الصفدية

ابن تيمية

المجلد الأول

بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام بقية العصر قدوة الخلف تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه عن رجل مسلم يقول أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية أفتونا مأجورين فأجاب: الحمد لله رب العالمين. هذا الكلام وهو قول القائل: أن معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم قوى نفسانية باطل بل هو كفر يستتاب قائله ويبين له الحق فإن أصر على اعتقاده بعد قيام الحجة الشرعية عليه كفر وإذا أصر على إظهاره بعد الاستتابة قتل. وهو من كلام طائفة من المتفلسفة والقرامطة

الباطنية والإسماعيلية ونحوهم كابن سينا وأمثاله وأصحاب رسائل إخوان الصفا والعبيدين الذين كانوا بمصر من الحاكمية وأشباههم وهؤلاء كانوا يتظاهرون بالتشيع وهم في الباطن ملاحدة ويسمون القرامطة والباطنية وغير ذلك

وأهل بيت ابن سينا كانوا من أتباع هؤلاء وأبوه وجده من أهل دعوتهم وبسبب ذلك دخل في مذاهب الفلاسفة فإن هؤلاء يتظاهرون باتباع الملل ويدعون أن للملة باطنا يناقض ظاهرها ثم هم في هذه الدعوة على درجات فالواصلون منهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم مثل قرامطة

البحرين أتباع الجنابي وأصحاب الألموت وسنان الذي كان بالشام وأمثالهم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ولا الزكاة ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت العتيق ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا وغير ذلك ويزعمون أن هذه النصوص لها

تأويل وباطن يخالف الظاهر المعلوم للمسلمين فالصلاة عندهم معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وأمثال ذلك وقد يقولون أن هذه الفرائض تسقط عن الخاصة دون العامة وأما النصوص التي في المعاد وفي أسماء الله وصفاته وملائكته فدعواهم فيها أوسع وأكثر وقد دخل في كثير من أقوالهم في العلوم أو في العلوم والأعمال طائفة من المنتسبين إلى التصوف والكلام وكلام ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من ملاحدة المتصوفة يرجع إلى قول هؤلاء. وهؤلاء الملاحدة من المتفلسفة والقرامطة ومن وافقهم يقولون أن النبوة لها ثلاث خصائص من قامت به فهو نبي والنبوة عندهم لا تنقطع بل يبعث الله بعد كل نبي نبيا دائما وكثير منهم يقول أنها مكتسبة وكان السهروردي

المقتول منهم يطلب أن يصير نبيا وكذلك ابن سبعين كان يطلب أن يصير نبيا وكانوا يعلمون من السحر والسيماء ما يضلون من يلبسون عليه: الخاصة الأولى: أن تكون له قوة قدسية وهي قوة الحدس بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره إلا بكلفة شديدة وقد يعبرون عن ذلك بأنه يدرك الحد الأوسط من غير احتياج إلى ما يحتاج إليه من ليس مثله وحاصل الأمر أنه أذكى من غيره وأن العلم عليه أيسر منه على غيره. الخاصة الثانية: قوة التخييل والحس الباطن بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صورا نورانية هي عندهم ملائكة الله ويسمع في نفسه أصواتا هي عندهم كلام الله من جنس ما يحصل للنائم في منامه ومن

جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة ومن جنس ما يحصل لبعض الممرورين الذين يصرعون ويقولون إن ما أخبرت به الرسل من أمور الربوبية واليوم الآخر إنما هو تخييل وأمثال مضروبة لا أنه إخبار عن الحقائق على ما هي عليه. الخاصة الثالثة أن تكون له قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي العالم كما أن العائن له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين ويزعمون أن خوارق العادات التي للأنبياء والأولياء هي من هذا النمط وأصل أمر هؤلاء أنهم لا يثبتون لصانع العالم مشيئة واختيارا وقدرة بها يقدر على تغيير العالم وتحويله من حال إلى حال بل وأئمتهم لا يثبتون علمه بتفاصيل أحوال العالم بل منهم من يقول لا يعلم شيئا ومنهم من يقول لا يعلم إلا نفسه ومنهم من يقول يعلم الجزئيات على وجه كلي وهذا اختيار ابن سينا وهو أجود أقوالهم مع تناقض هذا القول وفساده.

فإن كل موجود في الخارج هو موجود معين جزئي والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ونفس الصانع موجود واجب معين ليس هو كليا وكذلك أيضا الصادر عنه كالأفلاك وكالعقول والنفوس التي يثبتونها فإن كان لا يعلم إلا كليا لم يعلم نفسه ولا الصادر عنه ولا الأفلاك وأيضا فلا يوجد إلا ما هو جزئي فإن كان لا يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات. وهم يقولون أنه علة تامة مستلزمة للعالم والعالم متولد عنه تولدا لازما بحيث لا يمكن أن ينفك عنه لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وقولهم أن النفوس والعقول معلولة له ومتولدة عنه أعظم كفرا من قول من قال من مشركي العرب أن الملائكة بنات الله قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} وهؤلاء المتفلسفة يقولون العقل بمنزلة الذكر والنفس بمنزلة الأنثى وكلاهما متولد عن الله تعالى وأولئك كانوا يقولون أنه خلق الملائكة بمشيئته وقدرته وأنه هو رب السماوات والأرض وأما هؤلاء فيقولون أن العقول التي يسميها من يتظاهر بالإسلام منهم ملائكة يقولون أنها معلولة متولدة عن الله لم

يخلقها بمشيئته وقدرته ويقولون أنها هي رب العالم فالعقل الأول أبدع كل ما سوى الله عندهم والثاني أبدع ما سوى الله وسوى العقل الأول حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الفعال المتعلق بفلك القمر فيقولون أنه أبدع ما تحت الفلك فهو عندهم المبدع لما تحت السماء من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم والخطاب الذي سمعه موسى إنما كان عندهم في نفسه لا في الخارج وهو فيض فاض عليه من هذا العقل الفعال ومنهم من يقول جبريل فلما كان أصل قولهم أن صانع العالم لا يمكنه تغيير العالم ولا له قدرة ولا اختيار في تصريفه من حال إلى حال جعلوا يريدون أن ينسبوا جميع الحوادث إلى أمور طبيعية ليطرد قولهم ويسلم عن التناقض وهو قول فاسد متناقض في نفسه وذلك أنا نشاهد الحوادث التي تحدث مثل حركات الكواكب وطلوع الشمس والقمر ومثل المطر والسحاب وهبوب الرياح وحدوث الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك من الحوادث

فإذا كان أصل قولهم أن الصانع هو موجب بالذات وهو علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لم يتأخر عنها شيء من معلولها فإن العلة التامة هي التي تستلزم معلولها والموجب بالذات هو الذي تكون ذاته مستلزمة لموجبه ومقتضاه فلا يجوز أن يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله ولهذا قالوا بقدم العالم وهذا أعظم حججهم على قدم العالم قالوا لأن الحادث بعد أن لم يكن لا بد له من سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ثم القول في ذلك السبب الحادث كالقول فيما قبله فيلزم التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل يلزم الدور الممتنع بخلاف التسلسل المتنازع فيه فإن وجود الحوادث دائما بلا ابتداء ولا انتهاء للناس من المسلمين وغيرهم فيه ثلاثة أقوال قيل يجوز مطلقا وهذا قول أئمة السنة والحديث وأساطين الفلاسفة لكن المسلمون وسائر أهل الملل وجمهور العقلاء من جميع الطوائف يقولون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وإن قال منهم من قال بدوام الحوادث شيئا بعد شيء

وقيل لا يجوز لا في الماضي ولا في المستقبل وهو قول الجهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف وقيل يجوز في المستقبل دون الماضي وهو قول أكثر أتباع جهم وأبي الهذيل من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم وأما تسلسل العلل أو الفاعلين أو ما هو من تمام الفاعل أو العلة الفاعلة فممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لفاعل العالم فاعل ولذلك الفاعل فاعل وهلم جرا فهذا التسلسل قد اتفق العقلاء على امتناعه وقد بسطنا الدلائل العقلية على امتناعه في غير هذا الموضع وكذلك إذا قيل الحادث لا بد له من سبب حادث وذلك السبب لا بد له من سبب حادث فإن هذا إذا أريد به الحادث المعين لزم التسلسل في تمام الفاعلية وإن أريد به نوع الحوادث لزم الدور الممتنع

والدور نوعان أحدهما الدور القبلي السبقي فهذا ممتنع باتفاق العقلاء مثل أن يقال لا يكون هذا إلا بعد ذاك ولا يكون ذاك إلا بعد هذا فهذا ممتنع باتفاق العقلاء ونفس تصوره يكفي في العلم بامتناعه فإن الشيء لا يكون قبل كونه ولا يتأخر كونه عن كونه فلو قيل إن الشيء لا يوجد إلا بعد أن يوجد لكان هذا ممتنعا فكيف إذا قيل أنه لا يكون إلا بعد ذاك وقيل أيضا ذاك لا يكون إلا بعد هذا فإنه يلزم أن يكون قبل قبل نفسه وبعد بعد نفسه فلزم الدور الممتنع أربع مرات فإنه إذا قيل لا يكون هذا إلا بعد ذاك كان ذاك قبل هذا وإذا قيل لا يكون ذاك إلا بعد هذا كان هذا بعد ذاك لا قبله فيلزم أن لا يكون هذا إلا قبل ذاك الذي هو قبل هذا وأن لا يكون ذاك إلا قبل هذا الذي هو قبل ذاك فيكون ذاك قبل ذاك بمرتبتين ويكون هذا قبل هذا بمرتبتين فلهذا اتفق العقلاء على امتناع هذا وأما الدور المعي الاقتراني مثل أن يقال لا يكون هذا إلا مع ذاك لا قبله ولا بعده فهذا جائز كما إذا قيل لا تكون الأبوة إلا مع البنوة وقيل أن صفات الرب اللازمة له لا تكون إلا مع ذاته وعلمه مع حياته وقدرته مع علمه ونحو ذلك

فإذا قيل إن جنس الحوادث لا يحدث إلا بسبب حادث كان المعنى أنه لا يكون شيء من الحوادث حتى يكون حادث فلايكون حادث من الحوادث ألبتة حتى يسبقه حادث والسابق من الحوادث التي جعلت متأخرة عن هذا الحادث وجعلت الحوادث كلها بعده فيلزم أن يكون الشي قبل نفسه وأما إذا قيل لا يكون الحادث المعين حتى يكون حادث ثم ذلك الحادث لا يكون حتى يكون حادث فهذا على وجهين إن قيل لا يكون الحادث حتى يكون قبله حادث فهذا التسلسل في الآثار وفيه الأقوال الثلاثة للمسلمين وليس الخلاف في ذلك بين أهل الملل وغيرهم كما يظنه كثير من الناس بل نفس أهل الملل بل أئمة أهل الملل أهل السنة والحديث يجوزون هذا النزاع في كلمات الله وأفعاله فيقولون إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكلمات الله دائمة قديمة النوع عندهم لم تزل ولا تزال أزلا وأبدا وقد بسط هذا وما يناسبه في موضع آخر وذكر بعض ما في ذلك من أقوال أئمة السنة والحديث وأما ما يذكره كثير من أهل الكلام عن أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث فهذا قول لم ينطق به شيء من كتب الله لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا نقل هذا عن أحد من أنبياء الله ولا قاله أحد من الصحابة

أصحاب نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا التابعين لهم بإحسان ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل أن الله خالق كل شيء فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة سواء سميت عقولا ونفوسا أو لم تسم والحديث الذي في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما قدم عليه وفد اليمن قالوا: جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على

الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض" قد ذكرنا ألفاظه وطرقه وذكرنا الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" والحديث الآخر الذي رواه مسلم أيضا في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر" وذكرنا أن حديث عمران رواه البخاري في ثلاثة مواضع بثلاثة ألفاظ كان الله ولم يكن شيء قبله ورواه في موضع ولم يكن شيء معه ورواه في موضع آخر ولم يكن شيء

غيره وأن المجلس كان واحدا لم يقل النبي صلى الله

عليه وسلم إلا واحدا من الثلاث وقد ثبت أنه قال: "ليس قبلك شيء" واللفطان الآخران رويا بالمعنى وبينا على كل تقدير أن مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جواب أهل اليمن عما سألوه من ابتداء خلق هذا العالم الذي خلق في ستة أيام وكان عرش الله على الماء قبل ذلك وقدر الله مقادير هذا العالم قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة والمقصود هنا أنه إذا قيل لا يكون حادث حتى يكون حادث فهذا على وجهين أحدهما أنه لا يكون حادث حتى يكون قبله حادث فهذا فيه نزاع مشهور والثاني أن يقال أنه لا يكون حادث حتى يكون معه حادث لامتناع حدوث الحادث بلا سبب حادث لأن الفاعل لا يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إلا لحدوث سبب حادث فهذا يوجب أن القديم لا يصدر عنه حادث ألبتة لأنه متى حدث حادث بلا سبب حادث انتقضت القضية الكلية فيلزم أن لا يفعل البتة شيئا وإن فعل لزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذه الحجة أعيت كثيرا من أهل الكلام والنظر حتى قال كثير منهم القادر يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وكذلك قال الآخرون نفس الإرادة القديمة هي المرجحة لأحد المثلين على الآخر

ونحن ننبه على ما به يعلم فساد قولهم والجواب عن حجتهم وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضعه فيقال إذا كان الصانع قديما موجبا بالذات وعلته تامة أزلية لزم ألا يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله كما ذكروا لأن المتأخر إن كان قد وجدت كلته التامة في الأزل لزم أن يكون أزليا لا يتأخر وإن لم يوجد فقد وجدت علته التامة بعد أن لم تكن سواء كان الحادث شرطا من شروط تمام العلة أو غير ذلك ثم القول في علة تلك العلة كالقول في العلة التي هي معلول هذه فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث علة تامة في الأزل وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه فإن العلة التامة تستلزم معلولها فالحادث لا تكون علته تامة في الأزل فيلزم على ذلك ألا يكون شيء من الحوادث حادثا عن العلة التامة التي هي واجب الوجود وحينئذ فأما أن تكون الحوادث حادثة بنفسها وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهم يسلمون فساده وإما أن تكون حادثة عن فاعل آخر غير الواجب الموجود بنفسه فله فاعل ثم ذلك الفاعل إن لم يكن واجب الوجود بنفسه فله فاعل والقول في حدوث الحوادث عنه كالقول في الأول وإن كان واجب الوجود بنفسه كان القول فيه كالقول في ذلك الواجب إن كان علة تامة لزم ألا يحدث عنه حادث وإن لم يكن علة تامة بطل قولهم بالموجب بالذات فتبين فساد قولهم على كل تقدير وغاية ما يقولون أنهم يقولون أن لك حادث مشروط

بحادث قبله والحوادث معدات وشروط للفيض عن الواجب بذاته ويقولون أن حركة الفلك هي سبب الحوادث والتغييرات فيقال لهم هب أن الأمر كذلك فالحوادث المتعاقبة سواء كانت حركة متصلة أو غير ذلك إذا كانت لم تصدر إلا عن علة تامة لزم أن تكون مقارنة للعلة التامة فإن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها والموجب بذاته يقارنه موجبه حينئذ فلا يتأخر عنها معلولها فالمتأخر لا يكون معلولها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها وإذا قالوا حدوث الأول أعدها لإحداث الثاني قيل لهم القول في حدوث الحادث الأول كالقول في حدوث الحادث الثاني فالحادث الأول الذي هو شرط الثاني لا يجوز أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية بل لا تكون العلة التامة له إلا حادثة سواء كان الحادث كلها أو بعض أجزائها وشروطها وهذا مما يعترفون به مع أنه حق بين فحينئذ لا يكون لشيء من الحوادث علة تامة أزلية فإذا كان المبدأ الأول الذي هو صانع العالم علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث عالة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صدر عنه فلا يكون لشيء من الحوادث فاعل ولا محدث وهذا غاية الجهل والتعطيل والسفسطة وهم يعترفون بفساده فإذا قالوا هذا الحادث المعين اليومي إنما تمت شروط

اقتضائه وأحداثه التي بها صارت علته تامة في هذا الوقت المعين فإن العلة إذا تمت لم يتأخر عنها معلولها قيل لهم فيلزم أن يكون تمام العلة التامة لما يحدث في اليوم المعين إنما حدث ذلك اليوم ثم تمام العلة أيضا حادث في اليوم المعين فيلزم أن تكون علته أو تمام علته حادثا في اليوم المعين وهلم جرا فيلزم أن يكون كل حادث إنما صارت علته تامة عند حدوثه فيلزم من ذلك بطلان قولهم من وجوه أحدها أنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية بل إنما صارت له علة تامة عند حدوثه بلط قولهم فإنه إذا لم يكن لشيء من الحوادث علة تامة أزلية لم يكن شيء من الحوادث صادرا عن الموجب بالذات الذي هو علة تامة أزلية فعلم أن المحدث للحوادث ليس علة تامة لمعلولة في الأزل وهو المطلوب وهذا الموضع إذا تدبره من يفهمه ويفهم مذهبهم علم أنه يبين فساد قولهم بالضرورة وكلما غيرت العبارات الدالة عليه زاد بيانا وقوة فدعواهم أن المبدع الموجب بالذت علة تامة أزلية مع كون الحوادث المتعاقبة صدرت عنه جمع بين النقيضين إذ العلة التامة يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها وسواء قيل أن الفلك صدر عنه بلا واسطة كما تقوله طائفة منهم أو قيل صدر عنه بواسطة العقل الأول كما يقوله طائفة أخرى فهم يقولون أن المحرك للفلك هو النفس بما يتجدد لها من التصورات والإرادات الشوقية فيقال هذه الأمور الحادثة سواء كانت هي الحركات أو الإرادات أو

التصورات لا بد لها من أمر محدث لها والعلة التامة الأزلية المستلزمة لمعلولها في الأزل التي توجبه بذاتها يقارنها معلولها الذي هو موجبها ومقتضاها في الأزل فلا يكون شيء من هذه الحركات والإرادات والتصورات معلولا لها لأنها حادثة ولا تكون موجبة له ولا فاعلة ولا محدثة لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن فإن القديم المعلول لا يصدر إلا عن موجب بذاته أزلي الإيجاب وهو العلة التامة الأزلية التي تستلزم معلولها في الأزل فلو كان في العالم ما هو قديم لزم ثبوت العلة التامة الأزلية لكن ثبوت هذه ممتنع لأنه حينئذ يلزم ألا يكون للحوادث فاعل لا لوسط ولا بغير وسط لأن الحوادث لا تحدث عن علة تامة لها أزلية فكل ما سوى الله لا بد أن يقارن شيئا من الحوادث أو تحدث فيه الحوادث وكل ما قارن شيئا من الحوادث أو حدثت فيه الحوادث يمتنع أن يصدر عن علة تامة أزلية إذ يمتنع صدوره دون الحوادث عن الفاعل لأنه لا بد للحوادث من الفاعل فإثبات قدم شيء من العالم يستلزم إثبات علة قديمة له وإثبات العلة القديمة توجب كون الحوادث لا فاعل لها سواء قيل أن تلك العلة القديمة صدر عنها ما قارنته الحوادث أو صدر عنها ما حدثت فيه الحوادث فإنه على التقديرين يلزم كون الحوادث لا فاعل لها لامتناع صدور الحوادث عن العلة التامة الازلية وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم إثبات العلة التامة

القديمة وإثبات ذلك يستلزم كون الحوادث لا فاعل لها وهذا اللازم باطل بالضرورة فالملزوم أيضا باطل والملزوم قدم شيء من العالم فإذا كان الملزوم باطلا فنقيضه حق وهو أنه ليس من العالم شيء قديم الوجه الثاني أن قولهم هذا يستلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهم يسلمون فساد ذلك وفساده معلوم بالادلة اليقينية كما قد بسطناه في غير هذا الموضع ونبهنا على أن المعلولات كلها ممكنة ليس فيها ما يقتضي وجودها وتقدير أمور غير متناهية ليس فيها ما يقتضي وجودها بمنزلة تقدير أمور متناهية معدومة أو ممتنعة فإذا قدر علل لا تتناهى وهي معلولات كان ذلك بمنزلة تقدير أمور معدومة لا تتناهى فلا يكون فيها ما هو موجود والمعدوم يمتنع أن يكون مبدعا أو فاعلا للموجود ولا حاجة إلى الإطناب في هذا فإنه متفق عليه بين العقلاء لكن بعض المتأخرين أورد على هذا شبهات قد بينا فسادها في غير هذا الموضع كما أورد ذلك الآمدي والأبهري وغيرهما

ومن الناس من ظن أن الكلام في تناهي المؤثرات بمنزلة الكلام في تناهي الآثار كما ظن ذلك طائفة من أهل الكلام والجدل ثم من هؤلاء من قال فإذا كان تناهى الآثار لا يقوم دليل على فساده فكذلك تتناهى العلل وهذا مما سلكه أبو حامد في الرد علىالفلاسفة في تهافت الفلاسفة وجعل قولهم بتجويز حوادث لا أول لها يقتضي تجويز علل لا تتناهى وكثير من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية لما سووا بين النوعين اعتمدوا في نفس التسلسل في المؤثرات والآثار على طرق معروفة قد أفسدها كثير منهم حتى أن الرجل من هؤلاء يذكر بعض هذه الطرق في كتاب ويفسدها في كتاب آخر كما يفعله أبو عبد الله بن الخطيب ونحوه فيقرر في كتاب

الأربعين ونحوه طرقا في إبطال حوادث لا تتناهى ويبطلها في مثل كتاب المباحث المشرقية وأمثاله ولهذا بين أبو الحسن الآمدي فساد عامة هذه الطرق واعتمد طريقة أضعف من غيرها وكذلك أبو الثناء الأرموي أفسد في لباب الأربعين عامة ما قيل في هذا الباب وهذا كله مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن التسلسل في المؤثرات باطل باتفاق العقلاء وأما الاعتراض المذكور فهو أنهم قالوا إذا كان كل من المؤثرات ممكنا فلم لا يجوز ألا تكون الجملة ممكنة على قول من يقول أن كل واحد من الحوادث محدث والنوع القديم متسلسل فإن حكم الجملة إما أن يكون مثل حكم الأفراد وأما ألا يكون فإن كان مثل حكمها لزم حدوث نوع الحوادث وهذا هو الذي يقوله كثير من أهل الكلام وعليه اعتمد أبو الحسين البصري وأمثاله وقالوا إذا كان كل واحد من الزنج أسود فالجميع سود

لكن نقض ذلك المعارضون لهم بأن الواحد من العشرة ليس هو عشرة والواحد من أجزاء القبة والبيت ليس هو قبة ولا بيتا وبعض الإنسان ليس هو إنسان فقال هؤلاء الذين أشكل عليهم بطلان تسلسل المؤثرات كالآمدي والأبهري فحينئذ يجوز أن يكون كل واحد من العلل ممكنا والجملة ليست ممكنة فصارت هذه المباحث المتعلقة بأصول الدين والعلم مضطربة عند أئمة الفلاسفة والمتكلمين وفصل الخطاب في هذا الباب أن نقول انضمام الفرد إلى غيره إما أن يوجب ثبوت أمر يخالف حكم تلك الأفراد وإما ألا يوجب فإن لم يوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد كان حكم المجموع حكم الأفراد وإن أوجب ثبوت أمر يخالف حكم الأفراد لم يجب أن يكون حكم المجموع حكم الأفراد مثال الأول المعدوم مع المعدوم فإن انضمام أحدهما إلى الآخر لا يخرجه عن أن يكون معدوما وكذلك انضمام الواجب إلى الواجب والممكن إلى الممكن وكذلك انضمام الموجود إلى الموجود لا يخرجه عن أن يكون موجودا اللهم إلا إذا كانا يتضادان ومثال الثاني أبعاض الإنسان وغيره من الحيوان وأبعاض الدار والبيت والمدينة ونحو ذلك فإن انضمام بعض ذلك إلى بعض يوجب للمجموع أن يصير حيوانا وبيتا ومدينة وكذلك آحاد العشرة والألف بالانضمام تصير عشرة وألفا وكذلك غير ذلك من المركبات فإنه بالاجتماع يحصل له من التركيب ما لا يحصل بالأفراد وكذلك أجزاء الطويل

والدائم والممتد والكبير والعظيم ونحو ذلك فإنه لا يسمى طويلا ولا دائما ولا ممتدا ولا كبيرا ولا عظيما إلا إذا اجتمعت تلك الأجزاء فبالاجتماع يتغير حكم الأفراد إذا تبين ذلك فإذا قدر مؤثرات ممكنة ليس لها من أنفسها وجود ولكن كل منها يحتاج إلى مؤثر لم تكن بانضمام بعضها إلى بعض تخرج عن أن تكون ممكنة مفتقرة إلى غيرها بل كلما كثرت زاد الافتقار والحاجة كما أنه كلما ضم المعدوم إلى المعدوم كثر المعدوم فإذا قدر علل لا تتناهى كل منها معلول أو فاعلون لا يتناهون كل منهم مفعول فهذه كلها مؤثرات أبدعها غيرها وكل منها ممكن بنفسه محتاج إلى غيره قد أبدعه غيره ليس فيها ما هو موجود بنفسه فإذا قدر عدم تناهيها كان ذلك تكثيرا للحاجة والافتقار إلى الموجود بنفسه وتكثيرا للممكنات التي هي معدومة بنفسها لا توجد إلا بموجود غيرها فكثرتها وعدم تناهيها لا يخرج شيئا منها عن أن يكون ممكنا مفتقرا إلى غيره وأنه إذا لم يكن له مبدع كان معدوما بل المجموع مفتقر إلى كل من الأفراد وإذا كان كل من الأفراد ممكنا فالمجموع المتوقف على كل من الأفراد أولى أن يكون ممكنا فتبين بذلك امتناع وجود علل ومعلولات لا تتناهى وهو امتناع أرباب كل منهم مربوب أو فاعلين كل منهم مفعول ومؤثرين كل منهم أثر فيه غيره فهذا جميعه مما يعلم امتناعه بالضرورة بعد التصور التام كما اتفق عليه

عامة العقلاء وذلك مما بيبن أن جميع الممكنات والحوادث لها مبدع موجود بنفسه خارج عنها كلها وهذا بخلاف دوام الحوادث وتسلسلها في الماضي أو المستقبل فإن الواحد منها إذا لم يكن دائما باقيا متصلا لم يلزم ألا يكون النوع دائما باقيا متصلا لأن انضمام الواحد إلى غيره يوجب الكثرة التي لا توجد في الواحد والدائم الباقي المديد الطويل الكثير لا يستلزم أن يكون كل واحد من أفراده دائما طويلا مديدا كثيرا فهذا تنبيه على الفرق بين النوعين وإذا كان كذلك فنقول قولهم بقدم العالم يستلزم التسلسل في المؤثرات وذلك فاسد بالضرورة والاتفاق وهم يسلمون امتناع تسلسل المؤثرات لكن الذين يقولونه هنا يقولون التسلسل إنما هو حاصل في شروط العلية لا في ذات العلة فيقال لهم إذا كان هذا الحادث موقوفا على شرط العلة الذي هو تمامها وعند حصول تمام العلة يجب مقارنة ذلك المعلول له لا يجوز تأخره عنه فكل حادث يجب أن يقارنه تمام علة الحادث والكلام في تمام علية الحادث كالكلام في الحادث فيلزم تسلسل تمامات العلل وأن يكون تمام علة كل معلول مقارنا لذلك المعلول فإذن كل حادث إنما تمت علته عند حدوثه وذلك التمام إنما تمت علة حدوثه عند حدوثه أيضا فيلزم تسلسل تمامات لا فاعل لها ولا فرق بين تسلسل علل هي معلولات لا فاعل لها وبين تسلسل تمامات علل هي معلولات لا فاعل لها وأيضا فإن هذه التمامات المتسلسلة لا يجوز أن تكون

صادرة عن العلة التامة الأزلية فإن ذلك يستلزم أن تكون مقارنة لتلك العلة ولا يجوز أن تكون العلة الأزلية علة تامة لواحد منها معين وذلك شرط في الثاني لأنه يتعين لها مبدأ معين وما من واحد إلا وقبله آخر فلا يتعين شيء منها دون الآخر ولا يكون شيء منها علة تامة لحوادث متعاقبة مع كون العلة ثابتة على حال واحدة لأن حدوث المتغير عن علة تامة لا تتغير ممتنع فإذا لم يكن لها محدث سوى العلة التامة الأزلية والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يصدر عنها حادث فيلزم ألا يكون للحوادث محدث وأبو عبد الله الرازي قد نبه على هذا لكن لم يوضحه إيضاحا تاما فاعترض عليه الأرموي حيث لم يفهم حقيقة هذا الإلزام فظن الفرق بين حدوث شروط العلة وحدوث ذات العلة وهذا الفرق إنما يصح إذا كان هناك سبب يقتضي حدوث شروط العلة غير العلة حتى يقال تأثيرها موقوف على حدوث شروط أخر تحدث بسبب غيرها فأما إذا كان لا مقتضى للحوادث إلا ذات العلة التي فرض أنها تامة لا يتخلف عنها معلولها لم يكن اقتضاؤها موقوفا على شرط غيرها فيجب أن يقارنها معلولها فلا يحدث عنها حادث واعلم أن هذا هو عمدتهم في قدم العالم وقد تبين أنه مناقض لما قالوه وأنه مبطل لقولهم فإن أصل قولهم أن المؤثر في العالم يجب أن يكون تاما فلا يتخلف عنه أثره وهذا بعينه يمنع أن يكون محدثا لشيء من الحوادث بشرط أو بغير شرط

والرازي أجاب بأن هذه الحجة تستلزم التسلسل في العلل وهو باطل فاعترض عليه الأرموي في لباب الأربعين قال الرازي في الأربعين احتج القائلون بالقدم بوجوه أولها لا شك أن الممكنات تنتهي في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود فنقول كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في إيجاده إما أن يقال أنه كان حاصلا في الأزل أو ما كان حاصلا في الأزل فإن كان كل ما لا بد منه في المؤثرية حاصلا في الأزل فإما أن يجب مع حصوله حصول الأثر أو لا يجب فإن وجب لزم من دوامه دوام الأثر وإن لم يجب كان وجوده مع عدم تلك الآثار جائزا فلنفرض ذاته مع مجموع الأمور المعتبرة في المؤثرية تارة مع وجود تلك الآثار وتارة مع عدمها فاختصاص ذلك الوقت بالوجود دون الوقت الآخر إما أن يختص بأمر ما لأجله كان هو أولى بوجود ذلك الأثر وإما ألا يكون كذلك فإن كان الأول كان ذلك المخصص معتبرا في المؤثرية وهو ما كان حاصلا قبل ذلك فإن كان ما لا بد منه في المؤثرية ما كان

حاصلا في الأزل وكنا قد فرضنا حاصلا قبل ذلك هذا خلف وإن كان الثاني كان ذلك ترجيحا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح أصلا وهو محال هذا إذا قلنا كل ما لا بد منه في المؤثرية كان حاصلا في الأزل أما إذا قلنا بأن كل ذلك ما كان حاصلا في الأزل فحدوثه فيما لا يزال بعد أن لم يكن إما أن يفتقر إلى مؤثر أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن مرجح وإن افتقر نقلنا الكلام إلى كيفية إحداث تلك الأمور ويلزم التسلسل وهو محال قال الرازي هذا هو العمدة الكبرى للقوم ثم ذكر أجوبة طوائف من أهل الكلام عن ذلك بأن قوما قالوا المرجح هو الإرادة وقيل المرجح هو العلم وقيل المرجح اختصاص وقت الأحداث بحكمه خفية وقيل إحداث العالم في الأزل محال لأن الإحداث جعله موجودا بعد أن كان معدوما وذلك يقتضي سبق العدم والأزل عبارة عن نفي المسبوقية بالغير فكان الجمع بينهما بمحال

وقيل أن العالم قبل ذلك ما كان ممكنا بل ممتنعا ثم انقلب ممكنا ذلك في الوقت وقيل أن القادر المختار يمكنه أن يرجح أحد المقدورين على الآخر من غير مرجح ثم بين فساد هذه الأجوبة جملة فإن حاصلها أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم ما كان حاصلا في الأزل وبين فسادها على وجه التفصيل بما لا حاجة إلى ذكره هنا ثم قال والجواب أن نقول إن صح ما ذكرتم يلزم أن لا يحصل في العالم شيء من التغيرات لأنه يلزم من دوام واجب الوجود أزلا وأبدا دوام المعلول الأول ومن دوام المعلول الأول دوام المعلول الثاني وهلم جرا إلى آخر المراتب فيلزم ألا يحصل في العالم شيء من التغيرات وأنه خلاف الحس قال فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الاستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية

وكل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في هذا العالم قال والجواب أنا نقول العرض المعين إذا حدث في هذا العالم فإما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر فإن لم يفتقر فقد حدث الممكن لا عن سبب وهو باطل بالاتفاق وإذا افتقر إلى سبب فذلك السبب إن كان حادثا كان الكلام في كيفية حدوثه كما في الأول فيفضي إلى وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وهو محال وإن كان السبب قديما فقد أسندتم إلى المؤثر القديم أثرا محدثا وإذا عقلتم ذلك فلم لا يجوز في كل العالم مثل ذلك قال الأرموي معترضا على هذا الجواب ولقائل أن يقول إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شروطه فإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه

أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب جائز عندهم قال بل الجواب الباهر عنه أنه لا يلزم ذلك من حدوث العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنها تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى تنتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم قلت هذا الجواب الذي أجاب به الأرموي أخذه من المطالب العالية للرازي فإنه ذكر هذا الجواب فيه وهذا الجواب باطل متناقض في نفسه فإنه يتضمن وجود حوادث لا أول لها والمتكلمون الذين أثبتوا حدوث الأجسام إنما أثبتوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا الأصل صحيحا بطل الجواب المذكور ولزم حدوث النفوس التي تقوم بها تصورات متعاقبة لأنها حوادث لا أول لها وإن كان حوادث لا أول لها جائزا كما ذكره في الجواب الباهر بطل دليل المتكلمين على حدوث الأجسام

وحينئذ فلا فرق بين أن يقال القديم هو النفس أو جسم وأيضا فهذا الجواب باطل من وجه آخر وهو أن النفوس عند من يثبتها من المتفلسفة لا تفارق الأجسام بل النفس عندهم لا بد أن تكون متعلقة بالجسم تعلق التدبير والتصريف وقد تنازعوا في النفس الفلكية هل هي جوهر أو عرض وأكثرهم يقولون هي عرض ولكن ابن سينا وطائفة رجحوا أنها جوهر فإذا كان وجود النفس التي تقوم بها التصورات المتعاقبة مشروطا بوجود الجسم بطل هذا الجواب وأما العقول فتلك مفارقة لا تدبر الأجسام ولا يقوم بها عندهم شيء من الحوادث لا متعاقبا ولا غير متعاقب وأيضا فهذا الجواب يتضمن شيئين جواز حوادث لا أول لها بناء على أن التسلسل الممتنع إنما هو في المؤثرات لا في الآثار والشروط وهذه مسألة نظرية لا تناقض أصول الإسلام ويتضمن أيضا إثبات العقول والنفوس وأنها قديمة أزلية وأن المخلوق المحدث إنما هو الأجسام دون العقول والنفوس وهذا ليس من دين أحد من أهل الملل وهو مبني على إثبات العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة وأنها ليست أجساما وكلامهم في ذلك في غاية الفساد في العقل كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع

وإنما غلط في هذا لأن الشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم من المتأخرين ظنوا أن المتكلمين ليس لهم دليل ينفي وجود هذه الأمور وأنهم لم يذكروا على نفيها دليلا وليس الأمر كما ذكره هؤلاء بل قد صرح النظار كإمام الحرمين وأبي الوفاء بن عقيل ومن قبلهم كالقاضي أبي بكر وأبي الحسن الأشعري وأبي

علي وأبي هاشم الجبائي وأبي الحسين البصري ومحمد بن كرام وابن الهيصم وهشام بن الحكم وغيرهم أن إثبات ذلك معلوم الفساد بضرورة العقل وإن إثبات ما لا يشار إليه ولا يقوم بما يشار إليه معلوم الفساد بضرور العقل إما مطلقا عند طائفة وإما في الممكنات عند طائفة وهذا مبسوط في موضعه ولو أن الأرموي قال هذا في واجب الوجود نفسه لكان

ذلك أقرب إلى دين المرسلين فإن ذلك يمكن معه القول بأن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى مخلوق محدث غايته أنه يلزم قيام الأفعال المتعاقبة بالواجب نفسه وهذا قول أئمة أهل الحديث وجمهورهم وطوائف من أهل الكلام وقول أساطين الفلاسفة القدماء فهو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة ففي الجملة هذا فيه نزاع بين أهل الملل فيمكن مع القول به موافقة الأنبياء بخلاف ما ذكره وأيضا فقد بين الرازي والآمدي ضعف ادلة نفاة ذلك وذكر الرازي أن ذلك لازم لعامة الطوائف ثم قرر هو ذلك بطريقة هي أيضا في غاية الضعف كما قد بسط هذا كله في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك فالواجب الذي هو أصح في الشرع والعقل أولى من الجواب الذي هو أفسد في الشرع والعقل فهذا الكلام على جواب الأرموي وأما جواب الرازي وإلزامه لهم فصحيح كما ذكره ولكن لم يقرره ويبينه تبيينا يشفي الغليل فلهذا لم يفهم الأرموي حقيقة هذا الجواب وذلك أنه إذا كان المؤثر التام أزليا لزم من دوامه دوام أثاره فيلزم أن لا يحدث شيء وهو خلاف الحس وهذا الجواب وحده كاف إذا تصوره الإنسان فإنه إذا قيل بأن المؤثر التام أزلي وأنه يستلزم آثاره امتنع حدوث شيء من الآثار فيلزم أن لا يحدث شيء لأن حدوث الحوادث بلا محدث ممتنع وحدوثها عن المؤثر التام ممتنع وأما السؤال الذي أورده فيجاب عنه بما ذكره وبغير

ما ذكره وذلك أن قول القائل أن المؤثر دائم الفيض ولكن حدوث الأثر عنه متوقف على حدوث الاستعداد والشرائط إنما يمكن قوله في الأثر الذي يتوقف على اثنين كالإحراق من النار المتوقف على استعداد المحل فلا تحرق الياقوت والسمندل ونحو ذلك وكالشمس التي يتوقف فيض شعاعها على محل قابل وذلك المحل ليس صادرا عنها وكما قالوه فيما يفيض عن العقل الفعال المتوقف على حدوث امتزاجات حاصلة بحركة الأفلاك وحركة الأفلاك التي فوق فلك القمر لا تتوقف على فيض العقل الفعال فهذا الذي ذكروه من توقف الفيض على استعداد القوابل إنما يمكن أن يقال إذا كان ذلك الاستعداد ليس هو من فيض ذلك الموجب وهذا لا يصح في الواجب الوجود الذي هو المبدع لكل ما سواه فإنه هو الفاعل للإستعدادات والشرائط كما هو الفاعل لما يفيض عليها فلا شريك له في الفعل والإبداع أصلا فإذا قال القائل إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل قيل لهم فاستعداد القوابل هو أيضا مما فاض عنه فيتمنع أن يقال هو عام الفيض لكل ممكن إذ لو كان كذلك لكانت الممكنات كلها أزلية وإذا قيل فلم تأخر عنه فيض الحادث فقيل لتأخر الاستعداد

قيل وما الموجب لتأخر الاستعداد فإذا قيل لتأخر استعداد آخر وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الفائضة بسببها ليس هو مؤثرا تاما في الأزل لها ولا مؤثرا لها فيما لا يزال لأن المؤثر التام الأزلي لا يتأخر عنه شيء من أثره وتأخر الآثار مشاهد معاين وقول الأرموي أنه يجوز عندهم حدوث الشرائط والمعدات الغير المتناهية على التعاقب لا ينفعهم بل ذلك مما يستلزم فساد قولهم بقدم شيء من العالم فإنه إذا جاز تسلسل الحوادث والآثار امتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء منها لأن ذلك يستلزم وجود هذه الحوادث في الأزل وذلك جمع بين النقيضين ويمتنع أن تحدث عنه بعد ذلك لأنها لا تحدث حتى يحدث عنه ما يجعله علة تامة لها وحدوث شيء من الحوادث عن العلة المستلزمة لمعلولها في الأزل ممتنع لكن لو قالوا إن الرب سبحانه وتعالى ليس فعله تاما في الأزل بل هو يحدث كل ما سواه شيئا بعد شيء كان هذا موافقا لأصلهم في جواز تعاقب الحوادث ولكنه مبطل لقدم شيء بعينه من العالم لا الفلك ولا غيره وحجتهم في القدم مبنية على أنه مؤثر تام في الأزل فقد ثبت أنه ليس مؤثرا تاما لها ولم يثبت أنه مؤثر تام لغيرها فبطلت حجتهم فلم يبق معهم ما يثبت علة تامة في الأزل وهذا يبطل حجتهم لو لم يثبت امتناع علة تامة في الأزل فكيف إذا ثبت امتناع ذلك فإنه يوجب امتناع قدم شيء من العالم

وأيضا فإذا لم يكن مؤثرا تاما في الأزل للحوادث فتأثيره بعد أن لم يكن مؤثرا أن توقف على غيره لزم أن يكون مبدع العالم مفتقرا في الإبداع إلى غيره ثم ذلك الغير إن كان واجبا لزم إثبات واجبين فاعلين وهذا ممتنع بالاتفاق مع أنه لا يستلزم قدم العالم ثم إن كان كل منهما مستقلا بالفعل لزم أن يكون كل منهما مبدعا لكله فيلزم أن يكون هذا فاعلا لكله وهذا فاعلا لكله وذلك جمع بين النقيضين وإن لم يكن أحدهما مستقلا بالفعل لزم احتياجه إلى الآخر وافتقاره إليه فيكون كونه فاعلا وقادرا موقوفا على الآخر وذلك يستلزم ألا يكون هذا فاعلا قادرا إلا بهذا وإلا يكون هذا قاعى فاعلا قادرا إلا بهذا فيلزم الدور المعي القبلي فلا يكون واحد منهما فاعلا قادرا وهذا كله مما يسلمه جميع الناس وهو مبسوط في غير هذا الموضع فلا حاجة إلى الإطناب فيه وإن كان ذلك الغير ممكنا كان مفعولا مصنوعا له فتوقف فعله عليه توقف على ما هو من مفعولاته ومصنوعاته والقول في فعله لذلك الممكن كالقول في فعله لغيره فلا بد أن يكون فعله لا يتوقف على غيره وإن قيل إن تأثيره بعد أن لم يكن لا يتوقف على غيره لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب وهذا ممتنع عندهم وبتقدير صحته فإنه يمكن حدوث الحوادث حينئذ

بعد أن لم تكن حادثة على هذا التقدير فيبطل قولهم بقدم العالم فتبين أنه يمتنع مع حدوث الحوادث أن يكون مؤثرا تاما في الأزل وإذا قيل أحداثه للثاني مشروط بالأول وهلم جرا قيل فليس هو وقت حدوث حادث واحد مؤثرا تاما بل في كل وقت لا بد من حادث به يتم كونه مؤثرا تاما وإذا لم يكن في وقت من الأوقات مؤثرا تاما امتنع ثبوت المؤثر التام الذي لا يتوقف تأثيره على حدوث حادث وإذا بطل المؤثر التام بطل القول بقدم العالم وإيضاح هذا بالكلام على نص كلامهم قالوا لم لا يجوز أن يقال إن واجب الوجود عام الفيض إلا أن حدوث الأثر عنه يتوقف على استعداد القوابل وحصول هذه الإستعدادات المختلفة في القوابل يتوقف على الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وكل حادث منها مسبوق بآخر لا إلى أول فلهذا السبب حدث التغير في العالم فيقال لهم إذا كان حدوث الأثر عنده يتوقف على استعداد القوابل وحصول الاستعدادات متوقف على الحركات والاتصالات فهذه الحركات والاتصالات هي أيضا حادثة كما أن الاستعدادات أيضا حادثة والقول في حدوث هذه الحوادث كالقول فيما يفيض على القوابل السفلية فإن الجميع حادث وحجتهم تستلزم ألا يحدث شيء لأن المؤثر التام دائم أزلا

وأبدا فيلزم دوام آثاره أزلا وأبدا وألا يتأخر عنه شيء من آثاره فإذا قيل الحادث الثاني مشروط بالأول قيل فالكلام في حدوث الأول فكل من هذه الحوادث لا يجوز أن يصدر عن المؤثر التام الأزلي إذ لو كان كذلك لكان قديما معه وكل من هذه الحوادث يجب أن يحدث مؤثره أو تمام مؤثره وليس في المؤثر التام الأزلي سبب يقتضي حدوث شيء أصلا عندهم فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث سبب منه وإذا قيل حركة الفلك هي سبب الحوادث قيل فحركة الفلك يمتنع صدورها عن مؤثر تام لا يقوم به شيء من الحوادث لأن ذلك يستلزم تأخر المعلول عن علته التامة وتأخر موجب الشيء ومقتضاه عن المقتضي الموجب التام فالكلام في حدوث حركة الفلك كالكلام في غيرها وهذا الموضع من فهمه علم ضرورة بطلان مذهب القوم وأن حقيقة قولهم أن الحركات والحوادث حادثة بلا فاعل لها ولا سبب يقتضي حدوثها فإن أثبتوا في الفاعل الأول أفعالا تقوم به شيئا بعد شيء وقالوا تلك هي سبب التغيرات كان هذا موافقة على إمكان إحداث العالم وغيره وبطل أصل قولهم وأما الإلزام الذي ذكره الرازي في الأربعين فصحيح

أيضا فإنه قال العرض المعين إما أن يفتقر في حدوثه إلى سبب أو لا يفتقر والثاني باطل بالاتفاق وإذا افتقر فالسبب إن كان حادثا لزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة وإن كان قديما لزم جواز صدور الحوادث عن القديم وهو يبطل حجتهم وأما اعتراض الأرموي بقوله إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه فيقال له هب أن الأمر كذلك فإذا عنى بحدوثه حدوث السبب التام وحدوثه لا يقف على حدوث الفاعل بل يكفي حدوث بعض الشرائط فأي جواب لهم في هذا وقوله حدوث بعض الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندهم فيقال له فهب أنه جائز عندهم فجوازه عندهم لا يدل على صحة مذهبهم ولا على إمكانه ولا على بطلان ما ذكره بل حدوث الشرائط والمعدات باطل بما به بطل حدوث العلة التامة وذلك أن تلك الشروط والمعدات الحادثة لا بد لها من محدث وإذا قلت حدوثه موقوف على تمام حدوث التأثير

قيل الكلام في حدوث تمام تلك التأثيرات كالقول في كل من هذه الحوادث إن كان المقتضي لحدوثه حادثا لزم تسلسل العلل وإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن القديم وإن قيل المقتضي لحدوثه هو القديم بشرط الحادث قيل هذا مع قولكم إن القديم مؤثر تام باطل لأن المؤثر التام لا يحدث عنه شيء فلا يحدث عنه شيء من الشروط وأيضا فالعلة يجب أن تكون مقارنة لمعلولها عندكم لا متقدمة عليه ولا متأخرة عنه وإذا كان القديم مؤثرا في الثاني بشرط حدوث الأول كانت العلة متقدمة على المعلول وبهذا احتج الرازي فإنه قال كل حادث يجب أن تكون علته التامة موجودة عند وجوده وإن كان بعض أجزائها متقدما فإذا جعلتم كل حادث جزءا من المؤثر في الآخر أو شرطا فيه وجزء العلة وشرطها هو من تمام العلة التامة لزم وجود هذه الشروط الحادثة عند حدوث كل حادث فيلزم وجود الحوادث المتعاقبة معا وهذا ممتنع ففي الجملة قولهم إن العلة التامة يقارنها معلولها وإن الاول علة تامة يستلزم أن الأول لم يحدث عنه شيء ويستلزم أن يكون تمام علة كل حادث إنما يحصل عند حصوله فلا يكون تمام علته متقدما عليه وهذا يناقض قولهم إن الحادث الأول شرط في تمام علة الثاني فإن الأول متقدم علىالثاني والمتقدم على الشيء لا يكن جزءا من علته التامة

والإنسان وإن كان يقطع المسافة الثانية بشرط قطع الأولى فليس هو علة تامة للأولى ولا للآخرة والعلة التامة في حدوث قطع الثانية إنما وجد مع الثانية وهو الإرادة الجازمة والقدرة التامة التي لم تحصل إلا بعد قطع الأولى فإذا قالوا مثل هذا في الواجب لزم تجدد الإرادات له وهذا قول حذاقهم من الأولين والآخرين كالأساطين الذين كانوا قبل أرسطو طاليس أو كثير من الأساطين وكأبي البركات صاحب المعتبر وغيره فإنه قال القول بكون الرب تعالى مؤثرا في هذا العالم لا يمكن إلا مع هذا القول قال والتنزيه عن التنزيه واجب والإجلال عن هذا الإجلال متعين

وهذا القول يبطل حجتهم في قدم العالم ويبين أنه فاعل بمشيئته وقدرته أفعالا متعاقبة شيئا بعد شيء فهذا أحد الجوابين عن اعتراض الأرموي الجواب الثاني أن قوله للرازي إما ان تعني بالسبب السبب التام وإما أن تعني به الفاعل فيقول له لا حاجة بي إلى هذا التقسيم فإن حجتي صحيحة مع الإعراض عن هذا التقسيم والناس منهم من يقول إن الحوادث لا توجد إلا بسبب تام يستلزم حدوثها كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم وأكثر هؤلاء يقولون المرجح مع ذلك هو الفاعل القادر المختار الذي تستلزم قدرته وإرادته للحادث وجود ذلك الحادث فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر القائلين بحدوث العالم ومن هؤلاء من يقول بل نفس ذاته موجبة للمكنات بدون ذلك وهذا قول الفلاسفة الدهرية الإلهية وقولهم يستلزم ألا يحدث شيء من الحوادث وهذا الموجب الذي فرضوه لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي فرضوه أيضا وقالوا إنه لا يصدر عنه إلا واحد

ومن الناس من يقول بل يكفي في حدوثها الفاعل القادر الذي يمكنه الفعل والترك الذي يفعل على سبيل الإختيار وأنه بقدرته فقط أو بقدرته ومشيئته أو بقدرته وداعيه يرجح أحدهما بلا مرجح ومنهم من يفرق بين القادر والموجب فيقول المؤثر الموجب لا يؤثر إلا إذا كان تاما مستلزما لأثره وأما القادر فيمكنه التأثير على سبيل الجواز والمقصود هنا أن ما ذكره الرازي يصح على جميع هذه التقديرات فبأي شيء فسر المفسر المؤثر أمكن صحة جوابه وذلك أن هذا الحادث المعين كالإنسان والفرس والثمرة وغيرها مما يحدث كل يوم لا بد له من مؤثر فذلك المؤثر إن كان حادثا كان الكلام في سبب حدوثه كالكلام في الأول فيلزم إثبات مؤثرات لا تتناهى كل منها مؤثر في الآخر وإن شئت قلت يلزم إثبات علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإن شئت قلت يلزم إثبات فاعلين مفعولين وإن شئت قلت يلزم إثبات خالقين مخلوقين لا يتناهون وإن شئت قلت يلزم إثبات أسباب ومسببات لا تتناهى فعلى كل تقدير إذا كان هذا حادثا لزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى دفعة واحدة وإنما قال دفعة واحدة لأن التقدير أن فاعل هذا المحدث محدث أيضا لا قديم فإن قيل فهل لا يجوز أن يكون فاعل هذا محدثا قبله وفاعل هذا محدثا قبله وهلم جرا

قيل لأن الفاعل يجب أن يكون موجودا عند وجود الفعل ويمتنع بعد عدم الفاعل وجود الفعل وكذلك العلة والسبب لا بد أن يكون موجودا عند وجود المعلول والسبب لا يكون موجودا قبله ولو قدر أن لكل فاعل فاعلا قبله محدثا كان هذا أيضا ممتنعا فهذا ممتنع سواء قيل أن الأسباب الفاعلة موجودة معا أو متعاقبة لكنه لما كان الدليل قد قام على أن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول لا قبله ذكر هذا اللازم وإذا أردت أن تتبين امتناع ذلك على التقديرين قلت هذا يقتضي ثبوت علل ومعلولات محدثة لا نهاية لها وذلك ممتنع سواء فرضت مجتمعة أو متعاقبة لأن كل واحد منها ليس له وجود من نفسه فلا يستحق من نفسه إلا العدم فإذا كانت كلها محدثة مفعولة مصنوعة امتنع مع عدم الفاعل الصانع وجود شيء منها بمنزلة تعاقب المعدومات والممتنعات وهذا لكونه معلوما متفقا عليه مبسوطا في موضع آخر لم نبسطه هنا فإنه يعلم بضرورة العقل امتناع حوادث بلا محدث قديم لها والمقصود أن الرازي يقول كل ما يحدث في العالم يمتنع أن يحدث بلا محدث ويمتنع أن يكون كل محدث أحدثه محدث آخر فوجب أن يكون المحدث لكل حادث هو فاعل قديم وهذا يناقض قولهم فإنه برهان باهر على أن المحدثات

يمكن بل يجب صدورها عن القديم وإذا صدرت عن القديم لم يكن القديم علة تامة لشيء منها إذ لو كان كذلك لقارنها فبطل قولهم بالعلة التامة وهو المطلوب لكن ليس في هذا الجواب ما يبطل وجود حوادث لا أول لها بل يجوز أن يقال إحداث القديم الأول مشروط بالثاني ولكن على هذا التقديرين لا يلزم قدم شيء من العالم بل يجوز أن يكون كل منه حادثا وإن كان مشروطا بحادث قبله لا سيما إذا كان الحادث فعل الفاعل سبحانه وتعالى وهذا الذي ذكره الرازي وغيره إلزام لهم لكن ليس فيه حل الشبهة ولا بيان فسادها ونحن نبين فسادها على أصولهم وعلى أصول المسلمين وذلك أن الحجة مبناها على أنه لا بد أن يكون في الأزل مؤثر تام لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل هكذا أطلق كثير منهم الحجة ولفظ التسلسل يراد به التسلسل المتنازع فيه ويراد به التسلسل الممتنع باتفاق العقلاء بل والدور فإنه إذا لم يكن في الأزل مؤثر تام ثم صار مؤثرا تاما لزم حدوث تمام التأثير وهذا يتضمن حدوث الحادث بلا فاعل ولهذا عبر ابن سينا وغيره عن هذا بأن قالوا كل ما فعل بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد له من حدوث أمر إما علم وإما قصد وإما إرادة وإما زوال مانع وإما أمر آخر وإلا فإذا قدر أنه كما كان وكان لا يحدث عنه شيء فالآن لا يحدث عنه شيء وقد حدثت الحوادث فهذا خلف

وإنما لزم هذا المحذور من فرض ذات معطلة عن الفعل وإذا كان هذا الفرض باطلا فنقيضه حق والتسلسل المذكور هنا هو التسلسل في الفاعل وهو في تمام كونه فاعلا ويلزم الدور أيضا لأنه لا يصير فاعلا إلا بعد أن يصير فاعلا وهذا كما يقال يمتنع أن يكون لفاعل العالم فاعل وللفاعل فاعل ويمتنع أن يكون هو فاعل نفسه لكن هنا الكلام فيما به يتم كونه فاعلا فإذا قيل لم يكن مؤثرا تاما ثم صار مؤثرا فلا بد من حدوث تمام التأثير أو الترجيح بلا مرجح فإنه إذا لم يكن المؤثر التام ثابتا في الازل فحدوث الحوادث عنه إن لم يتوقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن توقف على حدوث سبب فالقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل فمضمون الحجة إما أن يكون المؤثر التام ثابتا في الأزل وإما أن يلزم الترجيح بلا مرجح وإما أن يلزم التسلسل والدور الممتنع فلا بد من أحد هذه الأمور الثلاثة ولهذا كان كثير من أهل الكلام يختار الترجيح بلا مرجح بناء على أن القادر المريد يرجح بقدرته أو بالقدرة والداعي أو أن الإرادة نفسها ترجح أحد المثلين على الآخر وبهذا الجواب أجابهم جمهور المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافق هؤلاء من أصحاب الأئمة الأربعة

وهو أحد جوابي الغزالي في تهافت الفلاسفة وبه أجاب الآمدي وغيره لكن جمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة وكذلك بين الرازي على لسان الفلاسفة فساد هذا الجواب فيقال للفلاسفة هذه الحجة باطلة على أصلكم ومتناقضة وذلك أن غاية هذه الحجة أنه إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل

لزم التسلسل والتسلسل جائز عندكم فإذا كان التسلسل جائزا فلم لا يجوز ألا يكون المؤثر في شيء معين تاما في الأزل ولكن تأثيره في كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى غاية وتكون جميع مفعولاته محدثه ومعلوم أن هذا مقتضي هذه الحجة والرازي وغيره غفلوا عن هذا الجواب لأنهم يعتقدون بطلان التسلسل فأخذوا في الحجة مسلما لما قالوا في آخر الحجة ويلزم التسلسل وهو محال

امكان حوادث لا أول لها عند الفلاسفة وأئمة أهل الملل

وإنما هو محال مطلقا عند من يقول بامتناع حوادث لا أول لها من أهل الكلام وليس هو ممتنعا مطلقا عند الفلاسفة بل ولا عند أئمة أهل الملل كالسلف والأئمة الذين يقولون إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ويقولون إن الفعل من لوازم الحياه فإن كل حي فعال بل يصرح غير واحد منهم بأن كل حي متحرك كما صرح بهذه المعاني من صرح بها من أئمة السلف والسنة والحديث فلو أن هؤلاء المتكلمين قالوا للفلاسفة وهب أن هذا يستلزم التسلسل فالتسلسل جائز عندكم فالحجة باطلة على أصلكم لتبين فساد الحجة على أصل الفلاسفة لكن الفلاسفة تقول للمتكلمين التسلسل اللازم هو تسلسل في أصل التأثير وهو في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا متفق على امتناعه كالتسلسل في نفس المؤثر

وفصل الخطاب أن لفظ التأثير والفعل والإبداع ونحو ذلك يراد به في حق الله تأثيره في كل ما سواه وهو إبداعه لكل ما سواه ويراد به التأثير في شيء معين وهو خلقه لذلك المعين ويراد به مطلق التأثير وهو كونه مؤثرا في شيء ما فإذا أريد بالتأثير إبداعه لكل شيء في الأزل فهذا ممتنع بضرورة الحس والعقل فإن الحوادث مشهودة وأيضا فكون الشيء مبدعا أزليا ممتنع وإن أريد به التأثير في شيء معين فمعلوم أيضا أن مثل هذا التأثير حادث بحدوث أثره فإحداث الأثر المعين لا يكون إلا حادثا وإن أريد بالتأثير مطلق الفعل وهو كونه فاعلا في الجملة فيقال للفلاسفة بحثكم إنما ينفي نقيض هذا وهو أنه يمتنع أن يفعل بعد أن لا يكون فاعلا لشيء لا يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد أن كان فاعلا لشيء آخر ولا يوجب كونه في الأزل مؤثرا تاما بمعنى أنه مستلزم لآثاره في الأزل بل يوجب أنه لم يزل موصوفا بمطلق الفاعلية لا أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا إذا صح دل على أنه لم يزل محدثا لشيء بعد شيء لم يدل على أن مفعوله المعين قديم أزلي معه فإنهم قالوا فعله معه في الأزل لأنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام يستلزم أثره فلا يتخلف عنه فعله لأنه لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما فإن لم يحدث شيء لزم الترجيح بلا مرجح

وإن حدث شيء فذلك الحادث لا بد له من سبب حادث فيلزم التسلسل وقولهم لو لم يكن مؤثرا تاما ثم صار تاما إنما يستلزم التسلسل في الآثار لا في المؤثرات لأنه يمكن أن تقوم به إرادات وتصورات متعاقبة متسلسلة وهذا التسلسل جائز عندهم ثم عند اجتماع متأخرها مع متقدمها تحدث الآثار وهذا الجواب أجاب به طائفة منهم الأبهري وهو أجود من الجواب الذي سماه الرازي الباهر وأبو البركات وغيره يسلمون صحة هذا وابن سينا وأمثاله ليس لهم ما ينفون به هذا إلا ما ينفون به الصفات وقولهم في نفي الصفات في غاية الفساد وأيضا فيقال الذي دل على امتناع التسلسل في تمام التأثير هو التأثير المطلق وذلك لا يدل على قدم شيء من العالم وقد يقول الفلاسفة للمتكلمين فهذا لازم على أصلكم فإذا قالوا لهم ذلك أمكن أن يجاب عن هؤلاء المتكلمين بأن التسلسل إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولكم بقدم العالم ودوام حركة الفلك وإذا بطل قولكم بطلت الحجة الدالة عليه بطريق الأولى فإن القول الباطل لا يكون عليه دليل صحيح وإن كان التسلسل ممكنا بطلت هذه الحجة فثبت بطلان هذه الحجة على التقديرين فإن قيل أبو علي بن الهيثم وابن سينا والسهروردي

وأمثالهم إنما ذكروا هذه الحجة على من يثبت ذاتا معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب فقالوا نحن نعلم بضرورة العقل أن الحادث بدون سبب حادث محال فإذا قلت حدث بسبب حادث فالقول في الأول كالقول في الثاني فيلزم حدوث الحادث بلا سبب وأيضا فإن الحجة مبنية على امتناع التسلسل في المؤثرات وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء قيل أولا الحجة المذكورة لا تتضمن لا هذا ولا هذا وإنما هي مبنية على امتناع التسلسل في الآثار الصادرة عن الواجب الوجود والفلاسفة تجوز هذا وحقيقة الأمر أن هؤلاء المتفلسفة أدعوا قدم الأفلاك وغيرها من الأمور المعينة ومنازعوهم قالوا بل نوع الفعل والمفعول ممتنع في الأزل فاحتج أولئك بامتناع أن يصير فاعلا من لم يكن فاعلا بدون سبب حادث والحدث لا يحدث إلا بفاعل ولا فاعل فكان تقدير الكلام لا يكون فاعلا حتى يصير فاعلا ولا يصير فاعلا حتى يصير فاعلا وهذا دور من وجه وتسلسل من وجه وهو تسلسل في نفس كونه فاعلا فهو من التسلسل في المؤثرات لكنه

دور في شيء واحد وتسلسل في شيء واحد مثل أن يقال هذا لا يكون حتى يكون ولا يكون حتى يكون فإنه اعتبار نفسه شيء واحد وباعتبار تعدد الأكوان دور وتسلسل في أمور ثم إن جعل الكون الثالث هو الأول كان دورا وإن جعله غيره كان تسلسلا ولذلك إذا قيل لا يفعل حتى يفعل ولا يفعل حتى يفعل إن جعل الثالث هو الأول كان دورا وإن جعل غيره كان تسلسلا فهذا ممتنع بلا ريب وأما إذا قيل لا يفعل فعلا حتى يفعل فعلا آخر لم يكن نوع الفاعلية حادثا بل أعيانها وهذا فيه النزاع المشهور والفلاسفة تجوز مثل هذا وهو لا يستلزم قدم شيء من العالم ولا يلزم أن يكون تأثيره في شيء معين أزليا وقيل ثانيا أما كلام ابن سينا وأخوانه فباطل من وجهين أحدهما أن يقال له قولك يستلزم حدوث الحوادث بلا محدث لها فجواز حدوثها عن مؤثر قديم بلا سبب حادث إن كان باطلا فقولكم أبطل منه وإن كان قولكم ممكنا فهذا أولى بالإمكان فالقول الذي فررتم إليه شر من القول الذي فررتم منه إذ قولكم يتضمن أن المؤثر التام الأزلي صدرت عنه الحوادث بلا حدوث شيء فيه ولا منه مع كون المؤثر التام لا يتخلف عنه شيء من مفعولاته الوجه الثاني أن يقال أن هذه الحجة إنما تتضمن أن الفاعل لم يزل فاعلا ليس فيها ما يدل على أنه علة تامة في

الأزل ولا على أن شيئا من العالم قديم لا الأفلاك ولا غيرها فإذا كان كذلك فليس فيها ما يدل على مطلوبه وإنما يدل على بطلان قول من يجعل الفاعل صار فاعلا بعد أن لم يكن بلا سبب أصلا لكن هذا قول طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة ليس هذا القول معروفا عند سلف المسلمين وأئمة الدين فضلا عن الأنبياء والمرسلين وليس في بطلان هذا القول إن بطل إثبات قدم العالم ولا شيء منه بل إنما يدل على بطلان ما يقوله أهل الكلام المبتدع كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا مما يتبين به أن أدلة العقول موافقة لما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومما يبين فساد قول هؤلاء القائلين بقدم العالم عن الموجب بالذات أن يقال إما أن يكون مجرد ذاته هي الموجب للعالم أو هي متوقفة على أمر آخر فإن كان الأول لزم قدم كل شيء في العالم ودوامه بقدم الموجب ودوامه فإنه إذا لم يكن هنا إلا مؤثر تام قديم مستلزم لأثره لزم أن يكون أثره قديما معه بقدمه وهو مكابرة للحس وإن كان تأثيره موقوفا على غيره كان هذا مع بطلانه بالاتفاق مبطلا لقولهم بقدم العالم وأن يقال ذلك الغير إن كان قديما واجبا معه ومجموعهما هو العلة التامة لزم قدم الآثار بقدمهما فسواء فرض المؤثر القديم الموجب واحدا أو عددا متى قيل

إنه موجب بذاته في الأزل لزم حصول جميع موجبه في الأزل فيلزم ألا يحدث شيء وهو مخالف للعيان وإن قيل أن تأثيره موقوف على حادث غيره كان القول في حدوث ذلك الحادث كالقول في غيره فيمتنع صدوره عنه فتبين أنه يلزمهم كون الحوادث لا محدث لها كيفما داروا ويلزمهم أيضا ألا يكون واجبا بذاته لأن الواجب بذاته لا بد أن يكون غنيا عن غيره من كل وجه فإذا افتقر في فعله إلى غيره لم يكن غنيا من كل وجه لا سيما إذا كان فعله من لوازم ذاته وكان ذلك موقوفا على غيره كان لوازم ذاته موقوفا على غيره ووجود الملزوم بدون اللازم محال فيكون وجود ذاته موقوفا على ذلك الغير وما كان كذلك لم يكن واجبا بنفسه فكان قولهم مستلزما لكونه غير واجب بنفسه وكونه غير مبدع لشيء لا بالإيجاب ولا غيره وأيضا فإذا كانت ذاته غير كافية في الأحداث كانت مفتقرة في الأحداث إلى امر عدمي لامتناع حدوث الحوادث عن غيره وإذا كان افتقاره إلى موجود غيره ممتنعا فافتقاره إلى المعدوم أولى بالامتناع ولأن المعدوم لا يكون مؤثرا ولا جزءا من المؤثر في الوجود وأيضا فهم يزعمون أنهم قالوا بقدم العالم نفيا للشركة عن الله لأنه إذا كان فعله مجرد ذاته مستقلا بالفعل لزم قدم الفعل وإذا كان حادثا كان موقوفا على غيره

فيقال لهم بل قولكم أن فعله متوقف على غيره لأن الحوادث التي تحدث ليست ذاته موجبة لها لامتناع كون الذات القديمة الموجبة بذاتها لآثارها موجبة للحوادث فلا يكون ممكنا من فعل الحوادث إلا بشريك وأما القائلون بالحدوث فلهم قولان أحدهما قول من يقول الأول لم يزل فاعلا للحوادث شيئا بعد شيء فعلى هذا تكون ذاته مستلزمة للفعل مع كون الأفعال والمفعولات حادثة شيئا بعد شيء ليس فيها ما هو قديم ومن غير أن يكون له شريك وإذا كان فعله للثاني موقوفا على فعله الأول مع أنه هو فاعل للجميع لا يفتقر في ذلك إلى غيره لم يكن في ذلك مفتقرا إلى شيء غيره والقول الثاني قول من يقول أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فهؤلاء يقولون أنه فعل لمجرد قدرته أو لقدرته أو لمشيئته أو قدرته وداعيه لا يقولون أن فعله متوقف على موجود غيره وإذا قالوا أنه موقوف على انقضاء الأول لم يكن هذا الانقضاء مفتقرا عندهم إلى سبب وجودي فتبين أنهم على كل واحد من القولين أبعد عن الشرك من الفلاسفة وهؤلاء الفلاسفة ليس معهم قط دليل يدلهم على قدم شيء من العالم ولا أن الخالق قارنه شيء من مخلوقاته ولكن غاية ما معهم أنه لم يزل فاعلا وإثبات نوع الفعل لا يستلزم إثبات فعل معين ولا مفعول معين

فقولهم بقدم الأفلاك أو مادة الأفلاك أو العقول والنفوس أو غير ذلك ليس لهم عليه حجة أصلا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتكلمنا على جميع ما ذكر في هذا الباب وأنه ليس في شيء منها ما يقتضي قدم شيء من العالم وهذا منتهى نظر العقلاء في هذا المقام ولهذا ذكر أبو عبد الله الرازي في خاتمة كتابه المسمى بالأربعين المسألة الأربعون وهي خاتمة الكتاب في ضبط المقدمات التي يكون الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية وختم ذلك بأن قال واعلم أن هنا مقدمتين يفرع المتكلمون والفلاسفة أكثر مباحثهم عليها المقدمة الأولى مقدمة الكمال والنقصان كقولهم هذه الصفة من صفات الكمال فيجب إثباتها لله عز وجل وهذه الصفة من صفات النقصان فيجب نفيها عن الله عز وجل وقال: "وأكثر مذاهب المتكلمين مفرعة على هذه المقدمة"

إلى أن قال: "وأما المقدمة الثانية فهي مقدمة الوجوب والإمكان وهذه المقدمة في غاية الشرف والعلو وهي غاية عقول العقلاء قالوا الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب وذلك الواجب لا بد وأن يكون واجبا في ذاته وفي صفاته إذ لو كان ممكنا لافتقر إلى مؤثر آخر". وتكلم على المقدمة الأولى قال والمقدمة الثانية وجوبه في جميع صفاته السلبية والثبوتية قالوا والدليل على أن الأمر كذلك أن ذاته إن كفت في تحقق تلك الصفة وجب دوامها بدوام الذات وإن لم تكف افتقرت ذاته في تلك الصفة إلى أمر آخر ولا بد في الآخر من الانتهاء إلى الواجب بذاته فيعود ما ذكرناه من أنه يلزم من دوام ذاته دوام تلك الصفة. قال ثم إن الفلسفي يقول ما لأجله كان مؤثرا في غيره إما أن يكون هو ذاته أو لوازم ذاته فيلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته ودوام أثره والمتكلم يقول لما وجب في

الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فالفيلسوف يستدل بحال المؤثر على حال الأثر والمتكلم يستدل بحال الأثر على حال المؤثر وهي المعركة الكبرى والطامة العظمى في هذا الموضع قلت مقدمة الكمال والنقصان أشرف من مقدمة الوجوب والإمكان كما قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه لقائل أن يقول كل من المتكلم والمتفلسف لو أعطي تمام الهداية لعلم أن ما دل عليه العقل موافق لما أخبرت به الرسل ولما دل عليه الدليل الآخر العقلي فإن أدلة العقول لا تتناقض في نفسها ولا تناقض ما أخبرت به الرسل فيقال للمتفلسف أتعني بقولك يلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته في شيء معين كالأفلاك أو غيرها وكذلك تعني أنه يلزم دوام أثر معين كالأفلاك أو غيرها أو تعني به دوام مؤثريته في كل شيء أم تعني دوام مطلق التأثير والأثر فإن عنيت الاول لم يكن قولك صحيحا من وجوه أحدها أن هذا الدليل لا يستلزم دوام تأثير في أثر معين وإنما يستلزم دوام مطلق التأثير ومطلق الأثر وعلى هذا التقدير فإذا قيل لم يزل الله موصوفا بصفات

الكمال حيا متكلما إذا شاء فعالا أفعالا تقوم به أو مفعولات محدثة شيئا بعد شيء أعطي هذا الدليل موجبه ولم يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه ولا دوام شيء منها كما تقوله أنت في حركات الفلك والحوادث الأرضية فإنك تقول نوع الحوادث دائم باق لا أول له فليس فيها شيء بعينه قديم فهي كلها محدثة وإن كانت الأحداث لم تزل وإذا قلت مثل هذا في فعل الواجب كنت قد وفيت بموجب هذا الدليل ولم تخالف شيئا من أدلة العقل ولا الشرع الوجه الثاني أن يقال لو كان مؤثريته في شيء معين من لوازم ذاته دون غيره من الموجودات لم يكن التأثير في غيره من لوازم ذاته فيلزم أن يكون من التأثير ما ليس من لوازم ذاته في الأزل فكان من التأثير ما هو حادث ليس بقديم وحينئذ فإن كان ذلك بدون أن تقوم بذاته أمور متعاقبة أمكن أن يقال ذلك في جميع العالم فلا يكون شيء منه قديما وإن كان لا بد من قيام أمور متعاقبة أمكن أن يكون كل ما صدر عنه حادثا بعد أن لم يكن بهذا السبب من غير قدم شيء من العالم الوجه الثالث أن كون الفاعل فاعلا لشيء مع كونه قديما بقدمه جمع بين النقيضين كما ذكره المتكلمون وأما كون الموجب لكونه فاعلا ذاته ولوازم ذاته فذلك لا يقتضي أن يكون فاعلا لشيء معين كما لا يقتضي أن يكون فاعلا لكل شيء وأما إن أريد مؤثريته في كل شيء فيقال محال أن يكون

اللازم دوام مؤثريته التامة وأثره كله فإن هذا لو كان حقا لم يحدث شيء في هذا العالم فحدوث الحوادث دليل على أنه لا يلزمه آثاره كلها وليست المؤثرية التامة المستلزمة الآثار ثابتة في الأزل بل تحدث عنه الأثار فيكون مؤثرا في هذا الحادث ثم في هذا الحادث وقد تقدم أنه لو لزم دوام الآثار لم يكن في العالم تغير أصلا وإن قلت بل اللازم دوام مطلق التأثير فيقال ليس في هذا ما يقتضي قدم شيء من العالم بل كونه فاعلا للشيء يقتضي كون المفعول له مسبوقا بالعدم ودوام كونه فاعلا لا يناقض ذلك وحينئذ فليس مع الفلسفي ما يوجب قدم شيء من العالم وأما قول المتكلم لما وجب في الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فيقال له أوجب في كل مفعول معين وكل فعل معين أن يكون مسبوقا بالعدم أم أوجب في نوع الفعل فإن قلت بالأول فلا منافاة بين أن يكون كل من الأفعال والمفعولات مسبوقة بالعدم مع دوام نوع المؤثرية والأثر وأذن ما دل عليه دليل العقل لا يناقض ما دل عليه ذلك

الدليل الآخر العقلي ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال ومسألة الكلام والخطاب. واعلم أن أولي الألباب هم سلف الأمة وأئمتها المتبعون لما جاء به الكتاب بخلاف المختلفين في الكتاب المخالفين للكتاب الذين قيل فيهم {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وحينئذ فالرب تعالى أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجدا له وكل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادث ولا يلزم من ذلك أن يكون نفس كماله الذي يستحقه متجددا بل لم يزل عالما قادرا مالكا غفورا متكلما كما شاء كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف. فإن قال أن نوع الفعل يجب أن يكون مسبوقا بالعدم قيل له من أين لك هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه ولا في المعقول ما يرشد إليه وهذا يستلزم أن يصير الرب قادرا على نوع الفعل بعد أن لم يكن قادرا عليه فإنه إن لم يزل قادرا أمكن وجود المقدور فإن كان المقدور ممتنعا ثم صار ممكنا صار الرب قادرا بعد أن لم يكن وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء ولا تجدده فإن الأزل ليس هو شيئا معينا بل هو عبارة عن عدم الأولية كما أن الأبد عبارة عن عدم الآخرية فما من وقت يقدر إلا والأزل قبله لا إلى غاية كما قال النبي صلى الله عليه

وسلم في الحديث الصحيح: "أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء"

مقالة الرازي في السر المكتوم

ومما ينبغي أن يعلم أن الرازي وأتباعه مضطربون في هذه الحجة وأمثالها فتارة يكونون مع أهل الكلام وتارة يكونون مع الفلاسفة ولهذا يحتج بهذه الحجة في كتابه الذي صنفه في السحر ودعوة الكواكب وعبادة الأصنام المبنية على ذلك وقال فيه هذا ملخص ما وصل إلينا من علم الطلسمات والسحريات والعزائم ودعوة الكواكب مع التبري عن كل ما يخالف الدين ويثلم اليقين قال في المقالة الأولى في تقرير الأصول الكلية لهذا العلم وفيه فصول الفصل الأول في تحديد الطلسمات وتحقيق الكلام فيها على الوجه الكلي الطلسم علم بأحوال تمزيج القوى الفعالة السماوية والقوى المنفعلة الأرضية لأجل التمكن من إظهار ما يخالف العادة والمتع مما يوافقها قال وتحقيق الكلام فيه يستدعي بيان مقامين أحدهما

إثبات القوى الفعالة السماوية وتقريره أن الحوادث الحادثة في هذا العالم العنصري لا بد لها من أسباب وأسبابها إما أن تكون حادثة وإما أن تكون قديمة فإن كانت حادثة افتقرت إلى أسباب أخرى ولزم التسلسل وذلك محال لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في وجود كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال لأن ذلك المجموع ممكن وحادث بمجموعه وبكل واحد من أجزائه وكل ممكن محدث فله سبب مغاير له فاذن ذلك المجموع مفتقر لمجموعه ولكل واحد من أجزائه لمجموع الممكنات أجزاء ذلك المجموع ليس بممكن ولا حادث فإذن ثبت انتهاء جميع الممكنات إلى موجود واجب الوجود فقد بطل القول بالتسلسل وإذا ثبت انتهاء جميع الممكنات والمحدثات إلى سبب قديم واجب الوجود فنقول ذلك القديم إما أن يكون كل ما لا بد منه في مؤثريته حاصلا في الأزل أو ليس كذلك ويدخل في هذا القسم قول من يقول انه إنما خلق هذا الحادث في هذا الحين لأن خلقه فيه أصلح من خلقه في حين آخر

ولأن خلقه كان موقوفا على حضور وقت معين أو محقق أو مقدر فإنه على جميع هذه الأقوال صح القول بأن كل ما لا بد منه في مؤثريته في حدوث ذلك الحادث ما كان حاصلا في الأزل فأما إن قلنا إن كل ما لا بد منه في هذه المؤثرية كان حاصلا في الأزل لزم أن يكون الأثر واجب الترتيب عليه في الأزل لأن الأثر لو لم يكن واجب الترتيب عليه فهو إما ممتنع الترتيب عليه وإما ممكن الترتيب عليه فإن كان ممتنع الترتيب عليه فليس هو بمؤثر أصلا وقد فرضناه مؤثرا هذا خلف وإن كان ممكن الترتيب عليه وممكنا أن لا يترتب عليه أيضا فلنفرضه تارة مصدرا لذلك الأثر بالفعل وأخرى غير مصدر له بالفعل لأن كل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال وامتياز الحين الذي صار المؤثر فيه مصدر الأثر بالفعل عن الحين الذي لم يصر كذلك إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أولا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل انضمام القيد إليه تاما في المؤثرية وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن لم يتوقف فقد ترجح الممكن من غير مرجح ألبتة وتجويزه يسد باب الاستدلال بالممكن على المرجح وأما إن قلنا أن كل ما لا بد منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل فإن استمر ذلك السبب أبدا وجب ألا يصير ألبتة مؤثرا لكنا فرضناه مؤثرا فيما لا يزال هذا خلف فإن كان بسبب نقلنا الكلام إلى كيفية حدوثه ويلزم التسلسل فهو على وجهين أحدهما أن يكون التسلسل واقعا في أسباب ومسببات يكون مجموعها موجودا دفعة واحدة

