الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين

أحمد محرم الشيخ ناجي

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... مقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3. ثم أما بعد, فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار، ومن يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين. اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا رب العالمين، ربنا آتنا من لدنك رحمة, وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ليس يرتاب عاقلٌ في أن العلم خير ما فيه سُعِيَ, وأولُ ما له العبد دُعِيَ,

_ 1 سورة آل عمران الآية 102. 2 سورة النساء الآية 1. 3 سورة الأحزاب الآيتان 70، 71.

وأن أي علم يشرف بشرف موضوعه, فأنى يكون شرف من يجعل القرآن قبلته, وبيان ما نزل عليه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وجهته, من ذا عساه أن يسكنه حقيقته, أو أن يدرك قصده وغايته لن يكون إلا الموفق, وإذا حقق النظر متأمل ودقق فسيجد الموفقين ثلة من الأولين وقليلا من الآخرين شأنهم شأن السابقين، ونعني بهم أولئك الذين عكفوا على كتاب الله وسنة رسوله, ورأوا أنهما أصلا هذا الدين، وأن الصلة بينهما صلة التواثق والتوافق والترابط والتطابق. وحجية السنة ومكانتها في التشريع ومنزلتها من كتاب الله تعالى وعلاقتها به كل هذه المسائل قُتلت بحثا، وأمعن الناس دراستها، وأسهبوا في بسطها، شأنها في ذلك شأن بقية الموضوعات المتصلة بالكتاب والسنة. فلقد حشد الله لكتابه ولسنة نبيه الكثير من الجهود جمع على مائدتهما الفينانة قلوب الكثيرين, يجمعون ويحصلون ويقعدون ويأصلون ويهذبون ويرتبون ويقومون وينظمون، وقل أن تجد لاحقا إلا وله استدراك على من سبقه، مما كان له الأثر البعيد في إثراء الفكر وتكوين تراث خالد، أتاح الفرصة لمن جاء بعد لأن ينهل من هذا الموروث الخالد, ولا عليه إلا أن يعب من هذا المزاج الخالص السائغ للقارئين النهمين. فطالب التفسير يمكن له أن يشفي علته، وأن يروي غلته في تلك الدراسات القرآنية المتشعبة بأصحابها، والمنوعة لهم إلى باحث عن أسباب للنزول، وآخر يبحث عن الناسخ والمنسوخ، وثالث يطلب معرف مكي الآيات من مدنيها، ورابع يتوق إلى إبراز وجوه الإعجاز وإظهار الصور

البيانية التي أعجز بها القرآن أرباب البلاغة والبيان، وأساطين الفصاحة, وخامس يتتبع القراءات، وسادس يبتغي توضيح غريب الكلمات، وهناك من جمع شتات هذه الأبحاث كلها فأمعن النظر في الآيات مستنبطا وجوه تأويلها من الروايات, أو محاولا تفسيرها في ضوء ما صح عند أهل اللغة من استعمالات، فتنوع التفسير إلى تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأي، وتنوع الأخير إلى محمود ومذموم، وتعددت إذن الاتجاهات وكثرت الموارد والمشارب، وتملكت الناس المآرب، وتفاوتت الأذواق، واختلفت المدارك، مما تطلب البحث في مناهج المفسرين تقييما لجهودهم وتمييزا بين منحرفهم ومستقيمهم وتفريقا بين صحيحهم وسقيمهم، فنشأ علم جديد عرف باسم "مناهج المفسرين" اعتمدت مادته على تتبع ما كتبه المفسر والخطوات التي اتخذها في تفسيره، والنهج الذي سلكه فيه، ومقارنته بمشابهه في ذلك أو محاكيه، وانساحت مباحث هذا العلم الجديد قديما في كتب علوم القرآن "كالبرهان في علوم القران لأبي عبد الله بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي المتوفى سنة أربع وتسعين وسبعمائة" و"الإتقان للجلال الدين السيوطي المتوفى في سنة إحدى عشر وتسعمائة", ولن يبعد النجعة من اعتبر الحواشي التي حشي بها على كتب معينة مادة خصبة لمناهج المفسرين ذلك أن المحشي غالبا ما يتعقب المحشي عليه يلاحقه بالنقد والتمحيص. ولم تكن السنة عند ذوي الألباب، ولن تكون أقل شأنا من الكتاب، فقد حظيت بما حظي به من الاهتمام، واحتفدت حولها الأفهام وتكاتفت الجهود خدمة لحديث خير الأنام، وماذا يعني حديثه صلى الله

عليه وسلم؟ إنه يعني الأقوال والأفعال، والصفات والتقريرات، والهم والإشارات والحركات والسكنات والعادات، بعبارة أوجز يعني كل ما صدر عنه أو عن غيره ويعلمه بالحضور، أو بإعلام عالم الغيب والشهادة إياه به سواء كان فعلا أو تركا طيلة زمن الوحي على مدى ثلاثة وعشرين عاما، كل ذلك يصدق عليه لفظ حديث أو لفظ سنة. وما أوسع دائرة هذا اللفظ وما أرحب الأفق التي تنضوي تحته، وما أعظم مسئولية الذين يتحملون أمانة الحفظ والوعي, ثم النقل والأداء للحديث أو للسنة. كيف كان تحملهم وكيف كان نقلهم وأداؤهم وما حال الذين تحملوا عنهم، وما طرقهم في الرواية وأساليبهم في أخذها وإعطائها، ما الأدوار التي مر بها المنقول منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وما الأهوال التي هالت الذين ناءوا بهذا الأمر الجليل، وما الرياح العاتية التي هبت أعصاير قاصفة في كل العصور تريد النيل من هذا المنقول، أو العبث به، أو التطاول على حصن الدين من خلاله. والمحدثون على مر السنين يمثلون الطود الراسخ، لا تلين لهم عريكة ولا تنكسر لهم قناة، وهم يواجهون في صبر وأناة ضراوة أولئك العداة. ماذا نقول عنهم أو فيهم، في أي موقع تبوءوه أو في أي زمان عاشوه، موقع الصحابي الذي أشرق نور النبوة في قلبه ففاض إشعاعه على عقله ولسانه، وبدت نضارة وجهه حين حفظ ووعى ما سمع وبلغ كما سمع. ما أحوجنا إلى استكناه السبل التي سلكها الصحابة رضوان الله عليهم

خدمة للسنة الغراء, ثم وإن راقنا الانتقال إلى موقع آخر أو شاقنا تتبع الزمان فماذا هناك؟ تابعون بإحسان عظمت مهمتهم وتجاسمت مسئوليتهم باتساع دائرة التبليغ والإسماع لكل ما تحملوه عن الصحابة، وبانخراط بعض من لبسوا مسوح الكباش, وكانت قلوبهم أمر من العلقم، عجزوا عن مواجهة هذا الدين كفاحا فلم يقابلوه في ساحات الوغى، وإنما تظاهروا بقبوله واندسوا بين صفوف أبنائه، يكيدون له، ويحاولون النيل منه، فمن لهم ولكيدهم، ومن لدسهم وسمهم. وإذا قال قائلهم: "وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحل فيها الحرام، وأحرم فيها الحلال" كان الإسكات لهذا الضلال، والإهلاك لهذا الوبال يتمثل في هذا الرد "يعيش لها الجهابذة" ويمثل لهم بعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهما. لكأني أتمثل حال الإمام الجهبذ المفضال "يحيى بن معين" المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وهو يجلس, وبين عينيه سجل حافل بأخبار كل من اشتغل بالرواية على مدى قرنين وثلث قرن, والرجل لا يعرف عن الراوي سنة مولده أو سنة وفاته فحسب، ولا يكتفي بمعرفة حاله في الرواية وما قيل فيه من مدح أو قدح، بل إنه يتتبع دقائق حله وترحاله وتفصيلات حياته، فيعرف من لقيهم ممن لم يلقهم، والذي لقيه ماذا أخذ عنه وماذا لم يأخذ، وتصل المعرفة بالدقائق والتفصيلات إلى حد رواية الراوي لمجرد ذكر اسمه عند صيرفي خبير بالحديث فامتخط, أو لكونه رآه يركض على

برذون. نقل السيوطي عن الخطيب أنه "قيل لشعبة1: لم تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، وروي عن مسلم بن إبراهيم2 أنه سئل عن حديث صالح المري3 فقال: وما تصنع بصالح؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة4 فامتخط حماد"5. يا سبحان الله! أي أناس كانوا؟ وأي عقول تلك التي حفظت لنا ذلك كله؟ وأي نزاهة وتجرد في الحكم بعد أن يروي مثل علي بن عبد الله المديني شيخ البخاري المتوفى سنة أربع وثلاثين ومائتين قائلا: "حدثني أبي وكان غير ثقة"؟ ثم ماذا عن عشرات بل مئات الكتب التي عنيت بجمع الروايات وحشدها، وتنوعت أساليب مصنفيها فمن جامع لمرويات الصحابي الواحد ولا يعنيه إلا كونها من رواية ذلك الصحابي بغض النظر عن مضمونها

_ 1 شعبة بن الحجاج بن الورد المتوفى سنة ستين ومائة, انظر تذكرة الحفاظ ج1 ص193-197. 2 مسلم بن إبراهيم الأزدي مولاهم أبو عمرو الحافظ المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين, انظر التهذيب ص123 ج10. 3 صالح بن بشير بن وداع المري "بضم أوله وتشديد ثانيه" مات سنة ست أو اثنتين وسبعين ومائة وأكثرهم على تضعيفه, انظر تهذيب التهذيب ج4 ص382-383. 4 حماد بن سلمة بن دينار المتوفى سنة سبع وستين ومائة, انظر تذكرة الحفاظ ج1 ص202. 5 تدريب الراوي ج1 ص306.

إلى آخر يراعي معانيها ومدلولها، ويمزجها بغيرها من فتاوى الصحابة والتابعين، ويوطئ بها للتصنيف في الحديث، إلى ثالث يرتب على الأبواب ويفرد الصحيح بالذكر في الكتاب دون غيره، إلى رابع يعنى بجمع أحاديث الأحكام، فخامس يجعل غاية أمره أن لا يخرج حديث من أجمعوا على تركه, فسادس يستدرك، فسابع يبين المبهم ويقيد المهمل، فثامن يوضح الغريب ويشرحه، فتاسع يعنى بالرجال وضبط أسمائهم وألقابهم وكناهم، فعاشر يعنى باستنباط الأحكام الفقهية ويؤيد بالنص هذا المذهب، أو ذاك، واحشد مع كل عدد ما شئت. فإن تركت كتب المتون فما أوسع دائرة الفنون التي فننها المحدثون؛ فمن كتب في الطبقات إلى مصنفات في الرجال. فتنويع لهم، إلى ثقات وضعفاء ومتروكين، فموازين تنصب طلبا للاعتدال في نقد الرجال، حين يؤول الأمر إلى الاحتمال، ثم كتب في العلل الخفية التي تقدح في صحة الحديث، كوصل مرسل، أو اتصال منقطع أو رفع موقوف، أو غير ذلك ثم كتب في الناسخ والمنسوخ وكتب في غريب الحديث، كتب في تأويل مختلفه إلى غير ذلك مما لا يحصي القلم أسماؤه فكيف بمسماه؟ أليس الرواة قمينين بدراسة مناهجهم في الروايات، أليس من جاء بعدهم جديرين بمعرفة طرقهم في البحث والتمحيص والتخليص للأصل الثاني مما حاول المغرضون أن يلحقوه به. أليس الذين أفنوا أعمارهم جمعا للحديث وحسن تبويب له وترتيب له وذبا للكذب عن ساحته بمستحقين لأن نطيل الوقوف أمام مناهجهم.

لا يسع أحدا أن يجيب إلا بقوله: بلى. فنحن أحوج ما نكون إلى أن نعيش في أنوار المحدثين، نسري على قبسهم، ونستهدي بسناهم، ونقتدي بهداهم، فهذه نفحات من سيرهم، ولمحات من حياتهم، وومضات من سلوكياتهم، وقبسات من خطواتهم التي خطوها على طريق النور المحمدي وليست المحاولة بدعا في بابها, فقد سبقت بجهود أئمة فضلاء، واعتمدت على محاولات نخبة من النبهاء في القديم وفي الحديث، فكل كتب علوم الحديث لا تخلوا من إشارات بل وربما توضحيات لكثير من مناهج المحدثين، وقريبا من هذا الحين كانت هناك محاولات أقرب إلى التخصص في مناهج المحدثين إن لم تتمحض له ككتاب فضيلة أستاذنا الكبير المغفور له الأستاذ محمد محمد أبو زهو الذي جاء تحت عنوان "الحديث والمحدثون" وحاكى به كتاب "التفسير والمفسرون" للأستاذ الدكتور المغفور له "محمد حسين الذهبي". وهناك أيضا "أعلام المحدثين" لفضيلة الأستاذ الدكتور المغفور له أبي السادات محمد محمد أبي شهبة صاحب المؤلفات الكثيرة والغزيرة في التفسير والحديث والسيرة. وهذه خطوة نسأل الله أن يعطيها ضوءها لتلمع في سماء الواقع، مبينة عن مناهج المحدثين، وعن الأطوار التي مر بها الحديث والمحدثون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الحين، ولسوف نحرص على الاستقصاء ما وسعنا ذلك، وندأب على الإطالة متجنبين الملل ما استطعنا, وقد استخرت الله في تسمية هذا الكتاب فألهمني, وأسأله أن يكون ما ألهمته هو الصواب, وسميته "الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين".

فنبدأ الجزء الأول بكلمة في التعريف بمناهج المحدثين كعلم، وبيان أهميته، وثم نثني بالكلام على الحديث في العهد النبوي، لتتضح خصائصه وتبدو معالمه من خلال دور نبي الرحمة ومعلم الحكمة صلى الله عليه وسلم في الحض على طلب العلم عامة، وتلقي الحديث ونقله خاصة، ثم حرص التلاميذ النجباء وما بدا منهم من تسابق وتنافس على الأخذ والتلقي مما أدى إلى انتشار الحديث إلى غير ذلك من العوامل التي أدت إلى انتشاره, ثم نعرض للحديث في عهد الصحابة وكيف كان حرص الراشدين عليه، تحوطا في تحمله، ثم في أدائه، ثم نتابع المسيرة مع التابعين فنعرض لمن ظهر منهم وتألق، ونيمم وجوهنا من غرب منهم وشرق، طلبا لتبليغ الحديث متتبعين أهم المدارس الحديثية، ومناهج أساتذتها، ثم نعرض بعض النماذج الرائدة في حفظ الحديث وتبليغه من الصحابة والتابعين، ثم ننتقل إلى القرن الهجري الثاني لنطلع على مناهج المحدثين فيه، فنقف على انتشار تدوين الحديث, أسبابه, تنوع مناهج المحدثين, أشهرا ما دون في هذا القرن وأشهر المدونين، إلى غير ذلك مما نستعين الله على بيانه. فاللهم علمنا من علمك، وذكرنا ما نسينا، وافتح علينا أبواب رحمتك وخذ بأيدينا، واشرح صدورنا ويسر أمورنا واحلل ما تعقد في طريقنا.

التعريف بمناهج المحدثين كعلم وبيان أهميته: بين لك أن قولك "مناهج المحدثين" مركب إضافي مكون من كلمتي "مناهج" مضاف و"المحدثين" مضاف إليه. وكلمة "مناهج" كلمة مجموعة على صغية منتهى الجموع؛ فهي على وزن "فعالل" الوزن الذي اختاره وشبهه الصرفيون جمعا لما فوق الثلاثة ارتقى وقواعد الميزان الصرفي تقتضي أن يكون وزن كلمة "مناهج" "مفاعل" ومفردها "منهج" وهي مصدر ميمي" لنهج" ينهج مفتوح العين في الماضي والمضارع من باب قطع وفتح والمصدر الأصلي منه "نهج" بفتح فسكون ويدور معناه على البيان والوضوح. قال الراغب "نهج: النهج الطريق الواضح ونهج الأمر وأنهج وضح ومنهج الطريق ومنهاجه، قال {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ومنه قولهم: نهج الثوب وأنهج بان فيه أثر البلى، وقد أنهجه البلى1 وقريبا منه ما ذكره ابن الأثير2, وقد زاد أن النهج بفتح أوله وثانيه تتابع صوت النفس بسبب الربو أو سرعة الحركة وشدة الإجهاد، وأن فعله نهج بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع, وعليه فبابه تعب. والنهج والمنهج والمنهاج ثلاثتها بمعنى. قال الفيروزآبادي: "النهج: الطريق الواضح كالمنهج والمنهاج وبالتحريك البهر وتتابع النفس, والفعل كفرح وضرب وأنهج وضح وأوضح, والدابة سار عليها حتى انبهرت

_ 1 المفردات، في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص506. 2 النهاية في غريب الحديث والأثر ج5 ص134.

عليها حتى انبهرت, والثوب أخلقه كنهجه كمنعه, فنهج الثوب -مثلثة الهاء- بلي, كالنهج ونهج كمنع وضح وأوضح، والطريق سلكه، واستنهج الطريق صار نهجا كالنهج, وفلان سلك مسلكه1. من كل ما سبق بدا لك أن كلمة منهاج تعني الطرق الواضحة والمسالك البينة للمحدثين, فكأن الإضافة بمعنى اللام, فمن المحدثون؟ الكلمة جمع مذكر سالم مفرده "محدث" اسم فاعل من التحديث، لقب من الألقاب التي خص بها جماعة معينة، ترى ما مؤهل استحقاق هذا اللقب، اختلفت عباراتهم في تحديد القمين بأن يوصف بوصف محدث "فالمسند" بكسر النون، هو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلا مجرد روايته، وأما المحدث فهو أرفع منه بحيث عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال. وأكثر من حفظ المتون وسماع الكتب الستة والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية, وأما الحافظ فهو مرادف للمحدث عند السلف. وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: المحدث في عصرنا: من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع بين رواته، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك, عرف فيه خطه، واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيوخ شيوخه طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله فهذا هو الحافظ

_ 1 القاموس المحيط ج1 ص218.

وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم، كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك حسب أزمنتهم1. ونحن نرى أن سعة أفق المحدث وكثرة حفظه قضية نسبية تختلف باختلاف الزمان والاستعداد، فبينما حدها الأقدمون بما ذكر نستطيع نحن الآن أن نحد المحدث أو أن نسمه ونصفه بأنه المشتغل بصنعة الحديث الخبير بها, وعليه يكون المقصود بهذا التركيب الإضافي "مناهج المحدثين" طرق البحث عندهم, وكيفية تحصيلهم للحديث, وسبل جمعهم له ووسائل فهمهم وهضمهم لمسائله، فأفق الدراسة إذن واسعة أمام المتكلم في هذه المادة. إن كل محاولة بذلت في جمع الحديث أو من أجله تصلح لتكون محور الدراسة في منهاج المحدثين، وإذا كانوا قد اصطلحوا على تقسيم علم الحديث إلى قسمين: "رواية" ويعنون به العلم المشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو وصف خِلْقي أو خُلقي أو تقرير، و"دراية" يعنون به العلم المشتمل على قوانين وقواعد يعرف بها حال السند والمتن من صحة وحسن وضعف وعلوٍّ ونزول ورفع ووقف وقطع وكيفية التحمل والأداء ومعرفة صفة الرواية وحال الرواة، وغير ذلك؛ وإذاكانوا قد اصطلحوا على ذلك, فكل ما صنف في العلمين: الرواية والدراية من صميم تخصص الباحث في مناهج المحدثين، فأي أفق تلك التي سينساح

_ 1 قواعد التحديث ص76-77 وانظر علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح ص75.

فيها؟ وأي وجهة تلك التي سيوليها؟ أيولي وجهه شطر الرواية, وما أدراك ما المصنف فيها، وما الحديث عنها ومعها بالمنقضي أبدا؟ أم يولي وجهه شطر الدراية, وهي القوانين التي تنضبط بها الرواية, فهي منها بمنزلة قواعد المنطق تعصم الذهن من الخطأ في الفكر، أو بمنزلة مسائل أصول الفقه من الفقه تمثل القواعد التي يرجع إليها الناد والشارد، أو بمنزلة أصول القراءة وأحكام التلاوة من القرآن لا يكون قرآنا إلا بها, ولا تأتي قراءته إلا من خلالها. وأنواع علوم الحديث كثيرة ومادتها غزيرة, قال السيوطي: "اعلم أن أنواع علوم الحديث كثيرة لا تعد، قال الحازمي1 في كتاب "العجالة": علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مائة، كل نوع منها علم مستقل لو أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته، وقد ذكر ابن الصلاح2 منها, وتبعه المصنف3 خمسة وستين، وقال: وليس ذلك بآخر الممكن في ذلك

_ 1 الحازمي هو أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم المولود سنة ثمان وأربعين وخمسمائة, والمتوفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة, نبغ في فنون الحديث, وعرف بسعة الحفظ لمتونه, وسعة المعرفة برجاله وأسانيده. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج4 ص1363, والبداية والنهاية ج12 ص332, وتهذيب الأسماء واللغات ج2 ص192. 2 هو تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة. انظر ترجمته في طبقات الحفاظ ص499-500. 3 يقصد به شيخ الإسلام أبا زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة, إذ هو صاحب التقريب والتيسير الذي شرحه السيوطي.

فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى: أحوال رواة الحديث، وصفاتهم، وأحوال متون الحديث, وصفاتها، وما من حالة منها ولا صفة إلا وهي بصدد أن تفرد بالذكر وأهل له، فإذا هي نوع على حياله"1. لعله من نافلة القول أن نقول ما أهم هذا العلم، وما أمس الحاجة إليه، إن أي علم يكتسب أهميته من أهمية موضوعه، وموضوع "مناهج المحدثين" هو كل محاولة بذلت خدمة للحديث رواية ونقلا وتحصيلا وجمعًا وفهمًا وهضمًا وتأصيلا وحكمًا وتوضيحًا وتبيينًا، بقدر رحابة واتساع دائرة البحث في هذا العلم تعظم أهميته، وتجل عن الوصف قيمته وتتضاءل الكلمات دون التعبير عن منزلته ومكانته.

_ 1 تدريب الراوي ج1 ص53.

المبحث الأول: الحديث في العهد النبوي

المبحث الأول: الحديث في العهد النبوي القرآن يقدم الحديث وصاحبه إلى الأمة: قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 1, وقال عز ذكره: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 2. في قمة الامتنان, وفي معرض الحديث عن دروب الإنعام والإحسان التي منّ بها الرحمن على الإنسان, يسوق لنا القرآن بآكد أسلوب وأقواه حديثا عن مهام الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وإنما ينتفع به المؤمن وتظهر وجوه التفضيل به على المؤمنين الذين يشرق نوره في قلوبهم، وتسطع أضواؤه في كل جوانب حياتهم، فينكشف لهم تمام المنة به عليهم. واللام في قوله: {لَقَدْ مَنَّ} موطئة للقسم, والتقدير: والله لقد منّ، والمنّ في لغة القرآن يجيء على معانٍ منها: ما ينزل من السماء, الذي قالوا فيه: إنه

_ 1 سورة آل عمران 164. 2 سورة الجمعة 2.

أحلى من العسل، وهو الذي أنعم به على بني إسرائيل {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} , ومنها القطع كقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ومنها أن تمنّ بما أعطيته للغير وتتحدث عنه فيتأذى به ذلك الغير. ومنه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} , وقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} . ومنها: الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه كقوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والمنان في صفة الله تعالى: المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا. والمفسرون1 على أن {مَنَّ} هنا بمعنى أحسن وأنعم على المؤمنين في علمه أو الذين يئول حالهم إلى الإيمان، منّ عليهم ببعث رسول عظيم من أشرفهم وأنبلهم وأكرمهم وأفضلهم وأوسطهم نسبا, ثم كان مهمة الرسول المبينة في هذه الآية تمثل ثلاث حلقات: قراءة للآيات, وتبليغ لها, وتزكية للنفوس وتطهيرها, وتعليم للكتاب وللحكمة، وقد علم أن الكتاب هو القرآن. فما الحكمة؟ لن تكون إلا السنة كما نص على ذلك أبو السعود2, وسبقه إلى تقريره وتأكيده الشافعي3, وهو يطلب ويستقصي أنواع بيان والسنة للقرآن.

_ 1 انظر التفسير الكبير المعروف بمفاتيح الغيب ج9، ص80، وروح المعاني ج4، ص114. 2 إرشاد العقل السليم ج1، ص441. 3 الرسالة للإمام الشافعي ص32، وص78.

وتزيدنا سورة الأعراف بعض الأوصاف التي كانت علامات وسمات واضحة فيه صلى الله عليه وسلم, نصبت حتى قبل زمان نبوته, إقامة للحجة, وإسقاطا لمعذرة المتأبين على طاعته الرافضين لمتابعته {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1. وتتوجه سورة المائدة بالخطاب في أشد عتاب لأهل الكتاب على الإعراض عن الحق والتعامي عن النور {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. ومعروف أن الكتاب المبين إنما هو القرآن، ولن يكون النور إلا من كلف بالبيان. من ذلك كله يتضح جليا المنزلة التي بوأها الله نبيه صلى الله عليه وسلم, والصورة التي قدمه للناس من خلالها، إنه حبيبه ومصطفاه وخيرته من خلقه ومجتباه لتبليغ ما أراده من خلقه، فمنطقي أن يأمر بطاعته وأن يقرن

_ 1 سورة المائدة 15، 16. 2 سورة الأعراف 157.

تلك الطاعة بطاعته جل في علاه فربما ينظمها أمر واحد، وربما تنفرد كل طاعة بأمر على استقلالها. فالمؤمنون يقرءون في سورة آل عمران من كتاب ربهم المكنون: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1 وبعد تسع وتسعين آية يقرءون في نفس السورة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. سورة النساء تؤكد على وجوب طاعة الرسول والتحاكم إليه: ثم يجيء إفراد كل من الطاعتين على الاستقلال في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 3. وأعجب كل العجب لإفراده طاعته بأمر وطاعة رسوله كذلك, ثم تأمل دمج طاعة أولي الأمر في طاعته تعالى, وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, وإيجابه علينا رد ما يعرض فيه التنازع إلى الله ورسوله, وبعد خمس آيات يجيء قسم أصدق القائلين, ففيم القسم؟ وعلام يقسم؟ على نفي الإيمان عن كل من لم يحتكم إليه ويحكمه فيما شجر أو ظهر من نزاع، بل ولا يكتفي

_ 1 سورة آل عمران 31، 32. 2 سورة آل عمران 132. 3 سورة النساء 59.

بمجرد التحاكم، بل لا بد من الرضا التام عن كل ما صدر من الأحكام, والإذعان والتسليم والقبول لقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1. ونترك الحافظ ابن كثير المؤرخ المفسر المحدث يسفر ويبين عن مناهج المحدثين في فهم وإفهام آي التنزيل "يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به, وينقادون له في الظاهر والباطن, فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". ثم ساق رواية البخاري بسنده عن عروة قال: "خاصم الزبير رجلا في شراج الحرة2, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل

_ 1 سورة النساء 65. 2 قوله "شراج" بكسر الشين جمع شرج بفتح فسكون كبحر وبحار, ويجمع على شروج, والمراد به هنا موضع مسيل الماء. و"الحرة" اسم مكان في المدينة. "فتح الباري بتصرف ج5 ص433".

الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: "اسق يا زبير, ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر, ثم أرسل الماء إلى جارك" , فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري, وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية"1. وأشار الحافظ ابن كثير إلى أن البخاري أخرج الحديث في كتاب التفسير والشرب والصلح، وأن الإمام أحمد وافقه على إخراجه, وأن أكثر طرقه فيها إرسال لأن عروة بن الزبير لم يسمع من أبيه. والراجح أنه سمعه عن عبد الله عن أبيه, وقد رجح البخاري بإخراجه له اتصاله بناء على ترجح سماع عروة من الزبير, وكيفما درا الحديث فهو عن الثقات. والحديث يحكي نازلة حدثت مع الزبير، وكل من عروة وعبد الله توجد عندهما داعية قوية لحفظه لتعلقه بأبيهما. وقد استرسلنا مع هذا الحديث لشدة الإعجاب بتحكم الصنعة الحديثية في ابن كثير2.

_ 1 البخاري في كتاب الأشربة ج5 ص431, وأخرجه في كتاب التفسير ج9 ص323 بهامش الفتح. 2 تفسير ابن كثير ج1، ص520-521 "بتصرف".

ونمضي مع القرآن في تقديمه للسنة وتعريفه الأنام بمكانتها ومنزلتها, فنقرأ في سورة النساء أيضا, وبعد الآية التي عشنا معها بأربع عشرة آية {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} 1. أتبقى ريبة عند عاقل في مكانة السنة أو منزلتها من التشريع، بعد هذا الربط القرآني المحكم، إن طاعة الله تبارك وتعالى هي لازمة من لوازم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تقتضيها فلا سبيل إلى الفصل بين الطاعتين, ولا تتحقق إحداهما بدون الأخرى.

_ 1 سورة النساء: 80.

على طريق التأكيد تمضي المائدة والأنفال

على طريق التأكيد تمضي المائدة والأنفال: وبعد أمر قرآني بوجوب اجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وتعليل ذلك الأمر يجيء هذا الأمر القرآني العام {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 1. ولنتأمل هنا بعد إفراد كل من الطاعتين بأمر مستقل هذا الأمر {وَاحْذَرُوا} ففيما التحذير ومن أي شيء؟ ينساق الذهن أول ما ينساق إلى المخالفة, وكأنه قال: أطيعوا واحذروا أن تخالفوا، الزموا الطاعة وإياكم والعصيان. ثم نمضي لنقرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 2.

_ 1 سورة المائدة: 92. 2 سورة الأنفال: 20.

ثم يتبع هذا نهي عن محاكاة المعرضين تعزيز عن التشبه بهم باعتبارهم أحط الدواب, وأسوأها وأشدها شرًّا وأبعدها عن دائرة التعقل والتأمل؛ فهم معطلون لحواسهم غير منتفعين بنعم الله عليهم، ثم يجيء هذا الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1. وهكذا أوجب الاستجابة للرسول كما أوجب له الاستجابة تعالى والمعنى كما يقول صاحب المنار: "وإذا علمتم ما فرضنا عليكم من الطاعة، وشأن سماع التفقه من الهداية، وقد دعاكم الرسول بالتبليغ عن الله لما يحييكم فأجيبوا الدعوة بعناية وهمة، وعزيمة وقوة، فهو كقوله تعالى: {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} والمراد بالحياة هنا حياة العلم بالله تعالى وسننه في خلقه، وأحكام شرعه, والحكمة, والفضيلة, والأعمال الصالحة التي تكمل بها الفطرة الإنسانية في الدنيا, وتستعد للحياة الأبدية في الآخرة، وقيل: المراد بالحياة هنا الجهاد في سبيل الله؛ لأنه سبب القوة والعزة والسلطان, والصواب أن الجهاد يدخل فيما ذكرنا, وليس هو الحياة المطلوبة، بل هو وسيلة لتحققها, وسياج لها بعد حصولها، وقيل: هي الإيمان والإسلام، وإنما يصح باعتبار ما كان يتجدد من الأحكام، وثمرته في القلوب والأعمال، بما في الاستجابة من معن المبالغة في الإجابة، وإلا فالخطاب للمؤمنين، وقيل: هي القرآن, ولا شك أنه ينبوعها الأعظم، الهادي إلى سبيلها الأقوم، مع بيانه من

_ 1 سورة الأنفال: 24.

سنة الرسول وهديه الذي أمرنا بأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، ويدل عليه اقتران طاعته بطاعة الله تعالى، بل قال بعض العلماء: إنه كان إذا دعا شخصا, وهو يصلي يحب عليه أن يترك الصلاة استجابة له، وأن الصلاة لا تبطل بإجابته، بل له أن يبني على ما كان صلى ويُتم, واستدلوا على ذلك بحديث رواه البخاري عن سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول صلى الله عليه وسلم, فلم أجبه -أو قال: فلم آته حتى صليت, ثم أتيته- فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: "ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} " , وروى الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة "أنه صلى الله عليه سلم دعا أبي بن كعب وهو في الصلاة" وذكر نحوه مما رواه البخاري عن أبي سعيد وصححه1. وقد استنبط الحافظ ابن حجر من الحديث "أن الأمر يقتضي الفور؛ لأنه عاتب الصحابي على تأخير إجابته، وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلها, قال الخطابي: فيه إن حكم لفظ العموم أن يجري على جميع ما اقتضاه, وأن الخاص والعام إذا تقابلا كان العام منزلا على الخاص؛ لأن الشارع حرم الكلام في الصلاة على العموم, ثم استثنى منه إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وفيه أن إجابة المصلي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة، هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم. وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا سواء كان المخاطب

_ 1 المنار ج9 ص525.

مصليا أو غير مصلٍ. أما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج, فليس من الحديث ما يستلزمه, فيحتمل أن تجب الإجابة, ولو خرج المجيب من الصلاة, وإلى ذلك جنح بعض الشافعية. وهل يختص هذا الحكم بالنداء أو يشتمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل؟ فيه بحث, قد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك1.

_ 1 فتح الباري ج1 ص225.

القرآن يواصل حديثه عن استواء طاعة الله ورسوله في الوجوب

القرآن يواصل حديثه عن استواء طاعة الله ورسوله في الوجوب: ويتواصل حديث القرآن في وجوب طاعة الله ورسوله, فيرد في السورة التي أنزلها وفرضها, وأنزل فيها آيات بينات على ثلاث حلقات: الأولى: في معرض تبكيت المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم, ويقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم طوع أمره, لا يقومون على عصيانه، فينهاهم عن القسم ويبالغ في تسفيههم في ادعائهم الطاعة، فهي طاعة معروفة واضحة بينة المعالم والخصائص جلية منكشفة, سيما والمراقب لها هو الخبير بكل أعمالهم الذي لا تخفى عليه خافية, ثم يقول لحبيبه ومصطفاه موجها له أن يأمر هذا الأمر العام المقرون بإعفاء كل فريق من تبعة الآخر وجريرته {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 1.

_ 1 سورة النور: 54.

وتجيء الحلقة الثانية: بعد الأولى بآية واحدة مبدوءة بأمر خاص, متدرج في العام الذي يتلوه تنبيها على شرف الخاص والعام, فإذا استحق الخاص أن يفرد بالذكر, وأن يسارع إلى إيراده, فكيف بالعام الذي يندرج الخاص تحت أفراده؟ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. ثم تجيء الحلقة الثالثة: في إطار الإظهار لمزيد العناية, والاهتمام بأمر المطاع, المربي, المعلم صلى الله عليه وسلم، فبعد ثناء رباني عاطر على المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله, ومدح لهم ببعض ما وهبهم, ووفقهم إليه من التزام جانب الأدب مع القائد, وترك الاستئذان عن مصاحبته, والذهاب معه إلى الميدان، متى كانت لهم مندوحة عن الاستئذان فهم لا يستأذنونه إلا لعذر قهري, لذا أمر أن يقبل عذرهم فيأذن لهم. ومزيدا من التكريم والتفخيم لشأنه العظيم, أطلق مشيئة في الإذن ولم يحددها إلا بدائرة تحقق العذر للمستأذن, بعد ذلك يحيطه بهالات من الوقار, ويكسوه ثوب الجلال والإكبار, فهو المتواضع الذي رفعه تواضعه فوق القاطبة فلا يصح أن ينادى بما يتنادون هم به, ولا أن يعامل منهم إلا على أنه المربي الوقور, والقائد الجسور الذي يُهاب ولا يَهاب, وتتقاصر الأحداق, وتضعف دون طلعته {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

_ 1 سورة النور: 56. 2 سورة النور: 63.

هكذا بلغت الأنظار "إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان، وفي كل الأحوال, فلا يدعى باسمه: يا محمد, أو كنيته: يا أبا القاسم، كما يدعو المسلمون بعضهم بعضا، إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه: يا نبي الله، يا رسول الله. فلا بد من امتلاء القلوب بالتوقير لرسول الله صلى الله عليه وسلم -حتى نستشعر توقير كل كلمة منه, وكل توجيه, وهي لفتة ضرورية، فلا بد للمربي من وقار، ولا بد للقائد من هيبة، وفرق بين أن يكون هو متواضعا هينا لينا، وأن ينسوا هم أنه مربيهم فيدعوه دعاء بعضهم لبعض. يجب أن تبقى للمربي منزلة في نفوس من يربيهم, يرتفع بها عليهم في قرارة شعورهم، ويستحيون هم أن يتجاوزوا معها حدود التبجيل والتوقير، ثم يحذر المنافقين الذين يتسللون ويذهبون بدون إذن، يلوذ بعضهم ببعض، ويتدارى بعضهم ببعض فعين الله عليهم، وإن كانت عين الرسول لا تراهم: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} , وهو تعبير يصور حركة التخلي والتسلل بحذر من المجلس، ويتمثل فيها الجبن عن المواجهة، وحقارة الحركة والشعور المصاحب لها في النفوس {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وإنه لتحذير مرهوب, وتهديد رهيب. فليحذر الذين يخالفون عن أمره، ويتبعون نهجا غير نهجه, ويتسللون من الصف ابتغاء منفعة أو اتقاء مضرة, ليحذروا أن تصيبهم فتنة تضطرب فيها المقاييس، وتختل فيها الموازين، وينتكث فيها النظام، فيختلط الحق

بالباطل، والطيب بالخبيث، وتفسد أمور الجماعة وحياتها، فلا يأمن على نفسه أحد، ولا يقف عند حده أحد، ولا يتميز فيها خير من شر وهي فترة شقاء للجميع {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا أو في الآخرة جزاء المخالفة عن أمر الله, ونهجه الذي ارتضاه للحياة"1. ودفعا للسآمة والملل نستعفي من الوقوف بكل إجلال في رحاب سورة الحجرات, وهي تؤدب, وتهذب سلوك المؤمن تجاه الله ورسوله، فلا يصح التقديم بين يديهما، ولا حتى مجرد رفع الصوت فوق صوت النبي, فضلا عن مناداته من وراء الحجرات، وتصريح يذم من يفعل ذلك وتعريض به من خلال امتداح مقابله, أولئك الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله مبرهنين على أن الله استخلص قلوبهم للتقوى واصطفاهم لها.

_ 1 في ظلال القرآن، ص2535-2536.

قمة ما تستند إليه السنة في حجيتها

قمة ما تستند إليه السنة في حجيتها: ثم نصل إلى قمة ما تستند إليه السنة في حجيتها والغاية التي تعليها إلى مكانتها {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1. نقل القرطبي عن المهدوي في التعليق على الآية: "هذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى، والآية وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه دخل فيها, ثم

_ 1 سورة الحشر: 7.

نقل عن الشافعي رضي الله عنه قوله: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فسئل: ما تقول -أصلحك الله- في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر". حدثنا سفيان ابن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل الزنبور. قال علماؤنا: وهذا جواب في نهاية الحسن، أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدى فيه بعمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأن الله سبحانه أمر بقبول ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم, فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسنة1. وإذا كان العلماء قد انبهروا بجواب الشافعي هذا واعتبروه غاية في الحسن، فإن للشافعي إماما, وقدوة في دقة الفهم, هذه التي استوعبت ما بين الكتاب والسنة من شديد التواثق, وحسن التطابق والتوافق، ذلكم هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود, فقد روى لنا الإمام مسلم بسنده الصحيح

_ 1 الجامع لأحكام القرآن ج18 ص17-18.

إلى عبد الله رضي الله عنه قال: "لعن الله الواشمات1 والنامصات2 والمتنمصات والمتفلجات3 للحسن المغيرات خلق الله". قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب4. وكانت تقرأ القرآن فأتته, فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته, فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه, قال الله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ

_ 1 جمع "واشمة" وهو كالخلان تجعل في الوجه, أو الرقوم في اليد والمعاصم وغيرها, كانت العرب تفعل ذلك, فتشق مكان ذلك بإبرة, ثم تملؤه كحلا أو دخانا, فيلتئم الجلد عليها, فيخضر مكانها, والواشمة هي التي تفعل ذلك بنفسها أو غيرها, والمستوشمة هي التي تطلبه. "مشارق الأنوار ج2 ص296". 2 قال النووي "النامصة -بالصاد المهملة- هي التي تزيل الشعر من الوجه، والمتنمصة هي التي تطلب فعل ذلك, وهذا الفعل حرام إلا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالتها. "شرح النووي ج14 ص106". 3 المتفلجات جمع متفلجة, وهي التي تبرد أسنانها فيبدو الفلج بفتحتين, وهو الاتساع والفرج بين رباعيتيها وثنيتيها. "المرجع السابق بتصرف ج14 ص106". 4 ذكر الحافظ في الفتح أن أم يعقوب لا يعرف اسمها وقد أدركها عبد الرحمن بن عابس. "فتح الباري ج10 ص254", وذكر في تهذيب التهذيب أم يعقوب امرأة من بني أسد روت عن ابن مسعود وعنها. عبد الرحمن بن عابس، ولم يزد على ذلك "تهذيب التهذيب ج12 ص483".

فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن, قال: اذهبي فانظري, قال: فدخلت على امرأة عبد الله, فلم تر شيئا, فجاءت إليه, فقالت: ما رأيت شيئا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها"1. ونختم بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 2. وقد سبقت الإشارة إلى حكم الله على مبايعته صلى الله عليه وسلم بأنها مبايعة لله، وما أسعد الموفين بما بذله رب العالمين أكرم الأكرمين لهم من وعد، وما أشقى الناكثين بما توعدهم به القوي المتين من الوعيد {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 3.

_ 1 رواه الإمام مسلم, وهذا لفظه في كتاب اللباس والزينة ج14 ص105-107, ورواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه, فأخرجه في كتاب التفسير في تفسير سورة الحشر, باب: وما آتاكم الرسول فخذوه, ج10 ص254, وأخرجه في كتاب اللباس من عدة طرق, وفي عدة أبواب, ج12 ص494-502, وأخرجه أبو داود في كتاب الترجل, باب: في صلة الشعر, ج2 ص395, وأخرجه الترمذي في كتاب اللباس باب ما جاء في مواصلة الشعر, ج4 ص236. 2 سورة التغابن: 12. 3 سورة الفتح: 10.

المطاع والمطاع فيه والمطيعون

المطاع والمطاع فيه والمطيعون المطاع ... المطاع والمطاع فيه والمطيعون: بعد هذا التأكيد القرآني على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم من خلال العديد من الآيات المتضمنة للأمر بالطاعة اقترانا أو استقلالا, يجدر بنا أن نمعن التأمل في هذه الأمور الثلاثة موضوع العنونة: المطاع: المأمور بطاعته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا ريب في استحقاقه لهذا الاهتمام, ولا بد من أن تكون كل مؤهلات الإمام قد بلغت فيه حد الكمال والتمام حتى يقبل الناس عليه مذعنين فيأتمروا بأمره ويكونوا طوع بنانه. يقول فيستمعون, ويدعو فيلبون, ويأمر فيطيعون, وبأمره يصدعون. إذا اقتنعوا به وبمقومات إمارته عليهم استسهلوا كل صعب دون إجابته, وخفوا مسرعين لدعوته. ولا نظن أن قائدا ملك عناصر القيادة, وتوفرت فيه كل مقومات الزعامة, وتوفرت له سائر أسباب النجاح قدر ما كان القائد المعلم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى قبل أن يكون رسولا اضطلع بمعالي الأمور, وتخلق بمكارم الأخلاق, وعرف بين العامة والخاصة بالصادق الأمين, وملك جماع المحامد والمفاخر والمآثر, وحاز الجمال والكمال خِلقة وخُلقًا. وكيف لا, وهو خيرة الله وصفوته وإبداعه وصنعته؟ صنعه على عينه ورباه على هديه ونهجه, ونقاه من كل شوب, وبرأه من كل عيب, وصدق من قال فيه:

خلقت مبرّأً من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء فأفضل منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء وعن جماله الخلقي الجذاب وما منحه إياه المعطي الوهاب من الشمائل والفضائل تحدثنا أم معبد عاتكة بنت خالد التي مر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورفاقه بخيمتها, وهم في طريقهم إلى المدينة في رحلة الهجرة المباركة الميمونة, وكان من يمنه وبركته عليها, وعلى آلها ما كان حين مسح ضرع شاتها العجفاء فدر الضرع لبنا غزيرًا مما شاق زوجها أكثم بن أبي الجون إلى معرفة صفة المبارك الذي درت بركته لبن غير ذات الفحل, فطلب من أم معبد أن تصفه له فقالت: "رأيت رجلا ظاهر الوضاءة, أبلج الوجه, حسن الخلق, لم تعبه ثجلة1, ولم تزر به صعلة2, وسيم قسيم في عينيه دعج3. في أشفاده وطف4, وفي صوته صهل5, وفي عنقه سَطَع6, وفي لحيته

_ 1 بضم الثاء ويروى بالنون, ومعناها ضخامة البطن, ويروى بالنون والحاء مضمومتين, ومعناه شدة النحافة، وانظر النهاية لابن الأثير ج1 ص208. 2 لم تزر به: أي لم تنغصه أو تقل من قدره، صعلة: صغر حجم الرأس وضآلته. 3 الدعج بفتح الدال والعين. والدعجة بإسكان العين: السواد في العين. يزيد أن سواد عينيه كان شديد السواد. وقيل: الدعج شدة سواد العين في شدة بياضها. النهاية ج2 ص119. 4 الأشفاد هي الأجفان، والوطف: طول شعر الجفن. 5 صهل: بفتح الصاد والهاء عند الحاكم والبيهقي وبالحاء بدلا من الهاء عند ابن سعد وابن كثير, والصحل: رخامة الصوت والصهل كذلك. فلصهيل الخيل حلاوة وعذوبة. 6 السطح: بفتحتين ارتفاع وطول.

كثاثة1, أزج2, أقرن3, إن صمت فعليه الوقار, وإن تكلم سماه وعلاه البهاء, أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب, حلو المنطق فصلا لا نزر ولا هذر4, كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن. ربعة, لا تشنأه من طول, ولا تقتحمه عين من قصر, غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا, وأحسنهم قدرًا, له رفقاء يحفون به, إن قال سمعوا لقوله, وإن أمر تبادروا إلى أمره, محفود5, محشود6, لا عابس ولا مفند7". وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه, وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا8 خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيال قصي ما ذوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسؤدد ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من بسعد الله يسعد9

_ 1 كثاثة بالثاء وبالفاء أيضا غزارة الشعر. 2 أزج: الزجج: تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد. 3 أقرن: مقرون الحاجبين. 4 لا عي فيه ولا ثرثرة في كلامه. 5 محفود: يحفد الناس إليه بمعنى يسرعون في طاعته. 6 محشود: يحتشد الناس حوله ويجتمعون. 7 لا عابس: لا متقطب الوجه. ولا مفند: بفتح ما قبل الآخر على صيغة اسم المفعول غير مكذب أو منسوب إلى التخريف. 8 هكذا عند الحاكم وغيره والبيهقي روى "قالا". 9 نسب الحاكم هذا البيت إلى الهاتف وهو عند غيره من كلام حسان.

وليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرة الشاة مزيد1 فغادره رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر بعد مورد فلما سمع حسان الهاتف بذلك2 شبب يجاوب الهاتف فقال: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليهم ويفتدي ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... فأرشدهم من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمي وهداة يهتدون بمهتد وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد3

_ 1 هكذا عند الحاكم وعند غيره "له بصريح" وهو أوفق للوزن وللإعراب. 2 في الكلام حذف والتقدير: فلما سمع حسان ما قاله الهاتف بمعنى فلما بلغه ونقل إليه؛ لأنه لا يعقل أن يكون قد سمع الهاتف, إذ إن حسان كان بالمدينة والهاتف سمع بمكة, ولا يعقل انتقال حسان إليها في هذا الزمان؛ لكون ذلك في أوان الهجرة، وإبان ذروة الاستعداد لاستقباله صلى الله عليه وسلم في المدينة. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك بطوله ج3 ص9، 10, وقد اقتصرنا روايته بحذف أولها ورواه ابن سعد في الطبقات ص155: 157 القسم الأول. ورواه ابن هشام في السيرة مقتصرا على الآيات ج2 ص337. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ج4 ص495 ص497. ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ج3 ص191-192. ورواه البيهقي في دلائل النبوة ج1 ص276-380. ورواه ابن حجر في الإصابة ج4 ص197-198, ورغم أن الحاكم صححه واستدل على صحته بعدة دلائل بل روفعه إلى درجة التواتر إلا أن الذهبي في تلخيصه قال عن طرق الحديث: "ما في هذا الطرق شيء على شرط الصحيح", ولم يشر أحد من كل من أخرجه إلى قادح يقدح في صحة الحديث. ولو جد لذكره ابن حجر.

المطاع مزود من قبل من أرسله الآمر بطاعته بصفات جبلية تستهوي القلوب, وتأسر الأفئدة، كيف وقد زانته في الخلق العظيم شمائل، أو اكتنفت كل تصرفاته فضائل, فهو الحي الكريم الأشد حياء من العذراء في خدرها وهو الشجاع المقدام الذي تتقى به السهام، وإذا حمي الوطيس واشتد البأس لم يكن أحد منهم أقرب إلى رماح العدو وسيوفه منه صلى الله عليه وسلم, وهو السياج لهم والملجأ والملاذ, هو نبي الرحمة وهو نبي الملحمة, بعث رحمة للعالمين, ولم يبعث لعانا, ولم يكن فظا ولا غليظًا ولا صخابًا بالأسواق. لا يدفع بالسيئة السيئة, وإنما يعفو ويصفح, إنه الهين اللين الذي يحب الرفق في الأمر كله، إنه السخي الذي يفضُل في سخائه الريح المرسلة، إنه الجواد الكريم الرءوف الرحيم الذي تتعدى رحمته الإنس والجن, فتتسع أرجاؤها لتشمل الحيوان الأعجم الذي يحس كما يحس الإنسان, ويتوجع ويتألم ويبكي ولكن بغير دموع، ومهما تكلم اللسان وأفصح البيان فهيهات أن يعرب عن معشار معشار ما بلغه سيد الأبرار من علو شأن في كريم الأخلاق وطيب الخلال وجميل الخصال، ولن يقدره إلا العليم الخبير الذي منحه وأعطاه وأعلن بآكد الكلام وأقواه أن عطاياه ستتوالى حتى يتحقق رضاه ولن

يروم مخلوق ثناء على أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بعد ما أثنى عليه الخلاق فقال وهو أصدق القائلين: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. جاذبيات متعددة تلك التي تستهوي القلوب والأفئدة, أمر من الملك الأعلى جل في علاه, مؤكد ومكرر بطاعة حبيبه ومصطفاه, ومناقب جوهرية في المطاع, وصفات جبلية فيه, وسجايا كريمة وأخلاق عظيمة تقرب الناد وتؤوي البعيد والشارد, فلا عجب أن ينسل الناس إليه من كل حدب وصوب, وأن يأتيه الدانون والقاصون رجالا وركبانا ليشهدوا منافع لهم, ولا غرابة في أن يجتمع الناس على طاعته, وأن يتعاهدوا على حمايته, ويبايعوه على أن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأولادهم وأنفسهم. يتاسبق الجميع في البذل والعطاء ويتنافسون في التضحية والفداء, وما نبأ الفدائي الأول في الإسلام علي بن أبي طالب ببعيد عن الأفهام، وما أكثر الذين حملوا أرواحهم على أكفهم فداء للدعوة والداعية صلى الله عليه وسلم, ما أرخص الدماء, وما أهون الآباء والأبناء, وإلحاح أبي بكر على الإذن له في مبارزة ولده ومكافحة أمين هذه الأمة أبي عبيدة ومواجهته أباه, وبلاء طلحة الذي أوجب يوم أحد, ومنافحة سعد وتدرع أبي دجانة للنبي صلى الله عليه وسلم, وتلقيه السهام دونه, كل هذه مواقف سجلتها الأيام لأولئك الأعلام في سطور من نور, وحفظتها ووعتها صدور عرفت أن للحق فرسانه وشجعانه عرفوا به, وما كان ليعرف إلا بهم.

_ 1 سورة القلم الآيات من 1-4.

ويصف هذه المواقف العظيمة ويسجلها لأنصار الحق, عروةُ بن مسعود بن معتب الثقفي, سفير قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ومفاوضهم الأول بعد أن أبلغهم بديل بن ورقاء بنية المسلمين وقصدهم, فلم يقبلوا منه ذلك واتهموه بمصانعتهم، ويعنينا من وصف عروة الجزء أو القدر الذي يجري فيه الحق على لسانه شهادة تالدة خالدة لخير قرن وخير أمة. ولا يفوتنا أن نسجل موقف الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة بن مسعود, فعروة عمه, لكن ولاءه لدينه وعقيدته, قال عروة بعد أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ما أعلمه بديلا: "أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك, هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها, وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات1. أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كان لك عندي لم أجزك بها لأجبتك قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فكلما تكلم أخذ بلحيته, والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه سلم ومعه السيف وعليه المغفر

_ 1 بظر: بفتح وسكون قطعة لحم تبقى في فرج المرأة بعد الختان, وهو تحقير من أبي بكر لعقيدة عروة وطاغيته اللات, وتسفيه لادعائه وأضرابه أن اللات بنت الله, فلو كانت كذلك لكان لها مثل ما للنساء, وقد غضب أبو بكر لله حين اتهم أصحاب النبي بالفرار, وبأنهم أشواب أي أخلاط أو أوباش بمعنى أخلاط من السفلة, وفيه إباحة ذكر ما يستبشع من الألفاظ للتغليظ على أهل الباطل إخزاء لهم.

فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف, وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة, فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية, فقتلهم وأخذ أموالهم, ثم جاء فأسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء" , ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه, قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم, فدلك بها وجهه وجلده, وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له, فرجع عروة إلى أصحابه, فقال: أي قوم! والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمدًا. والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده, فإذا أمرهم ابتدروا أمره, وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه, وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له, وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها"1.

_ 1 صحيح البخاري بهامش فتح الباري كتاب الشروط, باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ج6 ص265-268.

المطاع فيه: السنة أو الحديث

المطاع فيه: "السنة أو الحديث": هذا الذي أمر الله تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيه, وتطلبته شخصية المطاع: ليس هو إلا السنة أو الحديث بكل الإطلاقات عليهما عند الأصوليين أو الفقهاء أو المحدثين, بل واللغويين أيضا, فالسنة عندهم هي الطريقة والسيرة محمودة كانت أم مذمومة, والحديث هو ما يستعمل في مقابلة القديم فيرادف الجديد, أو ما يدور على لسان الشخص, وقد يعبر به أو يحكي به الفصل والإشارة والوصف والتقرير أيضا لا بد له من حديث ينقل به أو يعبر به عنه. والأصوليون يعتبرون السنة بمن صدرت عنه فما جاء عن النبي فهو سنة أو يقابلون بها القرآن, فالسنة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم, والقرآن ما جاء عن الله تعالى بواسطته, فهي عندهم تقابل البدعة, وعند الفقهاء تستعمل السنة باعتبار كونها دليلا للأحكام المستنبطة, وأيضا باعتبار كونها وصفا للحكم, فهي تغاير بقية الأحكام الخمسة نعني الوجوب والإباحة, والكراهة والحرمة. وقد يعرفونها مريدين وقوعها وتحققها فيقولون: السنة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره في جماعة, ولم يدل دليل عليها من الكتاب, وأما المحدثون فإنهم ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كونه قدوة, فكل ما صدر عنه من قول أو فعل أو وصف خلقي أو تقرير فهو سنة, ويطلق الحديث عند جمهورهم مرادًا به هذا المعنى, ويندرج فيه أيضا المضاف

إلى الصحابي والتابعي ثقة بالصحابة والتابعين, فهم إما مقررون أو مقتدون متبعون أو مستنبطون مجتهدون, وهم في ذلك مقدمون لمعاصرتهم نزول الوحي ومعايشتهم التشريع أو لقربهم منهما. ولقد غلب إطلاق المحدثين هذا على غيره من الإطلاقات, فالحديث أو السنة يطلق كل منهما على الآخر, وتتسع دائرة الإطلاق لتشمل كل ما للحياة من آفاق, فإذا أمر الناس بالطاعة ففيم يطيعون؟ والجواب في كل شيء حين يحيون وحين يموتون, حين يتحركون وحين يسكنون, حين يقيمون وحين يظعنون, في عبادتهم, في عاداتهم, في معاملاتهم, في فرحهم وفي ترحهم, في كل نازلة تنزل بهم يجدون للأسوة الحسنة توجيها, وفي كل واقعة تقع منهم أو معهم يصادفون له فيها إرشادًا سديدًا قد يشاهدون الحادثة والتوجيه فيها, وقد يسألون من شاهد, وقد يشكل الأمر عليهم, فلا ينزاح الإشكال إلا بالسؤال لمن هو خبير بالحال. وهاك أمثلة للطرق التي تعلموا السنة من خلالها: 1- حوادث يعايشها النبي صلى الله عليه وسلم, أو يطلع عليها فيتبين الحكم فيها, ثم ينتشر هذا الحكم بواسطة كثرة من سمعوه, وقد يرسل النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي به الناس. روى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاما, فسأله: "كيف تبيع؟ " فأخبره, فأوحي إليه: أدخل يدك فيه, فأدخل يده, فإذا هو مبلول, فقال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: "ليس منا من غش"1. 2- وقد تقع الحادثة مع أحدهم, فيفزع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه فيفتيه. روى قيس بن طلق عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم, أو سأله رجل فقال: بينما أنا في الصلاة, ذهبت أحك فخذي, فأصابت يدي ذكري؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل هو إلا بضعة منك" 2. وقد تقع الحادثة مع الشخص فيستحيي أن يسأل هو, فينيب من يستفتي له. من ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء, فكنت أستحيي أن أسأل رسول الله صلى الله عليه سلم؛ لمكان ابنته, فأمرت المقداد بن الأسود, فسأله فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" 3. 3- قد تقع الوقائع وتحدث الحوادث, فيتصرف النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الوحي الذي يوحي به إليه, ويحضر الصحابة, فيبلغوا ما رأوه, ويخبروا عما شاهدوه, وينقلوا ما سمعوه أداء لأمانة العلم, وخروجا من عهدة الكتمان, وطلبا للثواب والأجر, وذلك كثيرا وأكثر الأحكام الشرعية انبنت على هذه الطريقة في النقل, فعلمنا بواسطتها كيفيات وضوئه واغتساله وتيممه

_ 1 الفتح الرباني ج15 ص59, وهو صحيح الإسناد ونسبة الشيخ الساعاتي إلى مسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي في السنن والحاكم. 2 انظر معرفة علوم الحديث للحاكم ص132. 3 رواه الإمام أحمد في المسند ج2 ص39، حديث رقم 606، ص46، حديث رقم 168, ورواه البخاري بتغيير يسير فتح الباري ج1 ص294، 394.

