرار. . . إلخ.

الفرع السابع الإيمان بالقدر

[الفرع السابع الإيمان بالقدر] [الخطبة الأولى في حكم الإيمان بالقدر] الفرع السابع الإيمان بالقدر الخطبة الأولى في حكم الإيمان بالقدر الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء قدير وجعل لكل شيء قدرا وأجلا مطابقا لعلمه وحكمته وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والخلق والتدبير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا به وآمنوا بقضائه وقدره فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان فلن يتم الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن الإنسان بأربعة أمور الأول علم الله المحيط بكل شيء فإنه سبحانه بكل شيء عليم. عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها سرها وعلنها فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء الأمر الثاني أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فإن الله لما خلق القلم قال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فكتب بعلم الله وإذنه ما هو كائن إلى يوم القيامة فما كتب على الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23] فعلى العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره وأن يستسلم للقضاء المكتوب فإنه لا بد أن يكون ويقع فلا راد لقضاء الله وقدره لكن الفخر كل الفخر لمن يقابل ذلك بالرضا ويعلم أن الأمر من الله إليه وأنه سبحانه له التدبير المطلق في خلقه فيرضى به ربا ويرضى به إلها وبذلك يحصل له الثواب العاجل والآجل فإن من أصيب بالمصائب فصبر هدى الله قلبه وشرح الله صدره وهون عليه المصيبة لما يرجو من ثوابها عند الله ثم إذا بعث يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الأجر والثواب وجد أجر مصيبته وصبره عليها مدخرا له عند الله وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وكما أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء فكذلك يكتب سبحانه ويقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة

كلها كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وكذلك يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه ما سيجري عليه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» وهذا الرجل الذي كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم ختم له بعمل أهل النار إنما كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ولم تكن نيته في الإخلاص والقصد نية مستقيمة فلذلك عوقب بسوء الخاتمة كما جاء ذلك مفسرا في حديث آخر. الأمر الثالث مما يتم به الإيمان بالقدر أن تؤمن بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمشيئة الله فوق كل مشيئة وقدرته فوق كل قدرة وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الأمر الرابع أن نؤمن بأن الله خالق كل شيء ومدبر كل شيء وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقه فمن الأشياء ما يخلقه الله بغير سبب معلوم لنا ومنه ما يكون سببه معلوما لنا والكل من خلق الله وإيجاده فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا وإياكم ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وأن يقدر لنا بفضله ما فيه صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وأصحابه واتباعهم إلى يوم الدين.

الخطبة الثانية في حكم الإيمان بالقدر وكيفيته أيضا

[الخطبة الثانية في حكم الإيمان بالقدر وكيفيته أيضا] الخطبة الثانية في حكم الإيمان بالقدر وكيفيته أيضا الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا وجرت الأمور على ما يشاء حكمة وتدبيرا ولله ملك السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ولن تجد من دونه وليا ولا نصيرا وأشهد أن لا إله إلا الله له الملك وله الحمد وكان الله على كل شيء قديرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليما كثيرا. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا به، آمنوا بقضائه وقدره ومشيئته وخلقه فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان لن يتم إيمان العبد حتى يحقق الإيمان بالقضاء والقدر. وللإيمان بالقضاء والقدر أركان لا يتم إلا بها. الركن الأول: أن تؤمن بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء شهيد فما من شيء حادث في السماء والأرض وما من شيء يحدث فيهما مستقبلا إلا وعند الله علمه لا يخفى عليه شئ من دقيقه وجليله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] الركن الثاني: أن تؤمن بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة فكل شيء يحدث في الأرض أو في السماوات فهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وقد أشار الله تعالى إلى هذين الركنين بقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] وفي الحديث: «أن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وفي ليلة القدر يكتب ما يجري في تلك السنة {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وإذا تم للجنين في بطن أمه أربعة أشهر بعث الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. الركن الثالث: من أركان الإيمان بالقضاء والقدر أن تؤمن بمشيئة الله العامة وقدرته الكاملة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما حدث في السماوات والأرض من

أفعال الله أو من أعمال الخلق فإنه بمشيئة الله لا يحدث شيء كبير ولا صغير ولا عظيم ولا حقير إلا بمشيئة الله وقدره وتحت سمعه وبصره هو الذي علم به كتبه وقدره ويسر أسبابه فمن عمل صالحا فبمشيئة الله ومن عمل سيئة فبمشيئة الله: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] وكل شيء يعمله الإنسان ويحدثه فإنه بمشيئة الله حتى إصلاح طعامه وشرابه وبيعه وشراؤه وأخذه وعطاؤه ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته كلها بمشيئة الله تعالى وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» . الركن الرابع: من أركان الإيمان بالقدر أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومليكه ومقدره ومسخره لما خلق له وأن الله خالق الأسباب والمسببات وهو الذي ربط النتائج بأسبابها وجعلها نتيجة لها وعلم عباده تلك الأسباب ليتوصلوا بها إلى نتائجها لتكون عبرة لهم ودليلا على نعمة الله عليهم بما يسره لهم من الأسباب التي يتمكنون بها من إدراك مطلوبهم على حسب ما تقتضيه حكمته ورحمته وقد أشار الله تعالى إلى هذا بقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] إلى قوله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] فالأعمال التي يحدثها العبد ويقوم بها ناتجة عن أمرين أحدهما: عزم الإنسان عليها ولولا عزمه لما فعل والثاني: قدرته على العمل بما علمه الله تعالى من أسبابه وبما أعطاه من القوة عليه ولولا قدرة الإنسان على العمل ولولا علمه بأسباب إيجاده وعزمه عليه لما وقع منه الفعل ولا شك أن الذي علم الإنسان وأوجد فيه العزم والقدرة هو الله تعالى فالإنسان وعزمه وقدرته وفعله كله في ملك الله وتحت مشيئة الله وقدرته: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الفرع الثامن في محاسن الإسلام

[الفرع الثامن في محاسن الإسلام] [الخطبة الأولى في سهولة الدين وإصلاحه للمجتمع] الفرع الثامن في محاسن الإسلام الخطبة الأولى في سهولة الدين وإصلاحه للمجتمع الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وتبارك الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور والحمد لله الذي شرع لعباده ويسر ودعاهم لما تزكو به نفوسهم وتتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكل شيء عنده بأجل مقدر وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بشر وأنذر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما أشرق الضياء وأنور وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ - إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5 - 6] فإذا كان يوم القيامة تبرأ منهم وقال إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي وحينئذ ينادون بالويل والثبور يقولون لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. أيها المسلمون: إن من عداوة الشيطان أن يصور لكم دينكم بأبشع صورة وأشدها تنفيرا عنه إنه يصور لكم دينكم بأنه حبس للحرية وتضييق على العبد ومنع من التقدم والرفاهية هكذا يصور الشيطان لنا ديننا حتى لا نقبل عليه ولا نتمسك به وإن العاقل إذا نظر إلى الدين بعلم وعدل وجده بريئا من كل هذه الصفات وإنه على العكس من ذلك فهو دين الحرية الحقة المعتدلة ودين السعة والسهولة والتقدم والسعادة ولنستعرض قليلا من تشريعات هذا الدين لنقيس عليها ما سواها. فالدين أيها المسلمون مبني على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام. وهذه الأصول الخمسة كلها يسيرة سهلة وكلها تهذيب للأخلاق وإصلاح للقلوب وتقويم للأحوال فشهادة أن لا إله إلا الله تجريد القلب من التأله والعبادة لأحد من المخلوقين وانحصار العبودية لله رب العالمين الذي من عليك بالوجود والرزق فأنت بالنسبة إليه عبد وبالنسبة إلى من سواه حر وإن من الحمق

بمكان أن تنطلق من عبودية الله التي هي الحق وتقيد نفسك بعبودية هواك أو عبودية دنياك أو عبودية فلان وفلان وشهادة أن محمدا رسول الله تجريد المتابعة لأحد من المخلوقين سوى رسول رب العالمين الذي كلف بالرسالة إليك وكلفت باتباع رسالته فعنها يسأل بلاغا وأنت تسأل عنها اتباعا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] وما من شك في أن كل واحد من الناس سوف يسير في عمله على خطة مرسومة فإما أن تكون طريقة النبيين أو طريق الضالين فانظر أي الطريقين أهدى وأقوم. أما إقامة الصلاة فما أيسرها وأسهلها وما أنفعها للقلب والبدن والفرد والمجتمع فهي صلة بينك وبين ربك تقوم بين يديه خاشعا خاضعا متقربا إليه بما شرعه لك سائلا منه حاجات دنياك وأخراك تنمي دينك وتحط ذنوبك وتلحقك بالصالحين وتستعين بها على أمور دينك ودنياك وتنهاك عن الفحشاء والمنكر. أما إيتاء الزكاة وهو القسط المعلوم الذي تؤديه عن مالك لمواساة إخوانك أو لصالح الإسلام فما أيسره وما أنفعه يتطهر به المزكي من الأخلاق الرذيلة ومن الذنوب المثقلة إن الصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفئ الماء النار وهو قسط ضئيل من مالك ربع العشر من الذهب والفضة والعروض من كل مائتين خمسة دراهم. أما صيام رمضان فشهر واحد في السنة تمتنع فيه في النهار عما تشتهيه نفسك من طعام وشراب ونكاح تقربا إلى ربك وتقديما لمرضاته على ما تشتهيه مع ما فيه من فوائد كثيرة معلومة. وأما حج البيت فمرة واحدة في العمر على المستطيع يتوجه إلى بيت الله وشعائره يعظم ربه عندها ويعبده ويسأله حوائج دينه ودنياه ولا تسأل المحب عن حبه لبيت حبيبه وأماكن قربه والتعبد له في تلك الأماكن العظيمة مع ما في الحج من المنافع الدينية والدنيوية. ثم الإسلام أيها المسلمون مفخرة عظيمة لأهله لأنه يأمر بكل خلق فاضل وينهى عن كل خلق سافل يأمر بكل تقدم إلى ما فيه الخير، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]- {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]- {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» . «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان»

فهل بعد هذا من دليل أو برهان على أن هذا الدين دين الحق واليسر والسهولة والتقدم فلا باطل ولا عسر ولا تأخر ولكن حق ويسر وتقدم للخير ورجوع عن الشر ومن شك في ذلك فلينظر لتاريخ ماضينا وأمجادنا في الإسلام فتحوا القلوب بالإيمان والعلم وفتحوا البلاد بالحق والعدل نسأل الله أن يبصرنا في ديننا ويرزقنا التمسك به والوفاة عليه أنه جواد كريم.

الخطبة الثانية في سهولة الدين وإصلاحه للمجتمع أيضا

[الخطبة الثانية في سهولة الدين وإصلاحه للمجتمع أيضا] الخطبة الثانية في سهولة الدين وإصلاحه للمجتمع أيضا الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور وتبارك الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور والحمد لله الذي شرع لعباده فيسر ودعاهم لما تزكوا به أنفسهم وتتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وكل شيء عنده بأجل مقدر وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أبلغ من وعظ وأصدق من وعد وأنصح من بشر وأنذر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المحشر وسلم تسليما. أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله تعالى واعلموا أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير فإذا كان يوم القيامة تبرأ منهم وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. ألا وإن من عداوة الشيطان أن يصور لكم دينكم أبشع تصوير يصوره لكم بأنه يحبس الحرية ويضيق على العبد ويكلفه بما لا يطيق ويمنعه من التقدم والانطلاق إلى غير ذلك مما يوسوس به لكم ولكن العاقل إذا تأمل أقل تأمل تبين له أن دين الإسلام هو دين اليسر والسهولة والتعقل والتقدم النافع والانطلاق إلى الخير. أيها المسلمون: لقد بني الإسلام على خمسة أركان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وكل هذه الأركان يسيرة سهلة على من يسرها الله عليه فهل من الصعب أن تشهد بلسانك معتقدا بقلبك بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله هل من حبس الحرية أن تكون عبدا لربك الذي خلقك ورزقك وأمدك بما تحتاجه وهيأك وأعدك لما يلزمك من شؤونك لا والله بل هذا هو الحرية وإنما حبس الحرية أن تكون عبدا لهواك أو للدرهم والدينار أو لفلان وفلان أم هل من حبس الحرية أن تكون متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت سنته أفضل سنة، سنة مبنية على القصد بلا غلو ولا تفريط فليس فيها تهور تكون نتيجته عكسية وليس فيها تماوت وتفريط تفوت به الأمور بل هي طريقة وسط لا وكس فيها ولا شطط وإن أي إنسان يتجرد من متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يكون متبعا لغيره ممن ضل عن الصراط المستقيم فماذا بعد الحق إلا الضلال. أيها الناس هل

من الصعوبة أن تقوم قانتا في كل يوم وليلة خمس مرات فقط بهذه الصلوات الخمس تتنعم بذكر ربك وتحيي قلبك بالصلة به وتسأل ما شئت من حاجات دنياك وآخرتك وأقرب ما تكون من ربك وأنت ساجد ومع ذلك فهذه الصلوات الخمس لا تستغرق إلا جزءا يسيرا من وقتك وهي مفرقة على الساعات في اليوم والليلة حتى لا تتعب بأدائها دفعة واحدة ولئلا تنقطع الصلة بينك وبين ربك مدة أكثر ثم هذه الصلوات لها من النتائج الطيبة للقلب والإيمان والثواب ما هو معلوم فالصلوات الخمس مكفرات لما بينهن من الذنوب ما اجتنبت الكبائر. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي نور في القلب والوجه والقبر والقيامة. أيها الناس هل من الصعوبة أن يبذل الإنسان جزءا من ماله الذي أنعم الله به عليه لمواساة إخوانه الفقراء والغارمين أو من أجل مصلحة المسلمين والإسلام فالزكاة أمر يسير من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين دينارا نصف دينار فهل في ذلك من مشقة ألم يك في الأنظمة الجائرة أن يكون الإنسان مقيدا في ماله مشاركا في كل جزء منه فاحمدوا الله على نعمة الإسلام واسألوه أن يثبتكم عليها ويحفظها لكم. أيها المسلمون هل من المشقة أن يصوم الإنسان شهرا واحدا من السنة تقربا إلى الله وتقديرا لنعمته عليه بالغنى وتكميلا لعبوديته بترك ما تشتهيه نفسه لما يرضي ربه ثم مع ذلك للصيام فوائد كثيرة معلومة أم هل من الصعوبة أن يؤدي العبد فريضة الحج مرة واحدة في العمر إن استطاع إلى ذلك سبيلا فيتعبد لله تعالى بأداء المناسك وتعظيم الحرمات والشعائر ويحصل له الاجتماع بالمسلمين من كل قطر فيتعرف عليهم ويفيدهم ويفيدونه ثم من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. أيها المسلمون، الإسلام يأمركم بكل تقدم نافع قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] فأمرنا بالمشي في مناكب الأرض أي جهاتها ثم أمرنا بالأكل من رزقه ومعنى ذلك أن نسعى بطلب هذا الرزق إذ لا يمكن تحصيله إلا بأسبابه والناس يختلفون في سلوك ما يلائمهم من أسباب الرزق فمنهم من يحصله بالتجارة ومنهم من يحصله بالصناعة ومنهم من يحصله بالزراعة ومنهم من يحصله بالعمل إلى غير ذلك من أسباب الرزق ثم قال تعالى: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] وهذا تحذير من الله

لعباده أن يسلكوا في تحصيل رزقهم سبلا حرمها الله عليهم فإنهم راجعون إليه ومحاسبهم عليها. فالإسلام دين اليسر والسهولة والمصالح والانطلاق النافع لا صعوبة فيه ولا تهور ولا خمول ولا فوضى فنسأل الله تعالى الكريم المنان الواسع الفضل أن يمن علينا وعليكم بلزوم الإسلام والوفاة على الإيمان إنه جواد كريم.

الخطبة الثالثة في أن الإسلام نظام كامل مصلح للخلق

[الخطبة الثالثة في أن الإسلام نظام كامل مصلح للخلق] الخطبة الثالثة في أن الإسلام نظام كامل مصلح للخلق الحمد لله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وشرع له من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم فهو أفضل الأديان وأنفعها للخلق وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان السماوية وأقومها فقد أعطى كل ذي حق حقه ففي مقام العبودية جعل العبادة لله وحده لا شريك له لأنه هو الخالق وحده فيجب أن تكون العبادة له وهو المحبوب المعظم لذاته فوجب أن يكون القصد والعمل له وإليه فالسجود والركوع والذبح على سبيل العبادة والتقرب لا يصح إلا لله فمن سجد أو ركع أو ذبح لغيره تعظيما وتقربا إليه فهو كافر بالله ومشرك به ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار وفي مقام الحرب والسلم سماه الله تعالى سلما لأنه متضمن للسلم فلا عدوان ولا ظلم لكن من قام في وجه الدين والدعوة إليه فقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فالكافر وهو الكافر إذا أدى الجزية صاغرا ذليلا ورضخ لأحكام الإسلام فإنه معصوم الدم والمال يعيش في أمان تحت ظل الإسلام وحماية المسلمين وفي مقام القوة والدفاع عن الدين والنفس يأمر بالاستعداد وأخذ الحذر والتيقظ والعمل على ما يغيظ الأعداء ويرهبهم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] وفي مقام الوحدة والصمود أمام العدو يأمر بالاتحاد والأخوة وعدم التفرق ذلك لأن التفرق سلاح فتاك يوجب خلل الصفوف وتباين الأهداف والأغراض: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46]

فالوحدة الإيمانية الدينية هي الوحدة النافعة التي يتكتل أفرادها في الدفاع عن عقيدتهم ودينهم والاشتراك في الدين والعقيدة هو أعظم مقومات الوحدة لأن دفاع الإنسان عن دينه وعقيدته أعظم من دفاعه عن وطنه وقوميته لأنه لا سعادة له في دنياه وآخرته إلا بدينه وأما الوطن والقومية غير الدينية فإن الإنسان يمكنه أن يعيش عيشة سعيدة إذا استقام دينه وإن لم يكن في وطنه أو بين قومه وقد شرع للناس من الأمور ما تستقيم به هذه الوحدة فالصلوات الخمس جماعة في المساجد وحدة خاصة لأهل المحلة المتقاربة وصلاة الجمعة وحدة أعم منها لأهل البلد ويوم عرفة وعيد النحر وحدة عامة للمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها مع ما في هذه الاجتماعات من المصالح العظيمة الأخرى. وفي مقام المعاملة بين الخلق يأمر بإعطاء كل ذي حق حقه فللنفس حق يجب أن تعطاه وللأهل حق يجب بذله لهم وللأصحاب حق يجب أن لا يحرموه ولمن تعامله حق يجب أن تعامله به عامل غيرك بالصدق والبيان ولا تعامله بالكذب والكتمان فمن غش فليس منا وفي مقام المعاهدات بيننا وبين غيرنا يأمرنا بالوفاء بها وينهانا عن الغدر والخيانة حتى الكفار إذا كان بيننا وبينهم عهد وجب علينا الوفاء فإن خفنا من غدرهم فإننا لا نخونهم بل نخبرهم بأنه لا عهد بيننا وبينهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] والدين يأمر بجميع مكارم الأخلاق جملة وتفصيلا وينهى عن مساوئ الأخلاق جملة وتفصيلا فمن تأمل الإسلام حق التأمل وجده الدين الحق الكفيل بسعادة الدنيا والآخرة للأفراد والشعوب والحكومات الدين الذي يجب على كل أحد أن يتمسك به ويدعو إليه فاحمدوا ربكم أيها المسلمون أن أنعم عليكم بهذا الدين وقيدوا هذه النعمة بالعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا سرا وعلنا فإنكم إن تعرضوا عنه يوشك أن ينزع من بينكم ويورث غيركم لأن الله يقول: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] والنعمة إذا شكرت بقيت وزادت وإن هي كفرت اضمحلت وزالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

الخطبة الرابعة في أن من محاسن الإسلام الإيمان بجميع الكتب والرسل

[الخطبة الرابعة في أن من محاسن الإسلام الإيمان بجميع الكتب والرسل] الخطبة الرابعة في أن من محاسن الإسلام الإيمان بجميع الكتب والرسل الحمد لله الذي بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه نحمده على إحسانه الكامل ونشكره على فضله الوافر وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن رغم أنف الكافر وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الله وجاهد في سبيله وصابر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يجمع الله فيه بين الأول والآخر وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته على خلقه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فإن حاجة الناس بل ضرورتهم إلى ذلك أعظم من حاجتهم وضرورتهم إلى الطعام والشراب والهواء فإن الله خلقهم أول ما خلقهم على الفطرة وأوحى إلى أبيهم آدم بما تتوقف عليه مصلحتهم في ذلك الوقت ثم لما طال الزمن وكثر بنو آدم اختلفوا فيما بينهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فأول رسول بعثه الله نوح عليه الصلاة والسلام وما زال الله تعالى يبعث الرسل من حين لآخر بحسب ما تتطلبه مصلحة عباده حتى ختم الله أنبياءه ورسله بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وكان عدة الأنبياء مئة وعشرين ألفا منهم ثلثمائة وبضعة عشر رسولا فآمنوا بهذه الكتب وآمنوا بهؤلاء الرسل وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فالإيمان بالكتب أن تؤمنوا بما سمى الله لكم وعينه باسمه فتؤمنوا بالصحف التي أنزلها على إبراهيم وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى وبالزبور الذي آتاه الله داود وبالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى وبالفرقان وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وأما ما لم يعينه الله لكم من الكتب فتؤمنون به على وجه الإجمال أي تؤمنون بكل كتاب أنزله الله على كل نبي من الأنبياء ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم كلام الله تكلم به حقيقة وألقاه إلى جبريل القوي الأمين ثم نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوعاه لفظا ومعنى وبلغه إلى أمته بلغه الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أكمل هذه الأمة إيمانا وأحفظهم أمانة فلم يمض بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الخلفاء الراشدين حتى

جمعوه وحفظوه وأدوه إليكم كاملا من غير زيادة ولا نقص على الوجه الذي تقرأونه حفظوه وجمعوه قبل زمن التفرق والأهواء وهذا من عناية الله بكتابه المبين فإنه تكفل بحفظه حيث قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أما الإيمان بالرسل والأنبياء فالواجب أن يؤمن العبد بكل نبي وبكل رسول أرسله الله فمن سماه الله لنا منهم آمنا به بعينه ومن لم يسمه آمنا به عموما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] فالذين قص الله علينا محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وهارون وزكريا ويحيي وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط وهود وصالح وشعيب وإدريس وإسحق ويعقوب ومن الإيمان بالرسل والكتب أن تصدق بأخبارها وتعتقد أنها حق وأن تعمل بما أوجب الله عليك العمل به من أحكامها وتعتقد أنها أحسن الأحكام وأنفعها للخلق في دينهم ودنياهم. فمن كذب رسولا أو كتابا أو كفر به فهو كافر بالجميع ومن رفض الأحكام التي شرعها الله لعباده وحكم بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن حقق قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] من حقق ذلك كان من المؤمنين بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الخامسة في الميزان والحكمة

[الخطبة الخامسة في الميزان والحكمة] الخطبة الخامسة في الميزان والحكمة الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ووهب الآدميين عقولا يميزون بها بين الحق والباطل والصدق والبهتان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد بالبرهان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحمدوه على ما وهبكم من العقول التي بها تعقلون الأمور وتدركون وبها تميزون بين الحق والباطل وتحكمون فالعقل من أكبر نعم الله على العبد إذا استعمله فيما هو له من التعقل والنظر والتفكير والتروي في الأمور وعدم التسرع في التصرف والتدبير ولقد جاءت الكتب السماوية مؤيدة لذلك فأتت بالموازنة بين الأشياء والحكم عليها بالعدل والمساواة بالأدلة والبينات قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] أيها المسلمون: إذا أراد أحدكم أن يقول شيئا فليزن كلامه ولينظر ماذا يترتب عليه فإن ترتب عليه خير أقدم ولم يتردد وإن ترتب عليه شر أمسك عنه وأبعد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» إذا أراد أحدكم أن يفعل شيئا فلينظر هل في فعله خير أم الخير في تركه فإن كان الخير في تركه تركه وإذا كان في فعله خير فلينظر هل يشغله عما هو أهم وأفضل أو لا فإن كان يشغله عما هو أهم منه وأفضل تركه لأن العاقل لا يمكنه عقله أن يشتغل بالمفضول عن الفاضل لأن ذلك إضاعة لفضل الفاضل. وإذا رأيت من أخيك خطيئة فاقرنها بصوابه وحسناته واحكم عليه بالعدل وإن كثيرا من الناس في هذه النقطة بالذات يجورون جورا كبيرا في حكمهم إذا رأوا من صاحبهم سيئة واحدة حكموا عليه بمقتضاها وعموا عن الحسنات الكثيرة سواها وهذا نقص في العقل وجور في الحكم وهو من صفات المرأة لو أحسنت إليها الدهر كله ثم رأت منك سوءا قالت ما رأيت خيرا قط. وإذا سمعت من يتبجح بالدين ونصرته وأنه سند له فانظر إلى أفعاله فإن كانت في نصرة الإسلام والمسلمين والدفاع عنهم وجمع كلمتهم وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فدعواه حق وكلامه صدق وإن كانت أفعاله بخلاف ذلك يصادم الدين ويسعى في

التفريق بين المسلمين ويحكم القوانين الوضعية المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن دعواه باطلة وأن قوله كذب مهما بهرج ومهما زخرف فإن العاقل لا ينخدع بزخارف القول وبهرجة الكلام فقد حكى الله تعالى عن المنافقين أنهم إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون فقال الله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] وحكى الله عن فرعون أنه قال لقومه ما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقد قال الله تعالى فيه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79] فالعاقل أيها الناس لا ينخدع بالأقوال ولا يحكم على القائل بمقتضاها إذا كان الفعل يخالف القول. أيها الناس وإن من العدل والميزان ما جاءت به الشرائع من المساواة عند تساوي الأسباب والحقوق في الحكم بين الناس فإن الحكم بينهم يجب عليه العدل في حكمه وقوله وفعله فلا يحابي قريبا ولا صديقا ولا شريفا ولا يفضلهم على من سواهم فيما هو مساو لهم فيه ومن ذلك العدل بين الأولاد فلا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في العطايا والهبات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» وإذا كان بعض الأولاد يبره أكثر من الآخر فلا يبره والده بالعطية ويفضله على غيره بل بره لوالده أجره على الله وأما الوالد فعليه التسوية بين أولاده لأنه إذا فضل من يبره كان ذلك إغراء للآخر بالتمادي في عقوقه وأيضا فإنه لا يدري فقد تنقلب الحال فيكون البار عاقا والعاق بارا. ومن ذلك العدل بين الزوجات إذا كان للرجل زوجتان فأكثر فإن من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل والعياذ بالله. أيها الناس إن العدل في الأمور والموازنة بينها والحكم للراجح فيها وتسويتها في الحكم عند التساوي لقاعدة كبيرة يجب على العاقل أن يتمشى عليها في سيره إلى الله وفي سيره مع عباد الله ليكون قائما بالقسط والله يحب المقسطين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة السادسة من محاسن الإسلام العدل في التصرفات

[الخطبة السادسة من محاسن الإسلام العدل في التصرفات] الخطبة السادسة من محاسن الإسلام العدل في التصرفات الحمد لله اللطيف المنان المتفضل علىعباده بأنواع الإحسان علم حال الإنسان فرحمه وشرع الشرع فيسره ولم يكلف الإنسان إلا ما أطاق وهذا غاية الفضل والامتنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بما شرع لكم من العبادات التي تصلون بها إلى أعلى الدرجات وأكمل المقامات فلقد شرع الله لنا عبادات ميسرة مصلحة للقلب والبدن والدنيا والدين ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لو تأملنا العبادات البدنية لوجدناها لا تستغرق من أوقاتنا وأعمالنا إلا القليل ولو نظرنا إلى العبادات لرأيناها لا تطلب من مالنا إلا القليل ومع ذلك فإن ثمرات هذه الأعمال القليلة والأموال المبذولة اليسيرة ثمراتها كثيرة كبيرة لأن ثمراتها صلاح الدنيا والآخرة ولك مع هذا كله إذا فكرنا في أمرنا وجدنا أننا نفرط في هذه العبادات ونبالغ في طلب اللذائذ والشهوات. أعمال الدنيا نحرص على إدراكها وتحصيلها ونتأنى ونتمهل في تنميتها وتكميلها مع أننا نعلم أننا لن نخلد فيها ولن تخلد لنا وأن الأعمال الصالحة هي التي ستبقى لنا ونخلد لها عند حصول ثوابها تجد الكثير يتوانى عن القيام إلى صلاته وإذا قام إليها أداها بسرعة مخلة بها لا يطمئن ولا يتمهل ولا يتدبر ما يقول وربما كان بدنه حاضرا وقلبه غائب يتجول في دنياه فيخرج من صلاته لا يعقل منها شيئا ولو طلب منه أن يعمل عملا لدنياه لتمهل فيه وتأنى وحرص على تكميله وتنميقه وأشغل فكره وبدنه لذلك ولو أضاع من أجله الوقت الكثير فهل من العدل والعقل أن يجحف الإنسان بعمل الآخرة ويؤدي عمل الدنيا كاملا مكملا مع أن عمل الدنيا زائل وعمل الآخرة هو الباقي قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] يطلب من الإنسان أن يؤدي زكاة ماله فيبخل في ذلك ويشح عليه وإذا أخرجها فربما يخرجها على وجه ناقص لا تبرأ به الذمة ولكنه مع ذلك يسهل عليه غاية السهولة أن يبذل المال في أمور دنياه التي ربما كانت وبالا عليه ونقصا في دينه فما أكثر ما يبذل من ماله في الأمور الكماليات التي يترفه بها ويتنعم وما أقل ما يبذله من ماله فيما

يجب عليه من زكاة وكفارات ونفقات الأهل والأقارب فهل هذا من العدل والإنصاف. كثير من الناس يصعب عليه أن يبذل ماله وبدنه في الحج إلى بيت الله ولكنه يسهل عليه أن يبذل ماله وجهده وبدنه في السياحة إلى البلاد يمينا وشمالا وربما كانت سياحة يغيب بها عن أهله وولده فيضيع عليهم فرصة وجوده عندهم وتأديبه لهم وهكذا كلما نظرنا في أمرنا وجدنا أننا أو الكثير منا مجحفون في أعمال الآخرة مقصرون فيها ومسرفون في أعمال الدنيا ومغالون فيها وليس هذا من العدل قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41] وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17] أيها الناس إنه لم يطلب منكم أن تتركوا أعمال الدنيا كلها ولا يمكن أن يطلب ذلك لأن من ضرورة بقاء الإنسان في الدنيا أن يعمل لها ولكن المطلوب منكم ألا تؤثروها على الآخرة وألا تكون هي أكبر همكم وكأنما خلقتم لها وكأنها دار المقر ولكن خذوا منها بنصيب واعملوا للآخرة على الوجه المطلوب وإذا عملتم لها فأجيدوا العمل وأتقنوه كما كنتم تجيدون العمل للدنيا وتتقنونه فإن لم تفعلوا فقد آثرتم الدنيا على الآخرة وبؤتم بالإثم والخسارة الفادحة اللهم وفقنا لما تحب وترضى وهيئ لنا من أمرنا رشدا واغفر لنا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة السابعة في سهولة الإسلام وشموله لأنواع العبادات

[الخطبة السابعة في سهولة الإسلام وشموله لأنواع العبادات] الخطبة السابعة في سهولة الإسلام وشموله لأنواع العبادات الحمد لله الذي جعل الآجال مقادير للأعمار، وجعل هذه الأعمار مواقيت للأعمال، وكتب الفلاح لمن شغلها بالأعمال الصالحات والخسارة لمن فرط فيها فأضاعها، وشغلها بالأعمال السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأزمان والأوقات وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن عمل المؤمن لا ينتهي بانتهاء مواسم العبادة وإنما ينتهي بالموت؛ لأن العمر كله محل للطاعة، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] فاعمروا أوقاتكم بطاعة الله وما يقربكم إليه، واعلموا أن الله تعالى قد سهل العبادة، ويسرها غاية التيسير، وجعل للخير أبوابا ليلجها من للخير يقصد ويسير، انظروا إلى الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد التوحيد تجدوها قليلة الكلفة كثيرة الأجر فهي خمس في الفعل وخمسون في الميزان مفرقة في أوقات مناسبة حتى لا يحصل الملل للكسلان، وإذا أقامها الإنسان في جماعة كانت الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وهذه النوافل التابعة للمكتوبات اثنتا عشرة ركعة؛ أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر من صلاهن بنى الله له بيتا في الجنة، وهذه الأذكار خلف الصلوات المكتوبات من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون، وقال: تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، وهذا الوتر سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إن الله وتر يحب الوتر وأقله ركعة واحدة، وأكثره إحدى عشرة ركعة وهو مؤكد لا ينبغي للإنسان تركه» قال الإمام أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادته، ووقت الوتر من صلاة العشاء الآخرة ولو في حال الجمع إلى طلوع الفجر، وإذا توضأ الإنسان فأسبغ الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وهذه الصدقات إذا كانت

بنية خالصة ومن كسب طيب فإن الله يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها حتى يكون ما يعادل التمرة مثل الجبل العظيم، فالرجل ينفق على نفسه، وينفق على أهله، وينفق على ولده، وينفق على بهائمه يحتسب الأجر بذلك على الله، فيكون له أجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها» وقال لسعد بن أبي وقاص: «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك» ، وقال: «الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر» ، والساعي على الأرملة والمساكين هو الذي يطلب الرزق لهم، ويكون في حاجتهم، فأولادك الصغار الذين لا يستطيعون القيام بأنفسهم هم عن المساكين، فالسعي عليهم كالجهاد في سبيل الله، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله ابن آدم على ستين وثلثمائة مفصل من ذكر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، وعزل حجرا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظما، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلثمائة أمسى من يومه، وقد زحزح نفسه عن النار، وقال: يصبح على كل سلامى يعني كل عضو من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما في الضحى» وقال: «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة» ، وقال: «في بضع أحدكم يعني إتيان أهله صدقة» ، فأبواب الخير كثيرة جدا، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الفرع التاسع آداب إسلامية

[الفرع التاسع آداب إسلامية] [الخطبة الأولى نماذج من حقوق المسلم على أخيه] الفرع التاسع آداب إسلامية الخطبة الأولى نماذج من حقوق المسلم على أخيه الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، وشبههم في دعم بعضهم بعضا وشد بعضهم بعضا وقيام بعضهم ببعض بالبنيان، وشرع لهم من الأسباب ما تقوم به تلك الإخوة، وتستمر على مدى الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والأسماء والصفات والسلطان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الإنس والجان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في الدين إخوة، وأن هذه الإخوة والرابطة الدينية أقوى من كل رابطة وصلة، فيوم القيامة لا أنساب بينكم ولكن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فحققوا أيها المؤمنون هذه الإخوة بالتحاب بينكم والتآلف ومحبة الخير بعضكم لبعض والتعاون على الخير وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه واجتناب الأسباب التي تضعف ذلك وتنقصه، فالأمة لا تكون أمة، ولا يجتمع لها قوة حتى تكون كما وصفها نبيها صلى الله عليه وسلم بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» . أيها الإخوة: لقد شرع الله لكم ما يقوي اتحادكم، وينمي المحبة بينكم، ويزيل العداوة والفرقة، شرع لكم أن يسلم بعضكم على بعض، فالسلام يغرس المحبة والألفة، والهجر يوجب البغضاء والوحشة، فإذا لقي بعضكم بعضا فليسلم عليه، وخيركم من يبدأ بالسلام، وليجبه المسلم عليه ببشاشة وانطلاق وجه بجواب يسمعه، ويكون مثل سلامه أو خيرا منه، وشرع لكم أن يعود بعضكم بعضا إذا مرض، فعيادة المريض تجلب المودة، وترقق القلب، وتزيد في الإيمان، وتوجب الثواب. فمن عاد مريضا ناداه مناد من السماء طبت، وطاب ممشاك، ومن عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع قيل: يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال جناها، وإذا عاد أحدكم المريض، فليوسع عليه الأمر، ويقول ما يفرحه من ذكر ثواب الصابرين وانتظار الفرج، وأنه طيب ولا بأس عليه، ويفتح له باب التوبة واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار وغيرها مما يقرب إلى الله، ويرشده كيف يتطهر بالماء أو التيمم وكيف يصلي وكيف

يوصي لأن كثيرا من المرضى يجهل ذلك، وشرع لكم الإصلاح بين الناس، فقد قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا» ، فالموفق إذا رأى بين اثنين عداوة وتباعدا سعى بينهما في إزالة تلك العداوة والتباعد حتى تنقلب العداوة صداقة والتباعد قربا، وفي هذه الحال يحصل على خير كثير وأجر كبير، ولقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لكم إذا سمعتم العاطس المسلم يحمد الله أن تقولوا له: يرحمك الله، ويرد عليكم يهديكم ويصلح بالكم، وشرع لكم المهاداة فيما بينكم، وأخبر أن الهدية تذهب السخيمة، وتوجب الرحمة، وكل أمر يوجب ارتباط المسلمين واتحادهم فهو مشروع ومأمور به، ومن ذلك تشاور أهل الرأي في الأمور العامة التي تهم المسلمين، فإذا اجتمع المسلمون على أمورهم وتشاوروا بينهم فما أحراهم بالتوفيق إلى الصواب، وما أقربهم من النجاح. وفي مقابلة ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم، فنهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاث يدبر هذا، ويدبر هذا، فلا يسلم أحدهما على الآخر، ولا يزيل الوحشة والعداوة التي بينهما، وهذا خلق ذميم لعب الشيطان فيه علي بعض الناس حتى أوقعهم فيه، فنجد الرجلين كل منهما يحب الخير، ويعمل ما يعمل منه ويعد من أهل الديانة، ولكن الشيطان قد خدعه، فكان يهجر أخاه لأغراض شخصية ومصالح دنيوية، ولم يعلم المسكين أن الإسلام أسمى من أن تؤثر الأغراض الشخصية أو المصالح الدنيوية في الصلة بين أبنائه. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات دخل النار» وقال صلى الله عليه وسلم: «تعرض الأعمال في كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امريء لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا» . فهجر المسلم حرام إلا أن يكون مجاهرا بمعصية، ويحصل بهجره ردع له عنها أو تخفيف أو ردع لغيره فيهجر تحصيلا لهذه المصلحة. ولقد جاء الشرع بتحريم النميمة والسعي بين الناس بالإفساد بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«لا يدخل الجنة نمام» ونهى عن السباب والشتم؛ لأن ذلك يحدث العداوة والبغضاء، فتآلفوا أيها المؤمنون بينكم، وأزيلوا العداوة والبغضاء بينكم، وكونوا عباد الله إخوانا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في آداب إسلامية

[الخطبة الثانية في آداب إسلامية] الخطبة الثانية في آداب إسلامية الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين، وشرع لنا من الأعمال الصالحات أنواعا وأصنافا لنتقرب بها إلى رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكرم الأكرمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله، واعلموا أن الإنسان إذا أصبح كان عليه لكل عظم من عظامه صدقة لكنها صدقة لا تختص بالمال بل تعم جميع ما يقرب إلى الله من الأقوال والأعمال، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس» ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم نوع هذه الصدقة، فقال: «تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم العدل بين اثنين صدقة، فمن عدل بين اثنين في القضاء بينهما، أو عدل بينهما، فأصلح بينهما فهو له صدقة» ، ومن عدل بين أولاده فيما يجب العدل عليه فيه بينهم فهو له صدقة، ومن عدل بين زوجتيه في القسم فهو له صدقة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إعانة الرجل في دابته صدقة، فمن وجد رجلا لا يستطيع الركوب على دابته، فأمسكها حتى يركب، أو حمله عليها فذلك صدقة، ومن وجد شخصا يريد أن يحمل على دابته شيئا، فساعده على حمله، أو أمسك دابته فهو صدقة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة الطيبة صدقة، والكلمة الطيبة تشمل كل قول يقرب إلى الله تعالى، فالأمر بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر صدقة، وبكل تسبيحة أو تكبيرة أو تهليلة صدقة، وتعليم العلم النافع صدقة، وابتداء السلام، ورده صدقة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم بكل خطوة يخطوها العبد إلى الصلاة صدقة، وكلما بعدت طريق الصلاة كانت الصدقات أكثر، وهذا من أكبر فضائل صلاة الجماعة في المساجد، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إزالة الأذى عن الطريق صدقة، فمن عزل حجرا أو شوكة أو عظما عن طريق الناس، فذلك صدقة يثاب عليها، ويؤجر وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة» وفي رواية: «لقد رأيت رجلا

يتقلب في الجنة أي: يروح فيها: ويجيء كما شاء من شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس» ، وفي رواية «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له» ، ويدخل في إماطة الأذى عن الطريق تسهيل الطرقات الصعبة التي تشق على من سلكها، وتؤذيهم فإن في إصلاحها وتسهيلها إزالة لأذاها ومشقتها، فمن ساهم في ذلك بماله أو بدنه، فقد فعل خيرا، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله والإحسان إلى عباد الله، فسوف يلقى الذكر الطيب في الدنيا والثواب الجزيل في الأخرى إن شاء الله؛ وفقني الله وإياكم إلى المسارعة في الخيرات والمساهمة في جميع المشاريع النافعة، وجعل عملنا خالصا لوجهه موافقا لمرضاته إنه قريب مجيب الدعوات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثالثة في مقتضى الإخوة الإسلامية

[الخطبة الثالثة في مقتضى الإخوة الإسلامية] الخطبة الثالثة في مقتضى الإخوة الإسلامية الحمد لله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة، وألف به بعد العداوة، والحمد لله الذي جعل التآخي بين المؤمنين من مقتضيات الإيمان، وأوجب عليهم ما يقوم هذه الإخوة من الدعائم والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الملك الحق الديان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف بني الإنسان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وحققوا إيمانكم بتحقيق ما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ طلبا، وخبرا، فإن السعادة لا تحصل إلا بامتثال أمر الله ورسوله، والسير على نهجه وطريقه، أيها الناس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلم أخو المسلم وأمر بذلك في قوله: «كونوا عباد الله إخوانا» فهذه الإخوة التي أمرنا بها ليست أخوة في اللسان فحسب، ولكنها أخوة عميقة كامنة في النفوس والقلوب غراسها إخلاص الود وثمراتها المعاملة الحسنة لأخيك، والذب عنه أخوة تقتضي أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك تحب أن يكون صالحا، أن يكون عزيزا، أن يكون قويا، أن يكون غنيا، أن يكون متخلقا بالأخلاق الفاضلة كما تحب لنفسك أن تكون كذلك تسعى في نصحه وإرشاده وتقويمه سالكا بذلك أحسن السبل لحصول المقصود كما تحب أن يسعى لك في هذا، تكره لأخيك ما تكره لنفسك، فتكره أن يكون فاسدا، أن يكون ذليلا، أن يكون ضعيفا، أن يكون متخلقا بالأخلاق السافلة تكره ذلك كله لأخيك كما تكرهه لنفسك لا يكفيك إذا كان أخوك، ورأيته على حال لا تحبها لنفسك أن تدعو الله له بإصلاح حاله بل ادع الله له، واستعن بالله على فعل الأسباب التي تنقذه مما تكره، من واجبات هذه الإخوة أن لا تظلمه. لا تظلمه في دمه، ولا تظلمه في ماله، ولا تظلمه في عرضه كما أنك تكره أن تظلم في هذه الأمور هل من الإخوة أن تأكل مال أخيك بغير حق هل من الإخوة أن تعتدي على حقوقه؟ هل من الإخوة أن تقطع رزقه فتبيع على بيعه، وأن تؤجر على إجارته، وأن تفالح على مفالحته، وأن تخطب على خطبته هل ذلك من

الإخوة؟ هل من الإخوة أن تخدعه؟ أن تغدر به إذا عاهدته أن تغشه إذا عاملته؟ هل من الإخوة أن تتبع عوراته؟ فتعلنها، وتنظر إلى حسناته بعين الأعشى، فتسترها هل من الإخوة أن تعتدي على عرضه تغتابه فتأكل لحمه ميتا في كل مجلس؟ لقد شاعت هذه المعصية في الناس، وتهاونوا بها، واحتقروها مع أنها من كبائر الذنوب، «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقال: " هي ذكرك أخاك بما يكره فقيل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كانت فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهته» . ولقد صارت الغيبة في مجتمعنا عند بعض الناس من فواكه المجالس حتى لا تعمر مجالسهم إلا بها نسأل الله لنا ولهم الهداية. نعود إلى الحديث فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» ما أعظم هذا من ثواب نقد عاجل يكون لأخيك الحاجة، فتقوم بها، وتعينه عليها، فيقوم الله بحاجتك، ويعينك عليها فحقيق بمن آمن بهذا - وكلنا نؤمن به إن شاء الله - حقيق أن يكون في حاجات إخوانه دائما يغيث الملهوف، وينصر المظلوم، ويعين العاجز، ويصلح بين المتخاصمين، ويؤلف بين المتعاديين، ويقضي حاجة من لا يستطيع قضاءها، فيطعم الجائع، ويكسو العاري، ويسقي الظمآن، ويدل الأعمى على الطريق، ومن كان في حاجة أخيه - قليلة كانت أو كثيرة - كان الله في حاجته، والجزاء من جنس العمل، ومن كان الله في حاجته، فلا بد أن تقضي حاجته، وتيسر أموره. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الرابعة نماذج من حقوق المسلم على أخيه

[الخطبة الرابعة نماذج من حقوق المسلم على أخيه] الخطبة الرابعة نماذج من حقوق المسلم على أخيه الحمد لله الذي ربط بين المؤمنين بالأخوة الإيمانية، ونماها، وشرع لهم من الأسباب المتنوعة التي تثبت بها أركان تلك الإخوة، وتقوي عراها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فأعظم به ربًّا وإلَهًا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل البرية، وأهداها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بما أوجب الله عليهم من حقوقه وحقوق عباده على أكمل الوجوه وأعلاها وعلى التابعين لهم بإحسان ما طلعت الشمس، وأشرق ضياها، وسلم تسليما. أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى؛ وأدوا ما أوجب الله عليكم من حقوقه وحقوق إخوانكم المؤمنين، وتخلقوا بآداب الإسلام والدين، فإن التخلق بها سبب للخيرات والبركات، والإعراض عنها سبب للشرور والهلكات، واعلموا: أن للمسلم على المسلم حقوقا كثيرة، فمن حقوق المسلم أن تسلم عليه إذا لقيته، فتقول: السلام عليكم. وإن كان بعيدا أو لا يسمع فاجمع بين السلام والإشارة ليعرف أنك تسلم عليه، والسنة أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والماشي على الواقف، وخير الرجلين من يبدأ صاحبه بالسلام، وإذا لم يسلم من يطلب منه ابتداء السلام؛ فليسلم الآخر، ولا يتركوا السنة. كيف يليق بالمؤمن أن يقابل أخاه، فيعرض عنه، ولا يسلم عليه، وهو يعلم ما في ذلك من الفضل والاحسان، فإن السلام يزيل العداوة والبغضاء، يجلب الحب والمودة والإخاء، وليرد أحدكم السلام بقوله: وعليكم السلام، وإن زاد ورحمة الله وبركاته أهلا وسهلا كان أحسن، ولا يقتصر أحدكم في رد السلام على قوله: أهلا وسهلا. ومن حقوق المسلم على المسلم أن تنصحه إذا استنصحك، فتشير عليه بما تحبه لنفسك، فإن من غش فليس منا، فإذا شاورك في معاملة شخص أو في تزويجه أو غيره، فإن كنت تعلم منه خيرا فأرشده إليه، وإن كنت تعلم منه شرا، فحذره، وإن كنت لا تدري عنه، فقل له: لا أدري عنه، وإن طلب أن تبين له شيئا من الأمور التي تقتضي البعد عنه، فبينه له «فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته فاطمة بنت قيس تستشيره في نكاح رجلين خطباها من المسلمين، فقال لها: أما فلان فصعلوك لا مال له، وأما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه» . وفي رواية: «إنه كان ضرابا للنساء، ولكن انكحي أسامة بن زيد» فبين النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة ما في الرجلين من العيوب؛ لأن هذا من باب النصيحة. ومن حقوق المسلم على المسلم أن تقول له إذا عطس

فحمد الله: يرحمك الله، فيرد: يهديكم ويصلح بالكم فأما إذا عطس، فلم يحمد الله، فلا تقل له: يرحمك الله. ومن حقوق المسلم على المسلم أن يعوده إذا مرض، فمن عاد أخاه المسلم لم يزل يجني ثمار الجنة حتى يرجع، وينبغي لمن عاد المريض أن يوسع له في أجله، ويدخل السرور عليه مثل أن يقول: أنت اليوم في خير، والشدة لا تدوم، والعافية قريبة إن شاء الله تعالى، وينبغي أن يذكره بفرصة الوقت يقول له: قد أعطاك الله فراغا تستطيع أن تعمره بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والقراءة ونحو ذلك، وأن يذكره الوصية بما عليه من حقوق الله ومن حقوق الناس، فإن الوصية بما على الإنسان مطلوبة في حق الصحيح، فكيف في حق المريض، وينبغي لمن جلس عند المريض أن لا يطيل الجلوس عنده إلا أن يراه منبسطا به ومنشرحا، فيتبع المصلحة، وإذا رأيت المريض يحب أن تقرأ عليه، فبادره بالقراءة عليه قبل أن يسألها، واعلموا أن البشاشة وطلاقة الوجه لإخوانكم من الأمور التي تثابون عليها، فمن كان متصفا بها فليحمد الله، وليسأله المزيد من ذلك، ومن لم يكن متصفا بها، فليمرن نفسه عليها، فإن الإنسان لا يزال يمرن نفسه على الأخلاق الفاضلة حتى تكون من سجاياه وطبائعه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلى آخره.

الخطبة الخامسة في آداب إسلامية

[الخطبة الخامسة في آداب إسلامية] الخطبة الخامسة في آداب إسلامية الحمد لله الذي بين لنا أفضل المسالك وأحسن الآداب ووفق من شاء من عباده لسلوكها وهو الحكيم الوهاب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وإليه المرجع والمآب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام بالأخلاق الفاضلة، وأتمها، وحذر أمته من سفاسفها وأرذلها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بآدابه، وانتهجوا مناهجها، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن ما يتصف به الناس من الأخلاق على وجهين: فأخلاق فاضلة شريفة حث الدين عليها، وأمر بها، وأخلاق رذيلة سافلة حذر عنها، وزهد بها ألا وإن من الأخلاق الفاضلة بر الوالدين بالإحسان إليهما قولا وفعلا في الحياة، وبعد الممات ألا وإن من برهما بعد الموت الدعاء لهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ وصيتهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما، ومن الأخلاق الفاضلة صلة الأرحام، وذلك بتعاهدهم بالبر والإنفاق ولطف الكلام، فإن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ومن الأخلاق الفاضلة حسن الجوار، وذلك بإكرام الجار، والتودد إليه بلطف القول له، والهدية إن كان غنيا، وبالصدقة إن كان فقيرا، فما زال جبريل يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظن أنه سيورثه، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك» ، ومن الآداب الإسلامية الفاضلة: إفشاء السلام، وإظهاره بأن تقول لأخيك المسلم: السلام عليكم، وتشير مع ذلك للبعيد، ولمن لا يسمع، ومن يسلم مرة، فليعدها ثلاثا، ومن رد السلام، فليقل: وعليكم السلام، ولا يقتصر على قول: أهلا وسهلا، ويسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والماضي على القاعد، والقليل على الكثير، وأولى الناس بالله من يبدؤهم السلام، ومن الآداب العالية: ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته من حقوق بعضهم على بعض، فقد أمرهم صلى الله عليه وسلم بسبع؛ بعيادة المريض واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم يعني: أن من حلف عليك أن تفعل شيئا، فمن حقه عليك أن تبر بيمينه، ولا تحنثه، ومعنى تشميت العاطس أن تقول لمن عطس، وحمد الله: يرحمك الله، ويجيبك بقوله: يهديكم الله، ويصلح بالكم. ألا وإن من الآداب الفاضلة لين الجانب، وبشاشة الوجه، وسماحة

الخلق، وأن لا يضمر لإخوانه المسلمين بغضا، ولا حسدا، ولا غلا، لينال بذلك حبا منهم، وإجلالا، وقربا، ومن حسن الأخلاق حسن السلوك في المعاملات بأن يكون المرء سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى ما عليه، سمحا إذا اقتضى، وان يكون وافيا بما شرط عليه من الشروط الصحيحة، ولا يتحيل على إسقاطها بأنواع الحيل الباطلة الخسيسة. ألا وإن من الأخلاق الفاضلة: التأديب بالآداب عند الأكل والشرب، فليسم الله عند الأكل والشرب، وليحمد الله تعالى إذا فرغ، وليأكل باليمين، ويشرب باليمين، فإن الأكل بالشمال، والشرب بالشمال من التشبه بالشياطين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 90 - 91] وفقني الله وإياكم لأحسن الأخلاق وأقومها، ورزقنا بمنه القيام بعبادته فرائضها وسننها، وتوفانا على التوحيد والإيمان، وأعاذنا من الشرك والطغيان والعصيان إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة السادسة في الصبر وأقسامه

[الخطبة السادسة في الصبر وأقسامه] الخطبة السادسة في الصبر وأقسامه الحمد لله الرب الرحيم الرحمن الحكيم بما يقتضيه في كل زمان، اللطيف بعباده حين تقلقهم الهموم والأحزان الذي وعد الصابرين أجرهم بغير عد ولا حسبان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي صبر على أقدار الله، وعلى طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى إيذاء بني الإنسان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبعوا أثرهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر، وبه يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم، وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصبر من مقام الأنبياء والمرسلين وحلية الأصفياء المتقين، قال الله تعالى عن عباد الرحمن: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75] وقال عن أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24] والصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه، وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء، فالصبر على طاعة الله أن يحبس الإنسان نفسه على العبادة، ويؤديها كما أمره تعالى، وأن لا يتضجر منها، أو يتهاون بها، أو يدعها، فإن ذلك عنوان هلاكه وشقائه، ومتى علم العبد ما في القيام بطاعة الله من الثواب هان عليه أداؤها وفعلها، فالحسنة ولله الحمد إذا أخلص الإنسان فيها لله، واتبع رسول الله كانت بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، وفضل الله ليس له حد، ولا انحصار، وأما الصبر عن معصية الله، فأن يحبس الإنسان نفسه عن الوقوع فيما حرم الله عليه مما يتعلق بحق الله، أو حقوق عباده، ومتى علم ما في الوقوع في المحرم من العقاب الدنيوي والأخروي والاجتماعي والفردي، وأن ذلك مما يضر بدينه، ويضر بعاقبة أمره بل، ويضر بمجتمعه، فإن الذنوب عقوباتها في الدنيا قد تعم، ويبعث الناس على أعمالهم ونياتهم متى علم العاقل ما يقع من جراء الذنوب أوجب ذلك أن يدعها؛ خوفا من علام الغيوب، وأما الصبر على أقدار الله، فمعناه أن يستسلم الإنسان لما يقع عليه من البلاء والهموم والأسقام، وأن

لا يقابل ذلك بالتسخط، والتضجر، وفعل الجاهلية المنكر في الإسلام، وأن يعلم أن هذا البلاء لنزوله أسباب وحكم لا يعلمها إلا الله، وأن يعلم أن لدفعه، ولرفعه أسبابا من أعظمها لجوؤه ودعاؤه وتضرعه إلى مولاه، فهذه الأمراض التي أرسلها الله تعالى على عباده إنما هي رحمة بهم ليرجعوا إليه، وليعرفوا أنه هو المتصرف بعباده كما يشاء، فلا اعتراض عليه له الملك، وله الحمد، وله الخلق، وله الأمر، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير، ومع هذا فتلك الأمراض لم يحصل فيها، ولله الحمد نقص في النفوس ولا هلاك، وإنما هي أمراض يسيرة خفيفة قدرها المولى ولطف بعباده، فلله الحمد رب السماوات والأرض، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] بارك الله لي ولكم. . . . الخ.

الخطبة السابعة في الصبر على أقدار الله

[الخطبة السابعة في الصبر على أقدار الله] الخطبة السابعة في الصبر على أقدار الله الحمد لله الذي وعد الصابرين بغير حساب، وأثاب الشاكرين على النعم بدوامها والازدياد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من غير شك، ولا ارتياب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العباد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين والمآب وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وكونوا مع الصابرين، فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، والصبر حبس النفس على طاعة الله، وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط من أقدار الله، وما أعطي الإنسان عطاء خيرا، وأوسع من الصبر، فإذا صبر الإنسان نفسه على طاعة الله، وثابر عليها صارت غريزة له وطبيعة يفرح بفعلها، ويغنم لفقدها، وإذا صبر نفسه عن المعصية تعودت ترك المعاصي، وصارت المعاصي مكروهة لديه وبغيضة عنده يفرح بفقدها، ويغتم لوجودها حتى يوفق للتوبة منها، وإذا صبر نفسه عن التسخط من أقدار الله صار راضيا مطمئنا بما قدره الله عليه إن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له فالإنسان يصاب بمصيبة في نفسه، ومصيبة في أهله، ومصيبة في ماله، ومصيبة في أصحابه، ومصيبة في نواح أخرى، فإذا قابل هذه المصائب بالصبر وانتظار الفرج من الله صارت المصائب تكفيرا لسيئاته، ورفعة في درجاته، وقد وردت الآيات، والأحاديث الكثيرة في ذلك، فقال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله من سيئاته كما تحط الشجرة ورقها، وقال لامرأة من الصحابيات: أبشري فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد والفضة» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى، وما عليه خطيئة» وقال: «ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها، إلا كتب له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة» وقال: «صداع المؤمن وشوكة يشاكها، أو شيء يؤذيه يرفعه الله بها يوم القيامة درجة، ويكفر عنه بها ذنوبه» الصداع وجع الرأس، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه

فصبر عوضته منهما الجنة» يريد عينيه، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها» وقال: «ما من مسلم له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» وقال للنساء: «ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد، إلا كانوا لها حجابا من النار، فقالت امرأة: واثنين فقال: واثنين» . فهذه الأحاديث، وما ورد بمعناها بشرى للمؤمن يحتسب من أجلها المصائب التي يصيبه الله بها، فيصبر عليها، ويحتسب ثوابها عند الله ويعلم أن ذلك من عند الله تعالى وأن سببه من نفسه كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] اللهم إنا نسألك ان تجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعمت عليه شكر، وإذا اذنب استغفر، واغفر لنا، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثامنة في أنواع الصبر

[الخطبة الثامنة في أنواع الصبر] الخطبة الثامنة في أنواع الصبر الحمد لله الذي وعد الصابرين أجرهم بغير حساب، وبشر الشاكرين لنعمته بالمزيد، ووعد الكافرين بالعذاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلنا وإليه المتاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من شكر لربه، وأناب، وأصبرهم على أحكام الله بلا ارتياب صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كل أحد لا يخلو من إحدى حالين إما سراء، وإما ضراء، وأن على العبد في كليهما وظيفة يجب عليه أن يؤديها ليتمم بذلك إيمانه، فوظيفة العبد عن الضراء أن يكون من الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فإن الله خالق العبد، ومالكه، ومدبره، والمقدر عليه ما يشاء يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فالعبد عبد الله عليه أن يستسلم له، وأن لا يتسخط من قضائه وقدره، فإن المرجع إليه، ولا مفر منه إلا إليه، ومن أصيب بمصيبة، وأراد أن تسهل عليه، فليتذكر ما في الصبر عليها من الأجر والثواب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب المؤمن من هم، ولا غم، ولا أذى إلا كفر الله به عنه حتى الشوكة» . ومما يهون المصيبة أيضا أن يذكر نعم الله عليه التي لا تحصى، وأن يقرن تلك المصيبة بما هو أعظم منها مما ابتلى به هو أو غيره، فإنه ما من مصيبة إلا فوقها أعظم منها. وهناك صبر آخر وهو الصبر عن معاصي الله، فإن الصبر عن المعاصي يحتاج إلى معاناة ومجاهدة، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، وقد يصبر بعض الناس عن شيء من المعاصي، ولكنك تراه منهمكا في غيره، فتجد بعض الناس يمنع نفسه مثلا من أكل أموال الناس والخيانة فيها، ولكنه لا يمنع نفسه عن أكل لحومهم والوقوع في أعراضهم مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الدماء والأموال والأعراض في حكم واحد حيث قال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، وهناك صبر ثالث، وهو الصبر على طاعة الله، فإن طاعة الله تعالى بفعل أوامره تحتاج إلى مجاهدة النفس، وعمل الجسم، وكل هذا يحتاج إلى صبر، فالصبر ثلاثة أنواع: صبر على الأقدار، وصبر عن المعاصي، وصبر على الطاعات» . وأما الحال الثانية وهي حال السراء والرخاء والنعم، فإن على العبد فيها وظيفة الشكر، وذلك بأن يعلم أن هذه النعمة من فضل الله عليه، وأنه لولا لطف الله وتيسيره ما حصلت له

تلك النعمة، ثم بعد ذلك يثني بها على ربه بما أنعم به عليه من نعم ظاهرة وباطنة دينية ودنيوية، ثم يقوم بطاعة من أنعم بها عليه، فالشكر لا بد له من اعتراف بالقلب، واعتراف باللسان، وعمل بطاعة النعم في الجوارح والأركان. فمن حقق مقام الصبر، ومقام الشكر كمل بذلك إيمانه، ونجا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34 - 35] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة التاسعة نماذج من الآداب الفاضلة وضدها

[الخطبة التاسعة نماذج من الآداب الفاضلة وضدها] الخطبة التاسعة نماذج من الآداب الفاضلة وضدها الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وهدى به إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى؛ وتخلقوا بمكارم الأخلاق، وتجنبوا أراذلها، فإنكم إن فعلتم ذلك هديتم إلى سنة نبيكم، ونلتم سعادة الدنيا والآخرة، أيها المسلمون: لقد جاء الإسلام آمرا، وداعيا، ومرغبا في مكارم الأخلاق، وناهيا، ومحذرا عن مساويء الأخلاق، ألا وإن من مكارم الأخلاق لزوم الصدق في الأقوال والأفعال، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولقد أمر الله بالصدق، وأثنى على أهله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ - لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 33 - 34] ولقد رفع الله للصادقين ذكرهم في حياتهم، وبعد مماتهم، فكانوا محل ثقة الناس، وبذكرهم تطيب المجالس، ويثنى عليهم. ألا وإن من مساويء الأخلاق أن يكون الإنسان كاذبا في قوله وفعله، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا، ولقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الكذب من صفات من لا يؤمنون بالله فقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق، فقال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» والله سبحانه وتعالى بحكمته وضع الكاذبين في الموضع اللائق بهم، فكانوا محلا للقدح وعدم الثقة، وذلك جزاء الكاذبين. ألا وإن من مكارم الأخلاق أن يعامل الرجل الناس بالنصيحة والمعاملة الحسنة، يعاملهم بما يجب أن يعاملوه به يعاملهم بالصراحة

، فلا يخون، ولا يغدر، ولا يغش، فالخيانة والغدر، والغش أخلاق ذميمة يحذر منها الدين، ويستقبحها كل عقل سليم، وهي من الفساد في الأرض، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الله لا يهدي كيد الخائنين، ولا يصلح عمل المفسدين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم «أن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، ويخزى به بين الناس يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» . وقال: «ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت، وهو غاش رعيته، إلا حرم الله عليه الجنة» . أيها المسلمون: إن من المؤسف جدا أن يتخذ بعض المسلمين من هذه الأخلاق الذميمة أخلاقا له، فيهلك نفسه، ويحط معنويته، وينقص إيمانه لقد كان بعض الناس يتخذ الكذب شطارة ومهارة، فيقابل هذا بوجه، وهذا بوجه، وشر الناس ذو الوجهين ثم يفتي نفسه بأن الكذب مباح إلا ما كان يتضمن أكلا للمال، فيجمع بين الكذب على الناس، والكذب على الشريعة، وإن من أقبح الكذب أن يقرن الكاذب قوله باليمين الكاذبة، وأقبح من ذلك أن يتضمن كذبه أكلا للمال بالباطل أيضا، فيجتمع له ثلاث مساويء الكذب، والحلف عليه، وأكل المال بغير حق، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امريء مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» وهذا ربما يوجد عند البيع والشراء والخصومة تجده أنه يحلف أنها سميت كذا وكذا، وهو يكذب، ولكن قصده أن يأخذ من أموال الناس زيادة ثمن تجده يحلف عند القاضي أن ليس في ذمته لفلان كذا، وهو كاذب، ويرى بعض الناس أن الغش والخداع حذق وعقل وغنيمة وكسب، فيفرح إذا غش غيره، أو خدعه، ويرى أن ذلك منقبة له ورفعة، والواقع أن الغش سفه، وغرم ووضيعة وهلاك وخسارة، فاتقوا الله أيها المسلمون، والزموا الأخلاق الفاضلة، وتجنبوا الأخلاق السافلة، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وفقني الله وإياكم لمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ورزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، وجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء إنه جواد كريم. أقول قولي هذا. . . الخ.

الخطبة العاشرة كيف ينظر العبد إلى نعم الله

[الخطبة العاشرة كيف ينظر العبد إلى نعم الله] الخطبة العاشرة كيف ينظر العبد إلى نعم الله؟ الحمد لله اللطيف بعباده فيما يجري به المقدور المدبر لهم بحكمته وعلمه وفي الميسور والمعسور الذي فاضل بينهم في الذوات والصفات وجميع الأمور ليبلوهم أيهم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في التقدير والتدبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق جميع الخلق في الصبر على الضراء، والشكر عند السرور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على ممر الأيام والدهور، وسلم تسليما. أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى الذي خلقكم، ورزقكم، وعافاكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، وأولاكم، فإن المؤمن لا يزال في نعمة الله إن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وعليكم بالقناعة فإنها كنز لا ينفد، وذخر لا يفنى، فهي غنى بلا مال، وعز بلا جنود ولا رجال، فالقناعة أن يرضى الإنسان بما قدر الله له، وأن ينظر إلى من هو أدنى منه في العافية والمال والأهل، فإن ذلك أقرب إلى معرفة النعمة وشكرها، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم في هذه الأشياء، فإن ذلك يؤدي إلى القلق وكفران النعماء، فالمعافى في بدنه أو ماله أو أهله ينظر إلى من ابتلي بشيء منها ليعرف قدر نعمة الله عليه، وإذا كان هو مبتلى بشيء من ذلك، فلينظر إلى من هو أعظم ابتلاء منه، فإنه ما من مصيبة تصيب العبد إلا وفي الوجود ما هو أعظم منها فإذا كان غنيا، فلينظر إلى الفقير، وإذا كان فقيرا، فلينظر إلى من هو أفقر منه مما لا يملك الفتيل، ولا القطمير، ومهما أصيب المؤمن في شيء من دنياه، فإن ذلك ليس بشيء عند سلامة دينه الذي هو عصمة أمره في دنياه وأخراه، فدين الإسلام، ولله الحمد، هو الكسب الذي نعتز به، ونفاخر، وهو الذخر الذي نعده لليوم الآخر، الدين هو التجارة التي تنجي من العذاب الأليم، وتقرب العبد إلى المولى الرحيم، فيا أيها المبتلى اصبر على البلوى، واذكر من هو أعظم منك وأكثر، ضررا، ثم انظر إلى ما أنعم الله به عليك من الإيمان، واستعن به على مقاومة المصائب بالصبر، ومقابلة النعم بالشكران. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

القسم الثالث العبادات

[القسم الثالث العبادات] [الفرع الأول الطهارة] [الخطبة الأولى في كيفية الوضوء] الفرع الأول الطهارة الخطبة الأولى في كيفية الوضوء الحمد لله الملك العظيم البر الرحيم الذي يحكم بالحق، ويقضي بالعدل إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنقذ قائلها من العذاب الأليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بين لأمته ما ينفعها من الخير وحذرها عن الشر الذي يوقعها في عذاب الجحيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في نهجهم القويم، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعرفوا ما أوجبه الله عليكم من أحكام دينكم، فإنه لا قوام للآخرة، بل ولا للدنيا، إلا بالتمسك بدين الله، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أوجب الله عليكم الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر إذا أردتم القيام للصلاة، من أراد منكم أن يصلي، فليتوضأ على الوجه المشروع، وصفة ذلك أن ينوي الوضوء، ثم يقول: بسم الله، ثم يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يتمضمض، ويستنشق ثلاث مرات، ثم يغسل وجهه كله ثلاثا من الأذن إلى الأذن عرضا، ومن منابت شعر الرأس إلى أسفل اللحية طولا، لا يجوز أن يفرط بشيء من ذلك، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا، ويجب أن يلاحظ المتوضيء كفيه عند غسل ذراعيه، فيغسلهما مع الذراعين، فإن بعض الناس يغفل عن ذلك، ولا يغسل إلا ذراعيه، وهو خطأ، ثم يمسح رأسه كله بيديه من مقدمه إلى قفاه، ويمسح أذنيه، فيدخل سباحتيه في صماخيهما، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاث مرات، ومن نسي منكم أن يسمي حتى فرغ، فوضوؤه صحيح، وإن ذكر في أثنائه سمى، واستمر على وضوئه، ومن كان منكم في يده، أو غيرها من أعضاء الوضوء جرح يضره الغسل، فلا يغسله، فإن وضع عليه دواء، أو خرقة، فيجب أن يكون ذلك بقدر الحاجة، وأما ما يفعله بعض الناس من أنه إذا كان جرح في رأس إصبعه، فإنه يشد خرقة على إصبعه كله من غير حاجة، فهذا لا يجوز بل عليه أن يكون بقدر حاجته، ثم بعد ذلك يمسح عليه عند الوضوء، ولا يحتاج إلى التيمم بعد ذلك، ومن توضأ منكم، فإنه

ينتقض وضوءه بالحدث من ريح، أو بول، أو غائط، وبأكل لحم الإبل كله حتى الشحم، والكبد، والكلى، والأمعاء، وغير ذلك سواء أكله نيا أو مطبوخا، وكذلك ينقض الوضوء النوم الكثير، فأما النعاس، أو النوم القليل الذي يغلب على ظنه أنه لم يحدث فيه، فإنه لا ينقض، ومن تطهر، ثم شك هل أحدث، أو لا فليبن على اليقين، ولا يجب عليه أن يتوضأ؛ لأن الأصل بقاء طهارته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في فوائد الوضوء والمسح على الخفين والتيمم

[الخطبة الثانية في فوائد الوضوء والمسح على الخفين والتيمم] الخطبة الثانية في فوائد الوضوء والمسح على الخفين والتيمم الحمد لله الذي شرع لعباده، ويسرها، وضاعف لهم عليها الأجور، وكملها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واحمدوه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم والصراط المستقيم، واعرفوا نعمته عليكم بتيسيره، وتسهيله، فإنه تعالى لم يجعل عليكم فيه حرجا، ولا مشقة، ولا تضييقا، ولا عسرة، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ولقد أنعم الله علينا مع التيسير والتسهيل بكثرة الأجور، والثواب الجزيل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. عباد الله: إذا نظر الإنسان إلى هذه الشريعة وجدها، ولله الحمد، سهلة ميسرة في جميع أحكامها، فأصل العبادات ميسرة، ثم إذا طرأ على العبد حال توجب التخفيف خفف الله عنه بحسب حاله، فالطهارة للصلاة فرضها الله تعالى على وجه سهل يسير يطهر الإنسان في الوضوء أربعة أعضاء فقط هي الوجه أعضاء فقط هي الوجه واليدان إلى المرفقين غسلا، والرأس مسحا لا غسلا؛ لأن غسله يشق خصوصا في أيام البرد ومع كثر الشعر عليه، فإنه لو غسل لكان رطبا دائما، وتسرب من الماء إلى الثياب، فآذى الإنسان، ولكن الله خفف عن عباده، وفرض مسحه دون غسله، والعضو الرابع الرجلان إلى الكعبين غسلا هذه هي الأعضاء المفروض تطيرها في الوضوء، وما أيسر تطهيرها، وما أعظم فائدته، فإن هذه الأعضاء هي أعضاء العمل غالبا، ففي الوجه النظر والشم والكلام، وفي الرأس السمع، والتفكير، وفي اليدين البطش، وفي الرجلين المشي، فأكثر عمل الإنسان بهذه الأعضاء، فتطهيرها تكفير للأعمال التي عملها بها كما جاء ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا غسل وجهه خرجت خطايا وجهه مع الماء، وإذا غسل يديه ورجليه خرجت خطايا يديه ورجليه، فإذا مسح رأسه خرجت خطايا رأسه حتى يخرج نقيا من الذنوب» وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره يعني إكماله بمشقة مثل أيام البرد والشتاء، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، قالها ثلاثا» .

أيها المسلمون: إن من تيسير الله عليكم في هذا الدين أن أجاز لكم المسح على الخفين بدلا من الرجلين يعني إذا كان على رجل الإنسان كنادر أو شراب، وكان قد لبسهما، وهو طاهر، فإن الله تعالى برحمته أجاز له المسح عليهما بدلا من غسل الرجلين إن كان مقيما، فيوما وليلة، وإن كان مسافرا، فثلاثة أيام بلياليها تبتديء المدة المذكورة من أول مسحة مسحها، فإذا لبس الإنسان لصلاة الفجر، ولم يمسح عليهما أول مرة، إلا لصلاة الظهر، فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة الظهر، فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد، وإذا تمت المدة، وهو على طهارة، فطهارته باقية حتى تنتقض، فإذا انتقضت بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد، ومن تمت مدته، فنسي، ومسح بعد تمام المدة، فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة، ومن لبس كنادر أو شرابا، فهو مخير في أول الأمر إن شاء مسح الكنادر، وإن شاء مسح الشراب، فإذا مسح أحدهما أول مرة تعلق الحكم به، فإذا قدر أنه مسح الكنادر، فليستمر على مسحهما، ولا يخلعهما حتى تتم المدة، فإن خلعهما قبل تمام المدة لنوم أو لغيره، فإنه لا يعيدهما إذا توضأ حتى يغسل رجليه؛ لأن الممسوح إذا خلع لا يعود المسح عليه، إلا بعد غسل الرجلين، أما إذا مسح الإنسان على الشراب من أول مرة، فإنه لا يضر خلع الكنادر، فله أن يستمر على مسح الشراب حتى تنتهي المدة، وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء، ثم يمرهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة. ومن رحمة الله بالعبد أن من احتاج إلى ربط شيء على كسر، أو جرح، أو لزقة، فإنه يمسح عليها كلها بدلا عن غسلها في الوضوء والغسل حتى تبرأ، ويقوم مسحها مقام غسلها تيسيرا من الله وتسهيلا على عباده، ولله الحمد والمنة. وإن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم التطهر بالصعيد، إذا لم يجدوا الماء، أو تضرروا باستعماله، فمن لم يجد الماء لسفر أو غيره أو تضرر باستعماله لمرض أو غيره، فإنه يتيمم بأن يضرب الأرض بيديه ضربة واحدة، فيمسح وجهه وكفيه بعضهما ببعض، وبذلك يرتفع حدثه، ويكون طاهرا طهارة كاملة يصلي بها ما شاء، ولا تنتقض، إلا بما تنتقض به طهارة الماء، فإذا أوجد الماء أو أمن من الضرر توضأ، إن كان تيممه عن حدث أصغر، أو أغتسل إن كان تيممه عن حدث أكبر قال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثالثة في خصال الفطرة

[الخطبة الثالثة في خصال الفطرة] الخطبة الثالثة في خصال الفطرة الحمد لله الذي فطر الخلق على ما تستحسنه العقول، وأيد ذلك بما أنزله على الرسول، ففطرة الله التي جبل الناس عليها خلقا أمرهم بها تعبدا وشرعا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عجزت عن إدراك حكمته الألباب، وذلت لعزته، وعظمته جميع الصعاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالحنيفية ملة إبراهيم الذي اجتباه ربه وهداه إلى صراط مستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم وسلم تسليما. أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى، وأقيموا وجوهكم للدين حنفاء متمسكين بالفطرة التي فطر الناس عليها، وهي طهارة الباطن والظاهر، فأما طهارة الباطن، فهي تطهير القلب من الإشراك، وإخلاص العبادة لله وحده، والقيام بالأعمال الصالحات، وأما طهارة الظاهر، فمنها ما في الصحيح صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء يعني: الاستنجاء» قال الراوي، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الختان من الفطرة، فهذه الأشياء العشرة كلها طهارة، وتنظيف تقضي بها الفطرة، وتستحسنها العقول، كما أن الشرع قد جاء بها، وحث عليها، فمنها قص الشارب وإحفاؤه، فإن بقاءه يجمع الأوساخ التي تمر به من الأنف، فإذا شرب الإنسان تلوث شرابه بها، فجاء الشرع والفطرة بإحفائه، وأما إعفاء اللحية وهو عدم التعرض لها بقص أو حلق أو نتف، فلأن الله خلقها تمييزا بين الذكور والإناث، وإظهارا للرجولية، والقوة، ولذلك لا تظهر إلا عند الحاجة إليها في وقت قوة الإنسان وجلده وتكليفه بمهمات الأمور أما في حال صغره، فلا تظهر؛ لأنه حينئذ لا يتحمل الأعباء، فجاء الشرع والقدر والفطرة بوجودها وإبقائها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها وإرخائها وتوفيرها، وقال: خالفوا المشركين، وفروا اللحي، واحفوا الشوارب، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد هدوا إلى الفطرة، فكانوا يوفرون لحاهم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم على النور المبين والصراط المستقيم، فحلق اللحية حرام؛ لأنه خروج عن الفطرة، ومخالفة للرسل وأتباعهم، وموافقة للمشركين، وتغيير لخلق الله تعالى بلا إذن منه، وليس إبقاء اللحية من الأمور العادية كما يظنه بعض الناس، وإنما هو من

الأمور التعبدية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم التعبد والوجوب حتى يقوم دليل على خلاف ذلك قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] الفتنة فتنة الدين قد يرد المرء أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيزيغ قلبه، فيهلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية، وأمر بمخالفة المشركين، فإذا فرض أن من المشركين الآن من يعفي لحيته، فإننا لن نترك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها من أجل أن بعض المشركين يعفيها، لأن المشرك الذي يعفيها هو المتشبه بنا، ولسنا نحن المتشبهين به، ومن الفطرة السواك، لأن فيه تنظيفا للأسنان، وما يتسوك عليه من الفم، ويتأكد السواك عند المضمضة في الوضوء، وعند الصلاة، وعند القيام من النوم، وإذا دخل الإنسان بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، فأول ما يبدأ به السواك، ومن الفطرة استنشاق الماء؛ لأنه ينظف الأنف من الأوساخ، وقص الأظفار من الفطرة؛ لأن الأظفار إذا طالت اجتمع فيها من الأوساخ ما يكون ضررا على الإنسان، وغسل البراجم من الفطرة والبراجم هي الفروض التي بين مفاصل الأصابع؛ لأنها قد تجمع أوساخا، فمن الفطرة تعاهدها، وغسلها، ومن الفطرة نتف الآباط؛ لأن الشعر فيها يجمع أوساخا تحدث منها رائحة كريهة، والنتف يزيل الشعر، ويضعف أصولها، فمن لم ينتف الإبط، فليلحقه، أو يجعل فيه شيئا يزيله، وحلق العانة من الفطرة، وهي الشعر النابت حول القبل؛ لأن في ذلك تقوية للمثانة، ولأن بقاء الشعر يجمع أوساخا قد يكون فيه ضرر على المثانة التي هي مجمع البول، وقد وقت النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة، وأما الاستنجاء، فإنه من الفطرة، لأنه تطهير للمحل الذي يخرج منه البول أو الغائط. وأما الختان وهو ما يسمى بالطهار فهو من الفطرة؛ لأنه يكمل الطهارة، وفعله في زمن الصغر أفضل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الرابعة في حكم اعفاء اللحية وتغيير الشيب

[الخطبة الرابعة في حكم اعفاء اللحية وتغيير الشيب] الخطبة الرابعة في حكم إعفاء اللحية وتغيير الشيب الحمد لله الذي فطر الخلق على الدين القيم ملة محمد وإبراهيم، ووفق من شاء برحمته، فاستقام على هدى النبيين والمرسلين، وخذل من شاء بحكمته، فرغب عن هديهم وسنتهم، وكان من الخاسرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها الفوز بدار النعيم والنجاة من العذاب الأليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق طريقة وأقومهم شريعة وأقربهم إلى الخير العميم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. عباد الله: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا خطب يوم الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها» . ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والهدي هو الطريق والشريعة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات والأخلاق الظاهرة والباطنة، ولقد كان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه الكامل إعفاء اللحية، وإحفاء الشارب قال جابر بن سمرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يعفي لحيته، وكذلك الأنبياء الكرام قبله، قال الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه: 94] وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفي لحيته، فقد أمر أمته بذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «وفروا اللحي واحفوا الشوارب» فاجتمع في هاتين الفطرتين أعني إحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وتبين أن هذا هو هديه، وهدي الأنبياء قبله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» فتمسكوا أيها المسلمون بهدي نبيكم، فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة، إن التمسك بهديه يورث الوجه نضرة، والقلب سرورا، والصدر انشراحا، والبصيرة نورا إن الحياة الطيبة، ونعيم القلب والروح لا يحصلان إلا بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ولا سيما إذا التزم العبد شريعة الله مع قوة الداعي إلى مخالفتها، فإن ذلك أعظم لأجره، وأكمل لإيمانه، فالإنسان ربما يشق عليه إعفاء اللحية؛ لأنه ينظر إلى أناس نظراء له قد حلقوا لحاهم فيحلق لحيته اتباعا

لهم ولكن هذا في الواقع استسلام للهوى وضعف في العزيمة، وإلا فلو حكم عقله، وقارن بين مصلحة إعفائها، ومضرة حلقها لهان عليه إعفاؤها، وسهل عليه الأمر، ولعله أن يكون باب خير لنظرائه وأشكاله، فيقتدون به لا سيما إذا كان عنده قدرة على الكلام والإقناع وإذا كان إبقاء اللحية شاقا عليه لما ذكرناه كان أجره عند الله أكبر وأعظم، ولقد كان بعض الناس يظن أن إعفاء اللحية، أو حلقها من الأمور العادية التي يتبع الناس فيها عادة أهل وقتهم، وهذا ظن غير صحيح، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فامتثال أمره فيه عبادة، ثم لو فرض أنه عادة، فلنسأل أيما أفضل عادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، وفعلها بنفسه، وفعلها الأنبياء قبله، وجرى عليها السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان أيما أفضل عادة هؤلاء أم عادة قوم يخالفونهم في ذلك؟ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن حلق اللحية حرام، وقال شيخنا عبد الرحمن السعدي في خطبة له: أيها الناس اتقوا الله، وتمسكوا بهدي نبيكم المصطفى، وامتثلوا أوامره، واجتنبوا ما عنه زجر ونهى، فقد أمركم بحف الشوارب، وإعفاء اللحى، وأخبركم أن حلق اللحى وقصها من هدي الكفار والمشركين، ومن تشبه بقوم فهو منهم إلى أن قال: فالله الله عباد الله في لزوم دينكم، ولا تختاروا عليه سواه، فوالله ما في الاقتداء بأهل الشر إلا الخزي والندامة، ولا في الاقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم إلا الصلاح والفلاح والكرامة، وإياكم أن تصبغوها بالسواد، فقد نهى عن ذلك خير العباد هذا كلام شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وقال شيخنا عبد العزيز بن باز في جواب له في مجلة الجامعة الإسلامية عن سؤال يقول: ما حكم حلق اللحى أو تقصيرها هل هو مكروه أو محرم؟ فأجاب قد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ذلك محرم ومنكر فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه، ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من فعل ذلك من المسلمين، فإن الحق أحق بالاتباع، ولو تركه الناس. أهـ. أيها المسلمون إن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو التقدم الصحيح، وهو القوة الحقيقية، وهو الجمال النافع، وهو الحياة السعيدة والمآل الحميد، فالإنسان الآن قد يكون ساهيا سادرا في حياته، ولكنه سينتبه، ويستيقظ عند مماته، عند مفارقته دنياه وأهله وماله، وسيتمنى حين لا ينفعه التمني أن لو كان متمشيا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وفقني الله وإياكم

لسلوك عباده الأخيار، وقوانا على هوانا بالعزائم الصادقة على فعل النافع وترك الضار إنه جواد كريم رؤوف رحيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الفرع الثاني الصلاة وما يتعلق بها

[الفرع الثاني الصلاة وما يتعلق بها] [الخطبة الأولى الصلاة وحكمة تشريعها] الفرع الثاني الصلاة وما يتعلق بها الخطبة الأولى الصلاة وحكمة تشريعها الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم عظيمة وأسرار، وجعل هذه الصلوات مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب والأوزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والعزة والاقتدار وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين الأبرار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعرفوا ما لله من الحكم العظيمة فيما أمركم به من العبادات، وفيما نهاكم من موجبات الإثم والسيئات، فإن الله تعالى لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم، فإن الله غني عن العالمين، وإنما أمركم بما أمركم به لاحتياجكم إليه وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه، فالعبادات التي أمر الله بها كلها صلاح للأبدان، وصلاح للقلوب، وصلاح للأفراد، وصلاح للشعوب، وإذا صلحت القلوب صلحت الأبدان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» . أيها الناس إنكم محتاجون إلى ربكم، ومضطرون إليه ليس بكم غنى عنه طرفة عين، فاعبدوه، واشكروه، وأديموا ذكره وشكره، ولقد شرع الله لكم من العبادات ما يقربكم إليه، ويستوجب الأجر والثواب شرع لكم هذه الصلوات الخمس التي تطهر القلوب من الذنوب، وتوصل العبد إلى غاية المطلوب الصلوات التي هي صلة بين العبد وبين خالقه وفاطره، يطهر ظاهره وباطنه حين يريد الصلاة، فيأتي إليه بطهارة الباطن والظاهر، ويقف بين يدي ربه خاشعا خاضعا لا يلتفت بقلبه، ولا بوجهه قلبه متصل بالله ووجهه إلى بيت الله، فهو متوجه إلى ربه ظاهرا وباطنا يتلو كتابه، ويتدبر ما يقوله ربه من أوامر ونواهٍ، ويتأمل ما يتلوه من أحسن القصص التي بها المواعظ والاعتبار إذا مرت به آية رحمة طمع في فضل الله، فسأل الله من فضله، وإذا مرت به آية وعيد خاف من عذاب الله، فاستعاذ به منه، ثم يركع حانيا ظهره، ورأسه تعظيما لله الرب العظيم، فيقول: سبحان ربي العظيم مستحضرا بذلك

عظمة من لانت لعظمته الصعاب، وخضعت لعزته الرقاب، فيكون معظما لله بقلبه ولسانه وجسده بظاهره وباطنه، ممتثلا بذلك أمر ربه ورسوله حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويقول سبحانه: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» ، ثم بعد أن يقول ما شاء الله من تعظيم ربه يرفع رأسه مثنيا على ربه حامدا له على إحسانه الكامل، وصفاته العليا، فإنه المحمود على كل حال المشكور بكل لسان، ثم بعد ذلك يخر ساجدا واضعا أعلى جوارحه وأشرف أعضائه على الأرض جميع أعضائه العاملة الوجه واليدان والرجلان كلها لاطئة في الأرض ليس فيها شيء عال على شيء، وحينئذ يستحضر من تنزه عن السفول يستحضر علو الرب الأعلى، فيقول: سبحان ربي الأعلى، ينزه ربه عن السفول، ويصفه بالعلو المطلق، فإنه تعالى عال بذاته، عال بصفاته، فهو فوق كل شيء، وصفاته أعلى الصفات، وأكملها ومن أجل هذا التواضع الذي يضع الساجد فيه نفسه تعظيما لربه كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فبعد أن يسبح ربه الأعلى يدعو الله تعالى بما أحب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي حري- أن يستجاب لكم» . وبعد هذا السجود، والذل لله يقوم، فيجلس جلسة الخاضع واضعا يديه على فخذيه يسأل ربه المغفرة والرحمة والعافية، ويختم صلاته بتعظيم الله تعالى ووصفه بما هو أهله التحيات لله، الصلوات، الطيبات، ويسلم على نبي الله، ثم على نفسه، ومن معه، ثم على كل عبد صالح في السماء والأرض، ثم يعود للصلاة والتبريك على نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم يستعيذ بالله من مضار الدنيا والآخرة يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ويدعو بما شاء، فالمصلي أيها المسلمون متنقل في رياض العبادة ما بين قيام، وقعود، وركوع، وسجود، وقراءة، وذكر، ودعاء قلبه عند ربه في كل هذه الأحوال، فأي نعيم أعظم من هذا النعيم، وأي حال أطيب من هذه الحال؟ ولهذا كانت الصلاة قرة عيون المؤمنين، وروضة أنس المشتاقين، وحياة قلوب الذاكرين، فتثمر نتائجها العظيمة، ويخرج المصلي بقلب غير قلبه الذي دخل به فيها يخرج بقلب ممتلئ نورا وسرورا وصدر منشرح للإسلام فسيحا، فيجد نفسه محبا للمعروف كارها للمنكر، ويتحقق له قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] عباد الله إن عبادة هذه نتائجها

وعملا هذا شأنه لجدير بنا أن نسعى لتحقيقه، والعناية به، وأن نجعله نصب أعيننا، وحديث نفوسنا، والله نسأل أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يعيذنا من نزعات الشيطان، وصده، وأن يجعلنا ممن حقق قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] إنه جواد كريم.

الخطبة الثانية في العناية بالصلاة والخشوع فيها

[الخطبة الثانية في العناية بالصلاة والخشوع فيها] الخطبة الثانية في العناية بالصلاة والخشوع فيها الحمد لله الذي فرض على عباده الصلوات لحكم بالغة وأسرار، وجعلها صلة بين العبد وبين ربه ليستنير بذلك قلبه، ويحصل له المطلوب في الدنيا ودار القرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى؛ وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين حافظوا على الصلوات بأداء أركانها وشروطها وواجباتها، ثم كملوها بفعل مستحباتها، فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين لمن لا صلاة له. أيها المسلمون لقد فرضت الصلاة على نبيكم من الله تعالى إليه بلا واسطة، وفرضت فوق السماوات العلى، وفرضت خمسين صلاة حتى خفضت إلى خمس صلوات بالفعل، وخمسين بالميزان ألم يكن هذا أكبر دليل على فضلها والعناية بها. الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، يقف بين يديه مكبرا معظما يتلو كتابه ويسبحه ويعظمه ويسأله من حاجات دينه ودنياه ما شاء جدير بمن كان متصلا بربه أن ينسى كل شيء دونه، وأن يكون حين هذه الصلة خاشعا قانتا معظما مستريحا، ولذلك كانت الصلاة قرة أعين العارفين، وراحة قلوبهم لما يجدون فيها من اللذة والأنس بربهم ومعبودهم ومحبوبهم جدير بمن اتصل بربه أن يخرج من صلاته بقلب غير القلب الذي دخلها فيه أن يخرج منها مملوءا قلبه فرحا وسرورا وإنابة إلى ربه وإيمانا، ولذلك كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما يحصل للقلب منها من النور والإيمان والإنابة جدير بمن عرف حقيقة الصلاة وفائدتها وثمراتها أن تكون أكبر همه وأن يكون منتظرا إليها مشتاقا إليها ينتظر تلك الساعة بغاية الشوق حتى إذا بلغها ظفر بمطلوبه، واتصل اتصالا كاملا بمحبوبه. أيها المسلمون: إن كثيرا من المصلين لا يعرفون فائدة الصلاة حقيقة، ولا يقدرونها حق قدرها، ولذلك ثقلت الصلاة عليهم، ولم تكن قرة لأعينهم، ولا راحة لأنفسهم، ولا نورا لقلوبهم، ترى كثيرا منهم ينقرون الصلاة نقر الغراب لا يطمئنون فيها، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا، وهؤلاء لا صلاة لهم، ولو صلوا ألف مرة؛ لأن الطمأنينة في الصلاة ركن من أركانها، ولذلك «قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان لا يطمئن في صلاته: (ارجع فصل، فإنك لم تصل) . فصلى

عدة مرات، وكل مرة يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فصل، فإنك لم تصل، حتى علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالطمأنينة» ، وتجد كثيرا من الناس إن لم يكن أكثر الناس يصلي بجسمه لا بقلبه جسمه في المصلى، وقلبه في كل واد، فليس في قلبه خشوع؛ لأنه يجول، ويفكر في كل شيء، حتى في الأمور التي لا مصلحة له منها، وهذا ينقص الصلاة نقصا كبيرا، وهو الذي يجعلها قليلة الفائدة للقلب بحيث يخرج هذا المصلي من صلاته، وهي لم تزده إيمانا ولا نورا، وقد فشا هذا الأمر أعني الهواجيس في الصلاة، ولكن الذي يعين على إزالته هو أن يفتقر العبد إلى ربه، ويسأله دائما أن يعينه على إحسان العمل، وأن يستحضر عند دخوله في الصلاة أنه سيقف بين يدي ربه وخالقه الذي يعلم سره ونجواه، ويعلم ما توسوس به نفسه، وأن يعتقد بأنه إذا أقبل على ربه بقلبه أقبل الله عليه، وإن أعرض أعرض الله عنه، وأن يؤمن بأن روح الصلاة ولبها هو الخشوع فيها وحضور القلب، وأن الصلاة بلا خشوع القلب كالجسم بلا روح، وكالقشور بلا لب، ومن الأمور التي تستوجب حضور القلب أن يستحضر معنى ما يقول، وما يفعل في صلاته، وأنه إذا كبر، ورفع يديه، فهو تعظيم لله، وإذا وضع اليمنى على اليسرى، فهو ذل بين يديه، وإذا ركع، فهو تعظيم لله، وإذا سجد، فهو تطامن أمام علو الله، وأنه إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] أجابه الله من فوق عرشه قائلا: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، هكذا يجيبك مولاك من فوق سبع سموات، فاستحضر ذلك، وإنك إذا قلت: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، وإن كنت تقولها بصوت خفي، فإن الله تعالى يسمع ذلك، وهو فوق عرشه، فما ظنك إذ آمنت بأن الله تعالى يقبل عليك إذا أقبلت عليه في الصلاة، وإنه يسمع كل قول تقوله، وإن كان خفيا، ويرى كل فعل تفعله، وإن كان صغيرا، ويعلم كل ما تفكر فيه، وإن كان يسيرا، إذا نظرت إلى موضع سجودك، فالله يراك، وإن أشرت بأصبعك عند ذكر الله في التشهد، فإنه تعالى يرى إشارتك، فهو تعالى المحيط بعبده علما وقدرة وتدبيرا وسمعا وبصرا، وغير ذلك من معاني ربوبيته. فاتقوا الله تعالى، أيها المسلمون، وأقيموا صلاتكم، وحافظوا عليها، واخشعوا فيها، فقد قال ربكم في كتابه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 3 - 11] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثالثة في حكم المحافظة على الصلاة وعقوبة من أضاعها

[الخطبة الثالثة في حكم المحافظة على الصلاة وعقوبة من أضاعها] الخطبة الثالثة في حكم المحافظة على الصلاة وعقوبة من أضاعها الحمد لله الذي فرض الصلوات على عباده رحمة بهم، وإحسانا، وجعلها أعظم صلة بينه وبين عباده، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأنعم بقرب مولانا، والحمد لله الذي رتب على إقامتها سعادة وبرا واحسانا، وتوعد من أضاعها، أن يلقى غيا وشقاء، وهوانا، وذلك ليحرص العباد على فعلها، ويحذروا من التهاون بها، فما أجدرنا بالشكر، وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الجواد العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا عظموها، فقد عظمها الله إذ فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم من غير واسطة من فوق سبع سموات، هي عمود الدين، وآخر ما تفقدون من دينكم، فهل يستقيم الدين بلا عماد، وهل يبقى في الدين شيء إذا ذهب آخره، ألم تعلموا أن الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن من صغائر الذنوب؟ ألم تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهها بنهر يغتسل منه الإنسان كل يوم خمس مرات فهل يبقى بعد ذلك في جسده شيء من الأوساخ والعيوب؟ ألم تعلموا أن من حافظ عليهن كانت له نورا في قلبه وقبره، ويوم القيامة، وكانت له حجة، وبرهانا، ونجاة من العذاب لقد امتدح الله أباكم اسماعيل بأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة، أو قال: وجبت له الجنة» عباد الله إن لكم الخير الكثير في المحافظة على الصلوات وإقامتهن فهن عون لكم على أمور دينكم ودنياكم: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] أيها المسلمون: لقد حذركم الله من إضاعة الصلاة، والاستخفاف بها، فقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 59 - 60] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» ، وقال: «من حافظ عليها يعني الصلوات كانت له نورا، وبرهانا، ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عيها لم يكن له نور، ولا برهان، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف» ، وقال: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح، وأنجح، وإن فسدت، فقد خاب، وخسر» ألا وإن من أعظم صلاحها أن

يخشع فيها قلبك، وتخشع فيها جوارحك، فأما خشوع القلب، فحضوره، واستحضاره بأن يحرص المصلي غاية ما يقدر عليه على إحضار قلبه، واستحضاره لمعاني ما يقول، ويفعل فإن الخشوع روح الصلاة ولبها ومعناها، وإن صلاة بلا خشوع كجسد بلا روح، وكلام بلا معنى، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها» . يعني والله أعلم أن ذلك على حسب حضور قلبه فيها وإحسانها وأما خشوع الجوارح فمعناه أن يحرص غاية الحرص على إتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته في ركوعه وفي سجوده في قيامه وفي قعوده، وأن يحرص على أن لا يتحرك إلا لحاجة، ألا وأن من صلاح الصلاة أن تطمئن في القيام والقعود والركوع والسجود، فمن نقر صلاته، ولم يطمئن فيها فلا صلاة له ولو صلى مئة مرة حتى يطمئن فيها، ألا وإن من صلاح الصلاة أن يؤديها جماعة في المساجد، فإن ذلك من واجبات الصلاة التي دل على مشروعيتها الكتاب والسنة. لقد خاب قوم تهاونوا بصلاتهم حتى ثقلت عليهم فأشبهوا بذلك المنافقين تجد أحدهم تحبسه الحاجة الدنيوية ساعة أو ساعتين أو أكثر من ذلك، ولو كانت قليلة وزهيدة، ولا يستطيع أن يصبر عشر هذا الزمن للصلاة المكتوبة الصلاة عنده أثقل من الجبال وتنعيم بدنه، واتباع لذاته عنده هو رأس المال، فما أعظم خسارته، وما أطول ندمه عند أخذ الكتب باليمين وبالشمال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الرابعة في الحث على الصلاة وأدائها جماعة

[الخطبة الرابعة في الحث على الصلاة وأدائها جماعة] الخطبة الرابعة في الحث على الصلاة وأدائها جماعة الحمد لله الذي فرض الصلاة على العباد رحمة بهم وإحسانا، وجعلها صلة بينهم وبينه ليزدادوا بذلك إيمانا، وكررها كل يوم حتى لا يحصل الجفاء، ويسرها عليهم حتى لا يحصل التعب والعناء، وأجزل لهم ثوابها، فكانت بالفعل خمسا وبالثواب خمسين فضلا منه وامتنانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقنا ومولانا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أخشى الناس لربه سرا وإعلانا الذي جعل الله قرة عينه في الصلاة، فنعم العمل لمن أراد من ربه فضلا ورضوانا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. عباد الله الصلاة عمود دينكم وقوامه، فلا دين لمن لا صلاة له، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، إقامة الصلاة إيمان، وإضاعها كفر، من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه ووجهه وقبره وحشره، وكانت له نجاة يوم القيامة، وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف. أيها المسلمون كيف تضيعون الصلاة، وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربكم صلة، فأين العبودية، وأين المحبة لله والخضوع له لقد خاب، وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا سراعا، وإذا سمعوا منادي الله يدعو: حي على الصلاة، حي على الفلاح تغافلوا عنه، وولوا دبارا. أيها المسلمون، ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب، ويصلي، أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري أيصبحه أم يمسيه، ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون، أما هجم على أناس وهم في دنياهم غافلون، أما بغت أناسا خرجوا من بيوتهم، ولم يرجعوا، فمن منكم أعطى أمانا ألا يكون حاله كهؤلاء. أيها المسلمون وماذا بعد هذا الموت الذي لا تدرون متى يفجؤكم؟ لا شيء بعده سوى الجزاء على ما قدمتم إما خير، فتسرون به، وإما شر فتساؤن به، وتندمون، فإن الإنسان إذا مات انقطع عمله، ولم يبق إلا الجزاء. أيها المسلمون، إذا كنتم تعترفون بذلك، ولا تنكروه، أفليس من الجدير بكم أن تبادروا

التوبة إلى ربكم والرجوع إليه، والقيام بطاعته واجتناب معصيته. أيها المسلمون، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إليه من ربه إن مما هو واجب عليكم في صلاتكم أن تؤدوها في المساجد جماعة مع المسلمين، فإن ذلك من واجباتها، ومن إقامتها، ومن حفظها المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه والمتخلف عن الجماعة بلا عذر عاص لربه مخاطر بصلاته، فإن بعض علماء المسلمين يقول: من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة لا تبرأ بها ذمته. المصلي في الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنمية، فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، والمتخلف عن الجماعة كسول مهمل محروم، وما أشبه حاله بحال المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وقال فيهم نبيه صلى الله عليه وسلم: « (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء والعرق عرموش العظم) » . والمرماة ما بين الضلعين من اللحم والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن هؤلاء المنافقين لو يعلمون أنهم يجدون شيئا حقيرا من الدنيا لسارعوا إليه، والواقع أن حال كثير من هؤلاء المتخلفين هي كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال المنافقين، فإن أحدهم لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر لوجدته يرقب النجوم، ويعد الساعات لعله يأتيه هذا الموعد. المصلي مع الجماعة يصليها بنشاط وطمأنينة، فإن الناس بلا شك ينشط بعضهم بعضا على العبادة والمتخلف عن الجماعة تثقل عليه الصلاة، فيصليها بكسل، وإسراع ينقرها نقر الغراب، وربما آخرها عن وقتها هو الخسار والدمار. صلاة الجماعة تجلب المودة والألفة والاتفاق، وتنير المساجد بذكر الله، وتظهر فيها شعائر الإسلام في صلاة الجماعة تعليم الجاهل وتذكير الغافل وعدد من المصالح الدينية والدنيوية. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة، وسبحان الله أن يكون ذلك، فماذا تكون الحال؟ إن الحال أن تكون الأمة متفرقة والمساجد مغلقة والناس ليس لهم مظهر جماعي في دينهم، ولكن الحمد لله الذي شرعها، وأوجبها على المسلمين، فاشكروا ربكم أيها المسلمون على هذه النعمة، وقوموا بهذا الواجب، واخجلوا من إضاعتها، واحذروا من عقاب ربكم وسطوته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الخامسة في نماذج من شروط الصلاة وأركانها

[الخطبة الخامسة في نماذج من شروط الصلاة وأركانها] الخطبة الخامسة في نماذج من شروط الصلاة وأركانها الحمد لله الذي شرع لعباده الشرائع، وأكملها، وبين لهم حدودها وفروضها وسننها، لم يترك عباده في حيرة من دينهم، ولا في نقص من عباداتهم بل بين لهم الدين، وأكمله فلم يمت نبيه حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلله الحمد، والنعمة، والفضل، والمنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدوا، فلا تعتدوها، فمن يتعد حدود الله، فقد ظلم نفسه. أيها الناس: لقد فرض الله عليكم في صلاتكم الطهارة من الأحداث والطهارة من الأنجاس، فمن صلى بغير وضوء، فلا صلاة له، ولو كان ناسيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ، ولو صلى وعلى بدنه نجاسة يعلم عنها أو على ثوبه نجاسة يعلم عنها، فلا صلاة له، فإن كان لا يعلم عنها، أو علم بها، ونسي أن يغسلها، فصلاته صحيحة» . وفرض الله عليكم سترة العورة في الصلاة قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فيجب على المصلي أن يستر عورته بثوب طاهر مباح لا يبين من ورائه لون الجلد، فإن صلى بثوب نجس عالما بنجاسته، فلا صلاة له إلا أن يكون ناسيا، ومن صلى بثوب محرم عليه، فلا صلاة له، فإذا صلى أحد بثوب فيه صورة، فلا صلاة له، إلا إن كان لا يدري، ومن الثياب المحرمة ثياب الخيلاء، فمن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه، ولا تصح له صلاة صلاها لابسا له، ومن نزل ثوبه عن كعبيه من الرجال، فهو في النار قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن صلى في ثوب خفيف يرى من ورائه لون الجلد، فلا صلاة له» . فعلى الذين يلبسون السراويل القصار التي تسمى الهاف عليهم أن يلبسوا فوقها ثوبا ساترا لا يصف البشرة؛ لأن الواجب عليهم أن يستروا ما بين السرة والركبة، وقد قسم فقهاؤنا رحمهم الله العورة في الصلاة إلى ثلاثة أقسام مخففة ومغلظة ومتوسطة، فالمخففة عورة الذكر من سبع سنين إلى عشر، فهذا يكفي ستر فرجيه القبل والدبر، والمغلظة عورة المرأة الحرة البالغة فيجب عليها أن تستر جميع بدنها، حتى يديها ورجليها في الصلاة، إلا الوجه، فلا يجب عليها ستره إلا أن

يكون عندها رجال غير محارم لها، فيجب عليها أن تستر وجهها عنهم، أما العورة المتوسطة فهي عورة من سوى ذلك مثل عورة الذكر إذا تم له عشر سنين، فأكثر، ومثل عورة البنت الصغيرة، وحد هذا القسم من العورة هو ما بين السرة إلى الركبة، وكلما كان اللباس أكمل في هيئته وستره وحاله، فهو أفضل، ولذلك قال أهل العلم: الأفضل للرجل أن يصلي ساترا رأسه. ومما فرض الله عليكم في الصلاة أن تطمئنوا بها، فمن صلى بلا طمأنينة، فلا صلاة له، وإن صلى مئة صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى بلا طمأنينة: «ارجع فصل، فإنك لم تصل» . ونقر الصلاة من أفعال المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وإن كثيرا يخلون بالطمأنينة خصوصا في القيام بعد الركوع، وفي الجلوس بين السجدتين، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل فيهما حتى يقول القائل: قد نسي. فاتقوا الله أيها المسلمون، والزموا حدوده لعلكم تفلحون: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة السادسة في نماذج من أحكام الصلاة

[الخطبة السادسة في نماذج من أحكام الصلاة] الخطبة السادسة في نماذج من أحكام الصلاة الحمد لله الذي وعد المحافظين على الصلاة أجرا عظيما وأعد لهم جنات الفردوس نعيما مقيما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فأنعم به ربا رحيما كريما، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المصلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، وحافظوا على الصلوات، وأقيموها في الجمع والجماعات، ولا تضيعوها، وتهملوها فتقعوا في المهلكات، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] فمن أضاع الصلاة، ولم يتب من ذلك لقي الغي في الدنيا والآخرة، والغي هو الخسران المبين، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الغي واد في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم، فمن كان محافظا عليها فليحمد الله على نعمته، ويسأله الثبات على ذلك، ومن لم يكن محافظا عليها، فليتب إلى الله من ذنبه، وليرجع إلى ربه قبل أن يزيغ قلبه، فيكون من الهالكين حافظوا عليها بفعل شروطها وأركانها وواجباتها وسننها، فإذا أتي أحدكم الصلاة، فليسبغ الوضوء، ثم ليستقبل القبلة، فإن استقبال القبلة لا بد منه في الصلاة قال الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] ثم يستفتح الصلاة بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتعوذ، ويقرأ فاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ووجوبها على الإمام والمأموم والمنفرد لعموم الحديث، وعدم المخصص الصحيح، وينبغي للأئمة أئمة المساجد أن يراعوا حال المأمومين في الركعتين بعد التشهد الأول، فيتأنوا في قراءة الفاتحة حتى يكملها المأمومون الذين خلفهم، فإذا قرأ الفاتحة قرأ بعدها ما تيسر من القرآن يكون في المغرب بقصار المفصل غالبا، والسنة أن يقرأ أحيانا بغير قصار المفصل بما لا يشق على المأمومين، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بسورة الأعراف، وقرأ فيها بسورة محمد، وقرأ فيها بسورة الطور، وقرأ فيها بسورة المرسلات، ويكون في الفجر من طوال المفصل، ويكون في الظهر والعصر والعشاء من أواسط المفصل إلا أن القراءة في الظهر تكون أطول من قراءة العصر، فإذا فرغ من القراءة ركع، وقال سبحان ربي العظيم الواجب مرة، وأدنى الكمال ثلاث، ثم يرفع رأسه قائلا سمع الله لمن

حمده، فإذا تم قيامه، قال: ربنا ولك الحمد، وإن كان مأموما قال حين الرفع: ربنا ولك الحمد، ولا يقول: سمع الله لمن حمده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا قال يعني الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ، ثم يسجد على أعضائه السبعة الجبهة والأنف تبع لها، واليدين، والركبتين، وأطرف القدمين، ولا يجوز أن يرفع رجليه عن الأرض، ولا أن يرفع أنفه، ولا شيئا من هذه الأعضاء عن محل سجوده، ولا يجوز أن يسجد بجبهته على كفيه، فأما السجود على المنديل أو غيره من الأشياء المنفصلة عن المصلي فلا بأس به لكن تركه أفضل، وأما الأشياء المتصلة به كثوبه، وغترته، فيكره السجود عليه، إلا من حاجة، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ولا يجوز للمصلي أن يقرأ القرآن، وهو راكع، أو ساجد لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستر ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال: (اللهم هل بلغت) ثلاث مرات» . إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد» ، فأما إذا دعا في سجوده بآية من القرآن وهو لم يقصد القراءة، وإنما قصد الدعاء، فهذا لا بأس به مثل أن يقول: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، أو غيرها من آيات الدعاء، فهذا لا بأس به، ثم يرفع من السجود، فيقول بين السجدتين اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها، وعليكم بالطمأنينة في الصلاة، فإنه لا صلاة لمن لا يطمئن في صلاته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] بارك الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة السابعة في سجود السهو

[الخطبة السابعة في سجود السهو] الخطبة السابعة في سجود السهو الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتفقهوا في دينكم، واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله فإنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، واعلموا أن من أهم ما يجب عليكم معرفته أحكام الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام وعمود الدين، ومن أكثر ما يقع الخلل فيه سجود السهو في الصلاة حيث كان يجهله كثير من المصلين، فسجود السهو له أسباب وأحكام ومواضع ينبغي لكل مسلم معرفتها حتى يكون على بصيرة من أمره إذا وقع له ذلك، فأسباب سجود السهو إجمالا ثلاثة: الزيادة والنقص والشك، فأما الزيادة، فمتى زاد المصلي في صلاته ركوعا أو سجودا أو قياما أو قعودا أو ركعة كاملة فأكثر وجب عليه سجود السهو، ومحله بعد السلام كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود رضي الله عنه: «صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذلك، قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم» . رواه الجماعة، ومتى علم المصلى بالزيادة وهو في أثناء الزيادة وجب عليه الرجوع عن الزيادة، وسجود السهو، وإذا سلم المصلي قبل تمام الصلاة ناسيا، فذكر قبل أن تمضي مدة طويلة، وجب عليه أن يتمم صلاته، ويسجد للسهو بعد السلام، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر أوالعصر ركعتين، ثم سلم فأخبروه بأنه نسي، فتقدم، وصلى ما بقي من صلاته، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم» ، وأما إذا طال الفصل، أو أحدث المصلي قبل أن يذكر نقص الصلاة، فإنه يعيد الصلاة من أولها؛ لأنه لا يمكن أن يبني آخر الصلاة على أولها مع طول الفصل أو انتقاض الطهارة. وأما النقص فمتى نقص المصلي شيئا من واجبات الصلاة ناسيا وجب عليه سجود السهو جبرا لما نقص من صلاته، ويكون قبل السلام، فإذا نسي التشهد الأول، وقام إلى الركعة الثالثة، واستتم قائما، فليمض في صلاته ولا

يرجع، ثم يسجد سجدتين للسهو قبل السلام، فعن عبد الله بن بحينة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى، فقام في الركعتين، فسبحوا به، فمضى في صلاته، فلما كان في آخر الصلاة سجد قبل أن يسلم، ثم سلم» متفق عليه، ومثل ذلك إذا نسي أن يقول: سبحان ربي العظيم في الركوع، أو سبحان ربي الأعلى في السجود، أو نسي شيئا من التكبير غير تكبيرة الإحرام. وأما الشك، فإذا شك المصلي كم صلى ثلاثا أم أربعا، ولم يترجح عنده شيء، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، وهو الأقل، فليتم عليه، ثم يسجد سجدتين قبل السلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا، أما أربعا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن صلاته، وإن كان صلى إتمام كانتا ترغيما للشيطان» . رواه أحمد ومسلم، وإذا شك المصلي هل صلى ثلاثا أم أربعا، وترجح عنده أحد الأمرين بنى عليه، وأتم الصلاة على ما ترجح عنده، ثم سلم، ثم سجد سجدتين بعد السلام لما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» . هذه أيها المسلمون هي الأصول في سجود السهو، وقد تبين منها أن سجود السهوله موضعان موضع قبل السلام، وموضع بعده فمواضع سجود السهو بعد السلام ثلاثة: الأول إذا زاد في صلاته، الثاني إذا سلم قبل اتمامها، وهو من الزيادة في الواقع، الثالث إذا شك، فلم يدر كم صلى، وترجح عنده أحد الأمرين، وما عدا ذلك، فمحله قبل السلام. أيها الناس إن كثيرا من المصلين ينكرون سجود السهو بعد السلام، ويستغربونه، وذلك لأنهم يجهلون هذا الحكم الشرعي الذي يرى بعض العلماء أن ما كان من سجود السهو قبل السلام فهو واجب قبل السلام، وما كان بعده فواجب أن يكون بعده، وسبب جهلهم عدم تعلمهم لذلك، وعدم العمل به من أئمة المساجد وأئمة المساجد منهم من لا يدري بذلك، ويحسب أن سجود السهو قبل السلام في كل حال، ومنهم من يدري، ولكن لا يعمل يقول أخشى من التشويش، وهذا ليس بعذر في ترك ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل الحق الذي يكون به براءة الذمة ونشر السنة أن يسجد بعد السلام إذا كان موضع السجود بعد السلام حتى يعرف الناس ذلك، ويفهموه، ويعملوا به، ويزول عنهم التشويش، ويكون لفاعله أجر من أحيا سنة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا - يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 - 28] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الثامنة في الحث على الجمعة والجماعة

[الخطبة الثامنة في الحث على الجمعة والجماعة] الخطبة الثامنة في الحث على الجمعة والجماعة الحمد لله الحكيم في خلقه، وأمره القوي في أخذه، وقهره شرع لعباده الشرائع لينالوا بها أعلى الدرجات، وينجوا بها من الهلاك والدركات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذوالفضل العظيم، والخير العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأقيموا الصلاة، فإنها عمود الدين، وهي العهد الذي بين المؤمنين والكافرين، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة أقيموها بفعلها في وقتها بجميع أركانها وواجباتها وشروطها اطمئنوا فيها في القراءة والركوع والسجود والقيام والقعود، فلا صلاة لمن لا طمأنينة له، فالمصلي قائم خاشع بين يدي ربه، وكلما كان الإنسان أعظم راحة وفرحا بالصلاة كان إيمانه أكمل، ولذلك كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم وراحة قلبه، أقيموا الصلاة، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وأدوا الصلاة جماعة في المساجد، فإن ذلك من واجبات الصلاة كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة: قال الله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم الجماعة في أصحابه وهم في الحرب عند التقاء الصفوف، «وصح عنه صلى الله عليه وسلم أن أعمى جاءه، وليس له قائد يقوده إلى المسجد، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب» ، «وأخبر أن أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وأنهم لو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، وإن أحدهم لو يعلم أنه يجد عرقا سمينا، وهوالعظم عليه بقية اللحم، أو مرماتين حسنتين، وهما ما بين ظلفي الشاة، أو أضلاعها لشهد العشاء» ، فالمنافق تثقل عليه صلاة الجماعة لكن لو يجد شيئا زهيدا من الدنيا لبادر إليه وذلك؛ لأنه لا إيمان في قلبه، ولو كان مؤمنا لبادر إلى فضل الآخرة، وسارع إليه؛ لأن الآخرة هي المآل، وهي المستقبل، فاحذروا أيها المسلمون من صفات المنافقين، وجاهدوا أنفسكم على الطاعات، ومرنوها عليها تكونوا من المفلحين، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه

المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، أومريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين، حتى يقام في الصف هكذا حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتخلف منهم أحد عن صلاة الجماعة إلا بعذر، ومن تخلف بلا عذر، فهو معلوم النفاق عندهم، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الصبح، فقال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا، قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولوعلمتم ما فضيلته لابتدرتموه» . وهذ حديث صحيح. أيها المسلمون حافظوا على صلاة الجمعة، وإياكم والتهاون بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» . وقال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» . ولقد كان بعض الناس يخرجون بأهليهم أو مع أصحابهم في هذا اليوم المبارك الذي من الله به على أمة محمد، وأضل عنه اليهود والنصارى، فيفوتون صلاة الجمعة، وهؤلاء قد عرضوا أنفسهم لعقاب الله، وسخطه، فليحذروا ذلك، فليحذروا ذلك، فليحذروا ذلك، «ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الراعي يتخذ الغنم على رأس ميل أو ميلين، فيتعذر عليه الكلأ، فيرتفع، ثم تجيء الجمعة، فلا يشهدها، وتجيء الجمعة، فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه» ، فهؤلاء الذين يخرجون إلى البر في يوم الجمعة إن كانوا يصلون الجمعة في بلدهم أو غيرها، فقد أدوا ما بينهم وبين الله، ولكنهم قد عرضوا أنفسهم لكلام الناس فيهم، وإن كانوا لا يصلون الجمعة، ولا يبالون بها، فما أعظم خسارتهم لقد فوتوا الخير الكثير، وعرضوا أنفسهم للعذاب الأليم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9 - 10] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة التاسعة في صلاة الكسوف

[الخطبة التاسعة في صلاة الكسوف] الخطبة التاسعة في صلاة الكسوف الحمد لله الذي أظهر لعباده من آياته دليلا وهدى من شاء من خلقه فاتخذ ذلك عبرة، وابتغى إلى نجاته سبيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالخلق والتدبير جملة وتفصيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أبلغ الخلق بيانا، وأصدقهم قيلا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتفكروا في آياته، وما يخلقه في السماوات والأرض، فإن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، تفكروا في هذه السماوات السبع الشداد التي رفعها الله بقوته، وأمسكها بقدرته ورحمته أن تقع على العباد، تفكروا كيف أحكم الله بناءها، فما لها من فروج ولا فطور، وكيف زينها الله بالمصابيح التي عمتها بالجمال والنور، وكيف جعل فيها سراجا وقمرا منيرا، ثم تفكروا كيف كانت هذه المصابيح والسراج والقمر تسير بإذن الله في فلكها الذي وضعها الله فيه منذ خلقها الله حتى يأذن بخرابها لا تنقص عن سيرها، ولا تزيد، ولا ترتفع عنه، ولا تنزل، ولا تحيد، فسبحان من سيرها بقدرته، ورتب نظامها بحكمته، وهو القوي العزيز. عباد الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وكمال حكمته ورحمته، فإذا نظرت إلى عظمتهما، وانتظام سيرهما عرفت بذلك كمال قدرة الله، وإذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع تبين لك كمال حكمة الله ورحمته، ألا وإن من حكمة الله في سيرهما ما يحدث فيهما من الكسوف، وهو ذهاب ضوءهما كله، أو بعضه، فإن هذا الكسوف يحدث بأمر الله يخوف الله به عباده ليتوبوا إليه، ويستغفروه، ويعبدوه، ويعظموه، وقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي الصلاة جماعة، فاجتمع الناس، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان كبر، ثم قرأ الفاتحة، وسورة طويلة نحو سورة البقرة، حتى جعل أصحابه يخرون من طول القيام، ثم ركع، فأطال الركوع، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة، وسورة طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعا طويلا دون الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وأطال القيام، ثم سجد، فأطال السجود، ثم جلس بين السجدتين، وأطال ثم سجد، فأطال، ثم قام إلى الركعة الثانية، فأطال القيام، وهو دون القيام في الركعة الأولى، ثم ركع، فأطال الركوع، وهو دون

الركوع في الركعة الأولى، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قرأ، فأطال القراءة، وهي دون الأولى، ثم ركع الركوع الثاني، فأطال وهو دون الركوع الأول، ثم سجد سجدتين، ثم سلم، وقد انجلت الشمس، وسمع في سجوده، يقول: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم، وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ثم خطب الناس، ووعظهم موعظة بليغة، فأثنى على الله بما هوأهل له سبحانه وتعالى، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعواإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» . وفي رواية «فادعوا، وتصدقوا، وصلوا» ، ثم قال: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وقال: ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، وأوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم قريبا، أو مثل فتنة الدجال، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر، وقال: لقد جيء بالنار يحطم بعضها بعضا، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها حتى رأيت فيها عمرو بن لحي يجر أقصابه أي: أمعاءه في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعا قال: ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي، فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل» . فيا أمة محمد إن كسوف الشمس أو القمر لحدث عظيم مخيف، وأكبر دليل على ذلك ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس من الفزع والصلاة، وما حصل له فيها من أحوال، ثم تلك الخطبة البليغة التي خطبها، فعلينا أن نفزع لحدوث الكسوف، وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار، وأن نتصدق لندفع البلاء، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعتاق في كسوف الشمس؛ لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام عند حدوث الكسوف قد انعقدت، والفزع إلى الصلاة، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق يدفع تلك الأسباب. أيها المسلمون: فإذا حصل الكسوف في أي وقت، وفي أية ساعة من ليل ونهار، فافزعوا إلى الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ولم يستثن وقتا من الأوقات، ولأنها صلاة فزع ومدافعة

بلاء، وتصلى في أي وقت حصل ذلك، وليس عنها نهي، فتصلى بعد العصر، وبعد الفجر، وعند طلوع الشمس، وكل وقت، واعلموا أن السنة أن تصلى جماعة في المساجد كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى خلفه الرجال والنساء، فإن صلاها الإنسان وحده، فلا بأس بذلك لكن الجماعة أفضل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة العاشرة في أن ذكر الله يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح

[الخطبة العاشرة في أن ذكر الله يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح] الخطبة العاشرة في أن ذكر الله يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح الحمد لله الذي جعل ذكره سببا للفوز بدار السلام، ومكفرا للذنوب والآثام، وجعل الإعراض عنه سببا للخسارة والحرمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الأنام، ومصباح الظلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم المقام، وسلم تسليما. أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، واعلموا أن في ذكر الله حياة القلوب والقرب من علام الغيوب، وفي ذكر الله كشف الغموم وتفريج الكروب وفي ذكر الله زوال المكروه، وحصول المطلوب، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلى شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . وذكر الله تعالى محله القلب واللسان والجوارح، فأما ذكر الله بالقلب، فمعناه أن يكون ذكر الله تعالى دائما في قلبه يفكر في أسماء الله الحسنى ومعاني صفاته العليا، وأفعاله التي بهرت العقول وأحكامه التي بلغت من الحكمة غايتها القصوى، وأما ذكر الله باللسان، فمعناه أن ينطق بلسانه بذكر ربه بذكر أسمائه وصفاته وأحكامه، فالتهليل والتكبير والتسبيح والحمد والثناء من ذكر الله، ودرس القرآن، والعلوم الدينية، وتعليمها، وتعلمها من ذكر الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من ذكر الله، وأما ذكر الله بالجوارح، فإن كل فعل تفعله متقربا إلى الله متبعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من ذكر الله أيها المؤمنون اذكروا ربكم قياما وقعودا، وعلى جنوبكم، فإن ذلك هو الحياة والصلاح، واعرفوا، رحمكم الله، الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعملوا بها، فإنها خير وبركة، فمن ذلك أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك، ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة حطت خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك

وله الحمد، وهوعلى كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلى مما طلعت عليه الشمس» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «أن أعرابيا قال: يا رسول الله علمني كلاما أقوله قال: (قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، قال هؤلاء لربي فما لي قال: قل: اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، ولازموا الاستغفار، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب) » قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة ربي اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا - تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 41 - 44] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الحادية عشرة في أذكار معينة وعامة

[الخطبة الحادية عشرة في أذكار معينة وعامة] الخطبة الحادية عشرة في أذكار معينة وعامة الحمد لله مستحق الحمد وأهله، المنعم على خلقه بسابغ نعمه وفضله، الذي جعل أفئدة عباده المؤمنين متعلقة به وألسنتهم ناطقة بذكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص لله في سره وجهره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم بطاعة ربه وأمره صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن ساروا على نهجه، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأديموا ذكره، أديموا ذكره بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، فإن الله مع الذاكرين، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» . أيها الناس: إن ذكر الله يكون في القلب، ويكون في اللسان، ويكون بالجوارح أما ذكر الله بالقلب، فإن معناه أن يكون القلب متعلقا بالله، ويكون ذكر الله، وتعظيمه دائما في قلبه يستحضر دائما عظمة ربه وآياته، ويستحضر نعمه العامة والخاصة، ويستدل بما يشاهده من مخلوقاته وآياته على عظمته وإحاطته، وأما ذكر الله باللسان، فهو النطق بكل ما يقرب إلى الله، فالتهليل ذكر، والتكبير ذكر والتحميد والتسبيح ذكر، وقراءة القرآن ذكر وقراءة العلوم الشرعية ذكر؛ لأنها ذكر لأحكام الله وتشريعاته ونصيحة العباد للقيام بأمر الله ذكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ذكر، وأما ذكر الله بالجوارح، فهو كل فعل يقرب إلى الله عز وجل، فالطهارة ذكر، والصلاة ذكر، والسعي إليها ذكر، والزكاة، والصيام ذكر، والحج ذكر، وبر الوالدين ذكر، وصلة الأرحام ذكر، وكل فعل يقربك إلى الله، فهو ذكر؛ لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بنية ونيتك، واستحضارك عند الفعل ذكر الله عز وجل، فالدين كله ذكر الله، ولقد شرع الله الحكيم الرحيم لعباده ذكره في كل مناسبة ليكونوا بذلك دائما في ذكر الله، فشرع الله لعباده التسمية على كل أمر ذي بال، وأهمية، شرع الله الذكر قبل الأكل والشرب وبعدهما، قبلهما تقول: بسم الله، وبعدها تقول: الحمد لله، وإن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها شرع الله الذكر عند دخول محل قضاء الحاجة، وبعد الخروج منه، فإذا أراد أحدكم أن يدخل مكان البول أو الغائط، فليقل: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وإذا خرج منه، فليقل: غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. شرع الله الذكر عند

النوم وبعده، فعند النوم إذا وضعت جنبك، تقول: باسمك اللهم أحيا وأموت، اللهم بك وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت روحي، فاغفر لها، وارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: « (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا) » . فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي، وشرع لعباده عند الاستيقاظ ذكر الله، فإن العبد إذا نام عقد الشيطان على قافية رأسه ثلاث عقد، فإذا قام، وذكر الله انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت العقدة الثانية، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم من النوم جعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] إلى آخر سورة آل عمران. وفي حديث ثان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استيقظ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ، وصلى قبلت صلاته» . وشرع لعباده أذكارا يقولونها إذا قلقوا، فلم يناموا، أو كانوا يفزعون في نومهم، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، ولا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره» ، وشرع لعباده أن يذكروه عند دخول بيوتهم، وعند الخروج منها، «فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل إذا دخل بيته أن يقول: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله» ، وكان إذا خرج من بيته قال: «بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» ، وقال: «من قال يعني إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت، ووفيت، وهديت، ويتنحى عنه الشيطان» . أيها الناس: إن ربكم قد أمركم بذكره في أحوال معينة، ولأسباب معينة، وأمركم بذكره أمرا مطلقا يعم الأوقات والأحوال، فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، فأديموا ذكر ربكم، واغرسوا لأنفسكم في جنات النعيم، فإن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية عشرة في التحذير من بعض الألبسة

[الخطبة الثانية عشرة في التحذير من بعض الألبسة] الخطبة الثانية عشرة في التحذير من بعض الألبسة الحمد لله الذي جعل الرجال قوامين على النساء بما فضلهم عليهن في الخلقة، والعقل، والذكاء، وأوجب عليهم أن يؤدوا إلى النساء حقوقهن، ويقوموا بواجبهن، ويراعوا ما عليهم نحوهن من المسؤلية الكبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكم الحاكمين، وأرحم الرحماء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل الله عليه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن يهديهم اهتدى، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] واتقوا الله في النساء، أدوا حقوقهن، قوموا بواجبهن، أدبوهن تأديبا شرعيا يكفل لهن مصالح الدنيا والآخرة وجهوهن إلى سلوك ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الشيمة والحياء، فإن الحياء شعبة من الإيمان، ومن لم يستح، فليصنع ما شاء. أيها الرجال: لقد جعلكم الله قوامين على النساء، فقوموا بهذه الوظيفة، دبروا شؤونهن، وأدبوهن، ولا يكن أحدكم بين أهله كالمفقود لا يأمرهم بالخير والرشاد، ولا ينهاهم عن الشر والفساد، فإن ذلك مفسدة من وجهين أحدهما إهدار كرامته، وإبطال رجولته بين أهله، والثاني إضاعة ما أوجب الله عليه من القيام عليهم، فإن الله تعالى لم يجعله قواما على النساء، إلا سيسأله عن هذه المسؤولية التي حمله إياها. أيها الناس: لو أن راعي غنم أهملها، ولم يسلك بها مواضع الخصب ألستم تعدونه مفرطا؟ ولو أن راعي غنم سلك بها أودية مهلكة، ورعاها في مراعي ضارة ألستم تعدونه ظالما معتديا؟ إذن فلماذا يرضى أحدكم يا رجال أن يرى أهله مقصرين فيما وجب عليهم، أو منهمكين فيما حرم الله عليهم، ثم لا يأمرهم بالواجب، ولا ينهاهم عن المحرم مع أنه هو راعيهم الذي استرعاه عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو القائم عليهم بما فضله الله به عليهم؟ أيها الناس: أيها الرعاة على أهليهم: إن في عوائلنا مشاكل عديدة يؤسفنا أن توجد فيهم، ثم لا نجد تعاونا جديا لحلها، وإنما هو كلام في المجالس، وتلوم، وتضجر لا عمل معه حتى نفس المتلومين المتضجرين تجدهم ينظرون إلى أهلهم واقعين في شيء من هذه المشاكل

والله أعلم بما كانوا عاملين هل حاولوا حلها، أو كانوا عنها معرضين؟ وإن من المشاكل لدينا، وأعظمها خطرا ما وقع فيه بعض النساء من الخروج إلى الأسواق ومكان البيع والشراء متطيبات متبرجات يخرجن أيديا محلاة بالذهب، ويلبسن ثيابا قصيرة تنكشف بأدنى سبب، وربما وقفن على صاحب الدكان، وضحكن معه، وهذا أعظم الفتن والشر، وليس هذا أيها المسلمون واقعا في نساء كبيرات السن فقط من شواب لا يبلغن العشرين من العمر، وهذا أمر عجيب لقد كانت الشواب عندنا منذ زمن قريب لا يحدثن أنفسهن بالخروج إلى الأسواق أبدا، وإذا احتجن إلى الخروج لم يخرجن إلا في أطراف النهار في غاية من التحفظ والتستر، ثم انقلبت الحال إلى ما ترى بهذه السرعة كأنما نقفز إلى التبرج والسفور قفزا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أيها المسلمون: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» . هذه صفات نساء أهل النار كاسيات عاريات أي: عليهن كسوة لا تفيد، ولا تستر، إما لقصرها، أو خفتها، أو ضيقها، مائلات مميلات، مائلات عن الحق، وعن الصراط المستقيم، مميلات لغيرهن، وذلك بسبب ما يفعلنه من الملابس والهيئات الفاتنة التي ضلت بها نفسها، وأضلت غيرها. أيها المسلمون: أيها المؤمنون بالله ورسوله: أيها المصدقون بما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، أيها القابلون لنصيحته لقد أخبركم الناصح الأمين بصفة لباس أهل النار من النساء لأجل أن تحذروا من هذا اللباس، وتمنعوا منه نساءكم، فهل تجدون أحدا من المخلوقين أنصح لكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل تجدون هديا أكمل من هديه؟ هل تجدون طريقا لإصلاح المجتمع ومحاربة ما يهدم دينه وشرفه أتم من طريقه وأحسن؟ كلا والله لا تجدون ذلك أبدا، وإن كل مؤمن بالله ورسوله ليعلم أنه لا أحد أتم نصحا، ولا أكمل هديا، ولا أحسن طريقا من محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الغفلة والتقليد الأعمى أوجبا أن نقع فيما وقعنا فيه. أيها الناس: إن هذه الألبسة القصيرة التي تلبسها بناتكم، فتقرونهن عليها، وربما ألبستموهن إياها أنتم ليست والله خيرا، بل هي شر لهن تذهب الحياء عنهن، وتجلب إليهن الفتنة، وتوجب هجر اللباس الشرعي الساتر لباس الحشمة، والحياء، والسلف الصالح إننا

نشاهد بنات في الثامنة من العمر، أو أكثر عليهن شلحة أو كرته تبلغ نصف الفخذ فقط، وعليها سروايل لا أفخاذ له إنك لترى القريب القريب من السوأة خصوصا، إذا كانت الشلحة مقمطة من فوق، فإنها ترتفع أطرافها من أسفل، فيبين من العورة. يا إخواني ما الفائدة من هذا اللباس للمجتمع هل فيه تهذيب لأخلاقه، أو تتميم لإيمانه، أو إصلاح لعمله، أو تقدم ورقي لشأنه، أو صحة لبدن لابسه كلا، ولكن فيه المفاسد وزوال الحياء، واعتياد هذا اللباس عند الكبر كما هو مشاهد، فإن هذا اللباس لم يقتصر شره على الصغار جدا من البنات، بل سرى إلى شابات في سن الزواج كما تراه أحيانا إذا كشفت الريح عباءتها. أيها المسلمون: إن الواجب الديني والخلقي يحتم علينا القضاء على هذه الألبسة، والتناهي عنها، وأن تحفظ نساءنا عن التبرج، وأن نكون قوامين عليهن كما جعلنا الله كذلك نقوم عليهن، ونلزمهن بما يجب، ونمنعهن مما يحرم، وإذا أمكن أن تأتي إليهن بما يحتجن من السوق أتينا به فإن لم يمكن، فلتأت به أعقلهن، وأبعدهن من الفتنة. إن الواجب علينا أن نتناصح، ونتعاون ينصح القريب قريبه، والجار جاره، فإن لم نفعل هلكنا جميعا، ووصل الشر إلى من لا يريده. أيها المسلمون: إن هذه الألبسة لا تنكر؛ لأنها غريبة وجديدة من نوعها، فليس كل جديد ينكر إلا إذا تبين ضرره ومخالفته لما يجب السير عليه، ولقد شاهدتم بأنفسكم، وسمعتم من غيركم ما يترتب عليها من أضرار، فلذلك أنكرناها، وحذرنا عنها أسأل الله تعالى أن يعيننا جميعا على الخير، وأن يمنعنا من الشر، وأن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الفرع الثالث في الزكاة

[الفرع الثالث في الزكاة] [الخطبة الأولى في بيان الأموال الزكوية] الفرع الثالث في الزكاة الخطبة الأولى في بيان الأموال الزكوية الحمد لله الذي فرض الزكاة تزكية للنفوس، وتنمية للأموال، ورتب على الإنفاق في سبيله خلفا عاجلا وثوابا جزيلا في المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي حاز أكمل صفات المخلوقين، وأجل الخصال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأدوا زكاة أموالكم، فإن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله من جحد وجوبها كفر، ومن منعها بخلا وتهاونا فسق، ومن أداها معتقدا وجوبها راجيا ثوابها، فليبشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] أيها المسلمون: أدوا الزكاة قبل أن تفقدوا المال مرتحلين عنه، أو مرتحلا عنكم، فإنما أنتم في الدنيا غرباء مسافرون، والمال وديعة بين أيديكم لا تدرون متى تعدمون، أدوا زكاة أموالكم قبل أن يأتي اليوم الذي يحمي عليه في نار جهنم، فتكوى به الجباه والجنوب والظهور قبل أن يمثل لصاحبه شجاعا أقرع، فيأخذ بشدقيه، ويقول: أنا مالك أنا كنزك. أيها المسلمون: لقد جاءت النصوص عامة مطلقة في وجوب الزكاة في الذهب والفضة في الذهب إذا بلغ عشرين دينارا، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم، وهذا هو نصاب الذهب والفضة، فما كان أقل منه، فلا زكاة فيه، وما كان منه فأكثر، ففيه ربع العشر، ففي عشرين دينارا نصف دينار، وفي مائتي درهم خمسة دراهم، وهذه الأوراق النقدية التي تتعاملون بها بدلا عن الذهب والفضة لها حكم الذهب والفضة. أيها المسلمون: لقد اختلف العلماء رحمهم الله في الحلي حلي المرأة من الذهب والفضة إذا كانت تلبسه، أو تعيره هل تجب فيه الزكاة أو لا؟ وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وإذا رددنا ذلك النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا

الصواب مع العلماء الذين قالوا بوجوب الزكاة فيه: - أولا: - لعموم الأدلة الموجبة للزكاة في الذهب والفضة من غير استثناء. ثانيا: - للأدلة الخاصة الصريحة في وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة، ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها بنت لها وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتؤدين زكاة هذا، قالت، لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار، فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ورسوله» . هذا حديث إسناده قوي، وله شواهد. ثالثا: - عدم المعارض الصحيح لهذه الأدلة، وإذا ثبت الدليل، وانتفى المعارض وجب القول بما قام الدليل عليه. أيها المسلمون: إن القول بوجوب الزكاة في حلي النساء من الذهب والفضة ليس ببدع من الأقوال، فقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة والتابعين، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واختاره من المتأخرين شيخنا السلفي الأثري أبو عبد الله عبد العزيز بن باز، وعلى كل حال، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا جاءت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا قول لأحد بعدها. فأدوا زكاة الحلي، إذا بلغ نصابا ربع عشر ما يساوي عند تمام الحول. أيها المسلمون: وإن مما تجب به الزكاة عروض التجارة، وهي ما أعده الإنسان للبيع والاتجار به من حيوان وعقار وأثاث ومتاع وأوان، وغير ذلك كل شيء عندك للتجارة، فهو عروض تجارة، إذا حال الحول، فقومه كم يساوي، ثم أخرج ربع عشر قيمته، ومن عروض التجارة أيضا ما يكون عند الفلاحين من الإبل والبقر والغنم التي يربونها للبيع، فأما العقارات التي أعدها الإنسان له، ولا يريد بيعها، وإنما يريد أن يسكنها، أو يؤجرها، فهذه ليس فيها زكاة، ولا زكاة فيما أعده الإنسان لبيته من الأواني والفرش ونحوها، ولا فيما أعده الفلاح لحاجة الفلاحة من المكائن وآلات الحرث ونحوها، وخلاصة ذلك أن كل شيء تعده لحاجتك أو للاستغلال سوى الذهب والفضة، فلا زكاة فيه، وما أعددته للاتجار، والتكسب ففيه الزكاة. أما الديون التي عند الناس، فلا يجب عليك إخراج زكاتها حتى تقبضها، فإذا قبضتها، فإن كان الدين على مليء وجب أن تخرج عنه زكاة كل السنوات الماضية، وإن كان على فقير لم يجب أن تخرج إلا عن سنة واحدة، فقط، وإن أخرجت زكاة الدين قبل قبضه

، فلا بأس. إخواني: لا تنفع الزكاة، ولا تبرأ بها الذمة حتى يخرجها على الوجه المشروع بأن يصرفها في مصارفها في مصارفها الشرعية في الأصناف الثمانية التي ذكر الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] فالفقراء والمساكين هم الذين لا يجدون كفايتهم، وكفاية عائلتهم، فمن كان له كفاية من صنعة، أو حرفة، أو تجارة، أو راتب، أو عطاء من بيت المال، أو نفقة ممن تجب عليه نفقته، أو غير ذلك، فإنه لا يجوز إعطاؤه من الزكاة، إلا أن يكون عليه طلب لا يستطيع وفاءه، فلا بأس أن تعطيه لوفاء دينه، وكما يجوز لك أن تعطي المطلوب لقضاء الطلب، فيجوز لك أن تذهب أنت بنفسك إلى من له الطلب، وتقول هذا عن فلان، فأسقطه من دينه، ولو لم تخبر المطلوب بذلك. وها هنا مسألتان يقع السؤال عنهما كثيرا حداهما أن بعض الفقراء يكون أخرق إذا أعطيته أفسده، فهل يجوز أن أشتري له بالزكاة حاجة، وأعطيها إياه، والجواب على هذا أن ذلك لا يجوز لكن لك أن تقول له اشتر حاجة من السوق، فإذا اشترى جاز لك أن توفي عنه من الزكاة. المسألة الثانية أن بعض الناس يكون له عادة بأخذ الزكاة، ثم يغنيه الله، فإذا أعطي الزكاة أخذها، وأعطاها الفقراء، وهذا حرام لا يجوز، بل إذا أغناه الله، وجب عليه ردها، وصاحبها إن شاء أخذها، وإن شاء وكله في دفعها إلى أحد. وفقني الله وإياكم لمعرفة الحق، وإتباعه ومعرفة الباطل واجتنابه وهدانا، وإياكم الصراط المستقيم إنه جواد كريم.