وذلك مما أبطلناه الثاني أن يكون التسلسل واقعا على وجه يكون واحد منها مسبوقا بآخر لا إلى بداية وأول ذلك هو المتعين فإنه لما بطل جميع الأقسام إلا هذا القسم تعين هو للمصير إليه وتقريره أن يقال ذلك المؤثر القديم الواجب لذاته فياض أيضا لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر حتى يكون انقضاء المتقدم شرطا لفيضان المتأخر عنه وبهذا الطريق يصير المبدأ الأول مبدأ الحوادث المتغيرة قالوا ولهذا مثال في الحركات الطبيعية وفي الحركات الإرادية أما الحركات الطبيعية فلأن المدرة المرمية إلى فوق تعود بسبب ثقلها إلى الأرض فالموجب لتلك الحركة من أول المسافة إلى آخرها هو ذلك الثقل إلا أن ذلك الثقل إنما أوجب انتقال الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث لأن الحركة السابقة أوصلته إلى الثاني فكان حصول الجزء الأول من الحركة وانقضاؤه شرطا لإمكان أن يصير ذلك الثقل مؤثرا في حركة الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث وهكذا القول في جميع الأجزاءالتي في الحركة وأما في الحركة الإرادية فلأن من أراد الذهاب إلى زيارة صديق له فتلك الإرادة هي المؤثرة في حركة البدن من ذلك المكان إلى مكان ذلك الصديق إلا أن تأثير تلك الإرادة في إيجاد الخطوة الثانية مسبوق بحصول الخطوة الأولى وانقضائها وعلى هذا الطريق فإن كل خطوة سابقة فهي

شرط لإمكان تأثير تلك الإرادة في حصول اللاحقة وعلى هذا الترتيب إلى آخر المسافة فثبت أنه لا بد من توسط حركة سرمدية دائمة بين المبدأ الأول وبين هذه الحوادث وهذه الحركة الدائمة يمتنع أن تكون مستقيمة وإلا لزم القول بوجود أبعاد غير متناهية وهو محال فإذن لا بد من جرم متحرك بالاستدارة وهو الفلك. فثبت أن حركات الأفلاك هي المبادىء القريبة للحوادث الحادثة في هذا العالم فكان الفلك جرما بسيطا والنسب بين صفة الأجزاء المتشابهة متشابهة والأمور المتشابهة في تمام الماهية لا يمكن أن تكون عللا للأمور المختلفة فوجب أن تكون في أجرام الأفلاك أجرام مختلفة الطبائع وتكون تلك الأجرام بحيث تختلف نسبها وتشكلاتها حتى يمكن أن تكون تلك التشكلات هناك مبادىء لحدوث الحوادث المختلفة في هذا العالم والأجرام المختلفة الطبائع المركوزة في أجرام الأفلاك هي الكواكب فثبت أن المبادىء القريبة لحدوث الحوادث في عالم الكون والفساد هي اتصالات الكواكب. قال الرازي: ثم إن القائلين بهذا المذهب وهم الفلاسفة والصابئة قالوا بربوبيتة هذه الكواكب واشتغلوا بعبادتها واتخذوا لكل واحد هيكلا مخصوصا وصنما معينا واشتغلوا بخدمتها وساق الكلام إلى آخره قلت فهذا غاية تقرير أصل هؤلاء ومطلوبهم في هذا التقرير وهو مع هذا يدل على نقيض مطلوبهم لمن فهم حقيقة مقدمات هذه الحجة إذ ثبوت المؤثر التام في الأزل

ممتنع فإن الأزل ليس وقتا بعينه ولكنه عبارة عن نفي الأولية وهو الدوام الذي لا ابتداء له فلو كان لم يزل مؤثرا تاما والتام هو المستلزم لأثره لم يزل كل شيء موجودا قديما وهو خلاف المشاهدة فعلم أنه صار مؤثرا في الحوادث بعد أن لم يكن مؤثرا فيها وحينئذ فإذا قيل لم يزل مؤثرا في حادث بعد حادث وعنى بالمؤثر هذا لم يدل هذا على قدم شيء من العالم بل هذا يقتضي انقضاء مدة وأن المؤثرية المعتبرة في حدوث الحوادث ما كانت موجودة من الأزل هذا نقيض ما طلبوه في ذلك التقدير فإنهم طلبوا أن تكون جميع الأمور المعتبرة في التأثير موجودة في الأزل ليكون العالم مقارنا له وقد بينا أن هذا ممتنع وأنه يمتنع وجود المؤثر التام في الأزل لأن ذلك يستلزم امتناع حدوث الحوادث كما قرروه هنا ونحن نبين بطلان استدلالهم على قدم العالم على هذا التقدير الآخر فقولهم لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال فيقال هذا بعينه يدل على حدوث ما سوى الله تعالى فإنه لا بد عند كل حادث من وجود المؤثر التام فيجب أن تكون

مجموع الأمور المعتبرة في تأثير كل حادث موجودة عند ذلك الحادث وحينئذ فالحادث الأول لا بد أن يكون شرطا في وجود الثاني حتى يوجد بعده سببا به يصير المؤثر مؤثرا وهؤلاء يقولون المؤثر القديم باق على حال واحدة ولكن الحادث الأول شرط في الثاني فلا يوجبون أن يكون عند كل امر حادث مؤثره التام موجودا لأن كل ما يعتبر في التأثير فهو داخل في المؤثر التام فلا بد أن تكون شروط التأثير موجودة عند التأثير وهؤلاء يجعلون شرط التأثير سابقا على وجود الأثر ليس بمقارن له فهذا الأصل مما يدل على نقيض قولهم وأيضا فقوله فإن كان حدوث الحادث بسبب لزم التسلسل على وجه التعاقب كما ذكره فيقال هذه الحجة تتضمن أن المؤثر القديم الواجب لذاته فياض لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر وذلك يقتضي أن يكون هو الذي يحدث الحوادث المتعاقبة فتكون صادرة عنه فلا يحدث الثاني حتى يحدث الأول فإذا كان إحداثه الثاني مشروطا بإحداثه الأول امتنع أن يكون موجبا بذاته وعلة تامة مستلزمة لمعلولها لأن الموجب لا يتأخر عنه موجبه والعلة لا يتأخر عنها معلولها وإذا لم يكن موجبا بذاته كان فعله لما يفعله بمشيئته وقدرته وكان تأثيره في كل واحد من الحوادث حاصلا بعد أن لم يكن مؤثرا فيه

وحينئذ فالمحدث لكمال ذلك التأثير لا يجوز أن يكون غيره لأن كل ما سواه مفعول له وإحداثه لذلك الغير هو من جملة إحداثاته فلا يجوز أن يكون ما به صار الخالق فاعلا مؤثرا هو أمرا يستفيده من غيره بل هو بنفسه الخالق لكل شيء والأفعال المتقدمة المشروطة في المفعولات المتأخرة هي أفعاله لا أفعال غيره فلو كان هو نفسه لم يفعل شيئا بنفسه بل الحوادث تحدث منفصلة عنه شيئا بعد شيء وهو نفسه لم يفعل بنفسه شيئا لزم ألا تكون تلك الحوادث صادرة عنه فإنه كل واحد من أجزاء الحركة حادث فلا بد له من سبب حادث والمتحرك جسم ممكن فما يحدث فيه من الاسباب المقتضية للحركة كالتصورات والإرادات المتعاقبة هي أيضا حادثة فيه شيئا بعد شيء وهو نوع حركة أيضا والفاعل لذلك يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبة بذاتها لمعلولها فإن ذلك لو كان كذلك لم يصدر عنها شيء من تلك الحركات والحركات حادثة ممكنة فلا بد لها من فاعل ونفس الجسم الذي هو متحرك دائما لا يجوز أن يكون موجبا بذاته علة تامة في الأزل مستلزمة لمعلولها لأن من معلولها الحركة التي توجد شيئا بعد شيء وتلك لا يكون المستلزم لها أزليا فإنه يلزم أن يكون أزليا وذلك تناقض لا سيما مع كثرة الحركات والحوادث واختلاف أنواعها فصدور الأمور الحادثة المختلفة عن علة تامة بسيطة مستلزمة لمعلولها ممتنع في بدائه العقول سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة

وهؤلاء يقولون أن الواجب بذاته بسيط ليس له صفة ثبوتية ولا فعل قائم به ويقولون أنه علة تامة مستلزمة لمعلولها فكان لازم قولهم أنه لا يصدر عنه إلا واحد بسيط قديم وكذلك عن الصادر عنه فلما تيقن وجود الكثرة المختلفة الحادثة كان هذا مناقضا لقولهم وفضلاؤهم معترفون بهذا كما بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وهذا الكلام يدل على أمور تدل على امتناع حدوث الحوادث عن علة تامة فإن قولهم بحدوثها عن علة تامة قول باطل كيفما كان ويدل على أن محدث الحوادث لا يكون إلا فاعلا تقوم به الأفعال وكما أنه يدل على إبطال حجتهم على القدم فيدل أيضا على حدوث العالم من وجه آخر وذلك أن يقال العالم كله بما فيه من الأجسام والأعراض والعقول والنفوس إن قدر أنها خارجة عن الأجسام والأعراض بل كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون خاليا عن الحوادث المتعاقبة كالجسم الساكن وإما أن يكون متضمنا لها كالجسم المتحرك وكل من الأمرين يمتنع قدمه لانه لو كان شيء من العالم قديما لكان صادرا عن موجب بالذات وعلة تامة أزلية باتفاق العقلاء وهو معلوم بالدليل العقلي فإنه إذا كان قديما فإن كان فاعله فاعلا بغير قدرة ومشيئته فهو موجب بذاته وإن كان فاعلا بقدرته ومشيئته فإن كان الفاعل بالقدرة والاختيار لا يقارنه شيء من مفعولاته امتنع أن يكون مفعوله مقارنا

له فامتنع قدم مفعوله وإن قيل أنه يمكن أن يقارنه شيء من مفعولاته فهو مثل الموجب بذاته لكن هذا موجب بذاته مع مشيئته وقدرته والمقصود أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون فاعله مستلزما له لا يجوز أن يكون فاعله ممن يتراخى عنه مفعوله فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه وإما أن يجوز فيه الأمران فلو كان العالم قديما لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله لأن ذلك جمع بين النقيضين كيف يكون مفعوله قديما أزليا ويكون متأخرا عنه حادثا بعد أن لم يكن فتعين أن يكون فاعله إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجوز فيه الأمران والثاني باطل أيضا فإنه إذا جاز أن يقترن به المفعول وجاز ألا يقترن كان وجود المفعول ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والقول في هذا المرجح كالقول في غيره إن كان فاعله مستلزما له كان مقارنا له فيلزم مقارنة الأول له فإن لم تجب مقارنته له كان ممكنا مفتقرا إلى مرجح آخر وهلم جرا فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مرجح تام مستلزم لمفعوله فتبين أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون مبدعه مرجحا تاما مستلزما لمفعوله سواء عبر عنه بالعلة التامة

أو المؤثر التام أو المرجح التام وسواء قيل أنه يفعل بدون قدرة وإرادة أو بقدرة وإرادة مستلزمة لمرادها أو غير ذلك من الأمور التي يجب معها أن يكون صادرا عن فاعل مستلزم لمفعوله وإذا كان قدمه مستلزما للمؤثر التام فوجود المؤثر التام في الأزل ممتنع وذلك لأن أثره إن كان خاليا عن الحوادث وأثر أثره كذلك لزم ألا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف الحس سواء قيل إن ذلك الأثر هو العقول التي لا حركة فيها أو قيل هو أجسام ساكنة فعلى التقديرين إذا كان الصادر عنه لا حادث فيه لزم أن يكون الصادر عن الصادر لا حادث فيه وإلا لزم صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه وهذا هو القسم الثاني وهو أن يكون أثره متضمنا للحوادث وهذا أيضا ممتنع لأن تلك الحوادث هي أيضا من الصادر عنه وإما أن يقال هي لازمة لذلك المحل أو عارضة له حادثة بعد أن لم تكن وكلاهما ممتنع أما الثاني فلأن حدوثها بعد أن لم تكن هو أمر حادث فلا بد له من سبب حادث والتقدير أن الفاعل لم يحدث عنه سبب حادث فامتنع ابتداء الحوادث بلا سبب حادث وإن قيل أنه مستلزم للحوادث وهو قولهم كما في الفلك قيل ما كان مستلزما للحوادث امتنع وجوده بدونها فالمبدع له لا بد أن يبدع الحوادث اللازمة له التي هي شرط

في وجوده والعلة التامة يمتنع أين يصدر عنها حادث فإن العلة التامة الأزلية معلولها معها قديم والحادث لا يكون قديما وإن قيل صدر عنها حادث بعد حادث لم يكن في الأزل علة تامة لشيء بل هي علة تامة لكل حدث حال حدوثه فتبين أن العلة التامة الأزلية لا يصدر عنها لاحادث معين ولا نوع الحوادث وإن قيل هي علة تامة للنوع قيل النوع لا يوجد إلا متعاقبا فيكون تمامها متعاقبا لا أزليا وذلك إنما يكون بما يقوم بها شيئا بعد شيء فأما أن يكون تمامها لمفعولها من غير فعل يقوم بها فهو ممتنع وهو مستلزم لأن يكون المخلوق مؤثرا في الخالق بدون فعل يقوم بالخالق يؤثر به في المخلوق وأيضا فصدور الحوادث والمختلفات عن بسيط لا يقوم به فعل ولا صفة ممتنع في بدائه العقول وأيضا فمقارنة المفعول لفاعله ممتنعة وأيضا فإن الحادث متأخر والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها وإذا كان صدور الحوادث اللازمة التي هي شرط ممتنعا وصدور الملزوم بدون اللازم ممتنع امتنع صدور العالم كله لازمه وملزومه وهوالمطلوب ونكتة الدليل أن قدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع موجبا بذاته وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع فقدم العالم ممتنع

فالقول بالعلة التامة يقتي بطلان القول بقدم العالم المستلزم للحوادث وإنما كان القول بذلك ممكنا لو كان المعلول غير مستلزم للحوادث وغير قابل للحوادث وإن كان ذلك ممتنعا من وجه آخر كامتناع مقارنة المفعول لفاعله يوضح هذا انه إذا قال القائل قد يكون علة تامة للأفلاك وليس علة تامة لحركات الأفلاك بل يصدر عنه شيء بعد شيء قيل صدورها شيئا بعد شيء عن علة تامة ممتنع فلا بد أن يكون قد قامت به أحوال اوجبت حدوث تلك الحركات فلا يكون علة تامة لشيء من الحركات وإذا لم يكن علة تامة لشيء من الحركات لم يكن علة تامة لما يستلزم الحركات لأنه إذا كان علة لها بدون الحركات لزم أن تكون مقارنة له خالية عن الحركات والتقدير أنها مستلزمة للحركات فيلزم اجتماع النقيضين وإن قيل انه يستلزم حركة واحدة منها قيل الحركات الدائمة الأزلية لا يتعين فيها شيء دون شيء بل لم تزل ولا تزال أفرادها متعاقبة فيمتنع أن يكون علة تامة لواحد منها دون الآخر في الأزل مع أنه ليس فيها شيء أزلي بعينه ويمتنع أن يكون علة تامة لجميعها في

الأزل لامتناع وجودها في الأزل فامتنع أن يكون علة تامة لشيء من الحركات الأزلية فالحركة التي توجد شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة أزلية كيفما قدر الأمر فإذا كان القديم مستلزما للحركة إما لحركة فيه كالفلك وإما لحركة لازمة له معلولة كما يقولونه في العقل امتنع أن تكون العلة الموجبة موجبة له دون الحركة اللازمة وامتنع أن يكون موجبا للحركة اللازمة فامتنع أن يكون موجبا له على التقديرين فامتنع قدم العالم أو شيء من العالم وهو المطلوب وهذا برهان شريف على حدوث ما سوى الله مطلقا وهو مبنى على المقدمات الصحيحة التي تسلمها الفلاسفة وغيرهم فإن الموجب بالذات لا بد أن يقارنه موجبه بالاتفاق وأما الفاعل بالاختيار فهل يجب مقارنة مراده لإرادته أو يمتنع ذلك فيها أو يجوز الأمران على ثلاثة أقوال للناس وعلى كل تقدير فإنه يجب حدوث كل ما سوى الله أيضا فإنه إن قيل بوجوب مقارنة مراده له امتنع أن تكون إرادته لشيء معين أزلية فإنه يكون مستلزما له في الازل ويكون القول فيه كالقول في الموجب بالذات وقد تبين امتناع الموجب بالذات في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من مراده أزليا فإن قيل بوجوب تأخر مفعوله لزم حدوث مراده وإن

قيل بجواز الأمرين فحدوث المراد بعد أن لم يكن يقتضي سببا حادثا والقول فيه كالقول في الأول فامتنع حدوث شيء عنه إلا بسبب حادث وحدوث الحادث عن إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع وقدم العالم بدون إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع فثبت حدوثه وحاصل الأمر أن مقارنة المراد للإرادة أن قيل أنها واجبة ألحقت بالقسم الأول وإن قيل بأنها ممتنعة اقتضت حدوث العالم وأما القول بأنه يمكن مقارنة مفعوله له ويمكن تأخره عنه في الواجب الوجود فهذا لم يقله طائفة معروفة لأن المعتزلة الذين يقولون أن الممكن لا يقف على المرجح التام المستلزم لمقتضاه بل يكفي فيه القادر الذي له أن يرجح وألا يرجح يقولون أنه يجب تأخير مفعول القادر عن الازل وأما من يقول أن الممكن يقف على المرجح المستلزم لمقتضاه كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون الفاعل يمكن أن يوجد فعله وأن لا يوجد ويكون فاعلا مع إمكان الطرفين بل أن تمت أسباب الفعل وجب المفعول وإن لم تتم أسبابه امتنع المفعول فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والممكن باعتبار غيره أما واجب بغيره أو ممتنع لغيره فإن حصل المقتضى التام كان واجبا وإن لم يحصل كان ممتنعا فتبين أنه ليس في العقلاء المعروفين من يقول أن المفعول القديم يصدر عن فاعل يجوز أن يتأخر عنه مفعوله بل

هم متفقون على ما قام عليه الدليل من أنه لو كان قديما لكان فاعله مستلزما لمفعوله لكن العالم مستلزم للحوادث وصدور الحوادث والمستلزم للحوادث عن الفاعل المستلزم لمفعوله محال وإذا قدر أنه اوجب العالم ثم أحدث فيه الحوادث كان ذلك أيضا ممتنعا لأنه يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك ممتنع كما تقدم وإن شئت قلت إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزا أمكن حدوث العالم وبطل القول بوجوب قدمه وإن كان ممتنعا بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي فبطل قول الفلاسفة بوجوب قدمه على التقديرين وبطلت حجتهم على قدمه وهذا كما تقول إن كان تسلسل الحوادث ممتنعا لزم حدوثه وإن كان ممكنا أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله فبطلت الحجة الدالة على قدم شيء منه وبطل القول بوجوب ذلك على التقديرين وهذه الطريق فيها تقرير حدوث كل شيء من العالم من غير احتياج إلى جعل الرب قادرا بعد أن لم يكن أو فاعلا بعد أن لم يكن وهي موافقة لمذهب السلف والأئمة ليس فيها ابطال أفعال الله القائمة به ولا ابطال صفاته ولا تعطيله عن الأفعال وصفات الكمال ولا إثبات حادث بلا سبب حادث ولا ترجيح الممكن بلا مرجح فهي جامعة للأدلة العقلية السليمة عن المعارض والنصوص السمعية المزكية لما دل عليه العقل ومبينة أن الرب لم يزل ولا يزال

موصوفا بصفات الكمال كما وصفه أئمة السنة من أنه لم يزل متكلما إذا شاء لم يزل حيا فاعلا أفعالا تقوم به لم يزل قادرا وكل ما سواه مخلوق له حادث عنه وأن حدوث الأشياء عنه شيئا بعد شيء فليس فيها شيء كان معه ولا قارنه بوجه من الوجوه والله أعلم فهذا مما يدل على حدوث كل واحد واحد من العالم وليس هذا موضع بسطه وإنما تكلمنا هنا في فساد حجتهم التي هي عمدتهم ذكرنا أن قولهم يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل وتسلسل العلل وذلك ممتنع بصريح العقل وبموافقة المنازعين وما ذكرناه من البراهين يتبين بالبرهان الثالث وإن كان فيما تقدم تنبيه عليه وهو أن يقال العلة التامة لا بد أن تكون موجودة عند وجود المعلول لا قبله وهم يسلمون ذلك فيلزم أن يكون لكل حادث علة تامة موجودة عند وجوده فلو كان الحادث الأول الذي حدث قبله هو تمام العلة لكان جزء العلة موجودا قبل المعلول فلا تكون علته التامة موجودة عند حدوثه بل يلزم من ذلك حدوث الحوادث بشرط متقدم على وجودها وإذا جاز وجود الموجودات بفاعل متقدم على وجودها وشرط حادث قبل وجودها لم يجب أن يكون لها علة تامة فلا يكون لشيء من الحوادث علة تامة بحيث تكون جميع أجزائها حاصلة عند وجوده فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث علة تامة بطل أن يكون لها محدث وذلك ممتنع

فإن قيل لم لا يجوز تمام العلة للحادث الثاني عدم الأول وهذا العدم مقارن للحادث الثاني قيل لأن العدم إذا لم يستلزم أمرا وجوديا لم يكن جزءا من علة الموجود فإن العدم لا تأثير له اصلا في وجود بخلاف الماشي في الأرض فإنه كلما قطع مسافة تجدد له قدرة وإرادة لقطع المسافة الثانية والاول إذا قيل أنه يفعل شيئا بعد شيء بذاته يقتضي كمال فاعليته لكل مفعول عند وجوده وذاته فعلها للأول أمر وجودي ووجود الثاني مع الأول الذي يضاده ممتنع وعدم الممتنع يقتضي كمال القدرة المقارنة للفعل بخلاف ما إذا قيل أن حال الذات مع الحادث الأول والثاني واحد ولم يتجدد منها ولا من غيرها ما يقتضي كمال فاعليتها للثاني عند وجوده وتبين هذا بالبرهان الرابع وهو أن الحادث الثاني إذا كان مشروطا بالحادث الأول الذي هو موجود قبله والواجب الوجود أيضا موجود قبله وهو علة تامة أزلية كان هذا متناقضا فإنه على الأول يلزم أن يكون كل ما به تصير الحوادث موجودة موجودا قبلها ولا يكون شيء من المحدث لها حادثا معها وهذا يمنع أن يكون لشيء من الحوادث علة إذ العلة يجب مقارنتها للمعلول فضلا عن أن يكون لها علة أزلية فتبين أن إثبات العلة التامة يناقض هذا القول المتضمن حدوث الحوادث بشروط متقدمة عليها وهو أيضا يناقض القول بحدوث تمام العلل مع حدوث المعلومات

إذ لو كان حادثا معها لزم أن يكون تمام علة كل حادث حادثا معه فلا يكون للحوادث علة تامة أزلية مع أن حدوث تمام العلل ممتنع على هذا التقدير فإنه يستلزم وجود حوادث متسلسلة في آن واحد من غير محدث إذ لم يكن هناك إلا علة تامة أزلية وهذا أيضا مما يوافقون على امتناعه وهو يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل فتبين أن القول بالعلة التامة الأزلية باطل سواء قيل إن شرط حدوث الحادث موجود قبله أو موجود معه وحدوث الشروط علىالتقديرين عن العلة التامة ممتنع فتبين امتناع حدوث كل واحد من الحوادث وشروطها عن العلة التامة الأزلية على كل تقدير والقول بالقدم يستلزم العلة التامة الأزلية وما استلزم الباطل فهو باطل وكل من العالم مقارن لشيء من الحوادث فإذا ظهر امتناع حدوث الحوادث عن العلة التامة الأزلية تبين امتناع قدم شيء من العالم لأنه لا يوجد إلا مع حادث ووجود ذلك عن العلة التامة الأزلية محال لا سيما وهم يقولون كل من الحوادث تمام علة حادث قبله فليس لشيء منها علة تامة مقارنة له وإنما الذي يقارنه جزء العلة وهو السبب الدائم الذي يتوقف فيضه على حدوث هذا الحادث فلا يحدث الثاني حتى ينقضي الأول وذلك السبب ليس هو علة تامة لشيء من الحوادث لا احداثه للثاني مقارنا لوجود الأول وليس عند حدوث شيء من الحوادث علة تامة أصلا فتبين أنهم يقولون في الحقيقة أن الحوادث لا تحدث عن علة تامة فضلا عن أن تكون أزلية

وهذه الوجوه من تدبرها وفهمها علم فساد مذهب القوم بالضرورة وأن صانع العالم يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبا بذاته بل يجب أن يكون فاعلا للأشياء شيئا بعد شيء وهذا لا يكون إلا إذا فعل بمشيئته وقدرته وهو المطلوب واعلم أن هذا كلام المتأخرين منهم كابن سينا وأمثاله وهو خير من كلام متقدميهم كأرسطوطاليس فإن أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة الذى هو غاية حكمتهم وعلمهم إنما اعتمد في إثبات العلة الأولى على الحركة الشوقية فإنه لما قرر أن حركة الفلك شوقية إرادية وأن المتحرك بالشوق والإرادة لا بد أن يكون له مراد وهو محبوبه ومطلوب وجب ان يكون هناك علة غائية هي المحبوب المعشوق المراد وقالوا أن الفلك يتحرك للتشبه بها كتحريك المؤتم بإمامه ثم قد يقولون إن الفلك يتشبه بالمبدأ الأول وقد يقولون يتشبه بالعقل والعقل يتشبه بالأزل

وهذا التقدير إنما يثبت وجود علة غائية لا يثبت وجود علة فاعلية فيقال هب أن الحركة إرادية وأن الحركة الإرادية لا بد لها من محبوب مراد فما السبب المحدث الفاعل لتلك الحركة الإرادية الشوقية فإن كان الفلك واجب الوجود بذاته لم يكن هذا قولهم وكان باطلا من وجهين أحدهما أن واجب الوجود بذاته لا يكون مفتقرا إلى غيره لا إلى علة فاعلية ولا غائية فإذا جعلت له علة غائية يحتاج إليها في إرادته وحركته لم يكن مستغنيا بنفسه عنها فلا يكون واجبا بذاته الثاني أنه إذا جاز أن يكون الفلك واجبا بذاته أمكن أن يكون هو العلة الغائية لحركته كما أنه هو العلة الفاعلة لحركته وقد بسط الكلام على فساد قولهم في غير هذا الموضع وأما ابن سينا وأتباعه فإنهم عدلوا عن هذه الطريق وسلكوا طريقة مركبة من طريق المتكلمين وطريق هؤلاء الفلاسفة فقالوا الموجود إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا والممكن لا بد له من واجب كما يقول المتكلمون الموجود إما محدث وإما قديم والمحدث لا بد له من قديم

فلا بد من موجود واجب قديم ثم إنه أثبت أن الأفلاك ممكنة بناء على أنها أجسام والجسم مركب والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا بنفسه كما يقول المعتزلة الأجسام محدثة لأن الأجسام مركبة والمركب لا بد له من مركب فلا يكون قديما وجعلوا هذا عمدة في نفى صفات الله تعالى وهؤلاء أخذوا لفظ المركب بالاشتراك فإن المركب إذا أريد به ما ركبه غيره أو ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمع أو ما يقبل التفريق امتنع أن يكون واجبا بنفسه وقديما وأما إذا أريد به الموصوف بصفات الكمال اللازمة كالعلم والقدرة ونحوهما لم يلزم من ذلك أن يكون محدثا ولا ممكنا يقبل العدم كما قد بسط في غير هذا الموضع ولفظ الافتقار والجزء والغير ألفاظ مجملة فيراد بالغير ما يباين غيره وعلى هذا فالصفة اللازمة لا يقال أنها غير الموصوف ويراد بالغير ما ليس هو الآخر وعلى هذا فالصفة غير الموصوف وواجب الوجود بنفسه يمتنع أن يفتقر إلى أمر مباين له ولكن لا يمتنع أن يكون مستلزما لصفات الكمال التي يمتنع أن تفارقه وتسمية الصفة اللازمة جزءا تلبيس وتسمية استلزام الموصوف لصفته واستلزام الصفة للموصوف افتقارا تلبيس أيضا كما قد بسط في غير هذا الموضع وهؤلاء القوم من أسباب ظهور كلامهم وظلال كثير من الناس به أنهم يحتجون على طوائف أهل القبلة بما

يشاركونهم فيه من المقدمات الضعيفة المبتدعة فلا يزالون يلزمون صاحب ذلك القول بلوازم قوله حتى يخرجوه من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين فإن الحسنة تدعو إلى الحسنة والسيئة تدعو إلى السيئة كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه:"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا" وقال بعض السلف أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها

مقالة الباطنية والمتفلسفة في نفي الصفات

والإنسان قد يعتقد صحة قضية من القضايا وهي فاسدة فيحتاج أن يعتقد لوازمها فتكثر اعتقاداته الفاسدة ومن هذا الباب دخلت القرامطة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم على طوائف المسلمين فإن هؤلاء قالوا للمعتزلة ألستم قد وافقتمونا على نفي الصفات حذرا من التشبيه والتجسيم فقالوا نعم فقالوا وهذا المحذور يلزمكم في إثبات أسماء

الله تعالى له فإذا قلتم هو حي عليم قدير كان في هذا تشبيه له بغيره ممن هو حي عليم قدير وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له لأنه لا يعرف مسمى بهذه الأسماء إلا جسم كما لا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا جسم فأخذوا ينفون أسماء الله الحسنى ويقولون ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير ثم اقتصر بعضهم على نفي الإثبات فقال لهم الصنف الآخر إذا قلتم ليس بموجود ولا بحي ولا عليم ولا قدير فقد شبهتموه بالمعدوم كما أن في الإثبات تشبيها بالموجود فيجب أن يقال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء يقولون في أنفسهم أنهم من أذكى الناس وأفضلهم وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم فإنه يقال لهم أولا سلبتم النقيضين والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فكما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين وكما يمتنع أن يقال في شيء واحد أنه موجود معدوم يمتنع أن يقال ليس بموجود ولا معدوم وأما إثبات سلب الحياة والموت والعلم والجهل والكلام والخرس فقد يقولون أن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ويفرقون بين هذا وبين هذا بأن سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له هو العدم وتقابله الملكة كسلب العلم والسمع والبصر عن الحيوان بخلاف سلب ذلك عن الجماد قالوا فالحيوان

يقال له أعمى أصم أبكم إذا عدم عنه ما من شأنه أن يقبله بخلاف الجماد فإنه لا يقال له أعمى أصم أبكم لأنه لا يقبل ذلك وحينئذ فلا يلزم من سلب الحياة والعلم والقدرة والكلام عن واجب الوجود أن يكون موصوفا بما يقابل ذلك من الموت والجهل والعجز والخرس إلا أن يكون قابلا لذلك وهذا ممنوع أو غير معلوم وهذه الشبهة قد أضلت خلقا من أذكياء المتأخرين حتى الآمدي وأمثاله وهي باطلة من أوجه: أحدها أن يقال إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك وإما ألا يكون قابلا لذلك فإن لم يكن قابلا لذلك كان ذلك أعظم في النقص من كونه قابلا لذلك غير متصف به فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى وإذا كان اتصافه بكونه أعمى أصم أبكم ممتنعا مع كون المتصف بذلك أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بهذا وبضده علم أن كونه غير قابل للاتصاف بذلك أعظم في نقصه وإذا كان ذلك ممتنعا فهذا أعظم امتناعا فامتنع أن يقال أنه غير قابل للاتصاف بصفات الكمال وإذا كان قابلا للاتصاف بذلك تقابلا تقابل العدم والملكة باصطلاحهم فإن لم يتصف بالحياة والعلم والقدرة لزم اتصافه بالموت والعجز والجهل وهذا ممتنع بالضرورة فنقيضه حق الوجه الثاني أن يقال كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه

عنه لأن الموجود الواجب القديم أكمل من الموجود الممكن والمحدث ولأن كل كمال في المفعول المخلوق هو من الفاعل الخالق وهم يقولون كمال المعلول من كمال العلة فيمتنع وجود كمال في المخلوق إلا من الخالق فالخالق أحق بذلك الكمال ومن المعلوم بضرورة العقل أن المعدوم لا يبدع موجودا والناقص لا يبدع ما هو أكمل منه فإن النقص أمور عدمية ولهذا لا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورا وجودية وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه كما قال تعالى {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} فنزه نفسه عن السنة والنوم لأن ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية وكذلك قوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} يتضمن كمال القدرة وقوله {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} يتضمن كمال العلم وكذلك قوله {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فمعناه على قول الجمهور لا تحيط به ليس معناه لا تراه فإن نفي الرؤية يشاركه فيه المعدوم فليس هو صفة مدح بخلاف كونه لا يحاط به ولا يدرك فإن هذا يقتضي أنه من عظمته لا تدركه الأبصار وذلك يقتضي كمالا عظيما تعجز معه الأبصار عن الإحاطة فالآية دالة على إثبات رؤيته ونفي الإحاطة به نقيض ما تظنه الجهمية من أنها دالة على نفي رؤيته الوجه الثالث أن يقال الكمال الذي لا نقص فيه بوجه

من الوجوه الممكن للموجود إما أن يكون ممكنا للواجب وإما أن يكون ممتنعا عليه فإن كان ممتنعا عليه لزم أن يكون الموجود غير قابل للكمال فإن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب إذا لم يقبل الكمال فالممكن أولى ونحن قد ذكرنا الكمال الممكن للموجود الذي لا نقص فيه فيمتنع أن يكون الكمال الممكن للموجود غير ممكن للموجود وإذا كان ذلك ممكنا له فإما أن يكون لازما أو يكون جائزا فإن كان لازما له ثبت أن الكمال الممكن للموجود لازم للقديم تعالى واجب له وهو المطلوب وإن كان جائزا كان مفتقرا في حصوله إلى غيره وحينئذ فذلك الغير أكمل منه لأن معطي الكمال أكمل من الآخذ له وذلك المعطي إن كان مخلوقا له لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق وأيضا فشرط إعطائه الكمال اتصافه بصفات الكمال والكمال إنما يستفيده من الكامل فيمتنع أن يكون معطيا له لئلا يلزم الدور في الفاعلين والعلل الفاعلة فإنه ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء وإن كان الغير ليس مخلوقا له كان واجب الوجود بنفسه وحينئذ فإن كان متصفا بصفات الكمال بنفسه فهو الرب الخالق والأول مفعول له ليس له من نفسه صفات الكمال فهو عبد لا رب وإن لم يكن متصفا بصفات الكمال بنفسه بل هذا يستفيد الكمال من هذا وهذا يستفيده من هذا كان هذا دورا ممتنعا وهذا من أعظم ما يحتج به على توحيد الربوبية وأنه

يمتنع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إما أن يكون كل منهما فاعلا لجميع العالم وهذا ممتنع بالضرورة فإنه إذا كان هذا فاعلا للجميع لم يكن الآخر فاعلا لشيء منه فضلا عن أن يكون فاعلا لجميعه فلو كان هذا فاعلا لجميعه وهذا فاعلا لجميعه كان كل منهما فاعلا غير فاعل وإن كانا متشاركين فإن كان كل منهما قادرا حين الانفراد لزم امتياز مفعول كل منهما عن الآخر فذهب كل إله بما خلق ولهذا كل مشاركين فلا بد أن يكون فعل كل منهما مميزا عن الآخر وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا لزم أن يقدر أحدهما على فعل العالم حين قدرة الآخرة عليه فيلزم كون كل منهما قادرا على فعله كله حال قدرة الآخر على فعله كله وهذا ممتنع كما تقدم فامتنع أن يكون أحدهما قادرا على فعله حال قدرة الآخر على فعله كما هو المعروف في القادرين على تحريك شيء ولا يقدر أحدهما على تحريكه إلا حال ما لا يكون الآخر محركا له فإذن لا يكون احدهما قادرا إلا عند تمكين الآخر له فلا يكون أحدهما قادرا إلا بأقدار الآخر له فلا يكون قادرا حال الانفراد وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا حال الانفراد أمكن أن يفعل ضد مفعول الآخر وأن يريد خلاف مراده مثل أن يريد هذا تحريك جسم والآخر تسكينه فيمتنع وجود المرادين جميعا لامتناع اجتماع الضدين فيلزم تمانعهما

فلا يكون واحد منهما قادرا فثبت أنه يمتنع كون كل منهما قادرا حين الانفراد وإن لم يكن واحد منهما قادرا إلا عند الاجتماع كان كل منهما مؤثرا في جعل الآخر قادرا فلا يكون هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له ولا هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له فيلزم كون كل منهما مؤثرا في الآخر وهذا هو الدور في الفاعلين والعلل وهو ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه كثيرة فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع فكيف يكون فاعلا لفاعله ولأن الفاعل متقدم بذاته على المفعول فيلزم تقدم هذا بذاته على هذا وهذا بذاته على هذا فيلزم تقدم الشيء على نفسه بدرجتين والدور كما هو ممتنع في المؤثر فهو ممتنع في تمام كونه مؤثرا كما أن التسلسل لما امتنع في المؤثر امتنع في تمام كونه مؤثرا وهذا بخلاف الدور المعي في الآثار فإنه جائز باتفاق العقلاء وأما التسلسل في الآثار ففيه نزاع مشهور وهذه الأمور كلها مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود هو واجب لواجب الوجود لازم له لا يجوز أن يكون ممتنعا عليه مع كونه ممكنا للموجود فلا يجوز أن يكون ممكن الوجود والعدم لأنه حينئذ يفتقر في اتصافه به إلى غيره لأنه إما أن يكون كل منهما معطيا للآخر الكمال وإما أن يكون هذا الثاني هو المعطي فإن كان هذا فذلك الغير المتصف بصفات

الكمال هو حينئذ الرب الكامل المعطي لغيره الكمال وإن كان الأول لزم كون كل منهما معطيا للآخر صفات الكمال وهو يقتضي كون كل منهما مؤثرا في الآخر مثل أن يكون كل منهما فاعلا للآخر عالما قادرا حيا وذلك دور ممتنع كما تبين فثبت أن اتصافه بصفات الكمال أمر لازم له يمتنع زواله عنه وهو المطلوب الوجه الرابع أن يقال لهؤلاء قولكم أن هذين يتقابلان تقابل العدم والملكة اصطلاح اصطلحتموه وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتا وميتا قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} فسمى الأصنام الجامدات أمواتا وتسمى الأرض مواتا كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"

الوجه الخامس أن يقال كل عين من الأعيان تقبل الحياة فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء الوجه السادس أن يقال هب أنكم لا تسمونه ميتا ولا جاهلا ولا عاجزا لكن يجب أن يقال ليس بحي ولا عالم ولا قادر ونفس سلب هذه الصفات فيه من النقص ما في قولنا ميت وجاهل وعاجز وزيادة ولهذا كان نقص الجماد أعظم من نقص الأعمى فكل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة الوجه السابع أن يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارا من التشبيه فإن اقتصرتم على نفي الأثبات شبهتموه بالمعدوم وإن نفيتم الأثبات والنفي جميعا فقلتم ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالمتنع فأنتم فررتم من تشبيهه بالحي الكامل فشبهتموه بالحي الناقص ثم شبهتموه بالمعدوم ثم شبهتموه بالممتنع فكنتم شرا من المستجير من الرمضاء بالنار وهذا لازم لكل من نفى شيئا مما وصف الله به نفسه لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات الكمال الثابتة لله

مقالة اللا أرداية السوفسطائية

ومن هؤلاء طائفة ثالثة تقول نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فلا ننفي النقيضين بل نسكت عن هذا وهذا فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم لا بهذا ولا بهذا فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم

ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه وهؤلاء من جنس السوفسطائية المتجاهلة اللاأدرية

الذين يقولون لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهل يمكن العلم أو لا يمكن فإن السفسطة أنواع أحدهما قول هؤلاء الثاني قول أهل التكذيب والجحود والنفي الذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها والثالث الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان في حقه ثابتا ومن نفاه كان في حقه منتفيا ولا يجعلون للحقائق أمرا هي عليه في أنفسها والصنف الرابع قول من يقول الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته وإما لغير ذلك وهذه الأنواع الأربعة موجودة في هؤلاء الملاحدة فمنهم الواقفة المتجاهلة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي ومنهم المكذبة الذين ينفون ومنهم من يجعل الحقائق تتبع العقائد كما يحكى عن طائفة تصوب كل واحد من القائلين للأقوال المتناقضة وكما يقوله من يقوله من أصحاب الوحدة ابن عربي ونحوه بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها حتى قال:

عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا أعتقدت جميع ما عقدوه وأما الرابع فهو منتهى قول أئمة الجهمية وهو الحيرة والشك لتكافؤ الأدلة عند بعضهم أو لعدم الدليل المرشد عند بعضهم وهذا عند أصحاب الوحدة هو أعلى العلم بالله تعالى والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على مجامع الأقوال ومنشأ الضلال حيث أخذوا الفظ التشبيه بمعنى مشترك مجمل فأرادوا نفيه بكل معنى من المعاني ومن المعلوم أنه ما من موجودين إلا وبينهما قدر يتفقان فيه وإن كان المعنى الكلي المشترك وجوده في الاذهان لا في الأعيان فلا بد أن يكون بين أفراد الاسم العام الكلي نوع من المشابهة باعتبار اتفاقهما في ذلك المعنى العام وهذا موضع غلط فيه كثير من الناس في أحكام الأمور الكلية التي تشتبه فيها أعيانها منهم من يجعل الكلي ثابتا في الخارج كليا ومنهم من يقول أفراده لم تتفق إلا في مجرد اللفظ وهي مسألة الأحوال التي اضطرب فيها كثير من الناس والتحقيق

أنه لا بد من تشابه في الخارج ومعنى كلي عام في الذهن من غير أن يكون في الخارج على أو شيء لا موجود ولا معدوم فيقال لهؤلاء التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه بل يمتنع أن يشترك مخلوقان في شيء موجود في الخارج بل كل موجود في الخارج فإنه مختص بذاته وصفاته القائمة به لا يشاركه غيره فيها ألبتة وإذا قيل هذان يشتركان في كذا كان حقيقته أن هذا يشابه هذا في ذلك المعنى كما إذا قيل هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية أو يشارك هذا الحيوان في الحيوانية فمعناه أنهما يتشابهان في ذلك المعنى وإلا فنفس الإنسانية التي لزيد لا يشاركه فيها غيره وإنما يشتركان في نوع الإنسانية المطلقة لا في الإنسانية القائمة به

والإنسانية المشتركة المطلقة هي في الأذهان لا تكون في الأعيان مشتركة مطلقة فما هو موجود في الخارج لا اشتراك فيه وما وقع فيه الاشتراك هو الكلي المطلق الذي لا يكون كليا مطلقا إلا في الذهن فإذا كان المخلوق لا يشاركه غيره فيما له من ذاته وصفاته وأفعاله فالخالق أولى أن لا يشاركه غيره في شيء مما هو له تعالى لكن المخلوق قد يماثل المخلوق ويكافئه ويساميه والله سبحانه وتعالى ليس له كفؤ ولا مثيل ولا سمي وليس مطلق الموافقة في بعض الأسماء والصفات الموجبة نوعا من المشابهة تكون مقتضية للتماثل والتكافؤ بل ذلك لازم لكل موجودين فإنهما لا بد أن يتفقا في بعض الأسماء والصفات ويشتبها من هذا الوجه فمن نفى ما لا بد منه كان معطلا ومن جعل شيء من صفات الله مماثلا لشيء من صفات المخلوقين كان ممثلا والحق هو نفي التمثيل ونفي التعطيل فلا بد من إثبات صفات الكمال المستلزمة نفى التعطيل ولا بد من إثبات اختصاصه بما له على وجه ينفي التمثيل ولكن طائفة من الناس يجعلون التمثيل والتشبيه واحدا ويقولون يمتنع أن يكون الشيء يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما

لم يشتبها من وجه وكل مشتبهين كالأجسام عندهم يقولون بتماثلها فإنها مماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينهما إلا في أمور عارضة لها وهؤلاء يقولون كل من أثبت ما يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مشبه ممثل وهذه طريقة كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيره وأما جمهور الناس فيقولون أن الشيء قد يشبه غيره من وجه دون وجه وهذا القول هو المنقول عن السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره ولهذا ينكر هؤلاء على من ينفي مشابهة الموجود للموجود من كل وجه ويقولون ما من موجودين إلا وأحدهما يشبه الآخر من بعض الوجوه فالصفات نوعان: أحدهما صفات نقص فهذه يجب تنزيهه عنها مطلقا كالموت والعجز والجهل والثاني صفات كمال فهذه يمتنع أن يماثله فيها شيء وكذلك ما كان مختصا بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به فلا يوصف الرب بشيء من النقائص ولا بشيء من خصائص المخلوق وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص وأما صفات الكمال الثابتة له فيمتنع أن يماثله فيها شيء من الأشياء

وبهذا جاءت الكتب الإلهية فإن الله تعالى وصف نفسه فيها بصفات الكمال على وجه التفصيل فأخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور ودود سميع بصير إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وأخبر أنه ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد وقال تعالى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فأثبت لنفسه ما يستحقه من الكمال بإثبات الأسماء والصفات ونفى عنه مماثلته المخلوقات ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات إثبات بلا كمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقوله ليس كمثله شيء رد على أهل التمثيل وقوله وهو السميع البصير رد على أهل التعطيل وهؤلاء نفاة الأسماء من هؤلاء الغالية من الجهمية الباطنية والفلاسفة وإنما استطالوا على المعتزلة بنفي الصفات وأخذوا لفظ التشبيه بالاشتراك والإجمال كما أن المعتزلة فعلت كذلك بأهل السنة والجماعة مثبتة الصفات فلما جعلوا إثبات الصفات من التشبيه الباطل ألزمهم أولئك بطرد قولهم فألزموهم نفي الأسماء الحسنى والأمر بالعكس فإن إثبات الأسماء حق وهو يستلزم إثبات الصفات فإن إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر

بلا قدرة كإثبات متحرك بلا حركة ومتكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومصل بلا صلاة ونحو ذلك مما فيه إثبات اسم الفاعل ونفى مسمى المصدر اللازم لاسم الفاعل ومن أثبت الملزوم دون اللازم كان قوله باطلا وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم والجسم مركب في اصطلاحهم وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب

نفي الفلاسفة للصفات بنفي مسمى التركيب

وبالغت ملاحدة الفلاسفة في نفي الصفات بنفي مسمى التركيب فقالوا التركيب خمسة أنواع وكلها يجب نفيها عن الله الأول التركيب من الوجود والماهية فلا يكون له حقيقة سوى الوجود المطلق بشرط الاطلاق لأنه لو كان له حقيقة مغايرة لذلك لكانت موصوفة بالوجود وحينئذ فيكون الوجود الواجب لازما ومعلولا لتلك الحقيقة فيكون الواجب معلولا الثاني التركيب من العام والخاص كتركيب النوع من الجنس والفصل وهذا يجب نفيه الثالث التركيب من الذات والصفات وهذا يجب نفيه وهذه الثلاث تركيبات في الكيفية

الرابع التركيب في الكم وهو تركيب الجسم من أبعاضه إما من الجواهر المفردة وهو التركيب الحسي وأما من المادة والصورة وهو التركيب العقلي وهذان النوعان هما الرابع والخامس وقد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع لكنا ننبه هنا على بعضه فنقول هذه الأمور ليست تركيبا في الحقيقة وبتقدير أن تكون تركيبا كما تدعونه فلا دليل لكم على نفيها بل الدليل يقتضي إثبات المعاني التي سميتموها تركيبا فهذه مقامات ثلاث أولها أن نقول لا دليل لكم على نفي هذه المعاني التي سميتموها تركيبا وذلك أن عمدتهم في نفي التركيب أنهم يقولون أن المركب مفتقر إلى جزئه وجزء غيره وواجب الوجود لا يكون مفتقرا إلى غيره وهذا الكلام اعتمد عليه ابن سينا وأتباعه كالرازي وغيره وبنوا عليه النفي والتعطيل وهو من أبطل الكلام وذلك بأن يقال لفظ التركيب يحتمل معان متجددة بحسب الاصطلاحات فيقال المركب لما ركبه غيره كما قال تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ويقال ركبت الباب في موضعه ونحو ذلك وهذا هو مفهوم المركب في اللغة وقد يقال المركب لما كان متفرقا فجمع كجمع الأغذية والأدوية المركبة

وقد يقال المركب لما يمكن تفريق بعضه عن بعض كأعضاء الإنسان وإن لم يعهد له حال تفريق في الابتداء وقد يقال المركب لما يشار إليه كالشمس والفلك قبل أن يعلم جواز الانفكاك عنه وقد يقال المركب لما جاز أن يعلم منه شيء دون شيء كما يعلم كونه قادرا قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا وإذا كان كذلك فمعلوم أنهم إذا قالوا أن أثبات الصفات تستلزم التركيب لم يريدوا به الأول والثاني فإن أثبات الصفات لازم لله تعالى فيمتنع زوال صفات الكمال عنه ويمتنع أن يجوز عليه خلاف الصمدية كالتفرق ونحوه فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وكذلك إذا قالوا المركب مفتقر إلى أجزائه فلفظ الجزء قد يعني به ما جمع إلى غيره حتى حصلت الجملة كالواحد من العشرة وكجزء الطعام والثياب وقد يعني بالجزء ما كان بعضا لغيره وإن لم يعلم انفراده عنه أو لم يمكن انفراده عنه وقد يدخلون في هذه الحياة اللازمة للحي والعلم اللازم للعالم كما يقولون الحيوانية والناطقية جزءا الإنسان وهما نعتان لازمان له لا يمكن وجوده بدونهما وكذلك لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى علته والمصنوع إلى صانعه ويراد به افتقار الصفة إلى محلها الذي تقوم به وقد يعني به التلازم وهو استلزام الموصوف لصفات كماله

وكذلك لفظ الغير قد يراد به المباين للشيء وقد يعني به ما يعلم الشيء بدونه ولهذا لما تنازع الناس في صفات الله تعالى بل في صفة كل موصوف وبعض كل مجموع هل يقال أنه غير له أم لا فقالت طائفة صفة الموصوف وبعض الجملة ليس غيرا له لأنه لا يوجد إلا به وقال بعضهم بل هو غير له لأنه يمكن العلم به دونه كان هذا نزاعا لفظيا فامتنع السلف والأئمة أن يطلقوا على صفات الله كلامه وعلمه ونحو ذلك أنه غير له أو أنه ليس غيره ولهذا لما سألوا الإمام أحمد في مناظرتهم له في المحنة وأمر المعتصم قاضيه عبد الرحمن بن إسحق أن يناظره سأله فقال ما تقول في القرآن أهو الله أم غير الله عارضه الإمام أحمد بالعلم فقال ما تقول في علم الله أهو الله أم غير الله فسكت وذلك أنه إن قال القائل لهم القرآن هو الله كان خطأ وكفرا وإن قال غير الله قالوا فما كان غير الله فهو مخلوق فعارضهم الإمام أحمد بالعلم فإن هذا التقسيم وارد عليه ولا يجوز أن يقال علم الله مخلوق ومما يبين ذلك أن النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقد ثبت عنه أنه حلف بعزة الله والحلف بعمر الله ونحو ذلك من صفاته فعلم أن الحالف بصفاته ليس حالفا بغيره ولو كانت الصفة يطلق عليها القول بأنها غيره لكان الحلف بها حلفا بغيره وإذا قال القائل الحالف بصفته حالف به لأن الصفة تستلزم الموصوف وهو المقصود باليمين قيل لهم فلهذا لم يدخل في إطلاق القول بأنها غير الله فعلمه لازم له وملزوم له وكلامه لازم له وملزوم له والصفة داخلة في مسمى الموصوف فإذا قال القائل عبدت الله وذكرت الله ونحو ذلك فاسم الله متضمن لصفاته اللازمة لذاته فإذا قيل أنها غير الله فقد يفهم منه أنها خارجة عن مسمى اسمه وهذا

باطل ولهذا قد يقال أنها غير الذات ولا يقال أنها غير الله لأن لفظ الذات يشعر بمغايرته للصفة بخلاف اسم الله تعالى فإنه متضمن لصفات كماله وقولنا أنه مغاير للذات لا يتضمن جواز وجوده دون الذات فإنه ليس في الخارج ذات منفكة عن صفات ولا صفات منفكة عن ذات بل ذلك ممتنع لنفسه ومن قال من أهل الأثبات أن له صفات زائدة على ذاته فحقيقة قوله أنها زائدة على ما أثبته المثبت من الذات حيث أقر بذات ولم يقر بصفاتها وإلا ففي الخارج ليس هناك ذات منفكة عن صفات حتى يقال أن الصفات زائدة عليها بل لفظ الذات في الأصل تأنيث ذو كقوله {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وهي تستلزم الإضافة ولكن المتكلمون قطعوه عن الإضافة وعرفوه فقالوا الذات وحقيقته التي لها صفات فحيث قيل لفظ الذات كان مستلزما للصفات ويستحيل وجود ذات منفكة عن الصفات في الخارج وفي العقل وفي اللغة ومن قدر ذاتا بلا صفات فهو تقدير محال كما يقدر سواد ليس بلون وعلم بلا عالم وعالم بلا علم ونحو ذلك من الأمور الممتنعة وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذه الحجة التي ينفون بها الصفات ويعتمدون على نفي مسمى التركيب هي مبنية على ألفاظ مجملة مشتركة موهمة فإذا قالوا إثبات الصفات تركيب

والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه قيل لهم إن أردتم بالغير غيرا مباينا له فهذا باطل وإن أردتم ما هو داخل في مسمى اسمه كان حقيقة قولكم المركب لا يوجد إلا بوجود جزئه والمجموع لا يوجد إلا بوجود بعضه والجملة لا توجد إلا بوجود أفرادها ومن المعلوم أن القائل إذا قال الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه كان هذا صحيحا وكذلك إذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في نفسه مما يسمى صفات وأجزاء ونحو ذلك فإذا قيل أن هذا يقتضي افتقاره إلى غيره كان من المعلوم أن هذا دون افتقاره إلى نفسه فإن نفسه إذا كانت لا توجد إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بوجود ما يدخل في نفسه أولى وإذا قيل لم يوجد إلا بنفسه لم يمنع هذا أن يكون واجبا بنفسه وإذا قيل لا يوجد إلا بوجود ما هو داخل في مسمى نفسه كان هذا اولى أن لا يمنع كونه واجبا بنفسه لأن الافتقار إلى المجموع أعظم من الافتقار إلى الجزء ومن افتقر إلى مجموع العشرة كان افتقاره أبلغ من افتقار من افتقر إلى واحد من العشرة فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بالمجموع ولا يمنع هذا أن يكون المجموع مفتقرا إلى نفسه فلأن لا يمنع كون المجموع مفتقرا إلى فرد من أفراده أولى وأحرى وإذا قيل جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره ممكن بنفسه قيل إن أريد بذلك أن المفتقر إلى المباين له ممكن بنفسه

فليس هذا مورد كلامنا وإن أريد أن المفتقر إلى ما يدخل في نفسه ممكن بنفسه كان هذا ممنوعا بل كان معلوم الفساد بالضرورة فإن افتقاره إلى ما يدخل في نفسه ليس بأعظم من افتقاره إلى نفسه وإذا كان هو موجود بنفسه بمعنى أنه لا يفتقر إلى مباين له لم يلزم من هذا ألا تفتقر نفسه إلى نفسه فكذلك لا يلزم ألا تفتقر إلى ما يدخل في مسمى نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه فله معينان أحدهما أنه مفتقر إلى أن يفعل نفسه ونحو ذلك فهذا ممتنع لذاته فإن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه والعلم بذلك ضروري وإن أريد بذلك أن نفسه لا تكون إلا بنفسه ولا تستغني عن نفسه ويمتنع وجود نفسه بدون نفسه فهذا صحيح لا بد منه وإذا قيل هو مفتقر إلى ما يدخل في نفسه سواء سمي صفة أو جزءا أو غير ذلك قيل أتريد به أن ذلك الجزء يكون فاعلا له أو ما يشبه هذا فهذا ممتنع باطل ولا يقوله عاقل وإن أردت بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بوجود ذلك وأنه يمتنع وجوده بدونه ونحو ذلك كان ما يقدر في هذا دون ما يقدر في نفسه وإذا كان لا توجد نفسه إلا بنفسه فأن لا يوجد إلا بما يدخل في نفسه بطريق الضرورة وإذا كان ذلك أمرا واجبا لا محذور فيه فهذا بطريق الأولى وإذا كان تقدير استغناء نفسه عن نفسه يوجب عدمه فكذلك تقدير وجوده بدون ما هو داخل في مسمى نفسه مما هو لازم له يوجب عدمه بالحقيقة

فهذه الأمور التي نفوها عن الوجود الواجب توجب عدمه وامتناعه ولهذا كانوا من أعظم الناس تناقضا حيث وصفوا واجب الوجود بممتنع الوجود ولهذا جعلوه وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما صرح بذلك ابن سينا وأتباعه وهم قد قرروا في منطقهم اليوناني ما هو معلوم بصريح العقل أن المطلق بشرط الإطلاق إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالإنسان المطلق بشرط الإطلاق والجسم المطلق بشرط الإطلاق والحيوان المطلق بشرط الإطلاق وهذا قصدوا به التمييز بين هذا وبين الوجود الذي هو موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم وهو العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه فإن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وقائم بنفسه وقائم بغيره ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فكان هذا الوجود يعم القسمين الواجب والممكن وهذا هو المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي فجعلوا أحد القسمين وهو الواجب هو المطلق بشرط الإطلاق وكذلك جعل العدم المحض هو المميز للوجود الواجب عن الممكن يوجب كون العدم المحض فصلا أو خاصة وهذا أيضا باطل فإن الأمرين المشتركين في الوجود لا يكون المميز لأحدهما عن الآخر إلا أمرا وجوديا ولو قدر أنه عدمي لكان الواجب

قد امتاز بأمر عدمي والممكن امتاز بوجودي والوجود أكمل من العدم فيكون كل ممكن مخلوق على قول ابن سينا أكمل من الموجود الواجب القديم لأنهما اشتركا في الوجود وتميز الرب بعدم الأمور الثبوتية وتميز المخلوق بأمور وجودية وهذا الكلام عندهم هو غاية التوحيد والتحقيق والحكمة وهو غاية التعطيل والكفر والجهل والضلال وذلك أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهم يسلمون هذا ويقررونه في منطقهم ويقولون الكلي ثلاثة أنواع الكلي الطبيعي والمنطقي والعقلي فالطبيعي هو الحقيقة المطلقة كالإنسانية والحيوانية وأما المنطقي فهو ما يعرض لهذه من العموم والكلية والعقلي هو المركب منهما وهو الطبيعي بشرط كونها كلية فهذا العقلي لا يوجد إلا في الذهن وكذلك المنطقي وأما الطبيعي فيقولون أنه موجود في الخارج لكن لا يوجد إلا معينا مشخصا ويقولون أنه جزء المعين وأن الماهية في الخارج زائدة عن الوجود الثابت في الخارج ويذكرون عن أصحاب أفلاطن أنهم أثبتوا الكلي العقلي في الخارج مجردا عن الأعيان وشنعوا عليهم تشنيعا عظيما ومن قال إن الرب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق ويردون على أصحاب أفلاطن الذين أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان ويقولون هي ثابتة في الأذهان لا في الأعيان وعند هؤلاء بتقدير ثبوت هذه الكليات في الخارج

فلا بد أن تكون لها أعيان ثابتة في الخارج مجردة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق لكان كليا شاملا عاما وله أعيان ثابتة في الخارج بالضرورة ويكون متناولا للواجب والممكن كتناوله للقديم والحادث والجوهر والعرض وكتناول سائر المعاني الكلية أفرادها سواء سميت جنسا أو نوعا او فصلا أو خاصة أو عرضا عاما فيمتنع أن تكون هذه الكليات العامة هي الأعيان الموجودة الداخلة فيها ولذلك إذا قدر أن المطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي موجود في الخارج فإنه لا يوجد إلا معينا والمعين ليس هو المطلق غايتهم أن يقولوا هو جزء منه أو صفة له فيلزم أن يكون رب العالمين جزءا من المخلوقات أو صفة لها وهؤلاء غلطوا من وجهين من جهة ظنهم أن في الخارج أمورا مطلقة كلية وليس كذلك بل ما يتصوره الذهن مطلقا كليا يوجد في الخارج لكن يوجد معينا مختصا والثاني أنه لو قدر أن في الخارج مطلقا كليا فلا ريب أن كل موجود معين مشخص مختص مميز عن غيره وليس هذا هو هذا ولا وجود هذا وجود هذا فكيف يكون وجودها وجود رب العالمين فلا بد على كل تقدير من إثبات موجود واجب بنفسه مغاير لهذا المطلق سواء قيل بوجود الكليات المطلقة المفارقة للأعيان كما يقوله أصحاب أفلاطن أو قيل

بأنها لا توجد إلا مقارنة ملازمة للأعيان كما يقوله أصحاب أرسطو وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود لما قال من قال منهم أنه الوجود المطلق كابن سبعين والقونوي وأمثالهما قال من قال منهم كالقونوي أنه المطلق لا بشرط ليكون موجودا في الخارج وهذا باطل أيضا فإن الموجود المطلق لا بشرط يتناول القسمين الواجب والممكن فيكون الممكن داخلا في مسمى واجب الوجود وهم إنما فرقوا بينهما بناء على أن وجود الممكن زائد على حقيقته وهو باطل وأن الواجب إنما يتميز بقيود سلبية والسلوب لا تكون مميزة عندهم بل لا يحصل التمييز في الموجودين إلا بأمور وجودية ولأن المطلق عند من يقول بوجوده في الخارج جزء من المعين فيكون رب العالمين جزءا من كل مخلوق ولأن الخارج لا يوجد فيه كلي ولا مطلق إلا معينا مشخصا ولكن ما هو كلي في الأذهان يكون موجودا في الأعيان لكن معينا ومشخصا وأيضا فهؤلاء الذين يقولون إن واجب الوجود مطلق أو مقيد بالأمور السلبية كابن سينا وأهل الوحدة وغيرهم هم في الحقيقة لا يثبتون له حقيقة

ولا صفة ولا قدرا الموجود لا بد له من حقيقة تخصه مستلزمة لصفته وقدره فهم من أعظم الناس تعطيلا للخالق وجحودا له وإن كانوا يعتقدون أنهم يقرون به وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع والرسل عليهم صلوات الله جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل وهؤلاء ناقضوهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فإن الرسل أخبرت كما أخبر الله في كتابه الذي بعث به رسوله أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه حكيم عزيز غفور ودود وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا وأنه أنزل على عبده الكتاب إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وقال في النفي والتنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} وهؤلاء الملاحدة جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل فقالوا في النفي ليس بكذا ولا كذا ولا كذا فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا له كلام يقوم به ولا له حياة ولا علم ولا قدرة ولا غير ذلك ولا يشار إليه ولا يتعين ولا هو مباين للعالم ولا حال فيه ولا داخلة ولا خارجة إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم ثم قالوا في الإثبات هو وجود مطلق أو وجود مقيد

بالأمور السلبية وقالوا لا نقول موجود ولا معدوم أو قالوا هو لا موجود ولا معدوم فتارة يرفعون النقيضين وتارة يمتنعون من إثبات أحد النقيضين ثم تارة يسلكون هذا المسلك في نفي الموجود وتارة فيما يوصف به الموجود من الحياة والعلم والقدرة والكلام وسائر الصفات فنفوا الحقيقة وصاروا يعبرون عن المعاني الثبوتية بأنها تركيب كما تقدم وقد ذكرنا أن تسمية هذا تركيبا أمر اصطلحوا عليه وإلا فإثبات هذه المعاني لا يسمى في اللغة المعروفة تركيبا فإن المركب لا يعقل إلا فيما ركبه مركب وهذا المعنى ممتنع فيما هو موجود بنفسه غني عن كل ما سواه وهو الفاعل لكل ما سواه وكل ما سواه مخلوق له فإذا قدر أنه متصف بصفات متعددة لم يكن أحد ركبه ولا ركبها فيه والناس قد تنازعوا في الأجسام المخلوقة كالكواكب والفلك والهواء والماء وغير ذلك فقيل هي مركبة من الجواهر المنفردة وقيل مركبة من المادة والصورة ومنه من فرق بين الجسم الفلكي والعنصري والصواب عند محققي الطوائف أنها ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا وهذا قول أكثر أهل الطوائف أهل النظر مثل الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وطائفة من الكرامية وغيرهم وقد تنازع الناس في الجسم هل يقبل القسمة إلى غاية

محدودة هي الجوهر الفرد أو يقبل القسمة إلى غير غاية أو يقبل القسمة إلى غاية من غير إثبات الجوهر الفرد على ثلاثة أقوال والثالث والصواب فإن إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل القسمة باطل بوجوه كثيرة إذ ما من موجود إلا ويتميز منه شيء عن شيء وإثبات انقسامات لا تتناهى فيما هو محصور بين حاصرين ممتنع لامتناع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى وامتناع انحصاره فيه لكن الجسم كالماء يقبل انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر فلا يبقى ما ينقسم ولا ينقسم إلى غير غاية بل يستحيل عند تصاغره فلا يقبل الانقسام بالفعل مع كونه في نفسه يتميز منه شيء عن شيء وليس كل ما تميز منه شيء عن شيء لزم أن يقبل الانقسام بالفعل بل قد يضعف عن ذلك ولا يقبل البقاء مع فرط تصاغر الاجزاء لكن يستحيل إذ الجسم الموجود لا بد له من قدر ما ولا بد له من صفة ما فإذا ضعفت قدره عن اتصافه بتلك الصفة انضم إلى غيره إما مع استحالة إن كان ذلك من غير جنسه وإما بدون الإستحالة إن كان من جنسه كالقطرة الصغيرة من الماء إذا صغرت جدا فلا بد أن تستحيل هواء أو ترابا أو أن تنضم إلى ماء آخر وإلا فلا تبقى القطرة الصغيرة جدا وحدها وكذلك سائر الأجزاء الصغيرة جدا من سائر الأجسام

وهذا مبسوط في موضعه ولكن نبهنا عليه هنا لأن هذه الأمور هي مبدأ الاشتباه والتنازع والاضطراب في هذه الأبواب فإذا كان ما ادعوه من التركيب الحسي في الأجسام المشهدوة باطلا فكيف في الأمرو الغائبة التي لا تعلم حقيقتها فكيف بما يدعونه من التركيب العقلي كقولهم لو كان له حقيقة لكان الوجود صفة لها فكان مركبا وكان الوجود الواجب معلولا لغيره فإنه يقال لهم بل له حقيقة تخصه يمتاز بها عن كل ما سواه بل كل موجود له حقيقة تخصه فالخالق أولى بذلك وأما قولهم يكون الوجود صفة لها فهذا إنما يقال أن لو كان الوجود مصدر وجد وجودا أو وجدته وجودا ولا ريب أن لفظ الوجود في اللغة هو مصدر وجد يجد وجودا كما في قوله تعالى {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} ولكن أهل النظر والعلم إذا قالوا هذا موجود لم يريدوا أن غيره وجده يجده ولا يريدون أن غيره جعل له وجودا قائما به بل يريدون به أنه حق ثابت ليس بمعدوم ولا منتف فإذا قيل هذا الإنسان موجود لم يكن المراد أن هذا الإنسان قام به وجود يكون صفة لهذا الإنسان بل قولنا هذا الإنسان موجود أي ثابت متحقق ليس بمعدوم ولا منتف وليس وجوده في الخارج فدرا زائدا على حقيقته الموجودة في الخارج بل الحقيقة التي هي ماهيته الموجودة في الخارج هي وجوده الثابت في الخارج

وأما إذا أريد بالحقيقة ما يتصور في الذهن وهي الماهية الذهنية كما يتصور المثلث في الذهن قبل ثبوته في الخارج فالماهية الثابتة في الأذهان مغايرة للحقيقة الموجودة في الأعيان فمن قال أن وجود كل شيء عين ماهيته كما يقوله متكلمو أهل الأثبات فقد أصاب إذا أراد أن الوجود الثابت في الخارج هو الماهية الثابتة في الخارج ومن قال ان وجود كل شيء غير ماهيته كما يقوله أبو هاشم بن الجبائي وأمثاله فقد أصابوا إن أرادوا أن الوجود الثابت في الخارج مغاير للماهية الثابتة في الذهن وأما إن أرادوا ما هو المعروف من مذهبهم أن في الخارج ماهيات ثابتة وهو المعدوم الثابت في حال عدمه وأن الوجود صفة لتلك الماهية فهذا خطأ وأعظم خطأ من هؤلاء من فرق من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله وقالوا أن الممكن وجوده في الخارج زائد على ماهيته وأما الواجب فوجوده في الخارج عين ماهيته وإنما كان خطؤهم أعظم لأنهم أخطأوا من وجهين أحدهما إثبات حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج والثاني أنهم جعلوا الوجود الواجب وجودا مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود وأنه إنما يتميز عن غيره بأمور سلبية أو إضافية مع أنهم يقولون في منطقهم أن الأمور السلبية والإضافية لا تميز بين المشتركين في أمر كلي وجودي وإنما يقع التمييز بأمور ثبوتية

وأيضا فإذا لم يتميز الواجب إلا بأمر عدمي وكل من الممكنات يتميز بأمر وجودي كان كل من الممكنات أكمل منه وأيضا فالسلب إذا لم يتضمن أمرا ثبوتيا لم يكن صفة كمال وإنما يكون كمالا إذا تضمن أمرا ثبوتيا كقوله {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وأولئك المعتزلة ومن وافقهم من المتأخرين كأبي حامد والرازي في أحد القولين وغيرهما إذا قالوا أن الوجود الواجب صفة للحقيقة ومن قد يوافقهم في هذا الأصل أحيانا فيفرق بين وجود الشيء وبين حقيقته في الخارج كما يفعله أبو الحسن بن الزاغوني ونحوه في مواضع كان قولهم مع ما فيه من الخطأ خيرا من قول هؤلاء وأما إيراد هؤلاء عليهم أن الوجود الواجب لا يكون معلولا فيقال لهم أتريدون بذلك أن الوجود الواجب بنفسه لا يكون مفعولا ولا معلولا لعلة فاعلة أم تريدون أن الوجود لا يكون صفة للماهية الموجودة ولا يكون الوجود معلولا لعلة قابلة لا فاعلة أم تريدون غير ذلك فإن أردتم الأول فهو صحيح لكن ليس في قولنا أن الوجود الواجب صفة للماهية الواجبة ما يوجب أن يكون معلولا له علة فاعلة وإن أردتم أنه لا يكون صفة للوجود فهذا ممنوع بل الوجود صفة للواجب والوجود صفة للموجود والواجب بنفسه هو الموصوف بالوجوب لا أن الوجوب هو الواجب بنفسه والموجود بنفسه هو الموجود الواجب لا أن وجوده هو الواجب بنفسه فهذا جواب

وجواب ثان وهو أن كون الوجود أو الوجوب معلولا لعلة قابلة ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون معلولا لعلة فاعلة فالعلة القابلة كالموصوف القابل لصفته والعلة الفاعلة كالمبدع الفاعل لمصنوعه والدليل دل على أن الواجب بنفسه ووجوبه ووجوده لا يكون مفعولا ولا معلولا لفاعل لم يدل على أن الواجب لا يكون إلا صفة للواجب والوجود لا يكون صفة للموجود على قول من يقول إن وجود الشيء زائد على حقيقته فهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم على قولهم إن وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته وإن كان في قولهم خطأ فهم أقل خطأ وأكثر صوابا من أولئك الفلاسفة الذين جعلوا وجوده مطلقا أو مقيدا بالعدم فقالوا ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع من وجوه كثيرة مع ما فيه من التعطيل والجحود لرب العالمين والتكذيب لأنبيائه المرسلين واتباع غير سبيل المؤمنين وأما النوع الثاني من التركيب وهو التركيب من خاص وعام فيقال نحن وأنتم مع جماهير الناس يقولون أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام وهذه القسمة إنما ترد على المعاني لا على مجرد الألفاظ المشتركة سواء كانت تلك المعاني متفاضلة وألفاظها هي التي يقال لها الألفاظ المشككة أو كانت متساوية وهي الأسماء المتواطئة التواطؤ الخاص فأما التواطؤ العام فتندرج فيه المشككة وإذا كان الوجود منقسما إلى هذا وهذا فلا بد أن يتميز الواجب عن غيره بما

يخصه والأمور العدمية المحضة لا توجب التمييز فقد ثبت التركيب مما به الاشتراك ومما به الامتياز سواء جعلتم الوجود من الألفاظ المشككة أو من المتواطئة تواطؤا عاما أو المتواطئة تواطؤا خاصا وأيضا فيقال قد عرف أنا إذا قلنا أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن ومورد التقسيم هو المعنى العام الكلي والكلي إنما يكون كليا في الأذهان لا في الأعيان وحينئذ فليس في المخلوقات ما هو مركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز بل كل موجود فإنه مختص بصفاته القائمة به كاختصاصه بعينه نفسه لا يشركه غيره فيها فإذا كانت المخلوقات ليست مركبة بهذا الاعتبار فالخالق أولى أن لا يكون مركبا بهذا الاعتبار ولكن أنتم غلطتم في منطقكم اليوناني فلما رأيتم الإنسان يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص عنه بالنطق والفرس يشابه غيره من الحيوانات في الحيوانية ويختص بالصهيل قلتم الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية وكذلك الفرس مركب من الحيوان والصاهل أو من الحيوانية والصاهلية وهكذا في سائر الأنواع وظننتم أن هذا التركيب له تأثير في الخارج وهذا غلط عظيم وقع منكم في الميزان العقلي وهو القانون الذي تزنون به المعاني العقلية الذي جعلتموه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن

أن يزل في فكرة فإن الميزان إذا كان مائلا لا عادلا أخطأ الوازن في الوزن قطعا وقد بسط الغلط في غير هذا الموضع ومن أقرب ما يعرف به ذلك أن يقال الإنسان الموجود في الخارج مركب من عرضين أو من جوهرين فقولكم الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق أتريدون به أعراضا هي صفات تقوم بالإنسان أم جواهر هي أعيان قائمة بأنفسها فإن قلتم أعراضا تبين فساد قولكم فإن الإنسان الموجود جوهر قائم بنفسه والجواهر لا تكون مركبة من الأعراض ولا تكون الأعراض سابقة عليها ولا مادة لها فإن الأعراض قائمة بالجوهر مفتقرة إليه حالة فيه وهو موضوع لها في اصطلاحكم والموضوع هو المحل المستغنى في قوامه عن الحال فيه فإذا كان الإنسان عندكم مستغنيا في قوامه عن أعراضه امتنع أن كون هي مادته وأجزاءه المقومة له وأن يكون مركبا منها وإن قلتم بل الحيوانية والناطقية أو الحيوان والناطق جوهران قائما بأنفسهما والإنسان مركب منهما كان هذا معلوم الفساد بالضرورة فإنا نعلم أن الإنسان هو الحيوان الناطق وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الناطق والفرس هو الحيوان الصاهل وهو الجسم الحساس النامي المتحرك بالإرادة الصاهل ليس في الإنسان جوهر هو حيوان وجوهر هو ناطق وجوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك

بالإرادة بل هذه أسماء للإنسان الواحد كل اسم منها يدل على صفة من صفاته فالمسمى الموصوف بها جوهر واحد لا جواهر متعددة فتبين أن قولكم أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذا وهذا قول باطل كيفما أردتموه وإما أن قلتم أن هذا تركيب عقلي في الذهن فيقال التركيب العقلي هو بحسب ما يقدره الذهن ويفرضه ومن لم يميز بين الموجودات الثابتة في الخارج وبين المقدرات الذهنية كان عن العلم خارجا وفي تيه الجهل والجا وهذا حال كثير من هؤلاء اشتبه عليهم الصور الذهنية بالحقائق الخارجية فظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان وعامة ما تدعونه من العقليات مثل الكليات والمجردات كالعقول العشرة وكالمادة وغيرها هي أمور ذهنية لا خارجية وهم قد جعلوا في علمهم الأعلى وفلسفتهم الأولى الذي قسموا فيه الوجود إلى جوهر وعرض وجعلوا العرض تسعة أجناس كما ذكر ذلك معلمهم الأول أرسطو وسموا هذه المقالات العشر جعلوا الجوهر جنسا تحته خمسة أنواع أحدها العقول العشرة والثاني النفوس والثالث المادة والرابع الصورة والخامس الجسم وتنازعوا في واجب الوجود هل يسمى جوهرا على قولين لهم وهذه الأربعة التي هي العقول والنفوس والمادة والصورة اللتان جعلوهما جزئي الجسم إذا حقق الأمر عليهم كانت أمورا عقلية مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان بخلاف الجسم

وأعراضه فإن ذلك ثابت في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم في التركيب الذي يزعمونه من الجنس والفصل أو من العرض العام والخاصة وقولهم أن هذا منتف عن واجب الوجود فإذا عرف أن هذا ليس بتركيب في الحقيقة وأنه سواء جعل تركيبا أو لم يجعل تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود من الموجودات لا واجب ولا ممكن علم ضلال هؤلاء القوم الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وأما التركيب من الذات والصفات فهذا أيضا ليس بتركيب فإن الإنسان الذي لا يكون إلا حيا ناطقا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال انه مركب من هذه الذات والصفات بل لا حقيقة لذاته إلا ما هو حيوان ناطق فالخالق تعالى الذي لا يكون إلا حيا عالما قادرا ليس له ذات مجردة عن هذه الصفات حتى يقال أنه مركب من ذات وصفات وإذا قال القائل أنه يمكن تقدير الذات مجردة عن الصفات كان هذا تركيبا في ذهنه وخياله كما تقدم ومن المعلوم أن الأمور الذهنية العقلية الخيالية غير الحقائق الموجودة في الخارج وقد تقدم قولهم في تركيب الجسم من أجزائه الحسية والعقلية فقد تبين ان ما جعلوه تركيبا أخطأوا فيه لفظا ومعنى وأنه بتقدير موافقتهم على جعل ذلك تركيبا لا يمكن نفيه عن موجود لا واجب ولا ممكن فظهر المقامان اللذان ذكرناهما حيث قلنا أن هذا ليس بتركيب وبتقدير أن يقال هو تركيب لا يمكن نفيه

وأما المقام الثالث فيقال إثبات معان متعددة في الموجود الواجب وغيره أمر ضروري لا بد منه وأنتم مع فرط مبالغتكم في السلب تقولون أنه موجود واجب وأنه معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ به وعاشق ومعشوق وعشق إلى أنواع أخر وأما أهل الملل فمتفقون على أنه حي عليم قدير ومن المعلوم أن من جعل كونه حيا هو كونه عالما وكونه عالما هو كونه قادرا فهو من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكذلك من جعل الحياة هي الحي والعلم هو العالم والقدرة هي القادر فيبين العقل الصريح أن كل صفة ليست هي الأخرى ولا هي نفس الموصوف وكذلك من جعل العشق هو العاشق واللذيذ هو اللذة ونفس العقل الذي هو مصدر عقل يعقل عقلا هو العقل الذي هو العاقل القائم بنفسه فمن جعل هذا هذا كان في المكابرة والجهل والسفسطة من جنس الأول فمن جعل المعاني هي الذات القائمة بنفسها أو كل معنى هو المعنى الآخر كان من أعظم الناس جهلا وكذبا وسفسطة وكان أجهل من النصارى الذين يقولون أحد بالذات ثلاثة بالأقنوم ويقولون مع ذلك أن أقنوم الكلمة هو المتحد بالمسيح دون غيره وأنه إله حق من إله حق فإنهم إن جعلوا الأقنوم هو الذات الموصوفة بالصفات الثلاثة كان المسيح هو الأب وإن جعلوه صفة لم يكن المسيح إلها فإن الصفة لا تخلق ولا ترزق ولا تفارق

الموصوف فالنصارى متناقضون في التوحيد حيث يلزمهم أن يجعلوا الذات هي الصفة أو المتحد هو الذات وهؤلاء أعظم تناقضا منهم وقولهم في التوحيد شر من أقوال النصارى لكن يحيى بن عيد النصراني الفيلسوف ظن أنه إذا جعل قولهم في التثليت هو مثل تثليت الفلاسفة في قولهم بالعاقل والمعقول والعقل يكون قد انتصر بالأدلة ولم يعلم أن ما فر إليه شر مما فر منه وأن قول الفلاسفة بالعقل والعاقل والمعقول أبطل في المعقول من قول النصارى بالأب والابن وروح القدس وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لأنها أصول كلام هؤلاء الذين أضلوا من أذكياء الأمم من لا يعلمه إلا الله وهم الذين قالوا إن معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية وبنوا ذلك على أصولهم في قدم العالم وأن مبدعه علة تامة موجبة بذاته وجعلوا من المقدمات التي استعانوا بها على ذلك نفي الصفات الذي بنوه على ما سموه التركيب فإذا عرف بطلان أصلهم كان القول بإثبات صفات الكمال لله حقا وحينئذ فلا يمكنهم أن يقولوا لا تقوم به الأفعال الاختيارية فإنهم إنما نفوا قيام ذلك بذاته لنفيهم الصفات لا لكونه قديما فإن القديم عندهم تحله الحوادث ولهذا قالوا إن الفلك قديم تحله الحوادث ومن قال إن القديم لا تحله الحوادث من أهل الكلام

كالمعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وأتباعهم فإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن ما قامت به الحوادث محدث أما المعتزلة فلأن من أصلهم أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بمحدث وأما الكلابية وأتباعهم فلأن من أصلهم أن ما يقبل الحوادث لم يخل منها وما لم يخل منها كان حادثا لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها والذين نازعوهم في ذلك من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم مثل جمهور أهل الحديث وكثير من المرجئة والشيعة والفقهاء وغيرهم مثل الهشامية وأبي معاذ التومني ومثل داود بن علي والكرامية ومثل كثير من أئمة الفلاسفة الأساطين المتقدمين والمتأخرين ينازعونهم في إحدى المقدمتين أو كليتهما فينازعونهم في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها كما ينازعهم في ذلك الهشامية والكرامية وأبو عبد الله بن الخطيب وأبو الحسن الآمدي وغيرهما فإن هؤلاء وغيرهم طعنوا في قولهم ما قبل الحوادث لم يخل منها وأما قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فهذا نازعهم فيه أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة وأئمة أهل الحديث والسنة وجمهورهم نازعوهم في هذه ونازعهم فيها أئمة الفلاسفة

الأولين والآخرين مثل أرسطو ومن قبله فالقائلون بقدم الأفلاك من الفلاسفة يقولون أن القديم تقوم به حوادث لا أول لها وأما أهل الملل وأئمة الفلاسفة وجماهيرهم فيقولون أن كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأن ما قامت به الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث بل ما قارنته الحوادث من الممكنات فهو مخلوق محدث لامتناع صدروه عن علة تامة قديمة أزلية والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو هو القول بحدوث العالم وإنما اشتهر القول بقدمه عنه وعن متبعيه كالفارابي وابن سينا والحفيد وأمثالهم وأما قيام الأفعال الاختيارية وقيام الصفات بالله تعالى فهو قول سلف الأمة وأئمتها الذين نقوله عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو القول الذي جاء به التوراة والإنجيل وهو القول الذي يدل عليه صريح المعقول مطابقا لصحيح المنقول وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال لم يصر قادرا بعد أن لم يكن ولا متكلما بعد أن لم يكن ولا موصوفا بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان ما ذكرناه من الدليل على حدوث كل ما سوى الله وأن حقيقة قولهم يستلزم أن لا يكون للحوادث محدث أصلا لامتناع صدور الحوادث عن علة تامة أزلية وأن كل محدث سواء سمي معلولا أو مفعولا لا بد حين

وجوده من وجود جميع ما به يحدث فإذا سمي معلولا فلا بد من وجود العلة التامة عند وجوده وإذا كانت قديمة وتأثيرها موقوف على شرائط فلا بد من حصول الشروط عند حدوثه فلا يكفي وجودها قبل حدوثه كما يقولون لأن العلة التامة يجب مقارنة معلولها لها ومقارنتها لمعلولها فلا يكون المعلول موجودا إلا مع وجود العلة التامة بجميع أجزائها إذ لو كان شيء من شروطها معدوما قد وجد قبل حدوث المعلول لكانت العلة سابقة على المعلول والمعلول متأخر عنها وهذا ممتنع في العلة التامة وكذلك الفاعل القادر لا بد من وجود قدرته وإرادته وسائر ما يعتبر في فعله أن يكون موجودا عند حداث المحدث فهذان وجهان وأما حجتهم المذكورة على قدم العالم فجوابها من وجوه أحدها أن يقال دوام الحوادث إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا بطل قولهم وعلم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان ممكنا أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مسبوقة بحوادث قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإن الله تعالى اخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء وعلى التقديرين فلا يلزم قدم العالم واعلم انه ليس لهم حجة صحيحة على قدم العالم أصلا

بل غاية ما يقررون أنه لابد من دوام فعل الفاعل فبتقدير أن يكون فعله دائما بذاته شيئا بعد شيء يبطل قولهم وبتقدير أن يكون كل مفعول محدثا وهو مسبوق مفعول محدث يبطل قولهم الوجه الثاني أن يقال هذا بعينه يبطل قولكم بأن المؤثر إن جاز تأخر أثره عنه أمكن حدوث العالم وتأخر الفعل عن الفاعل وإن لم يجز تأخر أثره عنه لزم عدم الحوادث أو قدمها أو حدوثها بلا محدث والكل باطل فعلم أن قولهم بمؤثر لا يتأخر عنه الأثر باطل الوجه الثالث أن يقال ترجيح الفاعل لأحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا أمكن تأخر العالم وأن القادر المختار يرجح حدوثه بلا مرجح وإن قيل إن الفاعل لا يمكنه ذلك امتنع كون الموجب بالذات يرجح شيئا على شيء بلا مرجح ومعلوم أن العالم له قدر مخصوص وصفات مخصوصة وحوادث متعاقبة كلها ممكنة فترجيحها على غيرها من الممكنات لا يكون بمجرد وجود مطلق بسيط نسبته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة الوجه الرابع أن يقال القديم إما أن يجوز قيام الحوادث به وإما أن لا يجوز فإن لم يجز بطل قولهم بقدم العالم الذي قامت به الحوادث والأفلاك قامت بها الحوادث وإن جاز قيام الحوادث به أمكن أن يقوم بالقديم الواجب بذاته حوادث لا تتناهى ويكون منها ما هو شرط في حدوث

العالم كما قالوا إن حركات الأفلاك شرط في حدوث الحوادث السفلية الوجه الخامس أن يقال مبنى حجتهم على امتناع ترجيح بلا مرجح تام وامتناع التسلسل وهم قائلون بالأمرين فإنهم يقولون بتسلسل الحوادث ويقولون أن الحوادث حدثت بلا مجرح تام وإذا قالوا نحن رددنا على من أثبت ذاتا معطلة عن الفعل فعلت بعد أن لم تكن فاعلة قيل لهم هذا قول طوائف من أهل الكلام ليس هذا القول منصوصا عن الأنبياء لا في التوارة ولا في الإنجيل ولا في القرآن ولا يلزم من بطلان هذا القول قدم العالم ومخالفة ما أخبرت به الرسل بل نقول إن كان هذا القول ممكنا بطل ردكم له وإن كان ممتنعا لم يلزم إلا دوام فعل الفاعل لا أزلية هذه الأفلاك ولا أزلية شيء بعينه من الممكنات الوجه السادس أن يقال قولكم أشد استحالة من هذا القول فإن هؤلاء نسبوا جميع الحوادث إلى الفاعل القديم الأزلي وقالوا أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فأثبوا للحوادث فاعلا ولم يثبتوا سببا حادثا وأنتم جعلتم الحوادث تحدث بلا فاعل أصلا لأن الفاعل القديم الواجب عندكم يلزمه مفعوله الذي هو معلوله وموجبه ومقتضاه فلا يتأخر عنه فلا يجوز أن يحدث عنه شيء فإذن هذه الحوادث لم تحدث عنه فتضمن قولكم أن الحوادث لا محدث لها وهذا اعظم فسادا من قول من جعل لها محدثا أحدثها من غير سبب حادث

الوجه السابع أن يقال كل ما تذكرونه من الشبه على نفي حدوث هذا العالم يلزمكم مثله في حدوث كل حادث مثل قولكم أن الفاعل لا بد له من غرض وقولكم أن التأثير إن كان قديما لزم قدم الأثر وأمثال ذلك وإنما وقع التلبيس منكم أنكم أخذتم تحتجون على قدم الأفلاك أو مواد الأفلاك بحجج ليس فيها ما يقتضي ذلك بل إما أن تقتضي الحجة نفي الفعل والإحداث بالكلية فيعلم فسادها بالضرورة والاتفاق وإما أن تقتضي أن كل حادث مسبوق بحادث وهذا لا يدل على قدم هذا العالم بل على أن الرب لم يزل فاعلا إما أفعالا تقوم بنفسه وإما مفعولات منفصلة تحدث شيئا بعد شيء وليس في واحد من هذين ما يقتضي صحة قولكم بل كل منهما يناقض قولكم وغايتكم أن تفسدوا قول بعض أهل الكلام أو حجتهم لكن ليس في هذا تصحيح لقولكم ولا إبطال لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين وهذه الأمور قد بسطناها في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها هنا لأنها أصل قول هؤلاء الذين ينكرون انفطار السموات وانشقاقها ويقولون إن النبوة هي من نوع قوى النفوس وأن المعجزات هي قوى نفسانية حتى يجعلونها هي سبب ما أحدثه الله من آيات الانبياء وإن كانوا مع هذا يعظمون الأنبياء ويوجبون طاعة نواميسهم ويأمرون

بقتل من يخرق النواميس ويقولون أنهم وضعوا للناس قانونا من العدل به يعيش الناس في الدنيا فهم فيما يخبرون به من صفات الأنبياء يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما أخبر الله تعالى فيؤمنون ببعض الصفات التي اتصف بها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وببعض ما آتاهم الله من الفضائل ويكفرون ببعض

عود إلى الكلام على معجزات الأنبياء والرد على قول الفلاسفة في ذلك اجمالا

والذي يثبتونه للأنبياء قد يحصل للرجل الصالح العالم والمخاطبات والمكاشفات التي يثبتونها للأنبياء تحصل لكثير من عوام الصالحين وما أثبتوه من الحق فهو حق لكن كفرهم بما كذبوا به من الحق فنقول ما وصفوا به الأنبياء من أن لهم خصائص في العلم والقدرة والسمع والبصر امتازوا بها حق لكن دعواهم أن منتهى خصائصهم ما ذكروه باطل فنحن لا ننكر أن الله تعالى يخص البنى بقوة قدسية يعلم بها ما لا يعلم غيره ولا ننكر أيضا ما يمثله الله له إما في اليقظة وإما في المنام من الأمور الصادقة المطابقة للحقائق ولا ننكر أيضا أن الله قد يجعل في النفوس قوى يحصل بها تأثير في الوجود والناس لهم في هذا الباب قولان فالسلف والفقهاء والجمهور يقولون أن الله جعل في الأعيان قوى وطبائع تحصل بها الآثار كما جعل في النار التسخين وفي الماء التبريد ونحو ذلك وطائفة من أهل الكلام ينكرون هذا كله ويقولون ليس في الأعيان قوى وطبائع تكون أسبابا للآثار لكن الله يخلق الأشياء عندها لا بها ويقولون ليس في العين

قوة امتازت بها عن الأنف ولا في الخبز قوة امتاز بها عن الشراب ولا في الماء قوة امتاز بها عن الخل ولكن الله تعالى يخلق الشبع والري عند ذلك لا به وهذا القول ضعيف مخالف للشرع والعقل فإن الله تعالى قال {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال تعالى: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه والمقصود هنا أن كون النفوس أو غيرها من الأعيان جعل الله فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر لا في الشرع ولا في العقل ولكن دعوى المدعي أن معجزات نبينا أو غيره من الأنبياء هي من هذا الباب بهتان عظيم والقائلون بهذا رأوا أنهم يمكنهم تعليل بعض الخوارق بعلل طبيعية فعللوها ثم جهالهم ظنوا هذا يطرد فطردوا وأما حذاقهم فيكذبون بالخوارق الخارجة عن القانون الطبيعي عندهم وذلك مثل كون بعض الناس يبقى مدة لا يأكل ولا يشرب فإن جماعة من الناس يبقى شهرا أو شهرين لا يأكل فأخذ ابن سينا يقول في إشاراته إذا بلغك أن

عارفا مكث مدة لا يأكل ولا يشرب فاسجح بالتصديق فإن في الطبيعة عجائب وقرر ذلك بأن المريض إذ بقيت قواه الهاضمة مشغولة بمدافعة المرض بقي الطعام محفوظا مدة لا يأكل فيها ولا يشرب فالعارف إذ اشتغلت نفسه بعرفانه اجتذبت إليها القوى الهاضمة فلا تهضم الطعام وهذا الذي قاله في هذا وأمثاله ليس بطائل فإن الناس يعلمون أن النفس إذا اشتغلت بفرح عظيم أو غضب عظيم أو اهتمام بأمر عظيم اشتغلت عن الأكل والشرب بهذا وأسبابه فهذا ونحوه ليس من معجزات الأنبياء ولا مما يختص به الأولياء ولهذا كان ما يذكرونه من التأثير مقيدا عندهم بجريانه على القانون الطبيعي المعتاد فعندهم لا يتصور أن يفعل المؤثر في المواد إلا ما هي قابلة له فقد يقولون أن الهواء لما كان قابلا لأن ينقلب ماء أمكن أن يؤثر المؤثر فيه حتى يصير الهواء ماء فينزل المطر ومعلوم أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوانين الطبيعية مثال ذلك انقلاب العصا ثعبانا ثم ابتلاع الثعبان ما هنالك من العصي والحبال فإن هذا خارج عن قوى النفس والطبيعية لأن الخشب لا يقبل أن يصير حيوانا أصلا ولا يمكن في القوى الطبيعية أن عصا تصير حية لا بقوى نفس ولا بسحر ولا غير ذلك بل الساحر غايته أن يتصرف في الأعراض بفعل ما يحدث عنه الأمراض والقتل ونحو ذلك مما يقدر عليه سائر الآدميين فإن الإنسان يمكنه أن يضرب غيره حتى يمرضه أو يقتله فالساحر والعائن وغيرهما ممن يتصرف بقوى الأنفس

يفعل في المنفصل ما يفعله القادر في المتصل فهذا من أفعال العباد المعروفة المقدروة وأما قلب الأعيان إلى ما ليس في طبعها الانقلاب إليه كمصير الخشب حيوانا حساسا متحركا بالإرادة يبلغ عصيا وحبالا ولا يتغير فليس هذا من جنس مقدور البشر لا معتادا ولا نادرا ولا يحصل بقوى نفس أصلا ولهذا لما رأى سحرة فرعون ذلك علموا أنه خارج عن طريقة السحر {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وهذه الحادثة الخارقة للعادة فيها إثبات الصانع وإثبات نبوة أنبيائه فإن حدوث هذا الحادث على هذا الوجه في مثل ذلك المقام يوجب علما ضروريا أنه من القادر المختار لتصديق موسى ونصره على السحرة كما قال تعالى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وكذلك إخراج صالح الناقة من هضبة من الهضاب أمر خارج عن قوى النفوس وغيرها ولهذا كان أئمة هؤلاء المتفلسفة يكذبون بهذه المعجزات وربما جعلوها أمثالا فقالوا إنه ألقى عصا العلم فابتلعت حبال الجهل وعصيه ونحو ذلك كما يغلب الرجل الرجل بحجته وهذا من تأويلات القرامطة التي يعلم بالضرورة بطلانها وأنها مخالفة للمنقول بالتواتر ومخالفة لما اتفق عليه المسلمون واليهود

والنصارى من نقل هذه المعجزات واعتبر هذا بأمثاله وكذلك وقوف الشمس ليوشع بن نون وانشقاق القمر لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عندهم ممتنع لا يمكن لا بقوى نفس ولا غير ذلك لأن الفلك دائم الحركة ومعلوم أن هذه المعجزات لا ريب فيها وانشقاق القمر قد أخبر الله به في القرآن وتواترت به الأحاديث كما في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود وأنس وابن عباس وغيرهم وأيضا فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهذه السورة في الأعياد والمجامع العامة فيسمعها المؤمن والمنافق ومن في قلبه مرض ومن المعلوم أن ذلك لو لم يكن وقع لم يكن ذلك أما أولا فلأن من مقصوده أن الناس يصدقونه ويقرون بما جاء به لا يخبرهم دائما بشيء يعلمون كذبه فيه فإن هذا ينفرهم ويوجب تكذيبهم لا تصديقهم وأما ثانيا فلأن المؤمنين كانوا يسألونه عن أدنى شبهة

تقع في القرآن حتى نساؤه فراجعته عائشة في قوله من نوقش الحساب عذب وذكرت قوله تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} حتى قال لها ذلك العرض وراجعته حفصة في قوله لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وذكرت قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} حتى أجابها بقوله ألم تسمعي قوله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} وراجعه عمر بقوله {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} عام الحديبية لما صالح المشركين على الرجوع ذلك العام حتى قال له أبو بكر كما قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقال لك أن تدخله هذا العام قال لا قال فإنك داخله ومطوف به

وأمثال ذلك كثيرة فكيف يقرأ عليهم دائما ما فيه الخبر بانشقاق القمر ولا يرد على ذلك مؤمن ولا كافر ولا منافق مع أن ابن الربعري وغيره من المشركين تعلقوا بالقياس الفاسد في قوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} فقاس المسيح على الأصنام بكونه معبودا وهذا معبود وهذا من جهله بالقياس فإن الفرق ثابت بأن هؤلاء أحيانا ناطقون وهم صالحون يتألمون بالنار فلا يعذبون لأجل كفر غيرهم بخلاف الحجارة التي تلقى في النار إهانة لها ولمن عبدها قال الله تعالى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّون وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فلو لم يكن

انشقاق القمر معلوما معروفا عندهم لعظم في إنكاره القيل والقال وكثرة الإعتراض وكثرة السؤال وصار في ذلك من المراء والجدال ما لا يخفى على أدنى الرجال وكذلك القرآن فإن القرآن فيه من الأخبار عن الأمم الماضية كقصة آدم وإبليس ونوح وقومه ومخاطبته لهم وقصة عاد وثمود وفرعون وما جرى من الأمم وقومهم من المخاطبات في الأمور الجزئية مما لا يمكن أن تعلم بالحدس وقوى النفس التي تنال بواسطة العلم بالحد الأوسط وكذلك الخبر عن الأمور المستقبلة المفصلة فإن هذه كلها لا يمكن في الجبلة أن تعلم إلا بمخبر يخبر بها الإنسان وأما علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس ولهذا يقول سبحانه وتعالى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِي} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وفي الجملة فهؤلاء يدعون ما ذكره ابن سينا في إشاراته من أن خوارق العادات في العالم ثلاثة أنواع لأنها إما أن تكون بأسباب فلكية كتمزيج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وهذا هو الطلسمات وإما أن تكون بأسباب طبيعة سفلية كخواص الأجسام وهي النيرنجيات وإما أن تكون بأسباب نفسانية ويزعمون أن المعجزات التي للأنبياء والكرامات التي للأولياء وأنواعا من السحر

والكهانة هو من هذا الباب ويقولون الفرق بين النبي والساحر أن النبي نفسه زكية تأمر بالخير والساحر نفسه خبيثة تأمر بالشر فهما يفترقان عندهم فيما يأمر به كل منهما لا في نفس الأسباب الخارقة وقد قدمنا أن من أهل الكلام والنظر من ينكر أن تكون في شيء من الأنفس وغيرها من الأجسام الحيوان وغير الحيوان قوى أو طبائع أو أن يكون لها تأثير بل يجعلون ذلك كله من باب المقارنة العادية المحضة وهذا قول جمهور الأشعرية ومن يوافقهم من أهل الظاهر وأهل القياس من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهؤلاء قد يغلون حتى يقولوا إن قدرة الحيوان لا تأثير لها في أفعاله الاختيارية لا للإنسان ولا لغير الإنسان وينكرون أيضا أن يكون الله يفعل شيئا لشيء فينكرون الأسباب والحكم في خلقه وأمره وكثير منهم ينكر القياس ومن أقر منهم لم يجعل علل الشرع إلا مجرد علامات وأكثرهم يتناقضون في هذا الأصل فإذا تكلموا في تفاصيل الفقه والطب وحكمة الله تكلموا بموجب فطرتهم وإيمانهم على طريقة الجمهور الذين يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب المتقدمة على الحوادث والحكم المتأخرة عن الحوادث وإذا ناظروا الفلاسفة والمعتزلة في أصول الدين في مسائل القدر والتعديل والتجوير وتعليل أفعال الله تعالى وأسباب الحوادث تكلموا على هذه الطريقة التي هي في الأصل طريقة المجبرة كجهم بن صفوان وأمثاله ويجعلون

نفس المشيئة مقتضية لترجيح أحد المثلين على الآخر بلا سبب يقتضي الترجيح غير الإرادة وادعوا أنها كما انها تقتضي جنس التخصيص فإنها تقتضي التخصيص المعين إذ التخصيص ببعض الحوادث دون بعض لا يقع بنفس العلم ولا بنفس القدرة فلا بد له من مخصص وذلك هو الإرادة لكن المعقول من ذلك أن جنس الإرادة يخصص جنس المحدثات وأما كون هذا المعين مراده من هذا فلا تقتضيه نفس جنس الإرادة إلا أن كون المراد مختصا بسبب يقتضي أن يراد دون غيره وأن يكون من المريد سبب يوجب أن يريد ذاك دون غيره فادعى هؤلاء أن نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل من غير سبب معين وذاك لا في المريد ولا في المراد مع أن نسبتها إلى جميع المرادات نسبة واحدة وقال جمهور العقلاء هذا مما يعلم فساده بالضرورة فإن الإرادة إذا استوت نسبتها إلى جميع المرادات وأوقاتها وصفاتها وأشكالها كان ترجيح الإرادة لمثل على مثل ترجيحا من غير مرجح فإن جاز هذا جاز أن يقال الفاعل القادر يخصص مثلا على مثل بلا إرادة وحينئذ فلا إرادة كما تقوله معتزلة البغداديين وإن جاز هذا لزم ترجيح

أحد المثالين على الآخر بلا مرجح أصلا فإذا كان نسبة الوجود والعدم إلى حقيقة الممكن نسبة واحدة جاز ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح فيلزم جواز وجود الممكنات والمحدثات بلا مبدع فاعل فقال هؤلاء نحن نفرق بين ترجيح القادر لأحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وبين ترجيح الموجب بلا مرجح وهذا الفرق هو أصل قول المعتزلة وقول الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من حيث يجعلون الموجب للترجيح إرادة نسبتها إلى المثلين سواء ولكن هؤلاء يجعلون المرجح هو إرادة القادر المختار وأولئك يجعلون المرجح هو نفس القادر المختار ثم البصريون منهم يقولون يحدث بنفسه الإرادة لا في محل والبغداديون منهم يقولون بنفي هذه الإرادة ويقولون لا تزيد الإرادة على فعل المفعول والأمر بالمأمورات

وأهل الكتاب من اليهود السامره وغيرهم الموافقون للمعتزلة هم على هذين القولين وأبو عبد الله بن الخطيب ونحوه متناقضون في هذا الباب فإذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر والجبر سلكوا مسلك من يقول أن الممكن لا يرجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام مستلزم لأمر لا فرق في ذلك بين القادر والموجب فإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وطالبهم الدهرية بسبب حدوث العالم سلكوا مسلك المعتزلة فقالوا القادر المختار يرجح أحد طرفي المقدور على الآخر بلا مرجح أو قالوا الإرادة القديمة هي المرجح كما يقول ذلك الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وهذا المقام هو من الأصول العظام التي اضطربت فيها

رؤوس أهل النظر والفلسفة والكلام ومن سلك الطرق النبوية السامية علم أن العقل الصريح مطابق للنقل الصحيح وقال بموجب العقل في هذا وفي هذا وأثبت ما أثبتته الرسل من خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولم يجعل شيئا سوى الله قديما معه بل كل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن مع قوله أن ترجيح أحد المتماثلين على الآخر لا يكون إلا بمرجح ولا فرق في ذلك بين مرجح ومرجح ومع قوله أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومع إثباته حدوث كل ما سوى الله بالبرهان العقلي الصريح الذي لا يحتاج معه إلى تعجيز الله في الأزل عن الفعل وإلى أن يقول أنه إن لم يكن الفعل ممكنا ثم صار ممكنا من غير حدوث شيء ومن غير أن يحتاج إلى أن يجعل الحوادث تحدث بلا سبب أصلا ومع إبطاله أن يكون صانع العالم موجبا بذاته وعلة أزلية مستلزمة لمعلولها ومع قوله أن كل ما لا يسبق الحوادث من الممكنات فإنه لا يكون إلا حادثا بها لامتناع دوام الحوادث بل لامتناع صدور المحدثات وما لا يتقدم عن موجب بالذات وإذا بطل الموجب بالذات لزم حدوث كل ممكن فإن قدم شيء من الممكنات لا يكون إلا إذا كان له موجب تام أزلي وإذا امتنع شرط القدم لشيء من الممكنات امتنع قدم شيء من الممكنات وهذا مبسوط في موضعه ولكن المقصود هنا أن كثيرا من أهل النظر والكلام كالأشعري وغيره أنكروا الأسباب والطبائع والقوى الموجودة في خلق الله وأمره وأنكروا حكم الله المقصودة بذلك

وقالوا في لامات كي المذكورة في القرآن كقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقوله {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} وقوله {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وأمثال ذلك هي لام العاقبة ليست لام التعليل إذ كان يمتنع عندهم أن يفعل الله شيئا لأجل شيء أو يأمر بشيء لأجل شيء فهؤلاء لا يثبتون في الأفلاك العلوية ولا الأجسام السفلية ولا النفوس قوى تكون سببا لحدوث شيء وإذا أنكروا تأثير القدرة التي للحيوان فهم لما سواها أشد إنكارا وهؤلاء إذا أرادوا أن يجيبوا الفلاسفة عما ادعوه من أسباب المعجزات وغيرها من الخوارق قالوا نحن نقول أن المؤثر في الحوادث هو قدرة الله فقط ولا أثر لشيء من ذلك ولهذا قال الأشعري إن أخص وصف الرب هو القدرة على الاختراع والكلام بين هؤلاء وبين منازعيهم في مقامين أحدهما أنهم لا يسلمون حصول الخوارق مقارنة لما تذكره الفلاسفة من الأسباب الثاني أنهم إذا سلموا ذلك جعلوا ذلك كسائر الأمور التي علم اقترانها في العادة فإن العادة جارية بأن الإنسان يأكل فيشبع ويشرب فيروي ويضرب بالسيف فيقطع فإذا كانوا يقولون إن مجرد القدرة القديمة هي

المحدثة للشبع والري والقطع وغير ذلك عند هذه الأمور المقارنة لها لا بها وأنه ليس هنا قوة ولا طبيعة ولا فعل له تأثير في هذه الحوادث بوجه من الوجوه كان قولهم لذلك في المعجزات أقوى وأظهر وأبو حامد الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة جعل هذه المسألة من الأصول التي نازع فيها الفلاسفة ولهذا اشتد نكير ابن رشد عليه في تهافت التهافت وجعل هذا من المواضع التي استطال بها على أبي حامد وانتهز بها الفرصة في الرد عليه والإنتصار للفلاسفة وأما المعتزلة ونحوهم من القدرية فيفرقون بين تأثير الحي القادر وتأثير غيره ويقرون بإثبات التأثير للقادر سواء كان خالقا أو مخلوقا ولا يثبتون لغير ذلك تأثيرا

ويزيدون على ذلك حتى يجعلون ما تولد عن فعل الإنسان من فعله ولا يجعلون لبقية الأسباب التي شاركته تأثيرا فإن أفعال الإنسان وغيره من الحيوان على نوعين أحدهما المباشر والثاني المتولد فالمباشر ما كان في محل القدرة كالقيام والقعود والأكل والشرب وأما المتولد فهو ما خرج عن محل القدرة كخروج السهم من القوس وقطع السكين للعنق والألم الحاصل من الضرب ونحو ذلك فهؤلاء المعتزلة يقولون هذه المتولدات فعل العبد كالأفعال المباشرة وأولئك المبالغون في مناقضتهم في مسائل القدر من الأشعرية وغيرهم يقولون بل هذه الحوادث فعل الله تعالى ليس للعبد منها فعل أصلا وهم وإن كانوا لا يثبتون لقدرة العبد أثرا في حصول المقدور فإنهم يفرقون بين ما كان في محل القدرة فيجعلونه مقدورا للعبد وما كان خارجا عن محل القدرة فلا يجعلونه مقدورا للعبد وأكثر من نازعهم يقول أن هذا كلام لا يعقل

فإنه إذا لم يثبت للقدرة أثر لم يكن الفرق بين ما كان في محل القدرة وبين ما كان في غير محل القدرة إلا فرقا في محل الحادث من غير أن يكون للقدرة في ذلك تأثير وتسمية هذا مقدورا دون هذا تحكم محض وتفريق بين المتماثلين ولهذا قال بعض الناس عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وإذا قيل لهؤلاء الكسب الذي أثبتموه لا تعقل حقيقته فإذا قالوا الكسب ما وجد في محل القدرة المحدثة مقارنا لها من غير أن يكون للقدرة تأثير فيه قيل لهم فلا فرق بين هذا الكسب وبين سائر ما يحدث في غير محلها وغير مقارن لها إذ اشتراك الشيئين في زمانهما ومحلهما لا يوجب كون أحدهما له قدرة على الآخر كاشتراك العرضين

الحادثين في محل واحد في زمان واحد بل قد يقال ليس جعل الكسب قدرة والقدرة كسبا بأولى من العكس إذا لم يكن إلا مجرد المقارنة في الزمان والمحل ولهذا قال أهل السنة وأهل الإثبات من سائر الطوائف إن العبد فاعل لفعله حقيقة بخلاف جمهور الأشعرية ومن وافقهم فإنهم يقولون إنه فاعل مجازا وليس حقيقة ويقولون أن فعل العبد فعل لله لا للعبد لأنهم مع سائر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون أن الله تعالى خالق أفعال العباد وهم يقولون أن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وهو أول قولي القاضي أبي يعلى ثم رجع عن ذلك ووافق الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد في أن الخلق غير المخلوق وهو قول الحنفية وأهل الحديث وجمهور الصوفية وجمهور أهل الكلام فلما كان هؤلاء يقولون إن فعل الله هو مفعوله والخلق هو المخلوق ويقولون أن فعل العبد مخلوق لله لزمهم أن يقولوا أن فعل العبد فعل لله وإذا كان فعله فعلا لله لم يكن فعلا له لأن الفعل الواحد لا يكون فعلا لفاعلين ولهذا قامت الشناعة عليهم من جماهير الناس المثبتين للقدر والنافين له وأرادت القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم بهذه الزلة من هؤلاء أن يتوسلوا بذلك إلى إبطال قول أهل السنة في القدر وأن الله لم يخلق أفعال العباد لأن جمهور المعتزلة يقولون أيضا إن الخلق هو المخلوق فإذا كان العبد فاعلا لفعله امتنع أن يكون مخلوقا لله, إذ المخلوق

هو الخلق والمفعول هو الفعل عندهم كما هو كذلك عند الأشعرية فلما اتفق هذان الفريقان على أن الخلق هو المخلوق والفعل هو المفعول تباينوا في مسألة أفعال العباد تباينا صاروا فيه على طرفي نقيض هؤلاء يقولون ثبت أن العبد فاعل لفعله فلا يكون فعله فعلا لله فلا يكون خلقا لله فلا يكون مخلوقا لله وهؤلاء يقولون ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها فلا يكون في الوجود ما هو فعل ولا مفعول لغير الله إذ الفعل هو المفعول فلا تكون حركات العباد فعلا لهم بل لله تعالى وأما جمهور الخلق من أهل السنة وغيرهم فيقولون أن الخلق غير المخلوق وفعل الله القائم به ليس هو مفعوله المنفصل عنه ويقولون أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له لا أنها نفس خلقه ونفس فعله وهي نفس فعل العبد فهي فعل العبد حقيقة لا مجازا وأما كون العبد له مفعول متولد عنه غير فعله فهذه مسألة التولد وعلى ذلك يبنى الكلام في أصوات العباد وكلامهم فإن الأصوات متولدة عن حركات العبد الإختيارية فمن قال أن المتولد ليس من فعل العبد ولا كسبه يقول أن أصوات العباد ليست مقدروة لهم ولا مفعولة ولا كسبا كما يقول ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم

ثم تولد من هذا بحث آخر فيمن قال أن الأصوات المسموعة من القارىء أو بعض الأصوات المسموعة من القارىء هي صوت الله فإنه بنى ذلك على هذا الأصل فقال الأصوات ليست من مقدرو العباد ولا من أفعالهم وكسبهم بل هي مضافة إلى الله فتضاف إليه بحسب ما يوجب الإضافة فإن كانت بكلامهم أضيفت إليه إضافة خلق وإن كانت لكلام الله أضيفت إليه إضافة وصف وكانت ظاهرة في المحدث لا حالة فيه ولكن ظهورها قارن حركة العبد وهذا الكلام وإن كان قد قاله طائفة من هؤلاء فهو معلوم الفساد بالضرورة والحس واتفاق جماهير العقلاء وهو قول فاسد مبني على أصل فاسد وإنما هو من باب الإلزام لمن وافقهم من الأشعرية على أن الأصوات المسموعة ليست مقدورة للعباد وكثير من الأشعرية متناقضون في هذا الباب ففي بحثهم مع المعتزلة يجعلون أصوات العباد غير مقدورة لهم ولا مفعولة لهم وفي بحثهم في مسألة القرآن يجعلونها مقدروة للعباد مفعولة لهم والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر والمقصود هنا أن جمهور المسلمين يقولون بالحق الذي دل عليه المنقول والمعقول فيقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله مفعولة له وهي فعل للعباد حقيقة لا مجازا وهم يثبتون ما لله في خلقه وأمره من الأسباب والحكم وما جعله الله في الأجسام من القوى والطبائع في الحيوان وفي الجماد لكنهم مع إثباتهم للأسباب والحكم لا يقولون بقول الطبائعية من الفلاسفة وغيرهم بل يقولون أن الله خالق كل شي وربه

ومليكه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول ولا قوة إلا به ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته ولا تزال مفتقرة إلى الله لا يقولون أنها معلولة له أو متولدة عنه كما يقوله الفلاسفة ولا أنها مستغنية عنه بعد الأحداث كما يقوله من يقوله من أهل الكلام بل كل ما سوى الله تعالى دائم الفقر والاحتياج إليه لا يحدث ولا يبقى إلا بمشيئته القديمة فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعا ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء بل لا بد له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه كما في الشعاع الحادث عن الشمس والاحتراق الحادث عن النار ونحو ذلك فإنه لا بد مع الشمس من محل قابل لانعكاس الشعاع عليه وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع وبكل حائل فقول متكلمة الملل من المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية ونحوهم أقرب إلى القبول من أقوال الفلاسفة والطبائعية والمنجمين ونحوهم فإن هؤلاء يشهدون بعض الأسباب كما يشهدون الطبائع والقوى التي خلقها الله في الأجسام وكما يشهدون ما للشمس والقمر وغيرهما في هذا العالم من الآثار لكنهم مع ذلك يضيفون الحوادث إلى سبب من أسبابه كإضافة الحوادث من الأجسام وغيرها إلى الطبيعة

والطبيعة عرض قائم بجسم فمن جعل المحدث للإنسان في بطن أمه وما فيه من الأعضاء المختلفة وقواها ومنافعها هو الطبيعة كان قوله أظهر فسادا من تلك الأقوال التي فيها إضافة الحوادث إلى مجرد مشيئة القديم من غير إثبات سبب ولا حكمة أو إضافة الحوادث إلى قدرة القادر المختار سواء كان قديما أو حادثا فإن كلا من القولين خير من إضافة ذلك إلى طبيعة هي عرض بجسم من الأجسام ليس له إرادة ولا مشيئة مع أن الجنين المخلوق في الرحم أكمل من الرحم وقواها ثم فلاسفة هؤلاء إذا قالوا أن هذه الحوادث تحدث بسبب حركات الأفلاك وأن ذلك يعدها لقبول الفيض عليها من العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه إلى إقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من إثبات العقل الفعال كانوا محتاجين في جميع ما يقولونه الى اقامة الدليل على أنه سبب وما يذكرونه من اثبات العقل الفعال كلام باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع وإنما يقوم الدليل على أن الحوادث تصدر عن حركات حي مختار وتلك هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وليست الملائكة هي العقول التي يثبتها هؤلاء فإن العقل الأول عند هؤلاء هو المبدع لكل ما سوى الله والعقل الفعال عندهم هو المبدع لكل ما تحت فلك القمر وأهل الملل يعلمون بالاضطرار من دين الرسل أنه ليس عندهم أحد غير الله يخلق جميع المبدعات ولا أنهم أثبتوا ملكا من الملائكة أبدع كل ما تحت السماء بل الملائكة عندهم عباد لله ليس فيهم من هو مستقل بإحداث جميع الحوادث فضلا عن أن يكون مبدعا لكل ما سوى الله وسواه

كما يقوله هؤلاء الفلاسفة في العقل الأول قال الله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} وقال تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} وأيضا فبتقدير ثبوت العقل الفعال وما قبله من العقول فهذه عندهم هي لازمة لذات الله متولدة عنه معلولة له وحينئذ فالحوادث الحادثة لا تجوز أن تصدر عنها لأن

ذلك يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإذا قالوا أن حركات الأفلاك توجب تحريك العناصر حتى تمتزج امتزاجات معدة لقبول الفيض كان هذا باطلا من وجوه منها أن يقال فالحوادث كلها من حركات الأفلاك وما يحدث عنها لا بد لها من محدث ومحدث الحوادث لا يجوز أن يكون علة تامة أزلية لأن العلة التامة الأزلية مستلزمة لمعلولها فيجب أن يكون معلولها مقارنا لها في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من الحوادث صادرا عن الواجب الوجود بواسطة أو بغير واسطة وحينئذ فلا يكون للحوادث محدث وأيضا فنفس حركة الفلك الأعلى حركة واحدة متشابهة بسيطة لا توجب بنفسها آثارا مختلفة إلا لاختلاف القوابل كما أن الشمس تبيض جسما وتسود جسما وتلين جسما وتيبس جسما بحس القوابل المختلفة فإذا كان حركته بسيطة والعقل بسيطا لم يصدر عنهما أمور مختلفة وكذلك الأفلاك التي تحته لها حركات معدودة محصورة وكل منها حركته بسيطة وليس في شيء من هذه الحركات والمتحركات ما يوجب هذه الأعيان والحوادث المختلفة اختلافا لا يحصى عدده في الصفات والأقدار والحركات هذا مع قولهم أن الواحد البسيط لا يصدر عنه إلا واحد فيعلم بالضرورة أن هذه الحوادث الكثيرة المختلفة ليست صادرة عن عدد محصور في البسائط وأيضا فيقال تلك الحركات والمتحركات والعقول المعلومة أمور مختلفة متعددة فإن صدرت عن واحد بطل قولهم لا يصدر عن الواحد إلا واحد وإن صدرت عن موصوف

بالصفات والأفعال القائمة بطل قولهم بالموجب بالذات وعلى التقديرين يبطل مذهبهم وأيضا فإن الواحد البسيط الذي يذكرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فإنه وجود مطلق والمطلق إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وأما المطلق بشرط الإطلاق فظاهر وأما المطلق لا بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي فهذا أيضا لا يوجد في الخارج كليا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإنما يوجد معينا مشخصا جزئيا لكن ما في الذهن كلي بمعنى أنه مطابق لتلك الجزئيات كمطابقة اللفظ العام لأفراده وأيضا فذلك الواحد إن كان الصادر عنه واحدا لم يصدر عن الآخر إلا واحدا وكذلك هلم جرا فيلزم أن لا يكون في العالم ثرة كثرت وإن صدر عنه أكثر من واحد بطل أصلهم وإذا قالوا فيه جهات كالوجوب والإمكان وعقله لمبدعه وعقله لنفسه ونحو ذلك فيصدر عنه باعتبار وجوبه عقل وباعتبار إمكانه جسم ونحو ذلك من الهذيان الذي يقولونه في هذا الموضع قيل لهم تلك الأمور إما أن تكون وجودية وإما أن تكون عدمية فإن كانت وجودية وقد اتصف بها الصادر الأول فقد صدر عن المبدع الأول أكثر من واحد وإن كانت عدمية كان الواحد صدر عنه باعتبار اتصافه بأمور عدمية أكثر من واحد وحينئذ فالواجب الوجود يتصف بالأمور العدمية بالاتفاق فيجب أن يجوز أن يصدر عنه أكثر من واحد هو أحق بذلك من الصادر الأول الذي هو العقل الأول عندهم

وبالجملة فالأدلة الدالة على بطلان قولهم كثيرا جدا والكلام على هذا وغيره قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن أقوال هؤلاء ليست مطابقة لما أخبرت به الرسل كما ليست مطابقة لما دل عليه العقل الصريح فلا هي موافقة للمنقول الصحيح ولا للمعقول الصريح ولكنهم يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات كما ظهر ذلك في الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وأمثالهم وكما ظهر ذلك في متصوفة الفلاسفة الذين يزعمون أن أخبار الأنبياء مطابقة لأقول هؤلاء الفلاسفة وكما ظهر ذلك فيمن يريد أن يجمع بين الشريعة والفلسفة كابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما وكما سلك نحوا من ذلك أهل الوحدة والحلول كابن عربي وابن سبعين وابن قسي صاحب خلع النعلين وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء أعظم مخالفة لصريح المعقول مع صحيح المنقول من المعتزلة ونحوهم والمعتزلة ونحوهم أقرب منهم ومتكلمة أهل الإثبات للصفات والقدر مثل الكرامية والكلابية والأشعرية

والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه فأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث والسنة والجماعة فهم أولى الطوائف بموافقة المعقول الصحيح والمنقول والصحيح والكلام في مثل هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وإنما ذكرنا ذلك هنا لأن المعجزات من جملة الحوادث ففي حدوثها للطوائف من الكلام ما نبهنا عليه والمقصود هنا بيان بطلان قول من يقول أن أسبابها قوى نفسانية وقد ذكرنا أن الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة ونحوهم يبطلون ذلك بناء على أصولهم وهؤلاء يبطلون ذلك بناء على أن المؤثر في جميع الحوادث هو قدرة الله وأما المعتزلة فلا يبلطون تأثير الحي القادر ولكن كثير منهم يقول بإبطال تأثير النفوس وإذا قال الفيلسوف قول هؤلاء باطل لثبوت القوى والطبائع قيل له القول الذي بنيت عليه هذا القول هو أبطل من أقوال هؤلاء فإنك بنيت ذلك على أن فاعل العالم موجب بالذات وأنه علة تامة مستلزمة لمعلولها وقد تبين بصريح العقل بطلان هذا القول وتبين انه مستلزم أن لا يكون للحوادث محدث وإذا كان كذلك لم يكن لك أن تبطل قولهم مع تصحيح قولك بل إما أن يبطل القولان أو يصح أحدهما

وحينئذ فيكون قولهم أولى بالصحة وقولك أولى بالبطلان فثبت بطلان قولك على التقديرين وبيان ذلك أن يقال صحة قولك تحتاج أولا إلى أن قوى النفوس يصدر عنها مثل هذه الآثار وهذا القدر منازعك فيه أكثر ممن يوافقك على تأثير الطبائع فجمهور الفلاسفة والطبائعيين لا يقرون بها كما يقرون بأن النار تسخن والخبز يشبع والماء يروي ثم بعد هذا إذا ثبت لقوي النفس تأثير لم يمكن أن يثبت تأثيرها في هذه الحوادث العظيمة ثم تحتاج مع ذلك أن تنفي أن يكون هناك أسباب أخر غير هذه ثم بعد ذلك كله يبقى الكلام في الأسباب والمسببات فأنت تحتاج إلى عقاب عظيمة لا تقدر على تقريرها حتى تصل إلى مسألة الأسباب وحينئذ فتجتمع أنت ومنازعوك من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية ونحوهم وأما جمهور المسلمين فهم لا ينكرون الأسباب والمسببات لا في الجماد ولا في الحيوان كما تقدم لكن يعترفون بكل ما دل على صحته الدليل سواء كان الدليل نقليا أو عقليا وهم وإن بينا أن طريقة أهل الكلام أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من طريق الفلاسفة فإنهم يعترفون بما في طريقتهم من النقص والعيب وجحد بعض الحق والتزام بعض الباطل.

ولهذا كان السلف والأئمة يذمون أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا الكلام المشتمل على نوع من الباطل ويمنعون أن ترد بدعة ببدعة ويقابل الباطل بالباطل ويرد الفاسد بالفاسد ولكن مع كون هذا يذم ويعاب فلا ينكر كونه خيرا من كلام أولئك كما أنا وإن كنا نذم ما يوجد في بعض المسلمين من ظلم وجهل فنحن نعلم أن ما في الكفار من ذلك أعظم وإن كنا لا ننكر ما يوجد في بعض أهل السنة والجماعة من جهل وظلم فنحن نعلم أن الجهل والظلم في الرافضة أكثر

الإجابة على الكلام الوارد في السؤال من وجوه

فصل إذا تبين هذا فيقال الكلام على هؤلاء من وجوه أحدها أن يقال قولكم هذا قول بلا علم وهو قول لا دليل على صحته وهذا يقال قبل الجزم ببطلان قولهم فإنهم أولا يطالبون بالدليل الدال على صحة قولهم وليس لهم على ذلك دليل أصلا بل عامة ما يعتمدون عليه التجويز الذهني والذي قرره ابن سينا وأمثاله ليس فيه ما يدل على أن هذا هو الواقع بل غاية مطلوبهم تجويز ذلك وإمكانه مع أن ذلك باطل وأيضا فإثبات قوى النفوس لا يوجب مثل هذه الآثار ولا ريب أن المعجزات المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى مما اتفق الناس على أن قوى النفوس لا تقتضيها والفلاسفة يسلمون ذلك لكن إنما يقرون من المعجزات بما يظنون أنه يمكن إحالته على قوى النفوس كإنزال المطر

وزلزلة الأرض ونحو ذلك مما يكون فيه استحالة الجسم من حال إلى حال قابل له فإذا حصل قوة فاعلة مع القوة القابلة حصل ذلك وإذا كان الهواء يستحيل ماء بأسباب تقتضي ذلك وحركة الأرض وزلزلتها ممكنة بأسباب وأمراض الجسم مما يحصل بأسباب أمكن حصول ذلك بالقوى النفسانية والساحر يؤثر في أحوال الأجسام ولا يؤثر في قلب الأعيان فيؤثر في أسباب المرض والموت ونحو ذلك وأما جعل الخشب حية فهذا عندهم غير ممكن لا بقوى نفسانية ولا غيرها وأما من أنكر أن يكون لقوى النفوس تأثير بالكلية كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام من الأشعرية والمعتزلة ومن الأطباء والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يسندون المنع إلى هذا الأصل ولكن نحن لا نحتاج إلى ان ننبه على هذا الأصل بل لا يمتنع أن يكون لقوى النفوس نوع تأثير كما لقوى سائر الأعيان وإن كانت الأعيان وقواها متفاوتة فلا ريب أن قوة جبريل الذي قال الله فيه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} وقال فيه {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} وقد روى أنه قلع قرى قوم لوط الستة ورفعها ثم قلبها عليها فلا ريب أن هذه القوة التي

للملك مما امتاز بها على أصحاب القوى المعروفة لما نشاهده من الحيوان وقد بينا أن هؤلاء يقولون ما ذكره ابن سينا وأمثاله كما ختم إشاراته بأن قال الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مبادىء ثلاثة أحدها الهيئة النفسية وثانيها خواص الأجسام العنصرية مثل جذب المغناطيس للحديد بقوة تخصه وثالثها قوة سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئات وضعية أو بينها وبين قوى نفوس أرضية مخصوصة بأحوال فلكية فعلية أو انفعالية تستتبع حدوث آثار غريبة. قال: والسحر من قبيل القسم الأول بل المعجزات والكرامات والنيرنجيات من قبيل القسم الثاني والطلمسات من قبيل القسم الثالث. فزعم أن أسباب خوارق العادات في هذا العالم هي هذه الأسباب الثلاثة أما القوى النفسانية وأما القوى الجسمانية العنصرية وأما القوى الفلكية مع القوى الجسمانية أو النفسانية

وهذا النفي لم يذكر عليه دليلا ولا دليل له عليه والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل وهو يقول ليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن حكمته دون الخرق في تصديقك ما لم يقم بين يديك بينته وهذا كنفيهم للجن والملائكة وهؤلاء يلزمهم إقامة دليل علىالنفي ولا دليل لهم ولكن كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وهذا مما ينبغي أن يعرف فإن عمدة هؤلاء في حصرهم الفاسد هو النفي والتكذيب بلا علم أصلا. وأيضا فإنا قد علمنا نحن وغيرنا بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية بطلان هذا الحصر وأنه يحدث في هذا العالم أمور كثيرة عن أحياء ناطقين من غير نفوس بني آدم وغير الأجسام العنصرية وغير الفلك وقواه وقد ذكر ابن سينا لما تكلم عن إثبات الخوارق على أصول إخوانه الفلاسفة الذين يزعمون أن المبدع للعالم موجب بذات لا قدرة لها ولا مشيئة وأنه يمتنع انشقاق الأفلاك وتغير هذا العالم وهؤلاء يكذبون أو يكذب كثير منهم بكثير من الغرائب التي يقر بها ابن سينا وأمثاله فإن الالهيين من الفلاسفة يقرون بأمور كثيرة ينكرها الطبيعيون منهم. فلما ذكر إمكان ما صدق به من الغرائب وذكر دليل

إمكانه على أصول إخوانه قال اعلم أن هذه الأشياء ليس القول بها والشهادة لها إنما هي ظنون إمكانية صير إليها من أمور عقلية فقط وإن كان ذلك أمرا معتمدا لو كان ولكنها تجارب لما بينت طلبت أسبابها ومن العادات المتفقة لمحبي الاستبصار أن تعرض لهم هذه الأحوال في أنفسهم أو يشاهدوها مرارا متوالية في غيرهم حتى يكون ذلك تجربة في إثبات أمر عجيب ليكون حجة وداعيا إلى طلب سببه فإذا اتضح حسمت الفائدة به واطمأنت النفس إلى وجود تلك الأسباب وخضع الوهم فلم يعارض العقل فيما قدر فعله أو رؤياه منها وذلك من أجم الفوائد وأعظم المهمات ثم إني لو اقتصصت جزئيات هذا الباب فيما شاهدناه وفيما حكاه من حدثناه لطال الكلام ومن لم يصدق الجملة هان عليه أيضا أن لا يصدق التفصيل فهذا كلامه وقد تبين أنه إنما ذكر من أسباب الغرائب الأخبار بالمغيبات لم يذكره لمجرد كونه ظنا ممكنا علم إمكانه بأدلة عقلية بل لما علمت هذه الغرائب بالمشاهدة

والخبر الصادق فطلبت حينئذ أسبابها وهذا بعينه يقال له فيما علم غيره ثبوته بالمشاهدة والأخبار الصادقة فمن شاهد وجود الجن ورآهم أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة أو علم من الأدلة اليقينية ما يدل على ذلك كما قد علم ذلك من شاء الله كان قد علم يقينا أن الجن ليست قوى نفسانية وعلم أن من الغرائب ما يكون عن أفعال الجن وأخبارهم. وهذا أمر معلوم لجميع الأمم من العرب والترك والهند وغيرهم والأمور المتواترة عند الأمم عن الكهان تفوق الإحصاء والذي علمناه في زماننا ممن تحمله الجن وتطير به في الهواء وتسرق له أنواع الأطعمة من الحلاوة وغيرها وتأتيه بها وتخبره عن بعض الأمور الغائبة عنه بأمور كثيرة يطول وصفها في هذا الباب وأما أمر الملائكة فهو أجل وأعظم وأخبارهم متواترة عند أهل الكتب وأما آثارهم في العالم فيعلم بالمعاينة والمشاهدة فدعوى المدعي بعد هذا أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية من أبطل الباطل فإن السحر كثير منه يكون بالشياطين كما قال الله تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} إلى آخر الآية.

وكتب السحر مملوءة من الأقسام والعزائم على الجن بساداتهم الذين يعظمونهم ولذلك كانت الإنس تستعيذ بالجن كما قال الله تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} كانوا إذا نزل الرجل منهم بواد يقول أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فأنزل الله هذه الآية وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعوذ الحسن والحسين فيقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة" ففرق بين الشيطان وبين الهوام وبين أعين الإنس كما يدل ذلك على وجود الضرر في هذه الجهات الثلاث الإنس والجن والهوام وقد قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقال تعالى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخرها فأمره بالتعوذ من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس

وقد أخبر الله في كتابه عن خطابه للجن وأمره لهم ونهيه لهم كقوله {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وقوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} وقوله {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} إلى آخر السورة إلى قوله {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وقوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ} إلى آخر السورة ونحن لو ذكرنا ما رأينا وسمعناه من أحوال الجن لطال الخطاب من أحوالهم مع المؤمنين الصالحين ومن أحوالهم مع أهل الكذب والفجور كما قال الله تعالى {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} فهؤلاء قوم حصروا الوجود وأسبابه فيما علموه ولا علم عندهم بانتفاء ما لم يعلموه وغاية أحدهم أن ينفي الشيء لانتفاء دليل معين وهذا غاية الجهل وهم جهال من وجهين أحدهما عدم العلم بكثير من أنواع الموجودات وأحوالها والثاني عدم العلم بأسباب الحوادث فإنهم لما يثبتوا قدرة الرب على تغيير العالم ونفوا مشيئته التي بها تحدث الحوادث صاروا منكرين لخرق العادات فاحتاجوا في

إثبات الغرائب إلى إجرائها على ذلك القانون الباطل ولهذا بينا فساد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم وهو كون العالم متولدا عن علة موجبة بالذات مستلزمة لمعلولها فإن هذا الأصل إذا بطل بطل دعواهم أن الحوادث لا تكون إلا بهذه الأسباب وأمكن أن يكون الله هو الذي يحدثها سبحانه وتعالى بمشيئته وقدرته وإن كان ما يشاؤه ويخلقه بأسباب يخلقها وبحكمة يريدها هو سبحانه وتعالى ومما يبين جهلهم في حصرهم وأن ما ذكروه من أن أسباب المعجزات والكرامات والسحر قوى نفسانية أنهم مخطئون في فاعل السحر فخطاؤهم في فاعل المعجزات والكرامات أولى وأعظم وذلك أن السحر ليس هو مجرد قوى النفس كما ذكره باتفاق أهل المعرفة بالسحر بل السحرة مستعينون بأرواح مقارنة لهم وكتب السحر الموروثة الكشدانيين والهند واليونانيين والقبط وغيرهم من الأمم مملوءة بذكر

ذلك مثل كتب طمطم الهندي وتنكلوشا البابلي وكتب ثابت بن قرة وأبي معشر البلخي وغيرهم ممن صنف في هذا الباب وأبو عبد الله محمد بن الخطيب قد ذكر في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر والطلمسات ومخاطبة النجوم في ذلك أمورا كثيرة

وهؤلاء يعبدون الكواكب بأنواع العبادات والقرابين وتتنزل عليهم الشياطين التي يسمونها هم روحانيات الكواكب وهي أشخاص منفصلة عنهم وإن لم يروها سمعوا كلامها فتخبرهم وتخاطبهم بأمور كثيرة وتقضي لهم أنواعا من الحوائج وهذا موجود اليوم كثيرا في بلاد الترك والخطأ والعجم والهند بل وفي بلاد مصر واليمن والعراق والشام وغير ذلك وأعرف من هؤلاء عددا وهم كما قال تعالى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وقال تعالى {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وقد تقدم ذكرها فإذا كان هؤلاء مع أهل الملل متفقين على ما شاهدوه وسمعوه من وجود هذه الأحياء الناطقين المنفصلين عن نوع

الإنسان وعن العناصر الأربعة والأفلاك وأنهم كثيرا ما تصدر منهم الغرائب فكيف يقال إن أسباب الغرائب هي الثلاثة فقط فتبين أن الذي يجعل السحر إنما يكون عن مجرد قوى نفسانية من أعظم الناس جهلا وضلالا وقائل ذلك في المعجزات أجهل منه وأضل بكثير وأيضا فإن هؤلاء سواء قالوا بقدم العالم أو حدوثه وسواء قالوا مع الحدوث بدوام فعل الرب أو تجدده بعد أن لم يكن وسواء قالوا مع قدم العالم بأن له علة مبدعة أو لم يقولوا بذلك ليس معهم ما ينفي وجود ما لم يعلموا وجوده من الأفلاك والأرواح العلوية والسفلية وهم يصرحون بأنهم ليس معهم ما يدل على أن الأفلاك تسعة بل هم يثبتون ما اعتقدوا قيام الدليل على ثبوته وأما نفي الزيادة فلا دليل لهم على نفيه وإذا كان هذا في الأفلاك التي هي محسوسة ودلهم على عددها كسوف الكواكب بعضها بعضا واختلاف حركات الكواكب السبعة وغير ذلك أولى أن لا يكون لهم دليل على نفيه وحينئذ فلا دليل لهم على نفي ملائكة كثيرة أضعاف أضعاف العقول العشرة ولا على نفي ملائكة تدبر أمر السماء والأرض والسحاب والمطر وغير ذلك فلو أخبر بوجود ذلك من لم يعلم صدقه ولا كذبه لم يجز تكذيبه إلا بدليل فكيف إذا أخبر بذلك الأنبياء الصادقون المصدوقون وحينئذ فأفعالها من أعظم الأسباب في وجود الغرائب فكيف يقال لا سبب لها إلا هذه الأسباب الثلاثة. وأيضا فالدلائل الدالة على وجود الملائكة غير إخبار الأنبياء كثيرة منها أن يقال الحركات الموجودة في العالم

ثلاثة قسرية وطبيعية وإرادية ووجه الحصر أن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك أو من سبب خارج فإن لم تمكن حركته إلا بسبب خارج عنه كصعود الحجر إلى فوق فهذه الحركة القسرية وإن كانت بسبب منه فإما أن يكون المتحرك له شعور وإما أن لا يكون فإن كان له شعور فهي الحركة الإرادية وإلا فهي الطبيعية والحركة الطبيعية في العنصار إما أن تكون لخروج الجسم عن مركزه الطبيعي وإلا فالتراب إذا كان في مركزه لم يكن في طبعه الحركة فالمتولدات من العناصر لا تتحرك إلا بقاسر يقسر العناصر على حركة بعضها إلى بعض وإذا كانت الحركات الطبيعية والقسرية مفتقرة إلى محرك من خارج علم أن أصل الحركات كلها الإرادة فيلزم من هذا أن يكون مبدأ جميع الحركات من العالم العلوي والسفلي هو الإرادة وحينئذ فإن كان الرب هو المحرك للجميع بلا واسطة ثبت أنه فاعل مختار فبطل أصل قولهم وجاز حدوث المعجزات عن مشيئته بلا سبب وإن كان حركها بتوسط إرادات أخرى فأولئك هم الملائكة وقد علم بالدلائل الكثيرة أن الله خالق الأشياء بالأسباب فعلم أن الملائكة هم الوسائط فيما يخلقه الله تعالى كما قال تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرا} وإذا كانوا موجودين أمكن حدوث الحوادث عنهم وبطل قول من يزعم أنه ليس لها إلا الأسباب الثلاثة المتقدمة.

وأيضا فهؤلاء يقولون أن المقتضي لخوارق العادات إما أن يكون قوى نفسانية أو جسمانية وإن كانت جسمانية فإما أن تكون جسمانية عنصرية أو جسمانية فلكية فالخوارق الحاصل من التأثيرات النفسانية هي عندهم من المعجزات والكرامات والسحريات والحاصلة من القوى العنصرية كجذب المغناطيس وهي النيرنجيات والحاصلة من القوى الفلكية هي الطلسمات والقوى الفلكية لا تؤثر في الخارق إلا عند انضمام القوى العنصرية القابلة أو القوى النفسانية الأرضية الفاعلة وهذا هو الطلسمات ومن أعظمهم إثباتا لخوارق العادات ابن سينا وقد ذكر أسباب الخوارق في أربعة أمور في سبب التمكن من ترك الغذاء مدة وهو أن النفس تشتغل بما يعرض لها من معرفة أو محبة وخوف ونحو ذلك حتى لا تجوع بسب أن القوى الهاضمة مشتغلة عن تحليل الغذاء وفي سبب التمكن من الأفعال الشاقة مثل أن يطيق العارف فعلا أو حركة تخرج عن وسع مثله وهذا كما أن النفس إذا حصل لها غضب وفرح أو انتشاء ما بسكر معتدل وأمثاله حصل لها قوة لم تكن قبل ذلك وكذلك إذا حصل لها من أحوال العارفين ما يقويها وفي سبب التمكن من الإخبار عن الغيوب ومضمونه أنه قد

يعلم الغيب في اليقظة كما يعلمه في النوم وادعوا أن سبب ذلك أن العلم بالحوادث منتقش في العقل الفعال أو النفس الفلكية فإذا اتصلت النفس الناطقة بذلك علمت ذلك ثم تارة يصوره الخيال في المثال وتارة لا يصوره والسبب الموجب لاتصال النفس ضعف تعلقها بالبدن والضعف تارة يكون لجنون أو مرض كما يصيب أهل المرة السوداء وتارة يكون لفرط الجوع أو التعب أو غير ذلك من الأحوال وتارة يكون لرياضة النفس وهذه الأقسام الثلاثة الصبر عن الأكل مدة وقوة البدن والإنذار بالمنامات وما يجري مجراها أمر يحصل للمسلم والكافر والبر والفاجر فيكون سبب الخوارق وتصرفها في العناصر فإن النفس كما أثرت في بدن نفسها بالتحريك والتحويل من حال إلى حال جاز أن تؤثر في عنصر العالم ويكون كالبدن لها فتؤثر بالزلزلة وإنزال المطر ونحو ذلك قال فالذي يقع له هذا في جبلة النفس ويكون رشيدا مزكيا لنفسه فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء والذي يقع له هذا ويكون شريرا

ويستعمله في الشر فهو الساحر الخبيث. قال: والإصابة بالعين تكاد أن تكون من هذا القبيل, قال: وإنما يستبعد هذا من يفرض أن يكون المؤثر في الأجسام ملاقيا أو مرسل جزءا ومنفذ كيفية بواسطة ومن تأمل ما وصفناه استسقط هذا الشرط عن درجة الاعتبار فهذا ملخص كلامهم في هذا الباب ومعلوم أن جميع ما ذكروه هو أمر معتاد كثير ليس من خوارق العادات ولا من جنس المعجزات ولهذا قال ابن سينا بعد ذكر ذلك وذكر ما تقدم حكايته من أنه من لم يصدق بالجملة هان عليه التفصيل ثم قال ولعلك قد بلغك عن بعض العارفين أخبار تكاد تأتي بتقلب العادة فتبادر إلى التكذيب وذلك مثل ما يقال أن نبيا ربما استسقى للناس فسقوا

أو استشفى فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف عنهم الوباء والموتان أو السيل أو الطوفان أو خشع لبعضهم سبع أو لم ينفر عنه طير أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه أسبابا من أسرار الطبيعة وربما تأتي لي أن أقص بعضها عليك ثم ذكر أن ذلك قد يكون سببه من قوة النفس فإنها إذا كانت تتصرف في بدنها جاز أن تتصرف في غيره ومعلوم أن ما ذكروه لا يفيد الجزم بما قالوه وإنما غايته إمكان ذلك وجوازه بأن يقال إذا جاز أن يرى الإنسان مناما يدل على أمور غائبة أمكن أن يكون العلم بجميع الأمور الغائبة من هذا الباب وإذا جاز أن تؤثر النفس في بدنها وفي شيء صغير جاز أن تؤثر في مجموع الهواء والماء والتراب والنار وإذا جاز أن تقوى النفس على بعض الأفعال جاز أن تقوى على الطيران في الهواء والمشي على الماء وقلب قرى قوم لوط وفلق البحر وإنزال المن والسلوى وتفجير اثنى عشر عينا من الحجر وقلب العصا حية وإخراج القمل والضفادع

وإنزال المائدة عليها خبز وسمك وزيتون وأمثال ذلك ومن المعلوم أن هذا لا يدل على نوع هذا الممكن بلا ريب فلم قلتم أن هذا هو الواقع وكلامهم في هذا مثل كلامهم في إضافة سائر أنواع الصرع إلى الخلط السوادي والبلغمي فإن هذا إنما يصح أن لو لم تكن الجن موجودين والأطباء ليس عندهم دليل على نفي الجن ولا في صناعتهم ما يمنع وجود الجن وقدماء الأطباء كأبقراط وغيره معترفون بذلك ولكن يقولون ليس في صناعتهم ما يدل على ثبوت الجن وعدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الدليل ليس علما بعدم المدلول عليه فإن عدم ما يدل على الشيء المعين لا يقتضي انتفاؤه فكيف إذا علم بالدلائل الكثيرة أن الجن قد تصرع الإنس كما قال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي أن الأطباء يقولون أن الجني لا يدخل بدن الإنسي فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه

وهذا أمر قد باشرناه نحن وغيرنا غير مرة ولنا في ذلك من العلوم الحسيات رؤية وسماعا ما لا يمكن معه الشك لكن المقصود هنا أن نبين أنهم ينفون الشيء بلا علم والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل فهم ليس معهم في كون هذه الآيات حادثة عن القوى النفسانية إلا مجرد التجويز والإمكان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وأيضا فلا دلالة لهم على إمكان كون النفوس تؤثر في مثل هذا أصلا إلا مجرد قياس بعيد لا يقتضي ذلك فهذا أول الوجوه أن يقال أنتم لا دليل لكم بكون هذه الآثار من قوى النفوس الوجه الثاني أن يقال من هذه الآثار أمور كثيرة تعترفون أنتم بأنه يمتنع كونها من آثار النفوس كما تقدم التنبيه عليه فبطل قولكم أن الآثار المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى من آثار النفوس فإن مجموع ما ذكروه ليس فيه ما يكاد يخرج عن قياس الأمور المعتادة إلا حوادث الأكوان كنزول المطر وشفاء المريض وزلزلة الأرض والخسف وصرف السيل والوباء ورجوع السبع والطير وهذه الأمور يحصل جنسها بأسباب معتادة فإن المطر ينزل بأسباب متعددة وكذلك شفاء المريض وحدوث الخسف والهلاك يحصل بأسباب معتادة كما يحصل نوعه بأسباب معتادة وهذا

بخلاف انفلاق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وانقلاب العصا حية ونزول المن والسلوى وانفجار اثنتي عشرة عينا من الحجارة ومثل نبع الماء من بين الأصابع وتكثير الطعام والشراب حتى يكفي أضعاف من كان يكفيه وانقلاع الشجرة ثم عودها إلى مكانها ثابتة فهذه الأمور وأمثالها لا يصدر جنسها عن سبب معتاد فهذه خارقة للعادة بخلاف ما يكون خارقا للعادة في قدره لا في جنسه وهذا الجنس هم يمنعون حصوله في العالم لا بقوي نفس ولا غيرها والعلم بحصول مثل ذلك إما بالمعاينة وإما بالأخبار الصادقة يبين فساد أصلهم وهذا مما ينبغي للعاقل أن يتدبره فإن القدر الذي بينوا سببه من الغرائب ليس من جنس خوارق العادات بل هو من جنس الأمور المعتادة وعلى هذا فيكونون منكرين لجنس الخوارق وهذا هو أصلهم الفاسد الذي يعلم فساده بدلائل كثيرة ولكن ابن سينا سلك طريقة أراد أن يجمع فيها بين أصولهم الفاسدة وبين التصديق بنوع من الغرائب وأن يجعل الكرامات والمعجزات من هذا النمط فإن السحر هو من الأمور المعتادة كالأسباب التي يحصل بها المرض والموت ونحو ذلك ومنه أمور تخالف العادة والطبيعة ولكن هو مما اعتيد أنه يحصل بالشياطين لكن مقرونا بما يدل على كذبه وفجوره فلا يشبه كرامات الصالحين فضلا عن المعجزات والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان فساد قول من جعل المعجزات قوى نفسانية

الوجه الثالث: أن يقال الخوارق ثلاثة أنواع منها ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية ومنها ما هو من جنس العلم الخارج عن قوى البشر ومنها ما هو من جنس المقدورات الخارجة عن قدرة البشر ولهذا قال نوح عليه السلام وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} وقال الله تعالى لخاتم الرسل {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فالغناء من جنس الاستغناء عن الأكل والشرب مدة والعلم من جنس الإخبار عن الغيوب والقدرة من جنس الأفعال الشاقة ببدنه والتصرف في العناصر بالاستحالة والزلزلة ونحو ذلك فهم إنما ذكروا سبب مثل هذا أما سبب انقلاب العصا حية وخروج الناقة من الأرض وأمثال ذلك فهم معترفون بأنه غير ممكن ولا يمكنهم إحالة سببه على قوى النفس الوجه الرابع أن يقال النوع الذي يقولون عنه أنه لقوى النفس يؤثر تأثيرا لا يدعون أن تأثيره يبلغ إلى أن ينزل ماء الطوفان الذي غرق أهل الأرض ولا أن يرسل الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوما التي أهلكت عادا ولا أن تقتلع قرى قوم لوط وتقلبها حتى هلك كل من

فيها واتبعوا بحجارة تتبع الشارد منهم ولا ترسل طيرا أبابيل بحجارة من سجيل تنزل على أصحاب الفيل واحدا واحدا مع كل طير ثلاثة أحجار صغار حجر في منقاره وحجران في رجليه حتى هلك أصحاب الفيل وصار كيدهم في تضليل حتى أرسل عليهم حجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ولا في قوى النفس أنها صبيحة كل يوم ينزل المن والسلوى الذي يكفي عسكر موسى وتظللهم بالغمام حيثما ساروا وتطيل الثبات معهم كلما طالوا وتفجر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشرة عينا لكل سبط عين ولا يفرق البحر اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم حتى إذا خرج منه عسكر موسى ودخله عسكر فرعون انطبق عليهم فأغرقهم كلهم وكذلك أيضا من الخوارق الخارجة عن قوى النفوس إحياء الموتى من الآدميين والبهائم وقد ذكر الله ذلك في غير موضع من كتابه فذكره في خمسة مواضع في سورة البقرة وقال تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال تعالى {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}

وقال تعالى {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقد ذكر الله سبحانه إحياء المسيح للموتى بإذن الله وذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف ومكثهم ثلاثمائة سنة شمسية وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية نياما لا يأكلون ولا يشربون وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} وهذه الأمور التي قصها الله من أحياء الآدميين من بعد موتهم مرة بعد مرة ومن إحياء الحمار ومن إبقاء الطعام والشراب مائة عام لم يتغير ومن إبقاء النيام ثلاثمائة وتسع سنين ومن تمزيق الطيور الأربعة وجعلهن أربعة أجزاء على الجبال ثم أتيانهن سعيا لما دعاهن إبراهيم الخليل عليه السلام فيها أنواع من الاعتبار منها تثبيت المعجزات

للأنبياء وأنها خارجة عن قوى النفس فإن الفلاسفة وسائر العقلاء متفقون على أن قوى النفوس لا تفعل مثل هذا بل ولا شيء من القوى المعروفة في العالم العلوي والسفلي الثاني أن في ذلك إثبات أن الله فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته يحدث ما يشاء بحسب مشيئته وحكمته ليس موجبا بالذات فإن الموجب بالذات مستلزم لآثاره فيمتنع أن تتغير أفعاله عن القانون الطبيعي والأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية وإن كانت تحدث بها أنواع من الغرائب في هذا العالم فلا بد من استعداد القوابل ولا بد أن تكون تلك الاتصالات جارية علىالقانون المعتاد عندهم وكلاهما منتف في هذه الخوارق فالمادة السفلية لا تقبل مثل هذا في العادة والاتصالات الفلكية لا يحدث عنها مثل هذا ولهذا كان ما يحدث من الغرائب بسبب تمزيج القوى الفعالة السماوية أو القوى المنفعلة الأرضية ليس هو من هذا الباب بل هو مما اعتيد نظيره مثل دفع بعض الحيوان عن مكان أو جذبهم إليه أو أمراض بعض الأبدان أو موتها أو غير ذلك من الأمور الثالث أن هذا من أعظم الدلالة على إمكان معاد الأبدان وإعادة الأرواح إليها فإنه لا أدل على إمكان الشيء من وقوعه أو وقوع نظيره فلما كان هذا واقعا علم أنه ممكن وكذلك

إنزال عيسى عليه السلام المائدة من السماء كل يوم عليها زيتون وسمك وغير ذلك هو من الأمور الخارجة عن قوى النفس فإن تأثير النفس في هيولي العالم إنما هو بحسب ما يقبل الهيولي وتعليق هذا في الهواء ليس هو مما يقبله الهواء وأيضا فتأثير النفس في البسيط يكون بسيطا لا يكون فيه من التركيب مثل هذا كما أن النفس ليس في قواها توليد حيوان من بطن أمه من غير جماع إلى أمثال ذلك من خوارق العادات التي يعترفون هم أن قوى النفس وإن كانت لها تأثير في الجنس العالي من ذلك فلا يبلغ تأثيرها إلى هذا الحد وهذا كما أن قوى البدن معروفة من المشي والهرولة ونحو ذلك وليس في قوى بدن أحد أن يحمل جبلا ولا ست مدائن على كاهله ولا في قوى بدنه أن يطير في الهواء وأمثال ذلك فتبين أنهم معترفون أن هذه الأمور لا يمكن إضافتها إلى قوى النفس الوجه الخامس أن يقال نحن لا ننكر أن النفس يحصل لها نوع من الكشف أما يقظة وإما مناما بسبب قلة علاقتها مع البدن إما برياضة أو بغيرها وهذا هوالكشف النفساني لكن قد ثبت أيضا بالدلائل العقلية مع الشرعية وجود الجن وأنها تخبر الناس بأخبار غائبة عنهم كما للكهان المصروعين وغيرهم والناس يسمعون من المصروع من أنواع الكلام والأخبار عن الغائبات واللغة الغريبة التي يعلمون باضطرار أنها ليست في قوة ذلك الإنسان وكذلك أهل العبادات

الشيطانية من البراهمة والبخشية ونحوهم من عباد المشركين ومن أشبههم من المنتسبين إلى أهل القبلة كأنواع من اليونسية والأحمدية والخالدية والدسوقية وأمثال هؤلاء من أهل العبادات المشركية المخالفة للكتاب والسنة فيسمع منهم حال السماع من أنواع

الكلام واللغة الغريبة التي لا يمكن ذلك الشخص أن يتكلم بها ما يعلم أن المتكلم على لسان غيره أو الملقن له ذلك الكلام غيره لا أن مجرد نفسه فعلت ذلك بدون سبب منفصل من الأرواح وإذا كان هذا مما شوهد في النفوس الخبيثة وأن كثيرا من إخباراتها تكون عن إخبار أرواح شيطانية لها فلأن يكون إخبار الأنبياء عن إخبار أرواح الملائكة بطريق الأولى وهم يقولون الشياطين عندنا قوى النفس الخبيثة والملائكة قوى النفس الصالحة قلنا قد تقدم أن جمهور المسلمين لا ينكرون وجود هذه القوى كما تقدم ولكن المقصود هنا أنه يعلم وجود أمور منفصلة مغايرة لهذه القوى كالجن المخبرين لكثير من الكهان بكثير من الأخبار وهذا أمر يعلمه بالضرورة كل من باشره أو من أخبره من يحصل له العلم بخبره ونحن قد علمنا ذلك بالاضطرار غير مرة فهذا نوع من المكاشفات والإخبار بالغيب غير النفساني وأما القسم الثالث وهو ما تخبر به الملائكة فهذا أشرف الأقسام كما دلت عليه الدلائل الكثيرة السمعية والعقلية وإذا ثبت أن الإخبار بالمغيبات يكون عن أسباب نفسانية ويكون عن أسباب خبيثة شيطانية وغير شيطانية ويكون عن أسباب ملكية كان ما ذكروه نوعا من الأنواع الثلاثة وهو أضعفها فكان غاية إيمانهم بالنبوة جعلهم النبي بمنزلة رجل من أضعف صالحي الناس

الوجه السادس: أن يقال قد علمنا بالضرورة والتواتر أن الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان تعجز قدرته عن الوصول إليه وهذا قد علمناه نحن في غير صورة وغيرنا يعلم من جزئيات ذلك ما لم نعلمه ومن شك في أصل ذلك فليرجع إلى من عنده علم ذلك وإلا فليس للإنسان أن يكذب بما لا يعلم ونحن نعرف من ذلك أمورا كثيرة جدا ونعرف عددا كثيرا حملوا في الهواء من مدائنهم إلى عرفات وإلى مكة في غير وقت عرفات وبعضهم كان كافرا لم يسلم وبعضهم منافق لا يقر بوجوب الصلاة وبعضهم جاهل يعتقد أن وقوفه بعرفات بلا إحرام مع رجوعه إلى بلده بلا طواف وسعي ولا إحرام عبادة وكرامة من كرامات الصالحين ومثل عدد كبير حملوا إلى غير مكة ولو ذكرت ما أعرفه من هذا لطال الخطاب وأعرف شخصا من أصحابنا حملته الجن في الهواء من أسفل دار إلى أعلاها ووصوه بأمور الدين وتاب وحصل له خير وآخر كان معه شيطان يحمله قدام الناس بمدينة الشوبك فيصعد في الهواء إلى رؤوس الجبال وآخر كان يحمله شيطانه من جبل الصالحية إلى قرية يلدى نحو

فرسخ وطائفة حملتهم الشياطين من مدينة تدمر إلى بيت المقدس وأمرتهم أن يصلوا إلى الشمال وصلوا إليه أياما وأخبروهم أن هذه الشريعة تغير وتنسخ حتى طلبهم المسلمون إلى جامع تدمر وكانوا في مغارة واستتابوهم فلم يتوبوا بل مكثوا يصلون إلى الشمال ثلاثة أيام ثم تابوا بعد ذلك وتبين لهم أن ذلك كان من الشيطان وآخر أتى قوما يرقصون في سماع فبقي يرقص في الهواء على رؤوسهم فرآه شخص فصرخ به فسقط وكان هذا بحضرة الشيخ شبيب الشطي فقال الشيخ هذا سلبني حالي فسأله فقال لم يكن له حال وإنما شيطان حمله من الرحبة إلى هنا فصرخت فيه فألقاه وهرب وجرى نظير هذه القصة لغير واحد ومن المشهور المتواتر عند الترك ما تفعله سحرتهم وكهانهم من البخشية والطوينية وشيخهم الذي يقال له البوا ومن شرطه عندهم أن يكون مخنثا مأبونا ينكح ينصب له خركاة في ظلمة فيذبحون ذبيحة للشيطان ويغنون له فتأتي الشياطين وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة كأحوال غائبيهم وسرقاتهم وغير ذلك ويحمل البوا فيوقف به في الهواء وهم يرونه ولا يكون بينهم إذ ذاك مسلم ولا كتاب فيه قرآن هذا مشهور عندهم إلى هذا الوقت أخبرنا به غير واحد

وآخرون كانت الشياطين تأتيهم بأطعمة يسرقونها من حوانيت الناس وجرى هذا لغير واحد في زماننا وغير زماننا وأتى قوم بحلاوة من الهواء وعرفت تلك الحلاوة المسروقة وفقدها صاحبها ووصفت الآنية التي كانت فيها فرد ثمنها إليه وهذه الأمور وأمثالها معلوم لنا بالضرورة والتواتر فإذا كانت الجن تحمل الإنسان من مكان إلى مكان بعيد في الهواء وتحمل الأموال إليه من مكان بعيد وتخبره بأمور غائبة عن الحاضرين علم أن هذه الخوارق ليست من قوى النفوس بل بفعل الجن وإذا كانت الجن تفعل مثل هذا فالملائكة أعلى منهم وأقدر وأكمل وأفضل وهذه الأمور كما يصدق بها أهل الملل من المسلمين والنصارى واليهود فجمهور الفلاسفة يصدقون بها وكتب الروحانيات التي لهم مشحونة بذكر أمثال هذه الأمور وأنواع العزائم والرقي التي يذكرونها مشحونة بالأقسام على الجن والأقسام بهم والدعاء لهم والطلب منهم والذين يخاطبون الكواكب منهم وتتنزل على أحدهم روحانية الكواكب هي شيطان ينزل عليه ويخبره بأمور ويتصرف له بأمور وهذه معلومة بالتواتر عندهم فمن قال إن هذه الخوارق من آثار مجرد النفوس وأنكر وجود الجن والشياطين وأن يكون لهم تأثير في الإخبارات والخوارق كان مبطلا باتفاق أهل الملل واتفاق جمهور الفلاسفة وكان كذبه معلوما بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة أو الأخبار المعلومة بالصدق