وصلاته وصيامه وحجه إلى غير ذلك مما يبلغ في الشهرة والكثرة حد الاستغناء عن المثال. أضف إلى كل ما سبق حرص الصحابة على تمام الاستفادة من معلمهم الأعظم صلى الله عليه وسلم, وحلاوة الاستمتاع بمخالطته ومعايشته، ثم ولا بد أن يعلم أن الذي تكفل بحفظ القرآن كان ولابد أن يحفظ البيان له, وأن يهيئ كل الوسائل اللازمة لذلك, وأن يحفظ الهمم, وأن يقوي العزائم على خدمة السنة الغراء, والنهوض بواجب تبليغها وصيانتها من ضياعها, أو ضياع شيء منها أو امتداد يد العبث إليها, ونستطيع أن نؤكد واثقين مطمئنين أن الحديث كله حفظ بواسطة الصحابة أجمعين, ولم تغب جزئية من جزئياته عن مجموعهم, فإن غابت عن البعض فلا بد وأن تكون موجودة عند البعض الآخر, ولا يعقل ولا يقبل أن شيئا من السنن قد ضاع أو غفل عنه؛ لأن معنى ذلك ضياع شيء من الدين ونقصان فيما أحكم الله إكماله, واتهام لمن بلغوا القمة في حسن الالتزام بالتقصير والتفريط في واجبهم, وهم أعلى وأجل من أن يضيع منهم شيء كثر أو قل من السنة. "ويخطئ من يدعي أن بعض السنن فات الصحابة جميعا بعد أن رأينا مدى عنايتهم بها, وحرصهم عليها فكيف يغيب عنهم شيء منها, وهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نيفا وعشرين عاما قبل الهجرة وبعدها, فحفظوا عنه أقواله وأفعاله ونومه ويقظته وحركته وسكونه وقيامه وقعوده واجتهاده وعبادته وسيرته وسراياه ومغازيه، ومزاحه وزجره، وخطبه وأكله وشربه، ومعاملته أهله، وتأديبه فرسه، وكتبه إلى المسلمين

والمشركين، وعهوده ومواثيقه، وألحاظه وأنفاسه وصفاته هذا سوى ما حفظوا عنه من أحكام الشريعة وما سألوه عن العبادات والحلال والحرام أو تحاكموا فيه إليه"1.

_ 1 السنة قبل التدوين ص67، 68.

المطيعون

المطيعون: المأمورون بالطاعة في دائرة متسعة الأرجاء متعددة الأنحاء, تتناول كل حياتهم وتضمن لهم إن هم امتثلوها ونفذوا كل ما فيها الخير لهم في عاجلهم وآجلهم, في حالهم ومآلهم. هؤلاء المأمورون بالطاعة هم الأئمة الأعلام مادة الإسلام, جعلهم الله أمناء على وحيه بعد رسوله صلى الله عليه وسلم, وحملة لشرعه ونقلة لهديه, فمنطقي أن يكونوا أرضا خصبة أمسكت الماء وانتفعت به فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. إنهم الجديرون بثناء ربهم وتعديده لفضائلهم في غير ما موضع من كتابه وعلى لسان رحمته المهداة ونعمته المسداة. فهم الأمة الوسط, والوسطية تعني الخيرية, ومطلق الأفضلية المسببة بالأسباب القوية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1. وما كانوا شهداء على الناس إلا بعد أن ملكوا كل مقومات الشهادة وحاذوا عناصرها, والحكم العدل أعز من أن يقبل شهادة المساوي في

_ 1 سورة البقرة الآية رقم 143.

مساويه فقوانين التنزيه المطلق توجب أن يكون الشاهد أكمل وأتم فيما يشهد فيه عن المشهود عليه. ثم يجيء الحكم بالخيرية معللا ومسببا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 1. نقل ابن كثير عن ابن عباس في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة, والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه, وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم الذين يلونهم, كما قال في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية2. والثناء على مجموعهم في كتاب الله كثيرا ناهيك عن اختصاص العديد منهم بفضائل, اقتضت أن ينزل الله فيهم قرآنا يتلى إلى يوم الدين. إنهم خير القرون السابقون الأولون الراضون والمرضيون المقبولون الذين حذرنا من الخوض فيهم, أو النيل منهم, وأعلمنا أننا لو أنفقنا مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. إنهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأيادي الندى وليوث الفدا, حرصوا على الفضل حرص الضنين وبذلوا في بلوغه كل نفيس وثمين كان

_ 1 سورة آل عمران الآية رقم 110. 2 تفسير ابن كثير ج1 ص391.

منهم الصديق والحواري والأمين والفاروق والفدائي والكريم الحيي والفطن الذكي، فكل من رآه صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على إسلامه فهو الصحابي, لذا كانوا طبقات, فكان منهم البدري. ولعل الله اطلع على أهل بدر, فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وسبقه المبشر بالجنة من سابقيهم إلى الإسلام فالأقدم صحبة في الزمان وتلاه من حضر بيعة الرضوان ثم أسلم يوم الفتح، ثم من شهد حجة الوداع وهم جموع لا يحصون. ذكر البعض أنه حضرها تسعون ألفا, وزاد البعض ألفا آخرين، المهم أنهم كانوا كثرة كاثرة مستكثرة, وما كانت كثرتهم قط كغثاء السيل, وإنما كان الواحد منهم يفضل أمة. والناس واحد منهم كألف ... والألف كالواحد إن أمر عنى سمع هؤلاء أوامر ربهم بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم, فصدعوا لها وبهروا بشخصيته, فالتفوا حوله كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم، وأحسوا بمسيس حاجتهم إلى إرشاداته وتوجيهاته, ورغبوا فيما وعدهم به من الثواب العظيم والنعيم المقيم إن هم علموا وعلّموا غيرهم, وفقهوا وفقّهوا سواهم, وأخذوا وبلغوا من بعدهم, وكان للجو العلمي الذي أحاط بالدعوة وصاحبها منذ البداية أكبر دافع لهم لطلب العلم وحافز عليه, فأول ما قرءوا في كتاب ربهم أمر بالقراءة وإشادة بوسائلها, ورأوا أن الوحي يحتاج إلى كتبة يسجلونه, وأنهم إن أرادوا قهر عدوهم المتربص بهم الدوائر فلا بد وأن يأخذوا بأسباب العلم. كان قبوله صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر مبدأ تعليم من يجيد

القراءة والكتابة منهم عشرة من أبناء المسلمين فتحا لباب المنافسة في العلم على مصراعيه وانطلاقة كبرى في آفاق العلم, وماذا بعد أن يقصر الله الخشية الحقيقية له على العلماء, وأن يكرر هذا الاستفهام عن صحة المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} 2.

_ 1 سورة الرعد الآية 19. 2 سورة الزمر الآية 19.

الترغيب في طلب وحفظ السنة وتبليغها

الترغيب في طلب وحفظ السنة وتبليغها ... التغريب في طلب العلم وحفظ السنة وتبليغها: ويرغبهم صلى الله عليه وسلم في طلب العلم, ويرهبهم من كتمانه ويكفيهم أن يقرءوا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} 1. نعم يطردهم ربهم من رحمته, ويبعدهم عن ساحته جزاء وفاقا لما حاولوه من صد عن سبيل الله من خلال كتمان هداه, وإيصادهم باب الخير في وجه من ابتغاه, وبعد هذا الطرد والإبعاد يتنوع التهديد لهم والإرعاد, فقد يلجمون لجاما من نار وما أصبرهم عليها. وفي المقابل تضاعف لمن علم وعلم الحسنات, وترفع لهم الدرجات حتى

_ 1 سورة البقرة الآية 159.

في أثناء الطلب يسرع إليهم الثواب والأجر, فمن سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له بها طريقا إلى الجنة, ويتوالى التغريب ويكثر في التفقه في الدين وفهم أصوله وفروعه, والنهل من ينبوعه, فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وخير الناس من تعلم القرآن وعلمه، ويزداد الأمر تخصيصا في شأن السنة فتتوالى النصوص في الأمر بحفظها وتبليغها, والحض على مزيد الاعتناء بها, والإشادة بفضل وشرف من ينتسب إليها, والتحذير من التزيد فيها. وقد جمع ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج, ومن كذب عليّ متعمدا فليبتوأ معقده من النار" 1. هكذا يأمرهم بالتبليغ عنه لما يسمعوه, ويحدثنا أبي نجيح العرباض بن سارية فيقول: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب, فقال رجل: إن هذه موعظة مودع, فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي, فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور, فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليكم

_ 1 رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو, كتاب أحاديث الأنبياء, باب ما ذكر عن بني إسرائيل. صحيح البخاري بهامش فتح الباري ج7 ص309, ورواه الترمذي, كتاب العلم, باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل رقم 13 حديث رقم 2669 ج5 ص40.

بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" 1. وما أكثر ما أمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب, ثم ما أعظم دعائه بتحقيق النضارة والحسن والبهاء والوضاءة في وجوه من سمعوا مقالته, فعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمرأ سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه, ورب حامل فقه إلى من أفقه منه" 2. ومن ذا الذي لا يحرص على نضارة وجهه؟ ثم من لا يرضى أن يبلغ ما عنده إلى من هو أفقه به منه أو أوعى! ثم إن المبلغ صلوات الله وسلامه عليه جذبهم إليه ورغبهم في الإقبال على ما يقوله بتحينه أوقات رغبتهم وحاجتهم إليه, ولا يثقل عليهم, وإنما يتخولهم بالموعظة مخافة السآمة والملل, وهو يترفق بهم ويتمهل في تعليمهم بحيث لو أراد أحد عدّ ما يقوله لأحصاه, ويكرر العبارة ثلاثا ليفهم عنه, ويحنو على السائل, ويرفض الاشتداد عليه, ويدني من مجلسه كل من يحتاج إلى أنسه, ويبسط من بشاشة الوجه وطيب المحيا وسعة الحلم والصفح ما يحول عداوة الخصم الألد إلى إقبال وحب وود, ويبذل العون المادي لمن يحتاج إليه, ومن هنا تنقطع أعذار الصادين وتسقط حجج المعرضين.

_ 1 سنن الترمذي ج5 ص44 كتاب العلم, باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع رقم 19 حديث رقم 2676، ورواه ابن ماجه باختلاف يسير, باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث 43 ج1 ص16, ورواه الدارمي في سننه ج1 ص44, باب اتباع السنة. 2 سنن ابن ماجه ج1 ص74، باب 18، من بلغ علما, حديث رقم 230، وجامع الترمذي ج5 ص34 كتاب العلم, باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع, حديث رقم 2658.

إقبال الصحابة على تلقي الكتاب والسنة

إقبال الصحابة على تلقي الكتاب والسنة: ويقبل الكافة على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم, يتلقفون ما ينزل من الوحي في تلهف واشتياق, ويأخذون البيان النبوي له والشرح التطبيقي لأوامره ونواهيه, ويذهبون لينفذوا ما تعلموه. "وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السلمي1: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما, أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه سلم عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا"2. هكذا كانوا يعملون بما يعلمون ولا ريب في انتفاعهم بثمرة العمل على أنهم لم يكونوا على وتيرة واحدة, وإنما كان منهم الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان منهم المنشغل بشئون الحياة سقيا للزرع أو رعيا للضرع أو صفقا في الأسواق. كان منهم القاصون الذين يتواردون على المدينة من أطراف الجزيرة

_ 1 أبو عبد الرحمن السلمي: هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة بالتصغير, ويكنى بأبي عبد الرحمن, لأبيه صحبة, وهو تابعي كبير, روى عن عمر وعثمان وعلي وسعد وغيرهم، وروى عنه إبراهيم النخعي. وأبو إسحاق السبيعي وابن جبير وغيرهم, وهو ثقة عند سائرهم وقد ظل أربعين سنة يقرأ القرآن ويعلمه الناس في مسجد الكوفة وتوفي سنة اثنتين وسبعين. طبقات ابن سعد ج6 ص119، وتهذيب التهذيب ج5 ص183، 184. 2 السنة قبل التدوين ص58.

وأنحائها فيقضون الأيام وربما الشهور ينهلون ويتعلمون, ثم يعودون إلى ذويهم معلمين مبلغين كثيرا ما يطيب لبعضهم المقام في الجوار النبوي, فلا يقوون على مفارقة النبي صلى الله عليه وسلم, ثم إنهم لم ينقطعوا للتلقي, ولم يتواكلوا فيقعدوا عن طلب الرزق, وإنما سعوا في مناكب الذلول ليأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له, ولم تملكهم الدنيا, ولا منعهم السعي على المعاش من تحصيل ما يأتي به الوحي, وإنما جمعوا خيري الأمرين, فإذا انشغل أحدهم بالسعي على عياله, استناب أحد جيرانه أو آله في حضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليأتيه بخبر ذلك اليوم الذي استنابه فيه, ويأخذ كل من المستنيب والمستناب نوبته, وعلى هذا المعنى ترجم البخاري في صحيحه باب التناوب في العلم. من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما, فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره, وإذا نزل فعل مثل ذلك, فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته, فضرب بابي ضربا شديدا, فقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه, فقال: قد حدث أمر عظيم، فدخلت على حفصة, فإذا هي تبكي, فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري, ثم دخلت على النبي صلى الله عليه سلم, فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال: "لا"، قلت: الله أكبر1.

_ 1 صحيح البخاري بهامش فتح الباري ج1 ص195, كتاب العلم, باب التناوب في العلم.

معنى هذا أن البعض قد يكتفي بحضور البعض, وأنهم لم يلتزموا بالسماع مشافهة من النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما كانوا عدولا مأمونين, يثق بعضهم في بعض, ولا يتطرق الشك إليهم, وقد عبر الصحابي الجليل البراء بن عازب الأوسي عن أخذ بعضهم عن بعض، فقال: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابنا, وكنا مشتغلين برعاية الإبل وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيسمعونه من أقرانهم وممن هو أحفظ منهم, وكانوا يشددون على من يسمعون منه"1. والنصوص في إقبال الصحابة على تلقي الكتاب والسنة كثيرة مستفيضة, والذي يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد هو أن الصحابة رضوان الله عليهم ملك عليهم القرآن عقولهم ومشاعرهم وعكفوا على حفظه وتلاوته وتدبر معانيه واستنباط أحكامه وفهم مراميه, وكان يسمع لهم به دوي كدوي النحل. ولم تكن السنة عندهم أقل درجة من القرآن, وإنما تواكب اهتمامهم به مع اهتمامهم بها. نعم من الثابت أنهم عنوا بكتابة القرآن أكثر مما عنوا بكتابة الحديث, بل ثبت نهيهم عن كتابة شيء غير القرآن, وأمروا بمحو كل ما كتبوه من سواه خوفا من أن يختلط القرآن بغيره, ومن اتكالهم على الكتابة, وتركهم إعمال الذهن, فلما أمن ذلك منهم أذن لهم في كتابة الحديث. ومن الحقائق المطوية في ثنايا الكتب أن الكثير من الحديث النبوي دون في العهد

_ 1 معرفة علوم الحديث ص14.

النبوي أو بعده بقليل وقد سجلت المراجع الموثوق بها أن هناك عددا من الصحابة كانوا كاتبين أو مستكتبين واشتهر نبأ صحيفة "الصادقة" لعبد الله بن عمرو بن العاص, وصحيفة "أبي هريرة" التي نقلها عنه تلميذه همام بن منبه المتوفى سنة إحدى ومائة, وقد نقلت إلينا هذه الصحيفة كاملة واشتملت على مائة واثنين وثلاثين حديثا, وكذلك كانت لجابر بن عبد الله صحيفة نقلها عنه قتادة بن دعامة السدوسي، كما كانت هناك "صحيفة عبد الله بن أبي أوفى", وغيرها من الصحف. لكن بقي الطابع المعول عليه في الحديث في الحقبة الأولى, إنما هو الحفظ والإتقان والنقل الدقيق المتثبت لكل ما يسمع أو يشاهد من أحوال أو أقوال صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم, وطاعة لأمر رب العالمين وانصرافا فطريا أو جبليا نحو الصادق الأمين, وتفاعلا مع ما تحلى له من الخلق الكريم, وإحساسا نحو الصادق الأمين, وتفاعلا مع ما تحلى له من الخلق الكريم, وإحساسا بأهمية ما يطيعون فيه وأهلية من المأمورين بالطاعة لتلقي السنة وانسياقا لتحقيق سنة الله الماضية في إنفاذ ما وعد به من حفظ الكتاب المستلزم لحفظ البيان والتفصيل له. واستجابة لذلك كله وتجاوبا معه كان حرص الصحابة على السنة, ومزيد اهتمامهم بها, وعظيم إقبالهم على تحصيلها، وانضم لذلك كله إحساسهم بشدة حاجتهم إلى معرفتها في تدينهم. إنهم رأوا الكتاب المنزل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر المجمل من نحو أمرهم بالصلاة دون تحديد لمواقيتها وكيفيتها وهيئاتها. فكيف ينفذون هذا الأمر؟ وكم وجدوا في القرآن من أوامر مجملة وأحكام

عامة تحتاج إلى تخصيص, أو مطلقة تحتاج إلى تقييد, فأنى لهم تفصيل المجمل, أو توضيح المبهم, أو تقييد المطلق, أو تخصيص العام بعيدا عن من أنزل عليه القرآن، وكلفه تكليفا جازما بالبيان له. فقال فيما أنزل عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وبعد تسع عشرة آية من نفس السورة يقول الحق عز من قائل بأسلوب القصر ومن خلال أقوى طرقه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2 فكيف كان البيان؟ وما وجوهه؟

_ 1 سورة النحل الآيتان 43، 44. 2 سورة النحل الآية رقم 64.

وجوه بين السنة للقرآن

وجوه بين السنة للقرآن ... وجوه بيان السنة للقرآن: تدور استعمالات اللغة لكلمة "بيان" ومادته على الوضوح والظهور والتفصيل والإفصاح مع ذكاء1, وقد عرف ابن حزم البيان فقال: "كون الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه, والإبانة والتبيين: فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة, وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق, وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد

_ 1 القاموس المحيط ج4 ص206.

إلى الإفهام مبينا, كما تقول: بين لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا, والمبين هو الدال نفسه1. إذا تبين هذا نقول: قد أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان, وكفل فيه لهم ما يصلح حالهم ومآلهم, وجعل منهج حياة لهم, وحتى يتسنى لهم حفظه, وينجز لهم وعده بتيسيره للذكر جعله في الأعم الأغلب مجملا لا يتوصل إلى مراد الله به إلا من خلال الرجوع إلى من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ربطا للدعوة بالداعية, وتوثيقا للصلة بين البيان والمبين. ومما ينبغي أن يعلم رجوع السنة إلى القرآن, واعتباره أصلها فكل ما بينته من الأحكام, أو أسسته بمعنى استقلالها ببيان حكمه راجع إلى القرآن, فهو الذي أمر بطاعته صلى الله عليه وسلم, وحذر من مخالفته, وأمرنا بأخذ كل ما أعطانا والانتهاء عن كل ما عنه نهانا, ولقد مر بك فهم الشافعي لهذا المعنى, وسبق ابن مسعود له بهذا الفهم, وكيف اعتبر أن ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم صريحا مفصلا جاء ضمنا أو مجملا في القرآن, على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتولى مهمة البيان لا يصدر عن نفسه, إنما يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي أعلن في وضوح تام أن كل ما يجيء به فعن الله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2.

_ 1 الإحكام في أصول الأحكام ج1 ص46. 2 سورة النجم: 3، 4.

فوظيفة السنة تفسير القرآن، والكشف عن أسراره، وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره وأحكامه. والمتتبع للسنة من حيث دلالتها على الأحكام المتضمنة في القرآن إجمالا أو تفصيلا فسيلفينها واردة على وجوه أربعة: الأول: قد ترد السنة موافقة لما في القرآن مطابقة له، فيكون ورودها على جهة التأكيد والتقرير والتقوية لما جاء فيه, وذلك كتوصيته بالنساء وحضه على الإحسان إليهن ومداراتهن, فإن كل ما ورد في هذا الباب يعد تأكيدًا لما في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 1. الثاني: وقد ترد السنة بيانا لما أريد بالقرآن من خلال تفصيل مجمله, أو تقييد مطلقه, أو تخصيص عامه, أو توضيح مشكله، فمن باب تفصيل المجمل ما وضحته السنة من مواقيت الصلاة وعدد ركعاتها وكيفيتها والهيئات التي تؤدى عليها, وكبيان الأنواع التي تجب فيها الزكاة والنصاب الذي يجب ببلوغ المال حده، والقدر المخرج في كل نوع. فالقرآن إنما أمر بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة على جهة الإجمال, وتولت السنة تفصيل ذلك كله, ومثل ذلك في الحج, أوجبه القرآن على المستطيع, وأوجب إتمامه والعمرة على من شرع فيها, ثم جاءت السنة فبينت المناسك ووضحت كل الشعائر التي أمر الله بتعظيمها. وما من عبادة في القرآن إلا وهي محتاجة إلى البيان العملي لها.

_ 1 سورة النساء: 19.

ومن باب تقييد المطلق تحديد اليد التي أمر الله بقطعها في السرقة في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. فههنا أمر بقطع الأيدي وذلك عام في اليدين كلتيهما يصدق على اليمنى واليسرى ويصدق على كل اليد من العضد إلى الكف، فهل تقطع اليدان أم اليمنى أم اليسرى؟ وهل يكون القطع من العضد أم من المرفق أم من الكوع؟ إبهام لا يرفعه إلا تقييد المطلق ببيان أن المقصود بالأيدي إحداهما واليمنى بالذات, ثم يكون القطع من الكوع. ومن باب تخصيص العام توضيح معنى الظلم في قوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2، فإن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا من الآية عموم الظلم, ففزعوا فزعا شديدًا، فأي الناس لم يخلط إيمانه بظلم؟ فبين لهم النبي صلى الله عليه سلم أن المراد بالظلم هنا ظلم مخصوص لا عموم ظلم, وردهم إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. ومن أمثلة توضيح المشكل ما جاء في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 4 فقد فهم البعض

_ 1 سورة المائدة: 39. 2 سورة الأنعام: 82. 3 سورة لقمان: 13. 4 سورة البقرة: 187.

من لفظ الآية أن المقصود به العقال الأبيض والعقال الأسود، وجعل عريض القفا يمسك بهما, ولا يمسك عن الطعام والشراب حتى يتبين له أحدهما من الآخر، فبين لهم النبي صلى الله عليه سلم إزاحة للإشكال أن المراد من البياض والسواد بياض الصبح وسواد الليل. ولا يخفى عليك أن أصل هذه الأحكام موجودة في القرآن, وغاية ما هناك أنه تطلب البيان ممن هو أعلم بالقرآن. الثالث: من وجوه السنة للقرآن أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن كالحكم بطهورية ماء البحر وحل ميتته, وكتحريم لحوم الحمر الأهلية, وتحريم كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السباع, وتحريم ربا الفضل, وتحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها. فهذه الأحكام كلها استقلت السنة بتشريعها وليس للقرآن نص فيها، لكنها لا تخرج عنه إذ لا سبيل للفصل بينه وبين السنة، أليس هو الآمر بأخذ كل ما فيها والانتهاء عن كل ما نهت عنه. الرابع: قد ترد السنة ناسخة لحكم ثبت بالكتاب على رأي من يقول بنسخ السنة للقرآن، فهناك رأيان للعلماء في هذه المسألة، الأول قال به الأحناف فجوزوا نسخ الكتاب بالسنة المتواترة والمشهورة، وحجتهم في ذلك أن المتواتر قطعي الثبوت كالقرآن, والمشهور قد اكتسب من القوة نظرا لاشتهاره في أيدي العلماء، وعمل الفقهاء به ما يلحقه بالمتواتر، والمتواتر والمشهور وحي غير متلو, فلا مانع من أن ينسخ بهما الوحي المتلو, ومثلوا للنسخ بالمشهور بالمسح على الخفين وللنسخ بالمتواتر نسخ الوصية للوالدين ولسائر الوارثين لذوي القرابات بحديث "لا وصية لوارث" والرأي،

الثاني، رأي الجمهور القائل: بأنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة سواء كانت متواترة أو غير متواترة، وقد استدل الجمهور بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1 قالوا: وليست السنة مثل القرآن فضلا عن أن تكون خيرا منه، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} 2, فدل ذلك على أنه متبع لكل ما يوحى إليه، وغير مبدل له والنسخ تبديل, ثم إنه مكلف ببيان ما نزل إليه ليعمل الناس بالمنزل. والقول بنسخ السنة للكتاب معناه: تعطيل للمنزل والعمل بغيره، واستدل الجمهور أيضا بأن "مع نسخ الكتاب بالسنة أقرب إلى صيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طعن الطاعنين فيه، وبالاتفاق يجب المصير في باب بيان أحكام الشرع إلى طريق يكون أبعد عن الطعن فيه, وذلك أنه إذا جاء منه أن يقول ما هو مخالف للمنزل في الظاهر على وجه النسخ له, فالطاعن يقول: "هو أول قائل وأول عامل بخلاف ما يزعم أنه أنزل عليه، فكيف يعتمد قوله فيه؟ وإذا ظهر منه قول, ثم قرأ ما هو مخالف لما ظهر منه من القول, فالطاعن يقول: قد كذبه ربه فيما قال فكيف نصدقه؟ وإلى هذا أشار بقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 3, ثم نفى عنه هذا الطعن بقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ

_ 1 سورة البقرة: 106. 2 سورة يونس: 15. 3 سورة النحل: 101.

رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 1 ففي هذا بيان أنه ليس في نسخ الكتاب بالكتاب تعريضه للطعن من الوجه الذي قاله الطاعنون، فيجب سد هذا الباب لعلمنا أنه مصون عما يوهم الطعن فيه"2. ونرى مع الإمام مالك والأحناف والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة جواز نسخ الكتاب بالسنة، فكلاهما وحي من الله عز وجل بنص القرآن والمثلية أو الخيرية في المأتي به بدل المنسوخ أهم من أن تكون فيما لا يتلى في المصلحة أو الثواب. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتي بسنة ناسخة لما في القرآن, لن يكون من تلقاء نفسه, وإنما التبديل بوحي من عند الله. ولا عبرة باعتراض المعترضين على الوحي, ووقوع النسخ فيه فلو أقمنا وزنا لاعتراضهم ما سلم شيء وما استقام شرع, فالمعترض الجاحد قد يكون مرد اعتراضه إلى جحوده، ألا ترى إلى تسلية الله لرسوله وتسريته عنه {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 3. ثم إن نسخ القرآن بالسنة ليس إبطالا للبيان, بل هو نوع منه، فالنسخ بيان لأمد العمل بالحكم السابق, وإنهاء له بالدليل الشرعي المتأخر المقتضي رفع العمل بالمتقدم, فالنسخ نوع من البيان.

_ 1 سورة النحل: 102. 2 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص397-398. 3 سورة الأنعام: 33.

بقي أن جواز نسخ القرآن بالسنة, وإن كان ممكن الوقوع عقلا وشرعا إلا أننا نوافق القائلين بعدم وقوعه، والمسائل التي قيل فيها: إنها منسوخة بالسنة عند التأمل يتضح انها منسوخة بالقرآن. وقد أيد الشيخ الزرقاني رأي الإمام مالك وأصحاب أبي حنيفة وجمهور المتكلمين في هذه المسألة، ثم رأى عدم وقوع النسخ للكتاب بالسنة, ثم أورد هذين الاعتراضين. "لقائل أن يقول: إن من السنة ما يكون ثمرة لاجتهاده صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس وحيا أوحى إليه به، بدليل العتاب الذي وجهه القرآن إلى الرسول في لطف تارة وفي عنف أخرى، فكيف يستقيم بعد هذا أن نقول: إن السنة وحي من الله؟ والجواب أن مرادنا هنا بالسنة، ما كانت عن وحي جلي أو خفي, أما السنة الاجتهادية فليست مرادة هنا البتة، لأن الاجتهاد لا يكون إلا عند عدم النص، فكيف يعارضه ويرفعه؟ ولقائل أن يقول: إن من السنة ما كان أحاديا، وخبر الواحد مهما صح, فإنه لا يفيد القطع والقرآن قطعي المتن، فكيف ينسخ بالسنة التي لا تفيد القطع؟ ومتى استطاع الظن أن يرفع اليقين؟ والجواب: أن المراد بالسنة هنا السنة المتواترة دون الأحادية، والسنة المتواترة قطعية الثبوت أيضا كالقرآن، فهما متكافئان من هذه الناحية, فلا مانع أن ينسخ أحدهما الآخر, أما خبر الواحد فالحق عدم جواز نسخ القرآن به، للمعنى المذكور، وهو أنه ظني والقرآن قطعي، والظني أضعف

من القطعي فلا يقوى على رفعه، والقائلون بجواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية، اعتمادا على أن القرآن ظني الدلالة، حجتهم داحضة؛ لأن القرآن إن لم يكن قطعي الدلالة فهو قطعي الثبوت، والسنة الأحادية ظنية الدلالة والثبوت معا, فهي أضعف منه فكيف ترفعه؟ "1. هذا وكل ما مضى هو في وجوه بيان السنة للقرآن فيما يتصل بالأحكام أما في بيانها له في غير الأحكام؛ يقع على ثلاثة أضرب: الأول: ما يرد موافقا لما في القرآن فيكون مؤكدًا له, ولا يخلو مع ذلك عن شرح وبيان؛ كحديث الخضر مع موسى عليه السلام في البخاري وغيره, فإنه يوافق القصة المذكورة عنهما في سورة الكهف. الثاني: ما يرد مورد التوضيح والشرح؛ ومثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح, فيقال: هل بلغت؟ فيقول: نعم, فيدعى قومه, فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير, وما أتانا من أحد، يقال: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته" , قال: "فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ". أخرجه البخاري والترمذي. الثالث: ما يرد على طريق الاستقلال؛ ومن أمثلته حديث جريج العابد, وحديث الأبرص والأقرع والأعمى, وحديث الصخرة؛ فهذه الأحاديث وما في

_ 1 مناهل العرفان ج2 ص137-138.

معناها مؤكدة للمقاصد التي جاء بها القرآن، وحكمتها تنشيط المكلفين وتنبيه الغافلين". ا. هـ1. وبعد هذا الإسهاب في بيان وجوه السنة للكتاب, قد يقول قائل: كيف تزعمون أن السنة مبينة للكتاب؟ أو أنه محتاج إلى بيان وقد قال الله فيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} 2. وقال أيضا: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 3. أبعد هذا التبيان والتبيين يستقيم ما تقولون من أن السنة مبينة للكتاب؟ والجواب الذي لا يبقى معه ريبة لمرتاب هو: إن بيان السنة للكتاب متضمن فيه فهو الذي أمر بطاعتها, وأخذ ما فيها, والانتهاء عن نواهيها, وهو الذي نطق موكلا إليها مهمة البيان، ولسنا نقول: إن السنة قد جاءت بما ليس في القرآن، وإنما نقول: إنها فصلت ما أجمله وبينه, وهي منه محفوظة بحفظه، ونستطيع أن نقرر في يقين أن الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن أقبلوا على السنة طائعين, مطيعين أمر رب العالمين، متجاوبين مع طبيعة الدعوة والداعية, محققين تدينهم من خلال انكبابهم عليها, منفذين أوامر الله عز وجل ومطلوبه منهم من خلال بيانها وتوضيحها. فإذا قال الله في وصف حبيبه ومصطفاه

_ 1 الحديث والمحدثون، ص45. 2 سورة الأنعام: 38. 3 سورة النحل: 89.

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وأرادت عائشة رضي الله عنها أن تجيب سائلها عن هذا الخلق العظيم، الجواب المقنع الموضح طاب لها أن تقول: "كان خلقه القرآن". على ما رواه مسلم. معنى هذا أنه تمثل القرآن فكان قرآنا يمشي على الأرض. وتمثل أصحابه خلقه، فهو الأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا, وأي الخَلْق أرجى لله واليوم الآخر من أصحاب محمد؟ وأي الناس أذكر لربهم منهم؟ إن منهم الأرجى والأذكر والأتقى والأشكر، بل هم جماع الفضائل كلها، واختارهم الله ليكونوا مادة دينه، وحملة شرعه ونقلة وحيه، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها فاستعذبوا الصعاب في سبيل خدمة عقيدتهم, سألوا واستفتوا واسترشدوا واستشهدوا، وتحققوا ودققوا طلبا للفهم وطمعا في الهضم، حضروا وشهدوا, ثم بعدوا في الأرض يبلغون ما شهدوه لمن غابوا عنه. ويبدو أنهم كانوا موصلين جيدين لنور النبوة وإشراقها إلى كل من لقوا, فإذا بهم يؤثرون تأثير السحر فيمن بلغوه ما سمعوه، فصادفت دعوتهم صدى طيبا، ولقيت تجاوبا سريعا, وآتت أكلها أضعافا مضاعفة إيمانا تفيض به القلوب ويقينا تفعم بها الأفئدة، وتأثرا بالرسالة والرسول إلى حد أن هناك من المبلغين المدعوين من أخرجه الشوق من بلده وولده, وقصد المدينة يريد لقاء النبي صلى الله عليه وسلم غير مكتف بما حدث به عنه، بل متطلعا إلى رتبة المشافهة والأخذ المباشر من صاحب الرسالة في العرض والقراءة على المحدث. أخرج لنا البخاري بسند عن أنس بن مالك

رضي لله عنه قال: "بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد, دخل رجل على جمل, فأناخه في المسجد, ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم, فقلنا: هذا الرجل الأبيض ابن عبد المطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتك". فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك, فمشدد عليك في المسألة, فلا تجد عليّ في نفسك, فقال: "سل عما بدا لك" , فقال: أسألك بربك ورب من قبلك, آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم" , قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم"، قال: أنشدك بالله آالله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم" , فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول مَنْ ورائي مِنْ قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد"1. فضمام بن ثعلبة لم يكتف هو ولا قومه بنو سعد بن بكر بن هوازن بما أعلمتهم به رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما جاء يسأل عن أركان الإسلام، وتقطع أسئلته بسبق علمه بها, فماذا طلب هو وقومه؟ طلبوا ما عبر عنه المحدثون بعد بعلو الإسناد, ومن هنا قالوا: إن علو الإسناد سنة لما أن ضماما فعله وأقره عليه صاحب الشرع, فلم ينكر عليه.

_ 1 صحيح البخاري "كتاب العلم" هامش فتح الباري ج1 ص158-161.

وعلى شاكلة ضمام قدمت الوفود من السهول والآكام، بل ومن كل مكان تطلب, وتتلقى وتعود إلى قبائلها مبشرة بالدين الجديد, وبذا ذاعت السنة وشاعت وطبقت الآفاق, واشتهرت وانتشرت في كل مكان, وكان وراء انتشارها واشتهرها عوامل نوجزها لك فيما يأتي.

عوامل وأسباب انتشار السنة في العهد النبوي

عوامل وأسباب انتشار السنة في العهد النبوي: لم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا والسنة مشهورة منشورة في جزيرة العرب وخارجها. أما جزيرة العرب؛ فقد دخل أكثرها في دين الله أفواجا، وأما خارج الجزيرة؛ فقد ترامت إليهم الأخبار الكثيرة عن هذا الدين الجديد, ووصلت كتبه صلى الله عليه وسلم ورسله إلى قصور كسرى وهرقل والمقوقس وأمراء الحيرة وغسان, وغيرها من البلدان, مما يطمئن الباحث معه إلى أن يقول: إن السنة قد انتشرت, وملأت الآفاق, وصاحبها ما زال بعد يصدع بأمر ربه, ويبلغ ما أوحي إليه. وقد كانت هناك عوامل وراء انتشار السنة أهمها: 1- نشاط النبي صلى الله عليه سلم, وجده, واجتهاده في تبليغ الدعوة، فما ترك سبيلا إلى نشرها إلا وسلكه, وما وجد بابا يمكن أن يفتح أمامها إلا وطرقه، عرض نفسه على القبائل، غير آبه بما لاقى من صنوف الأذى، ويا لهولِ ما لاقى، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، وما ضعف, وما استكان، وإنما صبر, وثابر، وجاهد في الله حق جهاده، وأتقن, وأحسن، فأنجز له الوعد

المبذول {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} , فوجدت دعوته طريقها إلى قلوب الناس, وتبوأت السنة مكانتها عند المسلمين المستجيبين لما دعوا إليه. 2- طبيعة الإسلام ونظامه الجديد، الذي جعل الناس يتساءلون عن أحكامه وعن رسوله وأهدافه، فكان بعض من يسمع بالدعوة يقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام, فيعلن إسلامه, وينطلق إلى قومه ليبلغهم ما رأى, ويخبرهم ما سمع. 3- نشاط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلقي السنة, واندفاعهم في طلب العلم, وحرصهم على كل ما يصدر عن معلمهم حرص الضنين، وقد مر الكثير من صور تكريمهم له, وتهافتهم على وضوئه, وأتمارهم بأمره، وابتدارهم إلى طاعته. 4- دور أمهات المؤمنين: لا شك أنهن قمن بدور بارز في نشر السنة وتبليغها, وأسهمن بنصيب موفور في تبليغ الدين إلى نساء المؤمنين, فمعلوم أن هناك مسائل كثيرة تستحيي المرأة أن تستبينها من الرجل، وقد علم أنهن شكون كثرة مجالسة الرجال له, فقلن: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوما فخصهن بيوم، ثم كان تقدير الله عز وجل واختياره نساء نبيه, مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات عالمات محدثات مشتهرات بالحرص على ذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وشاءت حكمة العلي القدير كثرة عددهن، فاجتمعن في عصمته, وبلغن تسع نسوة، ونبغ منهن الكثيرات.

فعرفت الصديقة بنت الصديق بسعة العلم, ورحابة الأفق, والسؤال عن كل شيء, ومراجعة الحكم للتثبت منه، واشتهر عن السيدة الجليلة أم سلمة اللباقة وحسن التصرف، واشتهرت السيدة زينب بنت جحش بالنسك وكثرة العبادة، وما أعظم بركة جريرة بنت الحارث على ذويها. 5- النساء الصحابيات شاركن بدور في تبليغ السنة, لا يقل على دور الصحابة, واضطلعن مع أمهات المؤمنين بتبليغ أحكام الدين, وحفظ ما يخص النساء، ولا سبيل إلى خبرة الرجال به، وما أكثر ما نقرأ في السنة من تساؤلات واستفسارات ومناقشات نسائية, وقضايا فرضت نفسها على الفقه الإسلامي, ونبأ ذلك كله مستفيض. 6- ومن الأسباب التي أدت إلى انتشار السنة؛ الرسل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل، وإلى الملوك والأمراء، وغالبا ما أرسل معهم كتبا يبين فيها جوهر دعوته، ويدعو إلى متابعته فما أن استقرت الأمور في المدينة المنورة، حتى خرج أولئك الرسل يطوفون البقاع, ويجوبون الأسقاع محملين بزاد روحي ومزودين بمنهج متكامل وبطاقة حماسية، فهم ميسرون لا معسرون, ومبشرون لا منفرون, على نحو ما أمر معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري حين أرسلا إلى اليمن, وهم عادلون لا جائرون، وبلغاء وليسوا عيياء، وقد اشتهر العام السابع من الهجرة بإرسال الكتب، فبعد صلح الحديبية, ووضع الحرب بين المسلمين, وبين أعدائهم, كانت الفرصة سانحة لتحرك سياسي محسوب, وفي يوم واحد انطلق ستة نفر إلى جهات مختلفة يتكلم كل واحد بلسان القوم الذين بعث إليهم.

فقد اشتهر أنه راسل رسله إلى قيصر الروم، وإلى أمير بصرى، وإلى الحارث بن أبي شمر أمير دمشق, ومن قبل هرقل, يدعوهم إلى الإسلام، كما وجه كتبه إلى النجاشي ملك الحبشة, وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وأرسل كتبه ورسله إلى عمان واليمامة وغيرها. وكان الرسل يجيبون عما يسألهم عنه الملوك والأمراء ورؤساء القبائل, ويبينون لهم الإسلام وغاياته على ضوء ما يزودهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوجيه والإرشاد، وكان صلى الله عليه وسلم يولي على كل قوم قبلوا الإسلام كبيرهم، ويمدهم بمن يفقههم ويعلمهم. 7- الفتح الأعظم: بعد أن نقضت قريش عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم, وأعانت بكرا على خزاعة, فبيت الخزاعيون بالوتير هجدا, وقتلوا ركّعا وسجّدا, وقدر الله المخرج للمضطهدين في مكة، الذين لا يجدون سبيلا للفرار بدينهم, ويبقيهم الحرص على الوفاء مكبلين في أغلال الظلم والصف القرشي, فسار النبي صلى الله عليه وسلم في جيش عرمرم قوامه عشرة آلاف مجاهد, لم تشهد له جزيرة العرب قبل ذلك نظيرا، ودخل مكة فاتحا منتصرا فرحا مستبشرًا بنصر الله والفتح المبين، وخطب في جموع الذين آذوه وطردوه, وشملهم بعفوه وصفحه الجميل، واشتهرت خطبة الفتح بما أرسته من دعائم, وأصلته من قواعد؛ كنهيه عن أن يقتل مسلم بكافر، وعن أن يرث المسلم الكافر, وعن أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها, وكتغليظه حرمة مكة, وزجره

من نادى على ذلك اليوم أنه "يوم الملحمة" يوم تستباح فيه الحرمة, لكن الرءوف الرحيم اعتبره يوم المرحمة، ويوم تعظيم الحرمة, ولقد أذن يوم الفتح بدوال دولة الكفر، وسقوط معقل المناوأة والمجابهة للدين الجديد. 8- الوفود: كان فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة, وبعده حنين في شوال من نفس السنة, ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, واستقبل فيها سنة تسع, تلك السنة التي عرفت بعام الوفود لكثرة الوفود التي وفدت على المدينة وجاءت من داني المكان وقاصيه, تتزود بتعاليم الدين الجديد وتتعلم أحكامه. وكان من هذه الوفود من يقيم عند النبي صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد, ثم يقفلون عائدين إلى قومهم منذرين, وقد وقفت على نبأ الوفد الذي تزعمه ضمام بن ثعلبة. ومن الوفود التي قدمت المدينة وطار نبؤها, وعمرت برواية خبرها وفد عبد القيس، ووفود بني حنيفة وطيئ وكندة وأزدشنوءة، ووفد ملوك حمير ووفد همدان. والحديث عن الوفود وأثرها في نشر السنة طويل.

9- حجة الوداع: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق, وأنجز له ولصحبه الوعد الصدق، فمكنهم من دخول البيت آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين, وأظهر لهم مكنون ما لا سبق لهم بعلمه، فمكنهم من أداء الحج, وصحبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة جموع غفيرة، وخطب خطبته الجامعة في يوم الحج الأكبر، يوم أن أكمل الله دينه وأتم نعمته ورضي الإسلام لهذه الأمة دينا، أبان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة يوم عرفة الكثير من الأحكام منها: حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم كحرمة الزمان والمكان، ومنها: وجوب أداء الأمانة ووضع ربا الجاهلية, وتحقيقا لمبدأ المساواة بين الناس كان أول ربا وضعه ربا عمه العباس، ومنع النسيء والتأخير للشهر الحرام تأكيدا لما قرره الكتاب، وبين حقوق الرجال والنساء, وحض على حسن معاملتهن والترفق بهن، وأكد على أهمية ما أبانه من أحكام, ووجوب تبليغه إلى الأنام بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه" 1. وفي رواية: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ... ألا هل بلغت, ألا هل بلغت" 2.

_ 1 كتاب العلم, باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ أوى من سامع, ج1 ص167-168, صحيح البخاري بهامش فتح الباري. 2 المصدر السابق, كتاب العلم, باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب ج1 ص208-209.

هكذا انتشرت السنة في العهد النبوي، وأخذ تبليغها الطابع التكليفي, فإيصالها إلى الغير أمانة يجب أن تؤدى إلى أهلها، ويستحق مؤديها الثناء عليه لرعايته إياها وحفظها. وصار الصحابة هم الأمناء عليها, ترى هل كانوا أهلا لتلك الأمانة؟ أم مضيعين لها؟ ذلك ما لا يقوله عاقل, إذ إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ما كانوا قط مضيعين ولا مفرطين أو مقصرين أو مُحْدِثين مبتدعين، وإنما كانوا المتبعين المقتدين الراعين للأمانة والمؤدين لها، الحريصين على التبليغ المتحوطين في النقل المتثبتين في العمل والقول، فكيف كان حالهم مع الحديث أو مع السنة؟ وما هو الدور الذي تمادوا في أدائه؟ وما طريقتهم في الأخذ والإعطاء لها؟ ذلك ما سنتبينه في المبحث التالي: السنة في عهد الصحابة.

المبحث الثاني: السنة في عهد الصحابة

المبحث الثاني: السنة في عهد الصحابة مدخل ... المبحث الثاني: السنة في عهد الصحابة لما أشرقت شمس الهداية الإلهية، وتألقت أنوار التجليات الربانية بالعناية والرعاية للبشرية، وبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة، وأنزل عليه الكتاب المهيمن على ما بين يديه من الكتب المصدق لها، وتكفل المولى بحفظ ذلك الكتاب، اجتمعت القلوب والألباب حول الرسالة وصاحبها, وأدرك المؤمنون الصلة بين الكتاب المنزل وبين أقوال وأفعال وصفات وتقريرات النبي المبلغ, فقد علمهم ربهم أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، وأن متابعته متابعة له ومبايعته مبايعة له, وأدركوا أنه المبين عن الله ما أراده من خلقه. فقد بين لهم كل ما احتاج إلى بيان، وقبلوا هم منه في ثقة واطمئنان، ولم يخطر ببال أحد منهم أن يترك قولا أو فعلا أو أمرا أو نهيا من غير أن يلتزم به, وهذا الالتزام مبعثه الاقتناع التام, وهو التزام بالحكم باق بقاء الأحكام, ولا معنى لتعلقه بالأشخاص، فما كان الله ليأمر بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياته فحسب، وإنما كانت الطاعة مبدأ كما كان الالتزام كذلك, والمبادئ لا تموت, ومن أبرز سماتها الاستقرار والثبوت، ولهذه المبادئ رجالها الذين يعتنقونها, ويلتزمون بها, ويموتون دونها، ولو وضعت الشمس في أيمانهم والقمر في شمائلهم على أن يتخلوا عنها ما تركوها، وما ازدادوا إلا تمسكا بها.

ولم يعرف ولن يعرف أناس أشد ارتباطا بمبادئهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, بينما كان المصاب الجلل فيه يملك عليهم أحاسيسهم, ويكاد يفقدهم صوابهم, والعواطف المتأججة بالحزن تملأ قلوبهم, وهو صلى الله عليه وسلم مسجى بغطاء الموت، وما أطيبه حيا وميتا, بينما الحال كذلك إذ بهم يجتمعون في ثقيفة بني ساعدة؛ ليدبروا أمر استمرار المسيرة الرائدة، وتجتمع الكلمة على أبي بكر من منطق أنه الصديق خير رفيق، فهو ثاني اثنين, وهو المأمور بتقديمه للإمامة، ويتولاها أبو بكر قويا على أعبائها أمينا على مسئولياتها, فهو المتبع المقتدى. فإذا ارتد أكثر العرب, واشرأب النفاق في المدينة أَبَى أبو بكر إلا أن ينفذ بعث أسامة من منطق أنه أمر أمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما يكون له أن ينقض ما أمضى، وإذا عرض عليه المرتدون إسلاما بصلاة من غير زكاة, ولم تطب نفوسهم بأداء حق الله أبى إلا مقاتلتهم، فإذا عورض بأنهم موحدون قالوا: لا إله إلا الله, وبقولها تعصم دماؤهم وأموالهم إلا بحقها. أقسم بارا غير حانث ليقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، واعتبر الزكاة حق المال, ولو منعوه عناقا أو عقالا كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه. وينشرح صدر الجميع لما انشرح له صدر أبي بكر، ويمضي الصديق في طريق حسن الاتباع متجنبا الابتداع، فإذا أتته فاطمة الزهراء تسأل

عن نصيبها في أبيها، ما كان له ليجامل في دين الله, أو يداهن, أو يصانع, أو يلاين. وإذا كان منطق أسوته أنها لو سرقت لقطع رسول الله أبوها صلى الله عليه وسلم يدها, فإن أبا بكر يعلمها أن ما من طعمة يطعمها الله نبيه إلا كانت صدقة من بعده، وأن معاشر الأنبياء لا يورثون, وأن ما تركوه صدقة. وإذا أمر الصديق خالد بن الوليد قائدا للجيوش التي تقاوم المرتدين وتعيدهم إلى حظيرة الدين، ثم قائدا لجيوش الفتح العظيم لبلاد الروم, فمن منطق أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه، وأنه نعم أخو العشيرة هو, ومن هنا حق له أن يهدد به, ويتوعد: لينسين به الروم وساوس الشيطان. ولما عرض الفاروق على الصديق جمع القرآن استصعب أبو بكر هذا الأمر واستثقله من منطق حرصه على الاتباع، فكيف يقدم على عمل لم يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومضى الحال على ذلك في أمورهم, وفي جميع ما عرض لهم من قضايا سواء اتصلت اتصالا مباشرًا بالأحكام الشرعية؛ كقضية فاطمة بنت قيس وميراث الجدة، أو كان اتصالها بالأحكام غير مباشر. وانظر إلى الحال نفسه مع الفاروق عمر, وهو من هو شدة في الحق وصلابة في التمسك به, وقوة عريكة في مجابهة مخالفيه, كان أقوى المعارضين للصديق في حرب المرتدين، مما حمل أبا بكر على أن يقول له: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، وما كان ذلك من عمر خورًا ولا ضعفا, وإنما

كان حرصًا على الاتباع, ولما طعن بيد الغدر, وهو يصلي الفجر, قيل له: ألا تستخلف؟ فقال بلسان الاقتداء ردًّا على من طلب منه الإيصاء بالأمر إلى من يراه أهلا لتحمل الأمانة, قال الفاروق: إن أترك فقد ترك من هو خير مني يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انتقل إلى الرفيق الأعلى من غير تحديد للخليفة بعده, وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يقصد أبا بكر الذي عهد بالخلافة إليه. ويمضي الحيي الكريم ذو النورين على سنن الخليفتين قبله, يأكل كما كان يأكل النبي صلى الله عليه وسلم, ويطعم مثل ما كان يطعم, ويتوضأ مثل وضوئه، ثم يقول: توضأت وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, وأكلت طعامه، وقعدت مقعده، ويحرص على إظهار السنة, فإذا قدر الله للفتنة أن تطل برأسها, فمكن دعاتها من إثارة نارها وتأجيج أوارها، وراح عبد الله بن سبأ عدو الله اليهودي الخبيث الذي تظاهر بمتابعة هذا الدين، وانطوى قلبه على حقد دفين، يهيج مشاعر الناس ضد الخليفة, ويمكن موجات الغضب من رؤوس الغوغاء, فيتكاثرون على المدينة, ويقتلون الخليفة عثمان وهو يقرأ القرآن الذي كان له معه موقف يحمد بكل لسان, وإذا حدث ذلك كله فالناس بعد ما زالوا بخير, وما زال فيهم القائمون على الحق، المنصورون على من خالفهم. فإذا خرج الزبير وطلحة مع عائشة مطالبين بدم عثمان، ولقي جيشهم جيش علي رضي الله عنه كانت السنة تتوقد في قلوب القاطبة، فأصحاب الجمل يرون أنهم يؤازرون الحق ويتكلمون به، ولا يسكتون عنه حتى لا يكونوا شياطين بكما, وأمير المؤمنين علي يرى التريث في الأمر, ولأن يخطئ الأمير

في العفو خير وأحب إلى الله من أن يخطئ في إقامة الحد، وإذا ذكر الزبير الحواري بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تقاتل عليا وأنت له ظالم" , إذا ذكر بذلك رجع لتوه. وإذا احتدم النزاع بين علي ومعاوية، تحكمت السنة أيضا في الأعم الأغلب وذكر بعضهم بعضا بها. وأمثلة حسن اتباع الصحابة للسنة وتقفيهم أثرها في شأنهم كله ما جل منه وما قل كثيرة, وهاك مثلا يستدل به على ما كان منهم من حسن متابعة وإصرار على الطاعة. روى ابن ماجه "أن عبادة بن الصامت الأنصاري، النقيب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا مع معاوية أرض الروم, فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير, وكسر الفضة بالدراهم. فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل, لا زيادة بينهما ولا نظرة" , فقال له معاوية: يا أبا الوليد، لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة, فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتحدثني عن رأيك؟ لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة، فلما قفل لحق بالمدينة، فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة، وما قال من مساكنته، فقال: ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك, وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه. واحمل الناس على ما قال, فإنه هو الآمر"1.

_ 1 سنن ابن ماجه ج1 ص8-9.

احتياط الصحابة وتثبتهم من الراوي والمروي

احتياط الصحابة وتثبتهم من الراوي والمروي: حين كان الصحابة يتلقون الحديث مباشرة أو بواسطة، زمن حياته صلى الله عليه وسلم كانوا في مأمن من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يدس في سنته فلا مكان لخديعة منافق أو تدليس غاش، إذ إن الوحي ينزل فيكشف زيف المبطلين ويظهر خبأهم: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} 1. وإذا عرض خلاف في مسألة ما, أو لاحت ريبة, فالملاذ موجود لا عليهم إلا أن يرجعوا إليه ليحسم أي خلاف ولتزول أية شبهة، بل ويندفع الخاطر أو الهاجس، فلما انتقل صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى, لم يكن هناك حارس للسنة, ولا وعاء لها إلا صدور الصحابة، ومن هنا نظروا إليها على أنها كنوز ثمينة في صدور الذين أوتوا العلم، فلم يشاءوا أن يعرضوها في سوق الرواية لئلا يتخذ المنافقون من شيوع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذريعة للتزيد فيها, وسلما لتزييف الحديث عن رسول الله, ولئلا تزل بالمكثرين أقدامهم, فيسقطوا في هوة الخطأ, والنسيان ليكذبوا على رسول الله من حيث لا يشعرون. ومن هنا احتاطوا في الرواية, وتقللوا منها ليس إقلالا لشأنها, وإنما

_ 1 سورة التوبة: 64.

تعظيما وتكريما للسنة، قال ابن قتيبة: "كان عمر شديدا على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي. وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأبي بكر, والزبير, وأبي عبيدة، والعباس بن عبد المطلب، يقلون الرواية عنه؛ بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة, وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته، فإن حلف لي صدقته, وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر"1. والتزم الصحابة منهاج عمر رضي الله عنه, وأتقنوا أداء الحديث, وضبطوا حروفه ومعناه, وكانوا يخشون كثيرا أن يقعوا في الخطأ لذلك نرى بعضهم -مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم- لا يكثر من الرواية في ذلك العهد، حتى إن منهم من كان لا يحدث حديثا في السنة، ونرى من تأخذه الرعدة يقشعر جلده، ويتغير لونه ورعا واحتراما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشاهد هذا ما رواه ابن ماجه بسنده عن "عمر بن ميمون قال: ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه,

_ 1 تأويل مختلف الحديث، 39.

قال: فما سمعته يقول بشيء قط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فنكس. قال: فنظرت إليه, فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك, أو فوق ذلك, أو قريبا من ذلك, أو شبيها بذلك"1. ويصرح أنس بسبب إقلاله الرواية فيقول: "لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. ولشدة دقة أنس وحيطته في الرواية كان يقول عند فراغه منها: "أو كما قال". هكذا احتاط الصحابة رضوان الله عليهم في الرواية, وحاذروا الكذب عليه، ووضعوا نصب أعينهم شدة تحذيره منه، كانوا يعلمون أن كذبا عليه ليس ككذب على أحد, وأن من كذب عليه متعمدا يلج النار, بل إن منهم من روى ذلك من غير قيد: "متعمدا". ولقد اعتبر صلى الله عليه وسلم أن تحديث المرء بكل ما سمع كذب, فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" 3.

_ 1 سنن ابن ماجه، ج1، ص10-11. وقال البوصيري عن إسناد هذا الحديث الذي انفرد به ابن ماجه: "هذا إسناد صحيح، واحتج الشيخان بجميع رواته". مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه ج1، ص48، ورواه الدارمي ج1، ص83. 2 سنن الدارمي ج1، ص76-77. 3 صحيح مسلم بشرح النووي ج1، ص73.

وعن عمر رضي الله عنه قال: "بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع"1. ومضى يقينهم إلى أبعد من ذلك, إلى حد أن من حدث عنه بحديث يرى أنه كذب, فهو أحد الكذابين، والأخبار في تغليظ حرمة الكذب عليه تبلغ حد التواتر، ولو لم يكن الكذب حرامًا ما كذب هؤلاء الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه. من هنا نستطيع أن نقول: إن أهم أسباب إقلال الرواية هو خوفهم من الوقوع في الكذب، وإشفاقهم على أنفسهم من أن يخطئوا في النقل, وتستطيع أن تضم إلى ذلك رغبتهم في أن يقتنع المنقول إليه الخبر فيما أخبر به، فلا بد أن يكون المنقول مما تقبله العقول حتى لا يكون فتنة ومحنة, قال ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"2. وفي نفس المعنى يقول علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله"3. سار الصحابة على الهدي النبوي في هذا الصدد فامتنعوا عن التحديث بما لا تدركه عامة الناس خشية أن يفتنوا فيتركوا بعض الفرائض الدينية.