الخطبة الثانية في بيان زكاة النخيل

[الخطبة الثانية في بيان زكاة النخيل] الخطبة الثانية في بيان زكاة النخيل الحمد لله الرؤوف الرحيم البر الجواد الكريم أنعم على العباد بما أخرج لهم من الزروع والثمرات، وما أدر عليهم من الأرزاق المجلوبة من جميع الجهات، ثم أمرهم بإنفاق ذلك في مرضاته لتكمل لهم نعمة الدنيا والدين، ووعدهم على الإنفاق في مرضاته خلفا عاجلا، وهو خير الرازقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واشكروه أن أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون، فهذه ثمرات النخيل تتفكهون بها رطبا وبسرا، وتدخرونها قوتا وتمرا، فهو الذي خلقها، وأوجدها، وهو الذي نماها، وأصلحها وهو الذي أبقاها لكم، وحفظها، وأبقاكم حتى أدركتم جناها وثمرها، فاشكروا ربكم على هذه النعمة، وأدوا ما أوجب الله فيها من الزكاة تدفعوا عن أنفسكم وأموالكم النقمة، وحاسبوا أنفسكم في ذلك محاسبة تامة، فإن أهل الزكاة شركاء لكم فيها لهم العشر إن كانت تشرب سيحا، ونصف العشر إن كانت تشرب بالمكائن، هكذا فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإياكم وبخسها وإخراج ما ينقص عن ذلك. أيها الناس: لقد أنعم الله علينا في هذه الأوقات الأخيرة بنعم كثيرة منها كثرة أنواع المأكولات، واختلاف عادات الناس بسبب ذلك حتى صار أكثر الناس لا يأكلون من التمر إلا أطيب الأنواع، فارتفع بذلك سعره، ونقص سعر الأنواع الأخرى بسبب قلة رغبة الناس فيها، فلقد كان الشقر في الزمن السابق هو الغذاء الرئيسي من التمر، وكان الناس لا يهتمون بالأنواع الأخرى، فكان الفرق بينه وبينها يسيرا، أما الأن فكانت الحال بالعكس وأصبح الفرق كبيرا بينه وبين الأصناف التي بدأت تنتشر، وترغب، انظر إلى قيمه متوسطة الشقر تجد الكيلو منه يساوي ربع ريال، وانظر إلى متوسط البرحى مثلا نجد الكيلو منه يساوي ريالين، فالكيلو من البرحى يساوي ثمان كيلو من الشقر، وهذا فرق كبير، فإذا وجدنا بستانا أكثره من البرحى والسكري ونحوهما من الأنواع الطيبة، فكيف يسوغ لنا أن نخرج زكاته كلها من الشقر مع هذا الفرق العظيم؟ كيف يمكن أن نقول إن هذا الرجل أخرج نصف عشر بستانه.

أيها المسلم المؤمن بالله: لقد أوجب الله عليك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم نصف العشر بما يسقى بمؤونة، والعشر كاملا فيما يسقى بلا مؤونة، فهل ترضى لو كان لك نصف العشر أن تأخذ من الأنواع التي دونه بكثير؟ لا أعتقد أنك ترضى بذلك، فإذا كنت لا ترضى بأخذه لنفسك، فكيف ترضى ذلك لربك؟ ولقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] يعني لا تنفقوا من الرديء الذي لو كان لكم من هذا المال لم تأخذوه إلا على أغماص وكراهية، فتنبهوا أيها المسلمون لما نبهكم الله إليه، وابرؤا أنفسكم من الواجب ما دمتم في زمن الإمهال. أيها المسلمون: إنني إذا قلت: إنه لا يجزي إخراج الشقر عن بستان أكثره من الأنواع الطيبة الآخرى التي تفرق عنه فرقا كبيرا، فلست أقول ذلك لمجرد رأي رأيته، ولكن أقوله؛ استنادا إلى ما يأتي: أولا قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] والخبيث هو الرديء، والرداءة أمر نسبي، فقد يكون التمر رديئا إذا نسب لما هو أجود منه، وجيدا بالنسبة لما هو أردأ منه بدليل أنه لو كان البستان كله رديئا أخرجت منه، ولم تلزم بشيء أطيب منه. ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب العشر، أو نصف العشر، ومع هذا الفرق العظيم، فإن الشقر عن البرحى والسكري لا يقارب هذا المقدار. ثالثا: أن الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم بل أكثر العلماء يقولون: إنه يجب عليه أن يخرج الزكاة من كل نوع بحصته كما ذكره في المغنى، وقد نص فقهاؤنا في كتبهم المختصرة والمطولة على أنه يجب إخراج زكاة كل نوع منه، ولكن ربما تقولون: ألم يكن الناس من عهد قديم يخرجون الشقر عن البستان كله مع أن فيه أنواعا أخرى، فأقول: نعم كان ذلك، ولكن كان الشقر يخرج من جميع البستان حينما كان هو الغذاء الرئيسي من التمر، وحينما كانت الأنواع الأخرى قليلة، ولم يكن الفرق بينها وبين الشقر إلى هذا الحد الكبير، فكان الشقر في ذلك الوقت هو النوع المتوسط، وقد قال بعض العلماء: إنه يجوز الإخراج من النوع المتوسط بقدر القيمة. أما اليوم فقد اختلف الحال كثيرا كما ترون.

فاتقوا الله تعالى أيها الناس، وحاسبوا أنفسكم، وراعوا العدل، ولا تظنوا الزكاة غرامة وخسارة، فإنها والله هي الغنيمة والربح، فهي أحد أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله، فالقيام بها قيام بركن عظيم من أركان الإسلام، وتطهير للمزكي من الإثم والعصيان، وتزكية لنفسه وأعماله، وبركة، ونمو، وزيادة في ماله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ - الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 267 - 268] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الفرع الرابع في الصيام وزكاة الفطر وعيد الفطر

[الفرع الرابع في الصيام وزكاة الفطر وعيد الفطر] [الخطبة الأولى في استقبال شهر رمضان المبارك] الفرع الرابع في الصيام وزكاة الفطر وعيد الفطر الخطبة الأولى في استقبال شهر رمضان المبارك الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم بذلك الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، وليضاعف لهم بذلك الثواب، ويرفع لهم الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطايا وجزيل الهبات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله ربكم، واعبدوه، واشكروه على ما أنعم به عليكم، واحمدوه، واعرفوا نعمته عليكم بمواسم الخيرات التي تتكرر عليكم كل عام ليتكرر بها عليكم من الله الفضل والإنعام، وتجددوا النشاط على صالح الأعمال واجتناب الآثام. عباد الله: لقد أظلكم شهر عظيم، وموسم كريم تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، إنه شهر الصيام والقيام، شهر الصدقات والبر والإحسان، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، شهر تفضل الله به على هذه الأمة بخمس خصال لم تعطها أمة من الأمم: الخصلة الأولى خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. الثانية: تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا. الثالثة: يزين الله فيه كل يوم جنته، ويقول: «يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك» . الرابعة: تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره. الخامسة: يغفر الله لهذه الأمة في آخر ليلة منه، شهر من صامه إيمانا بالله واحتسابا لثواب الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته، وطعامه، وشرابه من أجلي للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» يفرح عند فطره بأمرين، باستكمال صوم اليوم الذي من الله عليه بصيامه، وقواه عليه، ويتناول ما أحل الله له من طعام وشراب، ويفرح عند لقاء ربه بما يجده عند ربه مدخرا له من أجر الصيام. عباد الله: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، فاغتنموه بالعبادة، وكثرة الصلاة، وقراءة

القرآن، والذكر، والعفو عن الناس، والإحسان، وأزيلوا العدواة، والبغضاء بينكم، والشحناء، فإن الأعمال تعرض على الله عز وجل يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب، فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا، ويصطلحوا، واستكثروا في شهر رمضان من أربع خصال اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنها، فأما اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، واحرصوا على الدعاء عند الإفطار، فإن في الحديث أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد. واعلموا أن الصيام إنما شرع ليتحلى الإنسان بالتقوى، ويمنع جوارحه من محارم الله، فيترك كل فعل محرم من الغش والخداع والظلم ونقص المكاييل والموازين ومنع الحقوق والنظر المحرم وسماع الأغاني المحرمة، فإن سماع الأغاني ينقص أجر الصائم، كل قوم محرم من الكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم، وإن سابه أحد أو شاتمه أحد، فليقل: إني صائم، ولا يرد عليه بالمثل، فلا تجعل أيها المسلم يوم صومك ويوم فطرك سواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» . وصوموا أولادكم الذكور والإناث إذا كانوا يطيقون الصيام ليتعودوا على ذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصومون أولادهم وهم صغار حتى كان الصبي ربما يبكي من الجوع، فيعطونه لعبة يتلهى بها حتى يفطروا، وأجر الصيام يكون لهم بأنفسهم لكن الوالدين أو الأولياء لهم أجر التأديب والتوجيه. وتحروا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، فإن رأيتموه، فصوموا، وإن لم تروه، فلا تصوموا حتى تكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما، فإن من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، ومن رآه منكم، فليخبر القاضي، ومن سمعه منكم في الإذاعة السعودية، فعليه الصيام إذا تحقق أنها أعلنت ثبوت الشهر. ولا يصومن أحدكم تطوعا قبل رمضان بيوم أو يومين، إلا من كان له عادة بصيام شيء من الأيام، فوافق قبل الشهر بيوم أو يومين، فلا بأس من صيامه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية في نماذج من نعم الله في شهر رمضان

[الخطبة الثانية في نماذج من نعم الله في شهر رمضان] الخطبة الثانية في نماذج من نعم الله في شهر رمضان الحمد لله المتفضل بالجود والإحسان المنعم على عباده بنعم لا يحصيها العد والحسبان، أنعم علينا بإنزال هذا القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ونصر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ببدر، وسماه يوم الفرقان، وأعزه بفتح مكة أم القرى وتطهيرها من الأصنام والأوثان فيا له من عز ارتفع به صرح الإسلام، واندك به بنيان الشرك والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على جميع الأديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نصروه، وأعانوه، فنعم الأنصار هم، ونعم الأعوان، وعلى التابعين لهم بإحسان ما توالت الدهور والأزمان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى: واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعم وافرة سابغة خصوصا في هذا الشهر الكريم شهر رمضان، ففيه أنزل الله كتابه المبين رحمة للعالمين، ونورا للمستضيئين، وهدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، من تمسك به نجا، ومن طلب الهدى منه اهتدى، ومن أعرض عنه وقع في الهلاك والردى، فبؤسا للمعرضين الهالكين. وفي هذا الشهر غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها عساكر الإيمان وجنود الرحمان، وهزم فيها جنود الشيطان وأنصار الشرك والطغيان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج أبي سفيان بعير قريش من الشام، ندب أصحابه إلى تلك العير، فخرجوا في ثلثمائة وبضعة عشر رجلا فقط لا يريدون إلا العير لا يريدون عدوهم، ولكن الله بحكمته جمع بينهم على غير ميعاد ليقضي سبحانه ما حكم به، وأراد، فإن أبا سفيان لما علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم بعث صارخا إلى أهل مكة يستنجدهم ليمنعوا عيرهم، فخرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله يقول قائلهم: والله لا نرجع حتى نقدم بدرا، ونقيم فيها ثلاثا ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمور، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا قالوا هذا، ولكن الله بما يعملون محيط، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأنصاره حفيظ، فأوحى الله إلى ملائكته:

{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 12 - 13] فقيض الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أسباب النصر ما به انتصروا، ولأعدائه وحربه كسروا، فقتلوا من صناديد قريش وفريقا أسروا، ورجع فل قريش مهزومين موتورين خائبين، فلله الحمد رب السماوات والأرض رب العالمين. وفي هذا الشهر المبارك فتح الله مكة البلد الأمين على يد خليله ونبيه محمد أفضل النبيين، وطهرها من الأصنام والمشركين، وذلك هو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في عشرة آلاف من أصحابه لعشر مضين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة يريد غزو قريش حين نقضوا صلح الحديبية، فدخل مكة مؤزرا منصورا على إحدى مجنبتيه حواريه الزبير بن العوام، وعلى الآخرى سيف الله خالد بن الوليد، فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاضعا لربه مطأطئا رأسه تواضعا، وتعظيما لله رب العالمين، وركزت رايته بالحجون، ثم نهض وأصحابه المهاجرون والأنصار بين يديه، وخلفه، وعن يمينه، وشماله رضي الله عنهم، فطاف بالبيت، وكان على البيت وحوله ثلثمائة وستون صنما، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها بقوس في يده، ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". فلما أكمل طوافه دخل الكعبة، فرأى فيها الصور، فأمر بها، فمحيت، ثم أخذ بباب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يصنع، ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم: كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وفي هذا الشهر المبارك أنعم الله على عباده بفرض الصيام، وجعله أحد أركان الإسلام، وجعل ثواب من صامه إيمانا وإحتسابا أن يكفر عنه ما تقدم من الآثام. وفي هذا الشهر المبارك أنعم الله على العباد بمشروعية القيام، فمن قامه إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. وفي هذا الشهر

المبارك أنعم الله على هذه الأمة بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر من قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه. وبركات هذا الشهر كثيرة وفيرة، فاحمدوا الله على ما أنعم به عليكم فيه، وإياكم أن تضيعوا فرص أيامه ولياليه، فلو علمتم ما فيها لتمنيتم أن يكون السنة كلها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثالثة في بيان شيء من آداب الصيام ومفطراته

[الخطبة الثالثة في بيان شيء من آداب الصيام ومفطراته] الخطبة الثالثة في بيان شيء من آداب الصيام ومفطراته الحمد لله الذي شرع لعباده الشرائع لحكم بالغة وأسرار ورتب على صيام رمضان وقيامه إيمانا واحتسابا مغفرة الذنوب والأوزار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اعبدوا ربكم، وصلوا فرضكم، وصوموا شهركم، واعلموا أن من حكم الصيام وأسراره أن يكون عونا للعبد على طاعة الله وتقواه، فيجتهد في فعل الخيرات واجتناب المحرمات، فمن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، اعمروا أوقات هذا الشهر الفاضل بالذكر والقراءة والصلاة، وتعرضوا فيه لنفحات المولى بكثرة الدعوات، وكثرة الإحسان إلى الخلق والعفو عنهم، فإن الله يحب المحسنين، ويحب العفو عن المسيئين، وجودوا على الفقراء في هذا الشهر بالزكاة والصدقات، فإن الله جواد يحب الجود، ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، ولا تحقرن من المعروف شيئا، واتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن الرجل ليتصدق بعدل تمرة من كسب طيب، فيربيها الله له حتى تكون مثل الجبل، واعلموا، رحمكم الله، أن للصيام سننا ينبغي مراعاتها، فمنها السحور، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم به وقال: «تسحروا فإن في السحور بركة» . والأفضل تأخير السحور في آخر الليل، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور» . وإذا قدم أحدكم السحور، وفرغ قبل طلوع الفجر، ونوى الصيام، ثم اشتهى أن يأكل فلا بأس أن يأكل حتى يطلع الفجر لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] والخيط الأبيض النهار، والأسود الليل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا، واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، وكان لا يؤذن حتى يطلع الفجر» . فإذا تبين الفجر، فإنه لا يجوز أن يتناول الصائم شيئا مما يفطره، وإن الواجب على المؤذنين أن يتحروا، فلا يؤذنوا حتى يطلع الفجر، ولقد سمعت أن بعض الناس يورد حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتقي بناقته عن الفجر. وهذا الحديث ما رأيناه في الكتب الصحيحة ولا أظنه يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا تسحر أحدكم

فلا يحتاج أن يقول: اللهم إني نويت الصيام إلى الليل؛ لأن النية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر، فإن لم يجد، فليفطر على ماء، فإن لم يجد، فلينو الفطر بقلبه مثل أن تغرب الشمس، وهو خارج البلد، وليس عنده طعام ولا شراب، فينوي الفطر، ولا يحتاج أن يمص إصبعه، كما يقول بعض العوام، وينبغي عند الفطر أن يحرص على الدعاء، فإن للصائم عند فطره دعوة لا ترد، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أفطر قال: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» . واسألوا الله تعالى القبول لأعمالكم، فإن المعول عليه، ولقد كان إبراهيم الخليل وولده إسماعيل يرفعان القواعد من البيت، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وإن من علامة القبول أن يوفق العبد للتقوى، فإنما يتقبل الله من المتقين، فمن اتقى الله تعالى ظاهرا وباطنا كان حريا بالإجابة. واعلموا أن من المفطرات الأكل والشرب والجماع، وإخراج الدم بالحجامة، فقد أفطر الحاجم والمحجوم، وإخراج القيء عمدا، وإذا خرج الدم منه بغير حجامة مثل أن يحصل له رعاف، أو ينقلع سنه، أو ينجرح شيء من بدنه، فيخرج الدم، فلا يفطر بذلك، ولا يفطر أيضا إذا غلبه القيء، أو داوى عينه، أو أذنه، أو قطر فيهما. وتفطر المرأة إذا خرج منها دم الحيض، وهي صائمة، وإذا طهرت في أثناء النهار، وجب عليها قضاء اليوم الذي طهرت فيه، ولا يفطر الصائم بالسواك، ويستحب له السواك كغيره في كل وقت في أول النهار وآخره. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الرابعة في فضل قراءة القرآن

[الخطبة الرابعة في فضل قراءة القرآن] الخطبة الرابعة في فضل قراءة القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا - قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا - مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا - وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا - مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 1 - 5] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأكثروا من قراءة القرآن في هذا الشهر يعظم الله لكم بذلك الأجر؛ لأن في كل حرف من القرآن عشر حسنات، وقد وردت الأحاديث بفضل تلاوة القرآن عموما وبعض السور خصوصا، ففي صحيح مسلم «أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفا منها إلا أوتيته) » وقال صلى الله عليه وسلم: «البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان» رواه أحمد ومسلم. وكان أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، وله ابن قريب منها، فجالت الفرس، فسكت، فسكنت، فقرأ، فجألت الفرس مرة ثانية، فسكت، فسكنت، ثم قرأ، فجالت الفرس مرة ثالثة، فخاف أن تصيب ابنه، فانصرف، ثم رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فإذا مثل الظلمة فيها أمثال المصابيح، فلما أصبح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «أتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى فيهم» . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما يوم القيامة. وتحاجان عنه، ونزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ومعها من الملائكة نحو سبعين ألف ملك ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح، والأرض ترتج بهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (سبحان الله العظيم) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن سورة من القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك» . وقد ورد أنها تنجي من عذاب القبر، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» ، وقال له رجل: إني أحبها، فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة» ، وقال رجل آخر إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله يحبه» ،

وقال صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] فاقرؤوا القرآن بتدبر، وتفهم، وإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد، فتعوذوا بالله من عقابه، وإذا مررتم بآية سجدة، فاسجدوا في أي وقت كان، فالسجود للتلاوة لا نهي عنه؛ لأنه تابع للتلاوة، وإذا سجدتم، فكبروا، وقولوا: سبحان ربي الأعلى في السجود، وإذا رفعتم من السجود، فلا تكبروا، ولا تسلموا؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا سجد القارئ وهو يصلي، فإنه يكبر للسجود، وللرفع منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ - لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30] اللهم بارك لنا في القرآن العظيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين.

الخطبة الخامسة في فضل ليلة القدر وقيام الليل

[الخطبة الخامسة في فضل ليلة القدر وقيام الليل] الخطبة الخامسة في فضل ليلة القدر وقيام الليل الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات، ووفق من شاء منهم لاغتنام هذه المواسم بفعل الخيرات، وخذل من شاء منهم، فكان حظه التفريط والخسران والندامات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات وواسع الكرم والجود والهبات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الدهور والأوقات، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واغتنموا مواسم الخير بعمارتها بما يقرب إلى ربكم، واحذروا من التفريط والإضاعة، فستندمون على تفريطكم وإضاعتكم. إخواني من لم يربح في هذا الشهر الكريم، ففي أي وقت يربح، ومن لم ينب فيه مولاه، ففي أي وقت ينيب، ويصلح، ومن لم يزل متقاعدا عن الخيرات، ففي أي وقت تحصل له الإستقامة، ويفلح، فبادروا يرحمكم الله فرص هذا الشهر قبل فواتها، واحفظوا نفوسكم عما فيه شقاؤها وهلاكها، ألا وإن شهركم الكريم قد أخذ بالنقص والاضمحلال، وشارفت لياليه، وأيامه الثمينة على الانتهاء والزوال، فتداركوا أيها المسلمون ما بقي منه بصالح الأعمال، وبادروا بالتوبة من ذنوبكم لذي العظمة والجلال، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فأحسنوا الختام لقد مضى من هذا الشهر الكريم الثلثان، وبقي منه الثلث وقت العشر الحسان، فاغتنموها بالعزائم الصادقة، وبذل المعروف والإحسان، وقوموا في دياجيها لربكم خاضعين ولبره وخيراته راجين ومؤملين ومن عذابه وعقابه مستجيرين مستعيذين، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وهو الذي يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] وهو الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيعرض على عباده الجود والكرم والغفران يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وفي هذا العشر ليلة القدر المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن العزيز العليم الحكيم تنزل فيها الملائكة من السماء، وتكثر فيها الخيرات والمصالح والنعماء، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من الذنوب، ومن فرط فيها، وحرم خيرها فهو الملوم المحروم، أبهمها الله تعالى في هذه العشر، فلم يبين عينها ليتزود الناس في

جميع ليالي العشر من التهجد والقراءة والإحسان، وليتبين بذلك النشيط في طلب الخيرات من الكسلان، فإن الناس لو علموا عينها لاقتصر أكثرهم على قيام تلك الليلة دون ما سواها. ولو علموا عينها ما حصل كمال الامتحان في علو الهمة وأدناها، فاطلبوها رحمكم الله بجد وإخلاص، واسألوا الله فيها الغنيمة من البر والخيرات والسلامة من الافلاس، فإذا مررتم بآية رحمة، فاسألوا الله من فضله، وإذا مررتم بآية وعيد، فتعوذوا بالله من عذابه، وأكثروا في ركوعكم من تعظيم ذي العظمة والجلال، وأما السجود، فاجتهدوا فيه بعد التسبيح بالدعاء بما تحبون، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ويجوز للإنسان أن يدعو لنفسه ولوالديه وذريته وأقاربه ومن أحب من المسلمين، وأطيلوا القيام بعد الركوع والجلوس بين السجدتين لتتناسب أركان الصلاة من القيام والركوع والجلوس والسجود والقيام بعد الركوع محل حمد وثناء، فأكثروا فيه الحمد والثناء والجلوس بين السجدتين محل دعاء بالمغفرة والرحمة، فأكثروا فيه من الدعاء، وافتتحوا قيام الليل بركعتين خفيفتين؛ لأن الشيطان يعقد على قافية العبد إذا نام ثلاث عقد، فإذا قام، وذكر الله انحلت عقدة، فإذا تطهر انحلت الثانية، ثم إذا صلى انحلت الثالثة، ولكن إذا جاء أحدكم المسجد، وقد أقام الإمام، فليدخل معه، ولو لم يفتتح القيام بركعتين خفيفتين؛ لأن متابعة الإمام أهم، وهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن بعض الناس يجعل فرجة في الصف للمؤذن أو القارئ بعد الشروع في الصلاة، وهذا خلاف المشروع، فإن المشروع سد فرج الصفوف والمراصة إذا شرعت الصلاة، فإذا جاء المؤذن أو القاريء دخل حيث ينتهي به الصف. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى في فضل ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ - تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ - سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة السادسة في أحكام زكاة الفطر

[الخطبة السادسة في أحكام زكاة الفطر] الخطبة السادسة في أحكام زكاة الفطر الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، والحمد لله الذي أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وفكروا في أمركم ماذا عملتم في شهركم الكريم، فإنه ضيف كريم قارب الزوال، وأوشك على الانتهاء والارتحال، وسيكون شاهدا لكم، أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا أيها المسلمون ما بقي منه بصالح الأعمال والتوبة إلى الله والاستغفار لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والاهمال لقد كانت أيام هذا الشهر الكريم معمورة بالصيام والذكر والقرآن ولياليه منيرة بالصلاة والقيام وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي، ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر، وتلك الليالي الدرر كالساعة من نهار، فيا أسفا على تلك الليالي والأيام لقد مضت أوقات شهرنا سراعا، وكان كثير منها في التفريط مضاعا، فنسأل الله تعالى أن يخلف علينا ما مضى منها، وأن يبارك لنا فيما بقي منها، وأن يختم لنا شهرنا بالعفو والغفران والقبول والعتق من النار وبلوغ المأمول، وأن يعيد أمثاله علينا في خير وأمن وإيمان. أيها المسلمون: لقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيماننا، وتكمل بها عباداتنا، وتتم بها علينا نعمة ربنا شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد، فأما زكاة الفطر فهي صاع من طعام صاع من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من قوت الآدميين، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من طعام، وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء، فهو أفضل وأعظم أجرا، فطيبوا بها نفسا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب مع أنه الأفضل عند الله وأكثر أجرا. ويجوز للإنسان أن يوزع الفطرة الواحدة

على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين، فأكثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر الفطرة بصاع، ولم يبين قدر من يعطي، فدل على أن الأمر واسع، وعلى هذا لو كال أهل البيت فطرتهم، وجمعوها في كيس واحد، وصاروا يأخذون منها للتوزيع من غير كيل، فلا بأس لكن إذا لم يكيلوها عند التوزيع، فليخبروا الفقير بأنهم لا يعلمون عن كيلها خوفا أن يدفعها عن نفسه، وهي أقل من الصاع. وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين على الصغير والكبير والذكر والأنثى، فأخرجوها عن أنفسكم، وعمن تنفقون عليه من الزوجات والأقارب، ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في البطن، فإن أخرج عنه فهو خير، والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط، ولا تجزئ بعد صلاة العيد إلا إذا كان الإنسان جاهلا لا يدري مثل أن يأتي العيد بغتة، ولا يتمكن من أدائها قبل الصلاة أو يظن أنه لا بأس بتأخيرها عن الصلاة، فهذا تجزئه بعد الصلاة، ولا يجزئ دفع زكاة الفطر إلا للفقراء خاصة، والواجب أن تصل إلى الفقير، أو وكيله في وقتها، ويجوز للفقير أن يوكل شخصا في قبض ما يدفع إليه من زكاة، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل، فكأنها وصلت إلى يد موكله، فإذا كنت تحب أن تدفع فطرتك لشخص، وأنت تخشى أن لا تراه وقت إخراجها، فمره أن يوكل أحدا يقبضها منك، أو يوكلك أنت في القبض له من نفسك، فإذا جاء وقت دفعها، فخذها له بكيس أو غيره، وابقها أمانة عندك حتى يأتي، وأما التكبير فقد أمر الله به تعالى في كتابه، فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] أي: على ما وفقكم له من الصيام، والقيام وغيرهما من الطاعات في هذا الشهر، فكبروا أيها المسلمون من غروب شمس ليلة العيد إلى الصلاة قولوا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، قولوا: ذلك جهرا في المساجد، والأسواق، والبيوت، إلا النساء، فإنهن يكبرن سرا لا جهرا. وأما الصلاة فقد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى النساء، فاخرجوا رحمكم الله إلى الصلاة رجالا ونساء كبارا وصغارا، ولتخرج النساء غير متجملات، ولا متطيبات، وتعتزل الحائض المصلى؛ لأن مصلى العيد مسجد، أما الرجال، فالسنة أن يخرجوا متطيبين لابسين أحسن ثيابهم بعد الاغتسال والتنظيف، والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو نحوها من الوتر، وسمعت أن بعض النساء يخرجن

بالتمر معهن إلى مصلى العيد يفطرن فيه، وهذا بدعة لا أصل له، وبعضهن يفعل ذلك إذا جاء خبر العيد بعد الفجر يقلن: ما نفطر إلا بالمصلى وهذا أيضا لا أصل له بل الواجب أن ينوي الإنسان الفطر من حين أن يثبت العيد؛ لأن إمساك يوم العيد حرام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الأولى لعيد الفطر المبارك

[الخطبة الأولى لعيد الفطر المبارك] الخطبة الأولى لعيد الفطر المبارك يكبر تسع مرات متوالية، ثم يقول: - الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الحمد لله الذي سهل لعباده طرق العبادة، ويسر، وتابع لهم مواسم الخيرات، لتزدان أوقاتهم بالطاعات، وتعمر، فما انقضى شهر الصيام حتى حلت شهور حج بيت الله المطهر نحمده على أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ونعمه التي لا تنحصر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد المتفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أنصح من دعا إلى الله، وبشر، وأنذر، وأفضل من تعبد لله، وصلى، وزكى، وصام، وحج، واعتمر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما بدا الصباح، وأنور، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمته عليكم بهذا الدين القيم دين الإسلام الذي أكمله الله لكم ورضيه لكم دينا، وأتم به عليكم النعمة، ثم اشكروه حيث هداكم له، وقد أضل عنه كثيرا، فأصبحت عقيدتكم أقوى العقائد وأعمالكم أكمل الأعمال وغايتكم أفضل الغايات أما عقيدتكم، فهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. تؤمنون بالله وأسمائه وصفاته؛ لأنكم تشاهدون آياته في كل شيء، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد ففي أنفسكم آيات وفي السماوات والأرض آيات، وفي اختلاف الليل والنهار آيات، وفي تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات، وفي كل مخلوق من مخلوقاته آيات تدل على كمال وحدانيته وتمام سلطانه وربوبيته وبالغ علمه وحكمته وواسع فضله ورحمته؛ لأن هذا الكون لا يمكن أن يوجد نفسه، ولا يمكن أن يوجد صدفة بل لا بد له من مدبر خالق هو الله وحده لا شريك له أما عملكم، فهو أكمل الأعمال؛ لأنكم تسيرون على نور من الله وبرهان مهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فحققوا رحمكم الله السير على ذلك كما يجب أن تحققوه أقيموا الصلاة، وحافظوا عليها، فإنها عماد دينكم، ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة حافظوا عليها، ولا تضيعوها، فتكونوا ممن قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59 - 60]

أدوا الزكاة إلى مستحقيها كاملة من غير نقص، فإنها قرينة الصلاة في كثير من آيات القرآن، ولا تبخلوا بها، فتطوقوا بها يوم القيامة. صوموا رمضان حجوا البيت الحرام، فهذه أركان الإسلام من حافظ عليها سهل عليه بقية فروع الدين، وانشرح صدره لأوامر الله ورسوله، ومن لم يحافظ على أركان الإسلام ضاق صدره بفروعه، وصعب عليه القيام به، فحافظوا رحمكم الله على دينكم، واتقوا الله ما استطعتم لتحققوا بذلك الغاية الحميدة، وهي رضا الله، والفوز بدار كرامته مع ما يتبع ذلك من الحياة الطيبة قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] عباد الله: لو سألتم أي واحد ما هي أمنيتك؟ لقال: أمنيتي أن أعيش سعيدا، وأموت حميدا، وأبعث آمنا، وهذه الأمنية تتحقق يقينا لكل من عمل صالحا وهو مؤمن، وما أيسر ذلك لمن يسره الله له. عباد الله: إن التمسك بدينكم يكفل لكم الحياة الطيبة والأجر العظيم الحياة الطيبة حياة النصر والعز والرخاء والكرامة وأكبر شاهد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في قوم أميين متخلفين في العلم والحضارة والسيطرة، فما لبث هؤلاء القوم حين تمسكوا بالإسلام حتى صاروا قادة العالم في العلم والحضارة والأخلاق، وسادوا الناس عزة بعد الذل وتقدما بعد التخلف، وإن الدين الذي تمسك به أولئك السادة لا يزال هو الدين محفوظا في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو تمسك به المسلمون تمسكا صحيحا، وطبقوه تطبيقا إيجابيا في جميع أمورهم لسادوا العالم كما حصل ذلك لأسلافهم، قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] ولكن المسلمين فرطوا في كثير من أمور دينهم، وأعرض كثير منهم عن كتاب الله وسنة رسوله إلى نظم تخبطوا بها خبط عشواء ما أنزل الله بها من سلطان، فضلوا، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، فتفككت الأمة الإسلامية، وانتقضت عراها، وتداعت عليهم الأمم، وصاروا أذلة بعد العزة وضعفاء بعد القوة ومتفرقين بعد الألفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. عباد الله: إن الإسلام يأمر بإخلاص العبادة لله، وينهى عن الرياء يأمر باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم

وخلفائه الراشدين، وينهى عن البدع في الدين يأمر ببر الوالدين، وينهى عن العقوق، يأمر بصلة الأقارب، وينهى عن القطيعة، يأمر بالعدل، وهو إعطاء كل ذي حق حقه من غير نقص، وينهى عن الجور، وهو الظلم يأمر بالصدق والنصح والأمانة، وينهى عن الكذب والغش والخيانة يأمر بتطهير القلوب من الغل والحقد على المسلمين، وينهى عن البغضاء والعداوة يأمر بالحزم والقوة، وينهى عن الكسل والضعف، فهو دين يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وفساد. عباد الله: إن من محاسن دين الإسلام هذا العيد السعيد اليوم الذي توج الله به شهر الصيام وافتتح أشهر الحج إلى بيته الحرام، وهو اليوم الذي يخرج فيه المسلمون فرحين بما أنعم الله به عليهم من إتمام الصيام والقيام. يؤدون صلاة العيد تعظيما لله وإقامة لذكره، وبرهانا على ما قام بقلوبهم من محبته وشكره يحسنون الظن بمولاهم؛ لأنه عند ظن عبده به يؤملون منه كل خير؛ لأنه صاحب الفضل والإحسان العميم يسألون الجواد الكريم الذي من عليهم بالعمل أن يمن عليهم بقبول ذلك، وأن يجعلهم من الرابحين. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، يا منان يا بديع السماوات والأرض، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تمن علينا بمحبتك والإخلاص لك ومحبة رسولك، والاتباع به، ومحبة شرعك، والتمسك به اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك الله يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم تقبل صيامنا، وقيامنا، وأعد علينا من بركات هذا اليوم، وأعد أمثاله علينا، ونحن نتمتع بالإيمان، والأمن، والعافية، اللهم صل، وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله. . الخ.

خطبة أولى لعيد الفطر أيضا

[خطبة أولى لعيد الفطر أيضا] خطبة أولى لعيد الفطر أيضا يكبر تسع مرات متوالية ثم يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. الله أكبر ما نطق بذكره وتعظيمه ناطق، الله أكبر ما صدق في قصده وعمله صادق، الله أكبر ما أقيمت شعائر الدين الله أكبر ما رفرفت بالنصر أعلام المؤمنين، الله أكبر كلما صام صائم، وأفطر، وكلما لاح صباح عيد، وأسفر الله أكبر، كلما لاح برق، وأنور، وكلما أرعد سحاب، وأمطر الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة، ويسر، ووفاهم أجورهم من خزائن جوده التي لا تنفد، ولا تحصر، ومن عليهم بأعياد تعود عليهم بالخيرات، والبركات، وتتكرر، وتابع لهم بين مواسم العبادة لتشيد الأوقات بالطاعة، وتعمر فما انقضى شهر الصيام حتى أعقبه بشهور حج بيت الله المطهر نحمده على نعمه التي لا تحصى، ولا تحصر، ونشكره على فضله وإحسانه، وحق له أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله انفرد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده بأجل مقدر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله، وصلى، وزكى، وحج، واعتمر صلى الله عليه، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهر وعلى أصحابه الذين سبقوا إلى الخيرات، فنعم الصحب والمعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر، وأنور، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعرفوا نعمته عليكم بهذا العيد السعيد، فإنه اليوم الذي توج الله به شهر الصيام، وافتتح به أشهر الحج إلى بيته الحرام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام عيد امتلأت القلوب به فرحا وسرورا، وازدانت به الأرض بهجة ونورا؛ لأنه اليوم الذي يخرج فيه المسلمون إلى مصلاهم لربهم حامدين معظمين، وبنعمته بإتمام الصيام والقيام مغتبطين ولخيره وثوابه مؤملين راجين يسألون ربهم الجواد الكريم أن يتقبل عملهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، وأن يعيد عليهم مثل هذا اليوم، وهم في خير وأمن وإيمان واجتماع على الحق والعبادة وابتعاد عن الباطل والعصيان. عيدنا معشر المسلمين ليس عيد مبتدعة، ولا مشركين، فالأعياد الشرعية ثلاثة عيد الأسبوع

وهو يوم الجمعة، وعيد الفطر وعيد النحر، وليس في الإسلام سواها عيد ليس في الإسلام عيد لميلاد، ولا لانتصار جيوش وأجناد، ولا لتسلم زمام الملك والرئاسة على العباد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقم أصحابه، وهو أحب الناس إليهم لميلاده عيدا، وهذه انتصارات المسلمين في بدر واليرموك والقادسية وغيرها لم يقم المسلمون لها عيدا، وهذا قيام الخلافة لأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وأكرم بهم قادة خلفاء وولاة أمناء لم يقم المسلمون لقيام الخلافة فيهم عيدا، ولو كانت إقامة الأعياد لمثل هذه الأمور خيرا لسبقنا إليه من سبقونا في العلم والعبادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة المسلمين في العلم بعدهم، واعلموا رحمكم الله أنه قد ثبت دخول شهر شوال هذا اليوم ثبوتا شرعيا، وإن اختلاف البلدان في دخول الشهر غير ضار، وذلك لأن مطالع القمر تختلف بحسب البلدان بإجماع أهل المعرفة في ذلك، فإذا كانت الشمس تزول هنا مثلا قبل من كان غربا عنا، وتجب علينا صلاة الظهر، ولا تجب عليهم؛ لأن الشمس لم تزل عندهم كذلك ربما يرى القمر في منطقة ما، فيثبت دخول الشهر في حقهم دون من لم يروه، فيثبت العيد في حق من رأوه، ولا يثبت العيد في حق من لم يروه. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، والله أكبر، ولله الحمد، واشكروا أيها المسلمون نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم والصراط المستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات والأرض صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ألا وهو دين الإسلام الذي أكمله الله لعباده، ورضيه لهم دينا، وأتم به النعمة عليهم، فهو دين الهدى والحق والصلاح والرشد دين يأمر بعبادة الله وحده، ويأمر بالصدق والنصح والعدل والإحسان، وينهى عن الشكر والكذب والغش والجور والطغيان يأمر بكل خلق شريف فاضل، وينهى عن كل خلق رزيل سافل إذا تأمله العاقل المنصف عرف قدره، وأنه لو تجمع أذكياء العالم كلهم، واتعبوا قرائحهم وأذهانهم في تشريع نظم تساوي نظمه لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، ولعاد الذهن خاسئا كليلا، فلا حكم أحسن من حكم الله، ولا قوانين، ولا نظما أقوم للعباد مما سنه الله، فتمسكوا به ترشدوا واسلكوا، طريقه تهتدوا، وتعبدوا الله به تسعدوا، وانصروه بمحاربة من عاداه تنصروا قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] أيها المسلمون: إننا اليوم بحاجة ماسة إلى التآلف والتناصح وتوحيد القصد والعمل

والتعاون في الحق، وأن نعالج مشاكلنا وأمراضنا الدينية والاجتماعية معالجة المخلص الذي يقصد حصول المصلحة، واندفاع المضرة لا يقصد انتصارا لنفسه، ولا مجرد أخذ برأيه، ولا التنكيت واللوم على غيره، وإنما يقصد إصلاح الدين والمجتمع، وبهذه النية الطيية، وبسلوك الحكمة في الوصول إلى المطلوب يحصل الفلاح، والنجاح إن شاء الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية لعيد الفطر المبارك

[الخطبة الثانية لعيد الفطر المبارك] الخطبة الثانية لعيد الفطر المبارك يكبر سبع مرات متوالية، ثم يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند، ولا مضاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع العباد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام فإن ذلك من أكبر النعم، واسألوه أن يتقبل ذلك منكم، ويتجاوز عما حصل من التفريط والإهمال، فإنه تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين، واعلموا أن النبيي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر» وتفسير ذلك أن صيام رمضان يقابل عشرة أشهر، وصيام ست من شوال يقابل شهرين، فذلك تمام العام، وأما الصيام يوم واحد بعد العيد، وتسميته يوم الصبر، فهذا غير صحيح، ويوم الصبر كل يوم تصوم فيه، فهو يوم صبر؛ لأنك تصبر نفسك، وتمنعها مما يمتنع في الصيام، وقد اعتقد بعض العوام أن من صام الست في سنة لزمه أن يصومها كل سنة، وهذا غير صحيح، فصيام الست سنة فيها ما سمعتم من الفضل، ولا بأس أن يصومها الإنسان سنة، ويتركها أخرى، ولكن الأفضل أن يصومها كل سنة، ولا يحرم نفسه من ثوابها. أيها الناس: تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37] يوم تفرق الصحف ذات اليمين وذات الشمال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7 - 12] يوم توضع الموازين: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ - تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 102 - 105]

يوم ينصب الصراط على جهنم، فتمرون عليه عليه بقدر أعمالكم ومسابقتكم في الخيرات، فمن كان سريعا في الدنيا في مرضاة الله كان سريعا في مروره على الصراط، ومن كان بطيئا في الدنيا في مرضاة الله ومتثاقلا فيها كان مروره على الصراط كذلك جزاء وفاقا، فاستبقوا الخيرات أيها المسلمون، وأعدوا لهذا اليوم عدته لعلكم تفلحون، واعلموا أن السنة لمن خرج إلى مصلى العيد من طريق أن يرجع من طريق أخرى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإظهارا لشعائر الله، وتعرفا إلى عباد الله في كل طريق، ولقد جرت عادة الناس أن يتصافحوا، ويهنئ بعضهم بعضا في العيد، وهذه عادة حسنة تجلب المودة، وتزيل البغضاء أما زيارة القبور في هذا اليوم بالذات، فلم أعلم لها أصلا من الشرع، فزيارة القبور مشروعة في كل وقت، ولم يرد تخصيص يوم العيد بزيارتها. أيها الناس (قبل انتهاء خطبتنا هذه) أحب أن أوجه موعظة للنساء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظهن في صلاة العيد بعد الرجال. فأقول أيتها النساء: إن عليكن أن تتقين الله في أنفسكن، وأن تحفظن حدوده، وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله أيتها النساء: لا يغرنكم ما يفعله بعض النساء من الخروج إلى الأسواق بالتبرج والطيب وكشف الوجه واليدين أو وضع ستر رقيق لا يستر، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، وذكر نساء كاسيات عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها» وإذا مشيتن في الأسواق، فعليكن بالسكينة، ولا تزاحمن الرجال، ولا ترفعن أصواتكن، ولا تلبسن بناتكن ألبسة مكروهة، ولا تتشبهن بالرجال فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وقال صلى الله وعليه وسلم للنساء: «رأيتكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» . اللهم إن عبادك خرجوا إلى هذا المكان يرجوان ثوابك وفضلك، ويخافون عذابك اللهم حقق لنا ما نرجو، وآمنا مما تخاف اللهم تقبل منا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم انصرنا على عدونا، واجمع كلمتنا على الحق، ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى إنك جواد كريم.

الفرع الخامس في الحج والأضحية

[الفرع الخامس في الحج والأضحية] [الخطبة الأولى في شروط وجوب الحج] الفرع الخامس في الحج والأضحية الخطبة الأولى في شروط وجوب الحج الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام، وفرض على المستطيع منهم حج بيته الحرام، ورتب عليه جزيل الفضل والإنعام، فمن حج البيت، ولم يرفث، ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب والآثام، وذلك هو الحج المبرور ليس جزاء إلا الفوز بالجنة دار السلام أحمده، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واحمدوا ربكم أن أكمل لكم الدين، وأتم عليكم النعمة، ويسر لكم سبل الخيرات حتى أصبحت في متناول أيديكم من غير كلفة، فلقد كان الناس فيما مضى يعانون من الوصول إلى البيت أنواع الكلفة والمشقات، يعانون كثرة النفقات المالية والمشقة البدنية، وتحمل الأخطار، أما اليوم، ولله الحمد، فقد أصبح الأمر يسيرا، ويسر الله بنعمته وفضله ما كان عسيرا، فأصبحتم تصلون إلى البيت الحرام بكل سهولة نفقات يسيرة ومراكب مريحة، وأمن وافر وطمأنينة كاملة، وعيش رغد، فاشكروا الله أيها المسلمون على هذه النعمة، واغتنموها، وانتهزوا فرص الخيرات، وابتدروها، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج، وتزودوا من التطوع به، فإن التطوع تكمل به الفريضة. واعلموا أن الله فرض الحج على المسلم، إذا تمت فيه شروط أربعة (الأول) : أن يكون بالغا، فأما الذي لم يبلغ، فإنه لا يجب عليه الحج، ولكن إذا حج، فله أجره، وإذا بلغ حج فريضة الإسلام، وإذا سافرتم بالصغار إلى الحج، فأنتم بالخيار إن شئتم، فحججوهم، وإن شئتم، فاتركوهم، وإذا حججتموهم، فلهم أجر الحج، ولكم أجر المعونة، والسبب (الشرط الثاني) : أن يكون عاقلا، فأما المجنون الذي لا يعقل، فلا حج عليه إلا أن يكون عاقلا بعد بلوغه، ووجب عليه الحج، ثم حصل له الجنون بعد ذلك. (الشرط الثالث) : أن يكون حرا، فأما العبد الرقيق الذي يباع، ويشترى، فلا حج عليه (الشرط الرابع) : أن يكون مستطيعا بماله، وبدنه، فمن لم يكن مستطيعا بماله، وهو الفقير، فلا حج عليه لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وإذا كان على الإنسان

دين، فإنه يقضي دينه، ثم يحج؛ لأن براءة الذمة أهم. وإذا كان الإنسان عاجزا عن الحج بنفسه، وعنده مال، فإن كان عجزا مستمرا لا يرجى زواله، فلينوب من يحج عنه مثل الكبير الذي لا يستطيع بنفسه، والمريض مرضا لا يرجى برؤه، وإن كان يرجى زوال عجزه، فإنه لا ينيب، بل يصبر حتى يزول العجز، ثم يؤدي الفريضة بنفسه ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم، فأما المرآة التي لا محرم لها، فإنه لا يجب عليها الحج، ولا يجوز لها أن تسافر بلا محرم، فإن سافرت بلا محرم، فهي في إثم ومعصية لله ولرسوله من حين تخرج من بلدها حتى يرجع إليه، فلتمكث في بيتها حتى ييسر الله لها محرما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة، إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة، إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال يا رسول الله: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق، فحج مع امرأتك» . والمحرم هو زوجها، وكل من تحرم عليمه تحريما مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة مثل الأب والجد والابن والأخ وابن الأخت والعم والخال من نسب أو رضاع، ومثل أبي الزوج، وإن علا وابنه، وإن نزل، وزوج البنت، وإن نزلت، وزوج الأم، وإن علت لكن زوج الأم لا يكون محرما لبنتها حتى يطأ الأم، فكل هؤلاء محارم للمرأة، والحكمة في وجوب استصحاب المحرم حفظ المرأة، وصاينتها، وأما قول بعض العوام: إن ذلك من أجل أن يفكك حزائمها لو ماتت، فهو غير صحيح؛ لأن كل أحد يجوز أن يفكك حزائم المرأة، إذا ماتت سواء كان محرما لها، أو غير محرم، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على قبر ابنته، وهي تدفن، وعيناه تدمعان، فأمر أبا طلحة أن ينزل في قبرها، فنزل والرسول صلى الله عليه وسلم حاضر زوجها وعثمان رضي الله عنه حاضر. أيها الناس: لقد شاع عند كثير من العوام أن الإنسان إذا لم يتمم له أي: يعق عنه فإنه لا يحج، والواقع أنه لا علاقة بين الحج، وبين التميمة، فالإنسان إذا حج، فله حجه سواء تمم له، أو ما تمم له. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في صفة الحج والعمرة

[الخطبة الثانية في صفة الحج والعمرة] الخطبة الثانية في صفة الحج والعمرة الحمد لله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، وجعل دينه مبنيا على تحقيق العبادة لله رب العالمين، ميسرا، سمحا، سهلا، لا حرج فيه، ولا مشقة، ولا تضيق، ولا تعسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي القدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام راجين من الله تكفير ذنوبكم والآثام والفوز بدار السلام والخلف العاجل عما انفقتموه في هذا السبيل من الأموال فيا أيها المسلمون إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته إلى أمكنة فاضلة تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات لستم تريدون بذلك نزهة، ولا فخرا، ولا رياء بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله، وتخضعون فيها لعظمة ربكم، فأدوها أيها المسلمون كما أمرتم من غير غلو، ولا تقصير، ولا إهمال، ولا تفريط، وقوموا فيها بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرها من شرائع الدين إذا خرجتم مسافرين إليها، فاستحضروا أنكم خارجون لعبادة من أجل الطاعات، وفي سفركم التزموا القيام بالواجبات من الطهارة والجماعة للصلاة، فإن كثيرا من الناس يفرطون في الطهارة، فيتيممون مع إمكان الحصول على الماء، وإن من وجد الماء، فلا يجوز له أن يتيمم، وبعض الناس يتهاون بالصلاة مع الجماعة، فتجده يتشاغل عنها بأشياء يدركها بعد الصلاة، وإذا صليتم، فصلوا قصرا تجعلون الصلاة الرباعية ركعتين من خروجكم من بلدكم حتى ترجعوا إليه، إلا أن تصلوا خلف إمام يتم، فأتموها أربعا تبعا للإمام سواء أدركتم الصلاة، أو فاتكم شيء منها، وأما الجمع، فإن السنة للمسافر، ألا يجمع إلا إذا جد به السير، وأما النازل في مكان، فالسنة ألا يجمع، وأما الرواتب التابعة للمكتوبات، فالأولى تركها إلا سنة الفجر، وأما الوتر، وبقية النوافل، فإنهما يفعلان في الحضر والسفر، وتحلوا بالأخلاق الفاضلة من، السخاء، والكرم، وطلاقه الوجه، والصبر على الآلام، والتحمل من الناس، فإن الأمر لا يدوم، وللصبر عاقبة محمودة، وحلاوة لذيذة، وإذا وصلتم الميقات، فاغتسلوا، وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية، ثم أحرموا بالعمرة متمتعين، وسيروا إلى مكة ملبين، فإذا بلغتم البيت الحرام، فطوفوا سبعة أشواط

طواف العمرة، واعلموا أن جميع المساجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد لكن القرب منها أفضل، إذ لم تتأذ بالزحام، فإذا كان زحام، فأبعد عنه، والأمر واسع، ولله الحمد، فإذا فرغتم من الطواف، فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم إما قريبا منه، إن تيسر، وإلا فلو بعيد المهم أن يكون المقام بينك وبين الكعبة، ثم اخرجوا لسعي العمرة، وابدأوا بالصفا، فإذا أكملتم الأشواط السبعة، فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس، ولا يجزئ التقصير من جانب واحد لا تغتروا بفعل الكثير من الناس، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، فاغتسلوا، وتطيبوا، وأحرموا بالحج من مكان نزولكم، واخرجوا إلى منى، وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر قصرا من غير جمع؛ لأن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يقصر بمنى، وفي مكة، ولا يجمع، فإذا طلعت الشمس يوم عرفة، فسيروا ملبين خاشعين لله إلى عرفة، واجمعوا فيها بين الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين، ثم تفرغوا للدعاء، والابتهال إلى الله، واحرصوا أن تكونوا على طهارة، واستقبلوا القبلة، ولو كان الجبل خلفكم؛ لأن المشروع إستقبال القبلة، وانتبهوا جيدا لحدود عرفة وعلاماتها، فإن كثيرا من الحجاج يقفون دونها، ومن لم يقف بعرفة، فلا حج له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» . وكل عرفة موقف شرقيها وغربيها وجنوبيها وشماليها، إلا بطن الوادي وادي عرنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف» . فإذا غربت الشمس، وتحققتم غروبها، فادفعوا إلى مزدلفة ملبين خاشعين، والزموا السكينة ما أمكنكم كما أمركم بذلك نبيكم صلى الله عليه وسلم، فلقد دفع من عرفة، وقد شنق لناقته الزمام، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده الكريمة: «أيها الناس السكينة السكينة» . فإذا وصلتم مزدلفة، فصلوا بها المغرب والعشاء، ثم بيتوا بها إلى الفجر، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد في الدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا للضعفة رخص لهم أن يدفعوا في آخر الليل، فإذا صليتم الفجر، فاتجهوا إلى القبلة، وكبروا الله، واحمدوه، وادعوه حتى تسفروا جدا، ثم سيروا قبل طلوع الشمس إلى منى، ثم القطوا سبع حصيات، واذهبوا إلى جمرة العقبة، وهي الأخيرة التي تلي مكة، وارموها بعد طلوع الشمس بسبع تكبرون الله مع كل حصاة خاضعين له معظمين، واعلموا أن المقصود من الرمي تعظيم الله، وإقامة ذكره، ويجب أن تقع الحصاة في الحوض، وليس بشرط أن تضرب العمود، فإذا فرغتم من رمي الجمرة، فاذبحوا الهدي، ولا يجزئ في الهدي إلا ما يجزئ في الأضحية، ولا بأس أن توكل شخصا يذبح

لك ثم احلقوا بعد الذبح رؤوسكم، ويجب حلق جميع الرأس، ولا يجوز حلق جميع الرأس، ولا يجوز حلق بعضه دون بعض المرأة تقصر من أطراف رأسها بقدر أنملة، وبعد ذلك حللتم التحلل الأول، فالبسوا، وقصوا أظفاركم، وتطيبوا، ولا تأتوا النساء، ثم انزلوا قبل صلاة الظهر إلى مكة، وطوفوا للحج، واسعوا، ثم، ارجعوا إلى منى، وبالطواف والسعي مع الرمي، والحلق حللتم التحلل الثاني، وجاز لكم كل شيء حتى النساء. أيها الناس: إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك رمي الجمرة، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، والسعي، وهذا هو الترتيب الأكمل، ولكن لو قدمتم بعضها على بعض، فحلقتم قبل الذبح مثلا، فلا حرج، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى، فلا حرج، ولو أخرتم الذبح، وذبحتم في مكة في اليوم الثالث عشر، فلا حرج لا سيما مع الحاجة والمصلحة، وبيتوا ليلة الحادي عشر بمنى، فإذا زالت الشمس، فارموا الجمرات الثلاث مبتدئين بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة كل واحدة بسبع حصيات تكبرون مع كل حصاة، ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس، وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس، ولا يجوز قبل الزوال، ويجوز الرمي في الليل، إذا كان الزحام شديدا في النهار، ومن كان لا يستطيع الرمي بنفسه لصغر أو كبر أو مرض، فله أن يوكل من يرمي عنه، ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه، وعمن وكله في مقام واحد لكن يبدأ بالرمي لنفسه، فإذا رميتم اليوم الثاني عشر، فقد انتهى الحج، وأنتم بالخيار، إن شئتم تعجلتم، ونزلتم، وإن شئتم، فبيتوا ليلة الثالث عشر، وارموا الجمار الثلاث بعد الزوال، وهذا أفضل؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أردتم الخروج من مكة، فطوفوا للوداع، والحائض والنفساء لا وداع عليهما، ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد، والوقوف عنده. أيها المسلمون: هذه صفة الحج، فاتقوا الله فيه، ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ - لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ - ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 27 - 29] بارك الله لي ولكم. . . الخ.

الخطبة الثالثة في نماذج من محظورات الإحرام

[الخطبة الثالثة في نماذج من محظورات الإحرام] الخطبة الثالثة في نماذج من محظورات الإحرام الحمد لله العظيم القهار القوي القدير الجبار فرض الفرائض، وحد الحدود، وربك يخلق ما يشاء، ويختار أمر بتعظيم شعائره، وجعل ذلك من تقوى القلوب، ورتب على ذلك الفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المطلع على الظواهر والبواطن، وهو علام الغيوب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى، وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وعظموا شعائره، فإن ذلك من تقوى القلوب، ومن يعظم حرمات الله، فهو خير له عند ربه يكفر عنه سيئاته، ويرفع درجاته، وينجيه من كل مكروب ألا وإن من شعائر الله مناسك الحج والعمرة، فعظموها، واحترموها، واجتنبوا محظوراتها لعلكم تفلحون، واعلموا أيها الناس أن من محظورات الإحرام حلق الشعر، أو قصه، أوإزالته بأي مزيل كان، فلا يجوز للمحرم رجلا كان أو إمرأة أن يزيل شيئا من شعره، ويجوز له أن يحك رأسه برفق، فإن سقط بذلك شعر من غير قصد، فلا حرج عليه، وإذا كان في عين الإنسان شعر يؤذيه، فلا بأس أن يأخذه بالمنقاش، ومن محظورات الإحرام إزالة الأظفار بتقليم أو قص، فلا يجوز للمحرم أن يقص شيئا من أظفاره، فإن إنكسر من أظفاره شيء، وآذاه، فلا بأس أن يقص المنكسر الذي يؤذيه خاصة، ولا شيء عليه، ومن محظورات الإحرام الطيب، فلا يجوز للمحرم أن يتطيب لا بثوبه، ولا بدنه، ولا بما يأكل، أو يشرب أما الطيب عند عقد الإحرام قبل أن ينوي الإحرام، فهو سنة للرجال والنساء، ولا يضر بقاؤه بعد الإحرام، ومن محظورات الإحرام الرفث، وهو الجماع، وما يتصل به من مباشرة بشهوة، أو نظر بشهوة، أو تقبيل لشهوة، ونحوها، فلا يجوز للمحرم أن يفعل شيئا من ذلك، ومن محظورات الإحرام عقد النكاح، فلا يجوز للمحرم عقده لنفسه، ولا لغيره، ومن محظورات الإحرام لبس القفازين، وهما شراب اليدين، فلا يجوز للمحرم أن يلبسهما، وهذه المحظورات عامة للرجال والنساء، وهنا محظورات خاصة، فمنها لبس الثياب والأكوات والمشالح والفنايل والصدرية والشراب والكنادر والسراويل والغتر والطواقي، كل هذه الملبوسات لا يجوز للرجل خاصة إذا أحرم أن يلبسها على صفة ما

يلبسها عليه عادة، ومن محظورات الإحرام على الرجل خاصة تغطية رأسه بشيء ملاصق يقصد به الستر مثل الغترة والطاقية وغيرهما ممن يستر به الرأس متصلا به، فأما الشيء الذي ليس متصلا به مثل الشمسية والخيمة وسقف السيارة، فلا بأس به، وكذلك لا بأس أن يحمل الرجل على رأسه فراشه وعفشه، وإذا خشي المحرم من الضرر ببرد، أو غيره إذا كشف رأسه، فإنه لا بأس أن يغطيه، ولكن يجب عليه أن يفدي، والفدية إما ذبح شاة يفرقها على المساكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة فقراء لكل فقير ربع صاع من البر، أو نصف صاع من غيره، ويجوز للمحرم أن يلبس الساعة والسبتة والكمر الذي فيه النفقة والمناظر التي على العين، وأن يشبك رداءه بمشبك، ولا شيء عليه بذلك خصوصا مع الحاجة أما المحظورات التي تختص بالمرأة، فهي تغطية الوجه، فلا تغطي المحرمة وجهها، إلا أن يمر الرجال قريبا منها، فإنه يجب أن تتغطى عنهم إذا لم يكونوا من محارمها، ويجوز أن تتغطى، ولو مس الغطاء وجهها، وتلبس ما شاءت من الثياب إذا لم يكن فيها تبرج عند من لا يجوز التبرج له، وهنا مسائل أحب أن أنبهكم عليها وهي: 1 - أنه يجوز للنساء وللرجال أن يلبسوا بدل الثوب الذي أحرموا به، فإذا أحب الرجل أن يغير إزاره بإزار آخر أو رداءه برداء آخر، فلا بأس، أو كذلك إذا أحبت المرأة أن تلبس غير ثيابها التي أحرمت بها فلا بأس. 2 - يجوز للمحرم أن يقلع الشجر الأخضر وغير الأخضر إلا إذا كان داخل الأميال، فإنه لا يجوز له قلع الشجر والحشيش، وعلى هذا يجوز قلع الشجر بعرفة، ولا يجوز في منى ومزدلفة؛ لأن عرفة خارج الأميال ومنى ومزدلفة داخل الأميال. 3 - يجوز للمرأة أن تلبس الشراب والكنادر، ولو كانت عند عقد الإحرام حافية، ولا يجوز للرجل أن يلبس الكنادر والشراب، وإنما يجوز له لبس النعال، ولو كان حافيا عند الإحرام. يجوز للمرأة أن تعقد الإحرام وهي حائض، وتغتسل، وتتطيب عند الإحرام كما يفعل الناس، وتحرم بالعمرة، فإذا وصلت بمكة، فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها، وحلت من إحرامها، ثم أحرمت بالحج مع الناس، وإن جاء الطلوع قبل أن تطهر، فإنها تنوي بالحج

وتكون قارنة، ويحصل لها حج وعمرة، فإذا طافت، وسعت نوت الطواف للحج والعمرة والسعي للحج والعمرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] بارك الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الرابعة في التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع

[الخطبة الرابعة في التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع] الخطبة الرابعة في التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع الحمد لله الذي بين لعباده الحق وأقام الدليل وهداهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى أكمل هدى وأهدى سبيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بدار النعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي وضح للأمة ما تحتاج إليه وينفعها من أمور الدنيا والدين حتى تركهم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك معتد أثيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفقهوا بأحكام دينكم لتعبدوا الله على بصيرة، فإن مثل من يعبد الله على علم ومن يعبده على جهل كمثل من يمشي على طريق مضيئة وطريق مظلمة، الأول عارف مواقع قدمه متيقن السلامة والثاني جاهل خائف من العطب والضلالة. أيها الناس: لقد اشتهر عند بعض العوام أن من لم يتمم له (¬1) فإنه لا حج له، وهذا خطأ فلا علاقة بين التميمة والحج، فالحج يصح فرضا ونفلا سواء تمم عن الإنسان أم لا. واشتهر عند بعض الناس أن من أحرم في ثياب فإنه لا يجوز أن يغيرها وهذا غير صحيح، فإنه لا بأس أن يغير المحرم ثيابه التي أحرم بها سواء كان رجلا أو امرأة، فيجوز للرجل أن يلبس رداء أو إزارا غير اللذين أحرم بهما، ويجوز للمرأة أن تلبس ثوبا أو مقطعا غير الذي أحرمت به. واشتهر عند بعض الناس أيضا أن المحرم لا يجوز له قطع الشجر الحي من حين أن يحرم وليس كذلك، فإن الشجر إذا كان خارج أميال الحرم جاز قطعه للمحرم وغيره، وإذا كان داخل أميال الحرم حرم قطعه على المحرم وغيره، وعلى هذا فيجوز في عرفة قطع الأشجار الحية للمحرمين وغيرهم ولا يجوز ذلك في منى ومزدلفة لأن عرفة خارج الأميال ومزدلفة ومنى داخل الأميال. ¬

(¬1) أي يعق عنه.

أيها الناس: إن بعض العوام يظن أن من لا يقبل الحجر ولا يستلمه ينقص حجه، وهذا غير صحيح فإن استلام الحجر وتقبيله سنة في حال السعة إذا لم يكن هناك زحام، أما إذا كان هناك زحام فإن السنة والأفضل في حق الإنسان أن لا يزاحم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: «يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر» وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يكره المزاحمة ويقول لا يؤذي ولا يؤذي، وعلى هذا فطواف الإنسان الذي لا يزاحم عند الضيق أفضل وأكمل من طواف الذي يزاحم فيؤذي ويؤذي، وإن بعض الناس يشكل عليه الطواف من وراء المقام، وإني أقول لكم إنه لا إشكال في ذلك فإنه يجوز الطواف ولو من وراء المقام، وقد نص أهل العلم - رحمهم الله - على أن جميع المسجد الحرام محل للطواف حتى لو طاف في الحصباء أو في الرواق جاز له ذلك، غير أن الدنو من البيت أفضل إذا لم يكن فيه أذية عليك أو على غيرك. أيها الناس لقد رأينا كثيرا من الحجاج يتزاحمون خلف المقام أيهم يكون أقرب إليه، وربما يظنون أن ركعتي الطواف لا تنفع إلا إذا كان الإنسان قريبا منه، وهذا غير صحيح فالقرب من المقام ليس بشرط في إجزاء الركعتين بل تجزئ الركعتان ولو كنت بعيدا، ولكن اجعل المقام بينك وبين الكعبة، ولو كنت في الحصباء أو في رواق المسجد إذا كان هناك زحام فالأمر ولله الحمد واسع. أيها الناس: ربما تقام الصلاة والإنسان يطوف أو يسعى، فإذا حصل ذلك فصل مع المسلمين، فإذا فرغت من الصلاة فكمل من الموضع الذي قطعت الطواف أو السعي فيه ولا حرج عليك. وربما يتعب الإنسان عقب الطواف ويجب أن يؤخر السعي إلى وقت آخر إما إلى آخر النهار أو إلى الليل أو نحو ذلك فهذا جائز لا بأس به، بل ربما يتعب في نفس السعي ويحب أن يجلس للاستراحة ثم يكمل سعيه أو يكمله على عربة ونحوها وهذا أيضا جائز لا بأس به، ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ولله الحمد. أيها الناس: كثيرا ما يسأل عن الحائض والنفساء ما تصنع في إحرامها؟ والجواب على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» وعلى هذا

فتفعل مثل ما يفعل الناس سواء بسواء إلا أنها لا تطوف حتى تطهر، والسعي تابع للطواف، فإذا أحرمت بالعمرة وهي حائض أو حاضت بعد إحرامها فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها وحلت ثم أحرمت بالحج مع الناس، وإن جاء الطلوع وهي لم تطهر نوت الحج فأدخلته على العمرة وصارت قارنة ويكفيها طواف واحد وسعي واحد لحجها وعمرتها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الخامسة في حكم الأضحية وصفاتها

[الخطبة الخامسة في حكم الأضحية وصفاتها] الخطبة الخامسة في حكم الأضحية وصفاتها الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان وقرن النحر بالصلاة في محكم القرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان، وأشهد أن محمدا عبده وسوله أفضل من قام بشرائع الإسلام وحقق الإيمان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واشكروه على ما أنعم به عليكم من مشروعية الأضاحي التي تتقربون بها إلى ربكم وتنفقون بها نفائس أموالكم، فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام، وإن لكم بكل شعرة منها حسنة وبكل صوفة حسنة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا» . أيها المسلمون: إن بذل الدراهم في الأضاحي أفضل من الصدقة بها، وإن الأضحية سنة مؤكدة جدا لمن يقدر عليها، فضحوا عن أنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين ليحصل الأجر للجميع وتقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عنه وعن أهل بيته. ولقد كان بعض الناس يحرم نفسه ويتحجر فضل ربه حيث يضحي عن والديه فقط ويدع نفسه وأهله وذريته، والأولى أن يضحي للجميع وفضل الله واسع، وهذا فيما يضحي به الإنسان من نفسه، أما الوصايا فيمشي فيها على نص الوصية، ولكن إذا كان في الوصية الواحدة عدة ضحايا والريع لا يكفي إلا لواحدة فإنه لا بأس أن تجمع الأضاحي في أضحية واحدة ويجعل ثوابها للجميع إذا كان الموصي واحدا. ولقد كان بعض الناس يضحي عن الميت في أول سنة من موته يسمونها ضحية الحفرة يجعلونها للميت خاصة، وهذه بدعة لا أعلم لها أصلا في الشريعة، كما أن بعض العوام إذا أراد أن يعين الأضحية أي يسميها لمن هي له يمسح ظهرها من وجهها إلى قفاها، والمشروع في تعيين الأضحية أن يعينها عند ذبحها باللفظ من غير مسح عليها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ذبحها بالنية من غير تلفظ باسم من هي له أجزأت نيته. والأضحية من بهيمة الأنعام. إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو المعز على اختلاف

أصنافها، ولا تجزئ إلا بشرطين الأول أن تبلغ السن المعتبر شرعا، الثاني أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع إلإجزاء، فأما السن ففي الإبل خمس سنين وفي البقر سنتان وفي المعز سنة وفي الضأن نصف سنة. وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أربع لا تجوز في الأضاحي العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى» . فالعرج البين هو الذي لا تستطيع البهيمة معه معانقة الصحيحات، والعور البين هو الذي تبرز معه العين أو تنخسف، فأما إذا كانت لا تبصر بها ولكن لا يتبين العور فيها فإنها تجزئ ولكنها تكره، والمرض البين هو الذي يظهر أثره على البهيمة إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها، ومن الأمراض البينة الجرب سواء كان قليلا أو كثيرا، فأما المرض اليسير الذي لا يظهر أثره على البهيمة فإنه لا يمنع ولكن السلامة منه أفضل. والعجف الهزل، فإذا كانت البهيمة هزيلة ليس في عظامها مخ فإنها لا تجزئ عن الأضحية. فهذه هي العيوب التي تمنع من الإجزاء، وهناك عيوب أخرى لا تمنع من الإجزاء ولكنها توجب الكراهة مثل قطع الأذن وشقها وكسر القرن، وأما سقوط الثنايا أو غيرها من الأسنان فإنه لا يضر، ولكن كلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل، والخصي والفحل سواء كلاهما قد ضحى به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إن تميز أحدهما بطيب لحم أو كبر جسم كان أفضل من هذه الناحية، والواحد من الضأن أو المعز أفضل من سبع البدنة أو البقرة، وسبع البدنة أو البقرة يقوم مقام الشاة في الإجزاء، فيجوز أن يشرك في ثوابه من شاء كما يجوز أن يشرك في ثواب الشاة من شاء، والحامل تجزئ كما تجزئ الحائل. ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبح أضحيته بيده ومن كان لا يحسن فليحضر عند ذبحها فذاك أفضل، فإن ذبحت له وهو غير حاضر أجزأت، وإن ذبحها إنسان يظن أنها أضحيته فتبين أنها لغيره أجزأت لصاحبها لا لذابحها، يعني لو كان عنده في البيت عدة ضحايا فجاء شخص فأخذ واحدة يظنها أضحيته فلما ذبحها تبين أنها أضحية شخص آخر فإنها تجزئ عن صاحبها التي هي له، ويأخذ صاحبها لحمها كأن هذا الذابح صار وكيلا له. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ - فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 1 - 2] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

خطبة أولى لعيد الأضحى

[خطبة أولى لعيد الأضحى] خطبة أولى لعيد الأضحى يكبر تسع مرات ثم يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر عدد ما أحرم الحجاج من الميقات وعدد ما رفعوا بالتلبية لله الأصوات، الله أكبر عدد ما دخل الحجاج مكة ونزلوا بتلك الرحبات، الله أكبر عدد ما طافوا بالبيت العتيق وعظموا الحرمات، الله أكبر عدد ما خرجوا إلى منى ووقفوا بعرفات وعدد ما باتوا بمزدلفة وعادوا إلى منى للمبيت ورمي الجمرات، الله أكبر عدد ما أراقوا من الدماء وحلقوا من الرؤوس تعظيما لفاطر الأرض والسماوات، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. نحمده على ما من به علينا من مواسم الخيرات وما تفضل به من جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مسبغ النعم ودافع النقم وفارج الكربات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخلق وأفضل البريات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات وسلم تسليما. عباد الله: إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر وهو عيد الأضحى والنحر هو يوم الحج الأكبر؛ لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج يرمون الجمرة الكبرى ويذبحون الهدايا ويحلقون رؤوسهم ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يضحون فيه وينحرون هداياهم، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم، وان للمضحي بكل شعرة حسنة وبكل صوفة حسنة، وهذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والسلام، وإنها لسنة مؤكدة يكره لمن قدر عليها أن يتركها وإن ذبحها لأفضل من الصدقة بثمنها لما فيها من إحياء السنة والأجر العظيم ومحبة الله لها. فضحوا أيها المسلمون عن أنفسكم وعن أهليكم متقربين بذلك إلى ربكم متبعين لسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عنه وعن أهل بيته، ومن كان منكم لا يجد الأضحية فقد ضحى عنه النبي صلى الله عليه وسلم جزاه الله عن أمته خيرا. وإذا كان منكم أحد يريد أن يتبرع بالأضحية عن والديه فلا يحرم نفسه وذريته وأهله منها وفضل الله واسع، واعلموا أنه لا أصل لما يسميه بعض الناس أضحية الحفرة، وهي التي يضحونها عن الميت أول سنة من موته يخصونه بها ولا

يدخلون معه أحدا في ثوابها فإن هذا لا أصل له في الشرع فاجتنبوه. وتجزي الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة، فلا يشترك شخصان في شاة واحدة ولا أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة، ولكن للإنسان أن يشرك في ثواب أضحيته من شاء سواء كانت شاة أم سبع بدنة أم سبع بقرة. واعلموا أن للأضحية شروطا ثلاثة الأول: - أن تبلغ السن المعتبر شرعا وهو خمس سنين في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن. الشرط الثاني: - أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي أربعة عيوب: العرجاء البين ظلعها وهي لا تعانق الصحيحة في الممشاء، والمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت آثار المرض عليها إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها، ومن المرض البين الجرب والعوراء البين عورها بأن تكون عينها العوراء ناتئة أو غائرة، أما إذا كانت لا تبصر بها ولكن عورها غير بين فإنها تجزئ مع الكراهة، والعيب الرابع العجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، فأما عيب الأذن أو القرن فإنه لا يمنع من الإجزاء ولكنه يكره، وكذلك الهثماء التي سقطت أسنانها أو بعضها فإنها تجزئ ولكنها تكره، وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل. الشرط الثالث: - من شروط الأضحية أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعا وهو من الفراغ من صلاة العيد، والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد فأيام الذبح أربعة يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وأفضلها يوم العيد والذبح في النهار أفضل ويجوز في الليل. ومن كان منكم يحسن الذبح بنفسه فليذبح أضحيته بيده، ومن كان لا يحسن فليحضر ذبحها فإن ذلك أفضل، فإذا ذبحت عنه وهو غائب فلا بأس ويسميها عند الذبح فيقول إذا أضجعها للذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك اللهم هذه عن فلان أو فلانة، هذه هي التسمية الواردة، وأما ما يفعله بعض العوام من مسح ظهرها من وجهها إلى قفاها فلا أصل له، وإذا ذبحها ونوى من هي له ولم ينطق باسمه أجزأت النية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ولكن النطق باسم من هي له أفضل اتباعا للسنة. واعلموا أن للذكاة شروطا منها أن يقول عند الذبح: بسم الله، فمن لم يقل باسم الله على الذبيحة فذبيحته ميتة نجسة حرام أكلها لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» ومن شروط الذكاة إنهار الدم بأن يقطع الحلقوم وهو مجرى النفس والمرئ وهو مجرى الطعام، ويتمم ذلك بقطع الأوداج وهي الوردان عرقان غليظان محيطان بالحلقوم يثعب منهما الدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذبيحة التي لا تفري أوداجها، وجميع الرقبة من أعلاها إلى أسفلها موضع للذبح، لكن الأفضل نحر الإبل من أسفل الرقبة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وذبح البقر والغنم من أعلى الرقبة أي مما يلي الرأس ولو ذبحها من وسط الرقبة أجزأت، واذبحوا برفق وحدوا السكين ولا تحدوها وهي تنظر، ولا تذبحوها وأختها تنظر إليها، وامروا السكين بقوة وسرعة واضجعوها على جنبها الأيسر أو الأيمن على حسب ما يتيسر لكم ويكون أريح لها، ولا تلووا يدها على عنقها من خلفها عند الذبح فإن ذلك تعذيب لها وإيلام بلا فائدة لها، ولا تسلخوها أو تكسروا رقبتها قبل أن تموت. وكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا، ولا تعطوا الجزار أجرته منها بل أعطوه أجرته من عندكم وأعطوه من الأضحية إن شئتم هدية إن كان غنيا أو صدقة إن كان فقيرا، ومن أهدي إليه شيء منها أو تصدق به عليه فهو ملكه يتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره. أيها الناس: لقد علم الكثير منكم أن من أراد الأضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره وبشرته من دخول العشر حتى يضحي لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولكن إذا لم يعزم أحدكم على الأضحية إلا في أثناء العشر وقد أخذ شيئا من ذلك من قبل فلا بأس أن يضحي وأضحيته تامة؛ لأن الأخذ من ذلك لا ينقص الأضحية ولا يمنع منها بأي حال من الأحوال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 34 - 37] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة الثانية لعيد الأضحى

[الخطبة الثانية لعيد الأضحى] الخطبة الثانية لعيد الأضحى يكبر سبع مرات متوالية ثم يقول: - الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الحمد لله الذي بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين، بعثه بدين الهدى والرحمة فأنقذ الله به من الهلكة وهدى به من الضلالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من هذا الدين القويم الذي رضيه لكم، فلقد أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو واقف بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وإنه لجدير بنا أن نغتبط بهذا الدين الذي وصفه ربنا سبحانه بالكمال من لدنه من لدن حكيم خبير رؤوف رحيم. أيها المسلمون: إن ديننا ولله الحمد كامل من جميع الوجوه، كامل من جهة عبادة الله، كامل من جهة معاملة عباد الله، فهو كامل من جهة العبادة حيث كانت العبادات المشروعة فيه مصلحة للقلوب والأبدان للشعوب والأفراد غير مفوتة لما تقتضيه مطالب الحياة، ولو أن الناس تفكروا في أنفسهم في هذا الدين تفكيرا عميقا متعقلا لوجدوا أنه لم يترك خيرا إلا أمر به ووضح طرقه بأوضح بيان وأيسره، وأنه لم يترك شرا إلا حذر منه وبين مغبته ومضرته، ولو تفكروا في أنفسهم لوجدوا أن تمسكهم بدينهم أمر ضروري لصلاح أعمالهم واستقامة أحوالهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] ولو تفكروا في أنفسهم لما حصل للكثير منهم تلك الزهادة في دينهم ولما آثروا عليه شيئا من أمور الدنيا {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17] أيها المسلمون: إن الإسلام لم يطلب منكم أمرا يشق عليكم ولا أمرا تفوت به مصالحكم بل هو بنفسه مصالح وخيرات وأنوار وبركات، فتمسكوا بها أيها المسلمون وقوموا بشرائعه مخلصين لله متبعين لرسوله، أحبوا الله ورسوله ليسهل عليكم طاعة الله ورسوله، فإن الوصول إلى المحبوب غاية

يسهل دونها كل الصعاب، أقيموا الصلاة بفعلها في أوقاتها مع الجماعة فإن التخلف عن الجماعة من علامات النفاق، أدوا الصلاة بطمأنينة فلا صلاة لغير مطمئن فيها، وإن الصلاة إذا أديت على الوجه المطلوب كانت عونا على فعل الطاعات وترك المحرمات وتحمل المشقات، يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] ويقول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] آتوا الزكاة التي أوجب الله عليكم في أموالكم، ادفعوها إلى مستحقيها قبل أن تفارقوا هذا المال فيكون غنيمة لمن بعدكم وعليكم الغرم والإثم {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ - وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 - 11] أنفقوا على من أوجب الله عليكم نفقته من الأهل والأقارب فإنكم مسؤولون عن ذلك، وإن الإنفاق عليهم من الإحسان والله يحب المحسنين ومن صلة الأرحام وسيصل الله الواصلين، واحترموا بعضكم بعضا فإن نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم وقف في مثل هذا اليوم في جماهير المسلمين بمنى يخطبهم ويعلن تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، ولقد صارت الأموال منتهكة عند كثير من المسلمين، وإن لم يكن ذلك بطريق ظاهر تجدهم ينتهكون الأموال بالغش والكذب والدعاوى الباطلة والرشا المغرية واستعمال أموال الدولة للمصالح الخاصة، ولقد صارت الأعراض منتهكة هي الأخرى فأصبحت الغيبة التي تسمى السبابة أصبحت متفكها في كثير من المجالس، فاحذروا أيها المسلمون من تعدي حدود الله في النفوس والأموال والأعراض، وأدوا الحقوق قبل أن تؤخذ يوم القيامة من أعمالكم. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. واعلموا رحمكم الله أن هذه الأيام الثلاثة المقبلة هي أيام التشريق التي لا يجوز صيامها كما لا يجوز صيام يوم العيد، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل فأكثروا فيها من ذكر الله بالتكبير والتهليل والتحميد في أدبار الصلوات وفي جميع الأوقات» . واعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها،

وإياكم والانجراف خلف التيارات المنحرفة التي تصدكم عن دينكم وتعوقكم في السير إلى ربكم خلف نبيكم، فإن كل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم انصرنا على أعدائنا وأصلح أمورنا واهد ولاتنا لما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنياك إنك جواد كريم.

الفرع السادس الجهاد

[الفرع السادس الجهاد] [الخطبة الأولى في وجوب إعداد القوة للأعداء] الفرع السادس الجهاد الخطبة الأولى في وجوب إعداد القوة للأعداء الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والحمد لله الذي له مقاليد السماوات والأرض وبيده ملكوت كل شيء، فكل العالم العلوي والسفلي خاضع لأمره وحكمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك كله وله الحمد كله وله الثناء وهو أهله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم رسله وخيرته من خلقه وحجته على عباده، أرسله بشريعة من تمسك بها وسار على نهجها فهو المنصور الظافر، ومن أعرض وتولى فهو الذليل الخاسر، أرسله الله بشريعته وأمده بملائكته وأيده بنصره وبالمؤمنين فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيقلبه سبحانه وتعالى كما يشاء بحكمته، فاسألوا الله الثبات على الإيمان والصبر في شرائع الإسلام، ألا وإن مما دعاكم الله ورسوله إليه أن تعدوا ما استطعتم من قوة لأعداء الإسلام الذين يريدون أن تكون كلمة الله هي السفلى وكلمتهم الباطلة هي العليا، ولكن سيأبى الله ذلك بقوته وحوله وسينصر دينه بأوليائه وحزبه. أعدوا لهم ما استطعتم من قوة في الجهاد باللسان والمال والعتاد فإنكم بذلك ترضون ربكم وتذبون عن دينكم وتحمون أنفسكم وأهليكم ودياركم {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] تذبون عن دينكم من يريد القضاء عليه ومن يدعو إلى التحلل والتخلص منه، فإن الدين رأس الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، أعدوا لهم ما استطعتم من قوة الحجة والبرهان ورد شبههم الباطلة بالتفنيد وهدم الأركان، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة بالتدريب والتمرن على المعدات الحربية والتعلم لطرق الأساليب الحربية التي تلائم العصر الحاضر، وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي» وقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها، أو قال كفرها» وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على

قوم ينتضلون أي يترامون أيهم يغلب فقال: «ارموا بني إسماعيل، وإسماعيل أبو العرب فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: ارموا وأنا معكم كلكم» وقال: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله " فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا ينبغي ترك الرمي حتى ولو لم يكن إليه حاجة وقال: «من بلغ بسهم في سبيل الله يعني من رمى فأصاب فهو له درجة في الجنة» والرمي الذي فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الآية يشمل كل رمي في كل زمان ومكان بحسبه، فكما أن الرمي في وقته بالنبل والنشاب والمنجنيق، فالرمي المناسب في هذا الوقت يكون بالبارود والمدافع على اختلاف أنواعها والقنابل والصواريخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الرمي ولم يعين ما يرمى به، وإن مما جاء به الإسلام من الحث على تعلم الرمي أن أباح أخذ الرهان عليه، فيجوز للإنسان أن يرامي صاحبه بالسلاح على عوض من الدراهم أو نحوها لما في ذلك من الحث والإغراء على تعلم الرمي، ولقد أحسنت حكومتنا - وفقها الله - حيث أمرت بفتح مراكز للتدريب على الفنون الحربية في المملكة، وإننا لنرجو أن يكون هذا عاما في جميع البلدان ليتكون من هذه البلاد شبابها وكهولها أمة حاملة للسلاح تقوى على الدفاع عن دينها وحماية أوطانها، كما نسأل الله تعالى أن يوفق المواطنين للتسارع والتنافس في هذا الميدان النافع، وأن يلهبوا شعور الأمة للتسابق إليه امتثالا لأمر الله تعالى وتمشيا مع رغبة ولاة الأمور، ونسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويوفق ولاة أمورنا للقيام بما أوجب الله عليهم من رعاية من ولاهم الله عليهم رعاية تامة، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ويوجهونهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ - وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 59 - 60] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الثانية في بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج

[الخطبة الثانية في بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج] الخطبة الثانية في بيان أسباب الهزيمة وما قد تؤدي إليه من نتائج الحمد لله الواسع العليم العلي العظيم المتصرف في خلقه بما تقتضيه حكمته ورحمته فهو الحكيم الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والخير العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى والرحمة والصبر واليقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله وآمنوا بقضائه وقدره، واعلموا أن ما يقضيه الله في خلقه فإنه صادر عن مقتضى حكمته ورحمته لا يخلق شيئا سدى ولا يقدر شيئا إلا رحمة بالعباد، فإن رحمته سبقت غضبه، ولا يقضي لعباده المؤمنين إلا ما هو خير لهم، فإن المؤمن إما أن يصاب بسراء ونعمة فيقوم بالشكر لله تعالى فيكون ذلك خيرا له، وإما أن يصاب بضراء ونقمة فيصبر على ذلك ويحتسب الأجر من الله ويعلم أن لله في ذلك من الحكمة ما لا تدركه العقول ويكون بالصبر على المصائب خير له، وقد يقدر الله الأمر يكرهه الناس فينتج عن ذلك من المصالح ما تتبين به حكمة الله تعالى ورحمته قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] فالمقاتل مثلا يحب الانتصار على عدوه والظهور عليه، ولكن قد تأبى ذلك حكمة الله فيغلب ويهزم وينتصر عليه عدوه فيكره ذلك ويمتعض منه، ولكن قد يكون في هذه الهزيمة خير كثير تظهر نتائجه إما عاجلا وإما آجلا، وذلك أن الهزيمة تمحيص وابتلاء فقد يكون المهزوم مسرفا على نفسه مقصرا في حق ربه فتكون الهزيمة تأديبا له وتكفيرا لسيئاته، وقد يكون المهزوم مفتخرا بنفسه معجبا بقوته الداخلية والخارجية فيهزمه الله ليعرف بذلك قدر نفسه وأنه ضعيف لا حول له ولا قوة إلا بالله الذي بيده أزمة الأمور ونواصي الخلق، وقد يهزم الجنود بسبب تفرقهم واختلاف كلمتهم فتكون الهزيمة سببا لمعرفة الداء الذي أصيبوا منه، فيسعون في إزالة هذا الداء ويجمعون كلمتهم ويوحدون صفوفهم. وقد بين الله تعالى في كتابه هذه الأسباب الثلاثة للهزيمة ليحذر الناس منها، ففي غزوة أحد حصل من بعض المسلمين مخالفة فيما أمروا أن يكونوا فيه فحصلت الهزيمة عليهم قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]

وذكر لذلك حكما عظيمة، وفي حنين أعجب المسلمون بكثرتهم وكانوا اثنى عشر ألفا فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فقال تعالى مخبرا عن ذلك: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25 - 27] والحكمة في ذلك أن يعلم العباد أن النصر من عند الله تعالى وأن الأسباب ليست وحدها هي الكافية في الانتصار ودحر الأعداء، خصوصا إذا افتخر العبد بها ونسي أن الأمور كلها بإذن الله، وإن العبد إذا وكل إلى قوته وكل إلى ضعف وعجز وعورة، أما التنازع والتفرق فهو أيضا من أسباب الهزيمة قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] فإذا كانت هذه الأمور الثلاثة من أسباب الهزيمة فإن الجنود المخلصين لا بد أن يتأملوا الأسباب، ومن أين حصلت هزيمتهم ثم ليسعوا في القضاء على الداء فتكون النتيجة خيرا ويكون المهزوم أوعى وأبعد نظرا مما كان قبل هزيمته، ويكون في الهزيمة من المصالح أضعاف أضعاف النصر يقول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] والإنسان قد يحب أن ينال شيئا من المال ويطمع في ذلك ثم يصرف عنه ولا يحصل له فيندم على ذلك، ولكن عندما يراجع نفسه يقول لعل الله صرفه عني لخير أراده لي فيزول ندمه ويطمئن قلبه. ففوات المحبوب أيها المسلم قد يكون خيرا لك كما أن حصول المكروه قد تكون عاقبته خيرا، والله تعالى يقدر هذا وهذا، فمن وفق للرضا بقضاء الله وقدره نال الخير والطمأنينة وراحة البدن، ومن فكر وقدر واعترض على القضاء ولم يرض فذلك القلق الهالك. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الثالثة في بيان خيانة اليهود

[الخطبة الثالثة في بيان خيانة اليهود] الخطبة الثالثة في بيان خيانة اليهود الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله وله الحمد كله بيده الخير كله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين، كونوا مع الصادقين الذين عاملوا ربهم بصدق فصدقوا في النية وصدقوا في القول وصدقوا في العمل، حققوا هذا الصدق بالقيام بما أوجب عليكم من نصرة دينه وإعلائه وتقديمه على هوى النفس وشهواتها، فالجهاد جهادان جهاد النفس وجهاد العدو ومرتبة الجهاد الأول قبل الثاني. أيها المسلمون يا أمة محمد يا أمة دين الإسلام، الدين الذي جمع بين العزيمة والقوة والشهامة والكرامة جمع بين خيري الدنيا والآخرة، إن دينكم هذا له أعداء يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص ويغزونه من كل وجه، يغزونه من ناحية العقيدة والفكر فيغيرون العقيدة الصحيحة والأفكار القويمة إلى عقائد فاسدة وأفكار عوجاء، إن أعداء الإسلام يغزونه من ناحية الأخلاق فيفتحون لأبنائه كل باب يغير الأخلاق الفاضلة والمثل العليا. إن أعداء الإسلام يغزون الإسلام أيضا من الناحية العسكرية ليوهنوا أبناءه ويشردوهم كل مشرد ويمزقوهم كل ممزق، وفي هذه الأيام اعتدى اليهود على البلاد العربية الإسلامية، أولئك اليهود الذين ما زالوا في عداوة شديدة للإسلام: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] أولئك اليهود الذين وصفوا الله سبحانه بالنقص فقالوا لعنهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] أي بخيل لا ينفق فقال الله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64] فغل الله أيديهم غلا معنويا بحيث كانوا أبخل الناس لا يبذلون الأموال إلا إذا كانوا يرجون من ورائها أكثر مما بذلوا، أولئك اليهود الذين نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] أولئك اليهود الذين قتلوا أنبياء الله بغير حق وسعوا في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين. أولئك اليهود الذين غدروا بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ونقضوا

عهده، فإنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة قدمها وفيها ثلاث قبائل من اليهود فعقد معهم أن لا يخونوا ولا يؤذوا، ولكن أبى طبعهم اللئيم وسجيتهم السافلة إلا أن ينقضوا ويغدروا، فأظهر بنو قينقاع الغدر بعد أن نصر الله نبيه في بدر، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة على أن لهم النساء والذرية ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وأظهر بنو النضير الغدر بعد غزوة أحد، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم على أن لهم ما تحمله إبلهم من أموالهم إلا آلة حرب، فأجابهم إلى ذلك فنزل بعضهم بخيبر وبعضهم بالشام. وأما قريظة فنقضوا العهد يوم الأحزاب، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فحكم فيهم - رضي الله عنه - بقتل رجالهم وقسم أموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم، فقتل رجالهم وكانوا ما بين الستمائة إلى سبعمائة. هذا لون من ألوان غدرهم بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ومن غدرهم وخيانتهم أنه لما فتح خيبر أهدوا له شاة مسمومة فأكل منها ولم يحصل مرادهم ولله الحمد، ولكنه صلى الله عليه وسلم «كان يقول في مرض الموت: (ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر، وهذا أوان انقطاع أبهري) » . أيها المسلمون: إن اليهود أهل غدر ومكر وخيانة، إنهم أهل غضب ولعنة من الله، استحلوا محارم الله بأدنى الحيل فلعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، لقد ضرب الله عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس. أيها المسلمون إن علينا أن نعد القوة لهؤلاء الأعداء ولكل عدو للإسلام وأبنائه مهما كان وأيا كان، علينا أن نعد ما استطعنا من قوة بمحاربته بنوع السلاح الذي فتح الثغرة به على الإسلام. وإن علينا في مثل هذا الموقف أن نأخذ بأسباب النصر وهي: - إخلاص النية لله، بأن ننوي بجهادنا إعلاء كلمة الله وتثبيت شريعته وتحكيم كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيا: أن نلتزم بالصبر والتقوى، فإن الله مع الصابرين وإن الله مع المتقين، علينا أن نصبر على الجهاد وأن نتقي الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن مخالفة أمر الله ورسوله من أسباب الخذلان، فهؤلاء صحابة محمد صلى الله عليه وسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف بعضهم في أمر واحد من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فكانت الهزيمة عليهم بعد أن كان النصر لهم في أول الأمر، ولكن بعد ذلك تداركهم عفو الله فعفا الله عنهم. ثالثا: أن نعرف قدر أنفسنا وأن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، فلا يأخذنا العجب بقوتنا وكثرتنا فإن الإعجاب

بالنفس والاعتزاز بها من دون الله سبب للخذلان، ولقد أعجب الصحابة بكثرتهم في يوم حنين فلم تغن عنهم شيئا ثم ولوا مدبرين، ولكن الله أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا من الملائكة فكانت العاقبة للمؤمنين. رابعا: أن نعد العدة للأعداء مستعملين في كل وقت وحال ما يناسب من الأسلحة والقوة لنرد على سلاح العدو بالمثل، فإذا تحققت هذه الأمور الأربعة فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] أيها المواطنون: لقد ألهم الله حكومتنا في هذه الأيام - وفقها الله تعالى - أن تفتح مكاتب للدفاع الوطني في كل بلد، وهذه أيها المواطنون فرصة أتيحت لكم وستكون بحول الله تعالى فاتحة خير لما بعدها، فهيا أيها الشباب انتهزوا الفرصة انفعوا أنفسكم انفعوا مواطنيكم، فأنتم رجال المستقبل أنتم أهل العزيمة أنتم أهل الإقدام، مرنوا أنفسكم ما دمتم في طور التعلم والتمرن ولا تكونوا جاهلين بأبسط أنواع الدفاع، أترضون لأنفسكم بالتأخر وأنتم الشباب الذين خلقكم الله في هذا العصر وجعلكم نشأ هذا العصر لتقوموا بما تتطلبه أمور هذا العصر من أساليب الدفاع عن دينكم وعن أمتكم، وإني لآرجو الله تعالى أن ترى أمتكم منكم ما تقر به عينها وينشرح له صدرها، وأن يجعلنا جميعا من المجاهدين في سبيله الناصرين لدينه إنه جواد كريم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] أقول قولي هذا. . . إلخ.

القسم الرابع في المعاملات

[القسم الرابع في المعاملات] [الفرع الأول النصيحة والأمانة] [الخطبة الأولى في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة] الفرع الأول النصيحة والأمانة الخطبة الأولى في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن النصيحة هي أساس الدين وقوامه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولآئمة المسلمين وعامتهم» فمتى نصح العبد في هذه الأمور فقد استكمل الدين، ومن قصر في النصيحة بشيء منها فقد نقص دينه بحسب ما قصر فيه. أما النصيحة لله فهي الإخلاص له وصدق القصد في طلب مرضاته، بأن يكون الإنسان عبدا لله حقيقة راضيا بقضائه قانعا بعطائه متمثلا لأوامره مجتنبا لنواهيه مخلصا له في ذلك كله لا يقصد به رياء ولا سمعة. وأما النصيحة لكتاب الله فهي تلاوته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره، والذب عنه وحمايته من تحريف المبطلين وزيغ الملحدين، واعتقاد أنه كلام رب العالمين تكلم به وألقاه على جبريل فنزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما النصيحة لرسوله فهي محبته واتباعه ظاهرا وباطنا، ونصرته حيا وميتا، وتقديم قوله وهديه على قول كل أحد وهديه. وأما النصحية لأئمة المسلمين فهو صدق الولاء لهم وإرشادهم لما فيه خير الأمة في دينها ودنياها، ومساعدتهم في إقامة ذلك، والسمع والطاعة لأوامرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، واعتقاد أنهم أئمة متبوعون فيما أمروا به لأن ضد ذلك هو الغش والعناد لأوامرهم والتفرق والفوضى التي لا نهاية لها، فإنه لو جاز لكل واحد أن يركب رأسه وأن يعتز برأيه ويعتقد أنه هو المسدد الصواب وهو المحنك الذي لا يدانيه أحد، لزم من ذلك الفوضى والتفرق والتشتت؛ ولذلك جاءت النصوص

القرآنية والسنة النبوية بالأمر بطاعة ولاة الأمور لأن ذلك من النصيحة لهم التي بها تمام الدين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية» وقال: «من خلع يدا من الطاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» وقال: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي» وقال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» . وأما النصيحة لعامة المسلمين فهي أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وأن تفتح لهم أبواب الخير وتحثهم عليها وتغلق دونهم أبواب الشر وتحذرهم منها، وأن تبادل المؤمنين المودة والإخاء، وأن تنشر محاسنهم وتستر مساوئهم وتنصر ظالمهم ومظلومهم، تنصر ظالمهم بمنعه من الظلم وتنصر مظلومهم بدفع الظلم عنه. فمتى قام المجتمع على هذه الأسس: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، عاش عيشة راضية حميدة ومات ميتة حق سعيدة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 - 103] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الثانية في وجوب التناصح بين الرعية والرعاة

[الخطبة الثانية في وجوب التناصح بين الرعية والرعاة] الخطبة الثانية في وجوب التناصح بين الرعية والرعاة الحمد لله الملك القهار القوي العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والمجد والاقتدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله قد شرع لعباده على لسان أفضل رسله أكمل شريعة وأتمها وأقومها بمصالح العباد وأعمها، وقد جاءت تلك الشريعة الكاملة مبينة ما يجب على الرعاة من الحقوق لرعيتهم، وما يجب على الرعية من الحقوق لرعاتهم. أما حقوق الرعاة على رعيتهم فهي السمع والطاعة بامتثال ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ما لم يكن في ذلك معصية لله ورسوله، فإن كان في طاعة الولاة معصية لله ورسوله فلا سمع لهم ولا طاعة. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف» ، وقد «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعة من له الأمر وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» ، وقال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية» . عباد الله، إن من حقوق الرعاة على رعيتهم أن يناصحوهم ويرشدوهم، وأن لا يجعلوا من خطئهم إذا أخطئوا سلما للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس، فإن ذلك يوجب التنفير عنهم وكراهتهم وكراهة ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقا، ويوجب عدم السمع والطاعة لهم، وإن من الواجب على كل ناصح وخصوصا من ينصح ولاة الأمور أن يستعمل الحكمة في نصيحته ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن رأى ممن ينصحه من ولاة الأمور قبولا للحق وانقيادا له فذلك، وإلا فليتثبت في الأمر وليتحقق من وقوع الخطأ منه وإصراره

عليه ثم ليرفعه إلى من فوقه إن كان في ذلك مصلحة وإزالة للظلم، كما كان السلف الصالح يشكون ولاتهم إلى من فوقهم إذا رأوهم قد سلكوا ما لا ينبغي أن يسلكوه. أيها المسلمون: هذا ما نراه واجبا على الرعية من حقوق رعاتهم وولاتهم. أما ما يجب على الرعاة والولاة للرعية فأمر عظيم ومسؤولية كبرى، يجب عليهم أولا إخلاص النية لله، بأن يقصدوا بتصرفاتهم وتدبيراتهم تنفيذ أحكام الله وإقامة العدل وإزالة الظلم وتطبيق ذلك بحسب استطاعتهم، ويجب عليهم أيضا أن لا يظلموا الناس لا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في أعراضهم، وأن لا يستعملوا سلطتهم في تنفيذ أهوائهم وإشباع رغباتهم بلا حق فإنهم مسؤولون عن ذلك، وما يدريهم لعل سلطتهم تزول في الدنيا قبل الموت فيلحقهم من الذل والإهانة بسبب ظلمهم واستطالتهم على الخلق ما هم به جديرون وله مستحقون، ويجب على الولاة أيضا أن يسووا بين الخلق في إقامة الحق، فلا يحابوا قريبا لقرابته ولا وجيها لجاهه ولا صاحب دنيا لدنياه، فإن الناس في الحق سواء، فلقد «أقسم محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أنه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع يدها» . أيها الولاة، وأيها الرعية، اتقوا الله تعالى في أنفسكم وفي مجتمعكم وأدوا ما أوجب الله عليكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك استتب الأمن وحصل التجاوب والاتحاد والمحبة، وإن فرطتم في ذلك سلط الله بعضكم على بعض، فتسلط الولاة على الرعية بأنواع الظلم وإهمال الحقوق، وتسلطت الرعية على الولاة بالمخالفة والعصيان والسب والبغض وانتشار الفوضى واعتزاز كل ذي رأي برأيه وإعجابه به، فلا ينضبط للناس أمر ولا يصلح لهم حال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في معنى الأمانة وشمولها لجميع الأعمال

[الخطبة الثالثة في معنى الأمانة وشمولها لجميع الأعمال] الخطبة الثالثة في معنى الأمانة وشمولها لجميع الأعمال الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة وحرم عليهم المكر السيء والغدر والخيانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة ونؤمل بها الفوز بدار النعيم والكرامة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أتم به النعمة وبعثه للعالمين رحمة وللعاملين قدوة وعلى الطاغين حجة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الدين والملة وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا الأمانة التي حملتموها وتحملتم مسؤوليتها، أدوا الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، أدوا الأمانة فإنكم عنها مسؤولون وعلى حسب القيام بها والتفريط بها محاسبون، فإما مغتبطون بأدائها مسرورون وإما نادمون في إضاعتها خاسرون، أدوا الأمانة فيما بينكم وبين الله وأدوها فيما بينكم وبين عباد الله. فأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين الله فأن تقوموا بطاعته مخلصين وتتعبدوا بما شرعه متبعين لا مفرطين ولا مفرطين، وأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين العباد فأن تقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوق العباد، وهذا أمر يختلف باختلاف الناس وأحوالهم، فكل إنسان عليه أمانة بحسب ما يقتضيه عمله الذي التزمه، فولاة الأمور صغارا وكبارا أمانتهم أن يقوموا بما فرض الله عليهم لمن تحت أيديهم من العدل، وأن يسيروا بالناس على حسب ما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا، وأن لا يحابوا في ذلك قريبا ولا صديقا ولا قويا ولا شريفا، وأن يولوا الأمور من هو أحق بها وأجدر وأقوم وأكفأ، والموظف بحسب حالة أمانته أن يقوم بوظيفته على حسب المطلوب منه، وأن لا يفرط في عمله أو يتأخر أو يتشاغل بغيره أو يتعدى إلى أمر لا يعنيه شرعا أو نظاما. وهاهنا أمر ينبغي لكل موظف أن يلاحظه وهو أن بعض الموظفين ربما يتوانى في تطبيق النظام بحجة أن هذه أنظمة ليست مما أوجبه الشرع، أو أن الأجرة والراتب الذي يتقاضاه من بيت المال ونحو ذلك، وهذه الحجة غير صحيحة. أما كونه ليس من الأنظمة الشرعية فإنه من الأنظمة التي سنها ولاة الأمور وألزموا الموظف القيام بها، وما سنه ولاة الأمور ولم يكن فيه معصية لله ورسوله فإنه يجب اتباعه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]

وأما الحجة الثانية وهي أن هذا من بيت المال الذي لعموم المسلمين فهذا مما يؤكد ويحتم على الموظف أن يقوم بوظيفته أكثر وأكثر، فإن الحق إذن يكون لعموم المسلمين وكل واحد منهم يطلبك أن تقوم بوظيفتك لأنك تأخذ راتبك من بيت مالهم بإقرارك على نفسك، ولو كان الحق لشخص خاص لكان أهون، والمقصود أن هذه الحجة التي ربما يتعلل بها من يفرط بواجب وظيفته ليست حجة صحيحة. ويمتاز المدرس بين الموظفين بأهمية المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقه، فالمدرس معلم وموجه فهو مغذي الروح وطبيبها، فعليه أن يتحرى أسهل الأساليب وأقرب الطرق إلى إيصال المعلومات إلى أذهان الطلبة، وأن لا يضيع شيئا من الحصة فيما لا خير فيه للطلبة، وعليه أيضا أن يوجههم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم بقدر ما يستطيع، فإن من المعروف أن الطالب يقتدي بمعلمه ويأخذ بقوله أكثر مما يأخذ من أبيه وأهله، فعلى المدرس أن يأخذ هذه الميزة بعين الاعتيار وأن يخلص لله تعالى في تعليمه وتوجيهه، ويعامل الطلبة بالعدل مسويا بين القريب والبعيد والشريف والوضيع. أيها المسلمون: إن على الأب وعلى ولي البيت أمانة لازمة له هي تربية أولاده وأهله، وتقويم أخلاقهم وتعويدهم على فعل الخير وترك الشر، والقيام بحقوقهم التي أوجب الله عليه رعايتها، وإن على البائع والمشتري أمانة يجب عليهما أداؤها، هذه الأمانة هي الصدق والبيان فلا يكذب فيذكر في السلعة وصفا غير موجود فيها ولا يتكتم فيخفي عيبا موجودا. إن على أهل الحرفة من البنائين والنجارين والصناع وغيرهم أن يؤدوا الأمانة بالإخلاص في عملهم وأن يؤدوه كاملا كما يطلبون حقهم كاملا. أيها المسلمون، إن القول العام في الأمانة أن تؤدي ما عليك على الوجه الذي يطلب منك من غير تقصير ولا مجاوزة، فمن قام بأمانته فقد ربح ومن فرط فيها فقد خاب وخسر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الرابعة في المشورة

[الخطبة الرابعة في المشورة] الخطبة الرابعة في المشورة الحمد لله الذي فتح لعباده طريق الفلاح وأرشدهم إلى ما فيه الخير والبر والتقى والصلاح، وأمرهم بالاجتماع على الحق وجعل أمرهم شورى بينهم ليتحقق لهم الفوز والنجاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الحب والنوى وفالق الإصباح، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بددت رسالته ظلمات الجهل والظلم كما بدد ظلام الليل نور الصباح صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما أشرق الفجر ولاح وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واستقيموا على أوامره وطبقوها في أموركم العامة والخاصة إن كنتم تريدون السعادة في الدنيا والآخرة، واعلموا أن من خصال المؤمنين وطريق المتقين وسبيل الذين يريدون الوصول إلى الغايات والأهداف النافعة أن يتبادلوا النصح فيما بينهم، وأن يتشاوروا في الأمور التي تهمهم. ولا بد للتشاور في الأمور من شروط يتعين تحقيقها قبل إجراء المشاورة، لا بد أن يكون التشاور مع إنسان مخلص يشعر لشعورك ويتألم لآلامك ويسر بسرورك، وإلا فلا خير لك في مشاورته لأنه العدو الخفي، ولا بد أن يكون التشاور مع إنسان عارف بالأمور بمصادرها ومواردها، فمشاورة الجاهل جهل وحمق لأن الجاهل وإن كان حسن النية إلا أن جهله وعدم معرفته بالأمور قد يوقع في المحذور، والناس من هذه الناحية يختلفون بحسب معرفتهم، فأهل العلم والدين نستشيرهم في الأمور الدينية، وأهل البيع والسلع نستشيرهم في أمور البيع والشراء، وكل إنسان نستشيره فيما يكون من اختصاصه، وربما يكون للشخص اختصاص ومعرفة في عدة أمور فنستشيره فيها، ولا بد أن يكون التشاور مع إنسان ذي دين وتقوى لله عز وجل لأن صاحب الدين لا ينالك منه غش، فإن المؤمن المتقي يعلم أنه لا يظهر كلمة من فمه إلا حوسب عليها يوم القيامة، فتجده يحاسب نفسه قبل أن يقدم على إخراج الكلمة كما أنه يحاسب نفسه عند الأفعال فلا يدخل في فعل إلا وقد حاسب نفسه كيف يدخل وكيف يخرج، فإذا اجتمع الإيمان والمعرفة في شخص فناهيك به أهلا للمشورة. فعلى الإنسان أن يختار للمشورة أهل الإيمان والمعرفة والنصح، وعلى الإنسان الذي أدلى إليه أخوه بمشورة أن يشير عليه بما يعتقده أصلح له في دينه ودنياه، وأن لا يحابي في مشورته وينظر إلى هواه، فإن بعض الناس إذا استشاره أخوه في أمر من الأمور ورأى هواه وميله إلى جهة

حاباه في ذلك وأشار عليه بها مع أن غيرها أصلح منها، وهذا خطأ فاحش وغش لمستشيرك، فالواجب عليك أن تشير عليه بما هو أصلح فإن أشكل عليك فأخبره بأنك متوقف في ذلك، ولتكن مشورتك عن درس للأمور وبصيرة فيها بحيث لا تقدم عليها إلا بعد التروي والبحث من جميع النواحي، خصوصا في الأمور الهامة والأمور العامة فإن المسؤولية فيها تكون أعظم وأكبر فتتطلب التروي والدرس أكثر وأكثر، ومن أكبر العون على ذلك أن يناقش الرأي إذا طرح من جميع جوانبه وتورد عليه الإيرادات والأسئلة التي يمكن أن توجه إليه، فإن سلم منها وتخلص فقد تبين أنه رأي سديد، وإن لم يتخلص مما يورد عليه فليطلب رأي آخر أسد منه. فمتي استعان الإنسان بالله وسلك السبل التي توصل إلى الحق قاصدا بذلك الحق هداه الله إليه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 36 - 38] اللهم اجعلنا من هؤلاء السادة المفلحين ووفقنا لما فيه صلاحنا وصلاح أمتنا في أمر الدنيا والدين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم على عبدك ونبيك محمد وآله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.

الخطبة الخامسة في أداء الأمانة

[الخطبة الخامسة في أداء الأمانة] الخطبة الخامسة في أداء الأمانة الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، أيها المؤمنون: اتقو الله تعالى، اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم اتقوا الله تعالى في السر والعلانية اتقوا الله تعالى بأداء الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها وأنتم حملتموها فأدوها كما تحملتموها، أدوا الأمانة في حقوق الله وحقوق العباد. فأداء الأمانة في حقوق الله أن تعبدوا الله مخلصين له الدين ومتبعين لسيد المرسلين لا تشركوا بالله في أعمالكم ولا تراؤوا فيها، فإن من راءى راءى الله به فأظهر رياءه للعالمين وفضحه بين الخلائق أجمعين. ألا وإن من علامات الرياء كون الإنسان يعصي الله في السر حين لا يطلع إلا الله ويظهر خشية الله في العلانية حين يراه الناس. أما أداء الأمانة في حقوق العباد فهو أن يعاملهم على وجه النصح والإخلاص من غير غش ولا كذب ولا خيانة في جميع ميادين الحياة. فعلى ولاة الأمور أن يؤدوا ما أوجب الله عليهم من تفقد أحوال من في ولايتهم والسلوك بهم على ما يرونه أنفع لهم في دينهم ودنياهم، وهم مسؤولون عن ذلك أمام الله، وعلى من تحتهم من الرعية أن يؤدوا الأمانة في حقوق أولياء الأمور فيأخذوا بإرشاداتهم ويطيعوا أوامرهم في غير معصية الله، وعليهم أن يكفوا عن عيوبهم فإن أمكنهم إزالتها بمناصحتهم فذلك هو الواجب عليهم، وإن لم يتمكنوا من ذلك فليسألوا الله لهم الهداية وإصلاح بطانتهم؛ لأن في صلاحهم صلاح الرعية كما أن صلاح الرعية سبب لصلاح الراعي، فأحوال الراعي والرعية متشابهة متلازمة. وعلى الذين يتولون التعليم في جميع مراحله في الابتدائي والمتوسط والثانوي وما فوقه أن يؤدوا الأمانة في التعليم فيسلكوا بالطلبة أقرب الطرق إلى تفهيمهم وتعليمهم، وليعاملوا كل طائفة بما تتحمله عقولهم وأفهامهم، وعليهم أن يركزوا في نفوسهم حب الله وحب رسوله والمؤمنين، وأن يغرسوا في نفوسهم قواعد الدين وأسسه وأهدافه ليرسخ في قلوبهم، وعلى المعلم أن يمثل أمام الطلبة بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، فإن المتعلم يقتدي بمظاهر المعلم وأخلاقه أكثر مما يقتدي به في تعليمه، فمتى عرف المعلم

المسئولية الكبرى التي عليه وأنه يواجه جيلا ينبني صلاح مستقبله وفساده على التعليم الذي يتلقاه فإنه يحرص على نفع الطلبة ويجتهد في سلوك الطرق التي تؤدي إلى إصلاحهم، فليستعن بالله وليخلص النية والله ولي التوفيق. وأداء الأمانة في البيع والشراء أن يلتزم فيهما الحدود الشرعية التي رسمها الشارع الحكيم، فلا يتعاطى المعاملة بالربا لا صريحا ولا حيلة فإن التحيل على الربا شر من الربا الصريح لأن المتحيل جمع بين المخادعة والربا، وعلى العامل بالبيع والشراء أن يتجنب الغش والغرر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وقال: «من غش فليس منا» وعلى من استحفظوا على مال وأمن عندهم أن يؤدوا الأمانة فيه وأن يحفظوه لصاحبه، ولا يحل لمن جعل عنده أمانة أن يتسلف منها شيئا إلا بعد أن يستأذن من صاحبها، وعلى من له ولاية في تزويج امرأة أن يتقي الله فيها فلا يمنعها من كفئها، ولا يزوجها بغير كفء لها، وليختر لها صاحب الدين والأخلاق الفاضلة ولا يجعلن همه في المال فالمال قد يزول من الغني، وقد يكون الفقير غنيا، وكم من إنسان زوج ابنته أو غيرها لهذا الغرض فحصل بينهم الشقاق والنزاع، أما الدين والخلق فإنهما هما الذخيرة النافعة إن أمسكها أمسكها بمعروف وإن فارقها فارقها بإحسان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة السادسة في وجوب سلوك الحكمة في المعاملات وغيرها

[الخطبة السادسة في وجوب سلوك الحكمة في المعاملات وغيرها] الخطبة السادسة في وجوب سلوك الحكمة في المعاملات وغيرها الحمد لله الذي من علينا بدين هو أكمل الأديان في العبادات والمعاملات وأقومها بمصالح الخلق الدينية والدنيوية الفردية والجماعية في جميع الحالات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى أعلى المقامات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما توالت الدهور والأوقات وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من نعمة الدنيا والدين، وقوموا بما أوجب الله عليكم من التحاب والتعاون والاجتماع على المصالح لتكونوا من الفائزين، اجتمعوا ولا تفرقوا وتعاونوا ولا تخاذلوا وتآلفوا ولا تنافروا وكونوا في جميع أعمالكم مخلصين. إن بالاجتماع تتفق الكلمة وتتبادل الآراء وتتم المصالح، إن المصالح العامة لا ينبغي أن تكون هدفا للأغراض الشخصية والعلو الفردي، إن المصالح العامة يجب أن تكون فوق جميع المستويات التي دونها يجب أن تكون مقصودة بذاتها ولذاتها، يجب أن تدرس من جميع النواحي وأن تستخلص فيها جميع الآراء، ثم ينظر فيما يمكن من الطرق الموصلة إليها فيتفق عليها ويمشي عليها، وإن الإنسان متى خلصت نيته وصلح عمله بالاجتهاد والنظر في المصالح وسلوك أقرب الطرق الموصلة إليها متى اتصف بهذين الأمرين: الإخلاص والاجتهاد في الإصلاح صلحت الأشياء وقامت الأمور، ومتى نقص أحد الأمرين إما الإخلاص وإما الاجتهاد فإنه يفوت من المصلحة بقدر ذلك. إن بعض الناس إذا نظر إلى الأمور نظر إليها نظرة قاصرة من جانب واحد وبذلك تختل الأمور وتفوت المصالح. أيها الناس: إن الواجب علينا كأبناء أمة واحدة أن نسعى لهدف واحد هو إصلاح هذه الأمة إصلاحا دينيا ودنيويا بقدر ما يمكن، ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا ونترك المنازعات بيننا والمعارضات التي لا تحقق هدفا بل ربما تفوت مقصودا وتعدم موجودا، إن الكلمة إذا تفرقت دخلت الأمور الأهواء والضغائن وصار كل واحد يسعى لتنفيذ كلمته، وإن تبين أن الحق والعدل في خلافها، ولكن إذا اجتمعنا من أول الأمر ودرسنا الموضوع من جميع جهاته واتفقنا على ما نراه ممكنا نافعا من غير أن ننظر إلى مصالحنا الخاصة حصل لنا بذلك خير كثير، وثقوا أيها الناس

أنكم متى أخلصتم النية وسلكتم الحكمة في الحصول على المطلوب فإن الله سييسر لكم الأمور ويصلح لكم الأعمال قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أيها المؤمنون: لقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن بالبنيان يشد بعضه بعضا، وهذا هو المثال الصحيح لكل شعب مؤمن أن تتعاون أفراده في إقامة بنائه بحيث يكون الغرض تشييد هذا البناء وتماسكه وتراصه بحيث يكمل بعضه بعضا ويقوم بعضه بعضا، فلا إيمان كامل مع التفرق ولا بناء محكم مع التفكك. أرأيتم لو أخذ من البناء لبنة ألا ينقص هذا البناء؟ فكيف إذا كانت اللبنات متناثرة متنافرة بل كل واحدة تهدم الأخرى وتزلزلها؟ فيا أيها الناس اجتمعوا على الحق وتعاونوا عليه ولا تبعدوا شططا ولا تقولوا باطلا وتناصحوا فيما بينكم واتقوا الله لعلكم ترحمون. أقول قولي هذا وأسأل الله تعالى أن يجمعنا على ما فيه الخير والصلاح في ديننا ودنيانا إنه جواد كريم وأستغفر الله لي ولكم. . . إلخ.

