الضروري في أصول الفقه = مختصر المستصفى

ابن رشد الحفيد

بسم الله الرحمن الرحيم الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى لأبي الوليد محمد بن رشد الحفيد المتوفى سنة 595هـ تقديم وتحقيق جمال الدين العلوي دار الغرب الإسلامي بيروت الطبعة الأولى 1994

مقدمة التحقيق

مقدمة التحقيق 1- أما بعد حمدا لله معلم البيان, وموجب النظر والإستدلال, ومختص الإنسان بإقامة الحجج البالغة وضرب الأمثال, والصلاة على محمد خاتم الرسل ونهاية التمام والكمال فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت على جهة التذكرة, من كتاب أبي حامد رحمه الله في أصول الفقه الملقب بالمستصفى, جملة كافية بحسب الأمر الضروري في هذه الصناعة ونتحرى في ذلك أوجز القول وأخصره , وما نظن به أنه صناعي. وقبل ذلك فلنقدم مقدمة نافعة في غرض العلم المطلوب ها هنا , ومنفعته فنقول: 2-إن المعارف والعلوم ثلاثة أصناف (¬1) : إما معرفة غايتها الإعتقاد الحاصل عنها في النفس فقط , كالعلم بحدث العالم , والقول بالجزء الذي لا يتجزأ وأشباه ذلك. وإما معرفة غايتها العمل , وهذه منها كلية وبعيدة في كونها مفيدة للعمل. فالجزئية كالعلم بأحكام الصلاة والزكاة وما أشبههما من جزئيات الفرائض والسنن. والكلية كالعلم بالأصول التي تبنى عليها هذه الفروع من الكتاب والسنة والإجماع. والعلم بالأحكام الحاصلة ¬

(¬1) يختلف تصنيف العلوم هاهنا عما ذهب إليه الغزالي في المستصفى , فقد قسم أبو حامد العلوم إلى دينه وعقلية. ثم فصل القول في الدينية التي قسمها إلى كلية وجزئية وجعل علم الكلام العلم الكلي والعلوم الأخرى بما فيها أصول الفقه علوما جزئية. وذهب أبو حامد في موضع آخر إلى أن أوصل الفقه من علوم النظرية. أما ها هنا فالمعلوم نظرية أو عملية أو آلية وأوصل الفقه علم آلي منطقي.

عن هذه الأصول على الإطلاق وأقسامها , وما يلحقها من حيث هي أحكام. وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن نحو الصواب في هاتين المعرفتين , كالعلم بالدلائل وأقسامها , وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا. وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمها سبارا وقانونا, فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في مالا يؤمن أن يغلط فيه. (¬1) 3- وبين أن كلما (¬2) كانت العلوم أكثر تشبعا, والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور يضطر إليها من تقدمهم, كانت الحاجة فيها على قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر. وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفي ما سلف من لدن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه صلى الله عليه وسلم بهاتين الحالتين, ولذلك لم يحتج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم. ¬

(¬1) يمكن اعتبار التصنيف الثلاثي للعلوم تصنيفا فريدا بالقياس إلى ما ذهب إليه ابن رشد في أعماله اللاحقة على هذا المختصر, وذلك على الرغم من أنه لا يخرج عن التصنيف العام للعلوم إلى نظرية وعملية آلية, وهو ما ذهب إليه ابن رشد مع غيره من المتقدمين. هذا ولا شك أن القارئ سيستغرب لاستعمال كلمة البركار التي لم يكن الأندلسيون ولا المغاربة يستعملونها ولكنه من جهة أخرى لن يستغرب من استعمالها عند ابن رشد قارئ النصوص الفلسفية المشرقية وقارئ أبي نصر الفارابي. (¬2) في الأصل: وبين أن كل ما.

4-وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة, ويسقط الاعتراض على أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها, وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها, وأنت تتبين ذلك من فتواهم رضي الله عنهم, بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتواهم مسألة مسألة. 5- فأما أجزاء هذه الصناعة بحسب ما قسمت إليه في هذا الكتاب (¬1) فأربعة أجزاء: فالجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام, والثاني في أصول الأحكام والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل, وكيف استعمالها. والرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه. 6- وأنت تعلم مما تقدم من قولنا في غرض هذه الصناعة, وفي أي جنس من أجناس العلوم هي داخلة, أن النظر الخاص بها إنما هو في الجزء الثالث من هذا الكتاب, لأن الأجزاء الأخرى من جنس المعرفة التي غايتها العمل, ولذلك لقّبوا هذه الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا منها, فدعوها بأصول الفقه. والنظر الصناعي يقتضي أن يفرد القول في هذا الجزء الثالث إذ هو مباين بالجنس لتلك الأجزاء الأخرى. ويقتصر من تلك على أحد أمرين: -إما أن توضع بحسب أشهر المذاهب فيها، وهو ما يراه مثلا أهل السنة. ¬

(¬1) يقصد كتاب المستصفى

وإما أن يرسم ويعدد الاختلاف الواقع فيها، وتعطى الأحوال والقوانين التي بها تستنبط الأحكام بحسب رأي رأي في تلك الأصول. وبالجملة كيف لزوم بعض تلك الآراء فيها عن بعض، ومناسبتها للفروع، حتى يقال مثلا كيف يكون الاستنباط على رأي الظاهرية وعلى رأي القائلين بالقياس. وبالجملة بحسب رأي رأي من الآراء المشهورة. وهذا الوجه هو الأنفع في هذه الصناعة، وبهذا النظر يكون لهذا الجنس من المعارف صناعة تامة وكلية وكافية في نظر الجميع من أهل الاجتهاد. 7-لكن رأينا أن نجري في ذلك على عادة المتكلمين في هذه الصناعة، ونتحرى في تقسيمها الترتيب الواقع في هذا الكتاب (¬1) ، إذ هو أحسنها نظرا وأحرى أن يكون صناعيا، غير أننا سنشير إلى شيء من ذلك الغرض. 8-ومما تقدم من قولنا يتبين غرض هذا الكتاب، ونسبته إلى سائر العلوم، ومرتبته، وما يدل عليه اسمه، وأقسامه. وهي الجمل النافع تقديمها للمتعلم عند شروعه في الصناعة. ولنبدأ من حيث بدأ. 9- وأبو حامد قدم قبل ذلك مقدمة منطقية زعم أنه أداه إلى القول في ذلك نظر المتكلمين في هذه الصناعة في أمور ما منطقية، كنظرهم في حد العلم وغير ذلك. ونحن فلنترك كل شيء إلى موضعه، فإن من رام ¬

(¬1) يقصد كتاب المستصفى لأبي حامد.

أن يتعلم أشياء أكثر من واحد في وقت واحد لم يمكنه أن يتعلم ولا واحدا منها (¬1) . ¬

(¬1) ورد هذا النص في روضة الإعلام ورقة143ب. أنظر حاشية ص 21 هامش رقم (1) من المطبوع. (عبد العزيز الساوري) وأبو حامد أيضا يؤكد أن هذه المقدمة المنطقية ليست من علم الأصول ومن أراد ألا يثبتها فليبدأ بأول الكتاب. يقول (ص 10) : ((نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان وتذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامها على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم. وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بمعلومه أصلا. فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة كحاجة أصول الفقه)) . المستصفى مكتبة المثنى ببيروت ,دار إحياء التراث العربي_ بيروت_لبنان. د. ت.

القول في الجزء الأول من هذا الكتاب

القول في الجزء الأول من هذا الكتاب

صفحة فارغة في الأصل

القسم الأول

10-وهذا الجزء الأول ينقسم إلى أربعة أقسام: وهي النظر في حد الحكم ,وفي أقسامه ,وفي أركانه, وفي مظهره. القسم الأول 11 - أما حد الحكم عند أهل السنة (¬1) فهو عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين بطلب أو ترك فإذا لم يرد هذا الخطاب لم تتعلق بالأفعال صفة تحسين أو تقبيح، فيكون الحسن والقبح على هذا ليس وصفا ذاتيا للأفعال. وذهبت المعتزلة إلى أن الحسن والقبيح وصف ذاتي للأفعال، فبعض ذلك مدرك بضرورة العقل كالكذب وشكر المنعم، وبعضه بانضمام الشرع كالطهارة والصلاة لما فيهما مثلا من اللفظ المانع من الفحشاء ومن النظافة. وفائدة معرفة هذا الاختلاف في هذه الصناعة تتصور عند النظر في القياس المناسب والمخيل وجميع أنواعه، وعند النظر في تصويب المجتهدين وتخطئتهم. أما أهل السنة فحجتهم أن الحسن والقبيح يطلق في عرف المتكلمين على معان. أولها وأشهرها ما يوافق غرض المستحسن أو يخالفه. حتى يستحسن سمرة اللون مثلا واحد ويستقبحها آخر. وهذا أمر إضافى لا كالسواد والبياض الموجودين للأشياء بذاتها. والثاني ما حسنه الشرع أو قبحه. والثالث من معاني الحسن ما كان للإنسان مباحا فعله. وكل هذه أوصاف إضافية لا ذاتية. ومعنى ذلك أن ليس للحسن والقبح وجود ¬

(¬1) يقول الغزالي في هذا الموضع من المستصفى: ((عندنا)) بدل ((عند أهل السنة)) كما وردت في مختصر ابن رشد هذا.

خارج العين. 12ـ وأما المعتزلة فاستدلوا على أن الحسن والقبح وصف ذاتي للأشياء باتفاق العقل على القول بهما من غير إضافة كحسن الصدق وقبح الكذب، وبالجملة من حيث هذه القضايا مشهورة ومتفق عليها. وظاهر أن الأمور المعقولة قد يلحقها أن تكون مشهورة، وأن ذلك غير منعكس. 13ـ والقول في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله. ويشبه ألا يكون في واحد من هذين القولين كفاية في الوقوف على هذه المسألة. وقد احتجت المعتزلة على أن مدرك الوجوب في بعض الأمور بالعقل كشكر المنعم وغير ذلك، فإن حصرها في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل عند دعائهم إلى النظر، لأنا ما لم نعلم وجوب النظر لم ننظر، وما لم ننظر لم نتحقق دعوى الشارع فيما دعا إليه، وما لم نتحقق دعواه فلا سبيل إلى الإيمان بما دعا إليه سواء كان المدعو إليه، في نفسه حقا أو لم يكن لا سبيل لنا على هذا الوجه إلى حصول العلم به. 14ـ وقد ألزم المتكلمون المعتزلة في كون مدرك وجوب النظر عقلا شكا ما، وهو أن وجوب النظر إن كان مدركا عقلا فلا يخلو أن يكون ذلك ضرورة أو اكتسابا، فإن كان (¬1) ضرورة لم يغفل أحد عن علم الله، وإن كان مكتسبا بنظر انعكس عليهم القول في مدرك وجوب النظر في دعوى الشرع، وذلك إلى غير نهاية. 15ـ والذي ينبغي عندي أن يقال في هذا الموضع فهو أن التصديق ¬

(¬1) في الأصل:. فإن كل.

بدعوى الشارع عند ظهور المعجزة وفق دعواه هو من جنس المعارف الضرورية، وأن التصديق يقع بمشاهدة ذلك اضطرارا أو بوجودها تواترا، وإنما يتصور وجوب النظر أو لا وجوبه في معرفته بنظر واستدلال. وتكلف ما سوى هذا من القول في هذا الموضع تشويش للعقائد أو عناء. ولو أن واحدا واحدا من المدعوين للشرع تكلف مثل هذه الشكوك عند النظر فيما دعا إليه الشرع لكان إيمان كثير من الناس مما لا يقع، ولو وقع لكان في النادر. وبالجملة فكأن يكون دعاء الله الناس إلى الإيمان بالشرع بمثل هذه الطرق في حق الأكثر من باب تكليف ما لا يطاق. وليس يلزم من كون المعرفة بذلك ضرورية ألا ينفك عن الإقرار بها أحد، فإنه كما أنه ليس من شرط المتفق عليه أن (¬1) يكون ضروريا كذلك ليس من شرط الضروري أن يكون متفقا عليه. وهذا كله ليس من هذا العلم (¬2) . 16ـ أما من ذهب من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة فإنما أرادوا بذلك ما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح. ومن قال منهم أنها على الوقف فأراهم رأوا ذلك فيما لا يدرك من الأفعال الحسن والقبح فيه إلا بانضمام الشرع إلى العقل، كما تقدم من آرائهم. وأما من قال من الناس إنها قبل ورود الشرع على الحظر فقول لا معنى له، وهو بين السقوط بنفسه (¬3) . ¬

(¬1) في الأصل: لأن. (¬2) وقريب من هذا ذهب إليه في الفصل والكشف والتهافت وفي غيره من شروحه الفلسفة الأخرى. (¬3) ينسب المستصفى هذا الرأي الأخير إلى المعتزلة أيضا لا إلى الناس هكذا بغموض وإطلاق كما فعل ابن رشد.

القول في القسم الثاني من الجزء الأول

القول في القسم الثاني من الجزء الأول 17ـ وهو يتضمن النظر في أقسام الأحكام وحدودها ومسائل تلحقها فنقول: إن الحكم، وهوالذي تقدم رسمه، ينقسم إلى طلب وترك أو تخيير فيهما وهو المسمى مباحا. والطلب ينقسم إلى واجب وندب، والترك ينقسم إلى محظور ومكروه. وحد الواجب أنه ما ورد خطاب الشرع بترجيح فعله مع توعد بالعقاب على تركه من حيث هو ترك له بإطلاق، وإنما زدنا في الحد قولنا: مع توعد بالعقاب على تركه، لأن الواجب على مذهب أهل السنة لا يتصور دون الضرر أو النفع، وزيادتنا فيه أيضا: من حيث هو ترك له بإطلاق، تحفظا من الواجب المخير. والتوعد بالعقاب ربما ورد قطعا وربما ورد ظنا. وأصحاب أبي حنيفة يخصون الأول باسم الفرض والثاني باسم الواجب، ولا مشاحة في الأسماء إذا فهمت المعاني. وحد الندب أنه المرجح فعله من غير توعد بالعقاب على تركه. ومن حد الواجب نقف على حد المحظور لأنه مقابله، وكذلك من حد الندب نقف على حد المكروه. وحد المباح ما دل الشرع على التسوية بين فعله وتركه، وذلك إما أن يرد الخطاب بالتخيير فيهما، أو برفع الحرج عنهما أو يدل دليل العقل أنه على البراءة الأصلية بعدم الدليل الشرعي على تعلق حكم به، على ما سيأتي بعد. فصل: 18- والواجب ينقسم إلى معين وإلى مخير بين أقسام محدودة، وذلك إما في الفعل وإما في الزمان. ويسمون الغير معين الفعل بين أقسام

محدودة الواجب المخير، والغير معين الزمان الواجب الموسع (¬1) 19- وقد أنكرت المعتزلة جواز مثل هذا الواجب عقلا ووقوعه شرعا، وقالوا إن كانت الخصال الثلاث في الكفارة مستوية في الصفة بالإضافة إلى صلاح العبد، فينبغي أن يوجب الجميع لتساويها في صلاح العبد، وهذا مبني على رأيهم في الصلاح والأصلح. وأيضا فلو سلمت لهم هذه القاعدة للزمهم نقيض ما وضعوا، وهو أنه إذا كان كل واحد منهما مساويا لصاحبه في وقوع الصلاح به فاستعمال جميعها عبث، وكذلك استعمال واحدة منها على التعيين، وهم لا يجوزون مثل هذا على الله، وكأنهم لم يتحفظوا بأصولهم في هذه المسألة، واحتجوا أيضا بأن علم الله متعلق بالذي يأتي العبد منها فهو متعين ضرورة في نفسه، ولا يتصور في هذا تخيير. 20- والكلام في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله، بل يكفي من ذلك ههنا أن نقول: إن وقوع مثل هذا شرعا موجود كخصال الكفارة، وانعقاد الإجماع على اتباع أوقات أكثر الصلوات. والذي أنكرت المعتزلة يلزمهم مثل ذلك في المباح، وبالجملة يلحق هذا الاعتراض الممكن بما هو ممكن. 21-وقد دفع بعض الفقهاء تسمية مثل هذا واجبا، وقالوا إنما يتصف بالوجوب في الزمان آخر الوقت، إذ فيه يقع العقاب على ترك إيقاع الصلاة فيه. ومثل هذا الاعتراض يلحق الواجب المخير، إلا أن ¬

(¬1) إدخال أداة التعريف على ((غير)) خطأ نقف عليه في جميع مخطوطات مؤلفات ابن رشد على اختلاف تاريخ نسخها ونساخها مما يدل على أنها وردت كذلك في الأصول القديمة. ولعلها أن تكون من بين العلامات التي تفيد في نسبة هذا المختصر إلى فيلسوف قرطبة ومراكش.

فصل:

تعدم الخصلتان فحينئذ يتصور وجوب الثالثة. والذي ينبغي أن يقال في مثل هذا أنه يشبه الوجوب من جهة، والندب من أخرى. أما شبهه للوجوب فلأنه يرتفع الفرض بالصلاة في أول الوقت، وأما شبهه بالندب فما ذكر في الاعتراض. 22-وهذه المنازعة لفظية، ولذلك سمي الواجب الموسع، وهو أيضا يفارق الندب من جهة أن تركه إنما يكون بشرط العزم على إتيانه مع الذكر، إذ كان اعتقاد الترك مطلقا حراما. فصل: 23-وكذلك اختلفوا فيما لا يتم الواجب إلا به هل يسمى واجبا. ووجه القول فيه أن هذا ينقسم إلى ما ليس للعبد في فعله اختيار كالقدرة على المشي مثلا، فهذا لا يوصف بالوجوب بل هو من شرط تكليف الوجوب، أو إلى ما للعبد في فعله اختيار، وهذا فينبغي أن يتصف بالوجوب كالطهارة المشترطة في الصلاة. وكأن وجوب مثل هذا إنما هو من أجل غيره لا من أجل ذاته، فتنشأ ههنا قسمة أخرى للواجب وهو أن منه ما هو واجب من أجل غيره ومنه ما هو واجب بذاته. والواجب أيضا ينقسم إلى ما يتقدر بقدر محدود وإلى ما لا يتقدر بقدر محدود، كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع، والواجب من هذا هو أقل ما ينطلق عليه الإسم ويبقى الباقي ندبا ,وهذا إنما يتصور فيما وقع من الأفعال متتابعا أو متشافعا ,وبالجملة ما لم تقع أجزاؤه معا. 24-فهذا هو القول في تحديد أنواع الأحكام وتقسيمها ,وقد بقي القول في مسائل كلية تلحقها.

مسألة أولى:

فأول مسألة منها أنا نقول ,إذا مات المكلف في أثناء الوقت ولم يقض لم يمت عاصيا بإجماع السلف على ذلك. وقول من أثمه خطأ, فإنا نعلم قطعا أنهم كانوا لا يؤثمون من مات وقد مضى من الوقت مقدار ما تقع فيه الصلاة. فإن قيل فكيف يجوز الترك مع العزم وهو لا يعرف سلامة العافية، قلنا لا يجوز الترك مع العزم إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها، كما يجوز للمعزر أن يضرب إلى حد لا يغلب على ظنه الهلاك. ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز تأخير الحج إلى سنة لأن البقاء إليها لا يغلب على الظن. وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر أو شهرين فجائز. والشافعي رحمه الله يرى البقاء إلى سنة غالبا على ظن الشباب. مسألة ثانية: 26-الأحكام تنقسم إلى واجب كما تقدم ,ومقابله في الطرف الأقصى المحظور ,وهو الحرام, وبينهما متوسطان ,وهما (¬1) الندب والمكروه. وبين أن المتقابلات التي بينها متوسط ليس يلزم (¬2) عن رفع أحدهما وجود الآخر، فلذلك أخطأ من زعم أن الوجوب إذا نسخ رجع إلى ما كان قبل من حظر. وإنما يكون ذلك لو لم يكن بين الواجب والحرام واسطة. وأبين من هذا أن يرجع إلى ما كان قبل من إباحة، إذ ليس يتضمنها جنس هذه المتقابلات الذي هو الطلب. 27-وهنا يتبين (¬3) سقوط قول من قال المباح مأمور به. وكذلك ¬

(¬1) في الأصل: وهو. (¬2) في الأصل: يلز. (¬3) في الأصل: نبين.

مسألة ثالثة:

يتبين أنه ليس من التكليف، إذ التكليف طلب ما فيه كلفة. ومن سماه تكليفا وذهب في ذلك إلى أنه الذي كلفنا اعتقاد إباحته في الشرع، أو أنه الذي اعتقاد كونه من الشرع، فهو مستكره في التسمية. وبالجملة فهذا النظر لغوي وهو أليق بغير هذا الموضع، ومما تقدم أيضا من هذا القول يتبين أن المندوب مأمور به إذ هو طلب ما واقتضاء. فأما من زعم أن الأمر إنما يطلق على ما في تركه عقاب، فهي دعوى لغوية, وعلى مدعيها إثبات ذلك عرفا شرعيا أو وضعا لغويا. 76 /1 مسألة ثالثة: الحرام ضد الواجب 28 - وإذا كان حد المتضادين أنهما اللذان لا يجتمعان في شيء واحد بالعدل في وقت واحد من جهة واحدة، فلا يجوز في الشرع تعلق الحظر والإيجاب بشيء واحد من جهة واحدة في وقت واحد. فأما تعلقهما بشيئين أو في وقتين فذلك ما لا خلاف فيه، ولا يرجع النهي عن أحدهما على الثاني بالفساد، سواء كان ذلك في شيئين أو في زمانين. وكذلك يلزم إذا تعلق النهي والإيجاب بشيء واحد من جهتين مثل أن يرد الأمر بشيء مطلقا، ثم يرد النهي عن ذلك الشيء بعينه مقيدا بصفة أو لعلة مصرح بها. إلا أنهم اختلفوا في مثل هذا الجنس هل يعود النهي بالفساد على الأصل الموجب من جهة ما قيد؟ فزعم أبو حامد رحمه الله أن هذا ينقسم عندهم إلى ما يرجع إلى غير المنهي لسبب من خارج، وإلى ما يرجع إلى صفة في الشيء. فما يرجع إلى غير المنهي فلا يرجع على الأصل بالفساد، وأما الذي يرجع إلى صفة في المنهي عنه فذهب الشافعي إلى أنه يعود على الأصل بالفساد، وحيث أوقع الطلاق في الحيض صرف إلى الأضرار ألحقه بالقسم الأول. وأبو حنيفة لا يرى في الموضعين النهي يعود بفساد الأصل، سواء ورد المنهي عنه مقيدا

بصفة أو سبب من خارج، وزعم أن كون الحدث مبطلا للصلاة إنما ثبت بدليل الإجماع. 29- وأنا أرى أن النظر في هذه المسألة إنما هو من جهة صيغة لفظ النهي، فإن من يدل عنده لفظة إيجابه مطلقا قرينة تخرج النهي عن الحظر إلى الكراهة (¬1) وأكثر من ذلك وروده في شيء لأمر ما من خارج بعد إيجاب ذلك الشيء مطلقا , وسنتكلم في هذا فيما بعد. وأما إذا نظر فيها حيث المعنى ,فإن ورود النهي عن الشيء مقيدا بأمر ما ,سواء كان سببا أو صفة ,بعد إيجابه مطلقا فإنه يعود على الأصل بالفساد من جهة ما هو مقيد. والذي فهمت هنا من ورود النهي عن الشيء مقيدا بعد إيجابه مطلقا ,هو بعينه ينبغي أن تفهمه في ورود الإيجاب بشيء ما مقيدا بعد النهي عنه مطلقا. 30-والعجب من أبي حامد كيف جعل النظر في هذه المسألة في هذا الجزء من هذا الكتاب. 31-وأما من أجاز الصلاة في الوادي والحمام وأعطان الإبل فإنما ينبغي له أن يصرف النهي الوارد فيها عن التحريم إلى الكراهة، على مذهب من يرى أن ورود النهي عن الشيء مقيدا بأمر ما من خارج بعد إباحته ,أو الأمر به مطلقا ,قرينة يخرج بها لفظ النهي عن التحريم إلى الكراهة ,هذا إذا كان ممن يرى أن صيغة النهي تقتضي التحريم , وأما من لا يرى ذلك فالأمر عليه سهل. وأما من أبطل الصلاة في الأرض المغصوبة لكونها حركات وأكوانا منهيا (¬2) عنها ,فلجهله بحدود ¬

(¬1) نقص في العبارة نترك تأمله لاجتهاد القارىء. (¬2) في الأصل: منهية

مسألة رابعة:

المتضادة ,لأن الإيجاب والنهي تعلق بها من جهتين مختلفتين. ولذلك ما وقع إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك أمر الظلمة بإعادة الصلوات عند التوبة. وتلك الحركات والأكوان هي من جهة مأمور بها ,ومن جهة منهي عنها. وكذلك السجود بين يدي الصنم على غير جهة القصد هو من جهة حرام ,ومن جهة متقرب به. مسألة رابعة: 32-اختلف الناس في وجوب الشيء هل هو حظر لضده ,وحظره وجوب لضده, فنقول: 33-إنه إذا حد المتضادان بحسب حدهما , ولم يسامح في تسميتهما ,فوجوب الشيء حظر لضده ,لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما تقدم ,وسواء كان ذلك فعلا أو تركا. وهذه المسألة إنما تتصور في التضاد الشرعي. وأما التضاد المحسوس فهو مما لا يصلح التكليف إلا بتركه ,وهو من شروط الفعل. 34-وأما المحظور فإذا كان مما كان ليس له ضد ,أو مما له ضد إلا أن بينهما متوسطا ,فليس يلزم عن حظره إيجاب شيء ما. وأما إذا كان لا يخلو الشيء من أحدهما, ولم يكن بينهما متوسط ,فحظره إيجاب لضده ,هذا أيضا إذا كان التضاد شرعيا ,وأما إذا كان حسيا فهو من شرط التكليف. 35- فعلى هذا ينبغي أن يتناول السؤال والجواب في هذه المسألة. وهنا انقضى القول في القسم الثاني من هذا الجزء.