_ 1 المرجع السابق ج1 ص74-75. 2 المرجع السابق ج1 ص76. 3 فتح الباري ج1 ص235-236.

تثبت الصحابة رضوان الله عليهم: عني الصحابة عناية فائقة بالأخبار، وبذلوا غاية الوسع في التثبت منها امتثالا لأمر الله تعالى ووقوفا عند هدى نبيه, فقد قرءوا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1. ولا يعد تثبتهم من الأخبار واستيثاقهم طعنا منهم في راوي الخبر، وإنما هو حرص على سلامة النقل, واحتياط للأمر, وتقوية له، فأخذوا الحديث بحيطة بالغة وحذر شديد، فما اطمأنت قلوبهم إليه بحيث لم يشكوا في حفظ راويه أو ضبطه قبلوه وعملوا به من غير أن يطلبوا عليه شاهدًا أو برهانا، وما تطرق إليه الشك استوثقوا منه وطلبوا وجه اليقين فيه. وقد ساق الإمام الذهبي شواهد ذلك عند ترجمته لكثير من الصحابة, قال في ترجمة أبي بكر: "وكان أول من احتاط في قبول الأخبار, فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءة إلى أبي بكر تلتمس أن تورث, فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا, ما علمت أن رسول لله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا, ثم سأل الناس, فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك, فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه"2.

_ 1 سورة الحجرات: 6. 2 تذكرة الحفاظ ج1 ص2, وحجة الله البالغة ج1 ص141.

وقال في ترجمة عمر: "وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل, وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب, فروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات, فلم يؤذن له, فرجع, فأرسل عمر في أثره, فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاث, فلم يجب, فليرجع" , قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك, فجاء أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس, فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا, وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم, كلنا سمعه, فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر, فأخبره؛ أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر، ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد, وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم, ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد, وقد كان عمر من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم, ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن"1.

_ 1 تذكرة الحفاظ ج1 ص6-7.

نقد الصحابة للمتن

نقد الصحابة للمتن: غالبا ما يأخذ الصحابي من النبي مشافهة، وإذا أخذ عنه صلى الله عليه وسلم بواسطة فغالبًا ما يرفع الحديث ولا يذكر الواسطة. وقد اتفق علماء الحديث على أن الرواية بهذه الكيفية تسمى "مرسل

الصحابي", واتفقوا على أن "مرسل الصحابي" مقبول، وذلك فرع اتفاقهم على أن الصحابة عدول، فإذا نقد صحابي رواية ما أو ردها، فلا يعقل أن يكون ناقدًا أو رادًّا للرواية على النبي صلى الله عليه وسلم, فكل ما صدر عنه فوق المناقشة وفوق الشك والريب، فهو المعصوم من الخطأ. تدور المناقشات إذن بين الصحابي والصحابي فيما رواه أحدهما ليس من باب تكذيبه, وإنما من باب توهيمه أو توهيم الواسطة التي أخذ عنها, ومعلوم أن كل ابن آدم خطاء, وأن كل كلام يؤخذ منه ويرد عليه إلا كلام المعصوم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وإنما يقع الوهم عند الراوي الموثوق به وبعدالته، لواحد من الأسباب الآتية: 1- إن يحدث بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدري أنه منسوخ. 2- أن يقع له انقلاب بين شيئين أو لفظين، فيجعل كل واحد منهما مكان الآخر، وهذا هو "المقلوب". 3- أن يقول مع رواية الحديث قولا من عند نفسه، متصلا بنص الحديث، فيظنه السامعون أنه مرفوع، وهذا هو "المدرج". 4- أن يروي الحديث في مورد يجعله يتحمل من المعنى أكثر مما يحتمل. 5- أن لا يضبط لفظ الحديث بحيث يختلف المعنى.

6- أن يروي الحديث على غير وجهه لغفلته عن سبب الورود. 7-أن يقع له غلط فيروي واهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه منه"1. وقد اشتهر بالنقد من أعلام الصحابة: أم المؤمنين عائشة وعمر وابن مسعود وابن عباس, ولا سبيل إلى استقصاء الأخبار التي انتقدها بعض الصحابة على بعض بالذكر, وإنما نسوق بعض الأمثلة التي يعلم بها مدى دقة الصحابة وتثبتهم في المروي، كما رأينا اسيتثاقهم من الراوي، وبالمثال يتضح الحال ويعلم أن المحدثين ما كانوا ولن يكونوا زوامل أسفار، ونقلة أخبار لا خبرة لهم بها، ولا قدرة لديهم على فهمها، وإنما كانوا الفاهمين الهاضمين لما نقلوه الحافظين الواعين لما سمعه، الملتزمين جانب الأدب فيما قبلوه أو ردوه. المثال الأول: روي أن عائشة ردت رواية من يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء والمعارج, واعتبرت ذلك من أعظم الفرية, واعتمدت في رأيها على قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2. وقد فهمت من الإدراك في الآية الرؤية، وفهم العلماء منها الإحاطة3.

_ 1 منهج نقد المتن ص106. 2 سورة الأنعام 103. 3 الحديث والمحدثون ص71.

المثال الثاني: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي أو ببكاء أهله عليه" , روى ذلك عنه أبو هريرة وعمر وعبد الله بن عمر والمغيرة بن شعبة, لكن عائشة رأت أن هذه الرواية تتعارض مع قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1. فبرأت الراوين عن الكذب أو نسبتهم إليه فقالت: "إنكم تحدثوننا غير كاذبين ولا مكذبين", وقالت عن ابن عمر: "يرحم الله أبا عبد الرحمن أو غفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ", ثم ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بدار رجل من اليهود قد مات، وأهله يبكون عليه, وأنه قال: "إنهم ليبكون عليه وإنه ليعذب" 2. المثال الثالث: رد عمر رضي الله عنه قول فاطمة بنت قيس3 التي جاءته وأخبرته بأن المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ولا كسوة, فقال لها عمر: لا ندع كتاب ربنا, ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت4.

_ 1 سورة فاطر: 18. 2 منهج نقد المتن ص111-112. 3 هي فاطمة بنت قيس بن خالد، القرشية، الفهرية، أخت الضحاك بن قيس وهي من المهاجرات الأول، طلقها زوجها أبو بكر بن حفص فأمرها النبي أن تعتد عند أم شريك, ثم عند ابن أم مكتوم، فلما انقضت عدتها خطبها معاوية وأبو الجهم, فأشار عليها النبي بأسامة بن زيد. "انظر الإصابة ج4 ص385". 4 حجة الله البالغة ج1 ص142.

ثم كان أن استفاض واشتهر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا نفقة ولا كسوة للمبتوتة على نحو ما روت فاطمة, فاستقر العمل على ذلك وقال به الفقهاء. المثال الرابع: مسألة الوضوء مما مست النار "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء مما مست النار ثم نسخه، وبقي عدد من الصحابة يرون الأمر الأول لعدم علمهم بالنسخ، ويرون إيجاب الوضوء من ذلك, ومنهم أبو هريرة، وقد انتقد ابن عباس رواية أبي هريرة، ووجد أن العقل لا يؤيدها، ولعل خلافا وقع بين الصحابة في تعيين الناسخ والمنسوخ قبل أن يصرح جابر ببيان ذلك فوجد ابن عباس أن الناسخ هو ما رجحه العقل ولذلك وجه النقد لمتن الرواية الأخرى. وكان نقده منصبا على أن الطعام الحلال لا يمكن أن يكون سببا مؤثرا في نقض الوضوء فقال: "أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالا, لأن النار مسته؟ " أما أبو هريرة فجمع بيده حصى، وقال: "أشهد عدد هذا الحصى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "توضئوا مما مست النار" فقد استبعد ابن عباس أن يكون أكثر الطعام الحلال ناقضا للوضوء؛ لأن النار مسته والمعهود في الشريعة أن ينتقض الوضوء بالخارج النجس لا بالداخل الحلال الطاهر"1.

_ 1 منهج نقد المتن ص139-140.

المثال الخامس: نكاح المتعة: رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر, ثم نهى عنه, ثم رخص فيه في أوطاس, ثم نهى عنه, وكان آخر الأمرين نهيه عن نكاح المتعة, قال ابن عباس: كانت الرخصة للضرورة, والنهي لانقضاء الضرورة, والحكم باق إلى ذلك أي على الترخيص فيها عند الضرورة وقال الجمهور: كانت الرخصة إباحة والنهي نسخًا لها1. وبذلك يبين أن نقد الصحابة لبعض الروايات كان موضع أخذ ورد، ولم يكن مسلما على إطلاقه، بل إن كثيرًا من العلماء تشدد في مساندة الرواية ورد النقد الموجه إليها, وعلى سبيل المثال في نقد عائشة لحديث ابن عمر: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" بتعارضه مع الآية. لم يقبل العلماء قولها والتمسوا وجوهًا للجمع بين الروايات الصحيحة وبين الآية بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه لكون هذا من كسبه، حيث إنه لم يوص بضده قبل موته، أو حدث مع غيره فرضي عليه ولم ينكره، وربما يكون قد وصى بذلك, وطلب وقوعه إلى غير ذلك من وجوه الجمع التي تساند الروايات وتآزرها. ويبقى تقلل الصحابة من الرواية وتثبتهم من الراوي والمروي, وطرحهم الشك وأخذهم باليقين، يبقى لهم هذا التحوط والمبالغة في التثبت والتأكد. يبقى لهم ذلك كله اعتزازا بالسنة وإعلاء لشأنها وذبا لكل محاولة تريد النيل منها سواء بإخراج بعضها أو إدخال ما ليس منها، ولا يعد هذا منهم بأي حال إعراضًا عن السنة أو هجرًا لها أو عدولا عنها إلى الرأي، فهم أبعد ما يكونون عن الرأي والقول به في الدين.

_ 1 حجة الله البالغة ج1 ص143 "بتصرف".

وما أكثر ما نقل عنهم من ذم له وللأخذ به مع وجود النص المعول عليه, قال عمر رضي الله عنه: "أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يعوها, وتفلتت منهم أن يرووها، فاستبقوها بالرأي", وقال رضي الله عنه: "اتقوا الرأي في دينكم", وقال أيضا: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم", قال ابن القيم بعد سوق هذه الآثار وغيرها عن عمر: "وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة"1. ثم ساق عن كثير من الصحابة ذمهم للرأي وعليه فلا سبيل لهم إلى الأخذ به إلا إذا عجزوا عن الوقوف على نص في النازلة أو الواقعة، فهم لا يقدمون شيئا على كتاب ربهم تبارك وتعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. تلكم طريقتهم ومنهجهم في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية الوقع في الخطأ أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذ به، فعلوا ذلك كله احتياطيا للدين ورعاية لمصلحة المسلمين لا زهدا في الحديث النبوي ولا تعطيلا له. فلا يجوز لإنسان أن يفهم من منهاج الصحابة ومن تشدد عمر خاصة

_ 1 أعلام الموقعين ج1، ص55.

هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها، معاذ الله أن يقول هذا إلا جاهل أو صاحب هوى، لا علم له بقليل من السنة ولم تخالط قلبه روح الصحابة, ولا أنار سبيله قبس من هداهم. فقد ثبت عن الصحابة جميعا تمسكهم بالحديث الشريف وإجلالهم إياه وأخذهم به، وقد تواتر خبر اجتهاد الصحابة إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال أو حرام، وفزعهم إلى كتاب الله تعالى فإن وجدوا فيه ما يريدون تمسكون به، وأجروا -حكم الحادثة- على مقتضاه، وإن لم يجدوا ما يطلبون فزعوا إلبى السنة, فإن روي لهم خبر أخذوا به ونزلوا على حكمه وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد بالرأي. هكذا كان منهج الصحابة في كل ما يرد عليهم، وليس لأحد بعد هذا أن يتخذ بعض ما ورد عن الصحابة ذريعة لهواه"1. ومن كل ما مضى يتضح لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم بلغوا الذرورة في التثبت من الحديث، وأعملوا الرواية والأناة في تحمل الخبر وأدائه, ولم يحدثوا إلا عن ثقة تامة بصحة ما يحدثون به، وقد حرصوا كل الحرص على المحافظة على الحديث، وما تركوا وسيلة تبلغهم هذه الغاية إلا أخذوا بها، وتحروا أقوم المناهج وأدقها في الذب عن السنة ودفع كل دغل عنها. وقد حمل لواء هذه المحافظة والحرص على السنن جميع الصحابة، وكان عمر بما تميز به من شدة في الحق, وغلظة على أهل الباطل ذا شهرة خاصة في

_ 1 السنة قبل التدوين ص98-99 "بتصرف".

هذا الباب؛ لذا رأينا الكثيرين يخافون مخفقته أو درته. وقد وقفت آنفا على طرف من أقواله في ذم الرأي والحث على متابعة السنة، ومدح أهلها, والقدح في منابذها، فالفاروق يرى مع جمهور الصحابة أن من تثبت من حفظه, وتيقن ما يرويه فهمه، واتضحت له مراميه, حق له أن يروي وأن يحدث طلبا لإشاعة السنة وإفشائها، وخروجا عن عهدة كتمانها. أما من شك في شيء أو ارتاب فيه, أو اختلط عليه فهم معانيه فلا عليه إلا أن يقل الرواية طلبا للنجاة, وفرارا من الخطأ أو التحريف. على هذا النحو ينبغي أن تفهم النصوص الورادة عن الصحابة عامة وعن عمر خاصة، فما كانوا ليزهدوا الناس في السنن أو يرغبوهم عنها، وهم ممن يسنون, ويستن بسنتهم التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين.

رد ما جاء في ضعيف الخبر من أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية

رد ما جاء في ضعيف الخبر من أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية مدخل ... رد ما جاء في ضعيف الخبر من أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية: فيما يبدو الفاروق عملاقا في شتى المجالات، تأتي بعض الروايات التي تريد, أو يريد البعض من خلالها أن يباين بين الرجل وبين جوهر عظمته، ذلك أن مفتاح تلك العظمة تمثل في حسن المتابعة والاقتداء بأمير الأنبياء صلى الله عليه وسلم, والعمل على نشر دعوته وإحياء سنته. وفي الوقت الذي يظهر فيه عمر غيورًا على السنة دءوبا على حفظها، مبجلا لها وللمشتغلين بها تأتي هذه الرواية التي تفيد أنه رضي الله عنه حبس

ثلاثة نفر من عليه الصحابة وكبرائهم بسبب إكثارهم الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأصل هذه الرواية ما رواه الطبراني في الأوسط عن "إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف, قال: بعث عمر بن الخطاب إلى ابن مسعود وأبي مسعود الأنصاري وأبي الدرداء, فقال ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول لله صلى الله عليه وسلم فحبسهم بالمدينة حتى استشهد". وإليك ما قاله أحد صيارفة الحديث في هذه الرواية، قال الهيثمي: "هذا أثر منقطع وإبراهيم ولد سنة عشرين، ولم يدرك من حياة عمر إلا ثلاث سنين وابن مسعود كان بالكوفة ولا يصح هذا عن عمر"1. نعم لا يصح هذا عن عمر لا نقلا ولا عقلا، أما نقلا فقد تكفل الهيثمي ببيان نفي صحته, وأما عقلا فلأن هؤلاء الثلاثة من أجلاء الصحابة وفضلائهم, فأنى لعاقل تصديق أن عمر حبسهم؟ وما جريرتهم؟ أو الجرم الذي يصلح حيثية لحبسهم؟ متى كان تبليغ السنن ذنبا يعاقب عليه القانون؟ وقانون من؟ قانون العدل الذي لا يضاهى فيه عمر فضلا عن أن يبارى. إن القارئ لمثل هذه الأخبار لتعتريه الدهشة فيتساءل منكرا: ما حد الإكثار الذي يعد آتيه مقارفًا الأوزار؟ وقد ساق الإمام ابن حزم هذا الخبر المنكر وناقشه مناقشة قوية قال: "هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح، ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو نفسه ظاهر الكذب

_ 1 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج1، ص139.

والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة, وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث, وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين, وألزمهم كتمانها وجحدها, وأن لا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم, فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا, ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما1" على أن هناك تضاربا في هذا الخبر يقتضي التأكيد على رده, فبينما يذكر الذهبي2 أن المحبوسين هم ابن مسعود وأبو الدرداء وأبو مسعود الأنصاري, إذا بابن حزم يذكر أبا ذر بدلا من أبي مسعود، فهل وقع الحبس من عمر؟ لو حدث لاشتهر، على أن خبرا كهذا يعظم خطره كان ولا بد أن يتطاير شرره، وأن يعرف به السابق واللاحق، ونتساءل: لماذا حبس عمر هؤلاء وهناك من هو أكثر رواية منهم؟ كأبي هريرة الذي روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا, فإن قيل: إن أبا هريرة لم يكثر الرواية إلا بعد استشهاد عمر لكونه كان يخافه في حياته، قلنا: ولِمَ لَمْ يخف هؤلاء من عمر؟ وقد ذكر أن عمر نفسه روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم نيف وخمسمائة حديث, ولم يزد عليه من

_ 1 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج2 ص316-317. 2 تذكرة الحفاظ ج1 ص7.

المسمين إلا ابن مسعود، فكان على عمر أن يحبس نفسه قبل أن يحبس هؤلاء لإتيانه ما أتوه. بقي أن نوقفك على طرف من تراجم هؤلاء النبلاء لترى موقعهم في نفس عمر، وتتبين مكانتهم من الشرع الذي حكم عمر وحكم هو به.

أولا: ابن مسعود

أولا: ابن مسعود: هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي, ويكنى أبا عبد الرحمن, أمه أم عبد "معدودة من الصحابيات" أسلم قديما بمكة، روي عنه أنه أسلم سادس سنة وهاجر الهجرتين إلى الحبشة, وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووساده وسواكه ونعليه وطهوره في السفر، وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته، وكان خفيف اللحم قصيرًا شديد الأدمة، وكان من أجود الناس ثوبا، ومن أطيب الناس ريحا، وولي قضاء الكوفة وبيت المال لعمر, وصدرا من خلافة عثمان, ثم صار إلى المدينة فمات بها سنة اثنتين وثلاثين1, ودفن بالبقيع وهو ابن بضع وستين, وقيل: توفي بالكوفة, والأول أصح. كيف يحبسه عمر؟ وهو الذي قد وجهه إلى الكوفة, وامتن على أهلها به ليفقههم في الدين, ويعلمهم القرآن الذي كان قد جمعه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفيم يحبسه؟ في الإكثار من الرواية, فكم حديثا رواه؟ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانمائة وثمانية وأربعين حديثا

_ 1 انظر ترجمته مطولة في صفة الصفوة ج1 ص395-423.

اتفق الشيخان على إخراج أربعة وستين حديثا منها, وانفرد البخاري بواحد وعشرين, ومسلم بخمسة وثلاثين، فكم حديثا زاده عن عمر؟ ثلاثمائة وأربعين حديثا تقريبا, وهذا رقم لا يستحق أن يحبس عليه. وكيف يحبسه وهو أعلم الناس بفضله وأعرفهم بقدره فابن مسعود هو صاحب السبق إلى الإسلام, وهو في المناقب والمفاخر والمآثر علم الأعلام, فهو الذي قرأ القرآن وأشرب حبه, ومن سره أن يقرأه غضا كما أنزل فليقرأه على قراءته, ورجلاه أثقل في الميزان من جبل أحد رغم نحولهما, وهو أشبه الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدناهم منه, حتى إن رائيه معه ليعده من أهليه رضي الله عنه وأرضاه.

ثانيا: أبو الدرداء

ثانيا: أبو الدرداء: هو عويمر, وقيل: عامر بن مالك بن قيس الأنصاري الخزرجي, وهو صحابي جليل أجرى الله الحكمة على لسانه وعرف بالزهد، والورع وكثرة العبادة إلى حد الحاجة إلى نصحه بأن لأهله عليه حقا, ولبدنه عليه حقا ولنفسه عليه حقا, فعليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وقد روي له عن النبي صلى لله عليه وسلم مائة وتسعة وسبعون حديثا, أقل من ثلث ما رواه عمر. وتوفي رضي الله عنه بدمشق سنة اثنين وثلاثين, وقيل: إحدى وثلاثين في خلافة عثمان. عن معاوية بن قرة أن أبا الدرداء اشتكى, فدخل عليه أصحابه, فقالوا: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة. قالوا: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: هو الذي أضجعني. وعن لقمان بن

عامر عن أم الدرداء أنها قالت: اللهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا, اللهم فأنا أخطبه إليك فأسألك أن تزوجنيه في الجنة. فقال لها أبو الدرداء: فإن أردت ذلك وكنت أنا الأول فلا تزوجي بعدي. قال: فمات أبو الدرداء, وكان لها جمال وحسن فخطبها معاوية, فقالت: لا والله لا أتزوج زوجا في الدنيا حتى أتزوج أبا الدرداء إن شاء الله عز وجل في الجنة"1.

_ 1 انظر ترجمته والكثير من أقواله في المرجع السابق ج1، ص347-643.

ثالثا: أبو مسعود الأنصاري

ثالثا: أبو مسعود الأنصاري: هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري أصغر من شهد العقبة من الخزرج, روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, وروى عنه ابنه بشير وعبد الله بن يزيد الخطمي وأبو وائل وقيس بن أبي حازم، وغيرهم, توفي قبل الأربعين وقيل: سنة أربعين بالكوفة أو بالمدينة1, ومروياته قليلة جدا مما يقطع ببعد حبس عمر له.

_ 1 انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج7، ص247-249.

رابعا: أبو ذر الغفاري

رابعًا: أبو ذر الغفاري: هذا هو الذي ذكر في بعض الروايات كثالث المحبوسين مكان أبي مسعود الأنصاري، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه, فقيل: جندب بضم الجيم والدال, وحكي فتح الدال, وقيل: اسمه برير بضم الباء الموحدة وراء مكررة ابن جندب, والمشهور جندب بن جنادة بضم الجيم ابن عبيد الغفاري بكسر

الغين المعجمة, وهو سيد جليل أسلم قديما, قيل: إنه كان رابع من أسلم, وقيل: إنه كان خامسهم, وحكي أن له عبادة ونسكا قبل الإسلام, وبعد إسلامه بمكة رجع إلى بلاد قومه, فأقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق, وأسلم على يديه أكثر غفار؛ لذا كانت تلك القبيلة جديرة بأن يغفر الله لها شأنها شأن أسلم التي سلمها الله تعالى. ثم قدم أبو ذر المدينة فصحب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى, ومناقبه جمة وزهده مشهور وتواضعه وزهده مشابهان في الحديث بتواضع عيسى عليه السلام وزهده، وكان من مذهبه أنه يحرم على الإنسان ادخار ما زاد على حاجته من المال, وإنه لا حق لأحد فيما فضل عليه بل واجبه أن يعود به على من عدمه روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا حديث وواحد وثمانون حديثا اتفق الشيخان منها على اثني عشر, وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بسبعة عشر1. وقد خرج الى الربذة, وهي بليدة قريبة من المدينة، وقيل: إنه أخرج إليها ومات بها سنة اثنتين وثلاثين وكان وحده أمة في حياته وفي مماته ويكون كذلك في مبعثه فرضي الله عنه وأرضاه. ولم يبق شك عند عاقل في اختلاق هذا الزعم الباطل الذي يفيد أن عمر حبس هؤلاء, وهم بلا ريب من أجلاء الصحابة, وهو رضي الله عنه أجل من أن يهينهم بالحبس في دعوى لا أصل لها, وهي الإكثار من الرواية, وقد رأينا أنه لم يزد عن عمر من هؤلاء إلا ابن مسعود.

_ 1 انظر ترجمته مطولة في صفة الصفوة ج1، ص584-600.

هل روى الصحابة الحديث بالمعنى أم باللفظ

هل روى الصحابة الحديث بالمعنى أم باللفظ؟: رأينا كيف تثبت الصحابة من الراوي والمروي, وبان لنا مدى استيثاقهم مما ينقلونه, وتحوطهم في الرواية, وبعدهم من التزيد فيها, واقتصارهم على ما يبلغ الغاية من الرواية أتتحقق من خلاله نضارة الوجوه واتضاح الأحكام، وتحقق مصالح العباد. فإذا تساءلنا عن أدائهم للأخبار هل كان بمعناها من خلال ألفاظ يصوغونها, ويعلمون مؤداها, أم كان أداؤهم بنفس الألفاظ التي سمعوها من غير تغيير كلمة بأخرى, أو تبديل حرف بحرف, أو تبديل هيئة الحرف لكونه مشددًا أو مخففًا. المتجرد للحق الخالي من الهوى والعصبية إذا طالع الأخبار المتناقلة بين الصحابة وعنهم, رأى أن من الصحابة من تشدد في الرواية وأبى إلا تحري الألفاظ النبوية, ومنهم من ترخص في ذلك وسوغ الرواية بالمعنى لمن علم المباني وفهم المعاني وعرف مدلول الألفاظ، وما يحيل المعنى أو يغيره، إلى غير ذلك من الشروط اللازمة للترخيص في الرواية بالمعنى. وممن عرف عنه التشدد في الرواية والتزام اللفظ الناسك العابد، الورع الزاهد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, وهو أشهر من روى حديث: "بني الإسلام على خمس" , وقد نقل الخطيب عنه أنه قال لمن أعاد هذا الحديث عليه فجعل الصيام قبل الحج: "اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من

فِيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. وممن تشدد في المحافظة على نص الحديث بألفاظه، فمنع زيادة حرف أو حذفه حتى ولو لم يتغير المعنى أنس بن مالك, وكان يقول بعد انتهائه من الرواية: "أو كما قال, أو نحو من ذلك". وهناك من اشتد حرصه على لفظ سماعه فأبى تبديل حرف مشدد بمخفف, ففي الحديث الذي روته أم كلثوم بنت عقبة2 رضي الله عنهما قالت: "ليس الكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا". قال حماد سمعت هذا الحديث من رجلين, فقال أحدهما: نمى خيرًا خفيفة, وقال الآخر نَمّى خيرًا مثقلة3. هكذا التزم كل واحد لفظ سماعه, وهيئة كل حرف فروى أحدهما نمى بتخفيف الميم, ورواه الآخر نَمّى بتشديدها, ونظيره "نضر الله امرأً". بتخفيف الضاد وتثقيلها، وهذا الحديث نفسه هو من شواهد وأدلة الذين كرهوا الرواية بالمعنى حيث جاء فيه: "نضر الله أمرأ سمع مني حديثا, فحفظه

_ 1 الكفاية ص176. 2 هي أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط، أسلمت بمكة, وهي من النساء المهاجرات, بل إنها أول امرأة هاجرت، والأصح تقييد هذا بوقوعه بعد صلح الحديبية، تزوجها زيد ثم الزبير، ثم عبد الرحمن بن عوف, ثم عمرو بن العاص, وماتت بعد تزوجه إياها بشهر, وحديثها في الصحيحين, وأشهر من روى عنها حميد بن عبد الرحمن. "الإصابة ج4 ص491". 3 ورواه الخطيب في الكفاية ص180-181, ورواه ابن عبد البر في ترجمتها. الاستيعاب ج4، ص489 بهامش الإصابة.

ووعاه فأداه كما حفظه". وفي رواية: "سمع مقالتي فأداها كما سمعها" , ولا ريب في تضمن مثل هذه الروايات الترغيب في نقل الأخبار بألفاظها، والحث على عدم التغيير فيها. ومن أقوى ما استدل به على كراهية الرواية بالمعنى حديث البراء بن عازب في الدعاء المستحب عند الإيواء إلى الفراش, وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا أويت إلى فراشك, فتوسد يمينك, ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك, وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك, لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، وآمنت بكتابك الذي أنزلت, وبنبيك الذي أرسلت" , فقلت كما علمني غير أني قلت: ورسولك. فقال بيده في صدري: "وبنبيك، فمن قالها من ليلته ثم مات مات على الفطرة" 1. هكذا لم يسمح بتبديل لفظ "نبي" بلفظ "رسول". وقد أجاب المجوزون للرواية بالمعنى عن هذا بأنه أراد مورد التعبد فهو دعاء، وأجابوا عن الأول: بأن غاية أمره الترغيب في الالتزام باللفظ, ولا مخالفة في ذلك ما استطاع إليه المرء سبيلا، أما إن عجز عن تذكر اللفظ، ولم يكن جاهلا بما يحيل المعنى فلا مانع من ذلك، وشواهد الشرع ناطقة بترجيح رأي المجيزين للرواية بالمعنى، فكلام رب العالمين عن قصص السابقين منقول إلينا لا بلسان أصحاب الوقائع، أو الأحداث, وإنما بلسان

_ 1 عزاه النووي في الأذكار إلى الصحيحين ص113, ورواه بهذا اللفظ الخطيب في الكفاية ص203.

دعوى باطلة وردها

دعوى باطلة وردها: تحقق أن الرواية بالمعنى ضرورة دعت إليها الحاجة، وإنما تؤخذ للضرورة بقدرها, ولا يدعي عاقل أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يتأهلوا للرواية بالمعنى، بمعنى لم تتحقق فيهم شروطها، بل الحق الصراح الذي لا ريب فيه أن الصحابة ثقات أثبات، حرصوا كل الحرص على الاستيثاق والاحتياط في الروايات، فحفظوا ووعوا ما رووا, وأدوه في الأعم الأغلب كما سمعوه، وإذا اضطرتهم الضرورة للرواية بالمعنى فهم العالمون الفاهمون الهاضمون لما ينقلون، فلا خوف على الرواية من زللهم، كيف وقد تنوقلت رواياتهم بواسطة الأئمة الأعلام الذين بلغوا في النقد والتدقيق والتحرير الغاية. فلو وقفوا على زلل لبينوه وقوموه، لكنهم على من يستدركون؟ أعلى أرباب الفطنة والذكاء من أمثال ابن عباس, الذي كان يحفظ كل ما يقع عليه بصره أو سمعه من مرة واحدة, وأثر أنه سمع قصيدة لشاعر الغزل عمر ابن أبي ربيعة1 من ثمانين بيتا، فحفظها كلها.

_ 1 هو عمر بن عبد الله بن ربيعة المخزومي يكنى بأبي الخطاب, وعمرو بن هشام ابن عم أبيه. حنتمة بنت هشام والدة الفاروق بنت عم أبيه أيضا، وعرف بكثرة تشبيبه وفحش غزله للنساء. ومع ذلك قدر الله له حسن الخاتمة حيث احترقت به سفينة في الغزو, ولذا قال عبد الله بن عمر: "فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة، غزا في البحر فأحرقوا سفينته فاحترق". الشعر والشعراء ج2، ص553-558, وفيات الأعيان ج1، ص477-478, وخزانة الأدب ج1 ص228-240.

أيشك في حفظ زيد بن ثابت؟ أعلم هذه الأمة بالفرائض, أم يشك في حفظ عائشة؟ وهي من هي في قوة الذكاء والفطنة والفهم. ويستطيع الباحث أن يقرر في اطمئنان؛ أن الصحابة رضوان الله عليهم حفظوا أكثر ما رووا في صدورهم, وسلجه الكثير منهم في السطور، وكان منهم من يستعين بالكتابة في الحفظ والتثبت، فإذا استيقن مما كتبه محاه. وشاعت مذاكرة الحديث فيما بينهم، فهل يصح أن يسوغ لباحث أن يشكك في المروي عنهم، وأن يرخي العنان لشطط فيدعي أنه وجد "أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها مما سموه صحيحا، وأما جعلوه حسنا -حديث- قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه, كما نطق الرسول به، ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم إن هو إلا معان مما فهمه بعض الرواة، وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة"1. هكذا أطلق وعمم, وليته عرف أنه حتى مع التسليم لمدعاة الباطل، لا ضرر ولا ضرار، فالراوون هم المعايشون للوحي، وتنزلاته، والمخالطون لصاحب الشرع صلى الله علي وسلم المحصون لأقواله وأفعاله وأوصافه وإرشاداته وحركاته وسكناته، وهم عرب خلص يدركون مرامي الكلام, ويعرفون مواقع الألفاظ ودلالاتها، إلا أنه لم يفطن إلى ذلك كله، وإنما

_ 1 الضوء على السنة المحمدية ص7-8.

راح يرتب على دعواه الباطلة, وتعميماته الخاطئة والمخطئة، أخطر النتائج وعن عمد نسي أو تناسى ما وضعه بل استنبطه المحدثون من شروط الرواية الصحيحة, والتي تتلخص في اتصال السند وعدالة الراوة وضبطهم، وخلو المروي من الشذوذ، وخلوه من العلة، والعلة هي السبب الخفي الذي يقدح في صحة الحديث، وقد يكون راجعًا إلى سنده أو إلى متنه أو إليهما معًا. نقول هذا لأن صاحب كتاب "أضواء على السنة المحمدية" أو "دفاع عن الحديث" نقل في النتائج المترتبة على فشو الرواية بالمعنى وذيوعها، وامتلاء كتب الصحيح بها، على قرب خلوها من غيرها, نقل عن صاحب كتاب "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم" قوله في باب الخلاف العارض من جهة الرواية والنقل: "اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين لهم تعرض له ثماني علل؛ أولاها: فساد الإسنادات, والثانية: من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه, والثالثة: من جهة الجهل بالإعراب، والرابعة: من جهة التصحيف، والخامسة: من جهة إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به, والسادسة: أن ينقل المحدث الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، أو بسط الأمر الذي جر ذكره، والسابعة: أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، والثامنة: نقل الحديث من الصحف دون المشايخ"1.

_ 1 أضواء على السنة المحمدية ص71, والتنبيه ص165-166.

والذي يعنينا من هذه العلل التي أوردها البطليوسي كأسباب، أوجبت الاختلاف ونقلها الشيخ "أبو رية", إنما هو العلة الثانية المتعلقة بنقل الحديث على معناه دون لفظه, ونتساءل لماذا انقلب الأصل إلى فرع, والفرع إلى أصل؟ الأصل أن الصحابة رووا الأخبار كما سمعوها. والفرع هو الترخص في أدائها، بمعانيها متى ألجأتهم الضرورة إلى ذلك، وحتى مع التسليم بوقوع هذا الانقلاب, فلسنا نرى أن أداء الأخبار بالمعنى يفضي إلى هذه النتائج الخطيرة, فإذا قلت لابنك: قل لفلان: إن أبي يدعوك لتناول وجبة طعام العشاء معه, فذهب الغلام, فقال لمن أرسلته إليه: إن والدي يدعوك لتتعشى معه، فأي ضرر تحقق بالمخالفة بين لفظ المرسل، ولفظ من أرسله. ولقد مثل صاحب كتاب التنبيه وتبعه أبو رية بحديث: "قصوا الشوارب وأعفوا اللحى" , رواه أحمد عن أبي هريرة، ورواه البخاري عن ابن عمر في كتاب اللباس بلفظ: "أنهكوا الشارب وأعفوا اللحى" , وفي رواية لابن عمر أيضا: "خالفوا المشركين؛ وفروا اللحى وأحفوا الشوارب". قال البطليوسي "قوله: أعفوا يحتمل أن يريد به كثروا، ووفروا، ويحتمل أن يريد: خففوا، وقللوا، فلا يفهم مراده من ذلك إلا بدليل من لفظ آخر، والمعنيان جميعا موجودان في كلام العرب: يقال: عفا وبر الناقة إذا كثر، وكذلك لحمها. قال الله عز وجل {حَتَّى عَفَوْا} ؛ أي كثروا.

ويقال: عفا المنزل, إذا درس. ا. هـ1. هكذا استشهد البطليوسي ووضح موضع استشهاده, ثم ساق كثيرا من الأمثلة التي يشترك فيها اللفظ مع أكثر من معنى، وتحتاج إلى دقة في الفهم مما يتفق فيه الباحث الأصولي مع المحدث. ومما لا يشك معه أحد في أن الصحابة رضوان الله عليهم وتابعيهم أيضا هم أعرف الناس لهذا الباب، أما أبو رية فإنه يكتفي من الغنيمة بالإياب, ويقتصر على إيراد الحديث، ويا للعجب العجاب ما عقب به بعد التمثيل بالحديث السابق, "ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعنى الواحد, ويذهب الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه، كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد، ولو أدى لفظه بعينه، لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول"2. هكذا يحتم الكاتب خفاء استعمالات العربية على الصحابة، بل إن المتأمل في عبارته هذه ليرى أنه يفضل الإمساك عن الرواية مطلقا بدلا من أن يروي المعنى فيتناقض بفهمه مع مراد النبي صلى الله عليه وسلم, أو يروي باللفظ فيوشك أن يفهم عنه الآخر ما لم يفهم الأول، فالأوفق، والأليق عن المنافح والمدافع عن السنة أن يغلق باب الرواية, وأن يضيع الأصل الثاني لهذا الدين.

_ 1 التنبيه ص176-177. 2 أضواء على السنة المحمدية ص73.

هذا وقد سبق ذلك استشهاد صاحبنا بعدة أمثلة على وقوع الاختلاف بين الصحابة فيما لا يصح أن يختلفوا فيه على ما فهم هو, فقد ساق ثماني روايات في التشهد، ورأى أن التشهد من الأعمال اليومية المتكررة المتواترة. فكيف وقع الخلاف بينهم فيها, ثم إن عمر خطب بتشهده على المنبر, وسمعه الكافة فلم ينكر عليه واحد منهم. نقول: ومن أدراك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم صيغة واحدة للتشهد حتى لا يصح رواية سواه، ما المانع أن يكون ابن مسعود أحد السابقين تعلم ما لم يتعلمه عمر، وتعلم ابن عباس, وهو من صغار الصحابة ومن مهاجرة الفتح ما لم يتعلماه. إن القرآن نفسه قرئ بسبعة أحرف كما نزل عليها، وقد تباينت قراءة عمر مع قراءة هشام بن حكيم لسورة الفرقان، فلما اختلفا رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقرأهما، ثم أقر كلا على قراءته, وهذا هو اليسر الذي أراده الله بنا. هذا وقد استطرد إلى صيغ الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد, وبين أحكامها عند الأئمة, والفرق بينها وبين التشهد بيِّنٌ حتى للمبتدئ.

وقد ختم الأستاذ المغفور له أبو شهبة رده على أبي رية في هذه القضية بما يأتي: ولكي ترى الفرق بين العلماء والأدعياء أذكر لك ما روي عن الإمام الشافعي, وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس, قال: لما رأيته واسعا وسمعته عن ابن عباس صحيحا كان عندي أجمع، وأكثر لفظا من غيره, وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح. ولو سلمنا -جدلا- أن هذه الروايات في قصة واحدة, فالخلاف بينها هيِّن يسير لا يستأهل كل هذا التهويل، فتشهد ابن مسعود بلفظ: "التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ... إلخ". وتشهد ابن عباس بلفظ: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله", باقيه كتشهد ابن مسعود، وتشهد عمر بلفظ: "التحيات لله, الزكيات لله، الصلوات لله، الطيبات لله"، وسائره كتشهد ابن مسعود, وبقية صيغ التشهد الواردة لا تخرج عن هذه الصيغ بزيادة كلمة من صدر التشهد أو نقصان أخرى، وذكر لفظ "لله" عقب كل منها أو في أولاها أو أخراها، وكل ذلك أمر جائز وله وجه في العربية, وأما زيادة البسملة قبل التشهد، فلم تصح كما قال الحافظ في الفتح، فعلام كل هذه الضجة المفتعلة التي لا يقصد من ورائها إلا التشويش على السنة والأحاديث؟ ثم من قال أيها المؤلف البحاثة: إن التشهد من قبيل الأفعال المتواترة، وليس من قبيل الأقوال؟ إن الطالب المبتدئ يعلم أن الصلاة أقوال وأفعال، والتشهد من الأقوال لا محالة"1.

_ 1 دفاع عن السنة ص67-68.

ولقد مضى أبو رية في طريق الخلط واللبس إلى أبعد ما يكون، فها هو ذا يذكر حديث طلحة بن عبيد الله, وحديث أبي أيوب الأنصاري, وحديث أبي هريرة على أنها حديث واحد يدور حول الإيمان والإسلام والإحسان. ويبعد النجعة في التماس ما في هذه الروايات من قصور على حد زعمه, ويقلب الحقائق حين يستشهد بكلام الأئمة في الجمع بين هذه الروايات ببيان زيادة الثقة في بعضها لما أبهم في البعض الآخر على رأيه المتهافت في الرواية بالمعنى. ويتابع الشطط والهوى, فيذكر حديث البخاري عن ابن عمر: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" , ثم نقل كلام الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الحديث: "كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري، ووقع في جميع النسخ عند مسلم "الظهر" مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلما أبو يعلى وآخرون, وكذا أخرجه ابن سعد, وأما أصحاب المغازي فاتفقوا على أنها العصر". وإلى هنا اقتصر المؤلف -أبو رية- من كلام الحافظ وتتمة كلام ابن حجر: وكذلك وافق البخاري الطبراني والبيهقي في الدلائل, وهذا كله يؤيد البخاري.

وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر وبعضهم لم يصلها: "لا يصلين أحد الظهر" , ولمن صلاه: "لا يصلين أحد العصر" , وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة الثانية: العصر. وكلاهما جمع لا بأس به ... إلى أن قال: ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ من حفظ بعض رواته ... أو أن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك، بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيرًا ... ولكن موافقه أبي حفص السلمي له -أي البخاري- تؤيد الاحتمال الأول, هذا كله من حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال: الظهر لطائفة, والعصر لطائفة متجه. ا. هـ. فها نحن أولا نرى أن الحافظ بن حجر ردد الوهم في رواية البخاري بين أن يكون من أحد الرواة، أو من البخاري نفسه مع ترجيح الاحتمال الأول، فجاء المؤلف فنقل من كلام الحافظ الاحتمال الثاني مقتضبا عما قبله وعما بعده, وترك من كلام الحافظ ما قاله العلماء في التوفيق بين الروايتين, ولا يخفى على القارئ الفطن ما يريده المؤلف من هذا الاقتضاب المخل, والذي يبغي من ورائه إظهار أئمة الحديث لا سيما أميرهم البخاري بمظهر غير الضابطين المثبتين"1. وبعد فإن دعوى أن أكثر الحديث روي بالمعنى دعوى باطلة،

_ 1 دفاع عن السنة ص71-72.

وما رتب عليها أدخل في باب البطلان، والحق الأبلج إنما هو في أن الصحابة رضوان الله عليه حفظوا ما رووا, وضبطوا ووعوا وأدوا كما سمعوا، وإذا تفلت منهم لفظ أو لفظان ويتقنوا معناه أدوه بالمعنى خروجا من عهدة الكتمان, ولا ندعي العصمة لسائرهم، وإنما نقول: إذا حدث وأخطأ أو وهم واحد منهم فإن في المجموع من يصحح الزلل ويكشف الوهم، وما أكثر مراجعة بعضهم لبعض, وما أدق ما قاله أئمتنا في دفع الوهم والإيهام طلبا للإنصاف في الأحكام، وأما الذي يلوي الكلام ويحرص على التغرير بالأفهام فحجته داحضة, وتجارته كاسدة وسلعته فاسدة, فإن الحق أبلج، وإن الباطل لجلج.

عدالة الصحابة ومعناها

عدالة الصحابة ومعناها: أثنى الله على صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم, ومدحهم, ورضي عنهم في عدة مواضع من كتابه, وأجرى الثناء عليهم, ومدحهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم, وحذرنا من انتقاصهم أو اتخاذهم غرضًا, ولذا شاع بين المحدثين أن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم, سواء في ذلك من طالت صحبته أو قصرت أو عرفت ملازمته أو مجرد لقياه أو غزا معه أو لم يغزُ, ولا يقدح في تلك العدالة ما شجر بينهم من نزاع, فإنهم مجتهدون رغم أنوف المعترضين, للمصيب منهم أجران وللمخطئ منهم أجر, وينبغي أن يحدد مفهوم العدالة التي عمم الحكم بها المحدثون على الصحابة حتى تدحض حجة منتقصهم, ويلقم الحجر كل من تطلع إلى النيل منهم, فما أكثر من تهجم على المحدثين واتخذ من تعميمهم الحكم بعدالة الصحابة تكأة لتهجمه, فراح

يستشهد بما روي في بعض الكتب من تفسيق لآحاد الصحابة, ثم راح يستشهد بما جرى في الصدر الأول من افتتان وابتداع يصك الأسماع ويهيج الألم والأوجاع, ولو درى ذلك المتهجم ما قصده المحدثون من العدالة لألفيته بفضلهم معترفا ومن علمهم مغترفا. قال الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه الله تعالى في تحديد ما تطلق عليه العدالة والمراد بها عند المحدثين ما نصه: تطلق العدالة بإطلاقات: 1- بالمعنى المقابل للجور والظلم فيقال للسلطان: "إنه عادل" وتفسر بالإنصاف في المعاملات وإيصال الحقوق إلى مستحقيها. 2- بالمعنى المقابل للفسق والعصيان وتفسر بما تفسر به التقوى. 3- بمعنى العصمة وتفسر: بالملكة الحاملة على اجتناب الفجور والعصيان وهي التي اتصف بها الأنبياء والملائكة. 4- بمعنى الحفظ عن الذنب والخطأ بلطف من الله من دون حصول ملكة وهي ما وصفوا بها الأولياء، وأثبتها بعض العلماء للصحابة، وأجاب عما نسب إليهم, وأنه لم يصح وبعض علماء السنة يريد بالحفظ في شأن أهل البيت العصمة كما يريدها الشيعة في أئمتهم. 5- بمعنى الحفظ عن الخطأ في الاجتهاد فقط كما ذكره بعض العلماء في شأن المهدي المنتظر. 6- بمعنى التجنب عن تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها

بارتكاب ما يوجب عدم قبولها فلا يقع من الصحابة ذنب, أو يقع ولا يؤثر في قبول مروياتهم. قال ابن الأنباري: المراد من عدالة الصحابة: قبول روايتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك. وقال شاه ولي الله الدهلوي: وبالتتبع وجدنا أن جميع الصحابة يعتقدون أن الكذب على رسول الله أشد الذنوب ويحترزون منه غاية الاحتراز. وقال الآلوسي: في الأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية: إنه ما مات من ابتلي منهم بفسق إلا تائبا عدلا ببركة نور الصحبة. والآلوسي يفسر بذلك معنى العدالة المرادة للمحدثين, ثم قال: لا يقال: إذا كانت العدالة التي ادعيتموها للصحابة رضي الله عنهم بذلك المعنى يلزم منه التوقف في قبول رواية من وقع منه مفسق إلى أن يعلم أنها بعد التوبة لأنا نقول بعد الالتزام: بأنه لا بد من أن يتوب ببركة الصحبة التي هي الأكسير الأعظم لا احتمال لكون روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وافتراء عليه عليه الصلاة والسلام؛ لأن صحة توبته يقتضي تلافي ذلك بالإخبار عن أمره, فتأمله, فإنه دقيق, وعليك برعاية حق الصحبة, فهو بالرعاية حقيق. ا. هـ. وبذلك يتضح أن المراد بالعدالة الثابتة لجميع الصحابة عند المحدثين هي: تجنب تعمد الكذب في الرواية والانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها، فإن الذنب على فرض وقوعه لا يمنع من قبولها فهم عدول على العموم.

ويرى ابن الوزير والأمير الصنعاني: أن هذا العموم يستثنى منه ما قام الدليل على أنه فاسق بصريح, وأن هذا الاستثناء مراد من عمم, إلا أنه لم يذكره لندرته, وهذا لا ينافي التزام الأدب مع الصحابة, وعدم ذكرهم بسوء, والإمساك عما وقع منهم, وعلى ذلك مجمل القول من أطلق من العلماء ممن ذكرهم الخطيب في الكفاية, والحافظ في الإصابة, وهو مردود بما حررنا به معنى العدالة, وبما ذكره العلامة الآلوسي، وقبولهم أولى بالاعتبار من قبول رواية المبتدع, الذي يحرم الكذب, ويظن صدقه من غير الصحابة, وحتى من يرى أن العدالة لا تتحقق إلا باجتناب جميع المنهيات, فإنه يريد الكاملة ولا يمنع من القول بأنها تتجزأ1. "وقد أطال الصنعاني في عرض مسألة عدالة الصحابة واستشهد على استثناء من شذ منهم بأخبار كثيرة في الوليد بن عقبة, وبسر بن أبي أرطاة, ثم قال نقلا عن ابن الوزير2, وتعقيبا عليه", وقد ذكر شراح الحديث من أهل السنة في تأويل هذا الحديث3.

_ 1 هامش تدريب الراوي ج2 ص214-216. 2 هو محمد بن إبراهيم بن الوزير, المولود سنة خمس وسبعين وسبعمائة من الهجرة, المتوفى سنة أربعين وثمانمائة, وهو إمام حافظ, ومن أشهر مصنفاته: "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم", وقد اختصره في "الروض الباسم", وكتاب "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان"، وكتاب "التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية", وله الكثير من المصنفات النافعة انظر ترجمته مطولة في البدر الطالع ج2 من ص81-93. 3 يشير إلى حديث رواه ابن عبد البر في الاستيعاب, وفيه: وليذادن عني أقوام أعرفهم, ويعرفونني, ثم يحال بيني وبينهم, وروي قريبا منه مسلم في الغرة والتحجيل من أثر الوضوء.

أن جماعة ممن تطلق عليهم الصحبة ارتدوا عن الإسلام, والردة أكبر المعاصي, ومن جازت عليهم الردة جازت عليه سائر الكبائر, وإنما ذكرت هذا؛ لأن بعض المتعصبين على أهل الحديث زعموا أنهم يقولون بعصمة الصحابة كلهم, ويعدون كبائرهم صغائر", هذا إشارة إلى ما قاله شيخه السيد علي بن محمد بن أبي القاسم, فإنه قال في رسالته التي رد عليها المصنف بالعواصم ما لفظه: إن المحدثين يذهبون إلى أن الصحابة لا تجوز عليهم الكبائر, وأنهم إذا فعلوا المعصية الكبيرة عدوها صغيرة. وقد أطال المصنف في الرد على ما قاله في الجزء الأول من العواصم: وليس كذلك, ولكن القوم لا يولعون بالسب لأحد من الصحابة, وإن صح فسقه ولا يلهجون بذكر ذلك تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وامتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" , ثم قال: وهم -أي أئمة الحديث- يعرفون فسق الفاسق, وجرحه, والنهي عن قبوله, وهم يسوون في ذلك أي في الجرح بين المنحرفين عن علي عليه السلام وعن عمر وعن أبي بكر رضي الله عنهم, فليس لهم عصبية تحملهم على خلاف هذا, فإنهم كما يقدحون بالغلو في الرفض يقدحون بالنصب؛ والرفض: محبة عليّ وتقديمه على الصحابة وسب الشيخين, والنصب: بغض عليّ عليه السلام وتقديم غيره عليه، فالمنحرف عن علي عليه السلام هو الناصبي, والمنحرف عن الشيخين هو الغالي في الرفض, وقد سووا في الجرح بكل واحدة من الصفتين"1.

_ 1 انظر توضيح الأفكار ج2 ص435-444، وانظر ما ذكره ابن الوزير في "الروض الباسم" ص117-121.

وفي ذلك كله ما يقطع بإنصاف المحدثين وعدم تعصبهم. وعين الإنصاف منهم أنهم يحكمون بعدالة الصحابة, ولا يولعون بتتبع ما بدر من بعضهم, وليس تقصي حال النادر الشاذ من غرضهم, بل هم لا يبالغون في الفحص عن عدالتهم؛ لأنهم حملة الشريعة, فلو ثبت توقف في روايتهم أو تشكك فيها لكان معنى هذا قصور التبليغ, وانحصاره في عهد الوحي, ولما أمكن شيوعه وذيوعه في كل عصر, وفي كل مصر, وعلى مدى الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ونختم القول في عدالة الصحابة بما رواه الخطيب بسنده عن أبي زرعة الرازي: وإذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاعلم أنه زنديق, وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق, وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم إلى وهم زنادقة1.

_ 1 الكفاية في علم الرواية ص49.

المكثرون من الرواية والتعريف بهم

المكثرون من الرواية والتعريف بهم: عرف بالإكثار من الرواية منهم أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وابن عمرو. وها نحن ذا نسعد وننعم بذكر طرف من سيرهم وقبس من أنوارهم, فأولهم وأكثرهم حديثا وأحرصهم على تلقي العلم منه صلى الله عليه وسلم

رواية الإسلام: أبو هريرة

رواية الإسلام: أبو هريرة ... راوية الإسلام أبو هريرة: اسمه ونسبه وإسلامه وفضله: هو عبد الرحمن بن صخر من بني ثعلبة, وهو دوسي من أزد شنوءة وقد اختلف في اسمه واسم أبيه بحيث لا سبيل إلا ضبط الخلاف في اسمهما في الجاهلية والإسلام1. والأصح أن اسمه: عبد الرحمن أو عبد الله, وأن اسمه في الجاهلية كان عبد شمس. وقد عرف الإسلام طريقه إلى قبيلة دوس بواسطة الطفيل بن عمرو الذي قدم مكة قبل الهجرة, فصدته قريش عن الصراط, وقعدت له كل مرصد تبغي الحيلولة بينه وبين الهادي البشير صلى الله عليه وسلم, فكان أن استمع إليه, وهو يقرأ القرآن في صلاته في المسجد الحرام فانشرح صدره للإسلام, ثم طلب الدعاء له بالعون على هداية قومه وجعل النور بين عينيه له آية فخشي أن يظنوها مثله فتحول النور إلى سوطه فأسلم على يديه الكثيرون, ويبدو أن أبا هريرة كان واحدًا منهم. وأكثر الذين ترجموا له مجمعون على أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا أثناء فتح خيبر سنة سبع مع نفر من قومه, وعندي أن هذه

_ 1 الإصابة ج4، ص202-211، والاستيعاب بهامش الإصابة ج4، ص202، 210، طبقات ابن سعد ج4 قسم 2 من ص52-64، البداية والنهاية ج8 من ص111-124، تذكرة الحفاظ ج1 من ص32-42.

المرة هي التي تحققت بعدها الملازمة التامة والمصاحبة الدائمة, ولا يتنافى هذا مع كونه قدم قبل ذلك, فقد روى الهيثمي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يحملون اللَّبِنَ إلى المسجد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم, قال: فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو عارض لبنة على بطنه, فظننت أنها شقت عليه, فقلت ناولنيها يا رسول الله قال: "خذ غيرها يا أبا هريرة, فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة" 1. ترى أي مسجد ذاك الذي كانوا يحملون اللَّبِنَ له؟ إن كان المسجد النبوي فالمتعين أن أبا هريرة قدم إلى المدينة قبل سنة سبع. وما المانع أن يكون قد حاكى أبا ذر الغفاري في إسلامه قديما, ثم لحوقه بأهله داعيا إلى دينه, ثم عاد فقدم عليه مرة أخرى. ما دام خبر الهيثمي صحيحا, وليس بمستبعد أن يكون اللَّبِنَ لمسجد آخر من مساجد المدينة التسعة. المهم أنه لزم النبي صلى الله عليه وسلم, وانتفع بملازمته وتعدته المنفعة إلى أمه التي أسلمت ببركة دعاء النبي صلى الله عليه سلم, وهكذا هاجر أبو هريرة مسكينا, مما جعله علم أهل الصفة يشتد به الجوع, ويصرع من ألم المسغبة حتى يظن الناس به الظنون, ويرمونه بالجنون, ويسأل الصحابة الواحد تلو الآخر عن الآية, وما به حاجة للسؤال عنها إلا ابتغاء استضافته وإطعامه.

_ 1 مجمع الزوائد ج2 ص9.

وكان لا يطفئ حر سبغه إلا خليله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم, وهو في ذلك كله متفرغ للحديث, متلهف إليه, حريص عليه, يسأل عن أحق الناس بحسن الشفاعة, فيقطع له بالعلم بأنه لن يسأل عن هذا غيره. ويشغل المهاجرون بالصفق في الأسواق, ويعنى الأنصار بالحصاد والفواق, ويتفرغ أبو هريرة للحديث, ويلازم على شبع بطنه أو الكسرة والكسرتين, يحضر إذا غاب غيره, ويحفظ إذا نسي غيره, ويشكو سوء الحفظ, فيبسط الرداء, ويحظى بالدعاء من أمير الأنبياء صلى الله عليه وسلم, ولا يطوي ردائه حتى تنقضي مقالته فلا ينسى شيئا أبدًا. لا عجب إذا أن يقول عنه الشافعي: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. أسنده البيهقي في المدخل، وكان ابن عمر يترحم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم"1.

_ 1 تدريب الراوي ج2، ص217.

عدد مروياته وما أثير حوله من شبه

عدد مروياته وما أثير حوله من شبه: روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وثلاثمائة وأربع وسبعين حديثا, اتفق الشيخان منها على ثلاثمائة وخمسة وعشرين, وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين, ومسلم بمائة وتسعة وثمانين؛ وروى عن أبي هريرة أكثر من ثمانمائة رجل, وهو أحفظ الصحابة.