الخطبة السابعة في حال الناس بالنسبة لولاتهم وحال أهل الخير

[الخطبة السابعة في حال الناس بالنسبة لولاتهم وحال أهل الخير] الخطبة السابعة في حال الناس بالنسبة لولاتهم وحال أهل الخير الحمد لله الذي جعل المؤمنين فيما بينهم إخوانا وأوجب عليهم أن يكونوا في نصرة الحق أعوانا والحمد لله الذي ربط الأمور بأسبابها وجعل أفضل طريق للوصول إلى المقصود أن تؤتى البيوت من أبوابها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من النار وعذابها ونأمل بها الفوز بدار النعيم وطيب مأكلها وعذب شرابها، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أنصح من وعظ وأحكم الخلق فيما قصد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم في المقال والفعال والمعتقد وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله وكونوا كما وصف الله به المؤمنين إخوانا في المحبة أعوانا في الحق لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا يألون جهدا في نصح الخلق ونصرة الحق، واسلكوا في ذلك طريق الحكمة لعلكم تفلحون، فإن من سلك طريق الحكمة وأخلص في النية فاز بما أراد، ومن لم تكن له نية أو لم يكن له حكمة فاته المقصود والمراد. أيها المسلمون: إني أريد أن أضمن خطبتي هذه موضوعين هامين يحتاجان إلى بسط كثير ولكني أشير إليهما بموجز من القول وربما أغنى القليل عن الكثير. الموضوع الأول: حال الناس بالنسبة لولاتهم، فإن بعض الناس ديدنه في كل مجلس من مجالسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضا بذلك عما لهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة، فإنه لا يحل مشكلا ولا يرفع مظلمة وإنما يزيد البلاء بلاء ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها. ونحن لا نشك أن ولاة الأمور قد يسيئون وقد يخطئون كغيرهم من بني آدم، فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولا نشك أيضا أنه لا يجوز لنا أن نسكت عن أي إنسان ارتكب خطأ حتى نبذل ما نستطيعه من واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإذا كان كذلك فإن الواجب علينا إذا رأينا خطأ من ولاة الأمور أن نتصل بهم شفويا أو كتابيا

ونناصحهم سالكين بذلك أقرب الطرق في بيان الحق لهم وشرح خطئهم، ثم نعظهم ونذكرهم فيما يجب عليهم من النصح لمن تحت أيديهم ورعاية مصالحهم ورفع الظلم عنهم ونذكرهم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» ثم إن اتعظ بواعظ القرآن والحديث فذلك هو المطلوب، وإن لم يتعظ بواعظ الحديث والقرآن وعظناه بواعظ السلطان بأن نرفع الأمر إلى من فوقه ليصلح من حاله، فإذا بلغنا الأمر إلى أهله الذين ليس فوقهم ولي من المخلوقين فقد برئت بذلك الذمة ولم يبق إلا أن نرفع الأمر إلى رب العالمين ونسأله إصلاح أحوال المسلمين وأئمتهم. أما الموضوع الثاني: فهو حال أهل الخير السابقين إليه والمقتصدين فيه مع الظالمين لأنفسهم العاصين لربهم، فإن مجتمعنا ككل مجتمع فيه أهل خير وأهل شر وأهل طاعة وأهل معصية، وإن كثيرا من أهل الخير يسلكون بالنسبة إلى أهل المعصية مسلكا غير حكيم فتجدهم يكرهونهم كراهية مطلقة ويتكلمون في أعراضهم في كل مجلس وينفرون منهم، وهذا مسلك لا يحل المشكلة ولا يقيم الأمور على ما ينبغي، فأهل المعاصي من المؤمنين فيهم خير وفيهم شر فيجب أن نحبهم على خيرهم وهو ما معهم من الإيمان ونكرههم على شرهم وهو ما حصل منهم من المعاصي. أما أن نكرههم كراهية مطلقة ونعاديهم عداء مطلقا فهذا غير صحيح شرعا ولا عقلا؛ ثم إن الواجب علينا نحوهم أن نتصل بهم ونتكلم معهم ونزيل الوحشة التي بيننا وبينهم، فكلنا إخوان في الدين ما دمنا مؤمنين، فإن المعاصي لا تزيل الإخوة الإيمانية بين المؤمنين فنناصحهم ونبين لهم مفاسد المعاصي ومصالح الطاعة، وأن لزوم الطاعة أمر يسير لا يمنع منه إلا ضعف العزيمة وذلة الاستسلام للهوى والتقليد الأعمى، ونسعى نحن وهم في إصلاح أمورهم ما استطعنا لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. أما البعد عنهم واعتقاد أننا في واد وهم في واد ثم تركهم وأنفسهم لا نعينهم عليها فهذا خطأ يؤدي إلى شر كبير وتفكك في المجتمع وتفرق في آرائه وأحواله، مع أننا أيها الإخوان بيننا

وبين أهل المعاصي من المؤمنين رابطة قوية وهي الإيمان، فعلينا أن نعزز هذه الرابطة بالسعي بإصلاح ما اختل منها لا أن ندعها تتفكك وتتشتت، والله ولي التوفيق. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثامنة في استعمال الحكمة في الأمور

[الخطبة الثامنة في استعمال الحكمة في الأمور] الخطبة الثامنة في استعمال الحكمة في الأمور الحمد لله الملك الوهاب الغني الجواد والمتصرف في خلقه بما تقتضيه حكمته البالغة ورحمته الشاملة فهو الحكيم الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] الحكمة هي التصرف الرشيد الذي توضع به الأمور مواضعها اللائقة بها بإعطاء كل ذي حق حقه والاعتراف لكل ذي فضل بفضله، وأن أبلغ الحكمة معرفة العبد حق فاطره وخالقه سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه له الحق الأكبر على عباده وله الفضل العظيم عليهم، فعلى العبد أن يعرف ذلك لربه ثم يقوم بما تقتضيه هذه المعرفة من شكره وطاعته خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه، وإن من الحكمة أن يعترف الإنسان للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما له من الحقوق بأن يشهد بقلبه ولسانه أنه عبد الله ورسوله الصادق المصدوق، فيكون متبعا له مقدما لشريعته وهديه على كل شريعة وهدي معتقدا أن شريعته هي النظام الوحيد في إصلاح الدنيا والآخرة، وإن من الحكمة أن يكون الإنسان رشيدا في تصرفه فيبدأ بالأهم فالأهم ويأخذ بالأصلح فالأصلح، فإذا كان أمامه مصلحتان قدم أنفعهما وإذا رأى مصلحة عامة ومصلحة خاصة قدم العامة لأنها أنفع وأشمل، وإذا دار الأمر بين أن يفعل واجبا أو تطوعا ولا يمكنه القيام بهما جميعا قدم الواجب على التطوع لأنه آكد، وإذا نشأ من فعله مصلحة ومفسدة وتكافأتا أخذ بدرء المفسدة لأن درء المفسدة عند التكافؤ أولى من جلب المصلحة. ومن الحكمة أنه إذا تعارضت مفسدتان وكان لا بد من فعل إحداهما أخذ بأخفهما ضررا وأقلهما مفسدة، ومن الحكمة أن يعترف الإنسان لكل ذي فضل بفضله فيعترف لمن أسدى إليه معروفا دينيا أو دنيويا بمعروفه ويكافئه عليه إن أمكنه، فإن لم يجد ما يكافئه دعا له حتى يظن أنه كافأه، ومن الحكمة أن ينظر الإنسان إلى تصرفات غيره بمنظار الرحمة والنصح والعدل، فإن كل أحد لا بد أن يخطئ إلا من عصمه الله تعالى. ولكن ليس من الحكمة أن ينظر الإنسان إلى جانب الخطأ فقط ويدع جانب الصواب، بل ينظر إلى الجانبين ويوازن بينهما ثم يسعى في إصلاح الخطأ، فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وقد أشار

النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملاحظة الأمرين بقوله: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها خلقا آخر» وقد يكون صاحبك مرتكبا خطأ في نظرك أنت وعندما تناقشه يتبين لك أنه ليس خطأ، فالتراجع في الأمور والمناقشة فيها بإخلاص وإرادة صالحة من أكبر الأسباب في إصلاحها ونجاحها، ومن الحكمة إذا نبه الإنسان على خطأ أن لا يركب رأسه ويعبد هواه فيمضي في خطئه ورأيه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والمؤمن ضالته الحق حيث وجده أخذه. وكثير من الخلق يمنعه منصبه أو جاهه من الرجوع إلى الحق بعد ما تبين له، وهذا من السفه، فنسأل الله أن يعيذنا من ذلك. ومن الحكمة إذا جاءك أخوك ناصحا لك أن لا تعبس بوجهه أو تظهر له الاستياء فإن من حق الناصح أن يقابل بالشكر، فإن شكر الناصح فضيلة للمنصوح وتشجيع للناصح، ولا مانع من أن تبين له الأسباب التي أدت إلى فعل ما نصحك من أجله. أيها الناس، وإن من الحكمة أن لا يدخل الإنسان في أمر حتى يعرف الخلاص منه، فإن بعض الناس يغتر بظواهر الأمور ومبادئها حتى إذا تورط فيها لم يستطع الخلاص منها، وإن من الحكمة أن من ابتدأ بعمل وارتاح له فليستمر عليه، فمن بورك له في شيء فليلزمه، وبعض الناس يبدأ الأعمال ولا يتممها فيمضي عليه الوقت سبهللا من غير فائدة، فمثلا يقرأ في هذا الكتاب أو في هذا الفن ثم يدعه من غير أن يكمله وينتقل إلى غيره ثم إلى آخر من غير تكميل الأول فيضيع عمله وينقضي عمره بلا فائدة، وكذلك في الأعمال الأخرى. كل يوم له عمل وكل يوم له رأي فيضيع الوقت عليه من غير فائدة. فاتقوا الله أيها المسلمون واعرفوا الحكمة واسلكوا طريقها وأعطوا كل ذي حق حقه وكل عمل ما يستحقه، واعترفوا لكل ذي فضل بفضله فإن ذلك هو الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الفرع الثاني البيوع واكتساب المال

[الفرع الثاني البيوع واكتساب المال] [الخطبة الأولى المال فتنة انقسم الناس فيها] الفرع الثاني البيوع واكتساب المال الخطبة الأولى المال فتنة انقسم الناس فيها الحمد لله الذي خول عباده من الأموال ما به تقوم مصالح دينهم ودنياهم وجعل لتحصيلها وتصريفها طرقا شرعها لهم وبينها وهداهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ومولاهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكرم الخلق وأزكاهم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن هذه الأموال التي بين أيديكم جعلها الله تعالى فتنة لكم، فتنة في تحصيلها وفتنة في تمويلها وفتنة في إنفاقها. فأما الفتنة في تحصيلها فإن الله تعالى شرع لتحصيلها طرقا معينة مبنية على العدل بين الناس واستقامة معاملتهم، بحيث يكسبها الإنسان من وجه طيب ليس فيه ظلم ولا عدوان، فانقسم الناس في ذلك قسمين، قسما اتقى الله تعالى وأجمل في الطلب، اكتسبها من طريق الحلال فكانت بركة عليه إذا أنفق ومقبولة منه إذا تصدق وأجرا له إذا خلفها لورثته فهو غانم منها دنيا وأخرى، والقسم الثاني لم يتق الله ولم يجمل في الطلب فصار يكتسب المال من أي طريق أتيح له من حلال أو حرام من عدل أو ظلم لا يبالي بما اكتسب فالحلال عنده ما حل بيده، فهذا المال الذي اكتسبه من طريق محرم إن أنفقه لم يبارك له فيه وإن تصدق به لم يقبل منه وإن خلفه بعده كان زادا له إلى النار، لغيره غنمه وعليه إثمه وغرمه. فهذه فتنة المال في تحصيله، وأما فتنة المال في تمويله فمن الناس من كان المال أكبر همه وشغل قلبه ولا نصب عينه إلا المال، إن قام فهو يفكر فيه وإن قعد فهو يفكر فيه وإن نام كانت أحلامه فيه، فالمال ملء قلبه وبصر عينه وسمع أذنه وشغل فكره يقظة ومناما، حتى عباداته لم تسلم فهو يفكر في ماله في صلاته وفي قراءته وفي ذكره كأنما خلق المال وحده، فهو النهم الذي لا يشبع والمفتون الذي لا يقلع، ومع ذلك الهم والفتنة فلن يأتيه من الرزق إلا ما كتب له، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها. ومن الناس من عرف للمال حقه ونزله منزلته فلم يكن أكبر همه ولا مبلغ علمه، وإنما جعله في يده لا في قلبه فلم يشغله عن ذكر الله ولا عن الصلاة ولا عن القيام بشرائع الدين ولا فروضه، بل جعله وسيلة يتوسل بها إلى فعل الخيرات ونفع القرابات وذوي الحاجات، فهذا هو صاحب

العيش الرغد المحصل لما كتب له في الرزق من غير تعب في قلبه ولا نكد، وأما الفتنة في إنفاق المال فإن الناس انقسموا إلى ثلاثة أقسام: منهم البخيل الذي منع حق الله وحق عباده في ماله، فلم يؤد الزكاة ولم ينفق على من يجب الإنفاق عليه من الأهل والمماليك والقرابات، ومن الناس المسرف المفرط الذي يبذر ماله وينفقه في غير وجهه وفيما لا يحمد عليه شرعا ولا عرفا، فهذا من إخوان الشياطين، ومن الناس من إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا قد بذلوا الواجبات وكملوها بالمستحبات وبذلوا ما يحمدون عليه في العادات، فهؤلاء هم عباد الرحمن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وأجملوا في طلب الأموال، اطلبوها على وجه مباح حلال فإنكم لن تبقوا للمال أبدا، إنما المال عارية بين أيديكم وأنتم عارية في هذه الدنيا، فإما أن تنتقلوا عنه وتتركوه وأنتم أزهد الناس فيه، وإما أن يسلب من أيديكم وأنتم أحرص الناس عليه فتبوء بالحسرة والندامة. أيها المسلمون، لقد لعب الشيطان بأفكار بعض الناس فجرأهم على المعاملة المحرمة السيئة فارتكبوا محارم الله وهم يعلمون، وتجرؤوا على الإثم كأنهم لا يعقلون، ومناهم الكسب وكثرة المال فبئس ما يصنعون، لقد تجرأ كثير من الناس على الغش في معاملتهم وجعلوا الكسب من الغش والخداع مغنما، ووالله إنه المغرم لأنه كسب حرام لا بركة فيه ولا مصلحة بل فيه مفاسد متعددة. فمن مفاسد الغش أن صاحبه قد تبرأ منه صلى الله عليه وسلم حيث قال: «من غش فليس منا» فهذا نص صحيح صريح إن من غش فليس من المسلمين، نعم ليس من المسلمين لأن المسلم حقيقة من يعامل إخوانه بصدق وصراحة كما يحب أن يعاملوه بالصدق والصراحة، فالمؤمن هو من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، إذا كنت لا ترضى أن يخدعك أحد ويعاملك بالغش فكيف تفعل ذلك بإخوانك؟ ومن مفاسد الغش أن الغاش ظالم لنفسه معرض لها بالعقوبة عاص لله ورسوله، ومن مفاسده أن الكسب به كسب محرم لا خير فيه ولا بركة، ومن مفاسده أنه ظلم للناس وأكل لأموالهم بالباطل، فإن الناس لو علموا بالغش لم يبذلوا ما بذلوا في ثمن السلعة، ومن مفاسده أن الغاش يسقط اعتباره بين الناس ويحذرون منه ولا يثقون به فتكسد سلعه ويخسر في دينه ودنياه، فكيف يليق بالمسلم أن يتجرأ على الغش وهو من أمة الإسلام الذي يأمر بكل عدل وإنصاف وينهى عن كل ظلم، أيها الغاش: ألست تقول

إنك مسلم فلماذا تفعل ما يكون سببا لتبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم منك وإخراجك من المسلمين؟ والله لو كنت تعقل لكنت بمجرد ما تسمع هذا الحديث منتهيا منزجرا، ولا بارك الله في كسب يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه أنك لست منا، فاتق الله أيها المسلم وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 15 - 16] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في أحوال السابقين في الورع ونماذج من المعاملات المحرمة

[الخطبة الثانية في أحوال السابقين في الورع ونماذج من المعاملات المحرمة] الخطبة الثانية في أحوال السابقين في الورع ونماذج من المعاملات المحرمة الحمد لله الذي أنعم علينا بما أعطانا من الأموال ووفق من شاء من خلقه لاكتسابها من طريق حلال وصرفها فيما يوجب رضى الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بأكمل الشرائع وأفضل الخصال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم لا بيع فيه ولا خلال وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم. عباد الله، الأموال فتنة في تحصيلها فتنة في تصريفها، لقد شرع الله وهو العليم الحكيم لعباده طرقا لتحصيلها مبنية على العدل والقصد فلا ظلم ولا تفريط ولا إفراط، وشرع لعباده طرقا لتصريفها على الوجه النافع للعبد في دينه ودنياه، فانقسم الناس في ذلك أشتاتا، وأسعد الناس بها من اكتسبها من طرقها المشروعة ثم بذلها فيما ينفعه في دينه ودنياه، وأشقى الناس بها من اكتسبها على غير الوجه الشرعي ثم أمسكها عن بذلها فيما ينفع أو بذلها فيما هو ضار، وبين هاتين المنزلتين منازل. أيها المسلمون: لقد كان إخوانكم الأولون الذين ملكوا زمام الدنيا ومفاتيح الآخرة يعرفون قدر هذه الأموال، فكانوا لا يحصلونها إلا عن طريق مباح ولا يصرفونها إلا في طريق نافع سلكوا في تحصيلها سبيل الورع وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود، كان لأبي بكر غلام فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أحسن الكهانة ولكني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه. وشرب عمر بن الخطاب لبنا فأعجبه فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. هكذا أيها المسلمون كان سلفنا يخرجون الحرام من بطونهم بعد أكله وهم جاهلون به حين أكلوه وما ضرهم ذلك، بل ملكوا به خزائن الدنيا ومفاتيح الآخرة وكانت حياتهم طيبة وعاقبتهم حميدة. أيها المسلمون، الله أكبر ما أعظم الفرق بيننا وبين هؤلاء

ما أعظم الفرق بين قوم يرون الحرام عيانا فيتجرؤون عليه ويأكلونه لا يبالون من أين أخذوا المال أمن حلال أم من حرام، فالحلال ما حل بأيديهم، والطريقة المباحة للكسب ما أملته عليهم أهواؤهم وشهواتهم سواء وافق ما في كتاب الله وسنة رسوله أم خالفه، يأكلون أموال الناس بالباطل بالكذب بالغش بالخيانة لا يتورعون ولا يتنزهون إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أيها المسلمون، إن من البياعين من يظهر السلعة على أعلى ما يكون من الأصناف الطيبة وهي في باطنها معيبة، يجعل الطيب في أعلاها والرديء في أسفلها، يغش الناس بذلك ومن غش فليس من أمة محمد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من البياعين من يكذب في ثمن السلعة يقول اشتريت السلعة بكذا أو تسام كذا وهو كاذب، فيأخذ بذلك زيادة في الثمن لكنها تمحق بركته ويأكلها سحتا، ومن المستأجرين من لا يوفي الأجير حقه يأتي الأجير فيعمل عنده العمل ولكنه يماطله بالأجرة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» ، وقال: «مطل الغني ظلم» . ومن الأجراء من لا يعطي العمل حقه يتأخر في بدء العمل ثم يعمل ببطء وتأن وتأخر كأنما يساق سوقا وهو يريد أجرته كاملة، كيف تريد الأجرة كاملة وأنت لا تعمل العمل كاملا أليس هذا من الظلم أليس هذا من أكل المال بالباطل؟ إن أجيرا كهذا لا يستحق في دين الله تعالى من أجرته إلا بمقدار عمله، وما زاد من الأجرة فحرام عليه. فاتقوا الله أيها المسلمون وعاملوا الناس بالعدل عاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، حللوا مكاسبكم اجعلوها غنيمة لكم تعينكم على طاعة الله، لا تجعلوها غرما عليكم فتفقدوا بركتها وتستحقوا عقوبة الله. وفي الحديث: «لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيقبل منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في بعض شروط البيع

[الخطبة الثالثة في بعض شروط البيع] الخطبة الثالثة في بعض شروط البيع الحمد لله الذي أباح لنا من التعامل كل معاملة مبنية على العدل والصدق والبيان وحرم علينا كل معاملة مبنية على الظلم والكذب والكتمان، ونظم لنا طرق التعامل أحسن نظام وأكمله حتى كان ذلك النظام كفيلا للتعايش بين الناس بالمحبة والألفة والرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أحسن كل شيء خلقه وأحكم كل نظام شرعه وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وإمام المتقين وحجة الله على الخلق أجمعين المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للعاملين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن هذا الدين دينكم الذي تفتخرون به، وحق لكم أن تفتخروا به فإنه الدين الذي نظم للعباد سبل معاملتهم مع الله ومعاملتهم مع عباد الله، فكما أن الله شرع لكم عبادات تتعبدون الله بها على حسب ما أمركم به وأرشدكم إليه، وأنكم لا يمكنكم أن تعبدوا الله إلا بما رضيه وشرعه لا يمكنكم أن تعبدوه بما تهواه أنفسكم، فكذلك أذن لكم في معاملات تتعاملون بها فيما بينكم على حسب ما أباحه وأذن به لا على حسب ما تريدون وتشتهون. فالبيع له شروط شرعية، والإجارة لها شروط شرعية، والهبة والرهن والوقف وغيرها كل ذلك له شروط يجب اعتبارها والتعامل على وفق حدودها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. أيها الناس إن أكثر المعاملات وقوعا هو البيع والشراء، وإن للبيع والشراء شروطا لا بد منها إذا فقدت أو فقد بعضها لم يصح البيع، فمن تلك الشروط أن لا يشتمل العقد على غرر فإن كان في العقد غرر فهو باطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر. فمن الغرر أن يكون الثمن مجهولا أو السلعة مجهولة. وقد سمعنا أن بعض الناس يجمع أنواعا من السلع مجهولة العدد مختلفة القيمة فيبيعها جميعا بسعر واحد، وهذا جهالة واضحة، فإن السلع الرخيصة قد تكثر فيكون المشتري مغبونا، وقد يكون الأمر بالعكس فيكون البائع مغبونا، وقد يكون البائع عالما بالأمر ولكن يريد تغرير المشتري وخداعه، كما سمعنا أن بعض الناس يبيع جميع ما في دكانه بسعر واحد والمشتري لا يدري ما قدر كل سلعة فيه، وهذه جهالة وغرر حرام باطل لا يجوز

الإقدام عليه، سمعنا أنه باع دكانه كل حبة منه بريال، فلما أحصوه ظهر كيس السكر بريال وصندوق الكبريت بريال وبقية الأنواع على ريال، وهم حين العقد لا يعلمون كم عدد السكر مثلا وكم عدد الكبريت وكم عدد الأنواع الأخرى، فيا سبحان الله كيف يشكل على هؤلاء أن هذا غرر ومخاطرة؟ فقد يربح المشتري ربحا كثيرا وقد يخسر خسارة كبيرة، يا سبحان الله كيف يقع هذا علنا؟ إن كان وقع علنا ولا ينكره أحد، إن هذا لشيء عجيب! ألم تعلموا أيها المسلمون أن هذا نوع من الميسر وقد قرن الله الميسر بالخمر وعبادة الأصنام فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] أيها المسلمون إن هذا العمل لموقع للعداوة والبغضاء، فإن الخاسر من البائع أو المشتري في هذه الصورة يقع في قلبه من الهم والغم والحزن والنظر إلى أخيه بعين السخط ما لا حاجة إليه، وإن الواجب على من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله وأن يفسخ العقد ويرد السلعة إلى صاحبها ويأخذ الثمن إن كان قد سلمه. ومن شروط العقود أن تكون برضى من الطرفين، فمن أخذ ماله بغير رضا منه ببيع أو إجارة أو غيرهما فالعقد حرام باطل إلا أن يكون ذلك بطريق شرعي. فاتقوا الله أيها المسلمون وتمشوا في معاملتكم على الوجه الذي أذن لكم فيه ربكم، ولا تتعدوا حدوده فتهلكوا، واعلموا أن كل مال كسبه الإنسان أو أخذه بغير طريق حلال فلا خير فيه ولا بركة، بل هو شر ووبال على صاحبه إن أنفقه لم يبارك له فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن خلفه بعده كان زادا له إلى النار، وإن تغذى به فدعا الله فلن يستجاب له، وباب التوبة للتائبين مفتوح. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الرابعة في حكم التحيل على الربا

[الخطبة الرابعة في حكم التحيل على الربا] الخطبة الرابعة في حكم التحيل على الربا الحمد لله الذي أباح لنا من المكاسب أحلها وأزكاها وأقومها بمصالح العباد وأولاها وحرم علينا كل كسب مبني على ظلم النفوس وهواها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الخليقة وبراها وبين لها طرق رشدها وهداها، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أزكى الخليقة عبادة ومعاملة وأتقاها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه، واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله ومن الكبائر التي حذر الله عنها ورسوله قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الربا ثلاث وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه» رواه الحاكم وله شواهد، وفي صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء يعني في الإثم» . أيها المسلمون، إن الربا فساد في الدين والدنيا والآخرة، إنه فساد في المجتمع واستغلال مبني على الشح والطمع، ولكن المرابي قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أيها المسلمون، لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الربا أين يكون وكيف يكون فقال صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه أحمد والبخاري. فهذه هي الأصناف التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألحق بها العلماء ما كان في معناها، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصناف إذا بيع الشيء منها بجنسه فلا بد فيه من أمرين: الأول القبض من الطرفين في مجلس العقد، والثاني التساوي بأن لا يزاد أحدهما على الآخر، فإن اختل أحد الأمرين وقع المتعاقدان في الربا. أيها الناس إن من المعلوم أن أكثر الدول الآن لا تتعامل بالذهب والفضة كنقد، وإنما تتعامل بالأنواط بدلا عن الدراهم، والبدل له حكم المبدل فيكون لهذه الأنواط حكم ما جعلت

بدلا عنه من الذهب والفضة، وإذا كان معلوما أنه لا يجوز أن يعطى الرجل مئة من هذه الأوراق بمئة وعشرة مثلا إلى أجل لأن هذا ربا صريح، فإنه لا يجوز التحيل على ذلك بأي نوع كان من الحيل، ولكن الشيطان وهو عدو بني آدم فتح على كثير من الناس باب التحيل على محارم الله كما فتحها على اليهود وغيرهم، والحيلة على المحرم أن يتوصل الإنسان إلى المحرم بشيء صورته صورة المباح. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من التحيل على المحرمات فقال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وقال بعض السلف في المتحايلين أنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون، والحيلة على المحرم لا ترفع التحريم عنه وإنما هي فعل للمحرم مع زيادة المكر والخداع لله رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمتحيل على المحرم لا يقصد إلا المحرم فله ما نوى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . أيها المسلمون، إن للتحايل على الربا صورا كثيرة أكثرها شيوعا بيننا طريقة المداينة التي يستعملها كثير من الناس، وهي أن يتفق الدائن والمدين أولا على المعاشرة يتفق معه على الدراهم يقول أريد عشرة آلاف ريال العشرة بعشرة ونصف مثلا، ثم يذهب الدائن والمدين إلى صاحب دكان عنده أموال مكدسة إما سكر أو ربطات خام أو غيرها فيشتريها الدائن شراء صوريا ليس له بها غرض سوى الوصول إلى بيع العشرة بعشرة ونصف. والدليل أنه شراء صوري أنه لا يكاسر بالثمن ولا يقلب السلعة ولا يفتشها كما يفعل المشتري حقيقة، وربما كانت هذه الأموال أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأرض لأنها لم تنقل ولم تقلب ولم تفتش، وبعد هذا الشراء الصوري يبيع الدائن هذه السلع على المدين بما اتفقا عليه من الربح، ثم يعود المدين فيبيعها على صاحب الدكان ويخرج بدراهم. وهذا العمل بعينه هو ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب إبطال التحليل من جملة صور الحيل، حيث قال - رحمه الله -: وكذلك بلغني أن من الباعة من قد أعد بزا لتحليل الربا، فإذا جاء إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا بألف ومائتين، ذهبا إلى ذلك المحلل فاشترى منه المعطى ذلك البز ثم يعيده للآخذ، ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه وقد عرف الرجل بذلك بحيث إن هذا البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه البيع البات، انتهى. وقد قال قبل ذلك سبحان الله العظيم أن يعود الربا الذي عظم

الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره، إلى أن يستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب، وقال في الفتاوى أيضا: وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية ثم أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعا بقدر المال فاشتراه المعطى ثم باعه على الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب الحانوت واسطة بينهما بجعل، فهذا من الربا الذي لا ريب فيه، انتهى. أيها المسلمون، إن المداينة بهذا البيع الصوري الذي يعلم الله جل وعلا ويعلم المتعاقدان أنفسهما أنهما لم يريدا حقيقة البيع وإنما أرادا دراهم بدراهم، فالدائن أراد الربح والمدين أراد الدراهم، وأدخلا هذا العقد الصوري بينهما، أقول إن هذه المداينة تشتمل على عدة محاذير: الأول أنها تحايل على المحرم وخداع لله ورسوله، ونحن نقول لهذا المتحيل إن حيلتك لن تغني عنك من الله شيئا، ألم تعلم بأن الله يرى؟ ألم تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ألم تعلم بأن الحساب يوم القيامة على ما في قلبك {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ - وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 9 - 10] {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ - فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9 - 10] المحذور الثاني أن هذه المعاملة توجب قسوة القلب والتمادي في الباطل، فإن صاحبها يظن أنه على حق، فلو أتيته بكل دليل ما سمع منك لأن قلبه مغمور بمحبة هذه المعاملة السيئة لسهولتها، والنفس إذا اعتادت على الربح المحرم بهذه الطريقة السهلة صعب عليها تركها إلا أن يعينها الله بمدد منه وتعرف حقيقة واقعها وشؤم عاقبة معاصيها، وأن هذه الأرباح التي تحصل لها بطريق التحايل على محارم الله ليس منها إلا الغرم والإثم. المحذور الثالث: إن في هذه المعاملة السيئة معصية لله ولرسوله فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السلع حتى تنقل. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: «كان الناس يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه» ، رواه البخاري، وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» رواه أبو داود، فكيف ترضى لنفسك أيها المسلم أن تتعامل بمعاملة يكون فيها معصية الله ورسوله والوقوع فيما حذر الله ورسوله منه من أجل كسب لا يعود عليك بالخير والبركة، فتب إلى ربك واتق الله في نفسك

واعرف حقيقة الدنيا وأنها زائلة ولا تقدمها على الآخرة، قولوا سمعنا وأطعنا ولا تقولوا سمعنا وعصينا، فكروا في هذه المعاملة تفكيرا سليما من الهوى والطمع يتبين لكم حقيقة أمرها، واسلكوا طريقتين سليمتين إحداهما طريقة الإحسان وهي القرض بدون ربح، فإن أبيتم ذلك فاسلكوا الطريقة الثانية طريقة السلم وهي التي تسمى المكتب، تعطون دراهم بسلع معينة إلى أجل معلوم كما كان الناس يفعلون ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن تعطيه ألف ريال بعشرين كيس سكر مثلا يعطيك إياها بعد سنة فهذا جائز، وكذلك إذا احتاج إلى سلعة معينة كسيارة تساوي عشرة آلاف فبعته عليه بأحد عشر ألفا أو أكثر إلى أجل معين فلا بأس به سواء كان الأجل مدته واحدة أو كان موزعا على الأشهر والسنوات. وفقني الله وإياكم لسلوك طريق الزهد والورع وجنبنا ما فيه هلاكنا من الشح والطمع وجعلنا ممن رأى الحق حقا واتبعه ورأى الباطل باطلا واجتنبه إنه جواد كريم.

الخطبة الخامسة في نماذج من البيع المحرم وعقوبة الربا

[الخطبة الخامسة في نماذج من البيع المحرم وعقوبة الربا] الخطبة الخامسة في نماذج من البيع المحرم وعقوبة الربا الحمد لله الذي أباح لنا من المكاسب كل تعامل مبرور ونهانا عن كل معاملة تشتمل على الغش والكذب والظلم والجهالة والغرور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات وتدبير الأمور، وأشهد أن محمدا عبده أهدى آمر وأبر مأمور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتعاملوا فيما بينكم بالبر والصدق والبيان وإياكم والكذب والغش والكتمان، فمن تعامل بما حرم الله عليه فقد باء بالإثم والخسران، واعلموا أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها. لقد فرض الله عليكم في معاملاتكم الصدق والبيان وحرم عليكم الكذب والكتمان، من باع سلعة وجب عليه أن يبين ما فيها من العيوب وأن يصدق فيما يذكره فيها من كل وصف مطلوب لا يذكرن فيها وصفا يرغب وليس فيها، مثل أن يقول إنها طيبة إنها جديدة وليست كذلك، فإن من فعل هذا فهو خاسر وإن ربح حطاما من الدنيا، أترضى أن تأخذ من مال أخيك بما كذبت عليه أما تخاف أن يتعلق بك يوم القيامة مطالبا بحقه حين لا درهم ولا دينار تعول عليه؟ إذا بينت عيوب سلعتك فأنت رابح وإن نقصت قيمتها لأنك امتثلت ما أمر الله وتركت ما حرم الله، رابح لأنك اكتسبت المال من طريق حلال، رابح لأنك خرجت من تبعتها وبرئت ذمتك من النكال والوبال ولن يفوتك شيء مما كتب الله لك من الرزق والمال، فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب وإياكم والربا فإن الذين يأكلون الربا لا يقيمون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يقوم الواحد منهم من قبره يوم القيامة يتخبط في قيامه كما يتخبط المجنون. آكل الربا ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، ألا وإن قلب الدين من الربا سواء فعل ذلك صريحا أو تحيل عليه مثل أن يقول لمدينه إذا حل دينه: إما إن توفي دينك وإما أن أصبر بزيادة دراهم في مقابلة صبره أو يتحيل على ذلك فيقول: استدن مني وأوفني أو اذهب إلى فلان واستدن منه وأنا أضمنك ثم

أوفني وأدينك مرة أخرى لتوفيه، كل ذلك لا يجوز، وإذا باع أحدكم سلعة على شخص بثمن مؤجل فلا يشتريها منه بأقل مما باعها به إلا إذا أوفاه أو باعها على شخص آخر، وإذا اشترى أحد منكم تمرا أو عيشا أو علفا سلما فلا يقوم من مجلس العقد حتى يوفي الثمن كله، فإن تفرقا قبل أن يوفيه فالعقد محرم باطل ومن ذلك شراء العلف من الفلاحين، فإن الناس أهل الدكاكين وأهل البيوت يشترون من الفلاحين أوزانا معلومة يأخذونها يوما فيوما فعليهم إذا اشتروا منهم شيئا أن يسلموا ثمنه بمجلس العقد قبل التفرق، فإن تفرقوا قبل استلامه فالعقد محرم وباطل. وإياكم والنجش فإن النجش حرام، وهو أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها وإنما يقصد نفع البائع أو ضرر المشتري، ولا يبعن أحدكم على بيع أخيه ولا يستأجرن على استئجاره مثل أن تقول لمن اشترى سلعة بعشرة أعطيك مثلها بتسعة أو أحسن منها بعشرة، وكذلك إذا قلت لمن باع سلعة بتسعة أعطنيها بعشرة لأن في ذلك قطعا لرزق أخيك وإضرارا به، وكذلك إذا كان مستأجر البيت ساكنا فيه وقد رضي صاحبه بالأجرة وقنع بها فلا يحل لك أن تزيده في الأجرة ليخرج المستأجر، أما إذا كان صاحب البيت يطلب المزيد وقد عرضه لذلك فإنه لا بأس أن تزيد ولو كان المستأجر في البيت لأن صاحب البيت لم يقنع بالأجرة. ومن وكل على بيع شيء فإنه لا يحل له أن يشتريه أو يشتري شيئا منه إلا أن يستأذن من وكله فيأذن حتى ولو أخذته بمثل ما يشتريه الناس فإنه لا يحل حتى يأذن صاحبه؛ لأننا لو أجزنا له أن يشتري منه لخيف منه أن لا يستقصي في زيادة الثمن. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130 - 132] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الفرع الثالث في الوقف والوصية

[الفرع الثالث في الوقف والوصية] [الخطبة الأولى في تحريم الوصية لبعض الورثة] الفرع الثالث في الوقف والوصية الخطبة الأولى في تحريم الوصية لبعض الورثة الحمد لله الذي من علينا بالأموال وجعلها قياما للناس في مصالح الدنيا والدين ونظم لهم اكتسابها وتصريفها والتصرف فيها تنظيما عادلا مستقيما لا يضاهيه شيء من النظم والقوانين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ملك يوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من هذه الأموال واتخذوها قربة لكم إلى الكبير المتعال، عباد الله لقد نظم لكم ربكم التصرف في هذه الأموال اكتسابا وتصريفا فبين لكم كيف تكسبونها وكيف تتصرفون فيها وتصرفونها، نظم ذلك لكم في حياتكم وبعد مماتكم. ففي حياة الإنسان يستطيع الحر المكلف الرشيد أن يتصرف في ماله بيعا وشراء وإجارة ورهنا ووقفا وهبة ووصية على حسب الحدود الشرعية التي بينها الشارع، وذلك معلوم ولله الحمد. وبعد ممات الإنسان حفظ الله له المال بأن يتولى قسمه بنفسه على أولى الناس به ففرض المواريث وقسمها وقال {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11] وأخبر أن هذه حدوده وقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14] وقال نبيه صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» ، فلا يجوز لأحد أن يوصي لبعض ورثته دون بعض لا بشيء من أعيان المال ولا بشيء من منافعه وغلاته. فلو أراد أحد أن يوصي لبعض الورثة بدراهم أو عقار لكان جائرا في الوصية ولم يجز تنفيذها إلا بإجازة بقية الورثة المرشدين، وكذلك لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته بأجرة شيء من عقاره أو مغله سواء أوصى له بذلك دائما أو مدة معينة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» وقد أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وأن الوصية للوارث حرام، وفي الحديث «أن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» . أيها

المسلمون إنني أحب أن أتعرض في خطبتي هذه لموضوع لم يسبق أن تعرضنا له وأطبقه على ضوء هذه النصوص وهو ما كان يعتاده بعض الناس من الوصية بوقف شيء من ماله وتخصيصه بأولاده وذريته من بين سائر الورثة، نريد أن نطبق هذا العمل على النصوص الشرعية فننظر في حكمه ثم ننظر في فوائده الاجتماعية هل فيه فائدة للموقوف عليهم أو هو إلى الضرر والمفاسد أقرب؟ فبالنظر إلى النصوص الشرعية لا شك أن الوصية بوقف شيء من المال على بعض الورثة داخل في قوله صلى الله عليه وسلم «لا وصية لوارث» ، فإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض الورثة بسكنى شيء أو استثمار شيء من عقاره لمدة سنة، فكيف يجوز أن يوصي له بما يقتضي سكنى الدار واستثمار العقار دائما وأبدا، وإذا كان الله تعالى قد فرض للورثة ومن جملتهم أولادك الذين خصصتهم بالوصية بالوقف عليهم، إذا كان الله تعالى قد فرض لكل وارث حقه ونصيبه فكيف يجوز أن توصي لأولادك بوقف شيء من مالك عليهم؟ ألم يكن هذا تعديا لحدود الله واقتطاعا من حق بعض الورثة لورثة آخرين؟ وهذا معناه الجور في الوصية والمضارة للورثة إذا. فإذا قال الإنسان أوصيت بثلثي أو ببيتي أو بعقاري يكون وقفا على أولادي، وله ورثة غير الأولاد، فهذه وصية لوارث وتعد لحدود الله فيكون حراما. قال شيخنا عبد الرحمن السعدي: لا يحل لأحد أن يوقف وقفا يتضمن المحرم، والظلم بأن يكون وقفه مشتملا على تخصيص أحد الورثة دون الآخرين، ثم قال: فإن العبد ليس له أن يتصرف في ماله بمقتضى شهوته النفسية وهواه، بل عليه أن لا يخالف الشرع ولا يخرج عن العدل، هذا كلامه في كتاب المختارات الجلية. وقال في كتاب آخر كتاب الإرشاد: أن أعظم مقاصد الوقف أن يكون معينا على البر والتقوى فيعلم من هذا أن الأوقاف التي يقصد بها حرمان بعض الورثة منافية لمقصود الوقف كل المنافاة، وأن وقف ثلث مال الإنسان على بعض ورثته مخالف لهذا الشرط ومناف لما انعقد عليه الإجماع من أن لا وصية لوارث. انتهى. إذن، فهذا العمل من الناحية الشرعية حرام ومعصية لله ورسوله وتعد لحدوده، ويبقى النظر إليه من الناحية الاجتماعية ففيه مضار: 1 - الظلم والجور، وضرر الظلم والجور ليس على فاعله فحسب بل على جميع الناس. 2 - حرمان الورثة الخارجين من هذا الوقف من حقهم الثابت في التركة. 3 - إلقاء العداوة بين الموقوف عليهم فكم حصل بين الذرية من

الخصومة والتقاطع والتشاتم والمرافعات إلى الحكام بسبب هذه الأوقاف، ولو ترك المال لهم حرا لتمكنوا من الانفصال بعضهم عن بعض ببيع أو غيره، أو لو أبعد الوقف عنهم وكان على أعمال بر عامة من مساجد وإصلاح طرق وتعليم علم وطبع كتب نافعة وإطعام مساكين وكسوتهم وإعانة معسر وسقي ماء وغيره من المصالح لكان أنفع للواقف وأبرأ لذمته. 4 - أن هذا الوقف إن كان بيد ورع تعب منه من النظر عليه وتصريفه ومواجهة مستحقيه وكونهم إن لم يخاصموه نظروا إليه نظرة غضب وكأنه ظالم لهم، أما إن كان بيد جشع أهلكه وأكله. 5 - أن في هذا الوقف دمارا وإتلافا للأموال، فإن بعض المستحقين له لا يهمهم إصلاحه وإنما يهمهم أن يستغلوه حتى يستنفذوه، وإن تضرر الوقف وتلف على من بعدهم فيتعلق في ذممهم حتى للواقف وحقوق لمن بعدهم من الموقوف عليهم. هذه خمسة مفاسد مع المفسدة الشرعية وهي عصيان لله وعصيان رسوله وتعدي الحدود الشرعية. والمتأمل يجد فيه أكثر من هذا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في التحذير من الوصية لبعض الورثة

[الخطبة الثانية في التحذير من الوصية لبعض الورثة] الخطبة الثانية في التحذير من الوصية لبعض الورثة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من بشر وأنذر وأمر وزجر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فقام بأعباء الرسالة خير قيام ونصح عباد الله أبلغ نصيحة، وكان مما يعظ به الناس كلام الله فكان يقرأ في المناسبات ما يناسب الوقت، «وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة بعد الفاتحة في الركعة الأولى آلم تنزيل السجدة كاملة، وفي الركعة الثانية هل أتى على الإنسان كاملة» ، وكان يديم ذلك، وذلك لما تضمنته هاتان السورتان من ذكر مبدأ الخلق ومنتهاه ومبدأ خلق الإنسان وسعيه ونهايته وجزائه، وأن الناس خلقوا من أصل واحد ثم انقسموا قسمين شاكرا وكفورا ومؤمنا وفاسقا {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ - أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 18 - 19] وقد بسط الله شيئا من نعيم هذه الجنات في سورة هل أتى على الإنسان {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] أما صلاة الجمعة فكان يقرأ فيها بعد الفاتحة أحيانا بسورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة المنافقين في الركعة الثانية، وأحيانا يقرأ في الأولى سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية هل أتاك حديث الغاشية لما في ذلك من المناسبة والتذكير والوعظ. أيها المسلمون، إن مما جاء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما أجمع عليه علماء المسلمين أنه لا وصية لوارث، وأن من أوصى لبعض ورثته دون الآخرين فقد عصى الله ورسوله وتعدى حدود الله وظلم نفسه وظلم ورثته حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض، ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته دون بعض فقد أوصى لوارث، حيث خص بعض ورثته باستغلال ما أوقفه عليهم دون الآخرين. وإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته باستغلال العقار سنة أو بسكنى الدار شهرا فكيف يجوز له أن يوصي بوقفه عليه واستغلاله دائما؟ هذا شيء لا يمكن أبدا ولا تأتي

به شريعة حكيمة عادلة ولا عقل سليم، فمن أوصى بوقف ثلثه على أولاده أو ذريته دون غيرهم من بقية الورثة فإن هذه وصية جائرة يجب عليه إبطالها والرجوع عنها وإن كان قد كتبها وأشهد عليها. يا سبحان الله، ماذا يستفيده من هذا التخصيص؟ قد يكون هذا التخصيص مع كونه معصية لله تعالى مصدر تعب ومشقة على الذرية أنفسهم، ولو كان المال الموقف حرا لهم أو بعيدا عنهم لكان أريح لهم وأسلم لذمتهم وذمة الموقف، يا سبحان الله، كيف يوصي الإنسان بعد موته ومفارقته الدنيا بمعصية الله ورسوله؟ وما أدري ماذا يواجه به ربه بعد موته إذا سأله عن ماله فيما أنفقه؟ نعم إن الجواب أن يقول أوصيت بوقفه أو وقف ثلثه على بعض الورثة، وهذا هو التعدي لحدود الله وعدم الرضا بفرائض الله وتقسيمه. فاتقوا الله أيها المؤمنون وارجعوا إلى الحق ما دمتم في زمن الإمهال قبل أن تتحسروا على ما فات منكم فيما صرفتم من المال. أيها الناس، قد يظن بعضكم إني أنهى عن الوقف بكل حال، ولكن ليس الأمر كذلك، وإنما أنهى عن وقف يتضمن الحيف والوصية لبعض الورثة دون بعض، أما الوقف العادل الذي يبتغي به وجه الله فلا أنهى عنه ولا غيري ينهى عنه اللهم إلا أن يكون مفضيا حتما أو غالبا لمفاسد أكبر من مصالحه، ولكن إذا جعل الإنسان وقفه على المساجد أو على مكاتب علم أو الفقراء أو المصالح العمومية أو الأقربين عموما أو تصدق بشيء من ماله في حياته في أمر يجري له بعد موته، فكل هذا إن شاء الله خير ومصلحة وبر. أيها الناس، أصدقوا العزيمة وتغلبوا على أنفسكم بتصحيح وصاياكم وتطبيقها على شرع الله ورسوله ولا تتصرفوا فيها تصرفا يكون وبالا عليكم وأنتم ولله الحمد في سعة من ذلك. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في حكم التصرف في الوقف

[الخطبة الثالثة في حكم التصرف في الوقف] الخطبة الثالثة في حكم التصرف في الوقف الحمد لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة على وجه الكمال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأدوا ما تحملتموه من الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، وقد أمركم الله في كتابه أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على الوجه الذي تحملتموها عليه، وأن لا تخونوها بأخذ منها أو تصرف يضر بها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له» وقال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان» . أيها المسلمون، ولقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فقال: «ينام الرجل نومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» . أيها المسلمون، إن الأمانة تكون في معاملة العبد مع ربه كما تكون في معاملة الخلق، فالأمانة في العبادة أن تقوم بأوامر الله مخلصا له متبعا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تترك ما نهى الله عنه ممتثلا بذلك أمر الله ورسوله. ألا وإن الأمانة تكون في البيع والشراء والصناعة والإجارة وولاية النكاح، والودائع التي تودع إياها، والأقوال التي تكون سرا بينك وبين صاحبك، والولايات التي تتولاها شرعا أو عرفا، فالوكيل أمين وولي اليتيم أمين وناظر الوقف أمين والفلاح أمين والراعي أمين. فالأمانة تكون في

الدين كله والأعمال كلها، فمن أدى الأمانة على الوجه المطلوب فهو من المفلحين ومن خانها أو تهاون فيها كان من الخاسرين. أيها المسلمون، إن بين أيديكم أوقافا أنتم الأمناء عليها فأدوا الأمانة فيها وراعوا فيها حقوق المستحقين من بعدكم، فإن لهم حقوقا فيها كما لكم فيها حقوق، فليست الأوقاف لكم تتصرفون فيها كما تحبون وإنما هي أمانة بين أيديكم تنفذونها بحسب شروط الموقفين. أيها المسلمون، إني أحب أن أبين لكم في خطبتي هذه أمرين من أمور الوقف: أحدهما في الناظر على الوقف، والثاني في التصرف في الوقف. أما الأمر الأول وهو الناظر، فإن كان الموقف قد عين ناظرا بشخصه أو بوصفه فالنظر لمن عينه، وإن كان الموقف لم يعين ناظرا لا بشخصه ولا بوصفه فإنه إن كان الوقف على جهة عامة كالوقف على الفقراء وعلى المساجد ونحوها فالنظر للحاكم، وإن كان الوقف على معين كالأولاد ونحوهم كان النظر للموقوف عليهم جميعا. ألا وإن من الجهة العامة وقف أماكن الوضوء والاغتسال التي تسمونها الحساوة، فإذا أوقف الإنسان حسوا للمسلمين ولم يذكر له ناظرا معينا كان الناظر عليه الحاكم الشرعي لأن الوقف للمسلمين والحاكم نائبهم، وعلى هذا فالآبار السبل التي في الأسواق ولم يذكر الواقف لها ناظرا فإنه يتولاها القاضي دون غيره. وقد سمعنا أن بعض الناس لما غارت ماء بئر الحسو السبيل سده ولم يعرف كيف يتصرف فيه، والواجب عليه إذا تعطلت منافعه ولم يمكن إصلاحه أن يبيعه أو يصبره ويصرف العوض في نفع عام بعد مراجعة القاضي. أما الأمر الثاني الذي أريد بيانه فهو التصرف في الوقف. فالوقف إذا تم لا يجوز بيعه ولا التصرف فيه إلا على الوجه الذي شرطه الموقف، ما لم يكن في ذلك مصلحة شرعية أنفع مما عينه الموقف، فإنه يسأل أهل العلم أو القاضي ويعمل بما يقولون، إلا أنه إذا تعطلت مصالح الوقف وصار لا ينتفع به لا بسكنى ولا بإجارة فإنه يجوز بيعه أو تصبيره ويشتري بعوضه إن بيع ما يكون بدلا عنه. أيها المسلمون، لقد سمعنا أن بعض الناس بدؤوا يصبرون الأوقاف من دور أو دكاكين مع أنها لم تتعطل منافعها ويمكن إجارتها بدراهم تكفي ما عين فيها من تنافيذ، وهذا غلط منهم

وتعد على حق الواقف وحق من بعدهم من المستحقين، فلا يجوز لهم أن يحكروها بالصبرة عمن بعدهم، فإنه ربما تكون الأجرة في المستقبل أضعاف الصبرة فيحولون بتصبيرهم بين هذه الزيادة وبين مستحقيها من البطون المستقبلة فيلحقهم الإثم في قبورهم، وربما دعا عليهم من بعدهم لظلمهم إياهم، ودعاء المظلوم مستجاب. فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا الأمانة واسلكوا سبيل السلامة ولا تتبعوا أنفسكم شيئا يشغل ذمتكم، فلقد كان السلف الصالح - رضي الله عنهم - لا يعدلون بالسلامة شيئا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

القسم الخامس النكاح

[القسم الخامس النكاح] [الفرع الأول شروط النكاح] [الخطبة الأولى في نماذج من شروط النكاح وكيفية طلاق السنة] الفرع الأول شروط النكاح الخطبة الأولى في نماذج من شروط النكاح وكيفية طلاق السنة الحمد لله الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، أبدع ما خلقه وأحكم ما شرعه وأعطى كل نفس هداها، نحمده حمدا كثيرا لا يتناهى ونشكره على نعم تفضل بها وأعطاها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل البرية وأزكاها صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقو الله تعالى واعلموا أن الله سبحانه فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، فاعرفوا حدود الله وأحكامه واعلموا بما تقتضيه شريعته الكاملة، إلا وأن مما أحكمه الله شرعا وتنظيما ذلك النكاح الذي جعله الله صلة بين بني آدم وسببا للقربى بينهم، ورتب لعقده وفسخه أحكاما معلومة وحدودا معروفة. فهو عقد عظيم خطير يترتب عليه من أحكام الله شيء كثير، يترتب عليه النسب والإرث والمحرمية والنفقات وغيرها. فمن ثم اعتنى الشارع به اعتناء عظيما بالغا، فجعل له شروطا وحرمات. ونحن نذكر هنا شيئا من ذلك. فمن شروط عقد النكاح أن يكون بولي بالغ عاقل يعرف الكفؤ من الناس ومصالح النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي. فالمرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها لا بطريق الأصالة ولا بطريق الوكالة، والولي هو العاصب، وأحق الناس بالولاية أقربهم، ولا ولاية لمن يدلي بالأم فقط كأبي الأم والخال والأخ من الأم لأن الولاية في النكاح للعصبة فقط، ويجب على الولي أن يتقي الله تعالى وأن يراعي مصلحة المرأة ويزوجها من هو كفؤ لها دينا وخلقا إذا رضيته، ولا يحل له أن يمنعها من الكفؤ فإن فعل فقد عصى الله ورسوله وسقطت ولايته عليها ويزوجها غيره من أوليائها. ومن شروط عقد النكاح رضا المرأة إذا كانت بالغة، فلا يجوز أن تزوج المرأة بغير رضاها سواء كانت بكرا أم ثيبا وسواء كان الذي يريد أن يزوجها أباها أو غيره لقول

النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» ، وفي رواية لمسلم: «والبكر يستأمرها أبوها» . وقد كان بعض العلماء - رحمهم الله - يقولون لا بأس أن يجبر الأب بنته البكر، ولكن قولهم ضعيف لأنه يخالف الحديث ولأنه يترتب على ذلك مفاسد كثيرة غالبا، ولأن كثيرا من الناس قد يجبر ابنته لمصلحة نفسه، ولأنه إذا كان لا يملك أن يجبرها على بيع أقل شيء من مالها فكيف يملك أن يجبرها على بذل نفسها لمن لا تهواه ولا ترضاه؟ إذن فلا بد من رضا المرأة بكرا كانت أم ثيبا. ولكن لو فرضنا أنها رغبت الزواج بشخص لا يرضى دينه فإنه يجب أن تمنع منه. ومن شروط النكاح أن تكون الزوجة والزوج خاليين من الموانع، فلا يصح النكاح في حال يحرم العقد فيها، فلا يصح من المحرم بحج أو عمرة ولا على المحرمة بحج أو عمرة، ولا يصح النكاح والمرأة في عدة من غيره؛ ولذلك لا يجوز للرجل أن يخطب المرأة المعتدة من غيره. ومن اهتمام الشارع بعقد النكاح أن رتب للخروج منه حدودا لا بد منها، فإذا أراد الرجل طلاق امرأته فليصبر وليتأن لعل الله أن يغير الأمور والأحوال، وربما غير البغض محبة لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] إذا كان لا بد من الطلاق فليطلقها على الوجه الشرعي، وهو أن يطلقها واحدة وهي حامل أو في طهر لم يجامعها فيه، ولا يحل له أن يطلقها وهي حائض ولا في طهر جامعها فيه إلا أن يتبين حملها، فإن طلقها وهي حائض فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر وهو في ذلك لا يجامعها ثم ليطلقها بعد ذلك إن شاء. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن عبد الله بن عمر طلق زوجته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. وإياكم والحمق في الطلاق، فلا تطلقوا أكثر من واحدة ولا تطلقوا اثنتين ولا تطلقوا ثلاثا فإن ذلك خلاف الشرع، وإنه ليجب على الذين يكتبون الطلاق أن يكون عندهم علم من الشرع، وأن يتمشوا في كتابة الطلاق على الوجه الشرعي ويرشدوا الناس إلى ذلك. وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا له فيه رجعة فإنه يجب أن تبقى المرأة في بيته حتى تنتهي عدتها، ولها أن تتزين له وأن تكلمه وأن لا تحتجب منه لأنها في حكم الزوجات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في شروط النكاح وكيفية طلاق السنة أيضا

[الخطبة الثانية في شروط النكاح وكيفية طلاق السنة أيضا] الخطبة الثانية في شروط النكاح وكيفية طلاق السنة أيضا الحمد لله الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا والحمد لله الذي بين لعباده الحلال والحرام ليسيروا على حسب ما شرع لهم وكان الله سميعا بصيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة حين لا يجد الظالمون وليا ولا نصيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرسل بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد، أيها الناس: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] اشكروا نعمة الله عليكم بما شرعه لكم من الاتصال بعضكم ببعض بسبب عقد النكاح الذي حث الشارع عليه وأمر به وأخبر أنه من سنن المرسلين قال الله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» وقال: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . والنكاح له شروط عند الدخول فيه وشروط عند الخروج منه يجب على الإنسان مراعاتها. فمن الشروط التي عند دخوله أن يكون كل من الزوج والزوجة راضيًا بالنكاح، فلا يجوز إجبار الزوج على النكاح ولا إجبار الزوجة ولو كانت بكرا، ولا يجوز إجبارها على أن تتزوج بمن لا ترضاه، فلو قالت لا أرضى إلا بفلان وكان غير كفؤ في دينه فإنها تمنع ولا تزوج حتى تختار كفؤا في دينه. ومن الشروط الولي، فلا نكاح إلا بولي، والولي هو العاصب الأقرب فالأقرب فالأقرب، إلا أن الآباء وإن علوا يقدمون على الأبناء وإن نزلوا. وأما الأقارب غير العصبة فلا ولاية لهم إلا أن يوكلهم من له الولاية من العصبة، وذلك مثل الأخ من الأم والخال والجد من قبل الأم فهؤلاء ونحوهم ليس لهم ولاية التزويج إلا بتوكيل من الولي العاصب، وإذا لم يكن الولي الأقرب أهلا للولاية فإنه يزوجها الولي الذي بعده، وإذا لم يكن للمرأة أولياء من العصبة فإن الذي يزوجها القاضي إما بنفسه أو يوكل من شاء. ومن الشروط أن يحضر العقد

رجلان مقبولان في الشهادة. قال الفقهاء: ولا يصح أن يشهد على عقد النكاح من كان من آباء الزوج أو أبنائه أو آباء الزوجة أو أبنائها أو آباء الولي أو أبنائه. ومن الشروط أن يعين الولي الزوجة باسمها أو وصفها الذي تتميز به. فلو قال زوجتك بنتي لم يصح إلا أن يكون ليس له بنت سواها فلا بأس، ويجوز العقد على المرأة ولو كانت حائضا أو صائمة أو غائبة عن البلد إذا علم رضاها. وأما الواجب عند الخروج من النكاح فإن الزوج مأمور إذا رأى من زوجته ما يكره أن يعظها ثم يهجرها في المضجع ثم يضربها ضربا غير مبرح ويصبر عليها فلا يطلقها، فقد تستقيم حالها وقد يرزق منها أولادا يكون فيهم خير كثير، فإذا لم يتمكن من الصبر جاز له أن يطلقها ولكن يجب عليه أن يطلقها لعدتها قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وذلك بأن يطلقها وهي طاهر طهرا لم يجامعها فيه، فلا يجوز طلاق المرأة وهي حائض ولا أن يطلقها في طهر وطئها فيه، إلا أن يتبين حملها أو تحيض بعد ذلك فيطلقها بعد الحيض قبل أن يطأها. وإني أذكركم بمسألة من فروع تلك المسألة، إذا كانت لك زوجة ترضع وقد جامعتها بعد نفاسها وأردت أن تطلقها فلا يجوز أن تطلقها حتى تحيض ولو طال الزمن، فإذا حاضت وطهرت فطلقها إن شئت. وإذا أراد أحدكم الطلاق في الحال التي يجوز فيها فليطلق مرة واحدة لا أكثر ليكون في ذلك توسيع على نفسه إذا أراد أن يراجع، ولأن ما زاد على الطلقة الواحدة فهو طلاق بدعة إما مكروه وإما محرم، وأنت إذا طلقتها واحدة فماذا تخاف؟ أتخاف أن ترجع عليك؟ إنها لن ترجع عليك إلا باختيارك. إذا فلماذا تتجاوز الواحدة فتطلق أكثر منها؟ وإذا أراد أحدكم الطلاق فليشهد رجلين على طلاقه، وإذا طلقتموهن فلا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فلا يحل للزوج أن يخرج زوجته إذا طلقها طلاقا له فيه رجعة من بيته حتى تنقضي عدتها، ولا يحل لها أن تخرج من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها قال الله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] هذا قضاء الله وحكمه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]

أما إذا كانت الزوجة مطلقة طلاقا بائنا وهي التي لا تحل لزوجها إلا بعقد فإنها لا بأس أن تخرج من بيت زوجها وتعتد في بيتها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في تربية الأولاد وتعليمهم أيضا

[الخطبة الثالثة في تربية الأولاد وتعليمهم أيضا] الخطبة الثالثة في تربية الأولاد وتعليمهم أيضا الحمد لله الذي من على عباده بالأموال والأولاد وجعل ذلك فتنة لعباده ليختبر بذلك من يقوم بحقهم ويصونهم عن الفساد ممن يضيعهم ويتركهم هملا فيكونون خسارة عليه في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكريم الجواد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى الهدى والرشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان في القول والفعل والاعتقاد وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروا نعمة الله عليكم بهؤلاء الأولاد الذين جعلهم الله فتنة لكم، فإما قرة عين في الدنيا والآخرة وإما حسرة وندم ونكاد. ألا وإن من شكر نعمة الله عليكم فيهم أن تقوموا بما أوجب الله عليكم من رعايتهم وتأديبهم بأحسن الأخلاق والأعمال قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] أيها المؤمنون، قوا أهليكم النار بفتح أبواب الخير لهم وتوجيههم إليها وتشجيعهم عليها، بينوا لهم الحق ومنافعه ومروهم به وبينوا لهم الباطل ومضاره وحذروهم عنه. فإنكم رعاة عليهم وكل راع مسؤول عن رعيته، فمن قام بحسن رعايته فيهم أفلح ونجا، ومن فرط في رعايته فيهم خسر وهلك. عرفوهم بأصول الإيمان وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ألزموهم بأركان الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام، مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، علموهم كيف يتطهرون وكيف يصلون وماذا يقولون في صلاتهم وما يفعلون وماذا يجتنبون ويتركون، اغرسوا في قلوبهم محبة الله وتعظيمه، وبينوا نعم الله الظاهرة والباطنة العامة والخاصة لترسخ في قلوبهم محبة الله وذكر آلائه ونعمه، واغرسوا في قلوبهم كذلك محبة النبي صلى الله عليه وسلم وبينوا ما حصل على يديه من الخير العظيم لأمته، وأنه صلى الله عليه وسلم الإمام المطاع الذي يجب تقديم محبته وأمره على جميع المخلوقين، بينوا لهم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاق أصحابه الكريمة وما قاموا به من العبادات الجليلة والأعمال العظيمة حتى نصر الله بهم الإسلام وأقام بهم الدين، فإنهم هم العظماء النبلاء الذين حازوا قصب السبق في أعمال الدنيا والآخرة وقادوا

الناس إلى الخير فانقادوا إلى ذلك برغبة صادقة. لما نظر الناس إلى أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعمالهم عرفوا أنهم على الحق وأن طريقتهم هي الطريقة المثلى التي يقوم عليها أمر الآخرة والدنيا فدخلوا في دين الله أفواجا من غير إكراه. علموا أولادكم الصدق بالقول والفعل، فإذا حدثتموهم فلا تكذبوا عليهم وإذا وعدتموهم فلا تخلفوا وعدكم. يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة» ، وإن أولادكم إذا رأوكم تكذبون هان عليهم الكذب وإذا رأوكم تخلفون الموعد هان عليهم الإخلاف. عودوهم الإحسان إلى الخلق وفعل المروءة وحذروهم من الاعتداء والظلم، اغرسوا في قلوبهم محبة المؤمنين، وبينوا أن «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وأن الواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة ليشبوا على الألفة والمحبة والاتحاد. ومن كان من أولادكم يستطيع القراءة فحثوه على قراءة الكتب النافعة مثل كتب التفسير القيمة السالمة من تحريف معاني القرآن، ومثل كتب الحديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل مؤلفات شيخنا عبد الرحمن السعدي - غفر الله لهم جميعا - ومثل كتب التاريخ الصحيحة البعيدة عن الأهواء، خصوصا تاريخ صدر الإسلام لأن قراءة تاريخ ذلك العصر يزيد القارئ علما بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومحبة لهم وفقها في الدين وأسرار أحكامه وتشريعاته، وحذورهم من قراءة الكتب الضارة التي تخل بعقيدة الإنسان أو عباداته أو أخلاقه، ومن قراءة الصحف والمجلات الضالة التي تتضمن الشك والتشكيك وإثارة الفتن أو تبحث في أمر من أمور الدين على وجه الخطأ، فإن قراءة مثل هذه الكتب الضارة تؤثر في عقيدة قارئها واتجاهه إلا من شاء الله ممن وهبهم الله علما وإيمانا وتمييزا بين الحق والباطل والضار والنافع. أيها المؤمنون، إن مسؤوليتنا كبيرة أمام الله في أولادنا وأهلنا ذكورهم وإناثهم، فنسأل الله الذي حملنا إياها أن يعيننا وأن يوفقنا للصلاح والإصلاح، فإن الفرد لو أصلح نفسه وأهله لصلحت الأمة لأن الأمة أفرادها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الفرع الثاني في الصداق

[الفرع الثاني في الصداق] [الخطبة الأولى في مشكلة مغالاة المهور ومنع الأولياء] الفرع الثاني في الصداق الخطبة الأولى في مشكلة مغالاة المهور ومنع الأولياء الحمد لله الواحد الأحد القيوم الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد خلق فسوى وقدر فهدى وجعل من الإنسان زوجين ذكرا وأنثى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجباء وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء وسلم تسليما. أما بعد، فإن في مجتمعنا مشكلة من أهم المشاكل كل من سمعناه يشكو منها عند ذكرها ويود بكل قلبه أن يسلك الناس طريقا إلى حلها، ألا وهي مشكلة الزواج، فإنها مشكلة من وجهين الأول من جهة المغالاة في المهور والتزايد فيها وجعلها محلا للمفاخرة حتى بلغت إلى الحال التي هي عليها الآن. ولقد صار بعض الناس الآن يزيد في تطويرها ويدخل في المهر أشياء جديدة تزيد الأمر كلفة وصعوبة حتى أصبح المهر في الوقت الحاضر مما يتعسر أو يتعذر على كثير من الناس، فتجد الكثير يتعب تعبا كبيرا في أول حياته وعنفوان شبابه ولا يكاد يدرك ما يحصل به المرأة التي تحصنه، كل هذا بسبب هذا التصاعد الذي لا داعي له في المهور، وهذا مما يعوق عن النكاح الذي أمر الله به ورسوله وهو خلاف المشروع، فإن المشروع في المهور تخفيفها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» «وتزوجت امرأة بنعلين فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها» ، «وقال لرجل: " التمس ولو خاتما من حديد " فالتمس فلم يجد شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكما أو قال ملكتكها بما معك من القرآن» ، «وقال له رجل: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على أربع أواق يعني مئة وستين درهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أربع أواق! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه،» وقال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الخمسة وصححه الترمذي. فيا أيها القادر، لا تغال في المهر ولا تفاخر في الزيادة فيه فإن في مجتمعك من إخوانك من لا يستطيع مباراتك، فالأولى أن

تأخذ بالأيسر اتباعا للمشروع وتحريا لبركة النكاح ورأفة بإخوانك الذين يعجزون عما تقدر عليه، وإذا دخلت على أهلك ورغبت فأعطهم ما تشاء. ولو أننا نسلك طريقة لتسهيل الأمر وتخفيف حدة المغالاة بتأجيل بعض المهر، بأن تقدم من المهر ما دعت الحاجة إليه في النكاح ونؤجل الباقي في ذمة الزوج لكان هذا جائزا وحسنا وفي ذلك تسهيل على الزوج ومصلحة للزوجة، فإن ذلك أدعى لبقائها معه لأنه لو طلقها لحل المهر المؤجل إذا لم يكن له أجل معين. فانظروا - رحمكم الله - هذه المشكلة بعين الاعتبار ولا تجعلوا المهور محلا للمفاخرة والمباهاة ويسروا ييسر الله عليكم. أما الوجه الثاني من هذه المشكلة فهي امتناع الأولياء من قبول الخطاب، فإن بعض الأولياء يمتنع من تزويج من له عليها ولاية، وهذا لا يجوز إذا كان الخاطب كفؤا ورضيته المخطوبة لقوله تعالى في المطلقات إذا أراد زوجها نكاحها بعد تمام العدة {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه، قال: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ثلاث مرات. هذا وفي منع المرأة من تزويجها بكفئها ثلاث جنايات، جناية الولي على نفسه بمعصية الله ورسوله، وجناية على المرأة حيث منعها من كفئها الذي رضيته، وجناية على الخاطب حيث منعه من حق أمر الشارع بإعطائه إياه. وإذا امتنع الولي من تزويج موليته بكفء رضيته سقطت ولايته وصارت الولاية لمن بعده الأحق فالأحق كما قال أهل العلم - رحمهم الله -، وقالوا إذا تكرر منه هذا صار فاسقا ناقص الإيمان والدين، حتى قال كثير من أهل العلم لا تقبل شهادته ولا تصح إمامته ولا ولايته ولا جميع أفعاله وتصرفاته التي يشترط لها العدالة. فاتقوا الله أيها الناس واتقوا الله أيها الأولياء وزوجوا من ترضون دينه وخلقه ولا تمنعوا النساء، فإن في ذلك تعطيلا للرجال والنساء وتفويتا لمصالح النكاح وانتشارا للمفاسد، إذا لم يتزوج أبناؤنا ببناتنا فبمن يتزوجون؟ وإذا لم نزوج بناتنا بأبنائنا فبمن نزوجهن؟ أترضون أن يتزوج أبناؤنا بنساء أجنبيات بعيدات عن بيئتنا وعاداتنا ولهجاتنا، فتتغير البيئة والعادة واللهجة بجلبهن، وربما حصل منهن إتعاب للزوج بكثرة طلبهن السفر إلى بلادهن أو غير ذلك. أترضون أن تبقى بناتنا بدون أزواج يحصنون فروجهن

وينجبن منهن الأولاد الذين بهم قرة أعينهن. إنه لا بد من أن يتزوج أبناؤنا ببناتنا، ولكن علينا أن نتعاون لتسهيل الطرق أمامهم مخلصين لله قاصدين بذلك تحصيل ما أمر الله به ورسوله، فإن الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله، ولقد منع رجال تزويج من لهن عليهن ولاية لينالوا حطاما من الدنيا فباءوا بالخسران والندامة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

القسم السابع في الحدود والقصاص

[القسم السابع في الحدود والقصاص] [الفرع الأول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] [الخطبة الأولى في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الفرع الأول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخطبة الأولى في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله العلي العظيم المدبر لخلقه كما يشاء وهو الحكيم العليم حرم على عباده كل ما يضرهم في دينهم أو دنياهم رحمة بهم وهو الغفور الرحيم، وجعل تعاطي ما حرمه عليهم سببا للخسران في الدنيا والدين، وأوجب على المؤمنين أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يأخذوا على أيدي السفهاء فيأطروهم على الحق أطرا، فإن فعلوا ذلك استقامت أمورهم وصلحت أحوالهم في الدنيا والأخرى، وإن هم أضاعوا ذلك وأهملوا ذلك خسروا الصفقة ووقعوا في الهلاك والردى، نحمده على نعمه التي لا تحصى ونشكره على فضائله العظمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يوم يجمع الخلائق في صعيد واحد ويجزي كل نفس بما تسعى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصابر لله وبالله وفي الله حتى أقام الله به الدين وأعلى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اقتدى وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب، أقيموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ذلك دعامة المجتمع. فلا يقوم المجتمع إلا إذا شعر كل فرد من أفراده أنه جزء من كل وأن فساد جزء من هذا الكل فساد للجميع، وأنه كما تحب لنفسك أن تكون صالحا فكذلك يجب أن تحب لأخيك أن يكون صالحا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وإذا شعر الإنسان بهذا الشعور النبيل، وإن هذا هو ما يقتضيه الإيمان ويفرضه عليه، فإنه لا بد أن يسعى في إصلاح المجتمع بشتى الوسائل بالطرق التي تضمن المصلحة وتزول بها المفسدة، فيأمر بالمعروف بالرفق واللين والإقناع، وليصبر على ما يحصل له من الأذى القولي والفعلي فإنه لا بد من ذلك لكل داع كما جرى ذلك لسيد المصلحين وخاتم النبيين، وليجعل الأمل والنجاح نصب عينيه فإن ذلك أكبر عون له على سيره في مهمته، ولا يجعل لليأس عليه سبيلا فتفتر همته وتضعف عزيمته. وإن على المؤمنين كلهم أن يتعانوا في هذا الأمر الجليل

العظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يساعدوا من رأوه قائما به ويقوموا معه نصرة للحق وقضاء على الباطل، وأن لا يخذلوا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أو يرجفوا به، فإن في ذلك نصرا للباطل وإذلالا للحق. لقد اتخذ بعض الناس عادة توجب توهين عزائم الدعاة إلى الله وتضعف همم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فتجدهم إذا سمعوا واعظا يقولون، وأقولها باللغة العامية (هو عاد يبى ينفع كلامه. هم الناس يبى يطيعون) إلى نحو هذه الكلمات التي يوهنون بها عزائم الدعاة إلى الخير. وكان الأجدر بهؤلاء أن يشجعوا ويقولوا للداعي والآمر إنك على خير وقد حصلت أجرا أو أبرأت ذمتك وسينفع الله بذلك إن شاء الله. فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» . أيها المسلمون، إن الواجب علينا أن نتعاون تعاونا حقيقيا فعالا في إصلاح المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نكون كلنا جندا وهيئة في هذا الأمر العظيم كما جعلنا نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» وإن علينا أن نعرف أن الذمة لا تبرأ ونحن نعلم بالمنكر ولا نغيره أو نبلغه لمن يغيره إذا لم نستطع تغييره. أيها المسلمون، إننا لو علمنا أن في بيت من بيوت هذا البلد مرضا فتاكا لأخذنا القلق والفزع ولاستنفدنا الأدوية وأجهدنا الأطباء للقضاء عليه، هذا وهو مرض جسمي فكيف بأمراض القلوب التي تفتك بديننا وأخلاقنا؟ إن الواجب علينا إذا أحسسنا بمرض ديني أو خلقي يفتك بالمجتمع ويحرف اتجاهه الصحيح أن نبحث بصدق عن سبب هذا الداء، وأن نقضي عليه وعلى أسبابه قضاء مبرما من أي جهة كانت لا تأخذنا في ذلك لومة لائم قبل أن ينتشر الداء ويستفحل أمره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: ما لك؟ فقال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء، فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم» . وإننا لنشكر بهذه المناسبة لقوم يظهر منهم الغيرة وحب الإصلاح بما يكتبونه من النشرات التي يوجهونها إلى من يوجهونها إليه، نشكرهم على هذه النشرات بقدر ما تنفع وتثمر وهم مأجورون على حسب نيتهم وعملهم،

ولعل الأولى أن يتصلوا بمن يظنون بهم المساعدة والعون بأنفسهم ويحققوا في الأمور التي يكتبون فيها ويتساعدوا جميعا على إزالتها ولا ينقص ذلك من إخلاصهم شيئا إن شاء الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم) {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله الذي جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس وفضلها على غيرها بما قامت به من واجبات عظيمة وصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير أحكم كل شيء شرعه وأتقن كل شيء صنعه وجعل لكل شيء سببا وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده وصبر وصابر حتى فاز بالنصر المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين مثلوا الدين وقاموا به وحققوا ما أمروا به على الوجه القويم وسلم تسليما. عباد الله: لقد فخرت هذه الأمة وحق لها أن تفخر بما شهد الله لها به وفضلها على غيرها حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] فمن حقق هذه الأمور الثلاثة: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان من هذه الأمة التي فضلت على الناس، ومن لم يحققها خرج من هذا الوصف الجليل بقدر ما فاته من التحقيق. عباد الله: إنكم لن تكونوا خير أمة أخرجت للناس حتى تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، والمعروف كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله. أيها الناس: لقد مرضت القلوب وكاد المرض يقضي على بعضها بالموت حتى نزعت الغيرة الدينية من كثير منها، فأصبحت لا ترى المعروف معروفا ولا المنكر منكرا، أصبح الإنسان من هؤلاء لا يتمعر وجهه ولا يتغير من انتهاك حرمات الله وكأنه إذا حدث عن انتهاكها يحدث عن أمر عادي لا يؤبه له، وهذا والله هو الداء العضال الذي هو أعظم من فقد النفوس والأولاد والأموال. يا أمة محمد يا خير أمة أخرجت للناس، اتقوا ربكم وأمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر وتعاونوا على الحق، ولا تأخذكم في الله لومة لائم ولا يخوفكم الشيطان ولا يوهن عزائمكم، فإنكم والله إن صدقتم العزيمة وأخلصتم النية واتبعتم الحكمة في تقويم عباد الله وإصلاحهم فكل شيء يقوم ضدكم سيضمحل ويزول، فالباطل لن تثبت قدماه أمام الحق {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18] أيها المسلمون، إن الذي

ينقصنا كثيرا هو عدم التعاون في هذه الأمور، فتجد أهل الخير متفرقين متباعدين لا ينصر بعضهم بعضا ولا يقوم بعضهم مع بعض إلا أن يشاء الله، وغاية الواحد منهم أن يتألم في نفسه أو يملأ المجالس قولا بلا فائدة. ولو أننا اجتمعنا ونظرنا إلى مجتمعنا وما فيه من أمراض وفساد ثم بحثنا منشأ تلك الأمراض وذلك الفساد وقضينا عليه بالطرق الحكيمة إن تمكنا من ذلك بأنفسنا، وإلا اتصلنا بالمسؤولين للتعاون معهم بالقضاء عليه لحصل بذلك خير كثير واندرأ شر كثير. أما إذا تخاذلنا وكان الواحد منا أكبر ما يهمه نفسه ولا يبالي بالناس صلحوا أم فسدوا ولا يسعى لإصلاحهم فإن ذلك ينذر بالعقوبة العاجلة والآجلة. فاحذروا أيها المسلمون عقاب الله وسطوته، احذروا أن تسلب منكم النعم وتحل بكم النقم، تذكروا عظمة الله وقهره تذكروا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] اسمعوا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 78 - 80] ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم» وصعد ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن الله عز وجل يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم» اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم إنا نسألك أن تصلح ولاتنا وأمتنا وأن تجعلهم متعاونين في الحق متسمين بالألفة والمحبة والخير والرشد والنفع يا رب العالمين اللهم صل وسلم على محمد وآله وصحبه وأتباعهم إلى يوم الدين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في أن الأمر بالمعروف واجب على الجميع

[الخطبة الثالثة في أن الأمر بالمعروف واجب على الجميع] الخطبة الثالثة في أن الأمر بالمعروف واجب على الجميع الحمد لله القوي المجيد المدبر لخلقه كما يشاء وهو الفعال لما يريد أحكم ما خلق وشرع فهو الحكيم الرشيد وصبر على أذى أعدائه وما ربك بغافل عن أعمال العبيد فهو الحليم بمن يبارزه بالعصيان ولكن إذا أخذه لم يفلته {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشد الناس غيرة في دين الله فما انتقم لنفسه قط ولكن إذا انتهكت محارم الله فناهيك بغضبه فعل أولي الرشاد والتسديد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، فنعم الأقوياء في دين الله ونعم العبيد، وعلى التابعين لهم بالإحسان والتسديد وسلم تسليما. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] عباد الله: لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. عباد الله: لا تغرنكم هذه الأموال وكثرتها ولا يغرنكم رغد العيش ونضارة الدنيا وزهرتها. عباد الله: لا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان ولا يغرنكم إمهاله لكم مع التقصير في الواجب والعصيان. إخواني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا جميعا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» فمن قدر منا أن يغير المنكر بيده وجب ذلك عليه، ومن قدر منا أن يغيره بلسانه دون يده وجب ذلك عليه. عباد الله من رأى منكم منكرا

فعجز عن تغييره فليبلغه إلى المسئولين، فإذا بلغه إليهم برئت ذمته، وإلا فسوف يعاقبه الله على ذلك يوم الدين. لن يمنعكم من عذاب الله أن تقولوا أن في البلد نوابا ولا علينا من أحد لأن إبلاغ أولي الأمر بأصحاب المنكر أمر لا يعذر بتركه أحد منكم، إذا تساعدتم على قيام هذا الدين فزتم في الدنيا والآخرة. والله إن المتكلم بكلمة الله تعالى لمرموق بالأبصار ولمحترم وموقر ومعتبر كلامه أيما اعتبار، لكن ذلك قد لا يتم لأول مرة فقد يجد في أول مرة نكبات ومعارضات واحتقار، لكن إذا صبر وثابر فسوف تكون العاقبة للحق، وللباطل وأهله الزوال والبوار. أما كان المشركون يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسخرون به ويغرون به سفهاءهم، أما وضعوا عليه احتقارا وهو ساجد لربه سلا الجزور، ومع ذلك فقد صبر وباع نفسه لله حتى أظهره الله عليهم ولله عاقبة الأمور. إخواني: إن الحق مر على النفوس وشديد ولكن عقباه السرور والحلاوة والعيش الرغيد. إخواني: إنه ليجب على المسئولين أكثر مما يجب على غيرهم، إن عليهم أن يتركوا الدعة والسكون والهوان وأن يجتمعوا جميعا على الحق وإصلاح الأمور والنهوض بأمتهم في الأمور الدينية والدنيوية وإزالة الشر والطغيان، فإن ترك الفساد يفشو ويزيد سبب لهلاك الأمة وفساد المجتمع والدمار والتنكيد. إخواني: إذا لم يقم المسئولون بإصلاح الأمور فمن الذي يقوم؟ وإذا لم يتكاتفوا على إصلاح ما يحصل من فساد فمن ذا الذي لإصلاحه يروم؟ وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل فيهم العامل بالخطيئة جاءه الناهي تعذيرا فقال: يا هذا اتق الله، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم» . ولما فتح المسلمون - رضي الله عنهم - إحدى الجزائر فرق أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأى جبير بن نفير أبا الدرداء وحده يبكي فقال له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم

أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] اللهم أصلح قلوبنا وجميع شئوننا. اللهم اجمع كلمتنا على الحق وقوم ولاة أمورنا. اللهم اهد ضلالنا وأرشد غواتنا وأصلح مستقبلنا يا منان يا بديع السماوات والأرض يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

الخطبة الرابعة في أقسام الناس بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[الخطبة الرابعة في أقسام الناس بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الخطبة الرابعة في أقسام الناس بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله العليم الحكيم الرؤوف الرحيم خلق العباد وقسمهم إلى طائع مثاب وعاص أثيم وقدر لعباده من الأسباب المعنوية والأسباب الحسية ما يمنعهم من ارتكاب المعاصي وهو القوي العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله المبعوث بما يصلح الخلق في الدنيا والدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أنه إنما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون، وأن ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير. ففساد الأرض ومصائب الخلق هي حصائد أعمالهم وعواقب أفعالهم. أيها المسلمون، إن الواجب علينا أن يأخذ حلماؤنا على أيدي سفهائنا ويأطروهم على الحق أطرا قبل أن يهلكوا جميعا. فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا (يعنون في أسفلها) خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم (يعني منعوهم من خرق أسفلها) نجوا ونجوا جميعا» . أيها المسلمون: إن الناس بالنسبة إلى تغيير المنكر منهم من يستطيع تغييره بيده ومنهم من لا يستطيع إلا بلسانه ومنهم من لا يستطيع إلا بلقبه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يجب على كل واحد من هؤلاء فقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» . أيها المسلمون: إننا إذا قمنا بتغيير المنكر حسب استطاعتنا أفلحنا بأنفسنا وأصلحنا مجتمعنا وحصلت لنا الرفعة في الدار الدنيا وفي الآخرة، أما إذا ضيعنا الواجب علينا في ذلك

فستكون النتيجة وخيمة، تكثر المعاصي ويظهر الفسوق وتحل العقوبات، نعوذ بالله من ذلك. أيها المسلمون: إن واقع الناس لا يخلو من أربع حالات: أحدها: أن يقوى الإيمان ويقوى السلطان وهذه أكمل الأحوال وأحسنها. فبقوة الإيمان تحصل تقوى الله وخشيته في السر والعلانية، ويمتنع الناس من المعاصي عن رغبة في ثواب الآخرة وخوف من الله عز وجل. ولو قدر أن أحدا سولت له نفسه بمعصية يوما من الأيام لذكر قوة السلطان فرجع عما هم به وارتدع. الحال الثانية: أن يقوى الإيمان ويضعف السلطان وهذه أقل درجة من الأولى وأضعف، فإنه ربما لا يرتدع عن المعصية من سولت له نفسه فعلها يوما من الأيام إذا علم أن السلطان ضعيف، ولكن يحصل بهذه الحال خشية الله سرا وعلنا ورجاء ثواب الآخرة وهذه فائدة كبيرة. الحال الثالثة: أن يضعف الإيمان ويقوى السلطان وهذه أضعف بكثير مما قبلها، فإنها لا تمنع من فعل المعاصي سرا ولكن تمنع من المجاهرة بالمعصية خوفا من السلطان، فإن ضعيف الإيمان إذا علم أنه إذا علم به أدب تأديبا صارما يردعه فإنه يمتنع عن المجاهرة بالمعصية ويكون خائفا. الحال الرابعة: أن يضعف الإيمان ويضعف السلطان فهذه أخطر الحالات على المجتمع وشرها، فلا إيمان يمنع عن المعاصي سرا ولا سلطان يردع عن المعاصي جهرا، وإذا كان الناس بهذه الحال ضعف إيمان وضعف سلطان كثرت المعاصي وانتشرت وأسرت وأعلنت فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد كان من سياسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه إذا رأى ضعف الإيمان في القلوب وكثرة ارتكاب الناس للمعصية زاد في تعزيرهم وعقوبتهم فيما ليس فيه عقوبة محدودة شرعا، وهذا كمال السياسة لمصالح العباد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الفرع الثاني في القصاص والحدود

[الفرع الثاني في القصاص والحدود] [الخطبة الأولى في الحكمة في القصاص والحدود] الفرع الثاني في القصاص والحدود الخطبة الأولى في الحكمة في القصاص والحدود الحمد لله الحكيم العليم العزيز الرحيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خلق فأتقن وحكم فأحكم ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كان بالمؤمنين رحيما وكان لحدود الله حافظا مقيما، أقسم بالذي نفسه بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها عدلا شاملا وهديا قويما صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد، أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى وتأملوا أحكامه وحدوده بعلم وإيمان تجدوها تابعة للحكمة والمصلحة في كل زمان ومكان، فإن الذي وضع تلك الحدود هو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، علم أن مصالح العباد لا تقوم إلا بها فشرعها وعلم أن بها درءا للمفاسد فأمر بها وحتمها. فالحدود تمنع من الجرائم وتكفر ما اقترفه المجرم من المآثم، انظروا إلى البلاد التي تقام فيها الحدود كيف يستتب فيها الأمن والاطمئنان، وأما البلاد التي لا تقام فيها الحدود فتكثر فيها الجرائم والاعتداء والطغيان. فمن الأحكام التي شرعها الله تعالى قتل القاتل، فإن القاتل المتعمد للقتل يقتل إذا تمت شروط القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] لأن القاتل إذا علم أنه سيقتل فلن يقدم على القتل وبذلك تكون الحياة، ثم إن القتل حق لأولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا القاتل وإن شاؤوا عفوا عنه مجانا أو أخذوا الدية، وعليهم أن يراعوا المصلحة في ذلك فيأخذوا بما هو أصلح من عفو أو دية أو قصاص. انظروا إلى السارق كيف يسرق ما يساوي ربع دينار فتقطع يده بذلك حفظا للأموال عن الاعتداء عليها، فإن السارق إذا علم أنه تقطع يده اليمنى إذا سرق فإنه لا يمكن أن يسرق، وإذا قطعت اليد المحترمة التي لا يباح قطعها كان فيها نصف الدية خمسمائة دينار. فلله ما أعلى هذه الحكمة وأبلغها وأنسبها للمصالح، تقطع اليد بربع دينار إذا سرقت حفظا للأموال، وتضمن إذا قطعت ظلما بخمسمائة دينار حفظا للأبدان. انظروا - رحمكم الله - إلى جريمة الزنا وهي فاحشة نكراء، كيف جعل الله فيها حدا مناسبا لحال الزاني؟ فإن الزاني إن كان بكرا وهو الذي لم يتزوج فإن حده أن يجلد مئة جلدة ويغرب عن وطنه سنة ليبعد عن محل الفاحشة لعله ينساها ويتوب، وإن كان الزاني ثيبا وهو

الذي من الله عليه بنكاح صحيح ووطئ زوجته فيه، فهذا حده الرجم وهو أن يرجم بالحجارة حتى يموت؛ لأن من زنى بعد أن من الله عليه بالزواج والوطء الحلال فهو جرثومة فاسدة في المجتمع لا يليق به إلا الزوال. ومن حكمة الله أن جعل حده الرجم بالحصى ليتألم جميع بدنه به كما تلذذ بشهوة الزنا جزاء وفاقا. وأما جريمة اللواط وهي الفاحشة الكبرى والمصيبة العظمى فما أعظمها من جريمة وأطمها، وما أجدر نفسا تعاطتها بالإتلاف وأحقها. ففي السنن عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ولم يختلف الصحابة في قتله، لكن اختلفوا كيف يقتل، وأكثر السلف على أن يرجم رجما، وإنما كانت عقوبة هذه الفاحشة هي القتل بكل حال لما فيها من إفساد المجتمع وعسر التحرز منها في الحال والمآل. ومن نظر إلى حكم الله تعالى في الحدود وجده الحكم المتضمن للحكمة التي تبهر العقول، وأنه لا حكم أحسن منه وأصلح للأمة وأن ما سواه فهو جهل وطغيان لا تقوم به المصالح ولا تندرئ به المفاسد قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في عقوبة الزنا واللواط

[الخطبة الثانية في عقوبة الزنا واللواط] الخطبة الثانية في عقوبة الزنا واللواط الحمد لله الذي شرع عقوبة العصاة ردعا للمفسدين وصلاحا للخلق أجمعين وكفارة للطاغين المعتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم الجامع بين الرحمة والحكمة، رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في اتباع الطريق الموصل إلى الهدف الأسمى. أيها الناس: إن من طبيعة البشر أن يكون لهم نزعات متباينة، فمنها نزعات إلى الخير والحق، ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الخاطئة والأعمال السيئة لا بد لها من رادع يكبح جماحها ويخفف من حدتها، شرع رب العباد وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم حدودا وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم المعوج وتكفر عن المجرم جريمته، إذ لا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة، فأوجب إقامة الحدود على مرتكبي الجرائم كل بحسب جريمته. فالسارق تقطع يده لأنه يسرق بها غالبا، وقطاع الطريق إذا قتلوا قتلوا وإن أخذوا المال فقط قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لأنهم يستعينون على قطع الطريق بأرجلهم وأيديهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف نكالا وجزاء من جنس العمل. وقاذف المحصنات والمحصنين يجلد ثمانين جلدة حتى لا تنتهك الأعراض، وشارب الخمر عقوبته يحصل بها الردع عند تناول هذا الشراب الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أم الخبائث ومفتاح كل شر. أما جريمة فساد الأخلاق وانهيار المجتمع، تلك الجريمة التي تكمن في فعل الزنا واللواط فإنها جريمة عظيمة رتب الشارع عليها عقوبة أكبر، فالزاني الذي يطأ فرجا حراما إما أن يكون محصنا وأما أن يكون غير محصن، فالمحصن هو البالغ العاقل الذي تزوج امرأة ووطئها بنكاح صحيح، فإذا زنى فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين إذا كان مسلما، وأما غير المحصن وهو من لم يتزوج على الوصف الذي ذكرناه فإنه إذا زنى جلد مئة

جلدة ويسفر عن البلد سنة كاملة. أيها المسلمون، وإذا كان الزنا بالفرج موجبا لهذه العقوبة، فإن هنا زنى آخر دون ذلك يوجب الإثم والعقوبة الأخروية وربما كان سببا للوقوع في الزنا الأكبر، ألا وهو زنى الجوارح الأخرى، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطى والقلب يهوى ويتمنى» . أما اللواط وهو وطء الذكر الذكر، فذلك الفاحشة الكبرى والجريمة النكراء إنه مفسدة الدنيا والدين، إنه هدم للأخلاق ومحق للرجولة، إنه فساد للمجتمع وقتل للمعنويات، إنه ذهاب للخير والبركات وجالب للشرور والمصيبات، إنه معول خراب ودمار وسبب للذل والخزي والعار، والعقول تنكره والفطر السليمة ترفضه والشرائع السماوية تزجر عنه وتمقته، ذلكم بأن اللواط ضرر عظيم وظلم فاحش فهو ظلم للفاعل بما جر إلى نفسه من الخزي والعار وقادها إلى ما فيه الموت والدمار، وهو ظلم للمفعول به حيث هتك نفسه وأهانها ورضي لها بالسفول والانحطاط ومحق رجولتها، فكان بين الرجال بمنزلة النسواني لا تزول ظلمة الذل من وجهه حتى يموت وهو ظلم للمجتمع كله بما يفضي إليه من حلول المصائب والنكبات. ولقد قص الله علينا ما حصل لقوم لوط حيث أنزل عليهم رجزا من السماء أي عذابا من فوقهم، أمطر عليهم حجارة من سجيل فجعل قريتهم عاليها سافلها وقال بعد أن قص علينا عقوبتهم {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] أيها المسلمون، متى فشت هذه الفاحشة في المجتمع ولم يعاقبه الله بدمار الديار فإنه سيحل به ما هو أعظم من ذلك، سيحل به انتكاس القلوب وانطماس البصائر وانقلاب العقول حتى يسكت على الباطل أو يزين له سوء عمله فيراه حسنا، وأما إذا يسر الله له ولاة أقوياء ذوي عدل أمناء يقولون الحق من غير مبالاة وينفذون الحد من غير محاباة، فإن هذا علامة التوفيق والصلاح. أيها المسلمون، ولما كانت هذه الجريمة، أعني جريمة فاحشة اللواط، من أعظم الجرائم كانت عقوبتها في الشرع من أعظم العقوبات فعقوبتها القتل والإعدام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . واتفق جمهور الصحابة أو كلهم على العمل بمقتضى هذا الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: لم يختلف أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به، ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم يرجم بالحجارة، وقال بعضهم يلقى من أعلى مكان في البلد حتى يموت، وقال بعضهم يحرق بالنار. فالفاعل والمفعول به إذا كان راضيا كلاهما عقوبته الإعدام بكل حال سواء كانا محصنين أم غير محصنين لعظم جريمتهما وضرر بقائهما في المجتمع، فإن بقاءهما قتل معنوي لمجتمعهما وإعدام للخلق والفضيلة، ولا شك أن إعدامهما خير من إعدام الخلق والفضيلة. أيها المسلمون: إن علينا كمجتمع إسلامي قوامه الدين والأخلاق، ولله الحمد، أن نجتهد بقدر ما نستطيع على التمسك بديننا والتخلق بالأخلاق الفاضلة وأن يسعى كل منا من الولاة فمن دونهم لمنع الفساد والمفسدين وإصلاح المجتمع وأن نتخذ الحيطة ونتبع مواقع الفساد لتطهيرها. على كل منا أن يراقب حال أولاده وأهله الذكور والإناث فيمنع نساءه من الخروج متبرجات بثياب الزينة والطيب وغيره مما يلفت النظر، ويتفقد أولاده أين ذهبوا وأين غابوا ومن أصحابهم ومن جلساؤهم وأن يمنعهم من مخالطة السفهاء ومعاشرة من يخشى الفساد بمعاشرتهم، وعلى كل أهل حارة ومحلة أن يتفقدوا محلتهم وحارتهم ويتعاونوا على منع الشر والفساد، فإذا أصلح الرجل أهله وأصلح أهل الحارة جيرانهم وحرص الولاة على إصلاح بلدهم حصل بذلك من الخير ما يكفل السعادة للمجتمع، وإن أهمل الناس واجبهم في هذا فاتهم من الخير بقدر ما فوتوا من الواجب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

القسم الثامن في النفقات والأطعمة

[القسم الثامن في النفقات والأطعمة] [الخطبة الأولى في تنوع إنفاق المال] القسم الثامن في النفقات والأطعمة وهو فرع واحد الخطبة الأولى في تنوع إنفاق المال الحمد لله الذي من علينا بالأموال وشرع لنا إنفاقها فيما هو مصلحة في الدين والدنيا ووعدنا على ذلك الخلف العاجل في الدنيا والثواب الجزيل في الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجود والإحسان والأفضال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ينفق ماله لله ويعيش في نفسه عيش الفقراء ابتغاء مرضاة ذي الإكرام والجلال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من هذه الأموال التي جعلها لكم قياما يقوم بها دينكم ودنياكم وتصلح بها أحوالكم العامة والخاصة، واشكروه إن أنعم عليكم بها نعمة أخرى، حيث شرع لكم إنفاقها فيما فيه مصلحة لكم ووعدكم على ذلك الخلف والأجر، ولو شاء لم يشرع لكم إنفاقها ولم يتعبدكم بذلك فكان إنفاقها مغرما، وليشكر الله من وفقه الله تعالى فقام بإنفاقها على الوجه الذي أمر به فلم يقصر في ذلك فيكون من الباخلين، ولم يغل في ذلك ويزد فيكون من المبذرين. واعلموا - رحمكم الله - أن إنفاق الأموال على وجهين وجه يثاب عليه العبد ويؤجر ونوع يعاقب عليه ويوزر، أما الذي يثاب عليه العبد ويؤجر فهو أن ينفقها في طاعة الله وما أمر به، وأما الذي يعاقب عليه ويوزر فأن ينفقها في معصية الله وما لا فائدة فيه فإن ذلك من السفه والتبذير. واعلموا أن إنفاق الأموال في طاعة الله له أبواب كثيرة، فمن ذلك إنفاق الأموال في الزكاة المفروضة التي هي أحد أركان الإسلام، ولا يكون العبد مسلما حتى ينفقها في الوجوه التي أمر الله بصرفها فيها، ومن ذلك أن ينفق الإنسان على نفسه فإن إنفاقك على نفسك صدقة تثاب عليها لأنك مأمور بحفظ نفسك بالطعام والشراب واللباس وغيرها مما تطلبه حاجتك أو ضرورتك. فإذا أنفقت المال في ذلك فقد قمت بحفظ نفسك ونيلها ما أباح الله لها من الطيبات وهذا خير وأجر. ومن الإنفاق في طاعة الله أن ينفق الإنسان على أهله من الزوجات والأمهات والآباء والأولاد وغيرهم، فإن الإنفاق عليهم طاعة لله وبر وأجر، «قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وقد عاده في مرض ألم به واستشاره في الوصية فقال له: " واعلم أنك

لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك» . أيها الإخوان: إن بعض الناس يقصر أو يتثاقل في الإنفاق على أهله شحا وبخلا، والشح والبخل من أوامر الشيطان {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ولكن متى علم المؤمن أن الإنفاق على نفسه وأهله ليس بغرم وإنما هو مكسب وغنيمة، فالإنفاق فيما أمر الله به غنيمة لأنه زيادة في الإيمان وسبب لبركة المال ونموه وسبب للأجر المدخر عند الله، أما الإمساك عما أمر الله به فهو نقص في الإيمان وسبب لمحق بركة المال ونقصه ولعقوبة الله ومقته، ثم أن الممسك البخيل إن فاته المال ونزع منه في الدنيا فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإن بقي حتى مات صار لغيره غنمه وعليه غرمه وإثمه. ألا وإن من إنفاق المال في طاعة الله أن تنفقه في الإحسان إلى القرابات الذين لا تجب عليك نفقتهم، إما لكون مالك لا يتحمل الإنفاق أو لغير ذلك، فهديتك على غنيهم هدية وصلة، وصدقتك على فقيرهم صدقة وصلة. وإن بعض الناس في هذه الناحية يقصر ويفرط، فتجده يقتصر على الإحسان إلى القرابة الذين يتبادلون معه الصلة وهذا في الحقيقة ليس بصلة، وإنما هي مكافأة للصلة أو مجلبة لها، فالواصل حقيقة هو الذي يصل من قطعه ويعطي من حرمه. وأبواب إنفاق المال في الخير كثيرة، وكلما كان الإنفاق أنفع لعمومه أو شدة الحاجة إليه أو جلبه لمصالح أخرى كان أفضل وأجدى، وكل نفقة تبتغي بها وجه الله فأنت مأجور عليها لدخولها في الإحسان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في حكم شرب الدخان ومضاره

[الخطبة الثانية في حكم شرب الدخان ومضاره] الخطبة الثانية في حكم شرب الدخان ومضاره الحمد لله الذي أنعم على عباده بما أخرج لهم من الطيبات وأدره عليهم من أصناف الأرزاق والأقوات وأحل لهم من ذلك ما تقوم به أديانهم وأبدانهم وحرم عليهم ما يكون به ضرر في أبدانهم وعقولهم وأديانهم والحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما ووسع كل شيء رحمة وحكما، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واستغنوا بما أباح لكم من الطعام والشراب عما حرمه عليكم، فإنه ما من شيء ينفعكم من ذلك إلا أباحه لكم فضلا منه وإحسانا، وما من شيء يضركم إلا حرمه عليكم رحمة منه وامتنانا. فكما أن لله النعمة عليكم فيما أباحه لكم من الطيبات فله النعمة عليكم أيضا بما حرمه من الخبائث والمضرات، فعلى العباد أن يشكروا نعمته في الحالتين فيتناولوا ما أباحه لهم فرحين مغتبطين ويتجنبوا ما حرمه عليهم سامعين مطيعين. أيها الناس: لقد انتشر شرب الدخان في مجتمعنا حتى عم كثيرا من الصغار في الأسواق والدور وهو الشراب الذي لا ينكر ما فيه من ضرر في البدن والمال والمجتمع والدين. أما ضرره في البدن فإنه يضعف البدن ويضعف القلب ويحدث مرض السرطان والسل والسعال ويفضي إلى الموت كما يشاهد ذلك كثيرا، وكما قرر ذلك كثير من العلماء المختصين وأكد تقريرهم كبار الهيئة الصحية العالمية وشهد به الأمر الواقع فكم من إنسان أنهك جسمه وأفسد صحته وقتل نفسه بما تعاطاه من هذا الدخان. ولا تغتروا بما يرى من بعض الناس الذين يشربونه وأجسامهم سليمة فإن هؤلاء المدخنين ليسوا بحسب مظهرهم، واسألهم ماذا يحدث لهم من قلة الشهية وكثرة السعال والنزلات الصدرية والفتور العام والتعب الشديد عند أقل عمل وكلفة، ولو أقلعوا عن شربهم لحصل لهم من القوة والنشاط ما لم يكونوا عليه حين شرب الدخان. وأما ضرره في المال فاسأل من يشربه ماذا ينفقه كل يوم في شربه، ولو كان ينفق هذا المال فيما يعود عليه وعلى أهله بالنفع من الطعام الطيب والشراب الحلال واللباس

المباح لكان ذلك خيرا له في دينه ودنياه، ولكنه ينفق الكثير في هذا الدخان الذي لا يعود عليه إلا بالضرر العاجل والآجل، فنسأل الله لنا وله الهداية. أما ما انتفع به بعض الناس من الاتجار به والتكسب حتى صاروا بعد الترب متربين وبعد الإعواز واجدين وبعد الفقر مغتنين، فلبئس ما كسبوا حراما واكتسبوا آثاما، وإنهم لأغنياء المال فقراء القلوب واجدون في الدنيا عادمون لما كسبوه من الحرام في الآخرة، فإنهم إن تصدقوا به لم يقبل منهم وإن أنفقوه لم يبارك لهم فيه، وإن أخلفوه كان زادا لهم إلى النار لا يدرون متى يأتيهم الموت فيفارقون أموالهم أشد ما يكونون بها تعلقا وأعظم ما يكونون بها طمعا وبعد ذلك يتلقاها الوارث، له غنمها وعلى مخلفها غرمها، وإن الفقر لخير من مال يكسبه الإنسان بمعصية الله. أما مضار الدخان الاجتماعية، فإن تفشي الأمور الضارة في المجتمع توجب فساد المجتمع، وإن كثيرا ممن يشربونه الآن لا يبالون بانتشاره بين الناس بل ربما يفرح بعضهم بانتشاره وكثرة استعماله وتعاطيه ليتسلى بغيره وتهون مصيبته، ولذلك كانوا يشربون أمام الناس وأمام أولادهم الصغار، وهذا لا شك يهون شربه عند الصغار ويؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن الصغير إذا اعتاده من صغر فتك به فتكا أعظم ثم لا يستطيع الخلاص منه عند كبره، وكم حصل من أعقاب السجائر وهي بقية السجائر التي يلقونها في الأرض كم حصل بها من أضرار وأمراض معدية لمن يأخذونها ويشربونها. وأما مضاره الدينية، فإن المحققين من أهل العلم الذين عرفوا مصادر الشريعة ومواردها وسلموا من الهوى قد تبين لهم تحريمه من عمومات النصوص الشرعية وقواعد الدين المرعية، وإذا كان حراما كان فعله معصية لله ولرسوله، وكل معصية لله ولرسوله فإنها ضرر في الدين فإن الإيمان ينقص بالمعصية كما يزيد بالطاعة. أيها المسلمون: إن نصيحتي لمن من الله عليه بالعصمة منه أن يحمد الله على هذه النعمة ويسأله الثبات عليها وأن يدعو الله لإخوانه بالعصمة منه. أما نصيحتي لمن ابتلوا به فأن يتأملوا بإمعان ودقة في مضاره ونتائجه ليقتنعوا بضرورة الامتناع منه ويهون عليهم تركه واجتنابه، وأن يلحوا على ربهم بالدعاء أن يعصمهم منه ويستعينوه على ذلك ويستعملوا الأسباب التي تعينهم على تركه، وذلك بقوة العزم وعدم الجلوس في محل يشرب فيه والتسلي

عنه بما أباح الله لهم من الطعام والشراب، فقد فتح الله لهم من الطيبات كل باب ولم يضيق عليهم في ذلك ولله الحمد، ولينظروا في حال من عافاه الله منه كيف استصحوا وقويت أبدانهم وزالت عنهم الأضرار الناتجة عن شربه ولله الحمد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في مضار الخمر والتحذير منه

[الخطبة الثالثة في مضار الخمر والتحذير منه] الخطبة الثالثة في مضار الخمر والتحذير منه الحمد لله الذي أباح لعباده جميع الطيبات وحرم عليهم الخبائث والمضرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والعطاء العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم القويم وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أباح الله لكم من الطيبات واشكروه عليها بأداء حقوقه التي أوجبها عليكم فإن الشكر سبب لدوام النعم ومزيدها، واحذروا ما حرمه عليكم من المطاعم والمشارب فإنه لو كان فيها خير لكم ما حرمها عليكم لأنه الجواد الكريم، وإنما حرم عليكم ما فيه ضرركم دينا ودنيا رحمة بكم وهو الرؤوف الرحيم. فمما حرمه الله عليكم في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع على تحريمه المسلمون الخمر الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم أم الخبائث وقال: «هي مفتاح كل شر» وأخبر الله في كتابه: أنه {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ووردت الأحاديث الكثيرة في تحريمه والتحذير منه والوعيد على شربه، قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له» كل هؤلاء ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» وقال: «مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن» وقال: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» وقال: «لا يدخل الجنة مدمن خمر» وقال: «إن عند الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينه الخبال قيل وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار القيح والدم ومن شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا» والخمر اسم جامع لكل ما خامر العقل أي غطاه سكرا وتلذذا من أي نوع كان. وقد ذكر علماء الشريعة والطب والنفس والاجتماع للخمر مضار كثيرة، فمن مضاره أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة لأن صاحبه يتعلق به ولا يكاد يفارقه وإذا فارقه كان قلبه معلقا به. ومن مضاره ما فيه من الوعيد الشديد والعقوبات، ومن مضاره أنه يفسد المعدة ويغير الخلقة فيتمدد البطن وتجحظ العيون، والسكارى يسرع إليهم تشوه الخلقة والهرم وحدوث السل الرئوي وتقرح الأمعاء وإضعاف النسل أو قطعه بالكلية. ومن مضاره فساد التصور والإدراك عند السكر حتى يكون صاحبه

بمنزلة المجانين ثم هو بعد ذلك يضعف العقل وربما أدى إلى الجنون الدائم. ومن مضاره إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيه وبينهم وبين من يتصل بهم من المعاشرين والمعاملين لأن قلوب أهل الخمر معلقة به، فهم في ضيق وغم لا يفرحون ولا يسرون بشيء إلا بالاجتماع عليه كل كلمة تثيرهم وكل عمل يضجرهم. ومن مضاره قتل المعنويات والأخلاق الفاضلة وأنه يغري صاحبه بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش، فصلوات الله وسلامه على من سماه أم الخبائث ومفتاح كل شر. ومن مضاره أنه يستهلك الأموال ويستنفد الثروات حتى يدع الغني فقيرا وربما بلغت به الحال أن يبيع عرضه أو عرض حرمه للحصول عليه، ولقد كانت الدول الكافرة المتحضرة تحاربه أشد المحاربة وتكون الجمعيات العديدة للتحذير منه والسعي في منع المجتمع منه لما علموا فيه من المضار الخلقية والاجتماعية والمالية. وقد سبقهم الإسلام إلى ذلك فحذر منه غاية التحذير ورتب عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما هو معلوم لعامة المسلمين حتى جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه» وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين حرمت الخمر أن تراق في الأسواق وتكسر أوانيها، وحرق أمير المؤمنين عمر بيت رجل يقال له رويشد كان يبيع الخمر وقال له: أنت فويسق ولست برويشد. والحشيش من الخمر بل هو أخبث منه من جهة إفساد العقل والمزاج وفقد المروءة والرجولة، فإن متعاطيها تظهر عليه علامات التخنث والدياثة على نفسه حتى تنحط غريزته الجنسية إلى طبع أقبح من طبع النساء. وهذه المضار التي ذكرناها وما هو أكثر منها، منها ما هو ظاهر ومنها ما يظهر سريعا ومنها ما يتأخر، وأعظم من ذلك عقوبة الآخرة التي لا فكاك منها إلا بالتوبة إلى الله والرجوع إليه. جنبني الله وإياكم منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والرجوع إليه وعافانا من البلاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90 - 92] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

القسم التاسع في مواضيع عامة

[القسم التاسع في مواضيع عامة] [الخطبة الأولى في نجاة المتقين] القسم التاسع في مواضيع عامة الخطبة الأولى في نجاة المتقين الحمد لله الجواد الكريم الشكور الحليم أسبغ على عباده النعم ودفع عنهم شدائد النقم وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم والخير العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم صل الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا ربكم وتعرفوا إليه في حال الرخاء يعرفكم في حال الشدة، تعرفوا إلى ربكم بالخضوع له والمحبة والتعظيم وكثرة العبادة ابتغاء مرضاته وتجنب معاصيه خوفا من عقابه الأليم، تعرفوا إلى الله بفعل الطاعات ما دمتم في زمن القدرة والإمكان قبل أن تتمنوا العمل فلا تستطيعوا إليه سبيلا. عباد الله: يقول الله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61] فمن اتقى الله تعالى وامتثل أمر الله واجتنب نهيه نجاه بمفازته، إذا وقع في هلكة أنجاه الله منها ويسر له الخلاص من ذلك، فالمتقون هم أهل النجاة، وشاهد ذلك ما وقع وما يقع للمتقين. ألم يبلغكم ما وقع لسيد المتقين حيث خرج صلى الله عليه وسلم من مكة ومعه صاحبه أبو بكر يخشيان على أنفسهما من قريش فنجاهما الله تعالى من ذلك وقريش على رؤوسهم، يقول أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فيقول له رسول الله: «لا تحزن إن الله معنا ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» فنجى الله تعالى نبيه بمفازته من غير أن يمسه سوء. ألم تسمع ما وقع لنبي الله يونس صلى الله عليه وسلم حيث ذهب عن قومه مغاضبا لهم لما عصوه فركب البحر فثقلت بهم السفينة فاقترع أهلها أيهم يلقى في البحر لتخف السفينة وينجو بعض من فيها ولا يهلكوا كلهم، فوقعت على قوم فيهم نبي الله يونس فألقوا في البحر فالتقم الحوت يونس {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فاستجاب له رب العالمين فأنجاه من الغم قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] ألم يأتكم نبأ الثلاثة من بني إسرائيل «باتوا في غار فانحدرت عليهم من الجبل صخرة سدت الغار فلا يستطيعون

الخروج فقالوا: إنه لا ينجيكم منها إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فنأى بي طلب الشجر فتأخرت حتى ناما، فكرهت أن أوقظهما فانتظرت استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي حتى استيقظ أبواي فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلا. فقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها حبا شديدا فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألجأتها الضرورة سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها مئة وعشرين دينارا على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك لأجلك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلا إلا أنهم لا يستطيعون الخروج. فقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم إلا واحدا ترك أجره وذهب، فثمرت له أجره حتى نما وكثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أعطني أجري، فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو أجرك، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت له: لا أستهزئ بك، فأخذه كله ولم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون» . وهكذا ينجي الله المتقين بمفازتهم في هذه الدنيا وينجيهم من مفاوز يوم القيامة وأهوالها ومن عذاب الجحيم وسمومها قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72] بكى عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - وكان مريضا فقيل: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فلا أدري أنجو منها أم لا. وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه بكى ويقول: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنجينا من النار وأن تلحقنا بالمتقين الأبرار وأن تنجينا من مفاوز الدنيا والآخرة يا كريم يا جواد اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

الخطبة الثانية في انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال

[الخطبة الثانية في انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال] الخطبة الثانية في انهماك الناس في الدنيا وتحصيل المال الحمد لله الذي خلق للعباد دارين دار عمل واكتساب ودار جزاء وثواب، فدار العمل والاكتساب هي الحياة الدنيا جعلها الله عبورا للعباد ومزرعة يحصدون ما زرعوا فيها يوم يقوم الأشهاد وحينئذ يتبين ربح التجارة من الكساد، وأما دار الجزاء والثواب فهي الدار الآخرة والحياة الباقية إما في جنة وإما في نار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وله العزة والاقتدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لأجله خلقتم وماذا تصيرون إليه إذا أنتم متم، فكروا في هذه الدنيا وأحوالها وتقلباتها تجدوها غرورا وباطلا ولهوا ولعبا ولحظات تمر سريعا وتمضي جميعا، قيسوا ما يستقبل منها بما مضى واعتبروا يا أولي الأبصار. أليس فينا معشر الحاضرين من عمر طويلا ومن كان صغيرا وكلنا بالنسبة إلى ما مضى واحد، فكل ما مضى من زمن طويل فكأنه أحلام نائم أو خيال هائم. والإنسان في اللحظة التي هو فيها هذه، أيها الناس، حقيقة الدنيا فكيف يليق بالعاقل أن تكون أكبر همه؟ كيف يليق به أن يقدمها على الآخرة؟ كيف يليق به أن يشغل قلبه وفكره وجسمه في الحصول عليها وهو عن الآخرة في إعراض؟ إن كثيرا من الناس قد انهمك في الدنيا حتى صارت أكبر همه ومبلغ علمه، يجمع المال لا يبالي من أين جمعه ويسرف في إنفاقه على وجه غير مشروع لا يبالي كيف أنفقه، كأنه خلق في هذه الدنيا ليخلد ويتناول ما يشاء من شهواته ولو كان في غضب الله، إن باع أو اشترى فكذب وخداع وغش، وإن صنع شيئا لأحد لم يؤد فيه الأمانة، وإن صار في وظيفة أضاعها وأهملها يتقاضى راتبها ولا يؤدي عملها كاملا، وجدير بمن يأكل الأموال بمثل هذه الأمور أن يسمى السارق الخفي. أيها الناس: إن اتجاهات الناس وأغراضهم مختلفة، فمنهم من يريد المال ويسعى لتحصيله ولو بالطرق المحرمة، ومنهم من يريد الجاه والرئاسة والعلو على الخلق، ومنهم من يريد السيطرة على الناس بحق أو بغير حق، ومنهم من يريد اللهو بالأغاني والألعاب فيصد عن ذكر الله وعن الصلاة إلى غير ذلك من الأغراض الدنيوية، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا حال هؤلاء وأمثالهم:

«تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» ، «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن شفع لم يشفع وإن استأذن لم يؤذن له» . أيها الناس: إنه لم يطلب منكم أن تتركوا الدنيا بتاتا فإن هذا شيء لا يمكنكم وإنما يطلب منكم أن تعتدلوا في طلبها فتطلبوها باتزان واعتدال على وجه مباح لا يصدكم عن ذكر الله وطاعته، فتقوموا بطاعة الله وتسعوا في طلب رزق الله على ما أمر به الله، صدق في المعاملة وأداء للأمانة ونصح للخلق وإخلاص للخالق وبذلك تدركون الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم. . . إلخ.

الخطبة الثالثة في التحذير من إطلاق اللسان

[الخطبة الثالثة في التحذير من إطلاق اللسان] الخطبة الثالثة في التحذير من إطلاق اللسان الحمد لله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ - مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أنه ما من أحد منكم إلا وقد وكل الله به ملكين أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال، أحدهما مأمور بكتب الحسنات والثاني مأمور بكتب السيئات، فما تلفظون من قول ولا تعملون من عمل إلا كتب عليكم وأحصي عليكم إحصاء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، سواء تلفظتم بذلك جهرا وسرا وسواء فعلتم الفعل خفية أو علانية فكل ذلك يكتب عليكم ويحصى ثم تنبئون بما عملتم يوم القيامة ويعطى كل إنسان كتابه فيقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] فطوبى لعبد ملأ كتابه بالخير والأعمال الصالحات وبؤس لمن سود كتابه بالشر والأعمال السيئات. أيها الناس: كلنا نؤمن بذلك إن شاء الله نؤمن بأن ما عملنا من قول أو فعل فإنه مكتوب محصى سواء كان صغيرا أم كبيرا، ولكن الكثير منا يعملون العمل جزافا كأنه غير مكتوب عليهم يطلقون الكلام القبيح من غير مبالاة يلعنون من لا يستحق اللعن، تجد الواحد منهم يلعن أخاه المسلم وربما لعن أخاه لأبيه وأمه وربما لعن ولده أو أمه أو أباه، وهذا غاية ما يكون من الجهل والحماقة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» وفي الحديث عنه أنه قال: «إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يمينا وشمالا فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلها» وتجد الواحد من الناس يسب أخاه عند المخاصمة سبا قبيحا قد يكون متصفا به وقد يكون غير متصف به، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» يعني أن إثم المتسابين يكون على من ابتدأ السب أولا إلا أن يعتدي المظلوم. وتجد بعض الناس

يتكلم بأخيه بما يكره وهو غير حاضر فيسبه في غيبته وهذه هي الغيبة التي شاعت عند كثير من الناس وتهاونوا بها مع أنها من كبائر الذنوب وقد شبه الله من يغتاب الرجل بمن يأكل لحمه ميتا وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» وفي حديث آخر: «يفضحه ولو في جوف رحله» أيها الناس: ما أكثر هؤلاء اليوم ما أكثر من يتتبعون عورات الناس ويتطلبون زلاتهم فإذا رأوا زلة من أحد فرحوا بها ونشروها وإذا رأوا استقامة ومفخرة كتموها وحملوها على غير محملها وهؤلاء هم الذين عناهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم» فاتقوا الله أيها المسلمون وحاسبوا أنفسكم على ما تقولون وما تفعلون فانكم عن ذلك مسؤولون وعليه محاسبون: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ - وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ - كِرَامًا كَاتِبِينَ - يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9 - 12] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الرابعة في حديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- عجبا

[الخطبة الرابعة في حديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- عجبا] الخطبة الرابعة في حديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- عجبا الحمد لله الذي يسر للسالكين إليه الطرق والأسباب وفتح لهم من خزائن الأعمال الصالحة وما يقرب إليه كل باب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بلا ارتياب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي من الله به على المؤمنين يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الحكمة والكتاب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله برحمته وإحسانه يسر لكم إلى الخير طرقا وأسبابا وفتح لكم إلى خزائنها أبوابا فاستبقوا الخيرات وخذوا من كل قسط منها بنصيب وافر تحمد عقباه في الحياة والممات واستمعوا إلى هذا الحديث العظيم الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه ورؤيا الأنبياء حق ووحي قال عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في صفة بالمدينة فقال: (إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فطرد الشياطين عنه ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءه صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام رمضان فأسقاه وأرواه ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير في ذلك فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه ورأيت رجلا من أمتي احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلا

من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءه افراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه رجاؤه في الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار فجاءته دمعته التي قد بكاها من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف فجاءه حسن ظنه في الله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه وأنقذته ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة) » . فهذا أيها المسلمون حديث عظيم بين فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رآه في الأعمال الصالحات المنجية من العذاب فخذوا من كل واحدة منها بنصيب واعلموا أن للصدقة في أيام الحاجة وأيام الشتاء شأنا كبيرا فإن الصدقة كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجرا فتفقدوا إخوانكم الفقراء وجودوا عليهم مما جاد الله به عليكم: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الخامسة في نماذج من أنواع الظلم

[الخطبة الخامسة في نماذج من أنواع الظلم] الخطبة الخامسة في نماذج من أنواع الظلم الحمد لله الذي حرم على عباده الظلم والطغيان وأوعد الظالمين بالعقوبة والخسران وجعل دعوة المظلوم مستجابة لإقامة العدل والميزان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي حرم الظلم على نفسه فأفعاله وأحكامه دائرة بين العدل والإحسان وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد، أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه أيها المؤمنون كونوا إخوانا كما جعلكم الله إخوانا لا يظلم بعضكم بعضا ولا يحدث أحدكم الآخر حديثا وهو فيه كاذب ولا يحقرن أحدكم صغيرا ولا كبيرا ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى فمن كان لله أتقى فهو عند الله أفضل وأكرم وأولى. لا يظلم بعضكم بعضا لا في المال ولا في العرض ولا في الدم ألا وإن من الظلم أن تأخذ مال أخيك بغير حق ومن الظلم أن تبيع على بيع أخيك المسلم مثل أن تقول لمن اشترى سلعة بثمن أنا أعطيك مثلها بأقل منه أو أعطيك أطيب منها بثمنها ومن الظلم أن تسوم على سوم أخيك مثل أن يسوم شخص من إنسان سلعة فيركن صاحبها إليه ويرضى بسومه فتزيد عليه وأما بيع المزاد العلني الذي في الأسواق فلا بأس به ومن الظلم أن تستأجر على إجارة أخيك مثل أن يكون في دار أو دكان وقد رضي صاحبه بالأجرة فتنغص عليه وتزيد في الأجرة وأما إذا كان صاحب الدار أو الدكان هو الذي يطلب الزيادة فلا بأس بالزيادة ومن الظلم أن يحل لك طلب على فقير معسر فتجبره على أن يتدين ويوفيك أو تتحيل على قلب الدين عليه فإن الله يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أي فيجب انظاره حتى يوسر الله عليه ومن الظلم أن تقرض إنسانا دراهم ثم تشترط عليه زيادة في وفائها أو تشترط عليه نفعا تنتفع به ما دامت الدراهم في ذمته مثل أن تقول: أريد أن أقرضك ألفا على أن أسكن بيتك حتى توفيني أو تعمل هذا العمل حتى قال العلماء رحمهم الله: لو أهدى له المستقرض هدية ما جرت بها العادة فإنه لايجوز له أن يقبلها إلا أن ينوي المقرض مكافأته عليها أو يسقط ما

يقابلها من دينه. ألا وإن الغيبة والنميمة من الظلم فأما الغيبة فهي ذكرك أخاك بما يكره سواء كان فيه ما تقول أو لم يكن فمن اغتاب أحدا فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه وأن لا يعود إلى الغيبة ثم إن كان صاحبه قد علم فعليه أن يستحله وإن كان لم يعلم فعليه أن يثني عليه بما فيه من الخصال الحميدة في مقابلة غيبته إياه وأما النميمة فهي أن تنقل كلام الناس من بعضهم في بعض لتفسد بينهم مثل أن تقول فلان يقول فيك كذا وكذا تحرش بينهما فإن هذا لا يحل ولا يجوز وهو سبب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة وليحذر الإنسان من النمام فإن من نقل كلام الناس فيك إليك فإنه سينقل كلامك في الناس إليهم «وقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) » أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11 - 12] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة السادسة في أن ترقي علوم الصناعة من تعليم الله

[الخطبة السادسة في أن ترقي علوم الصناعة من تعليم الله] الخطبة السادسة في أن ترقي علوم الصناعة من تعليم الله الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الأكرم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى العرب والعجم -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- ومن تمسك بهديهم الأقوم وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وإنه ما من شيء يحدث في السماوات والأرض إلا وهو عالم به سبحانه مقدر له قبل خلق السماوات والأرض ولقد أبدع الله الكون وأتقنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88] وكرم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وسخر لهم الليل والنهار والشمس والقمر بل سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه. أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ورباهم بالإدراك والعقل فجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وفتح لهم مدارك العلوم فبحثوا فيما سخر الله لهم من ذلك فاستخرجوا منه الأمور الغريبة ما بين ضروري وكمالي ونافع وضار وكل ما أوتوا من علم أو قدرة فإنما هو من الله تعالى لو شاء لسلبهم العلم فكانوا جهالا ولو شاء لسلبهم القدرة فكانوا عاجزين ولكنه تعالى من عليهم بالعلم والقدرة على وجه محدود فمهما أوتوا من علم أو قدرة فإنه يسير ويسير جدا بالنسبة إلى علم الله وقدرته: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ولقد كان من الأمور التي علم الله عباده وأقدرهم عليها علم الصناعة الذي بلغ في عصرنا مبلغا كبيرا لا يتصوره أحد من قبل. هذه المراكب البحرية التي تمخر عباب البحر بكل قوة وأمان حاملة ما شاء الله تعالى من نفوس وأموال تقطع المسافات الطويلة في أمن وطمأنينة إنما حصلت هذه المراكب بما فتح الله على صانعيها من إدراك وفهم وبما يسر الله لهم من المواد التي تركبت منها هذه المراكب وسارت بها. وهذه المراكب الجوية التي تجوب الفضاء من المشرق إلى المغرب على متن الهواء حاملة ما شاء الله من نفوس وأموال تقطع المسافات البعيدة بتلك السرعة الهائلة والارتفاع الشاهق هي من صنع الإنسان بلا شك ولكنها من العلم الذي من الله به عليه والأمور التي سخرها له ولو شاء الله تعالى ما فعلوه ومن الذي يتصور قبل ما حدث وشاهدناه بأعيننا أن هذه الطائرات الضخمة التي تحمل

الفئام من الناس ستعلو فوق السحاب؟ ما كان واحد يتصور ذلك قبل حدوثه وكل ما حدث من المصنوعات التي يطيقها البشر فإنها لا تخرج عن علم الله وقدرته فعلينا أن نعتبر بها على كمال الله علما وقدرة ورحمة وأنه ما من كمال في المخلوق في علم أو قدرة أو غيرهما إلا وهو ناقص جدا بالنسبة ما لله من ذلك وعلينا أن لا نفتن بذلك ونعظم صانعي هذه الأمور بأكثر مما يستحقونه وعلينا أن نترقب نتيجة ما حدث من تلك الصنائع هل تكون خيرا للبشرية فتكون نعمة أو تكون شرا للبشرية فتكون نقمة. كما أن علينا أن نعلم علما يقينا بأن القرآن والسنة الصحيحة كلاهما من عند الله وأن ما كان من عند الله فهو حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يمكن أن يحدث شيء من المحسوس أو أن يعلم شيء من المعقول يخالف ما جاء به الكتاب والسنة أبدا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وقال الله تعالى على لسان إبراهيم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة السابعة في حكم استماع آلات اللهو

[الخطبة السابعة في حكم استماع آلات اللهو] الخطبة السابعة في حكم استماع آلات اللهو الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه وأدر عليهم النعم والأرزاق ليشكروه وأمرهم بحماية أعمارهم وحفظ أوقاتهم أن يضيعوها سدى ليستفيدوا من حياتهم ويفوزوا بالربح والفلاح حين يلاقوه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكمة في خلقه وشرعه وله الحكم المطلق بين خلقه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وإمام المتقين وسيد أولي العزم من المرسلين الذي بعثه الله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين فبين للعباد طرق سيرهم إلى الله ونظم لهم شؤونهم وأعمالهم في هذه الدنيا وبعد الممات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإنما خلقتم لأمر عظيم وهيئتم للقيام بعمل جليل جسيم خلقتم لعبادة الله والامتثال لأوامره والانزجار عن نواهيه لقد أمركم الله تعالى بكل ما يقوم هذه العبادة ونهاكم عن كل ما يصدكم عن ذكر الله وعن طريق السعادة ألا وإن في مجتمعكم مشكلة تصد عن ذكر الله وتوجب للعبد الغفلة عن طاعة الله لا أقول إنها مشكلة علمية لأن الكثير يعرف حكمها ولكن المشكلة فيها هو العمل والتنفيذ ألا أنبئكم ما هي المشكلة؟ هي مشكلة الإصرار على اللهو من الاستماع إلى آلات الطرب والغناء المحرم التي أصبح كثير من الناس عاكفا عليها حتى أشغلته عن كثير مما يهمه ويعنيه في دينه ودنياه فكان في ذلك ضياع للوقت ونفاد للمال وإصرار على المعصية وتعلق القلب بغير الله ولا أدري أيها الإخوان ما شأن المصرين عليها هل هم في شك في تحريمها أم عندهم ضعف في إيمانهم وعزيمتهم أم هم رأوا الأسباب المقتضية لها فظنوا أنه لا بأس بها وصدق قول القائل مع كثرة الإمساس نقل الإحساس فمن كان في شك في تحريمها فليستمع إلى بعض النصوص الواردة فيها فمن ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] أكثر المفسرين على أن المراد بذلك اللهو الغناء قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: والله الذي لا إله غيره إن ذلك هو الغناء وكررها ثلاث مرات وتفسير الصحابة حجة لأنهم أعلم الناس بالقرآن لفظا ومعنى حتى قال بعض العلماء أنه في حكم المرفوع وفي صحيح

البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» والمعازف هي آلات اللهو فذمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على استحلالها وقرن ذلك باستحلال الحر وهي الفروج يعني استحلال الزنا وباستحلال الحرير والخمر وردت أحاديث أخرى كثيرة في السنن والمسند تدل على التحريم والوعيد لمن استحل ذلك أو أصر عليه ولولا خوف الإطالة لذكرناها مع أن المؤمن يكفيه دليل واحد صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] قال ابن القيم رحمه الله: حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع من أهل العلم على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة وهما آلتان من آلات اللهو فيا من شك في تحريمه هذه أدلة التحريم ويا من عرف الحق وضعفت عزيمته حتى اجترفته التيارات ارجع إلى نفسك فحاسبها واقنعها بالرجوع عن الإصرار عليه واستعن بالله على ذلك واعلم أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه وأن من أصر على المعصية مع علمه بها فلا عذر له ويوشك أن يزيغ قلبه ويطبع عليه فيلتبس عليه الحق ويخسر دينه ودنياه ولا تغتر أيها العاقل المؤمن بعمل الناس ولكن اعرض أعمالهم على كتاب ربك وسنة نبيك -صلى الله عليه وسلم- فإن وجدت فيهما تحريم ذلك فاجتنبه فإن الحساب غدا على ما في الكتاب والسنة لا على عمل الناس. ولا تطلق لنفسك العنان في الترفيه فتقع في المحظور والحرام فإن الترفيه نوعان نوع مباح بريء من الإثم لا يمنع الإنسان منه وهو ما أحله الله ورسوله من المتنزهات والنظر في جمال المخلوقات من الأنهار والأشجار والجبال ونحوها ومن المسابقة على الأقدام وغيرها والسباحة ونحوها مما هو حلال نافع في الدين وفي الدنيا فهذا لا بأس والنوع الثاني ترفيه بريء من الأجر مليء من الوزر فهذا يمنع الإنسان منه ومنعه منه عين المصلحة ألا ترى الطبيب يمنع المريض من الطعام الذي يشتهيه حيث يضره لوقايته من الضرر وجلب ما ينفعه وذلك مثل الترفيه بما حرم الله فهذا ممنوع منه لما فيه من الإثم والفساد. وفقني الله وإياكم لفعل مراضيه وجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه وأرانا الحق حقا ورزقنا اتباعه وأررانا الباطل باطلا ورزقنا اجتنابه إنه جواد كريم رؤوف رحيم. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثامنة في بيان الحكمة في تفاوت الناس في الرزق

[الخطبة الثامنة في بيان الحكمة في تفاوت الناس في الرزق] الخطبة الثامنة في بيان الحكمة في تفاوت الناس في الرزق الحمد لله الواحد القهار الحكيم في خلقه وشرعه ففي خلقه وفي شرعه غاية الحكم والأسرار قسم الرزق بين عباده ما بين غنى واقتار لتقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الكريم الجواد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسل وخلاصة العباد وأبلغ الناس في الزهد والورع والشكر والصبر على أحكام الملك الجبار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله له الحكمة البالغة في الخلق والتقدير والتضييق على عباده والتيسير وله الحكمة البالغة في الحكم والتشريع فأحكام شريعته كلها عدل ورحمة وحكمة مصلحة للعباد في دنياهم وأخراهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فله الحمد في منعه وعطائه وعلى العباد إذا وسع عليهم أرزاقهم أن يشكروه ويقوموا بما يجب عليهم في هذه الأرزاق وعلى العباد إذا قدرت عليهم أرزاقهم أن يصبروا على تقدير الواحد الخلاق فهم أعلم بمصالحهم وهو أرحم بهم من أمهاتهم لقد قسم العليم الحكيم الرزق على عباده فمنهم من بسط له في رزقه ومنهم من قدر عليه رزقه وذلك لحكم عظيمة باهرة قسم الله الرزق على عباده ليعرفوا بذلك أنه المدبر لجميع الأمور وأن بيده مقاليد السماوات والأرض فهذا يوسع عليه والآخر يضيق عليه ولا راد لقضائه وقدره: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12] بسط العليم الحكيم الرزق لبعض العباد وضيقه على بعضهم ليعتبروا بهذا التفاوت في الدنيا تفاوت ما بينهم في درجات الآخرة فكما أن الناس في هذه الدنيا متفاوتون فمنهم من يسكن القصور المشيدة العالية ويركب المراكب الفخمة الغالية ويتقلب في ماله وأهله وبنيه في سرور وحبور ومنهم من لا مأوى له ولا أهل ولا مال ولا بنون ومنهم ما بين ذلك على درجات مختلفة فإن التفاوت في درجات الآخرة أعظم وأكبر وأجل وأبقى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21] فإذا كانت الآخرة أكبر الدرجات وأكبر تفضيلا فإنه ينبغي أن نتسابق إلى درجاتها العالية وحياتها الباقية ذلك خير وأحسن تأويلا قسم الله الرزق بين عباده.

ليعرف الغني قدر نعمة الله عليه بالإيسار فيشكره عليها ويلتحق بالشاكرين ويعرف الفقير ما ابتلاه الله به من الفقر فيصبر عليه وينال درجة الصابرين {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وهو مع ذلك لا يزال يسأل ربه الميسرة وينتظر الفرج من رب العالمين قسم الله الرزق بين عباده لتقوم مصالحهم الدينية والدنيوية فلو بسط الرزق لجميع العباد لبغوا في الأرض بالكفر والطغيان والفساد ولو ضيق الرزق على جميعهم لاختل نظامهم وتهاوت من معيشتهم الأركان لو كان الناس في الرزق على درجة واحدة لم يتخذ بعضهم بعضا سخريا لم يعمل أحدهم للآخر صنعة ولم يحترف له بحرفة لأن الكل في درجة واحدة فليس أحدهم أولى بهذا من الآخر أين الرحمة والعطف من الغني للفقير إذا قدرنا أن الناس كلهم في درجة واحدة أين الموقع العظيم الذي يحصل بصلة الأقارب بالمال إذا كان الكل في درجة واحدة إن هذا وأضعافه من المصالح يفقد لو تساوى الناس في الأرزاق ولكن الحكيم العليم قسم بينهم أرزاقهم وأمر الأغنياء بالشكر والإنفاق وأمر الفقراء بالصبر وانتظار الفرج من الكريم الرزاق فعلينا معشر المسلمين أن نرضى به ربا فنرضى بقسمه واقداره وأن نرضى به حكما فنؤمن بحكمه وأسراره أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة التاسعة في أن تطبيق الإسلام هو الكفيل للأمة بالنصر

[الخطبة التاسعة في أن تطبيق الإسلام هو الكفيل للأمة بالنصر] الخطبة التاسعة في أن تطبيق الإسلام هو الكفيل للأمة بالنصر الحمد لله الذي وعد المؤمنين بالنصر والتأييد ودافع عن الذين آمنوا كيد كل كفار عنيد وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده لإعلاء التوحيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين انتصروا بالدين وانتصر بهم الدين حتى علا على كل دين وسلم تسليما. أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى وحققوا الإيمان بالله قولا وعملا واعتقادا فإنه لا عزة ولا كرامة ولا انتصار إلا بالقيام بالدين وتحكيم الكتاب والسنة وتقديمهما على جميع النظم والقوانين فإنه لا نظام أقوى من نظام الإسلام ولا حكم أحسن من حكمه لأنه حكم الرب العليم الحكيم الرحمن الرحيم لا أحسن من تطبيق الإسلام في الأمور السياسية والأمور الاقتصادية والأحوال الاجتماعية والحقوق الشخصية والحدود الجنائية فتطبيقه صلاح العالم في جميع الأحوال ولما كانت الأمة الإسلامية متمسكة بدينها خاضعة لأحكامه مقتنعة بتعاليمه وأهدافه مطبقة لشرائعه في جميع الميادين كانت منصورة بنصر الله المبين فقهرت أعظم دول العالم في ذلك الحين واستولى الرعب على قلوب الأعداء المخالفين ثم لما تفرقت بها الأهواء وتشتت منها الأهداف والآراء ارتفعت الهيبة من أعدائهم فسلطوا عليهم من كل جانب سلطوا عليهم بحرب السلاح والإبادة وسلطوا بتغيير النظم وإفساد الثقافة أما حرب السلاح والإبادة فهناك الحروب الصليبية وما قبلها وما بعدها إلى يومنا هذا وأما تسلط أعدائنا بتغيير النظم والقوانين فإنهم حاولوا وما زالوا يحاولون أن يسير المسلمون في فلكهم في قوانينهم وتشريعاتهم التي بنوها على عقولهم القاصرة وآرائهم الفاسدة فإن كل رأي خالف الكتاب والسنة فإنه رأي فاسد لا خير فيه وإن قدر أن فيه خيرا فإن ضرره وشره فوق خيره أضعافا مضاعفة إن الأعداء غزونا بقوانينهم يريدون منا أن ندع أحكام الكتاب والسنة التي صدرت من الرب العليم بمصالح العباد الحكيم في شرعه فلم يشرع إلا ما فيه الخير والرشد والعدل والسداد. الرحيم بخلقه فلم يشرع لهم إلا ما فيه مصلحتهم في الحال والمآل ولم ينههم إلا عما فيه مضرتهم في الحال والمآل إن أعداءنا إذا نجحوا من هذه الناحية فقد حازوا نصرا مبينا

وذلك من وجهين: الأول أننا نصير عالة عليهم وتابعين لهم نتشبع بآرائهم ونتروى بأفكارهم. الثاني: أننا بذلك نترك تطبيق أحكام ديننا التي لا انتصار لنا عليهم إلا بتطبيقها والتزامها ظاهرا وباطنا وأما إفساد الثقافة فإنهم أدخلوا على الثقافة الإسلامية ما يبعدها عن أهدافها وأغراضها حتى أصبحت جافة هزيلة لا ترى فيها حياة الدين ودسومته وبذلك استولى الضعف على المسلمين وتداعت عليهم الأمم وصاروا غثاء كغثاء السيل يجري بهم التيار قهرا لا يملكون تقدما ولا تأخرا لو هبت الريح لمزقتهم ولو استقبلهم أصغر العيدان لفرقهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها فلو أن المسلمين تدبروا كتاب ربهم وسنة نبيهم وعملوا بما فيهما وطبقوا ذلك على الأفراد والجماعات في جميع العبادات والمعاملات لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ولنصرهم وألقى في قلوب أعدائهم الرعب فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

خطبة استسقاء

[خطبة استسقاء] خطبة استسقاء الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والحمد لله مغيث المستغيثين ومجيب المضطرين ومسبغ النعمة على العباد أجمعين لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا إله إلا الله الولي الحميد لا إله إلا الله الواسع المجيد لا إله إلا الله الذي عم بفضله وإحسانه جميع العبيد وشمل بحلمه ورحمته ورزقه القريب والبعيد فـ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين المؤيد بالآيات البينات والحجج الواضحات والبراهين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهديهم إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بهذا الماء الذي يسره الله لكم فأنزله من السماء ثم سلكه ينابيع في الأرض وخزنه فيها لتستخرجوه عند الحاجة إليه ولو بقي على وجه الأرض لفسد وأفسد الهواء ولكن الله بحكمته ورحمته خزنه لكم: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] فاحمدوا الله أيها المسلمون على هذه النعمة واعرفوا قدر ضرورتكم إلى الماء الذي هو مادة حياتكم وحياة بهائمكم وأشجاركم وزروعكم وإنه لا غنى لكم عن رحمة الله إياكم به طرفة عين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] أيها المسلمون: إنكم لتعلمون ما يحصل من الضرر بتأخر هذا الماء أو نقصانه في الزروع والثمار والبهائم ولقد شاهدتم ما حصل من نزول المياه الجوفية الذي لعله يكون من أسبابه قلة الأمطار فأنتم أيها المسلمون مضطرون إلى المطر غاية الضرورة ولا يستطيع أحد أن ينزل المطر إلا الله تعالى الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء فهو غياث المستغيثين وجابر المنكسرين وراحم المستضعفين وهو على كل شيء قدير وبكل شيء عليم يعطي لحكمة ويمنع لحكمة وهو اللطيف الخبير. أيها المسلمون: إذا علمتم أنكم مضطرون إلى رحمة ربكم وغيثه غاية الضرورة وأنه لا يكشف ضركم ولا يغيث شدتكم إلا الرحمن الرحيم الجواد الكريم.

أيها المسلمون: إذا علمتم أن الدعاء مخ العبادة وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب فإما أن يعطى مطلوبه أو يدخر له ما هو أكثر منه وأعظم أو يدفع عنه من السوء ما هو أشد وأكبر إذا علمتم أيها المسلمون ذلك كله فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم مستغيثين به راجين لفضله آملين لكرمه وقدموا بين يدي ذلك توبة نصوحا واستغفارا من الذنوب. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تغيث قلوبنا وتحييها بذكرك وتصلح باطننا بالإخلاص والمحبة لك وظاهرنا بالاتباع التام لرسولك -صلى الله عليه وسلم- والانقياد الكامل لشريعته حتى لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى ونسلم تسليما. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدارا اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق. أيها الإخوان: اقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- بقلب العباء فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقلب رداءه تفاؤلا على ربكم أن يقلب حالكم إلى الرخاء وإشعارا بالتزامكم تغيير لباسكم الباطن بلزوم التقوى بدلا من التلوث بلباس المعاصي والردى. ثم يستقبل القبلة فيقلب رداءه ويدعو. ثم يدعو الناس إلى التوبة وبيان أن ما أصابهم فإنما هو بذنوبهم وأنه ينبغي التوبة والإلحاح كل وقت ثم ينصرف.

خطبة ثانية في الاستسقاء

[خطبة ثانية في الاستسقاء] خطبة ثانية في الاستسقاء الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والحمد لله مغيث المستغيثين ومجيب دعوة المضطرين وكاشف الكرب عن المكروبين ومسبغ النعمة على العباد أجمعين لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وربك يخلق ما يشاء ويختار وهو الولي الحميد فسبحانه من إله كريم شمل بكرمه ورزقه وإحسانه القريب والبعيد فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وربك على كل شيء حفيظ ولكنه يعطي لحكمة ويمنع لحكمة إن ربي على صراط مستقيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة يوم الوعيد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم الرشيد وسلم تسليما. عباد الله: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68 - 69] عباد الله: أنزل الله تعالى غيثين لعباده أحدهما أهم من الآخر والناس يحتاجون إليه أشد من الآخر أما الغيث الأول فهو غيث القلوب بما أنزل الله من الوحي على رسله وهذا الغيث مادة حياة القلوب وسعادة الدنيا والآخرة وبه يستجلب الغيث الثاني وهو غيث الأرض بما ينزله الله من المطر ولقد خرجتم تستغيثون ربكم لهذا الغيث وإنه لجدير بنا أن نهتم بالغيث الأول قبل الثاني لأن به سعادة الدنيا والآخرة وحصول الغيث الثاني قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] وقال تعالى على لسان نوح -صلى الله عليه وسلم-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11] إلى قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 12] وقال تعالى عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] أيها المسلمون: يجب علينا أن نتفقد قلوبنا هل رويت من هذا الغيث أم هي ظامئة يجب علينا أن ننظر في صحائفنا هل هي ربيع بهذا الوحي أم مجدبة منه يجب علينا أن نصلح ما فسد وأن نطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد يجب

علينا أداء الصلاة وإيتاء الزكاة والقيام بإصلاح الأهل وإصلاح المجتمعات يجب علينا أن نتوب إلى الله من جميع الذنوب وأن نحسن الظن بالله عندما نتوب فإن الله سبحانه يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] فارفعوا أيديكم واتجهوا بقلوبكم إلى ربكم داعين مؤملين منه الفرج وإزالة الشدة اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا وتصلح بها أحوالنا وقلوبنا اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم واكشف الضر عن المستضرين وأسبغ النعم على المؤمنين. اللهم اسقنا الغيث والرحمة ولا تجعلنا من القانطين اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا واسعا شاملا لجميع أراضي المسلمين اللهم أغثنا غيثا مباركا تحيي به البلاد وترحم به العباد وتجعله بلاغا للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع وأنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض اللهم وسع أرزاقنا ويسر أقواتنا واجعل ما رزقتنا قوة لنا على طاعتك ومتاعا إلى حين اللهم إنا عبيدك مضطرون إلى رحمتك خائفون من عذابك فارحمنا برحمتك ونجنا من عذابك ولا تؤاخذنا بما فعلنا فإنك أهل العفو والإحسان اللهم تقبل منا دعواتنا بمنك وكرمك وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد. عباد الله: اقتدوا بنبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- في قلب العباء فإن ذلك سنة وفيه تفاؤل بقلب الأحوال إلى حال أخرى وعنوان على التزامكم بقلب اللباس الباطن إلى لباس آخر ولباس التقوى ذلك خير. ثم يستقبل القبلة فيقلب رداءه ويدعو ثم يتجه ويعظ الناس قليلا وينصرف.