القول في القسم الثالث من الجزء الأول

القول في القسم الثالث من الجزء الأول 36-هذا القسم يتضمن النظر في أركان الحكم ,وهي ثلاثة: الحاكم ,والمحكوم عليه ,والمحكوم فيه. 37-أما الحاكم فهو المخاطب بالإيجاب. ومن شروطه ,مع كونه متكلما ,نفوذ الحكم على الإطلاق. وإنما يصح ذلك بين المالك والمملوك والخالق والمخلوق ,وهو تعالى. وكل من لزمت طاعته فإنما لزمت بإيجاب الله تعالى كالسلطان والأب وما أشبههما. وهو القادر على العقاب والثواب إذ لا يتصور الإيجاب أو النهي من غير قادر عليهما. وتثبيت هذا في علم الكلام. 38_وأما المحكوم عليه فله شرطان هما (¬1) أن يفهم الخطاب الوارد بأمر أو نهي، إذ من ليس يفهم الخطاب لا يصح منه اقتضاء وجوب الطلب. فإن قيل فقد وجبت الزكوات والغرامات على الصبيان، قلنا المكلف هو. الولي بشرط الاستعداد لقبول العقل. وكذلك أخذهم بالصلاة قبل البلوغ، الأب هو المأمور بذلك، لا يفهم خطاب الشرع إلا من يعرف الشارع، ولا يعرف الشارع إلا من يعرف الله، وهذا الشرط مدركه العقل. ومن هنا يتبين سقوط تكليف الناسي والغافل والمجنون والسكران. فإن قيل فكيف يقع طلاق السكران عند من يجوزه؟ قلنا ذلك على جهة التغليظ، إذ كان هو الذي جنى على نفسه باختياره بعد شرط التكليف وهو العقل. وليس يتصور مثل هذا في المجنون، وتعلق من تعلق في جواز خطابه بقوله تبارك وتعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فإنه إن سلم ظهور ذلك في ¬

(¬1) في الأصل: منهما.

الآية فليس يصادم بالظواهر القطعيات. ولها تأويلات: 39 _أحدهما أنها خطاب مع المستثنى. 40 _والآخر أنه إنما وقع المنع من إفراط الشرب في أوقات الصلاة ,وذلك خطاب في وقت الصحة ,وقبل أن تحرم الخمر. 41-فأما الاعتراض الذي يلحقون هنا وهو كيف يكون الله آمرا في الأزل لعباده ومن شرط الآمر أن يكون المأمور موجودا ,وكذلك كونه آمرا للسكران في حال سكره وللمجنون والصبي ,على شرط أن يفيق ذلك ويصح ذلك ويبلغ هذا ,فالجواب عنه ليس مما يمكن في هذا الموضع ,ولا هو خاص بهذا النظر. والقول فيه مبني على قواعد تحتاج إلى تمهيد طويل وفحص كثير. وكما قلنا أنه ليس ينبغي أن نفحص عن كل شيء ولا عن أشياء كثيرة في موضع واحد ,بل ينبغي أن يفرد بالقول كل واحد منها في الموضع اللائق به ,والذي يحمل على هذا حب التكثير بما ليس يفيد شيئا. 42-وأما الشرط الثاني فهو البلوغ ,وهذا الشرط مدركه الشرع. فإن قيل فقبل أن يحتلم الصبي بزمان يسير أليس هو عاقلا؟ فإن انفصال النطفة عنه لا تزيده عقلا؟ قلنا: لما كان ذلك مما يخفي دركه في شخص ,ويختلف وقته, نصب الشرع لذلك علامة توجد على الأكثر دالة عليه. 43-وأما المحكوم فيه وهو الفعل فإنه ما جاز كونه مكتسبا للعبد باختياره مع اعتقاد اكتسابه طاعة وامتثالاً. 44-وينبغي أن يعلم أن الأمور المتكسبة للإنسان هي التي له أن يأتي منها أي الضدين شاء ,مثل أن القيام مكتسب له وله أن يقوم أو

يقعد. وإذا كان معنى الاكتساب هذا فلا معنى لاستثنائهم من هذا –كما زعموا-وجوب النظر المعرف ,إذ لا يمكن فيما زعموا قصد إيقاعه طاعة قبل المعرفة بوجوبه ,لأن وجوب النظر كما سلف من قولنا يحصل ضرورة لكون المنظور فيه معلوما بالضرورة ,وليس لإنسان اختيار في وقوع التصديق بوجوبه عند ظهور المعجزة. وكذلك أيضا لا معنى لاستثنائهم من ذلك إرادة الطاعة ,وقولهم إن الإرادة لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الإرادة إلى إرادة وتسلسل الأمر ,فإن الإرادة شوق ,وحدوث الشوق للإنسان كالضروري ,إذ كان فاعله التصديق بالرغبة والرهبة ,فشرط الفعل الشرعي أن يكون مكتسبا أولا ,ثم ثانيا أن يكون السبب في اكتساب اعتقاد وجوب الأمر لأشياء أخر مما يجوز له أن يفعل. 45-وأما الشيخ أبو الحسن فليس من شرط الفعل عنده أن يكون مكتسبا ,بل يرى أن ليس هنا فعل مكتسب للإنسان أصلا ,وأن ما يظهر كون الإنسان فاعلا للشيء فأمر مصاحب ولاحق لا أن الإنسان لذلك الفعل سبب لا قريب ولا بعيد، حتى تكون نسبة ذي القدمين مثلا إلى المشي هي بعينها نسبة العادم للقدمين. وهذه مخالفة للحس ورأي غريب جدا عن طباع الإنسان (¬1) . وقد بين أبو المعالي في (الرسالة النظامية) الوجه الذي به يصلح في الشرع أن يقال إن للإنسان اقتدارا واكتسابا. ومن لم يكن عنده للإنسان اقتدار على شيء ما، جاز عنده تكليف ما لا يطاق وبحق ما فعل ذلك لأنه ليس على رأيه ههنا شيء ¬

(¬1) بهذه الأفاظ تقريبا يرد مذهب الأشاعرة في كتاباته اللاحقة ومنن أشهرها الكشف والتهافت....

يطاق. والذي ينبغي أن نقول ههنا أن تكليف ما لا يطاق ممتنع عقلا وشرعا. أما شرعا فلقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) . وأما عقلا فلا متناع قيام المحال بالنفس. وأن من الشرط المأمور به أن يكون مفهوما ومتصورا مكانه عند الآمر والمأمور. 46_ وقد يلحق آخر هذا الجزء مسائل: 47_ فمنها هل المكره على وفق التكليف أو خلافه مختار حتى يثاب على الواحد ويعاقب على الآخر؟ ونحن نقول في ذلك: أما المكره على وفق التكليف فقد يشبه أن يظن به أنه مختار من جهة أن له أن يأتي بخلاف ما أكره عليه محتملا لما به أكره. وهذا التفاوت بحسب ما يلحق المكره من الأذى. لكن إن لم يأت ذلك معتقدا إتيانه طاعة وامتثالا لم يثب عليه، فإن اعتقد ذلك أثبت عليه. وإن كان سبب تحريكه إلى الفعل الإكراه، فإنه إذا أخذ في الفعل واعتقد وقوعه طاعة أثيب عليه. وعلى هذا الوجه جاء إكراه الكفار على الإيمان بالقتل في الشرع. وبالجملة فالتوعد بالعقاب هو إكراه ما على هذا الوجه. ومثل هذا يتصور في أن يكون الإنسان يصده عن الامتثال عناد أو غير ذلك من الأسباب المانعة. وبالجملة الأمّارة بالسوء كثيرا ما تصد الإنسان عن الواجب مع اعتقاد وجوبه. وأما المكره على مخالفة الشرع مثل الإكراه على قتل مسلم، أو ترك الصلاة، فالسؤال فيه في موضعين: ... أحدهما هل إذا فعل بمقتضى الإكراه أثم أم لا؟ والثاني: إن احتمل الإكراه ولم يفعل بمقتضاه هل يثاب أو يأثم، فإن لنفس المرء عليه حقا، والذي ينبغي أن يقال في ذلك هو أن الإكراه تتفاوت مراتبه لتفاوته ما به يقع الإكراه، ومدرك مراتب هذا التفاوت، والمقايسة بينه وبين مخالفة الأمر وترجيح أحدهما على الآخر، مدرك

شرعي، ولا سيما إذا كان ما به يقع الإكراه من نوع المكره عليه، مثل أن يكره بالقتل على القتل، وبالجملة فهذه المسألة اجتهاديه. 48_ ومنها: هل المقتضى بالتكليف الكف كما يقتضي الفعل. والجواب أن الترك صنفان: صنف يلحق الإنسان عند تركه التلبس بضد، فهذا لا يثاب عليه كالصيام. وصنف لا يلحق الإنسان عند تركه التلبس بضد، فهذا لا يثاب عليه. وإلحاق مسألة مسألة بهذين الصنفين نظر فروعي. 49_ ومنها: هل يتوجه الأمر بالشيء قبل حصول شرطه، كالأمر بالصلاة، فيعاقب على تركه من غير حصول شرطه، هذا إذا كان الشرط شرعيا كأمر المحدث بالصلاة في حين إحداثه، أو لا يتوجه الأمر بالشيء إلا حصول شرطه كالأمر بالصلاة في حين الطهارة؟ ونحن نقول: إذا كان الشرط مكتسبا للإنسان باختياره فجائز أن يؤمر الإنسان بالشيء على تقدير حصول شرطه ويعاقب على تركه، وإن لم يأت بشرطه كتارك الصلاة يعاقب عليها وإن لم يتوضأ قط، وبذلك ورد الشرع، وقد دل دليل الإجماع على لحوق العقاب للمكذب بالرسل، قبل المعرفة بالله وإن كانت شرطا للإيمان بالرسل، وقد تمسك قوم في هذا بقوله عز وجل: (ما سلككم في سقر قالوا لم نكن من المصلين) ، وراموا أن يثبتوا أنه نص في الآية، وهي وإن لم تكن نصا فهي ظاهرة، لأنه محتمل أن يريد ها هنا بالمصلين المؤمنين كما قال عليه السلام: (نهيت عن قتل المصلين) . وما امتنع وقوع مثل هذا عنده عقلا صرف الظاهر إلى التأويل كالعادة في الظاهر المحتمل.

50_ وقد احتج من منع التكليف بمثل هذا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة مع استحالة وقوعهما فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله. وهؤلاء القوم اشتبه عليهم الشرط الشرعي بالشرط الوجودي. وليس الأمر كذلك فهذا المكلف إنما يتوجه إليه الأمر بالشيء قبل حصول شرطه على تقدير حصول شرطه، وهو مستطاع له ومكتسب بخلاف الشرط الوجودي. 51_ أما احتجاجهم بأن الكافر إذا أسلم انتفى وجوب الصلاة والزكاة عنه، فلا حجة فيه، لأن مصيرنا إلى سقوط وجوبها بالإسلام إنما هو بدليل الشرع وإنما أوجبنا القضاء على المرتد دون الكافر، لأن القضاء إنما يجب بأمر مجرد فليتبع فيه الدليل الشرعي، ولذلك قد يؤمر بالقضاء من لا يؤمر بالأداء، وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء. 52_ ومما يلحقون بهذا الباب مسألة رابعة وهي: كما أنه لا يجوز إتيان الأمر بالجمع بين الضدين كذلك لا يجوز إتيان الأمر بالتخلي عنهما، إذا لم يكن بينهما وسط. 53_ ولكن ها هنا فيما زعموا مسائل جزئية توقع شكا في هذه المسألة الكلية وهي: من توسط أرضا مزدرعة مغصوبة فيحرم عليه المكت ويحرم عليه الخروج، إذ في كل واحد فساد زرع الغير، فهو عاص بأيهما فعل. وكذلك من سقط على صدر صبي محفوف بصبيان، وعلم إن مكث قتل من تحته وإن انتقل قتل من حواليه. ومثل هذه المسائل فهي اجتهادية، وليست مما يوقع شكا في أنه لا يجوز. ورود الأمر بالتخلي عن الضدين. ويشبه أن يقال فيها هو غير مكلف في هذا الحال، ويشبه أن يقال في المسألة الأولى يخرج لتقليل الضرر وفي

الثانية يمكث، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي. ويحتمل أن يقال يتخير، ولاسيما إذا لم يترجح أحد الفعلين في قلة الضرر على الثاني. وهنا انقضى القول في الفعل وهو القسم الثالث من الجزء الأول من هذا الكتاب.

القول في القسم الرابع:

القول في القسم الرابع: 54_ هذا القسم يتضمن القول في أن ها هنا أسبابا مظهرة للأحكام ولصفات تتصف بها الأحكام، كالصحة والفساد، وتتضمن شرح ما تدل عليه هذه الأسماء، وهو أربعة فصول: 93/1 الفصل الأول: في الأسباب المظهرة للأحكام 55_اعلم أن الشرع قد نصب للأحكام علامات تتضمن وقوعها كما تتضمن العلل الحسية معلولاتها، وبهذه الأسباب نتوصل إلى معرفة وقوع الأحكام، وإلا كان إثباتها محالا. والقول في تفصيل الأحوال التي بها تكون مقتضية للأحكام هو في الجزء الثالث من هذا الكتاب. الفصل الثاني: فيما يدل عليه اسم الصحة والبطلان في الأحكام 56_ إعلم أن هذا يطلق في العبادات على أوجه مختلفة، فالصحة تنطلق عند المتكلمين على ما وقع على وفق الشرع، وجب القضاء أو لم يجب؛ وعند الفقهاء عما أجزأ وأسقط القضاء، حتى أن الصلاة من ظن أنه متطهر صحيحة في اصطلاح المتكلمين، لأن القضاء لازم بأمر متجدد. وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها إذا فهم الغرض. وأما في العقود فينطلق الفساد على كل حكم لم يتضمن أحد ما به يتم الحكم، سواء كان ذلك شرطا أو سببا، والصحة مقابل هذا. اللهم إلا أن أصحاب أبي حنيفة فإنهم يخصون باسم الفاسد ما كان مشروعا في أصله ممنوعا في وصفه. لكن قد تقدم من قولنا أن كل ممنوع بوصفه ممنوع بأصله وعائد عليه بالفساد من جهة ما هو متصف. وبالجملة

الفصل الثالث:

فالأحكام إنما تتصف بالصحة إذا فعلت بالأمور والأحوال التي اشترط الشرع في فعلها، والفساد بخلاف ذلك. 95/1 الفصل الثالث: في وصف العبادة بالأداء والقضاء والإعادة 57_ اعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء، وإذا فعل مرة على نحو من الخلل ثم فعل ثانيا سمي قضاء. وقد يطلق اسم القضاء على معان غير هذه بعضها أقرب إلى هذا المعنى، وبعضها أبعد. فمنها ما يترك سهوا حتى يخرج وقته فهذا أيضا يسمى قضاء حقيقة، لكن يفارق الأول بحط الإثم عن فاعله. ومنها ألا يجب الأداء كالصيام في حق الحائض. وقد أشكل هذا على طائفة حتى ألزموا وجوب الصوم على الحائض بدليل وجوب القضاء، والإجماع يرد هذا فإنها لو ماتت قبل أن تطهر لم تأثم، ومنها حالة المريض والمسافر فإنهما من حيث لهما أن يصوما أشبه فرضهما الواجب الموسع. وقد كان ينبغي ألا يسمى هذا قضاء مجاز، لما في ذلك من فوات الوقت الأول المشهور. 58_ وفي المسافر والمريض مذهبان غير هذا: أحدهما مذهب أهل الظاهر أنهما لو صاما لم يصح صومهما لقوله عز وجل: (فعدة من أيام أخر) والثاني مذهب الكرخي أن الواجب أيام أخر، ولكن لو صاما رمضان صح، كمن قوم الزكاة على الحول. وكلا هذين القولين إنما يبنيان على من لا يرى أن في الآية حذفا، وأن التقدير: فافطر فعدة من أيام أخر، وإن ذلك محمول على الرخصة. وستبين هذه المسألة مما يقال في الجزء الثالث من هذا الكتاب. فأما ما يحتمل أن يسأل عنه من يرى

الفصل الرابع:

ذلك محمولا على الرخصة من جواز وقوع صيام المريض الذي يخاف على نفسه الهلاك والضرر العظيم، فتلك مسألة اجتهادية تحتمل الوجهين، وهي خارجة عن هذا الغرض. 59_ وقد أطلق القاضي رحمه الله اسم القضاء على ما يتركه الإنسان متعمدا مع غلبة ظنه وبالإخترام قبل أدائه الفعل إذا انكشف خلاف ما ظن، لأنه يقدر الوقت بحسب غلبة الظن. وهذا لا معنى له، لأنه ليس يكون ظنه بالاخترام سببا لخروج الوقت في نفسه. الفصل الرابع: في العزيمة والرخصة 60_ اعلم أن العزم في الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى، والرخصة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر أو عجز عنه، مع قيام السبب المحترم، كتحليل جرعة خمر للشرق، والميتة للمضطر. وقد تطلق الرخصة على معان غير هذه بعضها أقرب إلى هذا وبعضها أبعد. 61_ وهنا انتهى النظر في الجزء الأول من هذا المختصر، وتلوه كتاب أصول الأحكام.

القول في الجزء الثاني من هذا الكتاب

القول في الجزء الثاني من هذا الكتاب

صفحة فارغة في الأصل

الأصل الأول

62ـ وهو يتضمن النظر في الأصول التي تستند إليها هذه الأحكام وعنها تستنبط.، وهي أربعة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، ودليل العقل على النفي الأصلي، وتسمية مثل هذا أصلا تجوز، إذ ليس يدل على الأحكام بل على نفيها. فأما قول الصحابة وشريعة من قبلنا فمختلف فيه. فلنبدأ من ذلك بالكتاب، وننظر أولا في حقيقتة، ثم فيما يحصره، ثم في ألفاظه، ثم في أحكامه. الأصل الأول 63_ فأما حقيقتة ومعناه (فهو الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفه قديمة من صفاته) (¬1) ، والقول في إثبات هذه الصفة وتخليصها من غيرها من الصفات هو من علم الكلام. 64_ فأما ما يحصره فهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. وإنما قيدناه بالمصاحف لأن الصحابة رضي الله عنهم بلغوا في الاحتياط في نقله بالكتب. واشترطنا في نقله التواتر لأنه المفيد لليقين. وليعلم أيضا أن ما هو خارج عنه مما لم ينقل نقل تواترا فليس منه، إذ يستحيل في عرف العادة أن يهمل بعضه أو ينقل نقل آحاد مع استفاضته في الجماعة التي لا يصح عليها الإغفال والإهمال وهم الذين يقع بنقلهم التواتر، ولهذا ما كانت الزيادات التي لم تنقل نقل تواتر ليست توجب عند الأكثر عملا، خلافا لأبي حنيفة، كالتتابع في الكفارة وما أشبهه. وليست هذه متنزلة منزلة أخبار الآحاد، لأن الخبر لا معارض له ولا دليل على كونه كذبا. وإذا لم تجعل ¬

(¬1) كذا بالحرف ورد في المستصفى. ولنقارن ما صادق عليه ههنا بما ذهب إليه في الكشف عن مناهج الأدلة مثلا في معرض حديثه عن صفة الكلام.

هذه الزيادات من القرآن احتملت أن تكون مذهبا لصاحب، واحتملت الخبر وما يتردد بين هذين الاحتمالين فلا يجوز العمل به. ولهذا قطع القاضي رحمه الله بتخطئه الشافعي رحمه الله في جعله باسم الله الرحمان الرحيم آية من كل سورة، مع كونها من النمل، إذ لو كان ذلك كذلك لنقل إلينا تصريحا كونها من القرآن، ولم يقع في ذلك خلاف. وللشافعي أن يتمسك بأن جعلها في أول سورة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزولها في أول كل سورة قرائن توهم أنها من القرآن، فلو لم تكن منه لصرح بذلك. وليس كذلك التعوذ والقنوت وما أشبه ذلك مما لم يصرح بكونه من القرآن. وبالجملة فهي مسألة اجتهادية ولذلك لم يكفر القاضي بها ومع ذلك فهي قليلة الغناء في الاستنباط عنها (¬1) . والشافعي إنما أوجب قراءة بسم الله الرحمان الرحيم في الصلاة للأخبار الواردة بذلك (¬2) . 65-وأما النظر في ألفاظه فمنها حقيقة ومجاز، ووجود ذلك فيه بين من حيث هو بلغة العرب ولسانها. وبالجملة فما أظن لسانا ولا لغة ¬

(¬1) عرض لهذه المسألة في (بداية المجتهد) وأشار إلى قول الشافعي وإلى رد القاضي ورأي أبي حامد بما لا يخرج كثيرا عما ذهب إليه ههنا. ثم اختتم بتعليق انتقد فيه مذاهب القوم مع ميل واضح إلى مذهب الشافعي حيث قال: (وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر بل يقال إن باسم الله الرحمان الرحيم قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت وأنها آية من سورة النمل. وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها مختلف فيه والمسألة محتملة وذلك أنها في سائر السور فاتحة وهي جزء من سورة النمل فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم) . (¬2) انظر (بداية المجتهد) ص 89_90/ ج 1 دار الفكر_ د. ت.

تعرى من ذلك، وإن كانت الألسنة تتفاوت في ذلك. وأما نفي بعضهم أن يكون في ألفاظه شيء ليس في لغة العرب وجوزه بعضهم فالوقوف على ذلك قليل الغناء فيما نحن بسبيله. وبالجملة إن كان في لسان العرب شيء من غير ألفاظها فقد عربته العرب تعريبا وغيرته تغييرا استوجب به اللفظ كونه من لغتها ومنسوبا إليها. وفي ألفاظه محكم ومتشابه كما قال عز وجل، وقد اختلف الناس في المتشابه، والأولى أن يظن أن الألفاظ المتشابهة هي التي يمكن حملها على معنى أكثر من واحد، أو التي يوهم حملها على الظاهر تعارضا فيها، أو الألفاظ التي لم تتقدم للعرب مواضعة ولا اصطلاح على معانيها كالحروف التي في أوائل السور، أو جميع هذه.