وقد جرت كثرة مروياته عليه متاعب كثيرة, وأوغرت صدور بعض الحاقدين الذين يغيظهم أن تبلغ أحكام هذا الدين, ويتمنون أن لو أوتوا القدرة على هدم صرحه المتين، ولما تنكبوا السبيل إلى ذلك راحوا يتطاولون على العدول الناقلين, وأنى لهم النيل منهم ما كان حال الواحد منهم. إلا كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ولقد كان الصحابي الجليل "أبو هريرة" هدفا لكثير من محاولات الطعن والتشكيك قديما وحديثا, ولقد تجردت أقلام الحق للذب عنه, وممن حمل لواء الحق في هذه القضية: الأستاذ الدكتور/ محمد محمد أبو شهبة في كتابه "دفاع عن السنة", والأستاذ الدكتور/ محمد محمد السماحي في كتابه "أبو هريرة في الميزان", والأستاذ الدكتور/ مصطفى السباعي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي", والأستاذ الدكتور/ محمد عجاج الخطيب في كتابه "السنة قبل التدوين", ثم أفرد كتابا خاصا لراوية الإسلام أفاض في الترجمة له, وفي تقرير الشبه التي أثيرت حوله, وكان فارس الحلبة الغوار في دحض تلك المفتريات إبطال تلك الشبهات. وقد جاء كتاب "أبو هريرة راوية الإسلام" في طبعته الثالثة في مائتين واثنتين وستين صحيفة من القطع الكبير. قال بعد أن أطال في عرض سيرته: ذلكم أبو هريرة الذي عرفناه قبل إسلامه وبعد إسلامه, عرفناه في هجرته وصحبته للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

فكان الصاحب الأمين والطالب المجد، يدور مع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في حله وترحاله, ويشاركه أفراحه وأحزانه, وعرفنا التزامه للسنة المطهرة, وتقواه وورعه في شبابه وهرمه, في غناه وفقره. وقرأنا كثيرًا عن تواضعه وكرمه، ورأينا مواقفه المشرفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتزاله الفتن وحبه للجماعة وسعيه للخير, وكشفنا عن روحه الطيبة المرحة, ونفسه الصافية, وأخلاقه الكريمة, وزهده في الدنيا, وتفانيه في سبيل الحق, وعرفنا مكانته العلمية, وكثرة حديثه, وقوة حافظته، ورأينا منزلته بين أصحابه, وثناء العلماء عليه، ذلكم أبو هريرة الذي صوره لنا التاريخ من خلال البحث الدقيق, إلا أن بعض الباحثين لم يسرهم أن يروا أبا هريرة في هذه المكانة السامية والمنزلة الرفيعة, فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أن يصوروه صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها, فرأوا في صحبته للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام غايات خاصة لأبي هريرة ليشبع بطنه, ويروي نهمه, وصوروا أمانته خيانة، وكرمه رياء, وحفظه تدجيلا. وحديثه الطيب الكثير كذبا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وبهتانا, ورأوا في فقره مطعنا وعارًا, وفي تواضعه ذله, وفي مرحه هذرًا, وصوروا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لونا من المؤمرات لخداع العامة, ورأوا في اعتزاله الفتن تحزبا، وفي قوله الحق انحيازًا, فهو ضيعة الأمويين الذين طووه تحت جناحهم, فكان أداتهم الداعية لمآربهم السياسية, فكان

لذلك من الكاذبين الواضعين للأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء وزورًا. هكذا أراد أن يصوره بعض أهل الأهواء؛ كالنظام والمريسي والبلخي, وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال: "جولد تسيهر" و"شبرنجر". وأغرب من هذا أن يطعن فيه وفي السنة بعض من ينسب إلى العلم، فقد عثرت أثناء بحثي على كتاب تحت عنوان "أبو هريرة" ألفه عبد الحسين شرف الدين العاملي وهو إمامي والإمامية يتخذون أبا هريرة هدفا لكي يوهنوا أحاديث أهل السنة، ويرفضوها ويروجوا أخبارهم. وقد لف لفهم من كان لهم تابعًا مجربا على تبعيته. ولم أكد أتصفحه حتى دهشت لما جاء فيه من الافتراءات والطعون والتأويلات التي لا تتمشى مع البحث العلمي, ولا توافق التاريخ. وقد استقى من هذا الكتاب أيضا محمود أبو رية صاحب كتاب "أضواء على السنة المحمدية" فكان أشد على أبي هريرة من أستاذه, وأكثر مجانبة للصواب، فرأيت من واجبي أن أرد تلك الشبهات التي أثارها بعض أهل الأهواء والمستشرقين وبعض الباحثين. كما حدث للأستاذ الباحث أحمد أمين. ورأيت أن أرد على بعض ما جاء في كتاب "أبو هريرة" وأتناول خلال ذلك بعض النقاط التي اشترك فيها هؤلاء جميعا"1.

_ 1 أبو هريرة راوية الإسلام ص159-160.

ونحن نلخص لك أهم تلك الشبهة, وأقوى وجوه دفعها فنقول: عاب عبدُ الحسين الصحابيَّ الجليل بكثرة مروياته وإفراطه في التحديد، وعاب أصحاب الصحاح لإفراطهم في تخريج رواياته. والعيب مردود على من عاب به فما كانت كثرة الروايات قط عيبا، وما كان تحري أصحاب الصحيح لما صح عندهم وذكرهم إياه وسيلة لاتهامهم, ثم إن القادح يعيب الصحابي الجليل بكثرة الاختلاف في اسمه واسم أبيه، ولا عيب في هذا ما دام قد اشتهر بكنيته, وعرف بها وغلبت عليه، وشأن أبي هريرة في ذلك هو شأن الصديق الذي غلبت كنيته اسمه، وشأن أمين هذه الأمة أبي عبيدة, وشأن فارس رسول الله أبي دجانة. ثم ويتوارد الغمز بالهرة التي كني بها، ويدعي الأفاك أنه من أجل ذلك روى الحديث: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها ... إلخ " , فلشدة ولعه بالهرة وكثرة عبثه بها روى ذلك. والحديث مخرج في أصح الصحيح عند أحمد والبخاري ومسلم، ووافق أبا هريرة على رواياته عند البخاري ابنُ عمر وأسماء, فانقطع باب القدح, ثم ويتهم أبو هريرة بأنه كان حافيًا عاريًا، ويلمز بالفقر, ولم ندر أن الفقر والغنى ميزان للتفاضل في المنطق الصحيح، وما درينا أن أهل تلك الأعصار كانوا ينتعلون. ثم والطعن في الرجل بأنه ظل ثلاثين سنة جاهلا لا يعرف عن الإسلام شيئا طعن ساقط؛ لأنه لا يلام على ذلك ما دام قد استضاء بنور الحق, وانشرح

صدره للإسلام الذي يجب ما قبله, وهكذا كان حال سائر الأعلام. فمن الذي ولد آن إذ مسلما موحدا؟ ومن قال: إن أهل تلك الحقبة كانوا علماء أفذاذ؟ المعلوم أن أكثرهم كانوا جاهلين أميين، فتحضروا بالإسلام, وصاروا به هداة وأئمة للأنام. ومسألة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات فقط, وإن نقلت عنه هو غير دقيقة؛ لأنه لم يقصد انحصار صحبته في هذه المدة, وما درى أن الزمان يدخر له لئام الناس الذين ينتقصون منه, ويبالغون في الطعن فيه, والمحرر المدقق أن إسلامه سبق هجرته بكثير، وأنه كان يتحرى أخبار المسلمين. ومن هنا أشار بمنع القسم وإعطاء سهم لإبان بن سعيد؛ لكونه قتل النعمان بن قوقل في أحد, والمعلوم أن فتح خيبر كان في المحرم من سنة سبع، وكان انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في ربيع الأول سنة إحدى عشرة, وبذلك تزيد مدة ملازمة أبي هريرة وانقطاعه للحديث عن أربعة أعوام، ولا سبيل إلى الغمز فيه بأنه كان من أهل الصفة، فذلك شرف له وأي شرف فهم ضيوف الإسلام ومادة بثه وإشاعته. ويعود عبد الحسين إلى الطعن بالفقر والجوع وتصوير أبي هريرة بالبائس المسكين الذي عانى لا شظف العيش, بل انعدامه, ويتناسى ما لهذا من تأثير على صفاء الذهن، فمن قديم تردد "إذا وجدت البطنة نامت الفطنة", وإذا عد هذا عيبا في راوية الإسلام فسينسحب على أكثر ذلك الزمان, فلم يكونوا مترعين بالترف، وإنما عرفوا القسوة والمعاناة والشظف زهدا وإعراضا عن الدنيا.

ويذكر ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "ألا تسألني شيئا من هذه الغنائم" , فأجاب بما يفيد أنه لا يريد إلا علما ينفعه الله به. ويتهم أبو هريرة بأنه سرق عشرة آلاف حين كان واليا على البحرين من قبل عمر، وأن الفاروق استردها منه بعد عزله, بينما الحق أنه لما سئل عن نماء ماله أفاد بأنه ربح تجارته, ونتاج ماشيته وخراج أعبده. وقد عرف أن عمر شاطر عماله على الأمصار أموالهم. فهل يعني هذا اتهاما لهم بالسرقة؟ إنه باب شر يفتح بهذه الادعاءات, وماذا نقول فيمن يكيلون الاتهامات, ويبتغون للبرآء العنت فيرون قرب أبي هريرة من عثمان ابتداء مشايعته لبني أمية, ويعيبونه باعتزال الفتنة عندما حمي الوطيس مع نطق الحق بأن القاعد فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي، وأن من تعرض لتلك الفتن واستشرف لها تستشرفه, ويبالغ عبد الحسين في اختلاف تشيع أبي هريرة للأمويين, ويتهمه بوضع الأحاديث. ومواقف الصحابة منه ترد ذلك وتأباه؛ وننتقل إلى موقف أبي رية.

افتيات أبي رية وجرأته

افتيات أبي رية وجرأته: حين تنقلب الحقائق, فيقال عن التطاول والبذاءة في حق ذوي العدالة والنزاهة: إنه تعمق في البحث ونتائج أوصل إليها طول التنقيب، وأنطق اللسان بها الجرأة والجسارة، حين يصل الأمر إلى هذا فلا يعاب التمثل بما قاله أبو العلاء:

فيا موت زر إن الحياة ذميمة ... ويا نفس جدي إن دهرك عازل وحين يرمى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتطاول عليهم فذاك أمر أغرب من مفاخرة الحصى للشهب والقدح في نور الصبح على لسان الدجى. ولقد جاء أبو رية في ظلماته التي حاول أن يلقيها على السنة فما استطاع, جاء بأقصى المستطاع إفكا وزورًا حين عرض لترجمة الصحابي الجليل, فيما يزيد على ثلاثين صفحة1. فلم يدع منقصة ولا مذمة إلا ألصقها به، ونال شططه من الصحابة، بل ونال المحدثين من شططه ونزغه حين حكموا بعدالتهم ما يستحيى من ذكره, وإنك لتخجل كل الخجل حين ترى هذا الدعي في العلم يستبيح لنفسه أن يرمي أبا هريرة بكل جارحة من القول تعليقا على كلمة لسيدنا أبي هريرة قالها تحدثا بنعمة الله. قال أبو رية: "ولقد استخفه أشره وزهوه -يعني أبا هريرة- ونم عليه أصله وتحيزته فخرج عن حدود الأدب والوقار مع هذه السيدة الكريمة, فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان يحلم به: إني كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم والآن تزوجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني ... إلخ".

_ 1 انظر ص167-198 هذا بالإضافة إلى المواضع العديدة التي همز فيها ولمز.

ومما أخرجه ابن سعد أنه قال: أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي، فكانت تطلقني أن أركب قائما وأرد حافيا، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله، فكلفتها أن تركب قائمة وأن تورد حافية"1. هكذا يصدع أبو هريرة لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} , ويوقف نفسه موقف الرضا من ربه حين يظهر أثر نعمته عليه. لكن أبا رية لا يعجبه هذا فيطلق العنان لقلمه إلى حد أن يكتب في الهامش ما نصه: "انظر إلى هذا الكلام الذي تعرى عن كل مروءة وكرم, واتسم بكل دناءة ولؤم, فتجده يباهي بامتهان زوجه والتشفي منها، وهل يفعل مثل ذلك رجل كريم خرج من أصل عريق", أستغفر الله من ذنبي كله, ومن إيراد مثل هذا السفه والطعن في راوية الإسلام. وهاك أضحوكة ونادرة تفكه بها، يتهكم أبو رية من راوية الإسلام, ويلقبه بشيخ المضيرة؛ والمضيرة: مريقة تطبخ باللبن المضير الحامض، وربما أضيف إليه الحليب, وكانت تعد من أطايب الطعام ولذائذه في تلك الأيام. وقد حلى لصاحب كتاب أضواء على السنة المحمدية أن يشير مرارًا إلى كتابه "المغيرة على شيخ المضيرة", وينقل من كتاب "ثمار القلوب" للثعالبي سببا لهذا التلقيب "وكان يعجبه المضيرة جدًّا ليأكل مع معاوية،

_ 1 أضواء على السنة المحمدية ص187.

فإذا أحضرت الصلاة صلى خلف علي -رضي الله عنه- فإذا قيل له في ذلك قال: مضيرة معاوية أرسم وأطيب، والصلاة خلف علي أفضل، وكان يقال له شيخ المضيرة", ولا ندري كيف تقبل العقول هذا, وإنما الذي ندريه أن الرجل يهرف بما لا يعرف, أو على الأقل يحرف الكلم عن مواضعه ويزيف الحدث عن مواقعه, وإلا فكيف يأكل أبو هريرة مضيرة معاوية ويصلي خلف علي, ورضي الله عن الثلاثة الكرام الذين تفرقوا بين المدينة والعراق والشام. فهل ملك أبو هريرة بساط الريح ليغدوا به ويروح. إن ابن عبد البر يقطع بأنه لم يغادر المدينة منذ أن عزله عمر عن البحرين، فقد طلبه للإمارة فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة, وبها توفي سنة سبع وخمسين أو ثمان أو تسع وخمسين. لكن أبا رية يصر على اتهام الصحابي فينقل عن غير واحد أن أبا هريرة حضر موقعة صفين, وكان فيها يصانع الفئتين, فكان في بعض الأيام يصلي في جماعة علي رضي الله عنه, ويأكل في جماعة معاوية، فإذا حمي الوطيس لحق بالجبل، فإذا ما سئل قال: علي أعلم, ومعاوية أدسم، والجبل أسلم. هكذا يسف في اتهام الرجل، بل وفي اتهام سائر الصحابة معه، وإذًا كيف نامت فطنتهم وغاب وعيهم بحيث لم يكشفوا حيلة المداهن المصانع الذي يصلي خلف قائد هذه الفئة، ويأكل على مائدة قائد تلك؟ ويفقد الجميع الإحساس بمخادعته ومصادنعته.

ثم يدعي أبو رية أن كل من أرخ لأبي هريرة أجمع على أنه كان مزاحا مهذارًا, يكثر ذكر النوادر والغرائب؛ ليجذب الناس نحوه ويحببهم فيه، وما أشده من تناقض ذاك الذي وقع فيه, فقد ادعى زورًا وبهتانا أنه بينهم لم يكن في العير ولا في النفير، وأعجب كيف يكون أبو هريرة بين الصحابة مغمورًا مبهما مغفل الذكر, مهضوم القدر، ثم يدعي أن كل من أرخ له أجمعوا على كونه مزاحًا مهذارًا. وليس هناك ما يدل على مزاحه إلا رواية ذكرها ابن حجر في الإصابة عن ابن أبي الدنيا مفادها أنه قال لرجل ادعى أنه شرب ناسيا: سقاك الله، فلما قال له: أكلت ناسيا، قال: أطعمك الله، فلما تكرر ذلك منه, قال له: يابن أخي أنت لم تتعود الصيام. فمن أين جاءت دعوى الإجماع؟ لعلها جاءت من نفس الباب الذي جاءت منه دعاواه الباطلة الكثيرة التي لا سبيل إلى تحقيقها. ويستغل أبو رية ما كان من بعض الصحابة من مناقشات لما دار فيما بينهم من روايات، وينسخ منها الحكايات ويجعلها عمدته في توجيه الشتائم والبذاءات إلى هذا الصحابي الجليل. وقد سبق أن أوقفناك على بعض تلك المناقشات, وما كان فيها من وجهات نظر مع التزام بعدم الانتقاص، ولم ينفرد الصحابي الجليل أبو هريرة بمناقشة رواياته من البعض، وإنما شاركه غيره من أجلاء الصحابة كعمر أفقههم صاحب الموافقات، وليس أبو هريرة أول رواتهم في الإسلام

ولا يصح أن ينسب الحديث الموضوع إليه بمعنى: أن يكون هو الذي وضعه، فإن المحقق أن الصحابة ليس فيهم وضاع ولا كذاب. وتبقى مسألة كثرة مرويات أبي هريرة أشد المسائل لغطًا, وأكثرها بين القديم والحديث، ونتساءل: لماذا يقبل الناس حفظ فلان لآلاف الأبيات من الشعر؟ أو استظهار الآخر للعديد من الكتب؟ أو حفظ ثالث لكل ما تقع عليه عينه، ولا يتوقف أحد في قبول مثل هذا؟ ولا يعده منقصة فيمن نسب إليه, بل على العكس يحصيه بين المآثر والمفاخر. ولو جمعنا كل مرويات أبي هريرة في كتاب واحد, فلن تزيد عن جزء صغير، ذلك أن الكثير من الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربع والسبعين عدد ما رواه لا يجاوز السطر والسطرين, فلم هذا اللغط؟ وأين هذا الرقم مما قيل عن حفظ الجاحظ أو بشار بن برد أو غيرهما؟ لكنه تصيد الأباطيل واختلاق الإفك ليرمي به أحد أعلام الروايات. والمتأمل المنصف يمكن أن يرجع كثرة مرويات أبي هريرة إلى ما يأتي: 1- ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- صفاء ذهنه، وشدة ذكائه مما جعله أحفظ الصحابة. 3- حرصه على الحديث وتعهده مجلسه. 4- تفرغه لذلك وانعدام ما يشغله عنه.

5- عدم انشغاله بالإمارة أو بالدنيا بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمنذ أن عزله عمر -رضي الله عنه- عن البحرين لم يتول منصبا. 6- تأخر وفاته مما أتاح له أن يلقى الكثيرين من التابعين حتى قيل: إنه روى عنه ثمانمائة1. 7- وأهم من كل ما مضى انتفاعه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق أن أشرنا. وبعد فإن الذين أرادوا النيل من راوية الإسلام, لم يلتزموا بواجب الاحترام سيما أولئك الأعلام. وإذا كان الحديث يقرر: "أن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" , فكيف بهؤلاء الذين اعتمدوا على خيال الأدباء, وتتبعوا حكايات القصاصين المؤرخين, ونسجوا منها وجوها للطعن في البرآء المنزهين؟ وإنك لتزداد عجبا حين ترى الواحد منهم يأخذ بعض الكلام, ويترك بعضه مكتفيا بما يحقق غرضه، فحينما امتشق ابن قتيبة حسامه ليدافع عن المحدثين, وأورد ما قاله المبطلون فيهم ليدحضه ويبطله, ترى البعض ينقل تصويره للشبه التي أوردها ليدفعها على أنها من كلامه تمثل رأيه ووجهة نظره، وليس هذا إلا صنيع من أفتى بتحريم الصلاة متوقفًا على قوله

_ 1 نقل ذلك ابن حجر عن البخاري، فتح الباري ج1، ص217.

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} , وواضح زيف هذا وبطلانه. ولله در أبي هريرة ذلك الصحابي الجليل، ما أكثر ما جنى من حسنات أولئك الذين تطاولوا عليه فرضي الله عنه وأرضاه.

من المكثرين من الرواية عبد الله بن عمر

من المكثرين من الرواية "عبد الله بن عمر": علم من أعلام الرواية، ونجم من نجومها، إنه الناسك العابد، والورع الزاهد عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي، وهو شقيق حفصة أم المؤمنين أمهما زينب بنت مظعون. أسلم عبد الله صغيرا، وهاجر مع أبيه, وقيل: قبله, وكان عمره آنئذ إحدى عشرة سنة, وتعين للجهاد, وأمضي له في غزوة الخندق, وكان عمره خمس عشرة سنة، بعد أن رد في بدر وأحد، ومنذ أن أجيز من قبل القائد كانت له مشاركة فعلية في كل المشاهد، وبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى قاتل وجاهد، فكان في جيش اليرموك، وشارك في فتح مصر وشمال أفريقيا. وقد اشتهر بالحرص على الاتباع, وعرف بتحري الإفتاء، وكان يحضر مجالس التحديث, ويسأل عما غاب عنه مما سوغ لمحمد ابن الحنفية أن يقول فيه: "كان ابن عمر حبر هذه الأمة"، وقال عنه ابن مسعود: "إن أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد الله بن عمر", وقال جابر بن عبد الله:

"ما منا من أحد أدرك الدنيا إلا مالت به, ومال بها غير عبد الله بن عمر". وقد ورث عن أبيه الجرأة في الحق والشدة فيه وكانت له مواقف عديدة لازم فيها الحق، وجهر به, ولم تأخذه فيه لومة لائم مما جعل أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول فيه مقارنا بينه وبين أبيه: "كان عمر في زمان له فيه نظراء وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير". وكان مثالا في الورع والتقوى وكثرة العبادة, يقوم أكثر الليل بعد أن سمع هذا الحض والتشجيع: "نعم العبد عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل"، وكان شديد الخشوع ظاهر الخضوع تغلبه الدموع عند سماع القرآن, فكلما سمع قوله {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} 1 غلبه البكاء. ولا عجب فهو ابن عمر, وكان رضي الله عنه لا يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر، وإذا وضع الطعام أمامه لا تمد يده إلا إذا حضر معه على خوانه يتيم. وكان يحرص على اقتفاء النهج القويم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم, فيتحرى مبرك ناقته ليبرك ناقته فيه. وأخبار ذكائه مشهورة مستفيضة وأدبه جم مشهود له به, والسؤال عن الشجرة التي لا يسقط ورقها, وأنها مثل المؤمن, ومعرفته بالإجابة, وعدم ذكره لها خير دليل على ذلك.

_ 1 سورة الحديد: 16.

وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وعن كبار الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وأبي ذر ومعاذ وعائشة وغيرهم. وروى عنه خلق كثير منهم: جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وبنوه: سالم وعبد الله, وحمزة, وبلال، ومولاه نافع, ومولى أبيه أسلم. وروى عنه كبار التابعين؛ كسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ومن الطبقة التي بعد هؤلاء روى عنه عبد الله بن دينار، وزيد بن أسلم, وأخوه خالد، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبير، ومحمد بن سيرين, وغيرهم. وقد اشتهر عبد الله بالتواضع والتسامح والرحمة والكرم، يكثر التصدق بما يشتهيه من الطعام, ويتقرب إلى الله بما يعجبه من ماله، أتته في ليلة عشرة آلاف درهم، فما بات حتى وزعها، وكان في ملجس فأتي ببضعة وعشرين ألفا فما قام من مجلسه حتى فرقها وزاد عليها، وقد ينفد ما معه فيستدين ليعطي ذوي الحاجات. ولرصيده الضخم من الفضائل رشحه بعض الصحابة للخلافة بعد أبيه، فأبى عمر إلا أن يجعلها شورى في ستة ممن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو عنهم راض، وقال قولته المشهورة: يكفي آل الخطاب أن يسأل منهم واحد عن أمور المسلمين. واعتزل ابن عمر الفتن وتفرغ للعبادة والعلم، ولذا كان من المكثرين من الرواية.

فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفي حديث وستمائة وثلاثين حديثا، أخرج الشيخان مائتين وثمانين منها، اتفقا على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بواحد وثمانين، ومسلم بواحد وثلاثين، وبقية أحاديثه في الكتب الستة والمسانيد وسائر كتب السنة. وقد ساعده على كثرة الرواية مكان أخته حفصة في بيت النبوة مما يسر له الدخول والخروج على النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة مخالطته له، وتقدم إسلامه وتفرغه للعلم والرواية، ثم طول عمره، فقد توفي سنة ثلاث وسبعين, وقيل: سنة أربع وسبعين عن أربع أو خمس وثمانين سنة1.

_ 1 انظر ترجمته في: الاستيعاب ج2، ص341-346 بهامش الإصابة وطبقات ابن سعد ج4 ق1 ص105-138, والإصابة ج2، ص347-305, وتذكرة الحفاظ ج1، ص37-40, وطبقات الحفاظ ص9, وصفة الصفوة ج1، ص563-582, ودليل الفالحين ج1، ص71-77.

ومن المكثرين من الرواية أنس بن مالك

ومن المكثرين من الرواية "أنس بن مالك": هو الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجي النجاري, وأمه أم سليم "بضم السين" بنت ملحان وعمه أنس بن النضر، أحد المؤمنين الذين قضوا نحبهم يوم أحد، بعد أن صدق الله ما عاهده عليه، وشم رائحة الجنة خلف أحد, وقاتل واستشهد فما عرف من بين الشهداء إلا ببنانه.

وعم أنس أيضا أبو طلحة الأنصاري من أجلاء الصحابة، تزوج والدة أنس بعد أبيه وكان صداق ما بينهما الإسلام، وضربا معا أروع الأمثلة في الصبر وأحسا بثمرة الشكر حين غزا أبو طلحة وترك ولده مريضا، فلما عاد كان الغلام قد احتضر، ولكن الرميصاء أم سليم والدة أنس كتمت نبأ وفاة ولدها, وهيأت من نفسها ما تهيئ الزوج لزوجها. فلما أصبح الصبح أخبرته الخبر, ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ليجد تحفته عنده: "إن الله قد عجب لصنيعكما الليلة, ولعله أن يبارك لكما في ليلتكما". وعمة أنس هي الربيع بنت النضر، وما تنبئ عن فضلها وفضل أسرتها ثابت في الصحيح، ذلك أنها كسرت سن جارية لها، فتحاكما إلى النبي صلى الله عليه سلم، فأبى إلا القصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر سن الربيع يا رسول الله؟ لا والله لا تكسر سن الربيع، فما كان من الجارية إلا أن عفت، فارتفع بعفوها الحد, ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره". فأنس سليل أسرة عريقة في الإيمان، وربيب بيت غاص بالفضائل حتى فاض، لذا كان مليء الوفاض من طيب الخصال، وكريم الخلال، وجميل الفعال. وقد قدر الله له أن ينهل من تلك الفضائل, ويستكثر حين جاءت به أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت له: غويلمك أنس خذه يخدمك، فعاش في

بيت النبوة، وتربى على مأدبة الله، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وعشق أنس تلك الأخلاق السامية التي أحسها ولمسها, فنهج لسانه بالثناء من نحو قوله: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ وما قال لشيء تركته: لما تركته؟ وكان إذا لامه أحد من أهل بيته على ترك شيء دافع عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: دعوه فإنه لو قدر أو قضى لكان". وقد أخذ أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير والكثير, ثم استزاد فروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن رواحة وعن فاطمة الزهراء وعبد الرحمن بن عوف, وعن غيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عنه الحسن البصري وسليمان التيمي وأبو قلابة وأبو مجلز وعبد العزيز بن صهيب, وإسحاق بن أبي طلحة, وأبو بكر بن عبد الله المزني, وقتادة بن دعامة السدوسي, وثابت البناني, ومحمد بن سيرين، وأنس بن سيرين، وابن شهاب الزهري, وربيعة بن عبد الرحمن الشهير بربيعة الرأي ويحيى بن سعيد الأنصاري وسعيد بن جبير وخلق كثير غيرهم. وكان أنس كثير العبادة قليل الكلام, قال فيه أبو هريرة: "ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم", وقد استعمله أبو بكر على زكاة البحرين، ثم استقر به المقام في البصرة بعد المدينة، وصار أنس في البصرة محط أنظار أهل العلم.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتان وستة وثمانون حديثا. أخرج الشيخان منها ثلاثمائة وثمانية عشرة حديثا, اتفقا منها على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثمانين ومسلم بسبعين. وعمر أنس حتى كان آخر الصحابة وفاة بالبصرة، حيث توفي سنة ثلاث وتسعين، قيل: إن الرسول دعا له بأربع دعوات: طول العمر, فعاش حتى ناهز المائة، والبركة في المال حتى كان له بستان يثمر في العام مرتين، وكثرة العيال حتى قيل: إنه رأى مائة من أولاده وأحفاده. وكان يقول: وإني لأنتظر الرابعة ألا وهي دخول الجنة، فرضي الله عن أنس وأرضاه قدر ما قدم للحديث وصاحبه وأسداه1.

_ 1 انظر ترجمته في: الاستيعاب ج1، ص71-73 بهامش الإصابة, وطبقات ابن سعد ج7، ق1،ص10-16, والإصابة ج1، ص71-72، وتذكرة الحفاظ ج1، ص44-47, وطبقات الحفاظ ص11, ودليل الفالحين ج1، ص83-84, وصفة الصفوة ج1، ص710-714.

من المكثرين من الرواية أم المؤمنين عائشة

ومن المكثرين من الرواية "أم المؤمنين عائشة": هي الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر إحدى أمهات المؤمنين، بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال بعد وقعة بدر، فأقامت في صحبته ثمانية أعوام وخمسة أشهر, وكانت أحب نسائه إليه, وهي الطاهرة التي برأها القرآن الكريم مما رماها به أهل الإفك، إنها الحصان الرزان التي لا تزن بريبة.

وكانت ذكية فطنة نهمة في العلم شغوفة به, وقد سهل عليها مكانها في بيت النبوة واختلاطها بصاحب الوحي معرفة كثير من أحكام الشرع ومقاصده, وإليها يرجع الفضل الكبير في نقل أكثر ما يتعلق بالنساء من أحكام الإسلام, إذ كانت أكثر نسائه صلى الله عليه وسلم رواية عنه. وتعد من أفقه الصحابة وقد شهد بعلمها وفقهها الصحابة والتابعون, كما كان لها علم بالطب، قال عنها ابن اختها عروة: "ما رأيت أحدا أعلم بالطب منها", وقال أيضا: "ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن, ولا بفرضه ولا بحلال ولا حرام ولا بشعر ولا بحديث العرب والنسب من عائشة". فلا غرابة أن نرى الصحابة والتابعين يلتفتون حولها يتفقهون بها، ويرجعون إليها في أمورهم, وفي هذا يقول قبيصة بن ذؤيب "كانت عائشة أعلم الناس يسألها أكابر الصحابة", وعن أبي موسى قال: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما. وكانت كريمة صاحبة وقار وهيبة، يحترمها كل من يلقاها وقد كرمها الصحابة والتابعون، روت عائشة رضي الله عنها عن الرسول الكريم الكثير الطيب، وروت عن أبيها وعن عمر وفاطمة وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن حضير، وجذامة بنت وهب وحمزة بن عمرو. وروى عنها الصحابة عمر, وابنه عبد الله, وأبو هريرة, وأبو موسى, وزيد بن خالد, وابن عباس, وربيعة بن عمرو الجرشي، والسائب بن يزيد, وغيرهم.

وروى عنها من كبار التابعين القاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد، وابن أختها عروة بن الزبير، وبنت أخيها عمرة بنت عبد الرحمن ومواليها أبو بكر وذكوان وأبو يونس. وروى عنها سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس ومسروق والأسود، وكثير غيرهم. وروى لها عشرة أحاديث ومائتان وألفا حديث، وأخرج الشيخان منها ستة عشر حديثا وثلاثمائة، اتفقا على أربعة وتسعين ومائة، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثمانية وستين. وتوفيت عائشة رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان عند أكثرهم, وقال بعضهم: سنة سبع وخمسين1.

_ 1 انظر ترجمتها في: الاستيعاب ج4، ص356-361 بهامش الإصابة, وطبقات ابن سعد ج1، ق1 ص39-56, والإصابة ج4 ص359-361, وتذكرة الحفاظ ج1، ص27-29, وطبقات الحفاظ ص8, ودليل الفالحين ج1، ص96.

من المكثرين من الرواية عبد الله بن عباس

ومن المكثرين من الرواية "عبد الله بن عباس": هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه أم الفضل، لبابة الكبرى بنت الحارث أخت ميمونة أم المؤمنين.

كان يقال له: الحبر والبحر؛ لكثرة علمه, وهو ترجمان القرآن، وهو والد الخلفاء العباسيين, وأحد العبادلة الأربعة, وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقول الجوهري في الصحاح بدل ابن العاص: ابن مسعود, مردود عليه؛ لأنه منابذ لما قال أعلام المحدثين؛ كالإمام أحمد, وغيره. وقد ولد ابن عباس بشعب بني هاشم قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقال أحمد: خمس عشرة سنة، والأول هو المشهور. وقد مكنه قربه من النبي صلى الله عليه سلم، ومكان خالته ميمونة عنده من أخذ الكثير والكثير، ثم إنه لم يأل جهدا -بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم- في طلب العلم. فكان يقصد الصحابة ويسألهم، حتى إنه لينتظر الصحابي في قيلولته، فيتوسد رداءه على بابه, والريح تسفي التراب على وجهه حتى يخرج إليه, فيخبره بما أراد. ويقول الصحابي: هلا أرسلت إليّ فآتيك, فيقول: لا أنا أحق أن آتيك. هكذا يكون الحرص على طلب العالم وإجلال أهله، وقد بوأ هذا ابن عباس مكان الصدارة, وعمر مجلسه وحفل بقاصدي العلم والفقه. قال عمرو بن دينار: ما رأيت مجلسا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال والحرام، والعربية، والأنساب، والشعر.

وكان الصحابة يعتزون بعلمه، ويعتبرونه مرجعهم في كل ما يعن لهم من القضايا والفتاوى، وكان عمر شديد الاعتزاز به وكثيرا ما يؤخذ برأيه ويفاخر بعمله الصحابة، وكيف لا وهو الذي ناله هذا الدعاء النبوي المبارك: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" , وعن ذكائه وفطنته وتوقد ذهنه وحسن خبرته حدث ولا حرج، ولذا ولاه على البصرة وكان أحد أعمدته في صراعه المرير. وقد كثر مرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لشدة قربه منه ويسر دخوله عليه، وحصول بركة الدعاء له، وشدة ذكائه ونهمه في الطلب, ثم طول عمره. وبلغ ما روى له ألف حديث وستمائة وستين حديثًا، أخرج منها الشيخان مائتين وأربعة وثلاثين حديثا، اتفقا منها على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمائة وعشرة أحاديث ومسلم بتسعة وأربعين. وقد توفي ابن عباس بالطائف1 سنة ثمان وستين عن إحدى وسبعين سنة أثناء محنة عبد الله بن الزبير, وكان قد كف بصره في آخر عمره وأثر عنه قوله:

_ 1 انظر ترجمته في الاستيعاب ج2 ص350-357, بهامش الإصابة وعمدة القاري ج1، ص70, والإصابة ج2، ص330-334, وتذكرة الحفاظ ج1، ص40-42, وطبقات الحفاظ ص10, ودليل الفالحين ج1، ص70, وصفة الصفوة ج1، ص746-758.

إن أذهب الله من عيني نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نوري عقلي ذكي وقلبي ما حوى دخلا ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور

ومن المكثرين من الرواية جابر بن عبد الله الأنصاري

ومن المكثرين من الرواية "جابر بن عبد الله الأنصاري": هو أبو عبد الله أو أبو محمد أو عبد الرحمن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي الفقيه مفتي المدينة في زمانه. كان مع من شهد العقبة الثانية من الأنصار، واستشهد أبوه في غزوة أحد، وترك عيالا كثيرين، ودينا مما هم جابرا هما شديدا، فسرى عنه النبي صلى الله عليه وسلم, ووساه بعطفه وكرمه، وأحاطه برعايته وعنايته وصدقة المعونة حتى قضى دينه. وكان يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه المشاهد كلها إلا غزوتي بدر وأحد, فإن أباه خلقه على إخوته, ولم يمنع ضيق ذات اليد ولا شظف العيش جابرا من أن يجد في طلب العلم، وأن يكد في تحصيله؛ وأن يرحل في طلب الحديث الواحد. سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير, ورحل بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلى القاصي والداني، فروى عن أبي بكر, وعلي, وعن أبي عبيدة, وطلحة, ومعاذ بن جبل, وعمار بن ياسر, وخالد بن الوليد، وأبي هريرة, وأبي سعيد, وعبد الله بن أنيس, وغيرهم. وروى عنه أولاده: عبد الرحمن, وعقيل, ومحمد، وروى عنه سعيد بن

المسيب, ومحمود بن لبيد، وعمر بن دينار, وأبو جعفر الباقر, وابن عمه محمد بن عمر, وابن الحسن، ومحمد بن المنكدر، وعامر الشعبي, وغيرهم، وكان له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه فيها العلم. وقد كان لملازمته النبي صلى الله عليه وسلم, وأخذه عن كثير بعده، وطول عمره أثر كبير في كثرة الرواية عنه. وقد روى له ألف وخمسمائة وأربعون حديثا، وأخرج الشيخان منها مائتين واثني عشر حديثا، واتفقا منها على ستين وانفرد البخاري بستة وعشرين ومسلم بمائة وستة وعشرين. وله رواية مطولة في كتاب الحج أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الصحابة الكاتبين وصحيفته مشهورة, وقد رواها عنه التابعي الجليل والتلميذ النجيب من تلاميذ جابر: قتادة بن دعامة السدوسي. وقد امتد العمر بجابر فعاش حتى بلغ أربعة وتسعين عاما، وتوفي بالمدينة سنة ثمان وسبعين, وهو آخر الصحابة وفاة بها1. وقيل آخر سهل بن سعد الساهلي.

_ 1 انظر ترجمته في: الاستيعاب ج1، ص221-222 بهامش الإصابة, والإصابة ج1، ص213-214, وتذكرة الحفاظ ج1، ص43-44, وطبقات الحفاظ ص11, وصفة الصفوة ج1، ص648-649, ودليل الفالحين ج1, ص52-53.

ومن المكثرين من الرواية أبو سعيد الخدري

ومن المكثرين من الرواية "أبو سعيد الخدري": من الصحابة المكثرين غير الستة المشهورين الصحابي الجليل سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة الخدري الأنصاري الخزرجي، المشهور بكنية أبي سعيد الخدري "الخاء" نسبة إلى بني خدرة حي من الأنصار. وقد استشهد والد أبي سعيد في غزوة أحد، فقاس ولده شظف العيش, وقيل: إنه دخل مع أهل الصفة؛ ليتغلب على تلك المعاناة، واستصغر أبو سعيد يوم أحد, ثم شهد أكثر الغزوات بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهد بيعة الرضوان, وكان يحضر حلقات الرسول صلى الله عليه وسلم, فتحمل عنه الكثير, واستدرك ما فاته منه بأن تحمله من غيره. لذا رأيناه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعن الأربعة الراشدين وعن زيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة. وروى عنه من الصحابة ابن عباس, وابن عمر, وجابر, ومحمود بن لبيد، وأبو أمامة بن سهل, وأبو الطفيل، ومن كبار التابعين سعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي وطارق بن شهاب وغيرهم، وممن بعدهم عطاء, وعياض بن أبي سرح, ومجاهد, وغيرهم. روي له ألف ومائة وسبعون حديثا، وأخرج له منها الشيخان مائة وأحد عشرة حديثا، اتفقا منها على ثلاثة وأربعين وانفرد البخاري بستة عشر، وسلم باثنين وخمسين.

وعرف أبو سعيد باستقامته الشديدة، وحرصه على الحق, فكان يصدع له ويجاهر به، ولا يخشى في الله لومة لائم، وهو الذي روى حديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" , وطبقه عمليا حين جذب مروان بن الحكم من ثوبه عند تغييره السنة بتقديم خطبة العيد على الصلاة. وتوفي أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وسبعين وسنه ستة وثمانون عامًا1.

_ 1 انظر ترجمته في الاستيعاب ج4، ص89 بهامش الإصابة, والإصابة ج2، ص35, وتذكرة الحفاظ ج1، ص44, وطبقات الحفاظ، ص11, ودليل الفاتحين ج، ص96, وصفة الصفوة ج1 ص714-715.

من المكثرين من الرواية عبد الله بن عمرو العاص

من المكثرين من الرواية عبد الله بن عمرو العاص ... ومن المكثرين من الرواية "عبد الله بن عمرو بن العاص": هو أحد العبادلة الفقهاء، وقد أسلم قبل أبيه, ثم هاجر قبل الفتح, وكان زاهدا عابدا يكثر من الصلاة والصوم، وهو أحد الرهط الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم الخفية كي يقتدوا بها. وكان شديد الحرص على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، مكثرا من التعبد إلى حد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص له في أشياء، فشدد هو على نفسه، وفارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبادة ثقلت عليه فيما بعد، لكنه كره أن يترك ما فارقه عليه الرسول من العبادة، وكان يقول: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: إنه كان يصغر أباه بأحد عشرة عاما، ومع ذلك كان مفضلا على أبيه

مقدما عليه، وقد كان رضي الله عنه خيرًا جوادًا معطاء متواضعا، مقبلا على شأنه، يكره الفتن، وقد لام أباه على تحيزه لفئة معاوية، وكره مخالفته خوف العقوق، فحضر معه موقعة صفين، لكن لم يكن فيها من المقاتلين، وإنما أغمد سيفه، وقد أصاب جملة من كتب أهل الكتاب، وأدمن النظر فيها ورأى فيها عجائب. وقد خلف له أبواه أموالا عظيمة, وكان له عبيد وخدم, وله بستان بالطائف يسمى الوهط قيمة ألف ألف درهم، ولعله هو الذي أشار إليه بقوله: والله ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط، والصادقة هي الصحيفة التي كتب فيها ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استأذنه في الكتابة فأذن له، وقيل: إن الوهط حديقة كان قد وقفها أبوه على الفقراء وكان هو يقوم على رعاية حقوقهم فيها. وقد قدم مصر مع أبيه، وطاب له فيها المقام، وحمل عنه المصريون علمًا كثيرًا. وروى عبد الله عن كثيرين من الصحابة منهم عمر, وأبو الدرداء, ومعاذ, وعبد الرحمن بن عوف. وروى عنه عبد الله بن عمر, والسائب بن يزيد, وابن المسيب، وطاوس, وعكرمة, وعروة, ومسروق, وغيرهم. وروى له سبعمائة حديث، أخرج له الشيخان منها خمسة وأربعين، اتفقا على سبعة عشر, وانفرد البخاري بثمانية, ومسلم بعشرين، وأصح

الأسانيد عنه رواية حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر. وقد اختلف في سنة ومكان وفاته1. فقيل: توفي سنة ثلاثة وستين, وقيل: سنة خمس وستين بالشام أو بمصر أو بالطائف أو بمكة, المهم أنك ترى إكثاره من الرواية نسبيا إن قسته بمن هو أقل منه، فأين هو ممن هو أكثر رواية؟ كأبي هريرة الذي صح عنه قوله: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه سلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو, فإنه كان يكتب ولا أكتب"2. وقد استفيد من كلام أبي هريرة هذا بأنه كان جازما بنفي أن يكون في الصحابة من أكثر حديثا منه إلا عبد الله بن عمر. فماذا يعني الاستثناء؟ والحال أن ما روي عن أبي هريرة يقارب ثمانية أضعاف ما روي عن ابن عمرو، فإن قلنا: الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله, وهو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم منه كونه أكثر حديثا لما تقتضيه العادة أم لا.

_ 1 انظر ترجمته في الاستيعاب ج2، ص346-349, بهامش الإصابة، وطبقات ابن سعد ج4، ق2، 8-13, والإصابة ج2، ص315-352, وتذكرة الحفاظ ج1، ص41-42, وطبقات الحفاظ ص10, وصفة الصفوة ج1، ص655-660, ودليل الفالحين ج1، ص373-374. 2 رواه البخاري في كتاب العلم, باب كتابة العلم ج1، ص217 هامش فتح الباري.

وإن قلنا الاستثناء متصل، فالإشكال حاصل لعدم تحقق خبر أبي هريرة الصحيح ومطابقته للواقع، وينزاح الإشكال بأن نقول: إن أبا هريرة نظر لقضية الأخذ والرواية والكتابة، ولم ينظر إلى الأداء، وما اطلع الغيب ليعلم أن ما ينقله الرواة عنه سيكون أكثر مما ينقلونه عن ابن عمرو، وإنما وقف على حال الأمر, وهو أن ابن عمرو، كتب الكثير وأخذ. بقي أن يفحص عن أسباب قلة المروي عنه لا أن يشكك في خبر أبي هريرة. وأهم تلك الأسباب التي أدت إلى قلة الرواية عن عبد الله بن عمرو نسبيا عمن زاد عنه يتمثل فيما يأتي: 1- كان عبد الله مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم. 2- كان أكثر مقامه بمصر أو بالطائف, ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات, ويتضح هذا من كثرة من حمل عنه كما مر بك. 3- ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا ينسى ما يحدثه به. 4- كان عبد الله قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها ويحدث منها، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين. وهنا يظهر صدق حدس هذه الأمة ويقظة ضميرها وانتباهها في الرواية وتمييزها بين الغث والسمين، فلتخرس ألسنة الأفاكين الذين يريدون النيل من الحديث والمحدثين من خلال انتقاص رواته الأولين.

ولتتساقط كل الدعاوى الباطلة التي يزعم مدعوها أن بعض الصحابة خدع بالإسرائيليات, وخالت عليه نُقول كعب الأحبار ووهب بن منبه من كتب أهل الكتاب, وتناقلوها على أنها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعجيب أن أبا رية كتب مقدمة عن "الإسرائيليات في الحديث" بدأها بداية موفقة, حين نقل أخبار الوضع والوضاعين وردود الأئمة عليهم وانتصابهم لكشف زيغهم، ثم علل لظهور الإسرائيليات وهدفها، ثم انحدر إلى الهاوية حين اتهم الصحابة بترويج تلك الإسرائيليات والانكباب عليها، وراح يسف في نقد كعب الأحبار ووهب بن منبه، وليته وقف عند هذين بل تجاوزهما إلى الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، وراح يتخبط, فانتقد حديثا رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو في صفة النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه موصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن؛ "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، بل يعفو ويغفر، لا يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: "لا إله إلا الله" ويفتح بها أعينا عميا, وآذانا صما, وقلوبا غلفا". ثم يذكر عن ابن كثير أن ابن يسار سأل كعب الأحبار عن هذا الحديث فما اختلف فيه مع عبد الله في حرف واحد، وكيف يختلف فيه وهو راوية.

ولا أدري؛ كيف ساغ لهذا الرجل أن يشكك في هذا الحديث الذي يتطابق مع القرآن؟ ألم يقرأ قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ... الآية والتي بعدها؟ ثم أين قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؟ 1.

_ 1 سورة البقرة: 146.

كلمة عن الإسرائيليات وموقف الصحابة منها والرد على المتقولين

كلمة عن الإسرائيليات وموقف الصحابة منها والرد على المتقولين: يمضي أبو رية في هذا المهيع، في خلط مريع بين الحق والباطل, ولبس للهدى بالضلال مستغرقا نحوا من ثمان وثلاثين صفحة1. ينقل عن الأستاذ أحمد أمين في ضحى الإسلام، وعن ابن خلدون في مقدمته ما يفيد ذم الإسرائيليات, ويظهر خطرها والنقل عنها وانخداع البعض بها، ولا أحد يقبل الإسرائيليات على إطلاقها, ولا يستطيع أحد أن يهون خطرها؛ لكن الذي يجب أن يعلم هو أن الإسرائيليات يمكن أن يحكم عليها من خلال الصحيح الذي بين أيدينا, وأن مسلمة أهل الكتاب ليسوا جميعا سيِّئِي النية، خبيثي الطوية, وأن الثلاثة الذين انتقصهم لا يسلم له انتقاصهم. وقد صح إباحة التحديث عن بني إسرائيل على ما مضى: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" , وصح النهي عن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم.

_ 1 أضواء على السنة ص117-154.

وأمرنا أن نقول: {آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1. ونستطيع أن نقسم الأخبار المنقولة عن مسلمة أهل الكتاب إلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذلك صحيح. ثانيها: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه, وهذا باطل يحكم برده؛ ويمثل للأول بحديث ابن عمر السالف الذكر، ويمثل للثاني بالكثير من سفاهات اليهود وضلالتهم في نقولهم على الله ما لا يليق به، أو وصفهم له تعالى بما تنزه عنه، وكذا ترهاتهم وفظائعهم التي رموا بها الأنبياء مما يتنافى مع عصمتهم -عليهم صلوات الله وتسليماته- كنسبة لوط إلى السكر والزنى، وقل أن يسلم نبي عندهم من مثل هذا. ثالثها: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نذكبه، وتصح حكايته وذلك كقصة البقرة التي أمروا بذبحها, فقد سكت القرآن عن ثمنها, وإن كان قد تعرض لتحديدها في ضوء استفساراتهم، وذكر علة ذبحها. وقد بذل المحدثون جهدًا مشكورًا في نقد الإسرائيليات وتمحيصها, ورد ما تأباه أصولنا، وبلغ من شدة تحريهم ونقدهم، وحرصهم على تجلية الحق أنهم قالوا: إن قول الصحابي إذا كان في شيء لا مجال للرأي فيه يأخذ

_ 1 سورة العنكبوت: 46.

حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه سلم بشرط أن لا يكون ذلك الصحابي ممن عرف بالأخذ عن الإسرائيليات، فإن كان كذلك توقفنا في الحكم على قوله. وقد رأينا كيف أحجم التابعون عن روايات عبد الله بن عمرو فلم ينقلوا منها إلا القليل؛ لشغفه بمطالعة كتب أهل الكتاب. ومن الجدير بالذكر أن المنقول في الإسرائيليات يدور حول أخبار الأمم السابقة وقصصهم, ولا تعلق له في الأعم الأغلب بالأحكام أو العقائد, اللهم إلا جزء يسير يتعلق بالنبوات, وغالبا ما يظهر عليه ما يقتضي رده ورفضه. بقي أن نتعرف حال الثلاثة الذين نال منهم أبو رية، بل ونال من الصحابة من خلال نيله منهم. قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في الدفاع عن ابن سلام ووهب وكعب: "أما عبد الله بن سلام فصحابي جليل أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره, وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلا جدا، وقلما ذكر عن كتب أهل الكتاب, وما ثبت عنه من ذلك فهو مصدق به حتما, وإن لم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن, إذ قد ثبت أن كثيرا من كتبهم انقرض, ولا يسيء الظن بعبد الله بن سلام إلا جاهل أو مكذب لله ورسوله. وأما وهب بن منبه فولد في الإسلام سنة 34هـ وأدرك بعض الصحابة

ولم يعرف أن أحدا منهم سمع منه أو حكى عنه، وإنما يحكي عنه من بعدهم، وأما كعب فأسلم في عهد عمر وسمع منه, ومن غيره من الصحابة, وحكى عنه بعضهم وبعض التابعين. ثم يقول بعد ذلك: وأما ما رواه كعب ووهب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقليل جدا، وهو مرسل لأنهما لم يدركاه، والمرسل ليس بحجة، وقد كان الصحابة ربما توقف بعضهم عن قبول خبر بعض إخوانه من الصحابة حتى يستثبت, فما بالك بما يرسله كعب، فأما وهب فمتأخر وأما ما روياه عن بعض الصحابة أو التابعين فإن أهل العلم نقدوه كما ينقدون رواية سائر التابعين، أقول: لكعب الأحبار ترجمة في تهذيب التهذيب. وليس فيها عن أحد من المتقدمين توثيقه، إنما فيها ثناء بعض الصحابة عليه بالعلم، وكان المزي علم عليه علامة الشيخين مع أنه إنما جرى ذكره في الصحيحين عرضا, لم يسند من طريقه شيء من الحديث فيهما, ولا أعرف له رواية يحتاج إليها أهل العلم. فأما ما كان يحكيه عن الكتب القديمة, فليس بحجة عند أحد من المسلمين، وإن حكاه بعض السلف لمناسبته عنده لما ذكره في القرآن. وبعد فليس كل ما نسب إلى كعب في الكتب بثابت عنه، فإن الكذابين من بعده قد نسبوا إليه أشياء كثيرة لم يقلها، وما صح عنه من الأقوال ولم يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ليس بحجة واضحة على

كذبه، فإن كثيرا من كتبهم انقرضت نسخها, ثم لم يزالوا يحرفون ويبدلون"1. هكذا بان لنا سلامة مقف الصحابة رضوان الله عليهم من كعب وأمثاله، بل وسلامة موقف كعب ووهب وانحراف الطاعنين عليهما وبهما فيمن تنزهت ساحته عن الطعن. على أن الذين ترجموا لكعب ووهب أجمعوا على أنه لا رواية لكعب في الصحيحين, وإنما ذكر اسمه في معرض ثناء معاوية رضي الله عنه عليه بقوله: "إن كان لَمِنْ أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب", قال الحافظ ابن حجر: "قلت: هذا جميع ما له في البخاري, وليست هذه برواية عنه", ثم قال: "وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإيمان, وفي حديث معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: "إذا أدى العبد حق الله, وحق مواليه, كان له أجران" , قال: فحدثت به كعبا, فقال كعب: "ليس عليه حساب, ولا على مؤمن مزهد"2.

_ 1 الأنوار الكاشفة ص97-99 بتصرف. 2 مُزهد بضم الميم وإسكان الزاي: قليل المال, والمراد بهذا الكلام؛ أن العبد إذا أدى حق الله تعالى, وحق مواليه, فليس عليه حساب لكثرة أجره وعدم معصيته, وهذا الذي قاله كعب يحتمل أنه أخذه توقيف, ويحتمل أنه بالاجتهاد؛ لأن من رجحت حسناته وأوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورًا, والحديث كما أخرجه مسلم في آخر كتاب الأيمان والنذور ج11، ص136 بشرح النووي, أخرجه البخاري في عدة مواضع دون ذكر كعب في الرواية.

وقال البخاري في البيوع بعد رواية فليح عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن عمرو في صفة النبي صلى الله عليه وسلم, تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال، وقال سعيد يعني ابن أبي هلال عن هلال عن عطاء عن ابن سلام, ورواية سعيد ذكرت في تعليق التعليق"1. وهاك رواية في مسلم ترد على المتخرصين, المتقولين بالباطل على كعب, وأمثاله حول مدى تأثيرهم على الصحابة، فالحق أن الصحابة هم الذين أثروا, وهم الذين رووا, وحدثوا, فقد روى مسلم في صحيحه بسنده "أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة يدعوها, فأنا أريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" , فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو هريرة: نعم"2. وعلى هذا النحو تمضي الروايات الصحيحة عن كعب, فماذا فيها مما يوجب هذا التقريع كله للصحابة على نقلهم عنه؟ وما جريرة كعب؟ وما ينقم المتهجمون؟ أأن كان يهوديًّا فأسلم فكان ممن يؤتيهم الله أجرهم مرتين؟ ذكره ابن سعد3 في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام, وقال: كان على دين

_ 1 تهذيب التهذيب ج8، ص439-440. 2 مسلم بشرح النووي كتاب النووي ج3، ص74. 3 طبقات ابن سعد، ج7، ق2، ص156.

يهود فأسلم, وقدم المدينة, ثم خرج إلى الشام, فسكن حمص حتى توفي بها سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان, وقيل: سنة أربع وثلاثين. وقد ذكر ابن سعد قصة إسلامه, وفحواها أن أباه أعطاه كتابا مختوما, وأوصاه أن لا يفض ختمه، فلما توفي أبوه دار في خاطره أن في الكتاب سرًّا ففتحه, وقرأ ما فيه من أوصاف النبي الأمي وأمته, فأسلم. وكان ذلك جوابه على من سأله عن تأخر إسلامه، وقد بالغ أبو رية في استبعاد هذه القصة واستغرباها, ورمى كعبا باختلاقها، ولا غرابة في هذا, بل الغرابة كل الغرابة في استبعاد ما قرره القرآن, ورمي البرآء بالإفك والبهتان. والأعجب والأغرب أن تضيع مقاييس الزمان, فيكون التابعي "وهب بن منبه" واحدًا ممن رمى الصحابة بالأخذ عنهم, وتنوقلت الإسرائيليات بواسطتها.

فمن وهب ومتى ولد وما رأى علماء الجرح التعديل فيه

فمن وهب ومتى ولد وما رأى علماء الجرح التعديل فيه ... فمن وهب؟ ومتى ولد؟ وما رأي علماء الجرح والتعديل فيه؟ إنه: وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني، ولد آخر خلافة عثمان سنة أربع وثلاثين, فلقي كثيرا من الصحابة, وروى عنهم كأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وابن عمرو وجابر وأنس. وروى عن التابعين؛ كعمرو بن شعيب, وأبي خليفة البصري, وهمام بن منبه أخي وهب. وروى عنه ابناه: عبد الله وعبد الرحمن، وابنا أخيه: عبد الصمد وعقيل ابنا معقل, وعمرو بن دينار, وروى هو أيضا عنه.

كان وهب من أبناء فارس الذين حسن إسلامهم؛ لذا قال العجلي: تابعي ثقة, وكان على قضاء صنعاء، ووثقه أبو زرعة, والنسائي, ابن حبان, وكان أبوه منبه من أهل هراة, فأخرجه كسرى غلى اليمن, فأسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وحسن إسلامه, وسكن وولده بلاد اليمن. وكان وهب عف اللسان، ذكر أنه مكث أربعين سنةً لم يسبَّ شيئا فيه الروح, وكان عابدا يقوم الليل، ذكر أنه لبث عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وُضوء. قال الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن أبيه: حج عامة الفقهاء سنة مائة, فحج وهب فلما صلوا العشاء, أتاه نفر فيهم عطاء والحسن, وهم يريدون أن يذاكروه القدر, قال: فأمعن في باب من الحمد, فما زال فيه, حتى طلع الفجر, فافترقوا ولم يسألوه عن شيء, قال أحمد: وكان يتهم بشيء من القدر, ثم رجع. قال حماد بن سلمة عن أبي سنان: سمعت وهب بن منبه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء, كلها من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر, فتركت قولي. وقال الجوزجاني: كان وهب كتب كتابا في القدر, ثم حدثت أنه ندم عليه. وقال ابن عيينة عن عمرو بن دينار: دخلت على وهب داره بصنعاء فأطعمني جوزا من جوزه في داره, فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر, فقال: أنا والله وددت ذلك. ومن أقواله: العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والصبر أمير جنوده والرفق أبوه واللين أخوه.