القسم العاشر في خطب لشهور معينة

[القسم العاشر في خطب لشهور معينة] [الخطبة الأولى في شهر محرم ومبدأ التاريخ الإسلامي] القسم العاشر في خطب لشهور معينة الخطبة الأولى في شهر محرم ومبدأ التاريخ الإسلامي الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا وأتقن ما شرعه وصنعه حكمة وتدبيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكان الله على كل شيء قديرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله إلى الخلق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا. أما بعد، أيها الناس: اتقوا ربكم واعلموا ما لله من الحكمة البالغة في تعاقب الشهور والأعوام وتوالي الليالي والأيام فإن الله جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ومراحل للآجال يعمرها الناس بما يعملون من خير وشر حتى ينتهي إلى آخر أجلهم ومن رحمته بعباده أن جعل لهم ليلا ونهارا وجعل لكل منهما آيتين آية النهار وهي الشمس وآية الليل وهي القمر جعل الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ليبتغوا فيه فضلا من الله ويطلبوا فيه معايشهم وجعل كل نهار يتجدد بمنزلة الحياة الجديدة يستجد فيه العبد قوته ويستقبل عمله ولذلك سمى الله النوم بالليل وفاة واليقظة بالنهار بعثا فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] ومن رحمته بعباده أن جعل الشمس والقمر حسبانا ففي الشمس معرفة الفصول وفي القمر حسبان الشهور وجعل الله السنة اثني عشر شهرا قال الله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] والأربعة الحرم ثلاثة منها متوالية وهي ذو القعدة الفطر التالي وذو الحجة والمحرم والرابع منها مفرد وهو رجب بين جمادى وشعبان وإن من تيسير الله تعالى أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنيا على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رئي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهى الشهر الماضي وبذلك عرفنا أن ابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لا من زوالها لأن أول الشهر يدخل بغروب الشمس وأول الشهر هو أول الوقت. ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

-رضي الله عنه- حيث جمع الناس ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم يبدأ من مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم يبدأ من بعثته وقال بعضهم يبدأ من هجرته وقال بعضهم يبدأ من وفاته ولكنه -رضي الله عنه- رجح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي السنة التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين وفيها تكوين أول بلد إسلامي يسيطر عليه المسلمون فاتفق فيه ابتداء الزمن والمكان ثم إن الصحابة الذين جمعهم عمر تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجرا إلى المدينة وقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن واتفق رأي عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة الذي فيه أداء الناس حجهم الذي به تمام أركان الإسلام لأن الحج آخر ما فرض من الأركان الخمسة ثم إنه يلي الشهر الذي بايع فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الأنصار على الهجرة وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم. عباد الله: إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر وإن على الأمة الإسلامية أن تجعل لنفسها وجودا وكيانا مستقلين مستمدين من روح الدين الإسلامي وأن تكون متميزة عن غيرها في كل ما ينبغي أن تتميز به من الأخلاق والآداب والمعاملات لتبقى أمة بارزة مرموقة لا تابعة لغيرها هاوية في تقليد من سواها تقليدا أعمى لا يجر إليها نفعا ولا يدفع عنها ضررا وإنما يظهرها بمظهر الضعف والتبعية وينسيها ما كان عليه أسلافها ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها فالتاريخ اليومي يبدأ من غروب الشمس والشهري يبدأ من الهلال والسنوي يبدأ من الهجرة هذا ما جرى عليه المسلمون وعملوا به واعتبره الفقهاء في كتبهم في حلول آجال الديون وغيرها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ - وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ - لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الثانية في قصة موسى مع فرعون

[الخطبة الثانية في قصة موسى مع فرعون] الخطبة الثانية في قصة موسى مع فرعون الحمد لله العلي الكبير المتفرد بالخلق والتقدير والتدبير الذي أعز أولياءه بنصره وأذل أعداءه بخذله فنعم المولى ونعم النصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب والمصير وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تتذكرون واذكروا أيام الله بنصر أوليائه لعلكم تشكرون واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه لعلكم تتقون واذكروا أيام الله إذا نزل للقضاء بين عباده فقضى بينهم بفضله وعدله لعلكم توقنون إن نصر الله لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة هو نصر للحق وذلة للباطل وأخذ للمتكبر ونعمة على المؤمنين إلى قيام الساعة لقد أرسل الله موسى -صلى الله وسلم عليه وعلى نبينا وإخوانهما من النبيين والمرسلين أرسله إلى فرعون بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات فقال فرعون منكرا وجاحدا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات فأجابه موسى: هو {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين فقال فرعون لمن حوله ساخرا ومستهزئا بموسى {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] فذكره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عدم آباؤه الأولون فقال موسى: هو {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] وحينئذ بهت فرعون فادعى دعوى المكابر المغبون فقال {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] فطعن بالرسول والمرسل فرد عليه موسى ذلك وبين له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فلما عجز فرعون عن رد الحق لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الارهاب فتوعد موسى بالاعتقال والسجن وخاب فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ولم يقل لأسجننك ليزيد في إرهاب موسى وإن لدى فرعون من القوة والسلطان والنفوذ ما مكنه من سجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده وإرهابه وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس

وفرعون يحاول بكل مجهوداته ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ - أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ - فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ - فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ - فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ - فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 51 - 56] وكان من قصة إغراقهم أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلا من مصر فاهتم لذلك فرعون اهتماما عظيما فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده الله فجمع فرعون قومه وخرج في إثر موسى متجهين إلى جهة البحر الأحمر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] البحر من أمامنا فإن خضناه غرقنا وفرعون وقومه خلفنا فإن وقفنا أدركنا فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فلما بلغ البحر أمره الله أن يضربه بعصاه فضربه فانفلق البحر اثنى عشر طريقا وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال فلما تكامل موسى وقومه خارجين وتكامل فرعون بجنوده داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين فانظروا -رحمكم الله- إلى ما في هذه القصة من العبر والآيات كيف كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل خوفا من موسى فتربى موسى في بيته تحت حجر امرأته وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مصرحا معلنا بالحق هاتفا به ألا إن ربكم هو الله رب العالمين فأنجاه الله منه وكيف كان الماء السيال شيئا جامدا كالجبال بقدرة الله وكان الطريق يبسا لا وحل فيه في الحال وكيف أهلك الله هذا الجبار العنيد بمثل ما كان يفتخر به فقد كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته فأهلك بالماء ولا شك أن ظهور آيات الله في مخلوقاته نعمة كبرى يستحق عليها الحمد والشكر خصوصا إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه ودحر أعداء الله وحزبه ولذلك لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر شهر المحرم ويقولون إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فنحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر الناس بصيامه» وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صيامه فقال: «احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» فينيغي للمسلم أن يصوم يوم عاشوراء وكذلك اليوم التاسع لتحصل بذلك مخالفة اليهود التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بها أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الثالثة في شوال

[الخطبة الثالثة في شوال] الخطبة الثالثة في شوال الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ووفق من شاء من عباده لعمارتها بالطاعات المتنوعة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم وأولئك كان سعيهم مشكورا وخذل من أعرض عن ذكره واتبع هواه وأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وكان الله على كل شيء قديرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم وسلم تسليما كثيرا. أما بعد أيها الناس: فقد كنتم ترتقبون مجيء شهر رمضان ولقد جاء شهر رمضان وخلفتموه وراء ظهوركم وهكذا كل مستقبل سوف ينتهي إليه العبد ويصل إليه ويخلفه وراءه حتى الموت أيها الناس ولقد أودعتم شهر رمضان ما شاء الله تعالى أن تودعوه من الأعمال فمن كان منكم محسنا فليبشر بالقبول فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ومن كان منكم مسيئا فليتب إلى الله فالعذر قبل الموت مقبول والله يحب التوابين. أيها الناس: لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت ولئن انقضت أيام صيام رمضان فإن الصيام لا يزال مشروعا ولله الحمد في كل وقت فقد سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صيام يوم الاثنين والخميس وقال: «إن الأعمال تعرض فيهما على الله تعالى فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» وأوصى أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وقال: «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله» وأمر أن تكون هذه الأيام الثلاثة أيام البيض وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فمن أمكنه أن يجعل الثلاثة في أيام البيض فهو أفضل وإلا فلو في غيرها. ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة ولله الحمد وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل

الآخر فيقول: (من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له) » . فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وبادروا أعماركم بأعمالكم وحققوا أقوالكم بأفعالكم واغتنموا الأوقات بالأعمال الصالحات فإن حقيقة العمر ما أمضاه العبد بطاعة الله وما سوى ذلك فذاهب خسارا. أيها المسلمون: لقد يسر الله لكم سبل الخيرات وفتح أبوابها ودعاكم لدخولها وبين لكم ثوابها. فهذه الصلوات الخمس آكد أركان الإسلام بعد التوحيد هي خمس في الفعل وخمسون في الميزان مفرقة في أوقات مناسبة لئلا يحصل الملل للكسلان وليحصل لكل وقت حظه من تلك الصلوات فسبحانه الحكيم الديان. وهذه النوافل التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة أربع قبل الظهر بسلامين وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء الآخرة وركعتان قبل الفجر من صلاهن بنى الله له بيتا في الجنة. وهذا الوتر سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا وقال: «إن الله وتر يحب الوتر» وأقل الوتر ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة ووقته من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر وهو سنة مؤكدة لا ينبغي للإنسان تركه حتى قال بعض العلماء إنه واجب وقال الإمام أحمد من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة وهذه الأذكار خلف الصلوات المفروضة من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر وهذا الوضوء من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. وهذه النفقات المالية إذا أنفق الإنسان نفقة يبتغي بها وجه الله أثيب عليها حتى ولو كان الإنفاق على نفسه أو أهله أو ولده وإن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها والساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم لا يفطر وكالقائم لا يفتر والساعي عليهم هو الذي يسعى بطلب الرزق لهم ويقوم بحاجتهم ولا شك أن عائلتك التي لا تستطيع

القيام بنفسها من الأولاد الصغار وغيرهم هم من المساكين فالساعي عليهم كالمجاهد في سبيل الله. فيا عباد الله إن طرق الخير كثيرة فأين السالكون وإن أبوابها لمفتوحة فأين الداخلون وإن الحق لواضح لا يزيغ عنه إلا الهالكون. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الرابعة في وداع العام

[الخطبة الرابعة في وداع العام] الخطبة الرابعة في وداع العام الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب والحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا من ذوي الألباب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ومنه المبتدأ وإليه المنتهى والمآب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله وأناب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتبصروا في هذه الأيام والليال فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم وكل يوم يمر بكم فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه طوبى لعبد شغلها بالطاعات وتجنب العصيان طوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال طوبى لعبد استدل بتقلباتها على ما لله فيها من الحكم البالغة والأسرار: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44] إخواني: ألم تروا إلى هذه الشمس كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب في مغربها وفي ذلك أعظم الاعتبار فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وزوال. ألم تروا إلى هذه الشهور تهل فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدا رويدا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال وهكذا عمر الإنسان سواء فاعتبروا يا أولي الأبصار. ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عاما بعد عام فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ثم تمر به الأيام سراعا فينصرم العام كلمح البصر فإذا هو في آخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] ربما يؤمل الإنسان بطول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأمل قد انصرم وببناء الأماني قد انهدم. أيها الناس: إنكم في هذه الأيام تودعون عاما ماضيا شهيدا وتستقبلون عاما مقبلا جديدا فليت شعري ماذا أودعتم في العام الماضي وماذا تستقبلون به العام الجديد فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره فإن كان قد فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليتدارك

ما فات وإن كان ظالما لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات وإن كان ممن من الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليها إلى الممات. إخواني: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي وليست التوبة مجرد قول باللسان من غير تخلي إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وإنما التوبة ندم على ما مضى من العيوب وإقلاع عما كان عليه من الذنوب وإنابة إلى الله بإصلاح العمل ومراقبة علام الغيوب فحققوا أيها المسلمون الإيمان والتوبة فإنكم في زمن الإمكان. وعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا فقال: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» ففي الشباب قوة وعزيمة فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان. عباد الله: اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها واعلموا أن كل آت قريب وأن كل موجود منكم زائل فقيد فابتدروا الأعمال قبل الزوال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ - هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ - إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 3 - 6] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

وإلى هنا انتهى ما أردنا انتفاءه من الخطب مراعين فيه ما كان أنسب للوقت وأشد في الحاجة والله نسأل أن ينفع به من قرأه وسمعه إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تم القسم الأول من (الضياء اللامع) ولله الحمد ويليه إن شاء الله القسم الثاني

القسم الثاني من الضياء اللامع من الخطب الجوامع

[القسم الثاني من الضياء اللامع من الخطب الجوامع] [مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فقد نشرنا سابقا عددا من خطبنا يزيد على خمس وعشرين ومائة خطبة في مواضيع متنوعة في أصول الدين وفروعه والسيرة وغيرها في كتاب أسميناه (الضياء اللامع من الخطب الجوامع) طبع عام 1392هـ وقد نفدت نسخه، فعزمت رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد على إعادة طبعه، نرجو الله تعالى أن ييسر ما عزمت عليه. ومن أجل إتمام الفائدة أضفنا ملحقا إلى ما سبق نشره فيما تجدد من خطبنا أيضا يبلغ مجموعه ثماني عشرة ومائة خطبة في المواضيع التالية: العلم والإفتاء - أصول الدين - التفسير - الصلاة - اللباس - الزكاة - الصيام والقيام - الحج والأضحية - الأخلاق والآداب - المعاملات - النكاح - الجنايات والحدود - الأمانة - القضاء والشهادة - الفتن - القيامة - مواضيع مختلفة - السيرة - التوقيت وخصائص بعض الأيام. هذا ونسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الملحق وسابقه وأن يجعل عمل الجميع خالصا لوجهه موافقا لمرضاته إنه جواد كريم. المؤلف.

القسم الأول في العلم والإفتاء

[القسم الأول في العلم والإفتاء] [الخطبة الأولى في الحث على طلب العلم] بسم الله الرحمن الرحيم القسم الأول في العلم والإفتاء الخطبة الأولى في الحث على طلب العلم الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وفضل العلم على الجهل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وفقه من أراد به خيرا في دين الله فأصبح من العالمين المهتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمن بالفضل ويمنع بالعدل وهو أعلم حيث يجعل رسالته وهو أعلم بالمهتدين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رسول الله إلى الأولين من هذه الأمة والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفقهوا في دينكم فإن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، اطلبوا العلم فإن العلم نور وهدى والجهل ظلمة وضلال وشقاء، اطلبوا العلم فإن العلماء ورثة الأنبياء فالأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر من ميراثهم، اطلبوا العلم فإن العلم الشرعي رفعة في الدنيا والآخرة وأجر مستمر لصاحبه قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له» اطلبوا العلم يكن لكم لسان صدق في الآخرين فإن آثار العلم تبقى بعد فناء أهله فالعلماء الربانيون لم تزل آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة وسعيهم مشكورا وذكرهم مرفوعا إن ذكروا في المجالس امتلأت المجالس بالثناء عليهم والدعاء لهم وإن ذكرت الأعمال الصالحة والآداب العالية كانوا قدوة الناس فيها) : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] أيها الناس: تعلموا العلم للعلم لتنالوا بركته وتجنوا ثمرته تعلموا العلم للعمل لتعلموا به لا لتجادلوا به وتماروا به فإن من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء فقد عرض نفسه لعقوبة الله ونزل بها إلى الهدف الأسفل. لا تطلبوا العلم للمال فإن العلم أشرف من أن

يكون وسيلة إلى المال وإن المال أحق أن يكون وسيلة للعلم لأن المال يفنى والعلم يبقى. أيها الناس: إننا على أبواب عام دراسي جديد يستقبل فيه المعلمون والمتعلمون نشاطهم الفكري والعملي فيا ليت شعري ماذا أعددنا لهذا العام؟ إن علينا أن نشمر عن ساعد الجد من أول الأمر حتى لا نندم في النهاية إن على المعلمين أن يحرصوا على هضم العلوم التي يلقونها إلى الطلبة قبل أن يقفوا أمامهم حتى لا يقع الواحد منهم في حيرة عند السؤال والمناقشة لأن من أعظم مقومات الشخصية قوة المعلم في علمه وملاحظته ولا تنقص قوته العلمية عن قوة ملاحظته في تكوين شخصيته إن المعلم إن ارتبك أمام طلبته فسوف ينحط قدره في أعينهم وإن أجاب بالخطأ فلن يثقوا بمعلوماته بينهم. وإن نهرهم عند السؤال والمناقشة فلن ينسجموا معه، إذن فلا بد للمعلم من إعداد وإستعداد وتحمل وصبر وإن على المتعلمين أن يبذلوا غاية جهدهم من أول السنة حتى يدركوا العلوم إدراكا حقيقيا ثابتا في قلوبهم وراسخا في نفوسهم لأنهم إذا اجتهدوا من أول السنة تلقوا العلوم شيئا فشيئا فسهلت عليهم وثبتت في قلوبهم وسيطروا عليها سيطرة تامة. وإذا أهملوا أول السنة وتهاونوا فإن الزمن ينطوي عليهم فلا يفيقون إلا في آخر العام وقد تراكمت الدروس وضاق الزمن عن إدراكها فأصبحوا عاجزين عن تصورها فضلا عن تحقيقها فيندمون حين لا تنفع الندامة. أيها الناس وإذا كان من نجاح المعلم أن يكون قوي المعرفة قوي الشخصية فإن من نجاحه أيضا أن يكون حسن النية والقصد والتوجيه فينوي بتعليمه الإحسان إلى طلبته بإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم ليكون لتعليمه أثر بالغ. وعليه مع ذلك أن يظهر أمامهم بالمظهر اللائق من الأخلاق الفاضلة والآداب العالية التي أساسها التمسك بشريعة الله وهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم- ليكون قدوة في العلم والعمل فإن التلميذ يتلقى من معلمه الأخلاق والآداب أكثر مما يتلقى عنه من العلوم من حيث التأثير لأن آداب المدرس وأخلاقه صورة مشهودة معبرة عما في نفسه ظاهرة في سلوكه فتنعكس هذه الصورة تماما في سلوك تلميذه. أيها المسلمون وإذا كان على المعلمين واجب يجب عليهم القيام به فكذلك على إدارة المدرسة أن ترعى من تحت رعايتها من مدرسين ومراقبين وطلاب لأنها مسؤولة عنهم أمام الله

وأمام مجتمعهم. وإذا كان على المدرسة واجب يلزمها أن تقوم به فعلى الآباء وأولياء الطلبة واجب يلزمهم القيام به فعليهم أن يتفقدوا أولادهم ويسبروا سيرهم ونهجهم العلمي والفكري والعملي أن لا يتركوهم هملا لا يبحثون معهم ولا يسألون عن طريقتهم ولا عن أصحابهم ومن يعاشرهم لأن تركهم ضياع لهم وظلم فهم رعية يجب على آبائهم وأوليائهم أن يرعوها حق رعايتهم وإن أضاعوا أصبحوا نادمين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية في تحريم الإفتاء بغير علم

[الخطبة الثانية في تحريم الإفتاء بغير علم] الخطبة الثانية في تحريم الإفتاء بغير علم الحمد لله له ملك السماوات والأرض وله الحمد في الأخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر فلا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله فهو الذي يوجب الشيء ويحرمه وهو الذي يندب إليه ويحلله ولقد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم. فقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ - وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 59 - 60] ويقول تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ - مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117] أيها الناس: إن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري عن حكم الله فيه أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه أو يقول عن الشيء إنه غير واجب وهو لا يدري أن الله لم يوجبه. إن هذا جناية وسوء أدب مع الله عز وجل كيف تعلم أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم لقد قرن الله تعالى القول عليه بلا علم بالشرك به فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] أيها الناس: إن كثيرا من العامة يفتي بعضهم بعضا بما لا يعلمون فتجدهم يقولون هذا حلال أو حرام أو واجب أو غير واجب وهو لا يدري عن ذلك أفلا يعلم هذا الرجل أن الله سائله عما قال يوم القيامة أفلا يعلم أنه إذا أضل شخصا فأحل له ما حرم الله أو حرمه مما أحل الله له فقد باء بإثمه وكان عليه مثل وزر ما عمله من إثم بسبب فتواه؟

إن بعض العامة إذا رأى شخصا يريد أن يستفتي عالما يقول له ما حاجة تستفتي هذا واضح هذا حرام مع أنه في الواقع حلال فيحرمه ما أحل الله له أو يقول هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به أو يقول هذا غير واجب فيسقط عنه ما أوجب الله عليه أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام فيوقعه فيما حرم الله عليه وهذا جناية منه على شريعة الله وخيانة لأخيه المسلم حيث غره بدون علم. لو أن شخصا سأل عن طريق بلد من البلدان فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم لعد الناس ذلك خيانة منك وتغريرا فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئا. وإن بعض المتعلمين يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون ويجملون في الشريعة ويفصلون وهم من أجهل الناس في أحكام الله إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي من جزمه فيما يقول وعدم تورعه لا يمكن أن ينطبق بلا أدري أو لا أعلم مع أن عدم العلم هو وصفه الحق الثابت وهذا أضر على الناس من العامة لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به وليت هؤلاء يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقول: الإسلام يقول كذا الإسلام يرى كذا وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع المسلمين عليه. إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حراما أو عن الشيء الواجب الواضح وجوبه ما أظن هذا واجبا إما جهلا منه أو عنادا أو مكابرة أو تشكيكا للناس في ذلك. أيها الناس: إن من العقل وإن من الإيمان وإن من تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم لا أدري اسأل غيري فإن ذلك من تمام العقل لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها وإن ذلك من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه ما لا يعلم ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل عما لم ينزل عليه فيه الوحي فينتظر حتى ينزل عليه الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83]

: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] ولقد كان الأجلاء من الصحابة تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها فها هو أبو بكر -رضي الله عنه- يقول أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم، وها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها وقال ابن سيرين لم يكن أحد أهيب بما لا يعلم من أبي بكر ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم عن عمر. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. وسئل الشعبي عن مسألة فقال لا أحسنها فقال له أصحابه قد استحيينا لك فقال لكن الملائكة لم تستحي حين قالت لا علم لنا إلا ما علمتنا. وجاء رجل إلى مالك بن أنس أحد الأئمة الأربعة فقال يا أبا عبد الله جئتك من مسافة بعيدة مسألة حملني إياها بلدي لأسألك فقال فسل فقال لا أحسنها فبهت الرجل فقال ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم قال تقول لهم قال مالك لا أحسن. وكان الإمام أحمد يسأل عن المسألة فيتوقف أو يقول لا أدري أو يقول سل غيري أو سل العلماء أو نحو ذلك. فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تقولوا في دين الله ما لا تعلمون: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] اللهم اعصمنا عن الزلل ووفقنا لصواب القول والعمل واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

القسم الثاني في أصول الدين

[القسم الثاني في أصول الدين] [الخطبة الأولى في كمال الإسلام ويسره وسهولته] القسم الثاني في أصول الدين الخطبة الأولى في كمال الإسلام ويسره وسهولته إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق أرسله بدين الإسلام دين الرحمة ودين العدالة ودين العبادة والمعاملة فهدى الله به أقواما وأضل عن طريقه آخرين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة. إن خير الحديث كتاب الله لأنه يهدي للتي هي أقوم وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه الطريق المستقيم الموصل إلى الله وإلى سعادة الدنيا والآخرة. أيها المسلمون: إن الدين عند الله الإسلام ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه إن الإسلام هو الاستسلام لله ظاهرا وباطنا استسلاما تاما لا تواني فيه ولا كسل ولا انحراف ولا خطل إنه طاعة لله تعالى سرا وعلنا بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وما أيسر ذلك على من يسره الله عليه. أيها المسلمون: إن الشيطان بعداوته لكم يفتر عزائمكم عن القيام بدينكم ويدعوكم إلى الكسل والتواني عن أوامره ويغريكم ويحثكم على مخالفته ومعصيته إنه يصور لكم الدين بأنه حبس للحرية وتضييق على الإنسان وإرهاق له وتفويت لمصالحه يصوره لكم بأبشع صورة لتنفروا عنه، يصوره كذلك ليهلككم كما هلك: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] إن الشيطان يصوره لكم بما يلقيه في صدوركم وبما يلقيه أولياؤه من شياطين الإنس. أيها المسلمون: إن الدين الإسلامي بريء من كل ما يصفه به أعداؤه إنه دين الحق والعدالة والحرية الحقة إنه دين اليسر والسهولة ودين السعادة والتقدم استعرضوا أصول شرائعه لتقيسوا عليها فروعه. إن الإسلام مبني على خمسة أركان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلا وهذه الأركان كلها سهلة ويسيرة وكلها إصلاح وتهذيب.

فشهادة أن لا إله إلا الله توحيد لله وتجريد للقلب من التأله والعبادة لأحد سوى الله وحصر العبادة لله رب العالمين الذي خلقك فسواك وغذاك بنعمه ورباك فأنت بالنسبة إلى ربك عبد من عبيده وبالنسبة إلى غيره حر وإن من الحماقة بمكان أن تنطلق من عبودية ربك التي هي الحق وتقيد نفسك بعبودية هواك أو بعبودية المال أو عبودية فلان وفلان. إن كثيرا من الناس إذا اشتغل بطاعة الله فكأنما يصابر الجمر لا يصبر عليها إلا قليلا مع قلق في نفسه وانشغال في قلبه وإذا اشتغل بدنياه أقبل عليها بقلبه وفكره واطمأن إليها واستراح بها ولها فهو كامل العبودية لدنياه وناقص العبودية لمولاه. وأما شهادة أن محمدا رسول الله فهي تجريد لمتابعة له دون غيره من المخلوقين فهو رسول ربك الذي كلف بالرسالة إليك وكلفت باتباعها فعنها يسأل هو بلاغا وتسأل أنت عنها اتباعا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] إن كل أحد من الناس سوف يسير في عمله على خطة مرسومة ومنهج متبع فإما أن يكون طريق النبيين أو طريق الضالين المكذبين فماذا بعد الحق إلا الضلال فانظر أي الطريقين أهدى وأقوم. أما الصلاة فما أيسرها وأسهلها وما أنفعها للقلب والبدن والفرد والمجتمع فهي صلة بينك وبين ربك لا تأتيها إلا وأنت متطهر في ظاهرك وباطنك فتقوم بين يدي الله خاشعا خاضعا متقربا إليه بما شرعه لك فيها من ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود تسأله لدنياك وآخرتك فهي تنمي الدين وتحط الذنوب وتلحق بالصالحين ويستعان بها على أمور الدين والدنيا وتنهى عن الفحشاء والمنكر: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] أما الزكاة فهي جزء بسيط تدفعه من مالك لسد حاجة إخوانك وإصلاح مجتمعك ففيها تزكية المال وتطهير النفس من البخل الذميم وتطهير القلب من الذنوب والآثام فالصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] إن كثيرا من الناس يهون عليهم أن ينفقوا المال الكثير في أهواء نفوسهم مما يضرهم أو لا فائدة لهم منه لكنه عند الصدقات الواجبة أو المتطوع بها لا يهون عليه أن ينفق درهما واحدا كأنه لم

يثق بوعد الله بالخلف العاجل والثواب الآجل ولم يصدق بالوعيد الشديد لمن منع الزكاة. أما الصيام فهو شهر واحد في السنة شهر يذكرك بأعظم نعمة من الله عليك شهر نزول القرآن. شهر رمضان تمتنع فيه في النهار فقط عن شهوات نفسك من طعام وشراب ونكاح تقربا إلى ربك وتقديما لمرضاته على ما تشتهيه مع ما فيه من الفوائد الدينية والجسمية والاجتماعية. أما الحج فهو قصد بيت الله لإقامة شعائره وتعظيم حرماته لا يجب في العمر إلا مرة واحدة على المستطيع تحط به الذنوب والخطايا والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة مع ما فيه من تعارف المسلمين في أقطار الدنيا واجتماعهم وتعليمهم وإرشادهم. أيها المسلمون: هذه أصول الإسلام وأركانه فبالله عليكم هل فيها من صعوبة وهل فيها من خلل أو نقص أفليست هي شريعة الله وحكمه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] إن الإسلام مفخرة لأهله وعز وكرامة في الدنيا والآخرة وإن به التقدم الحسي والمعنوي ومن شك في ذلك فلينظر في تاريخ صدر الإسلام حينما كان المسلمون مسلمين ظاهرا وباطنا ولم تغرهم الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور. فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بدينكم ظاهرا وباطنا سرا وعلنا قبل أن تسلبوه وتضلوا عنه ضلالا بعيدا واحذروا أن يصيبكم قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ - فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45] اللهم ثبتنا على الإسلام والتوحيد واختم لنا بخاتمة السعادة والخير يا رب العالمين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين. . الخ.

الخطبة الثانية في حماية الإسلام للدين والنفس والعرض والمال

[الخطبة الثانية في حماية الإسلام للدين والنفس والعرض والمال] الخطبة الثانية في حماية الإسلام للدين والنفس والعرض والمال الحمد لله القوي العظيم الرؤوف الرحيم يقضي بالحق ويحكم بالعدل وهو الحكيم العليم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالحق الداعي إلى صراط مستقيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله سبحانه واشكروه على ما أنعم به من حماية الدين والنفس والمال والعرض. حمى لكم الدين بما أقام عليه من الآيات البينات على صحته لتأخذوا به عن بصيرة وبرهان، وحمى لكم الدين بما رتب على القيام به من الثواب لترغبوا فيه وتستقيموا عليه، وحمى لكم الدين بما رتب على مخالفته من العقاب حتى لا تخرجوا عنه، وحمى لكم الدين بما كتب عليكم من الجهاد بالمال والنفس لتحموه وتدافعوا عنه. ولقد حمى الله النفوس وأكد تحريمها وحرمتها في كتابه وسنة رسوله ليستقيم المجتمع ويحل فيه الآمن قرن الله الاعتداء على النفس بالاعتداء على الدين فقرن القتل بالشرك قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» وذكر تمام الحديث وقال «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» . وقال «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» (رواه البخاري) وقال «لزوال الدنيا يعني كلها أهون عند الله من قتل رجل مسلم» ومن أجل ذلك جعل الله في القتل المتعمد عقوبات غليظة وقصاصا ثابتا فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] جزاء مروع نار وغضب ولعنة وعذاب عظيم. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» ومن أجل حماية النفس شرع الله القصاص فقاله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]

هذا في هذه الأمة وقال في بني إسرائيل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وخفف هذه الفريضة بأن جعل لأولياء المقتول الخيرة بين القصاص والدية والعفو إذا كان خيرا فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدي أو يقاد» . وأبطل الله ما يتوهمه ذو الوهم الفاسد من أن القصاص زيادة في القتل فقال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ولقد حمى الله الأموال بما أحاطها من العقوبات في الاعتداء عليها فقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] وأوجب الله قطع يد السارق حماية للأموال فقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] إن قطع يد السارق هو الحكمة البالغة والمصلحة الظاهرة فيد السارق تقطع بربع دينار ولو اعتدى شخص على يد إنسان فقطعها كانت ديتها خمسمائة دينار رعاية لحماية المال ولحماية النفس. أما حماية الأعراض فقد أتقنها الإسلام من كل ناحية سواء من الناحية الخلقية أو الاجتماعية فمن الناحية الخلقية أوجب الله الحد على من هتك الأعراض بالزنا وذلك برجمه بالحجارة حتى يموت إذا كان محصنا وهو المتزوج سواء كان رجلا أم امرأة. وأما غير المحصن فيجلده مائة جلدة وينفى عن البلد سنة كاملة رجلا كان أم امرأة. وأما اللواط وهو إتيان الذكر الذكر ففيه القتل بكل حال إذا كان بالغا والتعزير البليغ لغير البالغ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وأوجب الله الحد على من قذف محصنا بالزنا فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فمن قال لشخص عفيف يا زاني فعليه ثمانون جلدة إلا أن يأتي بأربعة شهداء أو يقر المقذوف بذلك. وأما حماية الأعراض من الناحية الاجتماعية فقد حرم الله بين المسلمين السخرية واللمز

والتنابز بالألقاب السيئة والغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته. ذكر الله ذلك في سورة الحجرات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] إلى آخر الآية التي بعدها. فاحمدوا عباد الله ربكم على ما أنعم به من حماية دينكم وأنفسكم وأموالكم وأعراضكم وأسألوه الثبات على الدين وجاهدوا أنفسكم على ذلك واعبدوه وتوكلوا عليه واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثالثة في وجوب شكر نعمة الإسلام بالعمل به

[الخطبة الثالثة في وجوب شكر نعمة الإسلام بالعمل به] الخطبة الثالثة في وجوب شكر نعمة الإسلام بالعمل به الحمد لله الغني الجواد الكريم الرؤوف بالعباد من علينا بنعم لا يحصى لها تعداد ويسر لنا من فضله وجوده حتى عم الرخاء الحاضر والباد ورزقنا أمنا واستقرارا حتى أصبح الواحد يسيرا آمنا لا يخاف إلا الله في جميع البلاد. أحمد وأشكره وكلما شكر زاد وأشهد أن لا إله إلا هو واسع الجود فما لما عنده نفاد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الشاكرين على النعم وأعظمهم صبرا على ما لا يراد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم التناد وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واشكروه فلقد تأذن ربكم لئن شكرتم لآزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد. أيها الناس: أما ترون نعم الله تترى عليكم في كل وقت وحين وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. أما ترون إلى نعمته عليكم بدين الإسلام حيث أنشأكم في بيئة مسلمة تقرأ كتاب الله تعالى وتسمع من سنة رسوله أنشأكم في بيئة تقام بها الصلوات ويدعى إليها بالآذان بأعلى الأصوات أنشأكم في بلاد لا ترى ولله الحمد فيها كنيسة ولا صومعة وإنما هي مسجد ومدرسة حتى صار الإسلام كأنما هو طبيعة من الطبائع وغريزة من الغرائز لا يشق عليكم نيله وإدراكه وهذه والله أكبر النعم فاشكروها أيها المسلمون حق شكرها اشكروها بالتمسك بها وارعوها حق رعايتها فلئن لم تفعلوا لتسلبن عنكم هذه النعمة ويحل بدلها شعار الكفر والبدع والضلال لئن لم تشكروها بالتمسك بها لتفتحن في بلادكم مدارس النصارى وكنائس الرهبان إن العاقل ليقيس ويفهم فكما أن نعمة الأمن إذا لم تشكر أبدلت بالخوف ونعمة الرزق إذا لم تشكر أبدلت بالجوع كذلك نعمة الدين إذا لم تشكر أبدلت بالكفر: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] إن الإسلام أعز ممن ينتمي إليه فإذا لم يجد أناسا يعرفون قدر نعمة الله عليهم به ويعضون عليه بالنواجذ ويرونه غنيمة ادخرها الله لهم فسوف يرتحل عنهم إلى غيرهم وسيجعل الله على هذه الأرض طائفة على الحق حتى يأذن الله بخراب العالم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» . أيها الناس أما ترون إلى ما أنعم الله به عليكم من نعمة الأمن والاستقرار يسافر الرجل

وحده من أقصى المملكة إلى أقصاها آمنا غير خائفا مستقرا غير قلق معه الأموال الكثيرة لا يخاف عليها ولا على نفسه من أجلها. أما ترون إلى ما أنعم الله به عليكم من الأرزاق من قوت وفاكهة وملابس متنوعة ووسائل راحة من جميع الوجوه. أما ترون إلى ما أنعم الله به عليكم هذا العام من الأمطار المباركة التي أحيا الله بها الأرض بعد موتها وأنبتت من كل زوج بهيج. فاشكروا الله أيها المسلمون على هذه النعم اشكروه حق شكره شكرا حقيقيا فإن الشكر اعتراف العبد بقلبه بنعمة الله وأن يؤمن إيمانا صادقا بأن هذه النعم محض فضل من الله تعالى ليس له على الله منة فيها وإنما المنة لله تعالى فيها عليه. لا يقل كما قال قارون إنما أوتيته على علم مني. ولا يقل كما يقول الكافر فيما حكى الله عنه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] أي أنني كفء له ومستحقه أنكر أن يكون من فضل الله عليه. وإن الشكر أيها المسلمون ثناء على الله بنعمته عليك وحمد له وتحدث بها على سبيل الثناء على الله لا على سبيل الافتخار بها على عباد الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وإن الشكر عمل بطاعة الله فعل لأوامره واجتناب لما نهى عنه. فمتى قام العبد بهذه الأركان الثلاثة فقد شكر الله شكرا حقيقا. أما إذا كان يعتقد أن ما أصابه من نعم الله فهو مستحق له ولا منة لله عليه فيه فهذا كافر بنعمة الله معجب بعمله مغرور بنفسه فمن هو حتى لا يكون لله عليه منه. وإذا كان لا يثني على الله بنعمته فكلما سئل عن حاله صار يشتكي ويتألم ويجحد ما أنعم الله به عليه ورأى أنه قد ظلم حيث لم يحصل له مثل فلان وفلان فهذا أيضا كافر بنعمة الله عليه محتقر لها وما يدريه لعله لو حصل له ما حصل لفلان لكان سببا لأشره وبطره وإعراضه عن الله. وإذا كان لا يستعين بنعم الله على طاعته بل كانت نعم الله عليه سببا لأشره وبطره وإهماله لواجبات دينه ووقوعه في المعاصي فإنه قد بدل نعمة الله عليه كفرا ويوشك أن يسلبه الله هذه النعمة أو يغدقها عليه استدراجا من حيث لا يعلم فلا يزال على ذلك حتى يخرج من نعيمه في الدنيا إلى عذابه في الآخرة. أيها المسلمون: إن من وفق للشكر فقد حصل له نعيم الدنيا والآخرة يعيش حميدا قائما بأمر الله ويموت سعيدا خالدا في ثواب الله ومن كفر أوشك أن يحل عليه عذاب الله

: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم أصلح ولاة أمورنا وأصلح رعيتنا ووفقنا لما تحب وترضى إنك جواد كريم اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الخطبة الرابعة في تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك

[الخطبة الرابعة في تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك] الخطبة الرابعة في تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما من به عليكم أن بعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة. رسولا أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان ومن ظلمات الجور والاساءة إلى نور العدل والإحسان ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وإنشراح الصدر: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ - اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 1 - 2] لقد بعث الله نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- والناس يتخبطون في الجهالات ففتح لهم أبواب العلم: أبواب العلم في معرفة الله تعالى وما يستحقه من الاسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدأ والمنتهى والحساب والجزاء قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12 - 16] وفتح الله لعباده بما بعث به نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- أبواب العلم في عبادة الله تعالى والسير إليه وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجه حلال فما من شيء يحتاج الناس لمعرفته من أمور الدين والدنيا إلا بين لهم ما يحتاجون إليه فيه حتى صاروا على طريقة بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب. لقد

بعث الله تعالى محمدا -صلى الله عليه وسلم- والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه فمنهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد المسيح بن مريم ومنهم من يعبد الأشجار ومنهم من يعبد الأحجار حتى كان الواحد منهم إذا سافر ونزل أرضا أخذ منها أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها تحت القدر وينصب الرابع إلها يعبده فأنقذهم الله برسوله من هذه الهوة الساحقة والسفه البالغ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فحقق التوحيد لرب العالمين تحقيقا بالغا وذلك بأن تكون العبادة لله وحده يتحقق فيها الإخلاص لله بالقصد والمحبة والتعظيم فيكون العبد مخلصا لله في قصده مخلصا لله في محبته مخلصا لله تعالى في ظاهره وباطنه لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله تعالى والوصول إلى دار كرامته: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163] {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج: 34] هكذا جاء كتاب الله تعالى وتلته سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه حتى إن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله وشئت فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده» فأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجل واتخاذ الند لله تعالى إشراك به وحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحلف الرجل بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال -صلى الله عليه وسلم- «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف والنبي أو وحياة النبي أو وحياتك أو وحياة فلان بل يحلف بالله وحده أو يصمت عند الحلف ولما «سئل -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له فقال لا» فمنع -صلى الله عليه وسلم- من الانحناء عند التسليم لأن ذلك خضوع لا ينبغي إلا لله رب العالمين فهو سبحانه وحده الذي يركع له ويسجد وكان السجود عند التحية جائزا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- منعت منه وحرمته إلا لله تعالى وحده. وفي الحديث «أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم (زعمائهم) وذلك قبل أن يسلموا فلما رجع معاذ سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-

ما هذا يا معاذ فقال رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله يعني أحق من أساقفتهم بالسجود فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» . وروى النسائي بسند جيد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- «أن ناسا جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» ، ولقد بلغ من سد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذرائع الشرك ووسائله أن لا يترك في بيته صورة شيء يعبد من دون الله تعالى أو يعظم تعظيم عبادة. ففي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه والتصاليب هي الصلبان التي يتخذها النصارى شعارا لدينهم أو يعبدونها والصليب كل ما كان على شكل خطين متقاطعين هكذا عرفه صاحب المنجد ومعناه أن يكون على شكل خط مستقيم أو فوق وسطه، يزعم النصارى أن المسيح بن مريم -عليه الصلاة والسلام- صلب عليه بعد أن قتل وقد قال الله تعالى في القرآن مكذبا من زعموا أنهم قتلوه: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] وقال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا - بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 158] فكان النصارى يقدسون الصليب يضعونه فوق محاربهم ويتقلدونه في أعناقهم فكان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- إزالة كل ما فيه تصاليب حماية لجانب التوحيد وإبعادا عن مشابهة غير المسلمين ولقد كانت بلادنا هذه والحمد لله من أعظم البلاد الإسلامية محافظة على توحيد الله تعالى ومتابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما من الله عليها من علماء مبينين وولاة منفذين وصارت عند أعداء الإسلام قلعة الإسلام فغزوها من كل جانب بكل شكل من أشكال الغزو حتى كثرت الفتن فيها وصارت صور الصلبان على بعض الألعاب للأطفال بل وعلى الفرض لتكون نصب أعين المسلمين صبيانهم وكبارهم فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بنا يار رب العالمين إنك جواد كريم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الخامسة في شيء من آيات الله تعالى الدالة على قدرته

[الخطبة الخامسة في شيء من آيات الله تعالى الدالة على قدرته] الخطبة الخامسة في شيء من آيات الله تعالى الدالة على قدرته الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفكروا في خلق السماوات والأرض وما أودع الله فيهما من الآيات الدالة على كمال علمه وقدرته وتمام حكمته ورحمته فكم في السماوات والأرض من آيات ظاهرة على أن الله على كل شيء قدير وأنه قد أحاط بكل شيء علما لقد خلق السماوات والأرض وما بينهما بما في ذلك من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والأنهار والبحار خلق ذلك كله في ستة أيام على أكمل وجه وأتم نظام ولو شاء لخلقه في لحظة واحدة لكنه سبحانه اقتضت حكمته أن يكون في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] ولقد أرانا الله تعالى من عجائب آياته ما يكون آية للموقنين وعبرة للمعتبرين لقد أخبر الله عن عيسى بن مريم أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله فيأتي إلى الرجل الميت ويأمره فيحيا ويتكلم ويخرج الموتى من قبورهم بإذن الله. وقص الله علينا في سورة البقرة خمس حوادث كلها في إحياء الموتى فقال تعالى في قصة بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 55 - 56] وفي قصة القتيل الذي قتله ابن عم له واتهم به قبيلة أخرى فأمرهم موسى أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها فيحيا ويخبرهم بقاتله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73] وفي قصة الذين نزل بديارهم وباء فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر من الموت وفرارا من قدر الله تعالى أنه لا مفر من الله ومن قضائه فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ليستيقنوا أنه لن يعجز الله أحد في السماوات ولا في الأرض. وفي قصة الرجل الذي مر على القرية وهي خاوية على عروشها

مهدم بناؤها يابسة أشجارها هامدة أرضها فقال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه وكان معه حمار وطعام وشراب فأما الحمار فمات وانجلى لحمه وجلده وبرزت عظامه تلوح وأما الطعام والشراب فلم يتغير مع بقائه هذه المدة الطويلة في الشمس والهواء فقال الله لهذا الرجل: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] أي لم يتغير: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة: 259] فنظر إلى عظام حماره ينشزها الله يركب بعضها فوق بعض كل عظم في محله ونظر كيف يرتبط بعضها ببعض ونظر إلى اللحم يكسو هذه العظام فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير، وفي قصة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين سأل الله تعالى أن يريه كيفية إحياء الله الموتى قال له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] أي ضمهن وقطعهن أجزاء: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة: 260] ليتباعد ما بينهن ففعل ذلك ثم دعاهن فالتأمت أجزاء هذه الطيور كل جزء من طير على جزئه وكل ريشة في مكانها حتى تكاملت الطيور بلحظة وجاءت إلى إبراهيم تسعى وكانت رؤوسهن معه فاتصل كل جسم برأسه الذي خلقه الله له قبل ذبحه لقد أرى الله ذلك عباده في الدنيا وأخبر أن بعث العالم كله بعد موته هين على الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]- {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]- {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52]- {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]- {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]- {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ - فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14] هذا الخلق كله من أوله إلى آخره صغاره وكباره ذكوره وإناثه إذا أراد الله بعثهم دعاهم دعوة واحدة فخرجوا جميعا لا يتخلف أحد منهم يقول المجرمون منهم يا ويلتنا من بعثنا من مرقدنا فيقال هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلين. ومن آيات الله ما ذكره البخاري في صحيحه أن رجلا نصرانيا أسلم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ارتد نصرانيا فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنه أصحابه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فحفروا له وأعمقوا فلفظته الأرض مرة ثانية ثم حفروا له وأعمقوا ما استطاعوا فلفظته الأرض مرة ثالثة فعلموا أنه ليس ذلك من الناس فتركوه منبوذا على ظهر الأرض فآيات الله كثيرة وقدرته عظيمة فاعتبروا أيها

المؤمنون واتقوا من هذه قدرته وهذه آياته لعلكم تفلحون: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة السادسة في شيء من آيات الله الدالة على قدرته أيضا

[الخطبة السادسة في شيء من آيات الله الدالة على قدرته أيضا] الخطبة السادسة في شيء من آيات الله الدالة على قدرته أيضا الحمد لله الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزل من السماء ماء طهورا ليحيي به بلدة ميتا ويسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكان الله على كل شيء قديرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فكان مثل ما بعثه الله به كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فالأول رجل فقه في دين الله ونفعه وحي الله فعلم وعلم، الثاني رجل حمل الوحي إلى غيره فنفعه، والثالث رجل لم يرفع بوحي الله رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسل به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واعبدوه الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 57 - 58] أيها الناس: إن كل شيء في هذا الكون فيه لله آية تدل على وحدانيته وكمال ربوبيته وكمال قدرته وعظمته وكمال حكمته ورحمته تدل على أنه على كل شيء قدير يخلق ما يشاء ويختار وما كان ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا. إن هذه الرياح اللطيفة يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه الكثيرة التي تجري بها الأرض أنهارا وتركد بحارا ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه إلى بعض سريعا بإذن الله وإذا شاء الله أن يفرقه فرقه سريعا فأصبحت السماء صحوا كأن لم يكن سحاب، قال أنس -رضي الله عنه- «أصابت الناس سنة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فبينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم جمعة قام إعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال وانقطعت

السبل فادع الله يغيثنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة قطعة غيم فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته -صلى الله عليه وسلم- فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الإعرابي أو قال غيره، فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فدفع يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر فما يشير بيده إلى ناحية السماء إلا انفجرت فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا على المدينة وسال الوادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود» أيها المسلمون: إن في هذا الحديث الصحيح وفيما نشاهده نحن من هذه القدرة العظيمة لأكبر دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون بمرة واحدة: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] إنه لآية على أن السحاب مسخر بأمر الله لا يتجاوز ما أمره به خالقه ومنشئه ولقد حدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق عن رجل في فلاة من الأرض سمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فأفرغ السحاب ماءه في حرة وسال منها إلى حديقة الرجل فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فلم تسألني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هو ماؤه يقول اسق حديقة فلان باسمك فماذا تصنع في حديقتك قال أما إذا قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثا يعني لعمارتها وحرثها. أيها المسلمون: إن هذا الغيث الذي أنزله الله علينا لمن فضل الله ورحمته فعلينا أن نقوم بشكره وأن نستعين به على طاعته فإن من قام بشكر الله زاده الله ومن كفر بنعمة الله حرمه الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] فاشكروا الله بالثناء عليه بألسنتكم والتحدث بنعمته واشكروا الله بالقيام بطاعته امتثالا للأمر وإجتنابا للنهي واشكروا الله بالانابة إليه بقلوبكم واعتقاد أن هذه النعم فضل منه ورحمة وإحسان. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعل ما رزقتنا عونا لنا على طاعتك واغفر لنا ولجميع المسلمين.

الخطبة السابعة في شيء من آيات الله تعالى أيضا

[الخطبة السابعة في شيء من آيات الله تعالى أيضا] الخطبة السابعة في شيء من آيات الله تعالى أيضا الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير الداعي إلى الله بإذنه على بصيرة السراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتفكروا في آياته الدالة على كمال قدرته لتزدادو بذلك تعظيما لله تعالى وعبادة. فلقد خلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما بما في ذلك الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والأنهار خلق ذلك كله في ستة أيام على أكمل وجه وأتم نظام ولو شاء لخلقها في لحظة واحدة كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] بولكنه تعالى خلقها في ستة أيام لحكمة اقتضت ذلك وربك يخلق ما يشاء ويختار. ولقد خلق الله تعالى الإنسان من سلالة من طين خلق منها آدم ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ثم يستقر في قرار مكين لا يعتريه شمس ولا هواء ولا حر ولا برد يطوره الله تعالى في ظلمات ثلاث ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة الغشاء أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك فإذا تمت هذه الأيام وهي أربعة أشهر أرسل الله تعالى إليه الملك الموكل بالأجنة فنفخ فيه الروح فأصبح إنسانا بعد أن كان جمادا فتبارك الله أحسن الخالقين. ولقد أرى الله تعالى عباده من آيات قدرته ما يكون آية للموقنين وعبرة للمعتبرين. لقد خلق الله تعالى عيسى بن مريم من أم بلا أب وأقدره على النطق في المهد فتكلم بكلام من أفصح كلام البشر وأبينه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا - وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا - وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 30 - 33] فما أبلغ هذا الكلام وأفصحه وأهمه موضوعا من صبي في المهد. ولقد أخبر الله تعالى عنه أنه يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله تعالى فينفخ فيه فيكون طيرا يطير بإذن الله تعالى وأخبر أنه يبرئ

الأكمه وهو الذي يولد مطموس العين والأبرص بإذن الله تعالى وأخبر أنه يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم بإذن الله تعالى. ولقد قص الله تعالى علينا في سورة البقرة خمس حوادث كلها تتضمن إحياء الموتى في هذه الدنيا. فأولها قصة بني إسرائيل حين قالوا لنبيهم موسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فعاقبهم الله تعالى فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم بعثهم الله تعالى من بعد موتهم وفي هذا يقول الله تعالى يخاطب بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55 - 56] والقصة الثانية في شأن القتيل من بني إسرائيل أيضا قتله ابن عم له فاتهموا به قبيلة أخرى وخاصموهم فيه فأمرهم موسى بوحي من الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل بجزء منها ففعلوا بعد التعنت والمراجعات وما كادوا يفعلون فضربوه ببعضها فأحياه الله تعالى وأخبر عن قاتله وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ - فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72 - 73] والقصة الثالثة في قوم نزل في ديارهم وباء فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذار من الموت فأراهم الله تعالى أنه لا مفر من قدره فأماتهم ليعلم العباد قوة سلطانه ونفوذ قدرته ثم أحياهم ليستكملوا آجالهم وفي ذلك يقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] والقصة الرابعة في رجل مر على قرية وهي خاوية على عروشها قد تهدم بناؤها ويبست أشجارها فاستبعد أن تعود على ما كانت عليه من العمران والسكان فأراه الله تعالى آية في نفسه تدل على قدرة الله تعالى فأماته الله مائة سنة وكان معه حمار وطعام وشراب فمات الحمار وتمزقت أوصاله ولاحت عظامه وبقي الطعام والشراب لم يتغير واحد منهما بنقص ولا طعم ولا لون ولا رائحة مدة سنة والشمس تصهره والرياح تتعاقب عليه لا إله إلا الله وحده

لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فبعث الله تعالى ذلك الرجل وأراه طعامه وشرابه لم يتغير مع طول هذه المدة وأراه الحمار فنظر إلى عظامه المتفرقة في الأرض يركب بعضها بعضا كل عظم في محله ويكسوها الله تعالى لحما وفي هذا يقول الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] والقصة الخامسة في إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء فيفرقها على الجبال التي حوله على كل جبل جزءا من هذه الطيور ثم يناديهن وحينئذ تلتئم هذه الأجزاء المفرقة في الجبال بعضها إلى بعض ويأتين إلى إبراهيم مشيا لا طيرانا وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] هذه النماذج من إحياء الله تعالى الموتى في الدنيا آيات على البعث يوم القيامة وما أهون ذلك على الله عز وجل قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]- {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]- {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات: 19]- {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]- {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77] فسبحانه من إله عليم قادر زجرة واحدة يخرج بها الناس أحياء من قبورهم ذكورا وإناثا كبارا وصغارا لا يتخلف منهم أحد في مثل لمح البصر أو هو أقرب وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا. اللهم ارزقنا التفكر في آياتك وارزقنا الاتعاظ بذلك وارزقنا الانتفاع بما أنزلت من وحيك وما قدرته من قضائك واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثامنة في خلق السماوات والأرض

[الخطبة الثامنة في خلق السماوات والأرض] الخطبة الثامنة في خلق السماوات والأرض الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عماد ووضع الأرض وهيأها للعباد وجعلها مقرهم أحياء وأمواتا فمنها خلقهم وفيها يعيدهم ومنها يخرجهم تارة أخرى يوم المعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل العباد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه وصدقوا بما أخبركم به واعتقدوه وارفضوا ما خالف كتابه وسنة نبيه من أقوال الناس وردوه لأن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل زور وبهتان وما وافق الكتاب والسنة فهو حق ثابت لقيام الحجة والبرهان واعلموا أن الله سبحانه لم يشهد أحدا خلق السماوات والأرض فلا علم عند أحد في ذلك إلا ما جاء عن طريق الوحي: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] فكل من تكلم عن خلق السماوات والأرض من أي مادة هو وكيف وقع ومتى وقع كل من تكلم بذلك من غير طريق الوحي فإنما يتكلم عن أمر نظري وقياس ظني قد يصيب وقد يخطئ وقد يرفض وقد يغير إذ ليس أحد من البشر شاهد كيف خلق السماوات والأرض هذه هي الحقيقة الثابتة وعلى هذا فالاعتماد في ذلك على ما جاء في كتاب الله أوضح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أيها المسلمون: لقد خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام فجعل السماوات سبعا والأرضين سبعا جعل الله السماوات سبعا طباقا بعضها فوق بعض: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] وبناها بناء محكما قويا شديدا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]- {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] (يعني بقوة) {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] أي قوية محكمة، جعل الله بين كل واحدة والأخرى مسافة فكان جبريل يعرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من سماء إلى سماء حتى بلغ السابعة. رفعها الله رفعا عظيما: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7]- {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا - رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28] رفعها سبحانه بغير عمد وأمسكها بقوته: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]- {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] جعلها الله سقفا للأرض

محفوظا من الشياطين: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]- {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ - وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ - إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 - 18] جعل لها أبوابا لا تفتح إلا بإذنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] وفي يوم القيامة يطوي الله هذه السماوات بيمينه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] أيها المسلمون: إن هذه الآيات الكريمة العظيمة لتدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك ولا الجدال في أن السماوات السبع أجرام محسوسة رفيعة قوية محكمة محفوظة لا يستطيع أحد دخولها ولا اختراقها إلا بإذن الله عز وجل ألم تعلموا أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- أشرف البشر وجبريل أشرف الملائكة ما دخلا السماوات حين عروجها إلا بإذن والاستفتاح فكيف بغيرهما من المخلوقين. أيها الناس: أفبعد هذا يمكن لمؤمن أن يقول إن السماوات هي المجرات أو هي الغلاف الجوي للأرض أو يقول إن ما نشاهده فضاء لا نهاية له إن من يقول ذلك فهو إما جاهل بوحي الله وإما مكذب به مستكبر عنه مشاق لله ورسوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13]- {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] إن إنكار السماوات أو التكذيب بها أو بأنها ذات بناء وإحكام تكذيب لله وكفر به سواء قالها قائل أو صدق من يقولها. أما الأرض فإنها سبع أرضين في ظاهر كلام الله تعالى وصريح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وهذه المثلية تقتضي المساواة في كل ما تمكن فيه الأرض مثل السماوات في العدد. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن والأرضين السبع وما أقللن» (رواه النسائي) والأرض مثل السماوات في التطابق فإذا كانت السماوات سبعا طباقا فكذلك الأرض مثلهن يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (رواه

البخاري) . وقال أيضا «من اقتطع شبرا من الأرض بغير حقه طوقه إلى سبع أرضين» (تفرد به أحمد وهو على شرط مسلم) . والغاية تدل على أن كل أرض تحت الأرض وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. لقد خلق الله هذه السماوات وهذه الأرضين وقدر فيهن ما قدر من عجائب مخلوقاته وأسرار مبدعاته وفصل لنا ما فصل منها في سورة فصلت حيث قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 - 12] وحجب عن عباده كثيرا من ذلك فلا يحل لأحد أن يثبت شيئا من أسرار الكون إلا بدليل منقول أو محسوس أما مجرد النظريات التي قد تتغير وتتبدل فلا يمكن الاعتماد عليها وأشد من ذلك وأدهى أن يحرف من أجلها كتاب الله وسنة رسوله فينزل على الآراء والنظريات القابلة للنقض والإفساد ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وفقني الله وإياكم لفهم كتابه والعمل به وجنبنا الزيغ والزلل في القول والعمل أقول قولي هذا. . الخ.

الخطبة التاسعة فيما سخره الله لبني آدم وأكرمهم به

[الخطبة التاسعة فيما سخره الله لبني آدم وأكرمهم به] الخطبة التاسعة فيما سخره الله لبني آدم وأكرمهم به الحمد لله الذي أكرم بني آدم وفضلهم على العالمين وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ليكونوا من الشاكرين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الكرم والفضل المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على العالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واشكروا نعمته عليكم إن كنتم إياه تعبدون واعرفوا ما كرمكم به على العالمين وما خولكم به من الفضل في الأولين والآخرين فلقد خلق الله أباكم آدم بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه أسماء كل شيء وأسجد له ملائكته وخلق له من نفسه زوجا ليسكن إليها وينشر الأولاد من بينهما ثم اذكروا نعمة الله عليكم حيث خلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث لا يعلمكم إلا الله ولا يستطيع أحد أن يوصل إليكم طعاما ولا شرابا ولا نفعا ولا ضرا جعل غذاءكم في بطون أمهاتكم من الدم الذي يتصل بالبدن من طريق السرة وينتشر في العروق ثم هيأ لكم بعد الخروج من بطون أمهاتكم ثديين تنهلون منها لبنا خالصا سائغا مناسبا في حرارته ومذاقه لطيفا في نفوذه في العروق وغذائه. وتذكروا نعمة الله عليكم حيث أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا رحمة بكم وإحسانا إليكم فإنكم لو كنتم في تلك الحال تعلمون لما تحملت أجسامكم الصغيرة ألم الحياة ونكباتها وفتنها ثم أعطاكم الله الفهم شيئا فشيئا كلما ازددتم في العمر ازددتم في الفهم حتى يتم ذلك ثم اذكروا نعمة الله عليكم حيث خلق لكم ما في الأرض جميعا وأباح لكم من الطيبات ما تنالون به وطركم وأمركم بتناوله والتمتع به فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] ونوع لكم هذه الأرزاق في أشكالها وأحجامها ومذاقها ومنافعها لتكمل لكم اللذة في التفكه بها ثم اذكروا نعمة الله عليكم فيما يسر لكم من الركوب: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] واذكروا نعمة الله عليكم حيث سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه أرسل الرياح مبشرات:

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ - وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34] ولقد بلغ من عناية الله بكم أن سخر لكم ملائكته: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9] ووكل بني آدم كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون لكل واحد ملكان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد إن عمل حسنة كتبوها عشرا وإن عمل سيئة كتبوها واحدة وإن هم بحسنة كتبوها حسنة وسخر الله الملائكة الكرام لمصالح بني آدم فجبريل ينزل بالوحي الذي فيه حياة القلوب وسعادة الأمم وميكائيل موكل بالقطر والنبات الذي هو حياة الأرض ومادة غذاء الأبدان وإسرافيل موكل بالصور ينفخ فيه فيقوم الناس أحياء من الأجداث إلى ربهم ينسلون. ومن الملائكة من وكلهم الله بحفظ بني آدم وهم المذكورون في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] وقال -صلى الله عليه وسلم- «الملائكة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقال «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤا يستمعون الذكر» وكل هذا من عناية الله ببني آدم ومن عنايته بكم أنه إذا مات العبد قبضت الملائكة روحه بأمانة تامة وهم لا يفرطون ثم إذا كان يوم القيامة تلقت الملائكة المؤمنين بالبشارة هذا يومكم الذي كنتم توعدون فإذا أدخلوا الجنة دخلت عليهم الملائكة من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. فيا عباد الله اشكروا نعمة الله عليكم وما سخر لكم في السماوات والأرض وقوموا بعبادته حبا وتعظيما واستعانة فله الفضل والإحسان أولا وآخرا والحمد لله رب العالمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة العاشرة في الإيمان بالقدر

[الخطبة العاشرة في الإيمان بالقدر] الخطبة العاشرة في الإيمان بالقدر الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا: ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان لطيفا خبيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وآمنوا برسوله فالإيمان أن يؤمن العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ومن الإيمان أن تؤمن بقضاء الله وقدره فآمنوا بأن الله بكل شيء عليم علم ما كان في الماضي وما سيكون في المستقبل علم ذلك جملة وتفصيلا لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] آمنوا بكمال علم الله وسعة علمه وآمنوا بكمال حفظه وتمام رعايته وأنه كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ما سيكون إلى يوم القيامة فإن أول ما خلق الله القلم قال له أكتب قال رب وماذا أكتب قال أكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] أيها المسلمون آمنوا بمشيئة الله في عموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا وهو ملك لله عز وجل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته فبيده الملك وبيده مقاليد السماوات والأرض ما من شيء يحدث من رخاء وشدة وخوف وأمن وصحة ومرض وقلة وكثرة إلا بمشيئته سبحانه وتعالى. وآمنوا أيها المسلمون بعموم خلق الله لكل ما في السماوات والأرض: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فإن الله خالق السماوات والأرض ومدبرهما وخالق الإنسان ومدبره فللإنسان عزيمة وإرادة وله قدرة وعمل والذي أودع

فيه تلك العزيمة وخلق فيه تلك القدرة هو الله عز وجل ولو شاء لسلبه الفكر فضاعت إرادته ولو شاء لسلبه القدرة فما استطاع العمل. أيها المسلمون: إن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به لكنه ليس حجة للإنسان على فعل معاصي الله أو التهاون بما أوجب الله وجه ذلك أن الله أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل فلذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية ولا ترك واجب وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه. إن الاحتجاج بالقدر على المعاصي أو ترك الواجبات حجة داحضة باطلة أبطلها الله في كتابه ويبطلها العقل والواقع. أبطلها الله في كتابه فقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ولو كان القدر حجة لم ترتفع بإرسال الرسل لأن القدر ثابت مع إرسال الرسل. وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة صحيحة وعذرا مستقيما لما أذاق الله المحتجين به على شركهم بأسه لأن الله لا يظلم أحدا. إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها العقل وذلك لأن المحتج بالقدر ليس عالما بالقدر فيبني عمله عليه فكيف يحتج بما ليس له تأثير في فعله إذ لا تأثير للشيء في فعل الفاعل حتى يكون عالما بهذا المؤثر. ولو أن أحدا اعتدى على شخص بأخذ ماله أو قتله وقال هذا شيء بقضاء الله وقدره لم يقبل المعتدي عليه ولا الناس عذره فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر من غيره إذا اعتدى عليه ويحتج به لنفسه إذا اعتدى على حق الله. إن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي وترك الواجبات حجة داحضة يبطلها الواقع فإن كل شخص يرغب الوظيفة إذا سمع بمسابقة عليها سعى في ذلك حتى يصل إلى الوظيفة وإن وصوله إلى الوظيفة حاصل بقضاء الله وقدره بلا شك ومع ذلك فقد سعى للوصول إليها بما يستطيع من الأسباب ولم يترك العمل للوصول إليها فلماذا يترك ما أوجب الله عليه وهو قادر على فعله عالم أنه يوصله إلى رضوان الله والجنة ثم يحتج بالقضاء والقدر لماذا لم يسع للوصول

إلى الجنة كما سعى للوصول إلى الوظيفة وإلى المعيشة وإننا في أيام الامتحان لنرى الطلاب الذين يريدون النجاح يسهرون الليل ويتعبون النهار في المراجعة ليصلوا إلى النجاح وما أحد منهم يريد النجاح فيترك المراجعة احتجاجا بالقضاء والقدر فكيف يصح أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه وهو يعلم أنه يوصله إلى رضوان الله والجنة ثم يحتج بالقضاء والقدر. وإننا لنرى الشخص يحجب عن نوع معين من الطعام يضره أكله ونفسه تشتهيه فيتركه خوفا من مضرته ولا يمكن أن يقدم عليه ويحتج بالقضاء والقدر فلماذا يقدم على المعصية وهي تضره ثم يحتج بالقضاء والقدر؟ إن الإنسان العاقل كلما تأمل الواقع وقاس الأمور بعقله ونظر في كتاب الله وسنة رسوله علم علما يقينا أن لا حجة للإنسان بقضاء الله وقدره على ما يفعله باختياره وأن الاحتجاج بذلك على ترك الواجب أو على فعل المحرم حجة داحضة باطلة لا يفعلها إلا الباطلون المكابرون. أما الأمور غير الاختيارية كالموت والمرض وسقوط شيء على الإنسان حتى يقتله أو نحو ذلك فهذا حجة للإنسان ولذلك لا يؤاخذ الله المجنون على ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات ولا يؤاخذ الله العبد على ما فعله من محرم جاهلا به أو ناسيا لأنه ليس مختارا لفعله لو علم بتحريمه. فاتقوا الله أيها المسلمون وآمنوا بقضاء الله وقدره واجعلوه وسيلة لكم إلى الاستعانة بالله وطلب الهداية منه لأن بيده أزمة الأمور ومقاليدها فإن الصحابة -رضي الله عنهم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أفلا ندع العمل ونتكل على القضاء قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] (رواه البخاري) فاتقوا الله عباد الله ولا تجعلوا قدر الله حجة لكم على شريعته ومخالفته فتضلوا ضلالا بعيدا: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الحادية عشرة حقيقة الإيمان وعلاماته

[الخطبة الحادية عشرة حقيقة الإيمان وعلاماته] الخطبة الحادية عشرة حقيقة الإيمان وعلاماته الحمد لله الذي يقضي بالحق ويحكم بالعدل ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم يقدر الأمور بحكمة ويحكم بالشرائع لحكمة وهو الحكيم العليم أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وليقوم الناس بالقسط ويؤتوا كل ذي حق حقه من غير غلو ولا تقصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وانصروا الله ينصركم وأطيعوه يثبتكم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] أيها الناس: إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن الإيمان ما وقر في القلب ورسخ فيه وصدقته الأعمال بفعل الطاعات واجتناب المعاصي. إن كل واحد يستطيع أن يقول إنه مسلم بل يرتقي إلى أعلى ويقول إنه مؤمن كل واحد يستطيع أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. المنافقون وهم في الدرك الأسفل من النار يذكرون الله. المنافقون يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقولون نشهد إنك لرسول الله. المنافقون يحلفون للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنهم لمنهم وما هم منهم ولكن كل هذه الشهادات والأيمان لم تنفعهم فهم في الدرك الأسفل من النار تحت كل مشرك وكل دهري وكل يهودي وكل نصراني لأن هذه الشهادات والأيمان لم تصدر عن يقين وإيمان ولا عن قبول واذعان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] فالإيمان عقيدة راسخة قبل كل شيء تنتج قولا سديدا وعملا صالحا تنتج الحب لله ورسوله والإخلاص في توحيد الله واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- الإيمان جد وعمل ومثابرة ومصابرة وحبس للنفس على ما تكره من طاعة الله ومنع لها عما تحب من معصية الله. إن للإيمان علامات كثيرة ذكرها الله في كتابه وذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنته نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]

ونذكر أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ - أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 124 - 126] فبالله عليكم أيها المسلمون من منا بهذه المثابة، من منا إذا ذكر الله وجل قلبه خوفا من الله وتعظيما له، من منا إذا تليت عليهم آيات ربهم زادتهم إيمانا واستبشروا بها لما يجدون في نفوسهم من حلاوة التصديق بها والامتثال لأحكامها، من منا قام بتحقيق التوكل على الله والاعتماد عليه وعدم التعلق بالمخلوقين، من منا أقام الصلاة على الوجه المطلوب بالمحافظة عليها واتقان حدودها، من منا قام بالانفاق مما رزقه الله من بذل زكاة وسد حاجة الأهل والأقارب والمعوزين؟ لنفكر أيها الناس في حال المسلمين إننا إذا فكرنا في حال المسلمين اليوم لا في هذه الجزيرة فحسب ولكن في جميع البلاد الإسلامية نجد مسلمين بلا إسلام ومؤمنين بلا إيمان إلا أن يشاء الله نجد ذلك من القمة إلى من لا يجد اللقمة الكل مقصر والكل غير قائم بما يجب عليه من حقوق لله تعالى أو لعباد الله. إننا نجد في الأمة الإسلامية تقصيرا في الإيمان واليقين ونجد تقصيرا في الأخلاق الفاضلة وحمايتها ونجد تقصيرا في الأعمال. إننا نجد تقصيرا في الإيمان واليقين لأننا نجد بعص الناس ولا سيما بعض من عاش فترة في بلاد الكفر ونهل من صديد أفكارهم الملوثة وثقافتهم المزيفة نجد في هؤلاء من في قلوبهم شك وريب فيما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب تجدهم في شك من وجود الملائكة وفي شك من وجود الجن وفي شك من صحة رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا بل بعضهم في شك من وجود الله تعالى وجود خالقه سبحان الله!! يشك في وجود خالقه ولا يشك في وجود نفسه إن كل من شك في وجود الله يجب أن يشك في وجود نفسه أولا لأنه لم يخلقه أحد سوى الله عز وجل. نجد من المسلمين اليوم من إذا ذكر الله عنده لم يتحرك قلبه أبدا ولا كأن شيئا ذكر عنده فضلا عن أن يوجل قلبه. نجد من المسلمين اليوم من إذا تليت عليهم آيات الله لم يزدادوا إيمانا

بل يزدادون رجسا إلى رجسهم فيسخرون بها ويستكبرون عن أحكامها. نجد من المسلمين اليوم من لا يتوكلون على الله تعالى وإنما يعتمدون على الأسباب المادية المحضة اعتمادا كليا ولهذا تجدهم لا يسيرون في طلب رزقهم على شريعة الله ظنا منهم أن الأخذ بالطرق الشرعية يضيق موارد الرزق فلذلك تجدهم يسعون لتحصيل الرزق بكل وسيلة حلالا كانت أم حراما. وتجد من المسلمين اليوم من اعتمد على أعداء الله في أمنه وسلامه حتى آل الأمر بهم إلى أن أطاعوهم في بعض الأمور المخالفة لشريعة الله تعالى والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25 - 28] نجد هؤلاء الذين أطاعوا هؤلاء الأعداء في بعض الأمور المخالفة للشريعة إنما سلكوا هذا المسلك المنحرف لضعف توكلهم على الله وقوة اعتمادهم على غيره. انبهروا من قوة هؤلاء الأعداء المادية فظنوا أن كل شيء بأيديهم ونسوا أن الذي خلق هؤلاء هو أشد منهم قوة وأن قوة هؤلاء المبهورين لو أرادها وجدوها في التوكل على الله تعالى والأخذ بأسباب نصره من تطبيق دينه والتزام شريعته في أنفسهم وفيمن ولاهم عليه لأنهم إذا فعلوا ذلك كان الله معهم ومن كان الله معه فلن يغلب: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] نجد من المسلمين اليوم من لا يقيمون الصلاة ولا يحافظون عليها فلا يصلون مع الجماعة ولا يأتون بشروطها وأركانها وواجباتها فلا يبالون بالطهارة أتقنوها أم فرطوا فيها ولا يصلون في الوقت ولا يطمئنون في القيام والقعود والركوع والسجود لا بل من الناس الذين قالوا إنهم مسلمون من لا يصلي بل من يسخر ويستهزيء بمن يصلي. نجد من المسلمين من هو جماع مناع لا ينفق مما رزقه الله فلا زكاة ولا صدقة ولا إنفاق كاملا على من يجب عليه الإنفاق عليه ومع ذلك تجده يبذل الكثير من ماله فيما لا ينفعه بل فيما حرم الله عليه أحيانا. إن المسلمين اليوم في حال يرثى لها والشكوى إلى الله تضييع لفرائض الله وتعد لحدود الله وتهاون في شريعة الله ونسيان لذكره وأمن من مكره واعتناء بما خلق لهم وغفلة عما خلقوا

له ولهذا سلط عليهم أعداؤهم فاستذلوهم واستهانوا بهم وتلاعبوا بهم سياسيا واقتصاديا حتى صاروا كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون فإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا وفي انتظار فريضة من فرائضك التي مننت بفرضها علينا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تحبب إلينا الإيمان وتزينه في قلوبنا وترسخه فيها وأن تكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وتباعدها عنا وأن تهئ للأمة الإسلامية من أمرها رشدا ولاة صالحين يقضون بالحق وبه يعدلون لا يخافون في الله لومة لائم لا يحابون قريبا لقربه ولا قويا لقوته وأن تحفظ علينا ديننا وتثبتنا عليه إلى الممات إنك جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الثانية عشرة في الحذر من أعداء المسلمين

[الخطبة الثانية عشرة في الحذر من أعداء المسلمين] الخطبة الثانية عشرة في الحذر من أعداء المسلمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الإسلام التي لا يعدلها نعمة تلك النعمة التي ضل عنها كثيرا من الناس وهداكم الله تعالى بمنه إليها تلك النعمة التي عشتم عليها وعاش عليها آباؤكم فلم يجر ولله الحمد على بلادكم استعمار مستعمر جاس خلال الديار بجنوده وعتاده فخرب الديار وأفسد الأديان والأفكار اشكروا الله تعالى على هذه النعمة وحافظوا على بقائها واستمرارها واسألوا الله الثبات عليها وإياكم إياكم أن تتعرضوا لما يزيلها ويسلبها منكم فتخسروا دنياكم وآخرتكم. عباد الله إن الإسلام منذ بزغ نجمه وأعداؤه يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون من قوة: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] فلقد حاول أعداء الإسلام أن يقضوا عليه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم في عهد خلفائه الراشدين ثم في العصور التالية إلى وقتنا هذا حاولوا القضاء على الإسلام وبني الإسلام بالعنف والصراع المسلح تارة وبالمكر والخداع والخطط الهدامة تارة أخرى ولسنا مجازفين عندما نقول ذلك فبين أيديكم التاريخ يشهد بما نقول وبين أيديكم شهادة أعظم وأصدق وهي شهادة الله تعالى في كتابه وكفى بالله شهيدا وليست هذه المحاولة من أعداء المسلمين من صنف واحد منهم ولكن من سائر أصناف الأعداء من المشركين واليهود والنصارى وسائر الكفار والمنافقين، اسمعوا ما قال الله تعالى في المشركين وهم يفتنون الناس عن دينهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]

وقال في اليهود والنصارى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] وقال فيهم أيضا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] وقال في سائر الكفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149 - 150] وقال في المنافقين: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا - وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 88 - 89] فهذه أيها المسلمون شهادة الله تعالى على أعدائكم بما يريدون منكم وما يحاولونه من صدكم عن دينكم وأي شهادة أعظم من شهادة الله وأي شهادة أصدق من شهادته فهو العليم بنيات عباده وأحوالهم وإن التاريخ في ماضيه البعيد لن يخفي ما شهد الله تعالى به عليهم كما نطق به في وقته الحاضر على ألسنة قادة الكفر السياسيين والمفكرين قال أحد رؤساء الوزارة البريطانية سابقا: لن تستطيع أوروبة السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين. وقال الحاكم الفرنسي في الجزائر قبل استقلالها. لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون بالعربية فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم ونقتلع العربية من ألسنتهم. هكذا يغري قادة الكفر بإزالة القرآن من الوجود وهم لا يعنون إزالة نسخ القرآن من أيدي المسلمين إنما يريدون أن يزيلوا من المسلمين روح القرآن والعمل به حتى لا يبقى بين المسلمين من القرآن إلا رسمه ولا من الإسلام إلا اسمه. وقال رئيس جمعيات المنصرين في مؤتمر القدس المنعقد قبل أكثر من أربعين عاما يخاطب جماعة التنصير إن مهمتكم ليس في إدخال المسلمين في النصرانية إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها. هذا أيها المسلم كلام قادة الكفر في الغرب فماذا عن كلام قادة الكفر في الشرق؟ لقد كتبت إحدى الصحف الشيوعية في روسيا تقول: من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائيا. فكفار الشرق والغرب كلهم أعداء للإسلام كلهم

يريدون القضاء عليه لأنه هو الذي يخيفهم ويرعبهم كما أقر به أحد رؤساء الوزارة البريطانية في كلامه السابق وقال أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية قبل أكثر من ست وعشرين سنة إن الخطر الذي يهددنا تهديدا مباشرا وعنيفا هو الخطر الإسلامي. ولا تعجبوا أيها الإخوة من تصريح هؤلاء بالخوف من الإسلام فإن الله يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وجماعة الكفر لم يخافوا من المسلمين اليوم لأن المسلمين اليوم في حال يرثى لها من الضعف والذل ليس لهم هيبة ولا منهم خوف بسبب تفرقهم في دينهم وإعراض الكثيرين منهم عنه، وإنما يخاف جماعة الكفر من الإسلام نفسه فوالله لو أن المسلمين طبقوا الإسلام عقيدة وعملا لملكوا مشارق الأرض ومغاربها قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] أيها المسلمون: إذا كان قادة الكفر في الشرق والغرب يخافون ذلك الخوف من دينكم فيسحاولون سلبه عنكم بكل وسيلة كما فعلوا ويفعلون. وإن من أكبر الوسائل وأعظمها خطرا سفر الشباب إلى بلاد الكفر حيث يذهب إليهم شباب ناشئ في عنفوان شبابهم وفي وقت تطلعهم إلى الاستقلال الفكري والعملي قابل للتوجيه الجديد فكرا وسلوكا غير متحصن بحصانة قوية من علم أو دين أو تجربة تغره المظاهر وتجذبه الدعاية وتجترفه الشبهة التي تلقي بين يديه في دينه وسلوكه وعاداته يذهب هؤلاء الشباب إلى بلاد الكفر لا ذهاب الدعاة إلى الإسلام المرشدين للخلق ولكن ذهاب التلميذ المستلهم المتلقف لما يلقى إليه وبطبيعة التلمذة سيكون قابلا لما يلقى إليه على علاته عاجزا نفسيا أو اضطراريا عن مناقشة أستاذه فليقل ما شاء وإن الخطر على هؤلاء الذاهبين إليهم كما يكون في حقول التعليم يكون كذلك في إقامتهم في بلاد كفر لا يسمعون فيها أذانا ولا يشاهدون مساجد تقام فيها شعائر الإسلام وإنما يسمعون أجراس النواقيس ويشاهدون معابد اليهود والنصارى ومسارح اللهو ومعاقل الخمر والفساد وعبادة المادة فيرجع الكثير من هؤلاء وقد انقلب في دينه رأسا على عقب ولوثوا أدمغتهم بقذارة الكفر والإلحاد والشك في دين الإسلام ورسوله وشريعته. فيا أيها الشاب المسلم يا من ولدت في الإسلام وربيت عليه يا من عشت بين أبوين مسلمين على الفطرة يا

من ترددت في أرض المسلمين صباحا ومساء تسمع الأذان وتصلي مع المسلمين يدوي في جوك خمس مرات في اليوم والليلة قول الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح أنت الآن على مقربة من الشهادة الإعدادية أو التوجيهية شهادة المتوسطة أو الثانوية فلا تلق بدينك إلى التهلكة تذهب إلى بلاد كفر لا تسمع فيها مؤذنا ولا تشهد جماعة ولا ترى مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى وإنما هو الكفر واللهو والغفلة والاعراض عن الله تعالى أهلها كما قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] يتمتعون بما أوتوا من زهرة الدنيا فإذا ماتوا فالنار والعذاب يقال لهم إذا عرضوا عليها: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] أيها الشاب المسلم ألم تعلم أن هذه الحياة الدنيا التي تعيشها ليست هذه الحياة سواء عشتها هنا أو هناك ألم تر ما فيها من تنغيص وكدر ومحن وفتن ألم تر الموت يتخطف شبابا وكهولا وشيوخا صباحا ومساء. إنما الحياة يا أخي حياة الآخرة كما قال ربك عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى - يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23 - 24] وكما قال نبيك -صلى الله عليه وسلم- «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» . أتدري ما مقدار السوط؟ إنه يبلغ حوالي متر واحد وهو في الجنة خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها بكل ما فيها من زهرة وترف وجاه ورئاسة وملك لأن نعيم الجنة يبقى وزهرة الحياة تفنى. أيها الشاب المسلم لقد سمعت وقرأت عن قادة الكفر ماذا يريدون لدينك من القضاء عليه ودينك غنما يتمثل بك أنت فأنت محله وأنت حامله وسيحاولون أن ينزعوه من قلبك فتصبح خاليا من الدين خاويا من الحياة. فهل تطيب نفسك أن تسلم إليهم قيادها ليوجهوك كيف شاؤا؟ لعلك تغتر بالأماني فتقول أنا ولله الحمد مؤمن فلا يمكن أن تخدعني دعاياتهم وهذا قول طيب لكن الإنسان يشعر بأنه قوي على التخلص من البلاء حين يكون في عافية منه بعيدا عن مواقعه فإذا قرب منه وابتلي به تغيرت حاله وضعفت قوته ونفد صبره فلم يمكنه تخليص نفسه.

استمع إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من سمع بالدجال فلينأ عنه (أي فليبعد عنه) فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه بما يبعث به من الشبهات» وهكذا نقول لك أيها الشاب بالنسبة لذهابك إلى بلاد الكفر تظن أنك تقوى على التخلص من البلاء بما في قلبك من الإيمان وأنت في بلاد الإسلام ولكن إذا حللت في بلاد الكفر فقد تتغير الحال فابعد عن الشر تقرب من السلامة. وانظر إلى من ذهب من الشباب إلى بلاد الكفر وهو مستقيم على دينه فرجع من بلاد الكفر منحرفا عنه متغيرا في عقيدته منسلخا عن عبادته ذهب إلى بلاد الكفر وهو يفخر بالإسلام ورجع وهو يسخر به ذهب إلى بلاد الكفر وهو يقيم الصلاة ويقوم بشرائع الإسلام فرجع لا يقيم الصلاة ولا يقوم بشرائع الإسلام أفلا تخشى إذا ذهبت إلى بلاد الكفر أن يصيبك مثل ما أصاب هذا فتخسر دنياك وآخرتك. أيها الشاب المسلم إن بقاءك في بلادك وهجرك لبلاد الكفر لا يفقدك العلم ولا ينقصك الاستزادة منه فهذه حكومتك وفقها الله تعالى وزادها رشدا وصلاحا وحماية وإصلاحا قد هيأت لك بما أنعم الله به عليها من مال يذلل لها المصاعب ويلبي لها المطالب هيأت لك كليات في جامعات تغنيك عن السفر إلى بلاد الكفر وتبقيك في دار الإسلام قريبا من أهلك وأقاربك وأصدقائك في راحة تامة وطمأنينة وأمن على دينك ولك فيمن تخرجوا منها واحتلوا المراكز اللائقة ولم يفتهم شيء مما قدر لهم من الدنيا لك فيهم أسوة ولك فيمن ذهبوا إلى بلاد الكفر فتغيرت أديانهم عبرة. ففكر أيها الشاب المسلم بهذا الأمر الخطير تفكيرا جديا بعيد المدى ولا تعدل بسلامة دينك شيئا فهو رأس مالك بل هو حياتك وحكمة وجودك كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] اللهم هيء لنا من أمرنا رشدا اللهم احفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات فإنه عصمة أمرنا اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

الخطبة الثالثة عشر اتخاذ الحذر من الأعداء بمقابلتهم بمثل سلاحهم

[الخطبة الثالثة عشر اتخاذ الحذر من الأعداء بمقابلتهم بمثل سلاحهم] الخطبة الثالثة عشر اتخاذ الحذر من الأعداء بمقابلتهم بمثل سلاحهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتيقظوا لما يريده أعداء المسلمين من القضاء على الإسلام بكل وسيلة وما يدبرونه من مكايد يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. أيها المسلمون لقد تنوعت أساليب أعداء المسلمين في محاولة القضاء على دينهم ووجهوا إليه ألوانا من الأسلحة وغزوا المسلمين من كل جهة. غزوا المسلمين بالسلاح العسكري وغزوهم بالسلاح الفكري وغزوهم بالسلاح الخلقي وغزوهم بالسلاح العاطفي. غزوا المسلمين بالسلاح العسكري فاعلنوا الحرب على المسلمين وشنوا الغارة عليهم بأقوى الأسلحة التي تمنكهم الفرصة من استعمالها. وغزوا المسلمين بالسلاح الفكري فأفسدوا أفكارا من المسلمين وعقيدة يحاولون تشكيك المسلمين في دينهم وزعزعة العقيدة من قلوبهم بما ينشرونه من كتب ورسائل وما يلقونه من خطب ومقالات بالطعن في الإسلام وقادته أحيانا وبتزيين ما هم عليه من الباطل أحيانا فإن اعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال فذلك غاية مناهم وتمام رضاهم قال الله تعالى وهو العالم بما تخفي الصدور: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] وقال عالم الغيب والشهادة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] وإذا لم يعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال اقتنعوا منه بالشك في دينه والارتياب وفي ذلك خروجه من الدين فإن الشك في الدين كفر ولقد صرح بعضهم بذلك فقالوا إننا نستبعد من المسلم أن يدخل في ديننا ولكن يكفينا أن يشك في دينه ثم يخرج منه إلى أي دين يشاء لأنهم يعلمون أن عز الإسلام هو ذلهم. وغزوا المسلمين بالسلاح الخلقي فنشروا بين المسلمين ما تفسد به أخلاقهم وتسفل به

آدابهم وتكسد به قيمتهم، نشروا فيهم ما يثير الغرائز والشهوة إما بالأغاني والألحان وإما بالكلمات الماجنة والقصص الخليعة وإما بالصور الفاتنة حتى يصبح المسلم فريسة لشهوته يتحلل من كل خلق فاضل وينزل إلى مستوى البهائم ولا يكون له هم سو إشباع غريزته من حلال أو حرام وبذلك ينسى دينه ويهدر كل فضيلة وينطلق مع شهوته ولذاته إلى غير حدود شرعية ولا عرفية فينكر للشرع والعادة. وغزوا المسلمين بالسلاح العاطفي سلاح المحبة والعطف فيتظاهرون بمحبة المسلمين والولاء لهم والعطف عليهم ومراعاة مصالحهم حتى يغتر بهم من يغتر من المسلمين وتنزع من قلوبهم العاطفة الدينية فيميلون إلى هؤلاء الأعداء بالمودة والآخاء والقرب والولاء وينسون قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 51 - 52] وينسون قول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية) . أيها المسلمون إنه يجب علينا مع هذه التوجيهات الإلهية الصادرة عن علم وحكمة ورحمة أن لا نتجاهل دليلا واقعيا يوجب علينا الحذر من أعدائنا ومن موالاتهم ذلك هو ما حصل للإسلام من عز وتمكين فإن أعداءنا لن ينسوا ذلك العز الذي أسقط دولهم وأزال سلطانهم واجتاح بلادهم وظهر على دينهم حتى يأخذوا بالثأر منه بشتى الوسائل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. أيها المسلمون: إن أعداء الإسلام لا ينحصرون في طائفة معينة ولا حزب معين إن الكافرين كلهم أعداء الإسلام وأولياء بعضهم بعضا يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] فالكفر جنس تحته أنواع ولكل نوع منه أمة تدين به ما بين يهود ونصارى ومجوس وصابئين ومشركين ودهريين وكلهم أولياء بعضهم لبعض لاتفاقهم على الخروج عن طاعة الله تشابهت قلوبهم واختلفت

عباراتهم وأساليبهم فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال اليهود إن الله فقير وقالت النصارى إن الله ثالث ثلاثة وقال اليهود يد الله مغلولة وقالت النصارى إن الله هو المسيح بن مريم. أيها المسلمون إن علينا أن ننتبه وعلينا أن نحذر وإن علينا أن نعتبر بالأحداث وإن علينا أن نكون أقوياء في التخطيط والعمل فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. إن علينا أن نعد لأعدائنا لكل نوع من هجومهم سلاحه المقابل له حتى نتمكن من صد هجماتهم في كل وجه وأن نتدرع بالحذر البالغ خصوصا في هذا العصر فإن هذا هو ما أمر الله به قال: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102] هكذا يقول الله سبحانه وتعالى في دفاعهم ويقول في طلبهم: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104] اللهم إنا نسألك أن تنصرنا على أنفسنا حتى نستقيم على أمرك ونسألك أن تنصرنا على أعدائنا حتى نسعد بظهور دينك ونسألك اليقظة في الأمور والحكمة في التدبير وحسن العاقبة والمصير. اللهم اجعلنا ممن يحبون فيك ويوالون ويبغضون من تمقت ويعادون وهب لنا من لدنك رحمة واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الرابعة عشرة في شيء من أسباب النصر على الأعداء وإبطال كيدهم

[الخطبة الرابعة عشرة في شيء من أسباب النصر على الأعداء وإبطال كيدهم] الخطبة الرابعة عشرة في شيء من أسباب النصر على الأعداء وإبطال كيدهم الحمد لله الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض وتصريف الأمور كما يشاء تصريفا لا يخرج عن فضله أو عدله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن نكون بها ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل من اهتدى بهديه وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فاصدقوا الله في نياتكم واصدقوا الله في أقوالكم واصدقوا الله في أعمالكم عاملوا الله بصدق وعزيمة اعبدوه حق عبادته قوموا بأمره ما استطعتم وانصروا الله ينصركم ولا تتخلوا عن طاعته فيتخلى عنكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد. أيها المسلمون إن أعداء الإسلام يكيدون له من كل وجه ويغزونه من كل ناحية غزوه من ناحية الفكر والعقيدة فصرفوا الأفكار عن اعتدالها وغيروا العقيدة عن وجهها وأدخلوا على الدين قوانين وأحكاما تناقض أحكام الإسلام وقوانينه. وغزوا الإسلام من ناحية الأخلاق والمثل العليا فأفسدوا الأخلاق وهدموا المثل وغزوا الإسلام من الناحية العسكرية فقاتلوا المسلمين وحاربوهم ولم يزالوا كذلك كلما حانت لهم الفرصة ووجدوا الغفلة من المسلمين. أيها المسلمون وإن علينا أن نحذر وعلينا أن ننتبه وعلينا أن نعرف الداء لنعرف الدواء علينا أن نقف لهؤلاء الأعداء لنرد كيدهم في نحورهم مستعينين في ذلك بالله ومستعملين جميع الأسباب المادية والمعنوية لقمع تحركاتهم ودحر مكايدهم إن علينا أن نلتزم عند مجابهة هؤلاء الأعداء بأمور. أولها إخلاص النية لله بأن ننوي بذلك إعلاء كلمة الله وتثبيت شريعته وتحكيم رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن هذه هي النية الخالصة الصادقة. وثانيها صدق العزيمة وقوة التنفيذ لأوامر الله تعالى في المنشط والمكره والعسر واليسر كما حصل للصحابة -رضي الله عنهم- مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم- فلقد حصل عليهم في غزوة أحد ما حصل من التعب والجهد والمشقة واستشهاد من استشهد منهم ولما هم المشركون بعد انصرافهم أن يرجعوا إليهم ليقضوا عليهم ندب

النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إليهم فأجاب المسلمون إلى ذلك مع ما فيهم من الجراح والتعب استجابوا لذلك طاعة الله ورسوله ورجاء لفضل الله ورضوانه فأنزل الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] وهكذا جرى لهم عندما رجعوا من غزوة الأحزاب بعد طول الحصار والمشقة ودخلوا المدينة مقبلين على الأهل والراحة وعزم النبي -صلى الله عليه وسلم- على غزو اليهود بني قريظة قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فخرجوا في الحال إلى بني قريظة وهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- في صدق العزيمة لا يثنينهم التعب والنصب عن امتثال أمر الله ورسوله ولذلك حقق الله لهم النصر على عدوهم فكانت العاقبة لهم والعاقبة للمتقين. أيها المسلمون هذا أمران إخلاص النية وصدق العزيمة الأمر الثالث اجتناب معصية الله تعالى فإن المعصية من أكبر أسباب الخذلان في الدنيا والآخرة ولقد حصل للصحابة -رضي الله عنهم- في أحد ما حصل من جراء معصية واحدة فقط حصلت من بعضهم حين قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تبرحوا مكانكم فلما رأوا المسلمين هزموا الكفار تخلى بعضهم عن هذا المكان الذي عينه لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحصلت الهزيمة وفي ذلك يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] هذا ما حصل من أجل معصية واحدة من البعض فكيف بمن عصوا الله في كثير من أمورهم بل اعتقدوا أن التزام الدين والتمسك به رجعية تنافي التقدم. الأمر الرابع أن لا نعجب بأنفسنا بقوتنا أو بكثرتنا فإن الإعجاب بالنفس سبب للحرمان لأن معناه اعتماد الإنسان على قوته ونسيانه الله تعالى والإنسان مهما بلغ من القوة فهو ضعيف إلا بتقوية الله له ولقد كانت كلمة قالها بعض الصحابة يوم حنين حين بلغوا اثنى عشر الف مقاتل فقالوا لن نغلب اليوم من قلة فأراهم الله تعالى أن النصر من عنده فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 25 - 27]

الأمر الخامس أن نعد العدة لأعدائنا بما استطعنا من قوة معنوية وحسية وأن يكون إعدادنا بصمت وحكمة حتى تأتي الحاجة ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعد العدة لأعدائه وإذا أراد أن يغزو غزوة ورى بغيرها حتى لا يعلم أعداؤه بما يريد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. . الخ.

الخطبة الخامسة عشرة في تحقيق نصر الله تعالى لمن ينصره

[الخطبة الخامسة عشرة في تحقيق نصر الله تعالى لمن ينصره] الخطبة الخامسة عشرة في تحقيق نصر الله تعالى لمن ينصره إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين اصدقوا الله تعالى في عقائدكم وفي نياتكم في أقوالكم وفي أفعالكم عاملوا الله تعالى كما أمركم أن تعاملوه به واعبدوه مخلصين له الدين التزموا شريعته غير مغالين ولا مفرطين انصروا الله تعالى بالانتصار على أنفسكم الأمارة بالسوء والتغلب على أهوائكم التي تهوي بكم إلى النار انصروا الله تعالى بالغيرة لدينه وحمايته والذود عنه فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]- {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]- {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]- {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41]- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] فيا أمة القرآن يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يا أمة التوحيد والإيمان إن ما سمعتم من هذه الآيات الكريمة وهذه الوعود المؤكدة الصادقة إنها لكلام ربكم العليم القدير القوي العزيز ولقد صدق الله وعده وأنجز نصره وهزم الأحزاب وحده لقد كان ذلك حينما كانت الأمة الإسلامية قائمة بالشرط المشروط عليها للنصر تؤمن بالله ورسوله وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالنصر من عند الله عز وجل لأنها تؤمن بأن لله وحده عاقبة الأمور لا ترهب الأعداء ولا تخاف من قواهم المادية وإنما تقابل عددهم بشجاعة وعددهم بما هو أقوى وأعتى وأفكارهم وتصرفاتهم الماكرة بما هو أدهى وأنكى ممتثلين

بذلك أمر الله عز وجل {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] معتمدين في ذلك على الله عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] مؤمنين بقول من بيده ملكوت السماوات والأرض وهو يجير ولا يجار عليه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] ولهذا أتم لهم النصر في مواطن تزيغ فيها الأبصار وتنحسر الأفكار وتنقطع الحيل وإني ضارب لكم في ذلك مثلين أحدهما نصر في الدفاع والخلاص والثاني نصر في الطلب والغلبة. أما الأول ففي غزوة الأحزاب حين تألب الأحزاب من قريش ومن مالأهم من كفار العرب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحاصروا المدينة في نحو عشرة آلاف مقاتل ونقضت يهود بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان الأعداء على المدينة كما وصفهم الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] وحاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين قرابة شهر وأصاب المسلمين من الجوع والتعب والبرد ما كان من أعظم الابتلاء فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم ثم أرسل الله تعالى عليهم ريحا شرقية باردة شديدة لم تبق لهم خيمة ولا نارا ولا قرارا «قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هويا من الليل في ليلة ذات ريح شديدة وقر يعني بردا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة فلم يتقدم أحد من شدة البرد والجوع والخوف، أعادها -صلى الله عليه وسلم- الثانية والثالثة ثم قال يا حذيفة قم فآئتنا بخبر القوم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني باسمي فقال يا حذيفة اذهب فآئتنا بخبر القوم ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا قال فمضيت كأنما أمشي في حمام أي في جو دافئ هادئ لا برد ولا ريح فدخلت في القوم والريح وجنود الله تعالى تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قرارا ولا تبقي خيمة ولا نارا فإذا أبو سفيان - وكان يومئذ كافرا - يصلي ظهره بالنار فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فرجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أمشي في مثل الحمام يعني في جود دافئ هادئ فأخبرته بخبر

القوم فلما فرغت أصابني البرد فألبسني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فضل عباءة كان يصلي فيها فلم أزل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قم يا نومان ثم تفرق الأحزاب خائبين خاسرين كما قال الله عز وجل {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] وحينئذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم.» أما يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم آخر قبائل اليهود في المدينة فخرج إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه فورا وحاصرهم نحو عشرين ليلة حتى نزلوا على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فحكم فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- سيد الأوس سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال -رضي الله عنه- أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى نساؤهم وذريتهم وتقسم أموالهم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فجيء بالمقاتلة مكتفين فضربت أعناقهم وكانوا بين السبعمائة والثمانمائة وسبيت نساؤهم وذريتهم وغنمت أموالهم كمال قال تعالى فيهم: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26]- أي من حصونهم - {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26 - 27] هذا مثال لنصر الله تعالى للمؤمنين في الدفاع والخلاص مما لا طاقة لهم به. أما نصره إياهم في الطلب والغلبة فقد ذكر المؤرخون أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- الذي فتح الله تعالى على يديه أكثر بلاد فارس وقال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهم أجب دعوته وسدد رميته لما تابع الفرس يفتح بلادهم بلدا بلدا فوصلوا إلى نهر دجلة عبروها إلى عاصمتهم المدائن ولم يتركوا للمسلمين جسورا ولا سفنا فلما وصل سعد إلى النهر بعساكر الإيمان أخبرهم أنه عازم على العبور إلى الفرس على ظهر الماء فاقتحم بفرسه النهر وهو يجري ويقذف بالزبد واقتحم الناس معه ولم يتخلف أحد منهم فجعلت خيولهم تعوم بهم في الماء وهم يتحدثون على ظهورها كأنما تمشي على ظهر الأرض فإذا تعب فرس أحد منهم قيض الله له مثل الصخرة الكبيرة يقف عليها ليستريح حتى عبروا النهر فلما رآهم الفرس ولوا هاربين وتركوا بلادهم وأموالهم غنيمة للمسلمين وتحقق قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ولما وصل خمس الغنمية إلى عمر رضي الله

عنه في المدينة ونظر إليه قال إن قوما أدوا هذا لأمناء فقال له علي -رضي الله عنه- إنك عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا. فهذا مثال من نصر الله تعالى للمؤمنين في طلبهم لعدوهم وغلبتهم عليه بما لا طاقة لهم به فمن يتصور أن النهر ممتلأ ماء يمشي عليه المجاهدون بخيولهم حتى يعبروا إلى الجانب الآخر ولكن ذلك ليس بعزيز على الله تعالى فإنه القادر على كل شيء {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] اللهم هيئ لهذه الأمة نصرا عزيزا تعز به أهل طاعتك وتذل به أهل معصيتك وتعلي به كلمتك إنك على كل شيء قدير اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة السادسة عشرة في تخلف النصر عمن لم يقم بأسبابه

[الخطبة السادسة عشرة في تخلف النصر عمن لم يقم بأسبابه] الخطبة السادسة عشرة في تخلف النصر عمن لم يقم بأسبابه الحمد لله حمدا كثيرا كما يحب ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وإليه المنتهى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن النصر من عند الله وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ولما كانت الأمة الإسلامية قائمة بشريعة الله حافظة لحدود الله مجاهدة في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا كانت منصورة ظافرة فتحت مشارق الأرض ومغاربها وكان لها السلطة والسيطرة على الأمم لأنها تقاتل لله وبالله وفي الله إخلاص لله تعالى واعتماد عليه والتزام بشريعته فلما اختلفت أهواؤها وتفرقت كلمتها وتشبعت مناهجها دب فيها الضعف وتكالبت عليها الأعداء وغزوها من كل جانب وبكل سلاح غزوها من ناحية الفكر والعقيدة فغيروا الأفكار وأفسدوا العقيدة، غزوها من ناحية الأخلاق والمثل العليا فأفسدوا الأخلاق وهدموا المثل، غزوها من ناحية المنهج والسلوك فضيعوها في متاهات الجهل والخرافات والبدع وفرقت الأمة دينها وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وأبدلوا القوانين الشرعية الإلاهية بقوانين وضعية طاغوتية فحكموا بغير ما أنزل الله بل زعموا أن الحكم بما أنزل الله قد انقضى وقته وانقرض أهله فلا يطابق هذا العصر ولا يناسب أهله وما هو إلا رجعية وتخلف إلى الوراء: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فلما بلغت الأمة إلى هذا المستوى انحطت معنويتها ونزعت من قلوب أعدائها هيبتها وتسلط الأعداء عليها بقوة السلاح فغزوها غزوا عسكريا في حرب التتار وفي حرب الصليبيين النصارى وفي حرب الصهيونيين اليهود وفي حروب أخرى هناك وهناك. وفي هذا الأسبوع تبجح رئيس وزراء اليهود بانتصاراته التي قال إنها أسعد أيامه مفتخرا برفع العلم اليهودي على أرض فلسطين قبل أكثر من ثلاثين عاما ومفتخرا بتوحيد القدس مدينة المسجد الأقصى لصالح الأمة اليهودية بعد أن كانت مقسومة بين اليهود والعرب وكان المسجد الأقصى في القسم العربي فاستولى اليهود عليه قبل عشرة أعوام وعلى أراض أخرى من أراضي العرب.

أيها المسلمون إن لنا أن نتساءل لماذا سلطت هذه الأمة اليهودية على أمة العرب حتى استحلت من بلادها ومقدساتها ولكن علينا أن نتصور تصورا صريحا قبل الجواب والصراحة وإن كانت مرة في بعض الأحيان لكنها هي الوسيلة للحكم الصحيح كشق الجرح يؤلم المريض لكنه الوسيلة للعلاج الناجح. وعلينا بعد التصور الصريح أن نحكم بالعدل والعقل ولو على أنفسنا. إننا إذا نظرنا إلى تسليط هؤلاء اليهود على العرب وجدناه من عند أنفسهم كما قال الله تعالى في الجواب على سؤال المصابين يوم أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ثم ختم الآية بقوله {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] إشارة إلى أنه قادر على أخذ أعدائهم، فهل تدرون ما هذا الذي كان من عند أنفسهم إنها معصية واحدة في أمر تنظيمي كانت من أسباب هذه المصيبة فلو تصورنا حال العرب اليوم تصورا صريحا وحكمنا حكما عدلا مبنيا على العقل بعيدا عن تيارات العاطفة لوجدنا في العرب اليوم ما هو من أكبر أسباب الخذلان والهزيمة ففي العرب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر وفي العرب من يشرك بالله بدعاء المخلوقين وتعظيمهم والتعلق بهم كما يفعل ذلك في الله عز وجل وفي العرب من لا يقيم الصلاة ولا يؤتي الزكاة وفي العرب من لا يصوم رمضان ولا يحج البيت وفي العرب من يحكم بغير ما أنزل الله ويرى أن الحكم بما أنزل الله قد انتهى وقته وانقرض أهله وأنه غير صالح لهذا العصر وفي العرب من تباع الخمور في اسواقهم وتشرب علانية كما حدثني بذلك من أثق به وفي العرب من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وفي العرب من لا يقيم الحدود التي أوجب الله في الجرائم ويرى أن ذلك همجية ووحشية إلى غير ذلك من المعاصي والمنكرات. فإذا كانت معصية واحدة من بعض المجاهدين في غزوة أحد من أسباب مصيبة الهزيمة فما بالكم أيها الإخوة بهذه الفظائع التي توجد في بعض البلاد العربية اليوم. إن الطمع في النصر بدون أسبابه طمع في غير محله إنه كالطمع في الأولاد بدون نكاح وكالطمع في الأشجار بدون غرس أو في ربح التجارة بدون اتجار. إننا متى صدقنا الله تعالى في الجهاد في سبيله فكان قتالنا لتكون كلمة الله هي العليا

وشريعته هي الحكم فنقيم على أرض الله تعالى دولة إيمانية تؤمن بالله واليوم الآخر وتعمل صالحا فتقوم بأمر الله وتحكم بشريعة الله وتوالي من والى الله وسوله وتعادي من عادى الله ورسوله وتتمشى في ظاهرها وباطنها على ما مشى عليه عباد الله الصالحون من سلف هذه الأمة فستكون العاقبة لنا وسيورثنا الله أرضهم وديارهم وأموالهم كما أورثها سلف هذه الأمة: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27] {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أن تنصر الإسلام والمسلمين وتخذل الشرك والمشركين وتدمر أعداء الدين اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر إنك على كل شيء قدير. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة السابعة عشرة في ذكر الله تعالى

[الخطبة السابعة عشرة في ذكر الله تعالى] الخطبة السابعة عشرة في ذكر الله تعالى الحمد لله المذكور بكل لسان المشكور على كل إحسان خلق الخلق ليعبدوه وأظهر لهم آياته ليعرفوه ويسر لهم طرق الوصول إليه ليصلوه فهو ذو الفضل العظيم والخير الواسع العميم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة واصيلا كونوا من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم كونوا من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب وتنفرج الكروب بذكر الله يحصل النصر ويثبت الله القلب في مواطن الفزع ولذلك أمر الله تعالى بذكره عند مقابلة الأعداء في الحرب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] إن ذكر الإنسان لربه يملأ قلبه سرورا ويكسو وجهه نورا ويذكره الله به يقول الله تعالى في القرآن الكريم {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] ويقول تعالى في الحديث القدسي الذي رواه النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا» وقال -صلى الله عليه وسلم- «مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت» وسئل -صلى الله عليه وسلم- من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال: «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» وقال -صلى الله عليه وسلم- «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وأمر أن يلقن الميت إياها عند موته، وإن من أكبر ذكر الإنسان لها عند موته أن يكون مكثرا لها في حياته فإن من أكثر من شيء ألفه. وقال -صلى الله عليه وسلم- «أكثروا من شهادة أن لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها» . وقال -صلى الله عليه وسلم- «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل» . وقال «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك»

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر» وقال: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلى مما طلعت عليه الشمس» وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة قال يسبح الله مائة تسبيحة فتكتب له ألف حسنة» . فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من هذه المكاسب العظيمة من أعمال يسيرة أكثروا من ذكر الله عز وجل بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ليكن ذكر الله تعالى في قلوبكم قياما وقعودا وعلى جنوبكم كونوا متذكرين دائما لعظمته وجلاله وكمال أسمائه وصفاته وأفعاله ففي كل شيء له آية تذكركم به وتبرهن على وحدانيته وعظمته وقدرته وتبرز بها آثار رحمته وحكمته. اذكروا الله تعالى بألسنتكم بقول لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر واعلموا أن كل قول من الخير تريدون به وجه الله فهو من ذكر الله. اذكروا الله تعالى بجوارحكم بفعل الطاعات وترك المعاصي فإن كل فعل أو ترك تقومون به طاعة لله وتقربا إليه فهو من ذكر الله. أكثروا من ذكر الله تعالى ولا تكونوا ممن أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا. أكثروا من ذكر الله قبل أن يحال بينكم وبينه إما بالموت أو بالعجز أو بحرمانكم منه عقوبة على غفلتكم. لا يشغلنك أيها المسلم عن ذكر الله مال ولا بنون فإنما المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا والباقيا الصالحات كل عمل صالح وعلى رأسها قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. عباد الله إن ذكر الله تعالى غنيمة وربح وإن الغفلة عن ذكره غرم وخسارة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. والترة النقص والحرمان. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك اللهم اجعلنا في أهلنا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرت من الذين اغتنموا أوقاتهم بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانا من الغفلة عن ذكرك ومن التشاغل بما لا يقربنا إليك ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك الوهاب واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

القسم الثالث في التفسير

[القسم الثالث في التفسير] [الخطبة الأولى في تفسير آيات من سورة ق] القسم الثالث في التفسير الخطبة الأولى في تفسير آيات من سورة ق الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا أنزله هدى للمتقين وعبرة للمتعظين فأحيا به القلوب وأصلح به الأعمال وذكر به من الغفلة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعظ الناس بهذا القرآن الذي جعله الله تعالى نورا وهداية فلا شيء أشفى لمرض القلوب من القرآن ولا شيء أقوم للأحوال من القرآن: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بسورة ق والقرآن المجيد لأنها سورة عظيمة ذكر فيها المبدأ والمعاد مبدأ الإنسان منذ خلقه الله وذكر أحواله وأعماله وغايته. ابتدأ الله هذه السورة بالانكار على المكذبين الذين كذبوا رسوله محمدا -صلى الله عليه وسلم- وانكروا ما جاء به من البعث والحساب وقالوا أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد. فبين الله تعالى أنهم حينما كذبوا بالحق لما جاءهم اختلط عليهم الأمر والتبست عليهم الحقائق فهم في أمر مريج وهكذا كل من كذب بالحق لا بد أن تلتبس عليه الحقائق وتختلط عليه الأمور فلا يعرف الحق من الباطل ولا الصالح من الفاسد. ولقد نبه الله هؤلاء المكذبين بالبعث على قدرته على ذلك بما يشاهدونه من هذه المخلوقات العظيمة الدالة على قدرته البالغة: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ - وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق: 6 - 7]- وهي الجبال - {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ - تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 7 - 8] ففي مد الأرض وبناء السماء وتزيين الأرض بالنبات البهيج وتزيين السماء بالنجوم النيرة في كل هذا كله تبصرة وذكرى يتبصر بعقله ويتذكر بفكره تمام قدرة الله تعالى وحكمته ونبه سبحانه على قدرته على البعث بما يشاهده الناس من إنزال المطر من السماء وإخراج النبات به من البساتين والحبوب: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ - رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 10 - 11] ثم حذر الله هؤلاء المكذبين مما فعله بالمكذبين السابقين الذين حق عليهم وعيد الله بعذابه ونكاله بهم وقرر الله سبحانه وتعالى قدرته على إعادة الخلق مرة ثانية بقدرته على

الخلق الأول فتقرر بهذا قدرته تعالى على البعث بالأدلة العقلية والحسية. ثم بين الله في هذه السورة حال الإنسان من أول خلقه وعلم الله سبحانه بتلك الحال وقربه منه وأنه سبحانه يعلم ما توسوس به نفس الإنسان فضلا عما يعمله ويظهره {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وبين الله تعالى أن مع كل إنسان ملكين يتلقيان ما يعمله من قول أو فعل {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ - مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18] رقيب حاضر يكتب كل ما يلفظ به وكل ما يفعله ونهاية هذا الإنسان فراق دار العمل إلى دار الآخرة فراق الدنيا إلى الآخرة. : {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] إنها سكرة فراق الأهل إنها سكرة فراق المال إنها سكرة فراق الدار، الدار التي ألفها منذ خروجه من بطن أمه إنها سكرة فراق العمل الذي كان يؤمله ويتمناه لا أقول العمل من أجل الدنيا التي هو حينذاك مودع لها ولكنه العمل من أجل الآخرة التي هو حينذاك مستقبل لها: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100] إنها سكرة الموت بالحق لا سكرة الهوى ولا سكرة الخمر واللذة: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] وتهرب ولكن لا مفر من الموت ولا مهرب: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] إنه ملاقيكم من أمامكم وهل يمكن أن تفر مما هو ملاق لك؟ ثم يبين الله تعالى في هذه السورة حال يوم القيامة يوم الحساب والجزاء. : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ - وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ - لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 20 - 22] في الدنيا نسيت يوم القيامة وغفلت عنه حتى فاجأك: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] وفي ذلك اليوم تحضر الأعمال ويجازى العامل ويلقى في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله آلها آخرا: {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق: 26] وفي ذلك اليوم تقرب الجنة للمتقين غير بعيد يسكنها كل من خشي الرحمن بالغيب وجاب بقلب منيب. فيا عباد الله اتقوا الله تعالى اعملوا لذلك اليوم واستعدوا له فإنه اليوم الذي يحق لكل عاقل أن يعمل له ولكل حلزم أن يستعد له. وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات والسعي في الأعمال الصالحات واجتناب الخطايا والسيئات إنه قريب مجيب الدعوات. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الثانية في تفسير بعض الآيات من سورة الطور

[الخطبة الثانية في تفسير بعض الآيات من سورة الطور] الخطبة الثانية في تفسير بعض الآيات من سورة الطور الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا بل جعله قيما يهدي للتي هي أقوم لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي زاده الله هدى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتبصروا فيما جرى للأنبياء من أممهم المكذبين وملإ قومهم الظالمين حيث كذبوا رسلهم وعابوهم ورموهم بكل باطل وانتقصوهم قالوا لأنبيائهم إنهم سحرة وقالوا إنهم مجانين {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53] وكذلك المكذبون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصفوه بكل قول قبيح هم أحق به منه فقالوا عما جاء به من القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24]- {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] ولكن الله سبحانه وتعالى يدافع عنه ويؤيده وينصره ويجعل العاقبة له. وفي سورة الطور من الدفاع عنه وتأييده ما يدل على كمال عناية الله به ونصره له لقد قالوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه كاهن ومجنون ليحولوا بينه وبين القيام بدعوته ويفتروا من همته وعزيمته وينفروا الناس عنه وعن شريعته فقال الله عز وجل {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] نعم ما هو بما أنعم الله به عليه من النبوة كاهنا ولا مجنونا بل هو نبي صادق أكمل الناس عقلا وأحسنهم تصرفا وقالوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه شاعر ننتظر به الموت والهلاك كما مات من قبله الشعراء فقال الله لنبيه {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] انتظروا فليس ريب المنون خاصا بي دونكم فأنا متربص بكم الهلاك وإن الهلاك إليهم أسرع {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور: 32] هل عقولهم تملي عليهم مثل هذا القول الفاسد لا لأن كل عاقل يعرف أن القرآن ليس بشعر وأن الهلاك لا يختص به من جاء به ولكنهم قوم طاغون معتدون {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33] أي تقول القرآن وجاء به من عنده وكذبه على الله. قال تعالى ردا عليهم ببيان حالهم ثم تحديهم {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33] فهم يعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتقول هذا القرآن ولا يمكن أن يتقوله لأنه قوال الخالق ولا يمكن

للمخلوق أن يأتي بمثله ولكن الحامل لهم على هذه الدعوى الباطلة كفرهم وجحودهم ثم تحداهم الله تعالى إن كانوا صادقين فقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] أي مثل القرآن في البلاغة والهداية والعلوم النافعة والأعمال الصالحة والعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ولقد عجزوا على ذلك مع أنهم أمراء البيان وملوك الفصاحة ولما تحداهم الله تعالى وأظهر عجزهم عن القدح في آيته الشرعية القرآن تحداهم سبحانه بالآية الكونية فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] يعني هل خلقوا من غير خالق هل خلقوا صدفة بدون سبب؟ أمر لا يمكن لن كل مخلوق فله خالق وكل حادث فله محدث وإذا كان لا بد من خالق لهم فهل هم الذين خلقوا أنفسهم؟ أمر لا يمكن أيضا لا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه خلق نفسه كيف وهو قبل أن يوجد معدوم ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه خلق غيره أيضا لا يمكن لأحد أن يدعي أن يطور الجنين في بطن أمه نطفة ثم علقة ثم إنسانا حيا نفخت فيه الروح وإذا ثبت أنهم لم يحدثوا صدفة ولم يخلقوا أنفسهم تعين أن خالقهم هو الله عز وجل كما أقروا بذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] ثم انتقل الله من تحديهم فيما يتعلق بخلق أنفسهم إلى ما يتعلق بخلق أعظم وأكبر فقال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطور: 36] لا لم يخلقوا السماوات والأرض ولا يمكن أن يدعو ذلك بل هم يقرون بأن خالق السماوات والأرض هو الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [لقمان: 25] إذا كانوا يقرون بأن الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض هو الله عز وجل فلماذا لا يصدقون رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بالوحي منه وأيد بالآيات البينات {بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 36] بل هم في أمر مريج مضطرب وشك وريب. ثم قال تعالى في سياق تحدي هؤلاء المكذبين {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: 37] يمنعونها عمن يشاؤن ويعطونها من يشاؤن فيدعون أنهم لم يعطوك النبوة وأنك كاذب فيها. لا ليس عندهم خزائن الله وإنما خزائن الله عنده وفضل الله يؤتيه من يشاء {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 37] هل لهم السيطرة والسلطان والملك فيحجرون على الناس في تصرفهم لا ليست لهم السيطرة ولا السلطان ولا الملك فنفى الله عنهم السلطتين سلطة البذل والعطاء وسلطة السيطرة والقوة إذن فهم لا يستطيعون أن يمنعوا فضل الله أو يعطوه غير من أراد الله. قال جبير بن مطعم -رضي الله عنه- «سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ

هذه الآيات كاد قلبي أن يطير» وكان سماعه لذلك من أكبر ما حمله على الإسلام فأسلم -رضي الله عنه-. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أخبار السماء فيسمعوا أنك على الوصف الذي ذكروه من الكهانة والجنون والسحر والشعر والكذب لا ليس لهم سلم يستمعون فيه فإن كابروا وادعوا ذلك فالبينة على المدعي {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور: 38] حجة ظاهرة على دعواه ولن يستطيعوا ذلك أبدا. وكان هؤلاء المكذبون للرسول العائبون له بما هو أحق به من العيب قد عابوا الله من قبل فسموا الملائكة بنات الله فليس بغريب عليهم إذا عابوا الله أن يعيبوا رسوله وهذه - والله أعلم - هي المناسبة في ذكر هذه الآية: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] في سياق عيبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد أن أبطل الله في هذه الآيات الكريمات ما أدعاه المكذبون لرسوله تحداهم بالمطالبة ببيان سبب هذا التكذيب فقال سبحانه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [الطور: 40] عوضا عن الإيمان بما جئت به واتباعه {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40] فيريدون أن يتخلصوا مما طلبت بالتكذيب لا بل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي يعطيهم ويتألفهم على الإسلام {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41] ما علموا من الغيب فيرون رسالتك معارضة لما عندهم فينكرونها خوفا من إبطال ما علموا من الغيب وكتبوه لا ليس عندهم علم من الغيب ولا كتابة فهم أمة أمية جاهلة فكان مقتضى العقل وحسن التصرف أن يفرحوا بما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور: 42] وهذا هو الواقع فإنهم لا يريدون بما وصفوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا الكيد به وبدينه والقضاء عليه ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} [الطور: 42] من أجل كفرهم وجحودهم {هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42] وحدهم المقضي عليهم بالذل والهلاك ولما كان ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كله دعوة إلى توحيد الله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. قال الله في ختام هذا الدفاع عن رسوله {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43] يلجأون إليه ويعبدونه من دون الله حتى يحيدوا عن طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ليس لهم إله سوى الله وما اتخذوه من الأوثان آلهة فليست آلهة حقيقية لأنها ناقصة معيبة: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43] أن يكون مثل أصنامهم وأوثانهم ولما بين الله أن هؤلاء المكذبين ينكرون الآيات الشرعية ويكذبوها بين أنهم ينكرون الآيات الكونية أيضا فقال: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور: 44] قطعا من العذاب يسقط من السماء {يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44] فهو أمر

عادي لا نخاف منه ولا يبالي به وهذا غاية ما يكون من العناد والطغيان. أجارني الله وإياكم من النار وجنبنا طريق المنافقين والكفار وهدانا صراطه المستقيم. . الخ.

الخطبة الثالثة في تفسير آيات من سورة الواقعة

[الخطبة الثالثة في تفسير آيات من سورة الواقعة] الخطبة الثالثة في تفسير آيات من سورة الواقعة الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب عبرة للمعتبرين وموعظة للمتقين ونبراسا منيرا للمهتدين فكان شفاء لما في الصدور ومصلحا لجميع الأمور وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على جميع النبيين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتدبروا كتاب ربكم الذي أنزله الله رحمة بكم وموعظة لكم وإصلاحا لدينكم ودنياكم ولا تعرضوا عنه فتبوؤا بالخسارة وقسوة القلوب والبعد عن خشية علام الغيوب. إن القرآن موعظة من ربكم وشفاء لما في صدوركم ولا شيء أبلغ موعظة منه لمن تدبر القرآن وتفكر معناه ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب به في الجمعة كثيرا قالت أم هشام -رضي الله عنها- ما أخذت ق إلا عن لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. أيها المسلمون إن من أعظم المواعظ ما جاء في سورة الواقعة تلك السورة العظيمة التي تحدثت عن أحوال الناس يوم القيامة وحالتهم عند مفارقة الدنيا. ابتدأ الله هذه السورة بجملة شرطية عن وقوع الساعة حذف جوابها ليذهب الذهن في تقديره كل مذهب ويسلك في تفخيمه كل طريق. يقول الله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: 1] وهي يوم القيامة يعني إذا وقعت رأيت أهوالا عظيمة وأحوالا متباينة {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة: 4] عظيما {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ} [الواقعة: 5] ففتتت تفتيتا دقيقا {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 6] بعد أن كانت جبالا متماسكة صلبة ثابتة. وفي هذا اليوم ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف سابقون وأصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة. فالسابقون في هذه الدنيا إلى الطاعات هم السابقون يوم القيامة إلى الكرامة والجنات وهم المقربون إلى فاطر السماوات والأرض في دار لا يفنى نعيمها ولا يبلى جديدها ولا يتكدر صفوها نعيمها دائم وسرورها قائم {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ - مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ - يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ - بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ - لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 15 - 19] هذا شرابهم أما طعامهم ففاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وأما نساؤهم فحور ذو بياض حسن صاف عين حسنات العيون منظرا وخلقة كأمثال اللؤلؤ المكنون في صدفه في غاية

الصفاء. وأما مجتمعهم فمجتمع كامل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] لا يسمعون فيها لغوا من القول وهو ما لا فائدة فيه ولا تأثيما كلاما يأثمون بل كلامهم ذكر لله وتسبيح له وتحدث بينهم بما أنعم الله عليهم في الدنيا (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) : {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ - الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35] هؤلاء هم السابقون إلى طاعة ربهم يقومون بالواجبات والمستحبات ويتركون المحرمات والمكروهات فكان نعيمهم أكمل النعيم وأحوالهم أكمل الأحوال. أما الصنف الثاني فهم أصحاب اليمين وهم من أهل الجنة ولكنهم أقل حالا من السابقين {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28] شوكه فليس فيه شوك {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] من التمر من أسفله إلى أعلاه. وهذا السدر والطلح ليس مشابها لما في الدنيا الاسم هو الاسم ولكن الحقيقة غير الحقيقة قال الله تعالى في الحديث القدسي أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولأصحاب اليمين نعيم دائم {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ - لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32 - 33] يعني لا تنقطع في وقت من الأوقات كما تنقطع فواكه الدنيا ولا ممنوعة عن مبتغيها كما تمنع فواكه الدنيا. أما جلوسهم ففي فرش مرفوعة وأما نساؤهم فقد أنشأ الله الحور منهن إنشاء بدون ولادة وأنشأ نساء الدنيا من أهل الدنيا إنشاء جديدا فجعلهن أبكارا لا يرجعن ثيبات أبدا كلما عاد إليها زوجها وجدها بكرا. ومن تمام النعيم أن جعلهن الله عربا يتحببن إلى أزواجهن بالتلطف والمداراة أترابا على سن واحدة حتى لا تفخر واحدة على الأخرى أو ترى نفسها دون الثانية. أما الصنف الثالث وهم أصحاب الشمال فلا تسأل عن حالهم إنها حال البؤس والشقاء والعناء في سموم هواء حار من النار يلفح وجوههم ويدخل في مسام جلودهم وليس عندهم ما يبرد السموم سوى ماء حميم شديد الحرارة {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 19 - 20] كما أنهم ليس لهم ما يحجب هذا السموم سوى ظل من يحموم واليحموم هو الدخان الأسود الحالك {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44] ليس فيه وقاية ولا نفع فهذا مكانهم وموضع إقامتهم أما طعامهم وشرابهم فإن الله يقول

{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ - لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة: 51 - 52] وهو شجر خبيث الطعم قبيح المنظر منتن الريح ليس فيه ما يحبب الأكل منه ولذلك يتزقمونه تزقما فيبتلعونه بشدة ومشقة فيملئون بطونهم منه وحينئذ يحترقون عطشا فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه إذا دنا منهم ويقطع أمعاءهم إذا حل فيها {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وإنهم ليشربون هذا الماء الحميم شرب الهيم وهي الإبل المصابة بهيام الماء فهي تشرب ولا تروى أبدا {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 56] أما في آخر السورة فقسم الله فيها الناس عند حضور الأجل وانقطاع الأمل وتلاشي الحيل والرحيل من دار العمل قسم الله الناس إلى ثلاثة أقسام فقال تعالى {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ - فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ - فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ - فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ - وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ - إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ - فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 88 - 96] اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من السابقين والمقربين ومن التالين لكتابك والمنتفعين. اللهم ارزقنا الزهادة في الدنيا والرغبة في الآخرة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد المصطفى المختار وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

الخطبة الرابعة في تفسير سورة العصر

[الخطبة الرابعة في تفسير سورة العصر] الخطبة الرابعة في تفسير سورة العصر الحمد لله الذي من على عباده المؤمنين بدين يجمع كلمتهم، ويوحد صفوفهم، وأوجب عليهم أن يكونوا إخوانا للحق ناصرين وفي سبيل إقامته وإزالة ما يحول دون تحقيقه متعاونين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي وعد بنصر الحق وهو أصدق القائلين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين جمع الله به بعد الفرقة، وألف به بعد الخلاف، ونصر به الذلة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقال الله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] فأقسم الله تعالى بالعصر وهو الدهر الذي هو ميدان العاملين ومضمار المتسابقين، الدهر الذي يختلف الناس في استهلاكه اختلافا كبيرا. فمنهم من يستهلكه في طاعة مولاه، وإصلاح أمته، وهؤلاء هم الرابحون، ومنهم من يذهب عليه سبهللا، ومنهم من يستهلكه في معاصي الله، وإفساد أمته، وكلاهما من الخاسرين. أقسم الله بهذا العصر على أن كل إنسان من بني آدم، فهو في خيبة وخسر مهما كثر ماله وولده وعظم قدره، وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة: أحدهما الإيمان، ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى من اعتقاد صحيح وعلم نافع. الثاني: العمل الصالح، وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله بأن يكون فاعله لله مخلصا ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعا. الثالث: التواصي بالحق وهو التواصي على فعل الخير والحث عليه والترغيب فيه. الرابع التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضا بالصبر على فعل أوامر الله، وترك محارم الله، وتحمل أقدار الله والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يتضمنان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها ونصرها وحصول الشرف والفضيلة لها. فلقد جعلنا الله خير أمة أخرجت للناس وبين أسباب ذلك فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] فاتقوا الله أيها المسلمون، وحققوا هذه الفضيلة التي فضلتم بها على العالمين، فتآمروا

بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، واجتمعوا على ذلك، وأصلحوا أنفسكم وأهليكم وجيرانكم، واعلموا أنه ما اجتمع قوم على حق بنية خالصة وعمل صالح، إلا كلل اجتماعهم بالنجاح، وحصلوا على مقصودهم، ولن يتخلف النجاح عنهم إلا لأحد أمرين، إما نقص في إخلاصهم بأن يكون لأحدهم غرض غير ما اجتمعوا عليه، إما لخلل في عملهم بأن لم يسلكوا الطرق الموصلة إلى المقصود على وجه صحيح. ولو تأملتم ذلك لوجدتموه ظاهرا في كل عمل تقومون به إذا اجتمعم عليه، وأحسنتم النية، وسلكتم طريق الحكمة في الوصول إلى مقصودكم كانت النتيجة حصول المقصود على الوجه المطلوب بل ربما تكون النتيجة على وجه أفضل مما يتوقع. إذن فالواجب أن يكون المسلمون يدا واحدة وصفا واحدا وقلبا واحدا فيما فيه خيرهم وصلاحهم واستقامة دينهم ودنياهم، فبذلك يصلون إلى عزهم الذي كتب الله لهم: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] فشدوا أيها المسلمون أيديكم بعضها ببعض، وكونوا كما وصفكم نبيكم بالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه. خذوا على أيدي السفهاء، واطروهم على الحق أطرا، واعلموا أنكم بذلك لهم راحمون، وإليهم محسنون؛ لأن رحمة الخلق الحقيقية، والإحسان الحقيقي إليهم هو أن تمنعهم مما يضرهم، وأن ترشدهم إلى ما فيه خيرهم واستقامة دينهم وباستقامة الدين تستقيم الدنيا والدين. واعلموا أنه ما قام أحد بأمر يريد به ثواب الله وإصلاح عباد الله، إلا أعطاه الله ما تمناه عليه من الثواب سواء حصل إصلاح الغير أم لم يحصل، إذن فالأجدر بنا أن لا نتوانى، وأن لا نكسل في العمل على ما يصلح العباد والبلاد راجين بذلك ثواب الله قاصدين به إصلاح عباد الله؛ لأننا إذا سلكنا ذلك فنحن بحول الله رابحون، ومن عذابه وعقابه ناجون إن شاء الله. وفقنا الله وإياكم للعمل بما فيه صلاحنا وصلاح أمتنا، وجعلنا وإياكم ممن غنموا أوقاتهم، واكتسبوها، واستهلكوها في طاعة الله، وعمروها، وأعاذنا وإياكم من الخيبة والخسران، وجنبنا الإثم والفسوق والعصيان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله. . . الخ.

الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته

[الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته] الخطبة الخامسة في الحث على التمسك بكتاب الله والتحذير من مخالفته الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجا، أنزله قيما يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذي يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيها أبدا، وينذر به قوما لدا خصمين حججا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ينال بها مخلصها من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أقوم الناس في عبادة ربه، وأسدهم منهجا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن بهداهم اهتدى، فنجا، وسلم تسليما. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ - قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58] أيها الناس إن هذه الموعظة التي جاءتكم من ربكم هو كتاب الله، وما تضمنه من أخبار صادقة نافعة وأحكام عادلة مصلحة للخلق ليس في دينهم، فحسب ولكن في دينهم ودنياهم إنه موعظة يتعظ بها العبد، فيستقيم على أمر الله، ويسير على نهجه وشريعته. إنه شفاء لما في الصدور، وهي القلوب شفاء لها من مرض الشك والجحود والاستكبار عن الحق أو على الخلق إنه شفاء لما في الصدور من الرياء والنفاق والحسد والغل والحقد والبغضاء والعداوة للمؤمنين. إنه شفاء لما في الصدور من الهم والغم والقلق، فلا عيش أطيب من عيش المتعظين بهذا القرآن المهتدين به، ولا نعيم أتم من نعيمهم، ولهذا قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف يعنون ما فيهم من شرح الصدور بالإيمان بالله والسرور بطاعته وعبادته. إن هذا القرآن هدى ومنار للسالكين، يخرجون به من الظلمات إلى النور، ويهتدون به إلى خالقهم، وإلى دار كرامته، فهو هدي علم وتوفيق ورحمة، لكن للمؤمنين به، أما المكذبون به، والمستكبرون عنه، فلا يزيدهم إلا عمى وخسارا: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] أيها الناس قد تتساءلون كيف يكون الكلام الواحد لقوم هدى وشفاء ورحمة ولقوم

آخرين ضلالا وعمى وخسارا، والجواب على ذلك أن هذا هو ما نطق به القرآن، وهو حق، وها نحن نرى في الأمور الحسية ما يشهد لذلك نرى بعض الطعام يكون لشخص غذاء يزداد به جسمه صحة ونموا، ويكون لشخص آخر داء يزداد به جسمه مرضا وضعفا، فهكذا الأمور المعنوية، فالقرآن إذا أقره المؤمن ازداد به إيمانا لتصديقه بأخباره واعتباره بقصصه وتطبيقه لأحكامه امتثالا لأمر الله واجتنابا لنهيه، فيزداد بذلك علما وهدى وصلاحا. وإذا قرأه ضعيف الإيمان ومن في قلبه مرض ازداد رجسا إلى رجسه لتشككه في صحة أخباره أو غفلته عن الاعتبار بقصصه، فيمر بها كأنها قصص عابرة وأساطير أمم غابرة لا توقظ له ضميرا، ولا تحرك له إرادة. أو استكباره عن تطبيق أحكامه وتهاونه بها، فلا يمتثل أوامره، ولا يجتنب نواهيه تقديما لهواه على طاعة مولاه، فيكون القرآن خسارة له؛ لأن الحق بان له، فخالفه، فكان بذلك خاسرا. أيها الناس يقول الله تعالى في الآية الأولى مما سقناه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] إن ما يحصل للعبد من فضل الله ورحمته بهذا القرآن العظيم من الهدى والرحمة والموعظة، وشفاء ما في الصدور لهو الجدير بأن يفرح به العبد؛ لأنه سعادة دنياه وأخرته ليس من الجدير بالعبد أن يفرح بحطام من الدنيا يحصله على حساب عمل الآخرة، فليس المال مخلدا لأصحابه، ولا أصحابه بمخلدين له، أما ما يحصل من فضل الله ورحمته بهذا القرآن الكريم فهو الخالد الباقي لأصحابه، وهو خير مما يجمعون من الدنيا كلها؛ لأن غايته الوصول إلى الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» . هكذا يقول أعلم الخلق بما عند الله، وهو الناصح الأمين الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، موضع السوط في الجنة وهو مقدار متر فأقل خير من الدنيا كلها وما فيها، ليس للدنيا التي عشت فيها فقط، ولكنها الدنيا من أولها إلى آخرها موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ لأن الدنيا وما فيها متاع زائل كحلم نائم أما ما في الجنة، فباق لا يزول: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17] أيها الناس إن كثيرا منكم يسمعون ما يتلى من كتاب الله تعالى، وما يؤثر من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة يسمعون ذلك من الخطباء والوعاظ في المساجد

وغيرها ولكنهم للأسف الشديد لا يزدادون بذلك إيمانا، ولا قبولا للحق، ولا انقيادا لطاعة، وربما يصرخون بأنهم لا يفعلون ما به يؤمرون، ولا يتركون ما عنه يزجرون، فيصرون على الإثم وهم يعلمون. فسبحان الله! سبحان الله! أهذه حال من يزعم أنه مؤمن بالله واليوم الآخر، موقن بالثواب والعقاب؟ بل أهذه حال المسلم والإسلام هو الاستسلام لله ظاهرا وباطنا والانقياد لطاعته، أفيريد هؤلاء أن تكون أحكام الله وشرائعه تابعة لأغراضهم، وما يشتهون؟ أم يريدون أن يكونوا ممن قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، فإن شر الدواب عند الله الصم البكم الذي لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهو معرضون. أفيرضى هؤلاء أن يشابهوا من قال الله فيهم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46] وأن يخرجوا عن طريق المؤمنين الذين قالوا: سمعنا، وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، أفلا يتعظ هؤلاء بقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] ؟ أيها الناس كثير منكم يسمعون أوامر الله ورسوله في الصلاة، وما يتعلق بها وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج وفي بر الوالدين وفي صلة الأرحام (الأقارب) وفي حسن الجوار وفي العدل في معاملة الناس، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسمعون أوامر الله تعالى في ذلك عليه، ويسمعون التوجيهات الشرعية في البيع والإجارة والنكاح والطلاق والخصومات وغيرها، ويتجاهلون كل ما يسمعون من تلك الأوامر وهذه التوجيهات، ويسيرون على ما تمليه عليه أهواؤهم، فيكونون في ذلك مما اتخذ إلهه هواه. وكثير منكم يسمعون نواهي الله ورسوله عن التهاون بشأن الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويسمعون نهي الله ورسوله عن عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وإساءة الجوار في معاملة الناس بالكذب والغش وغيرها وعن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الربا والتحيل عليه وعن الميسر والمكاسب المحرمة بجميع وسائلها يسمعون النهي عن ذلك كله، ويتجاهلون ما يسمعون، ويتجاسرون على فعل ما عنه يزجرون متناسين بذلك عظمة من عصوه وشدة عقابه كأنهم لم يقرؤا قول الله تعالى

: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13] مغترين بإمهال الله لهم، واستدراجه إياهم بنعمة كأنهم لم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] إن هؤلاء الذين يسمعون الحق، ويعرضون عنه محرومون من قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] ولهم نصيب من قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 124 - 126] فيا أيها الناس يا عباد الله اتقوا ربكم اخضعوا لأوامره، وإن خالفت أهواءكم، واجتنبوا نواهيه، وإن وافقت أهواءكم لا تريدوا أن تجعلوا الحق تابعا لأهوائكم، بل اجعلوا أهواءكم تبعا للحق وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الخير والبركة والصلاح والرشد: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] لو اتبع الحق أهواء الناس لصارت أمورهم فوضى، كل واحد يريد أن يستقل برأيه، ويكون متبوعا، ولكن الله تولى بيان ذلك في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] اللهم اجعلنا ممن اختاروا هداهم على هواهم، ورضوا بشريعتك، واطمأنوا بها، وانشرحت لها صدورهم، فلم يبغوا عنها حولا، ولم يرضوا بها بديلا، اللهم أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم لا تجعلنا ممن زين له سوء عمله، فرآه حسنا، فأصبح من الخاسرين أعمالا، الضالين طريقا، واهدنا صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنك جواد كريم.