القول في الأصل الثاني وهو السنة

القول في الأصل الثاني وهو السنة 66_ وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة لدلالة المعجزة على صدقه، وهو حجة بنفسه على من سمعه مشافهة. فأما نحن فلم يبلغنا قوله - صلى الله عليه وسلم - إلا على لسان المخبرين، إما بطريق التواتر، وإما بطريق الآحاد. ولذلك ينقسم القول في الأخبار إلى هذين القسمين، ويعمهما بيان مراتب ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عنه - صلى الله عليه وسلم -، وهي مراتب: 67_فأولها أن يقول الصحابي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو حدثني، أو أخبرني أو شافهني، فهذا لا يتطرق إليه احتمال. 68_المرتبة الثانية: أن يقول: قال رسول الله كذا أو حدث بكذا. فهذا ظاهره النقل، إذا صدر عن الصحابي وليس نصا صريحا، إذ ممكن أن يكون حدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن رأي أكثرهم العمل بمثل هذا جائز للقرائن الدالة على ذلك، لاسيما إذا صدر ذلك عن من كثرت صحبته. 69_ المرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي أمر رسول الله بكذا، ونهى عن كذا، أو فرض كذا، وأوجب كذا. فهذا يتطرق إليه احتمالان: أحدهما في سماعه كما في قوله تعالى، والثاني في فهمه عن الخطاب الأمر أو الوجوب، إذ صيغة الأمر مختلف فيها. ولذلك رأى داوود ومن تبعه من أهل الظاهر ألا حجة في قوله ما لم ينقل لفظه - صلى الله عليه وسلم -. وقد احتج عليهم أن هذا نظر من حيث فهم الألفاظ. وإنما وقع الخلاف فيها بيننا من حيث أنا لسنا بفصحاء ولا بحجة على الكلام العربي. وأما الصحابي من حيث أنه عربي فكيف يتوهم عليه الغلط في

صيغة الأمر، مع أن به تقوم الحجة عند الاختلاف فيها. 70_ وإنا نرى أن تصحيح الألفاظ في لسان ما عند من لم يكن من أهل ذلك اللسان إنما يحصل بأحد أمرين: إما باستقراء كلامهم، أو النقل عنهم إذا استفاض ذلك فيهم. وعلى هذا لا يصح الاحتجاج بقول الواحد حتى يستفيض قوله. وأما هل يشترط في اللغة التواتر أو تكفي في الآحاد؟ فذلك مختلف فيه. ويشبه أن يكفي في كثير منها نقل الآحاد، وإلا لم يكن سبيل إلى الوقوف على أكثر دلالات الألفاظ لو اشترط في نقل كل واحدة منها التواتر. 71_ المرتبة الرابعة: أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا. فهذا يتطرق إليه، مع ما سبق من الاحتمالات، احتمال آخر وهو أن الأمر بذلك عساه أن يكون غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة والأمراء، وفي معنى هذا قولهم: من السنة كذا، والسنة جارية بكذا. 72_ المرتبة الخامسة: أن يقول الصحابي كانوا يفعلون كذا، فأضاف الفعل إلى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا أيضا يحتمل أن يكون بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأظهر، فأقره. ويحتمل أن يكون لم يبلغه. 73_ فقد ظهر من هذا ما هو إخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما ليس بإخبار. 74_ والآن فقد بقي تبيين طريق انتهاء الأخبار إلينا، وذلك إما أن يكون نقل تواتر أو آحاد. ولنقل فيهما وفي مرتبة التصديق الحاصل عنهما، ولنبدأ من ذلك بالتواتر، فنقول: 75_ إن التواتر هو خبر مستفيض يحصل عنه اليقين في أمور ما وعند أحوال ما من غير أن ندري من أين حصل ولا كيف حصل ولا متى حصل. وإنما قلنا: في أمور ما، لأنه ليس يحصل فيما ليس شأنه

أن يحس مما هو معقول، أو مما شأن مناسبه أن يحس، إلا أنه غير ممكن الوجود، كعنز أيل وغير ذلك مما ليس له وجود خارج النفس، ولا فيما شأنه أن يحس بعد مما هو ممكن الوجود، بل إنما يحصل اليقين به فيما هو محصل الوجود في الزمان الحاضر، أو كان محصل الوجود في الزمان الماضي مما لم نحسه بعد، لأن ما أحسسناه أو كان لنا سبيل (¬1) إلى إدراكه بقياس يقيني، كحدث العالم، وغير ذلك، فلا غناء للتواتر فيه، لأنه إما أن يتواتر عندنا بحسب ما أحسسنا أو وقفنا عليه بالقياس، فذلك في حقنا فضل، وأما إن تواتر خلافه، فلا يقع لنا به تصديق. وقولنا: وعند أحوال ما، تحفظ فيما تواتر ولم يقع اليقين به، ولذلك رام قوم لما شعروا بهذا أن يشترطوا في التواتر عددا يلزم عنه بالذات وأولا اليقين، حتى يكون هو السبب في الوقوع عنه، ومقتضيا له على جهة ما تقتضي الأسباب مسبباتها. فلما لم يتحصل لهم حدوده بأنه الذي يحصل عنه اليقين على أنه محصل الوجود في نفسه، وإن كان مجهولا عندنا. والمشاهدة بخلاف ذلك، فإنه يظهر أن العدد الذي يحصل عنه اليقين يزيد وينقص في نازلة نازلة ولو كان ههنا عدد ما بالطبع يحصل عنه اليقين بالذات وأولا لكنا سنحسه ونقف عليه. وبالجملة فإن كثرة المخبرين أحد القرائن التي تفيد التصديق، ولذلك يلزم أن يزيد وينقص بحسب ما تنضاف إليه من القرائن الأخر (¬2) . 76_ وإذا كان هذا هكذا، فلسنا نقدر أن نقول إن فاعل ذلك ¬

(¬1) في الأصل: سبيلا. (¬2) وقريب من هذا ذهب إليه في (مختصر المنطق) بل تكاد أن تكون العبارات أحيانا واحدة. انظر (جوامع الجدل والخطابة والشعر) تحقيق شارل بوترورت 1977: Albany State University of New York Press. 194_189

التصديق بالنتيجة يحصل على المقدمات، أو على جهة ما نقول إن المعقولات الأول تحصل عن الحس. ومن ظن أن الحال في التواتر كالحال في المقدمات التجريبية، وهي التي يحصل اليقين بكلتيها عند التعمد لإحساس جزيئاتها، فمخطئ قطعا. بل التصديق الحاصل عن التواتر من الفعل النفس، وكأن نسبته إليها نسبة ... (¬1) وبالجملة [فلم يقع خلاف في التواتر يوقع اليقين إلا ممن لا يؤبه به، وهم السفسطائيون. وجاحد ذلك يحتاج إلى عقوبة، لأنه كاذب بلسانه على ما في نفسه. وإنما الخلاف في جهة وقوع اليقين عنه، فقوم رأوه بالذات، وقوم رأوه بالعرض، وقوم رأوه مكتسبا] (¬2) مثل ما رآه أبو حامد ههنا ومن نحا نحوه من أن اليقين به إنما يحصل بعد مقدمتين: إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع. والثاني أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن هذه الواقعة. لكن أبو حامد يسلم أن هاتين المقدمتين لم تشكلا (¬3) قط في الذهن بالفعل، ولا احتاج الإنسان إلى إحضارهما عند وقوع التصديق بالتواتر. 77 –وإذا وضع هذا، فيما لا شك، هو المشاهد من أمر التواتر، فمن البين أنه ليس لهاتين المقدمتين في إيقاع اليقين غناء ,لأن ما ليس موجودا في النفس بالفعل فليس يكون سببا لوجود ما هو فيها بالقوة حتى تخرجه إلى الفعل. ولولا كون حصول المقدمة الكبرى في الشكل الأول في النفس بالفعل ما كانت سببا لحصول النتيجة عنها التي كانت منطوية فيها بالقوة. ¬

(¬1) بياض في الأصل في قدر كلمة أو كلمتين. (¬2) ما بين معقوفين ورد في (البحر المحيط في أصول الفقه) للزركشي 4/239. أنظر حاشية ص 21 هامش رقم (1) من المطبوع. (عبد العزيز الساوري) . (¬3) في الأصل: لم تشكل.

فأي فائدة لاشتراط ما وجوده مثل هذا الوجود في إيقاع التصديق. ولهذا اشتراطنا في حد التواتر من غير أن ندري كيف حصل ولا من أين حصل. وبالجملة فالأخبار والشهادات على الأخبار لا تفيد إلا ظنا، وذلك يتفاوت بحسب تفاوت القرائن، حتى يحصل في بعضها اليقين. ولذلك اختلف الناس في مراتب التصديقات الواقعة عن الأخبار بحسب ما يقترن بها، كمن يجعل خبر الواحد بين يدي الجماعة، إذا أمسكوا عن تكذيبه مع أنهم عدد يمتنع في عرف العادة تواطؤهم على تسويغ الكذب، يتنزل منزلة التواتر إذا كان ما أخبر عنه مدركا لهم بالحس. وكذلك ههنا قرائن تضعف الظن الواقع بالأخبار حتى يكاد في بعض المواضيع يقطع بكذبها؛ كمن أخبر بقتل ملك البلدة في السوق ثم مر أهل السوق ولم يتحدثوا بذلك. ومن هذا الجنس رد أبي حنيفة رحمه الله أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى من الأحكام، لأنه يرى أن ينقل نقلا مستفيضا. وكذلك رد مالك لكثير من الأحاديث إذا لم يصحبها العمل. 78 – فهذا ما ينبغي أن يقال في مرتبة التصديق الحاصل عن الأخبار، وفي أي موضع غناؤها، وفي أيها لا. 79- فأما خبر الآحاد بحسب ما حد في هذه الصناعة فهو مما لم ينته أن يفيد اليقين في موضع ما بخبر الواحد بحسب ما يقترن بذلك من قرائن (¬1) قلنا هذا وإن كان غير ممتنع فهو مما يقل وجوده ولعل ذلك يقع في حق شخص ما ونازلة ما. ولتفاوت هذا الظن الواقع في النفس عند اقتران القرائن بأخبار الآحاد رأى بعضهم أن خبر الواحد قد يفيد اليقين. 80 –ويلحق بخبر الواحد بعد التكلم في حده التكلم في جواز ¬

(¬1) نقص في العبارة نترك تأمله لاجتهاد القارئ

الفصل الأول:

العمل به شرعا، والتكلم في شروط الناقلين له، والجرح والتعديل، وكيفية نقل الراوي عن مرويه. الفصل الأول: في جواز العمل بخبر الواحد شرعا 81 - أما العمل بأخبار الآحاد فهو جائز عقلا وواقع شرعا. أما جواز وقوعه شرعا، فإنه غير ممتنع أن ينصب الله تعالى غلبة الظن علامة للحكم، كنصبه سائر الأشياء علامات. وعلى هذا يتصور القضاء بالشهود، والحكم بالفتوى، واستقبال الكعبة إذا لم تعاين. وقد رأى بعضهم أن نصب غلبة الظن علامة للحكم في الشرع واجب عقلا، ولولا ذلك لسقطت أكثر الأحكام عن من لم يشافه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول أبي حامد إن هذا ليس بقوي لأن لقائل أن يقول تسقط الأحكام في حق من لم يبلغه تواترها كما تسقط في حق من لم يسمع بالشرع ولا تواتر عنده، فليس عندي بمرضي. لأن انظواء الشرع نادر وقليل جدا حتى لا يكاد يقع هذا مع تطاول الزمان، بل باضطرار وقع نقله إلى جميع المعمورة تواترا. وإنما يشبه أن يقع مثل هذا في أول الإسلام، وليس كذلك العمل بأخبار الآحاد، لأنه ليس من ضرورة كل خبر أن ينقل تواترا، فلو اشترط في العمل به التواتر لأدى ذلك إلى تعطيل أكثر الأحكام عن أكثر المكلفين. وبالجملة لو لم يجب القضاء بالشهود والأيمان والحكم بالاجتهاد لما كان سبيل إلى رد المظالم والأخذ بالحقوق. وقد يستدل أيضا على وقوعه شرعا بإجماع الصحابة على العمل به، وتوقفهم في بعض الأخبار إنما كان اجتهادا منهم في طرقها. وإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة إلى البلاد، وتكليف الناس تصديقهم، مما يقطع (به) على وقوعه شرعا.

الفصل الثاني:

82- فأما قول الله عزوجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم) (التوبة: من الآية122) فرأى بعضهم أنها قاطعة في العمل بأخبار الآحاد إذ طائفة تقع على النفر اليسير الذين لا يحصل اليقين بقولهم وأبو حامد يرى أنها ليست بقاطعة إلا في وجوب الإنذار قال: وليس يلزم من وجوبه عليهم وجوب العمل به كما يجب على الشاهد الواحد إذ الشهادة لا يعمل بها وقال وبمثل هذا الاعتراض يضعف التمسك بقوله عز وجل {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} وبقوله) : - صلى الله عليه وسلم - نضر الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها) الحديث، وهذا القول منه لا معنى له لأنه ما فائدة وجوب الإنذار إذا لم يجب العمل بنقلهم وليس يشبه هذا الشاهد فإنه إنما وجب عليه أداء الشهادة رجاء أن يأتي من عنده مثل شهادته فيقع العمل بها. اللهم إلا أن يقول القائل عسى إن وجد الإنذار إنما لزم الآحاد ليتكثروا حتى يقع العلم الضروري بقولهم لكن هذا ينكسر مما تقدم من أن ذلك كان يؤدي إلى تعطيل أكثر الأحكام وإنما يشبه أن يظن أن الآية ليست بقاطعة ولا نصا في العمل بأخبار الآحاد من جهة أن الطائفة اسم يقع على النفر اليسير والعدد الكثير الذي يمكن أن يقع على اليقين بقولهم بدليل قوله (لا تزال طائفة من أمتي) الحديث. لكن الآية أظهر في أنه ليس المراد بالطائفة ههنا من يحصل العلم بنقلهم. الفصل الثاني: في شروط الراوي وصفته 83- وإذ قد تبت العمل بخبر الواحد فلا بد من ذكر الشروط التي يقبل بها ويجب العمل به إذ ليس كل خبر يجب العمل به. فأولها أن خبر الواحد يعمل به وإن لم يعمل بشهادته لأن اشتراط العدد إذا

ثبت العمل به مما يجب على مدعي ذلك إثباته شرعا ولا يصح في مثل هذا حمله على الشهادة قياسا. واستظهار الصحابة رضي الله عنهم بالعدد في واقعتين أو ثلاث فذلك اجتهاد منهم لأحوال خاصة بتلك النوازل وبالجملة فاشتراط العدد ليس بشرط عندنا. 84-وأول الشروط أنا لا نقبل خبر الصبي, لأنه لا يخاف الله, فلا نأمن عليه الكذب. وأما إذا كان طفلا عند السماع, ثم نقل الحديث بعد بلوغه, فهو مقبول بدليل إجماع الصحابة على العمل بالأحاديث من غير فرق بين من سمع في الصغر أو بعد البلوغ. وقول من قال تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تقع بينهم, فإنما حمله على ذلك الاستدلال بالقرائن لكثرتهم, ولذلك اشترط في شهادتهم قبل أن يتفرقوا. 85-ومن الشروط أن يكون ضابطا, فإن من كان مغفلا يقع منه في الأكثر الغلط. وأما كونه مسلما فلا خلاف في اشتراطه ذلك, لأن الكافر لا تقبل روايته لأنه متهم في الدين. وإن كانت تقبل شهادة بعضهم على بعضهم عند أبي حنيفة, فلا مخالف في رد روايته, وبالجملة فالاعتماد في ردها على الإجماع. 86-وأما اشتراط العدالة فغير مختلف فيه, لكن ما يدل عليه اسمها مختلف فيه فذهب قوم وهم الأكثرون أن العدالة حالة في النفس يلزم عنها اجتناب ما نهي عنه في الشرع نهي تحريم أو نهي كراهة وإتيان ما أمر به في الشرع أمر وجوب أو أمر ندب من غير أن يخل بذلك. 87 وبالجملة فيشترط فيه تجنب كل ما يقدح في دينه مما لا يمتنع عليه الكذب مع إتيانه وهذا يختلف بحسب نظر المجتهدين ولكن لا

خلاف في أنه لا تشترط فيه العصمة كما لا يكفي في ذلك اجتناب الكبائر وذهب قوم إلى أن عدالة عبارة عن إظهار الإسلام مع أنه لا يعلم فاسقا دون بحث عن سيرته وسريرته 88 أما أصحاب المذهب الأول فاحتجوا بأن قالو كما أن المجهول الكفر لا يجوز نقله كذلك المجهول الفسق ولأولئك أن يقولوا (¬1) إن المجهول الكفر ليس تعرف منه حالة يغلب بها على الظن حسن الثقة به وليس كذلك المعروف من إظهار الإسلام، وقد احتجوا أيضا لذلك برد الصحابة أخبار المجاهيل كرد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس ورد علي قول الأشجعي وما ظهر من طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدالة والثقة فيمن كان ينفده إلى البلاد. 89 وأما ما احتج به أهل الفرقة الثانية فقبوله - صلى الله عليه وسلم - شهادة الأعرابي في رؤية الهلال مع أنه لم يعرف منه إلا الإسلام ولأولئك ألا يسلموا أنه كان مجهولا عند الله واحتجوا أيضا بأن الصحابة قبلوا قول من لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام. 90 وبالجملة فقد احتج كل فريق منهم بحجج، وهي وإن كانت ظاهرة بحسب دعواه فهي مع هذا محتملة للتأويل والمسألة اجتهادية لا قطعية. وبالجملة فالمقصود فيما يظهر من العدالة إنما هو غلبة الظن بالصدق وذلك يختلف بحسب اختلا ف قرائن الأحوال. فينبغي إذن فيما لم ينصب الشرع فيه علامة محدودة بطريق قطعي لغلبة الظن بالصدق ألا نحد فيها حدا بل يوكل ذلك إلى نظر المجتهدين، فإنه رب مجتهد تجتمع عنده قرائن يغلب بها على ظنه صدق إنسان ما ليس تجتمع ¬

(¬1) في لأصل: أن يقولون

الفصل الثالث:

لإنسان آخر. 91 وأما الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه فقد اختلفوا فيه. فمن رأى أن الفسق إنما يمنع القبول للتهمة فلا يتصرف عنده رده إلا أن يكونوا فسقه في إجازة الكذب. ومن رأى أن الفسق بنفسه هادم للقبول لموضع التهمة أجاز شهادة بعضهم على بعض والأول مذهب الشافعي والثاني مذهب القاضي. ويشبه أن يكون مذهب الشافعي أقيس ويشهد له قبول الصحابة رضي الله عنهم أخبار الخوارج. 92 والفاسق المتأول ربما علم فسقه بدليل قطعي وربما علم فسقه بدليل ظني. وينبغي أن يكون قبول رواية من علم فسقه بدليل ظني أولى ولذلك يقول الشافعي أفسق الحنفي الشارب للنبيذ ولا أرد شهادته. 93 فهذه هي الأشياء التي تشترط في الراوي وأما الأشياء التي يقع بها الترجيح فتكاد لاتتناهى.. الفصل الثالث: في الجرح والتعديل 94 فيه أربعة فصول: 95 الفصل الأول: اشترط قوم العدد في المزكي قياساعلى الشهادة وبعض لم يشترطه قياسا على قبول رواية العدل وهو الأظهر. 96 الفصل الثاني: في ذكر سبب الجرح والتعديل. قال الشافعي يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل. إذ قد يرى واحد جرحة ما لا يراه الآخر. وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد. ورأى

قوم نقيض هذا لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر. وقال القاضي لا يجب ذكر السبب فيهما تعويلا على المزكي. وقال قوم لابد من ذكر السبب فيهما جميعا وهو الأحوط عندي إذ العدالة والتجريح (¬1) مختلف فيهما كما تقدم. وأما إذا تعارض الجرح والتعديل فالجرح هو المقدم لأنه اطلاع على زيادة لم يطلع عليها المعدل إلا أن يكون يعنى تشخيص ما أثبته الجارح فحينئذ يتعارض الجرح والتعديل. 97 الفصل الثالث: في نفس التزكية والتعديل. وذلك يتصور وقوعه على أربعة أنحاء: إما بالقبول أو بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته. وأعلاها صريح القول بتعريف وجه عدالته ودون ذلك أن يروي عنه خبرا. وهذا إنما يصح علي رأي من يكفي عنده في التعديل نفس التزكية هذا إذا فهم من حالة التجريح عن الثقات عنده وأما العمل بالخبر فليس بتعديل إذ قد يمكن أن يعمل بدليل آخر إلا إن علمنا أنه عمل بذلك الخبر من طريق ذلك الناقل. وهذا أيضا على رأي من لا يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل. وأما الحكم بشهادته فذلك أقوى من تزكيته. وأما تركه الحكم بشهادته أو خبره فليس جرحا, إذ قد يتوقف في شهادة العبد أو روايته سبب آخر فهو كالجرح المطلق. 98 الفصل الرابع: في تعديل الصحابة رضي الله عنهم. والذي عليه جماهير الأمة والمعتمد عليهم أن عدالتهم مقطوع بها بتعديل الله جل وعز لهم وتعديل رسوله في غير ما آية من كتاب الله ¬

(¬1) في الأصل: الرجيح

جل وعز ما حديث عنه - صلى الله عليه وسلم -. 99 وقد ذهبت طوائف من الخوارج والمعتزلة والقدرية وبالجملة أهل البدع والزيغ إلى رد شهادتهم وروايتهم بعد ما شجر بينهم الشتات وظهرت الحروب بينهم والخصومات, وذلك عند أهل السنة محمول على أن كل مجتهد إما غير مأثوم وإما مصيب بحسب الرأيين. وذهب قوم من أهل السنة أن قتلة عثمان مخطئون قطعا, لكن جهلوا خطأهم, وكانوا متأولين. والفاسق المتأول لا ترد شهادته على رأي الأكثر. 100-وقد بقي علينا من القول في الخبر الواحد القول في كيفية نقل الراوي عن مرويه, وذلك يتصور وقوعه على خمس مراتب: 101-المرتبة الأولى: قراءة الشيخ عليه ليحدث عنه, وبذلك يصح قوله على الحقيقة حدثنا وأخبرنا وسمعته, وهي أعلى المراتب. 102-المرتبة الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت. فهذا خالف فيه بعض أهل الظاهر, لكن عند الأكثر سكوته وإقراره إياه يتنزل منزلة قوله. هذا إذا كان بحيث لا يخال سكوته لغفلة أو إكراه أو ما أشبه ذلك. إلا أنهم اختلفوا هل يقول حدثنا مطلقا, أو سمعت فلانا. والصحيح أنه لا يجوز, لأن ذلك كذب محض, إلا أن يعلم بقرينة حال منه أو تصريح أنه يريد بذلك القراءة على الشيخ. 103-المرتبة الثالثة: الإجازة, وهو أن يقول أجيز لك أن تروي عني الكتاب الفلاني, أو ما صح عندك من تعيين مسموعاتي. ولا يجوز في مثل هذا إطلاق القول بحدثنا أو أخبارنا إلا تجوزا. 104-المرتبة الرابعة: المناولة, وصورتها أن يقول الشيخ خذ هذا الكتاب وحدث به عني. ومجرد المناولة دون اللفظ لا معنى له,

فهي زيادة تكلف, وهي في الحقيقة إجازة. وهي وإن لم تفد معرفة عين الطريق الموصل, فهي تفيد معرفة صحة الخبر. 105-المرتبة الخامسة: الاعتماد على الخط بأن يجد بخطه مكتوبا إني رويت عن فلان كذا وكذا. فهذا لا يجوز أن يروى عنه لأن الخط يشتبه. وأما إذا قال الشيخ: هذا خطي , قبل قوله , ولكن لا يروي عنه ما لم يأذن له بالقول أو بقرينة حال وأما إذا قال عدل: هذه نسخة صحيحة من كتاب البخاري فرأى فيها حدثنا , فليس له أن يروي عنه. ولكن هل يلزمه العمل به , أما إذا كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد ولا خلاف , وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز العمل به , لأن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يحملون الصحف إلى البلاد , وكان الناس يعتمدون عليها بشهادة حامل الصحف. ولكن على الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما سمع بعد المعرفة , فإن الذي رواهم لم يشك في شيء مما أخذوه عنه , فإن شك في شيء تركت روايته. 106- وقد يتفرع عن هذا مسائل منها: إذا كان في مسموعاته حديث يغلب على ظنه أنه سمعه هل يجوز له أن يرويه؟ أما إذا شك فلا خلاف في أنه لا يجوز له , وأما إذا غلب على ظنه أنه سمعه فقد قال قوم يجوز أخذه عنه , لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن , وهو بعيد , لأن غلبة الظن إنما تتصور في كون الشيخ صادقا. وكذلك غلبة الظن في الشهادة إنما تتصور في حق الحاكم , وأما الشاهد فينبغي أن يشهد على القطع فيما القطع فيه ممكن , وكذلك الراوي. 107- ومنها إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي فإنه لا يعمل به , ولكن لا يصير الراوي مجرحا , لأنهما عدلان

تعارض قولهما. وأما إذا أنكر إنكار متوقف فيعمل بالخبر , لأن الراوي جازم في أنه سمعه , والشيخ ليس هو قاطعا بتكذيبه وهما عدلان. وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطله , واحتج بأن الشيخ ليس يجب عليه العمل إذا رواه له العدل وهو لا يذكره , وهذا لا يتصور في الراوي , لأنه قاطع , وأما غيرهما فحالته بين حالتيهما. ويشبه أن يكون أغلب على ظنه صدق الراوي للنسيان الغالب على الإنسان , مع أن الشيخ ليس بقاطع بكذبه. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وجماهير المتكلمين , وهو يشبه عندهم شك الشيخ في زيادة في الحديث أو إعراب فيه. 108- ومنها إذا انفرد ثقة بزيادة في الحديث عن جماعة ثقات حفاظ فقيل: تقبل الزيادة , لأنه لو انفرد دونهم بحديث قبل. وكذلك الزيادة. وأنت تعلم أن الأمر ليس كذلك , لأن انفراده دونهم بزيادة , في حديث رووه , مع أنهم حفاظ قرينة تضعف الظن الواقع بالزيادة , وليس كذلك إذا انفرد بحديث دونهم , فلذلك رأى بعضهم ألا تقبل الزيادة , ورأى بعضهم أن تقبل , لكن ليس لهذه العلة التي تقدمت بل لأن أولئك ليسوا بقاطعين على نفي الزيادة , ويمكن أن يكونوا (¬1) دخلوا في المجلس وقد مضى من الحديث شيء , ويمكن أن يكونوا حاضرين ويفوت أسماعهم لشاغل أو عارض وبالجملة فهي مسألة اجتهادية , ويتفاوت الظن فيها بحسب نازلة نازلة وحديث حديث. 109- ومنها نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ , فقوم أجازوه للعالم العارف بمواقع الخطاب , وقال قوم لا يجوز له إلا بإبدال القوم بما يرادفه ويساويه في المعنى , كما نبدل القعود مثلا بالجلوس مما لا يشك في ¬

(¬1) في الأصل: أن يكون.