الوجه السابع: أنه من هذا الباب ما تواتر في هذه الباب من أخبار كهان العرب وما كانت تخبرهم به من الأمور الغائبة لإخبار الجن لهم بذلك الوجه الثامن: أن المدعي لكون الخوارق التي أتت بها الأنبياء من الأخبار بالغيب من الأمور الخارجة عن قدرة البشر هي من قوى النفس إما أن يكون مصدقا للرسل فيما علم أنهم أخبروا به وإما أن يكون مكذبا لهم فإن كان مكذبا لهم كان الكلام معه أولا في تثبيت النبوات والإقرار بها وهؤلاء الفلاسفة والصابئة وأتباعهم من باطنية أهل الملل ونحوهم يعظمون أمر الأنبياء ويقرون بكمال علمهم ودينهم وصدقهم ويدعون أن ما جاءت به الأنبياء لا يناقض أصول الفلسفة وهذه طريقة القائلين بأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية وإذا كان كذلك فكلام الأنبياء حق باتفاقهم مع سائر أهل الملل وإذا كان كذلك فيقال من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست إعراضا قائمة بغيرها وأخبروا بأنهم يأتون بأخبار الأمور الغائبة وأنهم يفعلون أفعالا خارجة عن قدرة البشر كما أخبر الله تعالى عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذهبوا منه إلى لوط قال تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ

بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيم قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} وقال تعالى {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوط إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً

سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} وهذه القصة مذكورة في التوراة وغيرها من كتب أهل الكتاب كما هي مذكورة في القرآن مع العلم بأن كلا من النبيين موسى ومحمد لم يأخذها عن الآخر وهذا مما يوجب العلم بصحتها قبل ثبوت نبوتهما فإن الاتفاق على مثل هذه الحكاية من غير تواطؤ يمتنع في العادة فإذا اتفق إخبار المخبرين بمثل هذه القصة الطويلة التي يمتنع في العادة اتفاق

الاثنين فيها على الكذب من غير تواطؤ علم أنها حق فكان إخبار كل منهما بها دليلا على نبوته وقال {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} فهذه القصة فيها إثبات الملائكة وأنهم أحياء ناطقون منفصلون عن الآدميين يخاطبونهم ويرونهم في صور الآدميين الأنبياء وغير الأنبياء كما رأتهم سارة امرأة الخليل عليه السلام وكما كان الصحابة يرون جبريل إذا جاء لما جاء في

صورة أعرابي وتارة في صورة دحية الكلبي ومن هذا الباب قوله في قصة مريم {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}

وقال تعالى {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} فهذا الروح تصور بصورة بشر سوى وخاطب مريم ونفخ فيها ومن المعلوم أن القوى النفسانية التي تكون في نفس النبي وغير النبي لا يراها الحاضرون ولا يكون منها مثل هذه الأحوال والأقوال والأفعال ومريم لم تكن نبيه بل غايتها أن تكون صديقة كما قال {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقد حكى الإجماع على انه لم يكن في النساء نبية غير واحد كالقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وخلاف ابن حزم شاذ مسبوق بالإجماع فإن دعواه أن أم موسى كانت نبية هي ومريم قول لا يعرف عن أحد من السلف والأئمة وقد ثبت في الصحيح عدد من كمل من النساء وليس فيهن أم موسى بل قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت

عمران وآسية بنت مزاحم" يعني ممن قبلنا فذكرتا والتي حضنت موسى وفيمن كمل ممن ليس بنبي خديجة وآسية امرأة فرعون وغيرهما والأنبياء أفضل من غيرهم فلو كانت نبية لكان غير النبي أفضل منه أو غير الكامل أفضل من الكامل وأيضا فإن الله وصف الملائكة بصفات تقتضي أنهم أحياء ناطقون خارجون عن قوى البشر وعن العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة فعلم أن الملائكة التي أخبرت عنها الأنبياء ليسوا مطابقين لما يقوله هؤلاء الذين يقولون أن معجزات الأنبياء قوى نفسانية

وهذا كقوله {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} وقال {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} فأخبر أن الذي جاء بالقرآن رسول كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين وأنه مطاع ثم أمين وهذا يمتنع أن تكون صفة أعراض تقوم بنفوس البشر ولا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الذين يمنعون أن يكون لدعاء البشر تأثير في الملأ الأعلى وقد أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وأنه رآه بالأفق المبين وما يحصل في نفس الرسول لا يكون هنا ولا هنا وغايتهم أن يقولوا هذا تخيل في نفسه وإن لم يكن موجودا في الخارج وحينئذ فيكون الرسول من جنس آحاد

المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السماوات وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك مما يراه آحاد الناس ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الخلق ولا يكون مثل هذا ذا قوة عند ذي العرش مكين ولا يكون مطاعا ثم أمين ومنهم من يقول جبريل هو العقل الفعال الذي يفيض وليس بضنين أي بخيل بالفيض وهذا أيضا باطل من وجوه كثيرة منها أن ذاك لا يتصور في صورة أعرابي ولا دحية ولا ضيف إبراهيم الخليل ولا لوط ولا في صورة بشر سوى فنفخ في مريم ومنها أنه قال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين والعقل الفعال ليس مطاعا ثم وغايته عندهم أن يتحرك الفلك الأسفل تشبها به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه وهم قد يقولون أن العرش هو الفلك التاسع وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن العرش فوق الفلك التاسع ليس هو إياه وأيضا فإنه أخبر أنه رآه عند سدرة المنتهى وأنه رآه بالأفق المبين مرتين وقد ثبت في الصحيح أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وأنه رآه وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشرق والمغرب وهذه الصفة

لا تنطبق على العقل الفعال فإنه لا يرى في موضعين ولا له أجنحة وهؤلاء القوم قد يقولون أن الأنبياء أخبروا الناس بما هو كذب في نفس الأمر لأجل مصلحتهم وقد يحسنون العبارة فيقولون لم يخبروا بالحقائق بل ذكروا من التمثيل والتخييل في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما تنتفع به العامة وأما الحقيقة فلم يخبروا بها ولا يمكن إخبار العامة بها وهذا مما يعلم بالضرورة بطلانه من دين المرسلين وقد بسطنا الكلام في إبطال هذا في غير هذا الموضع

ومن عرف مذهبهم وعرف ما قالته الرسل علم بالضرورة أن ما يقولونه مخالف لما يقوله الرسل لا موافق له فيلزم إما تصديق الرسل وتكذيبهم وإما تكذيب الرسل وتصديقهم وهم يؤمنون بالرسل من وجه ويكفرون بهم من وجه فلا يقولون إنهم كاذبون ولا جاهلون ولا يصدقونهم في كل ما أخبروا به ومن المعلوم أن المخبر بالخبر إذا لم يكن خبره مطابقا لمخبره فإما ان يكون متعمدا للكذب وإما أن يكون مخطئا وهم يسلمون أن الرسل من أعلم الخلق بالحقائق وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به وأنهم من أبر الناس وأصدقهم فإذا كانوا مقرين بغاية الكمال لهم في العلم والصدق كان هذا مناقضا لما يذكرونه في إخباراتهم فإنها تستلزم إما تكذيبهم وإما تجهيلهم ولهذا كان هؤلاء متناقضين في أمر النبوات فلا هم كذبوا بهم تكذيب المكذبين الذين كذبوا بالنبوات مطلقا ولا صدقوهم تصديق المؤمنين الذين آمنوا بهم مطلقا بل كانوا كمن آمن ببعض وكفر ببعض وهؤلاء من الكافرين حقا وهم من المنافقين المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وفيهم من يكثر نفاقة وزندقته وفيهم من يكون نفاقة أقل من نفاق غيره وأيضا فإن الله تعالى يقول {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ يشاء} ففرق سبحانه بين الوحي وبين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء كما فرق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وبين تكليمه لموسى عليه السلام كما فرق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء وهذا يناقض مذهبهم في الأصلين فإنهم لا يثبتون إلا ما هو من جنس الوحي والإلهام كالذي يسمونها القوة القدسية بل الوحي والإلهام الذي أثبته الله فوق ما يثبتونه من القوة القدسية فدل على أن أحوال الرسل الذين يرسلهم الله إلى الأنبياء خارجة عن قوى النفس وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك كما قال الله تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (سورة الحج 75) فتبين أنه يصطفي رسلا من الناس ورسلا من الملائكة وكذلك أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب كما أخبر أنه كلم موسى تكليما وكما قال تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وقال {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} وهذا يقتضي انه يكلم بعض عباده تكليما خارجا عن جنس

ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها وأيضا فإنه قد قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} فأخبر أنه أرسل مع الريح جنودا لم يرها المؤمنون وقال تعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} فأخبر أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل مع ذلك جنودا لم يروها وقال تعالى {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} وقال تعالى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى} إلى قوله {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فقد

أخبر أنه أمدهم بجنود من الملائكة تنصرهم ففي تلك الآيات أخبر بنزول الملائكة بالعلم والوحي وفي هذه الآيات أخبر بنزولها بالنصر والقدرة وهذا يبين أن ما كان يحصل للرسول من العلم والقدرة من المكاشفة والتأثير في العالم حاصل بما هو خارج عن قوى نفسه من العلم الذي تنزل به الملائكة والنصر الذي تنزل به الملائكة وأيضا فقد قال الله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} وقال تعالى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} فهذه الآيات يخبر فيها بتوفي الملائكة للأنفس وخطابهم للموتى إما بخير وإما بشر وفعلهم ما يفعلونه بهم من نعيم وعذاب وكما قال {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ

وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} وقال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وقال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فهذه النصوص وأمثالها صريحة بإثبات الملائكة وأفعالها وكلامها وتأثيرها في العالم بالقول والفعل وهذا يبطل قولهم إن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية فإن الملائكة خارجة عن هذا وهذا وحينئذ فما يحصل من خوارق العادات بأفعال الملائكة أعظم مما يحصل بمجرد القوى النفسانية والأنبياء أحق الناس بمعاونة الملائكة لهم وتأييد الله تعالى لهم كما أخبر الله سبحانه بذلك وأيضا فقد قال تعالى {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} وقوله في آخر السورة {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} إلى قوله {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ

مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} فأخبر أن الملائكة صافون يسبحون وأنها صافات صفا زاجرات زجرا وهذا مناقض لقولهم فإن العقول العشرة لا تصطف بل بعضهم فوق بعض في المرتبة والتعلق مع امتناع المصافة عليها عندهم والأعراض القائمة بالنفس يمتنع وصفها بما ذكره سبحانه وتعالى من الاصطفاف والزجر والتلاوة وغير ذلك من الصفات وكذلك قوله تعالى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وقد ثبت أن جبريل قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر ما تزورنا" فانزل الله هذه الآية وهذا يبين أن نزول جبريل إلى الأرض وأنه لا يتنزل إلا بأمر الله وعندهم يمتنع نزول ملك إلى الأرض ويمتنع أن يكون الله أمر جبريل بنزوله وقال تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ

ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فبين سبحانه أنهم عباد أكرمهم وأنهم لا يسبقونه بالقول فلا يقولون حتى يقول وهم بأمره يعملون فلا يعملون حتى يأمرهم وأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى وأنهم من خشيته مشفقون وهذا مناقض لقولهم فإن العقول عندهم بل العالم كله متولد عن الله تولدا لازما يمتنع معه خوفها أو أن يحدث لها من الله أمر أو قول أو يكون لها إليه شفاعة والشفاعة عندهم ليس معناها دعاء الله ورسوله كما هو مذهب المسلمين بل الشفاعة عندهم تعلق القلب بالوسائط حتى يفيض عليها بواسطة تلك الوسائط ما ينتفع به كما يفيض شعاع الشمس على الحائط بواسطة فيضه على المرآة وهذه من جنس الشفاعة التي يثبتها المشركون وهي التي نفاها الله في كتابه ولما وقع في كلام أبي حامد في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه ما هو من جنس كلام هؤلاء في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك حتى جعل خواص النبي ثلاثة كما تقدم ذكره وغير ذلك من كلامهم اشتد نكير علماء الإسلام لهذا الكلام وتكلموا في أبي حامد وأمثاله بكلام معروف

كما تكلم فيه أصحاب أبي المعالي كأبي الحسن المرغيناني وغيره وكما تكلم فيه أهل بيت القشيري وأتباعه والشيخ أبو البيان وأبو الحسن ابن شكر وأبو عمرو بن الصلاح وأبو زكريا وكما تكلم

فيه أبو بكر الطرطوشي وأبو عبد الله المازري وابن حمدين القرطبي وصنف في ذلك وأبو بكر بن العربي تلميذه حتى قال شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وكما تكلم فيه

أبو الوفاء بن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي وأبو محمد المقدسي وغيرهم وكما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة ومن أعظم ما تكلم فيه أئمة المحققين لأجله ما وافق فيه هؤلاء الصابئة المتفلسفين مع أنه بعد ذلك قد رد على الفلاسفة وبين تهافتهم وكفرهم وبين أن طريقتهم لا توصل إلى حق بل ورد أيضا على المتكلمين ورجح طريق الرياضة والتصوف ثم لما لم يحصل مطلوبه من هذه الطرق بقي من أهل الوقف ومال إلى طريقة أهل الحديث فمات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم والمقصود هنا أن ما ذكره الله في كتابه من شفاعة الأنبياء والملائكة نفيا وإثباتا يناقض قول هؤلاء كقوله تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ويصعقون حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير" وهذا المعنى ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه رواه البخاري من حديث أبي هريرة ورواه مسلم عن ابن عباس عن رجال من الأنصار

وهو معروف من حديث النواس بن سمعان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا وعن ابن عباس وغيره وفيه بيان أنه لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن له فلا بد من إذن للشفيع لا أن مجرد التوجه إليه ينفع المشفوع له وذلك يقتضي تجدد إذن للشفعاء وعندهم أنه لا يحدث من الله شيء للوسائط بل هي متولدة عنه لازمة لذاته أزلا وأبدا وفيه أنه يفزع عن قلوب الملائكة أي يزال الفزع عنها وقد وصف الملائكة في القرآن بالخشية والخوف وعندهم لا يتصور خشية لله ولا خوف قال الله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال تعالى في الشفاعة {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} يقتضي إذنا مستقبلا فإن أن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وطرد هذا أن يقال مثل ذلك في كل ما جاء في القرآن من هذا الباب وهو قول جمهور أهل الحديث والسنة وهو المنقول عن أئمة السلف وعليه تدل الدلائل العقلية السليمة عن التناقض

ومما يوضح الأمر في هذا الباب أن الله نزه نفسه عن الشريك والولد في غير موضع كقوله تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال الله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} وقال تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (سورة المؤمنون 91) وقال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وقال تعالى {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقال تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} فنزه نفسه عن الولد والكفو وهذا القول يوجد في مشركي العرب وفي النصارى وغيرهم والذي يوجد في هؤلاء شر من هذا كله وذلك أن مشركي العرب والنصارى ونحوهم يقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن يثبتون تولدا من بعض الوجوه وهو تولد حادث كما تقوله النصارى في المسيح وكما كانت تقوله مشركو العرب في الملائكة ونحو ذلك وأما هؤلاء فيقولون إن

العقول والنفوس متولدة عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته والعالم متولد عن ذلك فالعالم كله متولد عندهم عن الله تولدا قديما أزليا لازما لذاته وإن كانوا قد لا يعبرون بلفظ الولد فهم يعبرون بلفظ المعلول والعلة وهو أخص أنواع التولد ويعبرون بلفظ الموجب والموجب وما ذكره الله في كتابه من إبطال التولد يبطل قولهم عقلا وسمعا وذلك أنه قال تعالى {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهؤلاء المتفلسفة يجعلون العقل كالذكر والنفس كالأنثى قال سبحانه وتعالى {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وذلك أن التولد لا يكون إلا عن أصلين لا يكون عن واحد فيمتنع أن يكون له ولد من غير صاحبة وهو سبحانه لم يكن له كفوا أحد وهؤلاء جعلوه واحدا وجعلوا العالم معلولا عنه وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا باطل فإن الواحد البسيط لا يصدر عنه وحده شيء بل الواحد الذي قدروه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان ولا يصدر في العالم العلوي والسفلي أثر إلا عن سببين فأكثر فالنار إذا أحرقت إنما تحرق بشرط قبول المحل لإحراقها فالاحتراق حاصل بسببين لا بسبب واحد وكذلك الشعاع وكذلك جميع الأمور قال الله تعالى {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال بعض العلماء تعلمون أن خالق الأزواج واحد وقال {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}

فليس في المخلوقات واحد يصدر عنه وحده شيء ولا علة مستقلة بمعلولها من غير مشارك أصلا وما يذكره طائفة من أهل الكلام من كون العلم علة العالمية هو عند أكثرهم لا حقيقة له فليس العالمية زائدة على العلم وأهل الأحوال الذين أثبتوها زائدة علىالعالم قالوا أنها ليست وجودية فلم يكن في الوجود علة مستقلة بمعلولها من غير شريك لها فتبين أن ما ذكروه من أن الواجب علة مستقلة بمعلولها مخالف لما الوجود عليه ودعواهم أن الواحد البسيط يكون علة تامة مستقلة بمعلولها أمر مخالف لما الوجود عليه وهذا غير معلوم بالعقل بل هو باطل فيه ولكن المعلوم في العقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء معلول متولد عنه إلا بمقارنة شيء آخر له فلو كان العالم معلولا متولدا عن الله لكان له مقارنا يصدر التولد عنهما جميعا فإن التولد لا يكون إلا عن أصلين فإثبات التعليل والتولد يقتضي إثبات شريك في إبداع العالم وهذا لازم لهم لا محيد عنه من وجه آخر فإن الحوادث الموجودة في العالم لا يجوز أن تكون صادرة عن العلة التامة الأزلية لأن تلك يلزمها معلولها فيكون قديما معها فلا يكون محدثا فوجب أن يكون للحوادث فاعل آخر غير العلة التامة القديمة وذلك أيضا يوجب إثبات مشارك لله يحدث الحوادث وهذا أيضا باطل فإن ذلك الذي قدر محدثا للحوادث إن كان محدثا فهو من جملة الحوادث التي تحتاج إلى فاعل محدث وإن كان قديما فقد صدرت الحوادث عن قديم فإن كان علة تامة أزلية امتنع حدوث الحوادث عنه وإن كان فاعلا باختياره يحدث عنه الحوادث بطل قولهم سواء قيل أنه صار محدثا للحوادث بعد أن لم يكن بغير سبب حادث أو قيل أنه لم يزل فاعلا قادرا بفعل اختياري يقوم بنفسه.

فتبين أن القوم قولهم في إثبات الشريك والولد لله من شر أقوال من يقول بذلك وكل ما في القرآن من إبطال ذلك بالأدلة العقلية والخبرية يبطل قولهم لكن فهم هذا يحتاج إلى أن نفهم حقيقة أقوال الأمم ومراتبها وكيف يتناولها القرآن ويبطلها ويميز الحق من الباطل بالأدلة العقلية البرهانية كما قد بسط في غير هذا الموضع فهذا كله مما يبين أن الرسل أخبرت بالملائكة وأنهم عباد الله ليسوا متولدين عنه ولا خالقهم علة موجبة لهم وأنهم لا يتصرفون إلا بإذنه ولا يسبقونه بالقول وأنهم يخبرون الأنبياء بالغيب وأنهم يفعلون من خوارق العادات وغيرها ما فيه نصر الأنبياء وحجة لهم وهذا يبين أن هؤلاء الفلاسفة مناقضون للرسل فيما أخبرت به من أمر التوحيد والملائكة وأمر معجزات الأنبياء ويبين أن المعجزات خارجة عن قوى نفوس البشر وأن ما قاله هؤلاء في المعجزات قول بلا دليل وهو قول باطل مبني على أصل باطل مع أنا لا ننكر أن للقوى التي في النفوس وسائر الأجسام آثارا في العالم بحسبها كما تقدم لكن إضافة الخوارق إلى ذلك باطل كما لو أضافها مضيف إلى قوى الأجسام وادعى أنها من باب النيرنجيات التي هي قوى طبيعية كالقوى التي في حجر المغناطيس فإنه يعلم بوجوه كثيرة أن معجزات الأنبياء خارجة عن هذا الجنس وهذا الجنس وإن كان القائل أن معجزات الأنبياء قوى

نفسانية ممن يكذب مطلقا أثبتنا بعض ماغ ذكرناه من المعجزات بطرق متعددة كالأخبار المتواترة وكتطابق السنن على الإخبار بما يمتنع الاتفاق عليه من غير تواطؤ وغير ذلك الوجه التاسع أن يقال تأثير النفوس مشروط بشعورها فإن النفس حية مريدة تفعل بإرادتها ففعلها مشروط بإرادتها والفعل الاختياري الإرادي مشروط بالشعور وخوارق العادات التي للأنبياء منها ما لا يكون النبي شاعرا به ومنها ما لا يكون مريدا له فلا يكون ذلك من فعل نفسه بل ومنها ما يكون قبل وجوده ووجود قدرته ومنها ما يكون بعد موته ومفارقة نفسه لهذا العالم ومن المعلوم أن ما يكون قبل أن تصير لنفسه قوة ونحو ذلك يمتنع أن يكون مضافا إلى قوته فإن المعدوم لا قوة له وذلك مثل قصة أصحاب الفيل التي أنزلها الله لما أتى بالفيل إلى مكة وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وكان أهل الفيل نصارى ودينهم كان خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك فإنهم كانوا مشركين ودين النصارى خير من دين المشركين الذين يعبدون الأوثان لكن كان ذلك كرامة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبعوث بحرمة البيت وكان عام الفيل عام مولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل مولده بنحو خمسين ليلة ولم تكن له قوة نفسانية يؤثر بها ولا شعور بما جرى ولا إرادة له في ذلك وكذلك ما حصل من الحوادث حين مولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك إخبار الكهان بأموره وما صارت الجن تخبرهم به من نبوته أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته وكذلك ما أخبر به أهل الكتاب وما وجد مكتوبا عند أهل

الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته ورسالته وأمر الناس باتباعه أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته كائنة قبل مولده وكذلك ما خص الله به الكعبة البيت الحرام من حين بناه إبراهيم وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقير وانجذاب القلوب إليه ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس بل كثيرا ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوى إليه ما لا يعلمه إلا الله وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة فيكونون هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر وقوى نفوسهم وأبدانهم والذي بناه قد مات من ألوف سنين ولهذا كان أمر البيت مما حير هؤلاء الفلاسفة والمنجمين والطبائعية لكون خارجا عن قياس عقولهم وقوانين علومهم حتى اختلفوا لذلك من الأكاذيب ما يعلمه كل عاقل لبيب مثل قول بعضهم أن تحت الكعبة بيتا فيه صئم يبخر ويصرف وجهه إلى الجهات الأربع ليقبل الناس إلى الحج

وهذا مما يعلم كل من عرف أمر مكة أنه من أبين الكذب وأنه ليس تحت الكعبة شيء من هذا وأنه لا ينزل أحد من أهل مكة إلى ما تحت الكعبة ولا يحفره أحد ولا يبخر أحد شيئا هناك ولا هناك صنم ولا غير صنم وكان ابن سبعين وأمثاله من هؤلاء يحارون من هذا وربما قالوا ليت شعرنا ما هو الطلسم الذي صنعه إبراهيم الخليل حتى صار الأمر هكذا وهم يعلمون أن أمور الطلاسم لا تبلغ مثل هذا وأنه ليس في الأرض ما يقارب هذا وأن الطلاسم أمور معتادة معروفة بأسباب معروفة ولهذا يصنع الرجل طلسما ويصنع الآخر مثله أو أعظم منه وأما هذا فخارج عن قدرة البشر وليس في الوجود طلسم يستحوذ على أهل الأرض ولا يتصرف في قلوب أهل الأقاليم الثلاثة وهم أفضل الإنس وأكملهم عقولا وأديانا والطلاسم إنما يقوى تأثيرها إذا ضعف العقل فيؤثر في الجماد أكثر من الحيوان ويؤثر في البهائم أكثر من الأناسي ويؤثر في الصبيان والمجانين أكثر من العقلاء وهكذا تأثير الشياطين كلما ضعفت العقول قوى تأثيرهم وأما البيت والقرآن والنبوة فإنما قوى تأثيرها في أكمل الناس عقلا وأتمهم علما ومعرفة والإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها" وانتشر في الأقاليم المتوسطة الثالث

والرابع والخامس الذين هم أعدل وأكمل من غيرهم فتبين أن تأثير النبوات على خلاف تأثير السحر والطلاسم فتلك يقوى تأثيرها عند ضعف العقل وهذه يكمل تأثيرها عند قوة العقل فتبين أن هذه ليست تأثير مجرد قوى البشر لا نفوسهم ولا أبدانهم ولا قوى الأجسام الطبيعية ولا القوى الفلكية الممزوجة بالقوى العنصرية بل أمر خارج عن هذا كله وإذا قدر أن لبعض هذه في بعض ذلك معونة مثل أن يقال أن صدق إبراهيم في دعائه وكمال تمكينه وعلمه وخلته لله اوجب إجابة الله دعاءه فهذا حق لا ننكره فإنا لا ننكر حصول خوارق العادات بإجابة الدعوات لكن المنكر أن يقال مجرد قوة النفس التي تصرفت في العالم من غير أن يكون الله هو الذي أحدث بذلك الدعاء من الأسباب الإلهية ما فعل بها ذلك المخلوق فالدعاء سبب وقد علم غير مرة أن السبب لا يستقل بل له مشاركات وموانع وليس هو سببا مقتضيا للمسبب بنفسه ولكن هو سبب لأن يجيب الله الدعاء كما أن العمل الصالح سبب لأن يثيب الله عبده في الآخرة وأن الناس يحبونه ويثنون عليه ولا يمكن أن

يقال أن قوة أحد البشر أو عمله الصالح هو الذي أوجب بنفسه محبة الخلق وثناءهم ودعاءهم أو الثواب في الدار الآخرة بل هذا سبب لما يفعله الله بمشيئته وقدرته ما يخلقه في نفوس عباده الملائكة والجن والبشر مما يفعلونه باختيارهم وقدرتهم التي يخلقها الله فالدعاء سبب الإجابة والعمل سبب الإثابة قال الله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فأمرهم أن يستجيبوا له وأن يؤمنوا به أنه يجيب دعاءهم واستجابتهم له وطاعتهم لأمره وذلك سبب الإثابة كما أن الدعاء سبب الإجابة وأيضا فما حصل بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل حفظ الله للكتاب الذي جاء به وإبقائه مئين من السنين مع كثرة الأمة وتفرقها في مشارق الأرض ومغاربها والكتاب بعد هذا محفوظ وكذلك الشريعة محفوظة فهذا أمر خارق خارج عن مقدوره ولم تبق شريعة مثل هذه المدة الطويلة إلا شريعة موسى وإلا فالملوك والفلاسفة لهم نواميس وضعوها لا تبقى إلا مدة يسيرة وأما البقاء مثل هذه المدد مع كون الكتاب محفوظا فليس هذا إلا للأنبياء وأيضا فما جعله الله في القلوب قرنا بعد قرن من المحبة والتعظيم والعلم بعظيم منزلته وعلو درجته من غير مكره يكره القلوب على العلم والمعرفة ومع كمال عقول الناظرين في ذلك فإن كل من يعرف أحوال الأمم يعلم أن أمة محمد أكمل الأمم

عقلا وعلما وخلقا ودينا ويعلم أن من كان أعظم علما وعقلا كان أعلم بعظمة قدر الرسول فهذا العلم والتعظيم والمحبة القائمة في قلوب الخلق من أعظم الأمور الخارقة للعادة وهي أمور خارجة عن قوى البشر وكذلك ما في القلوب لإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وغيرهم كما قال تعالى {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وقال تعالى لموسى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} وقال {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} . ونحو ذلك فهذا الثناء والمحبة والدعاء والتعظيم الذي للأنبياء وأتباعهم خارج عن قوى أنفس الأنبياء وكذلك اللعن والبغض الذي جعل الله للكفار وأتباعهم في قلوب المؤمنين

خارج عن قوى أنفس الأنبياء فإن هذا كله بعد موتهم ونظائر هذا كثيرة الوجه العاشر أن يقال إن الناس تنازعوا في النبوة هل هي مجرد صفة قائمة بنفس النبي كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة أو مجرد تعلق خطاب الله بالنبي كما يقوله من يقوله من أهل الكلام الأشعرية ونحوهم أو هي مجموع الأمرين كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال كما اختلفوا على هذه الأقوال الثلاثة في الأحكام الشرعية وحينئذ فالقائل أن قال أن النبي خص بقوى في نفسه يمتاز بها عن غيره في علمه وعمله فهذا مما يقر به الجمهور ولا ريب في تفضيل الله للأنبياء بفضائل في أنفسهم وأن من خصه الله بالفضائل فقد أراد به خيرا كما قالت خديجة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جاءه الوحي وخاف على نفسه: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق فاستدلت بعقلها على أن من جعل الله فيه هذه المحاسن والمكارم التي جعلها من أعظم أسباب السعادة لم تكن من سنة الله وحكمته وعدله أن يخزيه بل يكرمه ويعظمه فإنه قد عرف من سنة الله في عباده وإكرامه لأهل الخير وإهانته لأهل الشر

ما فيه عبرة لأولى الأبصار فإن الناس قد عرفوا بالآثار الموجودة المعاينة في الأرض والأخبار المتواترة عاقبة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأتباعهم وعاقبة من كذب هؤلاء وعلموا إكرام الله لهؤلاء ونصره لهم وعقوبته لهؤلاء وإهانته لهم وعلموا أيضا عاقبة أهل العدل والإحسان من الولاة والرعايا وعاقبة أهل الظلم والشر من هؤلاء وهؤلاء وهذا أمر موجود في جميع الأمم عربهم وعجمهم على اختلاف أصناف العجم من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم وقد قال تعالى {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وقال تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} وقال تعالى {قَدْ

خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وهذا باب واسع ولهذا دعا الله الخلق إلى الاعتبار بالعقل المستند إلى الحس وبين أن ذلك موافق لما جاءت به الرسل من السمع قال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} فأخبر أنه سيرى الخلق من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين أن القرآن الحق فيتطابق السمع المنقول وما عرف بالحس المعقول وقال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وقال تعالى {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وقال عن أصحاب النار {ووَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقال {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا

أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ومثل هذا كثير والمقصود هنا أن الأنبياء خصهم الله بفضائل ومحاسن ومكارم أخلاق يميزهم بها عن غيرهم فمن قال أن الله خص النبي بقوى في نفسه وأراد بذلك إثبات خصائص وفضائل له فهذا حق وإن قال إن هذه الخصائص تكون أسبابا لخوارق عادات يكرمهم الله بها وتكون معجزات وكرامات أو قال نفس هذه الخصائص والفضائل مما خرقت له فيها العادة فهذا مما لا ينكر ولكن يبقى الكلام في أمور: أحدها أنه لا يظن أن جميع خوارق العادات هذا سببها فإن هذا باطل قطعا فلا ينكر أن يكون الله خص الأنبياء بفضائل خرق لهم بها العادة ولا ننكر أن تكون تلك الفضائل سببا لخرق عادات أخرى لكن دعوى المدعي أن تلك القوى التي فضلوا بها على غيرهم هي الموجبة لما جاءوا به من أنواع الآيات والإخبارات الإلهيات وأنواع المعجزات الخارقة للعادات الحاصلة في العالم في السموات والأرض والهواء والسحاب والحيوان والأشجار والجبال وغير ذلك هو الباطل لأن من هذه الأمور ما لا يمكن أن تكون قوى النفس سببا له إما لعجزها عن ذلك أو لعدم قبول ذلك لتأثير النفوس كما أن النفوس لا تكون موجبة لوقوف الشمس وانشقاق القمر واهتزاز العرش وانتثار الكواكب وانقلاب الخشب حية عظيمة وخروج الناقة من تراب وإحياء الموتى والحيوان

وإحياء الطيور الأربعة بعد تمزيقها وإنزال المائدة وغير ذلك مما نبه عليه الوجه الثاني أنه لا يظن أن هذا هو مجرد النبوة وأن من حصلت له هذه الخصال التي ذكروها فقد صار نبيا فإن كثيرا من آحاد المؤمنين تحصل له هذه الثلاث وما هو أكمل منها تحصل له قوة علمية في نفسه وقوة عملية في نفسه يكون بها مؤثرا ويحصل له إحساس باطن فيرى ويسمع في باطنه وهو من آحاد المؤمنين فمن جعل هذا حد النبي ومنتهاه كان مبطلا جاحدا لحقيقة ما خص الله به أنبياءه والمقصود أن ما أثبتوه من الفضائل الثابتة للأنبياء لا تنكر إذا كانت حقا لكن اقتصارهم على هذا الحد باطل وجعلهم أن هذا هو السبب لخوارقهم باطل الوجه الثالث أن تعرف أن النبوة لا تنال باكتساب الإنسان واستعداده كما تنال بذلك العلوم المكتسبة والدين المكتسب فإن هؤلاء القوم ما قدروا الله حق قدره ولا قدروا الأنبياء قدرهم لما ظنوا أن الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاض عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعال كما يفيض الشعاع على المرأة المصقولة إذا جليت وحوذي بها الشمس وأن حصول النبوة ليس هو أمرا يحدثه الله بمشيئته وقدرته وإنما حصول هذا الفيض على هذا المستعد كحصول الشعاع على هذا الجسم الصقيل صار كثير منهم يطلب النبوة كما يحكى عن طائفة من قدماء اليونان وكما يعرض ذلك لطائفة من الناس في أيام الإسلام

ولهذا عظم نكير الناس على صاحب كيمياء السعادة وصاحب المضنون به على غير أهله ومشكاة الأنوار لما كان في كلامه ما هو من جنس كلام هؤلاء الملاحدة وقد عبر عنه بالعبارات الإسلامية والإشارات الصوفية وبسبب ذلك اغتر صاحب خلع النعلين وابن سبعين وابن عربي وأمثالهم ممن بنى على هذا الأصل الفاسد بل لا بد في النبوة من إيحاء إلهي يختص الله به من يخصه بذلك من عباده بمشيئته وقدرته وهو سبحانه عالم بذلك النبي وبما يوحيه إليه من الوحي وبقدرته خصه بما خصه به من كراماته فهؤلاء الملاحدة يدعون أن خطابه لموسى بن عمران ليس هو إلا ما حصل في نفس موسى من الإلهام والإيحاء والواحد من أهل الرياضة والصفاء قد يخاطب كما خوطب موسى بن عمران وأعظم من ذلك وأنه قد يسمع نفس الخطاب الذي سمعه موسى كما زعم ذلك صاحب الأحياء في بعض المواضع وأن قيل أنه رجع عن ذلك ومن هؤلاء من يقول أن الخطاب الذي يحصل لهم أفضل مما حصل لموسى وغيره وهذا مذهب ابن العربي صاحب الفتوحات المكية وأمثاله ممن يدعي أن ما حصل لموسى ومحمد أنما كان بواسطة الخيال النفساني الذي هو عنده جبريل وأن ما يحصل لابن عربي هو فوق ذلك فإنه

يأخذ من المعدن العقلي المحض الذي يأخذ منه الملك الذي هو عندهم خيال في نفس النبي ومرتبة العقل فوق مرتبة الخيال فلما اعتقدوا أن الملائكة التي تخاطب الأنبياء إنما هي خيالات تقوم بنفس الأنبياء زعموا أنهم إذا اخذوا عن العقل المحض كانوا قد أخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة الذين أخذ عنهم الأنبياء فكانوا أفضل من الأنبياء عند أنفسهم وعند أتباعهم فهذا ونحوه مما يعلم بالاضطرار من دين الرسل أنه كفر وباطل من دينهم فمن فهم القرآن وفهم كلام هؤلاء لزمه أحد أمرين إما تكذيب القرآن وإما تكذيب هؤلاء وإلا فقولهم وما جاء به الرسول متناقض تناقضا يعلمه كل من فهم كلامهم وكلام الأنبياء ولا يتصور أن يقول هذا وأن يوافق على هذا الكلام إلا أحد رجلين إما جاهل لا يعلم حقيقة ما جاءت به الرسل وحقيقة قول هؤلاء بل هو عنده تعظيم مجمل للأنبياء وهؤلاء كالذين كانوا يعظمون محمدا ومسيلمة

ويقولون نشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله وهذا الضرب كثير فيمن لم يعرف حقيقة النبي الصادق والمتنبي الكذاب ويوجد كثير من هؤلاء في المنتسبين إلى الفقه والحديث والتصوف والزهد والعبادة والملك والإمارة والوزارة والكتابة والقضاء والفتيا والتدريس وفيمن له دعوات مجابة وفيه صلاح وزهد وعبادة وذلك لنقص معرفتهم بكمال النبوة والرسالة وحقيقة أقوال من يناقضها من بعض الوجوه دون بعض وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فلا بد عند حدوث المرتدين من وجود المحبين المحبوبين كما قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وإخوانه يقاتلون المرتدين عقيب وفاة خاتم المرسلين وما حدث من الفتنة في الدين وأما منافق زنديق يعرف مناقضة هذا لهذا لكنه يظهر الموافقة والائتلاف لاعتقاده أن النبوة من جنس حال هؤلاء ويلبس ما يقوله على من لم يعرف حقائق الأمور ومن هؤلاء من لا يكون قصده الزندقة والنفاق لكن لا يكون عارفا بحال الرسول وقدر ما جاء به ولكنه يعظمه تعظيما مجملا ويرى هؤلاء قد تكلموا في النبوة وحقيقتها بكلامهم وهو عاجز عن معرفة حقيقة الأمر فيعتقد هذا في النبوة وهؤلاء يكثرون

في أماكن الفترات التي تضعف فيها آثار النبوة إذا لم يكن هناك من يقوم بحقائقها وهؤلاء يكونون في الدول الجاهلية كدولة بني عبيد ودولة التتار ونحوهم ومن هؤلاء من يغفر الله له فإنه إذا اجتهد وسعه في الإيمان بالرسول ولم يبق له قدرة على أكثر مما حصل له من الإيمان به لم يكلف الله نفسا إلا وسعها وإن كان قوله بعد قيام الحجة عليه كفرا كالذي قال لأهله إذا انا مت فاسحقوني ثم اذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين والحديث في الصحيحين من غير وجه فإن هذا جهل قدرة الله على إعادته ورجا أنه لا يعيده بجهل ما أخبر به من الإعادة ومع هذا لما كان مؤمنا بالله وأمره ونهيه ووعده ووعيده خائفا من عذابه وكان جهله بذلك جهلا لم تقم عليه الحجة التي توجب كفر مثله غفر الله له ومثل هذا كثير في المسلمين والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخبر بأخبار الأولين ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة والمقصود هنا أن نبين أن ما أثبته هؤلاء في فضائل الأنبياء الثابتة فهو حق ولكن جهلهم وكفرهم فيما أنكروه وكذبوا به وما قالوه من الباطل من هذه الوجوه الثلاثة وغيرها فالوجهان الأولان الباطلان أبطلوا بهما كون الله هو الخالق بقدرته ومشيئته لمخلوقاته وأبطلوا ما خلقه من الملائكة والجن وغير ذلك مما لا يعرفونه وأبطلوا ما امتازت به الأنبياء على غيرهم وجعلوا الأنبياء من جنس العارفين المعرفة المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين

فلهذا صارت النبوة عندهم مكتسبة وصار كثير منهم يطلب أن يصير نبيا من متقدميهم ومتأخريهم وصار منهم من يظن أنه نبي وأنه يضع ناموسا ينسخ به شرائع الأنبياء كما جرى لأئمة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم والذي يقرون به من النبوة يحصل وما هو أعلى منه لآحاد الناس الذين فيهم فضيلة علمية وعملية لكن أهل العلم والإيمان بالرسل يعلمون أن نسبتهم إلى الأنبياء من جنس نسبة أهل الرؤيا الصادقة إلى الأنبياء فإن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكما في السنن عنه أنه قال: "الهدى الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة" وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"

فلا ريب أن الشيء يكون جزءا من النبوة أو الإيمان ويكون من أصغر الشعب والأجزاء كإماطة الأذى في الإيمان أو كالرؤيا في النبوة ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ولهذا كان هذا الجزء أول بدىء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدريجا له كما في الصحيح عن عائشة قالت: " أول ما بدىء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد " الحديث

وإذا كان بعض أجزاء النبوة يحصل لآحاد المؤمنين وليس هو نبيا تبين أن ما يذكره هؤلاء من الحق هو جزء من أجزاء النبوة وما يذكرونه من الباطل هو مردود عليهم وقد تبين أن معجزات الأنبياء خارجة عن القوى النفسانية والطبيعية في العالم العلوي والسفلي وتبين أن الله سبحانه خالق كل شيء بمشيئته وقدرته وأنه يخلق ما يشاء بالأسباب التي يحدثها وللحكمة التي يريدها

مقالة الفلاسفة قبل أرسطو

وهذا قدر ما احتملته هذه الأوراق في جواب هذه المسألة فإنها مسألة عظيمة تبنى عليها أصول العلم والإيمان أجبنا فيها بحسب ما احتمله الحال وفيها من البسط والقواعد الشريفة ما يعرفه من عرف كلام الناس في هذا الباب وإن كان ما يجب لله ورسوله من الحق أعظم من هذا الخطاب فإن تمام البسط في الرد على هؤلاء لا يناسب هذا الموضع ولكل مقام مقال ولكن نبهنا على المآخذ التي تعرف منها حقيقة قولهم وفساده فإن هؤلاء أفسدوا على الناس عقولهم وأديانهم وهم يكثرون ويظهرون في ما يناسبهم من الدول الجاهلية كدولة القرامطة الباطنية العبيدية ودولة التتر ونحوهم من أهل الجهل والضلال وفي دول أهل الردة والنفاق وذلك أن هؤلاء أعظم جهلا وضلالا من اليهود والنصارى والمجوس ومشركي العرب والهند والترك وكثير من الصابئين فإن أكثر المشركين يقرون بأن العالم محدث وأن الله يفعل بمشيئته وقدرته وكذلك الصابئة الحنفاء على هذا القول وهو قول أساطين الفلاسفة القدماء الذين كانوا قبل أرسطو طاليس وإنما ظهر القول بقدم العالم من الفلاسفة المشهورين من جهة أرسطو وأتباعه وهو المعلم الأول الذي

وضع التعاليم التي يقرونها من المنطق والطبيعي والإلهي وظهر القول بقدم العالم من الفلاسفة من هذه الجهة

مقالات الفلاسفة المنتسبين الى الإسلام

وهذا الرجل وأتباعه إنما عامة كلامهم في الطبيعيات فهي علم القوم الذي شغلوا به زمانهم وأما الإلهيات فكلام الرجل فيها وأتباعه قليل جدا إلى غاية ولكن ابن سينا وأمثاله خلطوا كلامهم في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات وصار ابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء ويظهرون أن أصولهم لا تخالف الشرائع النبوية وهم في الباطن يقولون أن ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا حقيقة له في نفس الأمر وإنما هو تخييل وتمثيل وأمثال مضروبة لتفهيم العامة ما ينتفعون به في ذلك بزعمهم وإن كان مخالفا للحق في نفس الأمر وقد يجعلون خاصة النبوه هي التخييل ويزعمون أن العقل دل على صحة أصولهم وأكثر الناس لا يجمعون بين معرفة حقيقة ما جاءت به الرسل وحقيقة قول هؤلاء ولا يعقلون لوازم قولهم التي بها يتبين فساد قولهم بالعقل الصريح ثم إن كثيرا من الناس آخذ مذاهبهم فغير عباراتها وربما عبر عنها بعبارات إسلامية حتى يظن المستمع أن قول هؤلاء هو الحقيقة التي بعثت بها الرسل ودلت عليها العقول كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأصحاب دعوة القرامطة الباطنية حيث عبروا بالسابق والتالي عن العقل والنفس ويحتجون على ذلك بالحديث الذي يروونه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أول ما خلق الله العقل" ثم إن هذه الأمور راجت على كثير من أهل التصوف والكلام والتأله والنظر كصاحب جواهر القرآن

ومشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها ومن سلك هذا المسلك مثل أصحاب البطاقة وابن أجلى والشوذي وصاحب خلع النعلين وابن العربي الطائي وابن سبعين وغيرهم وكثير من الناس تجده تارة مع أهل الكلام وتارة مع أهل الفلسفة كالرازي والآمدي وغيرهما وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث أول ما خلق الله العقل وما يتعلق به وتكلمت على ما ذكره ابن سينا في شفائه في واجب الوجود وما ذكره ابن سبعين وابن العربي وغيرهم في غير هذا الموضع وهذا الحديث موضوع وكذب عند أهل العلم بالحديث كما ذكر أبو حاتم البستي وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما ومع هذا فلفظه أول ما خلق الله العقل قال

له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب فهذا الحديث الذي يحتجون به من جهة الشريعة يدل على نقيض مقصودهم من وجوه كثيرة منها أن قوله أول ما خلق الله العقل قال له يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا أنه أول المخلوقات كما تقول أول ما لقيت زيدا سلمت عليه وتقدير الكلام أول خلق الله قال له فأول مضاف إلى المصدر والمصدر يجعل ظرف زمان كما تقول كان هذا خفوق النجم وخلافة عبد الملك ومنه قوله تعالى {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} مصدر أدبر يدبر إدبارا ومنها أن هذا يقتضي أنه خلق قبل العقل غيره لقوله:

ما خلقت خلقا أكرم علي منك وعندهم هو أول المبدعات ومنها أن هذا يقتضي أن العقل مخلوق وحقيقة الخلق منتفية عندهم عن العقل الأول بل عن العالم وإنما هو عندهم معلول ومبدع لكنهم يحرفون الكلم عن مواضعه فيقولون العالم محدث ومخلوق ويعنون بقولهم محدث أنه معلول ممكن بنفسه واجب بغيره وأن وجوده من غيره لا من نفسه وكذلك يعنون بقولهم مخلوق لكن من المعلوم بالاضطرار أن أهل اللغة لا يريدون بقولهم هو محدث ومخلوق هذا المعنى المتضمن أنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال بل الحدوث عندهم يناقض القدم وكذلك الخلق ولا تحتمل اللغة بوجه من الوجوه أن القديم الذي لم يزل ولا يزال يقال له محدث ومخلوق والمخلوق عندهم أبلغ من المحدث والحادث فكل مخلوق فهو محدث وحادث باتفاق أهل اللغة وأهل الكلام وأما أن كل حادث ومحدث فهو مخلوق فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر واللغة لا يوجب أن كل ما كان حادثا يسمى مخلوقا لأن المخلوق هو الذي خلقه غيره والخلق يجمع معنى الإبداع ومعنى التقدير وأما لفظ حادث فلا يقتضي أنه مفعول ولو قيل محدث فمعنى الخلق أخص من معنى الحدوث ومنها أنه قال في هذا الحديث فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب فأخبر أنه يفعل به هذه الأمور الأربعة وهذا ينطبق على عقل الإنسان الذي هو عرض فيه وأما العقل الذي يدعونه فهو عندهم أبدع السماوات والأرض وما بينهما فهو عندهم رب جميع العالم فأين هذا من شيء يفعل الله بن أمورا أربعة والكلام على هؤلاء مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن قول هؤلاء هو من أفسد أقوال أهل الأرض وأن قول جمهور الصابئين والمشركين والمجوس خير من قولهم فضلا عن اليهود والنصارى

اعتراف أكثر الأمم بوجود الملائكة والجن

يبين ذلك أن هؤلاء الأمم عامتهم يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن فالمشركون من العرب والهند والترك والنبط وغيرهم من الأمم وأهل السحر منهم والكهانة وغيرهم معترفون بوجود الجن وبأنهم يخاطبونهم ويدعونهم ويقسمون عليهم وعند أهل دعوة الكواكب الذين يدعون الشمس والقمر والنجوم ويعبدونها ويسجدون لها كما كان النمرود بن كنعان وقومه يفعلون ذلك وكا يفعل ذلك المشركون من الهند والترك والعرب والفرس وغيرهم وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن الخطيب الرازي في كتابه الذي صنفه في هذا الفن قطعة كبيرة من أحوال هؤلاء وقد تواترت الأخبار بذلك عن هؤلاء وأنهي يحصل لأحدهم أشخاص منفصلة عنه تقضي كثيرا من حوائجه ويسمونها روحانية الكوكب فهؤلاء المشركون والصابئون من أنواع الأمم الفلاسفة وغيرهم معترفون بوجود الجن المنفصلين وتأثيرهم في العالم وإخبارهم بالأمور وغير ذلك من أحوالهم فتبين أن هؤلاء المتفلسفة الذين يقولون أن أسباب

الغرائب منحصرة في القوى الفلكية والطبيعية والنفسانية الآدمية أجهل وأضل من المشركين والصابئين ومما يوضح الأمر في ذلك أن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع فإن هؤلاء نوعان طبائعيون والهيون فأما الطبيعيون فلا يقرون بوجود موجود وراء الفلك وما يحويه وحقيقة قولهم أن العالم واجب الوجود بنفسه ليس له مبدع ولا فاعل وهذا هو التعطيل الذي كان يعتقده فرعون حيث أنكر رب العالمين وقال لموسى على سبيل الإنكار وما رب العالمين فاستفهمه استفهام إنكار لا استفهام استعلام كما يظنه من يزعم أنه سأل موسى عن الماهية والمسئول عنه ليس له ماهية فعدل موسى عن ذكر الماهية فإن هذا قول باطل وإنما كان استفهام فرعون استفهام إنكار وجحود ولهذا أجابه موسى بما يقيم الحجة عليه ويبين أن الرب معروف معلوم لا سبيل إلى إنكاره وجحده وكان فرعون مقرا به في الباطن وإن جحده في الظاهر كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} وقال تعالى عن موسى في خطابه لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} وهذا القول الذي أظهره فرعون هو قول المعطلة من الطبيعين وأما الإلهية الدهريون الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن علة قديمة كابن سينا وأمثاله فهؤلاء وإن

كانوا مقرين بمبدع هذا العالم فقولهم مستلزم لقول أولئك المعطلة وإن كانوا لا يلتزمون قولهم وذلك أن الموجودات العقلية التي يثبتها هؤلاء من واجب الوجود كالعقول العشرة هي عند التحقيق لا توجد إلا في الأذهان لا في الأعيان والواحد المجرد الذي يقولون أنه صدر عنه العالم لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان والوجود المطلق الذي يقولون أنه الوجود الواجب إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان وأيضا فهم يثبتون أنه لا بد في الوجود من موجود واجب وهذا متفق عليه من العقلاء سواء قالوا بقدم العالم أو بحدوثه وسواء جحدوا الخالق أو أقروا فإثبات موجود واجب بنفسه لا يتضمن الإقرار بالصانع إن لم يثبت أنه مغاير للعالم وقد بسطنا القول في غير هذا الموضع وبينا أن الطريقة التي سلكها ابن سينا وأتباعه في إثبات الصانع وفي إثبات واجب الوجود هي أضعف الطرق وأقلها فائدة وإن كان أتباعه كالسهروردي المقتول وكالرازى والآمدي وغيرهم يعظمونها فإن غايتها إثبات موجود واجب وهذا لا نزاع فيه وإنما الشأن في كون الواجب مغاير لهذا العالم وهم بنوا ذلك على طريقة نفي الصفات وهي توحيدهم الذي بسطنا الكلام عليه في غير هذا الموضع فانهم ادعوا أن الوجود الواجب لا يكون إلا بسلوب الصفات لأن إثباتها يقتضي التركيب والواجب لا يكون مركبا وقد تقدم التنبيه على ما في هذا الكلام من التلبيس والفساد قالوا والعالم حامل الصفات مركب فلا يكون واجبا

وإذا كان إثباتهم لصانع العالم على طريقتهم لا نتم إلا بنفي الصفات ونفي الصفات باطل كان طريقهم في إثبات الصانع باطلا ولهذا كان الصانع الذي يثبتونه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان فقولهم يستلزم التعطيل

الرد على الصوفية القائلين بوحدة الوجود

وهكذا أقوال من نسج على منوالهم وأخذ معانيهم فاخرجها في قالب المكاشفة والمشاهدة والتحقيق والعرفان كابن عربي وأمثاله ومن سلك هذا المسلك كابن سبعين وغيره فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع وأنه ليس وراء الأفلاك شيء فلو عدمت السموات والأرض لم يكن ثم شيء موجود ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقا له ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور وكان لا يحرم الفواحش ولا المنكرات ولا الكفر والفسوق والعصيان وكان يقول عن شيخه ابن عربي وصاحبه القونوي أحدهما روحاني متفلسف يعني ابن عربي والآخر فيلسوف متروحن يعني القونوي وإنما حرر مذهب التحقيق أنا يعني نفسه وهو كما قال فإن تحقيقهم الذي حقيقته التعطيل للصانع وجحده وأنه ليس وراء العالم شيء لم يحققه أحدهما كما حققه التلمساني وحدثني الثقة الذي رجع عنهم لما انكشف له أسرارهم أنه قرأ عليه فصوص الحكم لابن عربي قال فقلت له هذا الكلام يخالف القرآن فقال القرآن كله شرك وإنما التوحيد

في كلامنا قال فقلت له فإذا كان الكل واحد فلماذا تحرم على ابنتي وتحل لي زوجتي فقال لا فرق عندنا بين الزوجة والبنت الجميع حلال لكن المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرم عليكم وقال أيضا لما قرأ عليه مواقف النفري جعلت أتأول موضعا بعد موضع إلى أن تبين مراده الذي لا يمكن تغطيته وأنه يقول بالوحدة فقلت هذا يخالف الكتاب والسنة والإجماع فقال إن أردت هذا التحقيق فدع الكتاب والسنة والإجماع فقلت هذا لا سبيل إليه ونحو هذا الكلام ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة أما الإيمان بالله فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وهذا غاية التعطيل وأما الإيمان باليوم الآخر فادعى ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة وأنه يسمى عذابا من عذوبة طعمه وأنشد في

كتاب الفصوص: فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وما لوجود الحق عين تعاين فإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... وبينهما عند التجلي تباين يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشر صاين ولهذا قال بعض أصحابنا لبعض أتباع هؤلاء لما أثاروا محنة أهل السنة التي انتصروا فيها لهؤلاء الملاحدة قال له الله يذيقكم هذه العذوبة وهذا المذهب قد حكاه أصحاب المقالات كالأشعري في مقالاته عن طائفة من سواد أهل الإلحاد سموهم

الرد على تفضيلهم خاتم الأولياء على خاتم الرسل

البطيخية وهو مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام وأما الإيمان بالرسل فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء وهذا مناقض للعقل والدين كما يقال في قول القائل فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإنه من المعلوم بالعقل أن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس ومن المعلوم في الدين أن أفضل الأولياء يستفيدون من الأنبياء وأفضل الأولياء من هذه الأمة هم صالحو المؤمنين الذين صحبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال تعالى {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} وأفضل هؤلاء أبو بكر وعمر باتفاق أئمة السلف والخلف والشيعة يفضلون عليا واتفق المسلمون على أن أفضل الأولياء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما أبو بكر وأما علي وإن كان بعض الناس يحكي خلافا في غيرهما من الصحابة ومن قال من مخطئي الصوفية أنه قد يمكن أن يكون في المتأخرين من هو أفضل من أبي بكر وعمر كما ذكره الترمذي الحكيم في كتاب خاتم الأولياء واتبعه على ذلك

ابن حمويه وأمثاله فهؤلاء مخطئون في ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والترمذي مع فضله وعلمه لما صنف كتاب خاتم الأولياء أنكر المسلمون عليه ذلك وأخرجوه كما ذكر ذلك أبو عبد الرحمن السلمي في محنة الصوفية وقال إنهم نفوه وأخرجوه من بلدته وشهدوا عليه بالكفر وذلك بسبب تصنيف كتاب خاتم الولاية ونسبوه إلى القبائح في الدين وجاء إلى بلخ فقبله أهل بلخ بسبب موافقته إياهم على المذهب وفي هذا الكتاب من الكلام الباطل ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام وهو الذي فتح الكلام في ختم الأولياء حتى جاءه هؤلاء المتأخرون الذين يدعي كل منهم أنه خاتم الأولياء كابن عربي وابن حمويه وغيرهما وأتى بالعظائم التي لم يسبق إليها الترمذي ولا غيره وفي كلام هؤلاء ونحوهم تفضيل بعض الأولياء على الأنبياء أو بعضهم وشيوخ الصوفية متفقون على تفضيل الأنبياء على الأولياء كما اتفق على ذلك سائر علماء المسلمين وقد ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتابه اعتقاد الصوفية إجماع الصوفية على ذلك

وهؤلاء الملاحدة من المتصوفة سلكوا مسلك ملاحدة الفلاسفة في تفضيل الفيلسوف الكبير على النبي ولهذا قال ابن عربي إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى النبي وهذا قول من يقول من الكلابية أن جبريل أخذ القرآن عن الله إلهاما وعبر عنه بعبارته وهذا قول يخالف الكتاب والسنة والإجماع كما بسط الكلام عليه في مواضع أخر وقد يقال أن هذا مبني على أصل ملاحدة الفلاسفة وذلك أن المعدن الذي يأخذ منه النبي عندهم هو العقل الفعال والقوة العقلية التي يسمونها القوة القدسية ثم إن النفس تخيل ما يعقله الإنسان كما يتخيله النائم في منامه فيرى في نفسه صورا نورانية ويسمع أصواتا وهي في نفسه فيما يراه النبي ويسمعه عندهم هو في نفسه لا في الخارج وهذا يقع الصحيح منه لعامة المؤمنين ويقع فاسده لأهل الماخوليا ونحوهم من الممرورين والصور الخيالية التي في نفس النبي وغيره هي الملائكة عندهم فلهذا قال ابن عربي أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فإنه على لأصله في الإلحاد يقول يأخذ من العقل الذي هو القوة القدسية والنبي يأخذ من الصور الخيالية التي تأخذ من العقل ومن أخذ من العقل كان أكمل ممن يأخذ من الخيال الذي يأخذ من العقل ولهذا يدعي بعضهم أنه أفضل من موسى ابن عمران وأن التكليم الذي حصل لهم أعظم من التكليم الذي حصل لموسى لأن الكلام عندهم ليس خارجا عن نفس موسى بل هو فيض فاض عليه كما يفيض على غيره ولهذا يقول بعضهم كلم موسى من سماء عقله وصاحب

مشكاة الأنوار أشار إلى هذا الأصل الفاسد ولهذا بنى ابن قسي على ذلك في كتابه في خلع النعلين وادعى في خلع النعلين أن وارداته عبرانية الأصل أي أشبه فيها موسى بن عمران حيث خلع الدنيا والآخرة فوردت عليه المخاطبات الإلهية ولهذا تكلم الناس في صاحب مشكاة الأنوار بالعظائم والمتفلسفة ينتحلونه لهذا الكتاب وأمثاله وأهل الانتصار له يقولون رجع عن هذا كله كما ذكر ذلك في غير كتاب ومنهم من يقول هذه الكتب مكذوبة عليه ليست من كلامه وأنكروا عليه في الأحياء وغيره أيضا مواضع مثل هذا وأمثاله كما فعل أتباع أبي القاسم القشيري وأتباع أبي المعالي الجويني كأبي الحسن المرغيناني وغيره وكما فعل صاحبه أبو بكر بن عربي وقال شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وكذلك أبو بكر الفهري الطرطوشي وأبو عبد الله المازري وأبو الوفاء بن عقيل وأبو البيان الدمشقي وأبو الفرج بن الجوزي وأبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي وأبو محمد المقدسي وأبو عمرو بن الصلاح وغير هؤلاء والمقصود هنا أن الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى فيض فاض عليه منهم من يقول أنه كلم أفضل مما كلم موسى وكان في زماننا من يقول هذا ويقول أن موسى كلم من وراء حجاب الحرف والصوت وهو يكلم دون ذلك الحجاب ومقصوده أنه سمع في نفسه حروفا وأصواتا وهي التي سمعها

فإنه ليس عند هؤلاء أنه سمع شيئا خارجا عن ما في نفسه وتلك الحروف والأصوات الخيالية هي التي تبين له المعاني العقلية قالوا ونحن خوطبنا بتلك الحقائق العقلية من غير احتياج إلى هذه الواسطة وهذا من جنس قول شيخهم الطائي أن خاتم الأولياء يأخذ من المشكاة التي يأخذ منها الملك الذي يوحى به إلى الرسول ويقول أيضا أن الولاية أفضل من النبوة وولاية النبي عنده أفضل من نبوته ورسالته لأنه بزعمه من حيث الولاية يأخذ من الله بلا واسطة ومن حيث النبوة يأخذ بواسطة

وهذا الكلام قد يقولونه مطلقا وتوجيهه على أصولهم أن النبوة هي مقام تخييل المعقولات والولاية هي المعقول الصرف فالولي ترد عليه المعقولات صرفا والنبي من جهة ولايته له هذه المعقولات لكن جهة نبوته هي تخييل هذه المعقولات فيأخذ بواسطة الخيال وجهة رسالته عندهم أنزل الدرجات وهي جهة تبليغه للناس ولهذا قالوا: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي وهذا قلب للحقيقة التي اتفق عليها المسلمون وهو أن الرسول أفضل من النبي الذي ليس برسول والنبي أفضل من الولي الذي ليس بنبي والرسالة تنتظم النبوة والولاية كما ان النبوة تنتظم الولاية وأن أفضل الأولياء أكملهم تلقيا عن الأنبياء وهو أبو بكر الصديق فإنه أفضل من عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعمر كان كما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أنه قد كان في الأمم

قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر" فعمر كان محدثا ملهما وهو أفضل المحدثين من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس وليس في أولياء هذه الأمة من يأخذ عن الله سبحانه شيئا بلا واسطة نبي أفضل من عمر ومع هذا فكل ما يرد عليه بدون واسطة النبي عليه أن يعتبره بما جاء به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن وافقه قبله وإن خالفه رده كما كان عمر بن الخطاب يفعل فإنه كان إذا وقع له شيء وجاءت السنة بخلافه ترك ما عنده لما جاءت به السنة حتى كانت المرأة إذا نازعته فيما قاله بآية من كتاب الله ترك ما رآه لما دل عليه النص وهذا هو الواجب عليه وعلى كل من آمن بالله ورسوله فإن ما جاء به الرسول معصوم أن يستقر فيه خطأ قد فرض الله على خلقه تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وأما ما يرد على قلوب الأولياء فليس معصوما وليس عليهم تصديقه بل وليس لهم العمل بشيء منه إذا خالف الكتاب والسنة قال الشيخ أبو سليمان الداراني أنه ليقع بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين من الكتاب والسنة وقال أيضا: ليس لمن ألهم شيئا من الخير

أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورا على نور وقال الجنيد بن محمد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدي به في هذا والمقصود أن عمر بن الخطاب إذا كان هو أفضل الأولياء الذين لهم من الله تحديث إلهي بغير واسطة نبي وقد روى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر" وهذا حاله فكيف يكون غيره من الأولياء وكيف يكون ما يأخذه الولي بدون واسطة نبي أفضل مما يأخذه بواسطة النبي وذاك شيء لا يوثق به بمجرده ولا يعمل به إلاأن يعتبر بالكتاب والسنة وما جاء به الكتاب والسنة معصوم يجب تصديقه والعمل به ومع هذا فأبو بكر الصديق أفضل من عمر وأبو بكر لم يكن محدثا مثل عمر بل كان ياخذ من مشكاة النبوة ما يأخذه غيره عن التحديث

وهذا أفضل وأكمل فإن من كان الرسول واسطة بينه وبين الله في كل شيء فهو أكمل وأفضل ممن الواسطة بينه وبين الله قلبه وإن كان ما يحدثه به قلبه عن ربه موافقا للكتاب والسنة كفضيلة أبي بكر على عمر ولهذا كان أفضل أولياء الله هم الصديقون الآخذون عن الأنبياء عليهم السلام فالأولياء تبع للأنبياء وإنما يقرنهم بهم فيجعل لهم طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء ملاحدة الصوفية ونحوهم كما أن ملاحدة الفلاسفة يقرنون الفلاسفة بالأنبياء ويقولون اتفقت الأنبياء والحكماء وقالت الأنبياء والحكماء كما يفعل ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفاء وأمثالهم وهذا كله من فعل من لم يؤمن بالرسل والنبيين الإيمان الذي يستحقونه وجعلهم من جنس غيرهم فيما يخبرون به ويأمرون به وجعل ما يأتون به من جنس ما يأتي به الذين سماهم هو أولياء وحكماء وهذا بناء على الأصل الفاسد وهو أن النبوة هي هذه الخصائص الثلاثة وهذه الخصائض مشتركة توجد لكثير من آحاد الناس ومما يبين الفرق بين النبيين وغيرهم أن الله سبحانه أوجب الإيمان بما أوتيه كل نبي من غير استثناء كما قال تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية وقال {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ

الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} وأيضا فإنه أخبر بعضمة ما جاءت به الأنبياء ونسخ ما يلقيه الشيطان من الباطل في أمنياتهم قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فإن قيل ففي قراءة ابن عباس أو محدث وبهذا احتج الحكيم الترمذي وغيره قيل أولا هذه القراءة إذا ثبت أنها قراءة فلا يعرف

لفظ بقية سائر الكلام معها كيف كان فإنها بتقدير صحتها إما من الحروف السبعة وإما مما نسخت تلاوته وعلى التقديرين فيجوز أن يكون نظم سائر الآية كان على وجه لا يدل على عصمة المحدث بل فيها نسخ ما يلقيه في أمينته النبي والرسول دون المحدث وإن ثبت أن الله تعالى كان ينسخ ما يلقى الشيطان في قلوب المحدثين قبلنا فلا يقتضي أن ذلك بوحي يأتيه بل يكون ذلك بعرضه ذلك على نبوات الأنبياء فإن خالف ذلك كان مردودا وحينئذ فيكون حفظ الولي بمتابعة الكتاب والسنة ولا ريب أن السنة كما كان الزهري يذكر عمن مضى من سلف المؤمنين قال كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة وقال مالك السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وإن قدر أن المحدث ممن قبلنا كان ينسح ما يلقيه الشيطان فيما يلقي إليه من غير استدلال بالنبوة فيكون من كان قبلنا كانوا مأمورين باتباع المحدث مطلقا لعصمة الله إياه ونحن لم نؤمر بذلك وسبب ذلك أن من كان قبلنا لم يكن يكفيهم نبوة واحدة بل كانوا يأخذون بعض الدين عن هذا النبي وبعضه عن هذا النبي بتصديق الآخر له كما كان أنبياء بني إسرائيل مأمورين باتباع التوراة وكما ان المسيح أحل لهم بعض ما حرم عليهم وأحالهم في أكثر الأحكام على التوارة وأما نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي كافية لأمته كما قال تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}

وفي النسائي وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: "أمتهوكون يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم" وفي مراسيل أبي داود كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم ونحن نعلم يقينا بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوجب الله تعالى علينا طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر ولم يأمر بطاعة غيره إلا إذا وافق طاعته لا نبيا ولا غير نبي ونحن إذا قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه فإنما ذاك لكونه مشروعا على لسان محمد بالأدلة الدالة على ذلك وقد علمنا بالاضطرار من دينه أن من أطاعه دخل الجنة فلا يحتاج مع ذلك إلى طاعة غيره لا نبي ولا محدث فلم يكن المتبعون لنبوته محتاجين إلى اتباع نبي غيره فضلا عن محدث قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} فقد أكمل الله الدين لأمته على لسانه فلا يحتاجون إلا إلى من يبلغ الدين الكامل لا يحتاجون إلى محدث ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر" فلم يجزم بأن في أمته محدثا كما جزم أنه قد كان في الأمم قبلنا مع أن أمتنا أفضل الأمم وأكمل ممن كان قبلهم وذلك لأن أمتنا مستغنية عن المحدثين كما استغنوا عن نبي يأخذون عنه سوى محمد وما علموه من أمور الأنبياء فبواسطة محمد هو الذي بلغهم ما بلغهم من أمور الأنبياء وما لم يبلغهم إياه من أمور الأنبياء فلا حاجة لأمته به ولهذا لم يحجب عليهم معرفة ذلك حتى يميزوا بين صدقه وكذبه كما ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب بشيء فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم" فأمر بالإيمان العام المتناول لجميع

ما جاءت به الأنبياء وما لم يعلم أن ناقلها عنهم صدق أو كذب لا تصدق ولا تكذب وإذا كانت أمتنا مستغنية عن أن تأخذ من نبوة غير نبوة محمد فاستغناؤها عن المحدثين أولى ومن كانوا قبلنا كانوا محتاجين إلى الأنبياء فكذلك ربما احتاجوا إلى المحدثين وما احتاجت الأمم إليه من الأخبار الإلهية فلا بد أن يكون محفوظا معصوما لتقوم به الحجة ويحصل به مقصود الدعوة وهذا مما دل على وجوب عصمة ما جاءت به الأنبياء وعصمة ما جاء به نبينا بعد موته فحفظ الله الذكر الذي أنزله وقد أنزل عليه الكتاب والحكمة والحكمة هي السنة فحفظ الله هذا وهذا ولله الحمد والمنة ومن وجد من هذه الأمة محتاجا إلى شيء غير ما جاء به الرسول فلضعف معرفته واتباعه لما جاء به الرسول مثل كثير منهم من يقول أنه يحتاج إلى الإسرائيليات وغيرها من أحوال أهل الكتاب وآخرون منهم من يقول أنهم محتاجون إلى حكمة فارس والروم والهند واليونان وغيرهم من الأمم وآخرون يقولون أنهم محتاجون إلى ذوقهم أو عقلهم أو رأيهم بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة ولا تجد من يقول أنه محتاج إلى غير آثار الرسول إلا من هو ضعيف المعرفة والاتباع لآثاره وإلا فمن قام بما جاء به الكتاب والسنة أشرف على علم الأولين والآخرين وأغناه الله بالنور الذي بعث به محمدا عما سواه

قال الله تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وأيضا فإنه أخبر أن وحي محمد كوحي النبيين كما في قوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وأيضا فمن خصائص الأنبياء أن من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الأئمة وكان مرتدا كما أن من كفر به وبما جاء

به كان مرتدا فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وأما الولي الذي ليس بنبي فلا يجب القتل بمجرد سبه ولا يكون مرتدا عن الإسلام من لم يؤمن به فمن غلا في الأولياء أو من يسميهم أولياء الله أو يسميهم أهل الله أو يسميهم الحكماء أو الفلاسفة أو غير ذلك من الأسماء التي يقرنها بأسماء الأنبياء وجعلهم مثل الأنبياء أو أفضل من الأنبياء فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل فكيف بمن جعل الأنبياء يستفيدون من المسمى بخاتم الأولياء وجعل هذا المسمى بخاتم الأولياء هو بمنزلة منتظر الرافضة وبمنزلة غوث الغلاة من الصوفية وأمثالهم ممن يعتقد ما لا حقيقة له في الخارج جعله يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فكيف بمن جعل النبي يأخذ من الصور الخيالية التي في نفسه المطابقة للعقل فيجعله يأخذ من العقل كما يأخذ ذوو العقول من الناس ويجعل النبوة حاصلها خلاصة العقل كما يقوله الطوسي شارح الإشارات وأمثاله من المتفلسفة الباطنية والمقصود هنا بيان أن هؤلاء الذين يدعون التحقيق والمعرفة والولاية القائلين بوحدة الوجود أصل قولهم قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة وأمثالهم وأن هؤلاء من جنس فرعون لكن هؤلاء أجهل من فرعون وفرعون أعظم عنادا منهم فإن فرعون كان في الباطن مقرا بالصانع المباين للأفلاك ولكن أظهر الإنكار طلبا للعلو والفساد وأظهر أن ما قاله موسى لا حقيقة له قال تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} وأما هؤلاء فإنهم عند أنفسهم مقرون بالصانع مثبتون له لكن لم يثبتوه مباينا للعالم بل جعلوا وجوده وجود العالم أو جعلوه حالا في العالم وقولهم مضطرب متناقض فإنهم مترددون بين الإتحاد والحلول وأصل ضلالهم إنكارهم مباينة الصانع للعالم وصارت قلوبهم تطلب موجودا وهي تأبى أن يكون مباينا للعالم فصاروا يطلبونه في العالم أو يجعلون وجوده هو وجود العالم فيجعلونه إما العالم وإما جزءا منه وإما صفة له وإما أن يقولوا هو العالم وليس هو العالم فيجمعوا بين المتناقضين وهو حقيقة قول ابن عربي فإنه يجعل وجوده وجود العالم ويقول إن ذات الشيء غير وجوده كما يقول من يقول أن المعدوم شيء فيفرق ين الوجود والثبوت وهذا فرق باطل فلهذا كان قوله متناقضا وهكذا كثير من الناس يقولون بشيء من الحلول والاتحاد مع تناقضهم في ذلك كما يوجد شيء من ذلك في كلام كثير من الصوفية والناس في هذا الباب على أربعة أقوال فالقول الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وكان عليه سلف الأمة وأئمتها هو القول بإثبات الصانع وأنه مباين للعالم عال عليه وأما الجهمية ونحوهم فصاروا على ثلاثة أقوال أحدها قول النفاة وهم أكثر متكلمي الجهمية ونظارهم الذين ينفون

المتقابلين ويجمعون في قولهم بين سلب النقيضين فغلاتهم يقولون ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ونحو ذلك ومقتصدوهم يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه ولا يقرب من شيء ولا بقرب إليه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يشار إليه ونحو ذلك وهؤلاء النفاة قولهم مستلزم للتعطيل وإنكار الصانع كما صرح به فرعون أما المعطلة فلهذا صار عبادهم وصوفيتهم وعامتهم ومحققوهم إلى القول بالوحدة والحلول والإتحاد لأن القلب العابد يطلب موجودا يقصده ويسأله بخلاف النظر والبحث والكلام فإنه يتعلق بالموجود والمعدوم وأما العبادة والطلب والسؤال فلا يكون إلا لموجود فصار هؤلاء ينظرون فيما ذكره أولئك من سلب المتقابلين فلا تقبله قلوبهم وهم قد شاركوهم في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم فصاروا يطلبون الإله الموجود في العالم لا مباينا للعالم فيترددون بين الحلول والإتحاد وأشباه ذلك من أنواع الإلحاد وفيهم صنف ثالث أمثل من هذين يجمعون بين الحلول والمباينة وهو قول طائفة من الناس كأبي معاذ التومني وغيره وقد يوجد في كلام أبي طالب المكي

وابن برجان من الكلام الذي أنكره طائفة من الشيوخ كالشيخ أبي البيان الدمشقي وغيره ما يقال أن فيه ما يشبه هذا وعامة هؤلاء يتكلمون بكلام متناقض أو بكلام لا حقيقة له إذ كان الأصل الذي بنوا كلامهم عليه أصلا باطلا والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق وإن وقع في كلام بعضهم ما هو خطأ منكر فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتا غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاده

الكلام على الحاد ابن العربي

وهذا الإلحاد الذي وقع في كلام ابن عربي صاحب الفتوحات وأمثاله في أصول الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر لم يكن في كلام العلماء والشيوخ المشهورين عند الأمة الذين لهم لسان صدق ولكن هؤلاء أخذوا مذهب الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وأمثاله الذي دخل كثير منها في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثاله فأخرجوها في قالب الإسلام بلسان التصوف والتحقيق كما فعل ابن عربي مع أنه يقدح في توحيد الشيوخ الأكابر كالجنيد وسهل بن عبد الله وأمثالهما ويطعن في قول الجنيد لما سئل عن التوحيد فقال التوحيد أفراد الحدوث عن القدم ويقول لا يميز بين المحدث والقديم إلا من كان ليس واحدا منهما ذكر هذا وأشباهه في كتابه التجليات وله كتاب

الإسراء الذي سماه الإسراء إلى المقام الأسري وجعل له إسراء كإسراء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحاصل إسرائه من جنس الإسراء الذي فسر به ابن سينا ومن اتبعه كالرازي والهمداني ونحوهم إسراء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلوه من نوع الكشف العلمي كما فعلوا مثل ذلك في تكليم موسى وجعلوا ما خوطب به كله في نفسه فلهذا ادعى ابن عربي إسراء وهو كله في نفسه وخياله منه المتكلم ومنه المجيب وباب الخيال باب لا يحيط به إلا الله وابن عربي يدعي أن الخيال هو عالم الحقيقة ويعظمه تعظيما بليغا فجعل في خياله يتكلم على المشايخ وتوحيدهم بكلام يقدح في توحيدهم ويدعي أنه علمهم التوحيد في ذلك الإسراء وهذا كله من جنس قرآن مسيلمة بل شر منه وهو كلام مخلوق اختلقه في نفسه والجنيد رحمه الله تكلم بكلام الأئمة العارفين فإن كثيرا من الصوفية وقعوا في نوع من الحلول والإتحاد كما ذكر ذلك أبو نعيم في الحلية وكما ذكره القشيري في رسالته فبين الجنيد أن التوحيد لا يكون إلا بأن يميز بين القديم والمحدث

كما قالوا لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وهكذا قال سائر الأئمة كأحمد بن حنبل وإسحق ابن راهويه وعثمان بن سعيد والبخاري وغيرهم حتى قال محمد بن إسحق ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما ذكر ذلك عنه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري وصاحبه الملقب بشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وغيرهما والشيوخ الأكابر الذين ذكرهم أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية وأبو القاسم القشيري في الرسالة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب أهل الحديث كالفضيل بن عياض والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي وغيرهم وكلامهم موجود في السنة وصنفوا فيها الكتب لكن بعض المتأخرين منهم كان على طريقة بعض أهل الكلام في بعض فروع العقائد ولم يكن فيهم أحد على مذهب الفلاسفة وإنما ظهر التفلسف في المتصوفة المتأخرين فصارت المتصوفة تارة على طريقة صوفية أهل الحديث وهم خيارهم وأعلامهم وتارة على اعتقاد صوفية وتارة على اعتقاد صوفية أهل الكلام فهؤلاء دونهم وتارة على اعتقاد صوفية الفلاسفة كهؤلاء الملاحدة ولهذا ذكر ابن عربي في أول الفتوحات ثلاث عقائد عقيدة مختصرة من إرشاد أبي المعالي بحججها الكلامية

ثم عقيدة فلسفية كأنها مأخوذة من ابن سينا وأمثاله ثم أشار إلى اعتقاده الباطن الذي أفصح به في فصوص الحكم وهو وحدة الوجود فقال وأما عقيدة خلاصة الخاصة فتأتي مفرقة في الكتاب ولهذا كان هؤلاء كابن سبعين ونحوه يعكسون دين الإسلام فيجعلون أفضل الخلق المحقق عندهم وهو القائل بالوحدة وإذا وصل إلى هذا فلا يضره عندهم أن يكون يهوديا أو نصرانيا بل كان ابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم

يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام ويجعلون هذه طرقا إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين ويقولون لمن يختص بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضركم بقاؤكم على ملتكم بل يقولون مثل هذا للمشركين عباد الأوثان حتى أن رجلا كبيرا من القضاة كان من غلمان ابن عربي فلما قدم ملك المشركين الترك هولاكو خان المشرك إلى الشام وولاه القضاء وأتى دمشق أخذ يعظم ذلك الملك الذي فعل في الإسلام وأهله ببغداد وحلب وغيرهما من البلاد ما قد شهر بين العباد فقال له بعض من شهده من طلبة الفقهاء ذلك الوقت يا سيدي ليته كان مسلما فبالغ في خصومته مبالغة أخافته وقال أي حاجة بهذا إلى الإسلام وأي شيء يفعل هذا بالإسلام سواء كان مسلما أو غير مسلم ونحو هذا الكلام

وهذا كان من آثار مذهب الذين يدعون التحقيق ويجعلون المتحقق الذي يسوغ التدين بدين المسلمين واليهود والنصارى والمشركين هو أفضل الخلق وبعده عندهم على ما ذكره ابن سبعين وأخوانه هو الصوفي يعنون المتصوف على طريقة الفلاسفة ليس هو الصوفي الذي على مذهب أهل الحديث والكتاب والسنة فلفظ الصوفي صار مشتركا فهؤلاء القائلون بالوحدة إذا قالوا الصوفي يريدون به هذا ولهذا كان عندهم أفضل من الفيلسوف لأنه جمع بين النظر والتأله كالسهروردي المقتول وأمثاله وبعده عندهم المتكلم الأشعري فجعلوا الأشعرية دون الفلاسفة وأنقص منهم ومعلوم باتفاق المسلمين أن من هو دون الأشعرية كالمعتزلة والشيعة الذين يوجبون الإسلام ويحرمون ما رواءه فهم خير من الفلاسفة الذين يسوغون التدين بدين المسلمين واليهود والنصارى فكيف بالطوائف المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة كالأشعرية والكرامية والسالمية وغيرهم فإن هؤلاء مع إيجابهم دين الإسلام وتحريمهم ما خالفه يردون على أهل البدع المشهورين بمخالفة السنة والجماعة كالخوارج