وتوفي وهب سنة عشر ومائة, وقيل: سنة ثلاث عشرة أو أربع عشرة أو ست عشرة ومائة. وهو ثقة عند عامتهم, ولم يضعفه إلا ابن علي الفلاس. روى له البخاري حديثا واحدا من روايته عن أخيه, عن أبي هريرة: ليس أحدًا أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص, فإنه كان يكتب ولا أكتب1. وبعد فقد أطلنا الكلام عن كعب ووهب عمدًا؛ لرد ما أثير حولهما من شبهة حول الرواية عنهما كذلك. وكان حقهما أن يذكرا في التابعين، فلا صحبة لهما لكن كعبا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا, وروى عنه كثيرون من الصحابة, واتخذ البعض من ذلك وسيلة للغمز واللمز في حملة الوحي ونقلته الأُوَل. وأما وهب فتابعي روى عن الصحابة, ولم يذكر أن صحابيا روى عنه. ومع ذلك آثرنا ذكر ترجمته هنا, وبيان حاله؛ لاقترانه بكعب وابن سلام في الوصمة التي أريد أن يوصم بها الصحابة رضوان الله عليهم, وهي الأخذ عن الإسرائيليات, وتناقلها مما يفضي إلى عدم الاستيثاق بمروياتهم, والطعن في عدالتهم, وهيهات أن تتحقق هذه الأماني الكاذبة, أو أن يصدق على الأيام حلم من يريدون النيل من الإسلام من خلال التطاول على أصله الثاني

_ 1 تهذيب التهذيب ج11، ص166-168, وميزان الاعتدال ج4، ص352-353.

والتشكيك فيه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. نعم يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المستشرقون، أو صنائعهم المستعربون, الذين لا يروقهم إلا الوافد، ولا يعجبهم إلا الفكر المستورد, فذرهم يأكلون ويتمتعون ويلههم الأمل, فسوف يعلمون. ونمضي مع الحق فنتعرف على دور التابعين في تبليغ السنة وخدمتها والمصاعب التي واجهتهم.

_ 1 سورة التوبة: 32، 33.

المبحث الثالث: التابعون والحديث إلى نهاية القرن

المبحث الثالث: التابعون والحديث إلى نهاية القرن مدخل ... المبحث الثالث: التابعون والحديث: إلى نهاية القرن الأول الصحبة درجة شريفة، ومنزلة منيفة, مَنّ بها البر الكريم سبحانه وتعالى على أفضل خلقه بعد رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس يماري عاقل في فضل الصحابي ومنزلته، والتابعي يلي الصحابي في الدرجة والفضل، وقد أشارت إلى ذلك نصوص كثيرة منها: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. وقوله بعد بيان نصيب الفقراء من المهاجرين والأنصار من الفيء والثناء عليهم وتعديد مناقبهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 2. ولا يقال: ليس في الآية مدح أو ثناء, وإنما هي حكاية لما صدر عنهم

_ 1 سورة التوبة:100. 2 سورة الحشر: 10.

من التضرع والدعاء؛ لأن الآية مصدرة بواو العطف المقتضية التشريك في الحكم، فهم داخلون في عموم المدح والثناء, وتضرعهم بهذا الدعاء برهان تمكنهم في الفضل. وجاء في الصحيح أيضا: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم" 1. فأشعر هذا بامتداد الفضل وتتابعه، ومما يشعر بذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآني وآمن بي, وطوبى لمن رأى من رآني" 2. ومما يشعر بمكانتهم وضرورة الاستماع منهم والأخذ عنهم قوله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويُسمع منكم، ويُسمع ممن يَسمع منكم" 3. وليس هناك حد زمني يفصل الصحابة عن التابعين، وبعبارة أخرى ليست هناك حقبة زمنية يمكن اختصاص هؤلاء أو أولئك بها، فقد يدرك التابعين زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لا يلقاه, أو لا يؤمن به إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلا يعد صحابيا، وإنما يقال له: تابعي, ويوصف بأنه مخضرم. وعليه فالتابعون يلتقون مع الصحابة في بكرة الأمر، وأيضا يعايش

_ 1 أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ج8 ص5،6 بهامش فتح الباري وأخرجه في كتاب الرقاق. 2 رواه الإمام أحمد المسند في عدة مواضع ج3 ص71, ج5 ص248. 3 رواه أبو داود في سننه ج3، ص338, والحاكم في معرفة علم الحديث ص27, وفي المستدرك ج1، ص95, وابن عبد البر في جامع بيان العلم ج1، ص43.

الصحابة التابعين إلى نهاية القرن الهجري الأول، بل وربما فاتحة القرن الثاني كما حدث "مع أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي "مات سنة مائة" من الهجرة. قاله مسلم في صحيحه، ورواه الحاكم في المستدرك عن خليفة بن خياط. وقال خليفة في غير رواية الحاكم: إنه تأخر بعد المائة. وقيل: مات سنة اثنتين ومائة. قاله مصعب بن عبد الله الزبيري، وجزم ابن حبان وابن قانع وأبو زكريا بن منده أنه مات سنة سبع ومائة. وقال وهب بن جرير بن حازم عن أبيه: كنت بمكة سنة عشر ومائة، فرأيت جِنازة, فسألت عنها, فقالوا: هذا أبو الطفيل. وصحح الذهبي أنه سنة عشر. وأما كونه آخر الصحابة موتا مطلقا، فجزم به مسلم ومصعب الزبيري وابن منده والمزي في آخرين. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما على وجه الأرض رجل رآه غيري. قال العراقي: وما حكاه بعض المتأخرين عن ابن دريد من أن عكراش بن ذؤيب تأخر بعد ذلك, وأنه عاش بعد الجمل مائة سنة, فهذا باطل لا أصل له والذي أوقع ابن دريد في ذلك ابن قتيبة، فقد سبقه إلى ذلك، وهو إما باطل أو مؤول بأنه استكمل المائة بعد الجمل, لا أنه بقي بعدها مائة سنة. وأما قول جرير بن حازم: إن آخرهم موتا سهل بن سعد، فالظاهر أنه أراد بالمدينة، وأخذه من قول سهل: لو مت لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما كان خطابه بهذا لأهل المدينة، وآخرهم موتا قبله

أنس بن مالك مات بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، وقيل: اثنتين، وقيل: إحدى، وقيل: تسعين، وهو آخر من مات بها. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا مات بعده ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا الطفيل. قال العراقي: بل مات بعده محمود بن الربيع بلا خلاف في سنة تسع وتسعين, وقد رآه وحدث عنه كما في صحيح البخاري، وكذا تأخر بعده عبد الله بن بسر المازني في قول من قال: وفاته سنة ست وتسعين"1. هكذا يمتد وجود الصحابة إلى أول القرن الثاني, وربما شاركهم التابعون بعض حياته صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل إلى تمايز بين الصحابة والتابعين من حيث الزمن، وإن كان التمايز محققا من حيث تحديد المراد بالصحابي والتابعي, ويبقى اعتبار الكثرة لمن اعتبر. فإذا كان النبي قد انتقل إلى الرفيق الأعلى ومن رآه صلى الله عليه وسلم يزيد على مائة ألف وأربعة عشر ألفا كما قال أبو زرعة، فإننا باعتبار الكثرة, ومراعاة الأغلبية نستطيع أن نطلق على فترة الخلافة الراشدة "زمن الصحابة", وننسب إليهم التحكم في أكثر الأحاديث, والإمساك بأَزِمّة الأمور, لكن بعد أن يرى كل واحد من الصحابة آخرين عديدين, فنفس المنطق يحتم علينا أن نسمي الزمن "زمن التابعين" وأن نضيف الأحدث إليهم, وإذا كنا قد عرفنا أن الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ومات على إسلامه، فمن هو التابعي؟

_ 1 تدريب الراوي ج2، ص228-230.

من هم التابعون

من هم التابعون؟: التابعون جمع تابعي, أو جمع تابع, اسم فاعل من تبع, والنسبة إليه: تابعي, وتبعه بمعنى: قفا أثره, ونهج نهجه, وجاء بعده، ولعل مأخذه من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} . والتابعي في اصطلاح المحدثين هو: "من لقي الصحابي, وإن لم تطل صحبته", وهو رأي الحاكم وابن حجر وغيرهما, وقيل: "من صحب الصحابي, ولا يكتفى فيه بمجرد اللقى, بل لا بد من طول الصحبة, وتحقق اللقاء, ومعرفته بالرواية عنه". قال ابن الصلاح: "قال الخطيب الحافظ: التابعي من صحب الصحابيَّ. قلت: ومطلقه مخصوص بالتابعي بإحسان, ويقال للواحد منهم: تابع وتابعي. وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره مشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي, أو يلقاه, وإن لم توجد الصحبة العرفية، والاكتفاء في هذا بمجرد اللقاء والرؤية أقرب منه في الصحابة نظرا إلى مقتضى اللفظين فيهما", وقال الحافظ العراقي متعقبا كلامه "وفيه أمور؛ أحدها: أن تقديم المصنف كلام الخطيب في حد التابعي على كلام الحاكم وغيره, وتصديره به كلامه ربما يوهم في ترجيحه على القول الذي بعده, وليس كذلك, بل الراجح الذي عليه العمل قول الحاكم وغيره في الاكتفاء بمجرد الرؤية دون اشتراط الصحبة, وعليه يدل عمل أئمة الحديث: مسلم بن الحجاج وأبي حاتم بن حبان وأبي عبد الله الحاكم وعبد الغني بن سعيد وغيرهم. وقد ذكر مسلم بن الحجاج في كتاب الطبقات سليمان بن مهران الأعمش

في طبقة التابعين، كذلك ذكره ابن حبان فيهم, وقال: إنما أخرجناه في هذه الطبقة؛ لأن له لقيا وحفظا, رأى أنس بن مالك, وإن لم يصح له سماع المسند عن أنس, وقال علي بن المديني: لم يسمع الأعمش من أنس إنما رآه رؤية بمكة يصلي خلف المقام. أما طريق الأعمش عن أنس, فإنما يرويها عن يزيد الرقاشي عن أنس, ثم قال: "الأمر الثاني": أن الخطيب وإن كان قال في كتاب الكفاية ما حكاه عنه المصنف من أن التابعي من صحب الصحابي, فإنه عد منصور بن المعتمر من التابعين في جزء له جمع فيه رواية الستة من التابعين بعضهم عن بعض, وذلك في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي من رواية منصور بن المعتمر, عن هلال بن يساف, عن ربيع بن خيثم, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن امرأة من الأنصار, عن أبي أيوب مرفوعًا: " {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ثلث القرآن". قال الخطيب: منصور بن المعتمر لقي ابن أبي أوفى. قلت: وإنما له رؤية له فقط دون الصحبة والسماع, وقد ذكره مسلم وابن حبان وغيرهما في طبقة أتباع التابعين, ولم أر من عده في طبقة التابعين. وقال النووي في شرح مسلم: ليس بتابعي, ولكنه من أتباع التابعين, فقد عده الخطيب في التابعين, وإن لم يعرف له صحبة لابن أبي أوفى, فيحمل قوله في الكفاية: من صحب الصحابي. على أن المراد اللقى جمعا بين كلاميه, والله أعلم. "الأمر الثالث": أن تعقب المصنف كلام الخطيب بقوله: قلت ومطلقه

مخصوص بالتابعي بإحسان فيه نظر من حيث إنه إن أراد بالإحسان أنه لا يرتكب أمرا يخرجه عن الإسلام فهو كذلك، وأهل الحديث وإن أطلقوا أن التابعي من لقي أحدا من الصحابة, فمرادهم مع الإسلام, إلا أن الإحسان أمر زائد على الإيمان والإسلام, كما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل له في الحديث المتفق عليه, وإن أراد المصنف بالإحسان الكمال في الإسلام أو العدالة, فلم أر من اشتراط ذلك في حد التابعي, بل من صنف في الطبقات دخل فيهم الثقات وغيرهم, والله أعلم1" انتهى كلام ابن الصلاح وتعقيب العراقي عليه. والذي ينشرح له الصدر هو التفريق بين ما للصحبة من تأثير وبين ما للنبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم بجاذبيته, وقوة تأثيره وإشراق نور النبوة يمكن أن يتزود منه الصحابي بالشحنة الروحية, ولو من مجرد اللقاء، ويختلف الأمر مع التابعي، فالأوجه اشتراط الصحبة فيه، ومعلوم تفاوت التأثير والتأثر، فالصحابي أسرع استقبالا لفيوضات الخير والقوة المؤثرة فيه أشد، بخلاف التابعي فينبغي مراعاة ذلك.

_ 1 مقدمة ابن الصلاح ومعها التقييد والإيضاح للعراقي ص317-320.

هل التابعون كلهم عدول

هل التابعون كلهم عدول؟: إذا تقرر الفرق بين الصاحب والتابع تأثيرًا وتأثرًا، وأخذًا وإعطاء، فبالتالي يتقرر الفرق بين الصحابة والتابعين في مسألة العدالة، وقبول الرواية من سائرهم، فإن الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول بالمعنى الذي سبق

توضيحه، وليس الحال كذلك في التابعين فقد حدث أمور تقتضي الفحص عن أحوالهم, والبحث عن ميولهم، والتنقيب عن درجتهم جرحا وتعديلا، ذلك أنه بعد أن انكسر باب الفتنة بموت عمر, وأطلت الفتنة في آخر خلافة ذي النورين واستشرت، بل وغمت وطمت بعد مقتله ونشبت الحرب بين علي رضي الله عنه وخصومه وانقسمت الأمة بين مناصر موالي وبين مخاصم معادي، والتمس أنصار كل فريق سندا ومعتمدا, لم يعد الحديث في مأمن، ولم يكن الناس على ما كانوا عليه من الثقة والاطمئنان، اللهم إلا أولئك الذين لزموا الحق، وتجنبوا الهوى، وآثروا السلامة من الفتن، وانكبوا على العلم عامة، والحديث خاصة، يجمعونه ويحصلونه ويشهرونه وينشرونه. وكان هؤلاء كثرة كاثرة, ومع ذلك لبدت السماء بغيوم الشك وسحائب الريب من جراء الدس والوضع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, ومتابعته هواه بغير هدى من الله. وتجردت أقلام لكشف تلك الغيوم، وانبعثت همم لدفع تلك الريب, ووجد النقاد العالمون العارفون بالحديث وعلله، المستبصرون المبصرون بما يذود عن حياض هذا الدين, ويرد عنه غلاء الغالين، ويصونه من تفريط المفرطين. لسوف تعرض هذه الدراسة نماذج طيبة من هؤلاء الذين امتشقوا حسام الكلام, وسلوا ألسنتهم دفاعا عن الحق، ومجابهة للباطل، مما لا يبقى معه عذر لمشكك أو متشكك، وما كان الله ليخلف وعده بحفظ هذا الدين, ولا ليذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب.

ظهور الفرق في عهد التابعين

ظهور الفرق في عهد التابعين: ما إن نهض علي رضي الله عنه بأعباء الخلافة بعد أن بويع له بها، حتى استقبلته الأحداث، وأحاطت به الملمات، فلم يتهدأ الأمور, ولم يصف له إلا ساعات, وما كان صفاؤها تاما. فأهل الشام بقيادة معاوية أبوا مبايعة علي حتى يأخذ بثأر عثمان، ومتى هدأ له الزمان، ومكن من إقامة العدل ومقاومة الطغيان؟ ومن منه أحرص على تطبيق الحد؟ خرج إلى الكوفة يريد إقناع أهل الشام؛ فإذا بأم المؤمنين عائشة, ومعها طلحة والزبير في جيش عظيم يطالبون بدم عثمان، وتقوم رحى الحرب في موقعة الجمل ويسقط الألوف، ويدين النصر للخليفة، لكنه لا يهنأ به، فما كان ليفرحه أن تراق دماء المسلمين في غير مواقعها، لكن البعض يأبى إلا الاستشراف بالفتن، وتشب حرب ضارية بين علي ومعاوية عند صفين، وما أن تلوح بوادر النصر الحاسم لأبي تراب، حتى يلجأ أهل الشام إلى خديعة ماكرة، فترفع المصاحف على أسنة الرماح، ويتشدق رافعوها بأنهم يطلبون حكم الله، ويحكمون كتابه. ويظهر لعلي وجه الحق، وتدرك حصافته الخديعة، فيرفض التحكيم ويأبى الأغرار من أتباعه إلا إجباره على قبوله، فإذا قبله بإلحاحهم، وآل أمره إلى ما آل إليه، انبرى بعض الجهلاء يعنفونه ويلومونه، وينطقون باطلا: "حكمت الرجال، لا حكم إلا لله ورسوله", ثم يكفرونه، ويكفرون خصومه، ويخرجون عن طاعته وطاعة معاوية فيعرفون بـ"الخوارج"

ويبالغ بعض أتباعه في مشايعته، ويغالون في محبته فيعرفون بـ"الشيعة", ولم تكن إحدى الفرقتين أقل ضررا, ولا أضعف خطرًا على الدين من الأخرى.

الخوارج

الخوارج: فالخوارج رأوا أن الخلافة يجب أن تكون بمحض الاختيار، ولا يلزم كون الخليفة قرشيا خلافًا لما جاءت به النصوص، ومتى تم اختيار الإمام فلا يصح له أن يتنازل، ولا أن يقبل الاحتكام، وهم يرضون الخلافة للشيخين, ثم لعثمان في السنين الأولى من خلافته، ويرضونها لعلي إلى أن قبل التحكيم، وبقبوله له أصبح كافرا في رأيهم، ومعاوية غاصب للخلافة. وهم يكفرون بالمعصية فمرتكب الكبيرة عندهم كافر، والذي يظهر من حالهم أنهم أعراب غلاظ من جفاة البادية لم يحسنوا فهم القرآن، ولم يتمعنوه، وليس فيهم صحابة، أشرق نور النبوة عليهم، أو استضاءوا به. وقد أجاد ابن حزم تسفيه رأيهم في التحكيم وتحقيق جهلهم ومجافاتهم للحق قال: "ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلا في دين الله وحاشاه من ذلك, إنما حكم كلام الله عز وجل، كما افترض الله تعالى عليه، وإنما اتفق القوم كلهم إذا رفعت المصاحف على الرماح, وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز وجل في القرآن, وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرًا رضي الله عنهما؛ ليكون كل واحد منهما مدليا بحجة من قدمه, وليكونا متخاصمين عن الطائفتين, ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له. وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن أن يفهم لغط العسكرين, أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم, فصح يقينا لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن, وهذا الذي لا يجوز غيره, ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعرابا قرءوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمرو ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل، ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سليمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر، ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها, فظهر ضعف القوم قوة جهلهم"1. ا. هـ. وبناء على مذهبهم الفاسد استباحوا دماء المسلمين، وقاتلوا جماهيرهم، وكان المسلم الذي لا يوافقهم, ولا يتبرأ ممن يتبرءون منه حلال الدم عندهم، رأو نصراينا فقالوا: إن لك عندنا ذمة، وأمنوه، ثم قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت, بقروا بطن جاريته وهي حامل، فما قال لهم علي رضي الله عنه: ادفعوا إلينا قتلته، فقالوا: كلنا قتله فقاتلهم علي حتى كاد يبيدهم.

_ 1الفصل ج4، ص168.

وبقي من بقي منهم غصة في حلق الدولة الأموية، لم يغيرهم الظلم والعسف والتنكيل, ولم يجد معهم اللين والعدل والرفق والإنصاف.

قلة فقه الخوارج واجتراؤهم على الحديث

قلة فقه الخوارج, واجتراؤهم على الحديث: يعد الخوارج أشد الفرق الإسلامية دفاعا عن مذهبها، وحماسة لآرائها، وأشد الفرق تدينا في جملتها وأشدها تهورًا واندفاعا، وهم في دفاعهم وتطورهم مستمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها, وظنوا هذه الظواهر دينا مقدسا، ولا يحيد عنه مؤمن. وقد كان جهلهم بالحديث وعدم تحملهم له عن غيرهم؛ لأنه متهم في نظرهم سبب في أن فقههم جاء مخالفا لأحكام الشريعة الإسلامية, بل منه ما جاء مخالفا لنصوص القرآن الكريم. مما تستطيع أن تقول معه ليس بفقه ذاك الذي صدروا عنه بل قلة فقه، إذ إن منهم من يرى أن التيمم جائز مطلقا, ولا يشترط فيه فقد الماء، بل يصح على البئر. ومنهم من يرى أن الواجب في الصلاة ركعة في الغداة, وركعة في العشي, ومنهم من يرى أن لا ميقات للحج, وإنما يصح في جميع العام, ومنهم من يبيح نكاح بنات البنات وبنات البنين, فمن أي كتاب, أم من أية سنة تلقوا هذا الضلال؟! إنه فهم سقيم لنصوص القرآن الكريم، وإعراض عن الحق برد روايات

الجمهور، إذ كيف يقبلونها وهم في نظرهم كفار؟ فكيف يأخذون عنهم دينهم؟ يكفيهم أن يستقوا ثم التعصب، وألوان التخبط من أئمتهم الجفاة القساة الذين لا علم لهم بالحديث, ولا تدبر لهم في الكتاب. وهذا هو حال الأعم الأغلب منهم, ولا يتنافى مع وجود قلة قليلة منهم تفقهوا ونبغوا واشتغلوا بالرواية كعمران بن حطان، الذي أخرج البخاري روايته، مع أنه مبتدع، ويكفيه بدعة مدحه لأشقى القوم عبد الرحمن بن ملجم الذي انبعث لقتل علي رضي الله عنه وأرضاه وكرم الله وجهه. ومع قول الخوارج بتكفير مرتكب الكبيرة، واعترافهم بأن الكذب كبيرة تجدهم قد انزلقوا فيه, وسقطوا في مهاويه. قال الأستاذ الدكتور أبو زهو رحمه الله: "هذا ومع أن الخوارج يحكمون بكفر الكاذب, فقد وجد من بعضهم الوضع في الحديث, والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتأييد مذاهبهم الباطلة حتى تروج لدى أتباعهم فابن الجوزي في مقدمة كتاب الموضوعات يروي عن ابن لهيعة أنه قال: سمعت شيخا من الخوارج تاب ورجع فجعل يقول: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم, فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا, وهذا عبد الرحمن بن مهدي يقول فيما ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: "إذا أتاكم الحديث عني فأعرضوه على كتاب الله, فإن وافق كتابه الله فأنا قلته ... إلخ". إن الخوارج والزنادقة وضعوا ذلك الحديث, وهذا ليس ببعيد من

قوم وقفوا عند ظواهر الكتاب وردوا الحديث إذا جاء من غير من ينتمون إليه، إلا أن وضع الخوارج للحديث لم يكن بالكثرة التي جاءت عن الشيعة وذلك لأمور: 1- إن الخوارج كان من مذهبهم تكفير الكاذب, وذلك مما يجعل الكذب فيهم قليلا. 2- إنهم كانوا لبداوتهم وجفاء طبعهم وغلظتهم غير مستعدين لقبول أفراد من الأمم الأخرى كالفرس واليهود الذين اندسوا في الشيعة ووضعوا كثيرا من الأحاديث. 3- كان عماد الخوارج في محاربتهم خصومهم إنما هو أسلحتهم وقوتهم وشجاعتهم, وكانوا مع ذلك صرحاء لا يعرفون التقية التي استخدمها الشيعة لذلك تراهم لم يلجئوا إلى الكذب لانتقاص أعدائهم؛ لأنهم في نظرهم كفار وليس بعد الكفر عيب ينتقص به صاحبه, فلم يبق سوى السيف يعملونه في رقابهم من غير مداهنة ولا مداجاة. فكل هذه العوامل كان لها أثر في تقليل الكذب في الحديث من الخوارج بالنسبة إلى غيرهم من الفرق الأخرى، ومع ذلك لم يعدموا أفرادا منهم اصطنعوا الأكاذيب واختلقوا الأحاديث"1. ا. هـ. وقد رأى الدكتور مصطفى السباعي عكس هذا، فاستبعد وقوع الكذب

_ 1 الحديث والمحدثون ص86-87.

من الخوارج, ورأى أن خبر الشيخ الذي تاب منقول عن شيخ من الرافضة فلعل من نسبه إلى الخوارج وهم فيه، ثم وإبهام الشيخ يزعزع الثقة في الخبر، وكلام عبد الرحمن بن مهدي في حديث: "ما جاءكم عني ... ", لا يبعد أن يكون قد نسب الوضع له إلى الزنادقة, ثم أضاف البعض الخوارج, ثم قال: لقد حاولت أن أعثر على دليل علمي يؤيد نسبة الوضع إلى الخوارج، ولكني رأيت الأدلة العلمية على العكس، تنفي عنهم هذه التهمة، فقد كان الخوارج كما ذكرنا يكفرون مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقا، والكذب كبيرة, فكيف إذا كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول المبرد: "والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب, ومن ذوي المعصية الظاهرة". وكانوا في جمهرتهم عربا أقحاحا فلم يكن وسطهم بالوسط الذي يقبل الدسائس من الزنادقة والشعوبيين, كما وقع ذلك للرافضة، وكانوا في العبادة على حظ عظيم شجعانًا صرحاء لا يجاملون, ولا يلجئون إلى التقية كما يفعل الشيعة. وقوم هذه صفاتهم يبعد جدًّا أن يقع منهم الكذب، ولو كانوا يستحلون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستحلوا الكذب على من دونه من الخلفاء والأمراء والطغاة كزياد والحجاج، وكل ما بين أيدينا من النصوص التاريخية يدل دلالة قاطعة على أنهم واجهوا الحكام والخلفاء والأمراء بمنتهى الصراحة والصدق, فلماذا يكذبون بعد ذلك, على أني أعود فأقول: إن المهم عندنا أن نلمس دليلا محسوسا يدل على أنهم ممن وضعوا

الحديث، وهذا لم أعثر عليه حتى الآن، كيف وقد قال أبو داود: "ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج", ويقول ابن تيمية: "ليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعدل من الخوارج", ويقول عنهم أيضا: "ليسوا ممن يتعمدون الكذب, بل هم معرفون بالصدق, حتى يقال: إن حديثهم من أصح الحديث". ا. هـ1. وقد رأى الدكتور محمد عجاج الخطيب2 نفس هذا الرأي, وأيما كان الأمر فيمكن أن نقرر في اطمئنان أن الخوارج لم يعبئوا بالحديث, ولم يجعلوه أصلا لهم، ولو فعلوا لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا. وإذن لما رأيناهم ينتجون تلك السبل التي أوردتهم موارد الهلاك، والذي يكفر عليا ويستبيح الذكي لا يبعد عليه استباحة الكذب.

_ 1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص83. 2 السنة قبل التدوين ص204-206.

الشيعة

الشيعة: هم أقدم الفرق الإسلامية، وأبعدها أثرًا، وهم الذين ناقضوا بين الاسم المسمى فادعوا أنهم أشياع علي وآل البيت، وناقضت آراؤهم، وتضادت عقائدهم ما يحبه علي وآل البيت وأشدهم بعدا عن الحق السبئية أتباع عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء ذلك اليهودي الذي تستر بالإسلام، وأجج نار الخصام ضد ذي النورين، وجاء منكرًا من القول وزورا

"تدرج في نشر أفكاره ومفاسده بين المسلمين؛ وموضوعها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذ ينشر بين الناس أنه وجد في "التوراة" أن لكل نبي وصيا، وأن عليا وصي محمد، وأنه خير الأوصياء، كما أن محمدًا خير الأنبياء، ثم إن محمدًا سيرجع إلى الحياة الدنيا، ويقول: عجبت لمن يقول برجعة المسيح، ولا يقول برجعة محمد، ثم تدرج بهذا إلى الحكم بألوهية علي رضي الله عنه، ولقد هم علي بقتله، إذا بلغه عنه ذلك، ولكن نهاه عبد الله بن عباس، وقال له: إن قتلته اختلف عليك أصحابك، وأنت عازم على العود لقتال أهل الشام، فنفاه إلى المدائن. ولما قتل علي رضي الله عنه استغل ابن سبأ محبة الناس له كرم الله وجهه وألمهم لفقده، فأخذ ينشر حول موته الأكاذيب التي تجود بها قريحته إضلالا للناس وإفسادًا لهم، فصار يذكر الناس أن المقتول لم يكن عليا، وإنما كان شيطانا تصور للناس في صورته، وأن عليا صعد إلى السماء كما صعد إليها ابن مريم -عليه السلام- وقال: كما كذبت اليهود والنصارى في دعواهما قتل عيسى بن مريم، كذلك كذبت الخوارج في دعواها قتل علي رضي الله عنه. وإنما رأت اليهود والنصارى شخصًا مصلوبا شبهوه بعيسى، كذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلا يشبه عليا فظنوا أنه علي، وقد صعد إلى السماء، وإن الرعد صوته، والبرق تبسمه، وإن من هؤلاء السبئية من كان يقول: إن الإله حل فيه وفي الأئمة من بعده، وهو قول يوافق بعض

الديانات القديمة التي كانت تقول بحلول الآلهة في بعض البشر، وأن روح الإله تتناوب الأئمة إماما بعد إمام. كما كان يقول القدماء المصريون في الفراعنة، ومن السبئية أيضا طائفة كانت تقول عن علي: "إن الله قد تجسد فيه", وقالوا له: "هو أنت الله", وقد هم بإحراق هؤلاء"1. ا. هـ. ونحن نتساءل كيف تكون هذه الفرقة من الفرق الإسلامية, وهذا ادعاؤهم ومعتقدهم، دعوى ألوهية علي أو نبوته، وهل يمكن عد أتباع مسيلمة في الفرق الإسلامية وهؤلاء السبئية أوغل منهم في الكفر. وهناك من الشيعة من يكتفي بحب علي وتفضيله على سائر الصحابة واعتقاد أنه الأولى بالخلافة, وأن الشيخين قد نازعا الأمر أهله، وسلبا الخلافة لذا فهم يرفضون خلافتهما, ومنهم من يتغالى فيسبهما ويسب كل من ظاهرهما. وأقرب فرق الشيعة إلى الحق الزيدية, القائلون بمجرد تفضيل علي, ولا مانع من تولية الصديق أو الفاروق، إذ يجوز عندهم تولية المفضول مع وجود الفاضل، ومن هنا كانوا أقرب الفرق إلى أهل السنة والجماعة. والحق أن التشيع كان ستارًا, احتجب وراءه من أعداء الإسلام من الفرس واليهود والروم وغيرهم؛ ليكيدوا لهذا الدين، فالفرس يتعالون

_ 1 الفَرق بين الفِرَق ص143-145, تاريخ المذاهب الإسلامية ص37-40 "بتصرف".

ويأنفون أن يكونوا رعية للعرب، فهم يزعمون أنهم الأحرار والسادة, وأن ما سواهم من الأمم عبيد وخدم لهم، وكانت لهم الدولة من قديم الزمان، فلما دالت دولتهم وبدل الله عزهم ذلا على يد العرب الذين كانوا يستهينون بهم ويستصغرون من شأنهم، كبرت عليهم المصيبة وجلت عن الوصف بليتهم، لذا لم يقبلوا الإذعان لسلطان الدولة الإسلامية، وأخذوا يعملون في الخفاء على إسقاطها، ويمعنون الكيد لها طمعا في إضعافها أو تقويضها حتى يعود إليهم سالف مجدهم، هكذا قدروا، وضحكت لهم وبهم الأقدار، لما تبين لهم أن المسلمين أقوى عودا وأصلب شكيمة, ولا سبيل إلى النيل منهم في ساحات الوغى، راحوا يتظاهرون بالإسلام، فمنهم من هدى الله، ومنهم من بقي على ضلالته، فاندسوا في صفوف المسلمين, وتشيعوا لآل البيت، يظهرون الحب والود، ويبطنون الغدر والكيد، وأخذوا يسلكون مفاوز الفتن والمهالك, ويغرون بدعواهم الباطلة المجافية للحق بعض السذج والبسطاء. واليهود هم أساتذة الحقد، وأساطين الدس والكيد، وهم تجار أديان ومحترفو التزييف وعباقرة الزور والبهتان. والأهم الذي ينبغي أن ننساق إليه، إنما هو بيان موقف الشيعة من الحديث وافترائهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف الشيعة من الحديث ووضعهم له

موقف الشيعة من الحديث ووضعهم له: ليس هناك كفر أضلع من كفر من يدعي ألوهية البشر, أو حلول الإله فيه, أو استحقاقه النبوة وخطأ جبريل عليه السلام في نزوله بالوحي على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم. ولقد رأينا هذه العقائد عند الشيعة، ورأينا منهم من يتأول القرآن على غير تأويله, ويدعي أن له سبعين بطنا. فهل يشك أحد في الحكم على هؤلاء بالمروق من الدين؟ وهم الذين لا يجدون حجة على ما يدعونه من الضلالات, إلا ادعاؤهم بالإلهام والإعلام الإلهي، وما كان الإلهام حجة عند غير الأنبياء في إثبات حقيقة ما، أو تقرير حكم من الأحكام، ذلك لأن الخصم يمكنه ادعاء الإلهام، وإثبات نقيض ما أثبته خصمه أو إبطال مدعاه. فما دمنا قد فتحنا باب الإلهام فليس أحد أولى من أحد، بل هو أمر عام بموسوع كل إنسان أن يدعيه. والحق أن الميزان الصحيح في تحقيق الشرائع وإثبات العقائد يتمثل في النقل الصحيح، والعقل السليم، والمنطق المستقيم الذي لا يسعه إلا القبول والتسليم لما يصح به الطريق إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم. لكن الشيعة أبوا هذا وازدادوا تخبطا إلى تخبطهم، حين راحوا يضعون الأحاديث في فضل آل البيت, ويختلقون الأخبار ليرفعوا عليا فوق السحاب، ظنا منهم أن الوضع يوصل إلى الرفع, والحق أن الصدق هو

بر، والكذب فجور، وما كان الفجور ليعلي ويرفع، وإنما شأنه أن يخفض ويضع، وحاشا لله أن يخفض مقام آل البيت سفاهات من ادعوا -زورا وبهتانا- حبهم ومشايعتهم. أخذ هؤلاء المتشيعون أعداء الإسلام يصنعون الأحاديث في أغراض شتى حسب أهوائهم ونحلهم. فمن ذلك أحاديث وضعوها في مناقب علي, يرفعون من قدره, وأخرى وضعوها في الحط من شأن معاوية وبني أمية, ولا عجب فقد قال قائلهم: "كنا إذا جلسنا فاستحسنا أمرا جعلناه حديثا"1. واقرأ من إفكهم الكثير والكثير عند السيوطي وغيره. فقد ذكر السيوطي في مناقب آل البيت نحوا من اثنتين وتسعين صحيفة2. وهاك بعض ما ذكر "حدثنا موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده مرفوعا: خلقت أنا وهارون بن عمران ويحيى بن زكريا, وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة، موضوع: آفته محمد بن خلف"3.

_ 1 ذكره السيوطي بعدة ألفاظ قريبة من هذا اللفظ. اللآلئ المصنوعة ج2 ص468. 2 من ص320 إلى ص412 من كتاب اللآلئ المصنوعة. 3 اللآلئ المصنوعة ج1، ص320.

عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي أخصك بالنبوة ولا نبوة بعدي ... " الحديث. موضوع آفته بشر"1. "عن أم سلمة مرفوعا: "يقتل الحسين على رأس ستين سنة من مهاجري"، موضوع وآفته سعد"2. إلى غير ذلك من الروايات المكذوبة تثبت النبوة لعلي تارة والخلافة والوصية بها تارة أخرى على حسب عقائد الوضاع المختلقين وآرائهم. فقد روى البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله. أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير, ولا يقتل مسلم بكافر"3. هكذا ألقم على الحجر لكل دعي يدعي أن له أو لأحد من آل البيت إيصاء من النبي صلى الله عليه وسلم، والعجيب أن الشيعة علموا فضل علي

_ 1 المرجع السابق ص323. 2 المرجع السابق ص391. 3 صحيح البخاري, كتاب العلم, باب كتابة العلم ج1 ص214-216 بهامش فتح الباري.

وأيقنوا ما له من قدر جلي لكنهم طمثوا هذا الفضل ودرسوا معالم ذلك القدر فكانوا كالقبر الذي يخفي ما لصاحبه من حسن وبهاء. قال العلامة ابن القيم: وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه, ولكن قاتل الله الشيعة فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه, ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته, وأصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم, وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حمله العلم الذي كما قال: إن ههنا علما لو أصبت له حملة"1. ولقد كان وضع الشيعة للحديث واختلاقهم الأخبار يتسم بالحيلة والبراعة فهم يحكمون الكذب, ويتفننون توليف الأخبار, فهم قد "اشتغلوا بالحديث وسمعوا من الثقات, وعرفوا الأسانيد الصحيحة, ثم وضعوا عليها الأحاديث التي تتفق وعقيدتهم وأضلوا بها كثيرا, فكان منهم من يسمى بالسدي, ومنهم من يسمى بابن قتيبة, وكانوا يروون عنهما فيظن من لا يعرف حقيقة الحال أنهما المحدثان الشهيران مع أن كلا من السدي وابن قتيبة اللذين ينقل عنهما الشيعة رافضي غال. ولكن جهابذة السنة وعلماء الحديث كشفوا دخيلة أمرهم واطلعوا

_ 1 أعلام الموقعين ج1 ص21.

الناس على حقيقة حالهم وميزوا بين السديين بالكبير وهو ثقة, والصغير وهو كذاب وضاع, وكذا ميزوا بين ابن قتبية الشيعي وبين عبد الله بن مسلم بن قتيبة, ولم يقتصر الشيعة على ذلك, بل وضعوا الكتب وملئوها بأباطيلهم, ونسبوها إلى أهل السنة ككتاب سر العارفين الذي نسبوه للغزالي"1. هذا وقد كان لوضع الشيعة للحديث واختلاقهم الأخبار أثر عكسي حتى يكتمل الطابع المأسوي لهذا الصنيع السيئ الذي أملاه التعصب والهوى, فقد أتى أكله ثمارا مرة على الجانب الآخر عند خصوم الشيعة الذين أبى ضعفاء الدين منهم إلا أن يزيدوا لهم الصاع صاعين ففجروا في خصومتهم, وغالوا في مباراتهم الشيعة, ومسابقتهم لهم في وضع الحديث, إذ عمد بعض الأئمة من أنصار بني أمية إلى اختلاق أحاديث في فضل أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عن الجميع وأرضاهم, يضاهئون بها صنيع الشيعة من قبل في شأن علي وآل البيت. وإنها وايم الله لخصلة من خصال النفاق وسبة فيمن فعلها فما كان أغناه عن اختلاق الحديث, وتبوئه مقعده من النار، فلهؤلاء الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من شرف الصحبة وحسن المجاهدة, وطيب الفعال, وكريم الخلال وجميل الخصال ما يرفعهم إلى أعلى عليين, وما يطلق الألسنة الصادقة بالثناء عليهم إلى يوم الدين، فما أشد ما وقع فيه أولئك الأفاكون الكذابون من السقوط والتردي.

_ 1 الحديث والمحدثون ص96، 79.

وهذه أمثلة مما رد به ضعفاء الدين من أنصار بني أمية على غلو الشيعة في علي وآل البيت, وما حاكوه من أساطير. فعن أبي هريرة مرفوعا: "تفاخرت الجنة والنار فقالت النار للجنة: أنا أعظم منك قدرًا، قالت: ولم؟ قالت: لأن فيّ الفراعنة والجبابرة والملوك وأبناؤها, فأوحى الله تعالى إلى الجنة أن قولي: بل لي الفضل إذ زينني الله لأبي بكر وعمر"، موضوع: أبان متروك, ومهدي كذاب وضاع1. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة فناولني جبريل تفاحة فانفلقت في يدي فخرجت منها جارية كأن أشفار عينيها مقاديم النسور, فقلت لها: لمن أنت؟ فقالت: أنا للمقتول بعدك ظلما عثمان بن عفان". قال في الميزان: هذا كذب. قال ابن حبان يحيى بن شعيب يروي عن الثوري ما لم يحدث به قط. وقال في اللسان: هو ظاهر البطلان2. وعن خالد بن معدان عن واثلة مرفوعا: "الأمناء عند الله ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية". قال النسائي وابن جبان: هذا حديث باطل موضوع, وأحمد بن عيسى يروي عن المجاهيل مناكير وعن المشاهير المغلوبات. قال ابن عدي: وقد تفرد وهو باطل من كل وجه3.

_ 1 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج1، ص305. 2 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج1، ص314 3 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج1، ص417.

الفرق الأخرى وأثرهم في الحديث

الفرق الأخرى وأثرهم في الحديث: تعد فرقتا الخوارج والشيعة أس البلاء فيما انتاب هذه الأمة من تفريق الكلمة وتشتيت الجمع, وقد رأينا ما لهما من أثر على الحديث, وإنك لتزداد بغضا لرأيهما حين ترى تسبب هذه الآراء في نشوء فرق أخرى متعددة الأهواء كالمرجئة الذين قالوا بأنه لا تضر مع الإيمان معصية كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة. ولو تتبعت الإرجاء في نشأته وتطوره لوجدته في أول أمره موافقا للحق مطابقا لما كان عليه كثيرون من ذوي الرجاحة الذين رأوا الإعراض عن الخلاف والجنوح عن ساحته وتفويض أمر المختلفين إلى الله فرارًا من المغالاة بتفكير هؤلاء أو أولئك كما فعل الخوارج واجترحوا في حق أم المؤمنين ومن حالفها في معركة الجمل، ثم في حق علي الذي حكموا بإيمانه إلى أمد التحكيم, ثم كفروه بقبوله, وقل من سلم من تكفيرهم, فجاء هؤلاء معاكسين لهم, ثم تطور الأمر إلى القول بإرجاء الحكم على مرتكب الكبيرة, وتفويض أمره إلى بارئه مقتربا قائل هذا من أهل السنة فيما قالوه من أن من يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه. ثم أفرط بعض المرجئة وغالى فقال: بالفصل بين الإيمان والعمل والاكتفاء بمجرد الاعتقاد, ولا يضر مع اعتقاد القلب وقبوله الإسلام مخالفة الظاهر, ولو ارتكبت الجوارح جميع الآثام بل لو وجد المعتقد بقلبه مع اليهود والنصارى. ولقد صحت أحاديث كثيرة تدفع هذا الزعم وتبطله, وصرف الأئمة

الكثير من اهتمامهم إلى الرد على هؤلاء ودحض شبههم وما أكثر ما عقد المحدثون أبوابا للربط بين الإيمان والقول والعمل, ولبيان أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصية, ويكفيك أن تقرأ "خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر" هكذا ترجم البخاري في صحيحه ثم نقل في تأكيدها هذا المعنى عن إبراهيم التيمي1, قال: ما عرضت قولي على عمل إلا خشيت أن أكون مكذبًا". وقال ابن أبي مليكة2: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه, ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.

_ 1 هو ابن يزيد بن شريك التيمي أبو أسماء, قيل: قتله الحجاج, وقيل: مات في سجنه لما طلب الإمام إبراهيم النخعي, فوقع الرسول بإبراهيم التيمي, فأخذه وحبسه, فقيل له: ليس إياك أراد, فقال: أكره أن أدفع عن نفسي وأكون سببا لحبس رجل مسلم بريء الساحة, فصبر في السجن حتى مات سنة اثنتين وتسعين, وهو ثقة, روى له الجماعة. عمدة القاري ج1، ص275 بتصرف. 2 هو عبد الله بن عبيد الله -بتكبير الابن وتصغير الأب- واسم ابن مليكة بضم الميم زهير بن عبد الله بن جدعان بن عمر بن كعب بن تيم بن مرة القرشي التيمي المكي الأحول, كان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا, اتفق على جلالته, سمع العبادلة الأربعة وعائشة وأختها أسماء وأم سلمة وأبا هريرة وعتبة بن الحارث والمسور بن مخرمة, وأدرك بالسن جماعة, ولم يسمع منهم كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما, مات سنة سبع عشرة ومائة, وروى له الجماعة. عمدة القاري ج1 ص275.

ويذكر عن الحسن1 ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق". قال العيني في شرح هذه الترجمة: ذكر النووي أن مراد البخاري بهذا الرد على المرجئة في قولهم: إن الله لا يعذب على شيء من المعاصي ممن قال لا إله إلا الله, ولا يحبط شيء من أعماله بشيء من الذنوب، وإن إيمان المطيع والعاصي سواء, فذكر في صدر الباب أقوال أئمة التابعين, وما نقوله عن الصحابة رضي الله عنهم, وهو كالمشير إلى أنه لا خلاف بينهم فيه, وأنهم مع اجتهادهم المعروف خافوا أن لا ينجو من عذاب الله تعالى. وقال القاضي عياض المرجئة أضداد الخوارج والمعتزلة كالخوارج تكفر بالذنوب, والمعتزلة يفسقون بها, وكلهم يوجب الخلود في النار, والمرجئة تقول: لا تضر الذنوب مع الإيمان, وغلاتهم تقول: يكفي التصديق بالقلب وحده ولا يضر عدم غيره, ومنهم من يقول: يكفي التصديق بالقلب والإقرار باللسان. وقال غيره إن من المرجئة من وافق القدرية؛ كالصالحي والخالدي, ومنهم من قال بالإرجاء دون القدر, وهم خمس فرق كفر بعضهم بعضا, والمرجئة

_ 1 هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري مولى زيد بن ثابت, وقيل: جابر بن عبد الله, وقيل: أبي اليسر. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، قال أبو بردة: أدركت الصحابة فما رأيت أحدا أشبه بهم من الحسن. قال خالد بن رياح الهذلي: سئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن, فقيل له في ذلك, فقال: إنه قد سمع وسمعنا فحفظ ونسينا. وقال سليمان التيمي: الحسن شيخ أهل البصرة, وهو من أجلاء التابعين وعرف بالوعظ, مات في رجب سنة ستة عشر ومائة. تذكرة الحافظ ج1 ص71, التهذيب ج2، ص263، وميزان الاعتدال ج1، ص5278, ووفيات الأعيان ج1، ص128.

بضم الميم وكسر الجيم وبهمزة مشتق من الإرجاء, وهو التأخير, وقوله تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أي أخره, والمرجئ من يؤخر العمل عن الإيمان, والنية والقصر, وقيل: من الأرجاء لأنهم يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة, وقيل: مأخوذ من الإرجاء بمعنى تأخير حكم الكبيرة فلا يقضى لها بحكم في الدنيا"1. وقد كان أثر المرجئة على الحديث من جهة تصادم مذهبهم معه, ولم يشتهر عنهما لوضع أو الدس فيه, وإن كان لا يستبعد وقوعه منهم فقد أسرفوا في الإباحية وغرقوا في المعاصي بزعم أنها لا تضرهم والكذب معصية فلا يبعد اقترافهم له. وهناك القدرية وهو وصف تفاوت في الإطلاق, فقد كان يطلق على من ينفون القدر, ويقولون إن الأمر أنف بمعنى "مستأنف", وقد ظهر هذا الانحراف العقدي مبكرا مما حدا ببعض الصحابة إلى التصدي له ومجابهته, فقد روى مسلم في أول كتاب الإيمان ما يعد تأريخا لظهور الكلام في القدر, روى بسنده عن يحيى بن يعمر2.

_ 1 عمدة القاري ج1، ص274-275. 2 يعمر بفتح الميم, ويقال: بضمها كنيته أبو سليمان, أو أبو سعيد قال الحاكم: يحيى بن يعمر فقيه أديب نحوي مبرز, أخذ النحو عن أبي الأسود, نفاه الحجاج إلى خرسان, فولاه قتيبة بن مسلم قضاءها. شرح النووي على مسلم ج1، ص153.

قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني1. فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري2 حاجين أو معتمرين, فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر, فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد, فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله, فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ, فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن, ويتقعرون العلم, وذكر من شأنهم, وأنهم يزعمون أن لا قدر, وأن الأمر أنف, قال: فإذا لقيت أولئك, فأخبرهم أني بريء منهم, وأنهم براء مني, والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا, فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. "ثم ساق رواية أبيه عمر في سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة, وكان التعريف النبوي للإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره".

_ 1 الجهني بضم الجيم نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة نزلت الكوفة, ونزل بعضها البصرة, ومن نزل جهينة معبد بن خالد الجهني, كان يجالس الحسن البصري, وهو أول من تكلم في البصرة بالقدر, فسلك أهل البصرة بعده مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله, قتله الحجاج بن يوسف صبرا, وقيل: إنه معبد بن عبد الله بن عويمر. المصدر السابق. 2 حمير بالتصغير والحميري نسبة إلى حمير بكسر فسكون ففتح, سمع ابن عمر وأبا هريرة وابن عباس وغيرهم, قال العجلي: بصري ثقة كان ابن سيرين يقول: هو أفقه أهل البصرة, وذكره ابن حبان في الثقات, وقال: كان فقيها عالما. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج3 ص46، والكشاف في معرفة من له رواية في الكتب الستة ج1 ص257.

قال النووي: "واعلم أن مذهب أهل الحل إثبات القدر, ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم, وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى, وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها, ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها, وأنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها, وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجلَّ عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا, وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين, وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل, ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه, وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر, ولكن يقولون: الخير من الله, والشر من غيره. تعالى الله عن قولهم. وحديث: "القدرية مجوس هذه الأمة" رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر. قال الخطابي: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلية النور والظلم, يزعمون أن الخير من فعل النور, والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية, وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى, والشر إلى غيره, والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعا, لا يكون شيء فيهما إلا بمشيئته, فهما مضافان إلى الله سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا, وإلى الفاعلية لهما من عباده فعلا واكتسابا.

وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى وقهره على ما قدره وقضاه, وليس الأمر كما يتوهمونه, وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد, وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها والقدر اسم لما صدر عن فعل القادر يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى: فقضاهن سبع سموات في يومين" أي خلقهن, قلت: قد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى"1. ويمتد فكر القدرية الذين آلت إليهم التسمية لقولهم: بأن للعبد قدرة على خلق أفعاله, هؤلاء الذين عرفوا بالمعتزلة, ونشئوا كثمرة مرة لفكر الخوارج, فهم لم يقبلوا التفكير بالكبيرة والمعصية، ولم يرضهم نسبة المعاصي إلى الإيمان فنزلوه منزلة الاثنين, وما أكثر ما ناب الحديث والمحدثين من تطاولهم وتهجمهم, وهم يحكمون العقل في النقل, فإذا أعياهم ذلك لجئوا إلى رد النقل, ورموا النقلة بفحش القول, وما أكثر ما نال المحدثين من بذاءاتهم فحتى الصحابة رضوان الله عليهم نالهم حظهم, وأخذوا نصيبهم من تطاول مدرسة الاعتزال, وقد سبقت الإشارة إلى تطاول النظام, ومن على شاكلته على الصحابي الجليل "أبو هريرة" وسيأتي تعرض لهذا عند استعراض منهج ابن قتيبة في دفاعه عن الحديث والمحدثين.

_ 1 شرح النووي على مسلم ج1، ص154-155 بتصرف.

ومن كل ما سبق يتضح للرائي الجو القائم الذي ظللته إحن الاختلاف ولبدته بغيوم التردد والشك أهواء وعصبيات, ومع ذلك كله لم تحجب تلك الغيم سماء الحقيقة, ولم تطمث إشراق الحق الذي ظل منبلجا في قلوب أهله. ومن كرم ذي الفضل العظيم, وفيض جوده العميم أن انحصر أهل الأهواء والبدع والعصبيات في شراذم قليلة, وتجمع أنصار الحق ودافعوا عنه في ثبات وصدق, فكان صوتهم الأقوى ونداؤهم الأعلى ونهجهم الأوضح الأجلى أمام تلك الأمواج العاتية وقفت الكثرة الكاثرة من التابعين تذود عن حياض الدين وتظهر إفك الأفاكين، وتتصدى في ثبات ويقين لأي محاولة تستهدف كتاب الله أو سنة نبيه, فمع التابعين وهم في أعمهم وأغلبهم متبعون لا مبتدعون، ومنصفون لا متعصبون.

جهود التابعين في المحافظة على الحديث ومقاومة الضالين

جهود التابعين في المحافظة على الحديث ومقاومة الضالين: على طريق الصحابة ومع بعضهم سار التابعون لهم بإحسان يمثلون الكثرة وينهضون بهذه المهمة: المحافظة على الحديث وتبليغه سالما من الدس والتدليس نقيا من الهوى بعيدا عن التعصب. مضى جمهور التابعين غير منخدع بترويج أهل البدع والأهواء لآرائهم الفاسدة, وإنما تمسك بالسنة ولا يهتز، واحتياط في الرواية وتثبت من الأخبار، فهم يوقنون أن الحديث دين، فلينظروا عمن يأخذون دينهم وهم يدركون اختلاط الغث بالسمين، فلا بد من المبالغة في التأمل والتبصر بما ينقلون, وما كان التابعي ليقبل أن يكون حاطب ليل ربما يحتطب أو يجمع إلى

الحطب الأفاعي والثعابين وهو لا يدري بل لا بد وأن يحاط خبرًا بما يرويه. كان ولا بد أن يسألوا, وأن يتحروا والعلة في ذلك يوضحها لنا أحدهم محمد بن سيرين1 إذ يقول: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"2 وقال أيضا: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"3. هكذا نستطيع أن نقول إن شطط أهل البدع والأهواء واجتراءهم على الحديث بالوضع والدس فيه, أو محاولة النيل منه بانتقاص راوية، هذا الشطط والاجتراء كما أثمر جانبا سلبيا من خلال المجابهة والمضادة بين أصحاب الأهواء، أثمر أيضا جانبا إيجابيا تمثل في حفز همم أنصار الحق وشحذ عزائمهم ليشتد تمسكهم بالحق ويقوى بحثهم عن اليقين، ويزدادوا تثبتا إلى تثبتهم، واحتياطا إلى احتياطهم.

_ 1 كنيته أبو بكر ونسب إلى الأنصار لكونه مولى أنس, وهو من سبي عين التمر، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان, وتوفي في شوال من سنة عشرة ومائة بعد الحسن بمائة يوم، وعرف ابن سرين بالتعبير, وهو من أروى الناس وأوثقهم عن عبيدة السلماني وشريح, ولقي ثلاثين صحابيا, وأجمعوا على ثقته وورعه وإمامته. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج9 ص214, وطبقات ابن سعد ج2، ق1، ص140 تذكرة الحفاظ ج1، ص77 وطبقات الحفاظ ص31-32, والكاشف ج2، ص51-52. 2 مسلم بشرح النووي ج1، ص84. 3 المرجع السابق ج1، ص84.

وقد كان التابعون يسترشدون ويستشهدون برأي من بقي معهم من الهادين المهديين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم بسنده عن "مجاهد1 قال: جاء بشير العدوي2 إلى ابن عباس, فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه, ولا ينظر إليه, فقال: يابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذننا, فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف"3. رأى التابعون رأي العين أن الناس ركبوا الصعب والذلول, فلم يقبلوا من كل أحد استأمنوا على الذهب والفضة وأتمنوا عليهما ولم يأتمنوا على

_ 1 ابن جبر المكي المخزومي مولى السائب بن أبي السائب, ولد سنة إحدى وعشرين, اشتهر بالتفسير وعرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة, واشتهر بميله إلى النزعة العقلية في التفسير, وتوفي سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث ومائة. نظر ترجمته في طبقات ابن سعد ج5 ص343، تهذيب التهذيب ج10، 42 ميزان الاعتدال ج3، ص439، تذكرة الحفاظ ج1، ص92، طبقات الحفاظ ص35-36. 2 هو بشير "بصيغة التصغير" ابن كعب العدوي, ويقال: العامري أبو أيوب, روى عن شداد بن أوس وأبي ذر وأبي هريرة وروى عنه ابن برية وثابت البناني وقتادة وغيرهم, وهو ثقة عند سائرهم. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج1، ص471-472, والكاشف ج1، ص160. 3 مسلم بشرح النووي ج1، ص81-82.

الحديث أن يأخذوه إلا ممن يثقون فيه، ها هو ذا أبو الزناد1 يقول: "أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث, يقال: ليس من أهله"2 وكان الإمام مالك يقول: لقد أدركت في هذا المسجد أي النبوي سبعين ممن يقول: قال فلان, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أن أحدهم أؤتمن على بيت مال لكان أمينا عليه, ولكني ما أخذت عنهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الشأن أي علم الحديث والرواية. على هذا النحو كان احتياط التابعين وتثبتهم فيما يروون، واستيثاقهم ممن عنه ينقلون، على أنهم قد حاكوا الصحابة وقلدوهم في التقلل من الحديث، والتخفف منه، فلا يروي الواحد منهم إلا قدر ما تلح عليه الضرورة ويحتاج إليه البيان "جالس الشعبي3 ابن عمر سنة فما سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"4 وقال مجاهد: صحبت ابن عمر

_ 1 عبد الله بن ذكوان مولى رملة بنت شيبة زوج عثمان, وقيل: إن ذكوان أخو أبي لؤلؤة، وكان أبو الزناد يلقب بأمير المؤمنين في الحديث, وهو من أعلم التابعين ومن أرواهم, لقي من الصحابة ابن عمر وأنسا وأبا أمامة, وتوفي أبو الزناد سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومائة عن ست وستين سنة انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص134، وتهذيب التهذيب ج5، ص203, وميزان الاعتدال ج2، ص418, وطبقات الحفاظ ص54-56. 2 مسلم بشرح النووي ج1، ص86-88. 3 هو عامر بن شراحبيل, ولد لست مضت من خلافة عمر, وأدرك خمسمائة صحابي، قال عن نفسه: ما كتبت سوداء في بياض قط, ولا حدثني رجل بحديث فأحببت أن يعيده عليّ، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته توفي سنة ثلاث أو أربع أو سبع أو عشر ومائة، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص79، طبقات ابن سعد ج6، ص171 وتهذيب التهذيب ج5، ص65. 4 سنن الدارمي ص84، ج1، وابن ماجه ج1، ص8.