ترادفهما لا فيما يحتاج في ذلك إلى استدلال. وقد احتج الفريق الأول بالإجماع على جواز شرح المعاني التي في الشرع للعجم بلسانهم , قالوا فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها أن يجوز بالعربية أولى وأحرى , ولم يفصلوا بين ما كان إبدال اللفظ بغيره بينا بنفسه وبين ما يحتاج في ذلك إلى استدلال. قالوا وكذلك كان سفراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغون أوامره إلى غير العرب. 110- وأنا أرى أن فهم ما تدل عليه الألفاظ إذا كان في محل الاجتهاد فلا يجوز للمجتهد العمل به حتى ينقل إليه لفظ الشارع , وإلا عاد المجتهد من حيث هو مجتهد مقلدا , اللهم إلا أن يقول ذلك المعنى صحابي فهذا يرجع القول فيه إلى ما تقدم من الخلاف المذكور في ذلك. وأما المجتهد المقلد فيجوز له عندي إبدال اللفظ بلفظ غيره عند من يقلده لأن ذلك اجتهاد ما , وعلى هذا حال شرح العربية وتبديلها بالعجمية. وأما تجويز نقل بعض الخبر فهو [عندي جائز , إذا كان مفيدا ومكتفيا بنفسه وغير محتاج في فهمه إلى ما قبله , أو كان ليس يوجب صدق (¬1) ما حذف منه , تردد المفهوم عنه بين معنيين أو أكثر من ذلك , وسواء [جوزنا] الأمر في هذا عند من أجاز نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ أو لم يجزه] (¬2) . 111- ومنها النقل المرسل والمسند. وهذا قد اختلفوا فيه , فذهب مالك وأبو حنيفة والجماهير إلى أن المرسل مقبول ومعمول به , وذهب الشافعي والقاضي إلى أنه غير مقبول وصورته أن يقول: قال رسول الله ... - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) قرأها الأستاذ جمال الدين العلوي رحمه الله: "حذف" , والصواب ما أثبتناه من كتاب " البحر المحيط ". (عبد العزيز الساوري) (¬2) ما بين معقوفين ورد في " البحر المحيط في أصول الفقه " للزركشي 4/364. أنظر حاشية ص 21 هامش (1) من المطبوع. (عبد العزيز الساوري) .

من لم يعاصره , أو قال أبو هريرة من لم يعاصره. أما الفريق الأول فاحتجوا بأن رواية العدل تعديل، لا سيما فيما يصرح به، كقوله عن الثقة عندهم، فروجعوا بان رواية العدل ليست بتعديل إلا أن يعلم من قرينة حاله أنه لا يجرح إلا عن عدل أو يصرح بعدالته ثم إذا علم من قرينة حاله أنه لا يجرح إلا عن عدل او صرح بعدالته فليس بتعديل ما لم يذكر ما العدالة عنده. وهذا عندي غير لازم على مذهب الشافعي والقاضي على ما تقدم لكن عساهم لا يسلمون التعديل المطلق إلا فيمن عرفت عينه , إذ من لم تعرف عينه ممكن أن لو سمي عرفناه بفسق. وقد احتج الفريق الأول أيضا في قبول المراسيل بإجماع الصحابة والتابعين على جواز العمل بالمراسيل لكن نوزعوا في نفس الإجماع , إذ لم يتصل ذلك عن جميعهم , وسكوت من سكت منهم ليس يتنزل منزلة من قال , لا سيما في ما كان في محل الاجتهاد كما سيأتي من بعد. وأيضا فإن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لأنه في الأكثر لا يحدث إلا عن صحابي , وكلهم عدل , وكذلك مراسيل التابعين إذ في الأكثر إنما يروون عن صحابي. لكن المختار عند من لا يقبل المراسيل أن لا يقبل مرسل الصحابي أو التابعي حتى يعلم بصريح لفظه أو قرينة حال أنه لا يروي إلا عن صحابي. وأما ما يمكن أن يحتج به على من منع قبول المراسيل من العنعنة وإجرائها مجرى المسند مع إمكان أن يكون بين الراوي والمروي غيره , فلهم أن يجيبوا عن ذلك بأن العنعنة إنما أجريت مجرى المسند حيث تقترن قرائن تدل على أنه سمع منه , أو يصرح بذلك , ومتى لم يصرح بذلك ولا دلت على ذلك قرائن فهو متردد بين المرسل والمسند. 112- وأما قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى كحديث مس الذكر وما أشبهه فقد تقدم القول في وجه الاسترابة به , لأن ما

تعم به البلوى ينتشر ويستفيض بحسب عرف العادة. وقد رد هذه القرينة من أجاز العمل بأخبار الآحاد فيما تعم به البلوى بأن الاستفاضة إنما تلزم في ما تعبد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإشاعته في الجميع , وأما ما تعبد به باتصاله إلى الآحاد ورد الخلق إلى أخبارهم فلا يلزم ذلك فيه. ويحتجون لتجويز ردهم إلى أخبار الآحاد في بعض النوازل مع إمكان استفاضة ذلك بتجويز ردهم إلى القياس فيما يمكن أن ينص عليه كمسألة الربا وأشباهها. قالوا وليس عموم البلوى علة الإشاعة والاستفاضة , بل علة ذلك جهة التكليف. 113- وأنا أرى أن تبليغه - صلى الله عليه وسلم - فرضا من فروض الله مما هو واجب على الأعيان واحدا , وسكوته عن تبليغه لمن يراوحه ويغاديه من أصحابه صلى الله عليهم وسلم اتكالا منه - صلى الله عليه وسلم - على أنه إن وصلهم ذلك الخبر عملوا به , وإن لم يصلهم فهو ساقط في حقهم غير معلوم من قرائن أحواله - صلى الله عليه وسلم - مع حرصه على التعليم والتبيين. وسواء جاز وقوع مثل هذا عقلا أو لم يجز هو مما يكاد يقطع بامتناع وقوعه شرعا عند تصفح أحواله - صلى الله عليه وسلم - في البيان والتبيين. وإنما الحق أن بعض الأخبار ليس يمكن فيها أن تصل إلينا إلا بطرق الآحاد , وإن عمت بها البلوى فيما سلف واستفاضت , وبعضها يمكن ان تصل بهذا وهذا، وبعضها ممتنع أن تصل بغير التواتر , وذلك يختلف في نازلة نازلة وقضية قضية , وذلك بحسب الزمان والمكان وغير ذلك من العوائق. ولذلك ربما انقدح للمجتهد في بعض الأخبار القول برده لعموم البلوى , وربما لم ينقدح له رده , ولا سيما في فروض الكفايات. وينبغي أن يقال في كل موضع بحسب ما يحتمل الأمر المقول فيه , فإن رد الإنسان طرق الآحاد فيما تعم به البلوى في كل موضع غير صواب , إذ يتفاوت ذلك بحسب القرائن وكذلك العمل بها على الإطلاق. وليس لهذا التقسيم طبيعة التقابل حتى

يجعل طرفي نقيض ويتكلم عليها كل واحد من الفريقين على أن الصدق منحصر في أحدهما. وأنت تعلم أن كثيرا ما يفعلون هذا في كثير من هذه المسائل. 114- وهنا انتهى النظر في الأصل الثاني وهو السنة , وينبغي أن تعلم أن هذين الأصلين يلحقهما النسخ , ولنقل في ذلك.

القول في الناسخ والمنسوخ

القول في الناسخ والمنسوخ 115- وقد اختلف في حد النسخ فحده المتكلمون بأنه الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان الحكم ثابتا مع تراخي الخطاب الدال على ارتفاعه. وإنما اشترطوا فيه هذه الفصول لأنهم يجوزون على الله تعالى رفع الحكم في وقت ما بعد الأمر به على التأبيد مثلا , وبالجملة فيجوز عندهم النسخ قبل التمكن من الفعل. وحده آخرون بأنه الخطاب الكاشف عن مدة انقضاء العبادة , اعتقادا منهم أن النسخ إنما يرد مبينا فيما لم يقصد به من أول الأمر عموم جميع الزمان ولا استغراقه. وحده أيضا آخرون بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا. وهذا الحد وإن كان فيه تثبيج , لأنهم جعلوا المرفوع مثل الحكم ولم يجعلوه الحكم نفسه , فإنما اضطرهم إلى ذلك أنهم لا يجوزون على الله تعالى النهي عن الشيء الواحد بعينه بعد الأمر به. 116-وبالجملة فالنظر فيما يجوز من هذا على الله تعالى وما لا يجوز لا يخص الفقيه بما هو فقيه. والذي يكفي الفقيه من هذا أن يسلم أن في الشرع أحكاما رفعت بعد الأمر بها ويعتقد ذلك سواء كان ذلك كشفا عن انقضاء مدة العبادة أو لم يمكن, وإن وقوع مثل هذا شرعا مما ثبت تواترا. وأما تجويز وقوعه عقلا فليس يخصه النظر فيه ولا في جهة جوازه, فلنبدأ من ذلك بالضروري في هذه الصناعة, والقول في ذلك يشتمل على مسائل: 117-إذا نسخ بعض العبادة أو شرط من شروطها أو سنة من سننها هل هو نسخ لأصل العبادة أم لا؟ وهذه المسألة قد اختلفوا فيها, والحق أن رفع البعض رفع للكل, لأن الكل إنما هو كل ببعضه, والعبادة

مسألة:

إنما هي مأمور بها من جهة ما تحتوي على جميع أجزائها. وبالجملة رفع الجزء رفع للكل, لأنه لا يبقى كلا وذلك فيما لا يتبعض. ويشبه أن يكون كذلك رفع الشرط, لأنه الذي به تتم العبادة. وأما رفع السنة فليس يلزم عنها رفع وجوب العبادة. 118-مسألة: الزيادة على النص نسخ عند قوم, وليست بنسخ عند القوم. والمختار أن الزيادة إذا صار بها المزيد غير ما كان قبل وثانيا بالعدد فهي نسخ, مثل الصلاة إن صح فيها أنها فرضت أولا ركعتين ثم زيد فيها. فأما إذا كانت الزيادة مباينة للعبادة المزيد عليها بالنوع فبين أنها ليست بنسخ, كإيجاب الصلاة مثلا, ثم إيجاب الزكاة. وكذلك إن كانت الزيادة مع المزيد عليه واحدة بالنوع ولم يصر المزيد عليه بها غيرا بالشخص فليست أيضا بنسخ, كزيادة عشرين جلدة في الحد مثلا على ثمانين, وإن كان أبو حنيفة رحمه الله يرى مثل هذا نسخا. 119-مسألة: ليس من شرط النسخ إثبات بدل المنسوخ يقوم مقامه ويتنزل منزلته, وذلك جائز على مذهب أهل السنة, وواقع شرعا, كنسخ ادخار لحوم الأضاحي, وتقدمه الصدقة أمام المناجاة. وأما قول الله عز وجل- {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها} - فإنها وإن كانت ظاهرة في إثبات بدل المنسوخ المتنزل منزلته فيمكن أن يتأول قوله عز وجل- {نأت بخير منها} - أي نأتي بآية أخرى, وإن لم تتضمن بدلها الآية المنسوخة في الحكم, بل تتضمن حكما آخر ليس ببدل للحكم المرفوع. 120- مسألة: يجوز النسخ بالأخف والأثقل, وذلك جائز عقلا وواقع شرعا. مثال نسخ الأخف بالأثقل نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالإطعام بتعيين الصيام, وتحريم الخمر ونكاح المتعة, ونسخ

مسألة:

صوم عاشوراء بإيجاب رمضان. 121-مسألة: الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخها جميعا, وذلك جائز عقلا وواقع شرعا. أما جوازه عقلا فإن التلاوة تتضمن معنيين: أحدهما قراءتها وكتبها في المصحف والصلاة بها. والثاني ما فيها من الأحكام. وكل واحد من هذين المعنيين جائز أن يكلفه الإنسان دون الثاني, وجائز أن يرفعا معا بحسب ما تقتضيه مذاهب أهل السنة. وأما الذي يدل على وقوعه سمعا فقوله تعالى- {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} - الآية. وقد نسخ حكمها بتعيين الصوم وبقيت تلاوتها. وكذلك قوله عز وجل - {الوصية للوالدين والأقربين} -منسوخ بقوله عليه السلام- *لا وصية لوارث*- لكن في هذا نظر, لأن من الناس من لا يجوز نسخ القرآن بالسنة. وأما نسخ التلاوة وبقاء الحكم فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها, لكن عندي في هذا نظر, لأنه ينبغي أن يقبل أن مثل هذا كان في القرآن حتى يتواتر ولا يقبل ذلك بطرق الآحاد. 122-مسألة: الإجماع لا ينسخ به, إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي, وإن توهم أن شيئا ما منسوخ بالإجماع فذالك دليل على ناسخ سبق لم يبلغنا. 123-مسألة: نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة, والآحاد بالآحاد, والآحاد بالمتواتر, مما لا خلاف فيه. فأما نسخ المتواتر بالآحاد فقد اختلفوا فيه, والمختار أنه جائز عقلا وواقع شرعا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحول أهل مسجد قباء إلى الكعبة بخبر الواحد, وقد كان ثابتا عنهم التوجه إلى بيت المقدس بطريق قطعي, وبالجملة فإنفاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -

رسله إلى الأطراف بالناسخ والمنسوخ مما تواتر. فأما وقوع ذلك بعده - صلى الله عليه وسلم - فممتنع بإجماع الصحابة على أن القرآن لا يرفع بخبر الواحد , وبالجملة التواتر. ويشبه أن تكون العلة في ذلك قرائن تقترن بخبر المخبرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ليس تقترن بالمخبرين عنه بعد موته - صلى الله عليه وسلم - من إمكان مراجعته واستفهامه وغير ذلك. 124- وأما نسخ المتواتر من القرآن بالمتواتر من السنة فإنه قد نقل عن الشافعي وعن قوم من أهل الظاهر أنهم كانوا لا يجوزون ذلك بدليل قوله عز وجل - {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} - وهذه الآية وإن كانت ظاهرة فيما رأوا فقد قلنا في ما سلف أنه يمكن أن لا تتضمن الآية الواردة بدل الآية المنسوخة في الحكم , وتكون السنة هي المتضمنة بدل حكم المنسوخة. ومن يجوز ذلك فقد احتج بنسخ قوله تعالى - {الوصية للوالدين والأقربين} - بقوله عليه السلام – "لا وصية للوارث" – وكذلك احتجوا بقوله عليه السلام أيضا " قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة (¬1) وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (¬2) وهو نسخ {فأمسكونهن في البيوت} وهذه الاحتجاجات قد يتمكن أن يتطرق إليها الاحتمال وليست قاطعة. 125- ويشبه أن يكون الذي أصار القائلين بهذا إلى امتناع ذلك مع ما تقدم من حجتهم ,ما نجد في أنفسهم من ترجيح التصديق الواقع عن تواتر الكتاب , إذ هو أرفع مراتب التواتر , وأن ما عدا ذلك من ¬

(¬1) في الأصل: هاته. (¬2) وفي بداية المجتهد نقرأ: " خذوا عني قد جعل الله سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة. ص326/ج2.

مسألة:

الأحاديث فإنها تواترت فلا يمتنع أن يكون التصديق بها مقصرا عن التصديق بالكتاب. وليس بمحال على ما يرى كثير من الناس أن يتفاضل التصديق اليقيني لاسيما فيما سبيله النقل , فأما ما نقل عن الشافعي رحمه الله أنه كان لا يجوز نسخ السنة المتواترة بالقرآن , فلا معنى له , إذا أخذ على ظاهره , اللهم إلا أن يتأول ذلك , فإن وجوه التأويل لا تضيق. 126- مسألة: لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المظنون , كما لا يجوز بخبر الواحد. وقد احتج من أجاز ذلك بجواز تخصيص القياس للنص المتواتر. وهذا إذا سلم فليس بحجة , إذ التخصيص بيان والنسخ رفع. وبالجملة فالحجة في ذلك إجماع الصحابة على إبطال كل رأي مخالف للنص , فكيف النص المتواتر. وحديث معاذ إذ قال اجتهد رأيي عند عدم النص وتزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك , فأما إذا تناقض نصان قاطعان وأشكل فهل يقضى بتأخر أحدهما بخبر الآحاد؟ فيه نظر , والمسألة في محل الاجتهاد. 127- مسألة: لا ينسخ الحكم بقول الصحابي نسخ حكم كذا ما لم يقل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. هذا إذا كان الحكم ثابتا بخبر الواحد , لأن كثيرا ما يظن بما ليس بنسخ أنه نسخ , كما ظن قوم أن الزيادة على النص نسخ. وأما إذا كان الحكم ثابتا بطريق التواتر فليس قول الصحابي بنسخ وإن نقل ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأن الآحاد لا ينسخ به التواتر كما تقدم. 128- وبالجملة فينبغي أن تعلم أن للنسخ شرائط يتضمنها الحد المتقدم وهي منطوية فيه أولها: أن يكون المرفوع حكما شرعيا لا عقليا كالبراءة الأصلية التي ترتفع بإيجاب العبادات. والثاني أن يكون النسخ بخطاب لا أن يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت يقتضي

مسألة:

دخوله. وبالجملة فتلحقه شرائط تعتبر فيه بحسب حد حد من حدود النسخ التي عددناها وتخرج عنه شرائط. 129- مسألة: إذا تعارض نصان قاطعان فلم يعلم أيهما ناسخ لصاحبه. فالوقوف على ذلك ليس يكون بشيء سوى النقل وذلك يمكن بطرق: أحدها أن يكون في لفظ أحدهما ما يدل على نسخ الآخر , كقوله عيه السلام "كنت نهيتكم عن كذا فافعلوه ". الثاني أن يعلم التاريخ فيهما. وقد تقع معرفة ذلك بأن تجتمع الأمة على نسخ أحدهما. وما سوى هذا مما يظن أنه نسخ فليس بنسخ, مثل تأخر الراوي في الإسلام , وتأخره في السن أو انقطاع صحبته. تم القول في الناسخ والمنسوخ.

القول في الأصل الثالث من أصول الأدلة وهو الإجماع

القول في الأصل الثالث من أصول الأدلة وهو الإجماع 130- والإجماع هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي وسواء كان ذلك الحكم مما صرح به صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - فدثر ولم ينقل, أو لم يصرح به, فوقع الإجماع منهم على ذلك لقرينة حال أو دليل أو غير ذلك مما يوجب الاتفاق. أما ما صرح به النبي عليه السلام ونقل نقل تواتر فلا غناء للإجماع في تصحيحه. وأما ما نقل نقل آحاد فإن الإجماع ينقله من رتبة الظن إلى رتبة القطع. وأما ما لم يصرح به أو صرح به ولم يبلغنا فإن الإجماع يستعمل دليلا قاطعا في تثبيته. أما وقوع مثل هذا شرعا فموجود وأما اطلاعنا عليه فذلك يمكن بأحد وجهين: أما إن كان المجمعون معاصرين لنا فبلقائهم. وأما إن كانوا ممن (¬1) سلف فبالنقل المستفيض الذي يوقع التصديق. 131- وأما الدليل على كون الإجماع حجة فمأخوذ من جهة النقل من الكتاب والسنة. فمن ذلك قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية. وهذه أقوى آية في التمسك بالإجماع. ومنها قوله تبارك وتعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} . وقوله: {كنتم خر أمة أخرجت للناس} . وقوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} . وهذه الآيات وإن لم تكن واحدة واحدة منها نصا في كون الإجماع دليلا شرعيا فإنها بمجموعها تقتضي لهذه الأمة التعظيم والتشريف واتباع سبيلهم وموافقتهم والنهي عن مخالفتهم والخروج عن جماعتهم. ¬

(¬1) في الأصل: من.