والشيعة والقدرية والجهمية ولهم في تكفير هؤلاء نزاع وتفصيل فمن جعل الفيلسوف الذي يبيح دين المشركين واليهود والنصارى خيرا من اثنتين وسبعين فرقة فليس بمسلم فكيف بمن جعله خيرا من طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى الذب عن السنة والجماعة ثم جعل بعد هؤلاء كلهم الفقيه فمن جعل أئمة المذاهب وأتباعهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري وإسحق وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والبويطي والمزني وابن سريج وابن القاسم وأشهب وابن وهب وإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم والمروزي والخلال والخرقي وأمثال هؤلاء دون أهل الكلام وأهل الكلام دون الفلاسفة والفلاسفة دون صوفية الفلاسفة وصوفية الفلاسفة دون أهل التحقيق القائلين بالوحدة وهؤلاء أرفع الخلق أليس يكون قد ناقض الرسول في دينه مناقضة ظاهرة لكل أحد فمن كان إلى الرسول أقرب كان عنده أخفض ومن كان عن الرسول أبعد كان عنده أفضل، ولهذا لما وقعت محنة هؤلاء بمصر والشام وأظهروا مذهب الجهمية الذي هو شعارهم في الظاهر وكتموا مذهب الإتحادية الذي هو حقيقة تجهمهم وأضلوا بعض ولاة الأمور حتى يرفعوا إخوانهم ويهينوا من خالفهم وصار كل من كان إلى الإسلام أقرب أقصوه وعزلوه وخفضوه وكل من كان عن الإسلام أبعد رفعوه حتى رفعوا شخصا كان نصرانيا وصيروه بعد الإسلام سبعينيا كان يقال له ابن سعيد الدولة وهو كان شقي دولته وكان مما أنشده:

تشير إلي في كل البرايا ... وتخبر بالذي اختار عني وذلك أنني أنا كل شيء ... وكل مصادر الأشياء عني فرفعوا درجته حتى جعلوا لا يصل إلى أحد رزق ولا ولاية إلا بخطه هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا حتى أزال الله كلمتهم عن المسلمين وأذلهم بعد العز وأهلك من أهلك منهم وكشف أسرارهم وهتك أستارهم وهؤلاء يتصلون بالكفار اتصال القرامطة الباطنية بهم لما بين الكفار والمنافقين من معاداة أهل الإيمان ولهذا كانت الباطنية وأتباعهم الرافضة بالشام وغيره مواصلين للكفار معادين لأهل الإيمان وهم من جنس هؤلاء ومن أسباب ضلال هؤلاء أنهم لما رأوا الكمال في العلم والعمل والعلم متقدم على العمل في السلوك وأما العلم النظري فجعلوه هو الغاية بناء على ان كمال النفس في العلم فرأوا الفقه هو العلم العملي فجعلوه أدنى المراتب ثم الكلام بعده لأنه عندهم العلم النظري الذي يليق بالعامة لأن المتكلم يقول أنه ينصر العقيدة الشرعية بالأدلة القطعية والأدلة العقلية فهي عقيدة مبرهنة وهؤلاء يعتقدون أن ما أخبرت به الرسل هو للعامة وأما الحقيقة التي لا يعلمها إلا الخواص فأمر باطن لا يعرف من مفهوم خطاب الرسل فلهذا جعلوا المتكلم بعد الفقيه إلى فوق وجعلوا هذا الاعتقاد على وجهين فالاعتقاد المجرد للعامة والاعتقاد المقرون بحججه للخاصة ثم بعد ذلك المتفلسف لأنه عندهم دخل من النظريات الباطنة التي لم تظهرها الرسل بل أشارت إليها ورمزت وبعد ذلك الصوفي لأنه عندهم جمع بين النظر وبين التأله الباطن فصار العلم له شهودا ثم بعد ذلك المحقق على أصلهم وهو الذي شهد أن الموجود واحد

وهو الذي انتهى إلى الغاية ويدعون أن هذا هو لباب ما جاءت به الأنبياء وما كان عليه الفلاسفة القدماء ولهذا يقول ابن سبعين في أول الإجابة إني عزمت على إفشاء سر الحكمة التي رمز إليها هرامس الدهور الأولية وبيان العلم الذي رامت إفادته الهداية النبوية وهو وابن عربي وأمثالهما في ترتيب دعوتهم من جنس ملاحدة الشيعة الباطنية فإن عقيدتهم في الابتداء عقيدة الشيعة ثم ينقلون المستجيب لهم إلى الرفض ثم ينقلونه إلى ترك الأعمال ثم ينقلونه إلى الإنسلاخ من خصوص الإسلام ثم إلى الإنسلاخ من الملل إلى أن يصل إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم عندهم فيصير معطلا محضا حتى يقولون ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في إثبات الوجود يعنون المبدع للعالم فلو تركته الفلاسفة لم يبق بيننا وبينهم خلاف وهذا في الحقيقة هو متنهى دعوة أولئك الملاحدة وقوى ضلالهم أمور منها اعتقادهم أن لما جاءت به الرسل باطنا يناقض ظاهره ومن أسباب ذلك ما حصل لهم من الحيرة والإضطراب في فهم ما جاءت به الرسل ومنها أنهم رأوا الطريق التي سلكها المتكلمون لا تفيد

علما بل هي إما سفسطة وجدل بالباطل عند من عرفه وإما جدل يفيد المغالبة عند من لم يعرف حقيقته وذلك أن هؤلاء سلكوا في الكلام طريقة صاحب الإرشاد ونحوه وهي مأخوذعه في الأصل عن المعتزلة نفاة الصفات وعليها بنى هؤلاء وهؤلاء أصل دينهم وجعلوا صحة دين الإسلام موقوفا عليها وذلك أنه موقوف على الإيمان بالرسول والإيمان به موقوف على معرفة المرسل وزعموا أن المرسل لا يعرف إلا بها

طريقة المتكلمين في اثبات الصانع

قالوا لأنه لا يعرف إلا بالنظر والاستدلال المفضي إلى العلم بإثبات الصانع قالوا ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث العالم قم قالوا ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث الأجسام قالوا ولا دليل على ذلك إلا الإستدلال بالأعراض أو ببعض الأعراض كالحركة والسكون أو الإجتماع والإفتراق وهي الأكوان فإن الجسم لا يخلو منها وهي حادثة وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث قالوا وهذا الأصل يشتمل على أربعة مقامات إثبات الأعراض ثم إثبات حدوثها ثم إثبات استلزام الجسم لها أو أنه لا يخلو منها ثم إبطال حوادث لا أول لها وحينئذ فيلزم حدوث الجسم فيلزم حدوث العالم لأنه أجسام وأعراض فيلزم إثبات الصانع لأن المحدث لا بد له من محدث وهذه الطريقة هي أساس الكلام الذي اشتهر ذم السلف والأئمة له ولأجلها قالوا بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش وأنكروا الصفات

والذامون لها نوعان منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام فإنا نعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدع الناس بها ولا الصحابة لأنها طويلة مخطرة كثيرة الممانعات والمعارضات فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه وهذه طريقة الأشعري في ذمه لها والخطابي والغزالي وغيرهم ممن لا يفصح ببطلانها ومنهم من ذمها لأنها مشتملة على مقامات باطلة لا تحصل لمقصود بل تناقضه وهذا قول أئمة الحديث وجمهور السلف فجاء هؤلاء المتفلسفة لما رأوا هذه عمدة هؤلاء المتكلمين في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع وتفطنوا لموضع المنع فيها وهو قولهم يمتنع دوام الحوادث قالوا هذه الطريقة تستلزم كون الصانع كان معطلا عن الكلام والفعل دائما إلى أن أحدث كلاما وفعلا بلا سبب أصلا قالوا وهذا مما يعلم بطلانه بصريح العقل قالوا وليس معكم من نصوص الأنبياء ما يوافق هذا وأما إخبار الله أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فهذا يدل على أنه خلقها من مادة قبل ذلك كما أخبر أنه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} وكذلك في أول التوارة ما يوافق هذا قالوا وهذا النص وإن كان يناقض قولنا بقدم العالم فليس فيه ما يدل على قولكم بتعطيل الصانع عن الصنع وحينئذ فنحن نقول في هذا

هذا النص وأمثاله من نصوص المبدأ والمعاد ما نقوله نحن وأنتم في نصوص الصفات ثم من هؤلاء من سلك طريق التأويل كما فعل ذلك من فعله من القرامطة كالنعمان قاضيهم صاحب كتاب أساس التأويل وكأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وكتاب الافتخار وأمثالهما وألقى هؤلاء جلباب الحياء وكابروا الناس وباهتوهم حتى ادعوا أن الصلاة معرفة أسرارهم أو موالاة أئمتهم والصوم كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وهذا يبوحون به إذا انفردوا بإخوانهم وأما الذين سكنوا بين المسلمين كالفارابي وابن سينا وأمثالهما فما أمكنهم أن يقولوا مثل هذا وعلموا أنه مما يظهر بطلانه فقالوا أن الرسل إنما خاطبت الناس بما يخيل إليهم أمورا ينتفعون باعتقادها في الإيمان بالله واليوم الآخر وإن كان ما يعتقدون من تلك الأمور باطلا لا يطابق الحقيقة في نفسه والخطاب الدال على ذلك كذب في الحقية عندهم لكنه يسوغ الكذب الذي يصلح به الناس ومن تحاشى منهم على إطلاق الكذب على ذلك فعنده أنه من باب تورية العقلاء الذين يورون لمصلحة أتباعهم

فكان ما سلكه أولئك المتكلمون في العقليات الفاسدة والتأويلات الحائدة هي التي أخرجت هؤلاء إلى غاية الإلحاد ونهاية التكذيب للمرسلين وفساد العقل والدين وأخذ ابن سينا وأمثاله ينقضون الطريقة التي سلكها أولئك في حدوث العالم وإثبات الصانع إذ كان مدارها على امتناع تسلسل الحوادث وأن حكم الجميع حكم الواحد فأبو الحسين البصري من حذاق هؤلاء يجعلون أصل الدين مبنيا على أنه إذا كان كل واحد من الحوادث كائنا بعد أن لم يكن فالجميع كذلك كما انه إذا كان كل واحد من الزنج أسود فالجميع كذلك وأبو المعالي وأمثاله يقولون إثبات الحدوث ونفي الفعل في الأزل جمع بين النقيضين فقال لهم المنازعون أتباع الأنبياء وأتباع الفلاسفة الفرق بين النوع والشخص معلوم والمنتفي وجود حادث معين في الأزل بحيث يكون حادثا قديما أو وجود مجموع الحوادث في الأزل بحيث تكون كل الحوادث قديمة وأما دوام الحوادث شيئا بعد شيء كما هي دائمة شيئا بعد شيء في المستقبل فليس في العقل ما يحيل هذا ولا يمكن الفرق بين الماضي والمستقبل بفرق مؤثر في مناط الحكم وليس كل مجموع يوصف بما يوصف به أفراده بل قد يوسف بذلك إذا لم يستفد بالاجتماع حكما آخر وقد لا يوصف بذلك إذا حصل له بالاجتماع حكم آخر فالأول كاجتماع الموجودات والمعدومات والممكنات والممتنعات فإنه لا يخرجها عن حكم هذه الصفات والثاني كاجتماع أجزاء الخط والسطح والجسم والطويل

والبيت والإنسان والدائم والعشرة والألف ونحو ذلك فإنه إذا اجتمعت هذه الأجزاء حصل باجتماعهما حكم لا توصف به الأجزاء والمقصود هنا التنبيه على مبدأ ضلال هؤلاء الملاحدة وأن من جملته تقصير من جادلهم عن نصر الحق ودخوله في نوع من الباطل إما في باطل وافقوه عليه وجعلوه حجة لهم عليه في مكان آخر كنفي الصفات وإما من باطل نازعوه فيه وبينوا بطلانه كترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وإما تقصيره في الحق تارة يقصر في معرفة ما جاءت به الرسل وتارة يقصر في إقامة الحجة على منازعه فتقصيره في تصور الحق وبيان الحجة على التصديق به مما سلط أولئك الملحدين

طريقة ملاحدة الفلاسفة وأهل الوحدة أضعف من وجوه

لكن بكل حال حجة الملاحدة أدحض وقولهم أضعف فأنهم أنكروا على هؤلاء إحداث حوادث بدون سبب حادث من قادر مختار لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب وأنكروا عليهم كونهم عطلوا الصانع عن الصنع في الأزل وهم قد عطلوا الصانع عن صفات الكمال بل وعطلوه في الحقيقة عن الفعل وعطلوا الحوادث عن محدث لها بل عطلوا العالم عن الصانع فإنهم لم يثبتوا إلا وجودا مطلقا مجردا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وجعلوا الحوادث تحدث بلا فاعل يوجب حدوثها وغايتهم أنهم يجعلون الفلك حيوانا يحدث تصوره وإرادته وحركاته وذلك هو سبب حدوث الحوادث والرب تعالى لم يحدث شيئا من ذلك، لكنهم يقولون هو علة تامة في الأزل للعالم بما فيه من الأجناس المختلفة والأمور الحادثة مع العلم الضروري بعد

التصور التام أن الواحد البسيط الذي قدروه لا يوجد إلا في الذهن ولا يصدر عنه شيء فإن الواحد البسيط من كل وجه الذي لا صفة له ولا قدرة ولا فعل لا يعقل وجوده في الخارج ولا يعقل انه يوجد عنه شيء لا واحد ولا غير واحد ولا يوجد في العالم أثر إلا عن سببين لا عن واحد مع أن الواحد الموجود في العالم إذا قدر مقدر أثر عنه كالسخونة والبرودة فهو واحد له صفة وقدر وفعل يقوم به وأما الواحد الذي قدروه فإنما هو شيء يقدره الذهن كما يقدر وجود خالقين وتسلسل المؤثرات وكما يقدر رفع النقيضين مثل كونه لا موجودا ولا معدوما أو جمع النقيضين مثل كونه موجودا معدوما وكما يقدر عالم بلا علم وقادر بلا قدرة أو يقدر أن العلم هو العالم والقدرة هو القادر أو يقدر ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح أو يقدر حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات التي تفتقر إلى واجب بلا واجب وأمثال ذلك مما يقدره الذهن مع أنه ممتنع ووجه ثالث أن الواحد البسيط الذي فرضوه إذا قدر وجوده في الخارج امتنع صدور المختلفات عنه بوسط أو غير وسط سواء قيل أن الصادر الأول عنه واحد له ثلاث جهات أو قيل غير ذلك فإن كل ما يقدرونه يستلزم صدور الأنواع المختلفة عن الواحد البسيط وإن شئت قلت صدور الكثرة عن الوحدة فالجمع بين صدور الكثرة عنه وكونه واحدا بسيطا لا يصدر عنه إلا واحد جمع بين المتناقضين

وإذا قيل أن الكثرة حصلت في الصادر الأول كان القول فيها كالقول في الكثرة الصادرة عن المعلول الأول إن كانت أمورا وجودية لزم أن يصدر عن الواحد البسيط الذي لا يصدر عنه إلا واحد أكثر من واحد وإن كانت عدمية لزم أن يصدر عن الواحد البسيط الموصوف بالسلوب أمور موجودة مختلفة فقولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد مع صدور هذه المختلفات عن المبدع يقتضي انتفاء ما ذكروه من الوحدة أو انتفاء كون المختلفات صدرت عنه بوسط أو بغير وسط ولو لم يكن إلا الفلك الثامن ذو الكواكب الكثيرة فإنه ليس فوقه من العلل المختلفة ما يوجب كثرة الكواكب التي فيه عندهم وكذلك العقل العاشر في كثرة ما تحته من الأركان وغيرها ووجه رابع وهو أنه إذا كان علة تامة أزلية لزم مقارنة معلوله له وكل ماسواه معلول له فيلزم أن لا يكون في الوجود حادث أو أن لا يكون للحوادث محدث وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة وإن قيل تخلف عنه بعض الحوادث لوقوفه على حادث قبله قيل والقول في الحادث الأول كالقول في الثاني يمتنع إذا كان علة موجبا بذاته أن يتخلف عنه شيء أو أن يكون اقتضاؤه موقوفا على حدوث حادث إلا إذا كان هناك غيره كما يقولون في العقل الفعال أنه عام الفيض لكن فيضه متوقف على استعداد القوابل وهذا ممتنع ممن صدر عنه كل شيء ولا يوقف إبداعه على غير ذاته أصلا فإن هذا لا يجوز أن يتراخى عنه شيء

من فيضه وإن تراخى عنه شيء من فيضه لم تكن نفس ذاته هي الموجبة لفيضه بل لا بد من آخر ينضم إليها وإذا قيل ذاته تحدث شيئا بعد شيء فإنه لا يمكن إحداث المحدثات جميعا قيل فهذا ينقض قولكم لأن من أحدث شيئا بعد شيء لم يكن موجبا بذاته في الأزل لشيء بل يكون كلما صدر عنه حادث وإن كانت أفعاله دائمة شيئا بعد شيء فليس فيها واحد قديم وكذلك مفعولاته بطريق الأولى فإن المفعول تابع للفعل فلا يكون في أفعاله ولا مفعولاته شيء قديم وإن كانت دائمة لم تزل فإن دوام النوع وقدمه ليس مستلزما قدم شيء من الأعيان بل ذلك مناقض لقدم شيء منها إذ لو كان فيها واحد قديم لكان ذلك الفعل المعين هو القديم ولم تكن الأفعال المتوالية هي القديمة والشيء الذي من شأنه أن يكون متواليا متعاقبا كالحركة والصوت يمتنع قدم شيء من أجزائه ودوام شيء من أجزائه وبقاء شيء من أجزائه وإن قيل أنه دائم قديم باق أي نوع هو الموصوف بذلك وأيضا فقولهم باطل على تقدير النقيضين فيلزم بطلانه في نفس الأمر وذلك أنه إما أن يمكن دوام الحوادث وهو قولهم بوجود حوادث لا أول لها وإما أن لا يمكن فإن لم يمكن كما يقوله كثير من أهل الكلام لزم أن يكون لجنس الحوادث أول ولزم أن ما لا يخلو عن الحوادث أن يكون حادثا فيلزم حدوث العالم وإن أمكن دوام الحوادث أمكن أن يكون هذا العالم الذي خلقه الله في ستة أيام مسبوقا بحوادث قبله فلا يجوز القول بقدمه

وأيضا فإذا أمكن دوام الحوادث لزم دوام إحداث المحدث لها وأن يكون محدثا لها شيئا بعد شيء والعلة التامة الأزلية التي يقارنها معلولها لا يفعل شيئا بعد شيء فإن ذلك يناقض مقارنة معلولها لها وأيضا فالأثر إما أن يجب مقارنته للمؤثر التام المستجمع لجميع شروط التأثير وإما أن يجوز تراخيه عنه فإن جاز تراخيه عنه أمكن كون المؤثر التام ثابتا في الأزل والعالم حادث عنه بعد ذلك وهذا يبطل أصل حجتهم ثم هذا يستلزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب فإنه إذا كان المؤثر حال أن يفعل وقبل أن يفعل على السواء من غير اختصاص إحدى الحالتين بوجه من الوجوه كانت الحالات سواء وحينئذ فكونه يفعل في أحدهما ولا يفعل في الآخر ترجيح للفعل بلا مرجح وهذا ممتنع في بديهة العقل وهو يسد باب إثبات الواجب القديم الخالق وإن وجب مقارنة الأثر للمؤثر التام لزم من ذلك أن يكون كل ما حدث في الوجود لم يحصل مؤثره التام إلا مقارنا له وحينئذ يكون المؤثر التام صار مؤثرا بعد أن لم يكن ويكون الأثر مفتقرا إلى مؤثر تام مقارن له والتسلسل ممتنع في أصل كون المؤثر مؤثرا وتمام كونه مؤثرا كما تقدم فإنه إذا كان لا يوجد تمام المؤثر في هذا حتى يوجد تمام المؤثر في هذا المؤثر ولا يوجد تمام المؤثر في هذا حتى يوجد تمام المؤثر في هذا لزم أن لا يوجد شيء من تمام المؤثرات كما إذا قيل لا يوجد هذا المؤثر حتى يوجد هذا المؤثر فإن هذا غايته تقدير أمور معدومة متعاقبة وتعاقب المعدومات وكثرتها وتقدير عدم

تناهيها لا يقتضي أن يكون فيها شيء موجود وإذا كان كذلك فلا بد أن ينتهي إلى من هو مؤثر بنفسه لا يتوقف تأثيره على غيره وإن جاز أن يصير مؤثرا لهذا بعد أن يصير مؤثرا لهذا إذا كان لا يفتقر في ذلك إلى غيره وحينئذ فيكون المؤثر التام لكل المحدث عند وجود ذلك المحدث وإذا كان بنفسه صار مؤثرا تاما فيها ويمتنع أن يكون مؤثرا تاما إلا عند وجود الأثر المحدث امتنع أن يكون لشيء من المحدثات مؤثر تام في الأزل وإذا كان العالم لا يخلو عن الحوادث والمؤثر التام لا يكون لشيء من الحوادث في الأزل امتنع أن يكون للعالم مؤثر تام في الأزل فإن وجود الملزوم بدون اللازم محال وليس الأزل وقتا محدودا بل هو عبارة عن الدوام الماضي الذي لا ابتداء له الذي لم يسبق بعدم الذي ما زال وإذا امتنع أن يكون تمام التأثير لشيء من الحوادث أو ملزوم الحوادث أزليا امتنع أن يكون شيء ن الحوادث أو ملزوم الحوادث أزليا وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أصل أقوال هؤلاء أهل الوحدة الذين يدعون التحقيق وأنهم تعدوا مراتب الأمم كلهم حتى الأنبياء وغيرهم كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما

الكلام على ابن العربي وابن سبعين

وكان ابن سبعين أحذق بالفلسفة وابن عربي أحذق بالتصوف وأظهر انتسابا إلى الإسلام ولهذا كان

منتهى ابن عربي دعواه أنه كان خاتم الأولياء وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء يستفيدون منه العلم بالله فراعى كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين في الصورة وإن كان في الحقيقة قد ادعى ما هو أعظم من مرتبة خاتم النبيين وأما ابن سبعين فعلم أن هذه منافقة ظاهرة الفساد لا تخفى إلا على أجهل الناس فكان يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان يطمع أن يصير نبيا وذكروا أنه جدد غار حراء لينزل عليه فيه الوحي كما يجيء بعض الناس يجدد بعض معابد المشايخ ليفتح عليه كما فتح عليه وكل من هذين في كثير من كلامه يعظم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيما بليغا لكن قد تكون أحوالهم مختلفة وقد يكون ذلك نفاقا وقد يكونون معظميه على ما سواه ومعظمي أنفسهم عليه

الكلام على ابن هود

كما كان ابن هود لما سلك هذه السبيل وأراد أن يظهر بأمر أعظم مما ظهرت به الأنبياء فكان يتكلم على الأنبياء الثلاثة أصحاب الملل الذين هم موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ثم جعل الرابع المنتظر أعظم من هؤلاء الثلاثة ويرجو أن يكون هو ذلك الرابع أو يصرح بذلك ويقول على طريقة الفلاسفة موسى في الجسم وعيسى في النفس ومحمد في العقل أو يقول سبحان الله لموسى والحمد لله لعيسى ولا إله إلا الله لمحمد والله أكبر لهذا الرابع المنتظر ويقول موسى له علم اليقين وعيسى له عين اليقين ومحمد له حق اليقين وهذا الرابع له حقيقة حق

اليقين والرابع هو صاحب الوجود الواجب وهو الإحاطة عندهم ولهذا أمر ابن سبعين أن ينقش على قبره صاحب نقش فص خاتم الإحاطة والإحاطة عندهم هي الوجود المطلق المجرد الذي لا يتقيد بقيد وهو الكلي الذي لا يتقيد بإيجاب ولا إمكان ثم بعده الوجود الذي يصدق على الواجب والممكن أو الذي لا يصدق على واحد منهما فإن المطلق لا بشرط يصدق عليهما والمطلق بشرط الإطلاق لا يصدق على واحد منهما وكان قد اجتمع بي حذاق هؤلاء لما أظهروا محنة أهل السنة لينصروا طريقهم واستعانوا في الظاهر بمن يوافقهم على نفي الصفات أما نفي علو الله على خلقه وصفاته الخبرية أو نفي الصفات مطلقا ونفي الأفعال والكلام ونحو ذلك من مذاهب الجهمية فإنهم إنما يتظاهرون بقول معتزلة الأشعرية النافين للصفات الخبرية ولغيرها وبقول متفلسفة الأشعرية نفاة الصفات مطلقا كما أن الباطنية القرامطة إنما يتظاهرون بالتشيع ولهذا كان ابن سبعين يقول للشيخ الجليل تقي الدين الحوراني الذي كان بمكة مجاورا وكان من أهل العلم والدين وكان يناقض ابن سبعين ويرد عليه قال له إنما أنت تبغضني لأني أشعري فقال: لو كنت

أشعريا لقبلتك أو كما قال وهل أنت مسلم وهذا كما يقول القرمطي لأهل السنة إنما تبغضوني لأني من الشيعة فيقال له لو كنت من الشيعة لأكرمناك وهل أنت مسلم فإن ما في أقوال الشيعة من الأقوال المخالفة للسنة هي الباب الذي دخل منه القرامطة الباطنية وما في أقوال المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية من الأقوال التي تخالف السنة هي الباب الذي دخل منه هؤلاء الملاحدة الجهمية وكلام الملاحدة من الشيعة وأهل الكلام مقرون بكلام ملاحدة المتفلسفة ولهذا كان عبد الرحمن بن مهدي يقول هما صنفان احذروهما الرافضة والجهمية ولهذا انتصر هؤلاء بمن وافقهم على نفي علو الله على خلقه ونفي الصفات الخبرية وغير ذلك مما يخالف الكتاب والسنة مما دخل فيه من دخل من أهل الكلام الأشعرية وغيرهم كما ينتصر أولئك الملاحدة بالشيعة وكان مما سلط هؤلاء جميعا على النفي قصور المنتسبين إلى السنة وتقصيرهم تارة بأن لا يعرفوا معاني نصوص الكتاب والسنة وتارة بأن لا يعرفوا النصوص الصحيحة من غيرها وتارة لا يردون ما يناقضها ويعارضها مما يسميه المعارضون لها العقليات ومعلوم أن العلم إنما يتم بصحة مقدماته والجواب عن معارضاته ليحصل وجود المقتضي وزوال المانع وقد قال الإمام أحمد رحمه الله معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه وكثير من المنتسبين إلى السنة المصنفين فيها لا يعرفون الحديث ولا يفقهون معناه بل تجد

الرجل الكبير منهم ينصف كتابا في أخبار الصفات أو في إبطال تأويل أخبار الصفات ويذكر فيه الأحاديث الموضوعة مقرونة بالأحاديث الصحيحة المتلقاه بالقبول ويجعل القول في الجميع واحدا وقد رأيت غير واحد من المصنفين في السنة على مذهب أهل الحديث من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم من الصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام منهم يحتجون في أصول الدين بأحاديث لا يجوز أن يعتمد عليها في فضائل الأعمال فضلا عن مسألة فقه فضلا عن أصول الدين والأئمة كانوا يروون ما في الباب من الأحاديث التي لم يعلم أنها كذب من المرفوع والمسند والموقوف وآثار الصحابة والتابعين لأن ذلك يقوي بعضه بعضا كما تذكر المسألة من أصول الدين ويذكر فيها مذاهب الأئمة والسلف فثم أمور تذكر للإعتماد وأمور تذكر للإعتضاد وأمور تذكر لأنها لم يعلم أنها من نوع الفساد ثم بعد المعرفة بالنصوص لا بد من فهم معناها وكثير من المنتسبين إلى السنة وغيرهم ظنوا أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو معنى الكلام الذي أنزل القرآن لبيانه فصاروا يجعلون كثيرا من القرآن كلاما خوطب به الناس وأنزل إليهم وأمروا بتلاوته وتدبره وهو كلام لا يفهم معناه ولا سبيل إلى معرفة مراد المتكلم به وقد يحكى عن بعضهم أنه سمع كلام لا معنى له في نفس الأمر كما حكى الرازي في محصوله عمن سماهم بحشوية أنهم قالوا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا لكن هذا القول لا أعرف به قائلا بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين

ولهذا كنا مرة في مجلس فجرت هذه المسألة فقلت هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين وإن كان أحد ذكره فليس فيما ذكره حجة على إبطاله فقال بعض الذابين عنه هذا قالته الكرامية فقلت هذا لم يقله لا كرامي ولا غير كرامي ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم وبتقدير أن يكون قولا فإنما احتج على فساده بأن هذا عبث والعبث على الله محال وهذه الحجة فاسدة على أصله لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة هل يجوز أن ينزل حروفا لا معنى لها والحروف عنده من المخلوقات وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء لأن فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا وإنما النزاع المشهور هل يجوز أن ينزل الله تعالى ما لا يفهم معناه والرازي ممن يجوز هذا في أحد قوليه ووافق من قال أن التأويل لا يعلمه إلا الله مع قولهم أن التأويل هو المعنى

الكلام على التأويل

وأصل الخطأ في هذا أن لفظ التأويل مجمل يراد به ما يؤول إليه الكلام فتأويل الخبر نفس المخبر عنه وتأويل أسماء الله وصفاته نفسه المقدسة بمالها من صفات الكمال ويراد بالتفسير التأويل وهو بيان المعنى المراد وإن لم نعلم كيفيته وكنهه كما أنا نعلم أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وعسلا وذهبا وحريرا وغير ذلك وإن كنا

لا نعرف كيفية ذلك ويعلم أن كيفيته مخالفة لكيفية الموجود في الدنيا ويراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح وهذا لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين وأما خطاب الصحابة والتابعين فإنما يوجد فيه الأولان ولهذا قال أكثرهم أن الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} بناء على أن التأويل هو ما استأثر الله بعلمه وهو الكيف الذي لا نعلمه نحن كما قال الإمام مالك الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك سائر الأئمة قولهم مثل قول مالك ينفون علم الخلق بالكيف وعلمهم بالحكمة فلا يقولون في صفاته كيف ولا في أفعاله لم لأنهم لا يعلمون كيفية صفاته ولا لمية أفعاله وكثير من المتأخرين نفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر لم ينفوا علم المخلوق به فالأولون يقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ويقولون منع الخلق أن يتفكروا في ماهية ذاته كما يقول مثل ذلك أبو محمد بن أبي زيد

والشريف أبو علي بن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهم وكلام السلف كله موافق لقول هؤلاء كما في كلام عبد العزيز بن الماجشون نظير مالك بالمدينة قال أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتباعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاتت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره إلى أن قال فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو فكيف يعرف والذين نازعوهم من المتأخرين قالوا لا ماهية فتجري في مقال ولا كيفية له فتخطر ببال والنزاع موجود في أصحاب الأئمة الأربعة

والمقوصد هنا أن السلف كان أكثرهم يقفون عند قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} بناء على أن التأويل الذي هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها لا يعلمها إلا هو وطائفة منهم كمجاهد وابن قتيبة وغيرهما قالوا بل الراسخون يعلمون التأويل ومرادهم بالتأويل المعنى الثاني وهو التفسير فليس بين القولين تناقض في المعنى وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال أنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هوالتفسير لكونه تفسيرا للكلام وبيانا لمراد المتكلم به أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجا في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده وقد ينكرون من التأويل الذي هو التفسير ما لا يعلم صحته فننكر الشيء للعلم بأنه باطل أو لعدم العلم بأنه حق ولا ينكرون ترجمة الكلام لمن لا يحسن اللغة وربما أنكروا من ذلك ما لا يفهمه المستمع أو ما تضره معرفته كما ينكرون

تحديث الناس بما تعجز عقولهم عن معرفته أو بما تضرهم معرفته كما قال علي عليه السلام حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال عبد الله بن مسعود: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وهذا قد تحمله الباطنية على مذهب النفاة المعطلة التي بينا فسادها والأمر على نقيض ذلك فإن قوله: "أتحبون أن يكذب الله ورسوله" دليل على أن ذلك قد قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسكت عنه وهذا نظير الحديث المأثور إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله فإن هذا الحديث وإن لم يكن ثابتا فقد ذكره شيخ الإسلام وكما ذكره أبو حامد الغزالي وقال يحيى بن

عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري المذكور وغيرهما أن هذا مثل أحاديث الصفات التي يضيق عنها من لم يسعها عقله وهؤلاء يردون على من حمل هذه الآثار على أقوال الباطنية كما يوجد شيء من ذلك في كلام أبي حامد وغيره فإنه من المعلوم بالإضطرار لمن عرف نصوص الرسول أنه جاء بالإثبات لا بالنفي وأن الرسل جاءوا بإثبات الصفات لله على وجه التفصيل مع التنزيه العام عن التعطيل والتمثيل وإنما جماع الشر تفريط في حق أو تعدي إلى باطل وهو تقصير في السنة أو دخول في البدعة كترك بعض المأمور وفعل بعض المحظور أو تكذيب بحق وتصديق بباطل ولهذا عامة ما يؤتى الناس من هذين الوجهين فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم كما ذكرت تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها فهذا عجز وتفريط في الحق وقد يحصل منهم دخول في باطل إما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوزامها وإما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة كما أصاب الناس في مسألة كلام الله وغير ذلك من صفاته

ومن ذلك أن أحدهم يحتج بكل ما يجده من الأدلة السمعية وإن كان ضعيف المتن والدلالة ويدع ما هو أقوى وأبين من الأدلة العقلية إما لعدم علمه بها وإما لنفوره عنها وإما لغير ذلك وفي مقابلة هؤلاء من المنتسبين إلى الإثبات بل إلى السنة والجماعة أيضا من لا يعتمد في صفات الله على أخبار الله ورسوله بل قد عدل عن هذه الطريق وعزل الله ورسوله عن هذه الولاية فلا يعتمد في هذا الباب إلا على ما ظنه من المعقولات ثم هؤلاء مضطربون في معقولاتهم أكثر من اضطراب أولئك في المنقولات تجد هؤلاء يقولون أنا نعلم بالضرورة أمرا والآخرون يقولون نعلم بالنظر أو بالضرورة ما يناقضه وهؤلاء يقولون العقل الصريح لا يدل إلا على ما قلناه والآخرون يناقضوهم في ذلك ثم من جمع منهم بين هذه الحجج أداه الأمر إلى تكافؤ الأدلة فيبقى في الحيرة والوقف أو إلى التناقض وهو أن يقول هنا قولا ويقول هنا قولا يناقضه كما تجد من حال كثير من هؤلاء المتكلمين والمتفلسفة بل تجد أحدهم يجمع بين النقيضين أو بين رفع النقيضين والنقيضان اللذان هما الإثبات والنفي لا يجتمعان ولا يرتفعان بل هذا يفيد صاحبه الشك والوقف فيتردد بين الإعتقادين المتناقضين الإثبات والنفي كما يتردد بين الإرادتين المتناقضتين وهذا هو حال حذاق هؤلاء كأبي المعالي وأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأما ابن سينا وأمثاله

فأعظم تناقضا واضطرابا والمعتزلة بين هؤلاء وهؤلاء في التناقض والإضطراب وسبب ذلك جعل ما ليس بمعقول معقولا لاشتباه الأمر ودقة المسائل وإلا فالمعقولات الصريحة لا تتناقض والمنقولات الصحيحة عن المعصوم لا تتناقض وقد اعتبرت هذا في عامة ما خاض الناس فيه من هذه الأمور دقيقها وجليلها فوجدت الأمر كذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد يشكل الشيء ويشتبه أمره في الإبتداء فإذا حصل الإستعانة بالله واستهداؤه ودعاؤه والإفتقار إليه أو سلوك الطريق الذي أمر بسلوكها هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ولم يكن في سلف الأمة وأئمتها من يرد أدلة الكتاب ولا السنة على شيء من مسائل الصفات ولا غيرها بل ينكرون على أهل الكلام الذين يعدلون عما دل عليه الكتاب والسنة إلى ما يناقض ذلك ولا كانوا ينكرون المعقولات الصحيحة أصلا ولا يدفعونها بل يحتجون بالمعقولات الصريحة كما أرشد إليها القرآن ودل عليها فعامة المطالب الإلهية قد دل القرآن عليها بالأدلة العقلية والبراهين اليقينية كما قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع ولكن طائفة من أهل الكلام والفلسفة ظنوا أن دلائل القرآن إنما هي مجرد أخباره فيتوقف على العلم بصدق

المخبر وهذا من بعض ما فيه من الأدلة ولكن فيه الإرشاد والبيان للأدلة التي يعلم بالعقل دلالتها على المطلوب فهي أدلة شرعية عقلية وغالب ما في القرآن من هذا الباب ولكن هذا ليس موضع بسط ذلك ولكن المقصود هنا التنبيه على حال هؤلاء أهل الإحاطة القائلين بالوجود المطلق

الرد على أهل الإحاطة القائلين بالوجود المطلق

ولما اجتمع بي بعض حذاقهم وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق ولا يفهمه إلا خواصهم وذكر أن الإحاطة هو الوجود المطلق قلت له فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا بل لا يوجد إلا معينا فلا يكون الوجود المطلق موجودا في الخارج فبهت ثم أخذ يفتش لعله يظفر بجواب فقال نستثني الوجود المطلق من الكليات فقلت له غلبت وضحكت لظهور فساد كلامه وذلك أن القانون المذكور لو فرق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم ولأن ما في القانون صحيح في نفسه وإن لم يقولوه وهو يعم كل مطلق فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلا أما المطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحدا ولا كثيرا ولا موجودا ولا معدوما ولا كليا ولا جزئيا فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ولا بد أن يكون واحدا أو متعددا ولا بد أن يكون معينا جزئيا وإذا قيل أن هذا في الذهن فالمراد به أن الذهن يقدره ويفرضه وإلا فكونه في الذهن تقييد فيه لكن الذهن

يفرض أمورا ممتنعة لا يمكن ثبوتها في الخارج والمطلق من هذه الممتنعات سواء كان إنسانا أو حيوانا أو وجودا أو غير ذلك بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق أشد امتناعا في الخارج فإنه يمتنع أن يكون وجودا لا قائما بنفسه ولا بغيره ولا قديما ولا محدثا ولا جوهرا ولا عرضا ولا واجبا ولا ممكنا ومعلوم أن هذا لا يتصور وجوده في الخارج

الرد على ابن سينا في قوله ان واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق

وابن سينا وأتباعه لما ادعوا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق لم يمكنهم أن يجعلوه مطلقا عن الأمور السلبية والإضافية بل قالوا وجود مقيد بسلوب وإضافات لكنه ليس مقيدا بقيود ثبوتية وقد يعبر عن قولهم بأنه الوجود المقيد بكونه غير عارض لشيء من الماهيات وهذا تعبير الرازي وغيره عنه لكن هذا التعبير مبني على أن وجود غيره عارض لماهيته وهو مبني على أن ماهية الشيء في الخارج ثابتة بدون الشيء الموجود في الخارج وهذا أصل باطل لهم فإذا عبر عنه بهذه العبارة لم يفهم كل أحد معناه وأما إذا عبر عنه بالعبارة التي يعلمون هم أنها تدل على مذهبهم بلا نزاع انكشف مذهبهم وإذا قالوا هو الوجود المقيد بقيود سلبية كان في هذا أنواع من الضلال منها أنهم لم يجعلوه مطلقا فإن كونه مقيدا بقيد سلبي أو إضافي نوع تقييد فيه وهذا القيد لم يجعله أحق بالوجود بل جعله أحق بالعدم ومعلوم أن الوجود الواجب أحق بالوجود من الوجود الممكن فكيف يكون أحق بالعدم من الممكن

وذلك أنهم يقسمون الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالأول هو المطلق لا بشرط أصلا كما إذا اخذ الإنسان مجردا والجسم مجردا ولم يقيد بقيد ثبوتي ولا سلبي فلا يقال واحد ولا كثير ولا موجود ولا معدوم ولا غير ذلك من القيود والثاني وصف هذا بكونه عاما كليا ونحو ذلك فهذا هو المنطقي والثالث مجموع الأمرين وهو ذلك الكلي مع اتصافه بكونه عاما كليا فهذا هو العقلي وهذان لا يوجدان إلا في الذهن باتفاقهم إلا على رأي من يقول بالمثل الأفلاطونية وأما الأول فيقولون أنه يوجد في الخارج ولكن التحقيق أنه لا يوجد كليا ولا يوجد إلا معينا والتعيين لا ينافيه فإنه يصدق على المعين وعلى غير المعين وعلى الذهني والخارجي فهو يفيد وجوده في الخارج جزئيا وإنما يفيد كونه كليا فإنما يتصوره الذهن ويقدره وهو كلي لشموله جزئياته وعمومه لها كما يقال في اللفظ أنه عام لعمومه لأفراده وإلا فهو في نفسه شيء معين قائم بمحل معين فهو جزئي باعتبار ذاته كما أن اللفظ العام الكلي هو باعتبار نفسه ومحله لفظ خاص معين وبهذا التفريق يزول ما يعرض من الشبهة في هذا المكان للرازي وأمثاله والمقصود هنا أن المطلق بشرط الإطلاق عن القيود

الثبوتية والعدمية لا وجود له إلا في الذهن والمجوزون للمثل الأفلاطونية مع أن قولهم فاسد فإنهم لا يقولون أن الماهيات الكليات مجردة عن كل قيد بل يقولون هي موجودة لا معدومة ولكنها مجردة عن الأعيان المحسوسة وقول هؤلاء معلوم الفساد عند جماهير العقلاء فكيف بإثبات أمر مطلق مجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي ثم من المعلوم أن المقيد بالقيود السلبية دون الثبوتية أولى بالعدم عن المقيد بسلب النقيضين فإن المقيد بسلب النقيضين ليس امتناع العدم أحق به من امتناع الوجود بل هو ممتنع الوجود كما هو ممتنع العدم فلا يقال هو موجود ولا يقال هو معدوم وأما المقيد بالقيود السلبية فالعدم أحق به من الوجود فإنه معدوم ليس بموجود وهو يفيد كونه معدوما ممتنع الوجود ليس ممتنع العدم بل هو واجب العدم ممتنع الوجود ومعلوم أن هذا أعظم مناقضة للوجود فضلا عن الوجود الواجب مما هو يقال فيه انه ممتنع الوجود وممتنع العدم فإن هذا يناقض الوجود كما يناقض العدم وذاك يناقض العدم دون الوجود وما ناقض الشيء دون نقيضه فهو أعظم مناقضة مما ناقضه وناقض نقيضه فعدوك وعدو عدوك أقل مضارة لك من عدوك الذي ليس بعدو عدوك فإن هذا يضر من كل وجه وذاك يضر من وجه وينفع من وجه ولهذا كان قول من لم يصف الرب إلا بالصفات السلبية أعظم مناقضة لوجوده ممن لم يصفه لا بالسلبيات ولا بالثبوتيات فقول هؤلاء المتفلسفة كابن سينا وأمثاله

الذين يجعلونه مقيدا بالأمور السلبية والإضافة دون الثبوتية أبلغ في التعطيل ممن يقول لا يقيد لا بأمور سلبية ولا ثبوتية فإذا قالوا هو الوجود المقيد بالسلب العام بحيث يسلبون عنه كل أمر ثبوتي فقد جمعوا بين النقيضين فحقيقة قولهم هو موجود ليس بموجود هو واجب الوجود ممتنع الوجود وأولئك إذا قالوا ليس بموجود ولا معدوم فقد رفعوا النقيضين ولكن أولئك يرفعون الأمور المتناقضة جميعها من الجانبين فيقولون لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء لا يرفعون جميع الأمور الثبوتية ولا يثبتون إلا وجودا مجردا مسلوبا عنه كل أمر ثبوتي لا يثبتون من الأمور الثبوتية بقدر ما ينفونه من الأمور العدمية فكانوا أدخل في العدم من هذا الوجه وإن كانوا يتناقضون إذا قالوا معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق فإنهم يثبتون معاني متعددة وجودية ثم يجعلونها أمورا عدمية ومنها أنه إذا كان مقيدا بقيد سلبي أو إضافي كان مشاركا لغيره في مسمى الوجود ممتازا عنه بالقيود السلبية والأمور السلبية لا تميز بين مشتركين سواء سمي فصلا أو خاصة بل متى كان المميز بين المشتركين في الوجود أمرا سلبيا فلا يتضمن ثبوتا فلم يحصل به تمييز فهم مضطربون إلى أحد أمرين إما رفع الإمتياز بالكلية فيبقى وجودا مطلقا لا يمتاز لا بثبوت ولا عدم فلا تبقى له حقيقة وإما التمييز بأمور ثبوتية فتبين أنه لا بد من حقيقة تخصه ليست هي الوجود المطلق وأهل الإحاطة إن فسروا الوجود الإحاطي بالوجود

المطلق المجرد عن الإثبات والنفي فهو أبلغ في التعطيل من قول ابن سينا من بعض الوجوه حيث كان ما ذكروه يمتنع أن يكون موجودا أو معدوما لرفعهم النقيضين من جميع الجهات وابن سينا جمع بين النقيضين من بعض الوجوه ورفع النقيضين من كل وجه أبلغ في النفي من رفع النقيضين من بعض الوجوه وقوله أبلغ في التعطيل من جهة أخرى من جهة أن الأمور العدمية التي قيده بها أمور كثيرة جدا ولم يثبت من الناحية الأخرى إلا وجودا مجردا لا حقيقة له هذا قول الباطنية كأبي يعقوب إسحق بن أحمد السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية والافتخار وغيرهما فإنهم ينفون عنه الثبوت والانتفاء وهو معلوم الفساد بالاضطرار كما تبين وقولهم يستثنى الوجود من الأمور المطلقة هو بالعكس أحرى فإن الوجود المطلق يعم كل شيء فهو أعم للأمور الموجودات كسائر الأسماء العامة مثل الشيء والثابت والحق والحقيقة والماهية والذات ونحو ذلك فهذه أعم الكليات وأوسع المطلقات فمتى جوز الإنسان أن يكون هذا المطلق

ثابتا في الخارج بشرط الإطلاق بحيث يكون وجود ذلك الوجود لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره ولا قديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا خالق ولا مخلوق ولا واحد ولا متعدد ولا جوهر ولا عرض ولا صفة ولا موصوف ولا ثابت ولا منتفي كان هذا مع ما فيه من مكابرة العقل وجحد الضروريات مسوغا تجويز مثل ذلك فيما هو أخص من الوجود فإن الخطر فيه أهون فإن ما انتفى عن المطلق العام انتفى عن المعين الخاص فما انتفى عن الموجود انتفى عن الجسم والحيوان والإنسان وليس ما انتفى عن الخاص يجب نفيه عن العام فليس ما انتفى عن الإنسان من كونه ليس حمارا ولا بهيمة يجب نفيه عن الموجود مطلقا فإذا جوز هؤلاء المخذولون في عقلهم ودينهم أن يكون الموجود ثابتا في الخارج مع وصفه بهذه السلوب الجامعة للمتقابلين كان تجويز ذلك فيما هو أخص من الوجود أولى وأحرى وقال لي رجل من أعيانهم بلغنا أنك ترد على الشيخ عبد الحق نحن نقول أن الناس ما يفهمون كلامه فإن كنت تشرحه لنا وتبين فساده قبلنا وإلا فلا فقلت له نعم أنا أبين لك مراده من كتبه كالبد والإحاطة والفقرية وغير ذلك فقال عندنا الكتاب الخاص الذي يسمى لوح الأصالة وهو سر السر وهو الذي نطلب بيانه ولم أكن رأيته فذهب وجاء به ففسرته له حتى تبين مراده وكتب أسئلة

سألني عنها تكلمت فيها على أصل قولهم وقول ابن عربي وابن سينا ومن ضاهى هؤلاء وبينت له أن أصل قولهم يرجع إلى الوجود المطلق ثم بينت له أن المطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وكان له فضيلة فلما تبين له ذلك أخذ يصنف في الرد عليهم وذهب إلى شيخ كبير منهم فقال له بلغني أنك جرى بينك وبين فلان كلام قال نعم قال أي شيء قال لك قال فقال لي آخر أمركم ينتهي إلى الوجود المطلق قال جيد قال بأي شيء يرد ذلك قال المطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان فقال أخرب بيوتنا وقلع أصولنا هذا ونحوه فيقال في هذا أما المطلق لا بشرط فهو الذي يصدق على الأعيان وهو الذي يسمى الكلي الطبيعي فإذا قيل إنسان لا بشرط كونه واحدا ولا كثيرا ولا بشرط كونه موجودا ومعدوما فهذا يوجد في الخارج معينا مقيدا ومن ظن أنه يوجد كليا في الخارج فقد غلط وإنما يوجد في الخارج جزئيا معينا فهو كلي في الذهن وأما في الخارج فلا يوجد إلا جزئيا وسمي كليا كما يسمى الاسم عاما والمعنى الذي في النفس عاما لشموله الأفراد الثابتة في الخارج لا لأنه في حال وجوده في الخارج يكون عاما أو مطلقا فإن هذا ممتنع فليس في الخارج إلا ما له حقيقة تخصه لا عموم فيها ولا إطلاق والمنطقيون يقولون الكلي سواء كان جنسا أو فصلا

أو نوعا أو خاصة أو عرضا عاما له ثلاثة اعتبارات طبيعي ومنطقي وعقلي فالطبيعي هو المطلق لا بشرط الذي لا تقيد فيه الحقيقة بقيد أصلا لا ثبوتي ولا سلبي ثم أصحاب المثل الأفلاطونية يزعمون أن هذه الكليات ثابتة في الخارج دائمة أزلية بدون أعيانها وأرسطو وأتباعه ينكرون ذلك ويقولون لا يوجد إلا مع الأعيان والتحقيق أنه ليس لها وجود في الخارج منفصل عن وجود الأعيان ومن قال المطلق جزء من المعين كما يقولون الإنسان جزء من هذا الإنسان وأرادوا بذلك تركيبا في الخارج من المطلق والمعين فهذا غلط وإن أرادوا أن الإنسان هذا المعين في الخارج هو الذي كان كليا في النفس فهذا صحيح وقولنا هذا الإنسان بمنزلة قولنا الرجل العالم والحيوان الناطق وذلك يفيد اتصاف المعين بصفتين أحدهما أنه حيوان والأخرى أنه ناطق والحياة والنطق صفتان قائمتان به ليسا جزأين تركب منهما في الخارج وكذلك قولنا هذا الإنسان يفيد أن المعين موصوف بالإشارة إليه وبالإنسانية وقد بسط هذا في غير هذا الموضع قالوا فهذا هو الكلي الطبيعي والمنطقي هو كون هذا الكلي يوصف بالعموم والكلية والعقلي هو ما تركب منهما وهو الإنسان المقيد بقيد كونه كليا وهذا ليس له وجود إلا في الذهن باتفاقهم إلا ما يحكى عن الأفلاطونية ثم هذا الإنسان المقيد بكونه كليا لا تدخل فيه المعينات لأنها ليست كليا ولا يصدق على زيد وعمرو أنه إنسان كلي

فإنه لا يصدق عليها مع كونه كليا وإنما يصدق عليها مع سلب الكلية وإذا كانت عامة مشتركة وقيل أن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقيل أن العموم صادق على الأنواع والأشخاص فالعموم ليس هو الكلي الطبيعي فإن العموم لا يكون إلا ما يتصف بالكثرة القابلة للقسمة ولعدتها وهذا ليس هو الطبيعي بل العموم هو الكلي العقلي وذلك متناول للأنواع والأشخاص وهو صادق عليها ولكن حال تناوله للأعيان لا يكون كليا كما يقال أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج مع أنه حال وجوده في الخارج لا يكون كليا ولكن ما كان مطلقا وكليا في الذهن لا يكون ما في الخارج مماثلا له من كل وجه بل يكون ما في الخارج معينا وكذلك سائر ما في الذهن إذا قيل أنه موجود في الخارج فهو موجود في الذهن بحسب ما يناسب الخارج كما إذا قيل فعلت ما في نفسي وقلت ما في نفسي فهو في النفس تصور له وارداه

وفي الخارج وجود المتصور والمراد وهذا أمر يعقله الناس ويعرفونه فلا يتصور عاقل أن المتصور في الذهن إذا قيل أنه موجود في الخارج يكون حقيقة هذا مماثلا لحقيقة هذا من كل وجه وأن هذا كما يقال إن هذا المحتوى مطابق لهذا اللفظ وهذا اللفظ مطابق لهذا المعنى والاعتقاد والتصور مطابق للحق فمن فهم هذا انحلت عليه شبهات تعرض في مثل هذا الوضع حتى ظن شخص كالرازي أن العلم ليس هو عمل أو انطباع العلوم في العالم واحتج بأن ذلك يوجب أن يكون في نفس العالم بالنار نار كالنار الموجودة في الخارج ولولا إدراكها وتصور المراد ما كانت ولا يخطر مثل هذا ببال عاقل يتصور ما يقول وكونه كليا قد يراد به وجوب شموله للأفراد فيكون عاما وقد يراد به أنه لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فيكون مطلقا وهو مرادهم بكونه كليا وهو مورد التقسيم بين أنواع الموجودات فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام شامل لها متناول لها إما على سبيل الجمع وهو تناول العموم الجمعي وإما على سبيل

البدل وهو الإطلاق والعموم البدلي كقوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وطائفة من هؤلاء يقولون أن الوجود الواجب هو هذا المطلق لا بشرط وعلى هذا التقدير فيكون هو عين وجود الموجودات الممكنة الموجودة أو جزء من ذلك فيكون الوجود الواجب الخالق للعالم هو نفس وجود المخلوق أو جزء من وجود المخلوق فقد تبين أنه إذا قيل أنه وجود مطلق فإن عنى به المطلق لا بشرط وهو الطبيعي لزم أن لا يكون للواجب وجود إلا وجود مخلوقاته أو جزء من وجود مخلوقاته وإن عنى به المطلق بشرط الإطلاق أمتنع وجوده إلا في الذهن وهو الكلي العقلي وإن عنى به الوجود المقيد بالقيود السلبية فقط كما قاله ابن سينا وأتباعه فهو وإن كان أخص من المطلق لا بشرط فهو أعم من المطلق بشرط الإطلاق عن السلب والثبوت وهو أعظم امتناعا منه عن الوجود في الخارج فإن المطلق المقيد بالثبوت أولى بالوجود من المطلق المقيد بالسلب والمقيد بسلب الثبوت والعدم ممتنع وهو أحق بالامتناع من وجه لكونه سلب فيه النقيضان والمقيد بالعدم أحق بالعدم من وجه من جهة كونه مشروطا فيه العدم فيمتنع أن يكون موجودا مع كونه معدوما فهذ0627

يستلزم العدم بنفسه وذاك يستلزم العدم بواسطة علمنا بأنه ممتنع وكل ممتنع معدوم فذاك أحق بظهور العدم وعلمنا بأنه معدوم مانعه من أن يكون موجودا وقد امتنع أن يكون معدوما كما يمتنع أن يكون موجودا إذ كان مقيدا بسلب الأمرين والعدم قد يكون له تحقق في الخارج كما يعدم عن الإنسان كونه فرسا وأما بين الوجود والعدم جميعا فلا يتحقق في الخارج لكن إذا قيل كل موجود مقيد بسلب جميع الحقائق كان هذا جمعا بين النقيضين وهذا يناسب قول من قال لا يوصف الرب إلا بصفة سلبية وذاك يناسب قول من قال لا يوصف الرب لا بسلبه ولا ثبوته تم الجزء الأول بحمد الله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله وهذا الثاني قول غلاة القرامطة

المجلد الثاني

وهذا الثاني قول غلاة القرامطة الباطنية كأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله وعمدتهم في ذلك نفي التشبيه وهذا لفظه في كتاب الافتخار له قال: "تعالوا أيها الأمم المختلفة لنريكم ما به افتخارنا ونظهر عوراتكم ونكشف عن عيوبكم ولنبتدىء أولا بالتوحيد فأقول إنكم رميتمونا بالتعطيل وسميتم أنفسكم موحدة وأنتم بما رميتمونا به أشد استحقاقا وله التزاما ونحن بما سميتم به أنفسكم أحق منكم وذلك أنكم تعلمون يقينا أنا نقر بأن لهذا العالم مبدعا أبدعه لا من شيء ولا من مادة ولا بآلة ولا بمعين ولا بمثال صورة معلومة عنده قد نطقت وانتشرت دعوتنا إليه

فلما جردناه عن الصفات والإضافات وقدسناه عن النعوت والسمات قدحتم فينا وسميتمونا معطلة. أليس التعطيل هو الإنكار الذي يؤدي قولكم في معبودكم إليه لأنكم إذا أضفتم مبدعكم وخالقكم إلى أي شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير ثم يكون الموسوم به من خلقه غير مبدع ولا خالق ولا بارىء جاز أن يكون مبدعكم وبارئكم من الوجه الذي عرفتموه مماثلا لخلقه الذي نفيتموه أن يكون مبدعا وخالقا وبارئا أن يكون غير مبدع ولا خالق ولا بارىء وما قدم الغير عليه كان عما يتلوه معطلا فأي الفريقين أحق بالتعطيل أهل الحقائق الذين أقروا به على الرسم الذي رسموه أم أنتم قد أنكرتم ما أقررتم به فإذا كان إقراركم بتوحيدكم يؤدي إلى التعطيل وإقرارنا إلى الإثبات المحض فأي افتخار أعظم من درك الحقائق والوقوف على الطرائق". ومضمون كلامه أنكم إذا أضفتم خالقكم ومبدعكم إلى شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير مثل قولكم ذو القوة وذو العلم ونحو ذلك مما تضاف فيه الذات إلى صفاتها فيقال فهي ذات علم وقدرة وحياة ونحو ذلك وكان الموسم بذلك الوسم غير خالق جاز أن يكون غير مبدع ولا خالق لأن هذا تشبيه له

بخلقه من بعض الوجوه وإذا أشبهه من وجه جاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على المخلوق والمخلوق يمتنع أن يكون خالقا فيمتنع أن يكون الخالق خالقا. وهذه الشبهة تدور في كلام كثير من الناس والجواب عنها من وجوه: أحدها: أنه لا يوصف بمثل ما يوصف به شيء من المخلوقات ولا تضاف ذاته إلى صفة تماثل صفة المخلوقين بل لا توصف بنفس ما يوصف به غيره ولا تضاف ذاته إلى الصفة التي تضاف إليها ذات غيره بل ليس في المخلوقات شيء يوصف بنفس ما يوصف به غيره ولا تضاف ذاته إلى الصفة التي أضيفت إليها ذات غيره ولا يوسم بنفس سمة غيره فالخالق أولى أن لا يكون كذلك. نعم في المخلوقات ما يكون له مثل فيوصف بمثل ما يوصف به غيره ويوسم بمثل ما يوسم به غيره وتضاف ذاته إلى صفة مثل الصفة التي أضيفت إليها ذات غيره. والخالق سبحانه لا مثل له فيمتنع أن تكون نفس صفته صفة غيره أو مثل صفة غيره وكذلك يقال يمتنع أن تكون ذاته مضافة إلى الصفة التي تضاف ذات غيره إليها أو إلى مثلها أو أن يكون موسوما بذلك. فإذا قيل في حقه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (سورة الذاريات 58) وقيل في حقه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}

(سورة البقرة 255) وقيل في حق المخلوق إن له قوة وعلما لم يكن هذا العلم والقوة هو هذا العلم والقوة ولا هو مثله بل هذا علم وقوة يختص به الرب وهذا علم وقوة يختص به العبد وإذا اتفقا في مسمى القوة والعلم عند الإطلاق لم يستلزم ذلك أن يكون أحدهما هو عين الآخر ولا أن يكون مثله. بل إذا قيل في الفلك إنه شيء قائم بنفسه وقيل في الخشبة إنها شيء قائم بنفسه موجود لم يلزم أن يكون هذا هو هذا ولا مثله وإذا قيل في لون السماء إنه عرض قائم بغيره وقيل في طعم التفاحة إنه عرض قائم بغيره لم يجب أن يكون هذا هو ذاك ولا مثله. فاجتماع الشيئين في اسم عام لا يوجب أن يكون ما يتصف به أحدهما من ذلك المسمى هو نفس ما يتصف به الآخر ولا مثله وهذه الأسماء التي يسميها بعض الناس مشككة وهو نوع من الأسماء المتواطئة التواطؤ العام وهي من الأسماء العامة التي تسميها النحاة اسم جنس ويسمى معانيها المنطقيون الكليات. والجواب الثاني أن يقال لهذا المستدل أنت قد قلت في أول خطبة كتابك: "الحمد لله المعبود بلا ولا ولا الذي سنا مجده في صدور أوليائه يتلألأ بأنه بعد لا إله إلا المبدع ذي الجود الغفور الرحيم" وقلت: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي عنه كل إثبات

مؤيسة لديه ساه وشبه بأنه مبدع الكل أحرى لا يستنكف أحد من عبادته والخضوع له بربوبيته والتذلل لعزته وجلاله المتعزز بالكبرياء والجبروت والمنفرد بالعظمة والملكوت والمتوحد بكلمة اللاهوت العزيز في سلطانه فلا يغالب والمتكبر بقدسه عن رويات الخواطر فلا يطالب الظاهر بقدرته في جميع بريته فلا ينكر والشاهد بنافذ أمره فلا يستر المحتجب بتعمده عن أن يكون كمثله شيء إذ هو بلفظ واسع أي أنه بادىء لا مسبوق له من التنزيه أسناها ومن التسبيح أعلاها ومن التقديس أهناها وكلها وراء ما تحصره هوية العقل ويستخرجه قواه والغنى بتمام قدرته عن أمثال الصور والأشباح ومبدع القلم لتخطيط الألواح". فأنت في هذا الكلام تذكر أنه ذو الجود الغفور الرحيم وذكرت أنه له عزة وكبرياء وعظمة وجبروتا وملكوتا وذكرت أنه العزيز الظاهر بقدرته وغير ذلك مما فيه إثبات أسماء لله وصفات وخلقه يسمون بما يشبه هذه الأسماء والصفات فيقال لأحدهم رحيم عزيز.

كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة 128) . وقال تعالى: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} (سورة يوسف 51) . وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (سورة المنافقون 8) . وقال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (سورة النمل 23) . وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (سورة غافر 35) . وقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} (سورة الكهف 79) ونظائر هذا متعددة. فإذا كان المخلوق يوصف بأنه رحيم وعزيز وأن له رحمة وعزة وأنه عظيم جبار متكبر ونحو ذلك فقد وصفته بالصفات والإضافات وأضفته إلى شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير. وإذا كان كذلك فإما أن يكون قولك متناقضا فيبطل وهكذا هو في نفس الأمر فإن قولهم متناقض في نفسه فإنهم لا بد أن يعبروا عن الله بنوع ما من العبارات المتضمنة للمعاني فيكون ذلك مناقضا لما ادعوه من التجريد والسلب العام وإما أن تقول هذه الأمور التي أثبتها له ليست مثل ما يثبت للمخلوقين فهذا جواب لك عما يثبته أهل الإثبات.

وإن ادعيت أن اللفظ مشترك اشتراكا لفظيا من غير أن يكون بين المعنيين تشابه أصلا فهذا الجواب إن كان صحيحا أجابوا بمثله وإن كان باطلا لم ينفعك. الجواب الثالث: أن يقال هب أنه حصل بين المسميين قدر مشترك هو ما اتفقا فيه وهو المعنى العام الكلي لكن هذا المعنى العام الكلي لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج لكن ما كان لازما لهذا المعنى العام كان لازما للموصوف به وهذا لا محذور فيه بل هو حق فإذا كان الخالق موجودا والمخلوق موجودا أو هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه أو قيل هذا حي عليم رحيم وقيل هذا حي عليم رحيم كان القدر العام الكلي المتفق هو مسمى الوجود والقيام بالنفس والحياة والعلم والرحمة أو مسمى أنه موجود قائم بنفسه حي عالم رحيم. وهذا المعنى العام ليس من لوازمه ما ينفى عن الله بل لوازمه كلها صفات كمال يوصف الله بها وإنما يكون لوازمه صفة نقص إذا قيد بالعبد فقيل وجود العبد وعلم العبد ورحمة العبد فالنقص يلزمه إذا كان مقيدا مختصا بالعبد والله منزه عما يختص به العبد وأما إذا اتصف الرب به أو أخذ مطلقا غير مختص بالعبد ففي هذين الحالين لا يلزمه شيء من النقائص أصلا فتبين أن إثبات القدر العام المتفق عليه لا محذور فيه أصلا.

الوجه الرابع: أن يقال: إذا قيل هذا يشبه هذا من وجه كذا فيجب أن يكون حكمه حكمه من ذلك الوجه لم يجب أن يكون حكمه حكمه من غير ذلك الوجه فالسواد إذا شارك البياض في كون كل منهما عرضا قائما بغيره لم يجب أن يشاركه من جهة كونه سوادا والجسم القائم بنفسه إذا شارك العرض في كون كل منهما موجودا لم يجب أن يشاركه في خصائص الأعراض وكذلك إذا قلنا إن الأجسام ليست متماثلة وهو أصح القولين فالجسم إذا شارك الجسم في لوازم الجسمية لم يجب أن يشاركه فيما يختص به أحدهما عن الآخر فإذا شاركه في كونه يشار إليه أو في كونه قائما بنفسه أو في قبول الأبعاد الثلاثة أو غير ذلك لم يجب أن يكون التراب مماثلا للنار فيما يختص به ولا التفاح مماثلا للخبر فيما يختص به. وبهذا تظهر المغلطة في الحجة فإنه لما قال إذا أضفتم مبدعكم إلى شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير وكان الموسوم به غير مبدع ولا خالق ولا بارىء جاز أن يكون مبدعكم وبارئكم من الوجه الذي عرفتموه مماثلا لخلقه الذي نفيتم أن يكون مبدعا خالقا أن يكون غير مبدع ولا خالق. فإنه يقال له قولك من الوجه الذي عرفتموه مماثلا لخلقه أتعني بذلك أنه يثبت للمخلوق مثل ما يثبت له بحيث يجوز على هذا ما يجوز

على هذا ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه أتعني أنه يثبت له ما فيه نوع من التشابه. فإن ادعيت الأول كان ممنوعا وممتنعا فإنهم إذا قالوا لله علم وقدرة وللمخلوق علم وقدرة لم يقولوا إن العلمين والقدرتين متماثلان بحيث يجب لأحدهما ما وجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجوز عليه ما يجوز عليه بل هذا معلوم الفساد بالضرورة وإن كان بعض من يثبت له بعض الصفات وينفي بعضها مثل من يثبت لله العلم والقدرة وينفي الرضا والغضب والوجه واليد قد يقول ليس بين علمنا وعلم الله فرق ولا بين سمعنا وسمع الله فرق ولا بين بصرنا وبصر الله فرق إلا في الحدوث والقدم. ومقصوده بذلك أن ينفصل عن إلزام المثبتة فإنهم يقولون له كما أثبت لله علما وقدرة وسمعا وبصرا وليس مثل سمعنا وبصرنا ولا علمنا وقدرتنا فكذلك أثبت له رضا وغضبا ووجها ويدا وليس مثل رضانا ولا غضبنا ولا وجوهنا ولا أيدينا فيريد بزعمه أن يذكر الفرق بأن التماثل موجود في الوصفين فليس بين العلمين والقدرتين فرق إلا في الحدوث والقدم فكذلك يجب أن لا يكون بين الوجهين واليدين إلا في الحدوث والقدم فيجب أن يكون وجهه ويده جارحة وكذلك في سائر الصفات

وهذا القول باطل قطعا فإنه لو تماثل العلمان والقدرتان لجاز على أحدهما ما يجوز على الآخر وامتنع عليه ما يمتنع عليه ووجب له ما وجب له ولو جاز أن يقال ذلك في العلم والقدرة لجاز أن يقال ذلك في الحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة وغير ذلك من الصفات. وإن جاز أن يقال ذلك في الصفات جاز مثله في الذات لأن نسبة علم الرب إلى ذاته كنسبة علم العبد إلى ذاته فهما علمان وعالمان وإن جاز أن يقال العلم مثل العلم إلا في الحدوث والقدم جاز أن يقال العالم كالعالم إلا في الحدوث والقدم. وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهو يتبين من وجوه: منها أنه لو تماثلت الذاتان لامتنع اختصاص أحدهما بالحدوث والأخرى بالقدم فإن المقتضى لقدم الرب هو نفس ذاته لا يحتاج في ثبوت قدمه إلى غيره والمقتضى لكون العبد مفتقرا إلى من يخلقه نفس ذاته ليس افتقاره مستفادا من أمر خارج عن ذاته فإذا كان المثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر وهذه الذات لا يجوز عليها القدم بل يمتنع عليها وتلك يجب لها القدم ويمتنع عليها العدم وإذا امتنع تماثلهما فامتنع تماثل صفاتهما فإن صفة كل موصوف بحسبه. فإن قيل الأمور المختلفة قد تشترك في لوازم متماثلة كالإنسان والفرس يشتركان في الحيوانية. قيل ليست الحيوانية العامة المختصة للإنسان مماثلة من كل وجه للحيوانية المختصة بالفرس بل هما مختلفان حسب اختلاف الحقيقتين

وإن اشتركا في الحيوانية العامة فذلك العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج. تبيين ذلك أن خاصة الحيوانية الحس والحركة الإرادية وإحساس الفرس ليس مثل إحساس الإنسان بل ولا مثل إحساس الهر والفأر وإن اشتركا في الحيوانية ولا حركته الإرادية مثل حركة هذه الحيوانات الإرادية ولو ماثل الإنسان سائر الحيوان في الحس والحركة الإرادية للزم أن تثبت لكل منهما لوازم حس الآخر وحركته الإرادية فإن ثبوت الملزوم بدون اللازم ممتنع وحس الإنسان وحركته الإرادية يلزمهما لوازم يمتنع اتصاف الهر والفأر بها وكذلك بالعكس فعلمنا أن الحس والحركة مختلفان فيهما بالنوع كما أن حقيقتهما مختلفة بالنوع فحيوانيتهما مختلفة بالنوع والمختلف بالنوع والحقيقة ليس متماثلا واشتراكهما في جنس الحيوانية كاشتراك السواد والبياض في جنس اللونية مع أنهما مختلفان بالنوع والحقيقة. وأيضا فكل ما للرب تعالى من صفات الكمال فهو من لوازم ذاته فلو ماثلته ذات أخرى لاتصفت بمثل ما اتصف به الرب بحيث يكون بكل شيء عليما وعلى كل شيء قديرا ويكون قادرا على خلق مثل هذا العالم وأمثال ذلك مما يعلم امتناعه. وأيضا فالرب تعالى لو كان له مثل للزم أن يقدر على ما يقدر عليه وأن يريد كما يريد وحينئذ فيمتنع وجود العالم لأنه إن أمكن أن يستقل به كل منهما لزم أن يكون كل منهما فاعلا له كله غير فاعل لشيء

منه وهذا جمع بين النقيضين وإن لم يمكن أن يستقل به أحدهما إلا إذا تركه الآخر كانت قدرته مشروطة بتمكين الآخر له وكذلك إن لم يمكن أحدهما فعله إلا بمعاونة الآخر لزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا جعله الآخر قادرا وحينئذ فلا يكون أحدهما حال الانفراد قادرا على شيء وإذا لم يكن أحدهما حال الانفراد قادرا على شيء امتنع حال الاجتماع قدرتهما لأنه ليس هناك شيء غيرهما يجعلهما قادرين وليس لواحد منهما قدرة يعين بها الآخر فلو كان كل منهما صار قادرا بجعل الآخر له لزم الدور في التأثير وهو الدور القبلي الباطل باتفاق العقلاء وهو معلوم الفساد ضرورة بعد التصور وهذا بخلاف إذا كان هناك ثالث يجعلهما قادرين بالاجتماع فإن هذا هو الدور المعي وهو جائز ولهذا لا يوجد شيئان من الموجودات يصير لهما قدرة حال الاجتماع إلا بإحداث ثالث ذلك لهما أو بانضمام قوة أحدهما إلى قوة الآخر كالمشتركين من الآدميين لا بد أن يكون لأحدهما عند الإنفراد قدرة على شيء أو عند الإجتماع تقوى قدرتهما والتقدير هنا أنه لا شيء من القدرة ثابت حال الإنفراد وإذا كان تقدير مثل له يستلزم أن يكون قادرا مثله وتقدير ربين قادرين ممتنع علم انتفاء مثله وإذا كان تقديرهما غير قادرين ممتنعا أيضا علم انتفاء شريك على كل وجه وأن تقدير مثل له أو شريك له ممتنع لذاته سواء

قدر المثل مشاركا أو غير مشارك وسواء قدر الشريك مماثلا أو غير مماثل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. ومما يبين امتناع تماثل العلمين أن الرب بكل شيء عليم سواء قيل إنه عالم بعلم واحد أو بعلوم غير متناهية وليس علم العبد لا هكذا ولا هكذا بل هذا ممتنع فيه ولو قال القائل علم الرب بالشيء المعين كعلم العبد به كان ممتنعا فإن الرب يعلمه علم إحاطة به والعبد لا يحيط به. وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الله أعلم وأقدر من خلقه كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (سورة فصلت 15) . وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} إلى قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (سورة النجم 32) . وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (سورة النور 19) . وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (سورة الإسراء 85) . وهذا أوضح في المنقول والمعقول وأعظم من أن يحتاج إلى شواهد فكيف يجوز أن يظن التماثل مع ثبوت التفاضل. وهذا إنما ذكرته لأن بعض معتزلة الصفاتية الذين يثبتون الصفات السبعة وينفون الصفات الخبرية ويزعمون أن هذا تشبيه ممتنع أورد عليهم هذا بسبب محنة وقعت بين المثبتة والنفاة وكان قاضي القضاة وقيل بل نثبت هذه الصفات مع انتفاء المماثلة كما أثبتم تلك الصفات

مع انتفاء المماثلة فكما أن له علما ولنا علم وليس علمه مثل علمنا ولنا قدرة وله قدرة وليست قدرته مثل قدرتنا فكذلك يقال في الصفات الخبرية. فقال ليس بين علمنا وعلمه فرق إلا في الحدوث والقدم فإذا أثبتنا له الوجه ونحوه لزم أن يكون مثل وجوهنا إلا في الحدوث والقدم فعلم المعارضون له فساد هذا القول وقبحه شرعا وعقلا وأن قولا يستلزم مثل هذا من أفسد الأقوال. وهذا القول شعبة من قول الباطنية المذكورين نفاة الصفات الثبوتية والسلبية والأسماء فإنهم جردوه عن جميع ذلك حذرا من التشبيه المذكور. والمقصود هنا بيان جواب الباطنية القرامطة وهذا الجواب الذي ذكرناه على أحد القولين وهو جواز كون النفي مشابها لغيره من وجه دون وجه وهذا هو الصحيح الذي عليه أكثر الناس وهو المنصوص عن أحمد وغيره. وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك وقالوا لا يتصور إلا التماثل من كل وجه أو الاختلاف من كل وجه وقال هؤلاء إن الأجسام متماثلة من كل وجه والأعراض المختلفة والأجناس كالسواد والبياض مختلفة من كل وجه

وهؤلاء يقولون إذا كان هذا حيا عالما وهذا حيا عالما لم يجب أن يكون بينهما تشابه بوجه من الوجوه بل قد يكونان مختلفين من كل وجه لأنهما لم يتماثلا في ذاتهما ولكن في صفتهما وذلك لا يوجب عندهم تماثلا ولا اختلافا ولهذا قالوا الأجسام متماثلة مع اختلاف صفاتهما وزعموا أن الصفات التي اختلفت لأجلها ليست لازمة لشيء منها بل يجوز أ 4 ن تتبدل على كل من الأجسام مع بقاء حقيقته. وهذا القول وإن كان القائل به كثير من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وغيرهم فهو من أفسد الأقوال بل هو معلوم الفساد بالضرورة بعد التصور الصحيح. وهؤلاء يجيبون هؤلاء الباطنية بجواب خامس وهو أن الخالق والمخلوق إذا سمي كل واحد منهما فاعلا أو قادرا أو غير ذلك فإنما لم يتماثلا في ذاتيهما وإنما يكون التماثل في الذات إذا كان هذا جسما أو جوهرا والآخر كذلك وهؤلاء يقولون كل من قال بأن الرب جسم كان مشبها ومن نفى ذلك لم يكن مشبها ولا ينفصلون بهذا الجواب فإن منازعهم يقول فإذا أثبتم الصفات أو الأسماء لزم أن يكون الموصوف المسمى جسما كما تقولون أنتم ذلك لمن أثبت ما نفيتموه وجعلتموه

مجسما ولا يمكنهم أن يذكروا فرقا صحيحا وكل ما يقولونه يمكن المثبت أن يقول لهم مثله فيلزم بطلان هذا الفرق بين ما سموه تجسيما وما لم يسموه تجسيما فلزم إما إثبات الجميع وإما نفي الجميع. ونفي الجميع ممتنع لأنه قد علم بالضرورة أن الموجود ينقسم إلى واجب قديم قيوم غني خالق وإلى ممكن محدث مدبر فقير مخلوق فلا سبيل إلى جعل الوجود كله واحدا واجبا كما يقوله أهل الوحدة ولا إلى جعله كله مخلوقا مربوبا محدثا كما يذكر عن بعضهم أنه ادعى حدوث الوجود كله بدون محدث فإن فساد كل من القولين من أبين العلوم الضرورية البديهية ولهذا كان أهل الوحدة متناقضين لا يلتزمون قولهم وأما حدوث الوجود جميعه بدون محدث فلا تعرف طائفة قالته وإنما يقدر تقديرا ذهنيا كما تقدر كثير من الأقوال السوفسطائية لتبيين بطلانها وانتفائها. فقد تبين أن أقوال نفاة الصفات كقول أهل الإلحاد المعطلة للصانع وأن القول الثاني قول من يقول بالوجود المطلق عن النفي والإثبات هو أحد قولي القرامطة الباطنية والأول قول القرامطة الباطنية الذين يلونهم نفاة الصفات الثبوتية الذين لا يصفونه إلا بالسلوب.