القسم الرابع في الفقه

[القسم الرابع في الفقه] [الفرع الأول في الصلاة] [الخطبة الأولى في فضل الصلاة وكفر تاركها] القسم الرابع في الفقه وهو فروع الفرع الأول في الصلاة الخطبة الأولى في فضل الصلاة وكفر تاركها الحمد لله الذي فرض الفرائض على عباده من غير فقر إليهم، ولا احتياج، وأعطى القائمين بها أكمل الأجر وأفضل الثواب، وعاقب المعرضين عنها والمفرطين فيها بما يستحقونه من العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من غير شك ولا ارتياب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعباد، أتم الله به النعمة على المؤمنين، وأصلح به أحوال الدنيا والدين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى رضي لكم دينا لم يرض لكم دينا سواه، رضي لكم الإسلام ومن يتبع غير الإسلام، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. رضي لكم الإسلام، وهو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له ظاهرا وباطنا في العقيدة والقول والعمل، ليس الإسلام عقيدة فحسب، ولكن الإسلام عقيدة، وقول، وعمل، إن الإسلام كما لا يكون بالعمل وحده لا يكون كذلك بالعقيدة وحدها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام» . يقول: بني الإسلام، ومعنى ذلك أن هذه الأصول هي دعائم الإسلام التي لا يمكن أن يقوم إلا بها، كما لا يقوم البناء إلا بأساسه. أيها الناس من هذا الحديث يتبين لنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام بل هي ركنه الأعظم بعد الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها عمود الدين حيث قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . هذه الصلاة التي فرضها الله على رسوله، وعلى أمته: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] كتابا أي: فريضة موقوتا، موقوتا بوقت لكل صلاة وقتها التي لا تصح إلا فيه إلا أن يكون، ثم عذر الصلاة التي فرضها الله على رسوله مباشرة بدون واسطة

فرضها عليه في أعلى مكان يصل إليه بشر، وفي أفضل وقت مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها عليه ليلة المعراج، وهو فوق السموات السبع، وفرضها أول ما فرضها على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وهذا دليل واضح على محبة الله لها وعنايته بها، وأنها جديرة بأن يستوعب المسلم فيها جزءا كبيرا من وقته؛ لأنها الصلة بينه وبين ربه وخالقه يجد فيها راحة نفسه وطمأنينة قلبه، ولذلك كانت قرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم فرضها الله على عباده خمسين صلاة في كل يوم وليلة ولكنه تبارك وتعالى خفف عنهم، فكانت خمسا بالفعل وخمسين في الميزان، ففي هذه الخمس مصالح الخمسين وثواب الخمسين. أفلا تشكرون أيها المسلمون ربكم على هذه النعمة الكبيرة التي أولاكم بها، وتقومون بواجبها، فتؤدونها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم تكملونها بمكملاتها؟ أيها المسلمون إن الصلاة صلة بينكم وبين ربكم، فالمصلي إذا قام في صلاته، استقبله الله بوجهه، فإذا قرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قرأ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قال الله: مجدني عبدي، وإذا قرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قال هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قرأ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] الخ) ، قال الله تعالى: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل. أفتجد أيها المسلم صلة أقوى من تلك الصلة؟ يجيبك ربك على قراءتك آية آية وهو، فوق عرشه، وأنت في أرضه؛ عناية بصلاتك، وتحقيقا لصلاتك. ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا صلاها على الوجه الذي أمر به؛ لأنه اصطبغ بتلك الصلة التي حصلت له مع ربه، فقوي إيمانه، واستنار قلبه، وتهذبت أخلاقه. أيها المسلمون، إن من حافظ على الصلوات، وأداها على الوجه المشروع كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ولقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلوات الخمس بنهر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم وليلة خمس مرات، فهل يبقى بعد هذا الاغتسال من وسخه شيء، كلا. فهذه الصلوات الخمس تغسل الذنوب عن المصلي غسلا، فيكون نقيا بها من الذنوب فهي كفارة لما بينهن من الذنوب ما اجتنبت الكبائر. أيها المسلمون إن ما ذكرناه من هذه الفضائل للصلوات الخمس ليس على سبيل

الاستيعاب، ولكنه قليل من كثير. ومن عجب أن يجهل قوم من المسلمين قدر هذه الصلوات، أو يتجاهلوه، ويتغافلوا عنه حتى كانت الصلاة في أعينهم من أزهد الأعمال وأقلها قدرا، وصاروا لا يقيمون لها وزنا في حساب أعمالهم، ولا يبذلون لها وقتا من ساعات أعمارهم لا بل ربما يسخر بعض منهم بها، فيتخذونها سخربة وهزوا ولعبا، ويسخر ممن يصليها نسأل الله السلامة، فأي دين يا عباد الله لهذا؟ أي دين يا عباد الله لشخص يدع هذا العمل يدع الصلاة مع يسر عملها وقلة ما تشغل من وقت وكثرة ثوابها وعظم مصالحها ومنافعها على القلب والبدن والفرد والجماعة، والقول والعمل؟ فهي عون للمرء على عمله كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر قام إلى الصلاة. أي دين لشخص يدع الصلاة، وهي التي جاء الوعيد في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على من تهاون بها، أو تغافل عنها؟ قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 59 - 60] وهذه الآية ظاهرة في أن من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، فليس بمؤمن؛ لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم: 60] وقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يحافظ على هذه الصلوات، فليس له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، ويحشر مع أئمة الكفر فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف. فأي دين لشخص يدع الصلاة وهو يؤمن بهذا الوعيد على مضيعها والغافل عنها. قد يقول أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ وردنا على هذا أن نقول: قولك هذا لا يكفيك عند الله حتى تستسلم، وتنقاد لشريعة الله تعالى، فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. ونقول له: المنافقون يقولون: لا إله إلا الله {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] والمنافقون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءوا إليه: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] والمنافقون يصلون {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] أفترى أنهم كانوا مسلمين وناجين من النار؟ لا، استمع قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] وإذا أراد أن يجادل، ويلبس، فإن لدينا نصا صريحا في كفر تارك الصلاة، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» . وقال: «العهد الذي بيننا وبينهم

الصلاة، فمن تركها، فقد كفر» . وقال عبد الله بن شقيق كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وهذا الكفر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه الصحابة رضي الله عنهم ليس كفر نعمة كما قال بعضهم، ولا أنه خصلة من خصال الكفر كما قاله آخرون، ولكنه الكفر الأكبر المخرج عن دين الإسلام. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكفر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية وفرق بين (الكفر) المعرف باللام يعني الدال على الكفر المطلق وبين (كفر) المنكر في الإثبات. ولنا دليل مركب من دليلين على أن تارك الصلاة كافر كفرا أكبر مخرجا عن الملة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن منازعة ولاة الأمور أمرهم قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» . وقال صلى الله عليه وسلم: «شرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، قالوا يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة» . ومن هذين الدليلين نأخذ أن ترك الصلاة يبيح منابذة الأئمة، فيكون كفرا بواحا. فترك الصلاة ردة عن الإسلام، وكفر بالله والردة عن الإسلام لها أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة. أما أحكام الدنيا، فإن المرتد ينفسخ نكاحه من زوجته، وتحل لغيره، ويكون استمتاعه بها استمتاعا بامرأة أجنبية منه وأولاده منها بعد ردته ليسوا أولادا شرعيين، ويجب قتله إذا استمر على ردته، ولا يغسل؛ لأنه لا يطهره الماء، وهو كافر، ولا يصلى عليه، ولا يستغفر له، ولا يدعى له بالرحمة، ولا يدفن مع المسلمين، ويكون ماله في بيت مال المسلمين لا يرثه أقاربه، وأما أحكام الآخرة، فإنه يحرمك دخول الجنة، ويدخل النار خالدا فيها أبدا. فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على صلواتكم، فماذا يبقى من دينكم إذا ضيعتموها، فإن آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. قال الإمام أحمد: كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء. اللهم اجعلنا مقيمي الصلاة، ومن علينا بالتوفيق لما تحب، وترضى يا جزيل الهبات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الصلاة

[الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الصلاة] الخطبة الثانية في التحذير من إضاعة الصلاة الحمد لله الذي جعل الصلاة عمادا للدين وقرة عين للمؤمنين ونجاة للعاملين انشرحت بها صدور أولياء الله، وضاقت بها صدور أعداء الله، فهي روضة من رياض العمل الصالح متعة للنفوس وطهرة للقلوب، فسبحان من فاوت بين عباده بمحبتها وإقامتها، فهذا محب لها قائم بها على الوجه المرضي لله، وذلك معرض عنها مضيع لها خاسر دينه ودنياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين، حافظوا على الصلوات، وأقيموها، ودوموا عليها، ولازموها، واعتنوا بحدودها وحقوقها، ولا تضيعوها. حافظوا على الصلاة، فإنها أكبر أركان دينكم بعد الشهادتين، فلقد بني الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام. حافظوا على الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وذلك لما يحصل للقلب بها من النور والبرهان الذي سيكون سببا للبعد عن الفحشاء والمنكر، حافظوا على الصلاة، فإنها صلة بين العبد وبين ربه، فإن المصلي قائم بين يدي الله يناجي ربه بكلامه، وذكره ودعائه، والخضوع له، والتعظيم قيام وقعود وركوع وسجود وقراءة وذكر وتسبيح ودعاء، فهي روضة عبادات منوعة من كل عبادة فيها زوجان حافزوا على الصلاة، فإنها تكفير لسيئاتكم، وتطهير من ذنوبكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم «الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. حافظوا على الصلوات، فإن من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله دخل الجنة» . حافظوا على الصلوات أيها المسلمون، فإن الصلاة نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور يوم القيامة. عباد الله لا تضيعوا الصلاة، فتكونوا ممن قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] أضاعوا الصلاة، وأهملوها، فأما شهوات

أبدانهم، فحافظوا عليها، واتبعوها. يضيعون الصلاة لحطام من الدنيا لا يبقى لهم، ولا يبقون له، والصلاة هي التي تبقى لهم، ويجدونها أمامهم، أو يضيعون الصلاة لراحة أبدانهم بالنوم، ولم يعلموا أن راحة أبدانهم التي يضيعون بها ما أوجب الله عليهم سوف تكون تعبا وعذابا عليهم يوم القيامة في يوم يود المجرم فيه لو يفتدي من عذابه ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه، لا تضيعوا الصلاة فإن الصلاة هي العهد التي بين العبد وبين الكفر، فمن تركها فهو كافر، أي دين له إذا ترك الصلاة؟ أي عبادة وأي خضوع لله وقد ترك صلاة وقتها قصير وعملها يسير وفضلها كثير؟ إذا ترك هذا العمل مع سهولته، وقلة زمنه، وكثرة فضله، فأي عمل يرجى أن يقوم به بعد ذلك؟ فآخر ما يفقده الإنسان من دينه الصلاة. أيها المسلمون أيها المؤمنون بالله ورسوله، حافظوا على صلواتكم، ولا تضيعوها، فإنها عون لكم على أمور دينكم ودنياكم: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] قال ابن مسعود رضي الله عنه من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. أيها المسلمون إن من المؤسف والخطأ أن يتمتع الإنسان بنعم الله قائما وقاعدا ونائما ويقظا، يتمتع بالأمن والرخاء ووفور المال والولد والأخلاء، ثم لا يقوم بشكر الله، ولا يخضع لأوامر الله ينام إلى الضحى لا يصلي الفجر، ويسمع النداء، فلا يقوم إلى المسجد. وإن هذا لو دعي إلى حطام من الدنيا لأجاب، ولو وعد بشيء زهيد لما نام عنه، ولا غاب. اللهم ارزقنا القيام بطاعتك على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

الخطبة الثالثة فيما يتهاون به بعض الناس من شؤون الصلاة

[الخطبة الثالثة فيما يتهاون به بعض الناس من شؤون الصلاة] الخطبة الثالثة فيما يتهاون به بعض الناس من شؤون الصلاة الحمد لله الذي أحكم ما شرعه، وأتقن ما صنعه، حد لعباده الحدود، وشرع لهم الشرائع، وبين لهم كل ما يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا، فسبحانه من رب رحيم وإله حكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله فرض عليكم فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها. فرض عليكم الفرائض لتصلوا بها إلى أسمى الغايات، وأعلى الدرجات في روضات الجنات، ولتنجوا بها من عذاب النار، والهلكات. فرض عليكم الصلوات الخمس، وأمركم بإقامتها، والمحافظة عليها، فأدوها كما أمرتم أدوها بشروطها وأركانها وواجباتها وأكملوها بمستحباتها، ولا تتهاونوا بها، فتكونوا من الخاسرين. أيها الناس، إن كثيرا من المسلمين يتهاونون في صلاتهم، فلا يؤدونها في الوقت المحدد لها. فوقت الظهر من زوال الشمس، وهو تجاوزها لوسط السماء، وعلامته ابتداء زيادة الظل بعد انتهاء قصره يمتد وقتها من الزوال إلى دخول وقت العصر وذلك بأن يكون ظل الشيء مساويا له من ابتداء ظل الزوال، وينتهي وقت العصر باصفرار الشمس في حال الاختيار وبغروب الشمس في حال الضرورة، ثم يدخل وقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر حوالي ساعة ونصف من الغروب، ثم يدخل وقت العشاء إلى نصف الليل. أربع صلوات أوقاتها متوالية لا فصل بينها كلما خرج وقت صلاة دخل وقت أخرى. ووقت الفجر من طلوع الفجر الصادق، وهو البياض المعترض في الأفق على طلوع الشمس، وهي منفصلة عن بقية الصلوات بينها وبين العشاء من نصف الليل إلى طلوع الفجر وبينها وبين الظهر من طلوع الشمس إلى زوالها. قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وهذه تستوعب أوقات الصلوات الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم فصل، وقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] يعني صلاة الفجر سماها الله قرآنا لطول القراءة فيها: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]

فلا يحل للمسلم أن يقدم من صلاته جزءا قبل الوقت، ولا أن يؤخر منها جزءا بعده، فكيف بمن يؤخرون جميع الصلاة عن وقتها كسلا وتهاونا وإيثارا للدنيا على الآخرة، ويتنعمون بنومهم على فراشهم، ويتمتعون بلهوهم، ومكاسبهم كأنما خلقوا للدنيا، كأنهم لا يقرءون القرآن كأنهم لا يقرءون قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] وكأنهم لا يقرءون: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59 - 60] كأني بهم لم تبلغهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في وعيد من أضاع الصلاة، أو لم يبالوا بذلك لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله» . أي: كأنما أصيب بفقد أهله وماله، فسبحان الله! ما أعظم الأمر! وما أفدح الخسارة الذي تفوته صلاة العصر! كأنما فقد أهله، وماله، فأصبح أعزب بعد التأهل وفقيرا بعد الغنى، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينطق عن الهوى، تصوروا لو أن شخصا من بيننا كان له أموال وأهل، وكان مسرورا في ماله وبين أهله، ثم أصيب بجائحة أتلفت أمواله، وأهلكت أهله، فماذا تكون حالة الناس بالنسبة له؟ إنهم لا بد أن يرحموه، ولا بد أن يواسوه في هذه المصيبة، ويقدمون له أنواع العزاء ومع ذلك، وللأسف الشديد نرى كثيرا من الناس تفوتهم صلاة العصر وصلوات أخرى كثيرة، ولا يحزنون لذلك، ولا يبالون بما حدث، وإخوانهم المسلمون يشاهدونهم على ذلك، فلا يرحمونهم، ولا يخوفونهم من عذاب الله وعقابه الذي يعمهم جميعا إذا لم يقوموا بما أوجب الله عليهم. وكثير من المصلين يتهاونون بستر العورة وقد قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قال العلماء محددين للعورة: عورة الرجل كل ما بين السرة والركبة، وعورة المرأة البالغة جميع بدنها ما عدا الوجه فإنه عورة في النظر وليس عورة في الصلاة، فلا يجب عليها أن تستره في الصلاة إلا أن يراها رجل غير زوج، ولا محرم، فيجب عليها ستره حينئذ من أجل أن لا ينظر إليها لا من أجل الصلاة. فاتقوا الله عباد الله، وتستروا في الصلاة بثوب مباح طاهر لا يصف لون الجلد من ورائه، واحذروا التهاون في ذلك، فإن كثيرا من المترفين يلبسون ثيابا ناعمة رهيفة أو صافية لا تستر؛ لأن لون الجلد يبين من ورائها، وليس عليهم إلا سراويل قصيرة لا تصل إلى الركبة، فيبين لون

الفخذ من تحت الثوب وهؤلاء لم يأتوا بواجب الستر الذي هو من شروط الصلاة، فعليهم أن يطولوا السراويل من السرة إلى الركبة ليستروا بذلك عورتهم. وإن مما يتهاون به بعض الناس الخشوع في الصلاة وهو حضور القلب وسكون الأعضاء، فأما حضور القلب فكثير من الناس من حين ما يدخل في الصلاة يبدأ قلبه يتجول يمينا وشمالا في التفكير والهواجيس، ومن عجب أنه كان لا يفكر في هذه الأمور قبل أن يدخل في الصلاة، وأعجب من ذلك أنها أمور لا فائدة منها غالبا، فهي لا تهمه في شؤون دينه ولا دنياه، ولكن الشيطان يجلبها إليه ليفسد عليه صلاته، ولهذا تجده يخرج من صلاته، وما استنار بها قلبه، ولا قرت بها عينه، ولا انشرح بها صدره، ولا قوي بها إيمانه؛ لأنها صارت عبارة عن حركات كحركات الآلة الأتوماتيكية. وإن هذه الداء أعني الهواجيس في الصلاة لداء مستفحل ومرض منتشر ليس بين عامة الناس ولكن بين عامة الناس وخواصهم حتى ذوي العلم والعبادة، إلا من شاء الله تعالى، ولكن لكل داء دواء، ولله الحمد، فإذا أحس الإنسان بذلك، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليستحضر أنه بين يدي الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وليتدبر ما يقول في صلاته، وما يفعل، فلعل الله أن يذهب عنه ما يجد. وأما سكون الجوارح فكثير من المصلين لا تسكن جوارحه، تجده يعبث بيديه أو رجليه أو عينيه أو رأسه، يحرك يده ينظر إلى ساعته يعبث في لحيته يقدم رجله، ويردها يرفع بصره إلى السماء، ورفع البصر إلى السماء في الصلاة ينافي الآدب مع الله، ولذلك كان حراما، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرا بالغا، وقال فيه قولا شديد، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم» ، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: «لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم» . فاتقوا الله عباد الله، واحذروا أن تتعرضوا لعقوبة الله. أما الحركة التي لمصلحة الصلاة، فهذه لا بأس بها بل هي مطلوبة، ولذلك أخر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما حينما صلى معه، فوقف على يساره، فأخذ برأسه من ورائه، فجعله عن يمينه. فإذا تحرك المصلي لتعديل الصف أو للقرب منه أو للدخول في الصف المقابل له، أو جر أخاه لسد الخلل بينهما، فكل ذلك جائز بل مطلوب؛ لأنه من تكميل الصلاة. فاتق الله أيها المسلم في صلاتك اتخذها عبادة لا عادة، اخشع فيها لربك، وأحضر قلبك

وأسكن جوارحك، فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] وفقني الله وإياكم للقيام بعبادته والإخلاص له والمتابعة لرسوله، ووقانا من الزيغ والفتن إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة الرابعة في صفة الصلاة

[الخطبة الرابعة في صفة الصلاة] الخطبة الرابعة في صفة الصلاة الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وأقيموا الصلاة، فإن الصلاة عمود دينكم، ولن يقوم البنيان بدون عموده، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، أقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا. أقيموا الصلاة كما أمرتم صلوا كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسبغوا الوضوء، واستقبلوا القبلة، قوموا لله مخلصين، فاستقبلوا وجهه بقلوبكم وبيته بأبدانكم، واعلموا أن الله قبل وجه المصلي، اطمئنوا في صلاتكم، لا تصلوها وأنتم عجالى، فلا صلاة بدون طمأنينة. «دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء، فسلم على النبي، فرد عليه السلام، وقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل ". فرجع، فصلى كصلاته الأولى، ثم جاء، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل ". ثلاثا ردده النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا لعله يقيم صلاته، ولأجل أن يزداد شغفه بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قمت للصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» . أيها المسلمون إن من صلى بدون طمأنينة فلا صلاة له، وإن صلى مئة مرة، كما قال رسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: «ارجع فصل فإنك لم تصل» . اقرأوا الفاتحة في كل ركعة، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، واقرأوا معها في الفجر سورة من طول المفصل وفي المغرب من قصاره أحيانا ومن طواله أيضا، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما قرأ في المغرب بسورة طويلة قرأ مرة بالأعراف، ومرة بالصافات، ومرة بحم الدخان، ومرة بسورة محمد، ومرة بالمرسلات. واقرأوا في الظهر والعصر والعشاء الآخرة من أوساط المفصل.

طوال المفصل من ق إلى عم وأوساطه من عم إلى الضحى، وقصاره من الضحى إلى آخر القرآن. ارفعوا أيديكم عند تكبيرة الإحرام إلى المناكب أو إلى الأذنين، ثم ضعوا اليمنى على مفصل كف اليسرى بعد التكبير على صدوركم، وانظروا موضع سجودكم، ولا تلتفتوا في الصلاة، ولا ترفعوا أبصاركم إلى السماء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء، أو لا ترجع إليهم» . استفتحوا الصلاة بعد ذلك، فقولوا: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. أو قولوا: سبحانك اللهم وبحمدك. . إلى آخره. تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، ثم اقراوا الفاتحة والسورة، ثم اركعوا مكبرين، وارفعوا أيديكم عند الركوع وضعوها على ركبكم مفرقة الأصابع، وجافوها عن جنوبكم، واعتدلوا في ركوعكم، فسووا ظهوركم، وساووها مع رؤوسكم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يسوي ظهره ورأسه، لا ينزل رأسه، ولا يرفعه، وعظموا ربكم في ركوعكم، فقولوا: سبحان ربي العظيم، وكرروا ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في ركوعه وسجوده من قوله: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، ارفعوا من الركوع، قائلين: سمع الله لمن حمده، ورافعين أيديكم إلى المناكب أو إلى الأذنين، وبعد القيام قولوا: اللهم ربنا لك ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. والمأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد ". ثم اسجدوا مكبرين، ولا ترفعوا أيديكم عند السجود، اسجدوا على الأعضاء السبعة الجبهة مع الأنف واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ضعوا أيديكم حال السجود على الأرض وأصابعها نحو القبلة مضموما بعضها إلى بعض محاذية لمكان الجبهة والأنف، أو محاذية للمنكب اعتدلوا في سجودكم، فارفعوا البطون عن الفخذين والفخذين عن الساقين، ونحوا اليدين عن الجنبين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينحيها حتى يرى بياض إبطه، إلا إذا كان الإنسان مأموما، فإنه لا ينحيها إذا كان يؤذي من بجنبه، وارفعوا الذراعين عن الأرض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بسطها على الأرض، وقولوا: سبحان ربي الأعلى

وكرروها، وقولوا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، ولا تسجدوا على لباس عليكم من ثوب، أو مشلح، أو غترة، إلا لحاجة كشدة حرارة الأرض، وخشونتها أو نحو ذلك، ثم ارفعوا من السجود مكبرين، واجلسوا على قدم الرجل اليسرى، وانصبوا قدم الرجل اليمنى، وضعوا اليد اليمنى على فخذ الرجل اليمنى، أو على ركبتها، وضموا منها الخنصر والبنصر، وحلقوا إبهامها مع الوسطى، وحركوا السبابة عند الدعاء، وضعوا اليد اليسرى على فخد الرجل اليسرى أو ركبتها مضمومة أصابعها إلى بعض، وقولوا: ربي اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني، ثم اسجدوا السجدة الثانية مكبرين، واصنعوا كما صنعتم في السجدة الأولى قولا وفعلا، ثم صلوا الركعة الثانية بدون استفتاح، ولا تعوذ كالركعة الأولى، ثم اجلسوا للتشهد، واصنعوا في جلوسكم كما فعلتم في الجلوس بين السجدتين، وقولوا: التحيات لله والصلوات. . الخ. فإن كانت الصلاة ركعتين، فأكملوا التشهد، وسلموا على اليمين السلام عليكم ورحمة الله، وإن زدتم وبركاته، فلا بأس، وسلموا على اليسار: السلام عليكم ورحمة الله، وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين، فقوموا بعد التشهد الأول مكبرين، وارفعوا أيديكم عند القيام، وصلوا ما بقي من صلاتكم على صفة ما سبق في الركعة الثانية، إلا أنكم تقتصرون على الفاتحة، وتجلسون للتشهد الأخير متوركين بأن تنصبوا قدم الرجل اليمنى، وتخرجوا الرجل اليسرى من تحت ساقها، وتستقروا على الأرض. أيها المسلمون هذه صفة الصلاة، فأقيموها، وأتقنوها لعلكم تفلحون فقد قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11] بارك الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الخامسة في الحث على إقامة الصلاة مع الجماعة

[الخطبة الخامسة في الحث على إقامة الصلاة مع الجماعة] الخطبة الخامسة في الحث على إقامة الصلاة مع الجماعة الحمد لله الذي فرض الصلاة على عباده رحمة بهم وإحسانا، وجعلها صلة بينه وبينهم ليزدادوا بذلك إيمانا، وكررها كل يوم حتى لا يحصل لهم الجفاء، ويسرها عليهم حتى لا يحصل لهم التعب والعناء، وأجزل لهم ثوابها، فكانت بالفعل خمسا، وبالثواب خمسين فضلا منه وامتنانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالقنا، ومولانا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أخشى الناس لربه سرا، وإعلانا الذي جعل الله قرة عينه في الصلاة، فنعم العمل الصلاة لمن أراد به فضلا، ورضوانا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين، عباد الله: إن الصلاة عمود دينكم وقوامه، فلا دين لمن لا صلاة له، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. إقامة الصلاة إيمان، وتركها كفر من حافظ عليها كانت له نورا في قلبه، ونورا في وجهه، ونورا في قبره، ونورا في حشره، وكانت له نجاة يوم القيامة، وحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف. أيها المسلمون، كيف تضيعون الصلاة وهي الصلة بينكم وبين ربكم إذا لم يكن بينكم وبين ربكم صلة، فأين العبودية، وأين المحبة لله والخضوع له؟ لقد خاب، وخسر قوم إذا سمعوا داعي الدنيا وزهرتها لبوا له سراعا، وإذا سمعوا منادي الله يدعو: حي على الصلاة حي على الفلاح تثاقلوا عنه، وولوا أدبارا. أيها المسلمون ألم تعلموا أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. يا أمة محمد أقيموا صلاتكم ما دمتم في زمن المهلة تعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، فإن من ينسى الله نسيه، ومن أضاع أمره أضاعه. يا أمة محمد من منكم عنده أمان من الموت حتى يتوب، ويصلي أليس كل منكم يخشى الموت ولا يدري متى يأتيه؟ لا يدري أيصبحه أم يمسيه؟ ألم يكن الموت يأخذ الناس بغتة وهم لا يشعرون؟ أما هجم على أناس

في دنياهم غافلون؟ أما بغت أناسا خرجوا من بيوتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون؟ فمن منكم أعطي أمانا أن لا تكون حاله كحال هؤلاء؟ أيها المسلمون، وماذا بعد الموت الذي لا تدرون متى يفاجئكم؟ إنه ليس بعده عمل، ولا استعتاب ليس بعده سوى الجزاء على العمل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] أيها المسلمون، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل عليه من ربه إن مما أوجب الله عليكم في صلاتكم أن تؤدوها في المساجد في جماعة المسلمين: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] هذه هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يلقى الله غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدي، وإنهن من سنن الهدي، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر، فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. أيها المسلمون إن الصلاة مع الجماعة في المساجد من واجبات صلاتكم، ومن إقامتها والمحافظة عليها، المصلي مع الجماعة قائم بما فرض الله عليه والمتخلف عن الجماعة، بلا عذر عاص لربه مخاطر بصلاته، فإن من علماء المسلمين من يقول عن من ترك الصلاة مع الجماعة بدون عذر: فصلاته باطلة، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقاله الإمام أحمد في رواية عنه: المصلي مع الجماعة هو الكيس الحازم الحائز للغنيمة، فإن الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، والمتخلف عن الجماعة بلا عذر كسول مهمل محروم تشبه حاله حال المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وقال فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، والذي نفس محمد بيده لو يجد أحدهم عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» . أقسم

النبي صلى الله عليه وسلم بأن الواحد من هؤلاء المنافقين المتخلفين عن الجماعة لو وجد شيئا زهيدا من الدنيا لحضر الصلاة، وإن كثيرا من المتخلفين عن الجماعة لو كان له شغل من الدنيا وقت طلوع الفجر مثلا لوجدته حريصا عليه حاضرا في وقته. الصلاة مع الجماعة نشاط وطمأنينة، والتخلف عنها كسل وإسراع بها غالبا بدون طمأنينة ينقرها المصلي نقر الغراب، وربما أخرها عن وقتها. صلاة الجماعة تجلب المودة والألفة، وتنير المساجد بذكر الله، وتظهر بها شعائر الإسلام. في صلاة الجماعة تعليم الجاهل وتذكير الغافل ومصالح كثيرة. أرأيتم لو لم تكن الجماعة مشروعة، وحاش لله أن يكون ذلك، فماذا تكون حال المسلمين؟ الأمة متفرقة، والمساجد مغلقة، وليس للأمة مظهر جماعي في دينهم، ومن أجل ذلك كان من حكمة الله ورحمته أن أوجبها على المسلمين، فاشكروا الله أيها المسلمون على هذه النعمة، وقوموا بهذا الواجب، واستحيوا من ربكم أن يفقدكم حيث أمركم، واحذروا عقابه ونقمته أن يجدكم حيث نهاكم. أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وجمعنا في هذه الدنيا على طاعته وفي الأخرى في دار كرامته، وهدانا صراطه المستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة السادسة في مسؤولية الإمام والمأموم

[الخطبة السادسة في مسؤولية الإمام والمأموم] الخطبة السادسة في مسؤولية الإمام والمأموم إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وتعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله لتعبدوا ربكم على بصيرة وبرهان، فإنه لا يستوي الذين يعلمون لا يستوي من يعبد الله، وهو يعلم كيف يعبده، ويعلم أنه يعبده على شريعة الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يعبده، وهو يجهل ذلك، ومتى علمتم حدود ما أنزل الله، فاتقوا الله في التزامها ما استطعتم، وطبقوها كما علمتم: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم أو انتقاد منتقد: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13] أيها الناس إن من حدود ما أنزل الله على رسوله حدود صلاة الجماعة حيث حد للإمام فيها والمأموم ما لم يكن محدودا في حالة الانفراد، وكل واحد منهما مسؤول عما يختص به. فمن مسؤوليات الإمام أن يحرص على إكمال الصلاة. بحيث تكون مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضي الله عنهم، فإنها أتم صلاة، وأخفها كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه «ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، فالإمام لو صلى وحده لكان له الخيار بين أن يقتصر على أقل واجب في الصلاة، وبين أن يفعل أعلى مطلوب فيها، ولكنه إذا صلى بالجماعة، لم يكن مخيرا في ذلك، بل يجب عليه أن يراعي من خلفه بحيث يتمكنون من فعل أدنى الكمال في صلاتهم؛ لأنه لا يصلي لنفسه فحسب، وإنما يصلي لنفسه ولمن خلفه، فليتق الله فيهم، ولا يحرمهم من فعل أدنى الكمال خلفه، وإن ترقى إلى أن تكون صلاته كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو أكمل وأطيب. ومن مسؤوليات الإمام أيضا أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها بالقول وبالفعل إذا لم يفد القول. فيأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها، ويؤكد ذلك عليهم، ويتوعدهم على مخالفتها، ويسويها بيده إن لم ينفع ذلك كما كان نبينا وإمامنا وقدوتنا يفعل ذلك، فعن أنس بن مالك

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» . متفق عليه وللبخاري من إقامة الصلاة، ولأبي داود «رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق» ، وله من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات الشيطان» يعني الفضاء بين الرجلين، فإن الشيطان يدخل فيه من بين أهل الصف، قال صلى الله عليه وسلم: «ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله» . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: " أقيموا صفوفكم، وتراصوا» . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا، حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رآنا أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما، فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقال: عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن بين وجوهكم» . أي: بين قلوبكم كما في رواية لأبي داود، وهذا وعيد شديد على من لا يسوون الصفوف أن يخالف الله بين قلوبهم، فتختلف وجهات نظرهم، وتضيع مصالحهم بسبب اختلافهم، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا، ومناكبنا، ويقول: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» . وقال النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي - يعني صفوفنا - إذا قمنا للصلاة، فإذا استوينا كبر ". رواهما أبو داود، فانظروا قوله: فإذا استوينا كبر هذه الجملة الشرطية تجدوها صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم لا يكبر للصلاة، حتى تستوي الصفوف، ولقد أدرك ذلك الخلفاء الراشدون والأئمة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الموطأ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يأمر بتسوية الصف، فإذا جاؤه، فأخبروه أن قد استوت كبر، وكان قد وكل رجالا بتسوية الصفوف، وقال مالك بن أبي عامر كنت مع عثمان بن عفان، فقامت الصلاة، وأنا أكلمه يعني في حاجة حتى جاء رجال كان قد وكلهم بتسوية الصفوف، فأخبروه أن الصفوف قد استوت، فقال لي: استو في الصف، ثم كبر، فهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لا يكبرون للصلاة حتى تستوي الصفوف، أفليس من الجدير بنا أن يكون لنا فيهم أسوة أن نأمر بتسوية الصفوف وإقامتها، وأن ننتظر، فلا نكبر للصلاة حتى نراهم قد استووا على الوجه المطلوب، وأن لا نخشى في ذلك لومة لائم، أو تضجر متضجر؟ لكن مع الأسف أن كثيرا من الأئمة فتح الله علينا

وعليهم لا يولي هذا الأمر عناية، وغاية ما عنده أن يقولها كلمة على العادة استووا اعتدلوا، فلا يشعر نفسه بالمقصود منها لا يبال من خلفه بها، ولا يأتمرون بها، تجده يقول ذلك، وهم باقون على اعوجاجهم، وتباعد بعضهم من بعض، ولو أن الإمام شعر بالمقصود، ونظر إلى الصفوف بعينه، وانتظر حتى يراهم قد استووا استواء كاملا، ثم كبر لبرئت ذمته وخرج من المسؤولية. هذه بعض من مسؤوليات الإمام في إمامته. أما المأموم، فإنه لو كان يصلي وحده لكان مخيرا بين أن يقتصر على أدنى واجب في صلاته، أو أن يطول فيها، ولكنه إذا كان مع الإمام، فقد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه، فلا يجوز أن يتقدم على الإمام بالتكبير، ولا القيام ولا القعود ولا الركوع ولا السجود، ولا يأتي بذلك مع الإمام أيضا، وإنما يأتي به بعده متابعا له، فلا يتأخر عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار؟» وقال أيضا: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا، فصلوا جلوسا أجمعون» . ومن مسؤوليات المأموم المحافظة على تسوية الصفوف، وأن يحذر من العقوبة على من لم يسوها، وأن يحافظ على المراصة فيها، وسد خللها، والمقاربة بينها، ووصلها بتكميل الأول فالأول، وأن يحذر من عقوبة قطع الصفوف، فإن من قطع صفا قطعه الله، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لو يعلم الناس ما في النداء (يعني الأذان) والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه (يعني يقترعوا عليه) لاستهموا» ، وقال: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص، فليكن في الصف المؤخر» . رواه أبو داود ورأى في أصحابه تأخرا، وفي لفظ: «رأى قوما في مؤخر المسجد، فقال: تقدموا، فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» . فهل ترضى أيها المسلم لنفسك أن تكون في شر الصفوف، وهو آخر الصفوف مع تمكنك من أولها؟ هل ترضى لنفسك أن تعرضها للعقوبة بالتأخر عن مقدم الصفوف، حتى يؤخرك الله في جميع مواقف الخير؟ هل ترضى لنفسك أن لا تصف بين يدي ربك كما تصف الملائكة عند ربها يتراصون في الصف، ويكملون الصفوف المقدمة؟ ما من إنسان يرضى لنفسه

بذلك إلا وقد رضي لها بالخسران، فتقدموا أيها المسلمون إلى الصفوف، وأكملوا الأول، فالأول، وتراصوا فيها، وتساووا بأيدي إخوانكم، إذا جذبوكم لتسوية الصف أو التراص فيها لتتموا صلاتكم، وتمتثلوا أمر نبيكم، وتقتفوا أثر سلفكم الصالح، ومن وجد الصف تاما، ولم يجد له مكانا فيه، فليصل خلفه، ولا حرج عليه، ومن صلى وحده خلف الصف، وهو يجد مكانا فيه، فلا صلاة له، وإذا اجتمع ثلاثة، فصلى بهم أحدهم، فليتقدم عليهم وإذا كانوا يصلون على بساط ونحوه لا يتسع لتقدم الإمام عليهم، فليصلوا صفا واحدا، ويكون الإمام بينهما مساويا لهما أحدهما عن يمينه، والثاني عن يساره، وإذا اجتمع اثنان، وأرادا الصلاة جماعة صلى الإمام عن يسار المأموم والمأموم عن يمينه مستويين لا يتقدم الإمام عن المأموم لا قليلا، ولا كثيرا. فاتقوا الله لعلكم تفلحون: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ - وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 132 - 136] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة السابعة في صلاة الكسوف

[الخطبة السابعة في صلاة الكسوف] الخطبة السابعة في صلاة الكسوف الحمد لله الملك القهار العظيم الجبار، خلق الشمس والقمر، وسخر الليل والنهار، وأجرى بقدرته السحاب يحمل بحار الأمطار، فسبحانه من إله عظيم، خضعت له الرقاب، ولانت لقوته الصعاب، توعد بالعقوبة من خرج عن طاعته: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، واشكروه على ما سخر لكم من مخلوقاته، فلقد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ - وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ - وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34] سخر لكم الشمس والقمر دائبين لتعلموا بمنازل القمر عدد السنين والحساب، ولتتنوع الثمار بمنازل الشمس بحسب الفصول والأزمان. سخرهما يسيران بنظام بديع وسير سريع {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] لا يختلفان علوا، ولا نزولا، ولا ينحرفان يمينا، ولا شمالا، ولا يتغيران تقدما، ولا تأخرا عما قدر الله تعالى لهما في ذلك: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88] فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال علمه وقدرته وبالغ حكمته وواسع رحمته، آيتان من آياته في عظمهما، آيتان من آياته في نورهما وإضاءتهما: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ - لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40] لقد أرجف الماديون بصانعي الأقمار الصناعية، وعظموهم، وأنزلوهم المنزلة العالية مع حقارة ما صنعوا، وخلله، وتلفه، وغفلوا عن تعظيم من خلق صانعي هذه الأقمار، وعلمهم كيف يصنعونها، وخلق لهم موادها، ويسرها لهم. غفلوا عن تعظيم من خلق الشمس والقمر دائبين

آناء الليل والنهار، وأعرضوا عن الفكر فيما فيهما من القدرة العظيمة والحكمة البالغة لذوي العقول والأبصار. إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله مخلوقان من مخلوقات الله، ينجليان بأمره، وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوف عباده من عاقبة معاصيهم ومخالفتهم كسفهما باختفاء ضوئهما كله أو بعضه إنذارا للعباد، وتذكيرا لهم لعلهم يحدثون توبة، فيقومون بما يجب عليهم من أوامر ربهم، ويبعدون عما حرم عليهم من نواهي الله عز وجل، ولذلك كثر الكسوف في هذا العصر، فلا تكاد تمضي السنة حتى يحدث كسوف في الشمس أو القمر أو فيهما جميعا، وذلك لكثرة المعاصي والفتن في هذا الزمن، فلقد انغمس أكثر الناس في شهوات الدنيا، ونسوا أهوال الآخرة، وأترفوا أبدانهم، وأتلفوا أديانهم أقبلوا على الأمور المادية المحسوسة، وأعرضوا عن الأمور الغيبية الموعودة التي هي المصير الحتمي والغاية الأكيدة: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60] أيها الناس إن كثيرا من أهل هذا العصر تهاونوا بأمر الكسوف، فلم يقيموا له وزنا، ولم يحرك منهم ساكنا، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وجهلهم بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمادهم على ما علم من أسباب الكسوف الطبيعية، وغفلتهم عن الأسباب الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يحدث الله الكسوف بأسبابه الطبيعية. فالكسوف له أسباب طبيعية يقر بها المؤمنون والكافرون، وله أسباب شرعية يقر بها المؤمنون، وينكرها الكافرون، ويتهاون بها ضعيفو الإيمان، فلا يقومون بما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق. لقد كسفت الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في آخر حياته في السنة العاشرة من الهجرة حين مات ابنه إبراهيم رضي الله عنه بعد أن ارتفعت بمقدار رمحين أو ثلاثة من الأفق، وذلك في يوم شديد الحر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعا إلى المسجد، وأمر ينادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالا ونساء، فقام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وصفوا خلفه، فكبر، وقرأ الفاتحة وسورة طويلة بقدر سورة البقرة يجهر بقراءته، ثم ركع طويلا جدا، ثم رفع، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنها أقصر من الأولى، ثم ركع ركوعا

طويلا دون الأول، ثم رفع، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا، ولك الحمد، وقام قياما طويلا نحو ركوعه، ثم سجد سجودا طويلا جدا نحوا من ركوعه، ثم رفع، وجلس جلوسا طويلا، ثم سجد سجودا طويلا، ثم قام إلى الركعة الثانية، فصنع مثل ما صنع لكنها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثم تشهد، وسلم، وقد تجلت الشمس، ثم خطب خطبة عظيمة بليغة، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد: فإن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى الصلاة، وإلى ذكر الله ودعائه، واستغفاره» . وفي رواية: «فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا، وصلوا حتى يفرج الله عنكم» . وفي رواية حتى ينجلي. وقال: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وايم الله - يعني والله - لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، ما من شيء لم أكن رأيته، إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار رأيت النار يحطم بعضها بعضا، فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع، ورأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه - يعني أمعاءه - ورأيت فيها امراة تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ولقد رأيتكم تفتنون في قبوركم، كفتنة الدجال يؤتى أحدكم، فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن، فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وآمنا، واتبعنا، فيقال: نم صالحا، فقد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق، أو المرتاب، فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا، فقلته» . " ثم ذكر الدجال، وقال: «لن تروا ذلك حتى تروا أمورا يتفاقم شأنها في أنفسكم، وتساءلوا بينكم هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا، وحتى تزول جبال عن مراتبها» . أيها المسلمون إن فزع النبي صلى الله عليه وسلم للكسوف، وصلاته هذه الصلاة، وعرض الجنة والنار عليه فيها، ورؤيته لكل ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة، ورؤيته الأمة تفتن في قبورها، وخطبته، والذكر، والدعاء، والاستغفار، والتكبير، والصدقة بل أمر بالعتق أيضا. لأن كل هذه لتدل على عظم الكسوف، وأن صلاة الكسوف مؤكدة جدا، حتى قال بعض العلماء: إنها واجبة، وأن من لم يصلها، فهو آثم، فصلوا أيها المسلمون رجالا ونساء عند كسوف الشمس أو القمر، كما صلى

نبيكم صلى الله عليه وسلم ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان بقراءة جهرية. ومن فاتته الصلاة مع الجماعة، فليقضها على صفتها، ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول، فقد أدرك الركعة، ومن فاته الركوع الأول، فقد فاتته الركعة؛ لأن الركوع الثاني لا تدرك به الركعة. وفقني الله وإياكم لتعظيمه، والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته، والانتفاع بها إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الفرع الثاني في اللباس

[الفرع الثاني في اللباس] [الخطبة الأولى فيما يحرم من اللباس] الفرع الثاني في اللباس الخطبة الأولى فيما يحرم من اللباس إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم عليكم بما أخرجه لكم من طيبات الرزق واللباس: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] لقد بين الله تعالى فوائد هذا اللباس بأنه زينة، ومواراة للسوأة أي: ستر للعورة، ولم يجعل الله للإنسان ساترا طبيعيا من أصل الخلقة ليتذكر الإنسان أنه دائما في عورة ومحتاج إلى الستر، فينتقل من معرفة الحاجة إلى الستر الحسي للعورة الحسية إلى معرفة الحاجة إلى الستر المعنوي للعورة المعنوية، وهي عورة نقص الدين والأخلاق، فيسترها بتكميل دينه وأخلاقه. ولقد دلت النصوص أن اللباس بقسميه لباس الزينة، ولباس الحاجة جائز، والأصل فيه الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] قاله إنكارا على من يحرمون شيئا من اللباس والطعام بغير دليل. ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ما لا يجوز لهم من اللباس بيانا ظاهرا. فمن ذلك لباس ما يختص بالكفار سواء كان لباسا شاملا للجسم كله أو لعضو منه، فكل لباس يختص بالكفار، ولا يلبسه غيرهم، فإنه لا يجوز للمسلم لبسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» . فإن التشبه بهم يقتضي شعور المتشبه بأنهم أعلى منه، فيعجب بهم، وبصنيعهم حتى يؤدي به ذلك إلى إعجابه بعقائدهم وأعمالهم. ومن ذلك لباس الرجل ما يختص بالمرأة، ولباس المرأة ما يختص بالرجل، فكل لباس يختص بالرجل سواء كان شاملا لجميع الجسم كالقميص، أم مختصا بعضو منه كالسراويل والحذاء وغيرها، فإنه لا يجوز للمرأة أن تلبسه، وكل لباس يختص بالمرأة

فإنه لا يجوز للرجل لبسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. ومن ذلك لباس ما يقصد به الفخر والخيلاء من ثوب أو سروال أو نعل أو غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفخر أحد على أحد، فيتظاهر بالرفعة والعلو عليه، وما يدري هذا المفتخر، فلعل الأحوال تتغير، فيحل محل من افتخر عليه في الفقر والإعواز، ويحل الثاني محله في الغنى والوجود وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي في حلة (إزار ورداء) تعجبه نفسه، مرجل رأسه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» . وفي الحديث عن ابن عمر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعظم في نفسه، واختال في مشيته، لقي الله، وهو عليه غضبان» . ومن ذلك أن ينزل لباس الرجل إلى ما تحت الكعبين سواء كان قميصا أم سروالا أم مشلحا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أسفل من الكعبين فهو في النار". فإن جره خيلاء كانت العقوبة أعظم وأشد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» . ومن ذلك لباس الرجل الحرير الطبيعي فكل لباس من حرير سواء كان ثوبا، أم سروالا، أم شرابا، أم غترة، أم طاقية، أم غيرها، فهو حرام على الرجال. ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» . وقال: «إنما يلبس الحرير من لا أخلاق له» . ومن ذلك لبس الرجل الذهب، فلا يجوز للرجل أن يلبس ذهبا لا خاتما، ولا سوارا، ولا أزرارا، ولا غيره ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه وطرحه، وقال: " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده» ، فقال الناس للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا آخذه، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي سنن النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رجلا قدم من نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار» . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أمتي، وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة» . (رواه أحمد) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ

حريرا وذهبا، فقال: " هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» . (رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم) . ومن ذلك لبس خاتم الخطبة الذي يسمونه (الدبلة) فهو سيء للرجال والنساء؛ لأن هذه العادة سرت من النصارى، قاله محدث الشام في عصره الألباني قال: ويرجع ذلك إلى عادة قديمة يضع الرجل العروس الخاتم على رأس إبهام العروسة المرأة، ويقول: باسم الرب، ثم يضعه على رأس السبابة، ويقول: باسم الابن يعنون بالأب الله، وبالابن عيسى تعالى الله عن قولهم، ثم يضعه على رأس الوسطى، ويقول باسم روح القدس، وعندما يقول آمين يضعه في البنصر حيث يستقر. أيها المسلم إذا كانت هذه العادة متلقاة من النصارى فكيف ترضى لنفسك بصفتك مسلما أن تقلدهم فيها، وتتشبه بهم، وقد علمت أن نبيك صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» . كيف تذهب بعقلك إلى هذه الخرافة التي لا حقيقة لها، فليست الدبلة بالتي تجلب المودة، وليس عدمها بالذي يطرد المودة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» . وفسر العلماء التولة بأنها شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والدبلة شبيهة بالتولة؛ لأنهم يعتقدون أنها رابطة بين الزوج وزوجته، وهي بعيدة من ذلك فليست بربط شرعي؛ لأن الربط الشرعي بين الزوجين يكون بعقد النكاح، وليست ربطا كونيا؛ لأنها لا تأثير لها حسا سوى ما يقع في وهم لابسيها بناء على عقيدة لا أصل لها، ولا تعجبوا أن تكون التولة نوعا من الشرك، وذلك لأن الخلق والأمر كله لله عز وجل وحده، فوضع السببية في الأسباب إلى الله وحده، فمن جعل شيئا ما سببا لشيء لم يجعله الله سببا له، فقد شارك الله فيما يختص به. إذن فخاتم الخطبة (الدبلة) إن كان من ذهب فهو حرام سيئ على الرجل من جهتين، من جهة أنه ذهب، ومن جهة العقيدة الفاسدة والتقليد الأعمى الذي مصدره من النصارى، وإن كان غير ذهب أو استعملته الأنثى فهو سيء من جهة واحدة. ومن اللباس المحرم لبس الرجل والمرأة ما لا يستر من الثياب ما يجب ستره كلبس الرهيف الذي لا يستر، والقصير، ويتضح ذلك في الرجال في أيام الصيف حيث يلبسون سروايل قصيرة يبدو منها بعض الفخذ، وثيابا رهيفة عليها لا تستر، وهذا غير ساتر في الصلاة

فلا تصح الصلاة حينئذ، فيقعون في خطر عظيم حيث يصلون صلاة لا تنفعهم. ويتضح في النساء حيث تلبس خمارا رهيفا، وتخرج إلى السوق، فتبدو كأنها غير ساترة وجهها. فاتقوا الله أيها المسلمون، واستعينوا بنعم الله على طاعته، ولا تجعلوا هذه النعم وسيلة للأشر والبطر والرفاهية الموقعة في الاثم: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131 - 132] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في بعض ما يحرم من اللباس

[الخطبة الثانية في بعض ما يحرم من اللباس] الخطبة الثانية في بعض ما يحرم من اللباس عن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] في هذه الآية الكريمة بين الله تعالى ما من به على عباده حيث أنزل عليهم ثلاثة أنواع من الألبسة نوعان حسيان ونوع معنوي، فأما النوعان الحسيان فهما لباس ضروري يواري الإنسان به عورته يكسو به بدنه لا بد له منه ولباس ريش، ويقال: رياش وهو لباس الجمال والزينة الزائد عن اللباس الضروري، وأما النوع المعنوي، فهو لباس التقوى تقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه، وهذا اللباس خير من النوعين الحسيين ذلك؛ لأنه يواري سوأة الإنسان في الدنيا والآخرة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا - ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 2 - 5] إن هذا اللباس هو الزينة التي أخرج الله لعباده، وأحلها لهم، وأنكر على من يحرمها بدون برهان: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] إن في إضافة هذه الزينة إلى الله ووصفها بأنه الذي أخرجها لهم لأكبر برهان على أنه ليس من حقنا أن نتحكم بهذه الزينة في تحليل أو تحريم، وإنما حكمها إلى الله وحده؛ لأنه الذي أخرجها لعباده وحده، وليس من حقنا كذلك أن نستعملها كما نشاء، وإنما نستعملها على الوجه الذي حدد لنا بدون تعد: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] لقد حدد الله لنا استعمال هذا اللباس نوعا، وكيفا حلا وحرمة لئلا نتجاوز بها إلى حد لا يليق بنا أما الحل، فإن الحلال من هذا اللباس هو الأصل؛ لأن الله يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]

واللباس مما خلق الله لنا في الأرض، فهو حل لنا حتى يقوم دليل على تحريمه، ولهذا كان الحل من اللباس أكثر بكثير من المحرم، وأما المحرم فهو قليل بالنسبة إليه؛ لأن عطاء الله سبحانه أوسع من منعه، ولا يمنع إلا لحكمة بالغة اقتضت المنع. فمن المحرم لباس الصور، ولباس ما فيه صورة؛ لأن «عائشة رضي الله عنها اشترت نمرقة، والنمرقة الوسادة أو المخدة، وكان فيها تصاوير، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآها قام على الباب، ولم يدخل، قالت: فعرفت في وجهه الكراهية، فقلت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بال هذه النمرقة؟ " فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها، وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم " ثم قال: " إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» . رواه البخاري ومسلم. النبي صلى الله عليه وسلم قام على الباب، ولم يدخل؛ لأن في البيت مخدة فيها صورة ظهرت كراهية ذلك على ملامح وجهه حتى أعلنت أم المؤمنين عائشة التوبة من أجل ما رأت في وجهه. ومن أمة محمد ومن المؤمنين من يصطحبون الصور في ملابسهم فيلبسون الصور، أو يلبسون ما فيه الصور نعم لقد غزانا أعداء الإسلام بفتنة هذه الصور، فأتونا بها من كل فج، ورمونا بها من كل ناحية، وضعوا هذه الصور في ملابسنا، فكان في بعض الأقمشة صور الحيوانات الكبيرة أو الصغيرة بالتلوين تارة، وبوضع قصاصات أو مطاط على صورة حيوان تارة، وتجدون ذلك ظاهرا في الألبسة الجاهزة، وصنعوا لنا حليا من الذهب أو غيره على صورة الحيوانات على صورة فراشة أو سمكة لتلبسه، فتفارقنا الملائكة بلبسه، صنعوا لنا ذلك كله، وأكثروا علينا ليهون علينا أمره، وننسى أمر الله ورسوله فيه، أو نتهاون في أمر الله ورسوله، وإن لباس هذه المصورات محرم بيعها وشراؤها محرم؛ لأنه إعانة على الإثم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] وكما لا يجوز للمسلم أن يلبس الصورة، أو ما فيه صورة، فإنه لا يجوز له أن يلبسها صبيه الصغير ذكرا أم أنثى. والخلاص من ذلك إذا كانت عند الإنسان الآن أن يقطع رأسها إن كانت حليا أما إن كانت في قماش فإن كانت ملصقة إلصاقا قلعها، أو قلع رأسها، وإن كانت مرسومة باللون وضع على الرأس لونا يطمسه. وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي «أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: ألا أبعثك على ما بعثني عليه

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» . ومن المحرم أيضا ما يحرم على الرجال خاصة، وهو لبس ما نزل عن الكعبين من سروايل أو قميص أو مشلح أو غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من إزار ففي النار» . رواه البخاري. وقال ابن عمر رضي الله عنهما ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص، فلا يحل للرجل أن ينزل شيئا من ثيابه أسفل من الكعبين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توعد على ذلك بالنار، ولا وعيد إلا على فعل محرم. ولقد ظن بعض الناس أن هذا الحديث فيمن نزل ثيابه خيلاء. والخيلاء أن يتخيل الشخص لنفسه منزلة عالية، فيتعاظم في نفسه، ويعجب بها ظن أن هذا الحديث، فيمن نزل ثيابه خيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» . فاراد أن يحمل ذاك المطلق على هذا القيد، ولكن هذا ليس بصحيح، فإن الوعيد فيهما مختلف وسببه مختلف، الوعيد فيمن جر ثوبه خيلاء أن الله لا ينظر إليه، والوعيد فيمن نزل ثوبه عن كعبيه أن ما نزل في النار، فالعقوبة جزئية، والعقوبة الأولى، أن الله لا ينظر إليه، وهو أعظم من تعذيب جزء من بدنه بالنار، وأما السبب فمختلف أيضا، فأحدهما أنزله إلى أسفل من الكعبين، والثاني جره خيلاء، وهذا أعظم، ولذلك كانت عقوبته أعظم. وقد قال علماء أصول الفقه: إنه إذا اختلف السبب والحكم في الدليلين لم يحمل أحدهما على الآخر. فلا يحل للرجل أن ينزل شيئا من ثيابه تحت الكعبين سواء كان ذلك سراويل أم قميصا أم مشلحا أم غيرها، فإن فعل فعقوبته أن يعذب موضع النازل بالنار، ولا يحل له أن يجر شيئا من ذلك خيلاء، فإن فعل فعقوبته أن لا ينظر الله إليه بل في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، قالها ثلاثا، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» . ودخل شاب من الأنصار على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يثني عليه مع الناس حين طعن رضي الله عنه، فلما أدبره إذا إزاره يمس الأرض، فقال: ردوا علي الغلام، فردوه عليه، فقال يا ابن أخي ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك. فائدتان في رفع الثوب ينبه عليهما أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بقاء الثوب، حيث لا تتلف الأرض أسفله. وتقوى الله عز وجل {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] قد يقول متهور: أنا لا أبالي إذا أتلف أسفل ثوبي وجوابنا

فهل لا تبالي أيضا إذا أضعت تقوى الله، واستعنت بنعمه على معاصيه، فانقلبت النعم نقما والمتعة ألما؟ فاتقوا الله عباد الله، واستعينوا بنعمه على طاعته، واحفظوا حدوده، وأقيموا فرائضه، واعبدوه حق عبادته ما استطعتم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة الثالثة في تحريم لبس الذهب على الرجال

[الخطبة الثالثة في تحريم لبس الذهب على الرجال] الخطبة الثالثة في تحريم لبس الذهب على الرجال الحمد لله الولي الحميد الواسع المجيد، حكم عباده كونا وشرعا بما يريد، فقضى لهم ما تقتضيه حكمته، وشرع لهم ما فيه مصلحتهم رحمة بهم، وهو أرحم الراحمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق أجمعين أعلم الخلق بالله، وأتقاهم لله، وأنصحهم لعباد الله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها المسلمون اتقو الله تعالى، وتدرعوا بلباس التقوى، فلباس التقوى ذلك خير. لباس التقوى لباس يقيكم من النار، ويكون سببا لرزقكم، وتيسير أموركم في هذه الدار. إن لباس التقوى ما يقي به المرء محارم الله تعالى، ويستعين به على طاعته لتكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة (العاقبة للمتقين) . وإن من الناس من خلعوا لباس التقوى في لباس ما حرم الله عليهم من الزينة كأنهم شاركوا الرب سبحانه في التحليل والتحريم، فأحلوا لأنفسهم ما حرم الله عليهم، أو نابذوا الله تعالى في المعصية، فاجترؤا على معصية الله غير مبالين بذلك. لقد لبس قوم الذهب، لبسوه في أيديهم خواتيم وأسورة، ولبسوه في أعناقهم قلائد وسلاسل ولبسوه في صدورهم أزارير ومرصعات سبحان الله رجال يتحلون بالذهب لينزلوا عن كمالهم الذي وهبهم الله إياه إلى نقص النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] نزلوا بأنفسهم ليشاركوا النساء فيما خصهن الله به من الزينة تلك الزينة التي خصت بها المرأة لتتجمل بها لزوجها، فيرغب فيها، ولتجبر بها ما كان فيها من نقص. إن مقتضى الرجولة أن يكون الرجل كاملا برجولته يتطلب ما به كمال رجولته من شهامة وكرم ونظر في شؤون دينه ودنياه، وليس بحاجة أن ينزل بنفسه إلى مستوى النساء، وتتبع مثل هذه السفاسف التي تبعده عما هيئ له من الشئون العظيمة المثمرة في حياته الخاصة وحياة مجتمعه. أيها المسلمون لقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لباس الذهب على ذكور أمته فروى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» . قف، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم على ذكور أمتي فإن هذه

الإضافة تقتضي تأكيدا على المسلم في التزامه بهذا الحكم، وتجنبه لما حرمه رسوله إذا كان من أمته. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه، وطرحه، وقال: " يعمد أحدكم على جمرة من نار، فيجعلها في يده " فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، فقال: لا والله لا أخذه، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وفي سنن النسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه «أن رجلا قدم من نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار» . وروى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله لباسه في الجنة» . فهل بعد هذه الأدلة الواضحة خيار للرجل في لباس الذهب والتحلي به. مرة يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرام، ومرة يصرح بأنه جمرة من نار يجعلها الإنسان في يده، ومرة يقول: من مات وهو يتحلى به حرم الله عليه لباسه في الجنة، أفبعد هذا يختار مؤمن أن يلبس ذهبا؟ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] فاتق الله أيها المؤمن، وتجنب ما حرم الله عليك، وتب إلى ربك قبل موتك، فتصدق بما تلبسه من ذهب على أهلك أو غيرهم من قراباتك، والذي أرى أن نتصدق به على غير أهلك حتى يبعد عنك، فلا تسول لك نفسك فيما بعد أن ترجع إليه لكونك تشاهده عليهم، وإن أفظع من ذلك أن يلبس الرجل خاتما يكتب عليه اسم زوجته، وتلبس زوجته خاتما يكتب عليه اسم زوجها عمل لا أصل له عند المسلمين، وإنما أصله من النصارى حين يضع الرجل للتزوج الخاتم على رأس إبهام الزوجة في اليد اليسرى، ويقول: باسم الأب، ثم ينقله في السبابة، ويقول: باسم الابن، ثم ينقله في الوسطى، ويقول: باسم روح القدس، وهذا إله النصارى؛ لأنهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة، ثم ينقله إلى البنصر، قائلا: آمين، فيستقر في البنصر التي بين الوسطى والخنصر، فكيف يسوغ للمؤمن أن يتلقى عادة كان أصلها من النصارى؟ وينقلها إلى المسلمين، وهم مأمورون بمجانبتهم، والبعد عنهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم. فهذه العادة السيئة هي سيئة في نفسها، فإن اقترن بها عقيدة فاسدة

ازدادت سواء قد يقترن بها اعتقاد أنها صلة ورابطة بين الزوج وزوجته، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله أن ذلك سبب يوجب المحبة والصلة، وليس في معلومنا أنها سبب طبيعي للصلة والمحبة، فإذا انتفى السببان الشرعي والطبيعي لم يبق لجعلها سببا سوى الوهم والخيال الذي لا ينبغي للعاقل فضلا عن المؤمن أن يبني تصرفه، وعمله عليهما، وكم من شخص لبس اسم زوجته ولبست اسمه، وانفصمت عرى المحبة والصلة بينهما، وكم من أشخاص لا يعرفون هذه العادات، أو عرفوها، وحكموا عقولهم، فلم يفعلوها، وكانت المحبة والصلة بينهم وبين زوجاتهم على أعلى ما يكون. فاتقوا الله عباد الله، وترسموا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، فإن هديهم خير هدي، وطريقتهم أكمل طريقة، وإياكم وهذه التقاليد العمى التي لا خير فيها فليس كل جديد مقبولا ولا كل قديم مرفوضا وإنما العدل قبول الحق كيفما كان. وبعد، فإننا لنأسف كل الأسف أن يأخذ أقوام من هذه الأمة المسلمة بكل ما ورد عليهم من عادات وتقاليد وشعارات من غير أن يتأنوا فيها، وينظروا إليها بنظر الشرع والعقل ينظروا فيها هل تخالف شريعة الله أم لا. إذا كانت تخالف شريعة الله رفضوها، واجتنبوها كما يرفض الجسم السليم جرثومة المرض، ثم نصحوا من كان متلبسا من إخوانهم المسلمين الذين وردوا بها، ونقلوها إلى مجتمعاتهم بدون تأمل أو نظر. فهذه حقيقة المؤمن أن يكون قوي الشخصية نافذ العزيمة بصير التكفير صالحا مصلحا، وإذا كانت هذه العادات والتقاليد والشعارات الواردة إلينا لا تخالف الشريعة، فلينظر إليها بنظر العقل. فلننظر ما نتيجتها في الحاضر أو المستقبل القريب أو البعيد، فإنها قد لا يكون له تأثير ملموس في الحاضر لكن لها تأثير مرتقب في المستقبل، ومتى سرنا بهذا الاتجاه، وعلى هذا الخط فمعنى ذلك أننا نسير على بصيرة وفي اتجاه سليم موفق بإذن الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الرابعة في التحذير من تشبه الرجل بالمرأة

[الخطبة الرابعة في التحذير من تشبه الرجل بالمرأة] الخطبة الرابعة في التحذير من تشبه الرجل بالمرأة الحمد لله الحكيم العليم الرب العظيم خلق، وقدر، وأعطى كل شيء خلقه، ثم هدى، ويسر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلي الأعلى له الحكم، فلا مضاد لحكمه ولا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على الخلق أجمعين أهدى الناس طريقا وأقومهم دعوة، وأفصحهم بيانا، وأنصحهم قصدا وإرادة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه المتمسكين بهديه المتبعين لشريعته المبتعدين عن اتباع الشهوات والأهواء المخالفة لذلك. أما بعد: ففي هذا الأسبوع عرضت في التلفزيون وقائع الحفلات التي أقيمت في الأندية في مدن القصيم، وشاهد الناس من بين وقائع هذه الحفلات ما يقوم فيه الشباب بتمثيل المرأة في لباسها عباءة مقطع ملون خمار على الرأس، وفي كلامها وهيئتها تمثيلا متقنا كأنه المرأة تماما سبحان الله! سبحان الله! لقد كنت أتحاشى أن أتكلم عن هذا الموضوع من على هذا المنبر، ولكن إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها، لقد كنت أفضل أن يكون الكلام بيني وبين القائمين بهذه الأدوار ولكن لما أصبح الأمر شائعا بين الناس الذين شاهدوا ذلك، أو سمعوا عنه كان لزاما علينا أن نبين ذلك بيانا شائعا مثلا بمثل ووفاء بعهد الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وحذر العقوبة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة: 159 - 160] وكتمان العلم إخفاؤه عندما تدعو الحاجة إلى بيانه جوابا لسؤال أو اقتضاء الحال. أيها المسلمون إن مما يقضى به العجب، ولا ينقضي به أن يقوم شاب رجل فضله الله على المرأة {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] فينزل نفسه مختارا إلى درجة المرأة ليمثلها في لباسها وهيئتها وكلامها على أن هذا الشاب لو قيل له: يا شبيه المرأة لاستشاط غضبا، ورأى ذلك مسبة له، فالله أكبر ما هذا التناقض يغضب من قول يشبه به بالمرأة، ويراه مسبة له له، ثم يحقق بنفسه تلك المشابهة، والفعل أبلغ من القول؛ لأنه أمر واقع. إن تمثيل الشاب لدور المرأة لا يجدي نفعا، ولا يدفع ضررا، ولا يحل مشكلة، إن المشاهدين له سيكونون ثلاثة أصناف، صنف يسخر به

، ويحتقره، وصنف يعجب بما شاهده منه من إتقان دور التمثيل، وصنف ثالث يخطر في نفوسهم أشياء أخرى، أما أن يكون صنف رابع يفكر في إصلاح المجتمع بناء على ما شاهد، فأظنه معدوما أو كقطرة من بحر. إن إصلاح المجتمع لا يكون بمثل هذه الطرق المحرمة، إن الطرق المحرمة فاسدة بنفسها «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» والفاسد بنفسه لا يمكن أن يكون وسيلة للإصلاح كما أن الماء النجس لا يطهر. لقد أصلح الله تعالى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الذين خلفوه في العلم والإيمان والدعوة والعمل أصلح الله بهم شعوبا وأمما، وما سلكوا هذه الطريق وأمثالها في الدعوة إلى الله وإصلاح عباده. أفلا يجدر بنا إن كنا صادقين في الدعوة إلى الله وإصلاح عباده أن نسلك طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، لا أن ندعو إلى الله تعالى وإصلاح عباده بما نعصي الله به. إن تمثيل الرجل لدور المرأة كما أنه لا يصلح الأمة، ولا يحل مشاكلها، فهو أيضا خطير من الناحية الشرعية، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل» . (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم) إن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام، وهو يعني ما يقول، ويدرك تماما خطر ما يقول ليس بتكلم بكلام لغو عابر لا يقصد معناه، ولا يدرك خطره كلا أبدا. إن معنى ما يقول هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وما أعظم خطر الطرد والإبعاد عن رحمة الله على من طرد، وأبعد إنه الخسارة في الدنيا والآخرة، إنه تخلي الله عن العبد حتى يخلو به شيطانه ونفسه الأمارة بالسوء، فلا يوفق لخير أبدا، قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لقد خاب، وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض. إن القائم بتمثيل دور المرأة في مثل هذه المناسبات كما عرض نفسه لهذا الخطر العظيم - الطرد والإبعاد عن رحمة الله - عرض الحاضرين أيضا لمثل ذلك الخطر، فإن من أقام مع العاصي حين معصيته مختارا للإقامة كان مثله وبهذا الوعيد الشديد والخطر

العظيم صار تشبه الرجل بالمرأة، وتشبه المرأة بالرجل من كبائر الذنوب التي لا بد فيها من توبة نصوح ورجوع إلى الله صحيح يندم فيه المرء على ما جرى منه، ويعزم على أن لا يعود. فاتق الله أيها الشاب المسلم في نفسك، واستغن بما أحل لك من التمثيليات التوجيهية أو الترفيهية المباحة، ولا تشغل نفسك بما يضرك، لا تغرنك الأماني، ولا تغرنك الدنيا، فبعد الشباب هرم قريب، أو موت أقرب، وبعد الموت بعث وجزاء: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123 - 124] وفقنا الله جميعا لما يحب، ويرضاه، وجنبنا ما فيه سخطه وعقابه، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الخطبة الخامسة في وجوب رعاية المرأة ومنعها من التبرج

[الخطبة الخامسة في وجوب رعاية المرأة ومنعها من التبرج] الخطبة الخامسة في وجوب رعاية المرأة ومنعها من التبرج إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. الحمد لله الذي خلق كل شيء، فقدره تقديرا، وفاوت بين خلقه في ذواتهم وصنعاتهم وأعمالهم حكمة وتدبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكان الله على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الخلق كافة بشيرا ونذيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فقد قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] أيها الناس إن من هاتين الآيتين الكريمتين يتبين لنا مدى نقص المرأة في عقلها وتدبيرها، ففي الآية الأولى بيان نقص عقلها وإدراكها وإحاطتها حتى فيما تستشهد عليه، ويطلب منها رعايته وضبطه. وفي الآية الثانية بيان نقص تدبيرها وتصرفها، وأنها بحاجة إلى مسؤول يتولى القيام عليها، وهو الرجل لهذا وجب على الرجال رعاية النساء، والقيام عليهن لتكميل ما فيهن من نقص: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] وإنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية، وكلما كثرت أسباب الفتنة، وجبت قوة الملاحظة، وإننا في عصر عظم فيه الخطر، وكثرت أسباب الفتنة بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة أو بواسطة وسائل الإعلام وبسبب ضعف كثير من الرجال أو تهاونهم بالقيام بمسؤوليتهم تجاه نسائهم وقع كثير من النساء في شرك هذه الفتنة، وهاوية ذلك الخطر حتى إنك لترى المرأة الشابة تخرج من بيتها إلى السوق بألبسة مغرية، ألبسة جميلة إما قصيرة وإما طويلة ضيقة ليس فوقها إلا عباءة قصيرة أو طويلة يفتحها الهواء أحيانا، وترفعها هي نفسها عمدا أحيانا، تخرج بخمار تستر به وجهها لكنه أحيانا يكون رقيقا يصف لون جلد وجهها، وأحيانا تشده على وجهها شدا قويا بحيث تبرز مرتفعات وجهها كأنفها ووجنتها. تخرج لابسة من حلي الذهب ما لبست، ثم تكشف عن

ذراعيها حتى يبدو الحلي، كأنما تقول للناس: شاهدوا ما عَلَيَّ فتنة كبرى ومحنة عظمى. تخرج متطيبة بطيب قوي الرائحة يفتن كل من في قلبه مرض من الرجال، وربما خلع ثياب الحياء، فصار يلاحقها. تخرج من بيتها تمشي في السوق مشيا قويا كما يمشي أقوى الرجال وأشبهم كأنما تريد أن يعرف الناس قوتها ونشاطها، وتمشي كذلك في السوق مع صاحبتها تمازحها، وتضاحكها بصوت مسموع، وتدافعها بتدافع منظور. وتقف على صاحب الدكان تبايعه، وقد كشفت عن يديها وعن ذراعيها، وربما تمازحه، أو يمازحها، أو يضحك معها إلى غير ذلك مما يفعله بعض النساء من أسباب الفتنة والخطر العظيم والسلوك الشاذ الخارج عن توجيهات الإسلام وطريق أمة الإسلام. يقول الله تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم وهن القدوة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن» . هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وبيوتهن خير لهن» . خير لهن من أي شيء؟ من مساجد الله فكيف بخروجهن للأسواق؟ ويقول الله عز وجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] فإذا كانت المرأة من العجائز ممنوعة من التبرج بالزينة، فكيف تكون الشابة التي هي محل الفتنة؟ ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار، وهو ما تغطي به رأسها على جيبها ليستر ما قد يبدو من رقبتها، أو يربو على صدرها، فكيف تخالف المرأة المسلمة المؤمنة بالله ورسوله إلى محاولة إبداء وجهها وهو محل الفتنة والتعلق بها؟ ويقول الله سبحانه: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] وهو الخلخال الذي تلبسه برجلها وتخفيه بثوبها، فإذا ضربت برجلها على الأرض سمع صوته، فإذا كانت المرأة منهية أن تفعل ما يعلم به زينة الرجل المخفاة، فكيف بمن تكشف عن ذراعها حتى تشاهد زينة اليد؟ إن فتنة المشاهدة أعظم من فتنة السماع، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس» . ويعني بهم الظلمة من ذوي السلطة الذين يضربون الناس بغير حق، أما من يضربون الناس بحق لتقويمهم وتأديبهم، فليسوا من هؤلاء، وقد يكون المقصود من الحديث كراهة هذا النوع من السياط. أما النوع الثاني، فيقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات

رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» . وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن (كاسيات) أي: عليهن كسوة، ولكنهن (عاريات) لأن هذه الكسوة لا تستر إما لخفتها أو ضيقها أو قصرها (مائلات) عن طريق الحق (مميلات) لغيرهن بما يحصل منهن من الفتنة (رؤسهن كأسنمة البخت المائلة) بما يلففن عليهن من شعورهن، أو غيره حتى يكون كسنام البعير المائل. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما امرأة أصابت بخورا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» ، فمنعها من حضور المسجد للصلاة؛ لأنها أصابت بخورا، فكيف بمن تتطيب بما هو أطيب من البخور، وأشد جاذبية، ثم تخرج إلى الأسواق؟ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» . لماذا كان ذلك؟ كان ذلك لأن آخر الصفوف أبعد عن الرجال، والاختلاط بهم هذا، وهو في العبادة والصلاة، فكيف بمن تلي الرجال، وتختلط بهم في الأسواق؟ هذه أيها المسلمون توجيهات الله سبحانه في كتابه، وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] هذه توجيهات الإسلام، أما طريق أهل الإسلام، فقد قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. أفلا نأخذ أيها المسلمون بهذه التوجيهات الإسلامية ونعتبر بطريق أهل الإسلام؟! أفلا نتقي الله عز وجل أفلا نتدارك ما وقع فيه كثير من النساء من مخالفة طريق أهل الإسلام ونلزمهن بالسلوك والصراط المستقيم؟! حتى يكون مجتمعنا مجتمعا إسلاميا في رجاله ونسائه، في عباداته وأخلاقه، لقد كان الكثير من النساء يخرجن من بيوتهن (في أيام الدراسة إما لشراء بعض الأدوات المدرسية، وإما للاتصال بزميلتها فيم يتعلق بالدراسة، أما الآن، وقد أغلقت المدارس أبوابها في هذا العام أو أوشكت) . فجدير بنسائنا أن يلزمن بيوتهن، وأن لا يخرجن على الأسواق، وسيجدن ذلك ثقيلا عليهن في أول الأمر، لكنهن سيألفن ذلك، ويخفف عليهن في النهاية، فيصرن ذوات الخدور وربات الحياء وإن على أولياء

أمورهن من الرجال أن يفطنوا لذلك، وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من رعاية وأمانة، حتى يصلح الله لهم الأمور، ويمنعهم من الفتنة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] اللهم وفقنا للتقوى والقول السديد، وأصلح لنا الأعمال، واغفر لنا الذنوب، واجعلنا ممن أطاعك، وأطاع رسولك، وفاز بثوابك، إنك جواد كريم، اللهم صل، وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الخطبة السادسة فيمن عليه مسؤولية رعاية المرأة

[الخطبة السادسة فيمن عليه مسؤولية رعاية المرأة] الخطبة السادسة فيمن عليه مسؤولية رعاية المرأة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانم إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وقوموا بما كلفكم الله به من رعاية أولادكم، وأهلكم خصوصا النساء، فإن النساء يحتجن إلى زيادة العناية بالرعاية؛ لأنهن ناقصات في العقل، وناقصات في الدين، ناقصات في العقل وفي التفكير وبعد النظر والعاطفة، تفكيرها مضطرب غير موزون، ونظرها قريب لا يتجاوز قدميها، وعاطفتها متداعية، كل سبب يجذبها، وكل هوى يطيح بها، وناقصة الدين؛ لأنها إذا حاضت لم تصل، ولم تصم، ولأنها تكثر اللعن، وتكفر العشير. أيها المسلمون، يا رجال الإسلام، اشكروا هذه النعمة التي حباكم الله بها، وقوموا بها على الوجه الأكمل. اسمعوا ربكم خالق الكون وعالم أسراره والمحيط بخفيه وظاهره ومستقبله وماضيه، اسمعوه، يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] فاعرفوا أيها الرجال هذا الفضل، وقوموا بحقه، لا تبخسوا أنفسكم حقها، وتنسوا الفضل، لا تغلبكم النساء على رجولتكم، ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم، ولا تشتغلوا بأموالكم عن قيمكم وأخلاقكم والحفاظ على عوراتكم وشرفكم. أيها المسلمون إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة الهينة، وليست بالمشكلة الجديدة؛ لأنهن الفاسق منهن شرك الشياطين، وحبائل الشر تصيد بهن كل خفيف الدين مسلوب المروءة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان» . (رواه مسلم) . وقال: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» . أي: زينها في نظر الرجال (رواه الترمذي، قال الألباني: وإسناده صحيح) . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» . (متفق عليه) . فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا هذه الفتنة التي حذركم منها نبيكم صلى الله عليه وسلم، اقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم، وسدوا أبواب الفساد قبل أن تنهار عليكم.

أيها الناس إن كثيرا من النساء في هذا العصر قد لعب الشيطان بهن وبأفكارهن وتصرفاتهن تخرج الواحدة منهن إلى الأسواق بدون حاجة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في النساء اللاتي يخرجن إلى الصلاة في المساجد، قال: «بيوتهن خير لهن» . وتخرج الواحدة منهن متزينة متطيبة متحلية، وقد قال: «إن المرأة إذا استعطرت، فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية ".» (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح) وتخرج الواحدة منهن، فتمشي في السوق مشية الرجل، وترفع صوتها كما يتكلم الرجل، وتزاحم كما يزاحم الرجل، وتختلط مع الرجال بدون مبالاة هذا موجود في بعض النساء، ولا سيما في أماكن البيع، وكل هذا خطر عظيم، وضرر جسيم، ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة، «خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء: " استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق» . فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليعلق به. وقالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن على رؤسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها، وقالت عائشة رضي الله عنها ما: رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فانقلب الرجال يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة، إلا قامت إلى مرطها (¬1) المرحل (¬2) فاعتجرت به (¬3) تصديقا، وإيمانا بما أنزل الله في كتابه. أيها الناس إن الكثير يتساءلون على من تكون مسؤولية هذا التوسع في خروج النساء أعلى الجهات الحكومية أم على وجهاء البلد أم على الولي المباشر والحق أن كل واحد سواء كان جهة أم شخصا كل واحد عليه مسؤولية ذلك، ولكنها على الولي المباشر أكبر وأعظم وأقرب حلا، إذا وفقه الله للقيام بمسؤوليته، إن على كل واحد منا أن يمنع زوجته وابنته وأخته، وكل من في كفالته أن تخرج إلى السوق إلا من حاجة لا يمكنه أن يقضيها بنفسه عنها. وإذا خرجت فلتخرج غير متطيبة، ولا متبرجة، ولا لابسة ثياب زينة، وأن تخرج وعليها السكينة، وتخفي صوتها ¬

(¬1) كساء من صوف أو خز. (¬2) برد فيه تصاوير رحل أو إزار خز فيه علم. (¬3) لبسته على صفة معينة.

وتحرص على أن يكون خروجها في الوقت الذي لا تزاحم فيه الرجال. ومتى عرف الرجل مسؤوليته أمام أهله، وخاف مقام ربه، وحرص على إصلاح عائلته ومجتمعه، فسيقوم بما أوجب الله عليه من الرعاية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . الخ.

الخطبة السابعة في التحذير من فتنة النساء

[الخطبة السابعة في التحذير من فتنة النساء] الخطبة السابعة في التحذير من فتنة النساء إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وقوموا بما أوجب الله عليكم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] قوا أنفسكم وأهليكم هذه النار بفعل الوقاية منها، ولا يكون ذلك إلا بامتثال أمر الله ورسوله، واجتناب نهي الله ورسوله، والقيام بما أوجب الله علينا، وحملنا من الرعاية والحماية خصوصا في النساء، فإن النساء يحتجن إلى زيادة الرعاية لأنهن ناقصات في العقل وناقصات في الدين كما أخبر بذلك سيد المرسلين، ومن لا ينطق عن الهوى. وكما يشهد به الواقع المحسوس. فالمرأة قاصرة النظر والتفكير نظرها لا يتجاوز قدميها، وتفكيرها مضطرب لا يقر على شيء، كل شيء يغيره عاطفتها متداعية كل شيء يجذبها، ويميل بها. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الرجال قوامين عليهن، فقال سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] فقوموا أيها الرجال بما جعلكم لله قوامين به، ولا تبخسوا أنفسكم حقها لا تغلبكم النساء على رجولتكم، ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم، ولا تنشغلوا بأموالكم عن أولادكم، ولا بمكاسبكم عن أخلاقكم وشرفكم. أيها المسلمون، إن كثيرا من النساء في هذا العصر قد لعب الشيطان بهن بأفكارهن وتصرفاتهن، وجنبهن طريق الهدى إلى طريق الهوى والردى تخرج الواحدة منهن إلى السوق بدون حاجة. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «بيوتهن خير لهن» . وتخرج الواجدة متزينة بالثياب والحلي ومتطيبة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة إذا استعطرت، فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا» . يعني زانية (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح) . وتخرج الواحدة فتمشي في السوق مشية الرجل بقوة وجلد وترفع، صوتها كما يتكلم الرجل، وتزاحم كما يزاحم الرجل، وتخالط الرجال في السوق

وعند الدكاكين، وكل هذا مخالف لهدي السلف الصالح. فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد، وقد اختلط النساء على الرجال في الطريق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق، فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليعلق بها» . وقالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن على رؤسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها، وقالت عائشة رضي الله عنها: " ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فانقلب الرجال يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة، إلا قامت إلى مرطها (¬1) المرحل (¬2) فاعتجرت به (¬3) تصديقا، وإيمانا بما أنزل الله في كتابه. أيها المسلمون، إن ترك الحبل على الغارب للنساء، وإطلاق سراحهن يخرجن متى شئن، وعلى أية كيفية أردن بدون مبالاة، ولا حياء من الله، ولا مراقبة له إنه لمن أكبر أسباب الشر والفساد وسقوط المروءة والأخلاق والسمعة السيئة للبلاد وحلول العذاب والعقاب، قال الله تعالى) : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] وقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان» . (رواه مسلم) وقال: «المرأة عورة، فإذا خرجت اسشترفها الشيطان» . أي: زينها في نظر الرجال (رواه الترمذي، وقال الألباني: إسناده صحيح) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (متفق عليه) . فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا هذه الفتنة التي حذركم منها نبيكم صلى الله عليه وسلم اقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم، وأغلقوا أبواب الفساد قبل أن تتكسر الأبواب. أيها الناس: إنه لا يستغرب إذا خرجت المرأة الشابة متزينة بثياب جميلة ليس فوقها سوى عباءة قصيرة أو مرفوعة إلى أعلى بدنها، ولا يستغرب إذا خرجت متطيبة بطيب يحرك ¬

(¬1) كساء من صوف أو خز. (¬2) برد فيه تصاوير رحل أو إزار خز فيه علم. (¬3) لبسته أو لفته على جسمها.

النفس، ولا يستغرب إذا خرجت مع رفيقتها في الأسواق تتدافعان، وتتمازحان، ولا يستغرب إذا وقفت على صاحب الدكان تقلب السلع، وهذه تصلح، وهذه لا تصلح، وهي تضحك عنده مع رفيقتها، ولا يستغرب إذا فسرت عن ذراعيها ليرى ما عليها من حلي وغيره، ولا يستغرب إذا ضربت برجليها ذات الجوارب المكعبة الطويلة، لا يستغرب مع هذا كله أو بعضه أن يطمع فيها من في قلبه مرض، فيلاحقها في سيارته، أو على قدميه، أو يلقي إليها كلاما - لأن الله يقول: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] والخضوع باللباس والفعل يطمع فيها من في قلبه مرض- لأنه ضعيف الإيمان والمراقبة لله، قليل الخوف من ربه، عادم المروءة في بني جنسه، وقد رأى مع ضعف إيمانه ومرض قلبه وانعدام مروءته ما يغريه من هذه المرأة، فأصبح صيد شركها وقتيل فتنتها. أيها الناس، لقد أصبحت مشكلة النساء مشكلة خطيرة لا ينبغي تجاهلها، أو السكوت عنها؛ لأنها إن بقيت على ما كانت عليه، فسيكون لها عاقبة وخيمة على البلد وأهلها أو سمعتها، أفلا يعقل المسؤولون عن أهليهم وعن بلادهم أن على كل واحد منهم مسؤولية أهله؟ فلا يمكنه أن ينصح امرأته وبنته وأخته وذات قرابته كما فعل رجال الأنصار حين أنزلت سورة النور، ثم ألا يمكنه أن يمنع نساءه من الخروج إلا لحاجة لا بد منها، ويلزمها إذا خرجت أن لا تخرج متبرجة أو متطيبة؟ ثم ألا يمكن من له بنات أو أخوات أو أقارب يدرسن أن يحثهن على بث الوعي بين الطالبات، وتحذيرهن من التجول في الأسواق وخروجهن بالزينة؟ إنه كله ممكن ويسير إذا صدق الإنسان ربه، وخلصت نيته، وقويت عزيمته. وإن على ولاة الأمور في البلد مسؤولية من في الأسواق من رجال ونساء ومنعهم من أسباب الشر والفتنة، والقبض على من قامت القرينة على اتهامه، والتحقيق معه، وإجراء ما يلزم من تأديبه. وإن على عامة الناس مساعدة ولاة الأمور في ذلك في ذلك بقدر ما يستطيعون من زجر من يرونها متبرجة، أومحاولة للفتنة، وإلقاء الأضواء على المشتبه فيهم ممن في قلوبهم مرض حتى لا يبقى لهم في مجتمعنا مكان. فإذا حرصنا على منع أسباب الفتنة من كثرة النساء في الأسواق وتبرجهن، وحرصنا على مقاومة من يلاحقهن، وإجراء اللازم من تأديبهم، وقمنا في ذلك لله وبالله مثنى وفرادى، فسوف

نلقى العون من الله عز وجل والخير الكثير. اللهم طهر مجتمعنا من أسباب الفتن والفساد، وجنبنا موجبات الهلاك والعقاب، وهييء لنا من أمرنا رشدا، وأصلح لنا شؤوننا، واغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار يا ذا الجلال والإكرام. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الخطبة الثامنة في التحذير من توسع النساء في التبرج

[الخطبة الثامنة في التحذير من توسع النساء في التبرج] الخطبة الثامنة في التحذير من توسع النساء في التبرج إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، سلم تسليما. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وقوموا بما أوجب الله عليكم من رعاية أولادكم وأهليكم، قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، فإنكم رعاتهم والمسؤولون عنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته» . أيها المسلمون يا رجال الإسلام، اذكروا هذه الأمانة العظيمة، واشكروا الله على هذه النعمة التي حباكم بها، وقوموا بها على الوجه الأكمل، اسمعوا قول ربكم خالق الكون وعالم أسراره والمحيط بخفيه وظاهره ومستقبله وماضيه وحاضره اسمعوه يقول {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] لم يجعلكم الله قوامين عليهن، إلا لعلمه بقصورهن عقلا ودينا، لقد أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في النساء: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» . فاعرفوا أيها الرجال هذا الفضل، وقوموا بهذه الأمانة، ولا تغلبنكم النساء على رجولتكم، ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم، ولا تشتغلوا بأموالكم عن الحفاظ على ما هو أهم وأولى. أيها المسلمون عن مشكلة النساء ليست بالمشكلة التي يتهاون بها، وليست بالمشكلة الجديدة إنها مشكلة عظيمة يجب الاعتناء بها ودراسة ما يقضي على أسباب الشر والفساد، إنها مشكلة الوقت كله قديما وحديثا، لقد كانت مشكلة بني إسرائيل، وهي مشكلة هذه الأمة قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء. وهذا الحديث الثابت في الصحيحين يتضمن التحذير من هذه الفتنة العظيمة والسعي في القضاء على أسباب الشر قبل أن يستفحل. أيها المسلمون، إن مشكلة النساء عندنا هذا الزمن في التبرج والاختلاط والتسكع في الأسواق، وكل ذلك مما نهى عنه ورسوله، فالتبرج أن تستشرف المرأة للرجال باللباس

والزينة والقول والمشية، ونحو ذلك مما تظهر به نفسها للرجال، وتوجب لفت النظر إليها، ولقد قال الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] ولقد توسع النساء في التبرج باللباس، فصارت المرأة تلبس للسوق من أحسن اللباس، وتضع عليه عباة ربما تكون قصيرة لا تسترها، أو رهيفة، أو ترفعها المرأة عن أسفل جسمها، حتى يبيت جمال ثيابها وزينتها، وربما شدت العباءة بيديها من فوق عجيزتها، حتى يتبين حجمها، وكل هذا مما نهى الله عنه لقد قال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] نهى الله النساء أن يضربن بأرجلهن، فيعلم الخلخال الذي تخفيه، فإذا كان الله نهى عن الضرب بالرجل خوفا من سماع الخلخال المستور، فكيف بمن تلبس جميل الثياب، ثم ترفع العباة عنه ليراه الناس بأعينهم، فيفتنهم، وإن الفتنة بما يرى أعظم من الفتنة بما يسمع ليس الخبر كالمعاينة. إذا كان الله نهى عن الضرب بالرجل؛ خوفا من سماع الخلخال، فكيف بمن تكشف عن ذراعيها لتظهر ما عليهما من الحلي والزينة ونعمومة اليد؟ كأنما تقول للناس: انظروا إلى نعومة يدي، وإلى ما عليها من الحلي والزينة. وإن من التبرج أن تخرج المرأة متعطرة متطيبة، فإن هذا خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «وليخرجن تفلات» ، أي: غير متطيبات، وقال: «إذا خرجت إحداكن للمسجد، فلا تمس طيبا» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة إذا استعطرت، فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا يعني زانية» . (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح) . ولقد كثرت الزينة والتطيب في أيام الأعراس تخرج النساء من بيوتهن في أحسن ثيابهن مما يثير، ويهيج الشر. وأما اختلاط النساء بالرجال، ومزاحمتهن لهم، فهذا موجود في كثير من محلات البيع والشراء، وهو خلاف الشرع، فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد، وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق» ، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق به، ولقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن اختلاط النساء بالرجال حتى في أماكن العبادة، فقال صلى الله عليه وسلم خير صفوف النساء ". يعني اللات يصلين مع الرجال «خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» ، وإنما كان آخر صفوفهن خيرا لبعده عن الرجال ومخالطتهم ورؤيتهم لهن، ألم يكن في هذا أوضح دليل على محبة الشرع لبعد المرأة عن الرجال واختلاطها بهم؟

وأما التسكع في الأسواق، والتمشي فيها، فما أكثر من يفعله من النساء تخرج المرأة من بيتها لغير حاجة، أو لحاجة يسيرة يمكن أن يأتي بها أحد من في البيت من الرجال أو الصبيان. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» . فبيت المرأة خير لها حتى في المسجد، فكيف بغيره، وأن هذا الحديث الصحيح ليدل على أنه يجوز للرجل أن يمنع المرأة من الخروج للسوق ما عدا المسجد، ولا إثم عليه في ذلك، ولا حرج. أما منعها من التبرج والتعطر عند الخروج، فإنه واجب عليه ومسئول عنه يوم القيامة. وعلى المرأة إذا خرجت أن تخرج بسكينة وخفض صوت، ولا تمشي كما يمشي الرجل بقوة تضرب الأرض برجلها، وتهز كتفيها، وترفع صوتها، قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن على رؤسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها. هذه صفات نساء المؤمنين، فاقتدوا بهن لعلكم تفلحون، ولا تغرنكم الحياة الدنيا وزينتها، ولا يغرنكم من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن هذا التبرج والثياب القصيرة والضيقة، إنما صنعت تقليدا لهم، وإن أعداءكم يعلمون أنهم لو دعوكم إلى الكفر ما كفرتم، ولو دعوكم إلى الشرك ما أشركتم، ولكن يرضون منكم أن يهدموا أخلاقكم ودينكم من جهات أخرى من جهة محقرات الذنوب التي يحقرونها في أعينكم، فتحتقرونها، وتؤاتونها حتى تنزل بكم إلى النار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن تعبدوا الأصنام في أرض العرب، ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات، وهي الموبقات يوم القيامة» . فاتقوا الله أيها المسلمون، ولا تنخدعوا بما يقدمه لكم أعداؤكم إنكم الآن على مفترق طرق فتحت عليه الدنيا، وانهال عليكم الأعداء، قدم البعض منهم إلى بلادكم بعاداتهم السيئة وتقاليدهم المنحرفة، وسافر البعض منكم إلى بلادهم، وشاهدتموهم في وسائل الإعلام في الصحف والتليفزيون. فإما أن يكون في دينكم صلابة تتحطم عليها مكايد الأعداء، وفيكم قوة الشخصية الإسلامية، فلا تقتدون بهم، ولا تغترون بهم، وتتمسكون بما كان عليه أسلافكم الصالحون، فتنالون خير الدنيا والآخرة. وإما أن يكون الأمر بالعكس لين في الدين، وضعف في الشخصية، وانهيار أمام المثيرات، فتبوؤن بالصفقة الخاسرة: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]

، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة التاسعة في التحذير من بعض ملابس النساء

[الخطبة التاسعة في التحذير من بعض ملابس النساء] الخطبة التاسعة في التحذير من بعض ملابس النساء إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، والتزموا بما أوجب الله عليكم من رعاية النفس والأهل والقيام بما شرعه الله لكم ورسوله، فإن ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون لقد حملكم الله تعالى رعاية أهليكم وأداء الأمانة فيهم، فلا مناص لكم عن ذلك، ولا تخلص لكم منه إلا بأن تقوموا به ما استطعتم. أيها المسلمون لقد شاع عند بعض الناس، وهان عليهم أن يلبسوا بناتهم لباسا قصيرا أو لباسا ضيقا بين مقاطع الجسم أو لباسا خفيفا يصف لون الجسم، وإن الذي يلبس بناته مثل هذه الألبسة، أو يقرهم عليها، فإنما يلبسهم لباس أهل النار كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «صنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤسهن كأسنام البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن رائحتها، وإن ريحها ليوجد من مسافة كذا وكذا» ، أيها المسلم هل ترضى أن تكون ابنتك وثمرة فؤادك من أهل النار؟ هل ترضى أن تلبسها لباسا تتعرى به من الحياء مع أن الحياء من الإيمان؟ هل ترضى لابنتك أن تعرضها كما تعرض السلع مجملة فاتنة يتعلق بالنظر إليها كل سافل رذيل؟ هل ترضى أن تخرج من عادات أسلافك التي هي من آداب القرآن والسنة إلى عادات قوم أخذوها من اليهود والنصارى والوثنيين وعابدي الطبيعة؟ أما علمت أن هؤلاء القوم الذين غرقوا في بحر هذه المدنية الزائفة، واكتسوا بهذه الأكسية العارية، أما علمت أنهم الآن يئنون من وطأتها، وأنهم يتمنون بكل نفوسهم الخلاص من رجسها؛ لأنهم عرفوا غايتها، وجنوا ثمراتها، وبئس الغاية ما وصلوا إليه، وبئس الثمرة ما جنوا لأنفسهم. أيها المسلمون إننا إذا لم نقاوم هذه الألبسة، ونمنع منها بناتنا، فسوف تنتشر في بلدنا، وتعم الصالح والفاسد كالنار

إن أطفأتها من أول أمرها قضيت عليها، ونجوت منها، وإن تركتها تستعر التهمت ما تستطع مقاومتها، ولا الفرار منها، فيما بعد؛ لأنها تكون أكبر من قدرتك. لكن كيف نستطيع مقاومة هذه الألبسة؟ إننا نستطيع ذلك بأن يتأمل الإنسان بنظر العقل والإنصاف إلى منافع هذه الألبسة، ولا منفعة فيها وإلى مضارها، فإذا اقتنع من مضارها منع منها أهله وأقاربه الذين يستطيع أن يمنعهم، وينصح إخوانه بني وطنه عن لبسها، ويشينها في نفوس البنات الصغار، ويستعيبها عندهن لتتركز في نفوسهن كراهة هذه الألبسة وبغضها حتى يرين أن من لبسها فهو معيب. إن بعض الناس يتعللون بعلل غير صحيحة يقولون: إن عليهن سروالا ضافيا، ولكن هذه ليست بعلة صحيحة؛ لأن هذه السراويل ضيقة تبين حجم الأفخاذ والعجيزة بيانا كاملا تظهر مفاصلها مفصلا مفصلا، وتبين إن كانت البنت نحيفة أو سمينة، وكل هذا مما يوجب تعلق النفوس الخبيثة بها، ويدخلها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كاسيات عاريات» . ويقول بعض الناس: إن هذه البنت صغيرة، ولا حكم لعورتها، وهذه العلة ليست بموجبة للإباحة، وذلك لأن البنت إذا لبستها وهي صغيرة ألفتها وهي كبيرة، وإذا لبستها وهي صغيرة زال عنها الحياء، وهان عليها انكشاف أفخاذها وساقها؛ لأن هذه المواضع من البدن إذا كانت مستورة من أول الأمر، فإن المرأة تستعظم كشفها عند كبرها، وإذا كانت مكشوفة من أول الأمر لم يكن عظيما في نفسها كشفها فيما بعد، وهذا أمر معلوم بالعادة والحس أن الإنسان إذا اعتاد شيئا هان عليه كما أننا نرى الآن أن هذه الألبسة تلبسها بنات كبيرات ينبغي عليهن الاحتجاب؛ لأن البنت إذا بلغت مبلغا يتعلق بها النظر وتطلبها النفس، فإنها تحتجب، قال الزهري رحمه الله وهو من أئمة التابعين: لا يصلح النظر إلى شيء ممن يشتهي النظر إليهن وإن كانت صغيرة. أيها المسلمون، ولقد شاع عند بعض النساء أن تلبس العباة، وتحتها ثياب جميلة، ثم ترفع العباة إلى نصف بدنها، فتبين ثيابها، ويحصل التبرج المنهي عنه، ولقد بين الله في كتابه العزيز أن التبرج من الرجس، فإن الله لما نهى أمهات المؤمنين عنه قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]

: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ - وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30 - 31] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الفرع الثالث في الزكاة

[الفرع الثالث في الزكاة] [الخطبة الأولى في الزكاة وما تجب فيه] الفرع الثالث في الزكاة الخطبة الأولى في الزكاة وما تجب فيه الحمد لله الذي أنعم علينا بالأموال، وأباح لنا التكسب بها عن طريق حلال، وشرع لنا تصريفها فيما يرضى الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الإنعام والإفضال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أزهد الناس في الدنيا، وأكرمهم في بذلها على الإسلام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وأدوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم التي رزقكم الله تعالى، فقد أخرجكم الله من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، ولا تملكون لأنفسكم نفعا، ولا ضرا، ثم يسر الله لكم الرزق، وأعطاكم ما ليس في حسابكم، فقوموا أيها المسلمون بشكره، وأدوا ما أوجب عليكم لتبرؤا ذممكم، وتطهروا أموالكم، واحذروا الشح والبخل بما أوجب الله عليكم، فإن ذلك هلاككم، ونزع بركة أموالكم، ألا وإن أعظم ما أوجب الله عليكم في أموالكم الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام، وقرينة الصلاة في محكم القرآن، وجاء في منعها والبخل بها الوعيد بالنيران. قال الله عز وجل: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية الأولى: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع - وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمها - مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك» . (رواه البخاري) . وقال في تفسير الآية الثانية ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسن ألف سنة حتى يقضي بين العباد (رواه مسلم) . وحق المال هو الزكاة. أيها المسلمون إنه والله لا يحمى على الذهب والفضة في نار كنار الدنيا

إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا كلها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا. أيها المسلمون إنه إذا أحمي عليها لا يكوى بها طرف من الجسم متطرف، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية الجباه من الأمام والجنوب من الجوانب والظهور من الخلف. أيها المسلمون إن هذا العذاب ليس في يوم ولا في شهر ولا في سنة، ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدقوا بالقرآن، وصدقوا بالسنة ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها؟ وما فائدتها؟ إنها تكون نقمة عليكم، وثمرتها لغيركم، إنكم لا تطيقون الصبر على وهج النار، فكيف تصبرون على نار جهنم، فاتقوا الله عباد الله، وأدوا الزكاة طيبة بها نفوسكم أيها المسلمون، إن الزكاة واجبة في الذهب والفضة على أي حال كانت سواء كانت جنيهات وريالات، أم قطعا من الذهب والفضة، أم حليا من الذهب والفضة للبس، أو للبيع أو للتأجبير، فالذهب والفضة، جاءت نصوص الكتاب والسنة بوجوب الزكاة فيهما عموما بدون تفصيل، وجاءت نصوص من السنة خاصة في إيجاب الزكاة في الحلي، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: " أتعطين زكاة هذا، قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ورسوله» . قال في بلوغ المرام (رواه الثلاثة وإسناده قوي) لكن لا تجب الزكاة في الذهب والفضة حتى يبلغا نصابا، فنصاب الذهب وزن أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع جنيه، فما دون ذلك لا زكاة فيه، إلا أن يكون للتجارة. ونصاب الفضة وزن ستة وخمسين ريالا سعوديا، فما دون ذلك لا زكاة فيه، أما مقدار الزكاة في الذهب والفضة فهو ربع العشر. وتجب الزكاة أيضا في الأوراق النقدية إذا بلغت ما يساوي ستة وخمسين ريالا سعوديا من الفضة وفيها ربع العشر. وتجب الزكاة في الديون التي للإنسان، وهي الأطلاب التي له على الناس إذا كانت من

الذهب أو الفضة أو الأوراق النقدية، وبلغت نصابا بنفسها أو بضمها إلى ما عنده من جنسها سواء كانت حالة أو مؤجلة، فيزكيها كل سنة، إن كانت على غنى لكن إذا شاء أدى زكاتها قبل قبضها مع ماله، وإن شاء انتظر حتى يقبضها، فيزكيها سنة واحدة عما مضى؛ لأنها قبل قبضها في حكم المعدوم. وتجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصابا بنفسها أو بضمها إلى ما عنده من الدراهم أو العروض، وهي كل مال أعده مالكه للبيع تكسبا، وانتظارا للربح من عقار وأثاث ومواشي وسيارات ومكائن وأطعمة وأقمشة وغيرها، فتجب عليه الزكاة فيها، وهي ربع عشر قيمتها عند تمام الحول، فإذا تم الحول وجب عليه أن يثمن ما عنده من العروض، ويخرج ربع عشر قيمتها سواء كانت القيمة مثل الثمن، أو أقل أو أكثر، فإذا اشترى سلعة بألف ريال مثلا، وكانت عند الحول تساوي ألفين وجب عليه زكاة ألفين، وإن كانت لا تساوي إلا خمسمائة لم يجب عليه إلا زكاة خمسمائة. ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، فلو تلف المال قبل تمام الحول أو نقص النصاب فلا زكاة فيه، ولو مات المالك قبل تمام الحول، فلا زكاة عليه، ولا على الورثة، فلو ورث الشخص مالا، فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول عنده، ويستثنى من ذلك ربح التجارة، ففيه الزكاة إذا تم حول رأس المال، وإن لم يتم الحول على الربح. ويستثنى من ذلك عروض التجارة، فإن حولها حول عوضها، إذا كان نقدا أو عروضا، فإذا كان عند الإنسان دراهم يتم حولها في رمضان، فاشترى بها في شعبان مثلا شيئا للتكسب والتجارة، فإنه يزكيه في رمضان، وإن كان لم يمض عليه إلا شهر واحد، ولا يجوز أن يؤجل زكاته على شعبان من السنة الثانية. ويستثنى من ذلك الأجرة، فإن زكاتها تجب وقت قبضها إذا كان قد مضى على عقد الاجارة حول. وإذا كان الشخص يملك المال شيئا فشيئا كالرواتب الشهرية، فلا زكاة على شيء منه حتى يحول عليه الحول، وإذا كان يشق عليه ملاحظة ذلك، فليزك الجميع في شهر واحد في السنة كل عام، فما تم حوله، فقد زكى في وقته، وما لم يتم حوله، فقد عجلت زكاته، ولا يضر تعجيل الزكاة، وهذا أريح، وأسلم من الاضطراب. وإذا كان للإنسان عقار يسكنه أو سيارة يركبها

أو مكينة لفلاحته، فلا زكاة عليه في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة» . وإذا كان له عقار يؤجره، أو سيارة يكدها في الأجرة، أو معدات يؤجرها، فلا زكاة عليه فيها، وإنما الزكاة فيما يحصل منها من الأجرة. واعلموا أيها المسلمون أن الزكاة لا تنفع، ولا تبرأ منها الذمة حتى توضع في الموضع الذي وضعها الله فيه مثل ذوي الحاجة من الفقراء والمساكين والغارمين الذين عليهم أطلاب لا يستطيعون وفاءها. فلا تحل الزكاة لغني، ولا لقوي مكتسب. وإذا أعطيتها شخصا يغلب على ظنك أنه مستحق، فتبين فيما بعد أنه غير مستحق أجزأت عنك والإثم عليه حيث أخذ ما لا يستحق. ويجوز أن تدفعها إلى أقاربك الذين لا تنفق عليهم إذا كانوا مستحقين لها. ويجوز أن تدفعها لشخص محتاج للزواج إذا لم يكن عنده ما يتزوج به، ولا يقضي بالزكاة دين على ميت، ولا يسقط بها دين على معسر، لا تصرف عن واجب سواها. وفقني الله وإياكم لأداء ما يجب علينا من مال وعمل على الوجه الذي يرضاه بدون عجز، ولا كسل، وزادنا من فضله ما نزداد به قربة إلى ربنا، ورفعة في درجاتنا إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة الثانية فيما يجب إخراجه من زكاة الثمار

[الخطبة الثانية فيما يجب إخراجه من زكاة الثمار] الخطبة الثانية فيما يجب إخراجه من زكاة الثمار الحمد لله الذي من على عباده بما أخرج لهم من الزروع والثمار، وأنعم عليهم بمشروعية صرفها فيما يرضيه عنهم من غير إسراف، ولا إقتار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العزة والاقتدار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان آناء الليل والنهار، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أمدكم به من أموال وبنين وجنات وعيون، أمدكم بثمرات النخيل تتفكهون بها رطبا ويسرا، ثم تدخرونها قوتا وتمرا، فهو الذي خلقها، وأوجدها وهو الذي نماها، وأصلحها، وهو الذي نوعها جودا ورداءة وقسمها، اشكروا الذي أبقاكم حتى أدركتم جناها، واشكروا الذي شرع لكم الإنفاق منها على ما يرضيه، وزكاها، أدوا ما أوجب الله عليكم فيها من الزكاة لتفوزوا بالخلف العاجل والثواب الجزيل من جزيل العطايا والهبات: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] عباد الله أتحسبون أن ما تخرجونه من الزكاة لا ينفعكم؟ أتحسبون أن ما تخرجونه من ذلك فائت عليكم غير مدخر لكم؟ أتحسبون أن ذلك غرم وخسارة؟ لا والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة إن ما تخرجونه من ذلك هو ما تبقونه لأنفسكم في الحقيقة، وهو المال الرابح: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] وإن الذي تبقونه، وتبخلون به هو المال الزائل؛ لأنكم إما أن تأكلوه في حياتكم، فيفنى أو تتركوه لمن بعدكم بعد موتكم، فيغنمه الوارث البعيد، أو الأدنى هذا هو حقيقة ما تبقونه من المال وتلك حقيقة ما تقدمونه عند الملك العلام. «ذبح آل النبي صلى الله عليه وسلم شاة، فتصدقوا بها، ولم يبق منها إلا الكتف، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " ما بقي منها؟ " فقالت عائشة: ما بقي منها إلا كتفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بقي كلها إلا كتفها» . صلى الله عليه وسلم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الذي بقي من الشاة حقيقة هو ما تصدقوا به؛ لأنه هو الذي سيجدونه مدخرا عند الله، أما ما أبقوه فسيفنى. عباد الله إن النفوس مجبولة على الشح، ولكن من يوق شح نفسه فقد أفلح. إن الشيطان يعدكم الفقر، ويأمركم بالبخل، ولا سيما البخل بالزكاة؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام فهو حريص على أن تبخلوا بها حريص على أن تمنعوها بالكلية، أو أن تمنعوا ما يجب فيها من قدر

أو وصف إنه يعدكم، ويمنيكم وما يعدكم الشيطان إلا غرورا. أيها المسلمون إننا في وقت جذاذ النخيل ووقت إخراج زكاتها، وإن الواجب عليكم أن تحاسبوا أنفسكم في الدنيا قبل أن تحاسبوا عليها في الآخرة. لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ما يجب عليهم من زكاة الثمار بيانا ظاهرا لا إشكال فيه، بيانا تقوم به الحجة، وتزول به الشبهة، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» . وهذا بيان ما بعده بيان فالزكاة فيما سقي بالنضح أي: بالسواني والمكائن نصف العشر. سهم بين، ومقدار معلوم، قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وبلغه إليهم، فمات صلوات الله وسلامه عليه، وقد فرض إليهم الأمر، ووكلهم إلى ما عندهم من الدين والأمانة وربه سبحانه هو المتولي لحسابهم: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40] أيها المسلم، حاسب نفسك، أخرج السهم الذي قدره الله لك ورسوله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] أخرج نصف العشر من ثمار نخيلك مراعيا بذلك اختلاف الأنواع وقيمة الجيد منها، لا تبخل على نفسك، فربك لم يفرض الزكاة عليك إلا تكميلا لعبادتك، وتطهيرا لما لك، وإبراء لذمتك. أيها المسلمون إننا في زمن تختلف فيه أنواع النخيل اختلافا بينا ظاهرا، فبينما بعض النخيل يباع الكيلو منها بثلاث ريالات أو أكثر إذا ببعضها يباع الكيلو منه بنصف ريال أو أقل، ثم يغلب الشح بعض الناس، فيخرج زكاة النوع الأول من هذا النوع الثاني الذي نسبته إليه السدس، وهذا حيف بلا شك، فإن هذا ليس بإخراج لنصف العشر باعتبار النخل كله أرأيت لو كان لك سهم من بستان مقدار سهمك نصف العشر هل ترضى أن تأخذ من النوع الذي كيلوه بنصف ريال بدلا عن الذي كيلوه بثلاثة ريالات؟ لن ترضى أبدا إذن فكيف لا ترضاه لنفسك في الدنيا، ثم ترضاه لربك ولنفسك في الآخرة؟ أيها المسلمون إذا عرفتم أن الواجب نصف العشر سهم بين بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من العلماء من قال: يجب عليه أن يخرج زكاة كل نوع من ذلك النوع يخرج زكاة الطيب من الطيب، وزكاة المتوسط من المتوسط، وزكاة الرديء من الرديء، وهذا أمر شاق، ولا سيما مع كثرة الأنواع، ولذلك قال بعض العلماء: لا بأس أن يخرج عن الجيد من المتوسط بقدر القيمة.

وقال الإمام أحمد فيما رواه عنه ابنه وبعض الصحابة، إذا باع ثمره أو زرعه، وقد بلغ ففي ثمنه العشر أو نصفه، فجعل رحمه الله الواجب في الثمن، إذا بيع، وهذا من أعدل ما يكون. أيها المسلمون إنني لا أتكلم بهذا لأن لى حظا في الزكاة، ولا لأسألكم عليه أجرا، ولكني أتكلم به إبراء لذمتي بإبلاغكم، وإبراء لذممكم بإخراج ما يجب عليكم، ولعلكم ستقولون: لماذا لم يتكلم عليه من قبلي؟ ولكن الواجب على هذا سهل فإن التباين الكثير وكثرة الأنواع الجيدة جدا لم يكن إلا من مدة سنين قليلة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ - الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 267 - 268] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثالثة في زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد

[الخطبة الثالثة في زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد] الخطبة الثالثة في زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا من العبادات ما تحصل به القربى إليه وعلو المقام، ونحمده أن من علينا بتيسير الصيام والقيام، وأثاب من فعلهما إيمانا واحتسابا بمغفرة الذنوب والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من تعبد لله، وصلى، وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم على الحق، واستقام، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم وحاسبوا أنفسكم ماذا عملتم في شهركم الكريم فإنه ضيف قارب الزوال، وأوشك على الرحيل عنكم، والانتقال، وسيكون شاهدا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا رحمكم الله ما بقي منه بالتوبة، والاستغفار، والاستكثار من صالح الأقوال، والأفعال، والابتهال إلى ذي العظمة، والجلال لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال. لقد كانت أيام هذه الشهر معمورة بالصيام والذكر والقرآن ولياليه منيرة بالصلاة والقيام وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي، ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر، وانتهت هذه الليالي الدرر، كأنما هي ساعة من نهار، فنسأل الله أن يخلف علينا ما مضى منها بالبركة، فيما بقي، وأن يختم لنا شهرنا بالرحمة والمغفرة والعتق من النار والفوز بدار السلام، وأن يعيد أمثاله علينا، ونحن نتمتع بنعمة الدين والدنيا والأمن والرخاء إنه جواد كريم. عباد الله إن ربكم الكريم شرع لكم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيمانكم، وتكمل بها عباداتكم، وتتم بها نعمة ربكم. شرع الله لنا زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد. أما زكاة الفطر فقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام، وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة

للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات. فأخرجوا أيها المسلمون زكاة الفطر مخلصين لله ممتثلين لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع المسلمين صغيرهم وكبيرهم حتى من في المهد، أما الحمل في البطن، فلا يجب الإخراج عنها إلا تطوعا، إلا أن يولد قبل ليلة العيد فيجب الإخراج عنه. أخرجوها صاعا عن كل شخص مما تطعمون من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من طعام الآدميين، أخرجوها طيبة بها نفوسكم واختاروا الأطيب والأنفع فإنها صاع واحد في الحول مرة، فلا تبخلوا على أنفسكم بما تستطيعون. أخرجوها مما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، ولا تخرجوها من الدراهم، ولا من الكسوة، فمن أخرجها من ذلك لم تقبل منه؟ ولو أخرج عن الصاع ألف درهم، أو ألف ثوب لم يقبل؛ لأنه خلاف ما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . ادفعوها إلى الفقراء خاصة. والأقارب المحتاجون أولى من غيرهم. ولا بأس أن تعطوا الفقير الواحد فطرتين أو أكثر. ولا بأس أن توزعوا الفطرة الواحدة على فقيرين أو أكثر. ولا بأس أن يجمع أهل البيت فطرتهم في إناء واحد بعد كيلها، ويوزعوا منها بعد ذلك بدون كيل. وإذا أخذ الفقير فطرة من غيره، وأراد أن يدفعها عن نفسه أو عن أحد من عائلته، فلا بأس لكن لا بد أن يكيلها خوفا من أن تكون ناقصة إلا أن يخبره دافعها بأنها كاملة، فلا بأس أن يدفعها بدون كيل إذا كان يثق بقوله. أيها المسلمون أخرجوا زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة عن تيسر لكم، فإنه أفضل، ولا بأس أن تخرجوها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تقديمها على ذلك، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، إلا من عذر مثل أن يأتي خبر ثبوت العيد فجأة، ولا يتمكن من إخراجها قبل الصلاة. ومن دفع زكاة الفطر إلى وكيل الفقير في وقتها برئت ذمته، ومن دفعها إلى وكيله هو ليدفعها للفقير، لم تبرأ ذمته، حتى يدفعها وكيله في وقتها إلى الفقير أو وكيله، والأفضل إخراج الفطرة في المكان الذي أنتم فيه في وقتها سواء كان بلدكم، أو غيره من بلاد المسلمين، لا سيما إذا كان مكانا فاضلا كمكة والمدينة، ولا بأس أن توكلوا من يخرجها عنكم في بلدكم، إذا سافرتم إلى غيره. هذه زكاة الفطر، أما التكبير، فقد شرع الله لنا التكبير عند إكمال العدة

فقال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فكبروا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، اجهروا بذلك تعظيما لله، وإظهارا للشعائر، إلا النساء، فتكبرن سرا. وأما صلاة العيد فقد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء حتى العواتق وذاوت الخدور اللآتي ليس لهن عادة بالخروج، وحتى الحيض يشهدن دعاء الخير، ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى، فلا يجلسن في مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد مسجد يثبت له جميع أحكام المساجد. وفي الصحيحين عن أم عطية رضي الله عنها، قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض، فيعتزلن الصلاة، وفي لفظ المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، فقلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: " لتلبسها أختها من جلبابها» . فاخرجوا أيها المسلمون إلى صلاة العيد رجالا ونساء صغارا وكبارا تعبدا لله عز وجل، وامتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتغاء للخير، ودعوة المسلمين، فكم في ذلك المصلى من خيرات تنزل، وجوائز من الرب الكريم تحصل و، دعوات طيبات تقبل. وليخرج الرجال متنظفين متطيبين لابسين أحسن ثيابهم غير أنه لا يجوز لهم لبس الحرير، ولا شيء من الذهب، فإنهما حرام على الذكور. وليخرج النساء محتشمات غير متطيبات، ولا متبرجات بزينة. والسنة أن يأكل قبل الخروج إلى صلاة العيد تمرات وترا وثلاثا أو خمسا، أو أكثر إن أحب يقطعهن على وتر، قال أنس بن مالك رضي الله عنه «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر، حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا» ، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] وأما الخروج بالتمر إلى مصلى العيد، وأكله هناك بعد طلوع الشمس، فإنه من البدع، وكل بدعة ضلالة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الفرع الرابع في الصيام والقيام

[الفرع الرابع في الصيام والقيام] [الخطبة الأولى في الاجتهاد في رمضان] الفرع الرابع في الصيام والقيام الخطبة الأولى في الاجتهاد في رمضان الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم بذلك الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، وليضاعف لهم به الأجور، ويرفع الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطايا، وجزيل الهبات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المخلوقات أتقى الناس لربه، وأخشاهم له في جميع الحالات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما توالت الشهور والأوقات، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخير والبركات، وما حباكم به من الفضائل والكرامات، واعرفوا قدر هذه المواسم بعمارتها بالطاعات وترك المحرمات. عباد الله لقد أظلكم شهر مبارك كريم وموسم رابح عظيم شهر تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات شهر أوله رحمه، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار شهر أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره فريضة، وقيام ليله تطوعا، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتقا له من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء أعطيت فيه هذه الأمة خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته، فيقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كان يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة منه. إنه شهر رمضان من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيه بعمرة كان في الأجر كمن حج فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال « (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، والصوم جنة (يعني وقاية من الإثم والنار) فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد، أو قاتله، فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد

بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» . للصائم فرحتان يفرحهما فرحة بنعمتين نعمة الله عليه بالصيام، ونعمته عليه بإباحة الأكل والشراب، والنكاح، وأما فرحه عند لقاء ربه، فيفرح بما يجده من النعيم المقيم في دار السلام. وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قال: إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون لا يدخله غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، ولم يفتح لغيرهم» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « (ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) » . عباد الله اغتنموا شهر رمضان بكثرة العبادة والصلاة والقراءة والإحسان على الخلق بالمال والبدن والعفو عنهم، واستكثروا فيه من أربع خصال اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنهما، فأما اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار. عباد الله احفظوا صيامكم عن النواقص، والنواقض احفظوه عن اللغو والرفث، وقول الزور، وهو كل قول محرم وعمل الزور، وهو كل عمل محرم، فمن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، ومن لم يحفظ صيامه، فرب صائم ليس له إلا الجوع والظمأ. اجتنبوا الكذب والفحش والغش والخيانة، اجتنبوا الغيبة والنميمة، اجتنبوا الأغاني المحرمة، واللهو المحرم، فعلا، وسماعا، فإن كل هذه من منقصات الصيام. قوموا بما أوجب الله عليكم من الصلاة في أوقاتها وأدائها مع الجماعة قوموا بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الحكمة من الصيام التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] عباد الله قوموا شهر رمضان، فإن من قامه إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، واعلموا أن صلاة التروايح هي قيام رمضان، ولكن سميت تراويح؛ لأنهم كلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا صلوا هذه التراويح بطمأنينة بخشوع وحضور قلب، فإنها صلاة لا مجرد حركات، والمقصود منها التعبد لا سرد ركعات، وإن كثيرا من الناس يتهاون بهذه التراويح من الأئمة وغير الأئمة، أما الأئمة، فكثير منهم يسرع بها إسراعا مخلا بكثير من السنن بل ربما يخل

بالأركان، وأما غير الأئمة، فيفرطون فيها بالترك، وعدم الصبر مع الإمام، وقد قال النبي: «من قام مع الإمام حتى ينصرف من الوتر، وإذا قمتم من آخر الليل، وأحببتم الصلاة، فصلوا ركعتين ركعتين بدون وتر؛ لأن الوتر لا يعاد مرة ثانية» . واعلموا أن أفضل عدد تصلى به التراويح ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد في رمضان، ولا غيره على إحدى عشر ركعة» . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . (رواه مسلم) وصح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أبي بن كعب، وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (رواه مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف، وهو ثقة ثبت عن السائب بن يزيد وهو صحابي) فهذا العدد جاءت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه فيها عمر ومع ذلك لو صلاها الإنسان ثلاثا وعشرين أو تسعا وثلاثين كما كان السلف في ذلك اختلاف، ولكن الذي ينكر على بعض الناس هو الإسراع المفرط الذي تذهب به الطمأنينة، وتفوت به مكملات الصلاة، وربما واجباتها. واجتهدوا أيها المسلمون في قراءة القرآن، فإنه كلام ربكم، فلكم الشرف في تلاوته والأجر، ولكم بالعمل به الحياة الطيبة وطيب الذكر، ولكم بكل حرف منه عشر حسنات، وإذا مررتم بآية سجدة، فاسجدوا في آية ساعة من ليل أو نهار كبروا عند السجود، وقولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى، وادعوا، وإذا سجدتم للتلاوة في الصلاة، فكبروا عند السجود، وعند الرفع منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ - اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ - الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 1 - 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثانية في صوم رمضان ومن يجب عليه

[الخطبة الثانية في صوم رمضان ومن يجب عليه] الخطبة الثانية في صوم رمضان ومن يجب عليه إن الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخيرات، وما حباكم به من الفضائل والكرامات، وعظموا تلك المواسم، واقدروها قدرها بفعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والموبقات، فإن تلك المواسم ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم. عباد الله: لقد استقبلتم شهرا كريما، وموسما رابحا عظيما لمن وفقه الله فيه للعمل الصالح استقبلتم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن شهرا تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، جعل الله صيام نهاره فريضة من أركان إسلامكم، وقيام ليله تطوعا لتكميل فرائضكم، من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن أتى فيه بعمرة كان كمن أتى بحجة، فيه تفتح أبواب الجنة، وتكثر الطاعات من أهل الإيمان، وتغلق أبواب النار، فتقل المعاصي من أهل الإيمان، وتغل الشياطين، فلا يخلصون إلى أهل الإيمان بمثل ما يخلصون إليهم في غيره. أيها الناس صوموا لرؤية هلال رمضان، ولا تقدموا عليه بصوم يوم أو يومين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك إلا من كان عليه قضاء من رمضان الماضي، فليقضه أو كان له عادة بصوم، فليصمه مثل من له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس، فصادف قبل الشهر بيوم أو يومين، أو كان له عادة بصيام أيام البيض، ففاتته، فليس عليه بأس بصيامها قبل رمضان بيوم أو يومين، ولا تصوموا يوم الشك، وهو يوم الثلاثين من شعبان، إذا كان في ليلته ما يمنع رؤية الهلال من غيم أو فتر أو نحوهما. ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» . ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» . وقال عمار بن

ياسر رضي الله عنه: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. ومن رأى الهلال يقينا، فليخبر به ولاة الأمور، ولا يكتمه. وإذا أعلن في إذاعتكم ثبوت دخول رمضان، فصوموا، وإذا أعلن فيها ثبوت دخول شوال، فأفطروا؛ لأن إعلان ولاة الأمور ذلك حكم به. «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه رأى الهلال، فقال: " أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا» . وصوم رمضان أحد أركان الإسلام فرضه الله على عباده، فمن أنكر فريضته فهو كافر؛ لأنه مكذب الله ورسوله وإجماع المسلمين قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فالصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم ذكرا كان أم أنثى، ليست حائضا ولا نفساء. فلا يجب الصوم على كافر، فلو أسلم في أثناء رمضان لم يلزمه قضاء ما مضى منه، ولو أسلم في أثناء يوم من رمضان أمسك بقية اليوم، ولم يلزمه قضاؤه. ولا يجب الصوم على صغير لم يبلغ لكن إذا كان لا يشق عليه أمر به ليعتاده، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصومون أولادهم حتى إن الصبي ليبكي من الجوع، فيعطونه لعبة يتلهى بها إلى الغروب. ويحصل بلوغ الصغير، إن كان ذكرا بواحد من أمور ثلاثة: أن يتم له خمس عشرة سنة، أو تنبت عانته، أو ينزل منيا باحتلام، أو غيره، وتزيد الأنثى بأمر رابع، وهو الحيض، فمتى حصل للصغير واحد من هذه الأمور، فقد بلغ، ولزمته فرائض الله وغيرها من أحكام التكليف إذا كان عاقلا. ولا يجب الصوم على من لا عقل له كالمجنون والمعتوه ونحوهما، فالكبير المهذري لا يلزمه الصوم، ولا الإطعام عنه، ولا الطهارة، ولا الصلاة؛ لأنه فاقد التمييز فهو بمنزلة الطفل قبل تمييزه. ولا يجب الصوم على من يعجز عنه عجزا دائما كالكبير والمريض مرضا لا يرجى برؤه، ولكن يطعم بدلا عن الصيام عن كل يوم مسكينا بعدد أيام الشهر لكل مسكين ربع صاغ نبوي من البر أي: أن الصاع يكفي لأربعة فقراء عن أربعة أيام، والأحسن أن يجعل مع الطعام شيئا يأدمه من لحم أو دهن. وأما المريض بمرض يرجى برؤه، فإن كان الصوم لا يشق عليه، ولا يضره وجب عليه أن يصوم؛ لأنه لا عذر له، وإن كان الصوم يشق

عليه لا يضره، فإنه يفطر، ويكره له أن يصوم، وإن كان الصوم يضره، فإنه يحرم عليه أن يصوم، ومتى برئ من مرضه قضى ما أفطر، فإن مات قبل برئه، فلا شيء عليه. والمرأة الحامل التي يشق عليها الصوم لضعفها أو ثقل حملها يجوز لها أن تفطر، ثم تقضي إن تيسر لها القضاء قبل وضع الحمل أو بعده إذا طهرت من النفاس، والمرضع التي يشق عليها الصوم من أجل الرضاع أو بنقص لبنها من الصوم نقصا يخل بتغذية الولد تفطر، ثم تقضي في أيام لا مشقة فيها ولا نقص. والمسافر إن قصد بسفره التحيل على الفطر، فالفطر حرام عليه، ويجب عليه الصوم، وإن لم يقصد بسفره التحيل على الفطر فهو مخير بين أن يصوم، وبين أن يفطر، ويقضي عدد الأيام التي أفطر، والأفضل له فعل الأسهل عليه، فإن تساوى عنده الصوم والفطر، فالصوم أفضل؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أسرع في إبراء ذمته، وأخف من القضاء غالبا، وإن كان الصوم يشق عليه بسبب السفر كره له أن يصوم، وإن عظمت المشقة به حرم أن يصوم؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، والناس ينظرون، فقيل له: بعد ذلك إن بعض الناس قد صام، فقال: " أولئك العصاة أولئك العصاة» . ولا فرق في المسافر بين أن يكون سفره عارضا لحاجة، أو مستمرا في غالب الأحيان مثل أصحاب سيارات الأجرة (التكاسي) أو غيرها من السيارات الكبيرة، فإنهم متى خرجوا من بلدهم، فهم مسافرون يجوز لهم ما يجوز للمسافرين الآخرين من الفطر في رمضان وقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء عند الحاجة، والفطر لهم أفضل من الصيام، إذا كان الفطر أسهل لهم، ويقضونه في أيام الشتاء؛ لأن أصحاب هذه السيارات لهم بلد ينتمون إليها، وأهل فيها يأوون غليهم، فمتى كانوا في بلدهم فهم مقيمون، وإذا خرجوا منها، فهم مسافرون لهم ما للمسافرين، وعليهم ما على المسافرين. ومن سافر في أثناء اليوم في رمضان، وهو صائم، فالأفضل أن يتم صومه يومه، فإن كان فيه مشقة، فليفطر، ثم يقضيه. ولا يتقيد السفر بزمن، فمن خرج من بلده مسافرا، فهو على سفر حتى يرجع إلى بلده، ولو أقام مدة طويلة في البلد التي سافر إليها إلا أن يقصد بتطويل مدة الإقامة التحيل للفطر، فإنه يحرم عليه الفطر، ويلزمه الصوم؛ لأن فرائض الله تعالى لا تسقط بالتحيل عليها.

ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء، ولا يصح منهما إلا إن تطهرا قبل الفجر، ولو بلحظة، فيجب عليهما الصيام، ويصح منهما، وإن لم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر، ويلزمهما قضاء ما أفطرتا من الأيام. أيها المسلمون لقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام هذا الشهر، وقال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . وإن صلاة التراويح من قيام رمضان، فأقيموها، وأحسنوها، وقوموا مع إمامكم حتى ينصرف، فإن من قام مع الإمام، حتى ينصرف كتب له قيام ليلة تامة، وإن كان نائما على فراشه. وإن على الأئمة أن يتقوا الله عز وجل في هذه التروايح، فيراعوا من خلفهم، ويحسنوا الصلاة لهم، فيقيمونها بتأن وطمأنينة، ولا يسرعوا فيها، فيحرموا أنفسهم ومن وراءهم الخير، أو ينقروها نقر الغراب لا يطمئنون في ركوعها وسجودها وقعودها والقيام بعد الركوع فيها على الأئمة أن لا يكون هم الواحد منهم أن يخرج قبل الناس، أو أن يكثر عدد التسليمات دون إحسان الصلاة، فإن الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] لم يقل: أيكم أسرع نهاية، أو أكثر عملا، وقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم، وهو أحرص الناس على الخير والأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام بأصحابه في رمضان، ثم ترك ذلك خشية أن تفرض على الناس، فيعجزوا عنها. وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما في الناس بإحدى عشرة ركعة، فهذا العدد الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، وواظب عليه، واتبعه فيه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أفضل عدد تصلى به التراويح، ولو زاد الإنسان رغبة في الزيادة لا رغبة عن السنة بعد أن تبينت له لم ينكر عليه لو زود ذلك عن بعض السلف، وإنما ينكر الإسراع الفاحش الذي بفعله بعض الأئمة، فيفوت الخير عليه وعلى من خلفه. وفقني الله وإياكم لاغتنام الأوقات بالطاعات، وحمانا من فعل المنكر والسيئات، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا صراط أصحاب الجحيم، وجعلنا ممن يصوم رمضان، ويقومه إيمانا بالله، واحتسابا لثواب الله إنه جواد كريم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب. . الخ.

الخطبة الثالثة في المفطرات

[الخطبة الثالثة في المفطرات] الخطبة الثالثة في المفطرات الحمد لله الذي بين لعباده الحرام والحلال. وحد لهم الحدود بينة المعالم، فلا غموض فيها، ولا إشكال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكبير المتعال، أشهد أن محمدا عبده ورسوله أتقى الخلق لله وأهداهم في المقال والفعال. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليالي وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما أبان لكم من معالم الدين، والتزموا طاعته وتقواه سيرة النبيين والمرسلين، فإن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا، فلا تعتدوها، وإن مما حد الله، وأوضحه، وأبانه، وأظهره ذلك الصيام الذي هو أحد أركان الإسلام بين الله متى ابتداء الصوم وانتهاؤه شهريا، ومتى ابتداؤه، وانتهاؤه يوميا، فقال في الشهر: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فإذا تبين الفجر إما بمشاهدته إن كان الإنسان في فضاء، وإما بسماع المؤذنين الذين يؤذنون على طلوع الفجر دخل وقت الصيام إلى غروب الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» . وقال: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأشار إلى المشرق، وأدبر النهار من هاهنا، وأشار إلى المغرب، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم» . أيها الناس: إن المفطرات التي تجنب في الصيام سبعة أنواع: الأول الجماع، وهو أعظم المفطرات، وفيه الكفارة المغلظة إذا حصل في نهار رمضان ممن يجب عليه الصيام وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. الثاني إنزال المني باختياره بتقبيل أو لمس أو ضم أو استمناء أو غير ذلك، فأما إنزال المني بالاحتلام، فلا يفطر؛ لأنه من نائم، والنائم لا اختيار له. الثالث الأكل والشرب، وهو إيصال الطعام والشراب إلى جوفه سواء كان ذلك الطعام والشراب حلالا أم حراما نافعا أم غير نافع، وسواء كان عن طريق الفم أم طريق الأنف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بالغ في الاستنشاق» . يعني في الوضوء إلا أن تكون

صائما فدل هذا على أن الداخل من الأنف كالداخل من الفم، فأما شم الروائح، فلا يفطر؛ لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف. الرابع ما كان بمعنى الأكل والشرب مثل الإبر المغذية وهي التي يستغنى بها عن الطعام والشراب؛ لأنها بمعناهما فأما غير المغذية، وهي التي للتداوي وتنشيط الجسم، فإنها لا تفطر سواء أخذت مع العرق أم مع العضلات لأنها ليست بمعنى الأكل والشرب. الخامس من المفطرات إخراج الدم بالحجامة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» . ولا يفطر بخروج الدم بالرعاف ونحوه؛ لأنه بغير اختياره. ولا يفطر بخروج الدم من قلع السن أو الضرس؛ لأنه غير مقصود لكن لا يبلع الدم لأن بلع الدم حرام على الصائم وغيره. ولا يفطر بشق الجرح لإخراج القيح منه، ولو خرج منه دم. فأما سحب الدم من الصائم ليحقن في شخص آخر محتاج له، فإنه يفطر؛ لأنه كثير يؤثر على البدن كما تؤثر الحجامة، وعلى هذا فلا يجوز لمن صومه واجب أن يمكن من سحب الدم منه، إلا أن يكون لشخص مضطر لا يمكن صبره إلى الغروب، ويرجى انتفاعه بهذا الدم، فله أن يمكن من سحب الدم منه لهذا المضطر، ويأكل، ويشرب، ويقضي يوما مكانه. السادس من المفطرات القيء وهو إخراج ما في معدته من الطعام أو الشراب إذا تعمده، فأما إن هاجت معدته، وخرج الطعام بدون تعمد منه، فلا يفطر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء أي: غلبه فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدا فليقض» . وهذه المفطرات الستة لا يفطر بها الصائم إلا إذا فعلها عالما ذاكرا مختارا، فلا يفطر إن فعلها جاهلا مثل أن يفعل شيئا من المفطرات يظن أنه لا يفطر وهو يفطر، أو يظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع، أو يظن أن الشمس قد غربت، وهي لم تغرب، فليس عليه في ذلك حرج ولا قضاء لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ثم طلعت الشمس» ، ولم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء، ولو أمرهم لذكرته لأهميته، وما كان الله ليضيع على عباده حكما واجبا بدون بيان لكن متى علم أنه في نهار وجب عليه التوقف عن تناول المفطر، فإن استمر في تناول المفطر بطل صومه.