وبالجملة إذا أضيف إلى هذه الآيات ما ورد من أحاديث الأخبار في وجوب العصمة لهذه الأمة , وإن لم تكن تواترت في اللفظ فهي متواترة في المعنى , كقوله عليه السلام: " لا تجتمع أمتي على خطأ " وقوله عليه السلام" لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ ومن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " (¬1) . وقوله عليه السلام " يد الله مع الجماعة " , إلى ما سوى ذلك من الأحاديث , ثبت على القطع كون الإجماع دليلا شرعيا. (¬2) 132-وأما من احتج على كون الإجماع حجة بدليل العقل فضعيف, لأنه وإن كان يبعد اجتماع الكثير على الكذب, فغير بعيد اجتماعهم على الخطأ. بل تقول لو بقي من أهل الاجتهاد اثنان أو ثلاثة وأجمعوا على رأي وقع الإجماع بهم لشهادة الشرع لهم بالعصمة, من حيث ينطلق عليهم اسم الأمة في ذلك الوقت. 133-وإنما اشترطنا في حده المجتهدين, لأن العوام وإن تصور دخولهم في الإجماع فإنما ذلك في الأمور التي نقلت نقل تواتر كالصلوات الخمس والصوم والزكاة, أو فيما كانوا (¬3) فيه مستصحبين وتابعين لإجماع المجتهدين, فلذلك لا غناء لإجماعهم في تصحيح ¬

(¬1) ورد هذا الحديث في المستصفى هكذا: ( ... ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) . (¬2) تحدث عن مفهم الإجماع بجهة مخالفة في (مختصر المنطق) فقال: (وأما الإجماع الذي هو اتفاق أهل الملة فمستنده أيضا في الإقناع شهادة الشرع لهم بالعصمة. ولما شعر قوم بهذا قالو إن خارق الإجماع ليس بكافر. وأبوا حامد قد صرح بهذا المعنى في أول كتابه الملقب بالتفرقة بين الإسلام والزندقة قال لم يجمع بعد على ما هو الإجماع) . ص195 (¬3) في الأصل: أو في كانوا

شيء, بل العوام أبدا متبعون للمجتهدين وموافقون لهم, إذ كان ذلك فرضهم. فإن سمّي مثل هذا إجماعا لم يمتنع, لكن مثل هذا ليس بأصل يستعمله المجتهد. 134- فأما عدد المجمعين فليس فيه شرط سوى أن يكونوا جميع المجتهدين من أهل العلم الموجدين في عصر واحد, لأنا لو اشترطنا إجماع أهل الأعصار, من سلف منهم ومن هو حاضر ومن سيأتي, لم يقع إجماعا. 135-فأما إن أجمع أهل عصرنا على أمر لم يجمع عليه من سبقهم هل ينعقد الإجماع أم لا؟ ففيه موضع نظر. أما ما سكت عليه أهل العصر المتقدم, ولم ينقل عنهم فيه قول, فإجماع من بعدهم منعقد ضرورة. وأما إذا نقل فيه عن من سلف خلاف, فها هنا موضع القول. وقد اختلف الناس في ذلك, والوقوف عليه يكون من جهة صيغ الألفاظ الواردة في معنى العصمة لهذه الأمة كقوله عليه السلام (لن تجتمع أمتي على الضلال) , وسائر الأحاديث التي أوردناها, فإنها وإن لم يمكن حملها على العموم, إذ هو من الممتع أن يتناول ههنا لفظ الأمة من سيأتي, فهو حجة في عموم ما بقي داخلا تحت تناول اللفظ. فبأي جهة ليت شعري يخرج من شرط الإجماع أهل العصر المتقدم, وعموم ما بقي من دلالة اللفظ يتناولهم, اللهم إلا عند من يرى أن العام إذا خصص فليس بحجة في عموم ما بقي. 136-فأما أهل الظاهر فليس يتصور معهم هذا الخلاف لأنهم يرون الإجماع إنما هو اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على حكم ما. وذلك لازم لأصولهم. لأنهم لا يجوزون الإجماع بالقياس. وإذا كان هذا هكذا فإنما يقع الإجماع عندهم إما لأثر قد عفا ولم يصل إلينا ,

وإما لقرائن وأحوال مشاهدة منه - صلى الله عليه وسلم - , ومثل هذا لا يتصور في غير الصحابة. وأما من يجوز وقوع الإجماع عن القياس فيلزمه الخلاف المذكور وسنبين هذا في كتاب الاستنباط, إذا تبين ما هو المعنى الذي يعنونه بالقياس في هذه الصناعة. 137-وأما هل يتناول أيضا لفظة الأمة جميع الشخوص المجتهدين في ذلك العصر حتى إن شذ منهم واحد لم يكن إجماعا, أم يراد به الأكثر, فالظاهر من الصيغ الواردة في ذلك تناول جميعهم. وبالجملة فالنظر في هذه الأحوال المشترطة في الإجماع يشبه أن يكون اجتهاديا. وأما إذا نقل عن أكثرهم أيضا قول, وسكت الباقون فمختلف فيه. والأظهر كما يقول الشافعي ألا ينسب إلى ساكت قول قائل, اللهم إلا أن يعلم من قرائن أحوال الساكتين أن سكوتهم ربما كان رضي منهم بالقول واتفاقا عليه, فإن الإنسان قد يسكت لأسباب شتى: إما أنه ليس عنده في ذلك الوقت في الشيء رأي, وإما إن كان عنده رأي في الشيء فقد تمنعه عن التصريح به موانع: منها أنه لعله يرى أن الحكم في محل الاجتهاد, أو أن كل مجتهد مصيب, أو هيبة ما, أو غير ذلك من قرائن تقترن له. 138-وإذا كان هذا هكذا وكان من شرط الإجماع اتفاق جميع المجتهدين الموجودين في ذلك العصر, فمن رأى إجماع أهل المدينة حجة لأنهم الأكثر في أول الإسلام فلا معنى له. لكن حذاق المالكيين إنما يرونه حجة من جهة النقل وهذا إذا بني فيه أن يجعل حجة فيما يظهر لي, فينبغي أن يصرح فيه بنقل العمل قرنا بعد قرن حتى يوصل بذلك إلى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فيكون ذلك حجة بإقراره له - صلى الله عليه وسلم -. مثل أن يقولوا: هكذا وجدنا آباءنا يفعلون, إلى أن ينتهي ذلك إلى زمن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -. مثل ما اتفق لمالك مع أبي يوسف بحضرة الرشيد في مسألة الصاع. وإلا متى لم يشترط هذا, ولم يحتفظ به, لم يكن ممتنعا أن يكون إجماعهم على أمر حملهم عليه بعض الخلفاء والأمراء. وبالجملة فالحكم في الشرع بمثل هذا الحكم بين أنه ليس يرجع إلى أصل مقطوع به في الشرع على ما شأنها (¬1) أن ترجع إليه الأمارة الظنية, اللهم إلا أن يصرح بنقل العمل كما قلنا فيكون من باب النقل (¬2) . 139-وأما من يشترط في الإجماع انقراض عصر المجتهدين دون أن يقطع بينهم خلاف فليس تقتضيه صيغ الأحاديث الواردة بكون الإجماع حجة, بل من خالف من بعد وقوع الإجماع ¬

(¬1) في الأصل: (على ما تبيانها) (¬2) لعل هذا الموضع الذي يحيل إليه في (بداية المجتهد) حين قال: (ص74/جI) (وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي وهو الذي يدعى بأصول الفقه) . ولكنه في موضع آخر من البداية (ص126/جi) ينتهي إلى موقف يحمل جديدا بالقياس إلى ما ذهب إليه ههنا يقول: (لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر. فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع وذلك لا وجه له فإن إجماع البعض لا يحتج به. وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف. والعمل إنما هو فعل, والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول, فإن التواتر طريقه الخبر لا العمل, وجعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع. والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوى الذي يذهب إليه أبو حنيفة.... وهو أقوى من عموم البلوى ... لأن أهل المدينة أحرى ألا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل. وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن وإن خالفته أفادت به ضعف ظن ... )

في لحظة ما فغير ملتفت إليه ومقطوع بخطئه. 140-فهذا هو القول في الإجماع ما هو, وسائر ما يشترط فيه بأوجز ما أمكننا, وسائر ما يلحقه من المسائل والاعتراضات التي كثر أبو حامد بذكرها فقد يقف عليها بسهولة من تصور من الإجماع هذا المقدار الذي كتبناه.

القول في الأصل الرابع

القول في الأصل الرابع 141- وهو دليل العقل في استصحاب براءة الذمة عن الواجبات , وسقوط الحرج عن الخلق فيما لم يأت فيه أمر أو نهي , كسقوط الصلاة السادسة مثلا , وأكل شوال وما أشبه ذلك. وبالجملة فتسمية هذا دليلا تجوز فيه العبارة. والذي أصارهم إلى هذا تكلفهم أن يجعلوا السمعيات في وجوب الدليل في حالتي النفي والإثبات كوجوب ذلك في العقليات , حتى تراهم يضطربون , فمرة يقولون: "عدم الدليل دليل " , ومرة يقولون: " ثبت بالقياس أو بالإجماع إن لم يلف دليل عليه في الشرع فتستصحب فيه البراءة الأصلية ". والصواب غير هذا , لأن ما كان طريق وجوده السمع فهو على العدم محمول حتى يرد غير ذلك , والعدم فيه أشهر. وما كان هذا إما أن لا يطلب من الناس دليل عليه أصلا , وأما إن طلب فدون دليل المثبت , كالحال في المدعي والمدعى عليه. [221/1] 142- والاستصحاب في هذه الصناعة يطلق على وجوه: أحدها استصحاب البراءة الأصلية الذي تقدم. والثاني استصحاب العموم حتى يرد تخصيص. والثالث استصحاب النص حتى يرد نسخ. والرابع استصحاب حكم عند أمر قرنه الشرع به لتكرر ذلك الأمر. والخامس استصحاب الإجماع , أو بالجملة الحكم الشرعي الثابت بالنقل في موضع يظن أن المحكوم عليه قد تغير حكمه لتغيره في نفسه, كبيع أم الولد وما أشبه ذلك. وهذا الاستصحاب يراه أهل الظاهر وهم لازمون في ذلك لأصولهم , لأن من لا يجوز في الشرع النوع من النظر الذي يسمى عند أهل هذه الصناعة بالقياس, فالأشياء كما أنها عندهم على البراءة الأصلية حتى يرد دليل السمع , كذلك إذا ورد دليل الشرع بقي على حكمه وإن تغيرت أوصافه حتى يرد دليل الارتفاع.

وكان الحال ههنا بالعكس في استصحاب البراءة الأصلية لأن هناك كان العدم أظهر فوجب الدليل على المثبت, وههنا الوجود أظهر فوجب الدليل على النافي. وأما من يرى القياس في الشرع فيلزمه ألا يقول بمثل هذا الاستصحاب , لأن له أن يقول نحن مكلفون بالنظر بالقياس فيما ليس فيه نص, وهذا قد تغير وصفه , فله حكم ما لم يرد فيه نص , إذ تغير الوصف يوجب تغير الحكم. وهنا انقضى القول في الأصل الرابع وهو منتهى الكلام في الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو المشتمل على أصول الأدلة. وقد يظن أن ههنا أصولا غير هذه نحن ذاكروها: منها قول الصحابي يظن به أنه حجة وليس بحجة , لأن من لم تثبت عصمته لم يجز تقليده , فالعصمة إنما تثبت بالمعجزة أو بقول صاحب المعجزة فيه إنه معصوم. وقد تفرق الناس في ذلك على أقوال: فبعضهم خص بذلك بعض الصحابة , وبعضهم رآه في كل صاحب. وبالجملة فالصاحب مجتهد من المجتهدين , لكن النفس أميل إلى أقوالهم لما انضافت إليهم من القرائن , وهي التي أوقعت من رأى أقوالهم حجة في ذلك. ومنها شرع من قبلنا , والدليل على أنه ليس بأصل أنه لو كان كذلك لكان نقله من فروض الكفايات | ... على الأمة أن يذهب عليها في وقت ما فرض من فروض الكفايات بدليل العصمة | (¬1) لهم, ولو كان فرضا من فروض الكفايات لأخبر به الصحابة ونقل إلى اليوم. فأما ما منها في الكتاب ونحن مأمورون به فإنما نحن مأمورون به من جهة ما هو ¬

(¬1) كلمة أو كلمتان غير مقروءتين في هذا الاستدراك الذي كتبه الناسخ في هامش الورقة , ولعلها " ويستحيل ".

في الكتاب لا من جهة ما هو شرع من قبلنا. 146- ومنها الاستحسان والاستصلاح وهذان إن أريد بهما نوع من أنواع القياس, جلي أو خفي مما يجوز في الشرع على الجهة التي يجوزه القائلون به, فهو على رأيهم أصل , وأما إن لم يرد به ذلك فليس بأصل. وبالجملة النظر في المصالح قد ندب إليها الشرع لكن بمقدار ما وبحد ما, وهو ما شهد لنا بكونها أو كون جنسها مصلحة (¬1) . وأما هل القياس أصل فسيأتي القول فيه فيما بعد. 147- وهنا انتهى النظر في الجزء الثاني من هذا العلم والحمد لله. ¬

(¬1) اتخذ في بداية المجتهد موقفا مماثلا لما ذهب إليه ههنا بصدد الاستصلاح والاستحسان وقياس المصلحة أو القياس المرسل. انظر ص197/ج2. ص2,40,140,186,189,202,209,220,327/ج2 وسننقل في الهوامش اللاحقة بعض ما ورد في هذه المواضع.

القول في الجزء الثالث من المختصر

القول في الجزء الثالث من المختصر

صفحة فارغة في الأصل

القول في النص والمجمل من جهة الصيغة

148- وهذا الجزء هو النظر فيه أخص بهذا العلم على ما قدمنا فيما سلف, وهو ينقسم بحسب الأشياء التي يقع بها الفهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذلك إما لفظ أو قرينة. 149- واللفظ ينقسم إلى ما يدل على الحكم بصيغته , وإلى ما يدل بمفهومه ومعقوله. 150- والقرينة تنقسم إلى قسمين: أحدهما فعله - صلى الله عليه وسلم - , والآخر إقراره على الحكم 1) القول في النص والمجمل من جهة الصيغة 151- ولنبدأ من ذلك بالنظر في الألفاظ فنقول: إن العادة قد جرت عندهم في هذه الصناعة أن يقسموا الألفاظ والأقاويل إلى المجمل والنص والظاهر والمؤول. وينبغي أن ننظر في واحد واحد من هذه الأقسام, ونبين المعنى الذي يدلون عليه في واحد واحد منها, فنقول: 152- إن الألفاظ منها مفردة ومنها مركبة, والمفرد إما اسم وإما فعل وإما حرف. والمركبة ما تركب من هذه وكان يدل جزءه على جزء من المعنى. ومن هذه ما هو غير مستقل بنفسه في الفهم, ومنها ما هو مستقل بنفسه. وهذا ينقسم إلى أمر ونهي وطلبة وتضرع ونداء. 153- والألفاظ , سواء كانت أسماء أو حروفا أو أفعالا أو مفردة أو مركبة, منها ما يفهم عنها بصيغها في كل موضع معنى واحدا أبدا, وهذه بعض ما يعنون بالنص في هذه الصناعة, ولنسمه نحن النص من جهة الصيغ. ومنها ألفاظ يمكن أن يفهم عنها أكثر من معنى واحد, وهذه إذا كانت دلالتها على جميع المعاني بالسواء, حتى لا يفهم أحدها

إلا بدليل أو قرينة فهو أيضا بعض ما يعنون بالمجمل في هذه الصناعة, ولنسمه نحن مجملا من جهة الصيغ. ومن هذه الألفاظ ما يقال من أول الأمر على شيء منها ويكون أشهر في الدلالة عليه, ثم يستعار حينا ما لشيء آخر لشبهه بالمعنى الأول, أو يبدل بعضها مكان بعض اتكالا في ذلك على قرينة تفهم المعنى المستعار أو المبدل. وهذه إذا وردت خلوا من القرائن حملت على وضعها الأول, وهي ما يعنون في هذه الصناعة بالظاهر, ولنسمه نحن على عادتنا الظاهر من جهة الصيغ. وإذا دلت القرائن على استعارتها أو تبديلها فهو بعض ما يسمى في هذه الصناعة مؤولا, ولنسمه المؤول من جهة الصيغ. وفي هذا الصنف تدخل الأسماء العرفية, وهي أسماء استعملت في الوضع على أشياء ثم نقلت في الشرع إلى أشياء أخرى لشبهها بالمعاني الأول أو لتعلقها بها بوجه من أوجه التعلق. وهذه إذا وردت في الشرع كانت ظاهرة في المعاني الشرعية, ولم تحمل على المعاني اللغوية إلا بالتأويل (¬1) . 154- ومن هذه الألفاظ والأقاويل ما تدل بمفهوماتها لا بصيغها وذلك لتغييرها بالنقص والحذف أو الزيادة, وكذلك أيضا بالتبديل والاستعارة. وهذا الصنف من الألفاظ يسمى مجازا. 155- وهذه يوجد فيها أيضا ما يشبه النص والمجمل والظاهر والمؤول, وإنما يوجد ذلك فيها من جهة القرائن لا من صيغها. فيكون إذا النص المستعمل في هذه الصناعة يعنى به صنفان: أحدهما ما كان نصا ¬

(¬1) يقول في بداية المجتهد: " فإن الأسماء التي لم تثبت لها معان شرعية يجب أن تحمل على المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى شرعي بخلاف الأمر في الأسماء التي تثبت لها معان شرعية, أعني أنه يجب أن تحمل على المعاني الشرعية حتى يدل الدليل على المعنى اللغوي ص101 ج1.

من جهة الصيغ, والثاني ما كان نصا من جهة المفهوم. وبمثل هذه القسمة ينقسم الظاهر والمجمل والمؤول. 156-ويشبه أن تكون قسمة الألفاظ إلى هذه الأصناف هي النافعة في هذه الصناعة. وينبغي أن ننظر فيها على عادتهم, ونبين في واحد واحد منها كونه دليلا شرعيا, ونفحص عما يظن به من الأقاويل أنه متردد بين أكثر من صنف واحد من هذه الأصناف. ولنبدأ من هذه الأقسام بما يوجد للفظ من جهة صيغته ومن هذه في المفردة والمركبة تركيب إخبار. 157- واللفظ كما قلناه إنما يكون نصا إذا فهم عنه في كل موضع معنى واحدا, وهذا يوجد في المفرد والمركب. أما مثال المفرد فكالإنسان والفرس والحيوان, وأما في المركب فمثل قوله تعالى: {قل هو الله أحد} وبالجملة كل ما تركب عن المفردات النصوص, ولم تكن الضمائر فيه محتملة أن تعود على معنى أكثر من واحد. 158- والمجمل من جهة الصيغة في مقابلة هذا. أما في الألفاظ المفردة فكمثل اسم العين الذي يقال باشتراك على عين الماء , وعلى عين الميزان, والعين التي يبصر بها, وغير ذلك. وربما قيل على الشيء وضده كالقرء الذي يعنى به مرة الطهر ومرة الحيض. وأما المجمل من جهة التركيب فما تركب عن مثل هذه الالفاظ , او كانت الضمائر التي يرتبط بها القول محتملة, كقوله تبارك وتعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} . فإن الضمير محتمل هنا أن يعود على الولي أو الناكح. 159- واسم البيان يقع عندهم في هذه الصناعة على كل ما يمكن أن تثبت به الأحكام, ويقع في الأفهام, من صيغة لفظ أو مفهومه, وما

سوى ذلك مما عددناه قبل على مراتبه في إفادة التصديق. وسنقول في كون واحد واحد منها دليلا شرعيا. 160- فأما المجمل فليس ببيان بإجماع , ولا يثبت به حكم أصلا. ويتطرق إلى هذا مسألة وهي: هل تجوز المخاطبة على معنى الأمر بالمجمل حتى يرد البيان, أو بالظاهر حتى يرد التخصيص, وذلك في وقت الحاجة؟ وهذه المسألة هي التي يرسمونها بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقد أجاز ذلك قوم, ومنعه آخرون. ونحن نقول في ذلك (¬1) : 161- وهذه المسألة الفحص عنها لغوي, فلذلك ينبغي أن نجعل نظرنا فيها من الجهة التي تنظر في اللغة فنقول: إنه إذا استقرىء كلام العرب ظهر من أمرهم أنهم لا يخاطبون بالاسم المشترك إلا حيث يدل الدليل على المعنى المقصود من سائر ما يقال عليه ذلك الاسم , إما لقرينة حاضرة مبتذلة , أو موجودة في نفس اللفظ. فإن قول الله تبارك وتعالى: {فأصبحت كالصريم} قد تقدم من صفات المشبه ما يدل على أن الصريم ههنا الليل. وكذلك إذا أرادوا بالصريم الصبح قالوا ضوء الصريم, وما أشبه ذلك. وبالجملة فالمخاطبة بالألفاظ المجملة والمخاطب يعلم قطعا أنها مجملة مما لم يقع بعد, ولو وقع لكان هذرا, اللهم إلا أن المخاطب بالاسم المجمل قد يخاطب به ويغلب على ظنه فهم ذلك عنه اتكالا منه على القرائن ولا يفهم ذلك عنه المخاطب, فهنا يصلح ¬

(¬1) ذهب في البداية كما سيفعل ههنا إلى عدم جواز تأخر البيان عن وقت الحاجة. انظر ص 8 , 9 , 15 , ج2.

الاستفهام من المخاطب والبيان من المخاطب وإن رأى المخاطب أن اقتضاء ذلك خوطب به لم يطلب منه في ذلك الوقت، أخر السؤال إلى وقت الحاجة فيتأخر البيان. فأما أن يرد الخطاب بالألفاظ المجملة والمخاطب لا يفهم عنه شيئا تعويلا من المخاطب على أنه سيبين ذلك المعنى المقصود عند وقت الحاجة فهو شيء كما قلنا لم يقع من عربي قط ولا من غيره. وبالجملة فليس تقع المخاطبة بالألفاظ المجملة اللهم إلا أن يراد بها اللغز والاستهزاء لطبيعة المخاطب (¬1) وكذلك ما كان مجملا من جهة مفهومه وأما الشرع فإنه لم يتصرف في ذلك بوضع عرفي. 162 وأما الظاهر أيضا من جهة الصيغة فحكمه عندي حكم الاسم المشترك، وذلك منه فيما قيل من أول الأمر علي شيء ما، وكان ظاهرا فيه ثم استعير وقتا ما لشيء ما آخر لشبهه بالمعنى الأول أو لتعلقه به بوجه من أوجه التعلق. فإن العربي إذا أطلق لفظ السماء لم يفهم عنه أبدا إلي السماء المكوكبة فإذا أراد بذلك المطر دل على ذلك بقرينة كقولهم: (ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم) وكقولهم (إذا سقط السماء بأرض قوم) وإلا متى خوطب بمثل هذه الأسماء وأطلقت إطلاقا، والمراد بها غير ما هي راتبة عليه، لم يقع ذلك إلا غلطا، وإن قصد ذلك كان تغليطا، هذا إذا كان وقت الحاجة. وأما إن لم يكن وقت الحاجة فأي فائدة لمخاطبة يعتقد الإنسان منها خلاف ما يأتي به البيان. ويشبه أن يكون كذلك الظاهر من جهة المفهوم 163 وأما الظاهر من جهة الإبدال وذلك منه فيما يأتي من ¬

(¬1) وفي الأصل الاستهزاء الطبيعة المخاطب

الألفاظ العامة التي المراد بها ما تحتها، فالمخاطبة بها دون أن تقيد أو تقترن بها قرينة تدل على فهم ذلك المعنى المخصص قصدا بتأخير البيان فيها إلى وقت الحاجة، واقع لغة وشرعا، إذا فهم المخاطبون من قرائن الأحوال أن ههنا أيضا موضعا للسؤال، وأن المخاطب لم يكن قصده الإقتصار على ما خاطب به. وعلى ذلك ورد قوله عز وجل: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) فإنهم لم يزالوا يسألون والجواب يرد بالتخصيص إلى أن تعينت لهم البقرة المخصوصة. فأما إذا لم يعلم المخاطبون من قرائن الأحوال أن ههنا موضعا للسؤال فذلك غير واقع. وإنما ساغ مثل هذا في العام، ولم يسغ في المجمل، ولا في الجنس الأول من الظاهر لأن من عرف الشيء بأمر كلي فقد عرفه بوجه ما، مع أنه ينتظر معرفته بوجه أخص. وكثيرا ما تكون الأقاويل المؤلفة عن مثل هذه أبين من الأسماء أو مضطرا إليها فيما لم تكن لها أسماء كما اتفق في البقرة المأمور بذبحها. وعلى هذا تجوز المخاطبة بالأسماء العرفية قبل فهم المعاني التي يدل عليها بتلك الأسماء، اتكالا على أن المخاطبين يعلمون أن تلك الأسماء تدل على معان زائدة إلى ما كانت تدل عليه في الوضع الأول، وفائدة ذلك العزم على الأمر وبتأخر البيان إلى وقت الحاجة (¬1) كالأمر بالزكاة والحج قبل وجوبهما. وإذا أنت تصفحت الأشياء التي يحتج بها من يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة من غير تفصيل وجدتها داخلة تحت هذه التي عددناها، وكذلك إذا نظرت إلى ما يحتج به من يجوزه وجدت ذلك إنما هو في المجمل المحض الاحتمال، وفي الصنف الأول من الظاهر. وبالجملة فكلا الرأيين إذا أخذا بإطلاق كاذب بالجزء، على ما من شأنها أن تكذب الآراء المصححة بالاستقراء الذي ¬

(¬1) كذا في الأصل والظاهر أن في العبارة اضطرابا.