عودة إلى كلام ابن سينا وطريقته في الوجود الواجب

فابن سينا وأمثاله من أئمة هؤلاء وكان أهل بيته من أهل دعوة الحاكم وأمثاله من أئمة القرامطة الباطنية الإسماعيلية. وقول من قال المطلق لا بشرط الذي يصدق على كل موجود فهو يشبه قول من يجمع بين النقيضين فيصفه بصفة كل موجود وإن كانت متناقضة ويجعل وجود الخالق هو وجود المخلوق أو جزء منه

وعلى كل تقدير فحقيقة قول هؤلاء نفي الوجود الواجب المباين للوجود الممكن ونفي وجود الخالق المباين للمخلوقات ونفي وجود القديم المباين للمحدثات وهذا قول المعطلة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان أن طريقة ابن سينا وأتباعه في الوجود الواجب لا يفيد إلا إثبات وجود واجب فقط وأنها لا تفيد أنه مباين للعالم إلا بطريقة نفي الصفات وهي باطلة ولو صحت لم تفد إلا إثبات هذا الوجود المطلق لا تفيد وجودا مباينا للمخلوقات منفصلا عنها فتفيد إثبات وجود في الذهن أو إثبات وجود مشترك بين الموجودات لا تفيد إثبات وجود مباين لوجود الممكنات. وهو إنما أخذه من كلام المعتزلة لما قسموا الموجود إلى محدث وقديم وبينوا ثبوت القديم أخذ هو يقسمه إلى واجب وممكن وغرضه إثبات وجود الواجب بدون إثبات حدوث العالم وجعل وجود العالم ممكنا وخالف بذلك طريقة سلفه الفلاسفة كأرسطو وأتباعه فإن الممكن عندهم لا يكون موجودا وهم لم يقسموا الوجود إلى واجب وممكن كما فعله ابن سينا بل أثبتوا العلة الأولى بالحركة فقالوا الفلك يتحرك حركة شوقية للتشبه بالعلة الأولى وهو عندهم محرك للفلك كتحريك المحبوب لمحبه وقولهم أعظم فسادا من قول ابن سينا. وهذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وأتباعه والمعتزلة يمكن سلوكها بأنواع أخر مثل أن يقال الوجود ينقسم إلى غنى عن غيره وفقير إلى

غيره والفقير لا يوجد بدون الغنى فيلزم وجود الغني على التقديرين والوجود ينقسم إلى قيوم يقوم بنفسه ويقيم غيره وإلى ما ليس بقيوم وما ليس بقيوم لا يوجد إلا بالقيوم فيلزم وجود القيوم على التقديرين. وكذلك يقال الوجود ينقسم إلى مخلوق وإلى غير مخلوق والمخلوق لا بد له من وجود خالق غير مخلوق فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين ثم يقال وهذا الموجود الذي ليس بمخلوق هو الخالق للمخلوقات فإن وجوده إنما علم بضرورة وجود المخلوقات فثبت وجود الخالق على كل تقدير. ثم يقال والقديم إما قديم بنفسه وإما قديم بغيره والقديم بغيره ممتنع لأنه لا يكون قديما بنفسه إلا إذا كان لازما للقديم بنفسه وإلا فلو جاز أن يوجد معه وجاز أن لا يوجد معه لم يترجح أحدهما إلا بمرجح لكن القديم المحدث للمخلوقات لا يجوز أن يلزمه شيء من آثاره لأن آثاره لا تلزمه إلا إذا كان موجبا بنفسه بحيث لا يتخلف عنه موجبه ولو كان كذلك لم تصدر عنه الحوادث لا بوسط ولا بغير وسط فإذا صدرت عنه الحوادث علم أنه ليس مستلزما لمفعوله. وإذا قيل إن العقول لازمة له وهي موجبة للأفلاك ولأنفس الأفلاك

قيل فالأفلاك مستلزمة للحوادث والحوادث مقارنة للعقول اللازمة له فلم يزل فاعلا للحوادث وعلى عبارتهم لم يزل علة لها أو موجبا والعلة القديمة المستلزمة لمعلولها لا يكون معلولها حادثا ولا مستلزما للحوادث ولا مقارنا لحادث ولا شيء من معلولها لأنه يقتضي أن ذلك الحادث قديم معها معلول لها والحادث لا يكون مقارنا للقديم ولا معلولا له ولا يمكن أن يقال بتسلسل الحوادث وحدوثها شيئا بعد شيء على هذا التقدير لأنها على هذا التقدير لا تكون في الأزل علة لشيء من الحوادث ولكن تكون علة لكل واحد عند حدوثه إذ العلة التامة هي المستلزمة للمعلول وتكون عليتها وتأثيرها حادثة شيئا فشيئا كحدوث المعلولات التي هي الآثار وإذا كان المعلول لا يخلو عن حادث فيكون مستلزما للحوادث ومقارنا لها لم يمكن وجوده إلا مع لازمه المقارن له ووجود لازمه عنها في الأزل محال فوجود الملزوم عنها في الأزل محال سواء جعل اللازم مجموع الحوادث أو واحد من الحوادث أو نوع الحوادث شيئا بعد شيء فعلى التقديرات الثلاثة لا يمكن وجود ذلك عن علة أزلية وهي الموجب بذاته وهذا لأن الجميع معلول لها

أما إذا قدر أنها هي تحدث الحوادث شيئا بعد شيء فلا تكون علة تامة للحوادث وقدر هناك موجب بذاته لشيء آخر وهو مقارن للحوادث أمكن أن يقال إن نوع الحوادث دائم مع وجود شيء آخر باق أزلي فإنما الكلام هنا إذا كان العالم جميعه معلولا للعلة التامة الأزلية فإن هذا ممتنع على كل تقدير سواء قدر العالم لا يخلو من الحوادث أو قدر أن الحوادث حصلت فيه بعد أن لم تكن. أما على الأول فلأنه لم يوجد بدون الحوادث ولا يمكن وجوده مع الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وأما إذا قدر أن الحوادث حصلت فيه بعد أن لم تكن فلأنه يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب وترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ولأنه على هذا التقدير لا يكون يحدث الحوادث بعد أن لم يكن موجبا بذاته في الأزل لأنه جمع بين النقيضين بل لا بد أن يقال هو فاعل باختياره يمكنه أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا بحال. وعلى هذا التقدير إن لم يكن فعله في الأزل امتنع قدم شيء من العالم وإن أمكن فعله في الأزل لزم ثبوت فعله في الأزل وأن يكون فاعلا دائما لأن المقتضى موجود والمانع مفقود فإن المقتضى لكونه فاعلا ليس شيئا خارجا عن نفسه لامتناع كونه مفتقرا إلى غيره وكون غيره مؤثرا فيه والتقدير أن الفعل ممكن في الأزل وإذا كان المقتضي قائما والمانع زائلا لزم ثبوت الفعل

ولهذا كان المانعون من هذا إنما منعوا منه لاعتقادهم امتناع الفعل في الأزل إما لامتناع حوادث لا أول لها عندهم أو لأن الفعل ينافي الأزلية أو لغير ذلك وعلى كل تقدير فإنه يمتنع قدم شيء بعينه من العالم وكذلك إذا قدر أن الفعل دائم فإنه دائم باختياره وقدرته فلا يكون الفعل الثاني إلا بعد الأول وليس هو موجبا بذاته في الأزل لشيء من الأفعال ولا من الأفعال ما هو قديم أزلي. والأفعال نوعان لازمة ومتعدية فالفعل اللازم لا يقتضي مفعولا والفعل المتعدي يقتضي مفعولا فإن لم يكن الدائم إلا الأفعال اللازمة وأما المتعدية فكانت بعد أن لم تكن لم يلزم وجود ثبوت شيء من المفعولات في الأزل وإن قدر أن الدائم هو الفعل المتعدي أيضا والمستلزم لمفعول فإذا كان الفعل يحدث شيئا بعد شيء فالمفعول المشروط به أولا بالحدوث شيئا بعد شيء لأن وجود المشروط بدون الشرط محال فثبت أنه على كل تقدير لا يلزم أن يقارنه في الأزل لا فعل معين ولا مفعول معين فلا يكون في العالم شيء يقارنه في الأزل وإن قدر أنه لم يزل فاعلا سبحانه وتعالى فهذه الطريقة قرر فيها ثبوت القديم المحدث للحوادث وحدوث كل ما سواه من غير احتياج إلى طريقة الوجوب والإمكان ولا إلى طريقة الجواهر والأعراض. ويمكن تقدير هذا على طريقة الوجوب بأن يقال قد ثبت أن الوجود ينقسم إلى واجب بنفسه وممكن والذي لا ريب في إمكانه هو الحوادث فإنا نعلم وجودها بعد العدم فلزم إمكان وجودها وعدمها بخلاف ما لم يعلم إلا وجوده فإنا نحتاج أن يعلم إمكانه بطريق آخر.

وإذا كانت الحوادث ممكنة والممكن لا بد له من الواجب بنفسه ثبت أن المحدث للحوادث هو الواجب بنفسه وإذا كان المحدث لها هو الواجب بنفسه امتنع أن يكون علة تامة لها في الأزل لكون العلة التامة تستلزم معلولها فيجب أن تكون جميع الحوادث صادرة عن علة تامة أزلية وهذا باطل سواء قدر صدور مجموعها عنه في الأزل أو صدور واحد بعينه أو صدورها واحدا بعد واحد كما تقدم فإن كون مجموعها أو واحد من الحوادث بعينه أزليا ممتنع لذاته وكون النوع حادثا شيئا بعد شيء يمنع أن يكون المحدث له علة أزلية فإن العلة الأزلية يقارنها المعلول والمتجدد لا يكون مقارنا للأزلي في الأزل ولأن كلا من الحوادث لا تكون علته التامة إلا عند وجوده وإلا لزم حدوث الحادث عن العلة التامة من غير أن يتجدد تمامها له عند حدوثه فتمام العلة للحوادث وأزليتها جمع بين النقيضين. وقد تقدم بيان هذا وتمام الدليل وهكذا يمكن إذا قسم الموجود إلى غني وفقير وقيل إن الفقير لا بد له من غنى ثم قيل والحوادث فقيرة فيلزم صدروها عن الغنى. أو قيل إنه ينقسم إلى قيوم وغير قيوم وغير القيوم مفتقر إليه والحوادث مفتقرة إلى القيوم ويساق الدليل إلى آخره.

وكذلك إذا قيل الوجود ينقسم إلى كامل وناقص والناقص لا بد له من الكامل لأن الناقص مفتقر إلى الكامل إذ لو كان مستغنيا بنفسه لكان كاملا فإن الغنى من أعظم صفات الكمال ولو كان الكامل مفتقرا إليه لكان هو الناقص ولو كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر للزم الدور القبلي السبقي وهو باطل وإذا ثبت وجود الكامل فلا بد أن يكون قديما إذ لو كان حادثا لكان الوجود كله حادثا والحادث مفتقر إلى القديم فلا بد من القديم. وأيضا فالحوادث هي الناقصة لأن نفس الحدوث يوجب الافتقار إلى الغنى والفقر أعظم صفات النقص فيلزم افتقار الحوادث إلى الكامل ويساق الكلام إلى آخره. وأيضا فيقال: الوجود ينقسم إلى خالق ومخلوق كما تقدم والخالق يستحيل أن يكون شيء ممن مخلوقاته أزليا معه لأنه لو كان كذلك لكان علة موجبة له وذلك ممتنع كما تقدم. ويمكن تقدير صفات الكمال لله سبحانه بهذه الطرق كلها فإنه إذا ثبت وجود الواجب بنفسه أو وجود القديم أو الغنى أو وجود القيوم أو الكامل أو الخالق أو نحو ذلك من خصائص الرب تبارك وتعالى فإنه يقال الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود من حيث هو موجود إما أن يكون ممكنا له وإما أن يكون ممتنعا عليه والثاني باطل لأن هذا الكمال ممكن للمحدثات الممكنات الفقيرة إليه المخلوقات فإن الواحد منها يمكن أن يكون حيا عالما قادرا سميعا

بصيرا متكلما فإن لم يمكن ذلك فيه لزم إمكان اتصاف المفضول بالكمال الذي لا نقص فيه دون اتصاف الأفضل به وهذا ممتنع. وأيضا فكل كمال في المحدثات الممكنات المخلوقات فمنه فمن جعل غيره كاملا فهو أحق بالكمال فالخالق أولى بالكمال والمدح والثناء من المخلوقات. وهم يقولون كمال المعلول من كمال العلة فثبت إمكان اتصافه بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه وإذا ثبت إمكان ذلك فإما أن يفتقر في ثبوت هذا الكمال له إلى غيره وإما أن لا يفتقر والأول باطل لأنه قد ثبت أنه غني ولأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره ولأن الخالق الذي ليس بمخلوق لا يكون فقيرا إلى غيره ولأن القديم الذي أحدث كل ما سواه لا يكون فقيرا إلى غيره ولأن القيوم القائم بنفسه المقيم كل ما سواه لا يكون فقيرا إلى غيره ولأنه لو افتقر إلى غيره فذلك الغير إما أن يكون من مفعولاته وإما أن يكون واجبا بنفسه. فإن كان الأول لزم الدور القبلي وهو ممتنع ولأن كل ما لمفعولاته من الكمال فهو منه فلو لم يستفد كماله إلا من مفعوله لزم أن لا يحصل الكمال له حتى يحصل الكمال لمفعوله ولا يحصل الكمال لمفعوله حتى يحصل له لأن جاعل الكامل كاملا أولى بالكمال وإن افتقر إلى واجب غيره يجعله كاملا كان ذلك الغير هو الرب الكامل وكان الأول

مفعولا له مخلوقا ونحن تكلمنا في الأزلي القديم الواجب بنفسه القيوم الفاعل لكل ما سواه. فثبت بهاتين المقدمتين أن كل كمال لا نقص فيه ممكن للوجود فهو ممكن له وثبت أنه لا يتوقف ثبوت ذلك له على غيره فحينئذ يلزم ثبوت ذلك الكمال له ولزومه إياه لأنه إذا حصل المقتضى التام الذي لا يتوقف اقتضاؤه على شيء لزم ثبوت مقتضاه والعلة التامة يلزمها معلولها فإذا كان الواجب التام يلزمه موجبه فهو سبحانه وحده الموجب لكمال نفسه المقتضي لذلك فيلزم أن يكون الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه ثابتا له لازما دائما وهو المقصود. وإثبات صفاته اللازمة له بطريق الإيجاب الذاتي هو الحق دون إثبات مخلوقاته وحينئذ فيكون طريقة الوجوب وغيرها من الطرق العقلية دلت على إثبات صفات الكمال له ونفى النقائص عنه وهذا وغيره مما بين دل على أن الطرق العقلية كلها مثبتة لصفات الكمال لله وأن من استدل بوجوبه أو قدمه أو غير ذلك على نفي صفاته كان مخطئا ضالا وتبين أن هذه الطرق العقلية كلها يمكن إثبات الصفات والأفعال بها وإثبات حدوث كل ما سواه. ونحن نبهنا على هذه الفوائد الجليلة منها أن طائفة من أهل الكلام كصاحب الإرشاد ومن اتبعه يزعمون أن تنزيهه عن

النقائص لم يعلموه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع على ذلك وجعلوا عمدتهم فيما ينفونه عنه هو نفي الجسم كما فعلت ذلك المعتزلة واعتمدوا في نفي الجسم على إثبات حدوث الأجسام واعتمدوا في ذلك على امتناع حوادث لا أول لها وكذلك نفاة الفلاسفة جعلوا عمدتهم فيما ينفونه هو نفي التركيب واعتمدوا في نفي التركيب على إمكان التركيب واعتمدوا في إمكان ذلك على أن المجموع لا يكون واجبا لافتقاره إلى بعض أفراده. وهذا الكلام قد تقدم التنبيه على فساده وبينا ما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة وأن كون الموصوف بصفات لازمة واجبا بنفسه إذا قيل إنه يتضمن افتقاره إلى بعض لوازم ذاته أو ما يدخل في مسمى ذاته كان مضمونه أنه لا يوجد إلا به وليس في ذلك ما يقتضي كون ذلك الفرد فاعلا له ولا علة فاعلة له والواجب بنفسه هو الذي لا يكون له فاعل ولا علة فاعلة له. وأما إذا قدر موجود بنفسه ذو صفات لازمة فذلك لا ينافي أن لا يكون له فاعل ولو قدر مجموع واجب بنفسه لا يوجد إلا بوجود كل من أجزائه لم يكن في العقل ما يمنع أن يكون هذا غير مفتقر إلى فاعل. ولفظ الوجوب بالنفس قد صار فيه بحسب كثرة الخوض فيه اشتراك لفظي فإن عني به أنه لا يكون له صفة ولا لازم فهذا لا دليل على ثبوته. ثم من العجب أن هؤلاء يجعلونه معلولاته لازمة له مع زعمهم أنه

واجب بنفسه فكيف يمتنع أن تكون صفاته لازمة له مع كونه واجبا بنفسه فإن كان الواجب بنفسه هو الذي لا يكون له لازم أصلا فليس في الوجود واجب بنفسه على قولهم وإن كان استلزامه لشيء لا يمنع وجوبه بنفسه فأحق الأشياء بذلك صفاته فاستلزامه إياها لا يمنع وجوبه بنفسه وإن عنى به أنه لا يكون له محل يقوم به ولا علة قابلة فالصفات على هذا الوجه لا تكون واجبة بنفسها بل تكون واجبا بالذات التي لا تفتقر إلى محل مع أن الدليل الذي دل على أن الممكنات لا بد لها من واجب بذاته دل على أنه لا بد لها من موجود بنفسه لا يكون له فاعل ولا علة فاعلة. ولا ريب أنه لا بد أن يكون غنيا عن الممكنات لأن افتقاره إليها يمنع كونه موجودا بنفسه فلا يجوز له أن يفتقر إلى الممكنات لا إلى محل ولا إلى غير محل لكن هذا لا يمنع أن تكون صفاته واجبة أيضا وداخلة في مسمى الواجب بنفسه وكونها لا تقوم إلا به لا يوجب احتياجها إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة مباينة للمعلول. وإذا سميت الذات علة كما تقدم بمعنى أنها موجبة للصفات مستلزمة لها فهذا معنى صحيح لكن العلة الفاعلة التي يدعونها في علة العالم ليست من هذا الباب فينبغي أن يبين المراد في العبارات

المجملة فإنه قد قيل إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وأما طريقة الذين اعتمدوا في النفي على حدوث الجسم فإن أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة نازعوهم في امتناع دوام الحوادث وقالوا إن هذا يخالف العقل والنقل وقالوا أنتم زعمتم أنكم بهذه الطريق تثبتون حدوث العالم وإثبات الصانع وهذه الطريق تناقض ذلك فإن هذه لا تتم إلا بإثبات ذات معطلة عن الفعل فعلت بلا سبب أصلا وهذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وهو يسد إثبات الصانع. قالوا: وما ذكرتموه من الأدلة على امتناع دوام الأفعال والحوادث في الماضي يرد عليكم في المستقبل وليس بين هذين فرق معقول فإنه ما من ماض إلا وقد كان مستقبلا ولا مستقبل إلا ولا بد أن يصير ماضيا فالفرق بين الماضي والمستقبل فرق إضافي بحسب حال الوقت الذي جعل حاضرا وبحسب من يكون في ذلك الوقت فإن ما مضى هو ماض بالنسبة إليه وما سيكون مستقبل بالنسبة إليه ولا ريب أن الماضي عدم والمستقبل لم يوجد بعد فهذا وجد ثم عدم وهذا سيوجد ثم يعدم فكلاهما داخل في الموجود وكلاهما غير دائم الوجود. قالوا ولهذا لما عرف أئمة طريقكم بطلان الفرق سووا بين الماضي والمستقبل وهما الجهم بن صفوان إمام الجهمية وأبو الهذيل العلاف إمام

المعتزلة والجهم كان قبل أبي الهذيل وهو أسبق منه إلى هذه الحجة ونفى الصفات ولهذا زعم أن العالم كله يفنى ويفنى نعيم الجنة وأهل الجنة حتى لا يبقى موجود إلا الله كما كان الأمر في الابتداء كذلك. والذين سلكوا سبيله أعجزتهم حجته فمنهم من يقول كان القياس ما قاله لكن النصوص جاءت بدوام الدارين كما يذكر ذلك طائفة من المصنفين كصاحب الإيضاح وغيره وهذا كلام فاسد فإن الدليل العقلي متى انتقض بطل والنصوص لا تأتي بخلاف المعقول الصريح أبدا. ومنهم من يقول نحن نقول بفناء الحركات دون فناء الأجسام كما قاله أبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وهذا يستلزم وجود الأجسام خالية عن الحركة وإذا جوز ذلك في المستقبل فليجوزه في الماضي فيلتزم ما فر منه من قدم الأجسام وكثير منهم فرق بين الماضي والمستقبل بأن هذا دخل في الوجود وهذا لم يدخل فهذا يمكن فيه التطبيق بخلاف هذا. وهذا فرق ضعيف لوجهين: أحدهما: أن الماضي عدم فلا يمكن فيه التطبيق كما ذكروه

والثاني: أن دليلكم دليل التطبيق والموازاة مبناه على أن ما لا يتناها لا يكون بعضه أكثر من بعض. قالوا: فإذا فرضنا الحوادث من الطوفان والحوادث من الهجرة وطبقنا بينهما فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص وهو محال وإن تفاضلا لزم فيما لا يتناهى أن يكون بعضه أزيد من بعضه قالوا وهذا محال. فقيل لهم: هذا ينقض عليكم بالحوادث في المستقبل فإن الحوادث المستقبلة من الطوفان أزيد منها في الهجرة ففرق بعضهم بأن ذاك وجد وهذا لم يوجد وهو فرق ضعيف كما ترى. وأما قولهم: ما لا يتناهى لا يتفاضل فإنهم منعوهم ذلك وقالوا بل كلما دام الشيء كان بقاؤه أطول وإن كان لا أول له وكلما حدثت الحوادث كانت أكثر مما وجد وإن كان لا نهاية له كما أن العدد كلما ضعفته كان أزيد وإن كان لا نهاية له وإذا ضعفت الواحد والعشرة والألف تضعيفا دائما فآحاد الألف أكثر من آحاد العشرة وآحاد العشرة أكثر من آحاد الواحد فتضعيف الجميع لا يتناهى. ومنهم من فرق بين الماضي والمستقبل. فإنك إذا قلت لا أعطيتك درهما إلا أعطيتك آخر كان ممكنا وإذا قلت لا أعطيك درهما حتى أعطيك درهما كان غير ممكن.

وهذا ذكره صاحب الإرشاد وغيره وليس هو بتمثيل مطابق إنما المطابق أن يقال ما أعطيتك درهما إلا وقد أعطيتك قبله درهما فأما إذا قال لا أعطيك حتى أعطيك فهنا نفى المستقبل حتى يحصل المستقبل. والمقصود أن ما هو إثبات ماض قبله ماض لا إثبات مستقبل قبله مستقبل فالتقديرات أربعة مستقبل بعده مستقبل وماض قبله ماض ومستقبل قبله مستقبل وماض بعده ماض فهذان متماثلان وذانك متماثلان والممتنع هنا ذانك لا هذان. وأيضا فالاعتماد في تنزيه الباري على نفي الجسم طريقة مبتدعة في الشرع متناقضة في العقل فلا تصح لا شرعا ولا عقلا. أما الشرع فإنه لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف والأئمة بل الكلام في صفات الله بنفي الجسم أو إثباته بدعة عند السلف والأئمة ولو كان ذلك مما يعتمد في الشرع لدل الشرع عليه وقد عاب الله على اليهود ما وصفوه به من النقائص كقولهم إن الله فقير وقولهم يد الله مغلولة وقولهم استراح والتوراة مملوءة من الصفات فلم يعب عليهم ما فيها ولا ذكر أنهم حرفوا ذلك. وكثير من أهل الكلام يرد على اليهود بالطريقة المبتدعة ويدع طريقة القرآن.

وأما التناقض في العقل فإنه ما من أحد يثبت شيئا وينفي شيئا لكونه مستلزما للتجسيم إلا أمكن النافي أن يقول له فيما أثبته نظير ما قاله له فيما نفاه. وهذه عادة الطوائف بعضها مع بعض فالمعتزلة لما قالت للصفاتية من الأشعرية وغيرهم إذا قلتم إن لله حياة وعلما وقدرة وكلاما فلا تعقل هذه المعاني إلا أعراضا والعرض لا يقوم إلا بجسم. فقالت لهم الصفاتية نحن وأنتم متفقون على أن الله حي عليم قدير ونحن لا نعقل حيا عليما قديرا إلا جسما فإذا جاز إثبات حي عليم قدير ليس بجسم فكذلك قد يجوز إثبات حياة وقدرة تقوم به وليست عرضا وليس هو جسما. وطائفة من الباطنية والفلاسفة قالت للمعتزلة إذا قلتم إن الله حي عليم قدير فلا نعقل مسمى بهذه الأسماء إلا جسما. فقالت لهم المعتزلة وأنتم قلتم إن الله موجود قائم بنفسه ولا يعقل موجود قائم بنفسه إلا جسما فإن جاز إثبات موجود قائم بنفسه ليس بجسم جاز إثبات كونه حيا عليما قديرا ولا يكون جسما. وقالت معتزلة الصفاتية الذين ينفون الصفات الخبرية كصاحب الإرشاد وأتباعه لأئمتهم كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله

ابن مجاهد والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وغيرهم واليد لا تعقل إلا أبعاض الجسم فإذا أثبتموها وقلتم ليست أبعاض جسم كان هذا غير معقول. فقال المثبتون كما أنا لا نعقل حياة وعلما وقدرة وكلاما وسمعا وبصرا إلا عرضا قائما بجسم ثم أثبتنا هذه الصفات وقلنا جميعا نحن وأنتم إنها ليست أعراضنا فكذلك نثبت هذه الصفات ونقول ليست أبعاضا فليس نفي الأعراض عن هذه بأولى من نفي الأبعاض عن هذه

ثم إن المثبتة دارت على النفاة فقالوا للمعتزلة إذا أثبتم حيا عليما قديرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة كان هذا تناقضا مثل إثبات أسود بلا سواد وأبيض بلا بياض وطويلا بلا طول وجميلا بلا جمال فإن اسم الفعل المشتق يستلزم ثبوت ما منه الاشتقاق فإثبات اسم فاعل بلا مسمى مصدر تناقض عقلا وسمعا. وقالوا للفلاسفة إذا قلتم موجود ومعقول وعاقل وعقل وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجعلتم هذا كله واحدا فهذا مكابرة للعقل وإذا قلتم العشق هو العاشق واللذة هو الملتذ به والعلم هو العالم فهذا أعظم تناقضا فمن جعل الصفة هي الموصوف أو هذه الصفة هي تلك كان مكابرا للعقل. وقال المثبتون للصفات الشرعية لنفاتها لماذا نفيتم أن الله يرضى ويغضب ويحب ويفرح ونحو ذلك مما نطق به الكتاب والسنة. قالوا لأن هذه الصفات تستلزم التجسيم والتشبيه فإنا لا نعقل الغضب إلا غليان دم القلب لطلب الإنتقام أو ما يحصل عنه الغليان وكذلك سائرها. قالوا وكذلك إثبات السمع والبصر والكلام والإرادة ونحو ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم فإنا لا نعقل الإرادة إلا ميل المريد إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره أو ما يلازم هذا المعنى وإلا فإرادة لمراد لا ينفع صاحبه ولا يضره لا يعقل في الشاهد قالوا إرادة الحق لا تشبه إرادة المخلوقين.

قالوا: وكذلك غضب الحق ورضاه لا يشبه غضب خلقه ورضاهم فالقول في أحدهما كالقول في الآخر أما تجويز أحدهما ومنع الآخر فهو مكابرة. قالوا: الدليل العقلي دل على إثبات الإرادة دون الغضب. قالوا: فالدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول ونحن أنكرنا عليكم نفيكم لما لم يقم دليل على نفيه فكيف إذا دل السمع على إثباته. وأيضا فيمكن أن تثبت هذه بأدلة عقلية من جنس أدلة تلك الصفات فإن الفعل دل على القدرة والإحكام دل على العلم والتخصيص دل على الإرادة وإكرام المطيع وعقوبة العاصي دل على الحب والبغض والرضا والغضب أو يقال هذه صفات كمال لا نقص فيها فيجب اتصاف الرب بها ونحو ذلك من الطرق العقلية ولهذا وصف الرب بالرضا والغضب والحب والبغض والفرح ولم يوصف بالحزن والبكاء فإن هذه صفات نقص تستلزم العجز وأما الأولى فصفات كمال تستلزم القدرة وغيرها من صفات الكمال. وقد تقدم أن العقل يدل على استحقاق الرب لصفات الكمال وتنزيهه عن النقائص وهو يوجب أن لا يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإن المثلين ما يجوز على أحدهما ما يجوز

على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو جاز مماثلة شيء من الأشياء له في شيء من الأشياء للزم أني جوز عليه ما يجوز عليه ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه. ما يمتنع عليه وهو سبحانه يجب له الوجود والقدم والبقاء ويمتنع عليه الحدوث والعدم والإمكان فلو ماثله شيء من المحدثات الممكنات للزم أن يجب للمحدث القدم وللممكن الوجوب وأن يجب للواجب القديم الحدوث والإمكان وذلك يستلزم الجمع بين النقيضين من وجوه متعددة. فإن قيل فالواجب والممكن يتفقان في مسمى الوجود والقيام بالنفس وأن كلا منهما حي عليم قدير فيلزم أن يجوز على أحدهما ما جاز على الآخر. قيل: هما لم يتماثلا في هذا الذي اتفقا فيه ولم يتساويا في ذلك بل الثابت لله من ذلك ليس مماثلا للثابت للمخلوق من ذلك بل بينهما من التفاضل أعظم من التفاضل الذي بين أعظم المخلوقات وأدناها. وإذا قيل: اشتركا في ذلك فمعناه أنهما اشتركا في الكلي المطلق الذي لا يوجد كليا مطلقا إلا في الذهن لا في الخارج وإلا فما لكل منهما من ذلك يختص به لا يشركه فيه غيره ثم ذلك المشترك لا يلزمه شيء من صفات النقص وما وجب له وجاز عليه وامتنع عليه فلا محذور في اتصاف الرب به فمسمى كون الشيء موجودا قائما بنفسه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا وإن قيل إنه متفق مشترك فما لزم هذا المشترك ووجب له وجاز عليه أو امتنع عليه فالرب موصوف به

ولا محذور في ذلك فإنما المحذور فيما كان من خصائص المخلوق فالرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوقين إذ خصائصهم كلها تنافي ما استحقه من الكمال الواجب له فهي نقائص بالنسبة إليه وإن قدر أنها كمال للمخلوق. وكمال كل شيء بحسب ما يمكن وجوده له والمخلوق لا يمكن أن يكون قديما واجبا بنفسه ربا غنيا عما سواه إلى غير ذلك من خصائص الرب فهذا الكمال اختص به الرب كما اختص الرب تبارك وتعالى من الكمال الذي يوصف العبد بما يتفق فيه الاسم كالحياة والعلم والقدرة بما لا يماثله فيه المخلوق فالرب مختص إما بنوع لا يوصف به غيره مثل كونه رب العالمين ونحو ذلك وإما بما لا يماثله فيه غيره كالحياة والعلم. ثم إنه إذا علم استحقاق الرب تعالى لصفات الكمال لزم أن يكون متكلما سميعا بصيرا لأن هذه الصفات من صفات الكمال وإن لم يتصف بها لزم اتصافه بنقائصها. ومن ظن أن الكمال لا يعلم إلا بالسمع كصاحب الإرشاد أثبت صدق الرسول بدلالة المعجزة الجارية مجرى تصديق الرسول

وقال: إن العلم بكونه رسولا وتصديق المرسل له لا يقف على العلم بكونه متكلما ثم يعلم تنزيهه عن النقائص بالسمع. فقال له آخرون: فإذا كان مرجعكم في نفي النقائص إلى السمع فأثبتوا هذه الصفات بالسمع من أول الأمر ولا حاجة بكم إلى جعل ذلك موقوفا على مقدمة نفي النقائص التي لا تثبت إلا بالسمع. وأما أئمة الصفاتية فيقولون إن إثبات الكمال ونفي النقص يعلم بالعقل ولهذا أثبت هذه الصفات بالعقل أئمة السلف وأئمة متكلمة الصفاتية كالأشعري وأمثاله فإنهم كلهم يثبتون استحقاق الرب لهذه الصفات بالعقل. ومما أنكر عليهم الناس في النفي بطريقة نفي الجسم أن قالوا إن هذه الطريقة هي التي ولدت بين المسلمين اختلافهم في القرآن وكلام الله تعالى حتى صار كثير من الناس أو أكثرهم في ذلك إما حائرا وإما مخطئا مبتدعا وكفر بعضهم بعضا بسبب ذلك وصار الذين سلكوا هذه الطريق يذكرون ما يمكن من الاختلاف ولا يعلمون أن في المسألة قولا سوى ما ذكروه. كما نجد أرباب المقالات والملل والنحل يذكرون ذلك مثل كتب

المقالات لأبي عيسى الوراق والنوبختي ولأبي الحسن الأشعري ولأبي القاسم الكعبي ولأبي الفتح الشهرستاني ولأبي محمد بن حزم وغير هؤلاء. وكذلك كتب البحث والمناظرة وذلك أن الجهمية والمعتزلة الذين هم أئمة هذه الطريق لما اعتقدوا أن حدوث العالم إنما علم بحدوث

ما قام به من الأعراض كالحركات وغيرها وأن ما قام بذلك يكون حادثا قالوا لأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث. وكثير منهم لم يتفطنوا في هذا المقام للفرق بين مقارنة الحوادث المعينة وبين مقارنة حادث بعد حادث إلى غير نهاية بل إذا قيل ذلك تصور العقل أن هذا حادث ليس بقديم وأن ذاك لا يكون قبله بل معه أو بعده فلزم أن يكون قرين الحادث حادثا. ولكن حكم العقل بهذا على معين ليس حكما على حوادث متعاقبة وعلى النوع المتعاقب من الواحد المعين ولكن تفطن للفرق كثير منهم فاحتجوا على امتناع حوادث لا أول لها بما نبهنا على بعضه وقد استوفينا الحجج في هذا الباب في درء تعارض العقل والنقل وذكرنا كل ما بلغنا أنه ذكر في هذا الباب. وكذلك أيضا أصحاب هذه الطريق لم يفرقوا بين أن يكون مقارن الحوادث مخلوقا مفعولا محتاجا إلى غيره بحيث لا يمكن أن يفعل دون الحوادث في الأزل وبين أن يكون هو الفاعل المحدث الغنى عن غيره لأن حجتهم وهي امتناع دوام الحوادث تتناول النوعين.

والذين عارضوا هؤلاء من الفلاسفة القائلين بقدم الأفلاك كأرسطو وأتباعه فإنهم جوزوا حوادث لا أول لها ولم يفرقوا بين النوعين. وأما أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة ففرقوا بين النوعين فإنه إذا كان المقارن للحوادث الذي لا يخلو عنها مفعولا لغيره هو والحوادث لزم أن يكون أزليا مربوبا وأن يكون ربه موجبا له بذاته بحيث يقارن وجودُه وجودَه والموجب بذاته في الأزل لا يوجب الحادث وحده ولا الحادث وقرينه فإن إيجاب النوع الحادث في الأزل ممتنع وكذلك إيجاب الحادث وقرينه فإن إيجاب النوع الحادث في الأزل ممتنع وكذلك إيجاب الحادث وقرينه في الأزل فإنه يقتضي أن يكون الحادث لازما للموجب في الأزل وهذا ممتنع بل الحادث لا يكون إلا شيئا بعد شيء. وإذا قيل: اللازم هو النوع الذي يحدث شيئا فشيئا لم يكن شيء من هذا لازما للموجب بذاته ولم يكن أيضا في الأزل موجبا له وإنما يكون إيجابه له شيئا بعد شيء فلا يتصور في الأزل موجب بذاته فلا يتصور قديم يكون غيره ربه وذلك لأن كونه موجبا في الأزل يستلزم كمال إيجابه ومؤثريته فإن ما يسمى الفاعل أو الموجب أو المقتضي أو المؤثر أو نحو ذلك من الأسماء التي تقال في هذا الباب لا يكون مؤثرا حتى يستكمل جميع الشروط التي بها يكون مؤثرا وإذا استكملها وجب حصول الأثر لأن وجود الأثر بدون استكمال شروط التأثير

ممتنع وتخلفه بعد استكمالها ممتنع لأنه لو تخلف ولم يجب حينئذ لكان إما ممتنعا وإما ممكنا فإن كان ممتنعا لزم أن يكون الفعل بعد استكمال الفاعل جميع الشروط ممتنعا وهذا تناقض. ثم إذا قدر أنه كان ممتنعا فإن دام امتناعه لزم أن لا يمكن الفعل بحال وهو خلاف الواقع وإن أمكن بعد ذلك لزم أن يصير ممكنا بعد أن كان ممتنعا مع انه لم يتجدد شرط من شروط التأثير يصحح كون الفاعل مؤثرا. ومعلوم أن الإمكان بعد الامتناع لا يكون إلا لتجدد أمر يمكن معه الفعل وإن لم يتجدد شيء لزم استواء الحالين فيلزم تخصيص أحدهما بالامتناع والآخر بالإمكان ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في بدائة العقول. وإن قيل إن الفعل كان ممكنا مع استكمال المؤثر وشروط التأثير ليس بواجب ولا ممتنع. قيل فحينئذ يمكن وجوده في تلك الحال ويمكن وجوده بعد هذا فتخصيص أحدهما بالوجود إن لم يفتقر إلى مرجح لزم الترجيح بلا مرجح وإن افتقر إلى مرجح كان ذلك المرجح من جملة شروط التأثير وكان الفعل بدونه ممتنعا لا ممكنا فأحد الأمرين لازم إما وجود الممكن وذلك عند وجود مقتضيه التام وإما عدمه وذلك عند عدم مقتضيه التام. ولهذا قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء

كونه وجب كونه لا يمكن أن لا يكون وما لم يشأ كونه يمتنع كونه فلا يكون بدون مشيئته. وإذا كان كذلك فوجود شيء من حوادث العالم وسائر أجزائه في الأزل ممتنع لأنه لا يوجد إلا مع وجود مجموع المؤثرية ولو وجد في الأزل مجموع المؤثرية لزم وجود جميع الآثار ولو وجد جميع الآثار في الأزل لم يحدث في العالم شيء. ولو قيل: وجد مجموع المؤثرية لحادث بعد حادث. قيل: كل حادث لا يكون مجموع المؤثرية موجود إلا عند وجوده لأنه لو وجد مجموع المؤثرية ولم يوجد لزم وجود مجموع المؤثر التام بدون أثره ووجوب الموجب التام بدون موجبه والعلة التامة بدون معلولها وهو باطل. ووجود المخلوق المستلزم للحوادث بدون الحوادث ممتنع فامتنع وجود شيء من المخلوقات في الأزل كما امتنع وجود شيء من الحوادث في الأزل ولو قدر أن بعض العالم قديم وهو خال عن الحوادث ثم تجددت فيه الحوادث لقيل فحينئذ فيلزم حدوث الحادث بلا سبب مرجح وذلك يقتضي ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح فتبين أن الممكنات مستلزمة للحوادث وأن الممكن المستلزم للحوادث لا يكون شيء منه قديما فليس مع الله شيء قديم من العالم. وبهذا يظهر الفرق بين ما قارن الحوادث من الممكنات وبين ما قارن الواجب بذاته كأفعاله القائمة به ونحو ذلك فإن الواجب هو

قديم أزلي واجب الوجود بنفسه لا يفتقر في ذلك إلى علة قديمة ولا موجب قديم ولا فاعل قديم بل قدمه ووجوبه من لوازم ذاته القديمة فإذا قدر أنه كما قال أئمة السلف لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فاعلا أفعالا تقوم به كان غاية ما يلزم دوام الحوادث فإن كان هذا ممتنعا لزم حدوث ما لا يخلو عن الحوادث وأن الحوادث لها أول فيلزم حدوث العالم وإن كان هذا ممكنا لزم حدوث كل شيء من العالم أيضا لأن الحوادث لا تكون إلا شيئا بعد شيء يمتنع وجودها في آن واحد فليس من الأوقات في الأزل إلى الأبد وقت يمكن فيه وجود جميع المحدثات وهو فاعل لكل حادث وقت إحداثه إياه وهو لا يفتقر في إحداثه الحوادث إلى شيء مباين له بل هو الغني بنفسه عما سواه فليس كونه محدثا لهذا الحادث أو لهذا الحادث بحيث يكون محدثا له بالفعل أمرا قديما لازما لذاته في الأزل ولا هو في الأزل محدثا لجميع الحوادث ولكن هو في الأزل فاعل كما هو في الأبد فاعل لم يزل ولا يزال فاعلا أي فاعلا شيئا بعد شيء وليس في الأزل شيئا محدودا كان فيه فاعلا للجميع بل هو في كل حال أزلي قديم كما لم يزل أزليا قديما. ففي كل حال يفعل كما كان فيما قبلها يفعل وفيما بعدها يفعل ولم يقارنه على الدوام شيء من الأفعال فأن لا يقارنه شيء من المفعولات بطريق الأولى والأحرى فلا يكون شيء من الأفعال أزليا قديما فلا يكون شيء من المفعولات أزليا قديما ولا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات مؤثرا في جميع الحوادث ولا فيما يستلزم جميع الحوادث ولا يكون في وقت من الأوقات يصير مؤثرا في حادث بعد حادث ولكن هو لا يزال مؤثرا

في حادث بعد حادث لكن لا يقال إنه كان في الأزل أو وقت بعينه مؤثرا في حادث بعد حادث فكونه مؤثرا في حادث بعد حادث هي صفة قديمة النوع باقية ليست قديمة منقطعة. ولفظ القديم والأزلي فيه إجمال فقد يراد بالقديم الشيء المعين الذي ما زال موجودا ليس لوجوده أول ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئا بعد شيء فنوعه المتوالي قديم وليس شيء منه بعينه قديما ولا مجموعه قديم ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار فالتأثير الدائم الذي يكون شيئا بعد شيء وهو من لوازم ذاته هو قديم النوع وليس شيء من أعيانه قديما فليس شيء من أعيان الآثار قديما لا الفلك ولا غيره ولا ما يسمى عقولا ولا نفوسا ولا غير ذلك فليس هو في وقت معين من الأوقات مؤثرا في حادث بعد حادث ولكنه دائما مؤثر في حادث بعد حادث كما أنه ليس هو في وقت بعينه مؤثرا في مجموع الحوادث بل هو مؤثر شيئا بعد شيء وهو مؤثر في حادث بعد حادث وقتا بعد وقت فإذا كان المفعول مستلزما للحوادث لم يفعل إلا والحوادث مفعوله معه وهي وإن كانت مفعولة فيه شيئا بعد شيء فالمحدث لها شيئا بعد شيء إن أحدث مقارنها في وقت بعينه لزم أن يكون محدثا من جملتها وهو المطلوب. وإن قيل: هو مقارن له قديم معه بحيث يوجد معه كل وقت. قيل: فهذا لا يمكن إلا إذا كان علة موجبة له لا محدثا له ولا بد أن يكون علة تامة فيكون في الأزل مؤثرا تام التأثير مستجمعا لشروط

التأثير لشيء معين وإذا كان مؤثرا قديما دائما لشيء معين كانت لوازم ذلك المعين معه لا يمكن تأخر شيء منها عنه لامتناع وجود الملزوم بدون اللازم فيلزم وجود الحوادث كلها في الأزل. فإذا قيل: هي تلزم العالم شيئا بعد شيء. قيل: فيجب أن يكون محدثها يحدثها شيئا بعد شيء فلا يكون التأثير المعين فيها ولا في شيء منها ولا في واحد بعد واحد أزليا فإن ما يوجد شيئا بعد شيء لم يكن أزليا إلا باعتبار النوع كما تقدم وإنما يكون الأزلي نوع التأثير والكلام إنما هو في شيء معين من العالم فلا يكون شيء معين من العالم أزليا. يبين هذا أن العالم مفعول له فإذا كان الفعل لا يكون إلا شيئا بعد شيء فالمفعول بطريق الأولى والأحرى. وإذا قدر مفعول قديم لازم له لزم أن يقدر معه فعل قديم لازم له وإذا كان فعل هذا قديما لازم له وفعل الحوادث الملازمة له شيئا بعد شيء كان له فعلان ومفعولان مع تلازمهما أحدهما قديم لازم له في القدم لا يتأخر عنه شيء في الأزل والآخر دائم يحدث شيئا بعد شيء لا يجوز أن يقارنه شيء في الأزل. والتقدير أن أحدهما مقارن للآخر ملازم له وهذا جمع بين المتناقضين فإنه إذا قدر أن العالم أو شيء منه قديم لازم له في الأزل لا يجوز تأخره عنه لكونه معلولا له مفعول الفعل القديم اللازم له والعالم

مقارن للحوادث التي ليس شيء منها قديم لازم له في الأزل بل كان كل واحد منها متأخر عنه ووجودها واحد بعد واحد ليس هو نفيا قديما ثابتا في الأزل بل موجودا شيئا بعد شيء كان ما لا يمكن وجوده في الأزل مقارنا لما يجب وجوده في الأزل وهو متناقض فتبين أن فعلها في الأزل شيئا بعد شيء ممتنع كما أن فعل مجموعها ممتنع وكما أن كل فعل واحد منها في الأزل ممتنع فإذا امتنع فعلها في الأزل على كل تقدير امتنع فعل ما يلزم منها على كل تقدير فإنه إن فعل معها كان ممتنعا وإن فعل معها تقدم فعلها أيضا وهو ممتنع. وإذا كان قدم العالم أو شيء من المستلزم للحوادث يتضمن فعل الحوادث في الأزل وهو ممتنع على كل تقدير ثبت امتناع قدم شيء من العالم على كل تقدير. والفرق ثابت بين فعل الحوادث في الأزل وبين كونه لا يزال يفعل الحوادث فإن الأول يقتضي أن فعلا قديما معه فعل به الحوادث من غير تجدد شيء والثاني يقتضي أنه لم يزل يفعلها شيئا بعد شيء فهذا يقتضي قدم نوع الفعل ودوامه وذاك يقتضي قدم فعل معين وقد تبين أنه يمتنع قدم فعل معين للحوادث فيمتنع فعل الحوادث بدون ملازمها فثبت امتناع فعل الملازم لها في القدم وذلك أن التلازم من الطرفين فإن التقدير أن كل شيء من العالم فإنه مقارن للحوادث ملازم لها يلزم من وجود شيء من العالم وجود حادث معه ويلزم من وجود شيء من حوادث العالم وجود شيء آخر معه ولو كان الملزوم من أحد الطرفين لكفى فإن

المقصود أن يكون كل شيء من العالم لا يسبق الحوادث المعلوم حدوثها بل يكون معها أو بعدها فإذا كان كل شيء من العالم مستلزما للحوادث كفى ذلك فإن ذلك الجزء من العالم لو كان قديما لكان قديما بفعل قديم معين له وللحوادث معه فإن وجوده بدون وجود الحوادث ممتنع وفعل قديم للحوادث ممتنع ففعل قديم ملزومها ممتنع فقدم ملزومها ممتنع وهو المطلوب. وإذا أخذت التلازم من الطرفين قلت فعل الحوادث بفعل قديم ممتنع وفعلها بدون ملازمها المقارن لها ممتنع فيلزم إذا فعلت أن تفعل مع ملزومها وذلك لا يكون إلا بفعل قديم وهو ممتنع. وهذا بين كيفما قلبته فإنك إذا فرضت الملزوم يفعل بفعل قديم وفعلت هي أيضا بفعل قديم آخر لزم قدم الفعلين جميعا لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر فإنه كما تلازم المفعولان تلازم الفعلان وإذا كان أحد المتلازمين يمتنع قدمه فالآخر أيضا يمتنع قدمه لأنه لو لم يمتنع قدمه للزم إما وجودهما وهو ممتنع أو وجود أحد المتلازمين دون الآخر وهو ممتنع. فقد تبين أن مع القول بجواز حوادث لا أول لها بل مع القول بوجوب ذلك يمتنع قدم العالم أو شيء من العالم وظهر الفرق بين دوام الواجب بنفسه القديم الذي لا يحتاج إلى شيء وبين دوام فعله أو مفعوله وقدم ذلك فإن الأول سبحانه هو قديم بنفسه واجب غني وأما فعله فهو شيء بعد شيء.

فإذا قيل: هو قديم النوع وأعيانها حادثة لزم حدوث كل ما سواه وامتناع قدم شيء معه وأنه يمتنع أن يكون شيء من مفعولاته قديما إذ كل مفعول فهو مستلزم للحوادث والإلزام حدوث الحوادث بلا سبب وترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح لأنه لا يكون قديما إلا بفعل قديم العين لا قديم النوع وفعل قديم العين للحادث ممتنع ولملازم الحادث ممتنع وفعلان قديمان مقترنان أحدهما للحادث والآخر لملازم الحادث ممتنع فتبين امتناع قدم فعل شيء من العالم على كل تقدير لأن وجود المفعول بدون الفعل المشروط فيه ممتنع. وقد عرف أيضا أن وجود العالم منفكا عن الحوادث ثم إحداث الحوادث فيه أيضا ممتنع فثبت امتناع قدمه على كل تقدير. ويمكن تقدير حدوث كل العالم بالنظر إلى نفس الفاعل المؤثر فيه مع قطع النظر عن العالم خلاف ما يزعمه ابن الخطيب وطائفة أن القائلين بالقدم نظروا إلى المؤثر والقائلين بالحدوث نظروا إلى الأثر. وذلك أن يقال قد ثبت أنه موصوف بصفات الكمال وأن الكمال الممكن الوجود لازم له واجب له وأنه مستلزم لذلك. وحينئذ فيقال الفاعل الذي يمكنه أن يفعل شيئا بعد شيء ويحدث الحوادث أكمل ممن لا يمكنه الإحداث بل لا يكون مفعوله

إلا مقارنا له بل يقال هذا في الحقيقة ليس مفعولا له إذ ما كان لازما للشيء لا يتجدد فهو من باب صفاته اللازمة له لا من باب أفعاله فإن ما لزم الشيء ولم يحدث ويتجدد لم يكن حاصلا بقدرته واختياره بل كان من لوازم ذاته وما كان من لوازم ذاته لا يتجدد ولا يحدث كان داخلا في مسمى ذاته كصفاته اللازمة له فلم يكن ذلك من أفعاله ولا من مفعولاته. وإذا كان كذلك فتقدير واجب بنفسه أو قديم أو قيوم أو غني لا يفعل شيئا ولا يحدثه ولا يقدر على ذلك تقدير مسلوب لصفات الكمال وكون الفعل ممكنا شيئا بعد شيء أمر ممكن في الوجود كما هو موجود للمخلوقات فثبت أنه كمال ممكن ولا نقص فيه لا سيما وهم يسلمون أن الجود صفة كمال فواجب لا يفعل ولا يجود ولا يحدث شيئا أنقص ممن يفعل ويجود ويحدث شيئا بعد شيء وإذا كان كمالا لا نقص فيه وهو ممكن الوجود لزم أن يكون ثابتا لواجب الوجود وأن يكون ثابتا للقديم وأن يكون ثابتا للغنى عما سواه وأن يكون ثابتا للقيوم. وإذا كان كذلك فمن كانت هذه صفته امتنع وجود المفعول معه لأنه لو وجد معه للزم سلب الكمال وهو الإحداث شيئا بعد شيء والفعل الدائم للمفعولات شيئا بعد شيء وإذا كان نفس الكمال الذي يستحقه لذاته يوجب أن يفعل شيئا بعد شيء ويمتنع أن يقارنه

شيء من المفعولات فيكون لازما له ثبت حدوث كل ما سواه وهو المطلوب. وهذا مما احتجوا به على قدم العالم وهو يدل على حدوثه فإنهم قالوا الفعل صفة كمال والجود صفة كمال فلا يجوز أن يسلبهما الباري تعالى في الأزل. فيقال لهم: الكمال أن يفعل دائما شيئا بعد شيء أو أن يكون المفعول معه قديما والثاني باطل قطعا. أما أولا: فلأنه خلاف المعلوم بالضرورة. وأما ثانيا: فلأنه يقال لهم إذا كان الفعل الحادث شيئا بعد شيء ليس صفة كمال بل الفعل المقارن له فإنه يلزم أن لا يحدث شيء. وأيضا فإن هذا معارض بأن يقال بل الأفعال المحدثة النوع الدائمة إلى الأبد أكمل من فعل واحد قديم من غير أفعال حادثة فالذين قالوا لم يكن فاعلا حتى أحدث السموات وهو محدث شيئا بعد شيء إلى الأبد أحسن قولا ممن قال إنه لم يزل فاعلا لشيء واحد ولا يفعل غيره فإن كثرة الأفعال والمفعولات أكمل من قلة الأفعال والمفعولات فتبين أن ما أثبتوه للخالق من كون هذا العالم لازما له قديما بقدمه هو صفة نقص ليس صفة كمال. والمقصود هنا أن الذين أثبتوا حدوث العالم بحدوث الجسم كما تقدم قالوا فإذا كان الدليل على حدوث المحدثات إنما هو قيام

الصفات والأفعال بها فكل ما قامت به فهو حادث وإلا انتقض الدليل على حدوث العالم وإثبات الصانع. قالوا: فيجب أن يكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن ويصير متكلما بعد أن لم يكن كما أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا وفعله حادث. قالوا: وكل ما قامت به الحوادث فهو حادث كما تقدم فيلزم أن لا يقوم به كلام ولا فعل ولا صفة فقالوا كلامه مخلوق في غيره ولا يقوم به علم ولا قدرة ولا حياة ولا غير ذلك من الصفات لأنه لو قام به ذلك لكان عرضا قائما بالجسم والجسم محدث قالوا وليس هو فوق العالم ولا مباين للعالم ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا يرى لأنه لو كان كذلك لكان جسما والجسم محدث. فلما أظهروا هذا القول شاع في الأمة إنكار ذلك وقالوا هذا تعطيل للخالق وجحود لصفاته وكلامه وأفعاله ولذاته فظهر عن الأئمة والسلف النكير والتكفير للجهمية وهؤلاء الذين قالوا القرآن مخلوق فلما شاع الخوض في هذا والنزاع ودخلت فيه أهل السيوف والأقلام وعظم فيه النزاع والخصام ظهر لجمهور المسلمين وأئمة الدين فساد هذا القول فإنه يجر إلى قول فرعون ونحوه من المعطلة وإن كان قائلو ذلك ما قصدوا به ذلك بل دخلوا في بحوث ظنوها تنصر ما جاء به الرسول فكان الأمر بالعكس فإنهم لم يفهموا ما جاء به الرسول ولا دليله.

وأما أول من أظهر ذلك في الإسلام فإن بعض أهل العلم يقولون إنه كان ملحدا زنديقا وكان يعلم أن قوله يستلزم تعطيل الصانع فأحدث هذا كما أحدثت الزنادقة الرفض تسترا بموالاة علي فلما أطبق أهل السنة والجماعة والجمهور على أن كلام الله غير مخلوق صار القائلون لذلك أربع فرق: فرقتان قالتا: إذا لم يكن مخلوقا فهو قديم فإنه إما مخلوق منفصل عن الرب وإما قديم قائم به فالقديم صفاته والمخلوق المنفصل مفعولاته وقالوا الكلام كالحياة لا يتعلق بمشيئته وقدرته واختياره فلا يقال إنه يقدر على الكلام ولا إنه يتكلم بمشيئته واختياره وقدرته وأنكر هؤلاء وجود أفعال تقوم به شيئا بعد شيء وقالوا هذا هو الدليل الذي احتججنا به على حدوث العالم وأجسامه وهو كونه لا يخلو من الحوادث فإنه إذا قامت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.

مقال ابن كلاب والأشاعرة في القرآن

ثم من هؤلاء من قال: إذا كان قديما فالقديم لا يكون حروفا وأصواتا لأنها متعاقبة شيئا بعد شيء ولا يكون معاني متعددة لأن وجود ما لا يتناهى من المعاني متعدد وتخصيص قدر دون قدر تحكم قالوا فيكون القديم معنى واحدا هو النهي والأمر والخبر والاستخبار والعبارة عن ذلك المعنى بالعربية قرآن وبالعبرية توراة وبالسريانية إنجيل. وهذا أصل قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري

والقلانسي وغيرهما فقال لهم الجمهور هذا القول معلوم الفساد بالضرورة فإنه يلزم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئا واحدا قالوا ونحن نعلم بالاضطرار أن التوراة إذا عربناها لم تكن معانيها معاني القرآن ولا معنى آية الكرسي آية الدين ولا معنى سورة الإخلاص معنى تبت يدا أبي لهب قالوا ولا معنى الخبر هو معنى الأمر بأي شيء فسر المعنى سواء فسر بالعلم أو الإرادة أو بأمر آخر يخالف العلم والإرادة فنحن نعلم أن هذا ليس هو ذا. وقالوا لهؤلاء: إن جاز أن يكون الخبر هو الأمر والنهي فتكون الحقيقتان شيئا واحدا فجوزوا أن يكون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة أو تكون الصفات كلها شيئا واحدا. فلما أوردوا هذا السؤال قال بعضهم هذا سؤال لا جواب لنا عنه كما ذكر ذلك الآمدي وغيره وقال بعضهم هذا يتوجه من جهة العقل ونحن إنما أثبتنا تعدد الصفات بالإجماع لا بالعقل لأن الناس إما مثبت للصفات وإما ناف لها والمثبتون يقولون بتعددها فالقول بإثباتها واتحادها خرق للإجماع وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني وغيرهما وهي طريقة القاضي أبي يعلى في باب الصفات والكلام في الجملة

ومنهم من طلب أن يفرق بين البابين فذكر ما أنكره هؤلاء وغيرهم عليه فهؤلاء يقولون بقدم الكلام لكن يقولون باتحاد الحقائق المتعددة فهم اتحادية في الصفات.

الرد على فرق أخرى

والفريق الثاني وافقوهم على القدم وعلى أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأن الكلام المعين صفة لازمة لذاته وأنه ما ثم إلا قديم لازم له بعينه وأما مخلوق منفصل عنه وأما ما يتعلق بقدرته ومشيئته ويقوم بذاته فأنكروه وادعوا كما ادعى أولئك وجود الحوادث بدون سبب حادث والترجيح بمجرد الإرادة مع تماثل وقت الفعل وغيره وقالوا القادر يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح. ثم رأوا قول أولئك أن الكلام العربي ليس بكلام الله ولم يتكلم الله به ولا يتكلم وإنما كلامه مجرد معنى هو حقائق مختلفة قولا مخالفا للمعقول والمنقول. قالوا: فالكلام القديم هو الحروف والأصوات ومنهم من قال الحروف دون الأصوات فهي قديمة أزلية بأعيانها لا نقول بوجود شيء بعد شيء وأنه ما زال يقول يا آدم يا نوح يا موسى من الأزل إلى الأبد ولا يزال يقول ذلك وقال هؤلاء باقتران الحروف بعضها ببعض في الأزل وأن الياء والسين موجودتان معا في الأزل والترتيب بينهما إنما هو ترتيب في ذاتهما أو في ظهورهما لا في وجودهما.

وهذا قول طائفة من أهل الكلام والحديث والفقه حكاه الأشعري في المقالات عن طائفة قالته وقد وافقهم عليه طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم. فأنكر الجمهور هذا القول وقالوا هذا مخالف لصريح المعقول والمنقول فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس 82) وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (سورة البقرة 30) أي واذكر إذ قال ربك للملائكة والمؤقت بظرف معين لا يكون قديما أزليا. وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة آل عمران 59) وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (سورة طه 11) ومثل هذا في القرآن كثير. قالوا والصوت كالحركة توجد شيئا بعد شيء فيستحيل اقتران أوله بآخره ووجوده كله في وقت واحد وإنما يوجد متعاقبا ثم جمهور أرباب هذا القول قالوا هذا القرآن كلام الله وليست الأصوات المسموعة من القرآن صوت الله بل صوت الله غير ذلك ولكن هذا المسموع كلام الله وهو مسموع بصوت القارىء كما قال تعالى:

{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (سورة التوبة 6) وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زينوا القرآن بأصواتكم" فأضاف الكلام إلى الله والصوت إلى القارىء. وقالت طائفة: بل نفس هذا الصوت المسموع هو الصوت القديم أو مشتمل على الصوت القديم وقالوا إن القديم يظهر قرين الحركات المحدثة وإن الأصوات ليست فعل العباد لأنها إنما تكون فعلا لهم إذا كانت متولدة عن أفعالهم ونحن لا نقول بالتولد بل هي مضافة إلى الله بحسب ما توجبه الإضافة فإن كان بغير القرآن كانت مخلوقة له وإن كانت بالقرآن كانت صفة له وهي الصوت القديم.

فقال جمهور الأمة: هذا قول معلوم الفساد بالضرورة مخالف للمعقول والمنقول وهي نوع من البدع الباطلة شرعا وعقلا. وقال الفريق الثالث: أنتم وإنما أوتيتم من حيث جعلتم أن الله لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بقدرته ومشيئته وأنكرتم قيام الأفعال به لذلك فإنما أقول إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام قائم به وإن كان حادثا وأنا أقول تحله الحوادث وليس في الأدلة ما ينفي هذا لا شرعا ولا عقلا بل العقل والنص متطابقان على إثبات ذلك. وهذا قول طوائف كأبي معاذ التومني وزهير الأثري ومحمد بن كرام وأصحابه وطوائف غير هؤلاء أظن منهم هشام بن الحكم وغيره. لكن هؤلاء قالوا: ليس الكلام ولا شيء منه قديما وإنه يتكلم بعد أن لم يكن متكلما كما يقول إنه فعل بعد أن لم يكن فعل لئلا يلزم وجود حوادث لا أول لها ويبطل الدليل الدال على حدوث العالم. قالوا: ولكن هو يقول قادر على الكلام في الأزل كما قلتم أنتم

ونحن إنه قادر على الفعل في الأزل مع اتفاقنا جميعا على أن الفعل في الأزل ممتنع. فهذه أربعة طوائف بل خمسة ممن يقول القرآن غير مخلوق والأخرى هم الخلقية. وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم ومن دخل معهم من ملاحدة أهل الكلام والتصوف فعندهم ليس لله كلام منفصل عن نفوس الأنبياء وغيرهم وإنما كلامه أوجد فيها. ومن العجب أنهم فروا من قدم صفاته وجعلوا فعله المنفصل عنه قديما لازما له ومن المعلوم أن قدم الصفات أقرب إلى المعقول من قدم المفعولات فإذا جاز أن يكون مفعوله المنفصل عنه لازما لذاته لا يفارقها ويكون واجب الوجود بذاته ملزوما للأجسام المنفصلة عنه فلم لا يكون ملزوما لصفاته القديمة. ويقال لهؤلاء أنتم عندكم لا يمتنع قيام الحوادث بالقديم فإن الفلك قديم عندكم وهو محل الحوادث ولا يمتنع قدم الأجسام عندكم فإن الفلك جسم قديم عندكم ولا يمتنع قدم الموصوف والصفة عندكم فإن الفلك قديم عندكم بصفته اللازمة له فلماذا أنكرتم أن يكون القديم الواجب بنفسه متصفا بهذه الصفات. فإن قلتم قيام الصفات تركيب والواجب لا يكون مركبا.

قيل: قد قدمنا أن لفظ التركيب لفظ مجمل وأنه إن أريد ما ركبه غيره أو ما كان مفترقا فاجتمع أو ما يمكن انفصال بعضه عن بعض فهذا منتف وذلك غير لازم من اتصافه بالصفات والأفعال. وهم لم يريدوا هذا وإنما أرادوا تعدد المعاني التي يتصف بها وهذا لا دليل على نفيه بل الأدلة تستلزم ثبوته وقيل لكم معنى قولكم لا يكون مركبا أي لا يكون موصوفا بصفات ولا يكون ملزوما لصفاته وأنتم عندكم هو ملزوم لمفعولاته ويقال أنتم عندكم أن الفلك واجب بوجوبه قديم بقدمه ومع هذا فهو متصف بهذا. فإذا قلتم: هذا واجب بغيره وذاك واجب بنفسه. قيل: ما ذكرتم من الفرق يقتضي أن أحدهما له موجب أبدعه والآخر ليس له مبدع أوجبه وهذا لا يتعلق بالصفات والأجزاء وغير ذلك فإنكم إذا قلتم لو كان موصوفا لكان مفتقرا إلى غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره وإن أردتم بالافتقار إلى الغير المبدع فليس في ذلك افتقار إلى مبدع وإن أردتم أنه مستلزم لصفاته وأبعاضه ونحو ذلك فليس فيما ذكرتموه ما يوجب الفرق في ذلك بين ما له مبدع وما لا مبدع له وقد قال كثير منكم بأن الفلك واجب بذاته كانت هذه الحجة التي احتججتم بها عليهم حجة فاسدة كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع. وأما السلف والأئمة رضي الله عنهم فلم يقولوا شيئا من هذه الأقوال ولا بنوا على شيء من تلك الأصول المزلزلة بل كلامهم

مضمونه أن الله سبحانه لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال لم يزل قديرا ولم يزل عليما ولم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فاعلا لما شاء وأنه سبحانه وتعالى لم يعدم كمالا ممكنا بل هو المستحق لأنواع الكمال الممكن الوجود وذلك واجب له ولا يقدر العباد أن يعلموا ما يستحقه الرب من الحمد والثناء بل قد قال أعلمهم بالله لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. والحمد والثناء إنما يكون بالأمور الوجودية أو ما يستلزم الأمور الوجودية فأما العدم المحض فلا مدح فيه ولا ثناء فإن المعدوم المحض لا يثنى عليه ولهذا لا يثني سبحانه وتعالى على نفسه إلا بالصفات الثبوتية أو ما يستلزم ذلك كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (سورة البقرة 255)

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الآية أعظم آية في القرآن كتاب الله وقد وصف نفسه فيها بالصفات الثبوتية وذكر فيها خمسة سلوب. الأول: قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} فإنه يقتضي انفراده بالألوهية وذلك يتضمن انفراده بالربوبية وأن ما سواه عبد له مفتقر إليه وأنه خالق ما سواه ومعبوده وذلك صفة إثبات. الثاني: قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وهذا يتضمن كمال الحياة والقيومية فإن السنة والنوم نقص في الحياة والقيومية والنوم أخ الموت ومن نام لم يمكنه حفظ الأمور فهو سبحانه منزه عن السنة والنوم تنزيها يستلزم كمال حياته وقيوميته والحياة والقيومية من الإثبات. الثالث: قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فإن هذا متضمن أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وهذا يتضمن كمال قدرته وخلقه وربوبيته وأن غيره لا يؤثر فيه بوجه من الوجوه كما يؤثر في المخلوقين من يشفع عندهم فيحملهم على الفعل بعد أن لم يكونوا فاعلين وإنما

الشفاعة عنده بإذنه فهو الذي يأذن للشفيع وهو الذي يجعله شفيعا ثم يقبل شفاعته فلا شريك له ولا عون بوجه من الوجوه وذلك يتضمن كمال القدرة والخلق والربوبية والغنى والصمدية. الرابع: قوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} فإن هذا يقتضي أنه الذي يعلم العباد ما شاء من علمه وأنه لا علم لهم إلا ما علمهم فبين أنه المنفرد بالتعليم والهداية لا يعلم أحد شيئا إن لم يعلمه إياه كما أنه المنفرد بالخلق والإحداث فهو الذي خلق فسوى وهو الذي قدر فهدى وأول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق 1 5) . الخامس: قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي لا يكرثه ولا يثقل عليه وهذا يقتضي كمال القدرة وتمامها وأنه لا تلحقه مشقة ولا حرج ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (سورة ق 38) فإن نفي اللغوب يقتضي كمال قدرته وانتفاء ما يضادها من اللغوب. كذلك قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (سورة الأنعام 103) نفى الإدراك الذي هو الإحاطة وذلك يقتضي كمال عظمته وأنه بحيث لا تدركه الأبصار فهو يدل على أنه إذا رئي لا تدركه الأبصار وهو يقتضي إمكان رؤيته ونفى إدراك الأبصار إياه لا نفي رؤيته فهو دليل على إثبات الرؤية ونفي إحاطة الأبصار به

وهذا يناقض قول النفاة وأما مجرد الرؤية فليست صفة مدح فإن المعدوم لا يرى ولهذا نظائر في القرآن. والمقصود أن المدح والثناء لا يكون إلا في الإثبات فإنه إنما يكون بصفات الكمال والكمال إنما يكون في الأمور الوجودية فأما العدم فلا كمال فيه فمن لم يصفه إلا بالسلوب وقال إنه الوجود المقيد بالسلوب كما قال ابن سينا وأمثاله من الباطنية فهو لم يثبته ولم يجعله موجودا فضلا عن أن يكون موصوفا بالكمال ممدوحا مثنيا عليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الكلام صفة كمال كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر صفة كمال وأن المتكلم أكمل ممن لا يتكلم كما أن الحي أكمل من الجماد ولهذا عاب الله الجمادات المعبودة بأنها لا تتكلم كما في قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} (سورة طه 89) وكذلك قول الخليل: {مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} (سورة الصافات 92) سواء كان المراد بيان أن العابد أكمل من معبوده وهذا ممتنع أو بيان أن المعبود يجب أن يكون متصفا بصفات الكمال. وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من يتكلم بقدرته ومشيئته فهو أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل يكون الكلام المعين لازما لذاته ومن المعلوم أنه من لم يزل متكلما إذا شاء فهو أكمل ممن كان لا يمكنه الكلام ثم صار يمكنه. قال هؤلاء: وكلام السلف والأئمة في هذا الباب متناسب

يصدق بعضه بعضا وهم أطلقوا القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق لما حدثت الجهمية والمعتزلة الذين كانوا يقولون هو مخلوق خلقه مباينا له فذكروا ما يناقض هذا الكلام فقالوا كلام الله غير مخلوق وقالوا منه بدأ وإليه يعود لأن هؤلاء يقولون لم يبتدىء منه وإنما يبتدىء من المحل المخلوق الذي خلق فيه. فقال السلف: "منه بدأ" ردا على هؤلاء وقالوا لو كان مخلوقا منفصلا عنه لم يكن كلاما له بل كان كلاما للمحل الذي خلق فيه فإن الرب لا يتصف بما يخلقه في غيره ولم يقم به كما لا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والطعوم والحركات. والإضافة إليه إضافتان: إضافة صفة وإضافة عبودية فالأول كإضافة ما لا يقوم بنفسه من العلم والكلام ونحو ذلك والثاني كإضافة ما يقوم بنفسه كالعبد والروح والبيت والناقة والأرض ونحو ذلك فإن كانت إضافة الأعيان على وجهين إضافة ملك مجرد وإضافة اختصاص لكونه يعبد فيها أو لغير ذلك كإضافة الناقة والمسجد وغير ذلك. ولهذا قال السلف: "كلام الله من الله وليس من الله شيء مخلوق" وقالوا: "كلامه منه وليس ببائن عنه" كل ذلك ردا على هؤلاء ولم يقل أحد منهم بأن الكلام معنى واحد قائم بالذات هو معنى التوراة والإنجيل ولا قال أحد منهم إن الأصوات التي تكلم الله بها توجد كلها غير متعاقبة توجد معا في آن واحد مقترنة قديمة أزلية وأن الصوت الذي سمعه موسى قديم أزلي لم يزل ولا يزال.

ولا قال أحد منهم: إن الله يتجدد له كونه متكلما بعد أن لم يكن ولم ينكر أحد منهم دوام فعل الله ولا أنه لم يزل متكلما إذا شاء بل قالوا إن الله يتكلم بصوت وأنه ينادي بصوت كما دلت عليه النصوص ولكن لم يقولوا إنه يتكلم بدون قدرته ومشيئته بل نطق بهذا غير واحد منهم كالإمام أحمد وغيره وسائرهم يقرون بذلك. وقد احتج كثير منهم كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والبويطي صاحب الشافعي وغيرهم على أن القرآن غير مخلوق بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس 82) فلو كان كن مخلوقة لزم أن لا يوجد شيء من المخلوقات لأن كن تكون مخلوقة بكن أخرى وهلم جرا فلا يوجد شيء. وقد يظن بعض من لم يفهم غور كلامهم وحقائق الأمور أن هذا منهم استدلال بإبطال التسلسل مطلقا وأن ذلك يناقض دوام كونه لم يزل متكلما إذا شاء وأن هذا تناقض منهم وليس الأمر كذلك بل التسلسل نوعان تسلسل في المؤثرات وهذا باطل بالاتفاق وتسلسل في الآثار المفعولات فهذا فيه نزاع فكثير من النظار يجيزه وكثير منهم لا يجيزه وكلام الأئمة مبني على قول من أجازه وفرق بين النوعين. وذلك أن التسلسل في المؤثرات يقتضي أن لا يوجد شيء كما تقدم فإنه إذا لم يكن يوجد هذا حتى يوجد شيء آخر ولا يوجد الشيء الآخر حتى يوجد شيء آخر وهلم جرا فإنه يقتضي تقدير أشياء كلها حادثة بعد العدم مفتقرة إلى من يوجدها وليس فيها من يوجد شيئا بنفسه ولا موجود بنفسه.

ومعلوم أنه إذا لم يكن فيها موجود بنفسه لم تكن الجملة موجودة بنفسها بطريق الأولى فإن الجملة مفتقرة إلى كل واحد من الآحاد فإذا كان كل من الآحاد فقيرا ممكنا لا يوجد بنفسه فالمفتقر إليه أولى بالفقر وأولى ألا يكون موجودا بنفسه. وتسلسل المفتقرات والمعدومات يقتضي كثرة المعدومات بل هذا تسلسل ممتنعات فإن ما لا يوجد حتى يوجد ما لا يوجد ممتنع وتقدير أمور كلها مفعولات ليس فيها غير مفعول مع أنه ليس لها فاعل مباين لها ممتنع ضرورة وكثرة الممتنعات المفتقرات لا تقتضي إمكان شيء منها فضلا عن وجوده. والتسلسل في أصل تمام التأثير كالتسلسل في أصل التأثير والفاعل لا بد أن يكون حيا عالما قادرا مريدا فاعلا بنفسه فلا يجوز أن يقال لا يصير فاعلا لشيء حتى يجعله شيء آخر فاعلا وذلك الآخر لا يصير فاعلا حتى يجعله شيء آخر فاعلا إلى غير نهاية بل لا بد من إثبات فاعل بنفسه لم يجعله غيره فهو مثل أن يقال لا يوجد حتى يوجد ولا يجوز أن يقال لا يفعل شيئا حتى يعلم ولا يعلم حتى يعلمه غيره وذلك الغير لا يعلم حتى يعلمه غيره إلى غير نهاية بل لا بد من عالم بنفسه ولا يجوز أن يقال لا يقدر حتى يقدره غيره وذلك الغير لا يقدر حتى يقدره غيره إلى غير نهاية بل لا بد من قادر بنفسه. وكذلك إذ قيل لا يكون فاعلا حتى يكون فاعلا ولا يكون عالما أصلا حتى يكون عالما ولا يكون قادرا أصلا حتى يكون قادرا فإذا

قال: لا يؤثر حتى يصير مؤثرا ولا يصير مؤثرا حتى يصير مؤثرا لم يصر مؤثرا بحال. وأما إذا قيل: لا يكون مؤثرا في هذا حتى يؤثر في شيء آخر ولا يكون مؤثرا في ذلك الشيء حتى يكون مؤثرا في شيء قبله فهذا تسلسل في الآثار والتأثيرات المتعاقبة ليس هو تسلسلا في نفس أصل كونه مؤثرا فالتأثير الثاني ليس موقوفا على كون المؤثر في نفسه مؤثرا فإنه مؤثر بنفسه بل على حدوث تأثير قبل هذا التأثير فيلزم وجود تأثيرات متعاقبة فإن كان المؤثر مؤثرا في نفسه جاز ذلك. ومعنى ذلك أن الرب تعالى لا يتوقف كونه خالقا على غيره أصلا وأما كونه خالقا لهذا فقد يكون مشروطا بخلقه لغيره فالتسلسل في التأثيرات المعينة تسلسل في الآثار. وأما التسلسل في أصل الخلق فهو تسلسل في أصل التأثير وذلك ممتنع بخلاف التأثيرات المتعاقبة لآثار متعاقبة وأن كل تأثير في غير ما أثر فيه الأول وهذا تسلسل في الآثار وفي التأثيرات هي آثار لغيرها ليس تسلسلا في نفس أصل التأثير فإنه مؤثر بنفسه والممتنع هو أن لا يصير الشيء مؤثرا حتى يصير مؤثرا ولا يصير خالقا حتى يصير خالقا. وبهذا احتج أئمة السنة رضي الله عنهم فإن الله قد قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة النحل 40) وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس 82)

وقال: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة البقرة 117) . فهذا يقتضي أنه إذا أراد شيئا فإنما أمره أن يقول له كن فيكون وقوله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} عام في ما يريده وهو لم يخلق شيئا إلا وقد أراده فاقتضى هذا انه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن فلو كانت كن مخلوقة لكانت مخلوقة بكن أخرى وكذلك الثانية مخلوقة بكن أخرى وهلم جرا فيلزم ألا يخلق شيئا لأنه لا يصير خالقا لشيء حتى يخلق كن أخرى ولا يخلق كن حتى يخلق كن فلزم التسلسل في كونه خالقا وهو تسلسل في أصل التأثير وفي أصل كون المؤثر مؤثرا وهو تسلسل في أصل الخلق كالتسلسل في ذات الخالق. فإذا قدر ذلك لزم أن لا يصير خالقا بحال كما إذا قيل لا يصير قادرا حتى يقدر أن يصير قادرا ولا يقدر أن يصير قادرا حتى يقدر أن يقدر أن يصير قادرا أو قيل لا يخلق شيئا حتى يجعل نفسه خالقا ولا يجعل نفسه خالقا حتى يخلق شيئا فإن هذا ممتنع. وهذا بخلاف ما إذا قيل لا يخلق هذا حتى يخلق هذا ففرق بين أن يقال لا يخلق شيئا بحال حتى يخلق هذا أو لا يخلق شيئا بحال حتى يخلق ما به يصير خالقا وبين أن يقال لا يخلق هذا حتى يخلق هذا فالأول ممتنع بالاتفاق وأما الثاني ففيه نزاع بل يجب أن يكون خالقا بنفسه لا يتوقف كونه خالقا على كونه خالقا وإن توقف كونه خالقا لهذا على كونه خالقا لهذا فلما دل القرآن على أن قوله كن مما يخلق بها جميع المراد كانت من تمام الخلق فلم يجز أن تكون مخلوقة.

وأيضا فإذا كانت مخلوقة فلا بد أن تخلق في محل ومحلها مخلوق قبلها وظاهر القرآن يخالف. ذلك ولهذا زعم أبو الهذيل العلاف أنها مخلوقة لا في محل وأما ما يقوم بالرب تعالى من صفاته وأفعاله فليس مخلوقاته على طريقة الجمهور الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق سواء قالوا إن عين الخلق قديم أو قالوا إنه حادث العين أو قالوا إنه حادث الأعيان وإن قدم نوعه. وهذان القائلان يجعلان خلقه متعلقا بمشيئته وقدرته فإن هؤلاء كلهم خلقه عندهم وما يقوم بذاته من أفعاله ليس مخلوقا سواء قالوا إنه متعلق بمشيئته وقدرته أو قالوا إنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته فإنه كما أن قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (سورة الزمر 62) لم يدخل فيه الخالق نفسه فلم يدخل فيه ما هو داخل على مسمى الخالق وهو ما قام به من صفاته وأفعاله. والمحتجون بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق لهم قولان والنزاع في ذلك في جميع الطوائف بين أصحاب أحمد وبين أصحاب الشافعي وبين أصحاب مالك وغيرهم فالذين يقولون إن كن المعينة قديمة إما بلفظها ومعناها كما يقوله الاقترانية وإما بمعناها دون لفظها كما يقوله الاتحادية فإنهم ألزموهم أن الله تعالى قال: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وأنه قال فيكون وهذا يقتضي أن يكون عقب قوله: "كن". وأما الذين يقولون إنه يقول كن بقدرته ومشيئته ويقول: كن

بعد كن فهؤلاء لا يرد عليهم هذا السؤال كما يقول ذلك أكثر الذين قالوا إن القرآن غير مخلوق من أهل الحديث وأهل الكلام والفقهاء. وعلى هذا فإذا قيل الحروف غير مخلوقة حروف المعجم كان صحيحا بمعنى النوع لا بمعنى أن الحرف المعين القائم بالشخص المعين في الزمن المعين غير مخلوق فنوع الحروف قديم وإن لم يكن المعين قديما وهكذا يقال في لوازم ذلك. قال هؤلاء المتبعون للسلف والأئمة: فقد تبين بالمعقول المطابق للمنقول أن كلا الطائفتين مخطئة الذين قالوا بقدم العالم ولزومه للرب وانتفاء صفاته وأفعاله والذين قالوا بأن الرب لا يقوم به صفة ولا فعل ولا كلام وادعوا حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال بناء على طريقة حدوث الجسم لامتناع حوادث لا أول لها. قالوا: ولهذا قال هؤلاء بتعطيل الرب في المستقبل كما قالوا بتعطيله في الماضي فادعوا فناء العالم كله أو فناء حركاته وأنه يبقى الرب بلا فعل أصلا كما ادعى ذلك الجهم وأتباعه وأبو الهذيل وأتباعه. وآخرون يقولون: إن الله يفني العالم كله ثم يعيده ويدعون أن القيامة التي أخبرت بها الرسل هي فناء العالم كله ثم إعادته وهم متنازعون في فنائه هل يجب عقلا أو يجوز عقلا وإذا جاز عقلا فهل يجب سمعا أو يجوز سمعا؟ ومن المعلوم أن القرآن لم يخبر بفناء العالم في المستقبل قط كما لم يخبر بأن الله خلق السموات والأرض من غير شيء بل أخبر سبحانه

وتعالى بخلق السموات والأرض كما أخبر بخلق الإنسان والجن وغير ذلك من المخلوقات وأخبر أنه خالق كل شيء. قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (سورة السجدة 7: 8) . وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة آل عمران 59) . وقال تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (سورة الرحمن 14 15) . وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (سورة ص 71 72) . وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (سورة طه 55) . وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (سورة المؤمنون 12 13) . وفي الصحيح عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم".