من مكة إلى المدينة، فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: "مثل المؤمن مثل النخلة". وقال السائب1: إنه "صحب سعد بن أبي وقاص2 من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا حتى رجع"3. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن التابعين يعدون بحق امتداد للصحابة في كل شيء, وهم بنص المعصوم صلى الله عليه سلم خير القرون، ولا يجانب الصواب من يقول: إن دور التابعين كان أدق وموقفهم كان أصعب وأشق، إذ كان عليهم أن يواجهوا الخطر المحدق, وأن يتصدوا للمحاولات التي بذلت عبثا للنيل من الحديث والمحدثين. وإذا وقفنا على تراجم بعض التابعين فسيهولنا ما لهم من مواقف جليلة, وإذا ذهبنا معهم حيث ذهبوا, ومضينا إلى الأمصار التر تفرقوا فيها أو التي وجدوا فيها تلاميذ نجباء لأساتذةٍ ألباء فقهاء، فسننبهر بتلك المدارس.

_ 1 ابن يزيد بن سعيد له ولأبيه صحبة, وهو من صغار الصحابة، توفي سنة إحدى أو اثنتين وثمانين. انظر ترجمته في الإصابة ج2، ص12-13. 2 واسم أبي وقاص: وهيب بن عبد مناف, ومن هنا كان خالا له صلى الله عليه وسلم كنية سعد أبو إسحاق، أحد السابقين، قال عن نفسه: إنه كان ثالث ثلاثة في الإسلام, وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة, وأول من رمى بسهم في سبيل الله كان مستجاب الدعوة, وكان أحد قاد الإسلام, توفي سنة خمس وخمسين على الراجح وكان معتزلا للفتنة. انظر ترجمته في الاستيعاب ج2، ص18-27 بهامش الإصابة, طبقات ابن سعد ج3، ق1، ص97 والإصابة ج2، ص34. 3 سنن ابن ماجه ج1، 9.

الحديثية التي توزعت في ربوع الإمبراطورية الإسلامية ذات الأطراف المترامية، ويجدر بنا أن نشير بإيجاز إلى أهم تلك المدارس, ثم نقف على تراجم بعض تلاميذها.

أهم المدارس الحديثية في الأمصار الإسلامية ومناهج

أهم المدارس الحديثية في الأمصار الإسلامية ومناهج مدخل ... أهم المدارس الحديثية في الأمصار الإسلامية ومناهج المحدثين فيها: وانتقل الرسول صلى الله عليه سلم إلى الرفيق الأعلى وكلمة الله هي العليا، وراية الإسلام ترتفع على ربوع الجزيرة العربية، وهبت عاصفة الردة كزوبعة ما أسرع إخمادها، ومضى الفاتحون مؤدين بنصر الله المبين، لا يلوون على جيش إلا قهروه، ولا يطلبون فتحا إلا نالوه، ولم يمض القرن الهجري الأول إلا ورايات الإسلام ترفرف عند سور الصين العظيم شرقا، وجبال البرانس غربا, وتمتد أطراف الدولة يمنة ويسرة، وفي كل مكان نزل فيه الصحابة، ومن بعدهم التابعون، فالناس حولهم محتشدون ولسماع كل ما يصدر عنهم متلفهون. ولقد أقام كثير من الصحابة والتابعين في تلك البلاد المفتوحة وأعطوا أمثلة صحيحة للسلوك المسلم الملتزم, مما حمل أهل تلك البلاد أن يدخلوا في دين الله أفواجا، وأن يلحوا على تلقي تعاليم ذلك الدين الجديد. وأشرق النور في كل مكان، وترامت الأضواء في الفيافي والوديان، وعم الإشعاع في كل مكان، ولم يعد ثم مقصور على مركز تألقه, وإنما استوجب الاتساع في بقاع الدولة ظهور مراكز إسلامية تعنى بالقرآن والسنة، وتزكي أريحهما في كل الأماكن، وتعطر بعبقهما كل بقعة تعلو فيها راية الحق, فكانت المدارس موزعة على النحو التالي:

مدرسة المدينة

1- مدرسة المدينة: المدينة هي دار هجرته صلى الله عليه وسلم، أوريتها في المنام وفي اليقظة في رحلة الإسراء والمعراج، ثم كانت في الواقع دار هجرته, فيها توطدت دعوته، وتمت نصرته، وشبت فتية قوية دولته، وأهلها هم الذين آووا ونصروا، وتبوءوا الدار والإيمان، وأحبوا من هاجر إليهم، فأحبهم الله ورسوله، وصالح المؤمنين. وفي المدينة نزل أكثر القرآن المتصل بالأحكام، وبها كان أغلب التشريع، وفيها طاب المقام لكثير ممن عايشوا الوحي, وتابعوه كلمة بكلمة، واستمرت المدينة عاصمة الدولة طيلة عهد الثلاثة الراشدين، ولم ينتقل عنها رابعهم إلا مكرها. وفي المدينة جلس أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشرون علمه الذي ورثوه عنه، واشتهر منهم عمر رضي الله عنه وابنه عبد الله وعلي بن أبي طالب وصهيب الرومي1.

_ 1 صهيب بن سنان بن مالك, ويقال: خالد بن عمرو بن عقيل, ويقال: طفيل بن عامر بن جندلة, وهو عربي غري وأمه من بني مالك بن عمرو بن تميم سبته الروم صغيرا, ثم بيع في مكة لعبد الله بن جدعان, فأعتقه, قيل: هرب إلى مكة وحالف ابن جدعان, وكنيته أبو يحيى, أسلم قديما, وصحب النبي قبل البعثة, وما فارقه بعدها, توفي في شوال سنة ثمان وثلاثين عن سبعين سنة. الإصابة ج2، ص195، 196, والاستيعاب ج2، 174-182 بهامش الإصابة.

وكان أكثرهم شهرة في دنيا العلم أبي بن كعب1, وزيد بن ثابت2, ولقد عرف الناس قدر زيد سيما عندما أناط به الصديق مهمة جمع القرآن، وكان زيد موضع الإجلال والتكريم، إلى حد أن ابن عمر كان يأخذ بركابه, ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. ومن أشهر تلاميذ زيد التابعي الكبير سعيد بن المسيب الذي كان يحفظ قضاياه وفتاويه ويفضله على غيره. ومن تلاميذ مدرسة المدينة عروة بن الزبير بن العوام, وكان من أعلم أهل المدينة ومن أشدهم ورعا وأكثرهم أخذا عن عائشة. ومن أوعية علم هذه المدرسة محمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي, فقد حفظ فقه علماء المدينة, وكان من أسبق العلماء إلى تدوين العلم، واتصل

_ 1 أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية الأنصاري النجاري سيد المسلمين لما سماه عمر, وسيد القراء, شهد العقبة الثانية وبدرا والمشاهد كلها, قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ليهنك العلم أبا المنذر" , وقال له: "إن الله أمرني أن أقرا عليك" , فكان أقرأ الأمة, توفي سنة عشرين, وقيل: تسع عشرة, وقيل: ثلاثين, والأرجح أنه توفي في خلافة عمر. الإصابة ج1، ص19-20, والاستيعاب ج1، ص47-54, وطبقات ابن سعد ج3، ق2، ص59, وتذكرة الحفاظ ج1، ص16. 2 زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن الوزان الأنصاري الخزرجي من بني النجار, أعلم الأمة بالفرائض, وأحد الذين جمعوا القرآن زمن نزوله, وتولى جمعه في عهد أبي بكر, وتعلم لغة يهود وحذقها في خمسة عشر يوما, وتوفي سنة خمس وأربعين على الأرجح. الإصابة ج1، ص561-562, الاستيعاب ج1، ص551-554, وتذكرة الحفاظ ج1، ص30.

بكثير من خلفاء بني أمية, وكان موضع احترامهم, وقال فيه: خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز1 إنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه. وعن الزهري وأضرابه أخذ أساطين العلم ابن أبي ذئب2, ومالك بن أنس إمام دار الهجرة, ومحمد بن إسحاق3 إمام المغازي والسير.

_ 1 ابن مروان بن الحكم أمير المؤمنين وخامس الرشدين, وحفيد الفاروق, لقي أنسا, وصلى أنس خلفه, وقال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع, وروى حديثا كثيرا, وكان إماما عدلا، ملك سنتين وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما حيث توفي سنة إحدى ومائة. طبقات الحافظ ص46، وطبقات ابن سعد ج5، ص242, وتذكرة الحفاظ ج1، ص118، وتهذيب التهذيب ج7، ص475. 2 العابد شيخ، ثقة, أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة, قرشي عامري مدني, ولد سنة ثمانين, وكان من أورع الناس وأفضلهم, كان يصلي الليل أجمع, ويجتهد في العبادة ولو علم أن القيامة تقوم غدا ما كان منه مزيد اجتهاد, وكان يصوم يوما ويفطر يوما, وكان فقيها شجاعا جريئا في الحق سأله المنصور عن الحسن بن زيد, فقال: إنه ليتحرى العدل, وسأله عن نفسه مرارا, فقال: ورب هذه البنية إنك لجائر, وحج المهدي, فدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, فقام كل من في المسجد إلا ابن أبي ذئب, فقيل له: قم. قال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. توفي سنة تسع وخمسين ومائة.تذكرة الحفاظ ج1، ص192-193. 3 محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي المدني مصنف المغازي والسير, وأمير المؤمنين فيها هو مولى قيس بن مخرمة بن المطلب, رأى أنس بن مالك, وحدث عن أبيه وعمه والقاسم والأعرج والزهري، وهو أحد أوعية العلم, ووثقه أكثرهم حتى قال فيه شعبة: إنه أمير المؤمنين في الحديث توفي سنة اثنتين أو إحدى وخمسين ومائة. تذكرة الحفاظ ج1، ص172-173.

مدرسة مكة

2- مدرسة مكة: مكة هي أم القرى, البلد الأمين, فيها حرم الله الآمن، وبها ولد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم, وعاش ثلاثا وخمسين سنة بها، وفيها نبئ, وشبت الرسالة عن الطوق، وواجهت الدعوة أكبر التحديات، ولم يخرج الداعية منها إلا مكرها مستنكرا إخراجه والمؤمنين معه من أحب البلاد إلى الله, ثم إليهم, وظلت قلوبهم تتعلق بها وتشتاق، وأرواحهم تهفوا إليها إلى أن عادوا إليها آمنين مطمئنين فاتحين منتصرين، فرحين مستبشرين. وبعد أن تم الفتح المبين، ودالت دولة الكافرين كان ولا بد أن تكون هناك مدرسة تنشر الهدى, وتبين أحكام الدين, فكانت مدرسة مكة تلك التي حمل لواءها أول الأمر معاذ بن جبل1 الصحابي الجليل الذي ولاه الرسول صلى الله عليه سلم إمرة مكة بعد فتحها، وتولى تعليم أهلها قواعد الإسلام وبصرهم بالحلال والحرام وأقرأهم كتاب الله. وكان معاذ بن جبل من أفضل شباب الأنصار علما وعملا وحلما وسخاء، وقد شهد المشاهد كلها, ويعد من أعلم الصحابة، وهو ممن جمع القرآن على عهد الرسول, وكان من أفقه الصحابة، وقد أهله فقهه ليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد, والروايات في الصحيح تشعر بمزيد الأنس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يردفه خلفه على الرحل, ويناديه يا معاذ, فيسارع بقوله: لبيك وسعديك يا رسول الله بمعنى إجابة لك بعد

_ 1 كنيته أبو عبد الرحمن أنصاري خزرجي شهد العقبة, وشهد بدرا والمشاهد كان من نجباء الصحابة وفقهائهم, وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام. طبقات ابن سعد ج3، ق1، ص120، الإصابة، ج3، ص406، تذكرة الحفاظ ج1، ص19.

إجابة وإسعادا لك بعد إسعاد, ويكون معاذ بشير سعد إلى كل الموحدين، ويسلك منهجا فريدا في التبشير, علمه إياه البشير النذير، فهو لا يسارع إلى إبلاغ البشرى حتى لا يتكل الناس، فلما أحس بدنو الأجل بلغ بشارة النبي صلى الله عليه وسلم خروجا عن عهدة الكتمان, ومات معاذ بمرض الطاعون وهو شاب. ويرجع الفضل الكبير في تأسيس مدرسة مكة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس, الذي تصدى لإلقاء دروس العلم بها بعد أن انتفع به طلاب العلم في البصرة والمدينة. ومن أبرز تلاميذ مدرسة مكة التابعي الجليل مجاهد بن جبر المفسر الكبير صاحب النزعة العقلية، والمجتهد في التدليل على رأيه, وكذا التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح1. وتواصلت الحلقات الدراسية بهذه المدرسة, وتخرج منها الجم الغفير من النوابغ الذين كان على رأسهم الإمام الشافعي, الذي نهل من معين هذه المدرسة قبل أن يتجه إلى نبع المدينة الفياض

_ 1 أسلم أبو محمد المكي مولى بني جنح, قال ابن سعد: انتهت إليه فتوى أهل مكة، وكان ثقة فقيها عالما كثير الحديث, أدرك مائتي صحابي, قدم ابن عمر مكة, فسألوه, فقال: تسألوني وفيكم ابن أبي رباح! قال أبو حنيفة: ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح, ولا أكذب من جابر بن الجعفر, توفي سنة أربع عشر ومائة أو خمس أو سبع عن ثمان وثمانين. طبقات ابن سعد ج5، ص346، تهذيب التهذيب ج7، ص199، ميزان الاعتدال ج3، ص70، تذكرة الحفاظ ج1، ص98.

مدرسة الكوفة

3- مدرسة الكوفة: فإذا تركنا بلاد الحجاز التي أشرق منها نور الإسلام، وذهبنا معه بحيث امتد، فتوقفنا في الكوفة, تلك التي كوفها سعد بن أبي وقاص، وبناها فصارت مركز إشعاع فكري بعد فتح بلاد فارس، علمنا ما كان للكوفة والبصرة من أثر فعال في انتشار الإسلام فيما وراء النهر. وقد نزل الكوفة عدد كبير من الصحابة، وقيل: نزلها ثلاثمائة من أصحاب بيعة الرضوان، وسبعون بدريا من أشهرهم علي بن أبي طالب, وسعد بن أبي وقاص, وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل1، وعبد الله بن مسعود الذي آثر به عمر بن الخطاب أهل الكوفة على نفسه، ومن منزلته من كتاب الله، ومكانته في القراءة حدث ولا حرج, فمن سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرؤه على قراءة ابن أم عبد. ولقد تخرج في هذه المدرسة عدد كبير من أجلة التابعين على رأسهم عامر بن شرحبيل الشعبي وسعيد بن جبير الأسدي2 وغيرهما.

_ 1 أحد العشرة المبشرين بالجنة, وأحد السابقين, أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم, ولم يتخلف إلا عن بدر لكونه خارج المدينة أوانها, وكان مجاب الدعوة, وهو زوج فاطمة بنت الخطاب, وأبوه جد الحنفاء, وشارك سعيد في غزوة اليرموك وفتح دمشق, توفي بالعقيق, ونقل إلى المدينة سنة إحدى أو اثنتين أو خمس وخمسين عن بعض وسبعين سنة. الإصابة ج2، ص46. 2 ابن هشام الأسدي والوالبي أبو محمد أو أبو عبد الله الكوفي, كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن الدهماء؟ يعنيه. شجاعته في الحق وصلابته في التمسك به مستفيضة, قتله الحجاج صبرا سنة اثنتين وتسعين, وهو ابن تسع وأربعين سنة. طبقات ابن سعد ج6، ص178، وتهذيب التهذيب ج4، ص11, وتذكرة الحفاظ ج1، ص76، والمعارف ص445.

مدرسة البصرة

4- مدرسة البصرة: البصرة بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات والأشهر فيها الفتح والنسب إليها بصرى بفتح الباء وكسرها، ويقال لها: البصيرة بصيغة التصغير, كما يقال لها: تدمر والمؤتفكة؛ لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر، وقد قيل عنها إنها قبلة الإسلام وخزانة العرب، وقد بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر رضي الله عنه سنة سبع عشرة، وسكنت في سنة ثماني عشرة، ولم يعبد على أرضها صنم قط. وقد نزلها كثير من الصحابة رضوان الله عليهم منهم أنس بن مالك, الذي كان أستاذ تلك المدرسة, وإمامها في الحديث، وعبد الله بن عباس الذي تولى إمرتها لابن عمه علي بن أبي طالب قبل رجوعه إلى المدينة، وكثير غيرهم منهم عمران ابن حصين1, وأبو برزة الأسلمي2, ومعقل ابن يسار3.

_ 1 ابن عبيد بن خلف الخزاعي, أسلم عام خيبر وغزا عدة غزوات, وقال الطبراني: أسلم قديما هو وأبوه وأخته، ونزل البصرة وكانوا يقدمونه على كل من نزلها من الصحابة واشتهر نبأ تكليمه الحفظة, وتسليم الملائكة عليه مات سنة اثنتين وخمسين, وقيل: سنة ثلاث، الإصابة ج3، ص26-27. 2 نضلة بن عبيد الأسلمي أبو برزة مشهود بكنيته، قال ابن سعد: كان من ساكني المدينة, ثم نزل بالبصرة وغزا خراسان، وقال غيره: شهد مع علي قتال الخوارج بالنهروان وغزا خراسان بعد ذلك, مات سنة أربع وستين, وقيل: سنة خمس, وقيل: في زمن عبد الملك. الإصابة ج3 ص556-557. 3 ابن عبد الله بن معبر المزني, أسلم قبل الحديبية, وشهد بيعة الرضوان وهو الذي حفر نهر معقل بالبصرة بأمر عمر, فنسب إليه, مات ما بين الستين إلى السبعين الإصابة ج3، ص447.

وأشهر من تخرج في هذه المدرسة الحسن البصري الذي أدرك خمسمائة من الصحابة, ومحمد بن سيرين وبهز بن حكيم1, ويونس بن عبيد2, وعبد الله بن عون3, وقتادة بن دعامة السدوسي4, وغيرهم كثير.

_ 1 ابن معاوية بن حيدة أبو عبد الملك القشيري، وثقه يحيى بن معين وابن المديني, وقال عنه أبو زرعة: صالح ولكنه ليس بالمشهور. وقال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه ولا يحتج به. ووثقه النسائي والحاكم, قال الحاكم: وإنما أسقط من الصحيح روايته، عن أبيه عن جده؛ لأنها شاذة لا متابع له عليها. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج1 ص498-499. 2 ابن دينار العبدي مولاهم أبو عبيد البصري، رأى أنسا، وهو أثبت أصحاب الحسن, وما حضره حق الله إلا تهيأ له, وكان قزازا أمينا مراعيا جانب الله, مات سنة أربعين ومائة. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج11، ص442-445. 3 ابن أرطبان المزني أبو عون البصري أحد الأعلام، قال هشام ابن حسان: لم تر عيناي مثل ابن عون، وقال قرة بن خالد: كنا نعجب من ورع ابن سيرين, فأنساناه ابن عون, مات سنة إحدى وخمسين ومائة. تهذيب التهذيب ج5، ص348، تذكرة الحفاظ ج1، ص156، طبقات الحفاظ ص69. 4 أبو الخطاب البصري الأكمه: أحد الأعلام، رأى أنسا وجابرا. قال أحمد: كان قتادة أحفظ أهل البصرة لم يسمع شيئا إلا حفظه, وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها، ولد سنة ستين, ومات سنة سبع عشرة ومائة. طبقات ابن سعد ج7، ق2، ص1, وتهذيب التهذيب ج8، ص337، وتذكرة الحفاظ ج1، ص122.

مدرسة الشام

5- مدرسة الشام: نزل الشام عدد غير قليل من الصحابة ضمن جيوش الفتح الإسلامي، ومن الصعب تحديد العدد الذي دخل الشام من الصحابة، إلا أن الوليد بن مسلم يقرب هذا, فيقول: دخل الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بعث عمر بن الخطاب معاذ بن جبل إلى فلسطين وعبادة بن الصامت1 إلى حمص, وأبا الدرداء إلى دمشق. ومن أشهر من نزل الشام من الصحابة, أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح2, ومؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم بلال بن أبي رباح3, وسيف الله المسلول خالد بن الوليد4, وغيرهم.

_ 1 ابن قيس خزرجي, شهد العقبات الثلاث, والمشاهد كلها, وجمع القرآن, وتوفي سنة أربع وثلاثين, وله في الصحيحين عشرة أحاديث, اتفقا على ستة, وانفرد كل منهما بحديثين. الرياض المستطابة ص207-208. 2 قرشي نهري أمين هذه الأمة أحد العشرة, وهو الهين اللين الزاهد الورع، وهو من أفراد مسلم, وتوفي سنة ثماني عشرة وله ثمانية وخمسون عاما. المرجع السابق ص181-184. 3 أبو عبد الله الحبشي التيمي مولى أبي بكر الذي كان سيدنا وأعتق سيدنا, أحد السابقين, توفي سنة عشرين أو إحدى وعشرين عن أربع أو ثلاث وستين, له في الصحيحين أربعة أحاديث المرجع السابق ص38-79. 4 أبو سليمان بن المغيرة القرشي المخزومي، سيف الله في أعدائه, أسلم بين الحديبية وخيبر قبل مؤتة بشهرين، قاتل أهل الردة, وفتح الشام والعراق، له في الصحيحين حديثان أحدهما متفق عليه والآخر للبخاري وهو موقوف، توفي بحمص في خلافة عمر سنة إحدى وعشرين. الرياض المستطابة ص62-63.

ونشطت الحركة العلمية في بلاد الشام على يد هؤلاء الأساتذة, وتخرج في مدرستهم عدد كبير من التابعين من كبار علماء الشام؛ منهم سالم بن عبد الله المحاربي1 قاضي دمشق, وأبو إدريس الخولاني2, وعلى رأسهم عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي3 الذي لقب بإمام أهل الشام، وكان يقارن بالإمامين مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم جميعا.

_ 1 لم أقف له على ترجمة بهذا الاسم في التهذيب والتذكرة والطبقات لابن سعد والسيوطي والكاشف, وفيها غير هذا كثير لكنهم ليسوا شاميين ليس فيهم من تولى قضاء دمشق. 2 عائذ الله بن عبد الله بن عمرو العوذي من علماء الشام وعبادهم وقرائهم, قال مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزهري: كان قاص أهل الشام وقاضيهم, ولد يوم حنين, ومات سنة ثمانين. طبقات ابن سعد ج7، ق2, ص157، تهذيب التهذيب ج5، ص85، تذكرة الحفاظ ج 1، ص56. 3 كنيته أبو عمرو, وهو إمام أهل الشام, ولد سنة ثمان وثمانين, كان ثقة مأمونا صدوقا فاضلا خيرا كثير الحديث والعلم والفقه, مات سنة سبع وخمسين ومائة. طبقات ابن سعد ج7، ق7، ص185, وتهذيب التهذيب ج6، ص238، تذكرة الحفاظ ج1، ص178.

مدرسة مصر

6- مدرسة مصر: فتحت مصر في عهد الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه, وكان على رأس الجيش الفاتح الصحابي الجليل عمرو بن العاص1, وكان معه في جيشه عدد

_ 1 ابن وائل السهمي الصحابي الجليل أسلم سنة ثمان, وله جهاده ودهاؤه وبلاؤه في سبيل الله, توفي ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين, له في الصحيحين ستة أحاديث, اتفقا على ثلاثة, وانفرد البخاري بطريق رواه ابن عبد الله, ومسلم بحديثين. الرياض المستطابة ص215- 217, تهذيب التهذيب ج8، ص56-57.

كبير من الصحابة الأجلاء؛ منهم الزبير بن العوام1, وعبادة بن الصامت, ومسلمة بن مخلد2, والمقداد بن الأسود3, كما كان معه ابنه عبد الله أحد المكثرين من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي كان له الفضل الأكبر في تأسيس المدرسة الحديثية بمصر، فقد مكث بها إلى ما بعد وفاة والده, وعنه أخذ كثير من محدثي الديار المصرية. ومن الصحابة الذين نزلوا مصر أيضا؛ عقبة بن خالد الجهني4, الذي

_ 1 ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم, وابن عمته صفية أحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى, أسلم في الثانية عشرة, وقيل في الثامنة من عمره, نزلت الملائكة على سيماه يوم بدر, وجمع له النبي صلى الله عليه وسلم في التفدية أبويه, قتل غيلة سنة ست وثلاثين, وله ست أو سبع وستون سنة. الإصابة ج1، ص545-546. 2 ابن الصامت بن نيار أنصاري خزرجي كنيته أبو سعيد, ولد في عام الهجرة, وكان أمير مصر حين قدمها أبو أيوب ليسأل عقبة بن عامر عن حديث الستر على المسلم, وتوفي بالمدينة سنة اثنين وستين. الإصابة ج3، ص418-419. 3 المقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي, حالف أبوه كنده فنسب إليهم, وحالف المقداد الأسود بن عبد يغوث بمكة, وتبناه الأسود فنسب إليه, أسلم قديما وهاجر الهجرتين, وشهد بدرا والمشاهد بعدها, وكان فارس رسول الله, وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وهو ابن سبعين سنة. الإصابة ج3، ص454-455. 4 ابن عامر الجهني القضاعي كنيته أبو حماد, من فضلاء الصحابة, وهو أمير شريف فصيح مقرئ, وفرضي شاعر, ولي غزو البحر, كان من فضلاء الصحابة ونبلائهم، سكن دمشق, ثم انتقل إلى مصر واليا لمعاوية, ومات بها سنة ثمان وخمسين, أخرج له الشيخان سبعة عشر حديثا, انفرد البخاري بحديث ومسلم بتسعة. الرياض المستطابة ص220-221

رحل إليه أبو أيوب الأنصاري؛ ليأخذ عنه حديث الستر على المسلم, ومنهم خارجة بن زيد1, وعبد الله بن سعد بن أبي السرح2. وفي هذه المدرسة تخرج يزيد ابن أبي حبيب3 الذي كان أستاذ الحديث بالمدرسة المصرية بعد ذلك, والذي كان له أثر جليل في نشر الحديث بمصر, وتخرج على يديه الليث بن سعد4, الذي كان يقرن بكبار الأئمة, وعبد الله

_ 1 ابن ثابت الأنصاري النجاري. كنيته أبو زيد المدني. أحد الفقهاء السبعة، من كبار العلماء إلا أنه قليل الحديث توفي سنة تسع وتسعين وقيل: مائة. تذكرة الحفاظ ج1، ص91-92، طبقات الحفاظ ص35. 2 ابن الحارث بن حبيب مصغر، له مشاركة طيبة في الجهاد, فغزا أفريقية, وكان في جيش ذات العواري والأساود، ولي صعيد مصر, ثم ولي مصر كلها في عهد عثمان، وخرج إلى الرملة, فلما كان عند الصبح, قال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح فتوضأ, ثم صلى فسلم عن يمينه, ثم ذهب يسلم عن يساره, فقبض الله روحه, مات سنة ست وثلاثين. الإصابة ج2، ص316-318. 3 اسمه سويد الأزدي وكنيته أبو رجاء, روى عن سالم ونافع وعكرمة وعطاء, وعنه سليمان التيمي وابن لهيعة والليثي, وهو محدث الديار المصرية, توفي سنة ثمان وعشرين ومائة. تذكرة الحفاظ ج1 ص129، تهذيب التهذيب ج11، ص318. 4 شيخ الديار المصرية وعالمها ورئيسها الأصبهاني المصري, تأسف الشافعي على فواته وقال: إنه أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به, وكان واسع الثراء كثير العطاء مات ليلة الجمعة سنة خمس وسبعين ومائة عن إحدى وثمانين سنة. تذكرة الحفاظ ص224-226.

بن لهيعة1, وعليهما تتلمذ خلق كثير، وكانا في عصرهما محدثي الديار المصرية.

_ 1 إمام كبير؛ قاضي الديار المصرية وعالمها ومحدثها, قال أحمد: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه. وقال: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة. وضعفه بعضهم, والأكثر على توثيقه إلا أنهم لا يقبلون تفرده لاحتراق كتبه مات سنة أربع وسبعين ومائة عن ثمان وسبعين سنة. تذكرة الحفاظ ج1، ص237-239.

مدرسة اليمن

7- مدرسة اليمن: دخل الإسلام اليمن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد الكثير من أهلها إلى المدينة ينشدون الهدى، وينهلون من علم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, وما كان ذلك ليغني عن إرسال أئمة مرشدين يبلغون الدين, ويعلمون أحكامه للمقيمين في أحيائهم. وكان من أوائل الصحابة الذين أوفدوا إلى اليمن الصحابي الجليل معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري1, ونزل غيرهما كثير. وقد خرجت مدرسة اليمن مجموعة من نبهاء التابعين ونجبائهم على رأسهم

_ 1 عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري, واشتهر بكنيته, أسلم بمكة, ثم هاجر إلى الحبشة, ثم إلى المدينة, كان رضي الله عنه قارئا صيتا شجاعا عالما عاملا شديد الوقار والهيبة, ولي اليمن في عهد النبوة, ثم ولاه عمر الكوفة والبصرة, وأجرى الله على يديه فتح الأهواز وأصبهان, توفي بمكة أو الكوفة سنة اثنتين أو أربع وأربعين عن ثلاث وستين, له في الصحيحين ثمانية وستون حديثا, اتفقا على تسعة وأربعين, وانفرد البخاري بأربعة, ومسلم بخمسة عشر. الرياض المستطابة ص188-191.

وهب بن منبه وأخوه همام1 وغيرهما، وتوالت حلقات هذه المدرسة إلى أن جاء معمر بن راشد2, وتلميذه عبد الرزاق بن همام3, ولهما مدوناتهما في الحديث. وقد جنى ثمار مدرسة اليمن, وانتفع بحدائقها الإمام المحدث الفقيه أحمد بن حنبل الشيباني. وهناك مدارس أخرى في المغرب وخراسان. ونستطيع أن نتبين آثار هذه المدارس إذا تصفحنا كتب الصحاح، ورأينا أنهم أقطاب الرواية وأعمدة النقل للحديث النبوي، ولقد ترابطت هذه المدارس في مناهجها وتواثقت فيما بينها على نشر السنة النبوية المطهرة وتبليغها في احتياط وتثبت، ولا يخالنّ أحد أننا نعني بالمدرسة المكان ذا السعة المعينة على نحو ما هو معروف الآن؛ إذ من الغني عن البيان أن

_ 1 ابن كامل بن شيخ اليماني الصنعاني. أكثر روايته عن أبي هريرة وصحيفته عنه مشهورة, وهو أخو وهب توفي سنة اثنتين أو إحدى وثلاثين ومائة، تهذيب التذهيب ج11، ص67. 2 الإمام الحجة أبو عدوة الأزدي مولاهم البصري أحد الأعلام, صنف باليمن وهو أثبت أصحاب الزهري, وما ذكر مع أحد إلا كان فوقه, توفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائة, ولم يبلغ ستين سنة تذكرة الحفاظ ج1، ص190-191. 3 الحافظ الكبير أبو بكر الحميري صاحب المصنف وغيره من التصانيف، قال أحمد: كان عبد الرزاق يحفظ حديث معمر، وهو ثقة، حديثه مخرج في الصحاح, وله ما ينفرد به, نقموا عليه التشيع وما كان يغلو فيه، وكان رحمه الله من أوعية العلم مات في نصف شوال سنة إحدى عشرة ومائتين عن خمس وثمانين سنة. تذكرة الحفاظ ج1، ص364.

المسجد في ذلك الزمان كان يمثل المدرسة والجامعة والمنتدى ومقر القيادة العامة, والبرلمان، والمتعبد. فحينما يطلق لفظ المدرسة يعنى به المنهج الذي انبرى لإيضاحه واستيضاحه أساتذة أجلاء، وتلاميذ نجباء لم تكن الدنيا مقصدهم، ولا تحصيل منصب غايتهم، ولا جمع مال أو بلوغ جاه مبتغاهم، وإنما كان كل مناهم رضا مولاهم، وينشدون هداه, ويهتدون بوهج ثناه، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. وحتى نزداد تبصرا بهم، وتعرفا على مناهجهم نتوقف أمام بعض التابعين مجلين مكبرين، معظمين موقرين، ذوي الفضل منهم, فنتعرف على:

سعيد بن المسيب

1- سعيد بن المسيب: هو أحد كبراء التابعين وأجلائهم أبو محمد سعيد بن المسيب "بكسر الياء المشددة على الأرجح" بن حزن القرشي المخزومي المدني، أبوه وجده صحابيان أسلما يوم الفتح. وقد ولد سيد التابعين سعيد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وأدركه في سن التمييز, فروى عنه سماعا كما سمع من عثمان, وعلي, وزيد بن ثابت, وعائشة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس, وابن عمر، وأبي هريرة, وجل روايته عنه لمكان مصاهرته، فقد كان سعيد زوج ابنته. وقد كان سعيد أحد أعلام الدنيا، غزير العلم, قال فيه ابن عمر: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسره", وقال مكحول بن الفضل

وقتادة بن دعامة, وابن شهاب الزهري: "ما رأينا أعلم من ابن المسيب"، وقال علي بن المديني: "لا أعلم في التابعين أوسع علما منه، وهو عندي أجل التابعين". وكان من أحفظ التابعين لأقضية الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وكان يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء، وكان يقدم على فقهاء عصره. وكان عمر بن عبد العزيز يجله ويحترمه، وقد اشتهر بعبادته وورعه, وعرف بجرأته في الحق, وأبى أن يابيع بعض أولي الأمر، وجلد على ذلك وبقي صامدا ثابت العزيمة، وهكذا ضرب المثل في التمسك بالحق والتجلد على البلاء وحسن الرضا بالقضاء. ولسعيد مكانته الخاصة في الرواية، فأكثر من يردون الحديث المرسل, يقبلون مرسل ابن المسيب، ولعل هذا لعلمهم تثبته وتيقنه، فهو لكبر سنه ولفضله لا يسقط إلا الصحابي، ويأخذ مرسله حكم مرسل الصحابي ولجلالته أجمعوا على إمامته وعلو مكانته وعده رأس المدينة في الفقه والفتوى إلى حد تسميته "فقيه الفقهاء". وأجمع أهل الحديث على ثقته وورعه وضبطه، وشدة حرصه على السنة، ودأبه على العلم والعبادة، حتى إنه كان لا يفارق المسجد من العتمة إلى العتمة، فقد كان تورعه أن رفض العطاء حتى من الأمراء، واكتفى بغلة أربعمائة دينار يتجر بها في الزيت ويقتات من ربحها.

وقد توفي سعيد سنة ثلاث أو أربع وتسعين1.

_ 1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص51-53 وطبقات ابن سعد ج5، ص88-106, وتهذيب التهذيب ج4، ص84, وطبقات الحفاظ ص18.

سالم بن عبد الله

2- سالم بن عبد الله: هو الزاهد ابن الزاهد, الورع ابن الورع؛ أبو عبد الله سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، حاله ينطق لسانك بقوله {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} فسبحان السميع العليم الذي تابع الصلاح في ذرية الفاروق. وسالم إمام زاهد يلبس الثوب بدرهمين، وهو أحد الفقهاء السبعة وأفضل أهل زمانه، وأشبه ولد أبيه به، كان ابن عمر يقبله ويقول: شيخ يقبل شيخا. قال ابن معين: سالم والقاسم حديثهما قريب من السواء، وابن المسيب قريب منهما، وقيل له: فسالم أعلم بابن عمر أو نافع، قال: يقولون: إن نافعا لم يحدث حتى مات سالم. وقال أحمد وابن راهويه: أصح الأسانيد الزهري عن سالم عن أبيه. وقد تلقى سالم علمه بالمدينة فسمع من الصحابة كأبيه وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة، وروى عنه من التابعين؛ عمرو بن دينار، ونافع مولى ابن عمر والزهري وموسى بن عقبة وحميد الطويل وصالح بن كيسان وغيرهم, وروى عنه كثير من أتباع التابعين.

وقد استفاض علمه، وعرفت جلالته، ولرفيع مكانته رحب به الخليفة الأموي سلمان بن عبد الملك, وأجلسه على سريره, قال عنه محمد بن سعد كان سالم كثير الحديث عاليا في الرجال ورعا. وتوفي سالم بالمدينة سنة ست ومائة1.

_ 1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص83, وطبقات ابن سعد ج5، ص144-149, وتهذيب التهذيب ج3، ص436, وطبقات الحفاظ ص33.

سليمان بن يسار

3- سليمان بن يسار: أحد الفقهاء السبعة، سليل بيت علم، فأخوه عطاء بن يسار علم وأحد أوعية العلم، وهو كذلك, كنيته أبو أيوب أو أبو عبد الرحمن أو عبد الله. لقي الكثير من الصحابة، فروى عن عائشة وأبي هريرة وزيد بن ثابت وابن عباس وميمونة وطائفة، وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وسالم أبو النضر ويحيى بن سعيد وصالح بن كيسان وآخرون. وكان من أئمة الاجتهاد، قال الحسن بن محمد الحنفية: هو أفهم عندنا من سعيد بن المسيب، وقيل: كان المستفتي يأتي سعيد بن المسيب فيقول له: عليك بسليمان بن يسار. وقال مالك: كان سليمان من علماء الناس. وقال مصعب بن عثمان: وكان سليمان من أحسن الشباب صورة فدخلت عليه امرأة فراودته فامتنع وهرب منها.

مات سنة أربع وتسعين, وقيل: مائة, وقيل: أربع أو سبع ومائة عن ثلاث وسبعين سنة1.

_ 1 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد ج5، ص144, وتذكرة الحفاظ ج1، ص78-97, وتهذيب التهذيب ج3، ص436, وطبقات الحفاظ ص33.

عبيد الله بن عتبة

4- عبيد الله بن عتبة: الفقيه العلم أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني الضرير أحد الفقهاء السبعة: أخذ عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعدة، وروى عنه عراك بن مالك رفيقه والزهري وصالح بن كيسان وأبو الزناد, وكان عتبة مع إمامته في الفقه والحديث شاعرًا محسنا وهو مؤدب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال الزهري كان عبيد الله من بحور العلم، وقال محمد بن الضحاك: قال مالك: كان ابن شهاب يأتي عبيد الله بن عبد الله, وكان من العلماء, فكان يحدثه ويستقي حوله الماء من البئر، وكان عبد الله يطول الصلاة ولا يعجل عنها لأحد، بلغني أن علي بن الحسين جاءه, وهو يصلي, فجلس ينتظره وطول عليه, فعوتب في ذلك, وقيل: يأتيك ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحبسه هذا الحبس؟ فقال: اللهم غفرا، لا بد لمن طلب هذا الشأن أن يعنى. وقال عبيد الله عن نفسه محدثا بنعمة الله عليه: ما سمعت حديثا قط فأشاء أن أعيه إلا وعيته.

وتوفي عبيد الله سنة ثمان وتسعين على الصحيح1.

_ 1 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد ج5، ص185، وتهذيب التهذيب ج7، ص23, وتذكرة الحفاظ ج1، ص78, وطبقات الحفاظ ص32.

عروة بن الزبير

5- عروة بن الزبير: هو أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام الأزدي عالم المدينة, تابعي جليل مجمع على جلالته وإمامته وكثرة علمه وبراعته، وهو أحد الفقهاء السبعة وهم: عروة, وسعيد بن المسيب, وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وسليمان بن يسار, وخارجة بن زيد بن ثابت، وفي السابع ثلاثة أقوال: أحدها: أبو سلمة بن عبد الرحمن, الثاني: سالم بن عبد الله بن عمر, الثالث: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, وعلى القول الأخير جمعهم الشاعر: ألا إن من لا يقتدي بأئمة ... فقسمته ضيزى من الحق خارجة فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سلمان خارجة وأم عروة أسماء بنت الصديق, وقد جمع الشرف من وجوه؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم صهره, وأبو بكر جده, والزبير والده, وأسماء أمه, وعائشة خالته, كذا قال العيني. وقال الزهري: رأيته بحرا لا ينزف, وكان يتألف الناس على حديثه، وقال هشام بن عروة: ما حفظت من أبي جزءا من ألف جزء من حديثه،

وكان أبي يصوم الدهر ومات صائما، وقال ابن شوذب: كان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصفح ويقوم به في الليل, فما تركه إلا ليلة قطعت رجله, وقع فيها الأكلة فنشرها, وقال ابن عيينة: إن أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: القاسم بن محمد، وعروة، وعمرة بنت عبد الرحمن، وقد اعتزل الفتن ولم يشارك فيها رغم قربه من أخيه عبد الله. قال ابن سعد: كان عرورة ثقة كثير الحديث، فقيها مأمونا عالما ثبتا. وإلى جانب حفظه للحديث الشريف كان عالما بالسيرة. وتوفي سنة أربع وتسعين على الأرجح من نيف وسبعين سنة1.

_ 1 راجع ترجمته في طبقات ابن سعد ج5، ص132, وتذكرة الحفاظ ج1، ص62, وعمدة القاري ج1 ص37-38, وتهذيب التهذيب ج7، ص180, وطبقات الحفاظ ص23.

القاسم

6- القاسم: هو أحد أوعية العلم عامة، وعلم عمته عائشة خاصة، وأحد الفقهاء السبعة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. سمع عمته عائشة وابن عباس ومعاوية وفاطمة بنت قيس وابن عمر وطائفة، وروى عنه ابنه عبد الرحمن والزهري وابن المنكدر وابن عون وربيعة الرأي وأفلح بن حميد وحنظلة بن أبي سفيان وأيوب السختياني وخلق. وقد قتل محمد بن أبي بكر والقاسم صغير فتربى في حجر عمته عائشة وتفقه بها

واشتهر فقهه وورعه مما جعل الألسنة تلهج بالثناء عليه من ذلك قول يحيى بن سعيد الأنصاري: ما أدركَنا أحدٌ بالمدينة نفضله على القاسم. وقال أبو الزناد: ما رأيت فقيها أعلم من القاسم، وما رأيت أحدا أعلم بالسنة منه، وقال ابن عيينة: كان القاسم أعلم أهل زمانه. وقال ابن سعد: كان القاسم إماما فقيها ثقة رفيعا ورعا كثير الحديث, وقال أبو أيوب السختياني: ما رأيت رجلا أفضل من القاسم، لقد ترك مائة ألف وهي له حلال. وقال عمر بن عبد العزيز: ولو كان لي من الأمر شيء لاستخلفت أعيمش بني تميم يعني القاسم. مات سنة إحدى ومائة أو اثنتين أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع أو اثنتي عشرة أو سبع عشرة ومائة1.

_ 1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص96, وطبقات ابن سعد ج5، ص139, وتهذيب التهذيب ج7، ص333, وطبقات الحفاظ ص38.

ابن شهاب الزهري

7 - ابن شهاب الزهري: من أعلام التابعين أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن الحارث يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده لأمه زهرة بن كلاب. ولد ابن شهاب سنة خمسين في خلافة معاوية على الأرجح، وروي أنه وفد على مروان بن الحكم سنة أربع وستين, وهو غلام محتلم. وقيل: إنه حفظ القرآن في ثمانين يوما مما يدل على رجاحة عقله وتوقد

ذكائه، وقد طلب الحديث في آخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم, فلقي أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وغيرهم. كما أخذ عن كبار التابعين؛ كسعيد بن المسيب الذي يقول عنه: "مست ركبتي ركبة سعيد ثماني سنوات", ولزم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وخدمه, وأكثر رواياته في الصحيحين عنه. وعرف ابن شهاب بالجرأة في طلب العلم وشدة الحرص عليه, واستعان على حفظه بالكتابة، واشتهر الزهري بذاكرته القوية وسرعة حفظه، وكان يقول: ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته، وقال: ما استعدت حديثا إلا مرة فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت. وعن غزارة علم الزهري وتبحره في المعرفة حدث ولا حرج، وما أكثر الذين أثنوا عليه ووصفوه بأنه لا يوجد أعلم منه بسنة ماضية. وعظم قدره عند الناس فصار عالم الشام، بل ومحط أنظار أهل الإسلام؛ لسمو مكانته وعلو منزلته, ولاه يزيد بن عبد الملك القضاء واختاره هشام لتأديب أولاده، وتعددت معارفه, فبالإضافة إلى طول باعه في الحديث نبغ في الفقه وفي السيرة, ويقال: إنه أول من صنف فيها، وعرف الشعر وأنساب العرب وأيامهم, وما تكلم في شيء إلا قيل: إنه انفرد به، وتفرد بسنن لولاه لضاعت حتى قال مسلم بن الحجاج: "وللزهري نحو من تسعين حديثا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد بأسانيد جياد". وكان كثير الاهتمام بإسناد الحديث، ويرى أن الحديث بغير إسناد

كالدابة بغير زمام، وتعتبر أسانيد، أحسن الأسانيد، قال الإمام أحمد: "الزهري أحسن الناس حدثيا وأجود الناس إسنادا". وعن الزهري أخذ خلق كثيرون من أشهرهم الإمام مالك ابن جريج وصالح بن كيسان غيرهم. وتوفي ابن شهاب ليلة الثلاثاء السابعة عشر أو التاسعة عشر من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة, وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق حتى يدعو له المارون. ومع كثرة المادحين للزهري وجدنا هناك معرضين من أهل البدع والأهواء أو من الأعداء الألداء لهذا الدين، الذين يتخذون ممن كان عل شاكلة الزهري من أعلام الإسلامي هدفا للطعن والتشكيك. ولقد نال الزهري مثل ما نال أبا هريرة رضي الله عنهما، فمن الأباطيل التي ترددت حول ابن شهاب ما ذكره اليعقوبي المؤرخ الشيعي من المعرف المتوفى سنة اثنتين وتسعين حيث قال: "ومنع عبد الملك أهل الشام الحج، وذلك أن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة, حتى رأى عبد الملك منعهم من الخروج إلى مكة, فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض من الله علينا، فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله قال: $"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس"، وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام, وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله وضع قدمه عليها لما صعد إلى السماء تقوم لكم مقام الكعبة فبنى على الصخرة قبة وعلق عليها ستور الديباج

وأقام لها سدنة وأخذ الناس بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة وأقام بذلك أيام بني أمية"1. وتبنى هذا الرأي المستشرق: جولدتسيهر وشنع به وشايعه بعض علماء المسلمين كالأستاذ علي عبد القادر، وجولدتسيهر يتهم الزهري بوضع الأحاديث مستندا إلى غير مستند، فما ذكره اليعقوبي غير موجود في أي مصدر تاريخي آخر. وبعرض افتراءات اليعقوبي ومشايعة جولدتسهير على المقاييس العقلية السليمة ومقتضيات المنطق يتضح ما يلي: 1- أن يمنع عبد الملك أهل الشام من الحج غير معقول؛ لأن الحج فريضة على كل مسلم قادر، فكيف يعطل عبد الملك شعائر الله ويمنع إقامتها؟ وقد عرف بالعبادة والصلاح حتى عد من فقهاء المدينة، ولا يعقل أن يمنع عبد الملك أهل الشام من الحج, وفيهم أئمة التابعين ويسكتون عليه, فلا ينكرون عليه أو يشقون عصا الطاعة. 2- لم تذكر المصادر التاريخية المعتمدة أن عبد الملك هو الذي بنى قبة الصخرة بل ذكرت أنه الوليد بن عبد الملك الذي أغرم ببناء المساجد، وأولع بزخرفتها، على فرض تسليم أن عبد الملك, وهو الذي بنى قبة الصخرة،

_ 1 السنة قبل التدوين ص502-503.

فقصارى هذا أن يكون مزيد اعتناء منه ببيت المقدس ومبالغة في إظهار فضله الثابت عند المسلمين ولو كان مقصوده صرف قلوب الناس إليه وجعله بديل المسجد الحرام لكان هذا في مقدمة الطعن التي أخذها أعداء عبد الملك عليه؛ بل ولكان هذا فيه كفر صراح، وتغيير لشريعة الله، وهذا أشهر من أن يخفى، وعبد الملك أجل من أن يقع منه هذا. ومما يؤكد لنا أنه لم يحمل أحدا على الحج إلى بيت المقدس، بل كان عمله مجرد احترام لذلك المسجد ما قام به بعد انتصاره على ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين حين أمر بإعادة بناء الكعبة كما كانت عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, وإزالة ما أدخل ابن الزبير في بنائها سنة أربع وستين, فمن الواجب أن يفرق بين اعتنائه بالمسجد الأقصى وجعله محجا للمسلمين. 3- إذا انتفى عن عبد الملك أنه منع الناس من الحج إلى بيت الله الحرام وحمله إياهم على قصد بيت المقدس، فانتفاء تهمة الوضع عن الزهري أظهر وبراءة ساحته من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهر، وجرأة الزهري على الأمراء هي الثابتة، وشجاعته في الحق وموالاته له محققة، فقد كان من الذين لا يخافون إلا الله ولا يخشون أحدا سواه، ولا يقيمون وزنا للوم اللائمين ما دام الحق معه، أو هو مع الحق يتابعه ويشايعه. وعلى حساب من يلاين ابن شهاب أو يداهن؟ أعلى حساب دينه، وقد ذكر ابن عساكر قصة فحواها أن سليمان بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك فسأله هشام عن الذي تولى كبره منهم؟ فأجاب سليمان بأنه: عبد الله بن أبي فقال له هشام كذبت، هو: علي بن أبي طالب، فقال له

سليمان: أمير المؤمين أعلم بما يقول، فلما دخل ابن شهاب وسأله عما سأل عنه سليمان فأجاب بما أجاب، قال له هشام: كذبت الذي تولى كبره منهم هو علي بن أبي طالب، عند ذلك قال الزهري: أنا أكذب لا أبا لك والله لو نادى مناد أن الكذب مباح ما كذبت، ثم ساق رواية تثبت أن الذي تولى كبره هو ابن أبي. ما كان لابن شهاب أن يصانع، وكذب من رماه بالوضع، فلو وضع حديثا واحدا لضاع رأسماله من الثقة التامة التي أولاه إياها العامة، ومتى أتيح له أن يضع وأن يكذب لصالح الأمويين وصد ابن الزبير؟ إن التاريخ نفسه يحيل هذا ويكذب قائله، فابن شهاب ولد سنة خمسين، والخلاف بين عبد الملك وابن الزبير كان بين سنتي خمس وستين واثنتين وسبعين في بداية طلب ابن شهاب وحظه من الشهرة غير كبير، والثابت أنه لقي عبد الملك سنة اثنتين وثمانين بعد حسم الخلاف باستشهاد بن الزبير بتسع سنين. فما فائدة الوضع في هذا الحين؟ كبرت كلمة تخرج من فم اليعقوبي وجولدتسيهر أن يقولان إلا كذبا، وإن ادعاءهما على الزهري واتهامه بوضع الحديث وتعليل ذلك بأنه كان صديق عبد الملك بن مروان ليس إلا محض افتراء، لأنه يصغر عبد الملك بأربعة وعشرين عاما، ولما قدم دمشق أدخله قبيسة بن أبي ذؤيب على عبد الملك الذي ذكره بأن أباه اشترك مع ابن الزبير في الثورة عليه، كيف يكون هو صديقا له وأبوه من الثائرين عليه؟ وحديث: "لا تشد الرحال ... " إلى آخره. الذي اتهم الزهري بوضعه حديث صحيح من أعلى درجات الصحيح, حيث اتفق الشيخان على إخراجه، قد صح

مخرجه عندهما من طرق أخرى غير طريق ابن شهاب، كما صح من طريقه، وأخرج الحديث أيضا أصحاب السنن الأربعة، والإمام أحمد في مسنده، والدارمي في سننه. ولم يبق إلا أن يسلم ابن شهاب من كل ما اتهم به, وأن تسلم ساحته، وأن يبرأ جانبه من كل ما ألصق به. إنه إذن الثقة الثبت الحجة الحافظ أعلم التابعين بالسنة الماضية، فرضي الله عنه وأرضاه وأحسن إليه1.

_ 1 أطلنا في ترجمته وكان غيرنا أطول، فقد ترجم له ابن سعد في طبقاته ج2، ق2، ص135-136, والذهبي في التذكرة ج1، ص108-113, وابن كثير في البداية والنهاية ج9، ص383-392, وابن حجر في تهذيب التهذيب ج8، ص445-451 وابن خلكان في وفيات الأعيان ج4، ص177-179, وابن الجوزي في صفة الصفوة ج2، ص136-139, وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج8، ص71-74, والسيوطي في طبقات الحفاظ ص42, والدكتور السباعي في السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص206-226, والدكتور محمد عجاج الخطيب في السنة قبل التدوين ص489-513, وغيرهم كثير.

نافع مولى ابن عمر

8- نافع مولى ابن عمر: هو أبو عبد الله العدوي المدني مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أحد أعلام التابعين. قيل: أصله من المغرب، وقيل: من الديلم شمال العراق، أسر في أحد الحروب بين المسلمين والفرس فكان من نصيب عبد الله بن عمر، فلزمه ما يقرب من ثلاثين سنة، تعلم خلالها القرآن والسنة.

وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ورافع بن خديج وعائشة وأم سلمة، وعبد الله وعبيد الله وسالم وزيد أولاد عبد الله بن عمر وغيرهم. وروي عن نافع من التابعين الزهري وابن كيسان وحميد الطويل وغيرهم. كما أخذ عنه من أتباع التابعين الأوزاعي وابن جريج والليث بن سعد ومالك بن أنس. ورواية مالك عن نافع تكتسب أهمية خاصة حيث عرفت بسلسلة الذهب فأصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. وكان نافع ثقة ضابط صحيح الرواية لا يعرف له خطأ في جميع ما رواه، كثير الحديث، قال عنه عبد الله بن عمر: "لقد من الله علينا بنافع" وقال عنه مالك بن أنس: "كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من غيره". وبلغ من منزلته في الحديث أن اختاره عمر بن عبد العزيز معلما لأهل مصر يعلمهم السنن، ويبصرهم بدينهم. وتوفي نافع رضي الله عنه بالمدينة سنة سبعة عشرة ومائة على الراجح في تحديد سنة وفاته1.

_ 1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ ج1، ص99, وتهذيب التهذيب ج1، ص412, وطبقات الحفاظ ص40.

هذه أمثلة رائدة، ونماذج رائعة لجموع التابعين الجامعة التي كانت الأكثر والأغلب والتي استطاعت أن تحتوي محاولات القلة القليلة الضئيلة من ذوي البدع والأهواء الذين كانوا يمثلون نقطة في بحر لا تعكره الدلاء، فلا سبيل إلى تشكيك في السنة الغراء في جهة أنها تعرضت في مهدها لبعض العواصف، ولا سبيل في صحة هذا الادعاء المغرض الذي يريد النيل من الدين لأن الله تكفل بحفظ كتابه واقتضى حفظ الكتاب حفظ البيان والتفسير له، وكان الحفظ بواسطة الصحابة الكرام ثم تابعيهم، وتابعي تابعيهم بإحسان، وتوالت الجهود وتتابعت خدمة الحديث إلى أن بلغت تمام نضجها في آخر القرن الهجري الأول لتمثل فاتحة القرن الهجري الثاني مرحلة جديدة جديرة بالدراسة.

المبحث الرابع: مناهج المحدثين في القرن الهجري الثاني

المبحث الرابع: مناهج المحدثين في القرن الهجري الثاني مدخل ... المبحث الرابع: مناهج المحدثين: في القرن الهجري الثاني كان ولا بد وأن تثمر تلك الجهود الضخمة التي بذلت إبان القرن الأول أينع الثمار, وأن تؤتي أكلها ضعفين بإذن ربها, ثم بإخلاص باذليها، فما إن بدت أضواء القرن الثاني تلوح حتى كان الحديث والمحدثون في طور جديد, وشهدت فاتحة القرن الهجري الثاني نهضة كبيرة على طريق تدوين الحديث, وشيوع التصنيف فيه, فيأمر عمر بن عبد العزيز دون أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم1, وابن شهاب الزهري وغيرهما. الحديث ونسخت النسخ مما دون, ووزعت على الأمصار لتكون للناس موئلا ومرجعًا وفي التأريخ لهذا العمل العمري المبارك والتعليل له يروي البخاري في كتاب العلم باب كيف يقبض العلم. "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه: "فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء

_ 1 هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري نسب إلى جد أبيه ولجده عمرو صحبة, ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة قضائها، ولهذا كتب إليه, ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر, وقيل كنيته أبو عبد الملك واسمه أبو بكر, وقيل اسمه كنيته. فتح الباري ج1، ص204.

ولا يقبل إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وليفشوا العلم وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم, فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"1. وكأننا بالورع الزاهد العالم العابد الخليفة الراشد, وهو يضع معالم مناهج المحدثين فهو ينبه على ضرورة استقلال الحديث وتخليص الألفاظ النبوية من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم على المحدثين أن يحضروا مجالس التحديث, فلا يتكلوا على الكتابة والتدوين، فلا بد من المشافهة, ويتحتم تضافر كل الجهود حتى لا يندرس العلم ويفشو الجهل. ومما ينبغي التنبه له أن هذا التدوين هو الذي اشتهر وانتشر وذاع وشاع, وملأ البقاع, لا لأنه كان جديدا في زمانه, فقد سبقته محاولات كثيرة ترجع إلى عصر النبوة كما سبق أن ألمحنا، وإنما لأسباب أخرى ستسفر عن نفسها قريبا, وليس صحيحا ما ذهب إليه صاحب مجلة المنار الأستاذ محمد رشيد رضا من أن أول من دون الحديث خالد بن معدان؛ لذا تأباه النصوص الصحيحة والصريحة في إفادة أن هناك صحفا كانت لبعض الصحابة كصحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وقد مر بك خبرها آنفا كالصادقة لعبد الله بن عمر وغيرها كثير. وليس صحيحا تأويله لأحاديث الإذن في الكتابة للحديث, ولا ادعاؤه أن أحاديث النهي عن الكتابة ناسخة لأحاديث الإذن فيها.

_ 1 صحيح البخاري بهامش فتح الباري ج1، ص204-205.