القول في الظاهر والمؤول من جهة الصيغة

لا تستوفي فيه جميع الجزئيات. فأما أن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة فذلك ما لا خلاف فيه (¬1) . وإذا قلنا في المجمل والنص فلنقل في الظاهر والمؤول. 2) القول في الظاهر والمؤول من جهة الصيغة 164 والظاهر كما قلنا من جهة الصيغة قسمان: أحدهما الألفاظ المقولة من أول الأمر على شيء ثم استعيرت لغيره لتشابه بينهما أو تعلق بوجه من أوجه التعلق. أما الذي استعير لتشابه بينهما فمثل تسميتهم الفراش عشا، وأما الذي استعير لتعلقه بوجه آخر فكتسميتهم النبت ندى، لأنه عن الندى يكون. ومن هذا الصنف الكناية، كتعبيرهم عن الرجيع بالغائط وعن النكاح بالمسيس. 165- وأما القسم الثاني من أقسام الألفاظ الظاهرة فهي المبدلة، ونعني هنا بالمبدلة إبدال الكلي مكان الجزئي، والجزئي مكان الكلي. وعلى التحقيق فالتبديل يلحق جميع الألفاظ المستعارة، ثم تنقسم هذه الأقسام التي أحصيناها، لكن رأينا أن نخص هذا الصنف باسم التبديل، أعني الكلي والجزئي، وإن كان في الحقيقة كل مبدل مستعار وكل مستعار مبدل. 166 وهذان الصنفان إذا وردا بإطلاق في الشرع حملا على ظاهرهما حتى يدل الدليل على غير ذلك , وهو حملهما على المعنى المستعار, وهو المسمى تأويلا. وكون هذه الألفاظ ظاهرة في هذه الدلالات يعرف ذلك ضرورة من استقراء اللغة. وكونها دليلا شرعيا ¬

(¬1) وهذا ما ذهب إليه في بداية المجتهد كما رأينا

يعرف بإجماع الصحابة على الأخذ بالظواهر, وأن الشرع لم يتصرف في ذلك بوضع عرفي. وأيضا فلو لم نصر إلى الأخذ بالظواهر لكان سيبطل كثير من العبادات لأن النصوص معوزة جدا. وبالجملة الضرورة الداعية إلى العمل بأخبار الآحاد هي ههنا الضرورة الداعية إلى العمل بظواهر الألفاظ. وهذه الألفاظ الظاهرة لها مراتب في الظهور. وكلما كان اللفظ أظهر احتيج في تأويله إلى دليل أقوى, وبالعكس متى كان اللفظ قليل الظهور انصرف إلى التأويل بأيسر دليل. ولنضرب في ذلك ثلاثة أمثلة, واحدا في الرتبة الأولى وثانيا في الرتبة الوسطى وثالثا في الرتبة الأخيرة, وذلك في صنفي الظاهر جميعا. 167- أما الذي في المرتبة الأولى من الأسماء المستعارة فمثل من حمل قوله عز وجل: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم} . على أن اللباس ههنا المطر, فإن مثل هذا التأويل يحتاج إلى دليل فإن اللباس ظاهر جدا فيما يواري الإنسان, والثاني مثل حمل قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} . على أن الميزان ههنا العدل. والثالث مثل قوله تعالى: {أو لامستم النساء.} فإن بعض الفقهاء حمله على اللمس الذي باليد, وحمله بعضهم على الجماع. وهذا وإن كان الظاهر فيه اللمس باليد فقد يحتمل أن يراد به الجماع احتمالا قريبا, إذ ذلك من عادة العرب, وقد كنّى الله تعالى عن الجماع بالمسيس, وهو في معنى اللمس. 168- وبالجملة فمراتب الظهور في الألفاظ إنما هو بحسب كثرة الاستعمال وقلته, فإن بلغت كثرة الاستعمال في المعنى الذي استعير له أن يعادل استعماله في المعنى الأول بقي اللفظ بين الأول والثاني مشتركا ومجملا, ومهما نقصت كثرة الاستعمال في الثاني كان أظهر في الأول,

وربما كان التأويل في الظاهر بينا بنفسه, وربما احتيج إلى تبيين, وربما كان ذلك ظنا أكثريا, وربما كان قطعا. مثال ما كان من ذلك بينا بنفسه وكان قطعا قولهم: (وما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم) , ومثال ما كان من ذلك بينا بدليل قطعي قوله تعالى: {الرحمان على العرش استوى} فإنه قد علم بدليل قطعي أن الاستواء ههنا ليس هو التمكن. 169-وأما الصنف الثاني من اللفظ الظاهر, وهو الذي سمّيناه المبدل, فهو أيضا صنفان: أحدهما اللفظ الكلي, والثاني اللفظ الجزئي. ولنجعل نظرنا من ذلك أولا في الكلي وهو العام. والعام أصنافه كثيرة, وقد نازع قوم في وجود معنى العموم في الألفاظ وكونه إذا ورد مطلقا ظاهرا في حصر جميع ما يدل تحته. ولا معنى لمنازعتهم, فإن الأمر ظاهر, بل هو شيء مشترك لجميع الألسنة واللغات. والشرع لم يتصرف في تغييره بوضع عرفي. والحجة على كونه دليلا شرعيا هي الحجة على كون الظاهر بما هو ظاهر دليلا شرعيا. وقد تقدم ذلك. 170-وأصناف هذه الألفاظ كثيرة: فمنها أسماء الجموع, دخلتها الألف واللام أو لم تدخلها. ومنها أسماء الأجناس والأنواع والأصناف إذا كان فيها الألف واللام ولم تكن في آخرها هاء التأنيث مثل الثمرة والنخلة والمرأة. ومنها من وما, إذا أوردت, وأين ومتى. ومنها حروف النفي. ومنها الألفاظ المؤكدة كقولهم كلهم وأجمعون. وهذه الأصناف إذا أطلقت إطلاقا حملت على الأكثر على عمومها إلى أن يدل الدليل على تخصيصها, ولها أيضا مراتب في الظهور, كما كانالصنف الأول. ولأدلتها أيضا مراتب بحسبها لأنه أبدا يشترط في الدليل المؤوّل أن يكون أقوى دلالة من صيغة اللفظ, مثال ما منها في:

171- المرتبة الأولى من الظهور قوله - صلى الله عليه وسلم - (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) حمله قوم على الأمة فلما لم يسغ لقوله - صلى الله عليه وسلم - (فلها المهر وإنما مهر الأمة لسيدها) حملوه على المكاتبة وهذا يبعد من جهة التأويل. 172 المرتبة الثانية قوله عليه السلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام) (¬1) حمله قوم على القضاء والنذر وهذا التأويل أقرب من الأول. 173 المرتبة الثالثة قوله - صلى الله عليه وسلم - (فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) حمله قوم على كل شيء حتى أخذوا الزكاة من الخضر، وقال آخرون هو مقصور على سائر الحبوب التي تؤخذ منها الزكاة. 174 فهذه أصناف ألفاظ العموم ومراتبها في الظهور وربما ورد اللفظ العام والمراد به الخاص، ويكون ذلك فيه بينا من أول الأمر، كقول القائل عندما يضرب ولده ليس في الأولاد خير. وربما كان ذلك ظنا أكثريا، وربما كان قطعيا، وذلك بحسب قرينة قرينة. وربما تبين ذلك بدليل. والدليل أيضا إما قطعي وإما أكثري، وربما علمنا أنه عام أريد به الخاص، ولم نعلم أي خاص هو، وربما كانت قوته قوة المجمل. 175 وقد بقي علينا أن نقول فيما يظن به من أصناف الألفاظ أن لها عموما، وليس لها عموم. أو فيما يظن منها أن ليس لها عموم ولها عموم، ونرسم في ذلك مسائل: ¬

(¬1) نجد في بداية المجتهد رواية أخرى: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له. انظر ص214 ج1

مسألة:

176- مسألة: العموم في الألفاظ إنما يتصور إذا كان من لفظ الشارع على سبيل الابتداء, أو رد عند السؤال على سبب خاص فأخرج مخرج | العام | (¬1) . مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - , وقد سئل عن بئر بضاعة فقال: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء) فإن هذا القول ليس يحمل على بئر بضاعة وحده, بل على جميع المياه. وقد رأى قوم أن مثل هذا القول خاص ويقتصر به عن الشيء المسؤول عنه, وإن أخرج مخرج العموم. ولا معنى لقولهم, فإن الأمر في ذلك بين. 177- مسألة: ليس للاسم المشترك عموم لجميع ما يقال عليه, وإن كان قد يرى ذلك بعضهم مثل من حمل قوله تعالى {أو لامستم النساء} على الأمرين جميعا, أعني النكاح واللمس بالجارحة التي هي اليد. وهذا يتبين خلافه باستقراء كلام العرب, فإنهم ليس يطلقون في مخاطبتهم اسم العين مثلا ويريدون به أن يفهم السامع عنهم جميع المعاني التي يقال عليها اسم العين. وأبين ما يظهر ذلك في الأسماء المقولة على المتضادات, اللهم إلا أن يدّعي مدّع أن ذلك مفهوم بالعرف الشرعي, لكن إن ادّعى ذلك فعليه إثباته. 178- مسألة: يدخل تحت لفظ الناس والإنسان العبد والكافر والذكر والأنثى. وأما المؤمنون فيدخل تحته العبد ولا يدخل تحته النساء, إذ هي صيغة خاصة بالمذكر. 179- مسألة: صرف العموم إلى غير الاستغراق جائز. وأما رده إلى ما دون أقل الجمع عند من يرى أن أقل ما يدل بلفظ الجميع عليه اثنان, فزعم أبو حامد أن ذلك ممتنع, وفيه نظر. ¬

(¬1) كتب الناسخ في الصلب (العموم) ثم صححها في الهامش كما أثبتناها.

مسألة:

180- مسألة: لفظ الجميع إذا ورد مطلقا فأقل ما يتناول الثلاثة فما فوقها, وهو فيها أظهر منه في الاثنين, وإنما يحمل على الاثنين بقرينة. والعجب ممن يحمل ألفاظ الجموع إذا وردت مطلقة على الاثنين, مع أن للاثنين صيغة خاصة. فأما أن لفظ الجمع قد يتجوز فيه ويراد به الاثنان, فذلك غير مدفوع. لكن على جهة الإبدال والتجوّز على نحو ما يفعل في سائر الألفاظ الراتبة على شيء ما. وإذا أنت تصفحت المواضع التي يحتجّ بها من يجوز ذلك وجدتها من هذا القبيل. لكن قد جرت عادة النظار في هذا الشأن عندما يتكلمون في دلالات الألفاظ ألا يفرقوا بين ما تدل عليه الألفاظ دلالة راتبة, وبين ما تدل عليه تجوزا واستعارة. فلذلك نراهم يقولون إن لفظ الجمع ينطلق على الاثنين كما ينطلق على الثلاثة فما فوقها. وهذا هو الذي غلط الناظرين في هذه الصناعة في هذه المسألة عندما يحتجون في ذلك بقول سيبويه وغيره من النحويين, وربما ورد من ذلك في كلام العرب. وليس هذا موجودا وحده في كلامهم, أعني أن يدل على الاثنين بصيغة الجمع. لكن قد يدل بذلك على الواحد وإنما يخرجون ذلك مخرج التعظيم كما يقولون هو كل الناس, وهو الفتى كل الفتى. 181-ولأن هذه الألفاظ العامة كما تقدم قد ترد والمراد بها التخصيص, فربما كان ذلك فيها بينا من أول الأمر, وربما لم يكن بينا, بل يحتاج في ذلك إلى دليل, وذلك إما لفظ أو فعل وإما إقرار أو واحد من الأدلة المستعملة في هذه الصناعة فينبغي إذا أريد المصير إلى تخصيص العام بواحد واحد منها أن ننظر إلى أيها أقوى رتبة في غلبة الظن إليه. وقد اختلف الناس في تخصيص العام إذا ورد في شيء ثم ورد تخصيصه وذلك إما

بصيغة لفظ أو مفهوم أو بفعل أو إقرار, أن ذلك يجري مجرى التعارض, لأنه جائز مثلا أن يرد العام متأخرا عن المخصص, سواء كان لفظا أو فعلا أو إقرارا, فيكون ورود العام نسخا له, إلا أن يعلم أن التخصيص ورد بعد التعميم على جهة تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وإلى هذا ذهب داوود وأصحابه. 182- وقد احتج من أجاز تخصيص العام بمثل هذه الأدلة دون أن يعلم المتقدم منها والمتأخر بمصير الصحابة إلى ذلك, وحكمهم بالخاص على العام, فيكون على رأي هؤلاء حالة العام مع الخاص إحدى حالتين: إما أن يرد اللفظ العام وقد تقدمه الخاص, فيكون ذلك قرينة يخصص بها العام لاحتمال اللفظ لذلك. وإما أن يرد الخاص بعد العام فيكون محولا عليه. وبالجملة كما قلنا فينبغي لمن يجوز التخصيص بمثل هذه الأدلة أن يصير إلى أقواها رتبة في غلبة الظن. وهذا النوع من غلبة الظن قد يقع من جهة الألفاظ, ومن جهة النقل, كمن يجيز تخصيص العام بالنص ويمنعه في القرآن لكون القرآن مما ثبت تواترا, هذا إذا كان الخاص واردا بطرق الآحاد. 183-ولأن الاستثناء تخصيص ما للعام, إلا أن الفرق بينه وبين التخصيص أنه لا يرد منفردا عن المستثنى. ولذلك لا معنى لقول من أجاز تأخير الاستثناء, فقد ينبغي أن نقول في ذلك: وصيغ الاستثناء معروفة. فأما أصنافه التي يجب أن ننظر فيها ههنا فهي هذه: 184-الاستثناء منه متصل, وهو الذي المستثنى من جنس المستثنى فيه. ومنه مقطوع, وهو الذي المستثنى فيه من غير جنس المستثنى منه. وهذا يسميه أهل اللسان بالاستثناء المتقطع. وأيضا من

الاستثناء ما يرد بعد جملة واحدة مفيدة, ومنه ما يرد بعد جمل ونحن ننظر في هذين الصنفين جميعا فنقول: 185 إن الاستثناء الذي من جنس المستثنى منه مما لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وقوع المستثنى من غير جنس المستثنى منه. وهذا قد منعه قوم وقالوا لا معنى لاستثناء ما لم يتضمنه القول المتقدم، وتسمية مثل هذا استثناء هذر. وأما الذين أجازوه فقد تمسكوا بوقوع ذلك لغة من ذلك قوله تعالى (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) وقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة حاضرة) وفي مثل هذا قول الشاعر: وأما بالربع من أحد إلا الأواري (¬1) والأواري ليس ينطلق عليها اسم أحد وقول الآخر: ¬

(¬1) هذه أجزاء من بيتين للنابغة الذبياني في ديوانه ص 14-15 رقم 1 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف القاهرة ط2 سنة 1985 قالها يمدح النعمان بن المنذر ويعتذر إليه مما بلغه عنه فيما وشى به بنو قريع في أمر المتجردة: وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأياما أبينها ... والنوى كالحوض بالمظلومة الجلد والربع: منزل القوم وكأنه سمي بذلك لإقامتهم فيه زمن الربيع والأواري محابس الخيل ومرابطها وأحدها أرى وورد البيتان في القلب والابدال لابن السكيت ص5 والمقتصد لعبد القاهر الجرجاني 2/719 ومجاز القرآن 1/328 وجمل الزجاجي ص239-240 (عبد العزيز الساوري) .

وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس (¬1) ومن عادة العرب أن تقول: ما في الدار رجل إلا امرأة. وبالجملة فهو في كلامهم مشهور وموجود كثيرا. والفرقة الأولى دفعوا ذلك من جهة النظر، والثانية تمسكوا بالوجود ولم يقدروا أن يعطوا الجهة التي بها يصح ذلك في الكلام بما هو معروف من عادة العرب وينحل بها الشك المتقدم. 186 - ونحن نقول في ذلك: إن من عادة العرب، كما تقدم، إبدال الكلي مكان إلجزئي، والجزئي مكان الكلي اتكالا على القرائن وتجوزا. فالأعرابي مثلا إذا قال: ما في الدار رجل أمكن أن يفهم عنه فما سواه، فلذلك استثنى فقال: إلا امرأة، وكذلك قوله: وبلدة ليس بها أنيس. وعلى هذا الوجه الذي قلناه ليس يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه. لكن الفرق بينه وبين الأول أن ذلك استثناء من عموم ما اقتضاه اللفظ بصيغته، وهذا من عموم ما اقتضاه اللفظ بمفهومه لا بصيغته. وإذا تصفحت المواضع الواقع فيها مثل هذا الاستثناء وجدتها علي ما قلناه، وإلا كان خلفا في القول وهذرا لا تصح بمثله محاورة (¬2) . ¬

(¬1) هذا الرجز لجران العود - واسمه عامر بن الحارث - في ديوانه ص 52، وروايته كالتا لي: بسابسا ليس به أنيس ... إلا اليعافيروالعيس وورد كذلك في المقتصد لعبد القاهر الجرجانى 1/720. . . . قال الجرجانى: " (انما نصب لأن الأواري ليست من جس أحد، وهى أبعد من اليعافير والعمار، لان اليعافير حيوان كالآدميين فهناك أدنى مشابهة وليس الأواري بحيوان ". . . . (عبد العزرز الساوري) . (¬2) ورد هذا النص في "البحر المحيط في أصول الفقه " للزركشي 3/280، وعلق عليه بقوله: "وقد حل هذا الشك القاضى أبو الوليد بن رشد" أو "وقد انفرد بحل هذا الشك "،، أنظر حاشية ص21 هامش رقم (ا) من المطبوع. (عبد العزيز الساورى) .

مسألة:

187 - وأما الاستثناء الذي يرد بعد جملة أكثر من واحدة منسوقة بالواو، فإن كانت الواو أعطت التشريك بينهما أو الجمع في معنى في واحد، فالأظهر فيه أن الاستثناء يعود على جميع المذكورين. وأما إن - كانت الواو تنسق من غير أن تعطي التشريك في معنى واحد، وكانت المعاني المنسوقة كثيرة، كقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وكقوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) . فالأظهر في - مثل هذا أن يتوقف حتى يدل الدليل من قرينة حال أو غير ذلك على الذي إليه يعود الاستثناء. 188 -وأما هل يكون المستثنى منه أقل من المستثنى، فهو شيء لم يقع في كلام العرب بعد، لأن وقوع مثل هذا يكاد أن يكون عيا، فإنه من خلف القول أن يقول الإنسان رأيت مائة إلا تسعة وتسعين. 189 - مسألة: إذا ورد العام مقيدا بصفة أو مشترطا فيه شرط ما فالمصير إلى العمل به على الجهة التي اشترط فيه مما لا ينبغى أن يقع فيه خلاف. وأما إذا ورد مطلقا في مكان، ثم ورد مرة أخرى في ذلك المكان مقيدا، وهو الذي يعرفونه بحمل المطلق على المقيد، كقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشاهدين " وقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل ". فقد رأى أكثر الناس في ذلك حمل المطلق على المقيد، ورأى بعضهم أن المطلق باق على إطلاقه، وإن التقييد محمول على التأكيد، وأنه ليس يعارضه إلا من جهة دليل الخطاب. والعموم أقوى من دليل الخطاب، أعنى العموم الذي في المطلق. وأما إذا ورد العام

القول في الألفاظ الخاصة

مقيدأ في مكان غير المكان الذي أطلق فيه فلا معنى لحمله على التقييد إلا بدليل أو قرينة حال. 190 - فهذا هو القول في الصيغ العامة، وفي أي الأحوال تحمل كل عمومها، وفي أيها لا. وبقي علينا القول في الصنف الثاني من الظاهر، وهو الألفاظ الخاصة، فلنقل فيها: 3) القول في الألفاظ الخاصة: 191 - وهذه منها ما هي أسماء أشخاص، ومنها ما هي أسماء أجناس وأنواع. وقولنا في مثل هذه الألفاظ خاصة إنما هو بالإضافة، فإن الخاص إنما يقال بالإضافة إلى العام الذي فوقه، والعام بالإضافة إلى الخاص الذي تحته. وهذه الألفاظ إذا كانت أسماء أشخاص فإنها تحمل على ما تقتضيه صيغها من المعنى الخاص دون أن تحمل على ما يعم ذلك المعنى الخاص، وهي في ذلك ظاهرة، كما كانت ألفاظ العموم ظاهرة في عمومها، إلى ان يرد دليل التخصيص. وكذلك إذا كانت أسماء أجناس وأنواع فإنها كما كانت ظاهرة في تعميم ما تحتها، كذلك هى ظاهرة في تخصيص معانيها التى دلت عليها أو لا بصيغها عما هو أعم منها إلى أن يدل دليل التعميم، وهنا أيضا مراتب في الظهور. وكما أن من عادتهم إبدال الكلي العام مكان الجزئي الخاص، كذلك من عادتهم ههنا إبدال الجزئي الخاص مكان العام تعويلا في ذلك على القرائن. وهذا أيضا ربما كان بينا بنفسه وقطعأ، وربما كان ظنيا أكثريا، وربما لم يكن بينا بنفسه وربما كان بينا بنفسه أنه مبدل ولم يكن بينا أي كلى أبدل الجزئى مكانه. مثال ما كان من ذلك بينا بنفسه وقطعا قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف) . وقوله عليه السلام: (أدو الخائط

القول في دلالات الألفاظ بمفهومها

والمخيط " (¬1) . ومثل ما كان من ذلك بينا بنفسه ولم يكن قطعا النهى عن دخول المسجد بريح الثوم أو عن الشرب بآنية الفضة. ومثال ما لم يكن من ذلك بينا بنفسه فنهيه عليه السلام عن ببع البر بالبر الأربعة المذكورة. فإن قوما حملوه على المقتات وآخرون على المطعوم، وآخرون على المكيل، وقوم قصروا الحكم على النص. 192 - فهذا هو القول في الألفاظ المجملة والنصوص الظاهرة والمؤولة من جهة صيغها، وقد بقي القول في ذلك من جهة المفهوم. 4) القول في دلالات الألفاظ بمفهومها: 193 - واللفظ كا تقدم من قولنا إنما يصير دالا بمفهومه عندما تحذف بعض أجزائه، أو يزاد فيه أو يستعار ويبدل، ولذلك لا تكون دلالته عند ذلك إلا من جهة القرائن، فإن كانت القرينة غير متبدلة وقاطعة على مفهومه سمي أيضا ههنا نصا، وإن كانت ظنية أكثرية سمي أيضا ظاهرا، وإن كانت ظنية غيرمترجحة سمي مجملا، وطلب دليله من موضع آخر. وقد تقدمت أمثلة ذلك في المستعار والمبدل، والذي بقى علينا القول فيه ها هنا هو ما كان كذلك من أجل الحذف فنقول: 194 - أما مثال ما كان من ذلك بمنزلة النص فقوله تعالى: (واسأل القرية التى كنا فيها) . فإنه يعلم قطعا أنه أراد أهل القرية، وكذلك قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) . فإن المفهوم ههنا ¬

(¬1) نجد في بداية المجتهد رواية أخرى لهذا الحديث تقول: (أد الخائط والمخيط فإن الغلول عار وشنار على أهله بوم القيامة" ص: 288 / ج ا. -

قطعا إنما هو النكاح. ومثال ما هو من هذا الجنس كالظاهر قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام ". فإنه محتمل أن يريد لا صيام كامل ويحتمل أن يريد انتفاء قبول الصيام أصلا وهو الأظهر. ومثال ما يظن به مجملا قوله عليه السلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" فإنه متردد يين إدراك فضيلة الصلاة أو حكمها أو وقتها. ومن أشهر ما يدخل قي هذا الجنس النوع الذي يعرفونه بدليل الخطاب وهو أن يرد الشىء مقيدا بأمر ما، أو مشترطا فيه شرط ما (¬1) ، وقد علق به حكم، فيظن أن ذلك الحكم لازم لذلك الشىء من جهة ما هو مقيد وموصوف، وأن الحكم مرتفع عنه بارتفاع تلك الصفة ولازم نقيضه. وهذا الجنس تحته أصناف. وقد اختلفوا في كونها أدلة شرعية، فبعضهم لم يجز ذلك في جميعها أصلا، وبعض أجاز ذلك في كلها، وبعض أجازه في البعض ونفاه عن البعض، ونحن نقول في ذلك: 195 - أما أصنافه فمنها أن يرد الشيء مقيدا بصفة كقوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة". ومنها أن يرد مشترطا فيه شرط ما بأحد حروف الشرط، كقوله: من دخل الدار فاعطه درهما، وهذا عندهم أقوى في المرتبة. ومنها أن يرد الحكم محصورا بأحد؟ حروف الحصر، وهي إنما والألف واللام، في مثل قوله عليه السلام: ("إنما الولاء لمن أعتق ". وفي مثل قوله: المال لزيد. ومنها في أن يقيد الشىء بصفة غائية، وتلك هي التى يدل عليها بحتى وإلى، وهذا الصنف كأن جميعهم قد أقر بالقول به مثل ¬

(¬1) في الأصل: شرطا مما.

القول في الأوامر والنواهي

قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) و (حتى تنكح زوجا غيره) . وقوله تعالى: (وأتموا الصيام إلى الليل) . فإنه يكاد أن - يعلم أن الليل بخلاف النهار في انتفاء الصوم عنه، وكذلك حال الحائض إذا طهرت بخلافها قبل أن تطهر، وكذلك المطلقة إذا نكحت زوجا. وهذا النوع من الكلام وجميع أصنافه ينبغي أن يعتقد أن فيه ما يشبه النص ويقوى قوته، وذلك حيث يعلم أن ذلك الحكم إنما تعلق بالشىء من جهة ما قيد أو اشترط فيه ذلك الشرط. وفيه ما يشبه الظاهر، وفيه ما يشبه المجمل، وسنشير إلى مراتب القرائن التي يترتب بها هذا الترتيب في الدلالة في كتاب القياس. 196 - وهنا انتهى الكلام في الأخبار وأجزائها، وبعد ذلك فلننظر فى الأوامر والنواهي 5) القول في الأوامر والنواهي: 197 - وينبغي أن ننظر أيضا في هذه هل تنقسم القسمة المتقدمة، أعنى هل يوجد فيها النص والظاهر والمجمل، وإن كان ذلك موجودا فيها فهل ذلك من جهة صيغها أو من جهة مفهومها. والكلام المفيد كما قيل ينقسم إلى خبر وأمر وطلبة ونداء وتضرع. وظاهر أن الأمر والطلبة والتضرع ليس لواحد واحد منها في اللسان العربى صيغ خاصة، وإنما تتميز بقرائن الأحوال. فإذا كان من رئيس إلى مرؤوس كان أمرا، وإن - كان من مرؤوس إلى رئيس كان تضرعا، وإن كان من مساو إلى مساو كان طلبة. ولكل واحد من هذه الثلاثة مقابل. فمقابل الأمر النهي وليس لمقابل الطلب والتضرع اسم.