فالله سبحانه قد أخبر بخلق الإنسان الذي هو آدم وبخلق ذريته شيئا بعد شيء في غير آية وأخبر أن ذلك مخلوق من غيره فالأصل مخلوق من الطين من التراب والماء ثم جعل صلصالا فيبس وجف وذلك بالهواء. ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حسب ابن آدم أكيلات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس" وأخبر أنه خلق الجن من النار وأنه خلق الملائكة من النور ولم يذكر أنه خلق هذه الأصناف لا من شيء. وكذلك أخبر عن خلق السموات والأرض فقال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (سورة فصلت 9 10) قالوا الجميع في أربعة أيام: {ثم استوى إلى السماء} : الدنيا {وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ

فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (سورة فصلت 11 12) فأخبر أنه استوى إلى السماء وهي دخان قيل هو البخار الذي تصاعد من الماء الذي كان عليه العرش فإن البخار نوع من الدخان. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة البقرة 29) . وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة هود 7) فأخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه كان عرشه على الماء. وفي صحيح البخاري والمسند وغيرهما عن عمران بن حصين أن بني تميم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا فتغير وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم جاء أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قد قبلنا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر؟ فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض" وفي لفظ "ولم يكن شيء غيره" وفي لفظ آخر "ولم يكن معه شيء". لكن الظاهر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل إلا واحدة والأخريتان رويتا

بالمعنى فإن المجلس كان واحدا لم يتكرر ليقال: إنه قال كل لفظ في مجلس ولو كرر الألفاظ لذكر ذلك عمران. ومثل هذا يقع كثيرا في الحديث كقوله في حديث المرأة التي عرضت نفسها عليه: "أنكحتكها بما معك من القرآن" وفي رواية أخرى "زوجتكها" وفي أخرى "أملكتها"

واللفظ الأول مطابق لما رواه مسلم في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: "اللهم رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوارة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر". فقوله: "أنت الأول فليس قبلك شيء" مطابق لقوله: " كان الله ولم يكن شيء قبله" والحديث دل بأنه كان عرشه على الماء وأنه كتب في الذكر كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض. وهكذا جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" فأخبر في

هذا الحديث الصحيح بما يوافق ذلك الحديث الصحيح أيضا أنه قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض حين كان عرشه على الماء وكلاهما يوافق القرآن. وفي حديث أبي رزين العقيلي الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما أنه قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: "كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق العرش" فأخبر في هذا الحديث أنه خلق العرش كما أخبر في غير موضع من القرآن أنه رب العرش وكما دخل العرش في قوله خالق كل شيء ولم يدخل في خلق السموات والأرض في ستة أيام بل كان مخلوقا قبل ذلك.

الصحيح أن العرش خلق قبل القلم

وقد تنازع السلف هل خلق العرش أولا أو القلم؟ على قولين حكاهما الحافظ أبو نعيم العلاء الهمداني وغيره أصحهما أن العرش أولا ومن قال إن القلم خلق أولا احتج بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه وغيره عن عبادة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أول ما خلق الله القلم قال له:

اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة". وقد روى عن ابن عباس من عدة أوجه أول ما خلق الله القلم فهذه الأحاديث هي المعروفة عند أهل العلم بالحديث وأما ما يروى " أول ما خلق الله العقل قال أقبل فأقبل" فهو موضوع وبتقدير صحته فلفظه أول ما خلق قال له فليس في شيء من العلم المنقول عن الأنبياء لا عن نبينا ولا عن غيره أن العقل أول المخلوقات كما يقول ذلك المتفلسفة ومن أخذ ذلك عنهم من متكلم ومتصوف وغيره. ومن زعم أن العقل يسمى قلما لأنه ينقش العلوم في لوح النفس وسمى النفس لوحا فأول ما في هذا أن هذا يعلم بالإضطرار أنه ليس من لغة العرب ولا قاله أحد من مفسري القرآن والحديث ثم يقال: قد

أخبر أنه كتب ما يكون إلى يوم القيامة فقط وعندهم هو المبدع للعالم كله وهو رب كل شيء بعد الأول وأيضا فإنه أخبر انه قدر ذلك وكتبه قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأنه بعد أن كتب في الذكر كل شيء خلق السموات والأرض وعندهم أنه ومفعوله قديمان أزليان وأنه لم تزل معه السموات والأرض وأنها متولدة عنه معلولة لم تتأخر عنه لحظة فضلا عن خمسين ألف سنة. وأيضا فالعقل الأول عندهم تولد عنه العقل الثاني والنفس والفلك وإبداع العقل أعظم من إبداعه للنفس والفلك وإبداعه لذلك أعظم من مجرد نقشه في النفس والنفس الفلكية جمهورهم يقولون إنها عرض في الفلك ولكن ابن سينا وطائفة قليلة يقولون إنها جوهر قائم بنفسه فكيف يعبر عن العقل الأول بأضعف أفعاله ولا يعبر عنه بأجل أفعاله وأعظمها وإن شاع هذا شاع تسمية الواجب بنفسه قلما أيضا لأنه علم العقل الأول ما يعلمه للنفس. وأيضا فهم يقولون: إن العقول هي الملائكة التي أخبرت بها الرسل فإذا كانت العقول تسمى أقلاما لنقشها العلم في النفوس فالملائكة تسمى أقلاما ومن قال إن الملائكة هي أقلام فهو أخس من بهيمة الأنعام وكذلك ينبغي أن يسمى كل معلم قلما وهذا ليس لي لغة العرب لا حقيقة ولا مجازا. وأيضا فإنه قد قال في القلم: "اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"

وهذا إشارة إلى كتابة ما في هذا العالم الكائن إلى يوم القيامة لا كتابة ما يكون بعد ذلك. ودلائل فساد قول هؤلاء كثيرة وإذا عرف بطلان قولهم بقي القولان اللذان للمسلمين وإنما قولنا الصحيح أن العرش خلق أولا لأن ذلك ثبت في الحديث الصحيح رواه مسلم في صحيحه "أنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء" فهذا يدل على أنه قدر إذ كان عرشه على الماء فكان العرش موجودا مخلوقا عند التقدير لم يوجد بعده. وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: " كان الله ولا شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء" وفي رواية "ثم كتب في الذكر كل شيء" فهو أيضا دليل على أن الكتابة في الذكر كانت والعرش على الماء. وأما الحديث الذي فيه أول ما خلق الله القلم وأنه أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فذلك بيان لخلق العالم الذي خلقه في ستة أيام وأن تقدير هذا العالم كان قبل خلقه وأنه أول ما خلق من أسباب هذا العالم القلم لأن تقدير المخلوق سابق لخلق المخلوق. وهذا ذكر فيه انه كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمقدر به هو المخلوق الذي خلق القلم قبله ولم يذكر فيه تقدير جميع المخلوقات

الكائنة بعد القيامة فلم يجب أن يكون متقدما على غيره هذه المقدرات المخلوقة مما خلق قبل ذلك. وقد جاءت الآثار المتعددة عن الصحابة والتابعين وغيرهم بأن الله سبحانه لما كان عرشه على الماء خلق السماء من بخار الماء وأيبس الأرض وهكذا في أول التوراة الإخبار بأن الماء كان موجودا وأن الريح كانت ترف عليه وأن الله خلق من ذلك الماء السماء والأرض فهذه الأخبار الثابتة عن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب والسنة مطابقة لما عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى مما في التوراة وكل ذلك يصدق بعضه بعضا ويخبر أن الله خلق هذا العالم سمواته وأرضه في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كان قبل ذلك مخلوقات كالماء والعرش فليس في إخبار الله تعالى أن السموات والأرض أبدعتا من غير شيء ولا أنه لم يكن قبلها شيء من المخلوقات. وقد أخبر الله في غير موضع أنه خالق كل شيء وأنه رب كل شيء وهذا يناقض قول من يقول إنه موجب بذاته لهذا العالم وأنه معلول له فإن خلق الشيء يتضمن إحداثه ولم يقل أحد من أهل لغة العرب أن الشيء يكون محدثا ويكون قديما أزليا وكونه مخلوقا قديما أزليا أبعد في لغتهم من ذلك فإن الناس متفقون على أن كل مخلوق حادث ومحدث وأنه يسمى في اللغة حادث ومحدث ومتنازعون في أن كل حادث ومحدث هل يكون مخلوقا؟

عودة إلى الكلام في مسألة كلام الله وإفعال الله

ولم أعلم أنهم نقلوا أنه يجب أن يسمى في اللغة مخلوقا وإنما النزاع بينهم في ذلك نزاع عقلي ومن هنا نشأ الاضطراب بين الناس في مسألة كلام الله ومسألة أفعال الله فصاروا يحملون ما يسمعونه من الكلام على عرفهم فغلط كثير منهم في فهم كلام السلف والأئمة بل وفي فهم كلام الله ورسوله والواجب على من أراد أن يعرف مراد المتكلم أن يرجع إلى لغته وعادته التي يخاطب بها لا نفسر مراده بما اعتاده هو من الخطاب فما أكثر ما دخل من الغلط في ذلك على من لا يكون خبيرا بمقصود المتكلم ولغته. كما أصاب كثيرا من الناس في قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (سورة الأنبياء 2) فإنهم ظنوا أن المحدث والقديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المحدث والقديم في اصطلاح المتكلمين هو ما لا أول لوجوده وما لم يسبقه عدم فكل ما كان بعد العدم فهو عندهم محدث وكل ما كان لوجوده ابتداء فهو عندهم محدث ثم تنازعوا فيما تقدم على غيره هل يسمى قديما حقيقة أو مجازا؟ على قولين لهم. وأما اللغة التي نزل بها القرآن فالقديم فيها خلاف المحدث وهما من الأمور النسبية فالشيء المتقدم على غيره قديم بالنسبة إلى ذلك المحدث والمتأخر محدث بالنسبة إلى ذلك القديم وإن كانا كلاهما محدثين بالنسبة إلى من تقدمهما وقديمين بالنسبة إلى من تقدماه ولم يوجد في لغة القرآن لفظ القديم مستعملا إلا فيما يقدم على غيره وإن كان موجودا بعد عدمه لكن ما لم يزل موجودا هو أحق بالقدم.

وقد تنازع الناس في القديم هل يجعل من أسماء الله؟ فذهب طائفة كابن حزم إلى أنه لا يسمى قديما بناء على أن الأسماء توقيفية ولم يثبت هذا الاسم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمقصود أنه مستعمل في القرآن فيما تقدم على غيره كقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (سورة يس 39) وقوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} (سورة يوسف 95) وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (سورة الأحقاف 11) وقوله عن إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} (سورة الشعراء 75 76) فالمحدث يقابل هذا القديم. وكان القرآن ينزل شيئا فشيئا فما تقدم نزوله فهو متقدم على ما تأخر نزوله وما تأخر نزوله محدث بالنسبة إلى ذلك المتقدم ولهذا قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (سورة الأنبياء 2) فدل أن الذكر منه محدث ومنه ما ليس بمحدث. والذكر كله مخلوق ومحدث مسبوق بالعدم عند القائلين بأن القرآن وغيره من كلام الله مخلوق أو هو كله مخلوق مسبوق بعدم وإن لم نقل مخلوق فلا يكون للتخصيص عندهم معنى لكن يبقى أن يقال فإذا كان موصوفا بالحدوث الأخص وهو تقدم غيره عليه فالحدوث الأعم وهو كونه مسبوقا بالعدم لازم لهذا ولكن هذا لا يقتضي أن يكون نوع الذكر كذلك كما قد عرف. وهكذا فهم كثير من الناس لكلام السلف والأئمة في القرآن

فإنه اشتهر أن السلف كانوا يقولون: "القرآن غير مخلوق" وكانت المعتزلة والكلابية ومن وافقهم من أهل الحديث والفقه والتصوف ليس عندهم إلا قديم أو مخلوق فالرب قديم إما بدون الصفات عند المعتزلة وإما بصفاته عند الكلابية وما سوى ذلك مخلوق منفصل عن الله كائن بعد أن لم يكن. فصار هؤلاء يعتقدون أن من قال القرآن غير مخلوق فمراده أنه قدم لازم لذات الله وأنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولا يجوز أن يقال يقدر أن يتكلم أو أنه يتكلم بمشيئته وهذا أحد قولي أبي حنيفة وأحمد والشافعي ومالك وغيرهم. وقد حكى القولين عن أصحاب أحمد أبو بكر عبد العزيز في كتابه وأبو عبد الله بن حامد في أصوله والقول الثاني وهو قول جمهور أهل الحديث وأئمة السنة وطوائف من أهل الكلام من

الهشامية والكرامية وأبي معاذ وزهير الأثري وطوائف من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة ومذهب داود بن علي وغيرهم فهؤلاء يقولون ثم قسم ثالث ليس بمخلوق منفصل عن الله وليس بقديم العين وإن كان نوعه قديما وقد يقال في الشيء إنه قديم بمعنى أنه لم يزل شيئا بعد شيء وقد يقال قديم بمعنى أنه موجود بعينه في الأزل. ولما صارت المعتزلة والكلابية ومن وافقهما لا يعتقدون أنه ليس هنا إلا قولان أنه قديم ومخلوق وأنه لا موجود إلا قديم بعينه لم تزل عينه أو مخلوق منفصل عن الله طال النزاع في مسألة القرآن وصارت الخلقية يحتجون بما يدل على أن القرآن متعلق بمشيئة الله وقدرته وأن الكلام مستلزم لفعل المتكلم ويحتجون بما يدل على أن الكلام فعل وأنه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يقول كلاما متعلقا بالأوقات كقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} (سورة طه 116) وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} (سورة الزخرف 3) وقوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (سورة هود 1) .

وما يدل على أنه متكلم بكلام بعد كلام كقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة آل عمران 59) وأمثال ذلك. ومنازعوهم يحتجون بما يدل على أنه وصف لله قائم بذات الله وأنه يمتنع أن لا يكون كلامه إلا ما خلقه في غيره وأنه لو كان الكلام مخلوقا لم يختص بالإضافة إليه إضافة قول بل يضاف إليه كما يضاف إليه سائر المخلوقات وأنه يلزم أن يكون ما خلقه من الكلام في غيره كلاما له وهو خالق كل شيء فكل كلام كلامه وأن يكون ما خلقه من الأصوات صوتا له وأن الكلام لا يوصف به إلا من قام به كما لا يوصف بالعلم والحياة والحركة إلا من قام به ذلك. ويقول هؤلاء: الكلام من صفات الذات ليس من صفات الفعل وأما الجمهور من أهل الحديث والكلام والفقه والتصوف وغيرهم فيقولون مدلول الأدلة الصحيحة من الجانبين صحيحة ولا تناقض بينهما ولا منافاة بين كونه صفة ذات وصفة فعل فإن الأقسام ثلاثة: أحدها: ما توصف به الذات مع عدم تعلق القدرة والمشيئة به كالحياة. والثاني: ما يكون مخلوقا بائنا عن الله فهذه هي المفعولات والصنفان الأولان يقول أكثرهم هذه هي الأفعال ولا يفرقون بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق وبعضهم يفرق مع قوله أنه ما ثم إلا قديم أو مخلوق فيجعل التكوين صفة قديمة كما يقول ذلك غيره في الإرادة

وهذا قول كثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد والشافعي وغيرهم. والثالث: ما يقوم بذات الرب مع كونه بقدرته ومشيئته فهذا في الصفات الذاتية لقيامة بالذات وهو من الفعلية لتعلقه بالمشيئة والقدرة والكلام عند الصنف الثالث من هذا الضرب. فإذا عرف منشأ اضطراب الناس نقلا وعقلا في كلام الله فكذلك في أفعاله فإن الذين لم يجعلوا الأمر إلا نوعين قديما بعينه أو مخلوقا منفصلا عنه من المعتزلة ونحوهم وقد علموا أن الله خالق كل شيء صاروا يفهمون من كون الله خالق كل شيء أن الله بقي معطلا من الفعل أو من الفعل والكلام تعطيلا أزليا قديما لا أول له ثم فعل أو تكلم بدون سبب اقتضى ذلك أصلا ثم يقول كثير منهم وهكذا يصير معطلا في الأبد لا يفعل شيئا ولا يتكلم فكان لا يفعل ولا يتكلم ثم يصير لا يتكلم ولا يفعل شيئا وإنما المدة التي تكلم فيها وعمل مدة محدودة الطرفين ويجعلون هذا هو دين الرسل الذي جاءت به الكتب وبعثت به الرسل ويترجمون عما جاءت به الرسل بعباراتهم بحسب فهمهم فيقولون العالم محدث والعالم ما سوى الله. ومعنى ذلك أن الله لم يزل معطلا عن الفعل والكلام حتى أحدث العالم بلا سبب أصلا بل نفس القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح أصلا كالجائع إذا قدم له رغيفان والهارب إذا عن له

طريقان فطمع المناظرون لهم في قدم العالم من الدهرية من اليونان أتباع أرسطو وغيرهم واعتقدوا أنهم إذا أثبتوا امتناع حدوث العالم بعد دوام التعطيل الذاتي فقد قطعوا هؤلاء وأثبتوا قدم العالم وقدم هذه الأفلاك كما هو قول أرسطو. ويقول ابن سينا: "العقل الصريح الذي لم يكذب قط يعلم أنا إذا فرضنا ذاتا معطلة كانت لا تفعل ثم فعلت بعد أن لم تفعل فلا بد من حدوث شيء إما قدرة وإما إرادة وإما سبب ما وأما إذا كانت لا تفعل ثم حال أن تفعل كحال أن لا تفعل لزم أن لا تفعل والتقدير أنها فعلت فلزم الجمع بين النقيضين وإنما لزم الجمع لأنا فرضنا ذاتا معطلة عن الفعل فإذا كان هذا باطلا فنقيضه حق. ولكن هذا لا يفيد قدم العالم ولا قدم شيء من العالم ولا قدم فعل بعينه ولا مفعول بعينه بل هذا بعينه يدل على امتناع قدم شيء من العالم وإن قدر أفعال متعاقبة فإنه إذا كان حال الذات فيما لا يزال كحالها في الأزل ولم تختلف لزم أن لا يحدث عنها هذا الحادث المعين لأنها كانت وهذا الحادث لم يحدث وهي الآن على ما كانت عليه فيلزم أن لا يحدث هذا الحادث. وإذا قيل: تجدد في العالم أمور جعلت هذا مستعدا للفعل. قيل: والكلام في ذلك المتجدد كالكلام في غيره يمتنع أن يتجدد عن ذات حالها عند التجدد وقبل التجدد شيء سواء تجدد بواسطة أو بغير واسطة فإن الحادث يقتضي حصوله كمال التأثير وقت

إحداثه والقول في حدوث تمام ذلك التأثير كالقول في ذلك الأثر الحادث فلا بد أن ينتهي إلى المؤثر الأول إنه تجدد له حال يوجب كمال التأثير حال حدوث كل أثر وإن كان كمال حدوث التأثير بذاته وإن كانت ذاته اقتضت أن تفعل شيئا بعد شيء فهي التي تكون بنفسها فاعلة لهذا ثم لهذا ثم لهذا ليس غيرها يجعلها فاعلا فإن ذلك الغير هو من مفعولاتها فهي التي جعلته مفعولا فما ثم إلا الفاعل ومفعولاته ولا شيء من مفعولاته إلا منه. فهذا ممكن في العقل بخلاف ما إذا قيل إنه دائما يحدث الأنواع المختلفة الحادثة وحاله حين جدد هذا كحاله قبل ذلك فإن هذا إن جاز جاز أن لا يكون فاعلا ثم يصير فاعلا له من غير تجدد شيء فإن امتنع أن يفعل بعد أن لم يفعل من غير تجدد شيء امتنع أن يفعل هذا بعد أن لم يكن فاعلا له من غير تجدد شيء فهم أنكروا على خصومهم حدوث حادث عن القديم بلا سبب حادث وقولهم يستلزم أن جميع الحوادث المتعاقبة المختلفة تحدث عن القديم بدون سبب حادث سواء قالوا إنها تحدث بواسطة العقل وبدون واسطة العقل فإن العقل عندهم لازم لذاته لا يحدث فيه شيء من الحوادث أصلا. فتبين أن قولهم الذي فروا إليه أشد بطلانا وتناقضا من قول خصومهم الذي فروا منه يبين ذلك أن حدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه بلا حدوث سبب إن كان ممكنا كان قول منازعيهم ممكنا وبطلت حجتهم على قدم شيء من العالم وإن كان ممتنعا كان قولهم أشد بطلانا من قول منازعيهم.

فتبين فساد قولهم على تقدير النقيضين فيكون فاسدا في نفس الأمر قطعا وذلك انه إذا لم يمكن حدوث حادث من القديم الواجب إلا بحدوث سبب أو حال للمحدث والتقدير عندهم أن القديم الواجب بنفسه لا يقوم به شيء من الأمور الاختيارية ولا يحدث له حال أصلا بل حاله قبل إحداث المعين وبعده سواء فحينئذ لا يكون محدثا لشيء من الحوادث لا بوسط ولا بغير وسط فيلزم حدوث الحوادث بغير محدث. وهم يعتذرون في هذا الموضع بأن يقولوا الواجب لنفسه الذي يسمونه العلة الأولى والمبدأ عام الفيض دائما ولكن حدوث الحوادث عنه يتوقف على حدوث الاستعدادات والقوابل فإذا حدثت حدث عنه الفيض كما يقولون مثل ذلك في العقل الفعال فيقولون إن فيضه على ما تحت الفلك عام ولكن يتوقف ذلك على حدوث الاستعدادات والقوابل بامتزاج الأجسام الحاصل عن حركات الأفلاك واتصالات الكواكب. وهذا الاعتذار من أعظم الخطأ والكلام الباطل لوجهين: أحدهما أن العقل الفعال عندهم ليس هو علة تامة لحدوث ما يفيض عنه ولا فاعلا مستقلا بل حدوث الفيض عنه يتوقف على حوادث تحدث من غيره فكأن له شريكا في الفيض فلهذا يتوقف فيضه

على ما يحدث عن مشاركيه وأما الواجب بنفسه الذي يسمونه العلة الأولى والمبدأ الأول فلا يتوقف فيضه على غير ذاته ولا له شريك غني عنه بل كل ما سواه صادر عنه ومفعول له وهم يسمونه معلولا له وموجبا له ونحو ذلك فلم يجز أن يكون فيض الرب تعالى موقوفا على حدوث حادث من غيره كما جاز مثل ذلك في العقل الفعال عندهم والتمثيل بالعقل الفعال على أصلهم. وأما المسلمون فلا حقيقة عندهم للعقل الفعال بل التمثيل يحصل بالشمس فإنها إذا ظهرت كان نورها وحرارتها عامة وإن توقف ذلك على حدوث استعدادات وقوابل فإذا كان هناك سقف أو سحاب يمنع فيض ضوئها وحرارتها ثم زال ذلك المانع حدث الضوء والحرارة بدون تجدد فعل في ذاتها وإنما هو لحدوث حادث في غيرها. الثاني: أن يقال الواجب بنفسه القديم رب العالمين الذي يسمونه العلة الأولى والمبدأ الأول إما أن يكون علة تامة في الأزل بنفسه أي مقتضيا وموجبا بنفسه كما يدعونه وإما أن يتوقف إيجابه على غيره فإن كان الأول لزم أن يقترن به جميع موجبه ومقتضاه في الأزل فيكون جميع معلولاته أزلية وكل واحد من الحوادث ليس أزليا فلا يكون شيء منها من معلولاته فلا يكون شيء منها حادث عنه لا بسوط ولا غيره فيلزم أن لا محدث لها بحال إذ ليس هناك واجب قديم غيره يكون مبدأ للحوادث وعلة لها بوسط أو بغير وسط. وإن قيل: يتوقف إيجابه على غيره لزم أن لا يكون علة تامة فلا

يقارنه شيء من المعلولات في الأزل هذا يبطل قولهم ويقتضي امتناع قدم شيء من العالم. وأيضا فإن إيجابه إذا كان متوقفا على غيره كان ذلك مستلزما للدور القبلي وللتسلسل في المؤثرات وكلاهما باطل باتفاق العقلاء فإن ذلك الغير إن كان معلولا له لزم الدور القبلي وإن لم يكن معلولا له لزم التسلسل في المؤثرات فإن تأثيره حينئذ يكون موقوفا على ذلك الغير وذلك الغير إن كان ممكنا فلا بد له من واجب والقول فيه كالقول في الأول وإن كان واجبا بنفسه لزم توقف تأثير كل من الواجبين على تأثير الآخر فلا يكون هذا مؤثرا حتى يجعله الآخر مؤثرا وكذلك بالعكس فلا يكون كل واحد منهما مؤثرا وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا بيان أن قولهم أشد بطلانا من قول منازعيهم وأن الأصل الذي بنوا عليه حجتهم وهم أن المؤثر التام لا بد أن يقارنه الأثر والأثر لا بد أن يقارنه المؤثر التام هو نفسه يبطل حجتهم ومذهبهم فإنه يقتضي أن المؤثر التام لم يكن تاما مؤثرا لشيء من الحوادث إلا حين حدوثه. وحينئذ فقبل ذلك لم يكن مؤثرا تاما ثم صار مؤثرا فانتقل من عدم التأثير إلى وجود التأثير من غير تغير منه ولا حدوث شيء عنه أصلا عندهم فإنهم إذا قالوا حركات الأفلاك هي شرط في التأثير أو قالوا تصورات النفس الفلكية وإراداتها الحادثة هي الشرط في التأثير أو قالوا كل حادث شرط لما بعده كان هذا باطلا من وجbهين:

أحدهما: أن القول في حدوث تلك الحوادث من الحركات والإرادات والتصورات كالقول فيما حدث عنها فلا يكون مؤثرا تاما فيها حتى يحدث له ما به يصير مؤثرا تاما وهو لا يحدث فيه شيء من الحوادث عندهم فلا يكون مؤثرا تاما في حال من الأحوال لشيء من الحوادث. الثاني: أن يقال الحادث الأول لا يجوز أن يكون هو الذي به صار المؤثر تاما فيما بعده من الحوادث فإن تمام المؤثر لا بد أن يكون موجودا عند وجود الأثر سواء سمي شرطا أو جزءا أو عدم مانع أو غير ذلك من الأسماء لأن التقدير أن العلة التامة يقارنها معلولها وأن الأثر يقارنه المؤثر التام فلو قدر وجود بعض ما به يتم المؤثر قبل وجود الأثر وعدمه عند وجود الأثر للزم أن لا يكون المؤثر التام موجودا عند وجود الأثر وأن لا يكون الأثر موجودا عند وجود المؤثر التام بل يكون موجودا عند عدم بعض ما به يتم المؤثر. والتقدير خلاف ذلك ولهذا وجب وجود العلة التامة عند وجود المعلول وإن شئت قلت والفاعل التام عند وجود المفعول وإن شئت المؤثر التام عن وجود الأثر. فإن قيل: يمكن أن يكون تأثير القديم في الثاني مشروط بعدم الأول وعدم الأول مقارن لحدوث الثاني لا يكون الشرط مجرد حدوث الأول كما يقول من يقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء وفاعلا بمشيئته شيئا بعد شيء.

فنقول: إن نفس ذاته هي المؤثرة في كل واحد واحد من تلك الأقوال والأفعال لكن تأثيرها في الثاني مشروط بعدم الأول. وإلا فلو قيل: إن الحادث الثاني يجب أن يحدث عند حدوثه أمر وجودي يلزم التسلسل في تمام التأثير وذلك من التسلسل في التأثير وهو ممتنع فإنه إذا كان ذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث عند حدوثه حادث وهذا أيضا يحدث عند حدوثه حادث لزم التسلسل في تمام أسباب ومسببات إلى غير نهاية وذلك ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء كما يمتنع أن يكون لهذا المحدث محدث ولهذا محدث إلى غير نهاية فلا بد أن تكون الحوادث صادرة عن قديم ويكون حدوث الثاني مشروطا بعدم الأول فيكون بما في المؤثر الحادث عدم الأول والمؤثر القديم يحدث هذا بعد هذا وحدوث الثاني مشروط بعدم الأول. قيل: هذا الذي ذكر يجب اعتباره في الفاعل الأول الواجب بذاته إذا كان فاعلا لشيء بعد شيء ولم يكن مؤثرا تاما لشيء أزلي بل ذاته مستلزمة لنوع التأثير لا لتأثير معين. وهؤلاء القائلون بقدم العالم اشتبه عليهم نوع التأثير بعين التأثير فلما رأوا أن الذات تستلزم كونه مؤثرا لامتناع حدوث ذلك لم يميزوا بين النوع والعين فظنوا أن هذا يقتضي قدم الأفلاك أو غيرها من أعيان العالم.

وهذا خطأ قطعا فإن الذات تستلزم نوع التأثير لا عينه فإذا قدر أنها لم تزل فاعلة لشيء بعد شيء لم يكن شيء من مفعولاتها قديما بل كل ما سواها حادث كائن بعد أن لم يكن وإن كان فعلها من لوازم ذاتها. والذين قابلوا هؤلاء لما أرادوا أن يثبتوا حدوث كل ما سوى الله ظنوا أن هذا يتضمن أنه كان معطلا غير قادر على الفعل وأن كونه محدثا لا يصح إلا على هذا الوجه فهؤلاء أثبتوا التعطيل عن نوع الفعل وأولئك أثبتوا قدم عين الفعل وليس لهم حجة تدل على ذلك قط وإنما يدل على ما يذكرونه من الحجج على ثبوت النوع لا على ثبوت عين الفعل ولا عين المفعول ولو كان يقتضي دليلهم الصحيح قدم عين الفعل والمفعول لامتنع حدوث شيء من الحوادث وهو مخالف للمشهود. وحينئذ فالذي هو من لوازم ذاته نوع الفعل لا فعل معين ولا مفعول معين فلا يكون في العالم شيء قديم وحينئذ لا يكون في الأزل مؤثرا تاما في شيء من العالم ولكن لم يزل مؤثرا تاما في شيء بعد شيء وكل أثر يوجد عند حصول كمال التأثير فيه والمقتضى لكمال التأثير فه هو الذات عند حصول الشروط وارتفاع الموانع. وهذا إنما يكون في الذات التي تقوم بها الأمور الاختيارية وتفعل بالقدرة والمشيئة بل وتتصف بما أخبرت به الرسل من أن الله يحب ويبغض ويرضى ويسخط ويكره ويفرح وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة فأما إذا لم يكن إلا حال واحدة أزلا وأبدا وقدر أن لها معلولا لزم أن يكون على حال واحدة أزلا وأبدا.

وإذا قيل: إنها توجب الحدث الثاني بشرط عدم الأول. قيل: الحوادث الصادرة عنها مختلفة فإن الحركات مختلفة إذ ليست حركة التاسع هي وحدها الموجبة لجميع الحوادث بل الحركات المختصة بكل فلك فلك ليست ناشئة عنها. وحينئذ فهو يحدث حركات مختلفة شيئا بعد شيء وحوادث مختلفة شيء بعد شيء فيمتنع أن يكون في الأزل موجبا لها ويمتنع أن يتجدد له ما يصير به موجبا بدون فعل منه فإن القول في إيجابه للشرط كالقول في إيجابه للمشروط وتلك الحوادث لها محل قديم وهو معلوم فيلزم أن يكون مقتضيه في الأزل للمحل مقتضيه للآثار شيئا بعد شيء وهو في جميع ذلك على حال واحدة من الأزل إلى الأبد. والمعلول صادر عن العلة لازم لها فإذا كان على حال واحدة لزم أن يكون المعلول على حال واحدة وإلا لزم وجود المعلول بدون العلة. وهو حقيقة مذهب القوم فإن كل ما في المعلول هو من العلة فإذا قدر أن العلة لا يتنوع فعلها ولا صفة لها ولا يحدث فيها شيء لزم أن يكون المعلول كذلك واحدا لا يتنوع ولا يحدث فيه شيء وهو خلاف المشاهدة وهذا أمر لا محيد عنه. وحذاقهم معترفون بهذا فإن ما ادعوه مخالف لصريح المعقول لمن تصور حقيقة قول القوم وإنما طمعوا في أهل الكلام المبتدعين الذين ذمهم السلف والأئمة لما اشتمل عليه كلامهم من الباطل شرعا وعقلا فإنهم خالفوا السمع والعقل وظنوا أن الرسل أخبرت بأن الباري كان

معطلا لا يقدر أن يفعل ولا أن يتكلم ثم بعد هذا قدر أن يفعل وأن يتكلم 4 فانتقل من عدم القدرة إلى القدرة بلا حدوث شيء وانتقل الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا حدوث شيء ولزم أن يكون بين الباري وبين أول كلامه وفعله مدة لا نهاية لها وليس هناك مدة وأن يكون قبل الزمان زمان زمان إلى غير ذلك من الأمور التي ابتدعها المتكلمة الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم في الإسلام فجاء أولئك الملحدة فرأوا أن هذه أقوال فاسدة فظنوا أنهم إذا أفسدوها بدوام فاعلية الرب وأن ما جاز وجوده عنه وجب وجوده لزم من ذلك قدم هذا العالم ودوامه وأن الرب تعالى لم يحدث هذا العالم ولا يغيره ولا يقيم القيامة الكبرى إذ فعله واحد لا يتبدل. وهذا من أعظم الجهل والضلال عقلا كما هو من أعظم الإلحاد شرعا فإن الفعل ليس واحد بالعين إذ لو كان كذلك لم يحدث شيء وإذا كان يفعل شيئا بعد شيء فلا فرق بين إحداث أنواع من الحيوان لم تكن وإحداث عالم لم يكن وإحداث إشخاص لم تكن. والحوادث المختلفة في العالم دالة على أحداث فاعلة للحوادث ولهذا يبين سبحانه وتعالى الأدلة على إثبات الصانع بإحداثه الحوادث المشهودة كإنزال المطر وإنبات النبات وخلق الإنسان وغيره من الحيوان. وقد ذكر في غير هذا الموضع تنازع الناس في هذا المقام فإن طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم يقولون إن المؤثر التام يجب أن

يتقدم بالزمان على الأثر ولهذا يقولون القدرة على الفعل لا تكون إلا قبل الفعل وكذلك الإرادة للفعل. وأما أهل السنة المثبتون للقدر فعندهم لا بد من وجود القدرة عند الفعل ويعنون بالقدرة مجموع ما به يصير العبد فاعلا فدخل في ذلك الإرادة وغيرها. لكنهم متنازعون هل يجوز وجود القدرة قبل الفعل وبقاؤها إلى حين الفعل وأنه عند الفعل ينضم إليها الإرادة أم لا يجوز وجودها إلا عند الفعل؟ على قولين. فالأول: قول أئمة الفقهاء وأهل السنة وهو المنقول عن أبي حنيفة وأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي العباس بن سريج وغيرهم ممن يقول القدرة تصلح للضدين وهو قول الفقهاء والجمهور الذين يقسمون القدرة إلى نوعين مصححة للفعل وهي المشترطة في الأمر والنهي وهي مشتركة بين المطيع والعاصي ومستلزمة للفعل وهي التي يختص بها المطيع دون العاصي. والثاني: قول من يقول لا تكون القدرة إلا عند الفعل وأن خلاف المعلوم غير مقدور للعبد وأن العاصي ليس قادرا على الطاعة وهذا قول أبي الحسن الأشعري ومن وافقه من أهل الكلام والفقه على ذلك من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

لكن جمهور هؤلاء متناقضون فيقولون في هذا الموضع القدرة لا تكون إلا مع الفعل وفي الفقه وأصوله يجعلون العاصي قادرا على الطاعة كما يجب الحج على المستطيع سواء حج أو لم يحج وقد يجعلون النزاع لفظيا منقولون الصحة المتقدمة وسلامة البنية المتقدمة ليست هي الاستطاعة التي لا تكون إلا مع الفعل. لكن يقال لهم: نصوص الكتاب والسنة توجب جعل ذلك من الإستطاعة وإذا كان النزاع لفظيا فأحق الألفاظ بالرعاية ألفاظ الشارع الواردة في الكتاب والسنة. وبالجملة فمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر وأن الله خالق أفعال العباد أن مجموع ما يوجب وجود فعل العبد لا يوجد إلا عند وجود فعله. لكنهم في أفعال الله متنازعون فالكلابية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون إن القدرة القديمة والإرادة القديمة هي المقتضية لحدوث كل ما حدث في وقت حدوثه من غير تجدد أمر وجودي فقالوا هنا إن المؤثر التام يتقدم على أثره أو يقولون من تمام المؤثر التعلق الحادث عند وجود الأثر لكن هذا التعلق عندهم عدمي. وأما الكرامية ونحوهم فإنهم وإن قالوا إنه عند حدوث حوادث

العالم قد يقوم بذاته أمور اختيارية من إرادة أو كلام أو غير ذلك فهم يقولون إن الحوادث ابتداء حدثت بغير سبب حادث فيرد عليهم في أصل الحدوث ما يرد على أولئك في تفصيل الحوادث. وأما المعتزلة وغيرهم من القدرية قولهم في التأثير واحد وهو أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح. والذين ناظروهم وناظروا الفلاسفة على أصل الكلابية كأبي عبد الله الرازي وغيره إذا ناظروا القدرية من المعتزلة وغيرهم استدلوا بأن القادر المختار لا يرجح الفعل على الترك إلا بمرجح وقالوا إن رجحان فاعلية العبد على تاركيته يتوقف على مرجح تام يستلزم وجود الأثر. وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم قالوا إن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوريه على الآخر بلا مرجح وادعوا أن المرجح التام إنما يستلزم الأثر إذا كان موجبا بالذات فأما إذا كان فاعلا بالاختيار فلا وربما ادعى بعضهم العلم الضروري بالفرق بين ترجيح الموجب بالذات والفاعل بالاختيار. وهذا تناقض بين لمن فهمه فإنه إن كان الفرق صحيحا بطلت حجتهم على القدرية من المعتزلة وغيرهم ولزم جواز إحداث العبد لفعله بلا سبب حادث لأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح وإن كان الفرق باطلا لزم بطلان جوابهم للفلاسفة فأحد الأمرين لازم إما بطلان حجتهم على هؤلاء وإما بطلان جوابهم لهؤلاء.

وأيضا فإن الموجب بالذات قد يراد به ما تكون مجرد ذاته العارية عن الصفات والأفعال مستلزمة لموجبه وعلى هذا فيحصل الفرق بين مسمى الموجب بالذات ومسمى الفاعل بالاختيار وقد يراد به ما يوجب بذاته الموصوفة بالصفات والمشيئة والفعل وعلى هذا فكونه موجبا بالذات لا ينافي كونه فاعلا بالاختيار. فقولهم: إن الترجيح بدون مرجح تام ممتنع في الموجب بالذات دون الفاعل بالاختيار قول باطل لأنه حينئذ قد يكون فاعلا باختياره وعند حصول القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود الفعل فيكون موجبا بذاته الموصوفة بالقدرة والاختيار لا بذات مسلوبة القدرة والاختيار. وغاية ما يمكن أن يقال في الاعتذار عن تناقض هؤلاء أن القديم المختار له أن يرجح أحد مقدوريه بدون مرجح بدون المحدث المختار لأن المحدث لا يتصور حدوث شيء منه إلا من غيره فإن كونه قادرا مريدا وفاعلا إنما هو من غيره فنفس ذاته ليس من لوازمها أن تكون قادرة مريدة فاعلة بل ذلك لها من غيرها فلهذا لا يرجح بغير مرجح وهي إذا افتقرت إلى مرجح فالمرجح يحدث من الله تعالى بخلاف القديم الواجب بنفسه سبحانه فإنه هو المحدث لكل ما سواه وهو بنفسه مستغن عن كل ما سواه فيمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح. فيقال لهؤلاء هذا فرق فاسد من وجوه متعددة.

منها: أن يقال كون المؤثر التام يستلزم أثره ويقارنه وأن الأثر يستلزم المؤثر التام ويقارنه وأن يقال كون المرجح التام يستلزم الرجحان وأن الرجحان بدون المرجح التام ممتنع قضية كلية لا تقبل الانتقاض ولا التخصيص كما قيل المحدث لا بد له من المحدث والتخصيص المحدث لا بد له من مخصص والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح فهذه قضايا كلية لا تنتقض سواء قدر المحدث والمخصص والمرجح قديما أو محدثا. ومنها: أن يقال ما به يعلم أن المحدث لا يرجح بدون مرجح تام به يعلم ذلك في القديم مثل أن يقال الإرادة إما أن يجب مقارنة مرادها لها وإما أن لا يجب فإن وجب لزم إذا كانت الإرادة قديمة أن يكون المراد قديما وبطل قولهم وإن لم يجب فإما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا لزم أن لا يوجد المراد مع وجود الإرادة وهذا باطل فإنهم يقولون إن الإرادة باقية إلى حين وجود المراد. وأيضا فإذا كان ممتنعا فإن لم يصر ممكنا لزم دوام الامتناع فيلزم أن لا يحدث شيء وإن صار بعد ذلك ممكنا والتقدير أنه لم يتجدد شيء لزم أن يصير الشيء ممكنا بعد أن كان ممتنعا من غير حدوث شيء فينقلب الشيء من الامتناع إلى الإمكان بلا سبب وهذا معلوم الفساد بالضرورة.

ثم إذا قيل هو ممكن بعدها أو قيل هو ممكن معها فالممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح والتقدير أنه ليس هناك مرجح غير ما ذكر فيلزم أن لا يوجد شيء أصلا. وإذا قيل المرجح تعلق الإرادة. قيل هذا التعلق إذا كان حادثا فلا بد له من محدث وإن كان قديما فلم يتجدد شيء. وأيضا فإن كان أمرا وجوديا فهو حادث من الحوادث فلا بد له من محدث وإن كان عدما فليس بشيء فلا مرجح هناك فإن ما ليس بشيء لا يكون مرجحا للوجود. وأيضا فإذا كان حال قبل حدوث الحادث كالحال بعده كما هو قولهم من كل وجه كان تخصيص أحد الحالين بالحدوث ترجيحا لأحد المتماثلين بلا مرجح. وقول القائل: إن الإرادة لذاتها تقتضي التخصيص بلا مخصص قول باطل فإن الإرادة التي يعرفها الناس من أنفسهم لا توجب ترجيحا إلا بمرجح وإرادة الإنسان لأحد المتماثلين دون الآخر مع تساويهما من كل وجه ومع كون نسبة الإرادة إليهما سواء ممتنع لمن تصوره والعلم بامتناعه ضروري وهذا هو نفس الترجيح بلا مرجح.

بل الذي يعلمه الناس من أنفسهم أن إرادة الإنسان أحد الشيئين ليست هي إرادته للآخر سواء ماثله أو خالفه فضلا عن أن يكون إرادة واحدة نسبتها إلى المثلين سواء وهي ترجح أحدهما بلا مرجح وإن جاز أن يقال إن هذه الإرادة حاصلة له وهي ترجح أحد متعلقيها المتماثلين بلا مرجح جاز أن يقال نفس الإنسان يرجح إرادة هذا على إرادة هذا بلا مرجح. وحينئذ فلا يكون حدوث الإرادة مفتقرا إلى سبب غير نفس الإنسان بل نفسه يمكنها إحداث هذه الإرادة دون هذه الإرادة بلا مرجح. وهذا قول القدرية الذين يقولون إن الإنسان هو الذي يحدث إرادته بلا إرادة ويقولون إن الإرادة لا تعلل ويقولون مثل ذلك في القديم يقولون إنه يحدث الإرادة بلا إرادة. وقول هؤلاء وإن طردوه فهو فاسد من وجوه: منها: أنهم أثبتوا الحوادث بلا محدث تام والأثر بلا مؤثر تام والممكن بلا مرجح تام. ومنها: أنهم رجحوا أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا مع بطلانه بالضرورة فهو يسد عليهم طريق إثبات الصانع. ومنها أنهم خصوا أحد الزمانين المتماثلين بالحدوث بلا مرجح وهو كذلك

ومنها: أنهم أثبتوا إحداث المختار للحوادث بلا إرادة فإن إرادته حادثة بلا إرادة إذ الإرادة عندهم ليست من لوازم نفسه بل هي تحدث من محدثها ومتى جاز إحداث حادث بلا إرادة جاز إحداث آخر ولهذا تفرقوا في إرادة الباري تعالى. فالبغداديون من المعتزلة ومن وافقهم من الرافضة واليهود نفوها والبصريون أثبتوا إرادة حادثة لا في محل فلزمهم إثبات صفة قائمة بل عرض قائم بنفسه وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهو إبطال لحقيقة الغرض وإن جاز ذلك جاز إثبات كلام لا في محل وعلم لا في محل وقدرة لا في محل. ومنها: أنهم أثبتوا حادثا بلا إرادة. ومنها: أنهم جعلوا الحي مريدا بإرادة ليست قائمة به كما جعلوه متكلما بكلام لا يقوم به وإن جاز هذا جاز أن يعلم بعلم لا يقوم به ويقدر بقدرة لا تقوم به ويحيا بحياة لا تقوم به إلى أمثال ذلك. ومما يبين فساد ما ذكروه من الفرق أن يقال أنتم قررتم أنه لا بد عند وجود المقدور المراد من وجود القدرة والإرادة وأنه يمتنع وجود المقدور المراد بقدرة وإرادة تتقدم على المقدور المراد وأبطلتم قول القدرية في ذلك بأنه يستلزم وجود الحادث بأمر معدوم وإن قدر أنه عند وجود المقدور المراد كانت الإرادة أو القدرية معدومة فلا بد من وجود ذلك عند

وجود المقدور المراد فإن كان وجود ذلك قبل وجود المقدور المراد مثل وجوده عند وجود المقدور المراد كان وجود ذلك أزلا ولم يؤثر شيئا فإذا كان الحال لم يتغير فهو بعد ذلك أيضا لم يؤثر شيئا وهذا أضعف من القول بوجوده عقب الإرادة والقدرة لأنه هنا مؤثر تأخر عنه أثره وهناك أثر بلا مؤثر والقول بوجود أثر بلا مؤثر أفسد من القول بأثر تأخر عن مؤثره. ولهذا كان إنكار الناس على القدرية قولهم بأنه ليس لله على المؤمنين نعمة من بها إلا وقد أعطى مثلها للكافر أشد من إنكارهم عليهم أن الإيمان بقدرة متقدمة وإرادة متقدمة. والناس يعلمون افتقار أنفسهم إلى الله تعالى في أن يهديهم ويعينهم على الإيمان والعمل الصالح أعظم مما يعلمون كون الأثر يقارن المؤثر وإذا قيل لأحدهم الإعانة التي أعطيت للصحابة على الإيمان كالإعانة التي أعطيت لأبي جهل وأبي لهب بادرت فطرته إلى إنكار ذلك. وكذلك في نظائر ذلك مثل أن يقال ما به أعين المصلى هو مثل ما به أعين تارك الصلاة وما به أعين المهتدي مثل ما به أعين الضال فإن الفطرة تشهد أنه لو استوى الأمران لم يختص أحدهما بالطاعة. وهذا مع أن التماثل إنما تدعيه القدرية في القدرة خاصة وأما الإرادة فإنهم يقولون إن المؤمن يحدث إرادة الإيمان فإذا كانت

الفطرة تنكر تساوي القدرتين مع اختصاص أحدهما بالإرادة أعظم مما تنكر تأخر الأثر عن المؤثر فكيف إذا قيل إن القدرة والإرادة في حال وجود الفعل كحالها قبل وجود الفعل وأن الفعل حدث بلا تجدد شيء أصلا؟! فإن هذا مما يعلم بالفطرة إنكاره ويعلم أنه لا بد حين وجود الفعل من حصول تمام المؤثر الذي به يصير الفاعل مريدا إرادة جازمة وقادرا قدرة تامة فإنه مع القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المقدور والمراد. ولا ريب أن الله على كل شيء قدير كما نطق به القرآن في غير موضع فإن قدرته من لوازم ذاته والمصحح لها الإمكان فلا اختصاص لها بممكن دون ممكن لكن الممتنع لذاته ليس شيئا باتفاق العقلاء فلا يعقل وجوده في الخارج فإنه لا يعقل في الخارج كون الشيء موجودا معدوما أو متحركا ساكنا أو كون أجزاء الحركة المتعاقبة مقترنة في آن آن واحد أو كون اليوم موجودا مع أمس وغدا وأمثال ذلك. وحينئذ فمثل هذا لا يدخل في عموم الكتاب وأما الممتنع لغيره وهو ما علم الله أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون فهذا لا يكون لعدم إرادته وأنه لا يكون فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهذا لو شاء لفعله كما أخبر القرآن في غير موضع أنه لو شاء الله لآتى كل نفس هداها ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة وأمثال ذلك.

والقادر إذا لم يفعل الشيء لعدم إرادته له لم يمنع ذلك أن يكون قادرا عليه بخلاف ما إذا لم يفعله لكونه ليس قادرا عليه والقادر يجوز أن يفعل كلا من الضدين ويريده على طريق البدل بخلاف فعلهما على وجه الجمع فإنه ممتنع لذاته. ولو كان فعل القادر موقوفا على إعانة غيره أو ممنوعا بغيره لم يكن قادرا بنفسه وهذا من دلائل الوحدانية فإن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه لامتناع كون قدرته من غيره ويمتنع اجتماع قادرين بأنفسهما على شيء واحد فإن قدرة أحدهما عليه مشروطة بعدم قدرة الآخر عليه حال كون الأول قادرا لامتناع اجتماع قدرتين تامتين على فعل واحد وامتناع اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه إذا فرض أن قدرته وإرادته وسائر ما يتوقف الفعل عليه حال وجود الفعل كما هي حال عدم وجود الفعل كان هذا ممتنعا بالضرورة كامتناع هذا في كل مؤثر تام بل لا بد لحال الفعل من اختصاصه بأمر لا يكون موجودا عند عدم الفعل. وأما السلف والأئمة وأكابر أهل الحديث الذين يقولون لم يزل الله متكلما إذا شاء ولم يزل تقوم به الأمور الاختيارية فلا يرد عليهم شيء من هذه التناقضات الواردة على هؤلاء الأصناف من أهل الكلام والفلسفة.

وكذلك لا يرد على من وافقهم من أساطين الفلاسفة القائلين بقيام الأمور الإرادية بذاته وأنه لم يزل كذلك كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر وغيره من متقدمي الفلاسفة ومتأخريهم فإن هؤلاء يطردون الأصل المتقدم في أن المؤثر التام يستلزم أثره وأن الأثر يلازم المؤثر التام ولا يفرقون في ذلك بين مؤثر ومؤثر. والرب تعالى عندهم فاعل لكل ما سواه بقدرته واختياره وإذا سمي موجبا بالذات بمعنى أنه موجب بذاته الموصوفة بالقدرة والاختيار ما يحدثه من الحوادث في وقت إحداثه إياه فهذا حق عندهم كما يقول المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ويقولون إن كل حادث فله سبب حادث وإن كمال فاعلية الرب تعالى لكل مفعول هو عند فعله إياه كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس 82) . وهؤلاء يطرد على أصلهم بيان تناقض الفلاسفة القائلين بقدم الأفلاك وفساد حجتهم ومذهبهم وأما غيرهم فإنه وإن بين تناقض الفلاسفة من وجه فإنه يتناقض هو من وجه آخر فهم يردون باطلا بباطل ويقابلون بدعة ببدعة لكن لكل حال كل من كان إلى اتباع الرسل أقرب كان قوله أقوم وأقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول ممن هو أبعد منه عن متابعة الرسل فإن المعقول الصريح لا يدرك إلا على موافقة أقوال الرسل لا على مخالفتها. والمقصود هنا بيان فساد قول هؤلاء الفلاسفة ومذهبهم وأنه

أعظم فسادا من قول القدرية المعتزلة وغيرهم ومن الكلابية وغيرهم من أصناف أهل الكلام فإن هؤلاء الفلاسفة الدهرية لا سيما معطلة الصفات منهم يحتجون بأن المؤثر التام لا بد أن يقارنه أثره ثم يقولون والرب لا بد أن يكون مؤثرا تاما في الأزل إذ لو لم يكن كذلك للزم حدوث تمام تأثيره والكلام في حدوث ذلك الحادث كالكلام في غيره فيلزم التسلسل بمعنى حدوث تمامات لا نهاية لها في آن واحد للعلة الفاعلة وهو باطل لم يقل به طائفة من الطوائف كما لم يقل بتسلسل علل تامة. وحجتهم مبنية على امتناع التسلسل في المؤثرات وهو متفق عليه بين العقلاء وامتناع الترجيح بغير مرجح والمعتزلة والكلابية والكرامية ونحوهم أبطلوها لجواز الترجيح عندهم من القادر بلا مرجح. وقد عرف ما في هذا الجواب وأنه إنما يستقيم على أصول القدرية والجهمية ولهذا كان النزاع هنا بين القدرية والدهرية وكلاهما مبطل لكن القدرية أمثل لكنهم عارضوها بحدوث الحوادث اليومية فإن حجتهم تستلزم أن لا يحدث شيء وقد حدث. والمعارضة تدل على فساد الحجة لكن لا تحلها ولا تبين وجه فسادها وقد طعن الأرموي وغيره في هذه المعارضة وقد بينا فساد طعنه وصحة هذه المعارضة كما ذكرها الغزالي والرازي والأبهري وغيرهم ممن عارض بها الفلاسفة. وجاء بعد الأرموي الهندي فنقل طعنه فيها نقلا مجردا ولم يجب عنه

بشيء وذكر الأرموي جوابه الذي سماه الجواب الباهر وأخذه من كلام الرازي لأنه أجاب بهذا الجواب الذي سماه الباهر من المطالب العالية فأجاب أنه لا يلزم منه قدم العالم الجسماني لجواز أن يوجد عقل في الأزل أو نفس تصدر عنهما تصورات متعاقبة كل واحد منهما بعدما يليه حتى ننتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم. ثم إن الهندي لم يكن عنده غير ما نقله من كلام هؤلاء وهذا الجواب بنى عليه أبو عبد الله القشيري المعروف بابن دقيق العيد حيث جزم بحدوث الأجسام دون سواها مع جعله جميع الممكنات صادرة عن الواجب. وهذا الجواب بنوه على ظنهم الفاسد وهو أن الدليل قد قام على حدوث الأجسام دون ما سواها بناء على أن المتكلمين لم يقيموا دليلا على أنه لا ممكن إلا الجسم أو العرض كما قد ذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم من متأخري أهل الكلام المخلوط بالفلسفة من المعتزلة والأشعرية.

جواب الرازي والأرموي باطل من وجوه

وهذا الجواب لا يوافق دين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وهو باطل ولم يحصل به جواب عن أدلة الفلاسفة.

وهو باطل من وجوه: أحدها: أن يقال فالنفس عند هؤلاء لا تكون إلا مقارنة للجسم فإنها متعلقة به تعلق التدبير وهم متنازعون هل هي جوهر أو عرض وحينئذ فوجود نفوس دون أجسام ممتنع فبطل أصل هذا الجواب. الثاني: أن يقال دليل المعتزلة ومن وافقهم على حدوث الأجسام إنما هو لامتناع حوادث لا أول لها وهذا بعينه يقتضي حدوث النفس فإنه تقوم بها الحوادث فإذا امتنع أن تقوم بها الحوادث التي لا تتناهى لزم حدوثها فطريقة المعتزلة ومن وافقهم في حدوث الأجسام إن كانت صحيحة لزم حدوث النفوس مثل هذه الطريقة وإن كان باطلة بطل التفريق بين النفوس والأجسام فلزم على التقديرين أن يكون قول هؤلاء بحدوث الأجسام دون النفوس قولا باطلا. الجواب الثالث: أن يقال دليل حدوث الأجسام الذي هو امتناع حوادث لا أول لها يوجب حدوث النفوس كما تقدم وأما العقول فبتقدير ثبوتها كما يدعيها هؤلاء المتفلسفة فهي قديمة لازمة لذات الله وهو تعالى موجب بذاته لها في الأزل إيجابا قديما دائما فقدم العقول مستلزم لكونه موجبا بذاته لشيء معين دائما وكونه محدثا للأجسام أو للأجسام والنفوس بعد أن لم تكن ينافي كونه موجبا بذاته في الأزل فإن الذي يفعل بعد أن لم يكن يفعل لا يكون إن قدر وجوده إلا فاعلا بالاختيار فصار هذا القول مستلزما لكونه موجبا

بالذات غير موجب بالذات وذلك جمع بين النقيضين فتبين أن القول بحدوث الأجسام مع قدم العقول جمع بين النقيضين فيكون باطلا. وإيضاح هذا أنه إما أن يجوز أن يفعل بعد أن لم يفعل وإما أن لا يجوز فإن جاز ذلك كما يقوله من يقوله من أهل الكلام جاز حدوث كل ما سواه وإن لم يجز ذلك لزم أنه لم يزل فاعلا وحينئذ فإن قيل لم يزل فاعلا لشيء بعد شيء أمكن دوام الفاعلية مع حدوث كل ما سواه وإن قيل لم يزل فاعلا لشيء معين لم يكن فرق بين العقول وبين غيرها فالقول بقدم العقول مع حدوث الأجسام قول متناقض. وبهذا يتبين أن ما استدل به من استدل من المتكلمين على حدوث الأجسام وإن كان صحيحا يستلزم حدوث كل ما سوى الله ويظهر خطأ متأخريهم الذين اعترضوا على متقدميهم بأن دليلهم على حدوث الأجسام والأعراض لا يتناول حدوث كل ما سوى الله لإمكان وجود العقول والنفوس التي يثبتها المشاؤون من الفلاسفة وإمكان قدمها قالوا والمتكلمون لم يقيموا دليلا صحيحا على نفي ما سوى الأعراض والأجسام وقد بينا بطلان كلام هؤلاء في غير موضع. وللنظار في إبطاله طرق: إحداها طريقة من يقول العلم بأن كل ممكن إما جسم وإما عرض قائم بالجسم علم ضروري كما ذكر ذلك غير واحد من أئمة النظار كأبي المعالي وغيره.

والثانية طريقة من يقول: الوجود لا يكون إلا مشارا إليه أو قائما بمشار إليه وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين ومن هؤلاء من يصرح بأنه لا موجود إلا الجسم وما يقوم بالجسم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. الطريقة الثالثة: أن يقال هب أنه لم يعلم انتفاء ما سوى الأجسام والأعراض لكن دليل حدوثها يستلزم حدوث كل ما سوى الله. وهذا يتبين بالجواب الرابع: وهو أن يقال لا ريب أن النظار المثبتين لحدوث أجسام العالم وأعراضه من المعتزلة والكلابية والكرامية والهشامية والنجارية والضرارية والجهمية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث الذين بنوا ذلك على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث هم صنفان صنف يقول إن الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهؤلاء يقولون بحدوث الأجسام وأعراضها مطلقا. وصنف يقولون: إن الجسم نوعان: نوع يخلو عن الحوادث ونوع لا يخلو عن الحوادث فالذي لا يخلو عن الحوادث هو الحادث دون الأول كما يقول ذلك من يقوله من الهشامية والكرامية وغيرهم وعلى قول هؤلاء فالسكون أمر عدمي لا وجودي وحدوث الحوادث ابتداء في القديم بعد أن لم يكن كحدوث الحوادث عنه ابتداء بعد أن لم يكن فأدلة هؤلاء على حدوث الجسم

الذي لا يخلو عن الحوادث إن كانت صحيحة لزم حدوث كل ما سوى الله وإن كانت باطلة لم تدل لا على حدوث الأجسام ولا غيرها. فقول القائل: إن دليلهم يتضمن حدوث الأجسام دون ما سواها قول باطل وذلك أنه على التقدير الأول يكون كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث حدوثا مسبوقا بعدم والحادث عن عدم لا يكون صادرا عن قديم موجب بذاته في الأزل فإن الموجب بذاته في الأزل يكون موجبا أزليا لا يكون حادثا مسبوقا بالعدم وسواء كان حدوث الحادث عنه بوسط أو بغير وسط فامتنع على هذا التقدير أن يكون الواجب الوجود بنفسه موجبا بالذات في الأزل وإذا امتنع هذا امتنع أن يكون معه قديم سواء سمي ذلك القديم عقلا أو نفسا أو غير ذلك فإنه إذا قدر عقل قديم ممكن لزم أن يكون صادرا عن علة تامة قديمة وهو الموجب بذاته في الأزل وأن يكون معلوله دائما معه لا يتخلف منه شيء وعلى هذا التقدير فيمتنع حدوث الحوادث بعد أن لم تكن فظهر بذلك أنه إذا قدر أن الحوادث لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها لزم أن يكون الباري فاعلا باختياره وأن لا يكون معه في الأزل قديم أصلا. فتبين بذلك أن أدلة هؤلاء النظار على حدوث الأجسام والأعراض إن كانت صحيحة لزم حدوث كل ما سوى الله وتبين بذلك أن أئمة هؤلاء النظار أحذق من متأخريهم وأقوى ردا على الفلاسفة وغيرهم وأن ما اعترض متأخروهم عليهم باطل.

الوجه الخامس: أن يقال: لو كانت الحوادث تحدث في النفس شيئا بعد شيء لكان لا بد لها من محدث والقديم الذي لا يتجدد له أمر يقوم به لا يحدث عنه شيء كما تقدم فقول هؤلاء بحدوث هذه الأمور عنه كقول الفلاسفة بحدوث حركات الفلك وأنها أزلية. الوجه السادس: أن يقال: فهذا يقتضي كون الرب موجبا بذاته للعقول والنفوس وأنه ليس فاعلا باختياره يفعل شيئا بعد شيء وأن العقول والنفوس متولدة عنه تولدا ذاتيا وهذا معلوم الفساد عقلا ونقلا وهو مخالف لدين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين. الوجه السابع: أن يقال: فإذا كان موجبا بذاته على هذا التقدير لم يكن اختصاص الزمان الذي حدث فيه الأجسام دون ما قبله وبعده بأولى من العكس والتقدير أن القديم لا تقوم به الأمور الاختيارية وقول القائل إن بعض تلك التصورات تكون سببا لفيض الأجسام عن القديم إنما يصح لو كان هناك سبب يقتضي حدوث تصورات تخالف ما قبلها وهذا إنما يكون إذا كان الرب فاعلا باختياره والأمور الاختيارية تقوم بذاته فأما إذا قدر أنه لا يفعل شيئا باختياره ولا يقوم به أمر اختياري بل هو مجرد عن الصفات والأفعال لا يتجدد منه ما يقتضي الإحداث كان امتناع حدوث الأجسام حينئذ كامتناع حدوثها عن القديم ابتداء.

الوجه الثامن: أن هذا القول مبني على وجود العقول والنفوس التي يذكرها هؤلاء وأنها أمور قائمة بأنفسها موجودة في الخارج لا يشار إليها ولا هي داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة للعالم ولا حالة فيه ولا توصف بحركة ولا سكون ولا تجوز رؤيتها ولا هي أجسام ولا قائمة بالأجسام وجمهور العقلاء يقولون إن بطلان هذا معلوم بالاضطرار. فقد تبين فساد جواب هاتين الفرقتين وأن الجواب لهؤلاء الفلاسفة بالمعارضة جواب صحيح لكن ليس فيه حل الشبهة. وأما الجواب عنها بغير المعارضة فمن وجوه: أحدها: أن يقال التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت دلالة هذه الحجة على قدم شيء بعينه لا فلك ولا غيره لأنه حينئذ يجوز أن يكون حادثا بسبب كان قبله وهكذا القول في كل ما سوى الله وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول ولزم حدوث كل ما تقوم به الحوادث وذلك يستلزم حدوث الأفلاك وهو المطلوب فلزم بطلان حجتهم على تقدير النقيضين.

وليست هذه الحجة مبنية على امتناع التسلسل في الآثار كما يظنه من يظنه فإن المحتجين بها لا يمنعون التسلسل في الآثار وإنما يمنعون ما يمنعه سائر العقلاء من التسلسل في المؤثرات ومن التسلسل فيما به أصل التأثير وقد يشتبه تمام التأثير في الشيء المعين وتمام التأثير في جنس التأثير وحجتهم مبنية على امتناع التأثير في الأزل فإنها مبنية على أنه لا يحدث شي إلا بحدوث تمام تأثيره فلو كان لجنس الحوادث ابتداء لزم أن يكون لذلك الحدوث تمام حادث ولذلك التمام تمام حادث وهلم جرا. وتحرير هذا الجواب أن يقال: التسلسل نوعان: أحدهما: التسلسل في المؤثرات وهذا مما اتفق العقلاء على امتناعه وامتناعه معلوم بصريح العقل بل مجرد تصوره التام يكفي في العلم بفساده وأما التسلسل في الآثار بأن يكون الفاعل يفعل شيئا بعد شيء دائما فهذا متنازع فيه هل هو ممتنع أزلا وأبدا أو جائز أزلا وأبدا أو ممتنع أزلا وجائز أبدا؟ على ثلاثة أقوال معروفة للناس. والتسلسل في الآثار قد يقتضي التسلسل في تمام التأثيرات المعينة لا التسلسل في أصول التأثير فإنه إذا كان صدور المؤثر التام موقوفا على صدور الأول كان تمام التأثير فإنه إذا كان صدور المؤثر التام موقوفا على صدور الأول كان تمام التأثير في الأمر الثاني موقوفا على صدور الأثر الأول كالمتحركات كلها من الشمس والقمر وغيرهما فإن الجزء الثاني من الحركة موقوف على صدور الجزء الأول منها.

لكن التسلسل في تمام التأثير نوعان تمام التأثير مطلقا وتمام التأثير المعين فإن الشيء قد يكون شرطا في كون الفاعل فاعلا مطلقا فلا يمكن أن يفعل شيئا إلا بذلك الشرط فهذا شرط في التأثير المطلق وهو شرط في جنس التأثير وأصل التأثير وقد يكون شرطا في كونه فاعلا لفعل معين فالتسلسل في هذا القسم الثاني ليس بممتنع عند من يجوز التسلسل في الآثار فإنه إذا جاز أن يفعل شيئا بعد شيء دائما جاز أن يكون الفعل الأول شرطا في الثاني. وأما القسم الأول وهو التسلسل في أصل التأثير فهذا ممتنع كالتسلسل في المؤثرات فإن الشيء إذا امتنع أن يفعل شيئا من الأشياء حتى يفعل شيئا من الأشياء كان جنس وجود الفعل موقوفا على جنس وجود الفعل قبله فلا يكون فعل أصلا حتى يكون قبله فعل ما وهذا ممتنع لذاته فإنه يستلزم وجود الشيء قبل وجوده ووجوده قبل وجوده يقتضي أن يكون موجودا معدوما وهذا جمع بين النقيضين. ولهذا استدل غير واحد من أئمة المسلمين على أن كلام الله غير مخلوق بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس 82) فإن النص دل على أنه لا يخلق شيئا حتى يقول له كن فيكون فلو كان كن مخلوقا لزم أن يخلقه بكن وكذلك هذا يجب أن يكون مخلوقا بكلمة أخرى وهذا يستلزم التسلسل في أصل الخلق وهو التسلسل في التأثير وهو ممتنع لذاته فإنه إذا لم يخلق شيئا أصلا حتى يخلق قبل ذلك شيئا آخر كان هذا ممتنعا لذاته فكان

وجود مخلوق قبل أن يوجد مخلوق أصلا فيه جمع بين النقيضين بخلاف ما إذا قيل إنه لا يخلق مخلوقا معينا حتى يخلق مخلوقا معينا فإن هذا ليس بممتنع كما انه لا يخلق المولود من غيره حتى يخلق الوالد. إذا تبين هذا فحجة الفلاسفة الدهرية في قدم العالم مبنية على مقدمتين إحداهما امتناع الترجيح بلا مرجح والثانية امتناع التسلسل في أصل التأثير لا في تأثير معين فإنهم قالوا المؤثر التام إن كان في الأزل لزم قدم الأثر فإنه لو حدث بعد ذلك لزم الترجيح بلا مرجح وإن لم يكن المؤثر التام في الأزل امتنع أن يحدث عنه شيء لأن ذلك الحادث يمتنع أن يحدث بدون سبب حادث لما فيه من الترجيح بلا مرجح ويمتنع حدوث سبب حادث لأن القول في حدوث ذلك السبب الذي هو الشرط كالقول في حدوث المشروط به إذ التقدير أنه لم يكن في الأزل مؤثر تام فلا بد من حدوث تمام أصل التأثير وجنسه بحيث يصير المؤثر مؤثرا بعد أن لم يكن مؤثرا بحال. وهذا ممتنع لذاته كما تقدم لأن حدوث كونه مؤثرا لا بد له من مؤثر ولا مؤثر إلا هو فيلزم أن يكون مؤثرا قبل أن يكون مؤثرا بحال وهو جمع بين النقيضين. وأيضا فإذا لم يكن مؤثرا تاما ثم إنه جعل نفسه مؤثرا تاما لزم الترجيح بلا مرجح فإن امتناع جعل نفسه مؤثرا بعد أن لم يكن مع تساوي الحالين أبلغ في الامتناع من إحداث أثر منفصل عنه بعد أن لم يكن مع تساوي الحالين.

فإذا قيل: المؤثر التام يستلزم أثره بعد ذلك كان تخصيصا بلا مخصص. قيل وما ليس بمؤثر تام يمتنع أن يصير بعد ذلك مؤثرا تاما بنفسه لما فيه من التخصيص بلا مخصص. لكن هذا القسم يدل على امتناعه أيضا دليل آخر وهو أنه إذا لم يكن مؤثرا تاما ثم قدر أنه أحدث ما به صار مؤثرا تاما فذلك الإحداث يقتضي أن يكون مؤثرا تاما فيما أحدثه والتقدير أنه ليس بمؤثر تام في شيء من الأشياء فيلزم أن يكون مؤثرا في شيء حتى لا يكون مؤثرا في شيء من الأشياء وهو جمع بين النقيضين. وهذا القسم هو من باب الدور القبلي فإنه لا يكون مؤثرا حتى يكون مؤثرا ولا يكون مؤثرا حتى يكون مؤثرا وهو مثل أن يقال لا يكون موجودا إلا بعد أن يصير موجودا ولا يصير موجودا إلا بعد أن يصير موجودا وهذا دور ممتنع لذاته وهو أيضا من باب التسلسل في أصل التأثير ولكن سماه المتأخرون تسلسلا لأنهم قالوا مجموع ما يتوقف عليه وجود العالم إن كان ثابتا في الأزل لزم وجوده لأن تخلف الأثر عن المؤثر ممتنع وإن لم يكن ثابتا في الأزل ثم حدث ما به يصير مؤثرا في العالم فالقول في ذلك الحادث كالقول فيما قبله ويلزم التسلسل ومعناه أن ذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث قبله ما به يصير الفاعل فاعلا وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث قبله ما به يصير

الفاعل فاعلا فالفاعل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا ولا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا فباعتبار كون الثاني غير الأول سمي تسلسلا وباعتبار كون جنس الإحداث موقوفا على جنس الإحداث يسمى دورا فهو تسلسل إذا أخذ حادث بعد الحادث وهو دور إذا أخذ جنس الحوادث ووجود حادث بعد حادث إنما يمكن إذا كان هناك فاعل محدث يحدث شيئا بعد شيء فأصل كونه فاعلا لا يتوقف على حدوث شيء من الأشياء بل يكون من لوازم ذاته وإحداثه للمعين قد يكون موقوفا على إحداثه للمعين. فحقيقة حجة هؤلاء أن القول بحدوث جنس الفعل يستلزم تأخر الأثر عن المؤثر التام أو وجوده بدون المؤثر التام فالذي سموه تسلسلا مضمونه وجود الأثر بدون المؤثر التام فلما كانت حجتهم مبنية على مقدمتين: إحداهما: امتناع الترجيح بلا مرجح والثانية: امتناع التسلسل كان مضمون الأولى امتناع أن يتأخر الأثر عن مؤثره التام تأخر بينونة وانفصال ومضمون الثانية امتناع صدور أثر بدون مؤثر تام فالأمر يرجع إلى أصل واحد وهو تلازم المؤثر التام وأثره فلا يكون مؤثر تام إلا وأثره لازم له ولا يكون أثر إلا ومؤثره التام لازم له ثم هل ترتب الأثر على مؤثره التام ترتبا زمانيا أو ترتبا عقليا بحث آخر في غير هذا الموضع. فإذا عرف حقيقة الأصل الذي بنوا عليه حجتهم فقول القائل

في الجواب: التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة لأن مبناها على امتناع التسلسل في الآثار يرد عليه أن مبناها على امتناع التسلسل في أصل التأثير وجنسه والممكن إنما هو التسلسل في جنس الآثار وأعيان التأثيرات لا في جنس التأثير فإن الفرق بين التسلسل في الآثار والتسلسل في التأثير ثابت كما سبق والممتنع التسلسل في التأثير أي في جنسه فهذا السؤال هو الوارد على هذا الجواب. وجواب هذا الإيراد أن يقال: إذا كان التسلسل في الآثار ممكنا وفي أعيان التأثيرات أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مخلوقة من شيء آخر قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإنهم أخبروا أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء وأخبروا أنه: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (سورة فصلت 11) والدخان فيما ذكره المفسرون: هو البخار وهو بخار ذلك الماء فقد أخبروا أنها مخلوقة من مادة كانت موجودة قبلها وتلك المادة يمكن أن تكون مخلوقة من مادة كانت كما خلق الله الإنسان من مادة وخلق المادة من مادة. وإذا كان كذلك كان ما جوزوه في الآثار مبطلا لحجتهم على قدم هذا العالم وهذا هو المطلوب فإنهم إنما احتجوا على قدمه بكون المؤثر التام لا بد أن يكون ثابتا في الأزل فإنه لو لم يكن مؤثرا ثم صار

مؤثرا افتقر حدوث تأثيره إلى مؤثر وذلك المؤثر أو تمام تأثيره يفتقر إلى مؤثر وذلك يقتضي التسلسل في أصل التأثير وتمام كونه مؤثرا والتسلسل في تمام أصل التأثير ممتنع كالتسلسل في نفس المؤثر. فيقال لهم: هب أن هذا ممتنع لكن أنتم تجوزون التسلسل في أعيان التأثيرات والآثار فهذا التسلسل إن كان ممكنا بطلت الحجة التي يحتج بها على قدم العالم أو قدم شيء من العالم وهذا هو المطلوب. وأما قدم نوع التأثير فهذا لا ينفعهم في مطلوبهم ولا يقدح فيما جاءت به الرسل بل هو دليل على تصديق ما جاءت به الرسل وأن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن لامتناع المؤثر التام في الأزل لشيء من الأشياء لأن كل ما سوى الله ملزوم للحدوث فوجوده بدون الحوادث المقارنة له محال ووجود الحوادث عن مؤثر تام يستلزم أثره محال ووجود حادث بعد حادث من مؤثر تام محال فإنه لا يكون مؤثرا تاما في الشيء إلا إذا استعقبه أثره وليس شيء من الحوادث المتعاقبة يستعقب المؤثر الأزلي لأنه يقتضي كون شيء من الحوادث المتعاقبة أزليا وهو ممتنع لأن ما قارن الأزلي فهو أزلي ليس له مبدأ محدود حتى يكون الشيء عقبه فلا يكون المقارن له إلا أزليا فإذا كان كل ما سوى الرب لا يوجد إلا مقارنا لحادث ولا يمكن وجود الحوادث لا معينة ولا متعاقبة عن مؤثر تام أزلي ولا يمكن شيء من العالم إلا مقارنا

للحادث امتنع وجود شيء من العالم في الأزل إذ وجوده في الأزل ممتنع بدون الحادث وممتنع مع الحادث. ولا يمكن أن يقال القول في حوادثه المتعاقبة عليه كحركات الفلك كالقول في كلمات الرب المتوالية وأفعاله المتوالية لأن الرب هو الموجود بنفسه الواجب الوجود بنفسه الغني بنفسه القيوم بنفسه فلا يتوقف قوله وفعله على غيره ولا يمتنع أن يكون فعله الثاني أو كلامه الثاني مشروطا بوجود الأول قبله إذ ما يكون بذاته حادثا شيئا بعد شيء يمتنع وجوده كله في الأزل وأما ما سواه فهو مفعول مصنوع مفتقر من كل وجه إلى غيره فإذا كانت الحوادث تقارنه شيئا بعد شيء امتنع أن تصدر عن مؤثر تام أزلي وامتنع أن يكون المؤثر التام الأزلي يحدث شيئا بعد شيء بل يجب أن يقارنه أثره وامتنع أن يكون المؤثر التام الأزلي موجبا لذاته في الأزل ومقتضيا لحوادثه شيئا بعد شيء لأن حدوث الحوادث المتوالية عن مؤثر تام باق على حالة واحدة وحينئذ فيجوز ترجيح القادر المختار بلا مرجح فتبطل حجتهم. وإن كانت تحدث الحوادث بحدوث أمور منه بحيث تكون ذاته مؤثرا تاما لذات الفلك في الأزل وأفعاله المتوالية موجبة لحوادثه المتوالية فهو لم يكن قط إلا مقارنا لأفعال متوالية قائمة به وحدوث مفعول بلا فعل ممتنع وقدم فعل معين ممتنع لأن الفعل لذاته يقتضي أن يكون شيئا بعد شيء ولا يعقل قدم عين الفعل. وهذا دليل مستقل على حدوث كل ما سوى الله فإن المفعول

القديم لا بد له من فعل قديم وتقدير فعل قديم العين ليس كله ممتنع لذاته لأن العقل لا يعقل إلا حادث الأعيان وإن فرض قدم نوعه لحدوثه شيئا بعد شيء كالحركة التي لا تعقل إلا حادثة الأعيان وإن فرض قدم نوعها. وأيضا فإن الفعل لا بد أن يتقدم المفعول الأزلي لا يتقدمه غيره وهذا أيضا دليل ثان مستقل على حدوث كل ما سوى الله. وقول القائل الأثر يقارن المؤثر والمعلول يقارن العلة إذا أريد به أن يكون عقبه فهذا ممكن وأما إذا أريد به أنهما يكونان معا فهذا ممتنع والتقدم الحقيقي بدون الزمان لا يعقل. وقول القائل إن تقدم العلة على المعلول تقدم عقلي لا زماني دعوى مجردة وتمثيل ذلك بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم تمثيل غير مطابق فإن حركة اليد ليست علة تامة لا لهذا ولا لهذا بل هي ملزومة لها والشيئان المتلازمان الصادران عن فاعل واحد ليس أحدهما معلولا لآخر وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر. وأيضا فهذا يستلزم أن يكون للذات فعل معين قديم معها لازم لها بأفعال متوالية قائمة بها بحيث تضاف الحوادث إلى تلك الأفعال المتوالية ويضاف المفعول القديم إلى الفعل القديم وذلك يقتضي أن يكون ذلك الفعل القديم تناول الملزوم دون اللازم فإنه يتناول العين الملزومة للحوادث دون حوادثها اللازمة كالفلك مثلا والفاعل إذا فعل مفعولا بفعل امتنع أن يفعل بدون لوازمه فإن ذلك يقتضي أن يكون

الفعل القديم تناول ذلك المفعول وأفعال أخر تناولت لوزامه المتعاقبة ومعلوم أن الواجب بالذات أوجب ذاته ذلك الموجب وإيجاب ذاته لها هو فعلها إياها وهذا الفعل القديم الذي هو الإيجاب القديم لا بد أن يكون من لوازم الذات فيمتنع وجودها بدون ذلك الفعل القديم وذلك الفعل القديم يمتنع وجوده بدون لوزامه المتوالية وتلك اللوازم المتوالية مفتقرة إلى الفعل القديم والفعل القديم يفتقر إليها بمعنى أنه يمتنع وجود أحدهما إلا مع الآخر لامتناع وجود مفعول أحدهما إلا مع الآخر. والقديم لا يجوز أن يكون مفتقرا إلى الحوادث لافتقار المعلول إلى العلة ولافتقار المشروط إلى الشرط ولكن قد تكون الحوادث لازمة له مفتقرة إليه وأما هو فلا يكون مفتقر لا إلى عينها ولا إلى نوعها لأن النوع إنما يوجد شيئا فشيئا فيكون القديم الأزلي مفتقرا إلى ما لا يوجد إلا شيئا بعد شيء وما وجب قدمه امتنع عدمه ودام وجوده وما دام وجوده ووجب ذلك لا يكون مفتقرا إلى حوادث متعاقبة إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقال إن الرب الذي يفعل دائما مفتقر إلى فعله لكون فعله لازما له فإن غاية ما يقال في ذلك إن الفعل القديم مشروط بمقارنة الأفعال المتوالية بحيث لا يتصور أن يكون ذلك القديم إلا مع هذه الحوادث المتعاقبة. وحينئذ فيكون وجود فعله القديم بدون الحوادث ممتنع وفعله من لوزام ذاته بمنزلة صفاته اللازمة له فيكون ذلك بمنزلة أن يقال: إن صفاته

اللازمة له يمتنع وجودها إلا مع الحوادث المتعاقبة والحوادث المتعاقبة أفعاله وهذا بمنزلة أن ذاته مفتقرة أو مشروطة بأفعاله المتعاقبة. ومعلوم أن أفعاله مفتقرة إليه من كل وجه فيمتنع أن يفتقر إلى ما هو مفتقر إليه. وهذا دليل ثالث مستقل في المسألة فإن وجود العالم بدون الحوادث ممتنع فلو كان فعله العالم كصفاته الذاتية اللازمة له مفتقرا إلى الحوادث كان صفاته اللازمة له مفتقرة إلى الحوادث وهذا ممتنع وذلك لأن ما لزم ذاته وما قام بها فهو صفة لها. وهؤلاء إن قالوا إن المفعول نفس الفعل والموجب نفس الإيجاب كما هو قول طائفة من النظار فهذا باطل قطعا فإنا نعلم أن خلق المخلوق ليس هو نفس المخلوق ولا ذلك يقتضي أن تكون المخلوقات وجدت بدون فعل من الرب. ولأن الذين قالوا ذلك من أهل الكلام كالأشعري ومن وافقه كابن عقيل وغيره إنما قالوا ذلك لئلا يلزم التسلسل في الآثار وهو باطل عندهم فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق والتأثير غير الأثر فذلك الخلق إن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو ممتنع وإن كان حادثا افتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل. والذين خالفوهم ثلاث طوائف طائفة قالت بل الفعل قديم أزلي ومفعوله محدث كما يقول ذلك طوائف من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث والصوفية ومن أهل الكلام.