ولا يفطر إذا فعل شيئا من المفطرات ناسيا لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وقول النبي صلى الله عليه وسلم «من نسي وهو صائم، فأكل، أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله، وسقاه» لكن إذا ذكر، أو ذكر وجب عليه التوقف عن تناول المفطر، فإن استمر بطل صومه حتى لو كان الشيء في فمه، فبلعه بعد ذكره بطل صومه، ومن رأى صائما يأكل أو يشرب ناسيا، فليذكره فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى. ولا يفطر إذا حصل عليه شيء من المفطرات بغير اختياره، فلو طال إلى جوفه غبار أو تسرب إليه ماء عند المضمضة أو الاستنشاق بغير اختياره، فصومه صحيح ولا شيء عليه. النوع السابع من المفطرات خروج دم الحيض أو النفاس، فمتى خرج ذلك، ولو قبل الغروب بلحظة بطل الصوم، ولو أحست بحركته قبل الغروب، ولم يخرج إلا بعده ولو بزمن قليل فالصوم صحيح لأنه لا يبطل إلا بخروجه. ويجوز للصائم أن يتكحل بأي كحل شاء، وأن يقطر دواء في عينه أو أذنه، وأن يداوي جروحه، وأن يتطيب بالبخور وغيره لكن لا يستنشق دخان البخور، فيدخل إلى جوفه، ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه الحر، والعطش كالتبرد بالماء، وبل الثوب، ونحوه، فقد روى الإمام مالك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب الماء على رأسه من العطش أو من الحر يعني وهو صائم» . وبل ابن عمر ثوبه، وألقاه على بدنه. ويجوز للصائم أن يتسوك في أول النهار وآخره، وهو سنة له كما هو سنة لغيره، ويتأكد عند الصلاة والضوء والقيام من النوم، وأول ما يدخل بيته. والسنة أن يفطر على رطب، فإن لم يكن فتمر، فإن لم يكن فماء، فإن لم يكن فعلى أي طعام أو شراب حلال، فإن غربت الشمس وهو في مكان ليس عنده شيء نوى الفطر بقلبه، ولا يمص أصبعه كما يفعله بعض العوام. واحفظوا أيها المسلمون صيامكم من اللغو والرفث وقول الزور وفعله، فإن من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. أقيموا الصلاة في أوقاتها مع الجماعة، أكثروا من الصلاة والذكر وقراءة القرآن والصدقة وغيرها من الطاعات، اجتنبوا ما حرم الله عليكم من الغيبة والنميمة والغش والكذب والسب والشتم، وإن سابكم أحد، فقولوا: إني صائم، ابتعدوا عن استماع المعازف وآلات اللهو من الراديو أو غيره، فإن الصوم جنة يتقي بها الصائم الآثام، وينجو بها من النار، فمن تجرأ على المحرمات، أو تهاون بالواجبات في

صيامه نقص ذلك من أجره.: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الرابعة في التراويح

[الخطبة الرابعة في التراويح] الخطبة الرابعة في التراويح الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم بذلك الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وقوموا رمضان فإن من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ألا وإن صلاة التروايح من قيام رمضان، ولكنها سميت تراويح؛ لأن الناس في السلف الصالح كانوا كلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا. فصلوا صلاة التروايح بطمأنينة بخشوع وحضور قلب، فإنها صلاة وعبادة ليست مجرد حركات وعمل لا يدري الإنسان ما يقوله فيه، وما يفعل، والمقصود بها التعبد لا سرد الركعات، وإن كثيرا من الناس يتهاون بها الأئمة وغير الأئمة. أما الأئمة فكثير منهم يسرع بها إسراعا مخلا بكثير من السنن، بل ربما يخل بالأركان، وأما غير الأئمة فكثير من الناس يفرطون فيها، فلا يصلونها ومنهم من يصلي بعضها، وينصرف قبل إمامه، وهذا حرمان لفضيلتها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» ، فاصبروا حتى يكمل الإمام صلاته، وأوتروا معه، وإذا قمتم من آخر الليل، وأردتم أن تصلوا، فصلوا ركعتين ركعتين، ولا تعيدوا الوتر؛ لأن الوتر لا يعاد مرة ثانية في الليلة ". واعلموا رحمكم الله أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما كان صلى الله عليه وسلم يعلن ذلك في خطبة الجمعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وكان من هديه في قيام الليل أن لا يزيد على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة لا في رمضان، ولا في غيره، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: «كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» (متفق عليه) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . (رواه مسلم) . وصح عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه أمر أبيّ بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة (رواه مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف وهو ثقة ثبت عن السائب بن يزيد وهو صحابي) فهذا العدد أعني

الإحدى عشرة هو ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه على ذلك عمر رضي الله عنه فهو خير الهدي، وأكمله، وأتمه، وأحسنه، وقد قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملا، وأحسن العمل، وأتمه ما كان أقوى إخلاصا لله، وأشد اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون التروايح بإحدى عشرة، أو بثلاث عشرة ركعة هو الأفضل والأحسن، ومع ذلك لو صلاها الإنسان ثلاثا وعشرين، أو ثلاثا وأربعين أو تسعا وثلاثين أو سبع عشرة أو تسع عشرة ما أنكر عليه؛ لأن الناس اختلفوا في ذلك، ولكن الفاصل بينهم عند الخلاف هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي ينكر ما يفعله بعض الناس من السرعة العظيمة المخلة المتعبة والإمام راع، فيمن يصلي خلفه، فعليه أن يفعل ما هو الأكمل في حقهم، ولا يسرع بهم ذلك الإسراع المخل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] أيها المسلمون إن مما أنعم الله به على عباده في هذا العصر مكبرات الصوت التي تبلغ صوت الإمام لمن خلفه، فيسمعه جميع أهل المسجد، وينشطون في صلاتهم لذلك، ولكن بعض الناس استعمله استعمالا سيئا، فرفعه على المنارة، وهذا حرام؛ لأنه وقوع فيما نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج على أصحابه وهم يصلون، ويجهرون بالقراءة، فقال: «كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن» . ولأنه أذية للمصلين حوله في المساجد والبيوت حيث يشوش عليهم القراءة والدعاء، فيحول بينهم وبين ربهم، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ويمكن حصول منفعة مكبر الصوت بدون مضرة بأن يفصل عن المنارة، ويوضع سماعات في داخل المسجد تنفع المصلين، ولا تؤذي من كان خارج المسجد. اللهم ارزقنا اتباع نبينا، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، واسقنا من حوضه، وأدخلنا في شفاعته، واجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارزقنا اغتنام أوقات شهر رمضان بالعمل الصالح المقرب إليك، وزودنا بالتقوى للقيام بين يديك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الخامسة في العمل في العشر الأواخر من رمضان

[الخطبة الخامسة في العمل في العشر الأواخر من رمضان] الخطبة الخامسة في العمل في العشر الأواخر من رمضان الحمد لله الذي وفق برحمته من شاء من عباده، فعرفوا أقدر مواسم الخيرات، وعمروها بطاعة الله، وخذل من شاء بحكمته، فعميت منهم القلوب والبصائر، وفرطوا في تلك المواسم، فباءوا بالخسائر، وأشهد أن الله لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم القاهر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أقوم الناس بطاعة ربه في البواطن والظواهر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، فهما خزائن الأعمال ومراحل الآجال يودعهما الإنسان ما قام به فيهما من عمل، ويقطعهما مرحلة مرحلة حتى ينتهي به الأجل، فانظروا رحمكم الله ماذا تودعونهما، فستجد كل نفس ما عملت، وتعلم ما قدمت وأخرت في يوم لا يستطيع به الخلاص مما فات: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ - بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ - وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 13 - 15] أيها الناس لقد قطعتم الأكثر من شهر الصيام، ولم يبق منه إلا اليسير من الليالي والأيام فمن كان منكم قام بحقه، فليتم ذلك، وليحمد الله عليه، وليسأله القبول، ومن كان منكم فرط فيه، وأساء، فليتب إلى ربه، فباب التوبة مفتوح غير مقفول. أيها الناس إنكم في العشر الأخيرة من هذا الشهر الكريم، فاغتنموه بطاعة الله المولى العظيم أحسنوا في أيامه الصيام، ونوروا لياليه بالقيام، واختموه بالتوبة والاستغفار وسؤال الله العفو والعتق من النار كم أناس تمنوا إدراك هذا العشر، فأدركهم المنون، فأصبحوا في قبورهم مرتهنين لا يستطيعون زيادة في صالح الأعمال ولا توبة من التفريط والإهمال، وأنتم قد أدركتموها بنعمة الله في صحة وعافية، فاجتهدوا فيها بالعمل الصالح والدعاء لعلكم تصيبون نفحة من رحمة الله تعالى، فتسعدوا بها في الدنيا والآخرة. عباد الله لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعظم هذا العشر، ويخصه بالاعتكاف في المسجد تفرغا لعبادة ربه، وتحريا لليلة القدر التي قال الله عنها في كتابه: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ومعنى ذلك أنها خير من ثلاثين ألف ليلة أو قريبا منها خير منها في بركتها، وما يفيض فيها المولى الكريم على عباده من الرحمة والغفران وإجابة الدعاء وقبول الأعمال.

فاجتهدوا عباد الله في طلبها كما كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يفعل، فإنه كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله بعبادة ربه نعم كان يفعل ذلك، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر الذي هو أتقى الناس وأخشاهم لله تعالى فكيف بنا نحن المفرطين المذنبين. فاجتهدوا عباد الله في طلب تلك الليلة الشريفة المباركة، وتحروا خيرها وبركتها بالمحافظة على الصلوات المفروضة وكثرة القيام وأداء الزكاة وبذل الصدقات وحفظ الصيام وكثرة الطاعات واجتناب المعاصي والسيئات والبعد عن العداوة بينكم والبغضاء والمشاحنات، فإن الشحناء من أسباب حرمان الخير في ليلة القدر، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر أصحابه بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين أي: تخاصما، وتنازعا، فرفعت بسبب ذلك. واحرصوا على قيام الليل مع الإمام في أول الليل وآخره، وإذا قمتم من منامكم، فقولوا: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، واذكروا الله، وادعوه، وتطهروا، وافتتحوا القيام بركعتين خفيفتين امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعا له، ولتحلوا عنكم عقد الشيطان التي يعقدها على كل نائم، فإذا استيقظ، وذكر الله انحلت عقدة، فإذا تطهر انحلت الثانية، فإذا صلى انحلت الثالثة فأصبح نشيطا طيب النفس، ومن جاء وقد شرع الإمام في القيام، ولم يصل الركعتين الخفيفتين في بيته، فإنه يدخل مع الإمام، ولا يصليهما لئلا ينفرد بصلاة وحده عن الجماعة. وأطيلوا القيام في الليل أطيلوا القراءة، وتدبروها، وأطيلوا الركوع، والقيام بعده وأطيلوا السجود والجلوس بين السجدتين، واجعلوا القيام بعد الركوع والجلوس بين السجدتين مقاربا للركوع والسجود، ولا تفعلوا كما يفعل كثير من الناس يطيلون الركوع، ويقصرون عنه القيام بعده، ويطيلون السجود، ويقصرون عنه الجلوس بين السجدتين، فإن ذلك خلاف السنة. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: «كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريبا من السواء» . أكثروا في الركوع من تعظيم الله عز وجل بقول: سبحان ربي العظيم وغيرها مما ورد، وأكثروا من تحميد الله والثناء عليه في القيام بعد الركوع حتى يكون مقاربا للركوع، وأكثروا من الدعاء في السجود بعد قول: سبحان ربي الأعلى وغيرها مما ورد، فدعاء الله في السجود حري بالإجابة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأكثروا من الدعاء في الجلوس بين السجدتين حتى يكون مقاربا للسجود. وأحضروا قلوبكم

في صلواتكم فرضها ونفلها، وأخلصوا في دعائكم، وألحوا على ربكم، فإنه يحب الملحين في الدعاء لمحبته للجود والكرم قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] اللهم وفقنا للدعاء ومن علينا بالإجابة. اللهم تقبل دعاءنا وعباداتنا، وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم. وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفرع الخامس في الحج والأضحية

[الفرع الخامس في الحج والأضحية] [الخطبة الأولى في فرضية الحج وشروطها] الفرع الخامس في الحج والأضحية الخطبة الأولى في فرضية الحج وشروطها الحمد لله الذي فرض الحج على عباده إلى بيته الحرام، ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام، فمن حج البيت، فلم يرفث، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب والآثام والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى، وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج إلى بيته حيث استطعتم إليه سبيلا فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» . وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بني على هذه الخمس فلا يتم إسلام عبد حتى يحج، ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة (أي غنى) ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. ففريضة الحج ثابتة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين عليها إجماعا قطعيا، فمن أنكر فريضة الحج، فقد كفر، ومن أقر بها، وتركها تهاونا فهو على خطر. فإن الله يقول بعد ذكر إيجابه على الناس: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام، وأركانه كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه؟ وكيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه؟ وكيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر سوى مرة واحدة؟ وكيف يتراخى ويؤخر أداءه وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه.

فاتقوا الله عباد الله، وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج تعبدا لله تعالى، ورضا بحكمه وسمعا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] إن المؤمن إذا أدى الحج والعمرة بعد بلوغه مرة واحدة، فقد أسقط الفريضة عن نفسه، وأكمل بذلك أركان إسلامه، ولم يجب عليه بعد ذلك حج ولا عمرة إلا أن ينذر الحج أو العمرة، فيلزمه الوفاء بما نذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» . أيها المسلمون إن من تمام رحمة الله ومن بالغ حكمته أن جعل لفرائضه حدودا وشروطا لتنضبط الفرائض، وتتحدد المسؤولية، وجعل هذه الحدود والشرائط في غاية المناسبة للفاعل والزمان والمكان، ومن هذه الفرائض الحج، فله حدود وشروط، ولا يجب على المسلم إلا بها، فمنها البلوغ، ويحصل في الذكور بواحد من أمور ثلاثة: إنزال المني أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات العانة. وفي الإناث بهذه الثلاثة وزيادة أمر رابع، وهو الحيض فمن لم يبلغ فلا حج عليه ولو كان غنيا لكن لو حج صح حجه تطوعا، وله أجره، فإذا بلغ أدى الفريضة؛ لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض؛ لأنه لم يفرض عليه بعد فهو كما لو تصدق بمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك نصابه. وعلى هذا فمن حج ومعه أبناؤه أو بناته الصغار، فإن حجوا معه كان له أجر، ولهم ثواب الحج، وإن لم يحجوا فلا شيء عليه ولا عليهم. ومن شروط وجوب الحج أن يكون مستطيعا بماله وبدنه؛ لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فمن لم يكن مستطيعا، فلا حج عليه، فالاستطاعة بالمال أن يملك الإنسان ما يكفي لحجة زائدا عن حوائج بيته، وما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة سكن لمدة سنة، وقضاء ديون حالة، فمن كان عنده مال يحتاجه لما ذكر لم يجب عليه الحج، ومن كان عليه دين حال لم يجب عليه الحج حتى يوفيه. والدين كل ما ثبت في ذمة الإنسان من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها، فمن كان في ذمته درهم واحد حال فهو مدين، ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ منه بوفاء أو إسقاط؛ لأن قضاء الدين مهم جدا، حتى إن الرجل ليقتل في سبيل الله شهيدا، فتكفر عنه الشهادة كل شيء إلا الدين، فإنها لا تكفره، وحتى إن الرجل ليموت، وعليه الدين، فتعلق نفسه بدينه حتى يقضى عنه.

أما الدين المؤجل، فإن كان موثقا برهن يكفيه لم يسقط به وجوب الحج، فإذا كان على الإنسان دين قد أرهن به طالبه ما يكفي الدين، وبيده مال يمكنه أن يحج به، فإنه يجب عليه الحج؛ لأنه قد استطاع إليه سبيلا، أما إذا كان الدين المؤجل غير موثوق برهن يكفيه فإن الحج لا يجب عليه حتى يبرأ من دينه. والاستطاعة بالبدن أن يكون الإنسان قادرا على الوصول بنفسه إلى البيت - أي مكة - بدون مشقة، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت، أو يستطيع الوصول لكن بمشقة شديدة كالمريض، فإن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع، ثم يحج، فإن مات حج عنه من تركته، وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض والميؤوس من برئه، فإنه يوكل من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم، فإن مات قبل التوكيل حج عنه من تركته. وإذا لم يكن للمرأة محرم، فليس عليها حج؛ لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج، فإنها ممنوعة شرعا من السفر بدون محرم. قال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج مع امرأته» مع أنه قد كتب مع الغزاة، ولم يستفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت امرأته شابة، أو كان معها نساء أو لا، وهو دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب طائرة أو سيارة إلا بمحرم وهو زوجها، وكل من يحرم عليه نكاحها تحريما مؤبدا كالأب، وإن علا، والابن وإن نزل، والأخ وابن الأخ، وإن نزل وابن الأخت، وإن نزل، والعم والخال سواء كان ذلك من نسب أو رضاع، وكأب الزوج، وإن علا، وابنه، وإن نزل، وزوج البنت، وإن نزلت، وكزوج الأم، وإن علت إذا كان قد دخل بها. ولا بد أن يكون المحرم بالغا عاقلا، فمن كان دون البلوغ لا يكفي أن يكون محرما؛ لأن المقصود من المحرم حفظ المرأة وصيانتها وهيبتها، وذلك لا يحصل بالصغير. أيها المسلمون من رأى نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج، فليؤده، ولا يتأخر، فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير، والإنسان لا يدري ما يحصل في المستقبل، وقد يسر الله، وله الحمد لنا في هذه البلاد ما لم ييسره لغيرنا من سهولة الوصول إلى البيت، وأداء

المناسك، فقابلوا هذه النعمة بشكرها، وأداء فريضة الله عليكم قبل أن يأتي أحدكم الموت، فيندم حين لا ينفع الندم. واسمعوا قول الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 54 - 58] ومن حج على الوجه الشرعي مخلصا لله متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تم حجه سواء كان قد تمم له، أم لا أما ما توهمه بعض العوام أن من لم يتمم، فلا حج له فهو غير صحيح، فلا علاقة بين التميمة والحج. وفقني الله وإياكم للقيام بفرائضه والتزام حدوده، وزودنا من فضله وكرمه وحسن عبادته ما تكمل به فرائضنا، وتزداد به حسناتنا، ويكمل به إيماننا، ويرسخ به ثباتنا إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية في الاستنابة في الحج عن الغير

[الخطبة الثانية في الاستنابة في الحج عن الغير] الخطبة الثانية في الاستنابة في الحج عن الغير الحمد لله الذي شرع العبادات لتزكية النفوس وتكميل الإيمان، ونوعها ما بين بدنية ومالية، وجامعة بين الأموال والأبدان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى الإنس والجان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثوابا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وأنه قال: «من حج فلم يرفث، ولم يفسق رجع كما ولدته أمه» . يعني نقيا من الذنوب. وأن الحج عبادة بدنية، وإن كان فيها شيء من المال كالهدي، فهي في ذاتها عبادة بدنية يطلب من العبد فعلها بنفسه، وقد جاءت السنة بالاستنابة فيها في الفريضة حال اليأس من فعلها ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن امرأة قالت: " يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم» . ذلك في حجة الوداع «وأن امرأة أخرى قالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: " نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم قال: اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» . فمن كان قادرا على الحج بنفسه، فإنه لا يصح أن يوكل من يحج عنه، وقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع حتى أصبح لا يحدث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل يوكل غيره أن يحج عنه، فيحرم نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجر تعب العبادة، وما يكون فيها من ذكر ودعاء وخشوع ومضاعفة أعمال ولقاءات نافعة وغير ذلك اعتمادا على توكيله من يحج عنه، وقد منع الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين عنه من توكيل القادر من يحج عنه في التطوع، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في ذلك بل يحج بنفسه إن شاء، أو يعين الحجاج بشيء من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء. أيها الناس إن الحج عبادة من العبادات يفعلها العبد تقربا إلى الله تعالى وابتغاء لثواب الآخرة، فلا يجوز للعبد أن يصرفها إلى تكسب مادي يبتغي بها المال، وإن من المؤسف أن كثيرا

من الناس الذين يحجون عن غيرهم إنما يحجون من أجل كسب المال فقط، وهذا حرام عليهم، فإن العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16] ويقول تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] فلا يقبل الله تعالى من عبد عبادة لا يبتغي بها وجهه، ولقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أماكن العبادة من التكسب للدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك» . فإذا كان هذا فيمن جعل موضع العبادة مكانا للتكسب يدعى عليه أن لا يربح الله تجارته، فكيف بمن جعل العبادة نفسها غرضا للتكسب الدنيوي كأن الحج سلعة، أو عمل حرفة لبناء بيت، أو إقامة جدار تجد الذي تعرض عليه النيابة يكاسر ويماكس هذه دراهم قليلة، هذه لا تكفي زد أنا أعطاني فلان كذا، أو أعطي فلان حجة بكذا، أو نحو هذا الكلام مما يقلب العبادة إلى حرفة وصناعة، ولهذا صرح فقهاء الحنابلة رحمهم الله بأن تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من حج ليأخذ المال، فليس له في الآخرة من خلاق لكن إذا أخذ النيابة لغرض ديني مثل أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه، أو يقصد زيادة الطاعة والدعاء والذكر في المشاعر، فهذا لا بأس به وهي نية سليمة. إن على الذين يأخذون النيابة في الحج أن يخلصوا النية لله تعالى وأن تكون نيتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم وأن يبتعدوا عن النية الدنيئة بقصد التكسب بالمال فإن لم يكن في نفوسهم إلا التكسب بالمال فإنه لا يحل لهم أخذ النيابة حينئذ. ومتى أخذ النيابة بنية صالحة، فالمال الذي يأخذه كله له، إلا أن يشترط عليه رد ما بقي. وكذلك يجب عليه أن ينوي العمرة والحج لمن وكله؛ لأن هذا هو المعروف بين الناس إلا أن يشترط لنفسه أن العمرة له، فله ما شرط، ولا يحل لمن أخذ النائبة أن يوكل غيره فيها لا بقليل، ولا بكثير إلا برضا من صاحبها الذي أعطاه إياها وثواب الأعمال المتعلقة بالنسك كلها لمن وكله، أما مضاعفة الأجر بالصلاة والطواف الذي يتطوع به خارجا عن النسك وقراءة القرآن لمن حج لا للموكل، ويجب على الوكيل في الحج والعمرة أن يجتهد

في إتمام أعمال النسك القولية والفعلية؛ لأنه أمين على ذلك فليتق الله تعالى فيها ما استطاع، ويقول في التلبية: لبيك عن فلان، فإن نسيه نواه بقلبه، وقال: لبيك عمن أنابني في هذه العمرة، أو في هذا الحج. فيا عباد الله اتقوا ربكم، ولا تجعلوا الدنيا أكبر همكم، ولا تحولوا عبادة ربكم إلى قصد المادة، فترجعوا بالصفقة الخاسرة، وفقني الله وإياكم للإخلاص في القصد والإصلاح في العمل، وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الخطبة الثالثة في صفة الحج والعمرة

[الخطبة الثالثة في صفة الحج والعمرة] الخطبة الثالثة في صفة الحج والعمرة الحمد لله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على العباد أجمعين، واختار له دينا قيما مبنيا على الإخلاص لله والتيسير، فليس فيه حرج، ولا شدة، ولا تعسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق، فأتقن، وشرع، فأحكم وهو خير الحاكمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى على الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس، فإنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام، ترجون من ربكم مغفرة الذنوب والآثام، وتأملون الفوز بالنعيم المقيم في دار السلام، وتؤمنون بالخلف العاجل من ذي الجلال والإكرام. أيها المسلمون إنكم تتوجهون في زمان فاضل إلى أمكنة فاضلة ومشاعر معظمة تؤدون عبادة من أجل العبادات لا تريدون بذلك فخرا ولا رياء ولا نزهة ولا طربا، وإنما تريدون وجه الله والدار الآخرة، فأدوا هذه العبادة كما أمرتم من غير غلو ولا تقصير ليحصل لكم ما أردتم من مغفرة الذنوب، والفوز بالنعيم المقيم، قوموا في سفركم وإقامتكم بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرهما من شعائر الدين. إذا وجدتم الماء، فتطهروا به للصلاة، فإن لم تجدوا ماء، فتيمموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم عنه. أدوا الصلاة جماعة، ولا تتشاغلوا عنها بأشغال يمكنكم قضاؤها بعد الصلاة صلوا الرباعية قصرا، فصلوا الظهر والعصر والعشاء الآخرة على ركعتين من خروجكم من بلدكم إلى رجوعكم إليها، إلا أن تصلوا خلف إمام يتم الصلاة، فأتموها أربعا. اجمعوا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير حسبما يتيسر لكم إن كنتم سائرين، أما إن كنتم مقيمين في مكة أو منى أو غيرها، فالسنة ألا تجمعوا، وإن جمعتم فلا بأس. تخلقوا بالأخلاق الفاضلة من الصدق والسماحة وبشاشة الوجه، والكرم بالمال والبدن والجاه، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، واصبروا على المشقة والأذى، فإن الله مع الصابرين. وقد قيل: إنما سمي السفر سفرا؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال. فإذا وصلتم الميقات، فاغتسلوا، وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية، والبسوا ثياب الإحرام غير مطيبة إزارا ورداء أبيضين للذكور وللنساء ما شئن من الثياب غير متبرجات

بزينة. ولا تجاوزوا لميقات بدون إحرام، أحرموا من أول ميقات تمرون به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ومن كان في الطائرة، فليتهيأ للإحرام من قبل، ثم ينوي الإحرام، إذا حاذى الميقات قبل مجاوزته. سيروا بعد الإحرام إلى مكة ملبين بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يرفع الرجال أصواتهم بذلك. فإذا بلغتم البيت، فطوفوا به طواف العمرة سبعة أشواط، واعلموا أن جميع المسجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد حتى من وراء زمزم لكن القرب أفضل، إذا لم يكن زحام ومشقة. فإذا أكملتم الطواف، فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم قريبا منه إن تيسر أو بعيدا. ثم اسعوا بين الصفا والمروة سعي العمرة سبعة أشواط تبتدئون بالصفا، وتختمون بالمروة. ومن سعى قبل الطواف فسعيه غير صحيح، إلا أن يكون ناسيا أو جاهلا. فإذا أكملتم السعي، فقصروا رؤوسكم من جميع جوانب الرأس لا من جانب منه كما يفعله بعض الناس، وتقصر المرأة من أطرافه بقدر أنملة، وبذلك تمت العمرة، وحللتم الحل كله. فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، فأحرموا بالحج من مكانكم الذي أنتم فيه، فاغتسلوا، وتطيبوا، والبسوا ثياب الإحرام، وأحرموا بالحج، وسيروا ملبين إلى منى، وصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرا بلا جمع تصلون الظهر والعصر والعشاء على ركعتين، وتؤدون كل صلاة وحدها في وقتها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع، فسيروا ملبين إلى عرفة وصلوا بها الظهر والعصر على ركعتين جمع تقديم، ثم تفرغوا لذكر الله ودعائه والتضرع إليه مستقبلي القبلة، ولو كان الجيل خلفكم رافعي قلوبكم وأيديكم إلى ربكم مؤملين منه إجابة دعائكم ومغفرة ذنوبكم. وتأكدوا من الوقوف داخل عرفة، فإن كثيرا من الحجاج ينزلون خارج حدودها، ولا يقفون فيها، ومن لم يقف بعرفة، فلا حج له وعرفة كلها موقف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» . فكل نواحي عرفة موقف إلا بطن الوادي وادي عرنة. فإذا غربت الشمس، فسيروا إلى مزدلفة، وصلوا بها المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين، وأوتروا، وبيتوا بها حتى تصلوا الفجر، ثم ادعوا الله سبحانه، واستغفروه، وكبروه، ووحدوه إلى أن تسفروا

جدا. ثم سيروا إلى منى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل. فإذا وصلتم إلى منى، فابدؤوا برمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات كل حصاة أكبر من الحمص قليلا، والقطوها من حيث شئتم، وكبروا مع كل حصاة، واعلموا أن الحكمة من رمي الجمرات هي إقامة ذكر الله وتعظيمه، ولذلك يكبر الرامي عند رميه، ولستم ترمون شياطين كما يظن بعض الناس، وإنما ترمون هذه الأحجار في هذه الأماكن تعظيما لله عز وجل، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رميتم، فاذبحوا الهدي إن تيسر، ولا يجزئ منه لا من يجزئ في الأضحية، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة، إذا رجعتم، ويجوز صيام الأيام الثلاثة قبل الطلوع، ويجوز في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويجوز صيام الأيام السبعة بعد رجوعكم متتابعة ومتفرقة. وإذا ذبحتم الهدي المتيسر، فاحلقوا رؤوسكم، والنساء يقصرن، وإذا رميتم، وحلقتم حل لكم كل شيء من محظورات الإحرام إلا النساء، فتلبسون ثيابكم، وتطيبون، ثم تنزلون إلى مكة، فتطوفون بالبيت للحج، وتسعون له بين الصفا والمروة، وبذلك تحلون الحل كله، فيحل لكم جميع محظورات الإحرام حتى النساء. أيها المسلمون إن الحجاج يوم العيد يؤدون مناسك عظيمة، ولذلك سماه الله يوم الحج الأكبر إنهم يرمون جمرة العقبة، ثم يذبحون هديهم، ثم يحلقون رؤوسهم، أو يقصرون، ثم يطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة والأكمل أن يفعلوها يوم العيد على هذا الترتيب، فإن قدموا بعضها على بعض، فلا حرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل يوم العيد عن شيء قدم، ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج تيسيرا على العباد ورحمة بهم، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى، فلا حرج غير أنكم لا تتمتعون بالنساء قبل ذلك، وإن أخرتم ذبح الهدي إلى اليوم الثالث عشر، وذبحتموه بمكة، فلا حرج. أيها الناس: بيتوا بمنى ليلتين الحادية عشرة والثانية عشرة، وارموا الجمار الثلاث في اليومين بعد زوال الشمس ابدؤا برمي الجمرة الأولى الشرقية، فارموها بسبع حصيات، وكبروا مع كل حصاة، ثم تقدموا عن الزحام، وقفوا مستقبلي رافعي أيديكم إلى ربكم تدعونه دعاء طويلا، ثم ارموا الجمرة الوسطى بسبع حصيات، وكبروا مع كل حصاة، ثم تقدموا عن الزحام، وادعوا الله دعاء طويلا وأنتم إلى القبلة رافعي أيديكم، ثم ارموا جمرة العقبة بسبع حصيات، وكبروا مع كل حصاة، وانصرفوا بعد ذلك بدون وقوف للدعاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد

وكبروا مع حصاة وانصرفوا بعد ذلك بدون وقوف للدعاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى ولم يقف بعد رمي جمرة العقبة. ولا ترموا قبل زوال الشمس في الأيام التي بعد العيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرمي فيها إلا بعد الزوال ولكم الرمي إلى الغروب. وإذا كان الزحام شديدًا جاز لكم أن تؤخروا الرمي إلى الليل لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت أول الرمي دون آخره وأذن للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة قبل الفجر خوفًا عليهم من الزحام. وارموا بأنفسكم ولا توكلوا أحدًا يرمي عنكم لأن الرمي عبادة واجبة على الذكور والإناث، فيجب على المرء أن يؤديها بنفسه إلا عند الضرورة مثل أن يكون مريضًا أو كبيرًا أو امرأة حاملًا تخاف على نفسها أو حملها من الزحام فيجوز التوكيل حينئذ فيرمي الوكيل الجمرة الأولى عن نفسه ثم يرميها عن موكله ثم يرمي الثانية عن نفسه ثم عن موكله ثم يرمي الثالثة عن نفسه ثم عن موكله. فإذا رميتم الجمار في اليوم الثاني عشر فقد تم الحج، فمن شاء تعجل فخرج من منى قبل غروب الشمس ومن شاء تأخر فبات بمنى ليلة الثالث عشر ورمى الجمار من الغد بعد الزوال وهذا أفضل لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أكثر عملًا حيث يحصل المبيت والرمي في الثالث عشر. وطوفوا للوداع إذا أردتم ثم السفر إلى بلدكم بعد تمام أفعال الحج كلها؛ لأن طواف الوداع ليس بعده شيء من أفعال الحج، ولقد سمعت أن بعض الناس ينزل فيطوف للوداع ثم يخرج إلى منى فيرمي الجمرات ثم يستمر في سفره وهذا خطأ مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يكون آخر عهد الناس بالبيت. ومن رمى بعد الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بعد أن أتم جميع أفعال النسك. والوداع واجب على كل خارج من مكة من حاج أو معتمر إلا الحائض والنفساء فليس عليهما وداع. وإذا رجعتم إلى بلادكم فاشكروا نعمة ربكم وأنيبوا إليه والزموا طاعته ولا تعيدوا سيئاتكم لصفحاتكم بعد أن محيت بالحج أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الرابعة في محظورات الإحرام

[الخطبة الرابعة في محظورات الإحرام] الخطبة الرابعة في محظورات الإحرام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله - بحكمته ورحمته - فرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها فرض عليكم تعظيم شعائره وحرماته {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] ألا وإن من شعائر الله مناسك الحج والعمرة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] فعظموا هذه المناسك فإنها عبادة عظيمة ونوع من الجهاد في سبيل الله. سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة. عظموا هذه المناسك بالقيام بما أوجب الله عليكم والبعد عما حرم الله عليكم {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] عظموا هذه المناسك بالإخلاص فيها لله تعالى والاتباع لنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. قوموا بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة جماعة في أوقاتها والنصح للمسلمين. واجتنبوا ما حرم الله عليكم من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه اجتنبوا الكذب والغش والخيانة والغيبة والنميمة والاستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم. واجتنبوا الاستماع إلى المعازف والأغاني المحرمة. اجتنبوا كل ما يلهيكم عن إكمال مناسككم وإتمامها. واجتنبوا ما حرمه الله عليكم تحريمًا خاصًّا بسبب الإحرام وهي محظورات الإحرام. فاجتنبوا الرفث وهو الجماع ومقدماته من اللمس والتقبيل والنظر بشهوة والتلذذ. فالجماع أعظم محظورات الإحرام وأشدها تأثيرًا. من جامع قبل التحلل الأول فسد حجه ولزمه انهاؤه وقضاءه من العام المقبل وفدية بدنة ينحرها ويتصدق بها على الفقراء في مكة أو مني. واجتنبوا الأخذ من الشعر والرأس فإن الله يقول {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وألحق جمهور العلماء شعر بقية البدن بشعر الرأس وقاسوا عليه إزالة الأظفار وقالوا لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئًا

من شعره أو أظافره إلا أن ينكسر ظفره فيؤذيه فله أخذ ما يؤذيه. فمن حلق رأسه أو شيئًا منه فعليه فدية يفدي بها نفسه من العقوبة وهي إما صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو شاة يذبحها ويتصدق بها على المساكين ويكون الإطعام والذبح في مكة أو في مكان فعل المحظور. واجتنبوا قتل الصيد فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] سواء كان الصيد طائرًا كالحمام أم سائرًا كالظباء والأرانب فمن قتل صيدًا متعمدًا فعليه الجزاء وهو إما ذبح ما يماثله من الإبل أو البقر أو الغنم فيتصدق به على المساكين في مكة أو منى وإما تقويمه بدراهم ليتصدق بما يساويها من الطعام على المساكين في مكة أو منى لكل مسكين ربع صاع من البر أو نصفه من غيره وإما أن يصوم عن كل طعام مسكين يومًا. وأما قطع الشجر فلا تعلق له بالإحرام فيجوز للمحرم وغير المحرم قطع الشجر إذا كان خارج أميال الحرم مثل عرفة ولا يجوز إذا كان داخل أميال الحرم مثل مزدلفة ومنى ومكة إلا ما غرسه الآدمي بنفسه فله قطعه ويجوز للإنسان أن يضع البساط على الأرض في منى أو مزدلفة أو غيرهما من أرض الحرم ولو كان فيها حشيش أخضر إذا لم يقصد بذلك إتلافه. واجتنبوا عقد النكاح وخطبة النساء فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح ولا يخطب» . فلا يجوز للمحرم أن يتزوج سواء كان رجلًا أم امرأةً ولا أن يزوج غيره ولا أن يخطب امرأة. واجتنبوا الطيب بجميع أنواعه دهنًا كان أم بخورًا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تلبسوا ثوبًا مسه الزعفران» . وقال في الرجل الذي مات بعرفة وهو محرم «اغسلوه بماء سدر ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يُبْعَث يوم القيامة ملبيًا» ، والحنوط هو الطيب الذي يجعل في قطن على منافذ الميت ومواضع سجوده فلا يجوز للمحرم أن يدهن بالطيب أو يتبخر به أو يضعه في أكله أو شرابه أو يتنظف بصابون مطيب ويجوز له أن يغتسل ويزيل ما لوثه من وسخ. وأما التطيب عند عقد الإحرام فهو سنة ولا يضر بقاؤه بعد عقد الإحرام. فقد قالت عائشة رضي الله عنها «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم» وقالت كأني أنظر إلى وبيص المسك أي بريقه في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.

واجتنبوا تغطية الرأس بما يغطي به عادة ويلاصقه كالعمامة والغتره والطاقية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي مات «لا تخمروا رأسه» أي لا تغطوه فأما ما لم تجر العادة بكونه غطاء كالعفش يحمله المحرم على رأسه فلا بأس به إذا لم يقصد به الستر وكذلك ما لا يلاصق الرأس كالشمسية ونحوها لا بأس به لأن المنهى عنه تغطية الرأس لا تظليله. وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالًا وأحدهما آخذ بحظام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. وتحريم تغطية الرأس خاص بالذكور دون الإناث. واجتنبوا من اللباس ما منع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث «سئل صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم فقال لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البُرْنس ولا السراويل ولا الخفاف» وقال «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل» وتحريم هذا اللباس خاصٌّ بالذكور دون الإناث فلا يجوز للرجل إذا أحرم أن يلبس القميص مثل ثيابنا هذه ولا ما كان في معناه كالفنيلة والصدرية والكوت ولا يلبس العمامة ولا ما في معناها كالغترة والطاقية ولا يلبس البُرْنس ولا ما في معناه كالمشلح ولا يلبس السراويل سواء كان من ذوات الأكمام الطويلة أو القصيرة ولا يلبس الخفاف ولا ما بمعناها كالشراب ونحوها، فأما لبس الساعة في اليد أو تقلدها في العنق أو لبس النظارة في العين أو السماعة في الأذن أو الخاتم في الإصبع أو الحزام للفلوس أو لربط الإزار أو التلفف بالبطانية ونحوها عن البرد فلا بأس بذلك كله لأنه ليس داخلًا فيما نهى عنه لفظًا ولا معنًى فيكون مباحًا. فأما ربط الرداء بالمشبك فإن ربطه بمشابك متواصلة حتى صار كالقميص فالأقرب أنه ممنوع لأنه يشبه أو يقارب القميص الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ربطه بمشبك واحد فقط فلا بأس به إذا كان يؤذيه بانخلاعه إذا لم يربطه وإلا فالأولى تركه. أما الأنثى فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة قبل الإحرام غير متبرجة بزينة. ولا يجوز للذكور ولا للإناث لبس القفازين وهما شراب اليدين ولا يجوز للمرأة لبس النقاب وهو ما يغطي به الوجه ويفتح للعينين والأفضل لها كشف وجهها إلا أن يراها أحد من الرجال غير المحارم فيجب عليها تغطيته. ويجوز للرجل وللمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى

ثياب أخرى سواء غيرها لوسخ أو نجاسة أو غير ذلك. فاتقوا الله عباد الله واحفظوا نسككم من نواقصه ونواقضه {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الخامسة في الأضحية

[الخطبة الخامسة في الأضحية] الخطبة الخامسة في الأضحية الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان وقرن النحر له بالصلاة في محكم القرآن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى على كل إنسان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتقربوا إليه بذبح الأضاحي فإنها سنة أبيكم إبراهيم الذي أمرتم باتباع ملته وسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي منذ هجرته إلى المدينة عن محمد وآل محمد فكانت الأضحية مشروعة بكتاب الله وبسنة رسول الله وبإجماع علماء المسلمين وبها يشارك أهل البلدان حجاج البيت في بعض شعائر الحج فالحجاج يتقربون إلى الله بذبح الهدايا وأهل البلدان يتقربون إليه بذبح الضحايا وهذا من رحمة الله بعباده حيث لم يحرم أهل البلدان الذين لم يقدر لهم الحج من بعض شعائره. فضحوا أيها المسلمون عن أنفسكم وعن أهليكم تعبدًا لله تعالى وتقربًا إليه واتباعًا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والواحدة من الغنم تجزئ عن الرجل وأهل بيته الأحياء والأموات والسُّبع من البعير أو البقرة يجزئ عما تجزئ عنه الواحدة من الغنم فيجزئ عن الرجل وأهل بيته الأحياء والأموات ومن الخطأ أن يضحي الإنسان عن أمواته من عند نفسه ويترك نفسه وأهله الأحياء وأشد خطأً من ذلك من يضحي عن الميت أول سنة يموت ويسميها أضحية الحفرة ويعتقد أنها واجبة وأنها لا يشرَّك فيها أحد وهي في الحقيقة بدعة لا أصل لها في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عمل الصحابة رضي الله عنهم فيما نعلم وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من البدع وقال: «كل بدعة ضلالة» . ومن كان عنده وصايا بأضاحي فليعمل بها كما ذكر الموصي فلا يدخل مع أصحابها أحدًا في ثوابها ولا يخرج منهم أحدًا وإن نسي أصحابها فلينوها عن وصية فلان فيدخل فيها كل من ذكر الموصي وإذا كان ريع الوصية لا يكفي للأضحية فتبرع الوصي بتكميلها للموصى فهو على خير وإن لم يتبرع فلا إثم عليه ويؤخرها للسنة الثانية. ولا تجزئ الأضحية إلا من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله

تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] فلا يضحي بغيرها ولو كان أغلى منها كالظباء، ولا تجزئ الأضحية إلا بما بلغ السن المعتبر شرعًا وهي ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز وسنتان في البقر وخمس سنوات في الإبل فلا يضحي بما دون ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تذبحوا إلا مُسنَّة (وهي الثنية) إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن. ولا تجزئ الأضحية إلا بما كان سليمًا من العيوب التي تمنع من الإجزاء فلا يضحي بالعوراء البين عورها وهي التي نتأت عينها العوراء أو انخسفت. ولا بالعرجاء البين ضلعها وهي التي لا تستطيع المشي مع السليمة. ولا بالمريضة البين مرضها وهي التي ظهرت آثار المرض عليها بحيث يعرف من رآها أنها مريضة من جرب أو حمى أو جروح أو غيرها. ولا بالهزيلة التي لا مخ فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ماذا يجتنب من الأضاحي فأشار بيده وقال أربع: العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى. فقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه راوي هذا الحديث: إني أكره أن يكون في الأذن نقص أو في القرن نقص أو في السن نقص فقال البراء: ما كرهت فَدَعْه ولا تحرمه على أحد. فهذه العيوب الأربعة مانعة من الإجزاء دل على ذلك الحديث وقال به أهل العلم ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد فلا يضحي بالعمياء ولا بمقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين ولا بالمبشومة حتى يزول الخطر عنها ولا بما أصابها أمر تموت به كالمجروحة جرحًا خطيرًا أو المنخنقة والمتردية من جبل ونحوها مما أصابها سبب الموت لأن هذه العيوب بمعنى العيوب الأربعة التي تمنع من الإجزاء بنص الحديث. فأما العيوب التي دون هذه فإنها لا تمنع من الإجزاء فتجزئ الأضحية بمقطوعة الأذن أو مشقوقتها مع الكراهة لحديث علي رضي الله عنه قال «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء» وكل هذه الصفات شقوق في الأذن وتجزئ الأضحية بمكسورة القرن مع الكراهة لحديث عتبة بن عبد السلمي «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المستأصلة» وهي التي ذهب قرنها من أصله وتجزئ الأضحية بمقطوعة الذنب من الإبل والبقر والمعز مع الكراهة قياسًا على مقطوعة الأذن ولأن في بعض ألفاظ حديث علي رضي الله عنه «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نضحي ببتراء» .

فأما مقطوعة الألية من الضأن فلا تجزئ في الأضحية فإن كانت من نوع لا ألية له من أصل الخلقة فلا بأس بها. وتجزئ الأضحية بما نشف ضرعها من كبر أو غيره إذا لم تكن مريضة مرضًا بينًا وتجزئ الأضحية بما سقطت ثناياها أو انكسرت. وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها وأحسن منظرًا فهي أفضل فاستكملوها واستحسنوها وطيبوا بها نفسًا واعلموا أن الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها لأنها شعيرة من شعائر الله وليس المقصود منها مجرد اللحم الذي يؤكل ويفرق بل أهم مقصود فيها ما تتضمنه من تعظيم الله عز وجل بالذبح له وذكر اسمه عليها ولقد أصاب الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في سنة من السنين مجاعة وقت الأضحى ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بترك الأضحية وصرف ثمنها إلى المحتاجين بل أقرهم على الأضاحي وقال لهم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة في بيته شيء فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا في العام الماضي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلوا واطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها» (رواه البخاري ومسلم) . ولا تذبحوا ضحاياكم إلا بعد انتهاء صلاة العيد وخطبتيها فإن ذلك أفضل وأكمل اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يذبح أضحيته بعد الصلاة والخطبة. قال جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه «صَلَّى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح» (رواه البخاري) . ولا يجزئ الذبح قبل تمام صلاة العيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» . واذبحوا ضحاياكم بأنفسكم إن أحسنتم الذبح وقولوا بسم الله والله أكبر وسموا من هي له عند ذلك اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن لم تحسنوا الذبح فاحضروه فإنه أفضل لكم وأبلغ في تعظيم الله والعناية بشعائره قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34 - 35] وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره والعمل بشريعته والوفاة عليها إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الفرع السادس في الأخلاق والآداب

[الفرع السادس في الأخلاق والآداب] [الخطبة الأولى في شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الخلق] الفرع السادس في الأخلاق والآداب الخطبة الأولى في شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الخلق الحمد لله العليم الخبير القوي العزيز الحكيم خلق كل شيء فأتقنه صنعًا وتقديرًا وشرع الشرائع فأحكمها عملًا وتنظيمًا فسبحانه من إله عظيم وخالق حكيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بدار النعيم المقيم وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم القويم وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله لم يخلقكم عبثًا ولن يترككم سدًى وإنما خلقكم لحكمة بالغة وشرع لكم شرائع كاملة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا خلقكم وسترجعون إليه وشرع لكم الدين وستحاسبون عليه فاستعدوا للقاء ربكم وأعدوا الجواب عما سيسألكم يقول الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ - وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 6 - 9] أيها الناس إن لربكم عليكم حقًّا وإن لأنفسكم عليكم حقًّا وإن للخلق عليكم حقًّا فأعطوا كل ذي حق حقه حتى تخرجوا من الدنيا وقد غنمتم الدنيا والآخرة ولا تفرطوا في هذه الحقوق فتخسروا الدنيا والآخرة. أيها الناس لقد ذكر الله حقوقه وحقوق عباده في كثير من آيات القرآن الكريم وإن من أجمع الآيات في ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] إن أعظم الحقوق عليك هو حق الله تعالى الذي خلقك فسواك. وأمدك بالرزق ورباك وسخر كل شيء لمنفعتك ومصلحتك {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وما بكم من نعمة فمن الله وإن حقه عليك أن تعبده ولا تشرك به شيئًا بأن تقوم بكل ما يحبه ويرضاه محبةً له وتعظيمًا له وطلبًا لثوابه وخوفًا من عقابه لا تقدم على عبادته النفس

ولا الولد ولا الأهل ولا المال لأن كل هذا يزول وتبقى عبادته {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] ولقد فرط كثير من الخلق في عبادة الله فمنهم من عبد الأوثان ومنهم من عبد الجاه ومنهم من عبد المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة» . أفرط كثير من الناس في محبة الدنيا فشغلته عن طاعة الله وصارت أكبر همه ومبلغ علمه شغلت قلبه عند منامه وشغلت قلبه في يقظته وشغلت قلبه عند أكله وشربه وفي ممشاه ومجلسه وحتى في عبادته وصلاته قلبه مشغول بها يسعى لها بكل طريق ويحتال لتحصيلها بكل وجه وهذا الانشغال التام سوف يؤثر على عبادة الله ويصرف القلب عن الاتجاه إليه ولم يذكر الله حقوق الرسل في هذه الآية لأن حقوقهم من حقوق الله حيث إنهم رسله القائمون بإبلاغ وحيه ودينه إلى الخلق وبعد ذلك ذكر الله حقوق الوالدين لأن حقهما عليك أعظم حقوق القرابة لأن لهما عليك من الفضل والإحسان ما ليس لغيرهما من القيام بالمؤونة والتربية والتعب الجسمي والفكري من أجل راحتك كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] إنهما يسهران لتنام ويتعبان لتستريح ويجوعان لتشبع ولن يعرف قدر الوالدين إلا من رزق الأولاد. «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال هل بقي من والديك أحد قال أمي قال قابل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . «وجاءه آخر يستشيره في الجهاد فقال النبي صلى الله وعليه وسلم: ألك والدان قال: نعم قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما» . وكلما يكون بر الوالدين في الحياة يكون أيضًا بعد الممات فقد «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» . وبعد حقوق الوالدين حقوق الأقارب من جهة الأب أو من جهة الأم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه» . ومن الحقوق حقوق اليتامى وهم الذين مات آباؤهم قبل بلوغهم فانكسرت قلوبهم بفقد القائم عليهم الموجه لهم فكان من محاسن الإسلام الأمر بالإحسان إليهم بالقول والفعل حتى يجبر ما بهم من النقص حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا وكافل اليتيم في الجنة

هكذا وأشار بإصبعه السبابة والوسطى. ومن الحقوق حقوق المساكين وهم الفقراء الذين أسكنهم الفقر وكلما كان المسكين أشد حاجة وأقوى تعففًا كان الإحسان إليه أفضل وأولى والساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله. ومن الحقوق الواجب مراعاتها حقوق الجار فإن كان قريبًا فله حقان حق الجوار وحق القرابة وإن كان أجنبيا لا قرابة بينك وبينه فله حق واحد حق الجوار ولذلك قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وقد عظمت السنة حق الجار حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . وقال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل: يا رسول الله لقد خاب وخسر من هذا قال: من لا يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه قال: شره» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» . ومن الحقوق حقوق الصاحب بالجنب وهو الزوج فعلى كل واحد من الزوجين أن يقوم بمراعاة حقوق الآخر ويحسن عشرته. ومن الحقوق الواجب مراعاتها حق ابن السبيل وهو المسافر المحتاج فإن المسافر غريب بعيد عن أهله غير معروف بين الناس فحاجته للمساعدة أعظم من غيره. ومن الحقوق حقوق المملوكين من آدميين وغيرهم فالواجب على المؤمن مراعاة هذه الحقوق التي أمر الله بها ليكون بذلك قائمًا بطاعة الله محسنًا إلى عباد الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة الثانية في أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة

[الخطبة الثانية في أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة] الخطبة الثانية في أن من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة الحمد لله ذي الفضل العظيم والخير الواسع العميم أنعم على عباده بنعم لا تحصى ودفع عنهم من النقم ما لا يعد ولا يستقصى وتفضل عليهم بالعمل الصالح وجازاهم عليه أفضل الجزاء وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلي الأعلى وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي وصل بفضل ربه إلى أعلى مكان يصله الورى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتعرفوا إلى ربكم في الرخاء يعرفكم في الشدة تعرفوا إليه بالقيام بطاعته رغبة في ثوابه وبالابتعاد عن معصيته خوفًا من عقابه. إن رخاء العيش وطيب الحال من النعم التي تستوجب الشكر على العباد والقيام بطاعة المنعم الجواد وإن الإنسان في حال الرخاء يستطيع أن يعمل ما لا يمكنه القيام به في حال الشدة لأنه معافى في بدنه وآمن في بلده ومترف في جسده ولكن هذه الأحوال لا تدوم فقد يعقبها شدة فيصبح مريضًا بعد العافية وخائفًا بعد الأمن وجائعًا بعد الشبع والترف فإذا كان العبد متعرفًا إلى ربه في حال الرخاء عرفه الله في حال الشدة فلطف به وأعانه على شدائده ويسر أموره. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 2 - 4] ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته مثلًا على ذلك فيما قصه علينا من نبأ «ثلاثة ممن كانوا قبلنا انطلقوا فآواهم المبيت إلى غار فانحدرت صخرة من الجبل فسدت الغار عليهم فقال بعضهم لبعض إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أحدًا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي حتى استيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة قليلًا. وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين أي احتاجت فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي

بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قعدت بين رجليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنَّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة إلا أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك أجره وذهب فثمرت له أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري فقلت كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو لك من أجرك فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله واستاقه ولم يترك منه شيئًا اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون» . فالأول من هؤلاء ضرب مثلًا عظيمًا في البر بوالديه بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه ولا أن يسقي أولاده وأهله ولا أن ينغص على والديه نومهما حتى طلع الفجر. وأما الثاني فضرب مثلًا بالغًا في العفة الكاملة حيث تمكن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه ولكن لما ذكرته بالله تركها وهي أحب الناس إليه ولم يأخذ شيئًا مما أعطاها. وأما الثالث فضرب مثلًا في غاية الأمانة والنصح حيث نمى للأجير أجره فبلغ ما بلغ وسلمه إلى صاحبه ولم يأخذ على عمله شيئًا فكان من جزاء هذه الأعمال الصالحة التي تعرفوا بها إلى الله في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة فأنقذهم من الهلاك. وهذه سنة الله في خلقه إلى يوم القيامة من تعرف إلى ربه في حال الرخاء عرفه في حال الشدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة» . أيها الناس إن الشدائد أنواع منوعة وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شدة الموت عند فراق المألوف واستقبال المخوف فإذا كان العبد ممن تعرف إلى الله في حال صحته وحياته عرفه سبحانه في حال شدته عند وفاته فهون الأمر عليه وأحسن له الخاتمة وانتقل من الدنيا على أحسن حال. وأما إن كان معرضًا عن الله لم يزده الرخاء إلا بطرًا وبعدًا عن الله تعالى فحري بأن يكله الله إلى نفسه ويتخلى عنه حال شدائده فتحيط به سيئاته ويموت على

أسوأ حال وأخبث مآل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ - لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 61 - 63] اللهم وفقنا للتعرف إليك والقيام بطاعتك والطف بنا في الشدائد ويسر أمورنا إنك جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة الثالثة في شيء من سنن الفطرة

[الخطبة الثالثة في شيء من سنن الفطرة] الخطبة الثالثة في شيء من سنن الفطرة الحمد لله الذي مَنَّ علينا بإكمال الدين وأمرنا باتباع هُدى الأنبياء والمرسلين وحذرنا من سبيل المخالفين العاصين وaأشهأأأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهداهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واتبعوا نبيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن هديه خير الهدي وسنته أقوم السنن وسبيله أهدى السبل اتبعوه في عبادته وأخلاقه لتسعدوا في الدنيا والآخرة وتفوزوا بالتجارة الرابحة فإنه ما ترك خيرًا إلا بينه لكم ورغبكم فيه ولا ترك شرًّا إلا بينه وحذركم عنه ولقد أدرك ذلك أقوام فتبعوه ونَجَوْا وأعرض عن ذلك أقوام خالفوه فهلكوا. أيها الناس لقد كان المسلمون خصوصًا في هذه البلاد إلى زمن قريب يتمسكون تمسكًا تامًّا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في خصال الفطرة التي فطر الله عباده عليها فكانوا يستبقون لحاهم ويحفون شواربهم اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وامتثالًا لأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن يطع الرسول فقد أطاع الله كانوا على ذلك وكانوا يعيبون من خالف هذا الأمر ويهجرونه ويرونه مخالفًا حتى دبَّ فيهم داء المخالفة والعصيان في هذا الأمر فتجاسروا على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في فِعْله وقوله في هذه الفطرة فبدؤوا قليلًا قليلًا يحلقون لحاهم حتى فشا ذلك فيهم وكثر وانقلبت الحال إلى أن يعاب من يستبقي لحيته فعاد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا وصارت الأمة الإسلامية لا تمثل أمة الإسلام في مظهرها حين ظهور الإسلام وقوة أهله. أيها المسلمون ثبت في الكتاب والسنة أن اللحية من سنن المرسلين الأولين والآخرين فهذا هارون صلى الله عليه وسلم يقول لموسى صلى الله عليه وسلم {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه: 94] وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه كان كث اللحية أي كثيفها وأمر أمته بإعفائها وتوفيرها فقال صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب» (رواه البخاري ومسلم) . فالمشروع في حق الرجل المؤمن بالله ورسوله حقًّا المريد لنجاته يوم القيامة وطهارة قلبه وكمال إيمانه أن يبادر إلى امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوب من حلقها ليكون بذلك مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلًا لأمره

وليجدن من حلاوة الإيمان ولذة المتابعة ما يفوق ارتياحه لحلقها إن كان فيها راحة بأضعاف مضاعفة فإن حلاوة الإيمان لا يعادلها شيء. أيها المؤمنون لنتمثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنتبع هديه ولتغلب جانب الهدى على جانب الهوى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] وفروا اللحى ولا تحلقوها وحفوا الشوارب بقصها ولا تبقوها وإياكم والإصرار على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكونوا من الفاسقين فإن الإصرار على المعصية نقص في الدين وضرر على القلب وربما يستهين المرء بالمعصية فتجره إلى معصية أخرى ثم الثانية إلى معصية ثالثة وهكذا حتى تتراكم عليه المعاصي فيهلك ولذلك حذر الله عباده مخالفة أمر رسوله فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] فحذرهم الله بأحد أمرين الفتنة في الدين وهي الضلال والزيغ أو العذاب الأليم. كيف تطيب نفس المؤمن بالإصرار على معصية الله ورسوله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء ثم يخالفه ويستمر في هذه المخالفة بتعليلات غير صحيحة إما تأويلات فاسدة وإما استهانة بهذه المعصية وتحقير لها ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من مُحقِّرات الذنوب وأخبر أن مثلها كمثل قوم نزلوا أرضًا فاحتطبوا فجاء كل واحد بعود فاجتمع من ذلك حطب كثير وأججوا به نارًا كبيرةً وقال «إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» لأنه يقول هذا هين وهذا هين حتى تتراكم عليه الذنوب فتهلكه أيها المسلمون لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وأمر بتجنب السواد فثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غيروا هذا الشيب» وجنبوه السواد فلا تصبغوا بالسواد شيب الرأس ولا شيب اللحية ولا الرجال ولا النساء ولكن غيروه بالحناء والكتم وبلون غير السواد الخالص ولا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنةً ورفعه بها درجةً وحط عنه بها خطيئةً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وفقني الله وإياكم لإخلاص النية وإصلاح العمل ورزقنا إيمانًا نقوى به على مخالفة الهوى واتباع الهدى إنه جواد كريم.

الخطبة الرابعة في جمل من الآداب

[الخطبة الرابعة في جمل من الآداب] الخطبة الرابعة في جمل من الآداب الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لمكارم الأخلاق وهداهم لما فيه فلاحهم وسعادتهم في الدنيا ويوم التلاق وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكريم الخلاق وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتأدبوا بما أدبكم الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله بعثه ليتمم مكارم الأخلاق فتممها بقوله وفِعْله وترك الأمة على طريق بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك مرتاب. إن الآداب التي شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم آداب شاملة عامة آداب في الأكل والشرب وآداب في اللباس والنوم وآداب في معاملة الناس وآداب في كل شيء. أما الآداب في الأكل والشرب فقد عَلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا عند الأكل والشرب باسم الله وأخبر أن من لم يسم الله شاركه الشيطان في أكله وشربه وأمرهم أن يأكلوا باليمين ويشربوا باليمين ونهاهم عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال وقال: «إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» . وأمر الآكل مع غيره أن يأكل مما يليه وقال: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها» . وأما اللباس فالسنة فيه أن يبدأ عند اللبس باليمين فيدخل يده اليمنى قبل اليسرى ورجله اليمنى في النعال والسراويل قبل اليسرى وأما عند الخلع فيبدأ باليسرى قبل اليمنى وإذا لبس شيئًا جديدًا فليحمد الله الذي رزقه إياه من غير حول منه ولا قوة ورغب النبي صلى الله عليه وسلم أمته في لباس الثوب الجميل فقال «إن الله جميل يحب الجمال» . وحرم على ذكور أمته لباس الحرير والذهب وأن يكون لبس الرجل نازلًا عن كعبيه وقال «ما أسفل من الكعبين ففي النار» وقال «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» . وأما النوم فالسنة فيه أن ينام على الجنب الأيمن وأن ينام على طهارة ويذكر الله حتى يغلبه النوم ويقرأ آية الكرسي فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. «وكان صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» . وقال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليقل الحمد لله الذي رد عليَّ

روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره» . وأما الآداب في معاملة الناس فقد جاء صلى الله عليه وسلم بأكملها فحث على حسن الخلق وقال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» . وقال «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» وأمر بكل ما يجلب المودة والمحبة بين المؤمنين وجعل في ذلك أجرًا وخيرًا فقال صلى الله عليه وسلم «والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» . وقال «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» . وأمر بالصدق في كل شيء وقال «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا» . وشملت الآداب الإسلامية كل شيء حتى الرجل عندما يريد أن يقضي حاجة بول أو غائط فقد جعل له آدابًا فعندما يريد الدخول إلى محل قضاء الحاجة يقول باسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ويقدم رجله اليسرى وإذا خرج قدم رجله اليمنى وقال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. ومن الآداب الإسلامية أن يستعمل الإنسان يده اليمنى عند الأخذ والعطاء فيأخذ بيمينه ويعطي بيمينه ولا يستعمل اليسار إلا عند الحاجة. فاتقوا الله أيها المسلمون وتأدبوا بما بلغكم من الآداب الإسلامية لترتقوا إلى الكمال الخلقي والتعاملي وتفوزوا بخير الدنيا والآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا - يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 - 28] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الخامسة في بر الوالدين

[الخطبة الخامسة في بر الوالدين] الخطبة الخامسة في بر الوالدين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقه وحقوق عباده ألا وإن أعظم حقوق العباد عليكم حق الوالدين وحق الأقارب فقد جعل الله ذلك في المرتبة التي تلي حق الله المتضمن لحقه وحق رسوله فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان: 14] وبين العلة في ذلك إغراء للأولاد وحثًّا لهم على الاعتناء بهذه الوصية فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14] أي ضعفًا على ضعف ومشقةً على مشقة في الحمل وعند الولادة ثم في حضنه في حجرها وإرضاعه قبل انفصاله فقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله. ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله» . وفي صحيح مسلم أن «رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال فهل من والديك أحد حي قال نعم بل كلاهما قال فتبغي الأجر من الله تعالى قال نعم قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» . وفي حديث إسناده جيد أن «رجلًا قال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه قال: هل بقي من والديك أحد قال نعم أمي قال قابل الله في برها فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . وقد أوصى الله تعالى بصحبة المعروف للوالدين في الدنيا وإن كانا كافرين بل وإن كان يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله لكن لا يطيعهما في الكفر فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} [لقمان: 15] أي بذلا جهدهما {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت

قدمت عليَّ أمي وهي مشركة وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها أسماء في المدينة بعد صلح الحديبية قالت أسماء فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة أي راغبة في أن تصلها ابنتها أسماء بشيء أفأصل أمي يا رسول الله قال نعم صلي أمك» . أيها المسلمون إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستصحبًا كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شؤونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك والله أعلم بما يضرك في ذلك فلا تفت نفسك في شيء لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك. وأما الإحسان بالمال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك منشرحًا به صدرك غير متبع له بمنة ولا أذى بل تبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والانتفاع به. وإن بر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضًا بعد مماتهما فقد أتى رجل من بني سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال «يا رسول الله هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما بعد موتهما قال نعم الصلاة عليهما يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما أي وصيتهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» (رواه أبو داود) . الله أكبر ما أعظم بر الوالدين وأشمله حتى إكرام صديقهما وصلته من برهما. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه كان يسير في طريق مكة راكبًا على حمار يتروح عليه إذا مل الركوب على الراحلة فمر به أعرابي فقال أنت فلان بن فلان قال بلى فأعطاه الحمار وقال: اركب هذا وأعطاه عمامةً كانت عليه وقال اشدد بها رأسك فقالوا لابن عمر غفر الله لك أعطيته حمارًا كنت تروح عليه وعمامة تشد بها رأسك فقال ابن عمر إن هذا كان صديقًا لعمر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُدّ أبيه» . أيها المسلمون هذا بيان منزلة البر وعظيم مرتبته أما آثاره فهي الثواب الجزيل في الآخرة والجزاء بمثله في الدنيا فإن مَن برّ بوالديه برّ به أولاده. وتفريج الكربات ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما «في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه

فانطبقت عليهم صخرة فسدته عليهم فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرُح عليهما حتى ناما فحلبت غبوقهما فوجدتهما نائمين فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنَّا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت قليلًا وتوسل صاحباه بصالح من أعمالهما فانفرجت كلها وخرجوا يمشون» . وإن في بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر وحسن الخاتمة فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» . (إسناده جيد) وبر الوالدين أعلى صلة الرحم لأنهم أقرب الناس إليك رحمًا. أيها المسلمون إنه لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم فضل بر الوالدين وآثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعرض عنه ولا يقوم به أو يقوم بالعقوق والقطيعة فلقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيها فقال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24] ففي حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف البدني والعقلي منهما وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما وفي حال كهذه نهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر من والديه وأمره أن يقول لهما قولًا كريمًا وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيخاطبهما مخاطبة من يستصغر نفسه أمامهما ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمةً بهما وإحسانًا إليهما ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيرًا. إن على المؤمن أن يقوم ببر والديه وأن لا ينسى إحسانهما إليه حين كان صغيرًا لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا وأمه تسهر الليالي من أجل نومه وترهق بدنها من أجل راحته وأبوه يجوب الفيافي ويتعب فكره وعقله وجسمه من أجل حصوله على معاشه والإنفاق عليه ولكل منهما بر بجزاء عمله. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال

«يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك» . وفقنا الله جميعًا لبر أمهاتنا وآبائنا ورزقنا في ذلك الإخلاص وحسن القصد والسداد إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة السادسة في صلة الأرحام

[الخطبة السادسة في صلة الأرحام] الخطبة السادسة في صلة الأرحام الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا وأوجب صلة الأنساب وأعظم في ذلك أجرًا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها ليوم القيامة ذخرًا وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعظم الناس قدرًا وأرفعهم ذكرًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بالحق وكانوا به أحرى وعلى التابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده صِلُوا أرحامكم والأرحام والأنساب هم الأقارب وليسوا - كما يفهم بعض الناس - أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابًا لها ولا أرحامًا وأقارب زوجة المرء أصهار له وليسوا أرحامًا له ولا أنسابًا إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وابنته وكل من كان من بينه وبينه صلة من قبل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته. صِلُوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات صِلُوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة. إن صلة الرحم ذكرى حسنة وأجر كبير إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ - وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ - وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 19 - 24] وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال «يا رسول الله أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد وفق أو قال: لقد هدي كيف قلت فأعاد الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل ذا رحمك فلما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة» . صلة الرحم سبب لطول العمر وكثرة الرزق قال النبي صلى الله عليه وسلم «من سره أن يبسط له في رزقه

وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» (متفق عليه) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال الله نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذلك لك» . وقال صلى الله عليه وسلم: «الرحم متعلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» (متفق عليه) . ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم أعظم أجرًا من العتق ففي الصحيحين عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت «يا رسول الله أشعرت أني أعتقت وليدتي قال أوفعلت قالت نعم قال أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» . أيها الناس إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه وهذا في الحقيقة ليس بصلة فإنه مكافأة إذ إن المروءة والفطرة السليمة تقتضي مكافأة من أحسن إليك قريبًا كان أم بعيدًا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها» (متفق عليه) فصِلُوا أرحامكم وإن قطعوكم وستكون العاقبة لكم عليهم فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عليهم ويجهلون عليّ فقال إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ - أي الرماد الحار - ولا يزال معك من الله ظهير عليهم أي معين عليهم ما دمت على ذلك» (رواه مسلم) . واحذروا أيها المؤمنين من قطيعة الرحم فإنها سبب للعنة الله وعقابه يقول الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23] ويقول تعالى {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25] وقد تكفل الله سبحانه للرحم بأن يقطع من قطعها حتى رضيت بذلك وأعلنته فهي متعلقة بالعرش تقول من قطعني قطعه الله. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يدخل الجنة قاطع يعني قاطع رحم» (متفق عليه) . وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث مرات قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين» سبحان الله ما أعظم عقوق الوالدين ما أشد إثمه إنه يلي الإشراك بالله تعالى إن عقوق الوالدين قطع برهما

والإحسان إليهما وأعظم من ذلك أن يتبع قطع البر والإحسان بالإساءة والعدوان سواء بطريق مباشر أم غير مباشر ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه» . استبعد الصحابة رضي الله عنهم أن يشتم الرجل والديه مباشرة ولعمر الله إنه لبعيد لأنه ينافي المروءة والذوق السليم فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد لا يكون مباشرةً ولكن يكون عن طريق التسبب بأن يشتم الرجل والدي شخص فيقابله بالمثل ويشتم والديه. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: «لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثًا لعن الله من غير منار الأرض» (رواه مسلم) . فيا عباد الله يا من آمنوا بالله ورسوله انظروا في حالكم انظروا في أقاربكم هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة هل أَلَنْتُم لهم الجانب هل أطلقتم الوجوه لهم وهل شرحتم الصدور عند لقائهم هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام هل زرتموهم في صحتهم توددًا وهل عدتموهم في مرضهم احتفاءً وسؤالًا هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة فلننظر. إن من الناس من لا ينظر إلى والديه اللذين أنجباه وربياه إلا نظرة احتقار وسخرية وازدراء يكرم امرأته ويهين أمه ويقرب صديقه ويبعد أباه إذا جلس عند والديه فكأنه على جمر يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر لا يخاطبهما إلا ببطء وتثاقل ولا يفضي إليهما بسر ولا أمر مهم قد حرم نفسه لذة البر وعاقبته الحميدة. وإن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه ولا يعاملهم معاملةً تليق بهم يخاصمهم في أقل الأمور ويعاديهم في أتفه الأشياء ولا يقوم بواجب الصلة لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال تجده مثريًا وأقاربه محاويج فلا يقوم بصلتهم بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق وقد قال أهل العلم كل من يرث شخصًا من أقاربه فإنه تجب عليه نفقته إذا كان محتاجًا عاجزًا عن التكسب وكان الوارث قادرًا على الإنفاق لأن الله تعالى يقول {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أي مثل ما على الوالد

من الإنفاق فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم مُحاسَب عليه يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أما استحيا وسكت. عباد الله اتقوا الله تعالى وصِلُوا أرحامكم واحذروا من قطيعتهم واستحضروا دائمًا ما أعد الله تعالى للواصلين من الثواب وللقاطعين من العقاب واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة السابعة في الحث على الصدق

[الخطبة السابعة في الحث على الصدق] الخطبة السابعة في الحث على الصدق وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم الحمد لله الذي أمر بالصدق جميع المؤمنين ورفع ذكر الصادقين بين العالمين وأهان الكاذبين ووضع ذكرهم في الأسفلين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحكم العدل الملك الحق المبين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الصادقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين اصدقوا مع الله واصدقوا مع عباد الله «فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» . أيها المسلمون إن الصدق بجميع أنواعه محمود إن الصادق محبوب إلى الله وإلى الخلق إن الله يرفع ذكره ويزيد أجره وإن أبين دليل على ذلك ما يحصل من ثناء الناس على الصادقين في حياتهم وبعد مماتهم أخبارهم مقبولة وأمانتهم موثوقة قد أفلح الصادقون وخاب الكاذبون. هذا كعب بن مالك رضي الله عنه صدق الله ورسوله فرفع الله ذكره وأنزل في شأنه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة «تخلف رضي الله عنه عن غزوة تبوك فلم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم بلا عذر فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم جاء المتخلفون من أهل النفاق يعتذرون كذبًا فيعذرهم ويكل سرائرهم إلى الله ثم جاء كعب فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه تبسم المغضب وقال له ما خلفك فقال والله لقد علمت لو حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله ما كان لي من عذر قال النبي صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك وكان معه رجلان من المؤمنين تخلفا بدون عذر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم قال كعب رضي الله عنه فاجْتَنَبَنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ولقد كنت أطوف في الأسواق فما يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم عليه وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا حتى إذا طال ذلك عليّ من هجر المسلمين تسلقت حائط أبي قتادة وهو

ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما رد عليّ السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله فسكت فأعدت عليه فسكت ثم أعدت فسكت فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت فبينما أنا أمشي في أسواق المدينة إذا بنبطي معه كتاب من ملك غسان فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك فالْحَقْ بنا نواسك أي نجعلك مثلنا فقلت وهذا من البلاء فقصدت به التنور فسجرته به وصدق كعب إن هذا من البلاء والامتحان ولكن الإيمان الراسخ في قلب كعب والصدق الثابت في عقيدته منعاه أن يستجيب لهذه الدعوة المغرية التي جاءت في وقت مناسب لولا تثبيت الله لكعب بن مالك على أنه رضي الله عنه كان في ذلك الوقت في أعز شبابه ابن ثلاث وثلاثين سنة قال كعب فلما مضت أربعون ليلة إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال اعتزلها ولا تقربها فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء فلبثنا عشر ليال حتى كمل لنا خمسون ليلة فبينما أنا جالس على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صارخًا على جبل سلع يقول بأعلى صوته أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدًا لله عرفت أن الله قد جاء بالفرج بالتوبة علينا وانطلقت أقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بتوبة الله حتى دخلت المسجد فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم والناس حوله فقال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال من عند الله قلت يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت فوالله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي» . أيها المسلمون هذه والله الغبطة والنعمة والفائدة الكبيرة انظروا إلى هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا فأدبهم الله بهذا الهجر من رسوله وأصحابه وانظروا إلى هذا الإيمان التام من الصحابة هجروا أقاربهم وبني عمهم امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ضاقت الحال وتراكمت الكربات جاء الفرج من الله فتاب عليهم وأعلنت توبتهم في كتاب الله تتلوها الأمة إلى يوم القيامة أما الذين نافقوا وكذبوا فأنزل الله فيهم

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96] أيها المسلمون اعتبروا بهذه الآيات وانظروا ما تختارون لأنفسكم فلن يرضى المؤمن إلا أن يكون من الصادقين المتقين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة الثامنة في التحذير من الكذب

[الخطبة الثامنة في التحذير من الكذب] الخطبة الثامنة في التحذير من الكذب الحمد لله مستحق الحمد وأهله يجزي الصادقين بصدقهم من رحمته وفضله ويجازي الكاذبين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه في هديه وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين في عبادة الله ومع الصادقين في عباد الله اصدقوا الله تعالى في عبادته اعبدوه مخلصين له غير مرائين في عبادته ولا مسمعين امتثلوا أمره طلبًا للقرب منه والحصول على ثوابه اجتنبوا نهيه خوفًا من البعد عنه والوقوع في عقابه لا تبتغوا في عبادته أن يراكم الناس أو يسمعوكم فيمدحوكم عليها فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معه غيره تركه وشركه. اصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم في اتباعه ظاهرًا وباطنًا غير مقصرين في سنته ولا زائدين عليها اصدقوا الناس في معاملتهم أخبروهم بالواقع فيما تخبرونهم به وبينوا لهم الحقيقة فيما تعاملونهم به ذلك هو الصدق الذي أمركم الله به ورسوله يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا» . لقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن للصدق غايةً وللصادق مرتبةً أما غاية الصدق فهي البر والخير ثم الجنة وأما مرتبة الصادق فهي الصديقية وهي المرتبة التي تلي مرتبة النبوة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وإن الصادق لمعتبر بين الناس في حياته ومماته فهو موضع ثقة فيهم في أخباره ومعاملته وموضع ثناء حسن وترحم عليه بعد وفاته. واحذروا أيها المسلمون من الكذب احذروا من الكذب في عبادة الله لا تعبدوا الله رياءً وسمعةً وخداعًا ونفاقًا واحذروا من الكذب في اتباع رسول الله لا تبتدعوا في شريعته ولا تخالفوه في هديه واحذروا من الكذب مع الناس لا تخبروهم بخلاف الواقع ولا تعاملوهم بخلاف الحقيقة. إن المؤمن لا يمكن أن يكذب لأن الكذب من خصال المنافقين

{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]- {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]- {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105] إن المؤمن لا يمكن أن يكذب لأنه يؤمن بآيات الله يؤمن برسوله يؤمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» ما أقبح غاية الكذب وما أسفل مرتبة الكاذب الكذب يفضي إلى الفجور وهو الميل والانحراف عن الصراط السوي ثم إلى النار ويا ويل أهل النار والكاذب سافل لأنه مكتوب عند الله كذابًا وبئس هذا الوصف لمن اتصف به إن الإنسان لينفر أن يقال له بين الناس يا كذاب فكيف يقر أن يكتب عند خالقه كذابًا وإن الكاذب لمحذور في حياته لا يوثق به في خبر ولا معاملة وإنه لموضع الثناء القبيح بعد وفاته ولقد قرن الله تعالى الكذب بعبادة الأوثان فقال تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] فهل بعد ذلك سبيل إلى أن يتخذ المؤمن الكذب مطيةً لسلوكه أو منهجًا لحياته لقد كان الكفار في كفرهم وأهل الجاهلية في جاهليتهم لا يمتطون الكذب ولا يتخذونه منهجًا لحياتهم أو بلوغ مآربهم هذا أبو سفيان ذهب قبل أن يسلم في ركب من قريش تجار إلى الشام فلما سمع بهم هرقل ملك الروم بعث إليهم ليسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبًا لكذبت عنه أو عليه هكذا أيها المؤمنون الكفار في كفرهم وأهل الجاهلية في جاهليتهم يترفعون عن الكذب ويستحيون من أن يؤثر عليهم وينسب إليهم فكيف بكم أنتم أيها المؤمنون وقد حباكم الله تعالى بهذا الدين الكامل الذي يأمركم بالصدق ويرغبكم فيه ويبين لكم نتائجه وثمراته الطيبة وينهاكم عن الكذب ويحذركم منه ويبين لكم نتائجه وثمراته الخبيثة إن أبا سفيان في حال كفره تنزه أن يوصف بالكذب ولو مرة واحدة مع أنه كان يرى أن له مصلحة في كذبه عما يخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بعض المنخدعين من هذه الأمة ليستمرئ الكذب ويفتي نفسه بحله إما لتهاون بالكذب وإما لاعتقاد فاسد يظن أن الكذب لا يحرم إلا إذا تضمن أكل مال وإما لطمع مادي يتمتع به في دنياه وإما لتقليد أعمى لا هداية فيه وكل ذلك خداع لنفسه وتضليل لفكره فالتهاون بالكذب عنوان الرذيلة فالكذبة الواحدة تخرق السياج الحائل بينك وبين

الكذب حتى لا يبقى دونه حائل فالكذب كغيره من المعاصي تستوحش منه النفس المطمئنة الراضية المرضية فإذا وقعت فيه مرةً هان عليها شأنه ثم تقع منه ثانيًا فيهون عليها أكثر حتى يصبح كأنه سجية وطبيعة فيكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا. والكذب حرام وإن لم يكن فيه أكل لمال الغير بالباطل إذ لم يكن في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن تحريمه مشروط بذلك ولكنه إذا تضمن أكل مال بالباطل كان أعظم جرمًا وأشد عقوبةً فعن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ الكبائر وفيها اليمين الغموس قيل وما اليمين الغموس قال التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب» (رواه مسلم) . وقال صلى الله عليه وسلم «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال رجل وإن كان شيئًا يسيرًا قال وإن كان قضيبًا من أراك» (رواه أحمد ومسلم) . إن بعض الناس يكذب ليضحك به القوم فيألف ذلك لما يرى من ضحك الناس ويستمر على عمله فيهون عليه وقد جاء في الحديث «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له» (أخرجه الثلاثة وإسناده قوي) . وإن بعض الناس يكذب على الصبيان لأنهم لا يوجهون إليه النقد ولكنه في الحقيقة أوقع نفسه في الكذب وفتح لهم باب التهاون به والتربي عليه وعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أن «أمه دعته فقالت تعالى أعطك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه قالت تمرًا فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطه شيئا لكتبت عليه كذبةً» (رواه أبو داود والبيهقي) . فاتق الله أيها المسلم اتق الله في نفسك واتق الله في مجتمعك واتق الله في دينك ألم تعلم أن الدين يظهر في أهله فإذا كان مظهر الأمة الإسلامية مظهر كذب وتقليد أعمى وأكل مال الغير بغير حق فأين المظهر الإسلامي أرأيت إذا ظهر المسلمون بهذا المظهر المشين أفلا يكونون سببًا للتنفير عن دين الإسلام ألا يكونون فريسةً لأراذل الأنام إن أعدائهم ليسخرون بهم ويضحكون إذا رأوهم على تلك الحال كذب في المقال وخيانة في الأمانة وغدر في العهد وفجور في الخصومة وإن أعدائهم ليفخرون عليهم إذا رأوهم يقلدونهم حتى في رذائل الأخلاق التي يحذرهم الإسلام منها فعجبًا وأسفًا لأمثال هؤلاء القوم الذين ألبسوا أنفسهم ما تعروا به أمام أعدائهم واتبعوا سبيل الهالكين وابتعدوا عن سبيل الذين أنعم الله عليهم

من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء واهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة التاسعة في التحذير من زلات اللسان

[الخطبة التاسعة في التحذير من زلات اللسان] الخطبة التاسعة في التحذير من زلات اللسان الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء شهيد أحاط علمه بالظاهر والخفي والقريب والبعيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد فهو الولي الحميد وأشهد أن محمدًا رسول الله وعبده أفضل العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم الرشيد وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحفظوا ألسنتكم فإن حصائد اللسان هلاك الإنسان فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قلت «يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة أو يباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل - يعني تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذورة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال كف عليك هذا قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» . أيها الناس إن حصائد اللسان هي أقواله المحرمة وهي أنواع كثيرة منها ما يوصل إلى الكفر ومنها دون ذلك فالاستهزاء بالله ودينه وكتابه ورسله وآياته وعباده الصالحين فيما فعلوا من عبادة ربهم كل هذا كفر بالله ومخرج عن الإيمان وهو من حصائد اللسان. والكذب والغيبة والنميمة والفحش والسب واللعن والقذف كل هذا من حصائد اللسان. وفي الحديث «إن الله ليبغض الفاحش البذيء» . أيها الناس لقد شاع في كثير من الناس أخلاق سيئة من حصائد اللسان فكثير من الناس لا يبالون بالكذب ولا يهتمون به ولم يَحْذَروا من قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الكذب يهدي

إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» . كثير من الناس يظنون ظنونًا كاذبةً فيشيعها في الناس من غير مبالاة بها وربما كانت تسيء إلى أحد من المسلمين وتشوه سمعته وليس لها حقيقة فيبوء بإثم الكذب وإثم العدوان على أخيه المسلم ويخشى أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل يتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار. وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب «في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه ملَكان فمروا على رجل مستلق على قفاه وآخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه ومنخره وعينيه إلى قفاه ثم يفعل بالشق الآخر كذلك فما يفرغ منه حتى يعود الجانب الأول ضحيحًا فيرجع إليه فيشرشره كما فعل في المرة الأولى فقال الملَكان للنبي صلى الله عليه وسلم هذا كذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة» . هؤلاء الذين ينقلون للناس ما يفكرون به من أوهام لا حقيقة لها ربما يكون في كلامهم إلقاءً للعداوة والبغضاء بين المسلمين فيتفكك المجتمع وتتفرق الجماعة من أجل أمور وهمية وظنون كاذبة. كثير من الناس ينقلون الكلام عنه غيرهم بمجرد الإشاعات وربما لو بحثت عن هذا النقل لوجدته كذبًا لا أصل له أو محرفًا أو مزيدًا أو منقوصًا والمؤمن العاقل هو الذي يتثبت في الأخبار ويتحرى في نقلها حتى لا ينقل إثمًا ولا كذبًا وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها أي ما يتثبت ولا يعلم هل هي خير أو شر صدق أو كذب يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كفى بالمرء إثمًا وفي رواية كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» فيا أيها المسلمون احفظوا ألسنتكم لا تطلقوا عنانها فتهلككم إذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا قول الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقوله صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» واعلموا أنكم محاسبون على كل كلمة تخرج من أفواهكم فما جوابكم يوم القيامة إذا سئلتم ألم تتكلم بكذا وكذا فمن أين وجدت ذلك وكيف تكلمت ولم تتبين الأمر. أيها المسلم لا تطلق لسانك بالقول لمجرد ظن توهمته أو خبر سمعته فلعلك أن يكون ظنك كاذبًا ولعل الخبر أن يكون كاذبًا وحينئذ تكون خاسرًا خائبًا. أعوذ بالله من

الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71] إلى آخر السورة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وحماني وإياكم من الزلل في الأقوال والأفعال إنه جواد كريم.

الخطبة العاشرة في التحذير من الغيبة والنميمة

[الخطبة العاشرة في التحذير من الغِيبة والنميمة] الخطبة العاشرة في التحذير من الغِيبة والنميمة الحمد لله جعل المؤمنين إخوةً يتعاونون بينهم على البر والتقوى ويحترم كل واحد منهم الآخر في نفسه وماله وعرضه «فكل المسلم على المسلم حرام» كما قال ذلك النبي المصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماء وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والوفاء وعلى التابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحترموا حقوق إخوانكم المسلمين وذبوا عن إعراضهم كما تذبون عن دمائهم وأموالهم. أيها المسلمون لقد شاع بين كثير من المسلمين داءان عظيمان لكن السلامة منهما يسيرة على من يسرها الله عليه. أيها المسلمون فشا فينا داء الغِيبة وداء النميمة أما الغِيبة فهي ذكر الإنسان الغائب بما يكره أن يذكر فيه من عمل أو صفة فإن كثيرًا من الناس صار همه في المجالس أن يأكل لحم فلان وفلان. فلان فيه كذا وفيه كذا ومع ذلك لو فتشت لرأيته هو أكثر الناس عيبًا وأسوأهم خلقًا وأضعفهم أمانةً وإن مثل هذا الرجل يكون مشؤومًا على نفسه ومشؤومًا على جلسائه لأن جلساءه إذا لم ينكروا عليه صاروا شركاء له في الإثم وإن لم يقولوا شيئًا. أيها المسلمون لقد صور الله الإنسان الذي يغتاب إخوانه المسلمين بأبشع صورة مثلَّه بمن يأكل لحم أخيه ميتًا ويكفي قبحًا أن يجلس الإنسان على جيفة أخيه يقطع من لحمه ويأكله. أيها المسلمون إن الواجب عليكم إذا سمعتم من يغتاب إخوانه من المسلمين أن تمنعوه وتذبوا عن أعراض إخوانكم ألستم لو رأيتم أحدًا قائمًا على جنازة رجل من المسلمين يأكل لحمه، ألستم تقومون عليه جميعًا وتنكرون عليه. إن الغِيبة كذلك تمامًا كما قال الله تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] ولا يبعد أن يعاقب من يغتاب إخوانه يوم القيامة فيقربون إليه بصورة أموات ويرغم على الأكل منهم كما روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقال مَنْ هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم

الناس ويقعون في أعراضهم» وقال عليه الصلاة والسلام «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته يعني ولو كان في بيته» . أيها المسلمون إن كثيرًا من أهل الغِيبة إذا نُصِحوا قالوا نحن لا نكذب عليه هو يعمل كذا ولقد «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه» فبيَّن لأمته صلى الله عليه وسلم أن الغِيبة أن تعيب أخاك بما فيه أما إذا غبته بما ليس فيه فإن ذلك جامع لمفدستين البهتان والغِيبة. ولقد نص الإمام أحمد بن حنبل وفقهاء مذهبه على أن الغِيبة من كبائر الذنوب فاحذر أيها المسلم منها واشتغل بعيبك عن عيب غيرك وفتش نفسك هل أنت سالم فربما تعيب الناس وأنت أكثرهم عيبًا وإن كنت صادقًا في قولك مخلصًا في نصحك فوجدت في أخيك عيبًا فإن الواجب عليك أن تتصل به وتناصحه. هذا هو مقتضى الإخوة الإيمانية والطريقة الإسلامية. أما الداء الثاني الذي انتشر بين بعض الناس فهو داء النميمة وهي أن ينقل الكلام بين الناس فيذهب إلى الشخص ويقول قال فيك فلان كذا وكذا لقصد الإفساد وإلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين وهذه هي النميمة التي هي من كبائر الذنوب ومن أسباب عذاب القبر وعذاب النار قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة نَمَّام» «ومر بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أي في أمر شاق تركه عليهما أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» . أيها المسلمون إن الواجب على من نقل إليه أحد أن فلان يقول فيه كذا أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك وليحذر منه فإن من نقل إليك كلام الناس فيك نقل عنك ما لم تقله قال الله تعالى {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11] وفقني الله وإياكم لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال وجَنَّبَنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

الخطبة الحادية عشرة في الحث على الألفة بين المسلمين والمودة

[الخطبة الحادية عشرة في الحث على الأُلْفَة بين المسلمين والمودة] الخطبة الحادية عشرة في الحث على الأُلْفَة بين المسلمين والمودة الحمد لله الذي جعل المؤمنين أخوة في الإيمان فكانوا في شد بعضهم بعضًا وتعاونهم كالبنيان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الإنسان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم أخوه في دين الله وأن هذه الإخوة أقوى من كل رابطة وصلة فيوم القيامة لا أنساب بينكم ولكن الأخِلَّاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين فنمّوا أيها المسلمون هذه الإخوة وقووا تلك الرابطة بفعل الأسباب التي شرعها الله لكم ورسوله اغرسوا في قلوبكم المودة والمحبة للمؤمنين فأوثق عُرَى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ومن أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك. أيها المسلمون إن الأمة لا تكون أمة واحدة ولا يحصل لها قوة ولا عزة حتى ترتبط بالروابط الدينية حتى تكون كما وصفها نبيها صلى الله عليه وسلم بقوله المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا. لقد أرست الشريعة أسس تلك الروابط والأواصر فشرع الله ورسوله للأمة ما يؤلف بينها ويقوي وحدتها ويحفظ كرامتها وعزتها ويجلب المودة والمحبة. شرع للأمة أن يسلم بعضهم على بعض عند ملاقاته فالسلام يغرس المحبة ويقوي الإيمان ويدخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وخير الناس من بدأهم بالسلام فإذا لقي أحدكم أخاه المسلم فليقل السلام عليكم وليرد عليه أخوه بجواب يسمعه فيقول وعليكم السلام ولا يكفي أن يقول أهلًا وسهلًا أو كلمة نحوها حتى يقول وعليكم السلام ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه المسلم لأن ذلك يوجب الكراهة والبغضاء والتفرق إلا أن يكون مجاهرًا بمعصية ويكون في هجره فائدة تردعه عن المعصية فالهجر بمنزلة الدواء إن كان نافعًا بإزالة المعصية أو تخفيفها كان مطلوبًا وإلا فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» . وقال صلى الله عليه وسلم «تعرض الأعمال على الله في كل اثنين وخميس فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئًا إلا امرءًا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا» .

وشرع للأمة أن يعود بعضهم بعضًا إذا مرض فعيادة المرضى تجلب المودة وترقق القلب وتزيد في الإيمان والثواب فمن عاد مريضًا ناداه مناد من السماء طبت وطاب ممشاك، ومن عاد أخاه المسلم لم يزل في جنى الجنة حتى يرجع وينبغي لمن عاد المريض أن لا يطيل الجلوس عنده إلا إذا كان يرغب ذلك وينبغي أن يذَكِّره بما أعد الله للصابرين من الثواب وما في المصائب من تكفير السيئات وأن لكل كربة فرجة ويفتح له باب التوبة والخروج من حقوق الناس واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والاستغفار وغيرها مما يقرب إلى الله ويرشده إلى ما يلزمه من الوضوء إن قدر عليه أو التيمم وكيف يصلي فإن كثيرًا من المرضى يجهلون كثيرًا من أحكام الطهارة والصلاة ولا يحقرن أحدكم شيئًا من تذكير المريض وإرشاده فإن المريض قد رقت نفسه وخشع قلبه فهو إلى قبول الحق والتوجيه قريب. وأمر بالإصلاح بين الناس {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وأخبر أن ذلك هو الخير {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «تعدل بين اثنين صدقة» . إن الإصلاح بين الناس رأب للصدع ولم للشعث وإصلاح للمجتمع كله وثواب عظيم لمن ابتغى به وجه الله إن الموفق إذا رأى بين اثنين عداوة وتباعدا سعى بينهما في إزالة تلك العداوة والتباعد حتى يكونا صديقين متقاربين. وأمر باجتماع المسلمين على كلمة الحق والتشاور بينهم في أمورهم حتى تتم الأمور وتنجح على الوجه الأكمل فإن الآراء إذا اجتمعت مع الفهم والدراية وحسن النية تحقق الخير وزال الشر بإذن الله تعالى. أيها المسلمون إن القاعدة الأصيلة بين المسلمين أن يسعوا في كل أمر يؤلف بين قلوبهم ويجمع كلمتهم ويوحد رأيهم وأن ينابذوا كل ما يضاد ذلك ومن أجل ذلك حرم على المسلمين أن يهجر بعضهم بعضا إلا لمصلحة شرعية وإنك لترى بعض المسلمين حريصا على الخير وجادا في فعله لكن غره الشيطان في هجر أخيه المسلم من أجل أغراض شخصية ومصلحة دنيوية ولم يعلم أن الإسلام الذي من الله به عليه أسمى وأعلى من أن تؤثر الأغراض الشخصية أو المصالح الدنيوية في الصلة بين أفراده وحرم على المسلمين أن يوقع العداوة بينهم

بالنميمة ويسعى في الإفساد يأتي إلى شخص فيقول له قال فيك فلان كذا وكذا فيلقي العداوة بينهما ولم يعلم أنه بنميمته هذه أصبح من المفسدين في الأرض المتعرضين لعقوبة الله فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» . وقال صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة نمام» . {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية عشرة في شيء من مفاسد الزنا

[الخطبة الثانية عشرة في شيء من مفاسد الزنا] الخطبة الثانية عشرة في شيء من مفاسد الزنا الحمد لله الذي أوضح لعباده طرق الهداية ويسر لهم أسباب النجاة والوقاية وأنزل كتابًا يشتمل على العلم والدراية وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في العبادة والولاية وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أيد الله به الدين ونصره بالحماية صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتدبروا كتابه وتفهموا لمعانيه وصدقوا أخباره واعلموا بما فيه {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] إن كتاب الله لم ينزل للتبرك بتلاوته ولا لطلب الأجر بتلك التلاوة بل هذا جزاء مما نزل من أجله إنما الأهم أنه نزل كما سمعتم كلام منزله سبحانه وتعالى لتتدبروا آياته بالتفهم والتفكير والعلم ثم تتذكروا بالموعظة بما فيها من أحكام رشيدة وحكم بالغة فكم من قارئ للقرآن والقرآن خصم له يوم القيامة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم «والقرآن حجة لك أو عليك» فهما أمران لا ثالث لهما إما أن يكون القرآن حجة لك يحاج دونك حتى تبلغ به الجنة وذلك حين تعمل به تصديقا وتطبيقا وإما أن يكون حجة عليك حينما تعرض عنه ولا تعمل به. أيها المسلمون إن من أحكام القرآن وهدايته الحث على التمسك بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية والزجر عما يخل بالشرف والعفاف ومن أجل ذلك حرم الزنا وأخبر أنه فاحشة يستفحشه كل ذي فطرة قويمة وعقل سليم وحذر منه بعقوبة الدنيا والآخرة عقوبة الدنيا بالحد جلد مئة وتغريب عام أي تسفير عن البلد لمن كان غير متزوج والرجم بالحجارة إلى الموت لمن كان قد تزوج إن جريمة تؤدي إلى القتل لجريمة بالغة تعبر عن كون مرتكبها غير صالح للبقاء في المجتمع فهو جرثومة فاسدة يجب القضاء عليها حتى لا تفسد المجتمع كله. وأما عقوبة الزنا في الآخرة فقد قال الله تعالى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا - إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70] وفي صحيح البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام ثقبا مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه لغط وأصوات فاطلع فيه فإذا فيه رجال

ونساء عراة يأتيهم لهب من أسفل منهم فسأل عنهم فقيل له هم الزناة والزواني» . وقال صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (متفق عليه) . وقال «إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة فإذا أقلع أي تاب رجع إليه الإيمان» (رواه أبو داود) . وقال إذا ظهر الزنا والربا في قرية أحلوا بأنفسهم عذاب الله (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد) . أيها المسلمون إن الزنا بالإضافة إلى هذه العقوبات فيه مفاسد عظيمة يفسد القلب والفكر ويوجب الذل والعار ويضيع النسل ويخلط الأنساب وينشر الأمراض التناسلية فهو فساد في الدين والدنيا والفرد والمجتمع ومن ثم جاءت الآية الكريمة بالنهي عن قربانه فقال تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] والنهي عن قربانه نهي عن جميع الأسباب الموصلة إليه كاللمس والنظر فلا يحل للمؤمن أن يتمتع تمتعًا نفسيًّا أو جنسيًّا أعني سواء كان تمتعه بالنظر ونحوه مجرد راحة نفسية أو لأجل التمتع الجنسي والشهوة فكل ذلك حرام ولا يجوز في غير الزوجة قال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7] أيها الناس إن كثيرًا من ذوي النفوس السافلة والإرادات الضعيفة غلبتهم نفوسهم حتى أطلقوا لها العنان في التمتع بالنظر إلى النساء فأصبحوا أسرى لأهوائهم المنحرفة حتى صدَّهم ذلك عن ذكر الله وعن مصالحهم فصار همهم التجول في الأسواق لغير غرض ولا حاجة سوى مطاردة أهوائهم التي لا ينالون من ورائها إلا الهم والأماني الكاذبة لعب الشيطان بعقولهم حتى أنزلهم إلى مشاركة البهائم {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] أيها الناس إن على المجتمع أن يتتبع أمثال هؤلاء وينتشلهم مما وقعوا فيه بنصيحتهم وزجرهم وعقوبتهم ومنع الأسباب التي تغريهم ومن أهمها منع خروج النساء من البيوت إلا لحاجة لا يمكن قضاؤها من قبل الرجال إن على ولي كل امرأة من أب أو أخ أو عم أو أي ولي آخر يرعى حرمه من الفساد وأسبابه أن يمنعها من الخروج في حالة تُوقِع في الفتنة من التجمل والتطيب وأن يراعي حركاتها وسكناتها وسلوكها في المدرسة وفي البيت وغير ذلك كما

يراعي ذلك في أبنائه لأن الجميع في ذمته مسؤول عنهم حيث حمله الله مسؤوليتهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وفقني الله وإياكم لصالح الأعمال وحسن الآداب وجنبنا أسباب الشر والفساد وأصلح الله لنا النية والعمل والأهل والولد إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الفرع السابع في المعاملات

[الفرع السابع في المعاملات] [الخطبة الأولى في التحذير من آكل المال بغير حق] الفرع السابع في المعاملات الخطبة الأولى في التحذير من آكل المال بغير حق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا. أما بعد: فقد قال الله تعالى {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا - يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 - 28] هكذا يقرر الله هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان أن كل إنسان خلق ضعيفا فهو ضعيف في نشأته فقد خلقه الله من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وهو ضعيف في علمه {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] لا يعلم الغيب ولا يعلم المستقبل حتى في تصرفاته الخاصة {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وهو ضعيف في تصوره وإدراكه قد يُتَصَوَّر القريب بعيدًا والبعيد قريبًا والضار نافعًا والنافع ضارًّا ولا يدرك النتائج التي قد تنتج عن تصرفاته وأعماله. ومن أجل هذا الضعف أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيسيروا على صراط الله المستقيم وتثبت شرائع الله بين الناس فلا يحتاجوا إلى تشريعات من عند أنفسهم يسلكون بها مسالك المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلاف. فجاءت شرائع الله منظمةً للناس ليس في العبادة فحسب ولكن في العبادة والمعاملة والآداب والأخلاق وكان أكمل تلك الشرائع وأشملها وأرعاها لمصالح العباد في كل زمان ومكان هذه الشريعة التي ختم الله بها الشرائع لتكون شريعةً للخلق كافة ومنهج حياة شاملًا إلى يوم القيامة وهي الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والرسول من الله إلى الخلق أجمعين فجاءت تنظم للناس العبادات والمعاملات والآداب والأخلاق. ولقد ضل قوم عموا أو تعاموا عن الحق حيث زعموا أن هذه الشريعة إنما تنظم للناس العبادات والأخلاق دون جانب المعاملة وتنظيم الحياة فاتبعوا أهواءهم في معاملاتهم واتبعوا القوانين التي وضعها شياطين الخلق

ليضلوا بها الناس عن شريعة ربهم. أفلم يعلم هؤلاء الذين عموا أو تعاموا أن في الشريعة الإسلامية نصوصًا كثيرةً وافيةً في تنظيم المعاملات في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل إن أطول آية في القرآن كانت في المعاملة بين الناس في بيعهم وشرائهم الحاضر والمؤجل وبيان وسائل حفظ ذلك من كتابة وإشهاد ورهن واقرؤوها إن شئتم في آخر سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] الآية، أفليس هذا أكبر دليل على أن الشريعة تنظيم للعبادة وتنظيم للمعاملة ففي العبادات أمر ونهي وفي المعاملات أمر ونهي وفي العبادات ترغيب وترهيب ووعد ووعيد وفي المعاملات كذلك ترغيب وترهيب ووعد ووعيد {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] فكما أن على المؤمن أن يسير في عبادته على الحدود الشرعية من غير تجاوز ولا تقصير فكذلك يجب عليه أن يسير على الحدود الشرعية في معاملة الناس من بيع وشراء وتأجير واستئجار وإرهان وارتهان وبذل وأخذ وغير ذلك لأن الكل شريعة الله تعالى فهو مسؤول عن معاملته كما هو مسؤول عن عبادته قال الله تعالى {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6 - 7] فاتقوا الله عباد الله وأجملوا في طلب المال سيروا في طلبه على هدى ربكم لا على أهواء أنفسكم {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من يحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ولا والذي نفسي بيده لا يُسْلِم عبد حتى يُسْلِم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه يا نبي الله قال غشمه وظلمه ولا يكسب عبد مالًا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث» . إن في هذا الحديث لعبرة لمن كان له قلب إنه يدل بوضوح على أن كثرة الدنيا وتنعيم العبد بها ليس علامة على أن الله يحبه فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب وهاهم الكفار يتمتعون بما يتنعمون به في الدنيا وهم أعداء الله وموضع سخطه وبغضه ولكن العلامة

على محبة الله للعبد هو الدين الذي يلتزم به العبد شرائع الله في عباداته ومعاملاته وآدابه وأخلاقه فإذا رأيت الرجل ذا دين فإن الله يحبه لأن الله لا يعطي الدين إلا من يحب {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] وهذا الحديث يدل بوضوح على أن من كسب مالًا على وجه محرم فهو خاسر مهما ربح لأنه إما أن ينفق هذا المال في حاجاته الدنيوية وإما أن يتصدق به لطلب الثواب في الآخرة وإما أن يبقى بعده بدون إنفاق ولا صدقة وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه الثلاث بأنه إن أنفقه لم يبارك له فيه وإن تصدق به لم يقبل منه وإن بقي بعده كان زاده إلى النار. هذه نتائج من اكتسب المال بطريق محرم أضف إلى هذه النتائج نتيجة الطمع وإغراق القلب في طلب المال استمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيحين يقول «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا» ثم قال صلى الله عليه وسلم «إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو وإن أخذه بغير حقه أو قال ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة» . أخذ المال بحقه أن يكتسبه بطريق مباح وأخذ المال بغير حقه أن يأخذه بطريق غير مباح والميزان لكون الطريق مباحًا أو غير مباح ليس هو الهوى النفسي ولا القانون الوضعي وإنما هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما أحله الله ورسوله فهو الحق وما حرمه الله ورسوله فهو غير الحق. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرهنت الوقائع على صدقه فإن الناس يشاهدون من يكتسب المال بالطرق المحرمة قد ملأ صدره الطمع وأحرق نفسه الشح أيديهم مملوءة من المال وقلوبهم خالية منه يقول الناس إنهم أغنياء وهو أشد في طلب المال من الفقراء لأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «كالذي يأكل ولا يشبع» . يشاهدون من يأكل الربا لا يقلع عنه ولا يفتر في طلبه. يشاهدون من يتحيل على أكل الربا وقد زين له سوء عمله فرآه حسنًا لا يرعوي عن تَحَيُّلِه ولا يتوانى في ذلك. يشاهدون من يكذب في السلعة أو ثمنها منهمكًا في عادته السيئة لا يقلع عنها. يشاهدون من يعامل بالغش والتغرير والتمويه على الناس لا يزال مستمرًا في عمله. يشاهدون من يأخذ الرشوة

على أعماله الملزم بها من قبل الوظيفة فيتوانى في القيام بعمله حتى يضطر الناس إلى بذل الرشوة له يشاهدونه مشغوفًا بهذا العمل ومنهمكًا فيه. يشاهدون من يربحون من وراء المناجشات في المساهمات العقارية في الأراضي أو غيرها لا يتورعون عن الكسب بهذه الطريق المحرمة يُرى الواحد منهم يزيد في قطع الأراضي من الأرض التي له فيه شركة لا لغرض في القطعة ولكن من أجل رفع ثمنها ليزيد ربحه الذي هو في الحقيقة خسران. فكيف يليق بالمؤمن وهو يعلم بهذه العقوبات ويشاهد تلك النتائج أن يسعى لكسب المال من طريق محرم كيف يرضى أن يخسر دينه من أجل الكسب الظاهري في دنياه كيف يليق به أن يجعل الوسيلة غايةً والغاية وسيلةً ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا وأن اكتسابه بطريق محرم هدم للدين والدنيا. فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون وفقني الله وإياكم للبصيرة في دينه والعمل بما يرضيه وحمانا من أسباب سخطه ومعاصيه وغفر لنا وللمسلمين إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية في بيع ثمار النخيل

[الخطبة الثانية في بيع ثمار النخيل] الخطبة الثانية في بيع ثمار النخيل الحمد لله الكريم المنان المتفضل على عباده بأصناف النعم وأنواع الإحسان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديان وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى والرحمة وصلاح القلوب والأبدان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم العظيمة نعم الدنيا ونعم الدين نعم كثيرة وافرة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] اشكروا الله على هذه النعم فإن الشكر سبب لمزيدها وبقائها وإن كفر النعم سبب لنقصها وزوالها قال الله تعالى {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وقال سبحانه {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] أيها الناس إن شكر الله على نعمته هو القيام بطاعته أن تفعلوا ما أمركم الله به وتتركوا ما نهاكم عنه سواء في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا. إن العاصي ليس بشاكر لربه ولو قال شكرًا لله بلسانه فأيُّ فائدة لشكر الإنسان ربه بلسانه وهو مقيم على معصيته أفلا يخشى من شكر ربه بلسانه وهو مقيم على معصيته أن يقال له كذبت إنك لم تشكر ربك حق شكره. أيها الناس إن أكبر نعمة أنعم الله عليكم أن هداكم للإيمان والإسلام مخلصين لله تعالى متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد كان قوم يتخبطون العشواء في دينهم ما بين مغضوب عليهم علموا الحق واستكبروا عنه، وضالين جهلوا الحق فلم يهتدوا إليه. وإن من نِعَم الله عليكم هذا الأمن والاستقرار وقد أصيب قوم بالخوف والقلق والقتال وإن من نعم الله عليكم ما يسره لكم من أنواع الأرزاق تأتيكم رغدًا من كل مكان وقد كان قوم لا يستطيعون لقمة العيش إلا بتعب وعناء وربما ماتوا من الجوع والإقلال. وإن من نعم الله عليكم ما أخرجه لكم من ثمرات النخيل والأعشاب تتفكهون بها رطبًا جنيًّا وتدخرونها تمرًا وزبيبًا فاعتبروا بما فيها من

قدرة الله وحكمته ورحمته حيث أخرجها لكم من هذه الجذوع والغصون مأكولًا طريًّا شهيًّا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] فاشكروا الله تعالى على هذه النعم واستعينوا بها على طاعته وإياكم أن تكون نعم الله عليكم سببًا لأشركم وبطركم وفسوقكم عن أمر ربكم فإن ذلك أقوى معول لهدمها وأقوى سبب لزوالها. أيها الناس إن من شكر الله على نعمته بهذه الثمار أن تتمشوا في بيعها وشرائها على ما سَنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتغاءً لثواب الله واتباعًا لشريعته وطلبًا للخير والبركة في أموالكم ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تباع هذه الثمار وكيف تباع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تتبايعوا هذه الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبيعوا الثمر بالتمر» نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم البائع والمشتري عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها لأنها قبل صلاحها أكثر عرضةً للآفات وأزيد نموًّا فتحصل الجهالة فيما زاد ونهى عن بيع الثمر بالتمر لأن ذلك ربًا أو وسيلةً إليه. والصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر والصلاح في العنب أن تظهر فيه الحلاوة ويطيب أكله فمن باع شيئًا من ثمار النخيل والأعناب على شجره قبل بدو صلاحه فقد عصى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم والبيع باطل والثمرة للبائع لا يحل للمشتري أن يتصرف فيها بشيء والثمن للمشتري لا يحل للبائع أن يتصرف فيه بشيء. وبيع ثمار النخيل على شجره ينقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يبيعه تفريدًا كل نخلة وحدها فإن كان فيها لون ولو واحدة جاز بيعها وإلا وجب الانتظار حتى تلون. القسم الثاني أن يبيعه أنواعًا كل نوع وحده جميعًا مثل أن يبيع السكري كله جملة واحدة فإن كان فيه لون ولو في نخلة واحدة منه جاز بيعه جميعًا تبعًا للملون منه وإلا وجب الانتظار به حتى يظهر فيه اللون. القسم الثالث أن يبيع البستان كله جملةً واحدةً بجميع أنواعه فإن كان اللون قد ظهر في جميع الألوان ولو في نخلة واحدة من كل نوع جاز بيعه وإلا وجب الانتظار فيما لم يظهر اللون في نوعه حتى يلون. فإذا كان البستان ثلاثة أنواع برحيًّا وسكريًّا وأمهات حمام فباعه جميعًا جملةً واحدةً ولم نجد شيئًا ملونًا من البرحى فإن البيع يصح في السكري وأمهات الحمام دون البرحى ولا يجوز إبدال ثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى سواءً كانت من نوعها أم لا وسواءً كانت

أقل منها أم أكثر وسواءً كان مع أحدهما زيادة دراهم أم لا. لأنه لا يجوز بيع الثمر بالتمر خرصًا لكن لو جدّ شخص ثمرة نخلة لشخص آخر غلطًا فقال له خذ ثمرة نخلتي وأن أضمن ثمن ما حددته للبائع فرضي بذلك فلا بأس. وإذا حدث عيب في الثمر بعد بيعه فإن كان بسبب من المشتري فلا ضمان على البائع مثل أن يكون المشتري غير عارف بالخرف فيخرفها فتختلف من خرفه أو يؤخر جدها عن وقته فيصيبها مطر أو غيره فلا ضمان على البائع وإن كان العيب مجرد قضاء وقدر لا سبب من العبد فيه كالغُبير والحشف الحاصل من شدة الحر فضمان نقصها على البائع لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا بم تأخذ مال أخيك بغير حق» فيقوم النقص على البائع ويسقط من الثمن بقسطه فإذا كان النقص ربعًا أسقط عن المشتري ربع الثمن وإن كان أقل أو أكثر أسقط عنه بنسبته وعلى هذا فلو اشترى شخص ثمرة نخلة بمائتين ثم باعها على شخص آخر بثلثمائة ثم نقصت النصف فإن المشتري الثاني يأخذ مائة وخمسين من المشتري الأول نصف ما دفع إليه والمشتري الأول يأخذ مئة فقط من الذي باع عليه لأنها نصف ما دفع إليه ولا يحل له أن يجعل المئة والخمسين كلها على البائع لأن ذلك ظلم حيث رجع عليه بثلاثة أرباع الثمن وهذه مسألة جهلها كثير من الناس حيث ظنوا أن النقص كله يكون على البائع الأول ولم يتفطنوا أن النقص بالنسبة. وإذا حدث العيب في الثمرة وأحب المشتري أن يردها ويأخذ الثمن فله الحق في ذلك إلا أن يكون قد شرط عليه عند العقد أنه إن حدث بها عيب تثمن بدون رد وقَبِلَ فإنه يثمن له ولا يردها لأن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا. وإذا كان العيب موجودًا عند البيع ورضي به المشتري فلا شيء له على البائع ولو زاد العيب فيما بعد لأنه دخل على بصيرة. وإذا كانت الثمرة سليمةً عند البيع فشرط على المشتري أنه إن حدث بها عيب فالبائع برئ منه فالشرط باطل ولا يبرأ البائع به لأن هذا الشرط غرر وجهالة. أيها الناس لقد اعتاد كثير من أهل البساتين أن يبيعوا ثمرة بساتينهم مساهمةً على الشركاء ثم يخرج عليها الشركاء تفريدًا وفي رأينا أن عدم البيع عليهم أحلَّ لأن الغالب فيما بيع على الشركاء أن يحصل فيه المناجشة من أجل زيادة الثمن طلبًا للربح وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

النجش» ولا خير في كسب من ورائه وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن بعض العلماء حرم بيع الثمار على النخيل بربح لأنها ليست من ضمان المشتري وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن» فالأولى بيع ثمار النخيل على ذوي الحاجات تفريدًا لأنه أبعد عن الوقوع في هذه الأمور. إن هؤلاء المناجشين وإن زاد كسبهم بهذه الطريقة المحرمة فإنه ينقص إيمانهم لأنهم وقعوا في معصية الله ورسوله وتنقص كذلك بركة أموالهم لأن المال إذا خالطه المحرم محق بركته وربما يحصل فيهم أو في أهلهم آفات وأمراض تلتهم أموالهم بالعلاج أو يحصل نقص في سعر التمر فيلحقهم من الخسارة أكثر مما أدركوا من الربح وهم بمناجشتهم يضيقون على أهل العوائز حيث تزيد عليهم الأثمان بسبب مناجشة هؤلاء الجشعين. وفقني الله وإياكم للورع عما يضرنا والزهد فيما لا ينفعنا والرغبة فيما يقربنا إليه وجعلنا هداةً مهتدين مصلحين صالحين إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. . .

الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه

[الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه] الخطبة الثالثة في الربا والتحيل عليه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه احذروا ما حذركم الله منه إن كنتم مؤمنين واحذروا الربا فإنه من أسباب لعنة الله تعالى ومقته إن الربا من أكبر الكبائر التي حذر الله تعالى عنها في كتابه وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في سنته وأجمع المسلمون على تحريمها. اسمعوا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279] اسمعوا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130 - 132] واسمعوا قول الله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275 - 276] اسمعوا هذه الآيات العظيمة وما تتضمن من التحذير من الربا والوعيد عليه اسمعوا هذه الآيات وافهموها وعوها ونفذوها فإن لم تفهموها فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أو طالعوا ما قاله المفسرون فيها إن كنتم تقدرون لقد قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسير الآية الثالثة: ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين عوقبوا في البرزخ والقيامة بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي من الجنون والصرع. ولقد صدق رحمه الله تعالى فإن المرابين كالمجانين لا يعون موعظةً ولا يرعوون عن معصية نسأل الله لنا ولهم الهداية.

أيها الناس اسمعوا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء؛ رواه مسلم، اسمعوا ما صح عنه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «رأى في منامه نهرًا من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان فجعل الرجل الذي في نهر الدم كلما جاء ليخرج رماه الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فيرجع كما كان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل الذي رآه في نهر الدم فقيل هذا آكل الربا» رواه البخاري. اسمعوا ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى ليلة أسري به على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا» . واسمعوا ما جاء في الحديث: «الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه» رواه الحاكم وله شواهد. أيها المسلمون: لقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته الربا أين يكون وكيف يكون بيانًا شافيًا واضحًا إلا لمن به مرض أو عمى لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه مسلم. وفي لفظ له «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» . لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصناف الستة إذا بيع الشيء منها بجنسه مثل أن يباع الذهب بالذهب فلا بد فيه من شرطين اثنين أحدهما أن يتساويا في الوزن والثاني أن يتقابض الطرفان في مجلس العقد فلا يتفرقا وفي ذمة أحدهما شيء للآخر فلو باع شخص ذهبًا بذهب يزيد عليه وزنًا ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام والبيع باطل ولو باع ذهبًا بذهب مثله في الوزن ولكن تفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الأصناف الستة إذا بيع أحدها بجنس آخر فلا بأس أن يكون أحدهما أكثر من الآخر ولكن لا بد من التقابض من الطرفين في مجلس العقد بحيث لا يتفرقان وفي ذمة أحدهما للآخر شيء. فلو باع ذهبًا بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام والبيع باطل. أيها الناس لقد كان التعامل سابقًا بالذهب والفضة وأصبح التعامل الآن بالأوراق

النقدية بدلًا عنها والبدل له حكم المبدل فلا يجوز التفرق قبل القبض إذا أبدلت أوراقًا نقديةً بجنسها أو بغير جنسها فلو قلت لشخص خذ هذه الورقة ذات المئة اصرفها لي بورقتين ذواتى خمسين فإنه يجب أن تسلم وتستلم قبل التفرق فإن تأخر القبض من الطرفين أو أحدهما فقد وقعا في الربا. ولقد صار من المعلوم عند الناس أنك لو أخذت من شخص مائة ريال من النقد الورقي بمئة وعشرة مؤجلة إلى سنة أو أقل أو أكثر لكان ذلك ربًا وهذا حق فإن هذه المعاملة من الربا الجامع بين ربا الفضل وربا النسيئة بين الربا المقصود والذريعة ولكن من المؤسف أن كثيرًا من المسلمين صاروا يتحيلون على هذا الربا بأنواع من الحيل. والحيلة أن يتوصل الشخص إلى الشيء المحرم بشيء ظاهره الحل فيستحل محارم الله بأدنى الحيل. وإن الحيلة على محارم الله تعالى خداع ومكر إنها خداع ومكر يخادع بها العبد ربه يخادع بها من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أفيظن هذا المخادع الذي لاذ بخديعته أن أمره سيخفى على الله أفلا يقرأ قول الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرم الله ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا ينطلي إلا على مثله ممن جعل الله على بصره غشاوة. إن الحيل على الربا كثيرة ولكن أكثرها شيوعًا أن يجيء الرجل لشخص فيقول له إني أريد كذا وكذا من الدراهم فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر أو اثني عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه ثم يذهب الطرفان إلى صاحب دكان عنده بضاعة مرصوصة معدة لتحليل الربا قد يكون لها عدة سنوات إما خام أو سكر أو زر أو هيل أو غيرها مما يتفق عند صاحب الدكان أظن أن لو وجدا عنده أكياس سماد يقضيان بها غرضهما لفعلا فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراءً صوريًّا لا حقيقيًّا أقول شراءً صوريًّا لا حقيقيًّا لأنه لم يقصد السلعة من الأصل بل لو وجد أي سلعة يقضي بها غرضه لاشتراها ثم هو لا يقلب السلعة ولا يمحصها ولا يكاسر في الثمن وربما كانت السلعة معيبةً أفسدها طول الزمن أو أكلتها الأرضة وهو لا يعلم ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها الصوري أيضًا فيعدها وهو بعيد عنها وربما أدرج يده عليها تحقيقًا للقبض كما يقولون ثم يبيعها على المدين بالربح الذي اتفقا عليه ولا أدري هل يتصدى المدين لقبضها ذلك القبض الصوري قبل بيعها على

صاحب الدكان فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 109 من كتاب إبطال التحليل لقد بلغني أن من الباعة من أعد بزًّا لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألف بألف ومائتين ذهب إلى ذلك المحلل فاشترى منه المعطي ذلك البز ثم يعيده للآخذ ثم يعيده الآخذ إلى صاحبه وقال فيه أيضًا فيا سبحان الله العظيم أيعود الربا الذي قد عظم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحله ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره إلى أن يستحل بأدنى سعي من غير كلفة أصلًا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب وقد ذكر شيخ الإسلام هذه المسألة أيضًا في الفتاوى جمع ابن قاسم ص 441 ج 29 وقال هي من الربا الذي لا ريب فيه مع أنه ذكر في مسألة التورق قولين لأهل العلم هل تجوز أم لا تجوز. أيها الإخوة المسلمون إن هذه الحيلة الربوية التي شاعت بين الناس تتضمن محاذير، الأول: أنها خداع ومكر وتحيل على محارم الله والحيلة لا تحلل الحرام ولا تسقط الواجب ولقد قال بعض السلف في أهل الحيل يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون. المحذور الثاني: أنها توجب التمادي في الباطل فإن هذا المتحيل يرى أن عمله صحيح فيتمادى فيه أما من أتى الأمر الصريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع من ذنبه ويتوب إلى ربه. المحذور الثالث: أن السلعة تباع في محلها بدون قبض ولا نقل وهذا معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع» يعني في المكان الذي اشتريت فيه حتى يحوزها التجار إلى رحالهم رواه أبو داود والدارقطني ويشهد له حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال «كان الناس يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه» رواه البخاري. وقد يتعلل بعض الناس فيقول إن عد هذه الأكياس قبض لها فنقول إذا قدرنا أنه قبض فهل هو نقل وحيازة والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلع حتى تحاز إلى الرحال ثم هل جاء في السنة أن مجرد العد قبض إن القبض هو أن يكون الشيء في قبضتك وذلك بحيازته إلى محلك

بالإضافة إلى عده أو كيله أو وزنه إن كان يحتاج إلى ذلك. فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واحذروا التحيل على محارمه واعدلوا عن المعاملات الحرام إلى المعاملات الحلال إما بطريق الإحسان إلى المحتاجين بإقراضهم وإما بالسَّلَم الذي تسمونه الكتب تعطونه دراهم بسلعة في ذمته يسلمها لكم وقت حلولها وإما ببيع السلعة التي يحتاجها بعينها إذا كان يحتاج لسلعة معينة كفلاح يحتاج لمكينة وهي عندك فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرًا وكشخص محتاج لسيارة فتبيعها عليه بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضرًا. والمعاملات البديلة عن تلك المعاملة المحرمة كثيرة ومن أراد استيضاحها فليسأل عنها أهل العلم. وفقني الله وإياكم للهدى والتقى والعفاف والغنى وحمانا مما يغضبه إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الرابعة في التحذير من الربا في الذهب

[الخطبة الرابعة في التحذير من الربا في الذهب] الخطبة الرابعة في التحذير من الربا في الذهب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: فقد قال الله عز وجل {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا - يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27 - 28] هكذا يقرر الله تعالى هذه الكلية العامة الشاملة لكل إنسان، إن كل إنسان خُلِق ضعيفًا، خُلِق ضعيفًا في نشأته {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ - مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18 - 19] نطفة صبابة من الماء المهين. وخلق ضعيفًا في عِلْمه {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فعِلْمه قليل ومحفوف بآفتين جهل قبل العلم ونسيان بعده فهو لا يعلم الغيب ولا يعلم المستقبل حتى في تصرفاته الخاصة {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] خلق ضعيفًا في تصرفه وإدراكه قد يتصور البعيد قريبًا والقريب بعيدًا والنافع ضارًّا والضار نافعًا ولا يدرك النتائج التي تتمخص عن تصرفاته. ومن أجل هذا الضَّعْف وهذا القصور رحم الله الخَلْق بإرسال الرسل وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيسيروا على صراط الله المستقيم ويستنيروا بهدى الله العليم الحكيم ولئلا يبتدعوا تشريعات من عند أنفسهم يسلكون بها المتاهات في الظلم والجور والنزاع والخلاف أو يسنوا أنظمةً متناقضةً فوضويةً إن أصلحت جانبًا من الحياة أفسدت جوانب أو يتبعوا أهواءهم ويطلقوا حرياتهم في تصرفاتهم وفي معاملاتهم ولا يمكن لشخص أن يطلق حريته بدون قيود إلا كان ذلك على حساب حرية الآخرين. ولقد عمي قوم أو تعاموا عن الحق حيث ظنوا أو زعموا أن شرائع الله تعالى إنما جاءت لإصلاح العبادات والأخلاق دون المعاملات فاتبعوا أهواءهم في معاملاتهم فشرعوا القوانين وتصرفوا كما يشاؤون فشاركوا الله تعالى في شرعه وعتوا عن أمره في شريعته {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ - يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6] أفلا يرجع هؤلاء إلى رشدهم

ويتبعون سبيل ربهم ويلتزمون بشريعته ويقفون عند حدود ويقولون سمعنا وأطعنا ولا يكونون كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون أو قالوا سمعنا وعصينا. أيها الناس إن شريعة الله نظمت للناس طرق معاملاتهم فيما بينهم كما نظمت طرق أخلاقهم ومعاملاتهم مع ربهم فالواجب على كل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يدين لله بالطاعة في عباداته وأخلاقه ومعاملاته ولا يكون كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض يدين لله في عباداته وأخلاقه ويتبع هواه في معاملاته فإنه مسؤول عن ذلك كله وكم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وعد لمن استقام في معاملاته على أمر الله ووعيد على من تعدى فيها حدود الله. أيها الناس لقد حرم الله تعالى الربا في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك علماء المسلمين في كل عصر وفي كل مصر لم يختلف منهم في تحريمه اثنان قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ - فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279] وأي جرم في المعاملة أبلغ من معاملة يكون فيها الإنسان معلنًا بحرب الله ورسوله. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هو سواء» (رواه مسلم) . ولقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون فيه الربا وكيف يكون ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» . وله من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» . فبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا بشرطين. الأول أن يكونا سواء في الوزن لا يزيد أحدهما على الآخر والثاني أن يكون ذلك يدًا بيد بمعنى أن يسلم كل واحد من الطرفين لصاحبه ما بادله به قبل أن يتفرقا فإن زاد أحدهما على الآخر فهو ربا والعقد باطل وإن تفرقا قبل القبض من الطرفين فالعقد باطل وهو من الربا أيضا وهكذا إذا بيعت الفضة بالفضة أو البر بالبر أو الشعير بالشعير أو التمر بالتمر أو الملح

بالملح فلا بد من هذين الشرطين التساوي والقبض من الطرفين فلو باع صاعًا من بر بصاع منه وزيادة فهو ربا ولو كانت القيمة واحدة وعلى هذا فإذا كان عند امرأتين حلي وأحبت إحداهما أن تبادل الأخرى فلا يجوز إلا أن يوزن حلي كل واحدة منهما فيكونا سواء وأن تتقابضا قبل التفرق، وأجاز بعض العلماء التبادل مع زيادة أحدهما على الآخر إذا كان مع الناقص شيء يقابل الزيادة أما إذا بيع الذهب بالفضة فإنه لا يشترط التساوي وإنما يشترط التقابض قبل التفرق بحيث يقبض البائع الثمن كاملًا ويقبض المشتري ما اشتراه كاملًا فلو باع شخص سوارين من ذهب بمائتي ريال وكل واحد يساوي مئةً فأعطاه المشتري مئة ريال وأخذ السوارين وقال آتي لك بعد قليل ببقية الثمن فهذا حرام عليهما ولا يصح البيع إلا في سوار واحد فقط أما السوار الثاني فبيعه باطل لأن ما يقابله من الثمن لم يقبض. ولقد بلغني أن الصواغ وتجار الحلي يبيعون الحلي بالدراهم ولا يقبضون الثمن من المشتري وهذا حرام عليهم وحرام على المشتري وهو من الربا الملعون فاعله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وفي ظني أن بعضهم لا يدري عن حكم هذه المسألة وإلا فلا أظن أن مؤمنًا بالله واليوم الآخر يعلم أن هذا ربًا ثم يتعامل به لا سيما وإن في التقابض سلامةً من الربا ومصلحةً للطرفين فالبائع ينتفع بنقد الثمن ويسلم من مماطلة المشتري أو نسيانه أو إعساره والمشتري يفك ذمته بتسليم الثمن وخلو ذمته من الطلب. وقد يفتي بعض المتعاملين بهذا نفسه فيقول أنا لم أبع ذهبًا بفضة وإنما بعت ذهبًا بقرطاس فنقول هذه الفتوى غلط فإن هذه الأوراق جعلت نقدًا وعملةً بين الناس بمقتضى قرار الحكومة فلها حكم ما جعلت بدلًا عنه فإذا جعلت بدلًا عن الريالات الفضية كان لها حكم الفضة وكل أحد يعلم بأن هذه الأوراق النقدية ليس لها قيمة باعتبار كونها ورقًا فالأسواق مملوءة من قصاصات الورق التي بقدر ورقة النقد وليس لها قيمة أصلًا بل هي ملقاة في الزبل للإتلاف والإحراق. فاتقوا الله عباد الله وسيروا في عباداتكم ومعاملاتكم وجميع تصرفاتكم على شريعة الله ولا تتبعوا أهواءكم فإن الله يقول {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]

اللهم اهدنا صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم جنبنا صراط أصحاب الجحيم صراط المغضوب عليهم والضالين اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل إنك تهتدي من تشاء إلى صراط مستقيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الخامسة في حكم بيع البيوت المرهونة

[الخطبة الخامسة في حكم بيع البيوت المرهونة] الخطبة الخامسة في حكم بيع البيوت المرهونة الحمد لله الغني الحميد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالرحمة والقول السديد والعمل الرشيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس فإن مما أسسته الحكومة وفقها الله تعالى صندوق بنك التنمية العقاري تريد من جملة ما تريد من ذلك توفير المساكن الحديثة لشعبها ولكن مع الأسف الشديد أن بعض الناس استغل ذلك استغلالًا سيئًا يتضمن الكذب والخداع وأكل المال بالباطل ومخالفة مقتضى التعاقد مع هذا الصندوق بطرق ملتوية لا يجدر بالمؤمن بالله واليوم الآخر أن تصدر منه وسبق أن بيَّنَّا صورةً من هذه الاستغلالات السيئة مثل الذين يقدمون طلبات بأسماء مزورة يجعل الطلب باسم زوجته وهو له أو باسم ولده وليس لولده لكن يفعل ذلك تزويرًا وقد ارتدع عن ذلك من شاء الله هدايته وفتح بصيرته وأزال عنه غشاوة الطمع ثم وفق الله الحكومة إلى إلغاء هذه الصورة فيما نسمع. ثم أحدث الناس قضية أخرى وهي بيع البيوت التي استقرضوا لها من البنك ورهنوها إياه سمعت بهذا من عدة أشهر وكنت أقدم رِجْلًا وأؤخر أخرى في الكلام فيه نظرًا لقلة وجوده من جهة وتمعنًا في تصوره وتطبيقه على القواعد الشرعية من جهة أخرى حتى علمت الآن أنه شائع كثير في بلدنا وغيرها يبيع المستقرض هذا البيت الذي رهن أرضه وما عليها للبنك والتزم بالقرض في ذمته وحيث علم هؤلاء أن بيع المرهون لا يصح إلا بإذن من المرتهن صاحب الحق وأن البنك لا يسمح ببيعه وكُتَّاب العدل لا يفرغون للمشتري صاروا يكذبون على كُتَّاب العدل ويخادعونهم فيذهب البائع والمشتري إلى كاتب العدل ويدعي البائع أنه أجره البيت أو وكله عليه بقدر المدة التي يستوفي بها البنك قرضه ووكله أيضًا بدفع قسط القرض إلى البنك كل سنة. والله تعالى يعلم أنه لا تأجير ولا وكالة وإنما هو بيع مغلف بكذب وخداع. ألم يعلم هؤلاء أن الله سيسألهم عما نطقوا به {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] هكذا يقول الله عز وجل ويقول بعدها {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] أفلا يذكر هؤلاء سكرة الموت لعلها توقظهم من سكرة الطمع والجشع المفضية

إلى التلاعب بالعقود وخداع المسؤولين ألم يعلم هؤلاء أنهم سيسألون يوم القيامة أين عقد التأجير وأين عقد الوكالة الذين خدعتم به عباد الله حتى كتبوه في الصكوك الشرعية وأنتم كاذبون عليهم ألم يعلم هؤلاء أنهم سيسألون عن ذلك فلا يستطيعون الجواب {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66] لماذا لم يكن عند هؤلاء شجاعة وجرأة وصراحة فيقولوا بعنا ويقول المشترون اشترينا إنهم لا يستطيعون ذلك لأنهم يعلمون أنه مخالف لمقتضى العقد الصادر بينهم وبين صندوق بنك التنمية وإنهم سيمنعون وأن الأمناء ذوي العلم من كتاب العدل لن يفرغوا لهم فلجئوا إلى تلك الطرق الملتوية ومن يخادع فإنما يخدع نفسه. أيها الناس إن هذا التصرف أعني بيع البيوت المرهونة لصندوق بنك التنمية يتضمن مفاسد منها: 1 - عدم الوفاء بالعقد الجاري بين الصندوق والمستقرض فإن عقد الرهن - كما هو معلوم عند أهل العلم - يستلزم منع بيع المرهون إلا برضا المرتهن صاحب الحق حتى ولو باعه بشرط البقاء على الرهن. وعدم الوفاء بالعقد معصية لله تعالى لا ينبغي أن يقع من مؤمن قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] 2 - الكذب بإظهار عقود غير صدق فهو يكتب للمشتري أنه أَجَّره أو وَكَّله وليس ثَمَّ تأجير ولا توكيل. 3 - خداع المسؤولين من كُتَّاب العدل وغيرهم والسخرية الفعلية بهم. 4 - ما قد يترتب على ذلك من الخصومات والنزاع في المستقبل فقد يعتري البيت تلف أو يحصل كساد في العقار فلا يتمكن المشتري من تسديد القرض للصندوق. والصندوق سيرجع على البائع الذي كان القرض باسمه كما هو مقتضى البند السادس في وثيقة عقد القرض فإذا كان الصندوق سيرجع على البائع بالنقص وقد باعه فإن كان قد التزم به للمشتري صار الثمن مجهولًا لأنه لا يُدْرى ماذا يكون النقص الذي سيغرمه البائع وإن لم يلتزم به المشتري أفضى إلى المنازعات والخصومات بين البائع والمشتري أو بين ورثتيهما إن ماتا أو بين أحدهما وورثة الآخر أو بين البائع والصندوق. وكل عقد فيه جهالة أو يفضي إلى النزاع

والخصومات فإن الشرع ينهى عنه. أيها الإخوة قد تقولون إني ضيقت عليكم والله سبحانه يعلم أني ما أردت التضييق عليكم وإنما أردت أن تتمشى معاملاتكم على النهج المستقيم والتقيد بالشرع القويم وأن تبنى على الصراحة والصدق والبيان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المتبايعين «إن صدقا وبَيَّنَا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» وليس في هذا تضييق وأمامنا هنا طريقان للمعاملة الحلال ولله الحمد. 1 - فإما أن يعجل صاحب البيت تسديد الأقساط ليفك رهنه ويبيعه بعد ذلك. 2 - وإما أن يستأذن في بيعه من له حق الإذن في الصندوق فإذا أذن له في بيعه جاز بيعه وحينئذ تكون المعاملة واضحةً صريحةً لا التواء فيها ولا خداع. وإني لأرجو الله تعالى أن يوفق المسؤولين في الصندوق أن يفسحوا للناس في البيع إذا كان في ذلك مصلحة للناس بلا مضرة إنه هو الجواد الكريم. فاتقوا الله تعالى عباد الله واستقيموا في عباداتكم وآدابكم ومعاملاتكم على شريعة الله واحذروا المعاصي فإنها بها زيغ القلوب وحلول النكبات وفوات المطلوب. اللهم وفقنا لما تحب وترضى وهيئ لنا من أمرنا رشدًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة السادسة في التحذير من التعدي على الغير في ماله

[الخطبة السادسة في التحذير من التعدي على الغير في ماله] الخطبة السادسة في التحذير من التعدي على الغير في ماله الحمد لله الذي يقضي بالحق ويحكم بالعدل وهو أحكم الحاكمين حكم بالعدل وأمر به وحرم على نفسه الظلم وحرمه على عباده وهو أرحم الراحمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وجامع الخلق ليوم لا ريب فيه ليفصل بينهم بحكمه وهو خير الفاضلين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا طيب الذات والأسماء والصفات والأفعال لا يقبل إلا الطيب من الأقوال والأعمال والأموال ألا وإن الطيب من الأموال ما اكتسبه الإنسان من طريق حلال ثم أنفقه فيما يرضي الكبير المتعال أما المال الذي اكتسبه من حرام فليس بطيب فلا يقبله الله منه. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من يحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه لا والذي نفسي بيده لا يُسْلِم أو لا يَسْلَم عبد حتى يُسْلِم أو يَسْلَم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا وما بوائقه قال غشمه وظلمه ولا يكسب عبد مالًا حرامًا فيتصدق به فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث. » أيها المسلمون إن في هذا الحديث لعبرةً وموعظةً لمن كان له قلب أنه يدل على أن كثرة الدنيا وتنعيم العبد بها لا يدل على محبة الله العبد لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولكن الدين في العبد هو الدليل على محبة الله فإن الله لا يعطي الدين إلا من يحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه وإن هذا الحديث ليدل على أن كسب الحرام خسارة لا ربح فيه للعبد فإن تصدق به لم يقبل منه وإن أنفقه لم يبارك له فيه وإن خلفه بعده كان زاده إلى النار كيف يليق بحال المؤمن أن يسمع مثل هذا ثم يكتسب المال من طريق حرام وهو يعلم أنه محرم وكيف يليق به أن يذهب دينه من أجل دنياه كيف يليق به أن يجعل

الوسيلة غاية والغاية وسيلة ألم يعلم أن المال وسيلة لقيام الدين والدنيا وأن اكتسابه بطريق محرم هدم للدين والدنيا. إن اكتساب المال بالغش كسب حرام واكتسابه بالكذب كسب حرام واكتسابه بالربا وقلب الدين كسب حرام واكتسابه بالدعاوي الباطلة كسب حرام يقول النبي صلى الله عليه وسلم «من غش فليس منا» ويقول صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» «ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء» «وقال لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان» «وتخاصم رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم في أرض فقال للمدعي ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فقال يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليس لك منه إلا يمينه فلما أراد أن يحلف قال النبي صلى الله عليه وسلم لئن حلف على مال ليأكله ظلمًا ليلقين الله وهو عنه معرض فأدرك الرجل مخافة الله فرد أرضه» . أيها الناس لقد قَلَّ الورع في هذا الزمان وأصبح المال غايةً بعد أن كان وسيلةً أصبح الرجل لا يهمه إلا كسب المال ولا يهمه من أين اكتسبه من حرام أو حلال وهذا كما أنه نقص في الدين فهو نقص في العقل والتدبير كيف تتجاوز الحلال إلى الحرام وأنت ترى المال يذهب وأنت عنه تنقل كيف ترضى أن تكدس المال لغيرك عليك إثمه والتعب في تحصيله ولغيرك غنمه وثمرات عاقبته هل رأيت أحدًا قبلك خَلَد للمال أو خُلِّد المال له فاتق الله أيها المؤمن وأجمل في الطلب فإن رزق الله لا يدرك بمعصيته وإنما يدرك بطاعته {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] أيها الناس لقد كثرت في المحاكم الخصوم وصار الناس يتباهون أيهم يغلب في الخصومة وهو يرى أن الحق لغيره ولكنه يدعي ما ليس له أو ينكر ما يجب عليه ظلمًا وعدوانًا ثم يعلل نفسه بأن القاضي حكم له يظن أن حكم القاضي يقلب الحلال حرامًا والحرام حلالًا ولكن الأمر ليس كذلك فالقاضي يحكم بالظاهر وليس له إلا ما يسمع من الخصمين وأما الباطن فإلى الله تعالى هو الذي يحكم به يوم تبلى السرائر ولا يوجد للظالم من قوة ولا ناصر قال

النبي صلى الله عليه وسلم «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي به بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» . أيها المسلمون إن بعض الناس لما غلت الأراضي والبيوت صاروا يدعون ما ليس لهم وينكرون ما كان عليهم ومن هؤلاء من يكون شريكًا في أرض فيتولى بعض الشركاء بيعها أو تصبيرها وهو عالم بذلك وراض به في أول الأمر ومقتنع حتى إذا تغيرت الأمور أتى بالحجج التي قد تنفعه في الدنيا ولكن لا تنفعه في الآخرة وسوف يأتي يوم القيامة حاملًا لكل شبر ظلمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» يا ويح الظالم يوم القيامة ويا ويله يأتي في ذلك اليوم العسير الشديد حاملًا مَظلمَته مُطوَّقًا بها من سبع أرضين وقد فارقها في الدنيا لم يخلد لها ولم تخلد له. فاتقوا الله أيها المسلمون وخافوا عقابه ولا تغرنكم الحياة الدنيا فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة السابعة في تحريم مال الغير بغير رضاه

[الخطبة السابعة في تحريم مال الغير بغير رضاه] الخطبة السابعة في تحريم مال الغير بغير رضاه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ما أنزل من الوحي وكان مما أنزل قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فالقرآن العظيم بيان لكل ما يحتاج الناس إليه في أمور دينهم ودنياهم فكما جاء بتنظيم معاملة الإنسان مع ربه وهي العبادة جاء كذلك بتنظيم معاملة الإنسان مع بني جنسه وغيرهم من المخلوقات فجاء بتنظيم البيع والشراء والإجارة والمساقاة والمزارعة والرهن والوقف والهبة والميراث والنكاح والقصاص وغيرها من ارتباط الناس بعضهم ببعض ولقد كانت القاعدة العامة لتلك المعاملات هي اتباع العدل فيها والابتعاد عن الظلم بحيث يعامل الشخص غيره على وفق الشريعة بما يحب أن يعامله به فلا يبغي ولا يعتدي وبهذا يتحقق الإيمان ويفوز العبد بدخول الجنة والنجاة من النيران قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وقال صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» . أيها المسلمون إن من أهم العدل في المعاملات أن يكون التعامل بالرضى طوعًا بدون إكراه لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فالبيع لا يكون إلا عن تراض فمن أكره على بيع ملكه بغير حق فالبيع باطل ولا يحل للمشتري أن ينتفع بالمبيع بل الواجب عليه رده إلى صاحبه حتى تطيب نفسه ببيعه ومن أكره على إجارة ملكه بغير الحق فالإجارة باطلة ولا يحل للمستأجر أن ينتفع بالمستأجر بل الواجب عليه أن يتخلى عنه ويرده لصاحبه إلا أن يرضى ببقائه بالأجرة وإن من الناس اليوم من أصروا على البقاء فيما استأجروه من بيوت ودكاكين مع أن أصحابها

لا يرضون بذلك لأنهم كانوا استأجروها برخص وارتفعت الأجرة ارتفاعًا فاحشًا ومن المعلوم أن أحدًا لا يرضى أن يغبن هذا الغبن الفاحش حتى المستأجرون أنفسهم لو كانت الأملاك لهم ما رضوا أن يبقى أحد فيها بأجرة لا ترضيهم فكيف يرضون لأنفسهم أن يفعلوه مع غيرهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ولقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم اجتماع شهده مع أمته أعلن عام حجه حيث قال «إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت قالوا نعم» . فيا عباد الله لا يحل مال امرئ مسلم سواءً كان ذلك من أعيان الأموال أو من منافعها إلا برضًى منه فكونوا عبادًا للَّه تعالى لا عبيدًا لأهوائكم ومطامعكم أفترضون أيها الإخوة إذا بعثتم يوم القيامة أن تؤخذ حسناتكم لأصحاب هذه البيوت والمحلات التي أصررتم على البقاء فيها بدون رضاهم ثم إن كان في حسناتكم ما يكافئ مظالم هؤلاء وإلا أخذ من سيئاتهم وطرح عليكم ثم طرحتم في النار. أفترضون أيها الإخوة أن تبقوا في بيوت بدون رضا أهلها وقد قال كثير من أهل العلم إن صلاتكم فيها في هذه الحال باطلة. أفترضون أيها الإخوة أن ينقطع جوابكم عند السؤال يوم القيامة إذا سئلتم لماذا بقيتم في أملاك غيركم بدون رضا أصحابها. نعم إنه سينقطع جوابكم حينئذ لأنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبيح لكم البقاء في أملاك غيركم بدون رضاهم وإن لبعض الناس شبهةً في بقائهم في أملاك غيرهم بدون رضاهم حيث يحتجون بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ويقولون إن الحكومة وفقها الله قررت زيادةً معلومةً منعت أصحاب العقارات من تجاوزها ولكن هذه كلمة حق أريد بها باطل فالحكومة لم تأمرهم أن يبقوا في أملاك غيرهم ولو أن المستأجر خرج من البيت أو الدكان المستأجر ما منعته وإنما أَمْر الحكومة موجه إلى أصحاب العقارات فعلى أصحاب العقارات أن يصبروا على أَمْر الحكومة ولا يعارضوه امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر ولكن لا يجوز للمستأجر المستنفع أن يبقى على إجارة يرى أن فيها هضمًا لأخيه حيث زادت الإجارات زيادةً فاحشةً بل وزادت جميع قيم الأشياء حتى في الأطعمة غير المدعمة بمعونة الحكومة وفي الألبسة الكمالية والضرورية كلها قد زادت زيادةً فاحشةً عما كانت عليه قبل سنوات إن صح التعبير بأن ذلك زيادة

والتعبير الأصح أن ذلك لكثرة النقود ورواجها. وإن من أهم العدل أن يكون التعامل بالبيان والصدق فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البيعين «إن صدقا وبَيَّنَا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما مُحِقَت بركة بيعهما» وقال «من غشنا أو من غش فليس مني» والغش كتمان العيب أو إظهار السلعة بمظهر طيب وهي رديئة ولقد ابتلي كثير من الناس بالغش مع أنه من كبائر الذنوب التي لا تكفرها الصلوات الخمس ولا الجمعة ولا رمضان فإن هذه العبادات الجليلة لا تكفر ما بينها من الكبائر والغش من كبائر الذنوب أفترضى أيها المؤمن ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم منك من أجل عَرَض تصيبه من الدنيا أفترضى أن ينعم المؤمنون المجتنبون لكبائر الإثم بتكفير سيئاتهم بصلاتهم وصيامهم وأنت لا يكفر غشك بل يبقى سيئةً في صحائف أعمالك أفترضى أن تستلب زيادةً من مال أخيك بغير حق أفترضى أن تعامل أخاك بما لا تحب أن يعاملك به. اتق الله في نفسك وإذا طوعت لك نفسك أن تغش إخوانك فتذكر قول نبيك «من غش فليس مني» تذكر أنه بريء منك بهذا الغش ومَرِّن نفسك على الصدق في المعاملة وبيان السلعة على ما هي عليه من طيب ورداءة، فإن الله يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثامنة في إنفاق المال في طرق الخير بوقف أو غيره

[الخطبة الثامنة في إنفاق المال في طرق الخير بوقف أو غيره] الخطبة الثامنة في إنفاق المال في طرق الخير بوقف أو غيره إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الدين والدنيا فلقد أرسل الله إليكم رسولًا يتلو عليكم آيات ربكم ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة فبقي دينه متلوًّا في كتاب الله غير مبدل ولا مغير ومأثورًا فيما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفاض عليكم المال لتستعينوا به على طاعته وتتمتعوا به في حدود ما أباحه لكم فهو قيام دينكم ودنياكم فاعرفوا حقه وابذلوه في مستحقه {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] أيها المسلمون إن مالكم في الحقيقة ما قدمتموه لأنفسكم ذخرًا لكم عند ربكم ليس مالكم ما جمعتموه فاقتسمه الوارث بعدكم فإنكم سوف تخلفونه وتدعونه كما قال الله تعالى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] فسوف تنتقلون عن الدنيا أغنياء عما خلفتم فقراء إلى ما قدمتم وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه قال فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر» . وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أنهم ذبحوا شاةً فتصدقوا بها سوى كتفها فقال النبي صلى الله عليه وسلم بقي كلها غير كتفها» . أيها المسلمون إن من إنفاق المال في طرق الخير أن يتصدق به المرء صدقةً منجزةً على الفقراء والأقارب فيملكونها ويتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه وذلك من أفضل الأعمال وأربح التجارة لما نزل قوله تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] «جاء أبو طلحة - وكان له حديقة قِبلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تسمى بيرحاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب - فقال يا رسول الله إن الله أنزل هذه الآية وإن أحب مالي إليَّ بيرحاء

وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» . ومن إنفاق المال في طرق الخير أن يصرفه في بناء المساجد والمشاركة فيها فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتًا في الجنة» فالمساجد يصلي فيها المسلمون ويأوي إليها المحتاجون ويذكر فيها اسم الله بتلاوة كتابه وسنة رسوله والفقه في دينه وفي كل ذلك أجر لبانيها والمشارك فيها. ومن إنفاق المال في طرق الخير أن ينفقه في المصالح العامة كإصلاح الطرق وتأمين المياه «فإن الصحابة حين قدموا المدينة كان فيها بئر تسمى بئر رومة لا يحصلون الماء منها إلا بثمن فاشتراها عثمان رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم من حفر رومة له الجنة فحفرها رضي الله عنه. » ومن إنفاق المال في طرق الخير تحبيسه وإنفاق غلته فيما يقرب إلى الله عز وجل وهو الوقف والسبيل ففي الصحيحين «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبر لم يصب مالًا أنفس عنده منه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره فيها ويستأمره فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» وللبخاري «تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره» وللنسائي «احبس أصلها وسبل ثمرتها» فتصدق به عمر في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل وذي القربى. فإذا سبل الإنسان ملكه صار وقفًا محبوسًا لا يباع ولا يوهب ولا يورث وإنما يصرف فيما جعله الواقف فيه ما لم يكن إثمًا. والمقصود بالوقف أمران عظيمان أولهما التقرب إلى الله عز وجل وابتغاء الأجر والثواب منه ببذل غلة الوقف فيما يرضيه تعالى. وثانيهما نفع الموقوف عليهم والإحسان إليهم وإذا كان المقصود به التقرب فإنه لا يجوز الوقف إذا كان فيه معصية لله ورسوله إذ لا يتقرب إلى الله إلا بطاعته. فلا يجوز الوقف على بعض الأولاد دون بعض لأن الله أمر بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] وقال النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . والوقف على بعض الأولاد دون بعض مناف للعدل إلا أن يكون التخصيص بصفة استحقاق فتوجد في أحدهم دون الآخر مثل أن يوقف على الفقير من أولاده أو على

طالب العلم منهم فلا بأس. فإذا أوقفه على الفقير منهم فلاحظ فيه للغني حال غناه وإذا أوقفه على طالب العلم فلاحظ فيه لغير طالب العلم حال تخليه عن الطلب. ولا يجوز أن يوقف شيئًا من ماله وعليه دين لا وفاء له من غير ما وقفه حتى يوفي دينه لأن ذلك إضرار بغريمه ووفاء الدين أهم لأنه واجب والوقف تطوع. ولا يجوز أن يوصي بوقف شيء بعد موته على بعض ورثته دون بعض لأن الله قسم المال بين الورثة وقال {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] وفي الآية {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] وبين أن ذلك من حدوده وتوعد من تعداها وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» . فإذا قال أوصيت بداري وقفًا على ذريتي وله ورثة غير الذرية كان ذلك خروجًا عن فريضة الله وإخلالًا بوصية الله وتعديًا لحدوده ومعصيةً لرسوله. أيها المسلمون إذا كان المقصود بالوقف هو التقرب إلى الله عز وجل ونفع الموقوف عليهم فالذي ينبغي أن ينظر الإنسان فيما هو أقرب إلى الله وأنفع لعباده ولينظر في النتائج المترتبة على وقفه وليتجنب ما يكون سببًا للعداوة والقطيعة وليعلم أن إنفاق المال في حال الحياة والصحة خير وأفضل وأعظم أجرًا لا سيما إذا كان في صالح مستمر كبناء المساجد وإصلاح الطرق وتأمين المياه وطبع الكتب النافعة أو شرائها وتوزيعها على من ينتفع بها وإعانة في زاوج فقير يحصنه ويحصن زوجته وربما يولد بينهما صالح ينفع المسلمين فهو مصلحة وأجر لمن أعانه على زواجه ولو قدر أنه ولد بينهما فاسد لم يضر المعين شيئًا لأنه لم يعنه من أجل طلب مثل هذا الولد. وفي صحيح مسلم «أن رجلًا قال يا رسول الله أي الصدقة أفضل وفي لفظ أعظم أجرًا قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة في حالة الصحة أفضل لأنها صدقة من شخص يخاف الفقر ويأمل طول البقاء فهو شحيح بالمال لذلك بخلاف من جعل تنفيذ المال بعد يأسه من الحياة وانتقال المال للوارث. وقد تصدق الله على عباده بثلث أموالهم يوصون بها بعد موتهم لأقاربهم غير الوارثين أو للفقراء أو لبناء المساجد أو غيرها من طرق الخير والبر.