198 - وقصدنا نحن ههنا من هذه الأقسام أن نتكلم في الأمر والنهي، إذ الاقتضاء الشرعى ليس يتصور وقوعه على جهة الطلب اللهم إلا أن نجعل الطلب ههنا كأنه اسم جنس ينقسم إلى الواجب والندب، لكن الأولى أن يكون الأمر ينقسم هذه القسمة. وقد اختلفوا في معاني الأوامر العامة بالنفس هل لها صيغ خاصة تدل عليها بالذات وأولا، وإن كان لها صيغ فهل تقتضي الإيجاب أو الندب على جهة النص، أم هي أظهر في أحدهما ومصروفة إلى الثاني بالتأويل، على جهة ما يؤول الظاهر، أو هى مجملة بين الإيجاب والندب. وكذلك اختلف الذين رأوا أن لها صيغا دالة في هل تقتضى أيضا بصيغها الفور، أم التراخي، أم هي مترددة يين ذلك. وكذلك أيضا هل تقتضى التكرار أم الفعل مرة واحدة. 199 - ونحن نبتدىء بالنظر في ذلك بأن نتأمل كيف حالها في الوضع اللغوي والعرف الشرعى فنقول: 200 - أما أن للاقتضاء صيغا في كلام العرب فذلك ما لا يدفعه أحد، كقولهم "اخرج انطلق "، وإن كان قد تأتى هذه الصيغ في كلامهم والمقصود بها التهديد والكف عن الفعل، كقوله تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلا) . ولكن بالجملة هى أظهر في الإذن، وإنما تدل على التهديد باستعارة. وكذلك أيضا إذا أرادوا النهى قرنوا بهده الصيغ حرف لا، فصار مجموعها يدل بشكله وصيغته على النهي. فأما هل في تدل هذه الصيغ بذاتها وضعا لغويا على الأمر فذلك مما لا يتبين فيها، وأحرى من ذلك أن تكون لها صيغ تدل بها على الوجوب أر الندب، لأن هذه المعاني هى معان شرعية وليست بمعان جمهورية. فأما بالعرف الشرعى فهى لا شك متضمنة معنى الأمر، ؤأما هل تتضمن الوجوب

مسألة:

أو الندب فقد اختلفوا في ذلك، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأوامر ظاهرة في معنى الإيجاب في الشرع ومصروفة إلى الندب بدليل. وذهب. بعضهم إلى التوقف في ذلك وأنها مجملة. وينبغى أن يستقرأ ذلك في الشرع، وينظر كيف كان قبول الصحابة رضي الله عنهم للأوامر إذا وردت مجردة عن القرائن. ويشبه أن يكون حملها على الإيجاب أحوط، إذ قد عرف من قرائن أحوال الشرع أن الأوامر فيه على جهة الجزم والقطع. وأما من جعل ذلك على أقل ما يدل عليه الأمر وهو الندب، لأنه زعم أن ذلك هو الذي يلزم الأمر دائما، فلا معنى له. 201 - والواجب والندب معنيان اثنان، فإما أن يكون اللفظ مشتركا بينهما، أو أظهر في أحدهما. وإما إن لم يصح فيها وضع شرعي فصيغ الأوامر مجملة بين الندب والإيجاب حتى يدل الدليل على أحدهما. وأما هل تدل صيغها على الفور أو التراخى فليس ذلك موجودا فيها، وإنما يتكل الأمر في ذلك على قرائن الأحوال. ولذلك إذا أشكل على المأمور حسن أن يستفهم بمتى، وكذلك لا يقتضي تكرار الفعل، وإنما تقتضى أقل ذلك مرة واحدة وهي كالظاهرة فيها، ويحتمل بعد أن ترد الزيادة. 202- وقد يتعلق بالكلام في هذا مسائل نحن نرسمها على عادتهم. 203 - مسألة: إذا ورد الأمر بالشىء بعد الحظر، ذهب قوم أن ذلك قرينة تصرف الاقتصار الذي شأنه أن يقع لو ورد (¬1) مجردا، إما على جهة الندب وإما على جهة الندب إلى الإباحة. وذهب قوم إلى أن، ذلك ليس بقرينة بل تبقى صيغة الاقتضاء على مفهومها الأول. قال أبو حامد والمختار أنه إذا كان النهي عارضا لعلة وعلقت صيغة أفعل بزواله، ¬

(¬1) في الأصل: لو رد.

مسألة:

كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع الحرج، وإن احتمل أن يكون ندبا أو إباحة، لكنه أظهر فيما ذكرنا. 204 - مسألة: مذهب الفقهاء أن وجوب القضاء لا يفتقر إلى أمر محدد. ومذهب المحصلين أن الأمر بعبادة في وقت معين لا يقتضى القضاء، لأن تخصيص العبادة بالزمان كالصلاة في وقت الزوال والصيام في رمضان كتخصيص الحج بالمكان والصلاة بالجهة. وإذا فقد الشرط المأمور به ارتفع الأمر إذا كان ورود الأمر بالشىء من جهته. 205 - مسألة: ذهب الفقهاء إلى أن الأمر يقتضى وقوع الجزاء بالمأمور به إذا امتثل من غير أن يلزم قضاء. وقال آخرون لا يقتضى إلا جزاء بدليل أن من أفسد حجه مأمور بالإتمام ولا يجزئه بل يلزمه القضاء. والصواب أن يقال إن الأمر يقتضى إجزاء المأمور به إذا أدي بكماله ووصفه وجميع شروطه، وأما إن تطرق إليه خلل كالحج الفاسد فلا يدل الأمر على الإجزاء. فهذا هو القول في صيغ الأمر. 206 - وينبغى أن تعلم أن القول في صيغ النهى كالقول في الأمر،، وأن مسائله معادلة لتلك. فمن يحمل صيغة الأمر على الإيجاب يحمل صيغة النهى على الحظر والتحريم على فساد المنهى. وسواء كان النهى في الشىء مطلقا أو مقيدا بصفة أو شرط، فإنه يعود النهي بفساد الأصل من جهة ما قيد به واشترط. 207 - وهذه هي المسألة التي تقدم ذكرها في الجزء الأول، وقلنا ن الأليق بالتكلم فيها هو هذا الموضع.

القول في القياس

208 - وأما من كان عنده صيغة الأمر مترددة لين الإيجاب والندب، فإنه يلزمه أن يكون لفظ النهي أيضأ مترددا بين الحظر والكراهة، وسواء ورد في أصل الشىء مطلقا أو مقيدا بصفة أو سبب خارج عنه. اللهم إلا أن بعض الناس ممن يرى أن للأمر والنهي صيغة تقتضى الإيجاب، والحظر يجعل كونها، إذا وردت في شيء مقيد بسبب ما خارج عن الشيء، قرينة تخرج بها الصيغ عن كونها مفيدة للإيجاب والحظر إلى الندب والكراهية. فهذا هو القول في الأدلة المتلقاة من جهة الألفاظ. 209 - وقد بقي علينا القول في القرائن الدالة كسكوته وإقراره - صلى الله عليه وسلم -، لكن قبل ذلك يجب أن ننظر في الدليل الذي يعرفونه بالقياس. 6) القول في القياس: 210 - وينبغي أن ننظر فيه هل هو دليل شرعى أم لا، وإن كان دليلا شرعيا فهل هو من جنس ما تقدم أم لا، ونجعل سبيلنا قي الفحص عن ذلك مما يدل عليه اسم القياس عندهم في هذه الصناعة فنقول: إنهم يرسمون هذا المعنى بأنه حمل شيئين أحدهما على الاخر في إثبات حكم أو نفيه، إذا كان الإثبات أو النفى في أحدهما أظهر منه في الآخر، وذلك لأمر جامع بينهما من علة أو صفة (¬1) . والشىء الذي وجود الحكم ¬

(¬1) أما في بداية المجتهد فقد ذهب في حد القياس الفقهي مذهبا اخر حيث قال: "وأما القياس الشرعي فهو الحاق الحكم الواجب لشىء ما بالشرع بالشىء المسكوت عنه لشبهه بالشىء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم، أو لعلة جامعة بينهما. ولذلك كان القياس الشرعى صنفين: قياس شبه وقياس علة" ص 3/ ج 1.

فيه أظهر يسمونه الأصل، والشىء الذي يوجب له الحكم من أجل وجوده في الأصل يسمونه الفرع. والصفة الجامعة بينهما أو السبب يسمونه العلة. 211 - وينبغى أن لا تأخذ علينا لقولنا حمل شيئين، ولم نقل معلومين على رسمهم، من قبل أن الشىء - زعموا - لا ينطلق على المعدوم، فإن المعدوم يكاد لا يقاس عليه. وأيضا فلو سلمنا لهم هذا لم يكن ممتنعا أن يسمى المعدوم شيئأ إذ كان له وجود قي النفس، لأنا نقول من الأشياء ما هو في النفس كحاله خارج النفس، ومنها ما هو في النفس من غيرأن يكون خارج النفس. وبالجملة فقد كان ينبغى للمتكلمين ألا يشاحوا المعتزلة في مثل هذا. وكذلك أيضا لا يلتفت إلى قولهم: لأمر جامع بينهما من صفة أو سبب أو نفيهما عنهما. فإن النفي من جهة ما هو نفى لا يوجب حكما واحدا لشيئين، اللهم إلا من جهة أن النفي في مواضع قوته قوة العدم، والعدم تابع لصفة ما تقتضي حكما لشيئين. وقد جمح بنا القول عما كنا قصدنا إليه من أول الأمر فلنرجع إلى حيث كنا فنقول: 212 - إنه إذا تؤمل هذا المعنى الذي يعنونه بالقياس في هذا الموضع ظهر أن ذلك ليس بقياس، وأنه من جنس إبدال الجزئى مكان الكلي (¬1) ¬

(¬1) أما في بداية المجتهد فقد ميز بين القياس وبين دلالة الألفاظ فقال: "والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص فيلحق به غيره، أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ، لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطرق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس وإنما هو من باب دلالة اللفظ. وهذان الصنفان يتقاربان جدا لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا" ص 3ج ا.

والدليل على ذلك أن الأصل إنما تعلق به الحكم بالنص أو بالإجماع، فإن صرح بالعلة الموجبة للحكم، وكانت أعم من الأصل، فهذا يلتحق بالعام، - مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في سؤر الهرة: "إنها ليست بنجس لأنها من الطوافين عليكم أو الطوافات " (¬1) ولها أيضا مراتب، وقد أجاز مثل هذا كثير ممن نفى القياس. وأما إذا لم يكن صرح بالعلة الموجبة للحكم واقتضاها مفهوم - اللفظ، وكانت أعم من الأصل، كان من باب إبدال الجزئي مكان الكلى (¬2) وعند ذلك أيما صح بالاجتهاد أو بالحس أنه داخل تحت ذلك الكلي ألحقنا به ذلك الحكم. ومثاله نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب في آنية الفضة، فإن المفهوم منه السرف، فلذلك ألحقنا به آنية الذهب. 213 - وإذا كان هذا هكذا، وكان ما يعنونه بالقياس في هذه الصناعة في الأكثر راجعا إلى ما تقتضيه الألفاظ بمفهوماتها، وكانت الألفاظ إنما تقتضي ذلك بالقرائن التي تقترن بها، ولكن ليس أي قرينة - اتفقت لكن القرائن التى يشهد الشرع بالالتفات إلى جنسها، فإن الحال في ذلك كالحال في المخاطبة الجمهورية. فكما أن القرائن التى يعول عليها الأعرابي عند مخاطبة غيره تكون معلومة عند المخاطب، وقد عرف التفات المخاطب في حين مخاطبته إليها، كذلك ينبغى أن يكون في الشرع. ونحن نشير إلى واحدة واحدة منها، ونرتبها بحسب مراتبتها في البيان. 214 - ولأن القرائن كا تقدم من قولنا أحد ما يجعل القول كالنص بمفهومه، وذلك إذا كانت قاطعة في استعارته وإبداله، أو ¬

(¬1) وقريب من هذا ورد في بداية المجتهد: "إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات ص 21 / ج 1. (¬2) لعل الصحيح أن يقول: إبدال الكلي مكان الجزئي.

كالظاهر بمفهومه إذا لم تكن قاطعة بل أكثرية، أو كالمجمل إذا كانت مترددة، فقد ينبغي ههنا أن نشير إلى مراتبها وإن كانت عسيرا ما تنضبط فنقول: 215 - أما المرتبة الأولى وهى في حكم النص فأن يكون المسكوت، عنه أحرى من المنطوق به في تعلق الحكم به كقوله تعالى: (إن الله لا يظم مثقال ذرة) ، وقوله عز وجل: (ولا تقل لهما أف) . ومثل هذا قوله عليه السلام: "أدوا الخائط والمخيط "، وما أشبهها، ولهذا عرض في البيان. وهذا يسمونه بفحوى الخطاب، وأكثرهم ليس يسميه قياسا (¬1) . 216 - المرتبة الثانية: أن يكون المسكوت عنه في معنى المنطوق به قي الحكم، كقوله عليه السلام: "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي" " (¬2) ، فان الأمة تلتحق بالعبد وهي في معناه. وهذا يسمونه بالقياس في معنى الأصل. ولهذا ايضا عرض في الظهور وقلة الظهور (¬3) . 217 - المرتبة الثالثة: وهذه المرتبة من جنس الثانية، أعنى أنها ظاهرة، لكنها في أكثر المواضع تضعف عن مرتبتها في البيان، فلذلك جعلناها ثالثة. وهي أن يكون المسكوت عنه يلتحق بالمنطوق به لمصلحة ¬

(¬1) انظر على سبيل المثال ص 143 / ج امن بداية المجتهد حيث يشير إلى أن دليل مفهوم الأحرى والأولى هو الذي يسمى فحوى الخطاب وهو أقوى من دليل الخطاب. (¬2) في بداية المجتهد رواية أخرى لهذا الحديث تقول: "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العول فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد والا فقد عتق منه ما عتق " انظر ص 275 / ج 2. (¬3) يقول في بداية المجتهد ص 273 / ج 1: ". . . وهذا هو الذي يعرفونه بقياس المعنى وهو أرفع مراتب القياس وإنما الذي يوهنه الشذوذ".

جامعة قد شهد الشرع لجنسها بأنه مصلحة. وهذا يسمونه القياس المخيل والمناسب. ولهذا الجنس مراتب في القرب والبعد، فمتى كان قريبا جدا سموه المناسب الملائم، وهنا انتهى كثير من القائلين بالقياس. ومتى كان متوسطا في القرب والبعد لم يطلقوا عليه اسم الملائم، وسموه المناسب والمخيل. ومتى كان بعيدا جدا وأعم شىء، كقولنا مصلحة، فإن كثيرا من القائلين بالقياس لا يقول به. ومثل هذا يراه بعض الفقهاء في طلاق المريض أنه لا يقطع الميراث. وحق لهذا الصنف أن يرفض ولا يجعل دليلا شرعيا لأنه كثيرا ما تتشعب المصالح وتختلف، وذلك بحسب وقت وقت وحالة حالة. والقائلون بمثل هذا ليس هم في الحقيقة مستنبطين عن الشرع، بل هم شارعون. ومثل هذا قول بعضهم: يحدث للناس أحكام بقدر ما أحدثوا من الفجور، أو قول شبيه بهذا. وقد عذل مالك رحمه الله على هذا، لأنه كثيرا ما يلتفت إلى هذا الجنس (¬1) . 218 - المرتبة الرابعة: وهى التى يعرفونها بقياس الشبه (¬2) وهو أن يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به، لا لأنه أولى، ولا لأنه في معناه، ولا لعلة مناسبة، بل يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به لشبه بينهما يظن به ¬

(¬1) يسمى هذا الصنف من القياس في "بداية المجتهد" قياس المصلحة أو قياس مصلحي أر القياس المرسل وهو الذي ليس له أصل معين يستند إليه كما قال. وقد رفضه في البداية كما فعل ههنا ولنفس السبب، إلا أنه مع ذلك رآه كالضروري في بعض الأشياء. انظرالبداية ص202-220/ ج 2. (¬2) في الأصل: قياس السنة. يقول في البداية عن هذا الصنف من القياس فضلا عما أثبتناه في هامش سابق: "ومن شأن قياس الشبه على ضعفه أن يكون الذي به تشابه، الفرع والأصل شيئا واحدا لا باللفظ بل بالمعنى وأن يكون الحكم إنما وجد للأصل من جهة الشبه. . . ". ص 15/ 2 ".

أنه يحتوي على علة جامعة بينهما للحكم من غير أن يوقف عليها. ويشبه أن يكون جل ما يقع في هذا الجنس مجملا، إلا أن يلتحق بالمرتبة الثالثة وهي التى في معنى الأصل ومثل هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر الأربعة المعلومة إلا هاء بهاء (¬1) ، فإن قوما قالوا أراد بذلك المقتات، وقوما قالوا المطعوم، وقوما قالوا المكيل. وهذا كله ظن منهم، فإن الاقتيات أو الكيل أو الطعم صفة حاصرة للأمر المناسب الموجب للتحريم، وهى بالجملة فيما يظهر لي أبعد قرينة يصار إليها إلى أن يفهم عن اللفظ الجزئى المعنى الكلى، ولهذا كثير من الناس اقتصر بمثل هذا الحديث على مقتضى اللفظ. 219 - وينبغي أن تعلم أن أجناس المفروضات تتفاوت في ظهور هذه القرائن فيها، ولهذا لم يجز أبو حنيفة القياس في الحدود والكفارات وهو في الأمور الضرورية أيين كالبيع والنكاح وما شاكلهما. وربما كان اللفظ، كما تقدم من قولنا، أول ما يرد لا يعلم هل هو خاص أبدل بدل، العام، وفي بعضها يعلم ذلك، ولكن لا يعلم أي كلي أبدل بدله. 220 - والقائلون بالقياس يستعملون في هذا الموضع من أجناس القياس النوع الذي يعرفونه بالسبر والتقسيم (¬2) وربما استعمل بعضهم، ؤ لكن هم الأقل، الطرد والعكس وينبغي أن نبين كيف يستعملون ذلك. ¬

(¬1) في الأصل: "لا يييع البر بالبر الأربعة المعلومة إلا هاء بها" وفي بداية المجتهد رواية أخرى تقول: "لا تبيعوا البر بالبر والشعير بالشعير إلا مثلا بمثل انظر ص 101/ج ا. (¬2) أشار إلى هذا النوع من القياس في بداية المجتهد مرة واحدة دون أن يعنى يتحديده وذلك حين قال: "وبالجملة فالمعول عندهم في هذه المسألة هو الطريق الذي يعرفه الفقهاء بطريق السبر والتقسيم ". ص 80 /ج 2.

221- أما السبر والتقسيم فيما لم يعلم هل هو لفظ جزئى أخرج مخرج الكلي أم لا، فهو أن نقول: لا يخلو أن يكون هذا اللفظ الجزئي - أخرج مخرج الكلى أم هو على أصله، ثم نبين أنه ليس على أصله، فينبغي بعد ذلك أن نستنبط أي كلى أريد به، وذلك بأن نقسم جميع المعاني الكلية التي يغلب على الظن أنه أريد بذلك اللفظ الجزئي، ونبطل واحدا واحدا منها، حتى نبقى واحدا، فنحكم أن ذلك هو الكلي المراد بذلك الجزئي. وإن كان ظاهرا من أول الأمر أنه لفظ جزئى أبدل بدل الكلى، ولم يكن ظاهرا أي كلى هو، استعملنا السبر والتقسيم في استنباطه. 222 - فأما الطرد فهو أن يرد الحكم متعلقا بأمر ما فنحكم بوجوده لأمر آخر للتشابه الذي نجده بينهما. ونطرده فيه، ونحكم لأجل ذلك بأنه لفظ أخرج مخرج الجزئي والمراد به ذلك الكلي الذى تشابها به. وقد يشد هذا الموضع بأن يستعمل فيه الوجود والارتفاع، وذلك أن أي كلى وجد الحكم بوجوده وارتفع بارتفاعه فهو مناط الحكم وهذا هو الذي يسمونه العكس، وأكثر القائلين بالقياس مجمعون على إبطال استنباط مناط الحكم بالطرد والعكس. 223 - وبالجملة فإنه مما يظن أن أكثر المواضع التي يستعمل القياس فيها القائلون بالقياس في الشرع ليس يستعملونه في استنباط حكم مجهول عن معلوم، على جهة ما يستنبط عن المقدمات المعقولة مطلب مجهول، لكن في تصحيح إبدال الألفاظ في مكان مكان ونازلة نازلة، فإن الأنواع التى يسمونها بالقياس المخيل والمناسب وقياس الشبه هي قرائن تدل عندهم على إبدال الألفاظ، وليست أقيسة (¬1) ، ولا يوجد لها ¬

(¬1) وهذا كما رأينا مخالف لما ذهب إليه قي البداية حيث ميز بين القياس ودلالة الألفاظ مع اعترافه بتقاربهما ولذلك يلتبسان على الفقهاء كثيرا جذا. وقد قدم في البداية مثالين أوضح بهما الفصل بين الطريقين قال: "فمثال القياس إلحاق شارب الخمر بالقاذف قي الحد. . . وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام فتأمل هذا فإن فيه غموضا". ص3 /ج ا.

فعل القياس، وإن كان لم يتميز للناظرين في هذه الصناعة أمر هذا التميز، وذلك ظاهر من أقاويلهم التي يستعملونها في مناقضة القائلين برد القياس، وهم المسمون عندهم اهل الظاهر، لأن هؤلاء القوم ألزموا القائلين بالقياس أمرا لم يجدوا عنه محيصآ، وهو أن ما سبيل المعرفة به الوحي والأمر من الله فإنه ليس للعقول في إثبات شيء من ذلك وإبطاله مدخل، وأيضا فإن الأحكام ليست صفات ذوات فتدركها العقول. وبالجملة كل ما طريقه التوقيف لا مدخل للقياس فيه، وإنما طريق المعرفة به السمع كاللغات وغير ذلك. وهذا إنما هو لازم لمن يقيس على أصل لم يتضمن باللفظ قط التنبيه على الأصل، مثل قياس حد الخمر على القذف. وأما من يقيس على أصل يتضمن بمفهومه علة الأصل، وإن لم - يتضمن ذلك بصيغة اللفظ، فليس يلزمه هذا الاعتراض. وأكثر مقاييس الشرع هى من هذا الباب، ولذلك لو فهموا هذا المعنى لأمكنهم الانفصال عنهم (¬1) . 224 - وأما أهل الظاهر ومن يجوز الاستدلال بظواهر الألفاظ من جهة صيغها، فقد ينبغى له ألا ينكر القياس الذي في معنى الأصل، لا والمخيل والمناسب الملائم إذا شهد الشرع بالالتفات إلى جنسه القريب. فإن هذه كلها قرائن نظير الألفاظ ظاهرة بمفهوماتها، ¬

(¬1) وهذا قريب مما ذهب إليه في "البداية" حيث قال: "والجنس الأول (القياس) هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه وأما الثاني (دلالة اللفظ) فليس ينبغي لها أن تنازع فيه لأنه من باب السمع. والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب " ص 3-4/ج1.