ولا يقبل أيضا جمع صاحب المنار بين أحاديث النهي والإذن بما لا يصلح, ولا ادعاؤه بأن الصحابة لم يدونوا الأحاديث؛ لأنهم لم يتخذوها دينا عاما دائما كالقرآن1. ولا ندري كيف لم يتخذ الصحابة الأحاديث دينا, فأي شيء اتخذوه دينا إذن؟ القرآن: وهو لا سبيل لفهمه, ولا الوقوف على أسراره واستنباط أحكامه ووجوه هدايته إلا بالوقوف على السنة. وقد أسفر القرآن عن هذه الحقيقة, وأبانها إسفار الصبح وبيانه, وعلم الصحابة ذلك علم اليقين, وقد ذكرنا دقة فهمهم لهذه المعاني وروعة استنباطهم للحكم الذي لم ينص القرآن عليه مع ذلك أخذه منه من خلال أمره بأخذ ما آتانا الرسول صلى الله عليه وسلم, وترك ما نهانا عنه والأمر بالاقتداء بالصحابة, ونقل فعلهم على أنه من القرآن. الحق الثابت الذي لا تردد فيه هو أن تدوين الحديث وكتابته يرجع إلى عصر مبكر ربما إلى عصر النبوة, أو بعده مباشرة, وأما ما كان في فاتحة القرن الهجري الثاني على أيدي النبهاء كابن حزم وابن شهاب من اشتهار التدوين وانتشاره فإنه يرجع إلى ما يأتي:

_ 1 انظر ما كتبه المغفور له الأستاذ الدكتور/ محمد محمد أبو زهو في هذا الموضوع في: "الحديث والمحدثون" ص220-236. وقد أوجزنا القول فيه هنا للتعرض إلى تقريره في ثنايا الموضوعات.

1- اتخاذ التدوين طابعا رسميا فقد كان بأمر الخليفة وتنفيذًا لرغبته. 2- ظهور الوضع والوضاعين, ذلك أن أعداء الدين أحكموا كيدهم المتين, وأوردوا طعن الإسلام من الخلف بعد أن عجروا عن النيل منه, وضعفوا عن مواجهته، كفاحا فلبسوا مسوحه وتزيوا بمظهره, وانطوت قلوبهم على حقد دفين فراحوا يؤججون نار الفتنة ويسعرون أوارها, ويلهبون الخلافات ويغذونها ببذور الشقاق والفرقة, وظنوا أن في السنة مرتعا خصبا يتخذون منه هدفا لسهامهم المسمومة, فراحوا يدسون ويكذبون كل ذي رأي يدعي أنه على الحق ويلتمس دليلا لمدعاه وهيهات أن يجد في كتاب الله ما يوافق هواه, لكن ماذا عساه أن يفعل أكثر من أن يقول في القرآن بغير علم, ويأوله على وفق متمناه, ويعجز عن أن ينقص أو يزيد فيه. أما السنة فبحارها تتلاطم أمواجا, والناس يدخلون فيها أفواجا, ويسلكون إليها سبلا فجاجا مما يزين لأصحاب العقول الضيقة أنه بوسعهم أن يختلقوا وأن يأفكوا من غير أن يتنبه أحد لإفكهم واختلاقهم, لكن الله عز وجل هيأ للسنة رجالا أكفاء يذودون عنها كل خطر ويدفعون كل شعر ويذبون كذب الكاذبين. 3- تفرق الصحابة ومن بعدهم التابعون, وتوزعوا على الأمصار كل يحدث بما سمع ويبلغ ما وعى, مما دعت الحاجة معه إلى جمع ما تفرق, وتأليف ما توزع. 4- اتساع رقعة الدولة بعد الفتوحات الإسلامية العظيمة وانشغال

الناس بالدنيا وانغماس الكثيرين في طلب تحصيلها أدى ذلك إلى ضعف ملكة الحفظ شيئا ما, وجد مسيس الحاجة إلى تدوين الحديث مخافة أن يضيع. كل ذلك، وأكثر منه كان وراء نشاط حركة الجمع والتصفيف تلك الحركة التي لم تنشأ من فراغ, وإنما اعتمدت على زاد ضخم وحصاد عظيم كان ثمرة جهد وكد السابقين الذين ذهب بعضهم قبل بدء القرن الثاني, وبقي تراثهم يواصل إحياء ذكرهم. وهناك كثيرون ممن كانت لهم اليد الطولى في حفظ السنة في القرن الأول واصلوا جهدهم في القرن الثاني, ولم يسلموا الراية إلا عند إسلام أرواحهم إلى بارئها، ولم يسلموها إلا لمن يجهد حملها والذود عنها. والناظر إلى القرن الهجري الثاني يبهره صنيع المحدثين فيه, ويهوله ذلك الجهد المضني الذي بذل بسخاء خدمة السنة النبوية المطهرة. وتلمع نجوم حديثية في هذا القرن, وتسطع أضواؤها فتلمع من عمالقة الحديث في هذا القرن الأئمة الأربعة, وإن كان رابعهم عاش أكثر من نصف عمره في القرن الثالث ونلمح سفيان بن عيينة المولود سنة سبع ومائة, والمتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة, ونلمح ابن إسحاق وموسى بن عقبة وشعبة والثوري؛ كلهم جدير بلقب "أمير المؤمنين بالحديث", والذي يطالع كتب الصحاح يدرك ما لهؤلاء من أثر. وتنوعت طرق التحديث عن هؤلاء فمنهم من اكتفى بتصدر مجالس

التحديث يروي للناس السنن كالسفيانين، ومنهم من يتكلم في الرواية, وما يتصل بها من أحكام الدراية كشعبة بن الحجاج، ومنهم من جمع إلى التحديث والتصنيف. وتعددت مناحيهم في التصنيف, فمنهم من اعتنى بالمباحث الفقهية, وركز كل اهتمامه على الأحكام وجمع من الرواية اجتهاد بعض الأئمة، ومع ذلك كله اعتبر صنيعه توطئة للحديث, وتمهيدًا للدخول فيه, فسمي "موطأ", ومنهم من نظر إلى السنة خلال أخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة, فعني بجمع مرويات الصحابي وسماها مسندا, وأضافها إلى الصحابي, ولم يراع في ترتيبها إلا من مرويات تلك الصحابي الذي يعنى بجميع منقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يرتب الصحابة إما على السبق للإسلام, وإما على مراتبهم ودرجات تفضيلهم ككون الواحد منهم من العشرة المبشرين بالجنة, أو ممن شهد بدرًا, أو بيعة الرضوان إما أن يراعى في الترتيب حرف المعجم، وعرفت هذه الطريقة بالمسانيد. وكما اشتهر في الكتب المرتبة على الأبواب "موطأ مالك" و"موطأ بن أبي ذئب", اشتهر أيضا في الكتب المرتبة على المسانيد "مسند أبي داود الطيالسي" و"مسند ابن أبي شيبة", وكان أجمع المسانيد وأنفعها "مسند الإمام" "أحمد ابن حنبل". وهناك من رتب تصنيفه على الأطراف بأن ذكر طرف الحديث فقط

اعتمادًا على الذاكرة، من هؤلاء "عبد بن حميد العبدي" كتب أطراف الحديث عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتعددت الأسماء اللامعة في التصنيف, ولا يكاد يخلو بلد من علم من أعلام الحديث المحدثين، وقد اتسمت مصنفات هذا القرن بالسمات الآتية: 1- الذين صنفوا على الأبواب جمعوا حديث كل باب على حدة, ثم أدرجوا الأبواب تحت الكتب فنرى أحاديث الصلاة موزعة على أبوابها, مجموعة تحت كتاب الصلاة وكذا الزكاة. 2- يلاحظ أن مصنفي هذا القرن لم يقتصروا في مصنفاتهم على الصحيح فحسب, بل وجد في كتبهم الصحيح والضعيف لكنهم تجنبوا الموضوع. 3- عني هؤلاء بجمع طرق الحديث الواحد, وسوقه من عدة روايات؛ ولهذا أهميته القصوى عند جهابذة الحديث والعارفين بمواطن النقد والتمحيص. 4- مزج مصنفو هذا العصر الأحاديث النبوية بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين, وفي العقدين الأخيرين من هذا القرن رأى بعض أهل الحديث أن يفسروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مؤلفات خاصة. ونختار بعض أعلام المحدثين في القرن الثاني؛ لنتعرف عليهم وعلى مناهجم:

أبو حنيفة

1- أبو حنيفة: اسمه ونسبه ومكانته: إنه الإمام الأعظم, فقيه أهل العراق, أقدم الأئمة الأربعة زمانًا, وأكثرهم تابعًا, غلبت كنيته واشتهر بها, واسمه النعمان بن زوطى التيمي, وزوطى جده من أهل كابل كان مملوكا لبني تميم الله بن ثعلبة فأعتق. وولد ثابت في الإسلام ولا صحة لادعاء نصرانيته وتسمية ولده له بذلك, وقد اختلف في سنة مولده على ثلاثة أقوال، قيل: سنة ثلاث وستين وقيل: سنة سبعين, وقيل: سنة ثمانين وأكثرهم على الأخير وقد نفى بعضهم1 الرق عن جد الإمام وأثبت أنه كان أميرا أفغانيا, ولعل من قال برقه وعتقه فهم ذلك من كونه مولى لبني تميم, ولا يبعد أن يكون هذا الولاء ولاء إسلام لا ولاء نسب. وفي الكوفة نشأ الإمام كغيره من الأئمة الأعلام شغوفا بالعلم دءوبا على طلبه, والكوفة يومئذ من حواضر الإسلام تموج بمجالس العلم, وتزخر بأرباب النباهة والفهم, وصدى صوت ابن مسعود وتلاميذه النجباء يجلجل في الأرجاء. لقي الإمام أنسا غير مرة لما قدم عليهم الكوفة, وحدث عن عطاء

_ 1 ذكر محقق المجروحين لابن حبان ما يشير إلى أن جد أبي حنيفة كان أحد أمراء بلاد الأفغان, واختلف أقوال أحفاده في مسألة أسر جده, ثم عتقه, قال أحدهم: "والله ما وقع لنا رق قط". انظر المجروحين ج3، ص63.

ونافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج وعدي بن ثابت وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وقتادة وعمرو بن دينار وأبي إسحاق وخلق كثير. وتفقه به زفر بن الهزيل وداود الطائي، والقاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن وأسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي وأبو مطيع البلخي وغيره. ومن أشهر من تفقه بهم حماد بن سليمان الذي أخذ عن إبراهيم النخعي الذي أخذ عن علقمة بن قيس الذي أخذ عن ابن مسعود. وكان أبو حنيفة إمامًا ورعا عالما عاملا متعبدا كبير الشأن, لا يقبل جوائز السلطان, بل يتجر ويكسب, سئل يزيد بن هارون أيهما أفقه الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال أيضا: إنه آية. فقيل له: آية في الشر أو في الخير؟ فقال: اسكت يا هذا, يقال: غاية في الشر وآية في الخير. قال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال يزيد: ما رأيت أحدا أروع, ولا أعقل من أبي حنيفة, وقال ابن معين: ثقة لا يحدث من الحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظه، وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل زمانه, وما رأيت في الكوفيين أورع منه. واشتهر عنه إحياء الليل, فعن أبي يوسف قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة, فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل, فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعًا.

وقد طلب لمنصب القضاء فأبى, وضربه ابن هبيرة يزيد بن عمر من أجل ذلك مائة جلدة فما لان وما استكان, وظل متعففا يقتات من الرزق الحلال إلى أن وافاه الأجل سنة خمسين ومائة. ورغم كثرة مادحيه وجد له خصوم قادحون فيه ما سلم منهم في حياته, ولا كف أذاهم عنه بعد مماته؛ اتهموه بأنه قدري تارة, ومرجئ تارة أخرى, ونسبوه إلى الرأي وجردوه له، فهو لا يأخذ إلا به وبالقياس المتفرع عنه, ويهمل الحديث ويعمل العقل، وراح الخطيب ومن قبله ابن حبان يطيلان في ذكر مثالبه ونقض وهدم مناقبه. وقد استحق الخطيب كما استحق غيره شدة التأنيب على ذكر الروايات التي تغض من قدر الإمام، ولا أدل على ضعفها, بل واختلاقها من نسبتها إلى الأئمة الذين نقل عنهم في الأصح والأرجح مدح الإمام ووصفه بما يستحقه، كمالك والشافعي وأحمد وابن معين وابن المبارك والسفيانين والأوزاعي, الذي قيل1: إنه كان يسيء الظن بأبي حنيفة حين بدأ يشتهر أمره, ولم يكن قد اجتمع به بعد حتى قال مرة لعبد الله بن المبارك: من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة، ويكنى أبا حنيفة؟ فلم يجبه ابن المبارك، بل أخذ يذكر مسائل عويصة وطرق فهمها والفتوى فيها, فقال الأوزاعي: من صاحب هذه الفتاوى؟ فقال: شيخ لقيته بالعراق، فقال الأوزاعي: هذا نبل من المشايخ، اذهب فاستكثر منه، قال ابن المبارك: هذا أبو حنيفة.

_ 1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلام ص408.

ثم اجتمع الأوزاعي وأبو حنيفة بمكة, فتذاكرا المسائل التي ذكرها ابن المبارك فكشفها، فلما افترقا: قال الأوزاعي لابن المبارك، غبطت الرجل بكثرة علمه ووفور عقله وأستغفر الله تعالى، لقد كنت في غلط ظاهر, الزم الرجل, فإنه بخلاف ما بلغني عنه. وقد كانت الأصول التي اعتمد عليها الإمام في استنباط الأحكام, تتمثل في الكتاب: يأخذ به، فإن لم يجد, أخذ بالسنة, فإن لم يجد, أخذ بأقوال الصحابة متخيرا منها, فإن لم يجد اجتهد رأيه فقاس أو استحسن. وليس هناك تباين بين هذه الأصول, وبين ما جرى عليه بقية الأئمة المجتهدين, وكان بعض حق الإمام أن يجري ذكره عبقا عطرا على مر الزمان يلهج بالثناء عليه كل لسان, ويتضوع أريج ذكراه في كل مكان, ولكن كيف وتغاير العلماء وتنافر المتعاصرين؟ من هنا أثيرت ضجة كبرى حول الإمام تكيل له الاتهام وترميه بزور الكلام، وكان وراء هذه الضجة الأسباب الآتية: 1- كان أبو حنيفة أول من توسع في استنباط أحكام الفقه من أئمة عصره, وأسبق من فرع الفروع على الأصول, ووضع افتراضات لأمور لم تقع, وإنما قدر احتمال وقوعها وضرورة الاستعداد لها. وكان أكثرهم يكرهون ذلك. نقلوا عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن مسألة, يقول: هل وقعت؟ فإن قالوا: لا, قال: ذروها حتى تقع

أما أبو حنيفة فكان المجتهد الذي يمهد الفقه للناس ولأصل المسائل ويستعد للبلاء قبل قوعه. 2- عرف عن أبي حنيفة تشدده في قبول الأخبار, واشتراطه شروطا أصعب مما اشترط المحدثون مما جعله يضعف أحاديث يقبلها أكثرهم، وقد حداه إلى ذلك انتشار الوضع في الحديث سيما وكان العراق بلد الشقاق يفور بقيادات فكرية متنافرة وخلافات مذهبية متناحرة, فهو مرتع خصب للإفك والكذب فعنَّ للإمام أن يبالغ في التثبت والاحتياط. 3- وعلى العكس من ذلك كان يحتج بالمرسل إذا كان الذي أرسله ثقة خلافا لما ذهب إليه جمهور المحدثين، مما جعله يستل بأحاديث هي عندهم ضعيفة لا يحتج بها. 4- ونتيجة لتضييق أبي حنيفة من دائرة العمل بالحديث في الحدود التي رسمها واطمأن إليها، واضطر إلى القياس وإعمال الرأي. وقد آتاه الله فيه موهبة عجيبة فذة لا مثيل لها، ولا ريب أن استعماله القياس إلى مدى واسع باعد الشقة بينه وبين أهل الحديث، كما بالمدينة, وبين بعض الفقهاء الذين لا يستعملون القياس إلا في نطاق ضيق. 5- كان أبو حنيفة دقيق المسلك في الاستنباط دقة عجيبة بعيدة المدى, قادرا على تقلب وجوه الرأي في كل مسألة لدرجة تذهل وتدهش. "أخرج ابن أبي العوام بسنده إلى محمد بن الحسن قال: كان أبو حنيفة قد حمل إلى بغداد, فاجتمع أصحابه وفيهم أبو يوسف وزفر وأسد بن عمرو

وعامة الفقهاء المتقدمين من أصحابه فعملوا مسألة أيدوها بالحجاج وتفوقوا في تقديمها وقالوا: نسأل أبا حنيفة أول ما يقدم، فلما قدم أبو حنيفة كان أول مسألة سئل عنا تلك المسألة، فأجابهم بغير ما عندهم فصاحوا من نواحي الحلقة: يا أبا حنيفة بلدتك الغربة، فقال لهم: رفقا رفقا ماذا تقولون؟ قالوا: ليس هكذا القول، قال: عال, أبحجة أم بغير حجة؟ قالوا: بحجة، قال: هاتوا، فناظرهم فغلبهم بالحجاج حتى ردهم إلى قوله، وأذعنهم أن الخطأ منهم، فقال لهم: أعرفتم الآن؟ قالوا: نعم، قال: فما تقولون فيمن يزعم أن قولكم هو الصواب، وأن هذا القول خطأ؟ فقالوا: لا يكون ذاك، قد صح هذا القول، فناظرهم حتى ردهم عن القول، فقالوا: يا أبا حنيفة ظلمتنا والصواب كان معنا، قال: فما تقولون فيمن يزعم أن هذا القول خطأ، والأول خطأ والصواب قول ثالث؟ فقالوا: هذا لا يكون، قال: فاجتمعوا واخترع قولا ثالثا، وناظرهم عليه حتى ردهم إليه فأذعنوا، وقالوا: يا أبا حنيفة علمنا، قال: الصواب هو القول الأول الذي أجبتكم به لعلة كذا وكذا، وهذه المسألة لا تخرج من هذه الثلاثة الأنحاء، ولكل منها وجه في الفقه ومذهب، وهذا الصواب فخذوه وارفضوا ما سواه"1. ليس يرتبا عاقل في أن من أوتي القدرة العجيبة على تقليب وجه الرأي في المسألة الواحدة والاستعداد للدفاع عن كل رأي محتمل، رجل كهذا أوتي براعة كتلك في استطاعته كما يقول مالك وقد سئل:

_ 1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص405-406.

"هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم: رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته"1. 6- بلغ أبو حنيفة منزلة الإمام الأعظم, وكان الكثير من أهل عصره يجلونه ويكبرونه, مما أوغر عليه بعض الصدور, وهيج عليه بعض المشاعر. فالنفوس البشرية ليست معصومة من الغيرة, وحين يشتد التنافس لا عاصم من الزلل في القول أو الفعل إلا من رحم الله, فسما بنفسه وترفع بخلقه واستلهم نهج النبيين والصديقين، وقد قالوا: إن المعاصر لا يناصر. وعقد ابن البر بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض، وآخر: في أنه لا يقبل قول بعض إلا ببينة، وذكر فيما ذكر قول ابن عباس: استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض, فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها"2. 7- لقد كان أثر العوامل السابقة مجتمعة أن تناقل الناس أشياء عن أبي حنيفة منها ما لا ظل له من الحق, ومنها ما لم يفهمه الناس على حقيقته من طرائق أبي حنيفة في الاجتهاد، ولقد وصل ذلك إلى أسماع بعض العلماء البعيدين عنه كما بلغهم بعض آرائه التي خالفهم فيها دون أن يعرفوا مبرره في الخلاف مع اقتناعهم بترجيح أدلتهم وموافقة نظرهم للحق، وهنا يعبرون عن معارضتهم بعنف, وربما ينالون من الرجل أو ينتقصونه لعدم تبين الأمر, فإذا عرضوا الحق بدت لهم وجهة نظر الإمام ورأوا ما استند إليه سريعا ما يعدول عن رأيهم فيه فينصفونه بعد أن يروا من دقة رأيه وقوة دينه ما يحمله على الثناء عليه وامتداح رأيه.

_ 1 تاريخ بغداد ج13، ص338. 2 جامع بيان العلم وفضله ج2، ص151, وانظر الكلام في البابين ص150-161.

وما حديث الأوزاعي مع ابن المبارك من الأسماع ببعيد. ما اتهم به الإمام في القديم والحديث من أنه كان قليل البضاعة في الحديث: مناقشة ذلك: يتحامل الخطيب البغدادي على الإمام الأعظم تحاملا عجيبا, فينقل بأسانيد متهافتة عن كثير من الأئمة ما يفيد أنه كان يتيما في الحديث وزمنا فيه, ولم يكن صاحب حديث, ولا يمثل أي شيء فيه حتى يسأل عنه, وليس له رأي ولا حديث, وأن جميع ما روي عنه مائة وخمسون حديثا، أخطأ في نصفها, وأن عبد الرزاق لم يكتب عن أبي حنيفة إلا ليكثر به رجاله. إلى غير ذلك من متناقض الروايات التي بثها الخطيب في ترجمته المطولة التي خصص نصفها تقريبا لما للإمام من مناقب ونصفها الآخر لما ألصق به من المثالب. وإنك لترى من أغرب الغرائب أن ينقل إمام, نقاد بصير صيرفي في الحديث وبالرواية خبير كالخطيب روايات متناقضة عن الأئمة, فهو ينقل عن الإمام الواحد المدح والقدح, فكيف السبيل إلى قبول ذلك؟ ومن قبل الخطيب ومن بعده تحامل كثيرون على شيخ الفقهاء, فها هو ذا ابن حبان يذكره بين المجروحين, ويتحامل عليه إلى حد أن محقق الكتاب جرد قلمه ليبرر صنيع أبي حاتم, وإنما ليرد عليه, فهو يقول بعد تصوير تحامل ابن حبان وتصنيفه كتابين في التهجم عليه, ورد ما قيل في مناقب أبي حنيفة بزعم أنه له عللا.

ورد رأيه أيضا بادعاء إبطال مستنده, يقول محقق كتاب المجروحين: "وليس ابن حبان أول محدث حمل على أبي حنيفة هذه الحملة, ولكن الأئمة العدول من المحدثين الذين خبروا الإمام قد أنصفوه ولم يسلموه لأقوال المتحاملين. يقول اللكنوي الهندي بعد أن ذكر فرح الدارقطني في أبي حنيفة. وقوله: إنه ضعيف في الحديث: "فتارة يقول إنه كان مشتغلا بالفقه". انظر بالإنصاف أي قبح فيما قالوا؟ بل الفقيه أولى بأن يؤخذ الحديث عنه. وتارة يقولون: إنه لم يلاق أئمة الحديث، إنما أخذ ما أخذ من حماد, وهذا باطل، فإنه روى عن كثير من الأئمة كالإمام محمد الباقر، والأعمش وغيرهما. مع أن حمادا كان وعاء للعلم فالأخذ منه أغناه عن الأخذ عن غيره, وهذا أيضا آية على ورعه وكمال تقواه, فإنه لم يكثر الأساتذة لئلا تكثر الحقوق فيخاف عجزه عن إيفائها، وتارة يقولون إنه من أصحاب القياس والرأي, وكان لا يعمل بالحديث حتى وضع أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه المصنف بابا للرد عليه, ترجمته "باب الرد على أبي حنيفة". وهذا أيضا من التعصب, كيف وقد قبل المراسيل وقال: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالرأس والعين, وما جاء عن أصحابه فلا أتركه. ولم يخصص بالقياس عام خبر الواحد، فضلا عن عام الكتاب، ولم يعمل بالإحالة والمصالح المرسلة"1.

_ 1 كتبه الأستاذ محمود إبراهيم زايد بهامش المجروحين ج3، ص61-62.

بل وأكثر من ذلك نجده يقدم الحديث الضعيف على القياس والرأي, وعلى ذلك انبنى مذهبه. قال العلامة ابن القيم: "وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله يجمعون على أن مذهب أبي حنيفة: أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي, وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي, وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس, ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعف, وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف, وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك, وترك القياس في مسائل الآبار لآثار فيه غير مرفوعة. فتقدم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد, وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين, بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفًا"1. ويترامى رنين صوت الادعاء بأن الإمام أبو حنيفة كان قليل البضاعة في الحديث, ويتناقل البعض هذه القضية تارة بحسن نية, وأخرى بخبث وسوء طوية, وإن المرء ليبلغ به الاندهاش مداه إزاء هذا الاتجاه الذي يحرص أصحابه على انتقاص قدر الأئمة والنيل منهم. وإمام ينتشر مذهبه ويكثر أتباعه إلى حد عشرات الملايين بل مئاتها, كيف يسوغ اتهامه بقلة البضاعة فيما تنبني عليه استنباطاته وأحكامه؟

_ 1 أعلام الموقعين ج1، ص77.

ولتأكيد معنى الإنكار في هذا الاستفهام نقول: أولا: كان أبو حنيفة إماما مجتهدا بإجماع موافقيه ومخالفيه، من شروط الاجتهاد أن يحيط علما بالأصول التي تنبني عليها الأحكام، ولا يختلف ذي الأفهام في أن الأحاديث هي أهم تلك الأصول، فلا يعقل أن يسلم للإمام اجتهاده إلا وهو ملم بالآلاف من الأحاديث أو على الأقل المئات لا سبعة عشرة حديثا فحسب كما تردد ذلك في بعض الكتب. ثانيا: لو طالعنا مذهب الإمام لوجدناه قد وافق الأحاديث الصحيحة في مئات المسائل: وقد جمع الشارح القاموس المحيط وإحياء علوم الدين السيد مرتضى الزبيدي رحمه الله كتابا جمع فيه الأحاديث من مسانيد الإمام أبي حنيفة, والتي وافقه في روايتها أصحاب الكتب الستة سماه "عقد الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة"، فكيف وافق اجتهاد الإمام مئات الأحاديث الصحيحة، وليس عنده إلا بضعة عشر حديثا، أو خمسون أو مائة وخمسون أخطأ في نصفها! ثالثا: ولقد أفرد ابن أبي شيبة في مصنفه الكبير بابا لما خالف فيه أبو حنيفة ما صح من الأحاديث, فبلغت مائة وخمسة وعشرون مسألة. فلو سلم لابن أبي شيبة جميع ما أخذه عن أبي حنيفة كانت بقية المسائل التي أثرت عنه موافقة للحديث في كل مسألة ورد فيها حديث. وإذا كانت مسائل أبي حنيفة على أقل تقدير ثلاثا وثمانين ألف مسألة. وهناك روايات تبلغ العدد إلى ألف ألف ومائتي ألف. فهل هذا العدد

الضخم الباقي من المسائل التي يعترف ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة لم يخالف فيها السنة جاءت فيها سنة أم لا؟ فإن جاءت فيها أو في بعضها سنة لزم ذلك أن يكون ما عند أبي حنيفة من الحديث مئات وآلاف ولم يجئ في شيء منها سنة، لزم أن يكون ما ورد من السنة لا يزيد على مائة وخمسة وعشرين حديثا فقط, ولا يقول هذا أحد من أئمة المسلمين وأهل العلم بالحديث"1. رابعًا: للإمام أبي حنيفة آراء في كثير من مسائل المصطلح مبثوثة في كتب علم الحديث, فكيف يكون قليل البضاعة في الحديث, ويعتمد كلامه فيه أئمته وحذاقه؟ خامسًا: عد الذهبي الإمام أبا حنيفة من بين الحفاظ وترجم له في تذكرته المخصصة لهم, وأفرد مناقبه بجزء وقد ذكروا أن الإمام أخذ عن أربعة آلاف شيخ, وأن يحيى بن نصر دخل عليه في بيت مملوء كتبا, فقال له: ما هذا؟ فقال: هذه الأحاديث وما حدثت منها إلا اليسير الذي ينتفع به. سادسًا: إذا كان أبو حينفة لم يجلس مجلس التحديث والإملاء, وكشأن أكثر العلماء, ولم يفرد كتابا في الأخبار والروايات كما فعل الإمام مالك, فلا يعني ذلك قلة ما روي عنه من الحديث، إلى هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون, وتلقفه منه بعض المعاصرين كالأستاذ أحمد أمين.

_ 1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص213-214.

إن الأدق والأوفق للحق هو أن ما روي عن الإمام سبعة عشر مسندًا كما ذكر علامة الشام محمد بن يوسف الصالحي, وكما ذكره ابن طولون أيضا. سبعة عشر مسندًا تحتوي على ألوف الأحاديث ويضاف إليها مسند الدارقطني والخطيب وابن شاهين, وهي لهم بأسانيدهم إلى الإمام. فهل بعد ذلك يستقيم الكلام حين يدعي قلة بضاعته في الحديث, أو ندرة ما روي عنه إلى الحد الذي ذكره ابن خلدون الذي نحسن الظن به ونقول: لعل الذي أوقعه في هذا هو أن محمد بن الحسن روى الموطأ عن مالك, وزاد فيه ثلاثة عشر حديثا من روايته عن أبي حنيفة وأربعة أحاديث من روايته عن أبي يوسف, فظن البعض أن زيادات ابن الحسن على الموطأ هي مروياته عن أبي حنيفة. وتنوقل هذا الوهم الذي يأباه الواقع ويرده، وقصارى القول وحماداه أن للإمام أبي حنيفة منزلته في الرواية التي كان يقدمها في الاستدلال على غيرها, ويخطئ من ظن أنه كان يقدم الرأي والقياس عليها, والأخبار المنقولة عنه مجمعة على تكذيب من يدعي أنه يقدم الرأي أو القياس, فهو لا يلجأ إليها إلا حين يعدم النص الصحيح الصريح في حكم النازلة, فحينئذ يقيس مسكوتا عليه على أمر آخر مبين مقول فيه. وأي غضاضة في هذا؟ وماذا يقال في حق ما يقول: "ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس, وما جاء عن الصحابة قبلناه وما جاء عن التابعين زاحمناهم فيه أو: فهم رجال ونحن رجال؛ لأنه كان تابعيا مثلهم, ولقد اتفق المحدثون على رد الحديث المرسل واعتباره من أنواع

الضعيف, ووافقهم الإمام الشافعي والإمام أحمد, أما أبو حنيفة فرأيه قبول المرسل والاستشهاد به اعتزازًا بالحديث واعتدادا به. فكيف يسوغ لمتقول ادعاء رد الإمام للآثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبولها؟ نعم توقف الإمام في قول بعض الآثار شأنه في ذلك شأن الأئمة الذين لا يترجح عندهم مدلول بعض الآثار على مدلول بعضها الآخر, فلا يردونها, وإنما غاية أمرهم التوقف في قبولها, أو في العمل بها. وفي هذا الإطار أخذ بعض المحدثين على أبي حنيفة تركه لبعض الآثار التي صحت عندهم, وعدم أخذه بها كرفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه, وككون المسلم لا يقتل بالكافر. وذكر ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة خالف الحديث في مائة وخمس وعشرين مسألة, فكيف جاز ذلك مع إجماع أهل العلم أنه لا يجوز لمسلم مخالفة حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد أجيب عن ذلك من وجوه منها: 1- تتفاوت الأنظار وتخلتف في الحكم على الحديث تصحيحا أو تضعيفا, وذلك لاختلاف وجهات النظر في حال الرواة, فقد ينظر أبو حنيفة إلى راو فيراه عدلا ثقة أهلا للرواية عنه, ويخالفه غيره في ذلك, وقد كان أبو حنيفة أعرف بشيوخه الذين روى عنهم, وكان العهد بينه وبين الصحابة قريبا, فقد لا يفضله عن الصحابي إلا راو أو راويان فحينئذ يولي ثقته لما يرويه

هو عن شيوخه ولقلة معرفته بشيوخ الشاميين كثيرا ما يتوقف في قبول مروياتهم كما يتوقفون هم في قبول مروياته. 2- قد يرى المجتهد فيما صح عنده, وعند غيره ما يخرجه عن ظاهره إلى وجه آخر لدليل ترجح عنده. وقد يترك العمل بالحديث لاعتقاده, وهم الراوي أو لعلمه بوجود ناسخ له, فيظن مخالفه أنه رد الحديث, ومن ذلك ما كتب به الليث بن سعد إلى مالك عن أنه عد عليه سبعين حديثا ترك العمل بها مع إخراجه لها في الموطأ. 3- لا يستطيع أحد أن ينكر أن أبا حنيفة قد فاته بعض الحديث فمن ذا الذي أحاط بالسنة كلها؟ ولم يغب عليه شيء منها؟ وقد علم أن الصحابة تفرقوا في الأمصار, وبثوا ما معهم من الأخبار, وأخذ كل واحد حظه من العلم بقدر ما يسر له, بل إن الصحابة أنفسهم ما ادعى واحد منهم أنه أحاط بكل شيء في السنة علما, وإنما حفظ بعضهم ما نسيه البعض الآخر, وتساءلوا عما عساه أن يكون قد خفي عليهم. 4- إن لأبي حنيفة شروطا دقيقة في قبول الأخبار حمله عليها نشو الكذب في الحديث في عهده, فأراد أن يحتاط لدين الله عز وجل, فتشدد في قبول الأخبار، ومن شروطه في ذلك: 1- ألا يعارض خبر الآحاد الأصول المجتمعة عنده بعد استقراء موارد الشرع, فإذا خالف تركه عملا بأقوى الدليلين وعد الخبر شاذا.

2- ألا يعارض عمومات الكتاب وظواهره, فإذا عارضها أخذ بظاهر الكتاب وترك الخبر عملا بأقوى الدليل، أما إذا كان بيانا لمجمل أو نصا لحكم جديد فيأخذ به. 3- ألا يخالف السنة المشهورة, سواء أكانت قولية أو فعلية عملا بأقوى الدليلين. 4- ألا يعارض خبرا مثله, فإذا عارض رجح أحدهما بوجوه من الترجيح كأن يكون أحد الصحابيين أفقه من الآخر أو أحدهما فقيها أو غير فقيه أو أحدهما شابا والآخر هرما ابتعادا عن مظان الغلط. 5- ألا يعمل الراوي بخلاف حديثه، كحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا, فإنه مخالف لفتياه. 6- ألا يكون الخبر منفردا بزيادة سواء كانت في المتن أو السند, إذ يعمل بالناقص منهما، احتياطا في دين الله. 7- ألا يكون فيما تعم به البلوى, إذ لا بد حينئذ من الشهرة أو التواتر. 8- ألا يترك أحد المختلفين في الحكم من الصحابة الاحتجاج بالخبر الذي رواه أحدهم، إذ لو كان ثابتا لاحتج به أحدهم. 9- ألا يسبق طعن أحد من السلف فيه. 10- الأخذ بالأخف فيما ورد في الحدود والعقوبات عند اختلاف الروايات.

11- أن يستمر حفظ الراوي لرويه عند التحمل إلى وقت الأداء من غير تخلل نسيان. 12- ألا يخالف العمل المتوارث بين الصحابة والتابعين دون تخصيص ببلد. 13- ألا يعول الراوي على خطه ما لم يذكر مرويه. ذلك هو أهم ما اشترطه أبو حنيفة لصحة خبر الآحاد والعمل به, ولا شك أن المحدثين لا يوافقونه على أكثر هذه الشروط إذا لم نقل: كلها, وغيره من الأئمة يخالفونه في بعضها"1. ولسنا بصدد الدفاع عن الإمام فيما ذهب إليه وارتضاه وخالفه فيه غيره من الأئمة, وإنما الذي عنينا به أن نبرر موقف الإمام من بعض الأحاديث, وأن نجلي أمر اعتماده على الرأي والقياس، فهذا الذي قيل: إنه خالف فيه الناس إن كان عن اجتهاد, فليس بدعا فيه شأنه شأن من سبقه ومن لحقه إن كان عن هوى وعناد فهيات هيهات أن ينزلق إليه إمام ورع زاهد متنسك ثبتت إمامته, وعلت مكانته وسمت منزلته رغم أنف الكارهين، وقد أطال الكثيرون في ذكر مناقب هذا الإمام وأسهبوا في الترجمة له2.

_ 1 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص422-424. 2 له ترجمة في طبقات ابن سعد ج6، ص256، وترجم له النسائي في الضعفاء والمتروكين ص233-234, وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ج8، ص449-450، وابن النديم في الفهرست =

الإمام مالك

2- الإمام مالك: اسمه ونسبه ومولده ومكانته: إمام دار الهجرة وعالمها ومحدثها وفقيهها, أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي الحميري, من ذرية ملوك حمير, وهو عربي أصيل, ولم يختلفوا في أنه من ولد قحطان, وإن اختلفوا في كونه أصبحيا أو كونه تيميا أو مولى لبني تيم بن مرة, والصحيح أن إطلاق مولى عليه ليس إلا بمعنى الحليف. وقد ولد رضي الله عنه، بالمدينة سنة ثلاث وتسعين على الأصح, وقيل سنة أربع أو خمس وتسعين. والمدينة إبان مولده مليئة بالعلم والعلماء غاصة بالمحدثين والفقهاء مما هيأ لاستقراره بها وعدم ارتحاله خارجها كما كان دأب المشتغلين بالعلم آنذاك, وعن كبار التابعين وأئمة المحدثين أخذ مالك فجالس ابن هرمز سبعة عشرة عامًا, واستفاد به كثيرا, كما جالس ابن شهاب الزهري فكان أثبت الناس في الرواية عنه وعن غيره.

_ = ص284-285, والخطيب في تاريخ بغداد ج13, ص323-424, ابن حبان في المجروحين ج3، ص61-73، الذهبي في الكاشف ج3، ص181، تذكرة الحفاظ ج1، ص168-169، ميزان الاعتدال ج4، ص265، ابن كثير في البداية والنهاية ج1، ص107-108، ابن حجر في تهذيب التهذيب ج10، ص449، ابن خلكان في الوفيات، ج5، ص415-423، السيوطي في طبقات الحفاظ ص73، ترجم له الأستاذ الشيخ أبو زهرة في مجلد كامل يقارب الخمسمائة صفحة "أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه وفقهه، في تاريخ المذاهب الإسلامية ص347-387. وغيرهم كثير.

وقد روى عنه في الموطأ مائة واثنتين وثلاثين حديثا, واشتهر أخذه عن نافع, وهو أصح الناس عنه, ولقي عطاء بن أبي رباح حين قدم المدينة، كما جالس يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي, وأثمرت هذه المجالسة إمامته أهل الحجاز في الفقه والحديث, وجعلته شيخ الإسلام وأحد الهداة الأعلام الذين طبقت شهرتهم كل مكان وسار بذكرهم الركبان, وارتحل إليهم, وفوخر بالأخذ عنهم ويكفي الإمام مالك فخرا أن يجلس إليه, ويتهادى بين يديه حتى إنه ليكون كالصبي أمام أبيه إجلالا وتوقيرا وتواضعا وأدبا إمام الفقهاء وشيخهم أبو حنيفة. وتضم مدرسة الإمام علم الأعلام الفقيه المحدث الأديب الفارس المقدام محمد بن إدريس الشافعي, ويجلس بين مالك مجلس التلميذ من الخلفاء اثنان المهدي وهارون الرشيد, ناهيك عن اعتزام أبي جعفر المنصور به وإعزازه لعمله حتى إنه في المدينة يتقدم على أميرها, فيأمر ويضرب ويحظى بشرف الأخذ عن الإمام من الأمراء معن بن عيسى وغيره, ومن أكابر العلماء محمد بن الحسن ويحيى بن يحيى الأندلسي, وعبد الله بن مسلمة والقمني ابن أخته وإسماعيل بن إدريس ابن أخيه, وعبد الله بن مبارك, والليث بن سعد, وخلق لا يحصون كثرة. ومن دلائل فضله وشواهد نبله ورسوخ قدمه في العلم رواية بعض شيوخه عنه كالزهري وابن سعيد الأنصاري. وقد جمع الإمام مالك بين الفقه والحديث, فكان فقيه المحدثين ومحدث الفقهاء بلا منازع.

وأكثر العلماء مجمعون على أنه المعني بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "ويوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم", وفي رواية: "يلتمسون العلم فلا يجدون عالما أعلم", وفي رواية: "أفقه من عالم المدينة", وفي رواية: "من عالم بالمدينة"1. وقد أثنى عليه الكثيرون: قال عبد الله بن أحمد قلت لأبي: من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء. وقال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. وقال أيضا: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز. وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضللنا. وقال هو عن نفسه: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك. ولسبقه وتقدمه جلس للتحديث والفتوى ومجالس شيوخه مقامه فكان مجلسه أشد مزاحمة. وكان رضي الله عنه شديد الاعتزاز بالعلم جوادا كريما سمح المحيا وكان مهيبا نبيلا ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ورفع الصوت، وكان يقول الدنو من الباطل هلكة والقول بالباطل بعد عن الحق ولا خير في شيء, وإن كثر في الدنيا بفساد دين المرء ومروءته. وكان من تعظيمه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد أن يحدث توضأ, وجلس على صدر فراشه, وسرح لحيته, واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة, ثم حدث, فقيل له في ذلك, فقال: أحب أن أعظم

_ 1 أخرجه الترمذي في كتاب العلم باب: ما جاء في عالم المدينة ج5، ص47، والحاكم في المستدرك ج1، ص90-91, وابن أبي حاتم في المقدمة ص11-12، والخطيب في تاريخ بغداد في عدة مواضع.

حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أدبه الفائق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يركب دابة بالمدينة ويقول: إني لأستحيي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة. وقد أورثه إجلاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا وهيبة ووقارا وبهاء وإكبارا, فقد دخل على أبي جعفر المنصور, وهو على فراش ملكه, فإذا بصبي يخرج, ثم يرجع, فقال له أبو جعفر: أتدري من هذا؟ قال: لا. قال: ابني وإنما يفزع من هيبتك. ثم سأله عن أشياء منها حلال ومنها حرام فلما أجابه قال له: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس. قال: لا والله يا أمير المؤمين. قال: بلى ولكنك تكتم، لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق لأحملهم عليه. وأجازه المهدي بثلاثة آلاف، ثم طلب منه أن يصحبه إلى مدينة السلام فأجابه. "قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" , والمال عندي على حاله, ولما قدم الرشيد المدينة طلب منه أن يسمعه الحديث, فقال الإمام أنا يقرأ علي ولا أقرأ على أحد, فقال: أخرج الناس عني حتى أقرأ أنا عليك. فقال: إذًا العام لأجل الخاص لم ينتفع الخاص, فأمر الرشيد وزيره معن بن عيسى فقرأ. وذكر أنه دعاه ليقرأ الموطأ على بنيه, فأبى قائلا: العلم يؤتى إليه, ولا يأتي إلى أحد, فكان أولاد الخليفة يحضرون مجلسه مع سائر الناس, وتضرب عليهم قبة. قال الذهبي: وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره

أحدها: طول العمر وعلو الرواية, وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم, وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية, ورابعتها: تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن, وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده. ولا يصير مالكا ولا يغض من قدره افتيات البعض عليه وتزيدهم في حقه كابن إسحاق الذي نقم على مالك مكانته وجلالته, فراح ينتقصه ويدعي أنه من الموالي ويقول: ائتوني بعلم مالك فأنا بيطاره وذكروا أن ابن أبي ذؤيب شارك ابن إسحاق حملته على الإمام مالك, ولعل ذلك منهما كان موقفا شخصيا أو خلافا فقهيا, وربما حقدا عليه؛ لأن مالكا كان يخالفهما ويطعن عليهما، ومع ذلك فإن هؤلاء العلماء الذين نقدوا مالكا لم يستطع أحدهما أن ينقد رواية من رواياته للحديث الشريف. فهذه المسائل التي وجهت إلى الإمام لا تنقص من قيمته العلمية ولا من صحة روايته، وهي أقرب ما تكون إلى نقد المتنافسين بعضهم إلى بعض. ومما أخذ على الإمام تخلفه عن حضور الجماعة واتباع الجنائز وعيادة المرضى مع تعهد السؤال عن الأمراء, ولا شك أن ذلك حدث منه في آخر عمره, ويبدو أن له فيه عذرًا فقد سئل عن سبب ذلك, فقال: ما كل الأعذار يستطيع المرء أن يبديها. وقد امتد عمر مالك وقدر له أن يعايش تغيرات جذرية, وأن يراقب اضمحلال دولة بني أمية وسقوطها، وأن يواكب نشأة دولة بني العباس

وازدهارها وأن يعاصر ثورات العلويين ومحاولات كتبها وإخمادها, ولقد عرف عن الإمام عزوفه عن الفتن وإعراضه عن أهلها, فقد كان يؤثر الصمت ويلزم بيته عند اشتداد الأمر, ومع ذلك ناله عسف السلطان وظلم الحكم واضطهاده والإمارة. فقد سجن وجلد وضرب ضربا مبرحا واختلف الروايات في سبب ذلك فقيل: إنه طلب للقضاء فأبى فاعتبر المنصور ذلك نوعا من التمرد عليه فأوعز بضربه وقيل: إنه شارك ولو بالتحريض في ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن الشهير بالنفس الزكية, وقيل: إنه حدث بحديث "ليس على مستكره طلاق" ففهم منه التحريض على التحليل من بيعة المنصور لكون الناس أكرهوا عليها. وأيًّا ما كان الأمر فقد امتحن الإمام فصبر صبر المؤمنين الموقنين, ولم تطل فترة محنته, وإنما عاد سريعا إلى تبوء مكانته في نفوس العباسيين, فكان أثيرا عندهم محببا لديهم ذا حظوة ومنزلة. وبعد حياة مباركة طيبة فياضة بالخير والبركة قضى الإمام نحبه, ولقي ربه في الحادي عشر أو الرابع عشر من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة, فرضي الله عن الإمام مالك وأرضاه وطيب ثراه وجعل الجنة مثواه. وقد تركنا الإطالة في ترجمته للذين ترجموا له ولآثاره وتراثه منهم:

ابن سعد1، والإمام البخاري2، وابن أبي حاتم3، وابن النديم4, وابن الجوزي5, وابن خلكان6, والذهبي7, وابن كثير8, وابن فرحون9, وابن حجر10, والسيوطي11, وأستاذ الجيل الشيخ أبو زهرة12, والأستاذ الدكتور محمد محمد أبو زهو13, والأستاذ الدكتور مصطفى السباعي14, والأستاذ الدكتور محمد كامل حسين15, والأستاذ محمد أبو شهبة16.

_ 1 في الطبقات الكبرى ج5، ص45. 2 في التاريخ الصغير ق2، ص220، 321. 3 في مقدمة الجرح والتعديل ج1، ص11-32. 4 في الفهرست ص280-282. 5 في صفة الصفوة ج2، ص177-180. 6 في وفيات الأعيان ج4، ص135-139. 7 في الكاشف ج3، ص112، تذكرة الحفاظ ج1، ص 207-213. 8 في البداية والنهاية ج10، ص174-175. 9 في الديباج المذهب ص55-135. 10 في تهذيب التهذيب ج10، ص5-9. 11 في طبقات الحفاظ ص89-90. 12 في مجلد كامل يقارب الأربعمائة صفحة بعنوان "مالك حياته وعصره, آراؤه وفقهه", تاريخ المذاهب الإسلامية ص392-433. 13 في: "الحديث والمحدثون" ص287-290. 14 في السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص430- 438. 15 في تقدمة الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي للموطأ ج1، في عشر صفحات من طي إلى حك. 16 في أعلام المحدثين ص45-70.

آثاره وتراثه: مما لا ريب فيه أن عمر الإمام المديد مكنه من أن يخلف بعده الأثر المجيد والتراث الزاخر التليد, فقد أنفق جل وقته في خدمة العلم دراسة وفهما وإتقانا وهضما, ثم بكر بإفراز ما فهم وهضم حتى قيل: إنه جلس للإفتاء والتحديث, وهو في السابعة عشرة من عمره, وإن استبعد الشيخ أبو زهرة ذلك, فالقريب الذي لا ينكر أنه تصدر للفتوى والتحديث زمنا طويلا يقارب الثلاثة أرباع قرن, وكان يخصص للفقه أياما وللحديث أخرى قد امتاز, عن أقرانه بالسبق إلى تصنيف أكبر وأقدم مدون حديثي فقهي. ولا يعترض على ذلك بما دونه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أو ابن شهاب الزهري أو بما عثر عليه من صحف للصحابة الكاتبين أو المستكتبين أو للتابعين رضي الله عنهم أجمعين, فلا سبيل إلى المقارنة بين ذلك كله وبين مصنف الإمام حجما وشهرة وحسن ترتيب وتبويب وتفننا في التصنيف والتأليف. والناظر إلى آثار الإمام يلحظ أن أولها في القديم وأولاها بالتعظيم كتاب الموطأ ولتعلمن نبأه بعد حين. ومن تراث مالك المنسوب وإن كان يجمع تلاميذه كتاب "المجالسات" لابن وهب، دون فيه ما سمعه من إمامه في مجالسه. وهو مجلد يشتمل على أحاديث وآثار وآداب رواها عن مالك. ومنه رسالة في القدر" أرسلها إلى تلميذه ابن وهب ورواها هذا عنه، ومنه "رسالته

في الأقضية" كتبها لبعض القضاة، وكذلك: رسالته في الفتوى، ولا سبيل إلى القطع بصحة نسبة هذه الآثار إليه, وإن كانت صحة نسبتها هي الأرجح لكن الذي لا يشك في صحة نسبته إليه وإنما هو "الموطأ". ومن الآثار المعزوة إليه كتاب: النجوم، وحساب دوران الزمان، ومنازل القمر، وهو كتاب جيد مفيد جدا قد اعتمد الناس عليه في هذا الباب وجعلوه أصلا, ويبدو أنه ثمرة اتصاله بالإمام جعفر الصادق وأخذه عنه, فقد عرف الإمام الصادق بالبراعة في هذا الصدد, ومع ذلك شكك الأستاذ أبو زهرة في صحة نسبته إليه, ورأى أن ما عني به مالك وصرف إليه همته من الاشتغال بالكتاب والسنة ينافي الاشتغال بالنظر في النجوم والفلك أو على الأقل لم يكن في دائرة اهتمامه. "الموطأ": "أهميته بين كتب الحديث": الموطأ من أشهر المصنفات الحديثية ورتبته تجيء بعد رتبة الصحيحين عند أكثر المحدثين منهم من يرى أنه بالتقديم عليهما قمين. قال الإمام الشافعي: ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك, نقله السيوطي. ونقل عن ابن العربي المالكي أبي بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي صاحب عارضة الأحوذي وأحكام القرآن والعواصم من القواصم, والمتوفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة نقل عنه السيوطي قوله: الموطأ هو الأصل واللباب وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب

وعليهما بنى الجميع كمسلم والترمذي, ثم قال السيوطي: "وقال الحافظ مغلطاي: أول من صنف الصحيح مالك" وقال الحافظ ابن حجر: كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما "قلت: ما فيه من المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل فهي أيضا حجة عندنا لأن المرسل عندنا حجة إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء. وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمفضل قال: وجميع ما فيه من قوله بلغني ومن قوله عنم الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث لا تعرف أحدهما: إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن. والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمر مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر, فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر. والثالث: قول معاذ: آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد وضعت رجلي في الغرز أن قال حسن خلقك للناس. والرابع: إذا أنشأت بحرية, ثم تشاءمت فتلك عين غديقة. وقال بعض العلماء: إن البخاري إذا وجد حديثا يؤثر عن مالك لا يكاد يعدل به إلى غيره حتى إنه يرى في الصحيح عن عبد الله بن محمد بن

أسماء عن عمه جودية عن مالك1. وقد دافع العلماء عن هذه الأحاديث الأربعة بأن معاني هذه الأحاديث صحيحة واستشهدوا لها بما في كتب السنة. لكن الشيخ الشنقيطي في كتابه "إضاءة الحالك" نقل عن ابن الصلاح أنه وصل هذه الأحاديث الأربعة2. وقد استظهر السيوطي أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء. وفي سبب تسمتيه ذكر السيوطي3 عن مالك قال: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ، ولفظه الموطأ بمعنى الممهد المنقح. وقد جاء المهدي حاجا فسمعه منه وأمر له بخمسة آلاف دينار وتلاميذه بألف, ثم رحل إليه الرشيد في إحدى حججه مع أولاده وسمعه ورغب أن يعلقه في الكعبة ويحمل الناس على العمل بما جاء به, فأجابه رحمه الله: "لا تفعل يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب" فعدل الرشيد عن ذلك. وقد لهجت الألسنة بالثناء على الموطأ شعرًا ونثرا فما قيل فيه شعرًا:

_ 1 تنوير الحوالك ج1، ص6-9 بتصرف. 2 السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص433. 3 تنوير الحوالك ج1، ص7.

أقول لمن يروي الحديث ويكتب ... ويسلك سبل الفقه فيه ويطلب إن أحببت أن تدعى لدى الخلق عالمًا ... فلا تعد ما تحوي من العلم يثرب أتترك دارًا كان بين بيوتها ... يروح ويغدو جبرائيل المقرب ومات رسول الله فيها وبعده ... بسنته أصحابه قد تأدبوا وفرق شمل العلم في تابعيهمو ... فكل امرئ منهم له فيه مذهب فخلصه بالسبك للناس مالك ... ومنه صحيح في المحس وأجرب فبادر موطأ مالك قبل فوته ... فما بعده إن فات للحق مطلب ودع للموطأ كل علم تريده ... فإن الموطأ الشمس والغير كوكب ومن لم يكن كُتْبُ الموطا ببيته ... فذاك من التوفيق بيت مخيب جزى الله عنا في موطاه مالكا ... بأفضل ما يجزى اللبيب المهذب

لقد فاق أهل العلم حيا وميتا ... فصارت به الأمثال في الناس تضرب وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إذا ذكرت كتب العلوم فحيهل ... بكتب الموطا من تصانيف مالك أصح أحاديثا وأثبت حجة ... وأوضحها في الفقه نهجا لسالك عليه مضى الإجماع في كل أمة ... على رغم خيشوم الحسود المماحك فعنه فخذ علم الديانة خالصا ... ومنه استفد شرع النبي المبارك وشد به كف الضنانة تهتدي ... فمن حاد عنه هالك في الهوالك1

_ 1 الديباج المذهب ج1، ص121-123.

منهج الإمام فيه: وأخرج الإمام ابن عبد البر عن عمر بن عبد الواحد قال: عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما, فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذوه في أربعين يوما ما أقل ما تفقهون فيه1. وهذا يدل على مبلغ الجهد الذي بذله الإمام في جمع هذا الكتاب وتحريه في الرواية، وليس أدل على هذا مما ذكره ابن الهباب أن مالكا روى مائة ألف حديث جمع منها في الموطأ عشرة آلاف, ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة وينقحها ويهذبها حتى رجعت إلى خمسمائة. وقد ألف الإمام مالك كتابه على الأبواب, ولم يتقيد فيه بالأحاديث المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, بل جمع فيه أيضا أقوال الصحابة وفتاوى التابعين. وطريقته فيه: أن يذكر في مقدمة الموضوع ما ورد فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ما ورد من أقوال الصحابة, ثم ما ورد من فتاوى التابعين، وقل أن يكونوا من غير أهل المدينة. وأحيانا يذكر ما عليه العمل أو الأمر المجمع عليه بالمدينة، وقد يذكر بعض الآراء الفقهية له. ولم يتقيد الإمام في موطئه بالمسند المتصل بل ذكر فيه المرسل والمنقطع والبلاغات "وهي التي يقول فيها مالك: بلغني أو نحوه من غير أن يبين من روى عنه", كقوله: بلغني عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: $"للمملوك طعامه وكسوته".