وإذا أوصى بشيء من ماله فله الرجوع في وصيته له إبطالها وله أن يغير تنافيذها وينقصها ويزيدها في حدود ثلث المال. فالوصية أوسع من الوقف من هذه الناحية لأن الإنسان يستطيع إبطالها وتغييرها ومن ناحية جوازها ولو كان على الإنسان دين لأنها لا تضر أهل الطلب لأن الموصي إذا مات وعليه دين قدم قضاء الدين على الوصية. أما الوقف فينفذ في الحال وليس للواقف إبطاله ولا تغييره ولا الزيادة في تنافيذه أو النقص ولا يجوز لمن عليه دين لا وفاء إلا برضا الغرماء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الفرع الثامن في النكاح

[الفرع الثامن في النكاح] [الخطبة الأولى في الحث على النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه] الفرع الثامن في النكاح الخطبة الأولى في الحث على النكاح وتذليل العقبات التي تحول دونه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. إن الزواج نعمة عظيمة مَنَّ الله بها على عباده ذكورهم وإناثهم أحله لهم بل أمرهم به ورغبهم فيه فقال سبحانه وتعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» «وقال النبي في الرد على قوم قال أحدهم أنا أصلي الليل أبدًا وقال الثاني أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الثالث أنا أعتزل النساء فلا أتزوج فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» . وكما أن النكاح سنة خاتم النبيين فهو كذلك سنة المرسلين من قبل قال الله عز وجل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ففي النكاح امتثال أمر الله ورسوله وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة. وفي النكاح اتباع سنن المرسلين ومن اتبع سنن المرسلين في الدنيا حشر معهم في الآخرة. وفي النكاح قضاء الوطر وفرح النفس وسرور القلب. وفي النكاح تحصين الفرج وحماية العرض وغض البصر والبعد عن الفتنة وفي النكاح تكثير الأمة الإسلامية وبالكثرة تقوى الأمة وتهاب بين الأمم وتكتفي بذاتها عن غيرها إذا استعملت طاقاتها فيما وجهها إليها الشرع. وفي النكاح تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته يوم القيامة فقد قال صلى الله عليه وسلم «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم يوم القيامة» . وفي النكاح تكوين الأسر وتقريب الناس بعضهم لبعض فإن

الصهر شقيق النسب قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] وفي النكاح حصول الأجر والثواب بالقيام بحقوق الزوجة والأولاد والإنفاق عليهم. والنكاح سبب للغنى وكثر الرزق ليس كما يتوهمه الماديون وضعاف التوكل يقول الله عز وجل {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاثة حق على الله عونهم وذكر منهم الناكح يريد العفاف» وقال أبو بكر رضي الله عنه أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى وقال ابن عباس رضي الله عنهما رغبهم الله تعالى في التزويج ووعدهم عليه الغنى فقال {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] فالنكاح صلاح للفرد وصلاح للمجتمع في الدين والأخلاق والحاضر والمستقبل وهو كذلك درء للمفاسد الناتجة عن تركه وعدم المبالاة فيما يحول دونه من عقبات. لقد كان ينبغي لنا أن نهتم بدراسة العقبات التي تحول دونه لنتلافى النتائج السيئة التي تترتب على فقده وإن أهم هذه العقبات ثلاث: إحداها: عزوف كثير من الشباب ذكور وإناث عن الزواج أي أن كثيرًا من الشباب الذكور والإناث لا يرغبون في الزواج بحجة أن الزواج يحول بينهم وبين دراستهم وهذه حجة داحضة فإن النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل بل ربما يكون عونًا على ذلك فإن الصالح إذا وفق زوجةً صالحةً وسادت بينهما رُوح المودة صار كل واحد منهما عونًا للآخر على دراسته وعلى مشاكل حياته وأكثر الناس تتكلل زواجاتهم بالتوفيق ولله الحمد وكم من شباب ذكور وإناث مَنَّ الله عليهم بالزواج فرأوا من الراحة وتفرغ الفكر والنفس للدراسة ما كان عونًا لهم عليها فعلى الشباب الذين اغتروا بهذه الحجة أن يعيدوا النظر مرةً بعد أخرى حتى يصححوا من خطئهم وليسألوا زملاءً لهم تزوجوا فرأوا الخير والطمأنينة من وراء الزواج وبهذا تتذلل هذه العقبة. وماذا ينفع المرأة إذا أكملت دراسةً ليست بحاجة إليها وفاتتها سعادة النكاح وعقمت من الأولاد وأصبحت رملى من الأرامل لم تسعد في حياتها ولا أولاد لها يذكرونها بعد موتها. العقبة الثانية التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة احتكار بعض الأولياء الظلمة

لبناتهم ومن لهم ولاية تزويجهن أولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أمانتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم أولئك الأولياء الذين اتخذوا من ولايتهم على تلك المرأة الضعيفة موردًا للكسب المحرم وأكل المال بالباطل تجد الخاطب الكفء في دينه وخلقه يخطب منهم فيفكرون ويقدرون ثم يقولون الكلمة الأخيرة البنت فائتة لغيرك، البنت صغيرة، شاورتها فأبت. أقوالًا كاذبةً يفترونها ليردوا ذلك الخاطب الكفء إما لعقد نفسية تثقل عليهم الإجابة وإما لطلب مال يحصلونه من وراء ولايتهم وإما لعداوة شخصية بينهم وبين الخاطب والولاية دين وأمانة يجب النظر فيها إلى مصلحة المولى عليه لا إلى أغراض الولي. إن دفع الخاطب الكفء في دينه وخلقه بمثل هذه الأقوال الكاذبة إنما هو معصية لله ورسوله وخيانة للأمانة وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته وسوف يحاسبون على ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أفلا يكون عند هؤلاء دين ورحمة؟ أفلا يفكرون لو أن أحدًا منعهم من الزواج مع رغبتهم فيه فماذا يكون رد الفعل منهم أفلا يعتبرون بذلك فيمن تحت أيديهم من النساء الراغبات في الزواج وهم يمنعوهن الأكفاء خُلُقًا ودِينًا. سبحان الله ماذا جنى هؤلاء الأولياء على أنفسهم وماذا جَنَوْا على من تحت ولايتهم ولقد أوجد أهل العلم تذليلًا لهذه العقبة حيث قالوا إن الولي إذا امتنع من تزويج موليته كفئًا ترضاه فإن ولايته تزول إلى من بعده فمثلًا لو امتنع أبو المرأة من تزويجها كفئًا في دينه وخلقه وقد رضيته ورغبت فيه فإنه يزوجها أولى الناس بها بعده فيزوجها أولى الناس بها ممن يصلح للولاية من إخوتها أو أعمامها أو بنيهم. نعم لو كان الخاطب غير كفء في دينه أو عفته فرضيته المرأة وأبى وليها فله الحق في ذلك ولا إثم عليه ولو بقيت لم تتزوج إلى الموت لأن إباءه لمصلحتها ومن مقتضى أمانته. العقبة الثالثة التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها حتى صار الزواج من الأمور المستحيلة أو الشاقة جدًّا لدى كثير من الراغبين في الزواج إلا بديون تشغل ذمته فتجعله أسيرًا لدائنه. وإن تذليل هذه العقبة أن يفكر ذو الرأي من الأولياء ما هو المقصود بالنكاح وما هي مكانة المرأة التي جعلك الله وليًّا عليها هل المقصود بالنكاح المال وهل المرأة سلعة تباع أو تمنع بحسب ما يبذل فيها من المال؟ كل هذا لم يكن فليس المقصود بالنكاح المال وإنما المال وسيلة إليه. وليست المرأة سلعة بل هي أكرم

من السلعة هي أمانة عظيمة وجزء من أهله وإذا فكرنا هذا التفكير وبلغنا هذه النتيجة عرفنا أن المال لا قيمة له وأن المغالاة في المهور ونفقات الزواج لا مبرر لها فلنرجع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ولا أُصْدِقَتِ امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية وإن الرجل ليغل في صداق امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول كلفت إليك علق القربة أي تكلفت دفع كل شيء عندي إليك حتى علق القربة وهو الحبل الذي تعلق به. فإذا رجعنا إلى ما كان عليه السلف الصالح من تقليل المهور تيسرت أمور الزواج وعظمت بركاته وانتفع بذلك الرجال والنساء. إن هذه المغالاة في المهور توجب تعطل كثير من الرجال والنساء عن النكاح أو محاولة الزواج من الخارج الذي قد يسبب له مصاعب ومتاعب كثيرة وربما يحصل به تغيير المجتمع في عاداته وأحواله وربما في عبادته لأن للخلطة تأثيرًا كثيرًا في تغيير هذه الأمور. أيها المسلمون إن كثيرًا من الأولياء الآباء وغيرهم يشترطون على الزوج الخاطب مالًا يدفعه إليهم وسيكون هذا المال بالتأكيد على حساب مهر المرأة وهذا أكل للمال بالباطل فالمهر كله للزوجة قال الله تعالى {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فأضاف الصداق إليهن. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح أي بعد عقده فهو لمن أعطيه» . فاتقوا الله عباد الله ودعوا مهور النساء لهن ولا تشترطوا لأنفسكم شيئًا منه فإن ذلك اقتطاع بغير حق وسبب للتلاعب بولاية النكاح حيث يلاحظ الولي هذا الشرط فيزوج من يعطيه أكثر ويمنع من لا يعطيه ضاربًا بمصلحة موليته عرض الحائط وهذا إهدار للأمانة وخيانة للولاية فأدوا الأمانة واحفظوا الولاية {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . إلخ.

الخطبة الثانية في انحلال بعض العقبات التي تحول دون النكاح

[الخطبة الثانية في انحلال بعض العقبات التي تحول دون النكاح] الخطبة الثانية في انحلال بعض العقبات التي تحول دون النكاح إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون فالزواج آية من آيات الله تعالى تجد الرجل يتزوج من قوم لا صلة بينه وبينهم ثم يصبحون بهذا الزواج يتواصلون ويتزاورون كأنهم أقرباء ولهذا قرن الله تعالى الصهر بالنسب وهو القرابة فقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] والزواج نعمة من الله تعالى أحله الله تعالى لعباده بل أمرهم به وحثهم عليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أمر الله بالنكاح المتزوجين والمزوجين فقال تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] وقال تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يا «معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» وقال صلى الله عليه وسلم «إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» وكما أن النكاح سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته فهو سنة المرسلين من قبله قال الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ففي النكاح امتثال أمر الله ورسوله وفي النكاح اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الرسل وفي النكاح قضاء الوطر وسرور القلب وفرح النفس وفي النكاح تحصين الفرج وحماية العرض وفي النكاح غض البصر والبعد عن الفتنة وفي النكاح بقاء النوع الإنساني وعمارة الأرض وفي نكاح المسلمين تكثير الأمة الإسلامية وقوتها واكتفاؤها بنفسها وفي النكاح تحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث يباهي الأنبياء بأمته يوم القيامة وفي النكاح تكوين الأسر وتقريب بعض الناس من بعض وقوة الروابط والصلات بينهم وفي النكاح قيام بحقوق الزوجية

يؤجر به كل من الزوجين إذا قام به لله عز وجل وفي النكاح حصول الأولاد والأجر بتربيتهم والقيام عليهم فالنكاح صلاح للأمة كلها للفرد والجماعة للرجال والنساء في الدين والدنيا والحاضر والمستقبل. ولقد سر الناس كلهم كثرة الزواج في هذه الأيام لما يحصل به من المصالح التي سمعتم بعضها الآن نسأل الله تعالى أن يبارك للجميع وعليهم وأن يجعل عاقبتهم حميدةً وحياتهم سعيدةً حياة عفاف وإيمان وعمل صالح ورزق طيب واسع وذرية طيبة. لكن بقي عقبتان نرجو الله تعالى أن ييسر تذليلهما على أيدي المخلصين المؤمنين. العقبة الأولى المغالاة في المهور والزيادة فيها إلى حد كبير أصبح عسيرًا على كثير من الناس وهذا من أكبر العوائق عن النكاح وهو خلاف السنة فإن السنة تخفيف المهر وتسهيله وهو من أسباب بركة النكاح والوئام بين الزوجين فإن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونةً «وقد تزوج رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأةً بنعلين فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه» «وقال لرجل التمس ولو خاتمًا من حديد فلم يجد شيئًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم زوجتكما أو قال ملكتكها بما معك من القرآن» «وقال له رجل يا رسول الله إني تزوجت امرأةً على أربع أواق يعني مئةً وستين درهمًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عُرْض هذا الجبل» ، وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لا تغلوا صدق النساء يعني مهورهن فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا أيها الغني القادر لا تغال في المهر ولا تفاخر في الزيادة فيه فإن في مجتمعك من إخوانك من لا يستطيع مباراتك وإذا دخلت على أهلك فأعطهم من المال ما شئت ثم أنتم أيها الأولياء لا تجعلوا المال غرضكم وعوضكم من بناتكم ومن ولاكم عليه من النساء فتشترطوا لأنفسكم شيئًا من المهر تثقلون به كاهل الزوج وتحرمون المرأة منه اجعلوا غرضكم أن تعيش المرأة عند رجل صالح ذي دين وخلق تحيا معه حياةً سعيدةً في ظل الدين والأخلاق ولقد أعجبني رجلان فاضلان من هنا أما أحدهما فخطبت منه ابنته فاشترط على الخاطب أن لا يدفع مهرًا سوى كذا، مهر قليل جدًّا سماه للخاطب وأما الثاني فدفع الخاطب إليه المهر وكان مهرًا متوسطًا فأخذ منه أبو الزوجة أقل ما يمكن أن تجهز به المرأة ورد

الباقي على الخاطب وهكذا تكون الرجولة وتقدير المسؤولية والنظر للعواقب والمستقبل ومن المعلوم أن هذين الرجلين الفاضلين لن يقصرا في تجهيز ابنتيهما بما يليق بأمثالهما وهكذا ينبغي أن يكون كل ولي ينظر لمصلحة الزوجة لا للمال فالمال عرض يزول ويعود فكم من غني افتقر ومن فقير اغتنى. أما العقبة الثانية فهي ما حدث في هذه الأيام من الإسراف البالغ في الولائم يدعو الزوج وأهل المرأة جمعًا كبيرًا يحضر منهم من يحضر ويتخلف من يتخلف وأكثر من يحضر لا يحضر إلا مجاملةً أو قيامًا بما أوجب الله عليه من الحضور إذا كانت الوليمة وليمة الزوج ذلك أن الزوج إذا دعاك إلى وليمته في العرس كان واجبًا عليك أن تحضر إلا لعذر شرعي ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله. وإن هذا الإسراف البالغ في الولائم لممَّا نهى الله عنه وفاعله معرض نفسه لعدم محبة الله له قال الله تعالى {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] فهل ترضى أيها المؤمن أن تفعل شيئًا لا يحبك الله من أجله هل ترضى أن تقع فيما نهاك الله عنه هل ترضى أن تخرج بعملك هذا عن طريق عباد الرحمن الذين {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] هل ترضى أن تجعل نفسك عرضة للناس باللوم والذم فإن الناس نراهم يلومون ويذمون من يسرف في هذه الولائم بل يعدون ذلك من السفه حيث أضاع ماله وأتعب أهله وأتعب بدنه وفكره في أمر يكون به مسرفًا ونرى الناس يمدحون ويثنون على من اقتصد في ذلك. وإن الإسراف في هذه الولائم يوجب أن تمتهن نعمة الله بهذا الطعام من عيش ولحم وغيرهما حيث لا تؤكل فترمى في الأسواق أو تضاع في البراري وكل هذا مخالف للشرع والعقل والرشد فإن العقل والرشد حسن التصرف في كل ما تفعل فاتقوا الله عباد الله واشكروا نعمة الله عليكم إن كنتم إياه تعبدون واذكروا زمانًا كان الواحد يتمنى فيه لقمةً أو تمرةً يسد بها جوعته وما من شيء ينتهي إلا انتهى. وفقني الله وإياكم لصلاح ديننا ودنيانا ورزقنا القصد في الفقر والغنى وحمانا من البخل والإسراف إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثالثة فيما أحيطت به نعمة النكاح من مفاسد أحدثها الناس

[الخطبة الثالثة فيما أحيطت به نعمة النكاح من مفاسد أحدثها الناس] الخطبة الثالثة فيما أحيطت به نعمة النكاح من مفاسد أحدثها الناس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك به وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] عباد الله لقد سر الناس كثرة الزواج في هذا العام والذي قبله سرهم ذلك لأنه تنفيذ لأمر الله تعالى واتباع لرسله الكرام عليهم الصلاة والسلام وتمتع بما أباح الله تعالى لعباده من نيل الشهوة وإمضاء لما تقتضيه الغريزة والفطرة وتحصيل للمصالح العظيمة التي تترتب عليه في الفرد والمجتمع وحجاب دون المفاسد التي تحصل بفقده فالنكاح نعمة يسر بها كل مؤمن ولكن هذه النعمة الكبيرة أحيطت بأمور ربما تحولها إلى نقمة وكارثة، أحيطت بالمغالاة الزائدة في المهور، وأحيطت بالإسراف البالغ في الولائم، وأحيطت بالأعمال المنحرفة في الزفاف، أحيطت بالمغالاة الزائدة في المهور حتى بلغ حدًّا لا يطيقه إلا القليل من الناس وكثير منهم لا يحصل عليه إلا بديون تثقل كاهله وتشغل ذمته وتأسر عزته لدائنه وإن المغالاة في المهور من أكبر العوائق عن النكاح والحوائل دونه وهي خلاف السنة فإن السنة تخفيف المهر وتقليله وتخفيفه من أسباب بركة النكاح والوئام بين الزوجين فأعظم النكاح بركةً أيسره مؤونةً وقد «تزوج رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأةً على نعلين فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه» «وقال لرجل يريد أن يتزوج امرأةً التمس ولو خاتمًا من حديد فلم يجد شيئًا فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بما معه من القرآن» ، فيا من مَنَّ الله عليه بالمال انظر إلى من دونك إذا كان يسيرًا عليك أن تبذل الكثير ففي الميدان من لا يتيسر عليه ذلك إن النكاح ليس عقدًا خاصًّا لك حتى تبيح لنفسك الحرية فيما

تبذل فيه إن النكاح حاجة الناس كلهم فإذا أردت أن تتصرف فيه بشيء فانظر ماذا يترتب على هذا التصرف بالنسبة لغيرك لتكون مؤمنًا حقًّا تهتم بأمور إخوانك المؤمنين وتحب لهم ما تحب لنفسك. إن المغالاة في المهور لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان أولى الناس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقيةً ونصف وهي تساوي مئةً وأربعين ريالًا فقط، يا من مَنَّ الله عليه بالغنى قلل ما تبذله من المهر وإذا دخلت على زوجتك وأعجبتك فابذل لها ما شئت ربما تبذل كثيرًا فإذا دخلت عليها ولم تعجبك ندمت على ما بذلت فاتق الله تعالى في نفسك وفي مالك وفي إخوانك. ويا أيها الأولياء لا تجعلوا همكم المال فتنظروا من يبذل أكثر أو من يشترط لكم من المال أكثر إن الأمانة أن تنظروا إلى مصلحة المرأة أن تزوجوها من تعيش معه عيشةً سعيدةً في ظل الإيمان والعمل الصالح والأخلاق الحميدة فذلك رأس المال أما عرض الدنيا فمهما كثر فهو قليل وزائل. عباد الله ولقد أحيطت نعمة الزواج بالإسراف البالغ في الولائم من أهل الزوجة والزوج مشتركين أو منفردين يدعون جمعًا كبيرًا يحضر منهم من يحضر ويتخلف من يتخلف وأكثر من يحضر لا يحضر إلا على إغماض إما مجاملةً أو قيامًا بما أوجب الله تعالى من إجابة وليمة الزوج إن هذا الإسراف وقوع فيما نهى الله تعالى عنه وتعرض لكراهة الله تعالى للعبد فإن الله تعالى يقول {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] وإن هذا الإسراف عدول عن الطريق الوسط الذي هو طريق عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وإن هذا الإسراف خروج عن آداب القرآن حيث يقول الله تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] فهل ترضى أيها المؤمن أن تقع فيما نهاك الله عنه من الإسراف هل ترضى أن تُعَرِّض نفسك لكراهة الله لك هل ترضى أن تعدل بنفسك عن طريق عباد الرحمن هل ترضى أن تخرج عن آداب القرآن التي هي أعلى الآداب وأكملها إن هذا الإسراف كما أنه محذور شرعًا فهو ممقوت عادةً فإن الناس يلومون من يسرف هذا الإسراف وينظرون إليه نظرة الساخر الناقص لمن يحاول

أن يكمل نقصه بمثل هذه الولائم المسرفة إن هذا الإسراف كما أنه محذور شرعًا وممقوت عادةً فهو سفه عقلًا لما فيه من إتلاف المال وإضاعة الوقت وشغل البال واتعاب الأبدان وامتهان النعمة إننا نرى الكثير من هذه الأطعمة واللحوم تبقى لا يأكلها أحد وقد سمعنا من بعض الناس أنها تلقى على الزبالات وجوانب الطرق والمتورع من الناس من يحملها إلى البر ويرمي بها هناك فهل هذا من الرشد هل هذا من شكر النعمة أفلا يذكر هؤلاء أن الناس كانوا منذ عهد قريب يتمنى الواحد لقمةً أو تمرةً يسد بها جوعته. عباد الله: ولقد أحيطت نعمة الزواج بأعمال منحرفة في الزفاف فلقد سمعنا أن بعض الناس أضاعوا ليلة العرس الحياء من الله والحياء من عباد الله أضاعوا دينهم بإضاعة الحياء فإن الحياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم شعبة من الإيمان، سمعنا أنه يحصل في بعض الزواجات دخول بعض السفهاء مع النساء لالتقاط صورة اللقاء بين الزوجين وسمعنا أن بعض النساء أيضًا يحملن آلات التصوير لتصوير الحفل واللقاء بين الزوج وزوجته فيا سبحان الله ما أدري كيف بلغ الأمر بهؤلاء إلى هذا التدهور وكيف انحدروا إلى الهاوية بهذه السرعة كيف خرجوا عن الحدود الشرعية والمروءات المرعية إلى عادات أخذوها من الكفار أو من مقلدي الكفار كيف يدع هؤلاء ما يأمرهم به دينهم وما عليه مجتمعهم من الحياء والحشمة والبُعْد عن أسباب الفتنة إلى ما كانت عليه المجتمعات الفاسدة التي عثا بها الشر والفساد فيقلدونهم ذلك التقليد الأعمى فمثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون. عباد الله تصوروا عظم الفتنة وفداحتها في هذا التصوير في غمرة الفرح بالعرس وتحت سيطرة نشوة النكاح وفي وسط التبرج ونكهة الطيب وتصوروا عظم الفتنة وفداحتها حينما تلتقط هذه الصور في تلك الحال لتكون بأيدي الناس يعرضونها على من شاؤوا ويتمتعون بالنظر إلى الجميل منها متى شاؤوا ويشمتون بالقبيح منها متى شاؤوا هل يرضى أحد منكم أن تكون صورة ابنته أو أخته أو زوجته بأيدي الناس ينظرون إليها كيف شاؤوا هل يرضى عاقل أن تكون صورته في أول لقاء بينه وبين زوجته معروضةً يتداولها الناس بينهم إن هذا مما تنكره الفطر وتسفهه العقول فارجعوا عباد الله إلى فطركم وعقولكم وتَفَكَّروا هل لهذا العمل المنكر ما يبرره

إن هذا العمل لا يزيد الزوجين ألفةً في القلوب ولا صحةً في الأجسام ولا سعةً في الرزق ولا حمدًا بين الناس بل هو شر وفتنة لا خير فيه. ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التصوير وقال: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» وقال «كل مصور في النار يَجْعل له بكل صورة صورها نفسًا فتعذبه في جهنم» ولعن المصورين والتصوير الفوتغرافي بالكمرة داخل في هذا الوعيد عند بعض أهل العلم فليحذرِ المصور أن يُعَرِّض نفسه لعذاب الله ولعنته. فاتقوا الله عباد الله ولا تحيطوا نعمة الله بالزواج بأسباب نِقَمه وعذابه وتعاونوا على البر والتقوى وخذوا على أيدي السفهاء واطروهم على الحق أطرًا {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] وفقنا الله تعالى لما فيه الخير والسداد وجنبنا أسباب الشر والفساد إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة الرابعة فيما يجب على الولي من اختيار الكفء وتزويج موليته به

[الخطبة الرابعة فيما يجب على الولي من اختيار الكفء وتزويج موليته به] الخطبة الرابعة فيما يجب على الولي من اختيار الكفء وتزويج موليته به إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا الأمانة التي حملكم الله تعالى إياها فيمن ولاكم الله عليه من النساء لأن من حملكم إياها سوف يسألكم عنها وهو أعلم بما تبدون وما تكتمون فأدوا الأمانة فيهن لا تتحكموا في مصيرهن ومستقبلهن لا تجعلوهن بينكم بمنزلة السلع إن أعطيتم بها ثمنًا يرضيكم بعتموها وإلا أمسكتموها إن أمانة النساء فيكم وإن مستقبلهن في دِينِهن ودنياهن أعظم وأجل من أن تنظروا فيهن إلى المال وإلى لعاعة من العيش تتمتعون بها على حساب أمانتكم. إن الواجب عليكم أن تنظروا إلى ما فيه خير المرأة وسعادتها في دينها ودنياها في نفسها وفي أولادها. إن الواجب عليكم أن تختاروا لها في النكاح كل ذي خُلُق فاضل ودين مستقيم وأن لا تمنعوا خاطبها إذا كان كفئًا في دينه ورضيته من النكاح بها فإن ذلك تضييع للأمانة ووقوع في المعصية فقد جاء في الحديث: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» . إن في الحديث توجيهًا وإرشادًا إلى أن ينظر إلى الخاطب من ناحيتين فقط لا ثالث لهما هما الدين والخلق لأنهما الأساس الذي به صلاح الدين وسعادة الحياة فصاحب الدين صالح بنفسه مصلح لمن يتصل به. اتصال المرأة به خير وفلاح إن أمسكها أمسكها بمعروف وإن فارقها فارقها بمعروف لأن عنده من الدين والتقوى ما يمنعه من ظلم المرأة والمطل بحقها وصاحب الخُلُق مستقيم في أخلاقه مُقوِّم لغيره يتلقى أهله بالبشر وطلاقة الوجه ويُعَوِّدُهم بأقواله وحاله على مكارم الأخلاق ومعالي الآداب. أيها المسلمون إن أهم ما تجب العناية به والنظر إليه في الدين سلامة العقيدة وإقامة الصلاة فأما سلامة العقيدة فأن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله لم يذكر عنه ما يدل على شكه

وأن يكون معظمًا لله ورسوله ودينه لم يذكر عنه ما يدل على استهزائه بذلك فإن من شك في وجود الله أو في كونه هو الخالق وحده أو هو المعبود وحده فهو كافر ومن شك في كون محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافةً إلى يوم القيامة فهو كافر ومن استهزأ بالله أو رسوله أو دينه فهو كافر يقول الله تعالى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] وأما إقامة الصلاة فأدناه أن يأتي الرجل بالصلوات الخمس في أوقاتها بأدنى ما يجب فيها معتقدًا فريضتها فمن أنكر فرضية الصلوات الخمس أو بعضها فهو كافر لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع المسلمين إلا أن يكون ممن أسلم قريبًا ولا يدري عن فرائض الدين فَيُعَلَّم ومن ترك الصلاة فهو كافر وإن كان يعتقد أنها فريضة لقوله تعالى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقول النبي صلى الله عليه وسلم «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» وقال عبد الله بن شفيق كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وهذا الكفر الذي جاء فيمن ترك الصلاة في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم هو الكفر الأكبر المخرج عن الإسلام الموجب للقتل في الدنيا والخلود في الآخرة في النار لأن النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عن قتال أئمة الجور والظلم هل يقاتلون فقال لا تقاتلوهم ما صَلُّوا» . فمَنَعَ من قتالهم إذا صَلُّوا وهذا يدل على جواز قتالهم إذا تركوا الصلاة ولا يجوز قتال الأئمة إلا إذا كفروا لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان» . قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة فلا يجوز تزويج من لا يؤمن بالله ورسوله بمسلمة ولا يجوز تزويج من يستهزئ بالله أو رسوله أو دينه بمسلمة ولا يجوز تزويج من لا يصلي بمسلمة لأن هؤلاء كفار. وقد قال الله تعالى في المهاجرات {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فمن زوج مسلمةً بكافر فالنكاح باطل لا تحل به الزوجة بل هي منه أجنبية فوطؤها إياها بمنزلة الزنا. فاتقوا الله أيها المسلمون واختاروا لبناتكم وابحثوا عن دين الخاطب قبل قبوله ولا تجعلوا عمدتكم المال فإن المال يجيء ويذهب فكم من فقير صار غنيًّا وكم من غني صار فقيرًا.

أيها المسلمون إن بعض الأولياء يتحكمون في بناتهم ومن تحت ولايتهم فيمنعونهن من الخُطَّاب الأكفاء مع رضا المرأة بالخاطب وهذا حرام عليهم لاعتدائهم على حقها إلا أن ترضى بشخص لا يرضى دينه مثل أن تطلب نكاح من يشرب الخمر أو يمارس من المعاصي ما يخل بالدين والشرف فله منعها من نكاحه ولو بقيت بلا زوج طول حياتها ولا إثم عليه في ذلك. واعلموا أنه كما لا يجوز لكم منع النساء من النكاح فلا يجوز أن تُكْرِهوا النساء على نكاح من لا يردن نكاحه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهاكم عن ذلك ولا فرق بين الأب وغيره وبين البكر وغيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين البكر وغيرها إلا في صفة الإذن فقال «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت» ففرق صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب بأن البكر يكتفى بسكوتها لأنها تخجل في الغالب أن تنطق وأما الثيب فلا تخجل فلا بد من استئمارها وأخذ أمرها بذلك نطقًا ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين الأب وغيره بل نص على الأب فيما رواه الإمام أحمد ومسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم «والبكر يستأمر أبوها.» فاتقوا الله أيها المسلمون ولا تزوجوا النساء من غير أكفائهن ولا تمنعوهن منهم ولا تجبروهن على نكاح من لا يردنه ولا يكن همكم المال والدنيا فإن من السخف أن ينزل الرجل بنفسه فيزوج من أجل المال ويمنع من أجله إن من السخافة أن يقبل الشخص وترضى به المرأة فإذا جاء الجهاز قاصرًا عما يريدونه ردوا الجهاز ورجعوا عن قبول الرجل كأنما المقصود من النكاح المال وكأنما المرأة سلعة تباع وتشترى. إن شأن النكاح أسمى وأعظم من أن يكون القصد فيه المال ولذلك جعل الله سبحانه المصاهرة قسيمةً للنسب والقرابة فقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] وفقني الله وإياكم للقيام بحقه وحقوق عباده وجعلنا ممن يقومون بالأمانة على الوجه الأكمل وهدانا صراطه المستقيم إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين. . . إلخ.

الخطبة الخامسة في الحث على تخفيف المهور

[الخطبة الخامسة في الحث على تخفيف المهور] الخطبة الخامسة في الحث على تخفيف المهور الحمد لله الذي خلق الناس من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها والحمد لله الذي يسر لعباده كل طريق يتمتعون به فيما أباح لهم من طيبات المناكح والأقوات واللباس والمساكن لتتم بذلك النعمة ويحصل الابتلاء، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فكفره عليها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أدخرها ليوم تجزى فيه النفوس بما لها وعليها وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى ويسروا ييسر لكم واطرقوا سبل الإصلاح لتصلوا إلى الغاية. أيها الناس إن لدينا مشكلةً عويصةً معقدةً مشكلةً تهم الناس جميعًا لا يختلف منهم اثنان في طلب حلها وزوال مشكلها ألا وهي مشكلة الزواج فلقد أصبحت ذات تعقيد من أهمها مشكلة المهر أعني الجهاز فلقد أصبح في شكل خطير وارتفع في الزيادة إلى حد يصعب على أكثر الناس وكل ذلك بسبب المغالاة فيه والمفاخرة والمباهاة التي لا داعي لها ولا موجب فليست المرأة سلعةً تعرض للبيع ويقصد فيها ثمنها وإنما هي امرأة حرة كريمة أهم شيء لها أن تتفق مع زوج يكون قرة عينها وسعادة حياتها عونًا لها على طاعة الله ومثالًا تقتدي به في الأخلاق الفاضلة ومصلحًا ومربيًا لها ولمن يُقَدِّر الله بينهما من ذرية هذا هو غرض المرأة وعين مصلحتها أما المال فإنه عرض يزول ولا ينظر إليه إلا أصحاب الجشع من الأولياء أو ضعيفات العقول من بعض النساء وأشباههن من الرجال. أيها الناس لقد بلغت المهور حدًّا لا يطاق عند أكثر الناس حتى كان الرجل الذي يريد الزواج يكدح المدة الطويلة ويتعب التعب الكثير ويذهب أول حياته وعنفوان شبابه طارقًا كل باب لتحصيل المال فلا يكاد يدرك مهرًا يحصل به المرأة. وذلك بسبب التزايد والمغالاة في المهور وهذا خلاف المشروع فإن المشروع في المهور تخفيفها وكلما كانت أقل فهي أفضل وأنفع وأعظم بركةً ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أعظم النكاح بركةً أيسره مؤونةً» «وتزوجت امرأة على نعلين فأجاز نكاحها» وقال لرجل «التمس ولو خاتمًا من حديد فالتمس فلم يجد فزوجه على أن يعلمها شيئًا من القرآن» وقال له رجل «يا رسول الله إني تزوجت امرأةً على أربع أواق

من الفضة يعني مئةً وستين درهمًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عَرْض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك» وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تغلوا صدق النساء فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أيها الناس: إن في ازدياد المهور تركًا للأفضل والأنفع ومن مفاسدها إغلاق باب النكاح أمام قاصديه من الرجال والنساء فكم في البيوت من فتيات يردن النكاح وكم في الأسواق من فتيان يريدونه ولكن حال دونهم تلك المهور الباهظة ومن مفاسد زيادة المهور تصعيب الحياة الزوجية وتنكيدها فإن الزوج إذا لم يتلاءم مع زوجته لا تسمح نفسه بفراقها إلا بتعب وتنكيد وربما يأبى أن يفارقها حتى تبذل له ما أعطاها وهذا وإن كان لا يجوز أعني لا يجوز أن يحدها على المفارقة بعوض إذا كانت مستقيمةً وقائمةً بالواجب نحوه ومن مفاسد ازدياد المهور أنها قد تضطر الإنسان إلى شغل ذمته بالديون. ومن مفاسدها أنها قد تضطر الإنسان إلى أن يتزوج بنساء لا يتلاءمن مع عادات البلاد وتقاليدها فيحصل من المشقة عليها وعليه ما هو معلوم. إن القلوب إذا استولى اليأس عليها قنطت ولم تصل إلى مطلوبها وإن الناس إذا تخاذلوا واستبعدوا الأمور وقالوا هذا بعيد هذا لا يمكن فلن يصلوا إلى غاية ألستم كلكم تعرفون مضرة المغالاة في المهور وفائدة تسهيلها وتيسيرها فمن الأجدر بكم أن تتساعدوا في كل طريق تؤدي إلى رفع المغالاة وحلول التيسير من الأجدر بكم أن تشجعوا وتحثوا بقولكم وفعلكم على ذلك لو كان الناس يقابلون كل فكرة إصلاحية بالفتور واليأس والاستبعاد لما وصلوا إلى صلاح ولا إصلاح ولكن القلوب الحية والأُمَّة الواعية هي التي تقابل الفكرة الإصلاحية بالقوة والعزيمة الصادقة والتصميم على الوصول إلى الغاية المطلوبة ما دامت تؤمن بصحة القصد وسلامة السبيل وأنا أقول أن العادات الراسخة لا يمكن تغييرها دفعةً واحدةً ولكنه يمكن القضاء عليها بالتدريج ما دمنا مصممين على تغييرها بحول الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية.

الخطبة السادسة في التحذير من أخذ الصور في الأعراس

[الخطبة السادسة في التحذير من أخذ الصور في الأعراس] الخطبة السادسة في التحذير من أخذ الصور في الأعراس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين الذي أكمله لكم وأتم عليكم به النعمة وبعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم ليتمم به مكارم الأخلاق فكان هذا الدين دين عبادة ودين أخلاق ومعاملة ألا وأن من أفضل الأخلاق التي بعث بها نبيه خُلُق الحياء فإن الحياء من الإيمان والحياء خلق النبي صلى الله عليه وسلم فكان حييًّا سخيًّا كريم الخُلُق. إن الحياء من الله والحياء من الناس من صميم دِينكم فاستحيوا أيها المؤمنون من الله واستحيوا أيها المؤمنون من الناس لا تضيعوا دِينكم أيها المؤمنون بالتهور والتدهور والانحطاط. لقد سمعنا أيها الناس أنه حصل زواج دخل فيه مع النساء بعض شباب دخلوا لأخذ صور للحفل وأن هؤلاء المصورين كانوا بين النساء يلتقطون صورهن فيا سبحان الله كيف بلغ بنا الحد إلى هذا التدهور وفي هذه السرعة الخاطفة تصوروا عظم الفتنة في تجول هؤلاء الشباب وأخذهم صور النساء وهم في غمرة الفرح بالعرس تحت سيطرة نشوة النكاح وفي ظل التبرج والتطيب ماذا يحصل للجميع من الفتنة إنها لفتنة كبيرة ومحنة عظيمة. أما يستحي هؤلاء من الله أولًا ومن الناس ثانيًا ما الذي سوغ لهم وما الذي أباح لهم أن يتجولوا بين النساء لأخذ صورهن هل يرضى أحد من الناس أن تؤخذ صورة ابنته أو أخته أو زوجته لتكون بين هؤلاء يعرضونها متى شاؤوا على من يريدون أو يستمتعون بالنظر إليها متى يشاؤون هل يرضى أحد أن تكون نساؤه محلًا للسخرية عند عرض صورتها إن كانت قبيحةً أو محلًا للفتنة عند عرضها إن كانت جميلةً. عباد الله ما بالنا ننحدر إلى الهاوية في تقاليد الكفار وأشباه الكفار الذين لا دين لهم ولا أخلاق كيف ندع تقاليدنا المبنية على التستر والحياء بوحي من شريعة الله ورسوله إلى تقاليد جلبناها من غيرنا وغيرنا تلقاها من اليهود والنصارى المستعمرين لأراضيهم مدةً طويلةً من

الزمن كيف نرضى وقد سلم الله بلادنا من استعمار الأوطان أن تستسلم لاستعمار الأفكار والعقول والأديان كيف نرضى وقد مَنَّ الله علينا بالتقدم بهذا الدين أن نرجع إلى الوراء بتبرج الجاهلية الأولى وأعمال الكافرين كيف يليق بنا وقد أعطانا الله شهامة الرجولة وولاية العقل أن ننتكس فننقاد لسيطرة النساء والسفهاء. أيها الناس إنكم إن سرتم وراء هذه التيارات بدون نظر ولا روية ولا تفكير في العواقب فسوف تندمون وستكون العاقبة وخيمةً وسيحل بالبلاد من العقوبة ما يعم الصالح والفاسد {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] أيها الناس احذروا هذه التقاليد المنحرفة وهذه التيارات الجارفة الضالة وقابلوها بقوة الإيمان وسيطرة العقل لتندحر وتقبر في مهدها وإلا فهي كشرارة النار في المواد المشتعلة إن لقيت منكم قبولًا لها واتجاهًا إليها فأنتم ولله الحمد في بلاد محافظة على دِينها وعلى أخلاقها وعلى تقاليدها الطيبة فاحذروا أن تخرق سياجكم تلك العادات التي جاء بها من زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنًا ومن سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. إن أخذ صورة للزوج وزوجته عند أول لقاء لا يزيد الزوجين إيمانًا بالله ولا مودةً في القلب ولا صحةً في الجسم وإذا فُرِضَ أن المسألة من باب التقاليد المحضة أفليس من الأجدر بنا أن نعتز بتقاليدنا ونحمي كياننا ونربأ بأنفسنا عن أن نكون تبعًا لغيرنا هذا فضلًا عن كون هذه التقاليد هدمًا للأخلاق ونقصًا في الإيمان. إن أخذ الصور مع كونه سببًا للفتنة وتداول صور النساء فهو كذلك عرضة للعنة الله سبحانه والتعذيب بالنار لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من التصوير فقال صلى الله عليه وسلم «أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون» وقال «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم» ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين. وهذه الأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليحذرِ المصور أن يكون داخلًا فيها فإنه معرض نفسه لذلك والصورة الفوتغرافية وإن كان من العلماء من أباحها فإن منهم من رأى أنها داخلة في الوعيد وقد قال صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال «من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . وحتى إذا كانت

الصور الفوتغرافية مباحة فإنها لا تحل إلا إذا لم يكن فيها محذور شرعي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الفرع التاسع في الجنايات والحدود والحسبة

[الفرع التاسع في الجنايات والحدود والحسبة] [الخطبة الأولى في عقوبة القاتل عمدا] الفرع التاسع في الجنايات والحدود والحسبة الخطبة الأولى في عقوبة القاتل عمدا الحمد لله القوي العظيم الرءوف الرحيم يقضي بالحق ويحكم بالعدل وهو الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على السراط المستقيم وسلم تسليما. وأما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من حماية الدين والنفس والمال والعرض فلقد حمى الله لكم الدين بما أقام عليه من الآيات البينات حتى تتمسكوا به عن علم وبصيرة، وحماه لكم بما رتبه من الجزاء الوافر على فعل الحسنات لترغبوا فيها وتقيموها وحماه لكم بما حذركم به من عقوبة على المخالفات لترهبوا منها وتستقيموا على الأمر المطلوب منكم وحمى الله لكم الدين بما أقامه من الجهاد بالنفس والمال ولقد حمى الله لكم النفس فأكد تحريمها وحرمتها في كتابه وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرن القتل بالشرك فقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151] إلى قوله، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» وذكر تمام الحديث، وقال النبي: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» (رواه البخاري) . وقال النبي: «لزوال الدنيا - يعني كلها - أهون عند الله من قتل رجل مسلم» . ومن أجل حرمة النفس وتحريمها رتب الله على قتلها عقوبات في الآخرة وعقوبات في الدنيا. أما عقوبات الآخرة فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] أربع عقوبات عظيمة كل واحدة منها توجل القلب وتفزع النفس - جهنم خالدا فيها فيا ويله ما أصبره على نار جهنم وقد فضلت على نار الدنيا كلها بتسعة وستين جزءا - وغضب الله عليه وبئسما حصل لنفسه من غضب الرب العظيم عليه - ولعنه فطرده وأبعده عن رحمته وأعد له عذابا

عظيما. ويل لقاتل المؤمن المتعمد ويل له من هذه العقوبات النار وغضب الجبار واللعنة والعذاب العظيم، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء» . وقال ابن عباس رضي الله عنه سمعت نبيكم يقول: «يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يأتي به إلى العرش فيقول المقتول يا رب هذا قتلني فيقول الله للقاتل تعست أي هلكت ويذهب به إلى النار» وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» . هذه أيها المؤمنون عقوبة قاتل النفس بغير حق في الآخرة. أما عقوبته في الدنيا فالقصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] النفس بالنفس جزاء وفاقا كما أعدم أخاه المؤمن وأفقده حياته فجزاؤه أن يفعل به كما فعل ولقد جعل الله لولي المقتول سلطانا قدريا أي قدره في شرع الله وفي قضائه وقدره على قتل القاتل كما قال تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] فهذه الآية كما تدل على أن الله جعل لولي المقتول سلطانا شرعيا في قتل القاتل فقد يفهم منها أن الله جعل له أيضا سلطانا قدريا بحيث يكون قادرا على إدراك القاتل وقتله فيهيئ الله من الأسباب ما يتمكن به من إدراكه والله على كل شيء قدير وبكل شيء محيط. أيها المسلمون وإن من حماية الله لأموالكم أن جعل عقوبة السارق قطع يده إذا تمت الشروط كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] حتى لو استعار منك شخص شيئا يساوي ما يقطع به السارق ثم جحده وقال ما استعرت منك شيئا فتثبت عليه العارية فإنها تقطع يده بسبب جحوده العارية. كما ثبت ذلك في الصحيحين «أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع يدها فأهم قريشا شأنها فكلمه أسامة بن زيد فيها فقال أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فخطب الناس فقال إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله (يعني أقسم بالله) لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .

أما حماية الله للأعراض فقد ذكر الله جانبا كبيرا منها في سورة الحجرات في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11] إلى آخر الآية التي بعدها. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وأوجب الحد ثمانين جلدة على من قذف محصنا بالفاحشة وأوجب الحد على الزاني إن كان محصنا فيرجم بالحجارة حتى يموت. وإن كان غير محصن وهو الذي لم يتزوج فحده مائة جلدة وتغريب عام0 وأما حد اللواط وهو إتيان الذكر الذكر فإنه القتل بكل حال إذا كانا بالغين غير مجنون سواء كان متزوجين أو غير متزوجين لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على مقتضى هذا الحديث. فاحمدوا الله أيها المؤمنون على هذه الحماية لدينكم وأنفسكم وأموالكم وأعراضكم واسألوه أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بشكره وامتثال أمره واجتناب نهيه فإن ذلك خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة الثانية في التحذير من أخطار السيارات

[الخطبة الثانية في التحذير من أخطار السيارات] الخطبة الثانية في التحذير من أخطار السيارات الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما وقضى بما يريد حكمة وحكما، أنعم بالنعم ابتلاء وامتحانا فمن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الرشد والتسديد وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وقيدوا نعمه عليكم بشكرها وحسن التصرف فيها فإن الشكر به ازدياد النعم وحسن التصرف فيها به تتمحض نعما. أما إذا كفرت النعم فذلك سبب زوالها ومعول هدمها. قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ - فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ - ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 15 - 17] وقال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] أيها الناس هذان مثلان لبلدين أنعم الله عليهما بنضارة الدنيا ورغد العيش بدلوا نعمة الله كفرا فأعرضوا عن دين الله وارتكبوا محارم الله فأبدلهم الله بنعمه نقما وبرغد العيش نكدا أفتظنون أنكم إذا كفرتم بنعم الله ناجون وعما وقع فيه أولئك مسلمون كلا فسنن الله في عباده واحدة وليس بين الله وبين أحد من الناس نسبا فيراعيه واسمعوا قول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا - اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 42 - 43] وقول الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] وقول الله سبحانه في الحكم العام الشامل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]

أيها الناس إن مما أنعم الله به علينا في هذا العصر تلك السيارات التي ملأت البلاد والبر وقادها الصغير والكبير والعاقل والسفيه فهل نحن شكرنا هذه النعمة وهل نحن أحسنا التصرف فيها؟ لننظر. لقد استعمل بعض الناس هذه السيارات في أغراضه السيئة والوصول إلى مآربه السافلة فصار يفر بها إلى البراري ليتناول ما تهواه نفسه بعيدا عن الناس وعن أيدي الإصلاح ويخرج بها عن البلد ليضيع ما أوجب الله عليه من إقامة الصلاة في وقتها فهل يصح أن يقال لمثل هذا إنه شاكر لنعمة الله وهل يصح أن نقول إنه سالم من عقوبة الله كلا فهو لم يشكر نعمة الله ولم يسلم من عقوبته وليس عقوبة الله للعبد أن تكون عقوبة دنيوية مادية فهناك عقوبة أشد وهي عقوبة قسوة القلب وكونه يرى ما هو عليه من انتهاك المحرمات وإضاعة الواجبات يراه وكأنه لم يفعل شيئا يعاقب عليه بعد موته فلا يكاد يقلع عنه. ولقد استعمل بعض الناس هذه السيارات فلم يحسن التصرف فيها وكلها إلى قوم صغار السن أو صغار العقول تجده يقود السيارة وهو صغير السن لا يكاد يُرى من نافذتها وتراه يسوق السيارات وهو كبير السن لكنه صغير العقل متهور لا يراعي الأنظمة ولا يبالي بالأرواح، سرعة جنونية في البلد وخارج البلد ونعني بالسرعة الجنونية كل سرعة تزيد على ما كان ينبغي أن يسير عليه وتختلف بحسب المكان وازدحام السكان فليست السرعة في البلد كالسرعة خارجه وليست السرعة في مكان كثير المنعطفات والمنافذ الشارعة فيه كالسرعة في خط مستقيم ليس إلى جانبه منافذ وليست السرعة في مكان يكثر فيه الناس كالسرعة في مكان خال. تجده يسير مخالفا للأنظمة يحاول أن يجاوز من أمامه وهو لم يضمن السلامة يسير في الخط المعاكس لاتجاهه وهو لغيره فيوقع من قابله في الحيرة أو التلف. إن كل عاقل ليعجب أن تعطي قيادة السيارات لهؤلاء الصغار الذين لا يستطيعون التخلص في ساعة الخطر وإن كل عاقل ليعجب من هؤلاء المتهورين الذين لا يراعون حرمة نظام الدولة ولا حرمة نفوس المسلمين مع أن الفرق في مراعاة النظام والسير المعتدل أمر بسيط فلو قدرنا أن شخصا أراد أن يسير بسرعة تبلغ مائة كيلو في الساعة فسار بسرعة تبلغ ثمانين فمعناه أنه لم يتأخر سوى اثنتي عشرة دقيقة في سير ساعة كاملة وست دقائق في سير

نصف ساعة وثلاث دقائق في سير ربع ساعة وما أيسر هذا التأخر الذي به وقاية النفس والمال من الخطر والذي يمكن أن يزول بأن يتقدم في مشيه بمقدار هذا التأخر. أيها الناس لقد كثرت الحوادث من أجل هذه الأمور كثرة فاحشة فأصبح المصابون بها ما بين كسير وجريح وميت ليس بالأفراد فحسب ولكن بالأفراد أحيانا وبالجملة أحيانا ثم يترتب على هذه الحوادث: خسائر مالية وخسائر روحية وندم وحسرة في قلوب مسببي هذه الحوادث إن كانت قلوبهم حية تخشى الله وترحم عباد الله وتريد أن تسلك مع الناس بالسيرة الحسنة. إن النفس إذا فقدت بهذه الحوادث لزم من ذلك: 1- إخراج هذا الميت من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح والاستعتاب من العمل السيئ. 2- فقد أهله وأصحابه بالتمتع معه في الحياة. 3- إرمال زوجته وإيتام أولاده إن كان ذا زوجة وعيال. 4- غرامة ديته تسلم إلى ورثته. 5- وجوب الكفارة حقا لله تعالى فكل من قتل نفسا خطأ أو تسبب لذلك أو شارك فيه فعليه الكفارة فلو اشترك اثنان في حادث وتلف به شخص فعلى كل واحد منهما كفارة كاملة والكفارة عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد كما هو الواقع في عصرنا فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما يوما واحدا إلا من عذر شرعي فإن أفطر قبل إتمامهما ولو بيوم واحد من دون عذر وجب استئنافها من جديد وهذه الكفارة حق لله تعالى لا تسقط بعفو أهل الميت عن الدية فأهل الميت إذا عفوا عن الدية إنما يملكون إسقاط الدية إن رأوا في إسقاطها مصلحة وأما الكفارة فلا يملكون إسقاطها لأنها حق لله عز وجل وهذه الكفارة أيضا تتعدد بتعدد الأموات بسبب الحادث فإن كان الميت واحدا فشهران وإن مات اثنان فأربعة أشهر وإن مات ثلاثة فستة أشهر وهكذا لكل نفس شهران متتابعان. فاتقوا الله تعالى في أنفسكم واتقوا الله في إخوانكم المسلمين في أنفسهم وأموالهم واتقوا الله تعالى بطاعته وطاعة ولاة أموركم بالمعروف واعلموا أن مخالفة نظام الدولة ليس مخالفة لبشر فقط ولكن مخالفة للبشر ولخالق البشر فإن الله تعالى أمر بطاعة ولاة الأمور في غير معصية الله قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وفقني الله وإياكم لطاعة الله ورسوله وطاعة ولاة الأمور والتمشي على ما فيه خيرنا وصلاحنا إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة الثالثة في الحدود ووجوب إقامتها

[الخطبة الثالثة في الحدود ووجوب إقامتها] الخطبة الثالثة في الحدود ووجوب إقامتها الحمد لله القوي العظيم العزيز الرحيم العليم الحكيم شرع عقوبة المجرمين منعا للفساد ورحمة للعالمين وكفارة لجرائم الطاغين المعتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين وأرحم الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم بهذا الدين القويم الكامل الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى الإصلاح. أيها الناس إن من طبيعة البشر أن يكون لهم إرادات متباينة ونزعات مختلفة فمنها نزعات إلى الحق والخير ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] وقال تعالى {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ولما كانت النزعات إلى الباطل والشر في ضرورة إلى ما يكبح جماحها ويخفف من حدتها من وازع إيماني أو رادع سلطاني جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر والترغيب في الحق والخير وبيان ما يترتب على الباطل والشر من مفاسد في الدنيا وعقوبة في الآخرة وما يترتب على الحق والخير من مصالح في الدنيا ومثوبات نعيم في الآخرة، ولكن لما كان هذا الوازع لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشريرة الموغلة في الباطل والشر وكبح جماحها والتخفيف من حدتها فرض رب العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيوية وحدودا متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم الأعوج وتظهر الملة وتستقيم الأمة وتكفر جريمة المجرم فلا تجتمع له عقوبة الآخرة مع عقوبة الدنيا. ففرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع والغني والفقير والذكر والأنثى والقريب منهم والبعيد ففي الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أقيموا حدود الله القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم» ولقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأسامة بن زيد رضي الله عنه حين شفع إليه في امرأة من بني مخزوم كانت تستعير الشيء فتجحده فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع يدها فشفع فيها أسامة رضي الله عنه فأنكر عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال «أتشفع في حد من

حدود الله» ثم قام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاختطب وقال «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله (أي أحلف بالله) لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (متفق عليه) . الله أكبر هكذا الحق أشرف النساء نسبا فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة ويقسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق البار أن لو سرقت لقطع يدها أين الثرى من الثريا أين هذا القول وما كان عليه الناس اليوم من المماطلات في إقامة الحدود والتعليلات الباردة والمحاولات الباطلة لمنع إقامة الحدود وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره. » لقد فرض الله عقوبة القاذف الذي يرمي الشخص المحصن البعيد عن تهمة الزنا فيقول يا زاني أو يا زانية فمن قال له ذلك قيل له إما أن تأتي بالبينة الشرعية على ما قلت وإما حد في ظهرك فإذا لم يأت بها عوقب بثلاث عقوبات يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة أبدا ويحكم بفسقه فيخرج عن العدالة إلا أن يتوب ويصلح يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5] وإنما أوجب الله عقوبته بتلك العقوبات حماية للأعراض ودفعا عن تهمة المقذوف البريء البعيد عن التهمة. وفرض الله عقوبة الزاني وجعلها على نوعين نوع بالجلد مائة جلدة أمام الناس ثم ينفى عن البلد لمدة سنة كاملة وذلك فيما إذا لم يسبق له زواج تمتع فيه بنعمة الجماع المباح يقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» . والنوع الثاني من عقوبة الزناة الرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالرحمة ويدفن مع المسلمين وتلك العقوبة فيمن سبق له زواج فيه بالجماع المباح وإن كان حين فعل الفاحشة لا زوج معه يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه

الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل (يعني الحمل) أو الاعتراف هكذا أعلن أمير المؤمنين على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الملأ حتى لا ينكر الرجم إذا لم يجدوا الآية في كتاب الله تعالى والله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وقد نسخت آية الرجم من القرآن لفظا وبقي حكمها إلى يوم القيامة لتتميز هذه الأمة عن بني إسرائيل بالانقياد التام فبنو إسرائيل فرض عليهم رجم الزاني إذا أحصن ونصه في التوراة وحاولوا إخفاءه حين قرأ قارئهم التوراة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه الأمة نسخ الله لفظ آية الرجم فلا توجد فيه لفظا فعملوا بها لعلمهم ببقاء حكمها وتنفيذ رسولهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين لهذا الحكم. وإنما كانت عقوبة الزاني المحصن بهذه الصورة المؤلمة دون القتل بالسيف لأن هذه العقوبة كفارة للذة محرمة اهتز لها جميع بدنه فكان من المناسب والحكمة أن تشمل العقوبة جميع بدنه بألم تلك الحجارة. إن عقوبة الزاني بهذين النوعين من العقوبة لفي غاية الحكمة والمناسبة: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] وإن إيجاب عقوبة الزاني من رجل أو امرأة لعين الرحمة للخلق لما فيه من القضاء على مفسدة الزنا المدمر للمجتمعات المفسد للأخلاق والسلوك الموجب لضياع الأنساب واختلاط المياه المحول للمجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي لا يهتم إلا بملء بطنه وشهوة فرجه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] أما اللواط وهو جماع الذكر للذكر فلذلكم الفاحشة العظمى والجريمة النكراء هدم للأخلاق ومحق للرجولة وقتل للمعنوية وجلب الدمار وسبب للخزي والعار وقلب للأوضاع الطبيعية تمتع في غير محله واستحلال في غير حله الفاعل ظالم لنفسه حيث جرها إلى هذه الجريمة والمفعول به مع ذلك مهين لنفسه حيث رضي أن يكون مع الرجال بمنزلة النسوان لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه حتى يموت أو يتوب توبة نصوحا يستنير بها قلبه ووجهه وكلاهما الفاعل والمفعول به ظالم لمجتمعه حيث نزلوا بمستوى المجتمع إلى هذه الحال المقلوبة التي لا ترضاها ولا البهائم ومن أجل مفاسده العظيمة كانت عقوبته أعظم من عقوبة الزنا

ففي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعو ل به» . واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الفاعل والمفعول به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يختلف أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به ولكن اختلفوا كيف يقتل، فقال بعضهم يرجم بالحجارة، وقال بعضهم يلقى من أعلى شاهق في البلد، وقال بعضهم يحرق بالنار وإنما كانت هذه عقوبة تلك الفاحشة لأنها قضاء على تلك الجرثومة الفاسدة التي إذا ظهرت في المجتمع فيوشك أن تدمره تدمير النار للهشيم، ففي القضاء عليها مصلحة الجميع وحماية المجرمين أن يملى لهم في البقاء في الدنيا فيزدادوا إثما وطغيانا والله عليم حكيم. اللهم إنا نسألك أن تحمينا وأمتنا عن مساوئ الأخلاق وعن موجبات سخطك وعقابك، وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.

الخطبة الرابعة في أنواع الحدود

[الخطبة الرابعة في أنواع الحدود] الخطبة الرابعة في أنواع الحدود الحمد لله القوي العظيم العزيز الحكيم شرع عقوبة المجرمين منعا للفساد ورحمة للعالمين وكفارة لجرائم الطاغين المعتدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل النبيين وقائد المصلحين، وأرحم الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمته عليكم وحكمته فيما شرع لكم من هذا الدين القويم الكامل الجامع بين الرحمة والحكمة رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى هذا الهدف. أيها الناس إن من طبيعة البشر أن يكون لهم أفكار متباينة ونزعات مختلفة فمنها نزعات إلى الحق والخير ومنها نزعات إلى الباطل والشر كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] وقال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] ولما كانت النفوس الشريرة والنزعات الباطلة والأعمال السيئة في حاجة ملحة إلى ما يكبح جماحها ويخفف من حدتها فرض رب العالمين برحمته وحكمته حدودا وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفاسد وتقيم الأعوج وتكفر عن المجرم جريمته فلا يجمع له بين عقوبتي الدنيا والآخرة. ففرض عقوبة القاذف الذي يصف المحصنين الأعفاء بالزنا فإذا قال المرء لرجل عفيف أو امرأة عفيفة عن الزنا يا زاني أو يا زانية طولب بالبينة التي تثبت ذلك فإن أتى بها وإلا جلد ثمانين جلدة ولم تقبل له شهادة أبدا وكان من الفاسقين إلا أن يتوب وإنما أوجب الله جلده ثمانين حماية للأعراض ودفعا عن تهمة المقذوف قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآيتين. وفرض الله عقوبة الزاني إذا لم يكن محصنا بأن يجلد مائة جلدة أمام الناس وينفى عن البلد مدة سنة كاملة، أما إذا كان الزاني محصنا وهو الذي قد تزوج وجامع زوجته فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن مع المسلمين. وإنما أوجب الله رجمه بالحجارة دون أن يقتل بالسيف لأن اللذة المحرمة شملت جميع بدنه فكان من الأنسب أن يرجم

بالحجارة لينال العقاب جميع بدنه قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وأما الرجم فكان متلوا في كتاب الله قرأه الصحابة رضي الله عنهم ولكن الله نسخ لفظه وبقي حكمه إلى يوم القيامة كما خطب بذلك عمر رضي الله عنه في يوم الجمعة فقال إن الله بعث محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجمنا بعده. أيها المسلمون وإنما كانت عقوبة الزنا على هذا الوجه لأنه فاحشة مفسد للأخلاق والسلوك {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] وإنه مفسد للمجتمع بضياع الأنساب واتباع الشهوات كالبهائم. وأما اللواط وهو جماع الذكر بالذكر فهو الفاحشة العظمى والجريمة النكراء هدم للأخلاق ومحق للرجولة وقتل للمعنوية وجلب للدمار وسبب للخزي والعار، الفاعل ظلم نفسه حيث جرها إلى هذه الجريمة والمفعول به أهان نفسه حيث رضي أن يكون مع الرجال بمنزلة النسوان لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه حتى يموت ولذلك كانت عقوبة اللواط القتل بكل حال سواء كان من محصن أم غير محصن يقتل الفاعل والمفعول به إذا كان راضيا وكان كل منهما بالغا غير مختل العقل لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» واتفق الصحابة على قتله قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يختلف أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به ولكن اختلفوا كيف يقتل فقال بعضهم يرجم بالحجارة وقال بعضهم يلقى من أعلى شاهق في البلد وقال بعضهم يحرق بالنار. وفرض الله عقوبة السارق رجلا كان أو امرأة بقطع يده اليمنى من مفصل الكف قال تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «تقطع اليد يعني يد السارق في ربع دينار فصاعدا» وإنما فرض الله عقوبة السارق بقطع يده حفظا للأموال ومنعا للفوضى والعدوان في المجتمع.

وفرض عقوبة المحاربين لله ورسوله وهم قطاع الطرق الذين يعرضون للناس بالقوة فيأخذون أموالهم أو يجمعون بين أخذ المال وقتل النفس فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فإذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا بدون صلب وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم من مفصل الكف وأرجلهم اليسرى من مفصل العقب وإذا لم يأخذوا المال ولم يقتلوا بل أخافوا الناس فقط أبعدوا عن البلاد حتى ينكف شرهم فإن لم ينكف بذلك حبسوا. وإنما استحق قطاع الطريق هذه العقوبة لعظم جريمتهم وعدوانهم وإخلالهم بالأمن. وأما شرب الخمر فجلد فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشارب نحو أربعين وجلد فيه أبو بكر أربعين وجلد فيه عمر أربعين في أول خلافته ثم لما عثا الناس في الخمر وفسقوا رفع الجلد فيها إلى ثمانين حين استشار الصحابة فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر رضي الله عنه. أيها المسلمون هذه هي الحدود والعقوبات جعلها الله مناسبة لجرائمها شرعها الله رحمة بالحق وصونا لدمائهم وأعراضهم وأموالهم وصلاحا لمجتمعهم وأمر بإقامتها فور ثبوتها فلا يجوز تأخير إقامة الحد بعد ثبوته إلا لعذر شرعي مثل المرض الذي يرجى زواله أو المرأة الحامل حتى تضع ويأمن حملها. وقد كان أعداء الإسلام والملحدون من المنتسبين إليه يعيبون الإسلام بهذه الحدود ويقولون إن هذا وحشية ولكنهم هم المعيبون الجاهليون وهم الوحشيون الأحمقون يضعون الرحمة في غير أهلها ويدافعون عن المجرم ليتمادى في جرمه فيكون المجتمع كالوحوش يعدو بعضهم على بعض وينتهك بعضه حرمة بعض بلا حدود ولا رادع وفي الواقع أكبر شاهد لذلك فالبلاد التي لا تقام فيها الحدود تنتشر فيها الفوضى ويسودها الخوف والذعر. وإنا لنرجو للأمة الإسلامية أن يوفقها الله رجالا مخلصين لا تأخذهم في الله لومة لائم لا يراعون الأمم الكافرة ولا يخافون عيبها ولا إرجافها ولا يغترون بمدنيتها الزائفة الباطلة ولا يراعون شريفا لشرفه ولا قريبا لقربه يقيمون حدود الله ويغارون لحرماته حتى يستتب الأمن وتحصل البركات إنه جواد كريم.

الخطبة الخامسة في التحذير من الخمر

[الخطبة الخامسة في التحذير من الخمر] الخطبة الخامسة في التحذير من الخمر الحمد لله الذي أباح لنا جميع الطيبات وحرم علينا الخبائث والمضرات أباح لنا الطيبات تفضلا منه وولاية وحرم علينا الخبائث والمضرات عناية منه ووقاية وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتمتعوا بما أحل لكم من الطيبات واشكروه عليها بالقيام بطاعته فإن الشكر سبب للمزيد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] واجتنبوا ما حرم عليكم من المطاعم والمشارب لعلكم تفلحون فإن الله لم يحرمها عليكم إلا لضررها ولو كانت خيرا ما حرمها عليكم فإن الله ذو الفضل العظيم. فلم يحرم عليكم إلا ما فيه ضرر في دينكم أو دنياكم أو فيهما جميعا قال الله تعالى في وصف نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] أيها المسلمون، أيها المؤمنون بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن من الخبائث التي حرم الله عليكم على لسان نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالوحي الذي أوحي إليه ذلكم الشراب الخبيث (الخمر) وهو كل شيء مسكر من مطعوم أو مشروب قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كل مسكر خمر» وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخمر ما خامر العقل (متفق عليهما) ومعنى خامر العقل غطاه بالسكر والذهول فالخمر ليس من نوع معين مخصوص بل هو كل ما أسكر وغطى العقل واختل به التمييز سكرا وتلذذا. أيها المسلمون إن الخمر حرام بكتاب الله تعالى حرام بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرام بإجماع المسلمين إجماعا قطعيا معلوما بالضرورة من دين الإسلام لا خلاف فيه ولا نزاع ولا إشكال ولا لبس قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91]

وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كل خمر (وفي رواية كل مسكر) حرام» (رواه مسلم) . وأجمع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقديم الزمان وحديثه على أن الخمر حرام إجماعا قطعيا لا ريب فيه فمن قال إنها حلال فهو كافر يستتاب فإن تاب وأقر بتحريمها ترك وإلا قتل كافرا مرتدا لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وإنما يرمس بثيابه في حفرة بعيدة لئلا يتأذى المسلمون برائحته وأقاربه بمشاهدته ولا يرث أقاربه من ماله وإنما يصرف ماله في مصالح المسلمين ولا يدعى له بالرحمة ولا النجاة من النار لأنه كافر مخلد في نار جهنم: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 64 - 66] أيها المسلمون إن من اعتقد أن الخمر حلال فهو مضاد لله مكذب لرسوله خارج عن إجماع المسلمين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] أما من شرب الخمر وهو يؤمن ويعتقد بأنها حرام ولكن سولت له نفسه بها فشربها فهو عاص لله فاسق عن طاعته مستحق للعقوبة عقوبته في الدنيا أن يجلد بما يراه ولاة الأمور رادعا له ولغيره بشرط أن لا ينقص عما جاء عن السلف الصالح. كان شارب الخمر في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضرب نحو أربعين ولم يسنه بقدر معين بل كان الناس يقومون إليه فيضربونه بالأيدي والجريد والأردية والنعال فلما عثا الناس فيها وفسقوا جمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم في عقوبة تكون أردع للناس الفاسقين بشربها فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخف الحدود ثمانين فجعله عمر ثمانين، فإذا تكرر من الشارب الشرب وهو يعاقب ولا يرتدع، فقال ابن حزم: يقتل في الرابعة وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه إذا لم ينته الناس بدون القتل وهذا عين الفقه؛ لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه؛ لأن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى نسله ومجتمعه. هذه عقوبة شارب الخمر في الدنيا أما عقوبته في الآخرة فقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه

وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له» (قال في الترغيب رواته ثقات) ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» (رواه مسلم) ، وقال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر» (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن» (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح قاله في الترغيب) . فاتقوا الله أيها المسلمون، واجتنبوا الخمر لعلكم تفلحون، فلقد وصفت الخمر بأقبح الصفات في كتاب الله وفي سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وصفها الله بأنها رجس من عمل الشيطان وقرنها بالميسر والأزلام وعبادة الأوثان {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر» (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد) وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الخمر مفتاح كل شر وجماع الإثم كله. إن شاربها يفقد عقله ويلتحق بالمجانين، إنه ربما يقتل نفسه وهو لا يشعر وربما يزني وهو لا يشعر وربما يعتدي على غيره وهو لا يشعر. روى البيهقي بإسناد صحيح «عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث) » ، كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فأحبته امرأة غوية، فأرسلت إليه جارتها أن تدعوه لشهادة فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة (أي حسناء جميلة) ، جالسة عندها غلام وإناء خمر فقالت له إنها ما دعته لشهادة وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر، فلما رأى أنه لا بد من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشربه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام، قال أمير المؤمنين عثمان: فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه. ومصداق ما قاله أمير المؤمنين رضي الله عنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (متفق عليه) ، (وللنسائي) : فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فإن تاب تاب الله عليه، (وللحاكم) من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه. أيها المسلمون إن الخمر نقص في الدين وضرر في العقل والنفس والمجتمع أما نقص الدين فقد بان لكم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين ما فيه كفاية

وأما ضررها في العقل فإنها تمحوه حين شربها إذا سكر وتضعف العقل بعد الصحو وربما أدى شربها إلى الجنون الدائم كما هو معلوم من أقوال أهل الطب. وأما ضرر الخمر في النفس فإن شارب الخمر تجده دائما في ضيق وغم وقلق نفس كل كلمة تثيره وكل عمل يضجره لأن قلبه معلق بالخمر لا يسر إلا بتناولها ولا يفرح إلا بالاجتماع عليها فلا يتقن عملا ولا يثمر نتيجة. وأما ضرر الخمر في المجتمع فهو إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وقتل المعنويات العالية والأخلاق الفاضلة والإغراء بالزنا واللواط وكبائر الإثم والفواحش كما شهد بذلك الخبيرون بالجرائم وأسبابها. فاتقوا الله عباد الله واسألوه العصمة من كبائر الإثم والفواحش والتوبة من جميع الإثم والمعاصي وتعاونوا على البر والتقوى ومنه الإثم والعدوان. اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة إليك واغفر لنا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة السادسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[الخطبة السادسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الخطبة السادسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله القوي العظيم الرقيب الشهيد يدبر خلقه كما يشاء بحكمته فهو الفعال لما يريد أحكم ما شرع وأتقن ما صنع فهو الولي الحميد حد لعباده حدودا ونظم لهم تنظيما وقال لهم {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فصار الناس على أقسام فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القهار فلا ضد له ولا نديد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم بأمر الله الناصح لعباد الله على الرشد والتسديد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] عباد الله لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور لا تغرنكم الأموال وكثرتها لا يغرنكم رغد العيش ونضارة الدنيا وزهرتها لا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان ولا يغرنكم إمهاله لكم مع تقصيركم في الواجب والعصيان. إن اغتراركم بهذا من الأماني الباطلة والآمال الكاذبة: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] عباد الله لقد انتشرت المعاصي في مجتمع الأمة الإسلامية وأصبح ما كان منكرا بالأمس معروفا اليوم، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات تعاملوا بالربا ومنعوا الزكاة ابتعدوا عن الحياء

وانتهكوا الحرمات صاروا كالبهائم يطلبون متع الدنيا وإن أضاعوا الدين صدوا عن سبيل الله واتبعوا سبل الكافرين زين لهم سوء أعمالهم فظنوا ذلك تحررا وتقدما وتطورا وما علموا أن ذلك هو الرق تحت قيود الهوى والتأخر عن الفضائل إلى الورى والتدهور إلى الهاوية والردى. أيها المسلمون المؤمنون بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أسباب هذا التدهور ترجع إلى أمرين: أحدهما ضعف الدين في النفوس وقوة الداعي إلى الباطل والثانية ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمداهنة في دين الله عز وجل وأن حماية الدين لا تكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بما أمر الله به رسوله والنهي عما نهى الله عنه ورسوله بقصد النصيحة لله ولعباد الله. أيها المسلمون إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة على هذه الأمة التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله إن استقامت على دينه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 - 105] أيها المسلمون إنكم إن قمتم بهذا الذي أمركم الله به كنتم خير أمة أخرجت للناس وإن تركتم ذلك كنتم من شرار الأمم إنه لا نسب بين الله وبين عباده ولكن من اتقاه فهو الكريم عنده وأكرم الناس عند الله اتقاهم له. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على فئة معينة من الناس إنه واجب على الناس جميعا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» . أيها المسلمون إن، منا من يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص بفئة معينة وهذا ظن فاسد فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال «من رأى منكم منكرا» وهذا عام لكل من رأى المنكر يجب أن يغيره بيده بالضرب أو غيره فإن لم يستطع فبلسانه بالكلام والنصح والإرشاد أو الكلام مع ولاة الأمور إن لم ينفع الكلام معه وكل واحد منا يستطيع أن يتكلم مع المسئولين في منع المنكر، ويجب على المسئولين إذ بلغهم أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من الإصلاح، ولأن يجتمعوا على ذلك لينالوا الفوز والفلاح إن عليهم أن يتركوا الدعة والسكون وأن يقوموا

لله مخلصين له الدين وسوف تكون العاقبة لهم إن العاقبة للمتقين. أيها المسلمون، إن الأمة لا يمكن أن تكون أمة قوية مرموقة حتى تتحد في أهدافها وأعمالها ولن يمكنها ذلك حتى تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتكون على دين واحد في العقيدة والقول والعمل صراطا مستقيما صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض. أما إذا لم تقم بذلك فإنها تتفكك وتنفصم عراها يكون لكل واحد هدف ولكل واحد طريق وعمل يتفرقون أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] أيها المسلمون، إذا لم نقم بأمر الله ونسعى في إصلاح مجتمعنا بالالتزام بدين الله فمن الذي يقوم ويسعى بذلك وإذا لم نتكاتف على منع الشر والفساد فكلنا هالك. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه أو يأكل معه فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوبهم بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكان يعتدون» ، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم» ولما فتح المسلمون جزيرة قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرئى أبو الدرداء رضي الله عنه يبكي فقيل له ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. أيها المسلمون، إن من المؤسف المروع أن نرى مجتمعنا الإسلامي أمة محمد هكذا شعبا متفككا، لا يغارون لدين ولا يخافون من وبال، لا يتفقد الرجل أهله وولده ولا ينظر في جيرانه، بل تراه يرى المعاصي فيهم لا ينهاهم عنها ويرى التقصير في الواجب فلا يتداركه وهذا أيها المسلمون ينذر بالحظر لا سيما مع كثرة النعم والانغماس في الترف يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] اللهم ألهمنا رشدنا وهيئ لنا الخير واجمع كلمتنا على الحق وأبرم لأمتنا أمرا يؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة السابعة في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[الخطبة السابعة في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] الخطبة السابعة في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم إن ذلك من عزم الأمور، إن المعروف إذا لم يؤمر به ولم يحي بالعمل به والتواصي فيه ضاع واضمحل، فانهدم بذلك جانب من دينكم وصار العمل به بعد ذلك منكرا مستغربا بين الناس وإن المنكر إذا لم ينه عنه ويحذر الناس بعضهم بعضا منه شاع وانتشر بين الناس وأصبح معروفا لا ينكر ولا يستغرب وقيسوا ذلك بما انتشر بينكم من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم. إن كثيرا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل ولكنهم يتقاعسون عن ذلك، إما تهاونا وتفريطا، وإما اعتمادا على غيرهم وتسويفا، وإما جبنا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفا والله يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وإما يأسا من الإصلاح وقنوطا. أيها المسلمون ويا أيها المؤمنون إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه أو تسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك أمر لا بد منه إلا أن يشاء الله امتحانا من الله وابتلاء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فإذا كان قائما مقام الرسل فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله كما قد لاقى الرسل. ولقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوالهم أشد الأذى وأعظمه حتى بلغ ذلك إلى حد القتل قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فهذا أول الرسل نوح عليه الصلاة

والسلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فكان ملؤهم وأشرافهم يسخرون منه ولكنه صامد في دعوته يقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ - فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39] حتى قالوا متحدين له {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] وقالوا مهددين له {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] أي من المقتولين رجما بالحجارة. وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء لبث في قومه ما شاء الله، يدعوهم إلى الله تعالى، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24] فما ثنى ذلك عزمه ولا أوهنه عن دعوته، مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات وأزال منكرهم بيده فغدا على أصنامهم فكسرها حتى جعلها جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، فلما رجعوا إلى أصنامهم وعلموا أن الذي كسرها إبراهيم طلبوا أن يؤتى به ليوبخوه على أعين الناس فيشهد الناس ما يقول فهل جبن أن يقول قول الحق في هذا المقام العظيم كلا بل قال لهم موبخا: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ - أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67] فعزموا على تنفيذ ما هددوه به و {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] فأضرموا نارا عظيمة وألقوا إبراهيم فيها وهي أشد ما تكون اتقادا ولكن رب العزة قال لها {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت بردا لا حر فيه وسلاما لا أذى فيه. وهذا موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ماذا حصل له من فرعون المتكبر الجبار دعاه موسى إلى الله العلي الأعلى وقال {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] فقال فرعون ساخرا به {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وقال لملئه {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ثم توعد موسى قائلا {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] فهل خاف موسى من ذلك وهل وهنت عزيمته عن الدعوة إلى الله عز وجل، بل مضى في ذلك حتى بين لفرعون من آيات الله ما يهتدي به أولو الألباب ولكن فرعون استمر في غيه واستكباره وقال مهددا موسى بالقتل ومتحديا له أن يدعو ربه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]

وقال لوزيره هامان ساخرا بالله رب العالمين: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] ولكن موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه حتى كانت العاقبة له وكانت نتيجة فرعون وقومه ما ذكر الله: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ - كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 24 - 28] وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام وأوذي من جانب اليهود فكذبوه ورموا أمه بالبغاء أي الزنا وعزموا على قتله واجتمعوا عليه فألقى الله شبهه على رجل فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] قال الله تعالى مكذبا لما ادعوه من القتل والصلب: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا - بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 158] وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم أعظم الخلق جاها عند الله هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ لا بل ناله على ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله ولم ينته عن دعوته إلى الله عز وجل، دعاهم إلى عبادة إله واحد {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4 - 5] وكانوا إذا رأوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتخذوه هزوا وقالوا ساخرين به: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 41 - 42] {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8] {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] فآذوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكل ألقاب السوء والسخرية ولم يقتصروا على ذلك فحسب بل آذوه بالأذى الفعلي فكان أبو لهب وهو عمه وجاره يرمي بالقذر على باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيزيله ويقول «يا بني عبد مناف أي جوار هذا» . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «بينما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال قائل منهم أيكم يذهب إلى جزور آل فلان أي ناقتهم فيجيء بسلاها ودمها وفرثها فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فذهب أشقى القوم فجاء به فلما

سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه قال ابن مسعود رضي الله عنه وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي منعة فجعل أبو جهل ومن معه يضحكون حتى يميل بعضهم إلى بعض من الضحك ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءت ابنته فاطمة تسعى وهي جويرية حتى ألقته عنه فلما قضى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش ثم سمى فلانا وفلانا» . وفي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، ولما اشتد به الأذى من قومه خرج إلى الطائف رجاء أن يؤوه ويمنعوه من قومه فلقي منهم أشد ما يلقى من أذى، وقالوا اخرج من بلادنا وأغروا به سفاءهم يقفون له في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب» . أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإخوانه لأكبر عبرة يعتبرها المؤمنون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ليصبروا على ما أصابهم ويحتسبوا الأجر من الله ويعلموا أن للجنة ثمنا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]

الفرع العاشر في الأمانة

[الفرع العاشر في الأمانة] [الخطبة الأولى في المحافظة على الأمانة] الفرع العاشر في الأمانة الخطبة الأولى في المحافظة على الأمانة الحمد لله الذي جعل الأمانة في قلوب الرجال بعد أن أبى عن حملها السماوات والأرض والجبال، جعل الأمانة في قلوب بني آدم ذكورا وإناثا لأنه ركب فيهم عقولا بها يفقهون وبصائر بها يهتدون فتحملوا الأمانة مخاطرين ليعلوا بأدائها إلى درجة المؤمنين المتقين أو لينزلوا بإضاعتها إلى أسفل السافلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، خلق فأتقن وشرع فأحكم وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بلغ رسالة ربه وأدى أمانته على الوجه الأكمل وعبد ربه حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا ما حملتم من الأمانة فحملتموه لقد عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا أدوا الأمانة بالقيام بما أوجب الله عليكم من عبادته وحقوق عباده ولا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون لا تخونوا في ذلك بإفراط أو تفريط بزيادة أو نقص فإن الخيانة نقص في الإيمان وسبب للخسران والحرمان. وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال «لا إيمان لمن لا أمانة له» . وقال «آية المنافق ثلاث» - أي علامته التي يتميز بها وخلقه الذي يتخلق به - «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم» . وقال «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان» يرفع له هذا اللواء فضيحة له بين الخلائق وخزيا وعارا. أيها المسلمون: إن الأمانة في العبادة والمعاملة، فالأمانة في العبادة أن تقوم بطاعة الله تعالى مخلصا له متبعا لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه تخشى الله في السر والعلانية تخشاه حيث يراك الناس وحيث لا يرونك لا تكن ممن يخشى الله في العلانية ويعصيه في السر فإن هذا هو الرياء ألم تعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ألم تعلم أن الله أنكر على من هذه حاله بقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77]- {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]

وأما الأمانة في المعاملة فأن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به في النصح والبيان، وأن تكون حافظا لحقوقهم المالية وغير المالية من كل ما استؤمنت عليه لفظا أو عرفا. فتكون الأمانة بين الرجل وزوجته، يجب على كل منهما أن يحفظ الآخر في ماله وسره، فلا يحدث أحدا بذلك. فقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه» . وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه، يحدثه بحديث سر يعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ثم يفشي سره ويحدث به الناس. وفي الحديث «إذا حدث الرجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة» لأن التفاته دليل على أنه لا يحب أن يسمعه أحد. وتكون الأمانة في البيع والشراء والإجارة والاستئجار، فلا يجوز للبائع أن يخون المشتري بنقص في الكيل أو الوزن أو زيادة الثمن أو كتمان العيب أو تدليس في الصفة، ولا يجوز للمشتري أن يخون البائع بنقص في الثمن أو إنكار أو مماطلة مع القدرة على الوفاء. ولا يجوز للمؤجر أن يخون المستأجر بنقص شيء من مواصفات الأجرة أو غير ذلك. ولا يجوز للمستأجر أن يخون المؤجر بنقص الأجرة أو إنكارها أو تصرف يضر المستأجر من دار أو دكان أو آلة أو مركوب. وتكون الأمانة في الوكالات والولايات، فيجب على الوكيل أن يتصرف بما هو أحسن ولا يجوز أن يخون موكله فيبيع السلعة الموكل في بيعها بأقل من قيمتها محاباة للمشتري، أو يشتري السلعة الموكل في شرائها بأكثر من قيمتها محاباة للبائع. وفي الولايات كل من كان واليا على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه، يجب أن يؤدي الأمانة فيه، فالقاضي أمين والأمير أمين ورؤساء الدوائر ومديروها أمناء، يجب عليهم أن يتصرفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن في ولايتهم، وفيما ولوا عليه حسبما يستطيعون، وأولياء اليتامى وناظرو الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن. ألا وإن من الأمانة ما يتصل بالثقافة والإرشاد والتعليم فعلى القائمين على ذلك من

مخططي المناهج ومديري الأقسام والمشرفين عليها أن يراعوا الأمانة في ذلك باختيار المناهج الصالحة، والمدرسين الصالحين المصلحين، وتثقيف الطلبة علميا وعمليا دينا ودنيا عبادة وخلقا. وإن من الأمانة في ذلك حفظ الاختبار من التلاعب والتهاون حفظه في وضع الأسئلة، بحيث تكون في مستوى الطلبة عقليا وفكريا وعلميا؛ لأنها إن كانت فوق مستواهم أضرت بهم وحطمتهم وأضاعت كل عامهم الدراسي، وإن كانت الأسئلة دون مستواهم أضرت بمستوى الثقافة العامة في البلاد. وحفظ الاختبار وقت الإجابة على الأسئلة بحيث يكون المراقب فطنا حازما لا يدع فرصة للتلاعب ولا يحابي ابنا لقريب ولا لصديق لأنهم هنا على درجة واحدة، كلهم في ذمة المراقب وعهدته سواء. وحفظ الاختبار وقت تصحيح الأجوبة بحيث يكون التصحيح دقيقا لا يتجاوز فيه ما يسمح به النظام، حتى لا يظلم أحد على حساب الآخر ولا ينزل طالب إلا في المنزلة التي يستحقها. إننا إذا حافظنا على هذه الأمانة في الاختبار في مواضعه الثلاثة فهو من مصلحة الأمة كلها ومن مصلحة العلم فهو من مصلحة القائمين على الاختبارات بأداء الواجب عليهم وإبراء ذممهم، ومن مصلحة الطلبة حيث يحصلون على مستوى علمي رفيع ولا يكون حظهم من العلم بطاقة يحملونها أو لقبا لا يستحقون معناه، وهو من مصلحة العلم حيث يقوى ويزداد حقيقة، ولا يهمنا عند ضبط الاختبار أن يكون الناجحون قليلا؛ لأن العبرة بالكيفية لا بالكمية، وإذا كانوا قليلا في عام كانوا كثيرا في العام الذي يليه حيث يعتادون على الجد ويستعدون له. وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وإبراء الذمة وحفظنا من إضاعتها والتساهل فيها إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الخطبة الثانية فيما تكون فيه الأمانة

[الخطبة الثانية فيما تكون فيه الأمانة] الخطبة الثانية فيما تكون فيه الأمانة الحمد لله الذي فرض على العباد أداء الأمانة، وحرم عليكم المكر والخيانة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بها النجاة يوم القيامة وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختم به الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الموصوفين بالعدالة وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأدوا الأمانة التي حملتموها وتحملتم مسئوليتها حملتموها بما وهبكم الله من العقل وأرسل إليكم من الرسل. أدوا الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. أدوا الأمانة فإنكم عنها مسئولون وعلى حسب القيام بها. أو التفريط فيها مجزيون، فإما مغتبطون بها مسرورون، وإما نادمون في إضاعتها حزنون، أدوا الأمانة فيما بينكم وبين الله وأدوها فيما بينكم وبين عباد الله. أما أداؤها فيما بينكم وبين ربكم فأن تقوموا بطاعته مخلصين له الدين وتتعبدوا بما شرعه متبعين لرسوله غير زائدين عليه ولا ناقصين فلن يقبل الله عملا حتى يكون خالصا لوجهه موافقا لشرعه. وأما أداء الأمانة فيما بينكم وبين العباد فأن تقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوقهم بحسب ما يقتضيه العمل الذي التزم به الإنسان نحو غيره من الناس. فولاة الأمور صغارا كانوا أو كبارا رؤساء أو مديرين أمانتهم أن يقوموا بالعدل فيما ولوا عليه، وأن يسيروا في ولايتهم حسبما تقتضيه المصلحة في الدين والدنيا وأن لا يحابوا في ذلك قريبا ولا صديقا ولا قويا ولا غنيا ولا شريفا، فلقد أقسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق بدون قسم لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها. أقسم على ذلك علنا وهو يخطب الناس، حينما شفع إليه في رفع الحد عن المرأة التي من بني مخزوم، أقسم على ذلك تشريعا للأمة وتبيانا للمنهج السليم الذي يجب أن يسير عليه ولاة الأمور. وعلى ولاة الأمور أن يولوا الأعمال من هو أحق بها وأجدر وأقوم وأنفع. إن من خيانة الأمة وخيانة العمل أن يولى على المسلمين أحد وفيهم من هو خير منه في ذلك العمل.

والموظفون أمانتهم في وظائفهم أن يقوموا بها على الوجه المطلوب، وأن لا يتأخروا في أعمالهم أو يتشاغلوا بغيرها إذا حضروا مكان العمل وأن لا يتعدوا في أمر لا يعنيهم فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. إن بعض الموظفين يخدعون أنفسهم حينما يحدثونها إذا تأخروا عن واجبهم بأن هذه الأنظمة ليست أمورا دينية أو أن الأجرة أو الراتب الذي يأخذه من بيت المال ونحو ذلك، وهذه خدعة يغترون بها. أما النظام فما دام ولاة الأمور قد نظموه وهو لا يخالف الشريعة فإن الواجب طاعتهم فيه، وطاعتهم فيه من طاعة الله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وأما الراتب الذي تأخذه من بيت المال فإنما تستحقه في مقابلة عمل، فإن قمت بالعمل كان الراتب حلالا لك وإلا فما الذي يحلله لك ويحرمه على الآخرين الذين ليسوا في وظيفة عن من لا يقوم بواجب وظيفته هو في استحقاق ما يستحقه من بيت المال ومن ليس بموظف على حد سواء. فاتق الله أيها المسلم، وقم بما يلزمك نحو وظيفتك طاعة لله واتقانا للعمل، وإبراء للذمة وتحليلا لراتب وظيفتك. وإن من واجب الأمانة في الوظيفة أن لا تقدم معاملة أحد على أحد أولى منه، لأنه قريبك أو صديقك أو أهدى إليك هدية أو دفع إليك رشوة، أو ترجو منه أن يسهل لك مهمة أخرى من قبله أو لغير ذلك من الاعتبارات غير الشرعية، فإن بعض الناس يتهاون بذلك وهو من خيانة الوظيفة ومن ظلم الخلق تجد شخصين يقدمان كل منهما معاملة فتنتهي معاملة أحدهما في أيام ولا تنتهي معاملة الثاني إلا في شهور من غير اعتبار شرعي يخول ذلك التقديم، ربما يتعلل بأن هذا شرس يجب أن يفتك منه أو نحو ذلك، وهذا غير مبرر للتقديم ولولا واجب العدالة لقلت إن الشرس ينبغي أن يؤخر عقوبة له على شراسته. ورعاة الأمور الذين شرفهم الله برعاية مصالح البلد ورزقهم من الوجاهة والحسب ما استحقوا به أن يكون رعاة لمصالح بلدهم أمانتهم، أن يقوموا بهذه الرعاية حق رعايتها، مشيرين فيما لا يستطيعون الإلزام به، وملزمين فيما لهم حق الإلزام به وأن يراعوا المصالح الدينية والدنيوية فيما رفع إليهم وما لم يرفع لأنهم، رعاة مصلحة البلد ومتى بذلوا الجهد مخلصين لله تعالى مبتغين مصلحة بلدهم سالكين سبيل الحكمة والعزم فسيوفقهم الله تعالى

ويهيئ لهم من المسئولين آذانا صاغية وأعمالا جادة فإن الله لا يضيع أجر المصلحين. وولاة الأمور الخاصة كالرجل في أهله وولده، أمانتهم أن يقوموا بتربية أولادهم وتوجيههم وإرشادهم ومراقبتهم مراقبة تامة، لا سيما في الوقت الذي تكثر فيه الفتن وتشتد فيه المنكرات، فإن الأمانة تحتم عليهم الرقابة أكثر مما إذا خفت الفتن وقلت المنكرات، ألسنا في أموالنا إذا كثرت السرقة وكثرت الخيانة نتحفظ فيها أكثر ونطلب لها المكان الأحرز فكذلك يجب علينا في أولادنا، بل ملاحظة أولادنا أوجب علينا من ملاحظة المال، لما في إهمالهم من الخطر علينا وعلى أنفسهم وعلى الأجيال المقبلة كلها، إن أولادنا وليس أموالنا هم الذين يصحبوننا في الجنة إذا تبعونا في الإيمان: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] إن كل واحد من الناس لا يرضى أن يكون منعما في الجنة وأولاده معذبين في النار. إننا نجزم أن الشخص لو رأى النار في الدنيا تأكل ولده أو قريبه لسعى بكل جهده في دفعها عنه، أفلا يعقل ويقيس كيف يرى ولده يسعى في المعاصي التي هي أسباب دخول النار ثم لا يبالي بذلك مع أن إهماله يوجب أن يعذب عليه لأنه عاص لله حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] فاتقوا الله أيها المسلمون وأدوا أمانة الله التي حملتموها فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وحمانا جميعا من الإضاعة والخيانة وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثالثة في أمانة اختبار الطلاب

[الخطبة الثالثة في أمانة اختبار الطلاب] الخطبة الثالثة في أمانة اختبار الطلاب الحمد لله أحمده وأشكره وأتوب إليه سبحانه وأستغفره قضى بالحق وأمر بالعدل وهو السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام بعبادة ربه ونصح أمته وبلغ البلاغ المبين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المسلمون فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] وقال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] سبحان الله، ما أظلم الإنسان وما أجهله، تعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فيمتنعن عن حملها ثم يأتي الإنسان فيتحملها نعم إن الإنسان هو الذي تحملها بما وهبه الله من عقل وما أعطاه من إرادة وتصرف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] إن الأمانة مسئولية عظيمة وعبء ثقيل على غير من خففه الله عليه، إنها التزام الإنسان بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه مخلصا له الدين وهي كذلك التزام بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير، كما تحب أن يقوموا بحقوقك من غير تقصير، ونحن بني الإنسان قد تحملنا الأمانة وحملناها على عواتقنا والتزمنا بمسئوليتها وسنسأل عنها يوم القيامة، فيا ليت شعري ما هو الجواب إذ سئلنا في ذلك اليوم العظيم اللهم تثبيتا وصوابا. أيها المسلمون، إن الله أمرنا أن نؤدي الأمانات إلى أهلها وأمرنا إذا حكمنا بين الناس أن نحكم بالعدل، هذان أمران لا تقوم الأمانة إلا بهما، أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وإننا الآن على أبواب اختبارات الطلبة من ذكور وإناث وإن الاختبارات أمانة وحكم فهي أمانة حين وضع الأسئلة وأمانة حين المراقبة وحكم حين التصحيح. أمانة حين وضع الأسئلة يجب على واضعي الأسئلة مراعاتها بحيث تكون على مستوى الطلبة المستوى الذي

يبين مدى تحصيل الطالب في عام دراسته بحيث لا تكون سهلة لا تكشف عن تحصيل ولا صعبة تؤدي إلى التعجيز. والاختبارات أمانة حين المراقبة فعلى المراقب أن يراعي تلك الأمانة التي ائتمنته عليها إدارة المدرسة، ومن ورائها وزارة أو رئاسة وفوق ذلك دولة بل ائتمنه عليها المجتمع كله، فعلى المراقب أن يكون مستعينا بالله يقظا في رقابته مستعملا حواسه السمعية والبصرية والفكرية يسمع وينظر ويستنتج من الملامح والإشارات، على المراقب أن يكون قويا لا تأخذه في الله لومة لائم يمنع أي طالب من الغش أو محاولة الغش؛ لأن تمكين الطالب من الغش غش، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من غش فليس منا» . وتمكين الطالب من الغش ظلم لزملائه الحريصين على العلم، المجدين في طلبه، الذين يرون من العيب أن ينالوا درجة النجاح بالطرق الملتوية. إن المراقب إذا مكن أحدا من هؤلاء المهملين الفاشلين في دراستهم إذا مكنهم من الغش، فأخذ درجة نجاح يتقدم بها على الحريصين المجدين كان ذلك ظلما لهم وكان كذلك ظلما للطالب الغاش، وهو في الحقيقة مغشوش حيث انخدع بدرجة نجاح وهمية لم يحصل بها على ثقافة ولا علم، ليس له من ثقافته ولا علمه سوى بطاقة يحمل بها شهادة زيف لا حقيقة، وإذا بحثت معه في أدنى مسألة مما تنبئ عنه هذه البطاقة لم تحصل منه على علم. إن تمكين الطالب من الغش خيانة لإدارة المدرسة، وللوزارة أو الرئاسة التي من ورائها، وخيانة للدولة وخيانة للمجتمع كله. وإن تمكين الطالب من الغش أو تلقينه الجواب بتصريح أو تلميح ظلم للمجتمع، وهضم لحقه حيث تكون ثقافته مهلهلة يظهر فشلها عند دخول ميادين السباق، ويبقى مجتمعنا دائما في تأخر وفي حاجة إلى الغير، وذلك لأن كل من نجح عن طريق الغش لا يمكن - إذا رجع الأمر إلى اختياره - أن يدخل مجال التعليم والتثقيف لعلمه أنه فاشل فيه. وإن تمكين الطالب من الغش كما يكون خيانة وظلما من الناحية العلمية والتقديرية، يكون كذلك خيانة وظلما من الناحية التربوية لأن الطالب بممارسته الغش يكون مستسيغًا له هينًا في نفسه فيتربى عليه ويربى عليه أجيال المستقبل، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. إن على المراقب أن لا يراعي شريفا ولا قريبا لقرابته ولا غنيا لماله إن عليه

أن يراقب الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عليه أن يؤدي الأمانة كما تحملها لأنه مسئول عنها يوم القيامة. ولربما قال مراقب إذا أديت واجب المراقبة إلى جنب من يضيع ذلك فقد أرى بعض المضايقات، فجوابنا عليه أن نقول اتق الله تعالى فيما وليت عليه واقرأ قول الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] أيها المسلمون: إن الاختبارات حكم حين التصحيح فإن المعلم الذي يقدر درجات أجوبة الطلبة، ويقدر درجات سلوكهم هو حاكم بينهم لأن أجوبتهم بين يديه بمنزلة حجج الخصوم بين يدي القاضي، فإذا أعطى طالبا درجات أكثر مما يستحق فمعناه أنه حكم له بالفضل على غيره مع قصوره، وهذا جور في الحكم، وإذا كان لا يرضى أن يقدم على ولده من هو دونه فكيف يرضى لنفسه أن يقدم على أولاد الناس من هو دونهم. إن من الأساتذة من لا يتقي الله تعالى في تقدير درجات الطلبة فيعطي أحدهم ما لا يستحق، إما لأنه ابن صديقه أو قريبه أو ابن شخص ذي شرف أو مال أو رئاسة، ويمنع بعض الطلبة ما يستحق إما لعداوة شخصية بينه وبين الطالب أو بينه وبين أبيه أو غير ذلك من الأسباب وهذا كله خلاف العدل الذي أمر الله به ورسوله فإقامة العدل واجبة بكل حال على من تحب ومن لا تحب، فمن استحق شيئا وجب إعطاؤه إياه ومن لا يستحق شيئا وجب حرمانه منه. أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن رواحة إلى اليهود في خيبر ليخرص عليهم الثمار والزروع ويضمنهم ما للمسلمين منها، فأراد اليهود أن يعطوه رشوة فقال رضي الله عنه منكرا عليهم تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى، يعني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأنتم أبغض إليّ من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي لكم وحبي إياه أن لا أعدل عليكم، فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض. تأملوا رحمكم الله هذا الكلام العظيم من عبد الله بن رواحة رضي الله عنه كان يحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم من محبة أي إنسان، ويبغض اليهود أشد من بغض القردة والخنازير، حب بالغ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبغض شديد لليهود يصرح بذلك رضي الله عنه لليهود ثم يقول لهم لا يحملني بغضي لكم وحبي إياه أن لا أعدل عليكم رضي الله عنك وعن جميع الصحابة. إن العدل أيها الإخوة لا يجوز أن يضيع بين عاطفة الحب

وعاصفة البغض يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ويقول سبحانه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ويقول تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] القاسطون هم الجائرون وهم من حطب جهنم والمقسطون هم العادلون وهم من أحباب الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال» (رواهما مسلم) . فاتقوا الله عباد الله وكونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة والحكم بالعدل والاستقامة وثبتني وإياكم على الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والردى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الرابعة في وجوب رعاية الأولاد والأهل

[الخطبة الرابعة في وجوب رعاية الأولاد والأهل] الخطبة الرابعة في وجوب رعاية الأولاد والأهل الحمد لله الذي من علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الأولاد واعلموا أن هذه النعمة فتنة للعبد واختبار، فإما منحة تكون قرة عين في الدنيا والآخرة سرور للقلب وانبساط للنفس وعون على مكابد الدنيا وصلاح يحدوهم إلى البر في الحياة وبعد الممات، اجتماع في الدنيا على طاعة الله، واجتماع في الآخرة في دار كرامة الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] وإن من أسباب هذه المحنة أن يقوم الوالد من أم وأب والأب هو المسئول الأول، لأنه راع في أهله ومسئول عن رعيته أن يقوم كل من الوالدين على أولاده وفي أولاده بما يجب عليه من رعاية وعناية وتربية صالحة ليخلف بعده ذرية صالحة تنفعه وتنفع المسلمين فإن العبد متى أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله له ما بينه وبين الخلق ومع حسن النية والاستعانة بالله وكثرة دعائه، واللجوء إليه يحصل الخير الكثير والتربية الصالحة. يقول الله تعالى في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] فوالله ما سألوا ذلك وقعدوا عن فعل الأسباب فإن العقل والشرع كل منهما يقتضي أنك إذا سألت الله شيئا فلا بد أن تفعل ما تقدر عليه من أسبابه فإن كل أحد لو سأل الله رزقا لسعى في أسبابه لأنه يعلم أن السماء لا تمطر ذهبا ولو سأل الله ذرية لسعى في حصول الزوجة لأن الأرض لا تنبت أولادا وهكذا إذا سأل الله صلاح ذريته، وأن تكون قرة عين له فلا بد أن يسعى بما يقدر عليه من أسباب ذلك؛ لتكون نعمة الأولاد منحة. أما الشطر الثاني من نعمة الأولاد فأن تكون محنة وعناء وشقاء وشؤما على أهلهم ومجتمعهم، وذلك فيمن لم يقم بما أوجب الله عليه لهم من رعاية وعناية وتربية صالحة، أهملهم فلم يبال بهم أكبر همه نحوهم حين كانوا شهوة قذفها في رحم الأم أضاع حق الله فيهم فأضاعوا حق الله فيه

لم يحسن إليهم بالتربية فلم يحسنوا إليه بالبر جزاء وفاقا ففاته نفعهم في الدنيا والآخرة، وأصبح من الخاسرين وليكونن من النادمين {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] لقد ضل أقوام اعتنوا بتنمية أموالهم ورعايتها وصيانتها وحفظها فأشغلوا أفكارهم وأبدانهم وانشغلوا بها عن راحتهم ومنامهم ثم نسوا أهلهم وأولادهم وما هي قيمة هذه الأموال بالنسبة للأهل والأولاد أليس من الأجدر بهؤلاء أن يخصصوا شيئا من قواهم الفكرية والجسمية لتربية أهلهم وأولادهم، حتى يكونوا بذلك شاكرين لنعمة الله ممتثلين لأمره حيث يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] لقد جعل الله لكم الولاية، وحملكم مسئولية الأهل، أمركم بأن تقوا أنفسكم وأهليكم تلك النار المزعجة، لم يأمركم أن تقوا أنفسكم فحسب بل أنفسكم وأهليكم، ومن عجب أن هؤلاء المضيعين لأمر الله في حق أولادهم وأهليهم لو أصابت نار الدنيا طرف من ولده أو كادت، لسعى بكل ما يستطيع لدفعها وهرع إلى كل طبيب للشفاء من حرقها، أما نار الآخرة فلا يحاول أن يخلص أولاده وأهله منها. أيها الناس: إن على كل واحد منا أن يراقب أهله وأولاده في حركاتهم وسكناتهم، في ذهابهم وإيابهم في أصحابهم وأخلائهم، حتى يكون على بصيرة من أمرهم، ويقين في اتجاهاتهم وسيرهم، فيقر ما يراه من ذلك صالحا وينكر ما يراه فاسدا ويكلمهم بصراحة ويأخذ منهم ويرد عليهم ولا يغضب فيجفوهم، ويعرض عنهم فإن ذلك يزيد من البلاء والفساد. إن الإنسان إذا لم يقم على مراقبة أهله وأولاده وتربيتهم تربية صالحة فمن الذي يقوم عليها؟ هل يقوم عليها أباعد الناس ومن لا صلة له فيهم، أو يترك هؤلاء الأولاد والأغصان الغضة تعصف بها رياح الأفكار المضللة، والاتجاهات المنحرفة والأخلاق الهدامة، فينشأ من هؤلاء جيل فاسد لا يرعى الله ولا للناس حرمة ولا حقوقا جيل فوضوي متهور لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا متحررا من كل رق إلا من رق الشيطان، منطلقا من كل قيد إلا من قيد الشهوة والطغيان، نعم لا بد أن تكون هذه هي النتيجة إلا أن يشاء الله. إن بعض

الناس يقول معتذرا أنا لا أستطيع تربية أولادي إنهم كبروا وتمردوا علي، وجوابنا على هذا أن تقول لو سلمنا هذا العذر جدلا أو حقيقة واقعة ثم فكرنا لوجدنا أنك أنت السبب في سقوط هيبتك من نفوسهم، لأنك أضعت أمر الله فيهم في أول أمرهم، فتركتهم يتصرفون كما يشاءون، لا تسألهم عن أحوالهم، ولا تأنس بالاجتماع إليهم، لا تجتمع معهم على غداء ولا عشاء ولا غيرهما، فوقعت الجفوة بينك وبين أولادك فنفروا منك ونفرت منهم فكيف تطمع بعد ذلك أن ينقادوا لك أو يأخذوا بتوجيهاتك، ولو أنك اتقيت الله في أول أمرك وقمت بتربيتهم على الوجه الذي أمرت لأصلح لك أمر الدنيا والآخرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] أيها الناس: لقد كانت المدارس تأخذ وقتا كثيرا من أوقات الأولاد، وتتحمل عبئا ثقيلا من تربيتهم، والآن وقد أوشكت المدارس على إغلاق أبوابها لهذا العام وأقبلت أيام عطلة الصيف فإن الأولاد سيجدون فراغا كبيرا، فكريا وزمنيا فعلينا أن نحاول ملء هذا الفراغ واستغلال هذه الفرصة من أعمال شبابنا بما يكون نافعا لهم، حتى لا تخمل أفكارهم أو يستغلوها بما يكون لغوا أو ضارا. إنه يمكن استغلال هذه الفرصة بقراءة الكتب النافعة كل بحسب طبقته، وما يتحمله عقله أو بمراجعة مقررات السنة التي نجح إليها أو بأعمال نافعة من بيع وشراء ومساعدة أبيه في أعماله. علينا أن نضاعف جهودنا في مراقبتهم وتربيتهم، وأن نشعر بأن العبء ثقيل علينا حتى ننمي هذه المضاعفة. وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أمر خطير يفعله بعض الطلاب في كتب دروسهم حين ينتهون منها، إنهم يرمون هذه الكتب في الأسواق تداس بالأرجل والنعال، بل يرمونها في المزابل مع الأقذار والأوساخ إنهم يرمون هذه الكتب غير مبالين بما فيها قد تكون كلام الله أو تفسيرا لكلام الله، أو حديثا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو شرحا لذلك، أو كلاما لأهل العلم يتضمن شرح أحكام الله، وكل هذا إهانة لهذه الكتب ووضع لقدرها. فعلى المؤمن أن يتقي ربه وأن يعظم ما أوجب الله عليه تعظيمه حتى يكون قائما بشكر الله عز وجل، ليزيده من فضله وإذا انتهى من هذه الكتب فليدخرها عنده أو يهدها لمن ينتفع بها،

أو يبعها، وإن لم تكن صالحة لذلك فليحرقها إن شاء إحراقا كاملا لا يبقى منها شيء، أما أن يرمي بهذه الكتب في المزابل والأسواق فهذا غير لائق وليس من شكر نعمة الله عليك الذي سهلها لك حتى أكملت دراستك بها. اللهم وفقنا للقيام بما أوجبت علينا من عبادتك، وحقوق عبادك واهدنا صراطك المستقيم، واغفر لنا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الخامسة في حفظ وقت الشباب وقت عطلة المدارس

[الخطبة الخامسة في حفظ وقت الشباب وقت عطلة المدارس] الخطبة الخامسة في حفظ وقت الشباب وقت عطلة المدارس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما خولكم من الأموال والأولاد واعلموا أن هذه النعمة إما منحة يسعد بها الإنسان في دنياه وآخرته، وإما محنة تكون سببا لخسارته وشقوته، فإن راعى الإنسان هذه النعمة وقام بما أوجب الله عليه فيها فهي منحة وسعادة وإن ضيع واجب الله فيها وأهملها صارت محنة وشقوة. أيها الناس: في هذه الأيام يختتم الشباب عامه الدراسي الذي أمضى فيه جهدا كبيرا في النظر والعمل، وسوف يعاني من مشكلة الفراغ التي قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» وهاتان النعمتان متوفرتان الآن لشبابنا فما أدري أيكون شبابنا من الكثير المغبون فيهما أم سيكون من ذوي الحزم والقوة الذين يربحون أوقات صحتهم وفراغهم؟ . أيها الناس إن هذا الفراغ الذي حصل للشباب بعد انقضاء العام الدراسي الذي كانوا فيه مشتغلين مستغلين أوقاتهم وقواهم العقلية والفكرية والجسمية، هذا الفراغ الذي حصل لا بد أن ينعكس آثاره على نفوسهم وتفكيرهم وسلوكهم، فإما أن يستغلوه في خير وصلاح، فيكون ربحا وغنيمة للفرد والمجتمع يربح فيه النفس والوقت ويستغل قواه فيما يسعده ويسعد أمته وإما أن يستغلوه في شر وفساد، فيكون خسارة وغبنا للفرد والمجتمع يخسر فيه نفسه ووقته، ويستغل قواه فيما يشقى به وتشقى به الأمة وإما أن يمضوا أوقاتهم ويضيعوها سدى لا يعملون ولا يفيدون يتجولون في الأسواق والمجالس بأذهان خاوية وأفكار ميتة ينتظرون طلوع الشمس وغروبها ووجبات غذائهم فتتجمد أفكارهم وتتبلد أذهانهم ويصيرون عالة على المجتمع. إن الشباب بعد الجهد الجهيد الذي أمضاه في عامه الدراسي إذا صارت العطلة فسيجد الفجوة الواسعة بين حالته وحالته بالأمس وسيحس بالفراغ النفسي والفكري سيقول

ماذا أعمل بماذا أمضي هذه العطلة ولكن الشباب المتطلع إلى المجد والعلى يستطيع أن يستغل هذه العطلة بما يعود عليه وعلى أمته بالخير. يمكن أن يستغل وقت العطلة بمذاكرة العلم ودراسته سواء في دروسه الرسمية الماضية أو المستقبلة، أو في دروس أخرى يتثقف بها ثقافة، فيقرأ في كتب التفسير القيمة السالمة من الزيغ في تحريف معاني القرآن ويقرأ في كتب الحديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم، ويقرأ في كتب التاريخ المعتمدة البعيدة عن الأهواء، لا سيما تاريخ صدر الإسلام كسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين، لأنها سيرة وسلوك تزيد القارئ علما بأحوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه ومحبة لهم، وفقها في الدين والأسرار أحكامه وتشريعاته. وليحذر الشباب من النظر أو القراءة فيما يخشى منه على عقيدته وأخلاقه وسلوكه سواء كانت كتبا مؤلفة أو صحفا يومية أو مجلات أسبوعية، فإن كثيرا من الناس ينظر في مثل هذا أو يقرؤه يظن أنه واثق من نفسه ثم لا يزال الشر يتجارى به فلا يستطيع الخلاص منه. وإن الشباب إذا لم يمكنه استغلال العطلة بالقراءة والنظر، فإنه يمكنه أن يستغلها بالعمل البدني يكون مع أبيه في دكانه أو فلاحته أو مصنعه، أو أية مهنة مباحة يمارسها أو يشتغل في عمل حكومي أو شعبي ليكسب من ذلك ويفيد غيره، ويسلم من خمول الذهن وتبلبل الفكر واضطراب المنهج والسلوك فإن ذلك ينتج عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع. إن الشباب إذا لم يمكنه استغلال العطلة بالقراءة والنظر ولا بالعمل البدني فإنه يمكنه أن يقضي وقتا في رحلة يكسب بها استطلاعا على البلاد، وتعرفا على إخوانه ودعوة إلى دين الله بشرط أن يحافظ على دينه وخلقه، فيصلي الصلاة بوقتها على الوجه المطلوب ويتجنب كل رذيلة وخلق سافل، ويستصحب القرناء الصالحين الذين يذكرونه إذا نسي ويقومونه إذا اعوج. أيها الناس إننا نتحدث عن الشباب؛ لأنهم جيل المستقبل ورجال الغد، وأمانة في أعناق من فوقهم وفي أعناق أوليائهم بالذات، ولقد كان للمدرسة أثناء الدراسة دور كبير في حفظهم ورعايتهم، أما الآن فقد أصبح العبء الثقيل والمسئولية على أولياء أمورهم من الآباء والأمهات والأخوة والأعمام فعلى هؤلاء مراعاة أولادهم، وحمايتهم من ضياع الوقت وانحراف العمل والسلوك عليهم، أن يتفقدوهم كل وقت وأن يمنعوهم من معاشرة ومصاحبة من يخشى

عليهم منه الشر والفساد، فإنهم عنهم مسئولون وعلى إهمالهم رعايتهم وتأديبهم معاقبون. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] أعانني الله وإياكم على أداء الأمانة وحسن التوجيه والرعاية ووهب لنا منه رحمة وجعلنا هداة مهتدين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . إلخ.

الفرع الحادي عشر في القضاء والشهادة

[الفرع الحادي عشر في القضاء والشهادة] [الخطبة الأولى في التحذير من الرشوة] الفرع الحادي عشر في القضاء والشهادة الخطبة الأولى في التحذير من الرشوة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من أداء الأمانة في الأمور كلها قوموا بذلك مخلصين لله متبعين لأمره قاصدين بذلك إبراء ذمتكم وإصلاح مجتمعكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27 - 28] أيها المؤمنون: إن الأمانة ليست بالأمر الهين، إنها دين وذمة ومنهج وطريقة، إنها حمل ثقيل وعبء جسيم ومسئولية عظيمة إنها عرضت على السماوات والأرض والجبال، وما أعظمها قوة وصلابة فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وتحملتها أنت أيها الإنسان، تحملتها بما أنعم الله به عليك من العقل والفهم وبما أنزل الله إليك من الوحي والعلم، فبالعقل والفهم تدركون وتميزون وبالوحي والعلم تستنيرون وتهتدون، وبذلك كنتم أهلا لتحمل مسئولية الأمانة والقيام بأعبائها، فأدوا الأمانة كما حملتموها أدوها على الوجه الأكمل المطلوب منكم، لتنالوا بذلك رضا ربكم وصلاح مجتمعكم فإن بضياع الأمانة فساد المجتمع واختلال نظامه وتفكك أواصره. أيها المسلمون: إن من حماية الله لهذه الأمانة أن حرم على عباده كل ما يكون سببا لضياعها أو نقصها، فحرم الرشوة وهي بذل المال للتوصل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه أو إعفائه مما هو حق عليه، يقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ويقول سبحانه في ذم اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] والرشوة من السحت، كما فسر الآية به ابن مسعود وغيره وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الراشي والمرتشي، وفي لفظ لعنة الله على الراشي والمرتشي. وهذا إما خبر من

النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو دعاء على الراشي والمرتشي بلعنة الله، وهي الطرد والإبعاد عن رحمة الله كما لعن الشيطان فطرد وأبعد عن رحمة الله عز وجل، أيها المسلمون إن لعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير وإن الرشوة لمن أكبر الفساد في الأرض، لأنها بها تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات ما هو باطل ونفي ما هو حق. إن الرشوة فساد في المجتمع وتضييع للأمانة، وظلم للنفس يظلم الراشي نفسه ببذل المال لنيل الباطل ويظلم المرتشي نفسه بالمحاباة في أحكام الله يأكل كل منهما ما ليس من حقه ويكتسب حراما لا ينفعه بل يضره ويسحت ماله أو بركة ماله إن بقي المال. إن الرشوة تكون في الحكم فيقضى من أجلها لمن لا يستحق، أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم، وتكون الرشوة في تنفيذ الحكم فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة، سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ، أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة. إن الرشوة تكون في الوظائف والمسابقة فيها، فيقدم من أجلها من لا ينجح أو تعطى له أسئلة المسابقة قبل الامتحان فيولى الوظيفة من غيره أحق منه، وفي الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «من استعمل رجلا من عصابة - أي من طائفة - وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (رواه الحاكم وصحح إسناده) . وإن الرشوة تكون في تنفيذ المشاريع ينزل مشروع عمل في المناقصة فيبذل أحد المتقدمين رشوة، فيرسو المشروع عليه مع أن غيره أنصح قصدا وأتقن عملا ولكن الرشوة عملت عملها. وإن الرشوة تكون في التحقيقات الجنائية أو الحوادث أو غيرها، فيتساهل المحققون في التحقيق من أجل الرشوة، وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول (رواه أبو داود ومن حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه) والغلول إثمه عظيم، فقد «جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: استشهد مولاك أو قال: غلامك فلان، قال: بل يجر إلى النار في عباءة غلها» (رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح) . وأغرب من ذلك أن تدخل الرشوة في التعليم والثقافة، فينجح من أجلها من لا يستحق النجاح، أو تقدم له أسئلة الامتحان أو يشار إلى أماكنها من المقررات، أو يتساهل المراقب في مراقبة الطالب من أجلها فيتقدم هذا الطالب مع

ضعف مستواه العلمي ويتأخر من هو أحق منه لقوة مستواه العلمي. عباد الله لقد سمعتم عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة، وهي اللعن والطرد عن رحمة الله، وسمعتم شيئا من مفاسدها في المجتمع أفلا يكون في ذلك رادع عنها لكل مؤمن يخشى الله ويخاف عقابه، ولكل مخلص يحافظ على دينه ومجتمعه كيف يرضى أن يعرض نفسه لعقوبة الله كيف يرضى أن يذهب دينه وأمانته من أجل حطام من الدنيا لا يدري لعله لا يأكله فيموت قبل أن ينعم به، كيف يليق بالعاقل أن يسعى في فساد المجتمع وهلاكه. إن الأعمال أيها المسلمون دروس يأخذها الناس بعضهم من بعض، فإذا فشت الرشوة في جهة من جهاته انتشرت في بقية الجهات وصار على من عمل بها أولا وزرها ووزر من عمل بها مقتديا به إلى يوم القيامة. فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على دينكم وأمانتكم، وفكروا قليلا أيما خير لكم أن تكونوا قائمين بالعدل، بعيدين عن الدناءة حائزين لرضا الله ومثوبته، أم تكونوا جائرين مخلدين إلى الأرض متعرضين لسخط الله وعقوبته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا - إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 70 - 73] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . إلخ.