وإن لم تكن بصيغها، ولا معنى لقول من لا يرى الظاهر إلا في الصيغة. 225 - وقد رام القائلون بالقياس أن يثبتوه من جهة إجماع الصحابة على ذلك، فنقلوا عن كثير منهم أقاويل تدل فيما زعموا على القول بالقياس، فعاندهم أهل الظاهر في موضعين: أحدهما: في نفس الإجماع، وذلك أنه لم ينقل ذلك عن جميعهم، وليس ينسب إلى ساكت قول قائل كما تقدم. والثاني: أنه لو وقع منهم في ذلك إجماع لما ورد عن التابعين في ذك خلاف. وأيضا فقد تمسك أهل الظاهر بأحاديث نقلت عن الصحابة في دفع القياس. وبالجملة فلم يقدر القائلون بالقياس أن - يصححوا الإجماع الذي ادعوه في ذلك. وأيضا فإن الألفاظ الواردة عن الصحابة قي القياس محتملة، ويشبه إذا تؤملت أن يظهر من أمرها هذا المعنى الذي قلناه في القياس، وإن ذلك إنما كان منهم اجتهادا في مفهوم الألفاظ. والذي يشبه أن يكون لأهل الظاهر فيه مدفع استنباط. الإبدال والاستعارة بطريق السبر والتقسيم أو بغيرها من الطرق، إذا لم تكن هنالك بعض القرائن التى عددناها. وينبغي لمن أجاز ذلك أن يجيزه في جميع الألفاظ المبدلة أو المستعارة والمحذوفة، وبالجملة المغيرة. وكما أن هذه القرائن قد يعمم بها الخاص كذلك قد يخصص بها العام. 226 - فقد ظهر من هذا القول ما هو المعنى المدلول عليه باسم القياس في هذه الصناعة، وفي أي جنس دخوله من أجناس الأدلة الشرعية، وفي أي المواضع يستعمل، وفي أيها لا. وقد بقي علينا من طرق الأدلة الشرعية الدليل الذي هو فعله - صلى الله عليه وسلم - وإقراره. وهذان الصنفان ليس هما أدلة من جهة صيغ الألفاظ أو مفهوماتها، بل من جهة ما هي قرائن. ونحن نقول في واحد واحد منها، وما قوته.

القول في الإقرار

7) القول في الإقرار: 227 - أما إقراره - صلى الله عليه وسلم - على فعل فعل بمشاهدته وعلم قطعا أنه رآه فأقره، فإنه يدل على جواز وقوع ذلك الفعل على تلك الصفة بايجابه إن كان حكما شرعيا، أو على إباحة ذلك إن تخيل فيه أنه محظور لثبوت عصمته - صلى الله عليه وسلم - فيما دعا إليه، وفيما أقر عليه. 8) القول في الفعل: 228 - أما أفعاله - صلى الله عليه وسلم - فعلى ضروب: أحدها ما كان بيانا لعام أو مجمل، فذلك منه - صلى الله عليه وسلم - محمول على حكم ذلك العام، إن كان مندوبا - إليه فالفعل مندوب إليه، وإن كان واجبا فواجب. وذلك بدليل قوله عليه السلام:. "صلوا كا رأيتموني أصلى وخذوا عنى مناسككم ". 229 - والثاني في مقابل هذا وهوأن يعلم بقرينة حال أو لفظ، كالمتوسط بين هذين، وهو ما ورد من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يعلم أن ذلك تفسير منه لمجمل أو بيان لعام أو مختص به. وهنا اختلف الناس فقوم رأوا حملها على الوجوب، وقوم على الندب، وقوم رأوا التوقيف، وهو المختار عند أبى حامد، لأن الفعل لا صيغة له. وأما من حمله على الوجوب فقد استشهد على ذلك بظواهر، لكنها محتملة، مثل قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة) . وأما من رأى أنها على الندب فتمسكا باقتداء الصحابة به - صلى الله عليه وسلم - قي أفعاله، لخلعهم نعالهم في الصلاة لما خلع، وتوقفهم عن الحلق عام الحديبية حتى حلق. وللقائلين بالوجوب أيضا التمسك بمثل هذا من أفعال الصحابة رضي الله عنهم. ويمكن أن نقول ردا على هؤلاء ممن لا يرى الفعل حكما بأن

هذا إنما كان من فعل الصحابة فيما علموا أنه بيان منه - صلى الله عليه وسلم - للمفروضات " أو المندوبات، وذلك إما بقرائن أحوال أو بقول. وبالجملة فالمسألة اجتهادية. والأظهر ألا يكون لهذا النوع من فعله - صلى الله عليه وسلم - حكم لتردده بين الإيجاب والندب والإباحة، وكونه مختصا به. وإذا وردت أفعاله عليه السلام تفسيرا أو بيانا لعام وتعارضت، كان حكمها حكم القولين إذا تعارضا، وسيأتي القول في هذا وكذلك إذا تعارض الفعل والقول. وهنا انتهى القول في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

القول في الجزء الرابع

القول في الجزء الرابع

صفحة فارغة في الأصل

الفصل الأول: في الاجتهاد

230- وهو يشتمل على ثلاثة فصول: فصل في الاجتهاد، وفصل في التقليد، وفصل في ترجيح الأدلة. 231-الفصل الأول: في الاجتهاد وينقسم القول فيه إلى النظر في المجتهد، والمجتهد فيه، ونفس ير الاجتهاد. أما الاجتهاد فهو بذل المجتهد وسعه قي الطلب بالآلات التي تشترط فيه. وأما حد المجتهد فهو أن يكون عارفا بالأصول التي يستنبط عنها، وأن تكون عنده القوانين والأحوال التي بها يستنبط. ولأن الأصول ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقد ينبغي أن نقول فيما يكفيه من معرفة واحد واحد منها. 232 - أما ما يكفيه من معرفة الكتاب فمعرفة الآيات المتضمنة للأحكام، ومعرفة الناسخ منها من المنسوخ، وهي نحو: خمس مئة آية، هذا على وجه التخفيف، والأفضل له معرفة الكتاب كله. وقد رخص له في حفظ الآيات المتضمنة للأحكام إذا كانت مواضعها معلومة عنده بحيث إذا وردت المسألة في أمر ما عالم أين يطلبها. 233- وأما ما يكفيه من معرفة السنة، فمعرفة الأحاديث التي تتضمن الأحكام. وقد يخفف عنه في أن لا يحفظها، بل يكفيه أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتضمنة للأحكام يرجع إليه وقت الحاجة إلى الفتوى، والأفضل له أن يحفظها. وأما معرفة صحة أسانيدها، فإن هو عول في صحتها على من يحسن ظنه به كالبخاري ومسلم كان مقلدا، وان هو أيضا احتاج أن يعدل الرواة ويتبع سيرهم وأحوالهم وأوقاتهم طال عليه وتشعب جدا، ولاسيما ما تباعد الزمان. والتخفيف عنه في ذلك أن يكتفي بتعديل الإمام في ذلك إن علم مذهبه في التجريح والتعديل، وكان ذلك موافقا لمذهبه.

234 - وأما الإجماع فأن يعرف جميع المسائل المجمع عليها، وقد يكفيه أن يعلم أن قوله في المسألة التي يفتى فيها ليس هو مخالفا للإجماع بأن يعلم أن قوله يوافق قول قائل. وقبل هذا كله فينبغي أن يكون عنده من علم اللغة واللسان ما يفهم به كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا يلحن. 235- وقد اشترطوا مع هذا أن يكون عالمأ بعلم الكلام، وذلك أن تكون عنده الأدلة المعرفة بالله وبصفاته، والموصلة إلى العلم بحدث العالم، وغير ذلك مما يتضمن علم الكلام. وهذا إنما يلزم على رأي من يرى أن أول الواجبات النظر والاستدلال، وأما من لا يرى ذلك فيكفيه الإيمان بمجرد الشرع دون نظر العقل. وأما تفاريع الفقه فلا حاجة به إليها، لأن المجتهد هو الذي يولدها. 236 - وهذه الشرائط بالجملة إنما هي في حق المجتهد بإطلاق الذي تمكنه الفتوى في كل نازلة، وأما من لم تكن عنده كل هذه الشرائط، وكان عنده بعضها، وكانت المسألة المنظور فيها يكفي فيها ما عنده من تلك الشرائط، جاز له الاجتهاد فيها، لأن نسبته إلى هذه المسألة نسبة المجتهد بإطلاق إلى جميع المسائل. 237-وأما المجتهد فيه فهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي. وقد ينبغي أن ننظر ههنا في هذا الحكم المطلوب: هل هو متعين في نفسه ومكلف إصابته أم ليس ههنا حكم متعين يتوجه الطلب إليه، وإنما مناط التكليف في طلبه غلبة الظن، فيكون على هذا كل مجتهد مصيبا، وإن تضادت آراؤهم في الشيء الواحد، فنقول: 238 - أما من يرى أن الأحكام صفات ذوات، سواء علمت بانضمام الشرع إليها أو قبله، أو كان فيها الصنفان جميعا على ما تراه

المعتزلة، فليس يمكنه تصويب كل مجتهد. وكذلك يلزم من لا يرى القياس في الشرع، فإن هؤلاء أيضا يرون أن ما لم يرد فيه خطاب الشرعي فهو على البراءة الأصلية من الإباحة، وما كان بهذه الصفة، أعني ما - ورد فيه خطاب شرعي، ففيه حكم متعين. 239 - وأما نحن فقد سلف من قولنا أن مدارك أحكام الشرع الخطاب، وأن الخطاب منه ما يوجب الحكم بصيغته، ومنه بمفهومه. وإن الذي يعنون بالقياس داخل في هذا الجنس، وأن كلا هذين الصنفين - ينقسمان في وجوب العمل بهما إلى نص وإلى ظاهر. وإذا كان هذا هكذا لم يتصور أن يقال كل مجتهد مصيب، إذ كانت سبيل تلقي الأحكام الخطاب الوارد، وذلك في جميع أصنافه التي عددت من لفظ أو قرينة. وما كان سبيل المعرفة به الخطاب فثم لا شك حكم متعين، وهو الذي تعلق به الخطاب. وما لم يتضمنه الخطاب الوارد، ولا دلت عليه قرينة، فهو على البراءة الأصلية معفو عنه، وهو أحد أصناف المباح المنسوب إلى الشرع. وهذا معنى قوله عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) كان فيه حكم إلا وضمناه إياه وما لم يتضمنه بأحد الأدلة الشرعية فهو مصفوح عنه (¬1) . 240 - وأبو حامد يرى هنا أن كل مجتهد مصيب، وقد عدد الأمور التي نوقض بها أن كل مجتهد مصيب وزيفها، إلا أنه لم يعدد في ذلك هذا الذي قلناه. وقد سلك هو في تثبيت أن كل مجتهد مصيب طريقين، ونحن نوقف على أن ما ألزم من ذلك غير لازم: ¬

(¬1) لا يقول في "بداية المجتهد" بتصويب كل مجتهد ولكنه مع ذلك ذكر في مواضع متفرفة الأحوال التى يسوغ فيها أن يقال كل مجتهد مصيب. انظر 42-108-347/ج ا.142 / ج2.

إحداهما أنه قال: لو كان ههنا حكم متعين فيما طريقه الاجتهاد لكان التكليف متعلقا بإصابته، ولو كان ذلك لكان عليه دليل قطعي. يفضي إليه، وإلا كان من باب تكليف ما لا يطاق، وقد تقدم امتناعه. ثم أخذ يبين أن الدلائل المستعملة قي الاجتهاد ظنية يحصل عنها النقيضان بالسواء، وإن الترجح فيها إنما هو بحسب ما طبع عليه شخص شخص من الميل في حكم حكم، ونازلة نازلة. 241 - والقول بمثل هذا كبيرة ومصير إلى التحكم في الشرع - بالأهواء والإرادات، نعوذ بالله من ذلك (¬1) . بل الأدلة الشرعية، كما تقدم من قولنا، إما قطعية، وإما ظنية أكثرية وجب العمل بها بالأصل المقطوع به. وما كان هكذا فالحكم لا شك يحصل عنها بذاتها، لا بحسب ما طبع عليه إنسان إنسان، بل بحسب دلالتها، ولذلك ما كان من الأدلة مترددا بين النقيضين على السواء سمي في هذه الصناعة مجملآ، ولم يجعل دليلا شرعيا أصلا. وبالجملة القول بأن ليس هنا أدلة يحصل عنها بذاتها الطلب، سواء كانت الأدلة عقلية أو شرعية، هو قول سوفسطائي (¬2) جدا، وينبغي أن يتجنب، فإنه عيم الضرر في الشريعة. ¬

(¬1) يتسم موقفه في البداية بكثير من اللين والمرونة. ولعل أكثر المواضع تعبيرا عن ذلك هو ما ورد في الجزء الثاني ص 124 حيت قال: "واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة فمرة أجاز ذلك ومرة منعه. وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها، فمن قويت عنده علل المنع في مسألة منها منعها ومن لم تقو عنده أجازها، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابأ. ولهذا ذهب بعض العلماء قي أمثال هذه المسأله إلى التخيير". (¬2) في الأصل: سوء فسطاني. . .

وإذا كان هذا هكذا، وكان ههنا أدلة تفضي إلى المطلوب، لم يكن تكليف إصابته من باب ما لا يطاق. 242 - وأما الطريقة الأخرى التي احتج بها فأخذها من الواجب، وذلك أنه كما قيل فيه هو ما في تركه عقاب قال: فلو كان الواجب في الشيء حكما متعينا لكان في ترك إصابته إثم، والإجماع قد انعقد على سقوط التأثيم عن المجتهدين، فلذلك يلزم عن انتفاء التأثيم انتفاء الخطأ. 243 - ونحن نقول إنه ليس يلزم عن سقوط التأثيم انتفاء الخطأ، إذ الخطأ غير المتعمد مصفوح عنه في الشرع، وهو يقع به النسيان والغفلة والسهو. وقد قلنا غير ما مرة إن الأدلة الشرعية إما قطعيه، وإما أكثرية. أما القطعية فالطريق إليها مهيع، ووقوع السهو فيها والغلط يقل، فلذلك يشبه أن يلزم التأثيم فيها بلزوم الخطأ. وأما الظنية فالغلط كثيرا ما يقع فيها والسهو، فلذلك لم يلزم من الخطأ فيها التأثيم. والذي أخذ في حد الواجب بأنه الذي في تركه عقاب، إنما معنى ذلك أن العقاب يتعلق بتركه بعد المعرفة بوجوبه، فيما كان إلى المعرفة بوجوبه دليل قطعي. وأما من غلط أو سها فيما الغلط فيه معرض فلم يكن له سبيل إلى معرفة وجوبه، فكيف يلحق بمثل هذا تأثيم. وقد قال عليه السلام: " (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ". 244 - فإن قيل فسيلزم على هذا أن ما كان عليه دليل قطعي فأخطأه المجتهد على غير عمد أنه لا يأثم. قيل في هذا نظر. والفرق بينهما بين. فإن الدليل القطعي قلما يخفى على أحد ممن بلغ رتبة الاجتهاد، وإنما - يتصور خفاؤه (¬1) لهوى أو هوادة أو لشيء على خلافه أو غير ذلك من ¬

(¬1) في الأصل: جفاؤه.

العوارض النفسية. ولهذا مراتب بحسب مراتب الأدلة، ولذلك يكفر في بعضها، ويؤثم في بعض، ومدرك هذا التفاوت الشرع. 245 - فقد تبين من قولنا أن ليس كل مجتهد مصيبا، وإنه إن أخطأ فعلى أي جهة لا يأثم، وإن المجتهد كلف إصابة ما هو في نفسه. ممكن الإصابة، وعفي عنه عند الخطأ رحمة له وصفحا عنه. 246 - وقد بقى علينا من هذا الباب كيف حالة المجتهد، إذا تعارضت عنده الأدلة في مسألة ما، وإلى أي شيء يصير فنقول: إن الذي حكى في ذلك أبو حامد ثلاثة أراء: أحدها رأي من يرى التوقف والثاني الأخذ بالأحوط والثالث رأي القاضى وهو أن يتخير المجتهد، وهذا رأي ضعيف (¬1) لأن التخير إباحة، والأدلة المتناقضة في الأمر بالشيء الواحد هى أولى أن توقع الشك والحيرة من أن يظن بها أنها تنتجه. وكذلك التوقف لا معنى له، فإن في ذلك تعطيلا للأحكام. وأيضا فإنه غير ممكن في الأشياء التي ليس يمكن الإنسان فيها إلا أن يأتي، أحد الضدين، كالأحاديث الواردة مثلا قي الغسل من الماء، والغسل من التقاء الختانين، فإن مثل هذه الأحاديث إذا تعارضت لم يمكن فيها - التوقف، فإنه لا بد من المصير إلى أحدهما. وفي مثل هذا يخيل المصير إلى الأخذ بالأحوط. وهو وإن كان يخيل فيه أنه أولى لمكان النجاة من الذم، فكذلك يخاف لحوق الذم بزيادة ما ليس من الشرع في الشرع. 247 - وللظاهرية في هذا قول رابع، وهو أن يرجع المجتهد عند تكافؤ الأدلة إلى البراءة الأصلية، لأن التكليف بالأدلة المتناقضة تكليف ¬

(¬1) نقلنا في آخر الهامش السابق ما يفيد أنه لا يضف في البداية قول من ذهب إلى التخيير.

الفصل الثاني: القول في التقليد

ما لا يطاق، وهو في ذلك بمنزلة التكليف بما ليس عليه دليل. فكما أن ما ليس عليه دليل تستصحب فيه البراءة الأصلية، أو ما كان عليه دليل إلا أنه لم يمكن بلوغه، كذلك من تعارضت عنده الأدلة في شىء ما ساقطة في حقه. وإنما يقع هذان الصنفان في حق قوم وأهل زمان ما ممن لم يصلهم الدليل الشرعي، أو ممن لم يتميز لهم الناسخ في ذلك والمنسوخ وغير ذلك مما يوجب التعارض، إذ كان ليس يجوز وقوع - دلائل متضادة في الشرع. 248 - وإذ قد فرغنا من القول في الاجتهاد والمجتهد فيه، فلنقل قي التقليد والمقلد. الفصل الثاني: القول في التقليد: 249- والتقليد هو قبول قول قائل يغلب على الظن صدقه لحسن الثقة فيه. والفرق بين هذا وبين، تقليده - صلى الله عليه وسلم -، أن تقليده هو قبول قول يقع للإنسان اليقين به لدلالة المعجزة على صدقه - صلى الله عليه وسلم -. 250 - وأما من يجوز لهم التقليد، فهم العوام، بدليل أن الناس لا يخلون من ثلاثة أقسام: إما ان يكونوا كلهم مم مجتهدين، وهذا محال وقوعه والتكليف به، لأنه كان يؤدي إلى انقطاع المعايش لو كان ممكنا أن يحصل لكل أحد رتبة الاجتهاد. وإما أن تفقد في جميعهم شروط الاجتهاد، وهذا أيضا ممتنع، لأنه كان يؤدي إلى إهمال أكثر الأحكام، إذ أكثر الفرائض والسنن إنما يقوم بفرض معرفتها وتعليمها للناس المجتهدون. وإما أن يوجد في الناس الصنفان جميعا، وهو أن تكون فيهم طائفة تقوم للجمهور بضبط الفرائض والسنن، وجعلها عليهم، وأخذهم بها، واستنباط ما شأنه أن يستنبط منها في وقت وقت ونازلة نازلة. وتكون فيهم طائفة أخرى، وهم العوام،

فصل:

شأنهم تقليد هؤلاء لحسن الثقة بهم، وغلبة الظن في صدقهم. وكأن غلبة الظن لحسن الثقة جعلت ههنا أمارة للزوم الأحكام لهم، كما جعلت غلبة الظن للمجتهد أمارة للزوم الحكم له. وبالواجب ما سمي هذا فرض كفاية، إذ يكفى في القيام به البعض عن البعض. 251 - فقد تبين من هذا أن الناس صنفان: صنف فرضه التقليد. وهم العوام الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد التى حددت فيما قبل. وصنف ثان وهم المجتهدون الذين كملت لهم شروط الاجتهاد. وأما هل لهذا الصنف الثاني وهم المجتهدون أن يقلد بعضهم بعضا، ففيه نظر. فإن تقليد العوام شيء أدت إليه الضرورة، ووقع عليه الإجماع. لكن ينبغي أن يقال: يجوز للمجتهد تقليد المجتهد إذا كان أعلم منه، وترجح عنده حسن الظن به ترجحا يفضل عنده الظن الواقع له في الشىء عن اجتهاده. 252 - فصل: ولأن ههنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم، - المسمون في زماننا هذا أكثر ذلك بالفقهاء، فينبغى أن ننظر في أي. الصنفين أولى أن نلحقهم. وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة، العوام، وأنهم مقلدون (¬1) . والفرق بين هؤلاء وبين العوام، أنهم يحفظون الآراء التي للمجتهدين فيخبرون عنها العوام، من غير أن تكون عندهم شروط الاجتهاد، فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين. ولو وقفوا في هذا لكان الأمر أشبه، لكن يتعدون فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلديهم حكم على ما نقل عنه في ذلك حكم ¬

(¬1) وهذا ما ذهب إليه قي "بداية المجتهد". بل لعله أحد الأسباب التى حركته الى تأليف البداية. . .

فيجعلون أصلا ما ليس بأصل، ويصيرون أقاويل المجتهدين أصولأ لاجتهادهم، وكفى بهذا ضلالا وبدعة (¬1) . 253 - فأما هل يجوز لهم الحال الأولى، وهي أن يكونوا في ذلك ناقلين عن مجتهد غلب على ظنهم إصابته ويتحرى ذلك خلفهم عن سلفهم في النقل حتى يكون القائمون بفرض الاجتهاد غير موجودين في زماننا هذا مثلا، إلا ما قد سلف ويكفي في ذلك مثلا أن كان في الصدر الأول من قام بهذا الفرض ولو رجل واحد أو أكثر من واحد، على مثال ما أدركنا عليه هذه الطوائف، أعني المالكية والشافعية والحنفية، فيدل لعمري على امتناع ذلك انعقاد الإجماع على أن جميع فروض الكفايات ينبغي أن يكون في زمان زمان من يقوم بها، وحينئذ تسقط عن الغير. وأيضا فإن النوازل الواقعة غير متناهية، وليس يمكن نقل قول قول عن من سلف من المجتهدين في نازلة نازلة، فإن ذلك ممتنع. 254 - وإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا واحد من ثلاثة: إما أن نجعل أقاويل من سلف من المجتهدين فيما أفتوا فيه أصولا يستنبط عنها. وإما أن يتعطل كثير من الأحكام. وكلا الوجهين ممتنع، فلم يبق إلا الوجه الثالث وهو ألا يخلو زمان من مجتهد (¬2) . وأنت تعلم أن الزمان الذي سلف هكذا كانت حاله، أعني أنه لم يكن فيه مجتهد. وإن كان لا ¬

(¬1) على الرغم من أنه لم يذهب إلى هذا الحد في البداية فإن من الممكن القول بأن هناك تقاربا بين ما ذهب إليه ههنا وما انتهى إليه في بداية المجتهد. أنظر:105-136-138-140-311/ج1-45-55-75-96-104-111-116-131-147-152-165-173-189-255-274-289-290-291-332/ج2. (¬2) وهذه أكبر الغايات التي أراد تحتيتها من تأليف "بداية المجتهدا.

الفصل الثالث: في ترجيح طرق النقل

يدفع أنه قد كان فيه من بلغ رتبة الاجتهاد. لكن مع هذا فإنما كان مقلدأ. 255 - فقد تبين من هذا القول من المقلد، وما التقليد، وفي أي المواضع يصح وفي أيها لا. 256 - الفصل الثالث: في ترجيح طرق النقل: وبقى القول في الفصل الثالث وهو يتضمن القول في ترجيح طرق النقل، وترجيح ما تدل عليه الألفاظ بمفهوماتها، وذلك فيما كان من ذلك من نوع واحد، لأن الأدلة التي أنواعها مختلفة قد تبين ترجح بعضها على بعض فيما سلف، وهى قوانين تقترن بدليل دليل وسند وسند وتكاد لا تتناهى. وقد رام أهل هذه الصناعة حصرها، لكن أما نحن فلا حاجة لنا إلى تعديدها، إذ كان الإنسان يمكنه من تلقاء نفسه الوقوف على ما فيها يفيد غلبة ظن مما ليس يفيد. فأما من كان له فراغ، وأحب أن يثبتها ههنا فليفعل، لكن يجب أن يثبت القرائن التى يقع بها ترجيح طرق النقل في كتاب الأخبار، والتي يقع بها ترجيج المفهوم في الجزء الثالث من هذا الكتاب. 257 - فأما أن المصير إلى العمل بأرجح الظنين دليل شرعى، فيدل عليه إجماع الصحابة على ذلك، وما يجده الإنسان في نفسه من المصير إلى أرجح الظنين عند تعارضهما. 258 - وهنا انتهى غرضنا في هذا الاختصار. وهو يشبه المختصر من جهة حذف التطويل، والمخترع من جهة التتميم والتكميل. وذلك في - العشر الوسط من ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة. خلص المختصر بالنسخ في العاشر من رجب الفرد من سنة ست وستمائة على يد محمد بن على بن عفيف والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد خاتم النبيئين. . ملك لعبد ربه أحمد بن أحمد المطرفي عامل الله الجميع بلطفه الخفي.

§1/1