ولقد اعتنى الإمام مالك بالحديث رواية ودراية: ولذلك كانت أحاديثه في الموطأ منتقاة, ولقد وصف ابن عبد البر مالكا في روايته وصفا موجزا محكما, فقال: "إن مالكا كان من أشد الناس تركا لشذوذ العلم, وأشدهم انتقادا للرجال, وأقلهم تكلفا, وأتقنهم حفظا, ولذلك صار إماما". هذا شأن المطأ في أحاديثه, أما فقهه: فقد كان بعضه تخريجا للأحاديث وبعضه بيانا للأمر الذي كان مجتمعا عليه بالمدينة, وبعضه بيانا لما كان عليه التابعون الذين التقى بهم, وبعضه رأيا اختاره من مجموع آرائهم, وبعضه رأيا رآه قد قاسه على ما علم, فهو شبيه بما علم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وما اجتمع عليه أهل المدينة, وما نقله عن أهل العلم من الصحابة والتابعين. عدد كتبه وأبوابه وأحاديثه وتقييمه: قام الأستاذ الكبير محمود فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى بتحقيق كتاب الموطأ, فأتقن وأجاد وأحسن, وبلغ عدد كتبه واحدا وستين كتابا تشتمل على سبعمائة وثلاثة أبواب, وقد رقم الكتب مجتمعة, ثم أفرد كل كتاب بترقيم يخصه في الأبواب والأحاديث. وقد تفاوتت عبارات العلماء في عدد أحاديث الموطأ قلة أو كثرة تبعا لتفاوت رواياته زيادة ونقصا. قال أبو بكر الأبهري: جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا المسند

منها ستمائة حديث, والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثا, والموقوف ستمائة وثلاثة عشرة, ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون. قال ابن حزم في كتاب مراتب الديانة: أحصيت ما في موطأ مالك فوجدت فيه من المسند خمسمائة ونيفا, وفيه ثلاثمائة ونيف مرسلا, وفيه نيف وسبعون حديثا قد ترك مالك نفسه العمل بها, وفيه أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء. ومن هنا يتبين لنا تجاوز الذين قوموا الموطأ على الصحيحين واعتبروه اللباب, واعتبروا صحيح البخاري الأصل الثاني في هذا الباب كابن العربي وغيره. وأما اعتبار الشافعي الموطأ أصح شيء بعد كتاب الله, فمرد ذلك وتأويله إلى أنه قاله قبل أن تشرق شمسا الصحيحين, ولو قدر له أن يعيش إلى زمنهما, وأن يقف عليهما لما قدم عليهما شيئا. وقد عد ابن الأثير المتوفى سنة ست وستمائة في كتابه جامع الأصول من أحاديث الرسول الموطأ كسادس الكتب الستة, ورأى أنه أحق من سنن ابن ماجه بذلك, ولم يوافقه أكثر المحدثين على ما ذهب إليه، وقد مال ابن الصلاح وغيره إلى جعل الموطأ في الدرجة التي تلي الصحيحين. والحق أن ما فيه من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحاح كلها هي في الصحة كأحاديث الصحيحين, وأما ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها فيعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها مما

تحويه الكتب الأخرى, وإنما لم يعده أكثر العلماء في الكتب الصحاح لكثرة ما فيه ما المراسيل والبلاغات والمنقطعات, وكثرة الآراء الفقهية فيه لمالك وغيره. هذا وقد ذكر ابن عبد البر أن عدة أحاديث الموطأ من رواية يحيى بن يحيى ثمانمائة حديث وثلاثة وخمسون حديثا, وقد راجعت أنا النسخة المحققة. فوجدت عدد الأحاديث الموصولة والمرسلة ألفا وثمانمائة وأربعة عشر عدا الموقوف والآراء الفقهية. وقد ذكر فضيلة الأستاذ الدكتور أبو شهبة أنه راجع عد ابن عبد البر فوجده دقيقا جدا، وقد قالوا: إن ما في موطأ الإمام محمد بن الحسن من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة على الصحابة, ومن بعدهم مسندة كانت أو غير مسندة ألف حديث ومائة وثمانية حديثا, منها عن مالك: ألف حديث وخمسة أحاديث, ومن غير طريقه مائة وخمسة وسبعون حديثا، منها عن أبي حنيفة ثلاثة عشرة حديثا, ومن طريق أبي يوسف أربعة والباقي عن غيرهما, وهذا يدل على أنه زاد في الموطأ ما ليس في رواية مالك قطعا. روايات الموطأ وأشهر رواته: هكذا يتبين لك أن الموطأ قد روي بروايات مختلفة تتفاوت في ترتيب الأبواب وعدد الأحاديث، وقد ذكر القاضي عياض أن الذي اشتهر من نسخ الموطأ نحو عشرين نسخة، وذكر بعضهم أنها ثلاثون، وقال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي: الموطآت عن مالك أحد عشر

معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى، وموطأ ابن بكير، وموطأ أبي مصعب، وموطأ ابن وهب، ثم ضعف الاستعمال في الأخيرين. وقال الشيخ عبد العزيز الدهلوي المتوفى سنة 1139 في كتابه "بستان العارفين" المؤلف بالفارسية: إن نسخ الموطأ التي توجد في بلاد العرب في هذه الأيام متعددة عد منها ست عشرة نسخة، كل نسخة عن راو خاص"1. ومن الموطآت المشهورة المشروحة التي تدور بين يدي الناس الآن موطأ يحيى بن يحيى الليثي، وموطأ محمد بن الحسن الشيباني، ولا يعترض على الموطأ بما بين رواياته من تفاوت بالزيادة أو النقصان أو بالتقديم والتأخير في الأبواب، ولأن الإمام مالكا رضي الله عنه ظل يرتب فيه ويحذف منه إلى قرب وفاته. وقد مر بك أنه كان يشتمل على عشرة آلاف حديث، فما زالت معالجته إلى أن آل حاله إلى ما هو عليه، وليس بلازم أن قصد الناس في زمان سماعه، فتتحد الروايات عددا وتنظيما، وإنما الذي حدث تتابع السماع على الإمام، فروى كل ما سمع في زمانه، فتفاوتت النسخ لذلك, ولا يضير الموطأ هذا التفاوت فالمعول عليه صحة السماع وانضباط النقل. على أن الأئمة الشراح تعرضوا لبيان تلك الزيادات في بعض النسخ عن بعض، كما فعل ابن عبد البر في آخر كتابه التقصي، حيث أشار إلى زيادات "يحيى" ورتبها على حروف المعجم.

_ 1 أعلام المحدثين ص56-57.

ونتعرف الآن على أهم وأشهر رواة الموطأ ونكتفي منهم بعلمين: أولهما: محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، كنيته أبو عبد الله، أصله من قرية من قرى دمشق, قدم أبوه العراق, فولد بواسط سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ونشأ بالكوفة فسمع من أبي حنيفة ومسعر والنوري وعمر بن ذر ومالك بن مغول, وكتب عن مالك بن أنس والأوزاعي وأبي يوسف، وسكن بغداد وحدث بها. وقد أخذ عنه الشافعي حين قدم بغداد سنة أربع وثمانين ومائة, وناظره وأثنى عليه, وقد تولى ابن الحسن قضاء الرقة في عهد الرشيد, ثم عزل عنها. وقد عرف بالزاهد والورع، والعزوف عن الدنيا والانصراف إلى العلم, وقد ذكر أنه ورث عن أبيه ثلاثين ألفا، أنفق نصفها على النحو والشعر، وأنفق النصف الثاني على الحديث. قال عنه الشافعي: "ما رأيت حبرا سمينا مثله، ولا رأيت أخف روحا منه، ولا أفصح منه, كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته. وقال أيضا: ما رأيت أعقل منه، كان يملأ العين والقلب، قال الطحاوي: كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة فكتب إليه: قل للذي لم تر عيناي مثله ... حتى كأن من رآه قد رأى من قبله العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله ... لعله يبذله لأهله لعله قال: فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية. وقال إبراهيم الحربي:

قيل لأحمد بن حنبل: هذه المسائل الدقاق من أين هي لك؟ قال: من كتب محمد بن الحسن رحمه الله"1. ولعل في أخذ محمد بن الحسن عن الإمام مالك واشتهار روايته، للموطأ وثناء الشافعي وأحمد عليه وهما من هما في الانتصار للسنة، والتعصب لأهلها لعل في ذلك كله ردا، بل وتأنيبا للخطيب الذي أطال2 في ترجمة أبي عبد الله وحاكى صنيعه معه صنيعه مع الإمام أبي حنيفة، حيث نقل ما يشعر بمدحه, ثم عاد فقلب ظهر المجن ونقل ما يشعر بذمه وقدحه، ويبدو أن الخطيب استمرأ هذا مع أصحاب الإمام أبي حنيفة، يرد على قدحه في محمد بن الحسن بما أورده هو عن كثيرين من الثناء العاطر عليه. وقد توفي محمد بن الحسن في سنة تسع وثمانين ومائة نفس السنة التي توفي بها على بن حمزة بن عبد الله أبو الحسن المعروف بالكسائي أحد أئمة القراءات والنحو، وقيل: إنهما ماتا في يوم واحد، وقال عنهما الرشيد يوم بلغه نعيهما: دفنت اليوم اللغة والفقه جميعا. ثانيهما: يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي كنيته أبو محمد واسمه يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس، أصله من البربر من قبيلة, يقال لها: مصمودة، وتولى بني ليث فنسب إليهم.

_ 1 البداية والنهاية ج10، ص202-203. 2 تاريخ بغداد ج2، ص17-182.

اشتغل بالعلم وسمع على شيوخ قرطبة، وكان من سماعاته بها "الموطأ", ثم طلب سماعه عاليا فرحل إلى المشرق, وهو في الثامنة والعشرين من عمره فلقي الإمام مالكا وسمع الموطأ منه كاملا إلا بعض أبواب في كتاب الاعتكاف شك في سماعه إياها منه فرواها من غيره، وسمع في مكة من سفيان بن عيينة، وفي مصر من الليث بن سعد وابن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم. وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس، وسبب ذلك فيما يروى أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك تخرج فتراه؛ لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك ولم أجئ لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك وسماه عاقل أهل الأندلس، ثم عاد يحيى إلى بلاد الأندلس فانتهت إليه زعامة العلم بها، وبواسطته انتشر بها مذهب مالك، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا وروى عنه خلق كثير. قال ابن خلكان "وأشهر روايات الموطأ" وأحسنها رواية يحيى المذكور, وكان مع إمامته ودينه معظما عند الأمراء مكينا، عفيفا عن الولايات متنزها، جلت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدرًا من القضاة عند ولاة الأمر هناك لزهده في القضاء وامتناعه منه, ثم نقل عن ابن بشكوال.

قوله: كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة, وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومعتمده هيئة مالك"1. وتوفي يحيى في شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين: أهم الكتب المؤلفة حول الموطأ وأشهر شروحه: قال السيوطي فيما نقله عن القاضي عياض: "لم يعتن بكتب من كتب الحديث, والعلم اعتناء الناس بالموطأ فمن شرحه ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار، وأبو الوليد بن الصفار وسماه الموعب"2. وعدد السيوطي قدرا لا بأس به من أسماء شروحه وشراحه, وللسيوطي نفسه عدة كتب على الموطأ بعضها في رجاله وبعضها الآخر في شرحه, وفي وصل ما انقطع منه. ويمكننا أن ننوع المصنفات على الموطأ إلى: "أ" مختصراته: وهي كثيرة من أشهرها مختصر الإمام أبي سليمان حمد بن أحمد بن محمد بن خطاب البستي الخطابي المتوفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة, وهو صاحب

_ 1 وفيات الأعيان ج6، ص143-146 "بتصرف", وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب ج11، ص300, والديباج المذهب، ص252-253. 2 تنوير الحوالك ج1، ص12.

"معالم السنن" في شرح سنن أبي داود و"أعلام السنن" في شرح البخاري و"غريب الحديث" وغيرها. وممن اختصر الموطأ أيضا أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وممن اختصره أيضا ابن رشيق، القيرواني المتوفى سنة ست وخمسين وأربعمائة. "ب" شروحه: انبرى لشرح الموطأ كثيرون قديما وحديثا وشرقا وغربا وكان من أبرزهم وأشهرهم عناية به: 1- ابن عبد البر: وهو الإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، المولود سنة: ثمان وستين وثلاثمائة وطلب العلم في الصغر، وتتلمذ على شيوخ قرطبة حاضرة الخلافة الإسلامية بالأندلس، الفردوس المفقود الذي حوى أعرق الحضارة وأرقاها، وكان سفيرا فوق العادة للنهضة الإسلامية في أواسط أوربا. وقد كان لابن عبد البر اليد الطولى على الثقافة الإسلامية نظرا لما تركه من المصنفات العلمية النافعة, والتي كان من أبرزها "كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب", ثم كان له على "الموطأ" أكثر من كتاب. وقد توفي ابن عبد البر سنة ثلاث وستين وأربعمائة بعد عمر مديد،

وترات زاخر تليد، حمل معاصره ابن حزم على أن يقول فيه: "له تآليف لا مثيل لها في جميع معانيها", وقال الذهبي: "علا سنده وجمع وصنف ووثق وضعف وسارت بتصانيفه الركبان, وخضع لعمله علماء الزمان"1. ومن أشهر مصنفات ابن عبد البر على الموطأ "كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد", قال عنه ابن حزم: "التمهيد لصاحبنا أبي عمر لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا, فكيف أحسن منه؟ ". وقد كان العلماء قبل ابن عبد البر, وفي عصره يشرحون الموطأ فيعتنون بالأحاديث المرفوعة فقط دون أن يعطوا للأحاديث المرسلة والمنقطعة أيما اهتمام, وهذا ما دعا ابن عبد البر ليؤلف شرحه هذا, وكان منهجه فيه يختلف عن منهج الشراح والمعلقين فالناظر فيه يخيل له أنه كتاب مغاير للموطأ, فلقد سار فيه على الوجه التالي: "أ" وضع للكتاب مقدمة احتوت على جمل من العلم مهمة فذكر جملة من الأخبار الدالة على البحث عن صحة النقل, ووضع المتصل والمرسل والحديث عن الإمام مالك والموطأ. "ب" رتب الموطأ كترتيب المعاجم، فرتبه على شيوخ مالك، ورتب الشيوخ على حروف المعجم مقدما من مرويات الشيخ الأحاديث المتصلة, ثم ما اختلف في اتصاله، ثم المنقطع, ثم المرسل, ثم يأتي إلى الأحاديث المنقطعة

_ 1 تذكرة الحفاظ ج3، ص1129.

فبين اتصالها إما من موطأ آخر, وإما من طريق غير طريق مالك وكذا المرسلة: "ج" اقتصر في دراسته على الأحاديث المضافة إلى رسول الله صلى عليه وسلم أما الآراء فلم يتعرض لها في كتابه هذا لأنه أفرد لها كتابا خاصا. "د" أثناء شرحه يتكلم عن الرواة, ويبين حالهم من التعديل والتجريح, ويتكلم على آراء العلماء في المسائل في ضوء مذهب مالك مع ميل بين إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه وعن الجميع. ومن كتب ابن عبد البر على الموطأ "الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار مما رسمه مالك في موطئه من الرأي والآثار" والمادة العلمية التي في هذا الكتاب هي التي في التمهيد، لكن الاختلاف في الترتيب والتنسيق، فهذا الكتاب هو شرح للموطأ على وضعه الطبيعي. 2- السيوطي: وهو جلال الدين عبد الرحمن ابن بكر محمد الخضيري السيوطي, المولود سنة تسع وأربعين وثمانمائة، والمعروف بنهمه في التصنيف, وكثرة ما له من تآليف في علوم عديدة، فهو صاحب الجامع الكبير والجامع الصغير والزيادات عليه في الحديث، وصاحب الألفية في علومه، وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي, والآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، والتعقبات على الموضوعات والدرر المتناثرة في الأحاديث المتواترة، وغير ذلك, وهو صاحب الإتقان في علوم القرآن، والتحبير في أصول التفسير، والدر المنثور في التفسير بالمأثور،

وترجمان القرآن، وهو صاحب تاريخ الخلفاء، ونظم العقيان في تراجم الأعيان، وبغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة، وطبقات المفسرين، وطبقات المحدثين، وحسن المحاضرة. وهو صاحب الهمع على اللمع، والأشباه والنظائر في النحو، وعشرات المصنفات بل ومئاتها، فقد وصلت كتبه إلى خمسمائة مصنف, وقد كان يكتب في كل يوم كراسة, وقال عن نفسه: إنه حفظ مائتي ألف حديث، ولو وجد أكثر لحفظ، وأنه بلغ حد الاجتهاد، وأنه نبغ في أكثر العلوم، وما أعياه إلا علم الحساب، وعلم الفلك، وقد توفي السيوطي سنة إحدى عشر وتسعمائة1. وقد كان من مؤلفاته على الموطأ: "تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك", وهو كما يظهر اسمه أنه شرح للموطأ له مقدمة مشتملة على سبع فوائد، تكلم فيها عن الإمام مالك وفضله, ثم عن كتابة الحديث والنصوص في ذلك, ثم عن فضل الموطأ ومكانته بين كتب الحديث, ثم عن عدد أحاديثه واختلاف رواياته عن مالك, ثم سرد العديد من شراحه وشروحه. وقد نهج في الشرح نهج المحدثين، فتكلم على أسانيد الأحاديث واختلاف الرواة، ورفع الموقوف وإسناد المرسل ووصل المنقطع، وعنى ببيان الغريب من ألفاظ الحديث، ولم يعول على ذكر المذاهب الفقهية.

_ 1 انظر ترجمته عن نفسه في كتاب حسن المحاضرة ج1، ص335-344.

وللكتاب غاية في الاختصار, وهو مطبوع في ثلاثة أجزاء صغار وألحق بنفس الطبعة كتاب آخر للسيوطي على الموطأ سماه "إسعاف المبطأ برجال الموطأ". وللسيوطي أيضا كتاب "كشف المغطى عن الموطأ", وله كتاب "تجريد أحاديث الموطأ". 3- الزرقاني: هو محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الرزقاني المالكي أبو عبد الله محدث، فقيه، أصولي، ولد وتوفي بالقاهرة في سنتي خمس وخمسين وألف واثنتين وعشرين ومائة بعد الألف1. ومن تصانيفه: شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث، مختصر المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، إشراق مصابيح السير المحمدية بمزج أسرار المواهب اللدنية. وشرحه على الموطأ سماه "أبهج المسالك بشرح موطأ الإمام مالك", وهو شرح وسط بين الطول والقصر، وتعرض فيه لشرح متون الأحاديث من جهة اللغة، وأفاض في شرح المذاهب الفقهية، ولم يعن بالرجال ولا بتراجم الأبواب، وقد نال الكتاب حظا موفورًا من الشهرة. ومن قدامى الشراح للموطأ: الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد

_ 1 معجم المؤلفين ج10، ص124.

بن أيوب الباجي المتوفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة, وكان من أعلام الرواية والفقه بالأندلس, وإليه انتهت الرئاسة, وروى عنه ابن عبد البر, وجرت بينه وبين ابن حزم مناظرات وللباجي على الموطأ ثلاثة شروح: الاستيفاء ويبدو أنه عمد فيه إلى الاستقصاء مما حمله على أن يلخصه في كتابه المنتقى: الذي عمد فيه إلى شرح أحاديث الموطأ من الناحيتين الفقهية والحديثية, وأكثر من ذكر المسائل الفقهية والتفريعات ويبدو أنه رام إرجاع الفقه المالكي إلى الأحاديث والآثار. والكتاب مطبوع في سبعة مجلدات, وهو شائع ذائع باسم: شرح الباجي على الموطأ, وقد عاد فاختصره في كتاب سماه: الإيماء. ولابن العربي أبي عبد الله محمد بن عبد الله الإشبيلي المتوفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة شرح على الموطأ؟ ثم قام لفيف من علماء الهند بشرح للموطأ حديثا, فممن عنى به الإمام شيخ الإسلام قطب الدين أحمد ولي الله ابن عبد الرحيم بن وجيه الدين الدهلوي الشهير بولي الله الدهلوي, وهو سليل بيت علم, وفضل ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم تتلمذ على والده وأعلام عصره في الحديث، ثم انتقل إلى الحرمين فأقام بها عامين كاملين يأخذ من مشاهير علمائهم, ثم رجع إلى الهند فأخذ من علمائها حتى بلغ في العلم قدرًا جعل بعضهم يعده من حفاظ القرن الثاني عشرة توفي سنة ست وسبعين ومائة بعد الألف, وله على الموطأ شرحان:

"أ" المسوى "باللغة العربية". "ب" المصفى "باللغة الفارسية". أما المسوى, فقد نهج فيه منهجا جديرًا بالتقدير, "فقد سار على طريقة المحدثين ومعتدلي الفقهاء, فرتب الأحاديث ترتيبا بديعا مفيدا مع حذف بعض أقوال مالك مما تفرد به مالك عن سائر المحدثين. وترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء, وضم إلى ذلك من القرآن العظيم ما لا بد للفقيه من حفظه, ومن تفسيره ما لا بد له من معرفته. وذكر في كل باب مذهب الشافعية والحنفية, ولم يتعرض لمذهب غيرهما إلا في مواضع لنكتة، وبين ما تعقب به الأئمة على مالك بإشارة لطيفة حيث كان التعقيب بحديث صحيح صريح وبين ما مست إليه الحاجة في معانيه اللغوية مع شرح غريب وضبط مشكل, وبين كذلك ما مست إليه الحاجة في معانيه الفقهية من بيان علة الحكم وأقسامه وتأويل الحديث عند الفريقين, ونحو ذلك, ثم إنه لم يتعرض لذكر من أخرج الحديث من أصحاب الكتب الستة إلا في مواضع يسيرة معللا ذلك بأن العلماء أغنونا عن ذلك, وإن في إسناد الموطأ كفاية لمن اكتفى. هذا وقد طبع الكتاب بالهند أكثر من مرة وطبع في مكة المكرمة سنة 1352 بالمطبعة السلفية"1.

_ 1 مذكرة مناهج المحدثين. تأليف لجنة من المدرسين المساعدين بكلية أصول الدين بالقاهرة ص99.

وممن عني بالموطأ الشيخ أبو الحسنات عبد الحي بن محمد بن عبد الحليم اللكنوي ينتهي نسبه إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري، ولد سنة ألف ومائتين وأربع وستين, وجد في الطلب حتى تأهل للتصنيف والتدريس في السابعة عشرة من عمره, وله المصنفات الكثيرة النافعة في الحديث والفقه والتاريخ، من أشهرها: الرفع والتكميل في معرفة الجرح والتعديل, لم يصنف في الباب مثله, وله: الفوائد البهية في تراجم الحنفية، وله: النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير, وله: طرب الأماثل بتراجم الأفاضل, وله: الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة, وتوفي سنة ألف وثلاثمائة وأربع1. وذكر الرواة عن مالك والكلام على نسخ الموطأ, وحملة أحاديث الموطأ, والكلام على شرحه, وترجمة الإمام محمد بن الحسن وشيخه, والمقارنة بين روايتي يحيى ومحمد, وتعداد الأحاديث والآثار التي في رواية محمد, وعادات الإمام محمد في هذا الكتاب. ولعله من الواضح أن مراده بموطأ محمد رواية محمد بن الحسن لموطأ مالك

_ 1 معجم المؤلفين ج11، ص235.

أما منهجه في الشرح: 1- فهو لم يبال بالتكرار لبعض المطالب المفيدة في المواضع المتفرقة. 2- التزم بذكر مذاهب الأئمة المختلفة مع الإشارة إلى أدلتها بقدر الضرورة وترجيح بعض على بعض. 3- أسند أكثر البلاغات والأحاديث المرسلة, وعضد الأحاديث الموقوفة بالمرفوعة. 4- أكثر من ذكر مذاهب الصحابة والتابعين, ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين والمعتبرين إشارة إلى أن اختلاف الأئمة رحمة. 5- ترجم الرواة دون عصبية مذهبية أو غيرهم. 6- ذكر بعض الاختلاف بين نسخ الموطأ. وممن شرح الموطأ من علماء الهند؛ الإمام الكاندهلوي محمد زكريا محمد يحيى الحنفي السهارتغوري, المولود سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة, وقد سمى شرحه: أوجز المسالك شرح موطأ مالك. وقد نقل فيه كثيرا من شروح سابقيه مع عزو المنقول إلى أصله, لكنه أكثر النقل من شرح الزرقاني على الموطأ, ومن كتاب بذل المجهود في حل سنن أبي داود, ولكثرة اعتماده عليهما, وأخذه منهما لم يعز ولم ينسب ما نقله منهما, والكتاب مطبوع بالنقد في خمسة أجزاء.

"ج" مؤلفات على الموطأ في أغراض مختلفة: ألف في شرح غريبه: البرقي، وأحمد بن عمران الأخفش, وأبو القاسم العثماني المسرى. وألف في رجاله: القاضي أبو عبد الله الحذاء, وأبو عبد الله بن معزح, والبرقي, وأبو عمر الطلمنكي, وجلال الدين السيوطي. وألف القاضي إسماعيل شواهد الموطأ. وألف أبو الحسن الدراقطني كتاب "اختلاف الموطآت". وألف في أطرافه أبو بكر بن حبيب. وممن ألف من المتأخرين في كل ما يتعلق بالموطأ؛ من بيان أصحيته, وتقدمه على غيره, ورواته, وعدد أحاديثه إلى غير ذلك؛ المحدث الكبير الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي, صاحب "هداية المغيث", و"زاد المسلم مما اتفق عليه البخاري ومسلم", وألف نظما سماه: "دليل المسالك إلى موطأ الإمام مالك", وعلق عليه في حاشية سماها: "إضاءة الحالك من ألفاظ دليل السالك". ومن كل ما سبق يبين لكل من طالب الحق مدى عناية الأمة بحديث نبيها صلى الله عليه وسلم, فها هو ذا الموطأ على صغر حجمه بالنسبة إلى غيره من أمهات كتب الحديث يحظى بهذا الاهتمام, فكيف بغيره؟ ولقد آن الأوان لأن نعيش مع ثمرة أخرى من ثمرات الإمام مالك, أو أن نتعرف على من تمثل مالكا علما وفضلا وشرفًا ونبلا, بل وربما زاد عليه.

الإمام الشافعي وجهوده في السنة

3- "الإمام الشافعي وجهوده في السنة": لا نظن أن أي إنسان كائنا من كان, مهما أوتي من البيان يتسنى له أن يوفي ترجمة الإمام من حق وإكرام وعرفان بما أسدى وما أدى للحديث خاصة وللعلم عامة، فمن الشافعي؟ إنه إمام الأئمة, وعلم هذه الأمة, وحيد دهره, وفريد عصره أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي القرشي الحسيب النسيب الملتقي مع الشفيع الحبيب صلى الله عليه وسلم في الجد الثالث "عبد مناف بن قصي", فهو من أشرف القبائل "قريش", وأفضلها بعد النبي وأصحابه. ولد سنة خمسين ومائة حيث مات أبو حنيفة, وهكذا يقدر الملك العلام أن يموت إمام ويحيى إمام, وكان مولده بغزة, ثم حمل إلى مكة, وهو ابن سنتين, وتربى بالصحراء, وأخذ كل ما فيها من صفاء, ورحل في طلب العلم ضاربًا في طول البلاد وعرضها, نقل عنه أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع والموطأ وهو ابن عشر, وكان أجل من رواه عن مالك وأفقههم به. وقد استظهر الشافعي علم المدينة بعد أن نهل من علم مكة وأخذ عن شيخ المكيين سفيان, كما استظهر فقه أبي حنيفة والعراقيين مشافهة عن محمد بن الحسن وأبي يوسف، كما سمع من ابن علية وابن أبي فديك ومن خلق لا يحصون. وعنه أخذ أساطين الرواية والفقه كأبي ثور والإمام أحمد ويونس بن

عبد الأعلى, وحرملة بن يحيى، والربيع بن سليمان المرادي, والربيع بن سليمان الجيزي, والمزني، وأبي يعقوب البويطي, وخلق كثير غيرهم. قال الإمام أحمد: إن الله تعالى يقيض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنن, وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب, فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي. وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يفتي وله خمس عشرة سنة, وكان يحيي الليل إلى أن مات. وقال ابن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها. ولقد برع الشافعي في كل شيء, فكان فارسًا لا يشق له غبار, حاذقا في الرمي, من أصوب قريش رماية, يصيب من العشرة عشرة. ولله دره من شاعر مجيد ولغوي متمكن ونسابة أحاط بأيام العرب خبرًا. ونقول مع الأستاذ المحقق الكبير السيد أحمد صقر أثناء تقدمته لكتاب: "مناقب الشافعي" للبيهقي: ولا أريد أن أطيل في ذكر ألوان عظمة الشافعي التي تتجلى من هذا الكتاب, فإن فيما رواه البيهقي عن داود بن علي الظاهري غنية عن ذلك. وأقوال داود تلك من أهم ما اشتمل عليه كتاب المناقب. قال داود: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره: فأول ذلك: شرف نسبه ومنصبه, وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم, ومنها: صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع.

ومنها: حفظه لكتاب ربه, ومعرفته به, وجمعه لسنن النبي, ومعرفته بالواجب منها من الندب, ومعرفته بناسخ القرآن من منسوخه, والعام منه والخاص, ثم معرفته بسيرة هدى نبيه صلى الله عليه وسلم, وأئمة الهدى بعده, ومغازي رسول الله وخلفائه, وتركه تقليد أهل بلده, وإيثاره ما دل عليه كتاب ربه وثبت عن نبيه. ثم ما كشف عن تمويه المخالفين, وما أبطل من زخرفهم بالحق الذي قذف به على باطلهم فيدمغه، ثم ما بين من الحق الذي سهل -بتوفيق خالقه- معرفته حتى استطال به من لم يكن يميز بين ظلام وضياء, وألفوا للكتب وناظروا المخالفين. ومنها: ما من الله عليه من منطقه الذي طبع عليه, وكان يعترف له به كل من شاهده, ويقر بتقصيره عن بلوغ أدنى ما من الله به عليه منه. ومنها: ما وقاه الله من شح النفس الموجب له الفلاح. وما علمت أحدا من عصره كان أمن على أهل الإسلام منه لما نشر من الحق وقمع من الباطل, وأظهر من الحجج وعلم من الخير". وقل أن تجد مترجما للشافعي إلا وهو يعتذر بضيق المقام عن توفية الإمام حقه من الإجلال والإعظام.

ونشير إلى أهم من ترجم له من الأئمة الأعلام؛ فمنهم: البخاري1، وابن أبي حاتم2، وابن النديم3، والبيهقي4، والخطيب5، وابن الجوزي6، وابن فرحون7، والذهبي8، وابن كثير9، وابن حجر10، والسيوطي11، والكتاني12، وابن خلكان13، والشيخ أبو زهرة14، والدكتور السباعي15، والدكتور أبو زهو16، والأستاذ عامر حيدر17، والدكتور صبحي صالح18.

_ 1 في التاريخ الصغير ق2، ص302. 2 في الجرح والتعديل ج7، ص201-104. 3 في الفهرست ص294-297. 4 في كتاب مناقب الشافعي, وهو جزآن يقارب الألف صفحة. 5 في تاريخ بغداد ج2، ص56-73. 6 في صفة الصفوة ج2، ص248-259. 7 في الديباج المذهب ج2، ص156-161. 8 في التذكرة ج1، ص361-363، في الكاشف ج3، ص17. 9 في البداية والنهاية ج10 ص251-252. 10 تهذيب التهذيب ج9، ص25-31. 11 في طبقات الحفاظ ص152-154، حسن المحاضرة ج1، ص303-304. 12 في الرسالة المستطرفة ص14. 13 في وفيات الأعيان ج4، ص163-169. 14 في تاريخ المذاهب الإسلامية ص435-482. 15 في السنة ومكانتها في التشريع ص439-441. 16 في: "الحديث والمحدثون" ص298-301. 17 في مقدمة تحقيقه لكتاب اختلاف الحديث للشافعي ص9-28. 18 في علوم الحديث ومصطلحه ص388-390.

جهود الشافعي في السنة: عن جهود الشافعي في السنة حدث بإسهاب, وأطنب ما وسعك الإطناب, فلقد كان رضي الله عنه فائق العناية بالحديث والمحدثين, شديد الاهتمام بالأصلين الأصيلين للدين, فكان أعلم أهل عصره بمعاني القرآن والسنة, وقد جمع في مذهبه بين أطراف الأدلة مع الإتقان والتحقيق والغوص على المعاني. ولقد عرف فضله على المشتغلين بالأثر, وذلك بإظهار معاني السنن ومعالمها, وامتشاقه الصارم المسلول في وجه كل من اجترأ على الحديث وأهله, أو آثر على القرآن والسنة سواهما. فها هو ذا يشتد على أهل الأهواء وكثيرا ما نهى عن ترك الكتاب والسنة إلى غيرهما من آراء الناس وأهوائهم، وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد. وقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد, ويطاف بهم في القبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, جزاهم الله خيرًا, حفظوا لنا الأصل, فلهم علينا الفضل. ومما قاله نظما في هذه المعنى: كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين ولقد صدق قول الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودًا, فأيقظهم الشافعي. فبم أيقظهم؟ بخدمته الجادة الدءوبة للسنة من خلال ذوده عن

حياضها, ومنافحته عن أهلها, أقام الحجج والبراهين على حجيتها, والتمس اعتماد خبر الواحد والركون إليه من آكد الوجوه, وبالغ في الرد على مهمليه, ولو وقفت على كتابه "الأم" المنسوب إليه قطعا, لبدت لك قطعية أدلته, وسلامة حجته, فكيف بك إذا قرأت الرسالة التي يكفيها تقريظا ومدحا أنها من تصنيف الشافعي؟ كتبها مرتين قديما في مكة, ثم أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي ببغداد, ويبدو أن ذا سر تسميتها بالرسالة، كان ابن مهدي قد طلب إليه أن يكتب له كتابا في معاني القرآن, فكتب له مجيبا طلبه, ثم أعادها الشافعي بمصر إملاء على الربيع, وهي أصل الأصول لكتب الأصول بين فيها منزلة السنة من الكتاب, ووجه بيانها له, ثم تكلم عن الناسخ والمنسوخ في تثبت ورسوخ, ثم سرد وجوها من الفرائض والأحكام, ثم أورد وجوها من علل الحديث, ثم تكلم عن العلم وأردفه بالحديث عن خبر الواحد والإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان والاختلاف؛ كل ذلك في أدب راق ورائق, وفي أسلوب مشوق فائق, وليس لمشتغل بالحديث أو الفقه أو الأصول أو التفسير غنى عن قراءة كتاب "الرسالة", ومن كتب الشافعي المتداولة المطبوعة كتاب "اختلاف الحديث". وقد طبع في حاشية الجزء السابع من كتاب "الأم" بمطبعة، بولاق, ثم حققه السيد عامر أحمد حيدر, وقدم له مقدمة طيبة, وخرج أحاديثه, وجاء الكتاب في ثلاثمائة وست عشرة صفحة. ويعنى باختلاف الحديث أو مختلفه إتيان حديثين متضادين في المعنى ظاهرًا, فإن أمكن التوفيق بينهما صير إليه, وإلا حاولنا الترجيح بينهما

فيعمل بالراجح دون غيره، وكان الشافعي أول من تكلم فيه, وصنف من غير قصد الاستيعاب, وإنما ذكر جملة منه في كتاب "الأم" ينبه بها على طريقة الجمع في ذلك. وقد صنف فيه بعض العلماء كابن قتيبة المتوفى سنة ست وسبعين ومائتين, وكمحمد بن إسحاق بن خزيمة المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة, وهو من أحسن الناس كلاما فيه حتى قال: لا أعرف حديثين متضادين, فمن كان عنده فليأتني بهما لأؤلف بينهما, ومن جمع الحديث والفقه والأصول والغوص على المعاني الدقيقة لا يشكل عليه من ذلك إلا النادر. والناظر في كتاب "اختلاف الحديث" للشافعي يجد أن كل أبوابه متصلة بالأحكام اللهم إلا كلامه في "باب بكاء الحي على الميت"1. ولا يبعد اندراجه في الأحكام أيضا, وبعد فكما قال شيخ المحققين الأستاذ أحمد محمد شاكر وهو يقدم لرسالة الشافعي: كفى الشافعي مدحا أنه الشافعي. نقول: إن الشافعي أمة وحده, وماذا لو أن العمر قد امتد به, ولكن لا مكان للو, فقد قدر الله وما شاء فعل, ولقي الشافعي ربه على خير العمل في شعبان سنة أربع ومائتين, وغمرت السعادة مصر والمصريين بجوار إمام الأصوليين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأدباء, عالم العلماء وفتى قريش الذي ملأ طباق الأرض علما فرضي الله عن الإمام الشافعي وأرضاه وطيب ثراه.

_ 1 اختلاف الحديث ص223-225.

ابن جريج وقيمة الرواية عنه

4- ابن جريج وقيمة الرواية عنه: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الأموي مولاهم المكي الفقيه صاحب التصانيف أحد الأعلام. هكذا وصفه الذهبي1, وذكر ابن سعد2 أنه ولد سنة ثمانين. روى عن حكيمة بنت رقيقة, وعن أبيه عبد العزيز, وعطاء بن أبي رباح, وإسحاق بن أبي طلحة, وزيد بن أسلم, والزهري, وصالح بن كيسان, وطاووس مولى ابن عباس, وابن أبي مليكة وعكرمة, وقيل: لم يسمع منه. وعمرو بن دينار, ومحمد بن المنكدر, ونافع مولى ابن عمر, وهشام بن عروة, وموسى بن عقبة, وأيوب السختياني, وجعفر الصادق, وخلق كثيرون من أجلاء التابعين وأتباعهم. وروى عنه ابناه: عبد العزيز ومحمد, وإمام أهل الشام الأوزاعي, والليث بن سعد, ويحيى بن سعيد الأنصاري وهو من شيوخه, وحماد بن زيد, وعبد الوهاب الثقفي وحفص بن غياث, وإسماعيل بن علية, وسفيان بن عيينة, وابن المبارك, وابن وهب, ومكي بن إبراهيم, وغندر, ووكيع, وآخرون ممن جلوا قدرا وعظموا أثرا, ولعل من أخذ عنهم ومن أخذوا عنه, يمثلون خط الدفاع الأول عن هذا الإمام, وقد رمز له الحافظ ابن حجر عند ترجمته له3 بما يدل على

_ 1 تذكرة الحفاظ ج1، ص169-171. 2 تهذيب التهذيب ج6، ص402-406. 3 في الطبقات الكبرى ج5، ص361-362.

أن الجماعة رووا له, وأخرجوا حديثه, ورمز له الذهبي بالرمز "صح" إشارة إلى أن العملَ على توثيقه, ثم قال عنه: "أحد الأعلام الثقات يدلس, وهو في نفسه مجمع على ثقته مع كونه قد تزوج نحوا من سبعين امرأة نكاح المتعة, كان يرى الرخصة في ذلك, وكان فقيه أهل مكة في زمانه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: بعض هذه الأحاديث, التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة, كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها -يعني قوله: "أخبرت وحدثت عن فلان"1. والمحدثون مجمعون على قبول تدليس الثقات إذا صرحوا بالسماع, وهم يرون أن تدليسهم نوع من الإرسال لما ثبتت صحته عند المدلس. ولا تقدم في الحكم على رواية هذا الرجل أحدًا على أصحاب الكتب الستة, سيما البخاري ومسلم, فمثل هؤلاء الأعلام أجل من أن يخفى عليهم وجه الصواب. وهاك طائفة من شهادات أئمة الجرح والتعديل في ابن جريج: قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: من أول من صنف الكتب؟ قال: ابن جريج وابن أبي عروبة. وقال طلحة بن عمر المكي: قلت لعطاء: من نسأل بعدك؟ قال: هذا الفتى إن عاش. وقال عطاء: شاب أهل الحجاز ابن جريج.

_ 1 ميزان الاعتدال ج2، ص659.

وقال علي بن المديني: نظرت فإذا الأسانيد تدور على ستة فذكرهم, ثم قال: فصار علم هؤلاء إلى من صنف في العلم منهم من أهل مكة عبد الملك بن جريج. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وغير واحد: لمن طلبتم العلم؟ فكلهم يقول: لنفسي. غير ابن جريج, فإنه قال: طلبته للناس. وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان: ابن جريج أثبت في نافع من مالك. وقال أحمد: ابن جريج أثبت الناس في عطاء، وقال أبو بكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد كنا نسمي كتب ابن جريج: كتب الأمانة, وإن لم يحدث بها ابن جريج من كتابه لم ينتفع به, وقال الأشرم عن أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان وقال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير, وإذا قال: أخبرني وسمعت فحسبك به. وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول: كان ابن جريج من أوعية العلم. وقال مالك: كان ابن جريج حاطب ليل. وقال ابن معين عن ابن جريج: ليس بشيء في الزهري. وقال ابن مريم عن ابن معين أيضا: ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب. وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقا, فإذا قال: حدثني. فهو سماع, وإذا قال: أخبرني. فهو قراءة، وإذا قال: قال. فهو شبه الريح، وقال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل: لم يسمع ابن جريج من عمرو بن شعيب, ولا من عمران بن أبي أنس. وقال أحمد: لم يسمع من عثيم

ابن كليب. وقال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج, فإنه قبيح التدليس, لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح؛ مثل إبراهيم بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما. ومع ذلك كله ذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من فقهاء أهل الحجاز وقرائهم ومتقنيهم وكان يدلس. وقال الذهلي: وابن جريج إذا قال: حدثني وسمعت. فهو محتج بحديثه, داخل في الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، وسئل أبو زرعة عن ابن جريج, فقال: بخ من الأئمة. وقال العجلي عن ابن جريج: مكي ثقة. وقال أبو عاصم: كان من العباد, وكان يصوم الدهر إلا ثلاثة أيام من الشهر. وبعد عرض هذه الأقوال يجدر بنا أن نحاكم الرجل محاكمة منصفة, فجريرته تتمثل في استمتاعه بسبعين امرأة بنكاح المتعة، الذي أداه اجتهاده إلى الترخيص فيه. ثم هو مدلس يدلس من غير الثقات, ومع ذلك فالأئمة الأثبات يعقدون له لواء الإمامة, ويوثقونه, وينقلون رواياته, ولا يردون شيئا مما صرح فيه بالسماع. هذا هو الاستنباط الصحيح من أقوال أئمة الجرح والتعديل, لكن الشيخ أبا رية, الذي نال من أبي هريرة ومن سائر الصحابة, وأنكر عد أبي هريرة في طبقتهم, وادعى أنه لم يحفظ القرآن, يرى قريبا من هذا في ابن جريج, بل ويغرب في تصيد الاتهامات له, فهو لا يشير ببنت شفه إلى قول

المعدلين فيه, وإنما يقول: "وممن كان يبث في الدين الإسلامي مما يخفيه قلبه: ابن جريج الرومي، الذي مات سنة خمسين ومائة, وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: إنه من أصل رومي, فهو نصراني الأصل, ويقول عنه بعض العلماء: إنه كان يضع الحديث، وإنه تزوج بتسعين امرأة زواج متعة"1. وإن تعجب فعجب أمر هذا التحامل, متى كان البخاري لا يوثقه؟ لقد ترجم له2. فأورد كثيرا من أقوال موثقيه, وكيف لا يوثقه, وقد روى له في الصحيح وفي غيره؟ وما الذي بثه ابن جريح في الإسلام من حقد؟ وهل يعاب عليه كون أصله روميًّا! إذًا فما أكثر المصيبين فأهل فارس, وأهل الروم, بل وأهل كل البلاد المفتوحة على ذلك المقياس معيبون! ولِمَ لَمْ يقبل تعليل الذهبي وغيره استمتاع ابن جريج بسبعين امرأة؟ وما الذي رفع العدد إلى تسعين؟ اللهم إنه الحقد الدفين, ليس من ابن جريج, وإنما من الذين يتهجمون ويتطاولون على أعلام الدين, ولتنظر لقول المترجمين لابن جريج غير من سبق كالخطيب3 وابن خلكان4 والسيوطي5.

_ 1 أضواء على السنة المحمدية ص162. 2 التاريخ الصغير ق2، ص98-99. 3 في تاريخ بغداد ج10، ص400-407. 4 في وفيات الأعيان ج3، ص163-164. 5 في طبقات الحفاظ ص74.

شعبة أمير المؤمنين في الحديث

5- شعبة أمير المؤمنين في الحديث: شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام العتكي، مولاهم، واسطي الأصل بصري الدار, رأى الحسن، ومحمد بن سيرين، وسمع قتادة, ويونس بن عبيد, وأيوب, وخالد الحذاء, وعبد الملك بن عمير، وأبا إسحاق السبيعي, وطلحة بن مصرف، وعمرو بن مرة، ومنصور بن المعتمر, وسلمة بن كهيل, وسليمان الأعمش، وعمرو بن دينار, وسعيد المقبري، وخلقًا كثيرا من طبقتهم. وروى عنه: أيوب السختياني, والأعمش, ومحمد بن إسحاق، وإبراهيم بن سعد, وسفيان الثوري، وشريك بن عبد الله, وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي, وعبد الله بن المبارك, وغيرهم. ولقد لقب شعبة بشيخ الإسلام الحافظ الحجة -أمير المؤمنين وكان أرعى الناس للمسكين وأرفقهم به- إذا رأى مسكينا لا يرفع عنه بصره حتى يغيب عنه. وكان أعرف أهل زمانه بشعر العرب, شديد الاشتياق من الحديث, يعتمد على ذاكرته, ولا يكتب إلا نادرًا، يسمع الحديث عشرين مرة, بينما يكتفي غيره بمرة, يكره التدليس كراهية شديدة, ويرى أنه أخو الكذب, ولأن يخر من السماء أهون عليه من أن يدلس, وكان جوادًا كريما شديد السخاء، منحه المهدي ثلاثين ألفا ففرقها, وما حبس شيئا على نفسه في طلب الحديث حتى إنه باع طست أمه بسبعة دنانير.

وبذلك كله استحق هذا الثناء العاطر، قال ابن المديني: له نحو ألفي حديث. وقال الثوري: شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وقال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. وقال أبو بكر البكراوي: ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة, لقد عَبَدَ اللهَ حتى جف جلده على عظمه واسود. وقال أبو داود الطيالسي: قلت ليحيى بن سعيد: رأيتَ أحدًا أحسن حديثا من شعبة؟ قال: لا. قلت: كم صحبته؟ قال: عشرين سنة. وقال أحمد بن حنبل: كان شعبة أمةً وحده في هذا الشأن. يعني في الرجال وبصره بالحديث. وقال الإمام أحمد: شعبة أثبت في الحكم من الأعمش, وأحسن حديثا من الثوري, لم يكن في زمن شعبة مثله. وقال ابن منجويه: كان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا وورعا وفضلا, وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين, وصار علما يقتدى به وتبعه عليه بعده أهل العراق. نعم كان شعبة جبل الحفظ, وسياج الرواية, وصونا للحديث, وسورًا صعب على أعداء السنة أن يتسوروه, وكان جديرا بتضرع وكيع بن الجراح إلى الله أن يرفع له في الجنة درجات بذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي سنة ستين ومائة1 لقي شعبة ربه راضيا مرضيا بعد سبع وسبعين سنة قضاها في خدمة الحديث, مما أورثه ذكرا خالدا, فرضي الله عن شعبة2.

_ 1 انظر ترجمته في التاريخ الصغير ق2، ص135. 2 تاريخ بغداد ج3 ص255-266. وتذكرة الحفاظ ج1 ص193-197. وطبقات الحفاظ ص83-84.

سنة قضاها في خدمة الحديث, مما أورثه ذكرا خالدا, فرضي الله عن شعبة1.

_ 1 تاريخ بغداد ج3 ص255-266. وتذكرة الحفاظ ج1 ص193-197. وطبقات الحفاظ ص83-84.

علم الرواية والنقد والورع والزهد ابن المبارك

6- علم الرواية والنقد والورع والزهد "ابن المبارك": عبد الله بن المبارك بن واضح التميمي: الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام, فخر المجاهدين, قدوة الزاهدين؛ أبو عبد الرحمن الحنظلي, مولاهم, المروذي, التركي الأب, الخوارزمي الأم, التاجر السفار, صاحب التصانيف النافعة والرحلات الشاسعة، ولد سنة ثماني عشرة ومائة أو بعدها بعام. سمع سليمان التيمي, وعاصم الأحول, وحميد الطويل, والربيع بن أنس, وهشام بن عروة, وخالد الحذاء, وأمما سواهم؛ ودون العلم في الأبواب والفقه وفي الغزو والزهد والرقائق وغير ذلك. وحدث عنه خلق لا يحصون من أهل الأقاليم منهم: عبد الرحمن بن مهدي, ويحيى بن معين, وحبان بن موسى, وأبو بكر بن أبي شيبة وأخوه عثمان, وأحمد بن منيع, والحسن بن عرفة, وكثير غيرهم. وقد منح الله ابن المبارك التقوى والعبادة والإخلاص والجهاد وسعة العلم والإتقان والمواساة, وما لا يحصى من الصفات الحميدة.

قال ابن مهدي: الأئمة أربعة: مالك والثوري وحماد بن زيد وابن المبارك. وقد فضله ابن مهدي أيضا عن الثوري, وقال مرة: حدثنا ابن المبارك وكان نسيج وحده. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه. وقال يحيى بن معين: كان ثقة متثبتا, وكانت كتبه التي حدث بها نحوا من عشرين ألف حديث. وقال عباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء ومحبة الفرق له. وقد اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك فقالوا: عدوا خصال ابن المبارك. فقالوا: جمع العلم, والفقه, والأدب, والنحو, واللغة, والزهد, والشجاعة, والشعر, والفصاحة, وقيام الليل, والعبادة, والحج, والغزو, والفروسية, وترك الكلام فيما لا يعنيه, والإنصاف, وقلة الخلاف على أصحابه. وقال نعيم بن حماد: ما رأيت أقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا منه. وقال عبد الله بن سنان قدم ابن المبارك مكة وأنا بها فلما خرج شيعه بن عيينة والفضيل بن عياض وودعاه, فقال أحدهما: هذا فقيه أهل المشرق. فقال الآخر: وفقيه أهل المغرب. وقد أقسم الفضيل على أنه ما رأت عيناه مثل ابن المبارك. وقد صنف ابن المبارك في الزهد كتابا خطه واقعُه قبل أن يخطه يراعُه, حتى قيل: إنه كان إذا تكلم في الزهد, فكأنه ثور مذبوح لا يقوى على الكلام.

وكتاب الزهد مطبوع, وهو في بابه بديع, أحسن ابن المبارك ترتيبه وأجاد تبويبه، وله كتاب مطبوع أيضا في الجهاد, ويروعك صدق تعبيره وقوة تأثيره؛ لصدوره من جوانح بطل مغوار, خبر الحرب وخاض غمارها, وأبلى في الله خير البلاء, فقد كانت له مشاركة في الغزو ومرابطة في ثغور الإسلام. قال عبده بن سليمان المروزي: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو, فدعا إلى البراز, فخرج إليه رجل فقتله, ثم آخر فقتله, ثم دعا إلى البراز, فخرج إليه رجل, فطارده ساعة, فطعنه, فقتله, فازدحم إليه الناس, فكنت فيمن ازدحم إليه, فإذا هو يلثم وجهه, فأخذت بطرف كما, فمددته, فإذا هو عبد الله بن المبارك. ولابن المبارك كتاب في الحديث يعرف "بمسند ابن المبارك", وهو مخطوط, وله شعر جميل معبر, ومنه ما نقله السخاوي1 في ترجمة المقريزي: قد أرحنا واسترحنا ... من غدو ورواح واتصال بلئيم ... أو كريم ذي سماح بعفاف وكفاف ... وقنوع وصلاح وجعلنا اليأس مفتا ... حًا لأبواب النجاح وهكذا كانت مشاركة ابن المبارك لأهل عصره, وكان عمره المبارك الطيب الذي كانت خاتمته حين أدركته الوفاة سنة إحدى وثمانين ومائة2.

_ 1 في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ج2، ص24. 2 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد ج7، ق2 ص104-105، تاريخ بغداد ج10، ص152-169، تذكرة الحفاظ ج1، ص274-279، طبقات الحفاظ ص117-118, الرسالة المستطرفة ص37.

مسك الختام مع علم الأعلام في الرواية والنقد ابن مهدي

7- "مسك الختام مع علم الأعلام في الرواية والنقد": "ابن مهدي" هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان، الحافظ الكبير والإمام العلم الشهير، اللؤلؤي أبو سعيد البصري، ولد سنة خمس وثلاثين ومائة، لقي أساطين الرواية, وسمع منهم, وحدث عنهم؛ كهشام الدستوائي ومعاوية بن صالح وشعبة وسفيان الثوري، وروى عنه: ابن المبارك وأحمد وإسحاق وابن المديني وخلق سواهم. وقد برز ابن مهدي, ولمع بكثرة ما حصل وجمع, وقد دقق في الرواية وتحقق, وفحص الرواة, وفتش عن حالهم, ومحص الأخبار, وخلصها من الشوائب والأكدار, وكان أحد الجهابذة الذين عاشوا لمجابهة الوضع والوضاعين, وتخليص الدين وتصفيته من إفك الأفاكين. قال عنه أحمد بن حنبل: هو أفقه من يحيى القطان، وهو أثبت من وكيع؛ لأنه أقرب عهدا بالكتاب، اختلفا في نحو من خمسين حديثا للثوري, فنظرنا, فإذا عامة الصواب مع عبد الرحمن. وقال إسماعيل القاضي: سمعت عليًّا يقول: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي. وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: ما رأيت أحدًا أتقن لما سمع ولما لم يسمع ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي. وقال القواريري: أملي على ابن مهدي عشرين ألف حديثا حفظا.

وقال نعيم بن حماد: قلت لابن مهدي: كيف تعرف الكذاب؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون. وكان عبد الرحمن فقيها بصيرا بالفتوى عظيم الشأن؛ لذا قال ابن المديني: لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت إني لم أر مثل عبد الرحمن. وكان يقول: أعلم الناس بقول الفقهاء السبعة: الزهري, ثم بعده مالك، ثم بعده ابن مهدي. وكان يكثر قراءة القرآن فيختمه في كل ليلتين مرة, وكان يرى أن معرفة الحديث إلهام. وقد انعقد الإجماع على أنه ثقة ثبت, وأن روايته عن الرجل توثيق له, وأن من أراد الدين والدنيا أتى بيته ونظر إليه, وقد اتسم بالهيبة والوقار واستحق الإجلال والإكبار لما أداه من دور في خدمة الحديث والمحدثين. وقد انتقل ابن مهدي إلى رحاب رب العالمين في شهر رجب سنة ثمان وتسعين ومائة1, بعد ثلاثة وستين عاما نافح فيها عن الحديث وكافح, فرضي الله عنه وأرضاه.

_ 1 انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد ج7، ق2، ص50, تاريخ بغداد ج10، ص240-248, تذكرة الحفاظ ج1، ص329-332, طبقات الحفاظ ص139.

خاتمة

"خاتمة": وإلى هنا يتوقف القلم, وفي سحر ليلة الأربعاء ينتهي الإملاء, مع الوعد بالقاء في ثاني الأجزاء من هذا الكتاب الذي توطد العزم على متابعة مسيرة المحدثين من خلاله. وقد عشنا مع القرنين الأولين, ويبقى من خير القرون ثالثها, وكأن الذي ألهم النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالخيرية على القرون قدر أن يجعل مسك الختام في آخرها, فحشد له جهد أئمة صدقوا الله ما عاهدوه عليه, فكانت شمس الكتب الستة, وغيرها, وانعكست أضواء تلك الشموس على القرن الهجري الرابع, فأومضت الوميض اللامع, ومع ذلك كله نترك القاري إلى الجزء الثاني عسى أن يوفق الخالق الباري، وعسى أن يكون التوفيق قد حالف الكلمة، فإن كان كذلك فلله الحمد والمنة وإلا فخواتيم سورة البقرة خير ما يسعنا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . ونختم بما كان يختم به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مجلس التحديث؛ فقد روى الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يختم مجلس التحديث بهذا الدعاء:

"اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك, ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك, ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا, ومتعنا بأسماعنا, وأبصارنا, وحواسنا, وقوتنا ما أحييتنا, واجعله اللهم الوارث منا. اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا, وانصرنا على من عادانا, ولا تجعل مصيبتنا في ديننا, ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي". وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والله أعلى وأعلم وأجل وأكرم. الأستاذ الدكتور/ أحمد محرم الشيخ ناجي. أستاذ مساعد ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين والدعوة "بأسيوط"

الفهرس

الفهرس ... الفهارس: الصفحة الموضوع 5 المقدمة 14 التعريف بمناهج المحدثين كعلم وبيان أهميته المبحث الأول: الحديث في العهد النبوي 19 القرآن يقدم الحديث وصاحبه إلى الأمة 25 على طريق التأكيد تمضي المائدة والأنفال 28 القرآن يواصل حديثه عن استواء طاعة الله ورسوله في الوجوب 31 قمة ما تستند إليه السنة في حجيتها 35 المطاع والمطاع فيه والمطيعون 35 المطاع 43 المطاع فيه: "السنة أو الحديث" 44 أمثلة للطرق التي تعلو السنة من خلالها 47 المطيعون 50 الترغيب في طلب العلم وحفظ السنة وتبليغها 53 إقبال الصحابة على تلقي الكتاب والسنة 57 وجوه بيان السنة للقرآن 69 عوامل وأسباب انتشار السنة في العهد النبوي المبحث الثاني: 76 السنة في عهد الصحابة 81 احتياط الصحابة وتثبتهم من الراوي والمروي 86 نقد الصحابة للمتن

الصفحة الموضوع 94 رد ما جاء في ضعيف الخبر أن عمر حبس ثلاثة نفر من الصحابة لإكثارهم الرواية 97 1- ابن مسعود 98 2- أبو الدرداء 99 3- أبو مسعود الأنصاري 101 هل روى الصحابة الحديث بالمعنى أم باللفظ 105 دعوى باطلة وردها 114 عدالة الصحابة ومعناها 119 المكثرون من الرواية والتعريف بهم 120 رواية الإسلام: أبو هريرة 122 عدد مروياته وما أثير حوله من شبه 128 افتيات أبي رية وجرأته 135 المكثرون من الرواية "عبد الله بن عمر" 138 من المكثرين من الرواية "أنس بن مالك" 141 من المكثرين من الرواية "أم المؤمنين عائشة" 143 من المكثرين من الرواية "عبد الله بن عباس" 146 من المكثرين من الرواية "جابر بن عبد الله الأنصاري" 148 من المكثرين من الرواية "أبو سعيد الخدري" 149 من المكثرين من الرواية "عبد الله بن عمرو بن العاص" 154 كلمة عن الإسرائيليات وموقف الصحابة منها والرد على المتقولين 160 من وهب؟ ومن ولد؟ وما رأي علماء الجرح والتعديل فيه المبحث الثالث: 164 التابعون والحديث إلى نهاية القرن الأول 168 من هم التابعون

الصفحة الموضوع 170 هل التابعون كلهم عدول 172 ظهور الفرق في عهد التابعين 173 الخوارج 175 قلة فقه الخوارج واجتراؤهم على الحديث 179 الشيعة 173 موقف الشيعة من الحديث ووضعهم له 189 الفرق الأخرى وأثرهم في الحديث 196 جهد التابعين في المحافظة على الحديث ومقاومة الضالين 201 أهم المدارس الحديثية في الأمصار الإسلامية ومناهج المحدثين فيها 203 1- مدرسة المدينة 205 2- مدرسة مكة 207 3- مدرسة الكوفة 208 4- مدرسة البصرة 210 5- مدرسة الشام 211 6- مدرسة مصر 214 7- مدرسة اليمن 216 1- سعيد بن المسيب 218 2- سالم بن عبد الله 219 3- سليمان بن يسار 220 4- عبد الله بن عتبة 221 5- عروة بن الزبير 222 6- القاسم 223 7- ابن شهاب الزهري

الصفحة الموضوع 232 مناهج المحدثين في القرن الهجري الثاني 239 1- أبو حنيفة 356 2- الإمام مالك 288 3- الإمام الشافعي 295 4- ابن جريج 300 5- شعبة 302 6- ابن المبارك 305 7- ابن مهدي

§1/1