الخطبة الثانية في التحذير من التهاون بالشهادة

[الخطبة الثانية في التحذير من التهاون بالشهادة] الخطبة الثانية في التحذير من التهاون بالشهادة الحمد لله الملك العظيم العزيز الحكيم، له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم ما تخفون وما تعلنون {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ - وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 19 - 20] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والحكم والتدبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بين لأمته ما فيه خيرها وسعادتها وحذرها من سوء العاقبة والمصير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى، وأقيموا الشهادة لله أقيموها لله وحده، لا تقيموها لقريب من أجل قرابته، ولا لصديق من أجل صداقته، ولا لغني من أجل غناه، ولا لفقير من أجل فقره، ولا تقيموها على بعيد من أجل بعده، ولا على عدو من أجل عدواته، أقيموا الشهادة لله وحده، أقيموها كما أمركم بذلك ربكم وخالقكم ومدبر أموركم والحاكم بينكم والعالم بسركم وعلانيتكم أقيموها كما قال الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] أيها المسلمون: إن الشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم في تحملها وأدائها فلا يحل كتمانها {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] ولا يحل أن يشهد إلا أن يكون عالما بما يشهد به علما يقينا، وأنه مطابق للواقع تماما فلا يحل أن يشهد بما لا يعلم، ولا بما يعلم أن الأمر بخلافه بل لا يحل أن يشهد، ولا بما يغلب على ظنه حتى يعلمه يقينا كما يعلم الشمس فعلى مثلها فليشهد أو ليترك. أيها المسلمون: إن من الناس اليوم من يتهاون بالشهادة فيشهد بالظن المجرد، أو بما لا يعلم أو بما يعلم أن الواقع بخلافه يتجرأ على هذا الأمر المنكر العظيم مراعاة لقريب، أو توددا لصديق أو محاباة لغني، أو عطفا على فقير يقول إنه يريد الإصلاح بذلك زين له سوء عمله فرآه حسنا

كما زين لغيره من أهل الشر والفساد سوء عمله فرآه حسنا فالمنافقون زين في قلوبهم النفاق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فقال الله فيهم: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] عباد الأصنام زين في قلوبهم عبادتها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وهي في الواقع لا تزيدهم من الله إلا بعدا. أيها الناس: إن كل مفسد ربما يدعي أنه مصلح أو ربما يظن أنه مصلح بسبب شبهة عرضت له فالتبس عليه الإفساد بالإصلاح أو بسبب إرادة سيئة زينت له، فاتبع هواه ولكن الصلاح كل الصلاح باتباع شريعة الله وتنفيذ أحكامه والعمل بما يرضيه. أيها المسلمون: إن من الناس من يشهد لشخص بما لا يعلم أنه يستحقه بل بما يعلم أنه لا يستحقه يدعي أنه عاطف عليه وراحم له بذلك والحق أن هذا الشاهد لم يرحم المشهود له ولم يرحم نفسه، بل أكسبها إثما بما شهد به وأكسب المشهود له إثما فأدخل عليه ما لا يستحقه وظلم المشهود عليه إن كان فاستخرج منه ما لا يجب عليه. إن من الناس من يشهد للموظف المهمل لوظيفته بمبررات لإهماله لا حقيقة لها فيشهد له بالمرض وهو غير مريض، أو يشهد له بشغل قاهر وهو غير مشغول، أو يشهد له بنقل أهله إلى مقر عمله الجديد وهو لم ينقلهم، أو باستئجاره سيارة وهو لم يستأجر، أو يشهد بأجرة أكثر مما استأجرها به، وكل هذا من الشهادة بالباطل. وإن من الناس من يشهد لشخص بأنه قام بالوظيفة منذ وقت كذا وهو لم يقم بها ولم يباشرها، يزعم الشاهد بذلك أنه يريد الإصلاح بنفع المشهود له ولم يدر أنه بهذه الشهادة ضر نفسه وضر المشهود له وأفسد على نفسه وعلى المشهود له ما أفسد من دينه. لقد قال الله تعالى بعد أن أمر بإقامة الشهادة بالقسط، قال: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] فلا تشهد لغني من أجل غناه ولا لفقير من أجل فقره، فإن الله أولى بهما بل أقم الشهادة لله وحده. أيها المسلمون: إن شهادة الإنسان بما لا يعلمه علما يقينا مثل الشمس أو بما يعلم أن الواقع بخلافه سواء شهد للشخص أو عليه هي من شهادة الزور التي حذر منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلها من أكبر الكبائر، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ثلاثا ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال

الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قالوا لا يسكت أو قالوا ليته سكت» . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكبائر، فقال «الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور» . أيها المسلمون: إن هذين الحديثين الصحيحين الثابتين عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليتبين بهما تعظيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشهادة الزور والتحذير منها، لقد عظم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التحذير منها بقوله وفعله عظمه بفعله حيث كان يتحدث عن الشرك والعقوق متكئا، فلما ذكر شهادة الزور جلس ليبين فداحتها وعظمها. وعظمه بقوله حين جعل يكرر القول بها حتى قال الصحابة لا يسكت، أو تمنوا أن يسكت، وعظمه أيضا حين صدر القول عنها بأداة التنبيه (ألا) وحين فصلها في حديث أنس عما قبلها من الكبائر، وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. أيها المسلمون: أيها المؤمنون بالله ورسوله أيها الراجون لرحمة الله أيها الخائفون من عذابه أيها المؤمنون بيوم الحساب يوم تقفون بين يدي الله عز وجل لا مال ولا بنون تنظرون أيمن منكم فلا ترون إلا ما قدمتم وتنظرون أشأم منكم فلا ترون إلا ما قدمتم وتنظرون أمامكم فلا ترون إلا النار تلقاء وجوهكم. إنكم ستسألون عما شهدتم به وعمن شهدتم عليه أو شهدتم له فاتقوا واحذروا. أيها المؤمنون تصوروا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو المبلغ عن الله القائم بأمر الله الناصح لعباده تصوروه وهو يعرض على أمته بنفسه أن ينبئهم بأكبر الكبائر ليحذروها ويبتعدوا عنها وتصوروه كأنه أمامكم كان متكئا ثم يجلس عند ذكر شهادة الزور وتصوروه يكرر ويؤكد أن شهادة الزور من أكبر الكبائر لو تصورتم ذلك لعرفتم حقيقة شهادة الزور. لقد تحدث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الشرك والعقوق وهو متكئ لم يجلس، لأن الداعي إلى الشرك والعقوق ضعيف في النفوس لأنه مخالف للفطرة لكنه جلس حينما تحدث عن شهادة الزور لأن الداعي إليها قوي، وكثير فالقرابة والصداقة والغنى والفقر كلها قد تحمل ضعيف العقل والدين على أن يشهد بالزور، لكن المؤمن العاقل حينما يعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحذر من شهادة الزور هذا التحذير البليغ لا يمكنه أن يقدم على شهادة الزور، مهما كانت الأسباب والدواعي.

أيها المسلمون: إن شهادة الزور مفسدة للدين والدنيا وللفرد والمجتمع، إنها معصية لله ورسوله إنها كذب وبهتان وأكل للمال بالباطل فالمشهود له يأكل ما لا يستحق والشاهد يقدم له ما لا حق له فيه. إن شهادة الزور سبب لانتهاك الأعراض وإزهاق النفوس فإن الشاهد بالزور إذا شهد مرة هانت عليه الشهادة ثانية، وإذا شهد بالصغير هانت عليه الشهادة بالكبير لأن النفوس بمقتضى الفطرة تنفر من المعصية، وتهابها فإذا وقعت فيها هانت عليها وتدرجت من الأصغر إلى ما فوقه. أيها المسلمون: إن شهادة الزور ضياع للحقوق وإسقاط للعدالة وزعزعة للثقة والأمانة، وإرباك للأحكام وتشويش على المسئولين والحكام، فهي فساد الدين والدنيا والآخرة وفي الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد) . فالحذر الحذر أيها المسلمون من شهادة الزور، وإن زينها الشيطان في قلوبكم ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تصرفكم عن الحق ظنون كاذبة، أو إرادات آثمة فتشاقوا الله ورسوله وتتبعوا غير سبيل المؤمنين. وفقني الله وإياكم لإقامة الحق والعدل والبيان وجنبنا الباطل والجور والبهتان وحمانا عما يضرنا في ديننا ودنيانا إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

القسم الخامس في الفتن

[القسم الخامس في الفتن] [الخطبة الأولى في شيء من الفتن قبل قيام الساعة] القسم الخامس في الفتن الخطبة الأولى في شيء من الفتن قبل قيام الساعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن احذروا كل ما يصدكم عن دينكم من مال وأهل وولد: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] احذروا فتنة القول، وفتنة العمل وفتنة العقيدة والآراء الهدامة والمشاهدات السيئة، فإن ذلك كله يصدكم عن دينكم ويوجب هلاككم انظروا إلى سلفكم الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، واسلكوا طريقهم فإنكم بذلك أمرتم وبذلك تفلحون إن تمسكتم. قد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته بما سيكون إلى قيام الساعة، فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته بفتن في آخر الزمان لعلهم يحذرون ويتقون ويرجعون إلى ما كان أسلافهم ويتمسكون. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فتن الدين بما يحدث من المغريات المادية والفكرية، فقال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (رواه مسلم) . وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فتنة الجهل والطمع والفوضى، فقال صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا يا رسول الله وما الهرج قال القتل» (متفق عليه) لقد قبض العلم وقل العلماء الربانيون قل العلماء أهل الخشية لله وأهل الهداية إن العلم حقيقة هو العلم النافع الذي يكون صاحبه قدوة في الخير والصلاح، والزهد والورع واتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه الراشدين، ولقد ظهرت الفتن شتى من كل نوع ومن كل وجه ظهر الطعن في الإسلام والتشكيك في الدين وتزهيد الناس فيه وسلب محبته من قلوب الناشئين، تصاعدت الفتنة من جزئيات الدين وفرعياته إلى أصوله وأركانه وتطورت الفتنة من الأفراد، والأقليات إلى أن نسبت إلى الزعماء والرؤساء وتلك طامة كبرى ومصيبة عظمى أن تتدرج الفتن هذا التدرج وتتوسع هذا التوسع في حجمها وشكلها.

نسأل الله الثبات والسلامة. «سأل حذيفة بن اليمان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل بعد الخير الذي جاء به من شر قال نعم وهل بعد هذا الشر من خير قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعم، وفيه دخن قلت وما دخنه، قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت فهل بعد ذلك من شر قال نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتا» . ولقد ألقي الشح والطمع في قلوب العباد حتى منعت الزكاة المفروضة والنفقات الواجبة وطمع الإنسان فيما ليس له به حق وكثرت الفوضى والقتل. لقد أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فتنة الأمانة وأنها سترفع فلا تكاد ترى أمينا يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه قال ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» (متفق عليه) . ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقد قبضت الأمانة فلا تكاد ترى أمينا ولقد صار الأمناء يعدون بالأصابع فترى القبيلة ليس فيها إلا أمين واحد وترى الرجل يعجبك في عقله وظرفه وجلده لكن ليس في قلبه إيمان، لأن الأمانة نزعت منه جاء أعرابي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «متى الساعة فقال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وكيف إضاعتها قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (رواه البخاري) . ألا وإن من الفتن الكبيرة العظيمة فتنة المال التي قل من يسلم منها قل من يأخذ المال من وجهه ويصرفه في وجهه فكان الحلال عند كثير من الناس ما حل في يده بأي طريق كان والمصروف منه ما صرفه في هواه ولو في الحرام. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن الحلال أم من الحرام» (رواه البخاري) . ولقد صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن كثير من الناس لا يبالون بالمال من أي وجه اكتسبوه كأنما خلقوا للمال والدنيا ولا حساب عليهم في ذلك ولا عقوبة يكسبون المال بالغش وبالكذب وبالرشوة وبالربا صريحا أو خداعا وحيلة ويكتسبون المال بالدعاوي الباطلة فيدعون ما ليس لهم أو يجحدون ما كان عليهم ولا خير في مال عاقبته العذاب والنكال. فاحذروا أيها المسلمون هذه الفتن واجتنبوها فإنها إذا ظهرت عمت المجتمع كله وأصابت الصالح والفاسد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]

وقالت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها: «استيقظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النوم محمرا وجهه يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها، قيل أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث» (رواه البخاري) . ولقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الفرار من الفتن خير للعبد ولو أن يكون صاحب غنم فقال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (رواه البخاري) . وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته أن يستعيذوا من الفتن في كل صلاة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إذا تشهد أحدكم أي قرأ التحيات فليستعذ بالله من أربع يقول أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال، وأمر بالصلاة لمدافعة الفتن» كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: «استيقظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة فزعا يقول سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن من يوقظ صواحب الحجرات، يعني زوجاته لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» . اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم بصرنا بالحق وارزقنا الثبات عليه اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا رب العالمين. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الخطبة الثانية في شيء من الفتن أيضا

[الخطبة الثانية في شيء من الفتن أيضا] الخطبة الثانية في شيء من الفتن أيضا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأنيبوا إليه واثبتوا على دينه واستقيموا إليه فإن دين الله دين الحق ووسيلة الصلاح في الدنيا والآخرة واحذروا الزيغ والضلال عنه فإن في ذلك الفساد والشقاوة في الدنيا والآخرة واحذروا الفتن احذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن الفتن كل ما يصد عن دين الله من مال أو أهل أو ولد أو عمل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 15 - 16] اتقوا فتنة ينتشر شرها وفسادها إلى الصالحين كما أصاب الظالمين {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] احذروا فتنة العقيدة الباطلة والآراء المنحرفة والأخلاق السافلة، واحذروا كل فتنة في القول أو في الفعل فإن الفتن أوبئة فتاكة سريعة الانتشار إلى القلوب والأعمال إلى الجماعة والأفراد، فتصيب الصالح والطالح في آثارها وعقوباتها. فلقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من الفتن، فقال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» (رواه مسلم) . إنها فتن مظلمة لا نور فيها كقطع الليل المظلم تؤثر في عقيدة المسلم بين عشية وضحاها يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ وذلك لأنها فتن قوية ترد على إيمان ضعيف أضعفته المعاصي وأنهكته الشهوات، فلا يجد مقاومة لتلك الفتن ولا مدافعة فتفتك به فتكا وتمزقه كما يمزق السهم رميته. أيها الناس إننا في هذا العصر، بما فتح علينا من الدنيا فتداعت علينا الأمم من أجلها فاختلطوا بنا. إننا بهذا الفتح الدنيوي لعلى مفترق طرق، وفي دور تحول نرجو ألا يكون تحورا فعلى دينكم أيها المؤمنون فاثبتوا ولطريق نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسلفكم الصالح رضي الله عنهم فاسلكوا. يقول ربكم تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]

فهذه عباد الله وصية الله تعالى إليكم أن تتبعوا صراطه المستقيم وأن لا تتبعوا سبيلا يخالفه فتفرق بكم الطرق عن سبيله وتجترفكم الأهواء. أيها الناس: إن نسمع ونشاهد في كل وقت فتنا تترى علينا بدون فتور أو ضعف؛ لأنها -وللأسف - تجد مكانا متسعا ومربعا مرتعا فتنا توجب الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن العلم بهما والعمل، فتنا تتوارد لا أقول من هناك فحسب ولكن من هناك ومن ههنا من أعدائنا ومن بني جلدتنا. نسمع (مثلا) من يدعو إلى اختلاط النساء بالرجال وإلغاء الفوارق بينهم، إما بصريح القول أو بالتخطيط الماكر البعيد والعمل من وراء الستار وكأن هذا الداعي يتجاهل، أو يجهل أن دعوته هذه خلاف الفطرة والجبلة التي خلق الله عليها الذكر والأنثى وفارق بينهما خلقة وخلقا، كأن هذا الداعي يتجاهل أو يجهل أن هذا خلاف ما يهدف إليه الشرع من بناء الأخلاق الفاضلة، والبعد عن الرذيلة فلقد شرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يوجب بعد المرأة عن الاختلاط بالرجل فكان يعزل النساء عن الرجال في الصلاة ويقول خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها لماذا؟ لماذا يكون شر صفوف النساء أولها أقرب إلى الرجال من آخرها، فكان شرها وآخرها أبعد عن الرجال من أولها فكان خيرها، إذن فكلما ابتعدت المرأة عن الاختلاط بالرجال فهو خير، وكلما قربت من ذلك فهو شر. كأن هذا الداعي إلى اختلاط النساء بالرجال يتجاهل أو يجهل ما حصل لأمة الاختلاط من الويلات والفساد وانحطاط الأخلاق وانتشار الزنا وكثرة أولاد الزنا حتى أصبحوا يتمنون الخلاص من هذه المفاسد فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. ونسمع من يدعو إلى سفور المرأة وتبرجها وإبراز وجهها ومحاسنها وخلع جلباب الحياء عنها يحاول أن تخرج المرأة سافرة بدون حياء، وكأن هذا الداعي يجهل أو يتجاهل أن الحياء من جبلة المرأة التي خلقت عليها، وأن الحياء من دينها الذي خلقت له. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الحياء من الإيمان» . وقال: «مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» . كأن هذا الداعي إلى السفور يجهل أو يتجاهل ما يفضي إليه من الشر والفساد واتباع النساء

الجميلات ومحاولة غير الجميلة أن تجمل نفسها لئلا تبدو قبيحة مع من يمشي من الجميلات في السوق، فيبقي مجتمع النساء الإسلامي معرض أزياء. ومن عجب أني قرأت لكاتب من دعاة السفور كلاما ساق فيه حديثا ضعيفا، قال فيه: إنه حديث صحيح متفق على صحته وهذا الحديث رواه أبو داود «أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: (دخلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» . لكن هذا الحديث ضعيف لأنه غير متصل السند ولا موثوق بجميع رواته. ونسمع من الفتن ما يروجه أعداء الإسلام من الدعاية الكاذبة العارمة لتفخيمهم وترويج بضاعة مدنيتهم الزائفة وحضارتهم المنهارة يروجون ذلك باسم التقدم والرقي والتطور والتثقيف العالمي وما أشبه ذلك من العبارات الفخمة الجزلة التي تنبهر بها عقول كثير من الناس، فيصدقون بما يقال ثم يلهثون وراء هؤلاء الأعداء المروجين بالتقليد الأعمى والتبعية غير المعقولة، بدون تأمل أو نظر في الفوارق والعواقب: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36] فرويدك أيها المخدوع رويدك. إن كل شيء نافع في حضارة هؤلاء الذين أغرتك دعايتهم وغرتك إن كل نافع فيها إن قدر ففي الدين الإسلامي ما هو خير منه وأنفع، وأضبط للمجتمع وأجمع فارجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته وسيرة خلفائه وسلف الأمة لترى فيها كل خير نافع للعالم في معاشهم ومعادهم في حاضرهم ومستقبلهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ارجع إلى ذلك لترى ما يحاول هؤلاء الأعداء بكل قواهم أن يصدوك عنه لأنهم يعلمون أنك لو طبقته تماما لملكت عواصم بلادهم: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] أيها المسلمون: أيها المؤمنون إن أعداءنا ليهونون هذه الفتن في نفوسنا فيجلبونها إلينا بعد أن أفسدتهم ليفسدونا بها كما فسدوا {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] وما زال الناس في عصرنا هذا يشاهدون ويسمعون كل وقت مظهرا جديدا من مظاهر الفتن كل فتنة يستنكرها الناس ويشمئزون حتى إذا لانت نفوس بعضهم إليها جاءت فتنة أخرى أعظم منها.

وإن السعيد لمن وقي الفتن ومن ابتلي بها فليصبر على دينه وليثبت عليه. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» . فاتقوا الله عباد الله ولا تنخدعوا بهذه الفتن ولا بكثرة الداعين إليها فإن الهدى هدى الله ودين الله لا يتغير بتغير الزمن والباطل لا ينقلب حقا بكثرة الداعين إليه والعاملين به. اللهم أصلح لنا ديننا. . إلخ.

الخطبة الثالثة في أمور أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم محذرا منها

[الخطبة الثالثة في أمور أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم محذرا منها] الخطبة الثالثة في أمور أخبر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ محذرا منها الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، شهادة له بصدقه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وملكه، وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بلغ ما أنزل إليه من ربه على أكمل وجه وأتمه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعه في هديه وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا أسباب سخطه وعقابه، وتوبوا إلى ربكم بالرجوع عن معصيته إلى طاعته وعن أسباب سخطه إلى بلوغ مرضاته. احذروا ما حذركم منه نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه الناصح الأمين المبلغ، فلقد حذركم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمور فيها هلاككم لتحذروها وبينها لكم لتعلموها وجاء عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ التحذير من أمور أصبحتم اليوم واقعين فيها أو في أكثرها. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إذا اتخذ الفيء دولا - والأمانة مغنما - والزكاة مغرما - وتعلم لغير الدين - وأطاع الرجل امرأته وعق أمه -وأدنى صديقه - وأقصى أباه - وظهرت الأصوات في المساجد - وساد القبيلة فاسقهم - وكان زعيم القوم أرذلهم - وأكرم الرجل مخافة شره - وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور - ولعن آخر هذه الأمة أولها. فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتتابع كنظام قطع سلكه فتتابع» (رواه الترمذي) . وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له شاهد من الحديث، وشاهد من الواقع، فإن الخصال المذكورة في هذا الحديث صارت في زمننا حقائق مشهودة ملموسة فاستمعوا. الخصلة الأولى: اتخاذ الفيء دولا، والفيء ما أفاءه الله على المؤمنين فإذا صرف عن أهله المستحقين له إلى آخرين لا يستحقونه من أهل الشرف والجاه والغنى والقوة فقد اتخذ دولا قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] الخصلة الثانية: اتخاذ الأمانة مغنما وهذه ذات معان كثيرة منها أن يخون المؤمن في أمانته التي اؤتمن عليها فينكرها أو يتصرف فيها كما يتصرف الغانم في غنيمته. الخصلة الثانية: اتخاذ الزكاة مغرما فيؤديها كأنها غرامة وضريبة خسرها لا يؤديها بطيب

نفس واحتساب أجر وتعبد لله عز وجل وقيام بفريضة من فرائض الإسلام. ومن أجل اتخاذ الزكاة مغرما تجده يبخل بها ما يؤدي منها بتثاقل، ونقص وربما وضعها في غير أهلها. الخصلة الرابعة: أن يتعلم العلوم الشرعية لغير الدين فلا يتعلمها تقربا إلى الله ولا حفظا لشريعة الله ولا رفعا للجهل عن نفسه وعن عباد الله وإنما يتعلمها لنيل المال والشهادة والجاه والرئاسة. الخصلة الخامسة والسادسة: أن يطيع الرجل امرأته ويعق أمه، فإذا أمرته زوجته بشيء لبى جميع طلبها سريعا، وإذا أمرته أمه به أعرض أو تثاقل أو أتى به ناقصا. الخصلة السابعة والثامنة: أن يدني الرجل صديقه ويقصي أباه تجده ملازما لصديقه يظهره على أسراره ويستشيره في أموره أما مع أبيه، فمتباعد عنه كاتم عنه أسراه لا يأنس بالجلوس عنده ولا ينبسط بالتحدث معه. الخصلة التاسعة: ظهور الأصوات في المساجد حتى تصبح لا قيمة لها ولا احترام يزعق الناس فيها ويصرخون كما يزعقون في بيوتهم وأسواقهم غير مبالين ببيوت الله التي بنيت لعبادته وذكره. الخصلة العاشرة: أن يسود القبيلة فاسقهم أي أن يكون الفاسق العاصي لله ورسوله سيد قبيلته. إما لظهور الفسق فيهم، وكونه ذا قيمة في نفوسهم، فيكون السيد فيهم من بلغ غاية الفسق. وإما لكون الدين لا أثر له في السيادة والقيادة والأثر كله للمال والجاه فصاحبهما هو السيد وإن كان فاسقا. الخصلة الحادية عشرة: أن يكون زعيم القوم أرذلهم والزعيم الرئيس وكان ينبغي له أن يكون أعلى قومه دينا وخلقا ورجولة وشهامة ولكن تنعكس الأمور فيكون أرذل القوم في ذلك. الخصلة الثانية عشرة: أن يكرم الرجل مخافة شره فلا يكرم الرجل لأنه أهل للإكرام في دينه أو خلقه أو جاهه أو إحسانه إلى الناس بل هو خال عن ذلك كله فليس أهلا للإكرام ولكن لشره وعدوانه يكرمه الناس خوفا منه. الخصلة الثالثة عشرة: ظهور القينات والمعازف والقينات المغنيات والمعازف آلات العزف

والطرب. ولقد ظهرت القنيات والمعازف في زمننا الحاضر ظهورا فاحشا، ما ظهرت مثله قط ظهورا مسموعا بالآذان ومشهودا بالعيان في كل وقت، وفي كل مكان في البيت والسوق والدكان، وفي وقت الصلاة ومع الأذان حتى صارت المعازف متعة كثير من الناس، ومنتهى أنسهم أنسوا بما يصرفهم عن ذكر الله ونسوا ما خلقوا له من عبادة الله وتعلقت قلوبهم بمعصية الله وسيجدون غب هذا الأنس وحشة، وبعد هذا التعلق انقطاعا وزوالا. أيها المسلمون إن الحليم من الرجال ليقف حيران أمام هذا الانسياب الجارف إلى آلات اللهو والمعازف، وأمام هذا التغير السريع في مجتمعنا يجلس الواحد من رجل أو امرأة ليستمع إلى صوت مغن أو مغنية، أو يشاهد صورته غير مبال بذلك. إن الحليم ليقف حيران لا يدري أشيء ران على القلوب حتى التبس الأمر عليها وغشى بصائرها ما يمنع الرؤية فصارت لا ترى الحق وشكت في تحريم ذلك. أم شيء أزاغ القلوب فانصرفت عن الحق مع علمها به وارتكبت المعصية على بصيرة هما أمران أحلاهما مر. أيها المسلمون: إن كل من عرف نصوص كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يشك في تحريم المعازف حتى إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرنها بالزنا والخمر والحرير. ففي صحيح البخاري عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري، أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة (يعني الفقير) فيقولوا ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» . قال ابن القيم رحمه الله تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: بيان تحريم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصريح لآلات اللهو والمعازف ثم ساق الأحاديث الدالة على ذلك وهي كثيرة ساقها في إغاثة اللهفان. أيها المسلمون: لقد كنا إلى زمن قريب ننكر آلات اللهو وتكسر أمام المساجد بعد صلاة الجمعة إتلافا لها ومنعا لانتشارها، فصار الوضع إلى ما ترون فلا أدري أنزل وحي بحلها لكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أم أنها التبعية لأكثر الناس بلا روية فاقرءوا إن شئتم قول ربكم عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]

فاللهم عفوا وغفرا وهداية وصلاحا. الخصلة الرابعة عشرة: شرب الخمور وهي المسكرات من أي نوع كانت قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كل مسكر خمر» ، ولقد شربت الخمر وكثر شاربوها حتى صارت في بعض بلاد المسلمين تباع علنا وتشرب بالأسواق، وربما سموها بغير اسمها خداعا وتزيينا في النفوس حتى سموها (الشراب الروحي) . ألا قاتلهم الله أين المتعة للروح في شراب يسلبها عقلها، ثم يعقب تلك السكرة هم وغم لا يزول إلا بالعودة للشرب ثانية وثالثة، حتى يقضي على العقل والجسم والروح فأين الشراب الروحي أنى يؤفكون. الخصلة الخامسة عشرة: أن يلعن آخر هذه الأمة أولها، واللعن إما أن يكون بلفظه، وقد وجد من هذه الأمة من يصب اللعنات على بعض السلف الصالح، وإما أن يكون بمعناه بالقدح في السلف الصالح وذمهم وذم طريقتهم واعتقاد أنها طريق رجعية لا تصلح لهذا العصر. أيها المسلمون إن هذه الخصال إذا حصلت فنحن مهددون بتلك العقوبة بريح عاصفة حمراء تحمل الرمال، وتدمر المساكن وبزلزلة تصدع الأرض، وتفسد العمران وبخسف تتغير به معالم الأرض، وتزول به جبال عن أماكنها، وبمسخ يمسخ به الإنسان قردا وخنزيرا، وبقذف بحجارة من السماء كما أرسل على قوم لوط، وبآيات أخر من العقوبات من حروب طاحنة وسيول جارفة وغير ذلك. فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] اللهم جنبنا أسباب سخطك وعقابك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين وصلى الله عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبته أجمعين.

الخطبة الرابعة في شيء من المغيبات يكون قبل قيام الساعة

[الخطبة الرابعة في شيء من المغيبات يكون قبل قيام الساعة] الخطبة الرابعة في شيء من المغيبات يكون قبل قيام الساعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى لرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا - عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا - لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 25 - 28] أمر الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أشرف الخلق عنده أن يعلن للملأ بأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم متى يقع ما يوعدون به من العذاب سواء ما يقع في القيامة أو عند الموت، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم متى الساعة ولا متى يموتون، وإنما علم ذلك عند عالم الغيب والشهادة رب العالمين، ولكنه سبحانه قد يظهر على غيبه من يرتضيه من خلقه من الرسل ليبلغوا رسالات ربهم ولقد أظهر الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غيب كثير مجمل ومفصل فيما أوحاه إليه من الكتاب والسنة، وليس يعلم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ما أوحاه إليه ربه فمن ذلك ما في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن، ويكثر الهرج (وهو القتل) وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يهم رب المال من يقبض صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا إرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» .

في هذا الحديث أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اثني عشرا أمرا يكون قبل قيام الساعة. أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة، وفسر هذا بما جرى في زمن علي ومعاوية رضي الله عنهما حيث كان كل من الفئتين يدعو إلى ما يرى أنه الحق، فقتل منهم نحو سبعين ألفا على ما قيل. أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون يزعم كل منهم أنه نبي، وقد ظهر كثير منهم ولا رسول بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] أخبر أنه لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم والمراد به العلم الشرعي علم كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وكيفية قبضه أن يقبض العلماء كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» . أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل وهي نوعان زلازل حسية تهز الأرض، فتدمر القرى والمساكن، وزلازل معنوية تزلزل الإيمان والعقيدة والأخلاق والسلوك، حتى يضطرب الناس في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيعود الحليم العاقل حيران، والحديث محتمل لكل منهما وهو في الأول أظهر. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فيقرب أوله من آخره وذلك بكثرة الغفلة، وفشل الأعمال والأوقات حتى يمضي الزمن الكثير وما صنع الإنسان إلا شيئا قليلا، أو أن معناه سرعة إنجاز الأمور التي لا تنجز إلا بزمان كثير كما يشاهد في وسائل النقل، ووسائل الإعلام والله أعلم بما أراد رسوله. وأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، فتن الدين والدنيا أما فتن الدين فكل ما يصد عن الإيمان بالله والقيام بأمره واتباع هدي نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العقائد الفاسدة والأفكار الهدامة والسلوك المنحرف، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة بالاشتغال بالشهوات واللذائذ المحرمة. وأما فتن الدنيا فما يحصل من القتل والخوف والسلب والنهب وظهور الفتن، دليل على ضعف العلم الصحيح والإيمان الخالص والولاية العادلة. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر القتل سواء كان ذلك بالحروب، أم بالاغتيالات وقد جرى ذلك. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، وقد كثرت الأموال وسوف تزداد حتى يهم الرجل من يقبض صدقته، وحتى يعرض الرجل المال على الرجل هبة أو صدقة، فيقول لا حاجة لي به. أخبر

النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان، سواء كان التطاول بجمال البنيان وتشييده والاعتناء به، أو بارتفاعه كل ذلك من التطاول وهو دليل على اشتغال الخلق في أحوال دنياهم دون أحوال دينهم، لأن التطاول في ذلك يشغل القلب والبدن، فيلهو به الإنسان عن مصالح دينه. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ليتني مكانه. قال العلماء لما يرى من الأمور العظام التي يفضل الموت عليها من عظيم البلاء ورئاسة الجهلاء وخمول العلماء، واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم واستحلال الحرام. أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ويختل نظام سيرها فيعلم الناس حينئذ أنها تسير بتقدير الله وأمره فيؤمنون، ولكن الإيمان لا ينفع إلا من كان مؤمنا من قبل أو كاسبا في إيمانه خيرا. ثم أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أن الساعة تقوم بغتة وضرب لذلك أربعة أمثال: تقوم والرجلان بينهما ثوب قد فلاه يتبايعانه، فلا يمكنهما البيع ولا طي الثوب. وتقوم والرجل قد انصرف بلبن ناقته ليشربه فلا يتمكن من شربه. وتقوم والرجل يصلح حوض إبله ليسقيها فلا يسقي فيه. وتقوم وقد رفع اللقمة إلى فمه فلا يطعمها. فاتقوا الله عباد الله وآمنوا برسوله وأعدوا ليوم القيامة عدته قبل أن يفاجئكم الموت فلا تدركون النجاة ولا الغوث. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب. . إلخ.

الخطبة الخامسة في التحذير مما يكون في بعض الصحف والمجلات

[الخطبة الخامسة في التحذير مما يكون في بعض الصحف والمجلات] الخطبة الخامسة في التحذير مما يكون في بعض الصحف والمجلات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن احذروا ما يفتنكم عن دينكم وشرفكم وأخلاقكم فإن الفتن تسري إلى القلوب، فتصدها عن ذكر الله وعن الصلاة. تسري إلى القلوب النقية البيضاء فتكسبها شبهة وظلمة. تسري إلى القلوب التي تلين لذكر الله، وتخشع لعظمته فتكسبها قسوة واستكبارا. تسري إلى القلوب فتفتك بها كما يسري السم إلى الجسم فيفتك به. احذروا أيها المؤمنون الفتن كلها، لا تقولوا نحن مؤمنون نحن مستقيمون ولن تؤثر علينا أسباب الفتن، لا تقولوا هكذا فإن سهام إبليس نافذة لقد أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفرار من الدجال خوفا من فتنته، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه بما يبعث به من الشبهات» (رواه أبو داود) ، إن هذا الحديث أيها المؤمنون لعلم نهتدي به في كل مواقع الفتن، أن نبتعد عنها وإن كنا نظن أننا نخرج منها بسلام فإن الرجل لا يأمن على نفسه الفتنة. أيها المؤمنون: لقد كثرت في عصرنا هذا أسباب الفتن وتنوعت أساليبها، وانفتحت أبوابها من كل ناحية، فتحت الدنيا فتنافسها كثير من الناس فأهلكتهم، وجاءت الوسائل الإعلامية ما بين مسموعة ومشاهدة، وفي وقت كثر فيه الفراغ فعكف الناس عليها، فضاعت بها مصالح دينهم ودنياهم وأردتهم. إن وسائل الإعلام في الصحف والمجلات وغيرها لوسائل فعالة في المجتمع عقيدة وسلوكا وأخلاقا. إن استعملت في الخير وتبصير الناس في دينهم ومصالح دنياهم، كانت من أفضل الوسائل وأنفعها، وإن استعملت في ضد ذلك كانت من أضر الوسائل وأفسدها. وإن من المؤسف أن يكون في هذه الوسائل الإعلامية - الصحف والمجلات وغيرها - من المؤسف أن يكون فيها ما يدعو إلى الشر والفساد إلحاد في آيات الله، وتحريف لكتاب الله ودعوة إلى انحطاط الأخلاق والتحلل من الفضيلة. لقد كنت أسمع الكثير عن ذلك أسمع الكثير عن مجلات

الأخلاق والتحلل من الفضيلة. لقد كنت أسمع الكثير عن مجلات معينة وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى عن إضاعة الوقت في قراءة مثل هذه المجلات حتى رأيت من الواجب أن أمر مرورا عابرا على شيء من تلك الصحف لأعرف ما فيها من شر أتقيه وأحذر منه فأتحت الفرصة لنفسي في المرور على مجلة النهضة التي تصدر في الكويت وتدخل إلى بلادنا وتباع في أسواقنا وتقع في أيدي شبابنا من ذكور وإناث فوجدت المنظر شرا من المسمع. وجدت أقوالا نابية في الحب والغرام منظومة ومنثورة. وجدت صورا من النساء جميلة تثير الشهوة وتفتن القلب إلى حد أنها أجرت مسابقة لعرض الأجمل من النساء والمعبر عنها بملكة الجمال فصورت أجمل من تقدم لها على الغلاف بصورة مغرية. وجدت تصوير عناق وضم بين رجل وامرأة تحت عنوان (رسول الحب) وتحته قصيدة كلها غرام بالحب. وجدت أزياء وأشكالا من الألبسة على تلك الصور لا يقرها دين سماوي ولا ضمير شريف. وجدت دعاية للتدخين عليها صور الرجال ونساء في أيديهم سجائر. وجدت هذا كله في لمحة سريعة لسبعة أعداد فقط وما فاتني من صفحاتها وأعدادها الأخرى أكثر هذه المجلة أنموذج واحد من كثير من المجلات التي ربما تكون أقبح من هذه وأخبث. فيا أيها المواطنون يا أيها المؤمنون إنني أدعوكم باسم الإيمان بالله وباسم الإسلام وبكل وصف تستحقونه من شرف وفضيلة أن لا تتسرب إلى بيوتكم وإلى أيديكم مثل هذه المجلات التي تصرفكم عن الصراط المستقيم وتحرفكم عن أخلاقكم وقيمكم إن كل ما يعرض فيها لا بد أن يؤثر على من قرأها مقتنعا بها وبما تنشره من أفكار ومظاهر. فاتقوا الله عباد الله وإياكم أن تبذلوا الأموال في شرائها والمساهمة فيها فإن في ذلك مفاسد كثيرة منها إضاعة المال حيث يبذله فيما لا نفع فيه بل فيه مضرة وقد جعل الله المال للناس قياما تقوم به مصالح دينهم ودنياهم: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] فمن صرف المال في غير ذلك فقد غيره عما خلق من أجله وصرفه في غير محله وصدق عليه أنه أضاعه وارتكب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إضاعة المال ومن مفاسدها إضاعة الوقت الذي هو عند العقلاء أثمن من المال لأنه ظرف العمل ونتيجته وسعادة المرء وشقاوته وهو مسؤول عنه كما يسأل عن المال فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وماذا عمل فيما علم» (رواه الترمذي وقال غريب قال الألباني ولكنه صحيح لشواهده) ولو أمضى الإنسان وقته في قراءة ما ينفعه كالقرآن وتفسيره والحديث وشرحه وتاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لحصل له خير كثير وكسب عمره في هذه الدنيا. ومن مفاسد هذه المجلات ما يحدث للقلب من هيام في الحب وإغراق في الخيال الذي لا حقيقة له فيه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. يسيح قلبه في خيال فارغ لا يحصل به إلا قلق النفس وتشتيت الفكر ونسيان مصالح دينه ودنياه. ومن مفاسدها تأثيرها على الفكر والأخلاق والعادات حيث يألف ما يقرؤه من أفكار منحرفة وما يشاهده من مظاهر فاتنة في الصور وأزياء الألبسة وغيرها فيتأثر بذلك الفرد والمجتمع وينطبعان بهذا الطابع الفاسد. ومن مفاسدها إغراء ناشريها على نشرها وتقوية رصيدهم المالي لينشروا ما هو أفظع من ذلك وأقبح متى سنحت لهم الفرصة فيكون المشتري والمشترك والمتقبل لها مشاركا في نشر الفساد وعليه من إثمه نصيب. فيا أيها المؤمنون قاطعوا هذه المجلات وجانبوها وإياكم واقتناءها واحذروها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] أعاذني الله وإياكم من مضلات الفتن وحمانا جميعا بقوته وعزته من الزيغ والزلل وجعلنا دعاة إلى الخير والرشاد نهاة عن الشر والفساد. إنه هو الكريم الجواد وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

القسم السادس في أحوال القيامة

[القسم السادس في أحوال القيامة] [الخطبة الأولى في بعض أهوال يوم القيامة] القسم السادس في أحوال القيامة الخطبة الأولى في بعض أهوال يوم القيامة الحمد لله الملك القهار العزيز الجبار خلق السماوات والأرض وما بينهما من غير تعب ولا اضطرار وأنزل على عبده في الكتاب والفرقان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6 - 7] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أقوم الناس طاعة بفعل المأمور وترك المحظور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحشر والنشور وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وفكروا في دنياكم وآخرتكم في حياتكم وموتكم في حاضركم ومستقبلكم فكروا في هذه الدنيا فيمن مضى من السابقين الأولين منهم والآخرين ففيهم عبرة لمن اعتبر عمروا في هذه الدنيا فعمروها وكانوا أكثر منا أموالا وأولادا وأشد منا قوة وتعميرا فذهبت بهم الأيام كأن لم يكونوا وأصبحوا خبرا من الأخبار وأنتم على ما ساروا عليه سائرون وإلى ما صاروا إليه صائرون سوف تنتقلون عن هذه الدنيا إلى القبور بعد القصور وسوف تنفردون بها بعد الاجتماع بالأهل والسرور سوف تنفردون بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر إلى يوم النشور وحين ذلك ينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة بلا نعال وعراة بلا ثياب وغرلا بلا ختان حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فقالت عائشة «يا رسول الله الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض فقال صلى الله عليه وسلم يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض» . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض إن الأمر أشد من أن ينظر الرجال إلى النساء أو النساء إلى الرجال إنه أعظم من أن تسأل الأم عن ولدها والابن عن أبيه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] هنالك قلوب واجفة وأبصار خاشعة هنالك تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال فيأخذ المؤمن كتابه بيمينه ويأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره فأما من

أوتي كتابه بيمينه فيقول فرحا وسرورا {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول حزنا وغما {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] ويدعو ثبورا وهناك توضع الموازين فتوزن فيها أعمال العباد من خير وشر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] في ذلك اليوم يموج الناس بعضهم في بعض ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول الناس ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم فيأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى عليهم الصلاة والسلام وكلهم يقدم عذرا ثم يأتون إلى عيسى صلى الله عليه وسلم فيقول لست لها ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول مفتخرا بنعمة الله أنا لها فيستأذن من ربه عز وجل ويخر له ساجدا ويفتح الله عليه من محامده وحسن الثناء وعليه ما لم يفتحه على أحد قبله فيدعه الله ما شاء الله أن يدعه ثم يقول يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه. وفي ذلك اليوم ينزل الله للقضاء بين عباده وحسابهم فيخلو بعبده المؤمن وحده ويضع عليه سترة ويكلمه ليس بينه وبينه ترجمان فيخبره بما عمل من ذنوبه حتى يقر ويعترف فيظهر الله عليه فضله فيقول قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. وفي ذلك اليوم الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من ريح المسك طوله شهر وعرضه شهر وآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة لا يرده إلا المؤمنون به المتبعون لسنته من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين. في ذلك اليوم تدنى الشمس من الخلق حتى تكون قدر ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمهم العرق إلجاما. ويظل الله من يشاء في ظله يوم لا ظل إلا ظله. في ذلك اليوم يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير كله في يديك فيقول أخرج بعث النار من ذريتك قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فعند ذلك يشيب الصغير. في ذلك اليوم يوضع الصراط على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف وترسل

الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم تجري بهم أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر بزحف ومنهم ما بين ذلك ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول يا رب سلم سلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم «فأكون أول من يجوز أن يعبر من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» . وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكروس في النار. في ذلك اليوم يتفرق الناس إلى فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14 - 16] فاتقوا الله عباد الله وخذوا لهذا اليوم عدته فإنه مصيركم لا محالة وموعودكم لا ريب فيه وإنه على عظمه وشدته وهوله ليكون يسيرا على المؤمنين المتقين لأن الله يقول: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] فآمنوا بالله واتقوه واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه. اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم خفف عنا أهوال ذلك اليوم واجعلنا فيه من السعداء وألحقنا بالصالحين يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخطبة الثانية في عذاب النار

[الخطبة الثانية في عذاب النار] الخطبة الثانية في عذاب النار الحمد لله مستحق الحمد وأهله الجازي خلقه جزاء دائرا بين فضله وعدله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وحكمه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومتبعي هديه وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون اتقوا النار بطاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فإنه لا نجاة لكم من النار إلا بهذا. اتقوا النار فإنها دار البوار دار البؤس والشقاء والخزي والعار دار من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ساكنوها شرار خلق الله تعالى من الشياطين وأتباعهم قال الله تعالى مخاطبا لإبليس: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 84 - 85] دار فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وغيرهم من طغاة الخلق وفجارهم دار عبد الله بن أبي وأحزابه من منافقي هذه الأمة وخونتها. هؤلاء سكانها كفار فجرة وطغاة ظلمة ومنافقون خونة ولئن سألتم عن مكانها فإنها في أسفل السافلين وأبعد ما يكون عن رب العالمين فهي دار عقاب الله فأبعدت عن رحمة الله وعن دار أولياء الله يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حرها شديد وقعرها بعيد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا يا رسول الله إنها أي نار الدنيا لكافية قال إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة أي صوت شيء سقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتدورن ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفا يعني سبعين سنة فالآن حين انتهى إلى قعرها» (رواه مسلم) . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقال لليهود والنصارى وهم الذين يتسمون الآن بالمسيحيين «يقال لليهود والنصارى ماذا تبغون فيقولون عطشنا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86] عباد الله ما ظنكم بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف عام لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة قد تقطعت أكبادهم جوعا واحترقت

أجوافهم عطشا ثم انصرف بهم إلى النار وهم يطمعون في الشراب فلا يجدون إلا النار يلقون فيها: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] قد ملأها الله غيظا وحنقا عليهم: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] يلقون فيها أفواجا يقابلون بالتقريع والتوبيخ: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ - وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ - فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 8 - 11] هذا ما يقابلون به عند دخولهم النار توبيخ وتقريع وإهانة وتنديم فتتقطع قلوبهم أسفا وتذوب أكبادهم كمدا وحزنا ولكن لا ينفعهم ذلك فإذا دخلوها فما أعظم عذابهم وما أشد عقابهم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] طعامهم الزقوم وهو شجر خبيث مر الطعم نتن الريح كريه المنظر يتزقمونه تزقما لكراهته وقبحه ولكن يلجئون إلى ذلك لشدة جوعهم فلا يسمنهم ولا يغني من جوع. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم» (رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح) فإذا ملئوا بطونهم من هذا الطعام الخبيث الذي لا يسمن ولا يغني من جوع التهبت أكبادهم عطشا فلا يهيأ لهم الشراب وإنهم ليستغيثون: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف: 29] وهو الرصاص المذاب {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] حتى تتساقط لحومها {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29] يشربونه على كره واضطرار شرب الهيم وهي الإبل العطاش التي لا تروى من الماء فإذا سقط في أجوافهم قطع أمعاءهم هذا شرابهم كالمهل في حرارته وكالصديد في نتنه وخبثه قال الله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ - يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 17] أما لباسهم فلباس الشر والعار {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج: 19] على قدر أبدانهم لا تقيهم حر جهنم ولكن تزيدها اشتعالا فيها وحرارة {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 50] في عذاب مستمر دائم {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] وكلما خبت نارها زادها الله سعيرا

{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى - نَزَّاعَةً لِلشَّوَى - تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى - وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 15 - 18] يرتفع بهم لهبها إلى أعلاها: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20] ينوع عليهم العذاب فلا يستريحون فيقولون: {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] والله لا يطعمون في التخفيف الدائم ولا في الانقطاع ولو ساعة وإنما يسألون أن يخفف عنهم يوما واحدا من العذاب ولكن لا تجيبهم الملائكة إلا بالتوبيخ والتهكم تقول لهم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 50] أي بالأدلة الواضحات فيقولون بلى فتقول الملائكة {فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50] فلن يستجاب لهم لأنهم لم يستجيبوا للرسل حين دعوهم إلى الله وعبادته في الدنيا وحينئذ يتمنون الموت من شدة العذاب فيقولون {يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] وهو خازن النار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] أي ليهلكنا ويميتنا فيقول لهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ويقال لهم: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78] {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] يتوجهون إلى رب العالمين ذي العظمة والجلال والعدل في الحكم والفعال فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ - رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 106 - 107] فيقول لهم أحكم الحاكمين: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ - إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ - فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 108 - 110] عباد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل يعني القدر» . ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا. وقال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة أي يغمس فيها ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب» . إنه والله لينسى كل نعيم مر به في الدنيا وقد غمس في النار غمسة واحدة فكيف به وهو مخلد فيها أبدا. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا - إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168 - 169] ويقول تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب: 64]

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 65 - 68] اللهم أنجنا من النار وأدخلنا الجنة دار المتقين الأبرار واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثالثة في نعيم الجنة

[الخطبة الثالثة في نعيم الجنة] الخطبة الثالثة في نعيم الجنة الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ونوع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلا وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلا أودعها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وكملها بدوام نعيمها فأهلها خالدون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا. والحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولم يترك عباده هملا غير مأمورين ولا منهيين فقامت الحجة وانتفت الشبهة وبانت الطريق لمن أراد سلوكها غير أنه بحكمته زين لهم هذه الدار فكانت فتنة افتتن بها قوم فغفلوا عما أريد بهم ونسوا دار القرار وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له فاطر السماوات والأرض وجامع الناس ليوم الميعاد والعرض ليجزيهم بما عملوا من خير وشر: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه بعثه الله تعالى للإيمان مناديا وإلى دار السلام داعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا وفرض على العباد طاعته والقيام بحقوقه وسد جميع الطرق إلى الجنة فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه فبلغ رسالة ربه ونصح لعباده حتى لحق بالرفيق الأعلى وترك أمته على المحجة البيضاء فسلكها الراغبون في جنات النعيم وعدل بها المخذولون إلى طريق الجحيم فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135] سارعوا إلى جنة لا يفنى نعيمها ولا يبيد وليس في نعيمها انقطاع ولا تنغيص ولا تنكيد ساكنوها أفضل عباد الله الرسل والأنبياء والأولياء والأصفياء والصالحون والشهداء إخوانا على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من الغل فكانت صفاء وطهر الله ألسنتهم من السوء فقالت صوابا: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا - إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25 - 26] يتحدثون

بينهم فيما جرى عليهم في الدنيا وما من الله به عليهم من الهدى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ - فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ - إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 26 - 28] لهم فيها أزواج مطهرة من كل عيب ودنس خيرات الأخلاق حسان الوجوه قاصرات الطرف مقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان أنشأهن الله إنشاء كاملا بديعا فجعلهن أبكارا دائما عربا يتحببن إلى أزواجهن بتحسين الظاهر والباطن أترابا على سن واحدة: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ - لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ - سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 56 - 58] لهم فيها فواكه كثيرة منها يأكلون قطوفها دانية يتناولها من اشتهاها بكل سهولة قائما وقاعدا وعلى كل حال لا مقطوعة ولا ممنوعة كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى يطوف عليهم ولدان مخلدون منعمون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا يطوفون عليهم بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير، قوارير من فضة قدروها تقديرا مقدرة ما يشتهيه الشارب بحيث لا تزيد على مقدار ما يشتهيه فيبقى منه فضلة ولا تنقص عما يريده فيحتاج إلى تكملة وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] يحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا ويتجلى لهم فينظرون إليه فلا يجدون نعيما أكمل من النظر إلى الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا. أيها المسلمون إن هذه الدار مضمونة لكل من آمن بالله واستقام على أمره سامعا مطيعا راغبا فيما عند الله زاهدا فيما يبعده عن الله:

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32] فبؤسا لقوم آثروا الدنيا عليها فباعوا عيشا لا يفنى ولا يزول بعيش زائل مملوء بالتنكيد إن أضحك قليلا أبكى كثيرا وإن سر يوما أحزن شهورا آماله آلام وحقائقه أحلام وأوله مخاوف وآخره متالف بؤسا لقوم نعموا في الدنيا كأنما خلقوا لها وسلكوا في تحصيلها كل طريق من حلال أو حرام كأنما خلدوا لها وهم يعلمون ما فيها من الهموم والأحزان ومن تقلبات الأحوال وتغيرات الأزمان بؤسا لقوم نسوا الآخرة وأهملوها وتركوا أوامر الله وأضاعوها غدا يقال لهم: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة: 14] اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الجنات وأن تباعدنا عن النار دار الهلكات وأن تتوفانا على الإيمان والتوحيد وتعيذنا من الكفر والشرك والتنديد إنك جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

القسم السابع في مواضيع مختلفة

[القسم السابع في مواضيع مختلفة] [الخطبة الأولى في التوبة وشروطها] القسم السابع في مواضيع مختلفة الخطبة الأولى في التوبة وشروطها الحمد لله الملك الوهاب الرحيم التواب خلق الناس كلهم من تراب وهيأهم لما يكلفون به مما أعطاهم من الألباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بلا شك ولا ارتياب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله ربكم وتوبوا إليه فإن الله يحب التوابين واستغفروه من ذنبوكم فإنه خير الغافرين توبوا إلى ربكم مخلصين به بالإقلاع عن المعاصي والندم على فعلها والعزم على أن لا تعودوا إليها فهذه التوبة النصوح التي أمرتم بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8] ليست التوبة أن يقول الإنسان بلسانه أتوب إلى الله أو اللهم تب علي وهو مصر على معصية الله. وليست التوبة أن يقول ذلك وهو متهاون غير مبال بما جرى منه من معصية وليست التوبة أن يقول ذلك وهو عازم على أن يعود إلى معصية ربه ومخالفته. أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل غلق باب التوبة عنكم فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر بروحه فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18] فبادروا أيها المسلمون بالتوبة فإنكم لا تدرون متى يفاجئكم الموت ولا تدرون متى يفاجئكم عذاب الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ - أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ - أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99] عباد الله هل أمنتم مكر الله يمدكم بالنعم المتنوعة وأنتم تبارزونه بالمعاصي. أما ترون ما وقع بالعالم في كثير منهم من الضيق في العيش والمحن. إن المجاعة والطوفان ونقص المحاصيل والقحط أحاطت بكثير

من البلاد ولا يزال المفكرون يبحثون في تأمين الغذاء للعالم أفلا تخافون أن يحل ذلك بكم. إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] إن من عظم العقوبات قسوة القلوب ومرضها وإن الكثير الآن قلوبهم قاسية يسمعون المواعظ والزواجر ويقرءونها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكأنهم لا يسمعون الجيد منهم إذا سمع الموعظة وعاها حين سماعها فقط فإذا فارقها خمدت نار حماسه واستولت الغفلة على قلبه وعاد إلى ما كان عليه من عمل يسمع المواعظ تقرع أذنيه في عقوبة تارك الصلاة وإضاعتها: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 59 - 60] ولكنه لا يتوب وكأنه لا يسمع. يسمع المواعظ في عقوبة مانع الزكاة ومن يتبع الرديء من ماله فيزكي به: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] زكاة النفس بالبراءة من الشرك وزكاة المال حيث قدموا الشح على البذل في طاعة الله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] يسمعون هذا كله وهم مصرون على منع الزكاة يحرمون أنفسهم خيرات أموالهم ويدخرونها لغيرهم وفي الحديث ما ظهرت الفاحشة في قوم لوط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل بأسهم بينهم. أيها الناس إنه لا توبة مع الإصرار كيف يكون الإنسان تائبا من ذنب وهو يصر عليه وكيف يكون تائبا من الغش وهو لا يزال يغش في بيعه وإجارته وجميع معاملاته كيف يكون تائبا من الغيبة أكل لحوم الناس وهو يغتابهم في كل مجلس سنحت له الفرصة فيه كيف يكون تائبا من أكل أموال الناس بغير حق وهو يأكلها تارة بدعوى ما ليس له وتارة بإنكار ما عليه وتارة بالكذب في البيع وغيره وتارة بالبقاء في ملك غيره رضاه وتارة بالربا الصريح أو التحيل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم «من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض

فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات» . أيها المسلمون إن التوبة الكاملة كما تتضمن الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على ألا يعود إليه تتضمن كذلك العزم على القيام بالمأمورات ما استطاع العبد فبذلك يكون من التوابين الذين استحقوا محبة الله ورضاه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فتوبوا أيها المسلمون إلى ربكم واستغفروه بطلب المغفرة منه بألسنتكم وقلوبكم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] بادروا بالتوبة قبل أن يأخذكم الموت فيحال بينكم وبينها وتموتون على معصية الله. إن بعض الناس تغره الأماني ويغره الشيطان فيسوف بالتوبة ويؤخرها حتى يقسو قلبه بالمعصية والإصرار عليها فتغلق دونه الأبواب أو يأخذه الموت قبل المهلة في وقت الشباب. اللهم وفقنا للمبادرة بالتوبة من الذنوب والرجوع إلى ما يرضيك عنها في السر والعلانية فإنك علام الغيوب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . . الخ.

الخطبة الثانية في التوبة وشروطها أيضا

[الخطبة الثانية في التوبة وشروطها أيضا] الخطبة الثانية في التوبة وشروطها أيضا الحمد لله الملك الوهاب الغفور التواب يتوب على التائبين مهما عظمت ذنوبهم إذا تابوا إليه ويبدل سيئاتهم حسنات إذا أصلحوا أعمالهم وأنابوا إليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه توبوا إليه بالرجوع إليه من معصيته إلى طاعته ومن البعد عنه إلى التقرب إليه ومن رجس الذنوب إلى التطهر منها فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. إن التوبة من الذنوب واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها أو التكاسل فيها فإن تأخير التوبة ذنب يحتاج إلى توبة. التوبة واجبة لأن الله أمر بها في كتابه وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ورتب عليها الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (رواه مسلم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (رواه البخاري) . أيها المسلمون إن التوبة إلى الله واجبة على الفور لأن أوامر الله ورسوله كلها على الفور إذا لم يقم دليل على جواز تأخيرها. وتأخير التوبة سبب لتراكم الذنوب والرين على القلوب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه» . {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] أيها المسلمون توبوا إلى الله توبة نصوحا يمحو الله بها ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم ويرفع درجاتكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]

وإن التوبة لن تكون نصوحا مقبولة حتى يتم فيها خمسة شروط: لن تكون مقبولة حتى تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله تعالى وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه فلا يريد بها تزلقا إلى مخلوق ولا عرضا من الدنيا. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يكون نادما أسفا على ما فعل من المعصية بحيث يتمنى أنه لم يفعل المعصية لأن هذا الندم يوجب الانكسار بين يدي الله عز وجل والإنابة إليه. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يقلع عن المعصية فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال وإن كانت بترك واجب فعله في الحال إن كان ما يمكن قضاؤه وإن كانت مما يتعلق بحقوق الخلق تخلص منها وأداها إلى أهلها واستحلهم منها فلا تصح التوبة من الغيبة وهو مستمر عليها ولا تصح التوبة من الربا وهو مستمر على التعامل به. إن كثيرا من الناس عندما تنصحه ليلقع من المعصية يقابلك بقول الله يعيننا على أنفسنا ونعم ما قال فإن الله إذا لم يعن العبد فلا خلاص له ولكنها كلمة حق أريد بها باطل أريد بها الاعتذار عن الاستمرار في المعصية وليست بعذر لأن العبد مأمور مع الاستعانة بالله أن يحرص على ما ينفعه قال النبي صلى الله عليه وسلم احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. فلا تقبل التوبة من ترك صلاة الجماعة مثلا وهو مستمر على ترك الجماعة ولا تقبل التوبة من الغش والخيانة وهو مقيم على ذلك. إن من يدعي التوبة من ذنب وهو مقيم عليه فتوبته استهزاء بالله عز وجل لا تزيده من الله إلا بعدا كمن اعتذر إليك من فعل شيء وهو مقيم عليه فإنك لا تعتبره إلا مستهزئا بك لاعبا عليك. فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى ربكم وأقلعوا من ذنوبكم واعزموا أن لا تعودوا في المستقبل فلن تكون التوبة مقبولة حتى يعزم التائب أن لا يعود في المستقبل لأنه لم يعزم على ذلك فتوبته مؤقتة يتحين فيها الفرص المواتية لا تدل على كراهيته للمعصية وهربه منها إلى طاعة الله عز وجل. وأن تكون التوبة مقبولة حتى تصدر في زمن قبولها وهو ما قبل حضور الأجل وطلوع الشمس من مغربها فإن كانت التوبة بعد حضور الأجل ومعاينة الموت لم تقبل قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر يعني بروحه» (رواه أحمد

والترمذي وقال حديث حسن) . وإذا كانت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها إذا رآها الناس طالعة منه آمنوا أجمعون فلا ينفع نفسا إيمانها إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه» (قال ابن كثير حسن الإسناد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (رواه مسلم) . فتوبوا أيها المسلمون إلى الله وأسلموا له وثقوا بأن التوبة النصوح تجب ما قبلها من الذنوب مهما عظمت قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 53 - 59] اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا وتيسر بها أمورنا وترفع بها درجاتنا إنك جواد كريم.

الخطبة الثالثة في حقوق الرعية والرعاة

[الخطبة الثالثة في حقوق الرعية والرعاة] الخطبة الثالثة في حقوق الرعية والرعاة الحمد لله القهار القوي العزيز الجبار ذلت لعظمته الصعاب وحسرت عن بلوغ غاية حكمته الألباب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والكبرياء والاقتدار وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله شرع لعباده على لسان أفضل خلقه شريعة كاملة في نظامها وتنظيمها كاملة في العبادات والحقوق والمعاملات كاملة في السياسة والتدبير والولايات جعل الولاية فيها فرض كفاية سواء كانت تشريعية كالقضاء أو تنفيذية كالإمارة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فلا بد من ولي أمر ولا بد من طاعته وإلا فسد الناس وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم» (رواه أحمد في المسند ص 177 ج2) وقال «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (رواه أبو داود ص 34 ج2) فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم التأمير في السفر مع أنه اجتماع عارض غير مستقر فكيف بالاجتماع الدائم المستقر. وجاءت هذه الشريعة الكاملة التي أوجبت الولاية لقيام الناس بالعدل جاءت بواجبات على الولاة وعلى الرعية وألزمت كل واحد منها بالقيام بها حتى يستتب الأمن ويحل النظام والتآزر بين الحاكمين والمحكومين. أما حقوق الولاة على رعيتهم فهي النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة بسلوك أقرب الطرق إلى توجيههم وإرشادهم وأن لا يتخذ من خطئهم - إذا أخطأوا - وهم معرضون للخطأ كغيرهم من بني آدم لكن لا يتخذ من هذا الخطأ سلما للقدح فيهم ونشر عيوبهم بين الناس فإن هذا يوجب التنفير عنهم وكراهيتهم وكراهية ما يقومون به من أعمال وإن كانت حقا ويوجب بالتالي التمرد عليهم وعدم السمع والطاعة وفي ذلك تفكيك المجتمع وحدوث الفوضى والفساد. ومن حقوق الولاة على رعيتهم السمع والطاعة بامتثال ما أمروا به وترك ما نهوا عنه ما لم يكن في ذلك مخافة لشريعة الله فإن كان في ذلك مخالفة لشريعة الله فلا سمع لهم ولا طاعة

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فلما خرجوا غضب عليهم في شيء فقال أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تطيعوني قالوا بلى قال فاجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال عزمت عليكم لتدخلنها فقال لهم شاب منهم إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف» . وقال صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» . وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» . أيها الناس إن من طاعة ولاة الأمور التي أمر بها أن يتمشى المؤمن على أنظمة حكومته المرسومة إذا لم تخالف الشريعة فمن تمشى على ذلك كان مطيعا لله ورسوله ومثابا على عمله ومن خالف ذلك كان عاصيا لله ورسوله وآثما بذلك. أما حقوق الرعية على ولاتهم فالمسؤولية كبيرة والأمر خطير فليس المقصود بالولاية بسط السلطة ونيل المرتبة إنما المقصود بها تحمل مسؤولية عظيمة تتركز على إقامة الحق بين الخلق بنصر دين الله وإصلاح عباد الله دينيا ودنيويا فيجب على الولاة صغارا أو كبارا إخلاص النية لله سبحانه والاستعانة به في جميع أمورهم على ما حملهم من هذه الأمانة وعليهم أن يطبقوا أحكامه سبحانه وتعالى بحسب استطاعتهم على الشريف والوضيع والقريب والبعيد لا يحابوا شريفا لشرفه ولا قريبا لقربه متمشين في ذلك على ما رسم لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث قال معلنا ومقسما وهو البار الصادق بدون قسم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» فمن قام بذلك من ولاة الأمور الصغيرة أو الكبيرة كان مطيعا لله ورسوله مؤديا لأمانته نائلا ثواب الله ورضا الخلق عليه فإن الله يحب المقسطين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» . رواه مسلم. وقال: «أهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى مسلم

وعفيف متعفف ذو عيال» . رواه مسلم. فاتقوا الله أيها المسلمون من ولاة ورعية وقوموا بما أوجب الله عليكم ليستتب الأمن ويحصل التآلف فإن تفرطوا يسلط الله بعضكم على بعض فتسلط الولاة على الرعية بالظلم وإهمال الحقوق وتسلط الرعية على الولاة بالمخالفة والفوضى والاعتزاز بالرأي فلا ينضبط الناس ولا يصلح لهم حال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الرابعة في الأطوار التي مر بها المسجد الأقصى

[الخطبة الرابعة في الأطوار التي مر بها المسجد الأقصى] الخطبة الرابعة في الأطوار التي مر بها المسجد الأقصى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس فلقد مضى على احتلال اليهود المسجد الأقصى أكثر من ثماني سنوات وهم يعيثون به فسادا وبأهله عذابا وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكما بجواز تعبد اليهود في نفس المسجد الأقصى ومعنى هذا الحكم الطاغوتي إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة. إنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ليعرج من هناك إلى السماوات العلى إلى الله جل وتقدس وعلا. إنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت «يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة» . إنه لثالث المساجد المعظمة في الإسلام التي تشد الرحال إليها لطاعة الله وطلب المزيد من فضله وكرمه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى» . إنه المسجد الذي يقع في الأرض المقدسة المباركة مقر أبي الأنبياء إبراهيم وابنيه سوى إسماعيل. مقر إسحاق ويعقوب إلى أن خرج وبنيه إلى يوسف في أرض مصر فبقوا هنالك حتى صاروا أمة بجانب الأقباط الذين يسومونهم سوء العذاب حتى خرج بهم موسى صلى الله عليه وسلم فرارا منهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بهذه النعمة الكبيرة وذكرهم موسى نعم الله عليهم بذلك وبغيره إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحد من العالمين في وقتهم وأمرهم بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة وبشرهم بالنصر حيث قال: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] وإنما كتبها الله لهم لأنهم في ذلك الوقت أحق الناس بها حيث هم أهل الإيمان والصلاح والشريعة القائمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] ولكنهم نكلوا عن الجهاد

: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22] وقالوا: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولنكولهم عن الجهاد ومواجهتهم نبيهم بهذا الكلام النافر حرم الله عليهم الأرض المقدسة فتاهوا في الأرض ما بين مصر والشام أربعين سنة لا يهتدون سبيلا حتى مات أكثرهم أو كلهم إلا من ولدوا في التيه فمات هارون وموسى عليهما الصلاة والسلام وخلفهما يوشع فيمن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد وفتح الله عليهم الأرض المقدسة وبقوا فيها حتى آل الأمر إلى داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام فجدد بناء بيت المقدس وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك. ولما عتا بنو إسرائيل عن أمر ربهم وعصوا رسله سلط الله عليهم ملكا من الفرس يقال له بختنصر فدمر بلادهم وبددهم قتلا وأسرا وتشريدا وخرب بيت المقدس للمرة الأولى ثم اقتضت حكمة الله عز وجل بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة وينشأوا نشأ جديدا وأمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا فنسوا ما جرى عليهم وكفروا بالله ورسوله {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس والروم مرة ثانية واحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس وتبروا ما علوا تتبيرا. كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] ثم بقي المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ثلثمائة سنة حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الخامسة عشرة من الهجرة فصار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحث وهم المسلمون: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصليبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492 هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفا ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة وكان يوما عصيبا على المسلمين

أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلت فيه عقيدة إن الله ثالث ثلاثة - أن الله هو المسيح ابن مريم والمسيح ابن الله - وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب رحمه الله في 27 رجب سنة 583هـ، وكان فتحا مبينا ويوما عظيما مشهودا أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته وكسرت الصلبان ونودي فيه بالأذان وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى وكان أمر الله مفعولا واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه الملك الصالح أيوب ابن أخي الكامل سنة 642هـ، وبقي في أيدي المسلمين وفي ربيع الأول سنة 1387هـ ـ احتله اليهود أعداء الله ورسوله بمعونة أوليائهم من النصارى ولا يزال تحت سيطرتهم ولن يتخلوا عنه وقد قالت رئيسة وزرائهم فيما بلغنا إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة ولا قوة إلا بنصر من الله عز وجل ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] وإن نصرنا لله لا يكون بالأقوال البراقة والخطب الرنانة التي تحول القضية إلى قضية سياسية وهزيمة مادية ومشكلة إقليمية وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله، إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له والتمسك بدينه ظاهرا وباطنا والاستعانة به وإعداد القوة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا وتطهر بيوته من رجس أعدائه. أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم والتلطخ بسافل أخلاقهم أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون أو يستمرئون صديد أفكارهم ثم يرجعون يتقيؤونه بيننا. أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلام فاتنة وصحف مضلة. أما أن نحاول طردهم من

بلادنا مع ممارسة هذه الأمور فذلك التناقض البين والمسلك غير السليم والفجوة السحيقة بيننا وبين النصر: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] نعم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لا كما قال بعض المذيعين أيام الحرب مع اليهود في عام 87هـ غدا تغني أم كلثوم في قلب تل أبيب. صلى الله على رسوله وسلم لقد صلى غداة فتح مكة ثماني ركعات إما شكرا لله تعالى على الفتح خاصة أو تعبدا بصلاة الضحى والعبادة من الشكر وهكذا حال الفاتحين في الإسلام يعقبون الفتح بالشكر والتقوى فاتقوا الله أيها المسلمون وأنيبوا إلى ربكم وأقيموا شريعته وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. اللهم انصر الإسلام والمسلمين وطهر المسجد الأقصى من اليهود والنصارى والمنافقين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك جواد كريم.

القسم الثامن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه

[القسم الثامن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه] [الخطبة الأولى في مجمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم] القسم الثامن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الخطبة الأولى في مجمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتعلموا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون به عبرة لكم واطلاع على حكمة ربكم في تقديره وتشريعه. فلقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين وإمامهم وأفضلهم في أشرف بقاع الأرض في أم القرى ومقصد العالمين فدعا إلى توحيد الله تعالى ثلاث عشرة سنة كلها في مكة وحدث له في تلك المدة تلك الآية الكبرى أن أسرى الله به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به في تلك الليلة من الأرض إلى السماوات العلى بصحبة جبريل الروح الأمين فارتقى به سماء سماء حتى بلغ سدرة المنتهى ووصل إلى مستوى سمع فيه صريف أقلام القضاء والتدبير وفي تلك الليلة فرض عليه الصلوات الخمس فصلاهن فريضة على ركعتين ركعتين إلا المغرب فثلاث ركعات لتوتر صلاة النهار وبقي على ذلك ثلاث سنوات قبل الهجرة ولما هاجر زيدت الظهر والعصر والعشاء فصارت أربعا أربعا للمقيمين وبقيت ركعتين للمسافرين وفي السنة الأولى من الهجرة شرع الله للمسلمين الأذان والإقامة وفي السنة الثانية فرضت مقادير الزكاة وبينت الأنصباء وفرض الله صيام رمضان وفي السنة التاسعة فرض الله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. ولقد أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالقتال بعد الهجرة حيث كان للإسلام دولة وللمسلمين قوة ففي رمضان من السنة الثانية كانت غزوة بدر الكبرى حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه لأخذ عير قريش الذي توجه أبو سفيان من الشام إلى مكة فبعث أبو سفيان إلى أهل مكة يستصرخهم لإنقاذ عيرهم فخرجوا بصناديدهم وكبرائهم ما بين تسعمائة وألف رجل فجمع الله بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبينهم على غير ميعاد في بدر فنصره

الله عليهم وقتل منهم سبعين رجلا من بينهم الكبراء والرؤساء وأسر سبعين وكان في ذلك مشركو قريش بنحو ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهم خرج إليهم فقاتلهم بنحو سبعمائة من أصحاب وكان النصر لهم حتى ولى المشركون الأدبار إلا أن الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في ثنية الجبل يحمون ظهور المسلمين ولا يبرحون عن مكانهم تركوه حين ظنوا أن المعركة انتهت بظهور هزيمة المشركين ولكن الفرسان من المشركين كروا على المسلمين حين رأوا الثنية خالية فانتكس الأمر وصار كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] وفي ربيع الأول من السنة الرابعة كانت غزوة بني النضير وهم إحدى قبائل اليهود الثلاث الذين كانوا في المدينة وعاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم حين قدمها فنقضوا العهد فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فتحصنوا بحصونهم: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] وخرجوا منها أذلة فنزل بعضهم في خيبر وبعضهم في الشام. وفي شوال من السنة الخامسة كانت غزوة الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم بتحريض من اليهود من بني النضير الذين أرادوا أن يأخذوا بالثأر من النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلاهم من المدينة فعسكروا حول المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة من الناحية الشمالية فحماها الله تعالى من الأعداء فأرسل الله عليهم ريحا شرقية عظيمة باردة: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] وفي ذي القعدة من هذه السنة حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة آخر قبائل اليهود في المدينة فقتل رجالهم وسبى ذريتهم ونساءهم لنقضهم العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فأورث الله نبيه والمؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم.

وفي ذي القعدة من السنة السادسة كانت غزوة الحديبية التي كانت فيها بيعة الرضوان حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ألف وثلثمائة رجل من أصحابه يريد العمرة فصده المشركون عن ذلك مع أن عادتهم أن لا يصد أحد عن البيت فأرسل إليهم عثمان بن عفان ليفاوضهم فأشيع أنه قد قتل فبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لقتال قريش وفي ذلك أنزل الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19] وفي محرم من السنة السابعة كانت غزوة خيبر وهي حصون اليهود ومزارعهم في الحجاز فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها لنقضهم العهد وتحريضهم كفار قريش وغيرهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم حتى فتح الله عليه فغنم النبي صلى الله عليه وسلم أرضهم وقسمها بين المسلمين. وفي رمضان من السنة الثامنة كانت غزوة فتح مكة حين نقضت قريش العهد الذي كان بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية فخرج إليهم في نحو عشرة آلاف من أصحابه ففتح الله عليهم وطهر أم القرى من الشرك وأهله ودخل الناس به في دين الله أفواجا. غير أن هوازن وثقيف ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال قريش ولا ناهية له فاجتمعوا له في حنين فخرج إليهم في شوال من السنة الثامنة لقتالهم في نحو اثني عشر ألفا وأعجب بعض الناس بكثرتهم وقالوا لن نغلب اليوم من قلة فأراهم الله تعالى أن النصر من عنده لا بسبب الكثرة وأنزل في ذلك: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25 - 26] وفي السنة التاسعة من شهر رجب كانت غزوة تبوك حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعوا له يريدون غزوه فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم في زمن عسرة وفي أيام شدة الحر وطيب الثمار وقت الرطب والمسافة بعيدة فنزل في تبوك نحو عشرين يوما ولم يكن قتال ثم رجع إلى

المدينة وأقام فيها وكاتب من حوله من زعماء الكفار يدعوهم إلى الإسلام وصارت الوفود تأتي إليه من كل وجه يعلنون إسلامهم ويتعلمون منه دينهم. هكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة جهاد وعمل ودعوة إلى الله ودفاع عن دينه حتى توفاه الله عز وجل بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين وكانت وفاته يوم الاثنين في الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.

الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه بالحق المبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به على عباده من إرسال الرسل وإنزال الكتب ونشر الحق بين الخلق فإن العقل البشري لا يمكن أن يهتدي إلى معرفة الخالق تفصيلا ولا يمكنه أن يتعبد لله بما لا يدركه تحصيلا ولا يمكنه أن يعامل غيره بطريق الحق والعدل إلا بالوحي الذي بين الله به كيف يعرف العبد ربه وكيف يقيم عبادته وكيف يعامل غيره فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام مبينين لعبادة الخلاق ومتممين لمكارم الأخلاق. كان الناس على ملة واحدة دين أبيهم آدم فلما كثروا تفرقت كلمتهم واختلفت آرائهم فبعث الله إليهم رسله ليقوم الناس بالقسط فبدأ الله الرسالة بنوح عليه الصلاة والسلام وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم. فمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضلهم أرسله الله تعالى على حين فترة من سلالة إسماعيل بن إبراهيم من صميم العرب فكان أكرم الناس نسبا وأطيبهم مولدا فولد صلى الله عليه وسلم بمكة في يوم الاثنين في الثاني من شهر ربيع الأول وقيل في الثامن وقيل في التاسع وقيل في العاشر وقيل في الثاني عشر وقيل في السابع عشر وقيل في الثاني والعشرين في العام الذي أهلك الله به أصحاب الفيل اللذين أرادوا هدم الكعبة فأنزل الله فيهم سورة من القرآن. ولدته أمه آمنة من أبيه عبد الله بن عبد المطلب وقد رأت أمه قبل ولادته أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام فمات أبوه في المدينة قبل أن يولد صلى الله عليه وسلم وماتت أمه بالأبواء في طريق المدينة وهو في السادسة من عمره فكفله جده عبد المطلب ثم مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين والجد ولكن الله تعالى آواه وهو نعم المولى ونعم النصير فيسر الله له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمه إلى عياله وأحسن كفالته وأحبه حبا شديدا وبارك الله

له بسبب النبي صلى الله عليه وسلم في ماله وحاله. ولقد اشتغل صلى الله عليه وسلم بما اشتغل به الأنبياء من قبل، اشتغل يرعى الغنم وما من نبي إلا رعى الغنم ليعتاد بذلك حسن الرعاية والتصريف فيما يكون راعيا له في المستقبل ثم اشتغل صلى الله عليه وسلم بالتجارة فاشتهر عند الناس بالصدق والأمانة وحسن المعاملة ثم لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوج خديجة رضي الله عنها ولها أربعون سنة وقد تزوجت قبله برجلين وكانت رضي الله عنها من شريفات نساء العرب موصوفة بالعقل والحزم والذكاء ورزقها الله منه ابنين وبنات أربع وكان أولاده كلهم منها إلا إبراهيم فإنه من أم ولده مارية القبطية وكلهم ماتوا في حياته إلا فاطمة. ولم يتزوج عليها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت رضي الله عنها في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين فتزوج بعدها عائشة. وكان صلى الله عليه وسلم معظما في قومه محترما يحضر معهم في مهمات الأمور فحضر حلف الفضول الذي تعاقدوا به على درء المظالم ورد الحقوق إلى أهلها وكان حكما في قريش عند نزاعها في وضع الحجر الأسود في مكانه حين هدمت الكعبة فتنازعوا أيهم يضع الحجر مكانه فقيض الله لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكموه بينهم وانقادوا لقضائه فبسط صلى الله عليه وسلم رداءه ووضع الحجر فيه ثم قال لأربعة من رؤساء قريش ليأخذ كل واحد منكم بجانب من هذا الرداء فحملوه حتى إذا أدنوه من موضعه أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة فوضعه في مكانه فكان له صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم العادل شرف كبير ونبأ عظيم وكان صلوات الله وسلامه عليه محفوظا من عبادة الأوثان وشرب الخمور وعمل الميسر. ولما بلغ الأربعين من عمره جاءه الوحي من الله تعالى فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلاء وهو الانفراد عن ذلك المجتمع الفوضوي في عقيدته وعبادته فكان يخلو بغار حراء وهو الجبل الذي عن يمين الداخل إلى مكة من طريق الشرائع ويتعبد فيه «حتى نزل عليه الوحي هناك فجاءه جبريل فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة وفي الثالثة قال له جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله يرجف فؤاده لأنه رأى أمرا عظيما لم يكن معهودا له من قبل فدخل على خديجة فقال لها وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل رحمك وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري

الضيف وتعين على نوائب الحق» . فاستدلت رضي الله عنها بأفعاله الجميلة على أن حكمة الله تأبى أن يلحق العار والخزي مثل هذا. وبنزول هذه الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم صار نبيا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] وبذلك صار نبيا رسولا إلى جميع الثقلين فدعا إلى الله وبشر وأنذر فخص وعم فأنذر عشيرته الأقربين ثم بقية الخلق أجمعين حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين وأظهر دينه ونصره وهم نعم المولى ونعم النصير وفي هذا يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثالثة في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة

[الخطبة الثالثة في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة] الخطبة الثالثة في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] قام صلى الله عليه وسلم ممتثلا لأمر ربه متوكلا عليه واثقا به فدعا الناس إلى عبادة الله وكان بدء الدعوة سرا فآمن به رجال من قريش وكان أولهم إسلاما أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأسلم على يديه رضي الله عنه خمسة من المبشرين بالجنة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وهؤلاء الخمسة مع أبي بكر وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة هم الثمانية الموصوفون بالسبق إلى الإسلام. وأسلم غيرهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم سرا ويرشدهم إلى ما أرشده الله إليه من الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم لمدة ثلاث سنين حتى أنزل الله عليه قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] «فصعد صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي يا بطون قريش فاجتمع الناس إليه حتى كان الرجل إذا لم يستطع أن يأتي أرسل رسولا لينظر الخبر فلما اجتمعوا قال لهم صلى الله عليه وسلم إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة» فقال له عمه أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا وسخر به وبما قال فأنزل الله فيه سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] ثم أنزل الله على رسوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] فجمعهم صلى الله عليه وسلم وقال «والله لو كذبت الناس كلهم ما كذبتكم والله إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة والله لتموتن ولتبعثن ولتحاسبن ولتجزون وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا» فتكلم القوم كلاما لينا لكن أبا لهب قال خذوا على يديه قبل أن تجتمع العرب عليه فإن سلمتموه ذللتم وإن منعتموه قتلتم فمانعه أبو طالب وقال لنمنعنه ما بقينا. ثم انصرف الجمع بدون طائل ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يدعو إلى الله تعالى علنا وجهرا وكان الناس يسخرون به يقولون هذا غلام عبد المطلب يكلم من السماء هذا ابن أبي كبشة. ثم إنه صلى الله عليه وسلم جعل يسفه

عقول المشركين ويبين بطلان عبادتهم للأصنام فكلمت قريش أبا طالب أكثر من مرة ليمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وهددوه فأشار أبو طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقي عليه وعلى نفسه فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه سيخذله فشق ذلك عليه وقال «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه» ثم بكى وانصرف فناداه عمه وقال يا ابن أخي قل ما أحببت فوالله لا أسلمك إليهم أبدا. فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة وازداد أذى قومه له بالقول والفعل فكان أبو جهل إذا رآه يصلي نهاه وأغلظ عليه القول وقال ألم أنهك. وكان يوما يصلي وحوله ملأ من قريش فقال بعضهم لبعض أيكم يعمد إلى جزور آل فلان فيأتي بدمها وسلاها فيضعه بين كتفيه إذا سجد فانبعث أشقى القوم به فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه فثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا والقوم يضحكون ويسخرون حتى جاءت ابنته فاطمة وهي جويرية صغيرة فألقته عنه وكانوا يرمون القذر على بابه فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحه ويقول أي جوار هذا. واشتد أذى قريش لمن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يعذبونهم بالطعن والضرب والنار فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوي أصحابه ويشجعهم على الصبر قال لعمار بن ياسر وأهله وهم يعذبون «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ولما رأى اشتداد الأمر بأصحابه أذن لهم بالهجرة وقال «تفرقوا في الأرض فإن الله سيجمعكم» وأشار إلى الحبشة فهاجر إليها في السنة الخامسة من البعثة عشرة رجال وخمس نساء ثم رجعوا بعد ثلاثة أشهر ولكن المشركين ما زال أذاهم يستمر وشرهم يستفحل فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة مرة ثانية إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة فهاجر إليها فوق الثمانين من الرجال ودون العشرين من النساء فأكرمهم النجاشي وجعل لهم الحرية في دينهم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي في مكة يلاقي الشدائد والبلايا من أذية كفار قريش له وهو صابر محتسب منفذ لأمر الله وقد مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة في السنة العاشرة من البعثة فاشتد الأمر عليه ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو قبائل ثقيف إلى الإسلام فلم يجد منهم إلا السخرية والأذى ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ودخلها في جوار المطعم بن عدي وصار يعرض نفسه على القبائل في المواسم كل عام يتتبع الناس في منازلهم

يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فلما رجعوا إلى قومهم بالمدينة أخبروهم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلما كان العام المقبل قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا منهم فبايعوه وبعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فكثر الإسلام في المدينة فلما كان العام المقبل قدم من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعين رجلا وامرأتان فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم إذا هاجر إليهم فكان في ذلك فاتحة خير للإسلام والمسلمين وفخر عظيم للأنصار رضي الله عنهم. عباد الله إن فيما جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ دعوة الإسلام من الأذى والتعب والمشقة لعبرة لأولي الأبصار. فاتقوا الله أيها المسلمون واعتبروا واصبروا على ما يصيبكم في الدعوة إلى دين الله وانتظروا فإن العاقبة للمتقين وإن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير.

الخطبة الرابعة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة الرابعة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة الرابعة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله والشكر له على ما أولانا من واسع كرمه وفضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدى من هدى بفضله وأضل من أضل بحكمته وعدله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من جميع خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وصحبته وسلم تسليما. أما بعد: ففي هذا الشهر شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى رسول الله ورسوله خرج من مكة مهاجرا بإذن ربه بعد أن قام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها والإيذاء الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش فقال عدو الله أبو جهل الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جلدا ثم نعطي كل واحد سيفا صارما ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف يعني عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يحاربوا قومهم جميعا فيرضون بالدية فنعطيهم إياها. الله أكبر هكذا يخطط أعداء الله للقضاء على رسول الله وبهذا القدر من المكر والخديعة ولكنهم يمكرون ويمكر الله كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر رضي الله عنه قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فتأخر أبو بكر رضي الله عنه ليصحب النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها «فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب متقنعا فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله

ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأبي بكر أخرج من عندك فقال إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال نعم فقال يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بالثمن» ثم خرجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وكان غلاما شابا ذكيا واعيا فينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح مع قريش فلا يسمع بخبر حول النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام فجعلت قريش تطلب النبي صلى الله عليه وسلم من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال أبو بكر رضي الله عنه قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال «لا تحزن إن الله معنا ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» . حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلا خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له فالتفت أبو بكر فقال يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إن الله معنا» فدنا سراقة منهما حتى إذا سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم غاصت يدا فرسه في الأرض حتى مس بطنها الأرض وكانت أرضا صلبة فنزل سراقة وزجرها فنهضت فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء مثل الدخان قال فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فناديتهم بالأمان فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك فقال لا حاجة لي في ذلك وقال أخف عنا فرجع سراقة وجعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده وقال كفيتم هذه الجهة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رجل ينطلق على فرسه طالبا للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ليظفر بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصرا معينا مدافعا يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يريدان من إبله وغنمه ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها وهكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد وتكون العاقبة له.

ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه حتى يطردهم حر الشمس فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة ينظر لحاجة به فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب فلم يملك أن نادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون فهب المسلمون للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم السلاح تعظيما وإجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذانا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم فتلقوه صلى الله عليه وسلم بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه آخرون يتلقونه في الطرقات قال أبو بكر رضي الله عنه خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون الله أكبر جاء رسول الله الله أكبر جاء محمد. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه إني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذ غلام والناس يقولون جاء محمد جاء محمد هكذا يردد الناس هذه الكلمات فرحا بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب الناس إليهم. فيا له من مقدم ملأ القلوب فرحا وسرورا وملأ الآفاق بهجة ونورا. «فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكل قبيلة من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته النزول عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دعوها فإنها مأمورة وإنما أنزل حيث أنزلني الله عز وجل فلما انتهت به إلى مكان مسجده بركت فلم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وثبت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلق لها الزمام فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبركت فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا إن شاء الله المنزل وكان هذا المكان لغلامين يتيمين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فساومهما ليشتريه منهما فيتخذه مسجدا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما وقال أي بيوتنا أقرب قال أبو أيوب أنا يا رسول الله هذه داري وهذا بابي قال فانطلق فهيئ لنا مقيلا ففعل ثم جاء فقال قوما على بركة الله ثم جاء عبد الله بن سلام وكان حبرا من أحبار اليهود فقال أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فاسألهم عني

قبل أن يعلموا أني أسلمت فإنهم إن علموا به قالوا في ما ليس في فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فأتوا إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق قالوا ما نعلم ذلك قال فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام فقالوا سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا قال أرأيتم إن أسلم قالوا حاش لله ما كان ليسلم فأعاد فأعادوا وكان عبد الله بن سلام قد اختبأ لينظر ما يقولون فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن سلام اخرج عليهم فخرج فقال يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق فقالوا له كذبت فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور» . هذه أيها المسلمون هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بلدة ليقيم دعوة الله ويصلح بها عباد الله. فاتقوا الله عباد الله واهجروا المعاصي لتقوموا بإحدى الهجرتين ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ومن اتقى وأحسن كان الله معه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . الخ.

الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية

[الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية] الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أهم العلوم وأنفعها علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ حياته ومعرفة ما هو عليه في عباداته ومعاملاته في أهله وأصحابه وأوليائه وأعدائه لأنه صلى الله عليه وسلم الأسوة والإمام تهتدون بنور شريعته وتسيرون على سنته وفي هذا الشهر أعني شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة يريد العمرة ومعه من أصحابه نحو ألف وأربعمائة فأحرم من ذي الحليفة فلما علمت قريش بذلك جمعوا له جموعا ليصدوه عن البيت ويقاتلوه على ذلك «فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان في الثنية التي يهبط عليهم منها بركت ناقته واسمها القصواء فزجرها الناس لتقوم فلم تقم فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء أي حزنت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية وفزعت قريش لنزوله عليهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبرهم بما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإسلام فبلغ عثمان رضي الله عنه أبا سفيان وعظماء قريش ما بعثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به فقال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبست قريش عثمان عندها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قتل فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على القتال وأن لا يفروا إلى الموت وجلس تحت شجرة سمرة في الحديبية فجعلوا يبايعونه وأخذ بيد نفسه فقال هذه عن عثمان وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة فبينما هم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي وكانت خزاعة

ذوي نصح للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما أعدت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سيقاتلونه ويصدونه عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين وإن قريشا قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فأخبر بديل قريشا بما قال له النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال لقريش إن هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا ائته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكلم بكلمة أهذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم وكان المغيرة بن شعبة ابن أخي عروة قائما على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده ضربها المغيرة بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال أبو بكر رضي الله عنه لعروة أمصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ثم جعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أي على فضل ماء وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له. فلما رجع عروة قال والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا. ثم ذكر لهم ما شاهده من الصحابة وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقام رجل من بني كنانة فقال دوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن أي الإبل المهداة إلى البيت فابعثوها إليه فبعثوها إليه وأقبل الناس إليه يلبون فقال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس وكان خطيب قريش ليصالح النبي صلى الله عليه وسلم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل اكتب باسمك اللهم لأنهم ينكرون اسم الرحمن فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله

فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله» ، وإنما تساهل النبي صلى الله عليه وسلم في موافقة سهيل لما في ذلك من تعظيم حرمات الله بحقن الدماء الحاصل بهذا الصلح وقد قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم جرى الصلح العظيم الذي سماه الله فتحا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة هذا العام وعلى أن يعتمر في العام المقبل فيخلوا بينه وبين مكة ثلاثة أيام ليس معه إلا سلاح الراكب والسيوف في القراب وعلى أن من جاء من قريش إلى المسلمين ردوه إلى قريش وإن كان مسلما ومن جاء إلى قريش من المسلمين لم يردوه وعلى وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين وعلى أن من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه فراجع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «نعم إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا» . وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم «يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فلم نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري وراجع عمر أبا بكر فقال له مثل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال استمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قال عمر فعملت لذلك أعمالا» ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خير. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم ونحر هديه وأمر حالقه فحلق رأسه. فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا وحلق بعضهم بعضا حتى كاد يقتل بعضهم بعضا من الغم مما صنع بهم المشركون من صدهم عن بيت الله الذي أولى الناس به رسول الله وأصحابه وفي العام المقبل خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة معتمرا في ذي القعدة وأمر أصحابه أن يكشفوا عن المناكب اليمنى وأن يرملوا في طوافهم ليرى المشركون جلدهم وقوتهم وكان صلى الله عليه وسلم يحب إغاظة المشركين بكل ما يستطيع ولقد كان في غزوة الحديبية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من آيات الله فلقد شكى الصحابة قلة الماء وبين يديه إناء يتوضأ منه فوضع يده فيه فجعل الماء يفور من بين يديه كأمثال العيون فشربوا وتوضأوا وكانوا نحو ألف وأربعمائة.

أيها المسلمون هكذا كان أعداء الإسلام يحاولون صد المسلمين عن دينهم وشعائر دينهم تارة بالقوة وتارة بالمكر والخديعة فاحذروهم واعرفوا مكرهم وخديعتهم وقابلوهم بما هو أشد فإنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. اللهم اجعلنا ممن يعرفون أعداءهم ويحذرونهم اللهم اجعلنا أشداء على الكفار رحماء بيننا اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

الخطبة السادسة في بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة السادسة في بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة السادسة في بعض آيات النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق المبين وأيده بالآيات البينات لتقوم الحجة على المعاندين: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: فإن الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولذلك أيدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» فأيدهم الله تعالى بالبينات لتقوم الحجة على كل معاند وليؤمن من آمن عن اقتناع وبصيرة فينشرح صدره للإيمان ويطمئن إليه قلبه. ولقد كان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات أعظمها وأجلها كانت آياته صلى الله عليه وسلم آيات شرعية وآيات كونية. أما الآيات الشرعية فأعظمها هذا القرآن العظيم يقول الله تعالى للذين يطلبون آيات للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . نعم إن هذا القرآن العظيم لآية كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاء مصدقا لكتب الله السابقة وحاكما عليها وناسخا لها: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] كان هذا القرآن آية كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان على وصف رسالته في عمومها وشمولها وصلاحها وإصلاحها فهو كتاب عام شامل صالح لكل زمان ومكان مصلح لأمور الدنيا والآخرة فهو أساس الشريعة والشريعة شاهدة له كان القرآن آية كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم لما يشتمل عليه من الأخبار الصادقة الهادفة والقصص الحسنى المملوءة عبرة وتربية والأحكام العادلة المرضية والإصلاحات الاجتماعية والفردية. وكان القرآن آية كبرى في لفظه ومعناه وأثره في النفوس وآثاره في الأمة فهو آية للأمة كلها من أولها إلى

آخرها كل المسلمين يتلونه كما يتلوه أول هذه الأمة ويمكنهم أن ينهلوا من معين أحكامه وحكمه كما نهل منها الرعيل الأول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشريعة الكاملة في العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب والمعاملات وتنظيم سلوك العبد فيما بينه وبين ربه وفيما بينه وبين الخلق لو اجتمع العالم كلهم على أن يأتوا بمثل هذه الشريعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لأنها شريعة الله العليم بما يصلح خلقه الحكيم بما يشرعه لهم الرحيم بما يكلفهم به. وإن كل ما جاء من صلاح أو إصلاح في أي نظام من النظم فإن الشريعة المحمدية الإسلامية ما هو أصلح منه وأنفع للخلق. وإن كان البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الشريعة في صلاحها وإصلاحها كان ذلك آية وبرهانا على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي شريعة الله تعالى. وأما الآيات الكونية الدالة على رسالته صلى الله عليه وسلم فكثيرة جدا لا تمكن الإحاطة بها فمنها ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق ومعالي الآداب ومحاسن الأعمال قال ملك غسان وقد دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهد وينجز بالموعود وأشهد أنه نبي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) وهو كتاب قيم ينبغي للمسلم قراءته لا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه انتشار النصارى بين المسلمين في القطاع الحكومي والشعبي ليكون الإنسان على بصيرة من أمرهم قال شيخ الإسلام إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبا من صميم سلالة إبراهيم وكان من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم لا يعرف له شيء يعاب به ولا جرت عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وظهور على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة. ومن آيات النبي صلى الله عليه وسلم الكونية ما شاهده الناس في الآفاق السماوية والآفاق الأرضية ففي الآفاق السماوية كثرت الشهب في السماء لإحراق الشياطين التي تستمع أخباء السماء كثرت

الشهب حماية لوحي الله الذي ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] وطلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا غار حراء بينهما وكانت كل شقة منه على حذاء جبل وأسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى واجتمع إليه الأنبياء فصلى بهم إماما ثم عرج به إلى السماوات وقابل في كل سماء من قابل من الأنبياء والرسل وسلم عليهم فردوا عليه وحيوه وبلغ سدرة المنتهى ومكانا سمع فيه صريف الأقلام وكلمه الله تعالى بما أراد وتراجع بين الله تعالى وبين موسى فيما فرض الله عليه من الصلوات وعرضت عليه الجنة وأدخلها وعرضت عليه النار فرآها كل هذا كان في ليلة بل في بعض ليلة وهو من أعظم آيات الله الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] وجاءه رجل وهو يخطب يوم الجمعة فقال ادع الله أن يغيثنا فدعا فثار السحاب أمثال الجبال فما نزل عن المنبر حتى كان المطر يتحادر على لحيته فبقي أسبوعا حتى دخل رجل في الجمعة الأخرى فقال ادع الله أن يمسكها عنا فدعا وجعل يشير إلى السحاب فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت فخرج الناس يمشون في الشمس. وفي الآفاق الأرضية شاهد الناس من آيات النبي صلى الله عليه وسلم شيئا كثيرا فمنها ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «عطش الناس وكان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ركوة - والركوة إناء من جلد - فجهش الناس نحوه فقال ما لكم قالوا ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضأ إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا قيل لجابر كم كنتم قال كنا ألفا وخمسمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا» . وأتى أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جملة من أصحابه قد عصب بطنه من الجوع فذهب أنس إلى أبي طلحة وهو زوج أمه فأخبره بما شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طلحة لأم سليم زوجته هل من شيء قالت نعم كسر من خبز وتمرات إن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه وإن جاء معه آخر قل عنهم قال أنس فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلي فقلت أجب أبا طلحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه قوموا فإذا أبو طلحة على الباب فقال يا رسول الله إنما هو شيء يسير فقال هاته فإن الله سيجعل فيه البركة ثم أمر بسمن فصب عليه ودعا فيه ثم قال ائذن لعشرة فقال كلوا وسموا الله ثم أدخلهم

عشرة عشرة وكانوا ثمانين حتى شبعوا ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت حتى شبعوا وأهدوا البقية للجيران. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إلى جذع نخلة في المسجد فلما صنع له المنبر وقام عليه أول جمعة حن الجذع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تحن العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم إليه فوضع عليه يده يسكنه حتى سكن. وكان من آياته صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من أمور الغيب التي وقعت طبقا لما أخبر صلى الله عليه وسلم كأنما يشاهدها بعينه كقوله صلى الله عليه وسلم «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم» . وقوله صلى الله عليه وسلم «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» فقد كان ذلك ولله الحمد فما زال في هذه الأمة أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم على كثرة ما غزى دينهم من أعدائهم حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والمشركين فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رجل نصرانيا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له وأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه وتركوه منبوذا وهكذا ينتصر الله من أعداء الله تعالى ويري الناس فيهم آياته حتى يتبين لهم الحق. فاتقوا الله أيها المسلمون وثقوا بوعد الله إن كنتم صادقين ولا تيأسوا من روح الله. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . الخ.

الخطبة السابعة في معراج النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة السابعة في معراج النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة السابعة في معراج النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنعم علينا بنعم لا تحصى ودفع عنا من النقم ما لا يعد ولا يستقصى وسبحان الذي أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به بصحبة جبريل الأمين إلى السماوات العلى وأراه من آياته العظيمة الكبرى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا الذي خلق الأرض والسماوات العلى وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فضله الله بالعلم والرشد فما ضل وما غوى وأدبه فأحسن تأديبه فما زاغ بصره وما طغى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرماء وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم الكبرى والآلاء الجسيمة العظمى فإن نعم الله علينا سابغة وآلاءه متوالية متتابعة لقد جعلنا الله خير أمة أخرجت للعالمين وفضل نبينا على سائر الأنبياء والمرسلين واختصه بخصائص لما ينلها أحد من البشر ولن يصل إليها أحد ممن تقدم أو تأخر. فمن خصائصه العظيمة ذلك المعراج الذي فضله الله به قبل أن يهاجر من مكة فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانا تهيئة لما سيقوم به ثم أتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما كل الأنبياء والمرسلين يصلون خلفه ليتبين بذلك فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه وأنه الإمام المتبوع ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح وإذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك وإذا نظر قبل شماله بكى ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح. . . إلخ. فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة كل واحد منهما ابن خالة الآخر فقال جبريل هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلم عليهما فردا السلام وقالا مرحبا

بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فاستفتح. . الخ. فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل هذا يوسف فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح. . الخ. فوجد فيها إدريس صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا إدريس فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح. . الخ. فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا هارون فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح. . إلخ. فوجد فيها موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا موسى فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزه بكى موسى فقيل له ما يبكيك قل أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي فكان بكاء موسى حزنا على ما فات أمته من الفضائل لا حسدا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم عرج به جبريل إلى السماء السابعة فاستفتح. . . الخ. فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. وإنما طاف جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الأنبياء تكريما له وإظهارا لشرفه وفضله صلى الله عليه وسلم وكان إبراهيم الخليل مسندا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون في اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال ما فرض ربك على أمتك قال خمسين صلاة في كل يوم فقال إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت فوضع عني عشرا وما زال يراجع ربه حتى استقرت الفريضة على خمس فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي. وفي هذه الليلة أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ثم نزل

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة بغلس وصلى فيها الصبح فلما أصبح أخبر قريشا بما رأى فكان في ذلك امتحان لهم وزيادة في الطغيان والتكذيب وقالوا كيف تزعم يا محمد أنك أتيت بيت المقدس ورجعت في ليلة ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهرا في الذهاب وشهرا في الرجوع فهات صف لنا بيت المقدس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصفه لهم حيث جلاه الله له فجعل ينظر إليه وينعته لهم فبهتوا وقالوا أما الوصف فقد أصاب وجاء الناس إلى أبي بكر فقالوا إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال إن كان قاله فقد صدق. ثم جاءه وحوله المشركون يحدثهم فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قال أبو بكر صدقت فسمي الصديق من أجل ذلك رضي الله عنه وأرضاه. فاعتبروا أيها المؤمنون بهذه الآيات العظيمة واشكروا الله على هذه النعم الجسيمة واسألوه أن يثبتكم على الإيمان إلى الممات وأن يحشركم في زمرة أوليائه وحزبه فإن حزب الله هم المفلحون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم) {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] إلى قوله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة الثامنة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم

[الخطبة الثامنة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم] الخطبة الثامنة في صفات النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي من على من شاء من عباده بصفات الكمال ورفع بعضهم على بعض درجات ليبلوهم فيما أعطاهم من تلك الخصال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكبير المتعال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الأيام والليال وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم واعلموا ما له من الحكم البالغة في شرعه وخلقه وجزائه فله الحكمة البالغة الصادرة عن علم تام ورحمة واسعة شرع الشرائع فأحكمها وخلق المخلوقات فأتقنها ووضع الجزاء على وقف الحكمة والعدل والفضل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وضع الرسالة العظمى في محمد صلى الله عليه وسلم و: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وضعها فيمن أكمله الله خلقة حيث جاء جسده كاملا متناسبا حسنا جميلا فكان صلى الله عليه وسلم ربعة من الرجال ليس بالطويل البائن ولا القصير بعيد ما بين المنكبين ضخم الأعضاء بتناسب رحب الصدر وكان أحسن الناس وجها أزهر اللون مشربا بحمرة مستدير الوجه مع سهولة الخدين أكحل العينين أدعجهما أسبغ الحواجب في غير قرن بينهما دقيق الأنف حسن الفم مفلج الأسنان براق الثنايا كث اللحية حسنها. قال أنس بن مالك رضي الله عنه توفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء إنما كان شمط عند العنفقة وفي الصدغين والرأس يسيرا له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى مكنبيه كان يسدله ثم عدل إلى تفريقه على جانبي الرأس هذه صفاته الخلقية أكمل صفات الرجال بينتها لكم لتكون لكم آية عندما ترونه في النوم لأن من رآه في المنام على صفته الثابتة عنه فقد رآه حقا لأن الشيطان لا يتمثل به. أما صفاته الخلقية فكان أكمل الناس خلقا في جميع محاسن الأخلاق قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ففي الكرم كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس يعطي عطاء لا تبلغه الملوك سأله رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة قال جابر رضي الله عنه ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا وعلق به الأعراب يسألونه أن يقسم بينهم في مرجعه من حنين فقال صلى الله عليه وسلم لو كان لي عدد هذه العضاه

نعما - يعني عدد هذه الأشجار إبلا- لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا. وكان يؤثر على نفسه فيعطي العطاء ويمضي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار. أهديت إليه شملة فلبسها وهو محتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه إياها فلامه الناس فقالوا كان محتاجا إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلا فقال إنما سألتها لتكون كفني. وكان كرمه صلى الله عليه وسلم في محله ينفق المال لله وفي الله إما لفقير أو محتاج أو في سبيل الله أو تأليفا على الإسلام أو تشريعا للأمة. وفي الشجاعة كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأمضاهم عزما وإقداما كان الناس يفرون وهو ثابت قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لما التقى المسلمون والكفار يعني في حنين وولى المسلمون مدبرين طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع وكان يقول حينئذ «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» وقال علي رضي الله عنه كنا إذا اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه. قال أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول «لن تراعوا» ومع هذه الشجاعة العظيمة كان لطيفا رحيما فلم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح قال أنس خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف ولا لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لما تركته. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويضعهم في حجره وربما بال الصبي في حجره فلا يعنف. وكان يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر وكان يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتن أمه وكان يحمل ابنة بنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين ورسول الله يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال «صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» . قال الحسين بن علي رضي الله عنهما

سألت أبي عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس راجيه لا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه وإذا تكلم عنده أنصتوا له حين يفرغ وكان يصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام. وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا أو عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا. قال أنس دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحته وسادة من أدم وحشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمر قال ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال بلى قال هو كذلك» . هذه أيها المسلمون درر من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوها نبراسا لكم تأتمون بها وتأخذون وتسيرون عليها وتهتدون فإن الله جبله على مكارم الأخلاق وأمرنا بالاقتداء به: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] رزقنا الله وإياكم محبة هذا النبي الكريم ووفقنا لاتباع هديه وسننه حتى يأتينا اليقين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . . الخ.

الخطبة التاسعة في حياة أبي بكر رضي الله عنه

[الخطبة التاسعة في حياة أبي بكر رضي الله عنه] الخطبة التاسعة في حياة أبي بكر رضي الله عنه الحمد لله الذي بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في خير القرون واختار له من الأصحاب أكمل الناس عقولا وأقومهم دينا وأغزرهم علما وأشجعهم قلوبا قوما جاهدوا في الله حق جهاده فأقام بهم الدين وأظهرهم على جميع العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا ما من الله به على نبيكم من الصحابة الكرام ذوي الفضائل العديدة والخصال الحميدة الذين نصر الله بهم الإسلام ونصرهم به وكان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قاموا بالخلافة بعد نبيهم خير قيام فحافظوا على الدين وساسوا الأمة بالعدل والحزم والتمكين فكانت خلافتهم أفضل خلافة في التاريخ في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم وكان أجلهم قدرا وأعلاهم فخرا أبا بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خير من أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم. فقد ثبت في صحيح البخاري «أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأمرها أن ترجع إليه فقالت أرأيت إن لم أجدك قال فائتي أبا بكر» وهم صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتابا لأبي بكر ثم قال «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» ، وفي رواية: معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر وخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس في الصلاة والحج فقد أمر أن يصلي أبو بكر بالناس حين مرض النبي صلى الله عليه وسلم وجعله أميرا على الناس في الحج سنة تسع من الهجرة وكل هذا إشارة إلى أنه الخليفة من بعده ولو كان أحد يستحق الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر لخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والحج. كان أبو بكر رضي الله عنه من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم شهد له ابن الدعنة (سيد القارة) أمام أشراف قريش بما شهدت به خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بادر رضي الله عنه إلى الإيمان به وتصديقه ولم يتردد حين دعاه إلى الإيمان ولازم النبي صلى الله عليه وسلم طول إقامته بمكة وصحبه في هجرته ولازمه في المدينة وشهد معه جميع الغزوات أسلم على

يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف. واشترى سبعة من المسلمين يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم فأعتقهم منهم بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامر بن فهيرة الذي صحبهما في هجرتهما ليخدمهما. كان رضي الله عنه أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ومدلول كلامه وفحواه. فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وقال «إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله» ففهم أبو بكر رضي الله عنه أن المخير رسول الله فبكى فعجب الناس من بكائه لأنهم لم يفهموا ما فهم. وكان رضي الله عنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس «إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته» . وجاء مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى فأقبلت إليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا» ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ما يكره فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي مرتين» فما أوذي بعدها. وكان رضي الله عنه أثبت الصحابة عند النوازل والكوارث ففي صلح الحديبية لم يتحمل كثير من الصحابة الشروط التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش حتى إن عمر راجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وشق عليه الأمر وراجع أبا بكر فكان جواب أبي بكر كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم اندهش المسلمون لذلك حتى قام عمر رضي الله عنه وأنكر موته وقال والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم (من خلاف) ولكن أبا بكر رضي الله عنه جاء فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر فخطب الناس بقلب ثابت وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وتلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] ولما أراد أن ينفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم راجعه عمر وغيره من الصحابة أن لا يسير الجيش من أجل حاجتهم إليه في قتال أهل الردة ولكنه رضي الله عنه صمم على تنفيذه وقال والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير تخطفنا. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب ومنعوا الزكاة عزم على قتالهم فراجعه من راجعه في ذلك فصمم على قتالهم قال عمر فعرفت أن ذلك هو الحق. وصفه علي رضي الله عنه فقال كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأحسنهم صحبة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا وأكرمهم عليه خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف متواضعا في نفسك عظيما عند الله أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم. تولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار الناس سيرة حميدة وبارك الله في مدة خلافته على قلتها فقد كانت سنتين وثلاثة أشهر وتسع ليال ومات ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء ليلة ثلاث وعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث عشرة من الهجرة. ومن بركته أن خلف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن هذا من حسناته رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

الخطبة العاشرة في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[الخطبة العاشرة في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه] الخطبة العاشرة في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقه وتقديره فإنه سبحانه اختار نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل لينشره بين العالمين واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقومها عملا وأقلها تكلفا جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته فنصر الله بهم الدين ونصرهم به وأظهرهم على كل الأديان وأهلها. كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون فكانت خلافتهم أفضل خلافة في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان وأبو الحسن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكان أفضلهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار الذي نطق بما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار وثبت الله به المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ونصر الله به الإسلام حين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من بركته على هذه الأمة ونصحه لها ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي فإنه عمر» . وقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك» وسأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الرجال إليه فقال أبو بكر «قال ثم من قال ثم عمر بن الخطاب وعد رجالا» . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين - يعني دلوا أو دلوين - قال ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر

فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ولقد صدق الله ورسوله الرؤيا فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقوي سلطان الإسلام وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس حتى إنه قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفا وستا وثلاثين مدينة مع سوادها بنى فيها أربعة آلاف مسجد وكان رضي الله عنه مع سعة خلافته مهتما برعيته قائما فيهم خير قيام قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن الله أعز به الإسلام وأذل به الشرك وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك الله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متحذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه فقد شرط رضي الله عنه على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميز عنهم في اللباس والأسامي وغيرها وأن لا يظهروا الصليب على كنائسهم ولا في شيء من طرق المسلمين وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين ولقد كان رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا فقال ما لك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفا يعني مسلما قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله. وكتب إليه خالد بن الوليد يقول إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه عمر لا تستعمله فكتب خالد إلى عمر أنه لا غنى بنا عنه فرد عليه لا تستعمله فكتب إليه خالد إذا لم نستعمله ضاع المال فكتب إليه عمر مات النصراني والسلام. ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئا بسيطا كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لحقه مشرك ليقاتل معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لا أستعين بمشرك» . ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع هذا الحزم والحيطة لأمور المسلمين في مجانبة

أعدائهم والغلظة عليهم سببا قويا لنصر الإسلام وعزة المسلمين وكان يكتب إلى عماله يحذرهم من الترفع والإسراف كتب إلى عتبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير. وكان لا يحابي في دين الله قريبا ولا صديقا. الناس عنده سواء. يروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة وكان يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي. وكان رضي الله عنه مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها. خرج ذات ليلة إلى الحرة ومعه مولاه أسلم فإذا نار تسعر فقال يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركبا قصر بهم الليل والبرد فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تسكتهم به ليناموا فقال عمر السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أهل النار ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون قالت المرأة يتضاغون من الجوع قال فأي شيء في هذا القدر قالت ماء أسكتهم به أوهمهم أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال يرحمك الله وما يدري عمر بكم قالت أيتولى أمرنا ويغفل عنا فبكى عمر رضي الله عنه ورجع مهرولا فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين فقال أنت تحمل وزري يوم القيامة فحمله حتى أتى المرأة فجعل يصلح الطعام لها وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته حتى نضج الطعام فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها فأكل الصبية حتى شبعوا وجعلوا يضحكون ويتصارعون فقالت المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر فقال لها عمر قولي خيرا. أيها المسلمون هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله خائفة من عقابه راجية لثوابه فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها تبدلت أحوال الرعاة وكما تكونون يولى عليكم.

أيها المسلمون مع هذه السيرة العظيمة فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قتل شهيدا في آخر شهر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة فقد خرج لصلاة الصبح وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فطعنه غلام مجوسي فتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه في الصلاة. فرضي الله عن عمر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا لقد كان من خير الصحابة الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] إلى آخرها) .

القسم التاسع في التوقيت وخصائص بعض الأيام

[القسم التاسع في التوقيت وخصائص بعض الأيام] [الخطبة الأولى في ابتداء التاريخ] القسم التاسع في التوقيت وخصائص بعض الأيام الخطبة الأولى في ابتداء التاريخ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس فإننا هذا الأسبوع نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا ابتداء عقد سنواته من أجل مناسبة في الإسلام ألا وهي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم التي ابتدأ بها تكوين الأمة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون ولم يكن التاريخ السنوي معمولا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فيقال إن بعضهم قال أرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها كلما هلك ملك أرخوا بولاية من بعده فكره الصحابة ذلك فقال بعضهم أرخوا بتاريخ الروم فكرهوا ذلك أيضا فقال بعضهم أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم وقال آخرون من مبعثه وقال آخرون من مهاجره فقال عمر الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فأرخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك تشاوروا من أي شهر يكون ابتداء السنة فقال بعضهم من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن وقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا واختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم الذي به تمام أركان دينهم والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمة على الهجرة فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرم الحرام. أيها المسلمون إن من المؤسف حقا أن يعدل المسلمون أكثرهم اليوم عن التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ النصارى الميلادي الذي لا يمت إلى دينهم بصلة ولئن كان

لبعضهم شبهة من العذر حين استعمر بلادهم النصارى وأرغموهم على أن يتناسوا تاريخهم الإسلامي الهجري فليس لهم الآن أي عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي وقد أزال الله عنهم كابوس المستعمرين وظلمهم وغشمهم ولقد سمعتم ما قيل من أن الصحابة رضي الله عنهم كرهوا التأريخ بتاريخ الفرس والروم. أيها المسلمون إننا اليوم نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا شهوره الشهور الهلالية التي هي عند الله تعالى في كتابه كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للعالم كلهم قال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] مواقيت للناس كلهم بدون تخصيص لا فرق بين عرب وعجم ذلك لأنها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يعرف بها دخول الشهر وخروجه فمتى رؤي الهلال من أول الليل دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق. ليست كالشهور الإفرنجية شهورا وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس بل هي شهور اصطلاحية مختلفة بعضها واحد وثلاثون يوما وبعضها ثمانية وعشرون يوما وبعضها بين ذلك لا يعلم لهذا الاختلاف سبب حقيقي معقول لكنها عورضت من قبل الأحبار والرهبان فتأمل أيها المسلم كيف يعارض رجال دين اليهود والنصارى في تغيير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح أضبط لأنهم يعلمون ما لذلك من خطر ورجال دين الإسلام ساكتون بل مقرون لتغيير التوقيت بالشهور الإسلامية بل العالمية التي جعلها الله لعباده حيث عدل عنها المسلمون أكثرهم إلى التوقيت بالشهور الإفرنجية وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له إن الفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة وروي عن مجاهد أنه كان يكره أن يقال آذارماه. أيها المسلمون إننا هذه الأيام نستقبل عاما جديدا إسلاميا هجريا ليس من السنة أن نحدث عيدا لدخوله أو نعتاد التهاني ببلوغه فليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله، إن علينا أن نستقبل

أيامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربنا ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا ومراقبة من ولانا الله تعالى عليه من الأهل من زوجات وأولاد بنين وبنات وأقارب. فاتقوا الله عباد الله وقوموا بما أنتم به معنيون وعنه يوم القيامة مسؤولون: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] قوموا بذلك على الوجه الأتم الأكمل أو على الأقل بالواجب واعلموا أن أعضاءكم ستكون عليكم بمنزلة الخصوم يوم القيامة يوم يختم على الأفواه وتكلم الأيدي والأرجل بما كسب الإنسان قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ - وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 20 - 23] عباد الله إن كل عام يجد يعد المرء نفسه بالعزيمة الصادقة والجد ولكن تمضي عليه الأيام وتنطوي الساعات وحاله لم تتغير إلى أصلح فيبوء بالخيبة والخسران ثم لا يفلح ولا ينجح فاغتنموا الأوقات عباد الله بطاعة الله وكونوا كل عام أصلح من العام الذي قبله فإن كل عام يمر بكم يقربكم من القبور عاما ويبعدكم عن القصور عاما يقربكم من الانفراد بأعمالكم ويبعدكم من التمتع بأهليكم وأولادكم وأموالكم. عباد الله والله ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين ولا نال العز والكرامة والرفعة إلا من خضع لرب العالمين ولا دام الأمن والطمأنينة والرخاء إلا باتباع منهج المرسلين ولئن استمرت زهرة الدنيا مع المعاصي والانحراف إن ذلك لاستدراج يعقبه الإهلاك والإتلاف فاعتصموا بطاعة الله عن عقوبتكم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وطمأنينة عام علم نافع وعمل صالح عاما تسبغ به علينا نعمك وترزقنا شكرها عاما تصلح به ولاة أمورنا ورعيتنا عاما تيسرنا فيه للهدى وتيسر الهدى لنا إنك جواد كريم رؤوف رحيم.

الخطبة الثانية في الأشهر الحرم

[الخطبة الثانية في الأشهر الحرم] الخطبة الثانية في الأشهر الحرم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وتيقنوا أن لله تعالى الحكمة البالغة فيما يصطفي من خلقه فالله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ويفضل من الأوقات ومن الأمكنة أماكن ففضل الله تعالى مكة على سائر البقاع ثم من بعدها المدينة مهاجر خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ثم من بعدهما بيت المقدس مكان غالب الأنبياء الذين قص الله علينا نبأهم وجعل لمكة والمدينة حرما دون بيت المقدس وفضل الله تعالى بعض الشهور والأيام والليالي على بعض فعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وشهر رجب الفرد بين جمادى وشعبان وخير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وليلة القدر خير من ألف شهر فعظموا رحمكم الله تعالى ما عظمه الله فلقد ذكر أهل العلم أن الحسنات تضاعف في كل زمان ومكان فاضل وأن السيئات تعظم في كل زمان ومكان فاضل وشاهد هذا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] وقال تعالى في المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وإنكم اليوم تستقبلون الأشهر الحرم الثلاثة فلا تظلموا فيهن أنفسكم التزموا حدود الله تعالى أقيموا فرائض الله واجتنبوا محارمه أدوا الحقوق فيما بينكم وبين ربكم وفيما بينكم وبين عباده واعلموا أن الشيطان قد قعد لابن آدم كل مرصد وأقسم الله ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا يجد أكثرهم شاكرين أقسم لله بعزة الله ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين إن الشيطان لحريص كل الحرص على إغواء بني آدم وإضلالهم يصدهم عن دين الله يأمرهم بالفحشاء والمنكر يحبب إليهم المعاصي ويكره إليهم الطاعات يأتيهم من كل جانب ويقذفهم بسهامه من كل جبهة إن رأى من العبد رغبة في الخير ثبطه

عنه وأقعده فإن عجز عنه من هذا الجانب جاءه من جانب الغلو والوسواس والشكوك وتعدي الحدود في الطاعة فأفسدها عليه فإن عجز عنه من جانب الطاعات جاءه من جانب المعاصي فينظر أقوى المعاصي هدما لدينه فأوقعه فيها فإن عجز عنه من هذا الجانب حاوله من جانب أسهل فأوقعه فيها دونها من المعاصي فإذا وقع في شرك المعاصي فقد نال الشيطان منه بغيته فإن المرء متى كسر حاجز المعصية أصبحت المعصية هينة عليه صغيرة في عينه يقللها الشيطان في نفسه تارة ويفتح عليه باب التسويف تارة يقول له هذه هينة افعلها هذه المرة وتب إلى الله تعالى فباب التوبة مفتوح وربك غفور رحيم فلا يزال به يعده ويمنيه وما يعده إلا غرورا فإذا وقع في هذه المعصية التي كان يراها من قبل صعبة كبيرة وهانت عليه تدرج به الشيطان إلى ما هو أكبر منها وهكذا أبدا حتى يخرجه من دينه كله ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التدرج فيما رواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وذا بعود حتى أنضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» . عباد الله احذروا مكايد الشيطان ومكره فإنه يتنوع في ذلك ويتلون فهذا يأتيه من قبل الإيمان والتوحيد فيوقعه في الشك أحيانا وفي الشرك أحيانا وهذا يأتيه من قبل الصلاة فيوقعه في التهاون بها والإخلال وهذا يأتيه من قبل الزكاة فيوقعه في البخل بها أو صرفها في غير مستحقها وهذا يأتيه من قبل الصيام فيوقعه فيما ينقضه من سيء الأقوال والأفعال وهذا يأتيه من قبل الحج فيوقعه في التسويف به حتى يأتيه الموت وما حج وهذا يأتيه من قبل حقوق الوالدين والأقارب فيوقعه في العقوق والقطيعة وهذا يأتيه من قبل الأمانة فيوقعه في الغش والخيانة وهذا يأتيه من قبل المال فيوقعه في اكتسابه من غير مبالاة فيكتسبه عن طريق الحرام بالربا تارة وبالغرور والجهالة تارة ويأخذ الرشوة أحيانا وبإهمال عمله تارة إلى غير ذلك من أنواع المعاصي وأجناسها التي يغر بها الشيطان بني آدم ثم يتخلى عنهم أحوج ما يكونون إلى المساعد والمعين اسمعوا قول الله تعالى في غرور الشيطان لأبوينا آدم وحواء حين أسكنهما الله تعالى الجنة وأذن لهما أن يأكلا رغدا من حيث شاءا من أشجارها وثمارها سوى شجرة واحدة عينها لهما بالإشارة {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] ولكن الشيطان وسوس لهما وقال:

: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ - وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - فَدَلَّاهُمَا} [الأعراف: 20 - 22] أي أنزلهما من مرتبة الطاعة وعلو المنزلة {بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] واسمعوا خداعه لقريش في الخروج إلى بدر وتخليه عنهم حيث يقول الله تعالى في ذلك: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] واسمعوا قول الله تعالى في خداع الشيطان لكل إنسان وتخليه عنه حيث يقول الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 16 - 17] {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22] عباد الله إن كل ما تجدون في نفوسكم من تكاسل عن الطاعات وتهاون بالمعاصي فإنه من وساوس الشيطان ونزغاته فإذا وجدتم ذلك فاستعيذوا بالله منه فإن في ذلك الشفاء والخلاص قال الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200 - 201] اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم واجعلنا من عبادك المخلصين الذين ليس له سلطان عليهم وعلى ربهم يتوكلون واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين إنك جواد كريم غفور رحيم. [الخطبة الثالثة في قصة موسى مع فرعون

الخطبة الثالثة في قصة موسى مع فرعون الحمد لله العلي الكبير المتفرد بالخلق والتدبير الذي أعز أولياءه بنصره وأذل أعداءه بخذله فنعم المولى ونعم النصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تذكرون اذكروا أيام الله بنصر أنبيائه وأتباعهم لعلكم تشكرون واذكروا أيام الله بخذل أعدائه ومن والاهم لعلكم تتقون واذكروا أيام الله إذا أنزل للقضاء بين عباده يوم القيامة لعلكم توقنون. أيها الناس إن نصر الله تعالى لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة انتصار للحق وذلة للباطل وأخذ للمتكبر ونعمة على المؤمنين إلى يوم القيامة لأنهم يسرون بذلك وينعمون به بالا. وفي هذا الشهر كانت نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده فلقد أرسله الله تعالى إلى فرعون بالآيات البينات والبرهان القاطع على نبوته إلى فرعون وقومه فرعون الذي تكبر على الملأ وقال أنا ربكم الأعلى فجاءه موسى بالآيات العظيمة ودعاه إلى توحيد الله تعالى خالق السماوات والأرض رب العالمين فقال فرعون منكرا ومكابرا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] أنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره السماء والأرض وفي كل شيء له آية تدل على وجوده وربوبيته وعلمه وقدرته وحكمته وأنه الرب الواحد الذي يجب إفراده بالعبادة كما هو متفرد بالخلق والتدبير فأجابه موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] فإن في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيمان واليقين فرد فرعون ساخرا بموسى ومستهزئا به ومحتقرا له قائلا لمن حوله: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] فأجاب موسى مذكرا لهم أصلهم وأنه مخلوقون مربوبون وكما خلقوا فهم صائرون إلى العدم طريقة آبائهم الأولين فقال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26] وحينئذ بهت فرعون فادعى دعوى الكاذب المغبون فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] فطعن بالرسول وبمن أرسله فأجاب موسى مبينا من الأحق بوصف الجنون أهو المؤمن بالله خالق السماوات والأرض ومالك المشرق والمغرب أم المنكر لذلك فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28]

فلما عجز فرعون عن مقاومة الحق وأفحمه موسى بالحجة والبرهان لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب والوعيد فتوعد موسى بالاعتقال والسجن قائلا: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ولم يقل لأسجننك ليزيد في إرهاب موسى حيث إن له من القوة والسلطان ما مكنه من سجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده إن اتخذ إلها غيره وما زال موسى صلى الله عليه وسلم يأتي بالآيات واضحة وضوح النهار وفرعون يحاول بكل جهوده ودعاته أن يقضي عليها بالرد والكتمان حتى قال لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى - فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 57 - 58] مستويا لا يحجب عن الرؤية فيه واد ولا جبل فواعدهم موسى موعد الواثق بنصر الله تعالى واعدهم يوم الزينة وهو يوم عيدهم في رابعة النهار ضحى فاجتمع الناس وأتى فرعون بكل ما يستطيع من كيد ومكر فقال لهم موسى: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] فوقعت هذه الكلمة الواحدة الصادرة عن إيمان ويقين وقعت بين الناس أشد من السلاح الفتاك فتنازعوا أمرهم بينهم وتفرقت كلمتهم وصارت العاقبة لنبي الله موسى صلى الله عليه وسلم وأعلن خصومه من السحرة إيمانهم به: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46 - 48] وقالوا لفرعون حين توعدهم: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72 - 73] وما زال فرعون ينابذ دعوة موسى صلى الله عليه وسلم حتى استخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين قال الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ - فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55 - 56] وكان من قصة إغراقهم أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلا من مصر فاهتم لذلك فرعون اهتماما عظيما فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده الله عز وجل فاجتمع الناس إليه فخرج بهم في إثر موسى وقومه ليقضي عليهم حتى أدركهم عند البحر الأحمر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] البحر أمامنا فإن خضنا غرقنا وفرعون وقومه خلفنا وسيأخذوننا فقال لهم موسى كلا أي لستم مدركين: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] أي سيدلني على ما فيه النجاة

وهذا والله غاية الإيمان والثقة بوعد الله ونصره فأوحى الله تعالى إلى موسى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63] فضربه {فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] بإذن الله عز وجل اثنى عشر طريقا صار هذا الماء السيال بينهما ثابتا كأطواد الجبال فدخل موسى وقومه يمشون بين جبال الماء في طرق يابسة أيبسها الله بلحظة آمنين فلما تكاملوا خارجين وتبعهم فرعون بجنوده داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده حتى غرقوا عن آخرهم فلما أدرك فرعون الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] ولكن لم ينفعه الإيمان حينئذ فقيل له توبيخا: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] قال الله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ - فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25 - 29] فأورث الله بني إسرائيل أرض فرعون وقومه المجرمين لأن بني إسرائيل حينذاك كانوا على الحق سائرين ولوحي الله الذي أنزله على موسى متبعين فكانوا وارثين لأرض الله كما وعد الله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]- {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] أيها الناس إن نجاة نبي الله موسى وقومه من عدو الله فرعون وجنوده لنعمة كبرى تستوجب الشكر لله عز وجل ولهذا «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من هذا الشهر شهر المحرم فقال ما هذا قالوا يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه من عدوهم فصامه موسى فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه» «وسئل عن فضل صيامه فقال أحتسب على الله يكفر السنة التي قبله» . إلا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بعد ذلك بمخالفة اليهود بأن يصام العاشر ويوما قبله وهو التاسع أو يوما بعده وهو الحادي عشر. وعليه فيكره أن يصوم يوم العاشر وحده بل يضيف إليه يوما قبله أو يوما بعده وإضافة التاسع إليه أفضل من الحادي عشر. وفقني الله وإياكم لشكر نعمته وحسن عبادته وحمانا من شرور أنفسنا برعايته إنه جواد كريم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . . الخ.]

الخطبة الرابعة في بعض خصائص يوم الجمعة

[الخطبة الرابعة في بعض خصائص يوم الجمعة] الخطبة الرابعة في بعض خصائص يوم الجمعة الحمد لله الذي جعل يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع وجعل فيه ساعة الدعاء فيها مجاب ومسموع وخصه بخصائص ليعرف الناس قدره فيقوموا به على الوجه المشروع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي القهار مبيد الأجناد والجموع وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أتقى عابد وأهدى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في القنوت والخضوع وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه أن جعلكم من هذه الأمة وخصكم بهذه الملة فأصبحتم بذلك خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل وإن مما ادخره الله لكم من الفضائل هذا اليوم المبارك يوم الجمعة فقد أضل الله عنه اليهود والنصارى وهداكم له قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة هدانا الله له وضل الناس عنه فالناس لنا فيه تبع هو لنا ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد» . فاعرفوا أيها المسلمون حق هذا اليوم المبارك وما اختص به من الفضائل لعلكم تقومون بتعظيمه وتعرفون أهميته ففيه تمام خلق السماوات والأرض فقد خلقهما الله في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وفيه خلق أبوكم آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة. ففي هذا اليوم ابتداء الدنيا وانتهاؤها في هذا اليوم ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثما وأرجى الساعات للإجابة ساعتكم هذه وما بعد العصر فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة وانتظارها وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد وانتظار صلاة المغرب ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة. فتحروا أيها المسلمون ساعة الإجابة في هذا اليوم لعلكم تدركونها فتفوزون بما تسألون. ومن خصائص هذا اليوم تأكد الاغتسال فيه لصلاة الجمعة قال النبي صلى الله عليه وسلم «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» أي على كل بالغ فلا ينبغي للمسلم أن يترك الاغتسال ليوم الجمعة لأنه أمر مؤكد جدا. قال ابن القيم رحمه الله ووجوبه أقوى من وجوب الوضوء من مس النساء ومس الذكر والرعاف والحجامة والقيء وأقوى من وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد.

وينبغي أن يتطيب ويلبس أحسن ثيابه ويبكر إلى المسجد فيشتغل بالصلاة والقراءة والذكر حتى يأتي الإمام. وينبغي أن يتقدم في المكان كما تقدم في الزمان فيدنو من الإمام ولا يتأخر. ولقد رأيت بعض المحسنين المحبين للخير يأتون مبكرين للمسجد لكنهم يصلون في مؤخرة المسجد وهذا خلاف السنة بل السنة أن يتقدموا ويكملوا الصف الأول فالأول قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من وراءكم لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله» (رواه مسلم) . ومن خصائص هذا اليوم صلاة الجمعة وخطبتها التي أمر الله بالسعي إليها في كتابه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] وأجمع المسلمون على فرضيتها وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التهاون بها فقال صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين» فما أعظم حرمان هؤلاء الذين اتخذوا يوم الجمعة يوما للنزهة في البر يخرجون فيدعون صلاة الجمعة أما يخشى هؤلاء أن يشملهم هذا الحديث أما يخشون أن يطبع الله على قلوبهم فيكونوا من الغافلين عن ذكره المعرضين عن أمره أما يخافون أن يبدلهم الله بهذا الأمن والرخاء خوفا وشدة. لقد حرموا أنفسهم الاجتماع بالمسلمين في هذا اليوم العظيم وحرموا أنفسهم هذه الصلاة التي تكفر ما قبلها من صغائر الذنوب وحرموا أنفسهم ذكر الله ودعاءه في الصلاة وفي الخطبة والله لقد حرموا أنفسهم خيرا كثيرا وعرضوها إثما كبيرا ففي الأيام غير يوم الجمعة متسع لنزهاتهم وشغل لفراغهم الفكري والنفسي وحل لمللهم الحاصل بالعمل فإن عندهم نصف النهار الأخير واسع صالح للنزهة ولكن إذا كانوا يخرجون يوم الجمعة ويؤدون صلاة الجمعة في المساجد مع المسلمين فلا حرج عليهم. ومن خصائص هذا اليوم أنه لا يجوز لمن تلزمه الجمعة أن يسافر بعد الأذان لها حتى يصلي إلا أن يؤديها في بلد في طريقه أو يخاف فوت سفره مثل أن يريد السفر في الطائرة ويخشى أن تفوته إن تأخر. ومن خصائص هذا اليوم استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه.

ومن خصائصه أن الله تعالى يتجلى فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة ويزورونه فيكون أقربهم منه أقربهم إلى الإمام وأسبقهم إلى زيارة الله أسبقهم إلى الجمعة، خرج عبد الله بن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة» . وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن الله اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض يجتمع فيه أهل الجنة يوم الجمعة فيجيء النبيون فيجلسون على منابر من نور ثم يجيء الصديقون والشهداء فيجلسون على منابر من ذهب ثم يجيء أهل الغرف فيجلسون على كثبان المسك فيتجلى لهم ربهم عز وجل فينظرون إليه فيقول لهم أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي فسلوني فيسألونه الرضى فيقول رضاي أنزلكم داري وأن لكم كرامتي فسلوني فيسألونه الرضى فيشهد لهم بالرضا ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم ثم يفتح لهم يوم الجمعة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا من كرامة الله والنظر إلى وجهه الكريم فذلك يوم المزيد» . أيها المسلمون إن يومكم هذا يوم عظيم فعظموه وإن خيره جسيم فاغتنموه. وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائره العظيمة ونيل ذخائره الجسيمة إنه جواد كريم.

وإلى هنا انتهى ما أردنا انتفاءه من الخطب مراعين فيه ما كان أنسب للوقت وأشد في الحاجة والله نسأل أن ينفع به من قرأه وسمعه إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (تم كتاب الخطب والحمد لله رب العالمين) .

§1/1