وهؤلاء يقولون كما وافقتمونا على أن الإرادة قديمة والمراد متأخر فكذلك نقول الفعل قديم والمفعول متأخر. وطائفة ثانية قالت: بل الفعل حادث العين قائم بذاته ولا يلزم التسلسل كما يلزم التسلسل إذا كانت المفعولات حادثة الأعيان وهذا قول طوائف من الكرامية والمرجئة وغيرهم. وطائفة ثالثة قالت: بل أعيان الفعل حادثة وإن جاز أن يكون نوعه قديما. والمقصود هنا أن الذين قالوا إن الفعل عين المفعول إنما فروا من التسلسل وهو جائز عند هؤلاء الفلاسفة وحينئذ فلا يمكنهم أن يحتجوا بحجة هؤلاء فلا تكون حجة على أن الفعل نفس المفعول إلا قولهم بنفي الصفات مطلقا أو قولهم بنفي الأمور الاختيارية وكلا القولين في غاية الفساد وهم متنازعون في كلا الأصلين. فقول النفاة منهم ومن غيرهم ضعيف فيهما كما بسط في موضعه مع أن القول بحدوث العالم مستلزم لهذين الأصلين كما أن هذين الأصلين يستلزمان لحدوث العالم. وإذا كان كذلك تبين أنه لا يمكنهم القول بأن الفعل نفس المفعول فيلزم أن يكون غيره فإذا قدر الفعل قديم العين كانت صفة لازمة له قديمة العين وإذا كان كذلك فإنه يمتنع أن يفتقر إلى شيء من الحوادث سواء كانت حادثة النوع أو الأعيان كما يمتنع ذلك في ذاته القديمة فإنها إن كانت مفتقرة افتقار المعلول إلى علته امتنع كون

الحادث علة للقديم وإن كانت مفتقرة افتقار المشروط إلى شرطه فلا ريب أن المحدث مشروط بالقديم فإذا كان القديم مشروطا به كان كل من الأمرين مشروطا بالآخر. وهذا ممكن فما كان معلولي علة واحدة وهما حادثان كالأبوة والبنوة أو ما كانا قديمين متلازمين لا علة لهما كالذات والصفات أما إذا كان أحدهما قديم العين والآخر حادث الأعيان كان وجود القديم مشروطا بأمور لم توجد بعد وكان الشرط متأخرا عن المشروط. وإن قيل: المشروط هو النوع وهو ملازم للعين لكن النوع لا يوجد إلا شيئا فشيئا فلا وقت من الأوقات إلا والمقرون بالقديم واحد محدث فيكون ذلك المحدث شرطا في وجود ذلك القديم لا يوجد إلا مع وجوده كما لا يوجد أحد المحدثين إلا مع الآخر ولا الذات القديمة إلا مع الصفة القديمة والقديم لازم للذات وكل من الحوادث ليس بلازم بل عارض وإن كان النوع لازما. أقصى ما يقال: إن الذات هي الموجبة للمعين اللازم وللنوع الحادث أعيانه فيشبه ذلك أحد الصفتين مع الأخرى فيقال الأمر اللازم لا وجود للذات بدونه وإذا كان قائما بالذات فقد دخل في مسماها وصار منها فإن أسماء الله تعالى متناولة لصفاته فما قام بذاته من الصفات اللازمة فهو داخل في اسمه تعالى. فإذا كان ذلك مشروطا بأفعال يحدثها شيئا بعد شيء صار ما هو

واجب الوجود مفتقرا إلى ما هو ممكن الوجود مع أن هذا المقام إذا تحرر كان مفسدا لأصل مذهبهم وكان دليلا مستقلا رابعا. فإن حقيقة قولهم: إن الفلك لازم لذات الله تعالى لا يمكن وجود الرب بدون وجود الفلك بل هو مستلزم له كما أن الفلك مستلزم له فهما متلازمان وهذا بعينه قول بأن مفعوله شرط في وجوده وأن وجوده بدون وجود مفعوله ممتنع وهو قول بافتقار الواجب بذاته إلى الممكن بذاته وهو ممتنع. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن ذكرناها هنا تنبيها على حجتهم العظمى وأن إبطال حجتهم قد يتضمن بطلان قولهم ويكون دليلا على صحة ما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم. الوجه الثاني: أن يقال إحدى المقدمتين في هذه الحجة بطلان التسلسل وأنتم قائلون بجوازه ولكن منازعوكم يقولون بامتناعه فتكون الحجة على أصلكم إلزامية لا علمية فلا تفيدكم المطلوب. هذا إذا فسروا التسلسل بالتسلسل في الآثار دون التأثير وإن فسروه بالتسلسل في أصل التأثير فهذا لا يقوله أحد وهذا هو مراد أئمتهم بالتسلسل في هذا الموضع وإن فهم منه بعض الناس الأول لكن هذه الحجة حينئذ إنما تدل على دوام نوع الحادث فمن قال لم

يزل مؤثرا متكلما إذا شاء وفى بموجب هذه الحجة ولا تدل على قدم شيء من العالم أصلا ومنازعوكم قد عارضوكم وألزموكم امتناع الحوادث مطلقا فتبين فسادها أيضا فإن قالوا نحن نجوز التسلسل في الحوادث القائمة بالعالم وهذه تقتضي التسلسل قبل حدوث العالم أو قبل حدوث شيء من العالم وذلك لا نقول به قيل لهم أولا إذا كان التسلسل في الأزل ممكنا لم يكن فرق بين هذا وهذا بل يجوز أن يقال إن الرب تقوم به أمور اختيارية لا أول لها وقيل لهم ثانيا هذا لا ينفعكم في قدم الأفلاك وما فيها لإمكان أن يكون حدوثها موقوفا على أسباب قبلها حادثة وكذلك الأخرى وقيل لهم ثالثا إذا أمكن التسلسل في الأفعال اللازمة القائمة بالصانع أو في المفعولات المتعدية كان كل منهما مبطلا لاحتجاجكم على قدم الأفلاك والعناصر فكيف إذا اجتمع هذا وهذا الوجه الثالث أن يقال هذا مبني على امتناع التسلسل في الآثار والتسلسل سواء عنى به التسلسل في أصل التأثير أو في الآثار فإنه لا يدل على مطلوبكم والذي يليق بهذه الحجة إنما هو التسلسل في أصل الفعل وهو ممتنع وفاقا

وأما التسلسل في الآثار فهذا فيه قولان معروفان للناس أحدهما منعه كقول كثير من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث. والثاني: جوازه كما هو قول كثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة. وحينئذ فهؤلاء يقولون بجواز هذا التسلسل وأن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن سواء قالوا بقدم نوع الفعل اللازم أو نوع الفعل اللازم والمتعدي فعلى التقديرين يمكن أن يكون كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بالعدم والرب فاعل بمشيئته وقدرته سائر الأشياء. وليس للفلاسفة حجة تعارض هذا القول أصلا إذ ليس لهم حجة تقتضي قدم الأفلاك والعناصر ولا قدم شيء من العالم أصلا بل جميع ما يحتجون به إنما يدل على دوام كون الرب فاعلا سواء في ذلك الحجج العائدة إلى الفاعل والمادة والصورة والغاية وغير ذلك فالأولى مثل قولهم إن كونه فاعلا أمر لازم لنفسه لأنه لو كان عارضا لهذا لاقتضى حدوث ما يجعله كذلك وذلك لا يكون إلا فعلا له ولا يكون عارضا لما تقدم فلا بد أن يكون كونه فاعلا من لوازمه ذاته. وكذلك قولهم: هو جواد وعلة جوده ذاته ونحو ذلك فإن هذا يدل على كون نوع الفعل من لوازمه لا على فعل معين ولا مفعول معين فليس في ذلك ما يدل على قدم السموات ولا مادة السموات ولا غير ذلك من أصناف العالم بل هذا دل على أنه لا يلزمه عين الفعل إذ لو

لزمه ذلك لكان فعله كله قديما والمؤثر التام يستلزم أثره فكان تكون جميع المفعولات قديمة فلا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف الحس. وبهذا يظهر كشف عوار هذه الحجة التي حارت فيها عقول جمهور النظار فإنهم إذا قالوا كل ما لا بد منه في كونه مؤثرا لا بد وأن يكون موجودا في الأزل وإلا لزم حدوثه بعد ذلك بدون مؤثر تام وهو ممتنع وإذا كان موجودا في الأزل لزم حصول الأثر معه كان لفظ التأثير مجملا فإنه يراد به جنس التأثير ويراد به التأثير المعين ويراد به التأثير العام في كل شيء فإنه إما عام وإما مطلق وإما معين فإن أريد به التأثير في كل شيء لزم كون كل شيء قديما وهو مخالف للحس. وكذلك إن أريد به معين فإنها لا تدل على امتناعه لجواز أن يكون مشروطا بحادث قبله وهم وسائر العقلاء يسلمون حدوث الشيء المعين وإن أريد به الجنس لم يدل إلا على دوام النوع لا على قدم شيء بعينه فلم يكن فيها ما يدل على قدم شيء من العالم. والأزل ليس عبارة عن وقت بعينه فإذا قيل جميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا هي قديمة أزلية قيل في كونه مؤثرا في الجملة وكونه مؤثرا في شيء بعينه أو في كونه مؤثرا في كل شيء؟ الأول مسلم عند السلف والأئمة ولا ينفعهم والثاني ممنوع وكذلك ثالثهم وذلك لأن كونه مؤثرا في شيء بعد شيء يقتضي دوام مؤثرتيه ولا يقتضي قدم شيء من العالم ودوام التأثير في شيء بعد شيء هو

ممكن عندهم وهو لا يخلو إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا حصل المقصود وإن كان ممتنعا لزم حدوث كل ما سواه. فتبين أن قولهم بقدم شيء من العالم لا حجة عليه بوجه من الوجوه وكذلك قولهم: إن التقدم والتأخر لا يعقل إلا بالزمان الذي هو مقدار الحركة وقولهم إن كون الشيء حادثا يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن والقبلية والبعدية من لوازم الزمان فإن هذا يستلزم دوام نوع الفعل لا دوام حركة الفلك والشمس والقمر بل السموات والأرض إذا كان الله قد خلقهما في ستة أيام كان هذا الشمس والقمر وهذا الليل والنهار مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن وإن كان بعد قيام القيامة انشقاق السموات وتكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر الكواكب تكون حركات أخرى ولها زمان آخر. كما قال تعالى في الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} (سورة مريم 62) وفي الجنة يوم الجمعة يوم المزيد فهناك أيام معروفة بأمور أخر جعلها الله في الجنة غير الشمس والقمر وكذلك قولهم: إن كل حادث مسبوق بالإمكان المفتقر إلى مادة غايته أن قبل كل حادث حادثا وهذا لا يوجب قدم شيء من العالم وإنما يقتضي تسلسل الحوادث. وكذلك إذا قيل إن المؤثرية وصف وجودي فإن كانت حادثة

افتقرت إلى أخرى ولزم التسلسل وكونه محلا للحوادث وإن كانت قديمة لزم قدم الأثر فإن لازم هذا الدليل ليس بممتنع عندهم وعند السلف وجمهور أهل الحديث وهو كون القديم تقوم به الحوادث المتسلسلة ثم إن كان هذا ممتنعا لزم حدوث الأفلاك فبطلت الحجة الدالة على قدمها وإن لم يكن ممتنعا بطلت الحجة فهي باطلة على التقديرين وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. والمقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم ولكن الذين ناظروهم من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم جعلوا نوع فعله ومفعوله محصور الابتداء والانتهاء كما قاله الجهم بن صفوان وأبو الهذيل إماما هاتين الطائفتين أو جعلوه ممتنع الدوام في الابتداء دون الانتهاء كما قال ذلك كثير من أتباعهما وجعلوا الرب يمتنع عليه الكلام باختياره في الأزل ويمتنع عليه الفعل الاختياري في الأزل بل جعلوه غير قادر على الكلام والفعل في الأزل كما يقوله المعتزلة والكرامية أو غير قادر على الفعل في الأزل ولا قادر على الكلام لا في الأزل ولا فيما يزال كما يقوله الكلابية والأشعرية والسالمية بل الكلام عندهم كالحياة لا يوصف بأنه قادر عليه ولا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته واختياره. وكثير من هؤلاء يقول إن العالم يعدم بالكلية فلا يبقى الرب فاعلا لشيء كما لم يكن قبل ذلك على قولهم وهو فناء هذا العالم عندهم ويقول إن ذلك دل عليه السمع والعقل ومنهم من يقول بل دل عليه السمع وإن إعادة الله للعالم هو بأن يعدمه بالكلية ثم يعيد العالم الذي كان أعدمه.

فهؤلاء وأمثالهم تكلموا في تعطيل الرب عن الفعل وعن الكلام وقالوا إن كلامه مخلوق أو محدث النوع أو محدث العين كان الكلام بعد أن لم يكن متكلما في الأزل بل ولا كان عندهم قادرا على الكلام وإن أطلق بعضهم أنه لم يزل قادرا فهم يقولون مع ذلك بامتناع المقدور في الأزل ومعلوم أنه مع امتناع المقدور يمتنع كونه قادرا وقالوا إن هذا هو القول بحدوث العالم الذي أخبرت به الرسل ونسبوا هذا القول إلى أهل الملل هم ومناظروهم من الفلاسفة. ولهذا استظهرت الفلاسفة على أهل الملل بسبب ظنهم أن هذا هو قولهم حتى آل الأمر إلى أن يقول الفلاسفة إن الرسل لم تخبر بعلم وإنما أخبرت بما فيه تخييل وتمثيل ومعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا حديث عن رسول الله ولا في أثر عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين شيء من هذه الأقوال ولا ما يستلزم هذه الأقوال بل هي أقوال مبتدعة في الدين وهي من الكلام الذي أنكره السلف والأئمة وعابوه وذموه. وقول أولئك بأن السموات أزلية وأنها لا تنشق أعظم إلحادا وضلالا ومخالفة لدين الرسل وهؤلاء أثبتوا قدم الأعيان المخلوقة وأولئك نفوا قدرة الرب على الفعل والكلام دائما فادعوا حدوث النوع. وهذا كما في مسألة القرآن طائفة ادعت قدم أعيان الكلام إما المعنى الواحد المعين وإما الحروف المعينة أو الأصوات والحروف المعينة حتى قالوا إن ما سمعه موسى كان قديما لم يزل الله متصفا به وإنما تجدد السماع فقط وقالوا إنه لم يناده في ذلك الوقت كما دل عليه القرآن

حيث يقول: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (سورة طه 11) بل ما زال مناديا له في الأزل ولكن تجدد سماع موسى لذلك النداء. وطائفة قالت: بل نوع الكلام حادث بعد أن لم يكن إما حادثا في غيره فيكون مخلوقا وإما في نفسه فيكون حادثا أو محدثا غير مخلوق وقال هؤلاء لم يكن في الأزل متصفا بأنه متكلما إلا إذا فسروا المتكلم بالقادر على الكلام ثم كان تفسيره بهذا مع امتناع الكلام في الأزل جمع بين النقيضين بل لم يزل عندهم غير متكلم ويمتنع عندهم أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء. والسلف والأئمة قالوا: لم يزل الله متكلما إذا شاء فالفرق بين دوام النوع وقدمه ودوام الشيء المعين وقدمه يكشف الحجاب عن الصواب في هذا الباب الذي اضطرب فيه أولو الألباب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وليس للفلاسفة حجة تعارض هذا القول ولكن حجتهم تقتضي دوام فاعلية الرب وأن الفعل ولازمه الذي هو تقرير الفعل المسمى بالزمان لا أول له وأن إمكان حدوث الحوادث لا أول له وإمكان تأثير الرب فيها لا أول له وهذا كله يقتضي دوام نوع الفعل لا دوام فعل معين. وقد تقدم بيان أن قولهم يقدم العالم عن العلة التامة باطل قطعا وأن العلة التامة لا يجوز تأخر شيء من معلولها عنها بل وجود علة تامة لم تزل مقارنة لمعلول ممتنع ويمتنع أن يكون المقارن في الزمان مفعولا للفاعل

والحوادث متعاقبة شيئا بعد شيء لا يجوز حدوثها عن علة تامة أزلية فبطلت حجتهم وبطل قولهم بقدم العالم وتبين إمكان حدوث كل ما سوى الله وأنه يمتنع أن يكون العالم صادرا عن علة تامة أزلية موجبة بالذات وهو المطلوب. وتبين أنه لا يمكن حدوث شيء من الحوادث إلا عن فاعل يفعل شيئا بعد شيء وإن قدر أنه غير فاعل بالإرادة فكيف إذا تبين أنه لا تحدث الحوادث إلا عن فاعل مختار بأمور اختيارية تقوم به؟ والعالم مستلزم للحوادث فيمتنع ثبوت الملزوم دون اللازم فيمتنع صدور العالم عن موجب بالذات فيمتنع قدمه ويمتنع قدم شيء منه فإن أي شيء قدر قدمه لم يصدر إلا عن موجب بذاته سواء قدر موجب بذات مجردة أو موجب بالإرادة لذلك القديم يكون إيجابه له قديما دائما بدوامه فيكون ذلك الإيجاب الذي هو التأثير والاقتضاء والفعل المعين لذلك المفعول المعين في الأزل قديما أزليا دائما بدوام الرب تعالى وهو إنما يلزمه نوع الفعل لا فعل معين إذا الفعل لا يعقل ولا يمكن إلا شيئا فشيئا فأما شيء معين دائم ملزوم للحوادث أو غير ملزوم للحوادث فلا يعقل أنه فعل لا سيما ومثل هذا لا يكون إلا مفعولا بالاختيار بل لا يكون إلا عن ذات تختار شيئا بعد شيء فهي لا تكون مجردة عن الاختيار ولا تكون علة تامة أزلية فضلا عن أن يجتمع فيها عدم الاختيار مع كونه علة تامة أزلية.

أقصى ما يقال: إنه قد تقوم بها الأمور الاختيارية شيئا بعد شيء وكل ما قام بها شيء من ذلك حصل تمام التأثير لما يحدث حينئذ وهي بمجردها علة تامة للمعين الذي يلزمه الحوادث لكن هذا باطل أيضا فإنها لا تكون مجردة قط ولا يمكن أن تكون بمجردها فاعلة لشيء. وأيضا فلا يمكن أن يقارن المفعول فاعله في الزمان وذلك أنه لو قدر تجردها في وقت لم يجز حصول قيام شيء من الأمور الاختيارية لها بعد ذلك لأن ذلك يقتضي حدوث حادث بلا سبب وبتقدير تجردها عن الأمور الاختيارية القائمة بها يمتنع أن يحدث عنها أو فيها شيء لامتناع حدوث الشيء بدون علة تامة وهي مع تجردها ليست علة تامة إذ لو كانت كذلك للزم مقارنة الأمور الاختيارية المتجددة شيئا بعد شيء لها في الأزل وذلك جمع بين النقيضين. والأمور الاختيارية الحاصلة شيئا بعد شيء لازمة لها فيمتنع تقدير تجردها عنها فلا يمكن تجردها ولو قدر تجردها لم يجز أن يكون مجردها علة تامة أزلية لشيء معين لأن ذلك المعين مستلزم للحوادث إذ كل ممكن فإنه لم يسبق الحوادث فلو كانت علة تامة أزلية للزم وجود كل واحد من الحوادث في الأزل وهو جمع بين النقيضين وإذا امتنع تجردها وامتنع بتقدير تجردها أن يصدر عنها شيء امتنع أن يصدر شيء عنها إلا مع قيام الأمور الاختيارية بها

والأمور الاختيارية حاصلة شيء بعد شيء فامتنع أن تكون علة تامة لشيء معين دائما إذ مجموع الأمور المشروطة في التأثير إذا لم تكن إلا حاصلة شيئا فشيئا امتنع أن تكون دائمة لشيء معين فامتنع قدم شيء معين فإنه إذا كان قديما أزليا دائما لم يكن بد من أن يكون المقتضي التام له قديما أزليا دائما ومقتضي تام أزلي ممتنع فقدمه ممتنع لأن المقتضي التام إما الذات المجردة عن قيام الأمور المتعاقبة بها التي تصير بها فاعلة شيئا فشيئا أو الذات الموصوفة بذلك والأول الذي يقوله من الفلاسفة من يقوله ممتنع لامتناع تجردها وامتناع حصول شيء عنها في حال التجريد لو قدر ذلك لأن المعلول ملزوم للحوادث فلا يجوز وجوده عن علة تامة أزلية وهي المجردة. وأما الذات الموصوفة بذلك فهي لا تصير فاعلة إلا شيئا فشيئا كما تقدم فيمتنع أن يكون لها فعل معين قديم أزلي فضلا عن أن يكون لها مفعول معين قديم أزلي. ولا يمكن أن يقال هي بمجردها مقتضية لمحل الحوادث وما يقوم بها مقتض لتلك الحوادث لأن الفاعل بقدرته ومشيئته لا يتوزع بعض فعله عليه مجردا عن الإرادة وبعضه عليه مقرونا بالإرادة إذ فعل الموصوف بالإرادة بدون الإرادة ممتنع وكذلك ما يقدر قائما به من

الأمور المتجددة فإنها قائمة به فليس موجودا دونها حتى يقال إنه يفعل بدونها وتقدير الانفصال لا يقتضي تحقيق الانفصال. وهذا كما لو قيل: مجرد الذات تفعل منفكة عن الصفات لا سيما وتلك الأمور شرط في الفعل فلا يوجد المشروط بدون شرطه كما أن الحوادث القائمة بالمفعول شرط في وجوده فيمتنع وجود المستلزم للحوادث بدون الحوادث. وكذلك يمتنع أن تفعل الذات الملزومة دون لوازمها إذ فعلها لملزوم الحوادث مشروط بفعلها لحوادثه اللازمة وفعلها ذلك لا يوجد إلا شيئا فشيئا فصار ذلك الفعل مشروطا بما لا يوجد إلا شيئا فشيئا ووجود المشروط بدون الشرط ممتنع ففعل الملزوم وحده ممتنع فكما أن وجود ذات مجردة عن الصفات ممتنع فوجود فعله مجردا عن ما يقوم به ممتنع ففعله لا يوجد إلا مع اللوازم ولا يكون فعلا له إلا مع اللوازم كما أن المفعول لا يكون موجودا ولا مفعولا إلا مع اللوازم وإذا لم يكن فعلا له إلا مع اللوازم المتعاقبة لم يكن فعلا أزليا فلا يكون المفعول أزليا لأن اللوازم المتعاقبة ليس مجموعها أزليا ولا واحدا منها أزليا ولكن النوع أزلي بمعنى وجوده شيئا فشيئا فيكون الفعل المشروط به موجودا شيئا فشيئا لامتناع وجود المشروط بدون الشرط وإذا كان ذلك الفعل يوجد شيئا فشيئا كان المفعول كذلك بطريق الأولى لامتناع تقدم المفعول على فعله فلا يكون فعل دائم معين فلا يكون مفعول معين دائم.

يبين ذلك أن الفعل هو الإبداع والخلق الذي يسمى اقتضاء وإيجابا وتأثيرا ونحو ذلك. فإذا قيل: إبداع الملزوم واحد معين أزلي وإبداع اللوازم نوع يتجدد شيئا فشيئا فأحد الإبداعين ملزوم للآخر كما أن أحد المبدعين ملزوم للآخر والثاني شرط في نفس كون الأول إبداعا للمفعول لا في مجرد وجوده فإنه لا يصير الإبداع إبداعا إلا مع لازمه الحاصل شيئا فشيئا فلا يكون الإبداع إلا شيئا فشيئا. وليس لزوم هذا لهذا كلزوم نوع الفعل للذات لأن الذات تستلزم صفاتها اللازمة لها وليست مفعولة لها وفعلها صادر عنها وليس أحد الإبداعين صادر عن الآخر بل إبداع المعين إذا قدر أنه أزلي لم يزل كان نوع الإبداع للأمور المتعاقبة قديما أيضا لم يزل وكل منها فعل وخلق وإبداع. ونفس حقيقة الفعل المعين يمتنع قدمه فكيف إذا كان ملازما لما هو حادث شيئا فشيئا فإنهما فعلان متلازمان وأحدهما لا يوجد إلا شيئا فشيئا فالآخر لا يوجد إلا شيئا فشيئا لكونه فعلا بالإرادة ولأن وجود أحد المتلازمين دون الآخر ممتنع وأحدهما يمتنع قدم عينه فالآخر يمتنع قدم عينه لأن وجود القديم الواجب بعلته كما تجب الصفة القديمة بالذات المستلزمة لها لا يتوقف على وجود شيء من الحوادث. ولئن قدر دوام نوعها فليست الصفة القديمة متوفقة عليها

كما أن الذات القديمة ليست متوقفة عليها بخلاف المفعول المعين وفعله المعين فإنه متوقف على وجود ما لا بد له منه من الحوادث المتعاقبة والمحتاج إلى الحوادث المتعاقبة لا يكون قديما أزليا وأحد الفعلين والمفعولين يحتاج إلى الآخر المشروط به الذي يمتنع وجوده إلا بوجود شرط في فعل الفاعل فلا يمكن فعل هذا إلا مع فعل هذا بخلاف الذات وصفاتها مع الفعل. وإذا لم يمكن فعله إلا مع فعل هذا وهذا لا يكون شيء منه قديما فالآخر كذلك ولا يمكن قدم شيء من العالم إلا بقدم فعل له معين ولزوم ذلك الفعل لذات الرب كما تلزم الصفة للموصوف. ومن المعلوم بصريح المعقول الفرق بين صفة الموصوف وبين فعل الفاعل أما الصفة فيعقل كونها لازمة للموصوف إما عينا كالحياة وإما نوعا كالكلام والإرادة ويعقل كونها عارضة لكن ذلك إنما يكون في المخلوق. وأما الفعل فلا يعقل إلا حادثا شيئا بعد شيء وإلا فمن لم يحدث شيئا لا يعقل أنه فعل ولا أبدع سواء فعل بالإرادة أو قدر إنه فعل بلا إرادة ولو كان الفعل لا يحدث لم يعقل الفرق بينه وبين الصفة اللازمة إذ كلاهما معنى قائم بالذات لازم لها بعينه وما كان كذلك لم يكن فعلا لذلك الموصوف ولا يعقل كون الموصوف فعله.

وإن قدِّر أن الفعل هو المفعول وأنه مبدع المفعولات بدون فعل فلزوم هذا له أبعد عن المعقول من لزوم ما يقوم به لا سيما إذا كان قد فعله بقدرته ومشيئته فإن هذا لا يعقل كونه مقدورا مرادا بل إذا قدر أن هذا مفعول مراد لزم إمكان كون الصفة اللازمة التي لا توجد الذات إلا بها مقدورة مرادة. والقادر المريد لا يكن فاعلا إلا بقدرته وإرادته فإذا كانت قدرته وإرادته مقدورة مرادة لزم الدور في التأثير والفعل والاقتضاء فلا يكون قادرا مريدا حتى يكون قادرا مريدا وهذا ممتنع في صريح العقل. وإيضاح ذلك أن ما كان لازما للذات بعينه إما أن يمكن كونه مقدورا مرادا وإما أن لا يمكن فإن لم يمكن كونه مقدورا مرادا ثبت ما قلناه ويتبين أن ما كان لازما بعينه للذات لم يكن مقدورا ولا مرادا فلا يكون شيء من الفعل لازما للذات لأن الفعل لا يكون إلا بقدرته وإرادته لأنه فاعل بالاختيار لأنه لو كان موجبا بالذات لم يتأخر عنه شيء من آثاره ولأن تقدير ذات مجردة عن الصفات ممتنع ولأن الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله وإن سمي علة فلا يعقل مفعول مقارن للفاعل في الزمان. وما يذكر من أن التقدم بالذات كتقدم العلة على المعلول لأنه في الاقتران في الزمان إذا أريد بالعلة الفاعل فهو باطل وإن أريد به غير ذلك فليس هو المراد هنا. وما يذكر من قولهم تحركت يدي فتحرك المفتاح ليس بمثال

مطابق فإن حركة اليد ليست فاعلة لحركة المفتاح بل هي ملازمة لها وقد بين في غير هذا الموضع أن الفاعل لا بد أن يتقدم مفعوله بالزمان مع قطع النظر عن كونه فاعلا بالإرادة. وكونه فاعلا بالإرادة دليل آخر فإنه إذا كان الفعل بقدرته وإرادته وكل ما كان بقدرته وإرادته لم تكن عينه لازمة لذاته فلم يكن شيء من أعيان الفعل لازما لذاته فلا يكون شيء من المفعولات لازما لذاته فلا يكون قديما وهو المطلوب. وهذا في غاية الحسن والصحة. وإن قيل: يمكن أن يكون المعين اللازم للذات مقدورا مرادا. قيل: فتلك القدرة والإرادة يمكن حينئذ أن تكون مقدورة مرادة وحينئذ فإن كانت مقدروة مرادة بتلك الإرادة والقدرة لزم الدور في التأثير والفعل والاقتضاء وإن كانت بأخرى لزم التسلسل في التأثير ونوعه. وكلاهما ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء فإنه حينئذ تلزم الذات قدرة قديمة وإرادة قديمة وتلك لا توجد إلا بقدرة قديمة وإرادة أخرى قديمة وتلك لا توجد إلا بقدرة أخرى قديمة وإرادة أخرى قديمة والفاعل لا يفعل شيئا من القدر والإرادات إلا بعد فعله لبعض القدر والإرادات فلا تلزم أن لا يفعل شيئا فهذا هو الدور في أصل الفعل والتأثير.

وإن قيل: بل الفعل المعين اللازم للذات مقدور مراد ونفس القدرة والإرادة المشروطتين فيه ليست مقدورتين مرادتين. قيل: إن كان المرجع إلى المعقول الصريح فلا فرق بين تقدير فعل معين لازم لذات فاعلة وتقدير غيره من الأمور اللازمة لذات ذلك الفعل فإن الذات مستوجبة للوازمها المعينة لا يمكن وجودها بدون وجود شيء من لوازمها فتفريق المفرق بين لازم ولازم بأن هذا اللازم هو لازم له بقدرته وإرادته وهذا اللازم لازم له بدون قدرته وإرادته تفريق بين المتماثلين وخروج عما يعقل في هذا الباب. ومن أعرض عن نصوص الأنبياء وادعى عقليات تخالفها وليس معه معقول صريح ولا قياس صحيح كان كلامه خارجا عن العقل والسمع كما قال أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (سورة الملك 10) . وهذا الموضع من أحكمه انكشف له حجاب هذا الباب فإن نفس كون الفاعل فاعلا يقتضي حدوث الفعل إما نوعا وإما عينا وأما فعل ليس بحادث لا نوعه ولا عينه بل هو لازم لذات الفاعل فليس هو فعل أصلا. ولهذا كان نفس علم الخلق بأن الشيء مخلوق يوجب علمهم بأنه مسبوق بالعدم إذ لا يعقل مخلوق مقارن لخالقه لازم لم يزل معه. ولهذا كان كلام الله الذي بعث به رسله موافقا لما فطر الله عليه الخلائق والذي فطر عليه العباد أنه إذا قيل هذا فعل هذا أو صنعه

أو خلقه أو أبدعه أو نحو هذه العبارات لم يعقل منه إلا أنه أحدثه بعد أن لم يكن وهذه المقدمة بينة بنفسها لا يحتاج إلى إثباتها بأدلة فطرية بل تقدير نقيضها معلوم الفساد في بدائه العقول. فإذا قيل هذا مفعول لهذا وهو معه لم يزل مقارنا له كان هذا عند العقل جمعا بين النقيضين وكأنه قيل هو مفعول له ليس مفعولا له بل يقول العاقل إذا كان الأمر كذلك لم يكن جعل أحدهما فاعلا والآخر مفعولا بأولى من العكس. وإذا قيل: أحدهما ممكن يقبل الوجود والعدم والآخر واجب بنفسه لا يقبل العدم كان هذا أيضا مما تنكره العقول بفطرتها. فإنه إذا قيل: هذا يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد لم يعقل هذا إلا فيما كان حادثا والإمكان يعود إلى الفاعل تارة وإلى القابل أخرى فيقال في الأول هذا يمكنه أن يكتب ويقوم ويتكلم ويقال في الثاني هذه الأرض يمكن أن يزدرع فيها وهذه المرأة يمكن أن تحمل. وهذا القدر مما اتفق عليه الجمهور من العقلاء وهو مذهب أئمة الفلاسفة بل مذهب أئمة المشائين كأرسطو وأتباعه فإنهم لم يصفوا بالإمكان إلا ما كان حادثا.

وأما تقدير قديم ممكن فهذا يوجد في كلام ابن سينا ومن سلك سبيله كالسهروردي وكالرازي والآمدي وقد أنكر ذلك على ابن سينا طائفة من الفلاسفة إخوانه كابن رشد الحفيد وغيره وبينوا أنه خرج بذلك عن مذهب سلفه القدماء كما خرج به عن المعقول الصريح. ولهذا ورد على هؤلاء في الإمكان من الإشكالات ما لم يمكنهم الجواب عنه كما قد بيناه في كلامنا على المحصل وغيره فإنهم فرضوا ما يستلزم الجمع بين النقيضين وهي تقدير ذات قديمة أزلية لا يمكن عدمها ألبتة. فإن قالوا مع ذلك: هي واجبة بغيرها وقالوا مع ذلك هذه الذات باعتبار حقيقتها تقبل الوجود والعدم ليس أحدهما أولى بها وزادوا على ذلك فقالوا لا يكون وجودها ولا عدمها إلا بسبب منفصل قالوا وسبب عدمها عدم السبب الفاعل. فقال لهم جمهور العقلاء هذا باطل من وجهين: أحدهما: أن

العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى سبب بل العقل الصريح يعلم أن ما لم يوجد قط لا يحتاج في أن لا يوجد إلى علة. ولهذا قال نظار المسلمين إن العدم المحض لا يحتاج إلى علة ثم إذا قالوا علة العدم عدم العلة كان عدم العلة أيضا محتاجا إلى علة إن كان العدم لا بد له من علة. نعم إذا قيل: عدم العلة يستلزم عدم المعلول كان هذا صحيحا ولكن ليس كل ملزوم فاعلا فكل ما لا يوجد إلا بسبب يلزم من عدم سببه عدمه لأن نفس عدم السبب هو الذي جعله معدوما في نفس الأمر بل عدمه في نفس الأمر لا علة له أصلا. الثاني: قولهم في موجود قديم أزلي إنه ممكن يقبل الوجود والعدم كما يقولون مثل ذلك في الفلك فإن هذا باطل أيضا عند جماهير العقلاء من الفلاسفة وأهل الملل وغيرهم وإنما قالته هذه الشرذمة. وأول من قال من الفلاسفة بقدم الفلك صورته ومادته هو أرسطو واتبعه على ذلك من اتبعه كثامثطيوس والإسكندر

الأفرديوسي لكن هؤلاء لم يقولوا إنه ممكن يقبل الوجود والعدم كما يقوله ابن سينا وأتباعه فإن القابل للعدم إن أريد به هذا القديم فالقديم الواجب وجوده ولو بغيره كيف يعقل قبوله العدم؟ وهذا كالصفات اللازمة لذات الرب تعالى فإنها لا تقبل العدم بحال فحياته تعالى لازمة لذاته المقدسة لا تقبل العدم أصلا بل فرض عدمها محال. وإن قيل: هو باعتبار ذاته يقبل العدم. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن تقدير ذات غير الوجود المعين قول تقوله طائفة من الفلاسفة كأتباع أرسطو من أهل المنطق وهو قول باطل عند جمهور العقلاء كما قد بسط في موضعه. ولهذا كان تفريق هؤلاء بين الصفات المقومة الداخلة في الماهية والصفات العرضية اللازمة إما للماهية وإما لوجودها يعود عند التحقيق إلى اعتبارات ذهنية لا إلى صفات تبنى الحقائق عليها في نفس الأمر.

بل حقيقة قولهم في تمام الماهية وجزء الماهية ولازم الماهية يرجع في المعنى إلى دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فما قصده الإنسان بلفظ كان تمام ذلك مراده وتمام معناه وتمام الماهية القائمة في ذهنه التي عبر عنها بذلك اللفظ وما كان جزء ذلك المعنى وهو المدلول عليه بالتضمن وهو جزء ما أراده وجزء ما قام بنفسه من تلك الماهية وما كان لازما لمدلول اللفظ كان خارجا عن المدلول لازما له وهو خارج عن تلك الماهية القائمة في نفسه لازم لها. وهذا الموضع قد بسط في الكلام على المنطق بسطا ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه فمن حقق كلامهم في الصفات الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفات اللازمة الخارجة عن الماهية ورأى كتبهم الكبار المبسوطات في هذا الباب وأعطى النظر العقلي حقه ولم يسلم عبارات لم يحقق معناها تبين له أن ما يذكرونه من الفرق بين الذاتي والعرضي اللازم وما يذكرونه من تركيب الحقيقة من الجنس والفصل وأن هذا هو الذاتي المشترك وهذا هو الذاتي المميز والمركب منهما هو النوع وأن العرضي المشترك هو العرض العام والعرضي المميز هو الخاصة وإنما يعود هذا إلى أمور اعتبارية وهو تركب في الذهن لا تركب في الخارج وذلك يتبع ما يتصوره الإنسان ويعبر عنه لا يتبع الحقائق في نفس الأمر فمن تصور حيوانا ناطقا فالأول ذاتي مشترك والثاني ذاتي مميز والضاحك خارج عما تصوره ومن تصور حيوانا ضاحكا كان الأمر بالعكس فالضاحك في تصور هذا ذاتي والناطق خارج عن الذات.

وهذا المعنى مما تفطن له طائفة من النظار من الفلاسفة وغيرهم وبينوا به ما وقع من غلط هؤلاء في هذا الموضع الذي اشتبه فيه الماهيات الذهنية بالحقائق الخارجية وإلا فكيف يكون الإنسان الموجود في الخارج مركبا من الحيوان والناطق أو الحيوانية والناطقية إن كان مركبا من عرضين فالجوهر لا يتركب من عرضين وإن كان من جوهرين فالإنسان الموجود ليس فيه جواهر متعددة الواحد جسم والآخر حساس والآخر نامي والآخر متحرك بالإرادة والآخر ناطق بل الحق أن الموصوف بهذه الصفة هو الموصوف بالآخر فهو نفسه جسم حساس نام متحرك بالإرادة ولكن بعض هذه الصفات جنسه أعم من بعض فالأعم منها يشركه فيه كل جسم والنامي يشركه فيه النبات والحساس يشركه فيه الحيوان البهيم والناطق لا يشركه فيه إلا الإنسان وأما الموصوف المعين فما قام به من الصفات مختص ولا يشركه فيه غيره وإذا قيل يشاركه فيه غيره فالاشتراك في الأمر الكلي الذي لا يكون كليا إلا في الذهن ومتى وجد في الخارج لم يكن إلا معينا. والإنسان به ذات موصوفة بصفات ومعلوم أن صفة الموصوف لا تكون متقدمة عليه لا في العقل ولا في الوجود ولا يكون مركبا منها وهم يقولون إن أجزاء المركب متقدمة عليه سابقة له وهذا ممتنع في صفة الموصوف لكن إذا أريد بالمركب ما يتصوره الذهن من قول القائل جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق فلا ريب أن هذا

مركب في الذهن وله أجزاء كما إذا تكلم اللسان به كان مجموع الكلام مركبا من الأجزاء وإذا كتب اللفظ بالخط كانت الكتابة مركبة من الأجزاء فالشيء له حقيقة في نفسه ثم يتصور في الذهن ثم يعبر عنه باللسان ثم يكتب بالقلم له وجود في الأعيان والأذهان واللسان والبنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي لكن وجوده الذي هو الوجود الحقيقي هو الوجود العيني كالإنسان الموجود في الخارج. وهذا الإنسان يتصف بأنه حي وبأنه ناطق لكن لم تكن هذه الصفات متقدمة عليه لا في الخارج ولا في العقل ولا مركب منهما بل هو متصف بهما كما هو متصف بسائر صفاته اللازمة له وهذا هو الذي عليه نظار المسلمين وجمهور العقلاء أن الصفات اللازمة للموصوف كلها مشتركة في هذا الباب وأما تقسيمها إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وعرضي لازم خارج وتقسيم اللازم إلى ما هو لازم للذات ولازم لوجودها فهذا قول هؤلاء المنطقيين وقد خالفهم في ذلك جمهور طوائف النظار من المسلمين وغيرهم كما هو موجود في كتب النظار المسلمين. وأول من علمت أنه وافقهم على ذلك أبو حامد في كتبه وأنكر الناس عليه ذلك كما أنكروا ما وافقهم عليه في بعض مسائل الإلهيات والنبوات وإن كان أبو حامد نفسه قد أنكر عليهم ما أنكره من خطئهم في الإلهيات فهذه الأمور مبسوطة في موضعها. والمقصود هنا أن إثبات قديم أزلي يمكن وجوده ويمكن عدمه قول

منكر عند جماهير النظار من المسلمين والفلاسفة كما هو منكر في فطر العقلاء لأن دعوى ذات الممكن في الخارج غير الموجود في الخارج باطل وما يذكرونه من أن الإنسان يتصور المثلث مع الشك في وجوده فذاك لأنه لا يتصوره في الذهن ولا نزاع بين العقلاء أن ما تتصوره الأذهان مغاير لما يوجد في الخارج فإذا أريد بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وقيل ماهية الشيء مغايرة لوجوده كان هذا صحيحا وإنما المنكر أن يراد بالماهية أمر ثابت في الخارج غير الموجود الخارج ويقال إن تلك الماهية هي حقيقة هذا الموجود وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. الوجه الثاني: أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فالقديم الواجب الوجود بغيره لم تزل ماهيته موجودة والوجود لازم لها وتقدير عدمها تقدير ممتنع فإذا قيل يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة لم يكن صحيحا بل لا يمكن عدمها بحال وغايته أن وجودها اللازم لها هو من غيرها لا منها مع أنه وجود واجب بغيره هذا لو أمكن أن يكون القديم الأزلي مفعولا وهذا ممتنع في فطر العقلاء قاطبة. ولهذا جاءت الكتب الإلهية بخطاب الناس بالمعقولات الصحيحة الفطرية فإن الرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها لا بتغيير الفطرة وتحويلها والنفس إنما تنال كمالها بسعادتها ونجاتها بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة ولهذا حيث ذكر الله في كتابه شيئا من هذه الأسماء التي تدل على الفعل لم يعقل العقلاء من ذلك إلا أنه محدث كقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ

رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (سورة العلق 1 3) فهل يعقل العقلاء قط أن الشيء يكون مخلوقا ولا يكون حادثا غير هؤلاء الملحدين في السمعيات والعقليات الذين سلكوا في العقليات مسلك السفسطة وفي السمعيات مسلك القرمطة. وكذلك قوله: {خََلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (سورة النحل 3) . وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (سورة الذاريات: 3) وقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} (سورة الشمس: 5) . وقوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} (سورة النازعات 27 28) . وقوله: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (سورة الرعد 2) . وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} (سورة الأنبياء 32) {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (سورة الأنعام 1) {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (سورة الأنبياء 33) إلى أمثال ذلك من الخطاب الذي قد علم بالاضطرار معناه وأن بناءها أمر حادث كان بعد أن لم يكن وليس المراد أنها قديمة أزلية لم تزل كذلك وأن معنى خلقها أنها معلولة لعلة قديمة أزلية. ومن افترائهم على السمعيات أنهم يسمعون هذا أيضا حدوثا

ويقولون: هذا العالم محدث أي معلول ومعنى حدوثه عندهم وجوبه بالواجب بنفسه وافتقاره إليه. ومعلوم بالاضطرار أن هذا لا يسمى حدوثا كما لا يسمى خلقا ولم يختلف المسلمون وغيرهم أن كل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وأن كل مخلوق حدث وإنما تنازعوا في كل محدث هل يجب أن يكون مخلوقا وأن كل حادث يجب أن يكون محدثا هذا فيه نزاع معروف بين المسلمين كما هو مبسوط في موضعه. ولهذا كان قدماء النظار عندهم كل من قال العالم قديم فقد أنكر الصانع إذ كانوا لا يعقلون أن يقال هو قديم وهو مفعول ولكن متأخريهم لما رأوا من قال من الفلاسفة إنه معلول غير واجب ذكروا هذا القول وبحثوا مع أصحابه. وأما أرسطو وأتباعه فإنما في كلامهم إثبات العلة الأولى من حيث هي غاية وأن الفلك يتحرك للتشبه بها فأوجب وجودها من هذه الجهة لم يثبت وجودها من حيث أن الفلك معلول علة فاعلة كما فعله ابن سينا ومن سلك سبيله فإنه سلك سبيلا بعضها من أصول سلفه الفلاسفة وبعضها أخذه من أصول المعتزلة ونحوهم والرسل صلوات الله عليهم لم يقولوا إن الرب كان في الأزل متعطلا عن الكلام والفعل وأنه لم يمكنه أن يتكلم ولا أن يفعل في الأزل بمشيئته وقدرته وإنما أهل الكلام

المحدث في الإسلام من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم في أصلهم التبس عليهم حدوث الأعيان المخلوقة بحدوث نوعها كما التبس عليهم قدم نوع كلام الله بقدم عين الكلمة وظنوا أن حدوث الأعيان لا يحصل إلا بحدوث النوع فالتزموا تعطيل الرب وتعجيزه في الأزل عن الكلام والفعال وسلبوه صفات الكمال فتسلطت عليهم السلف والأئمة ورثة الأنبياء بالتبديع والتضليل بل وبالتكفير وانفتح عليهم من الفلاسفة سد الدهرية بعد أن كان مبنيا بزبر الحديد فلا للإسلام نصروا ولا للكفار كسروا ولا بحبل الله اعتصموا ولا للكتاب والسنة اتبعوا بل فرقوا دينهم وكانوا شيعا واعتاضوا عن الشريعة الإلهية بما أحدثوا بآرائهم بدعا. ومما يبين هذا انه لما كان شواهد الافتقار في أعيان العالم واحتياجها إلى الصانع بينة ظاهرة بل معلومة بالبديهة كان معلوما مع ذلك أن كلا منها محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن في فطر العامة فإن الأمر مبني على مقدمتين إحداهما أن هذا المعين مفتقر إلى فاعل إذ هو ليس بواجب بنفسه والثانية أن ما افتقر إلى فاعل لم يكن إلا محدثا فإذا كل شيء من العالم تثبت فيه هاتان المقدمتان. وأما كون هذا المعين مفعولا مخلوقا مربوبا مفتقرا إلى بارئه وأنه لازم لفاعله للزوم الفعل الذي به فعله فاعله كلزوم حياته أو بدون فعل قائم به فهذا مما لا يعقله الخلق بفطرتهم التي فطروا عليها.

وهذا النوع من الكلام دليل مستقل على حدوث كل شيء من العالم من جهة كونه ممكنا مفعولا لغيره لا واجبا بنفسه والأول من جهة كونه ممكنا مستلزما لاقترانه بالحوادث فإذا عرف أنه محتاج إلى مبدعه الواجب بنفسه علم أنه محدث من جهة أن فعل الفاعل لا يكون إلا حادث العين أو النوع ومن جهة أن ما كان مستلزما للحوادث لم يمكن أن يفعله الفاعل دونها وفاعل الحوادث لا يكون موجبا بذاته يلزمه مفعوله وما لم يلزمه مفعوله المعين لا يكون مفعوله قديما فلا يكون شيء من العالم قديما. ومن تدبر كلام الدهرية القائلين بقدم الأفلاك من المتفلسفة الإلهيين كأرسطو وشيعته وغيرهم لم يجد لهم دليلا أصلا على قدم شيء من العالم لا الأفلاك ولا غيرها ولكن يذكرون ما يدل على دوام فاعليه الفاعل ونحو ذلك. والذين ناظروا هؤلاء من أهل الجدل والكلام الذي ذمه السلف وعابوه بنوا الأمر على أن الرب لم يزل معطلا عن الكلام والفعل لا يمكنه أن يتكلم ولا أن يفعل ثم صار يمكنه الكلام والفعل بعد أن لم يمكنه من غير تجدد شيء. وهذا أصل الجهمية والمعتزلة والكرامية وهو أصل الكلابية والأشعرية لكن سلكوا في كلام الله تعالى وصفاته مسلكا انفردوا به دون السلف والأئمة وأهل الحديث ودون المعتزلة كما هو معروف من قولهم. ولهذا كان فيما أنكره الناس على الكلابية قولهم إن الرب لم يكن

قادرا على الفعل في الأزل وليس هذا قولهم وحدهم بل هو قول هؤلاء الذين أخذوا عنهم الكلام. ولهذا لما وقع في أرض المشرق زمن السلطان محمود بن سبكتكين ثم في أول دولة السلاجقة زمن ألب رسلان فتنة بين الحنفية والشافعية وكان السلطان قد تقدم بلعنة أهل البدع على المنابر لما كاتبه الحاكم المصري الملحد ودعاه إلى مبايعته فأرسل إلى الإمام القادر فعرفه لصورة الحال وبمبايعته لشريعة الإسلام وكتب الإمام القادر الإعتقاد القادري المعروف وعامته من نظم الشيخ أبي أحمد الكرجي وأمر القائم بقراءته على الناس وتقدم باستتابة أهل البدع فاستتيبت المعتزلة سنة بضع وأربعمائة وجرى على القاضي أبي بكر بن الطيب محنة وقام عليه الشيخ أبو حامد الإسفراييني الشافعي والشيخ أبو عبد الله بن حامد الحنبلي وكان الإسفراييني مظهرا للإنكار عليه جدا مظهرا لمخالفته في قوله في القرآن وكان القاضي أبو بكر يكتب محمد بن الطيب الحنبلي إذ كانت الأشعرية منتسبة إلى السنة وإلى أئمتها منتصرة للمقالات المشهورة عن إمام السنة أحمد بن حنبل وغيره من علماء أهل السنة وصنف القاضي أبو بكر إذ ذاك كتابه المشهور في الرد على الباطنية حزب الحاكم المصري العبيدي وقام السلطان محمود بأرض المشرق وأظهر لعنة أهل البدع على المنابر وكذلك بعده ملوك السلاجقة فأدخل أقوام من الحنفية وغيرهم الأشعرية في اللعنة حتى صنف أبو القاسم القشيري شكايته المشهورة وصنف الحافظ أبو بكر البيهقي رسالة معروفة وذكروا أشياء مما نقمت على أبي الحسن الأشعري وكان مما ذكروه قوله إن الرب لم يكن في الازل قادرا على الفعل.

وهذا أصل قول هؤلاء المتكلمين الذين احتجوا على حدوث العالم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ويلزم من ذلك امتناع أن يكون مقدورا للرب فقالوا صار الفعل ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا. ومعلوم عند من يعلم الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها أنه ليس في الكتاب ولا السنة شيء يدل على أن الرب لم يكن الفعل ممكنا له في الأزل أو لم يكن الفعل والكلام ممكنا له في الأزل أو أنه لم يزل معطلا عن الفعل أو عن الفعل والكلام لم يزل معطلا ثم إنه صار قادرا فاعلا متكلما بعد أن لم يكن كذلك. وقد يجيبون عن هذا بجواب فيه مغلطة فيقولون لم يزل قادرا ولكن المقدور كان ممتنعا في الأزل وهذا تناقض فإن المقدور لا يكون ممتنعا بل لا يكون إلا ممكنا ولأن ذلك يتضمن الانتقال من الامتناع إلى الإمكان بلا حدوث شيء وهو باطل. والجهم هو أول من أظهر هذا الكلام في الإسلام وطرد قياسه بأن ما كان له ابتداء فلا بد أن يكون له انتهاء وأن الدليل الدال على امتناع ما لا يتناهى لا يفرق بين الماضي والمستقبل فقال بفناء الجنة والنار. وكان هذا مما أنكره عليه سلف الأمة وأئمتها مع إنكارهم عليه نفي الصفات والقول بخلق القرآن ونفى الرؤية الذي هو لازم قوله بهذه الحجة.

فإن طردها أوجب عليه أن لا يقوم بذات الله لا صفة ولا فعل ولا كلام وكان ذلك مستلزما لنفي الصانع ولهذا عظم نكير سلف الأمة عليه وعلى أتباعه من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم. قال حرب الكرماني ورواه عنه أبو بكر الخلال في كتاب السنة ثنا محمد بن إدريس يعني أبا حاتم الرازي ثنا علي بن ميسرة ثنا علي بن الحسين بن شقيق سمعت خارجة بن مصعب يقول: "كفرت الجهمية بآيات من كتاب الله قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} (سورة الرعد 35) وقالوا: ينقطع. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (سورة القيامة 22: 23) فقالوا: لا تنظر". وقال الخلال ثنا أبو داود السجستاني ثنا أحمد حدثني أبي قال: قال إبراهيم بن طهمان ما ذكرته ولا ذكر عندي إلا دعوت الله عليه ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم يعني جهما. قال أبو داود ثنا عبد الله بن مخلد ثنا علي بن إبراهيم ثنا يحيى ابن شبل قال: كنت جالسا مع مقاتل بن سليمان وعباد بن كثير إذ جاء شاب فقال: ما تقول في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (سورة القصص 88) فقال مقاتل: "هذا جهمي" ثم قال: "ويحك والله إن

جهما ما حج هذا البيت قط ولا جالس العلماء إنما كان رجلا أعطي لسانا". قال أبو داود ثنا أحمد بن الصباح ثنا علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك قال: "إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى وما نستطيع أن نحكي كلام الجهمية". قال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل ثنا محمد بن مصفى ثنا بقية بن الوليد عن عبد العزيز بن الماجشون قال: "جهم وشيعته الجاحدون". وقال ثنا عبد الله بن أحمد ثنا الحسن بن عيسى مولى ابن المبارك ثنا حماد بن قيراط سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: "الجهمية كفار". وقال عبد الله بن أحمد ثنا محمد بن صالح مولى بني هاشم ثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي أنا المعتمر بن سليمان عن أبيه أنه قال: "ليس قوم أشد نقضا للإسلام من الجهمية". قال عبد الله حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي وعلي بن مسلم ثنا سليمان بن حرب سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: "إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء". قال الخلال أنا أبو بكر المروزي ثنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال كان أبي وعبد الرحمن يقولان: "الجهمية تدور على أن ليس

في السماء شيء" قال المروزي سمعت أحمد الدورقي سمعت يزيد بن هارون وذكر الجهمية فقال كفار لا يعبدون شيئا قال المروزي ثنا إسماعيل بن أبي كريمة سمعت يزيد بن هرون يقول: "القرآن كلام الله لعن الله جهما ومن يقول بقوله كان كافرا جاحدا ترك الصلاة أربعين يوما يريد زعم يرتاد دينا وذلك أنه شك في الإسلام". قال الخلال وأخبرني حرب الكرماني ثنا أبو علي الحسن بن الصباح ثنا قاسم العمري ثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيب حدثنا أبي عن جدي حبيب قال شهدت خالد بن عبد الله القسري خطب الناس بواسط يوم النحر فقال: "أيها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. والجهم بن صفوان أخذ مذهبه عن الجعد بن درهم وكان الجعد هذا من أهل حران وإليه ينسب مروان الجعدي آخر خلفاء بني أمية وكان بحران أئمة الفلاسفة الصابئة القائلين بقدم العالم وتعطيل الصفات وعنهم أخذ تحقيق ذلك أبو نصر الفارابي لما دخل حران وكان الجعد فيما يقال أخذ تعطيل الصفات عنهم ولهذا أنكر كلام الله ومحبة الله فلا يكون له كليم ولا خليل. هذا مع أن الفلاسفة مختلفون في قدم العالم وحدوثه وأساطينهم

المتقدمون على القول بحدوثه بل وعلى إثبات الصفات والأمور الاختيارية القائمة بالله وأول من عرف عنه من الفلاسفة المشائين القول بقدم الأفلاك هو أرسطو وحججه على ذلك واهية جدا لا تدل على مطلوبه بل استدلاله على قدم الزمان وأنه مقدار الحركة فيلزم قدمها ثم ظن أن جنس الزمان مقدار حركة الفلك وهذا غلط عظيم فإن جنس الزمان إذا قيل الزمان مقدار الحركة فهو مقدار جنس للحركة لا حركة معينة بل الزمان المعين مقدار الحركة المعينة ولهذا كان جنس الزمان باقيا عند المسلمين بعد قيام القيامة وانشقاق السماء وتكوير الشمس ولأهل الجنة أزمنة هي مقادير حركات هناك غير حركة الفلك ولهم في الآخرة يوم المزيد يوم الجمعة مع أن الجنة ليس فيها شمس ولا زمهرير بل أنوار وحركات أخر. فمن قال: إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء وبما شاء كان الكلام عنده صفة ذات قائم بذات الله وهو يتكلم بفعله وفعله بمشيئته وقدرته فمقدار ذلك إذا قيل بقدمه كان وفاء بموجب الحجة المقتضية لقدم نوع ذلك من غير أن يكون شيء من العالم قديم مع الله تعالى ولا يحتاج مع ذلك أن يقال لإمكان الفعل بداية ولا أن يجمع بين النقيضين في التقدير فيقال إذا قيل الفعل أو الحادث بشرط كونه مسبوقا بالعدم لا أول لإمكانه فإن هذا التقدير جمع بين النقيضين كما في تقدير كونه لم يزل قادرا مع امتناع دوام المقدور.

فإذا قيل لم يزل الرب قادرا وقيل مع ذلك لم يكن الفعل ممكنا ثم صار ممكنا وأنه يمتنع أن يكون الفعل لم يزل مقدورا كان حقيقة الكلام لم يزل قادرا مع كونه كان غير قادر ثم صار قادرا فإن إثبات القادرية مع امتناع المقدور جمع بين المتناقضين وكذلك هذا وذلك أن الفعل بشرط كونه مسبوقا بالعدم يجب أن يكون له أول فكل ما سبق بالعدم فله أول إذ العدم قبله وما لا أول له ليس قبله شيء بل هو دائم لم يزل. فإذا قيل: الفعل بشرط كونه مسبوقا بالعدم لا أول لإمكانه كان المعنى أن الفعل بشرط كونه له أول لا أول له ونظير هذا التناقض فرقهم بين أزلية الصحة وصحة الأزلية وربما قالوا بين إمكان الأزلية وأزلية الإمكان وهو فرق لا حقيقة له فإنه إذا كان الإمكان الذي هو الصحة أزليا فمعنى ذلك أنه لم يزل الفعل ممكنا صحيحا. هذا هو المراد بأزلية الإمكان والصحة ومعلوم أن هذا يتضمن إمكان أزلية الفعل وصحة ذلك فإنه إما أن يكون الثابت في نفس الأمر أزلية الفعل أو امتناعها فإن كان الثابت هو الامتناع كان الفعل ممتنعا في الأزل فلم يكن ممكنا وحينئذ فلا يكون الإمكان أزليا بل حادثا بعد أن لم يكن وهذا قول بأن إمكان الفعل ليس بأزلي بل حادث بعد أن لم يكن من غير مسبب يوجب حدوثه وهو خلاف قولهم بأزلية الإمكان.

ثم إنه ممتنع بصريح العقل فإنه إذا كان إمكان الفعل له بذاته وهو حادث بعد أن لم يكن كان هذا ممتنعا لوجهين أحدهما أنه يلزم حصول الإمكان بعد الامتناع من غير سبب أوجب كونه قادرا وهو سلب لصفة الكمال للرب في الأزل ودعوى حدوثها بعد أن لم تكن من غير سبب أوجب ذلك وكلاهما ممتنع فإن كماله من لوازم ذاته وكونه قادرا من لوازم ذاته إذ لو لم يكن من لوازم ذاته لكان عارضا لهذا وكان مفتقرا في ثبوت كونه قادرا إلى غيره ثم ذلك الغير إن كان مفعوله فإنه يستلزم الدور القبلي فإنه لا يكون فاعلا للمفعول إلا إذا كان قادرا فلو استفاد كونه قادرا من المفعول والمفعول لا يكون قادرا على الإقدار إلا بإقداره لزم أن لا يكون هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا فلا يكون واحد منهما قادرا. وأيضا فكون المفعول هو الذي يجعل الفاعل قادرا أو فاعلا معلوم فساده بصريح العقل فإن كل ما للمفعول هو من الفاعل لا من نفسه فلو لم يكن الفاعل قادرا إلا بإقدار المفعول له لم يكن قادرا بحال بل ولا كان مفعول أصلا فضلا عن كونه قادرا فضلا عن كونه مقدورا لفاعله. وكذلك لو قدر قديمان أو واجبان كل منهما إنما صار واجبا قادرا بإقدار الآخر كان هذا ممتنعا في صريح العقل وكان مستلزما للدور القبلي فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك قادرا وذاك لا يكون قادرا حتى يجعله هذا قادرا فلا يكون كل واحد منهما قادرا.

فإن كون القادر قادرا في نفسه هو سابق لكونه يجعل غيره قادرا فمن ليس بقادر في نفسه يمتنع أن يجعل غيره قادرا فالامتناع يعلم من جهة بطلان الدور القبلي ومن جهة أن من ليس بقادر يمتنع أن يجعل غيره قادرا. وهذا من أحسن ما يستدل به على التوحيد فإنه يعلم به أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه لا تكون قدرته مستفادة من غيره وحينئذ فإذا قدر قادران كان اجتماعهما على فعل المفعول الواحد ممتنعا لذاته بصريح العقل واتفاق العقلاء فإن فعل أحدهما له يوجب استقلاله فيمتنع أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون هناك فاعل آخر مستقل. ولهذا كان من المعلوم عند العقلاء بصريح العقل أنه يمتنع اجتماع مؤثرين تامين على أثر واحد وإن شئت قلت يمتنع اجتماع علتين تامتين على معلول واحد. وإذا كان كذلك فإذا قدر ربان امتنع استقلال كل منهما بفعل شيء واحد بل إذا فعل أحدهما شيئا كان الآخر فاعلا لشيء آخر وهذا تحقيق قوله تعالى: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (سورة المؤمنون 91) . وأيضا فإذا كانا قادرين فإن أمكن أحدهما أن يفعل بدون الآخر أمكن أن يريد ضد مراد الآخر فيلزم التمانع فإنه إن وجد مرادهما لزم اجتماع الضدين وإن لم يوجد مراد واحد منهما لزم عجزهما جميعا ولزم خلو المحل من أحد المتقابلين اللذين لا يخلو الجسم عنهما مثل أن يريد

أحدهما إحياء جسم ويريد الآخر إماتته أو يريد تحريكه ويريد الآخر تسكينه ونحو ذلك. وإن قيل: يجب اتفاقهما في الفعل بمعنى أنه إذا فعل أحدهما شيئا لم يعارضه الآخر فيه لم يكن واحد منهما قادرا إلا بشرط تمكين الآخر له والإمساك عن معارضته وهذا يستلزم أن لا يكون واحد منهما قادر بنفسه وهو ممتنع كما تقدم. وإن فسر الاتفاق في الفعل بمعنى الاشتراك فيه فالاشتراك في المفعول الواحد بمعنى أن كلا منهما مستقل بالمفعول ممتنع كما تقدم. والاشتراك بمعنى أن هذا له فعل ومفعول غير فعل هذا ومفعوله يوجب أن يذهب كل إله بما خلق والعالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطا ويحتاج بعضه إلى بعض احتياجا يمتنع معه أن يكون بعضه مفعولا لواحد وبعضه مفعولا لآخر فإذا قدر فاعلان لزم أن يذهب كل إله بما خلق وأن يعلو بعضهم على بعض فذهاب كل إله بما خلق لأن مفعول هذا غير مفعول هذا وعلو بعضهم على بعض لأن كونهما قادرين يوجب أن كلا منهما غني في قدرته عن الآخر وأنه يمكنه أن يفعل بدونه فيمتنع أن يفعلا شيئا سواء كانا متفقين لامتناع صدور الفعل الواحد عن فاعلين أو كانا مختلفين لأن ذلك يستلزم التمانع فيكون كل منهما مانعا للآخر فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر دون الآخر فيكون

القادر هو القاهر للآخر فيعلو عليه كما قال تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (سورة المؤمنون 91) وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر لما تكلمنا على طرق الناس في إثبات التوحيد ومعناه. والمقصود هنا أنه يمتنع كون واجبين قدرة كل منهما مشروطة بقدرة الآخر فلا بد أن يكون الرب قادرا بنفسه فتكون قدرته من لوازم ذاته واللازم لا ينفك عن الملزوم وإذا لم يزل قادرا لم يزل يمكنه فعل المقدور وإذا لم يكن فعل المقدور ممكنا لم يكن قادرا في الأزل بل صار قادرا بعد أن لم يكن وليس هذا من الدور المعي الممكن مثل أن يقال لا يكون هذا قادرا إلا مع كون هذا قادرا فإن هذا ممكن في المخلوقات لمعلولي العلة الواحدة فإنهما يحصلان بعلة واحدة فلذلك إذا كان الفاعلان قادرين بإقدار ثالث أمكن أن تكون قدرة أحدهما مشروطة بقدرة الآخر كالأمور المتلازمة التي لا يوجد هذا وقوته إلا مع هذا وقوته. وأما الواجبان القديمان الخالقان اللذان لم يستفيدا قدرتهما من ثالث فلو قيل إن قدرة أحدهما مشروطة بقدرة الآخر لكان من باب الدور القبلي فإن أحدهما إذا لم تكن قدرته من نفسه ولا من ثالث كانت من الآخر وهذا هو الدور القبلي وإن قيل بل هي حاصلة منه ومن الآخر قيل فالحاصل فيه مشروط بقدرته فلا بد له من قدرة يستقل بها لا يفتقر فيها إلى غيره ولا يكون غيره شرطا فيها فتكون تلك القدرة من لوازم ذاته وهو المطلوب وإن كانت من لوازم ذاته امتنع أن يصيرا قادرا بعد أن لم يكن وامتنع أن يصير الفعل ممكنا بعد أن لم يكن

فثبت أنه لم يزل قادرا ولم يزل المقدور ممكنا فثبت أن إمكان الفعل لا أول له وإذا كان الفعل لم يزل ممكنا أمكن أن يكون أزليا وإلا امتنع كونه أزليا. فعلم أن القول بأزلية الإمكان دون إمكان الأزلية جمع بين النقيضين وحذاقهم يعترفون بهذا وإنما ألجأهم إلى هذا ما ادعوه من كون الفعل أو الكلام والفعل لم يكن ممكنا فصار ممكنا بعد أن لم يكن وهذا أول من قاله في الإسلام الجهمية والمعتزلة ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام ولا نقل هذا أحد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بلفظه ولا بمعناه ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان. ثم إنهم لما قالوا هذا احتاجوا أن يجيبوا عن قول المنازع لهم الإمكان لا أول له إذ لو كان له أول للزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا موجب فقالوا نقدر أن إمكان الحدوث لا أول له أو نقول الإمكان بشرط حدوث الممكن لا أول له فيكون حقيقة الكلام إمكان الحدوث له أول لا أول له وهو جمع بين النقيضين بل كل ما قدر أنه يجب حدوثه ويمتنع قدمه فإن إمكان حدوثه له أول ويمتنع أن يكون إمكان هذا الحدوث لا أول له وسواء كان إمكان الحدوث مشروطا بشرط من جهة الفاعل أو القابل فمتى كان إمكان الحدوث له أول امتنع أن لا يكون له أول وإن كان الحدوث للذي له أول يعقل في أعيان الحوادث فما من شيء من المخلوقات إلا وإمكان حدوثه للذي له أول ويمتنع أن يكون حادثا ويكون إمكان الحدوث أزليا.

فهذا القول الذي أحدثته الجهمية والقدرية في الإسلام واتبعهم عليه من اتبعهم وهو بدعة في الشرع وباطل في العقل. وأما إبطال مذاهب الفلاسفة المخالفة للكتاب والسنة فهو ولله الحمد ممكن بصريح المعقول من وجوه متعددة لا تستلزم إلا حقا. فقول الفلاسفة بقدم شيء بعينه من العالم يوجب أنه علة تامة له وهذا باطل من وجوه متعددة كما قد ذكر في موضعه. وأيضا فإنه يمتنع حدوث حادث عن علة قديمة لم يقم بها شيء فإن الفاعل إذا كان حاله عند وجود المعلول الحادث وقبله ومعه سواء كان تخصيص الوقت المعين بحدوث الحادث المعين تخصيصا بلا مخصص وحدوثا بلا سبب حادث فيمتنع أن يحدث عنه شيء بوسط أو بغير وسط فيلزمه أن لا يكون للحوادث محدث وهذا غاية السفسطة. ففروا من القول بأن الحادث لا بد له من سبب فلزمهم أن لا يكون له محدث فكان ما فروا إليه أعظم مما فروا منه بكثير. فتبين أنه لو كان علة قديمة لم يكن حاله بعد أن أوجب ذلك القديم كحاله حين أوجبه لأنه لو استوت الحالان لم يكن تخصيص حال القدم بالإيجاب أولى من غير حال القدم ولم يكن حال الإحداث المعين أولى من حال عدم الإحداث المعين إذ كانت نسبة الجميع إليه سواء من كل وجه.

وإذا قيل: إنه موجب للمعين دائما. قيل له: إيجاب الفاعل للمفعول المعين بمعنى مقارنته له في الزمان ممتنع كما بين في موضعه. وإيجاب الحوادث شيئا بعد شيء بدون قيام أمور متجددة به ممتنع أيضا كما قد بسط في موضعه وإيجاب المعين بدون هذا الحادث وهذا الحادث محال وإيجاب هذا الحادث دائما وهذا الحادث دائما محال. وأما إيجاب الحوادث شيئا بعد شيء فيستلزم أن لا يكون موجبا للحادث إلا عند حدوثه وحينئذ يستكمل شرائط الإيجاب فيلزم من ذلك تجدد الإيجاب بشيء بعد شيء فحينئذ لم يكن موجبا لمعين إلا بإيجاب معين وما استلزم الحوادث لا يكون له إيجاب معين وأما الإيجاب الذي يتجدد شيئا بعد شيء فيمتنع أن يكون به شيء بعينه قديما لأن القديم لا يكون إلا بإيجاب قديم بعينه لا يتجدد شيئا بعد شيء. وصار أصل التنازع في فعل الله هل هو قديم أو مخلوق أو حادث؟ من جنس أصل التنازع في كلام الله تعالى وكثير من المتنازعين في كلامه وفعله ليس عندهم إلا قديم بعينه لم يزل أو حادث النوع له ابتداء فالأول قول الفلاسفة القائلين بقدمه والثاني قول المتكلمين من الجهمية والمعتزلة. ومسألة حدوث العالم متعلقة بهذا لكن الدهرية لم يمكنهم القول

بقدم كل شيء من أعيان العالم فإنه خلاف الشاهد فقالوا بقدم أصول العالم كالأفلاك والعناصر وهم يقولون بدوام الحوادث ويثبتون قديم النوع حادث الأعيان. وصار المناظرون لهم من أهل الكلام يمنعونهم ثبوت هذا النوع ويقولون كل ما ثبت حدوث شيء من نوعه لزم أن يكون نوعه حادثا وأن يكون له ابتداء لامتناع دوام الحدوث والفعل عندهم وظنوا أن القول بأن الله خالق كل شيء لا يتم إلا بهذا فاستظهر الفلاسفة عليهم بهذا وطولوا الكلام عليهم في إبطال هذا وظنوا أنهم بردهم ثبت لهم قدم العالم. وكان خطأ هؤلاء الفلاسفة أعظم من خطأ أولئك فإن نفس الأصل الكلي الذي اعتمدوا عليه لو أعطوه حقه لم يكن فيه دليل إلا على إبطال قول من زعم أن الرب كان معطلا عن الفعل والكلام ليس فيه دليل على قدم شيء من العالم بل هو بعينه يدل على أن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن. والاستدلال بذلك أصح من الاستدلال بتناهي الحوادث لوجهين أحدهما: أن ذلك قد بينوا بطلانه والنزاع فيه طويل ولوازمه شنيعة.

والثاني: أن متأخريهم قالوا هذا إنما يدل على حدوث الأجسام التي لا تخلو عن الحوادث. قالوا فإذا جاز وجود موجود ليس بجسم كالعقول والنفوس لم يكن في هذا ما يدل على حدوث هذا. وهكذا ذكره الشهرستاني والرازي والآمدي والأرموي وغيرهم حتى قال من قال في عقيدته: "الأجسام حادثة" من المتأخرين أتباع هؤلاء وقد لا يجزم بقدم العقول والنفوس لكن يقف عند ذلك ويجزم بحدوث الأجسام لكون هذا هو الذي دل عليه العقل عنده وزعم بعض هؤلاء أن سبب حدوث الأجسام هو ما يحدث من تصورات النفوس المتعاقبة وأجابوا بهذا عما طالبهم به خصومهم من شبهة الحدوث. وزعم الرازي في المطالب العالية أن هذا هو الجواب الباهر عن حجة الفلاسفة واتبعه على ذلك الأرموي في كتابه وزعم هؤلاء أن قدماء المتكلمين لم يجيبوا. عنه وليس الأمر كذلك بل شيوخ المتكلمين قرروا في كتبهم بأنه يمتنع وجود ممكن إلا جسما أو عرضا وبينوا أن ما يدعى الفلاسفة إثباته خارجا عن ذلك كالعقل والنفس والمادة والصورة باطل وإنما يعود ذلك إلى إثبات أمور ثابتة في الذهن لا في الخارج وهي من نوع العرض

أو إلى ثبوت قدر مشترك بين الأجسام وهو الكليات التي لا تخرج عن جسم أو عرض أو إثبات صورة هي إما جسم وإما عرض حتى أن ابن حزم وهو ممن يعظم الفلاسفة قرر أن الأمر منحصر في الأجسام والأعراض وبينوا أنه لا يخرج الممكن عنهما. وآخرون من أئمة الكلام والنظر قرروا ما هو أعم من ذلك أن الموجود لا يخرج عن هذين القسمين وبينوا أن ما يدعى غيرهم إثباته إما أن يكون ممتنعا ثبوته في الخارج وإما أن يكون داخلا في أحد القسمين. ولكن لفظ الجسم والعرض فيه نزاع اصطلاح لفظي وفيه نزاع عقلي كما قد بسط في موضعه والمقصود هنا أن الفلاسفة لا حجة لهم أصلا على قدم شيء من أشخاص العالم بل الأصل العقلي الذي يعتمدون عليه يمنع قدمها وقد ذكرنا هذا في مواضع. وهذا ابن سينا أفضل متأخريهم وهو الذي أخذ فلسفة الأوائل لخصها وضم إليها البحوث العقلية التي تلقاها عن المتكلمين من المعتزلة وغيرهم فزاد فيها ما يوافقها ويقويها بحث صار لهم في الإلهيات كلام له قدر لا يوجد لمتقدميهم فصار أحسن ما عندهم من الإلهيات ما استفاده ابن سينا من كلام المتكلمين والمواضع التي تخالف أصولهم وقد زل فيها المتكلمون صارت عمدة له في الرد على المتكلمين

والمتكلمون المعتزلة لهم مواضع أخطأوا فيها وشاركهم الفلاسفة فيها فصارت الفلاسفة تحتج بها عليهم كنفي الصفات ولهم مواضع انفردوا بالخطأ فيها دون غيرهم من المسلمين والفلاسفة فاستطالت بها عليهم الفلاسفة كقولهم إن المحدث لا يحتاج إلى الفاعل إلا في حال حدوثه لا في حال بقائه وقولهم إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وقولهم إن الممكن يترجح أحد طرفيه إذا كان الوجود أولى به من العدم وإن لم ينته إلى حد الوجود. فهذه الأمور ونحوها من كلام القدرية التي خالفهم فيها أهل السنة وجمهور المسلمين هي مما طولت لسانه عليهم واشتركوا هم وهم في نفي الصفات وسلك ابن سينا فيها مسلكا فمن تدبر كلامه وجده مشتقا من كلامهم إذ كلام قدماء الفلاسفة في ذلك نزر قليل ولم يصر للقوم كلام يعتد به في الإلهيات إلا بسبب ابن سينا وأمثاله بما استفاده من مبتدعة المسلمين. ولهذا لم يكن أولئك يسمون هذا العلم الإلهي وإنما يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار وجوده أو علم ما بعد الطبيعة باعتبار معرفته وهو كلام في الوجود المطلق ولواحقه كالواحد ولواحقه وكتقسيم ذلك إلى الجوهر والعرض وكتقسيم العرض إلى الأجناس التسعة التي هي الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع

والملك وأن يفعل وأن ينفعل ومنهم من يجعلها خمسة ومنهم من يجعلها ثلاثة وقد أنشد فيها: زيد الطويل الأسود بن مالك ... في بيته بالأمس كان متكى بيده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوا ثم أخذوا يتكلمون في أنواع هذه الأجناس حتى ينتهوا إلى مبادئ علومهم الجزئية كالمقدار الذي هو موضوع الهندسة والعدد الذي هو موضوع الحساب والجسم الذي هو موضوع العلم الطبيعي ونحو ذلك وتكلموا في العلة والمعلول بكلام قليل. وأما الكلام بلفظ الواجب الوجود وممكن الوجود فهذا من كلام ابن سينا وأمثاله الذين اشتقوه من كلام المتكلمين المعتزلة ونحوهم وإلا فكلام سلفهم إنما يوجد فيه لفظ العلة والمعلول. وقد تكلمت على ما ذكره معلمهم الأول أرسطو في غير هذا الموضع وبينت قلة فائدة الحق منه وما فيه من التقصير والخطأ الكثير وأنه كما قيل: "لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فيقلى". وأولئك كانوا يعتمدون في إثبات العلة الأولى على أن الفلك متحرك بإرادة والمتحرك بالإرادة لا بد له من مراد يكون محركا له تحريك المعشوق لعاشقه وهذا إذا ثبت لم يفد إلا أن له علة غائية لا يفيد أنه معلول

لعلة فاعلة وهم مع ذلك لا يجعلون مراد الفلك عبادة الله ومحبته بل مراده التشبه به ولهذا جعلوا الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة. والفلك عندهم ليس مفعولا ولا ممكنا ولا معلولا لعلة فاعلة بل هو موجود بنفسه والممكن عندهم لا يكون إلا المحدث المسبوق بالعدم والفلك ليس كذلك.

كلام ابن سينا على واجب الوجود

وابن رشد وأمثاله من الفلاسفة يسلكون طريقة القدماء في هذا الباب فعدل ابن سينا عن ذلك إلى ما استفاده من طرق المتكلمين فسلك طريق تقسيم الوجود إلى الواجب والممكن كما يقسمونه هم إلى القديم والمحدث وتكلم على خصائص واجب الوجود بكلام بعضه حق وبعضه باطل لأن الوجوب الذي دل عليه الدليل إنما هو وجوده بنفسه واستغناؤه عن موجد فحمل هو هذا اللفظ ما لا دليل عليه مثل عدم الصفات وأشياء غير هذه. وهذا اشتقه من كلام المعتزلة في القديم فلما أثبتوا قديما وأخذوا يجعلون القدم مستلزما لما يدعونه من نفي الصفات جعلوا الوجود الذي ادعاه كالقدم الذي ادعوه وليس في واحد منهما ما يدل على مقصود الطائفتين. وسلك طريقا ثانيا في إثبات واجب الوجود ذكرها في كتابه المسمى بالنجاة وهي مبنية على الحدوث فقال: "فصل في آخر في

البيان" ويقول أيضا: "إن كل حادث فله علة مع حدوثه فلا يخلوا إما أن يكون حادثا باطلا مع الحدوث لا يبقى زمانا وإما أن يكون إنما يبطل الحدوث بلا فصل زمان وإما أن يكون بعد الحدوث باقيا والقسم الأول محال ظاهر الإحالة والقسم الثاني أيضا محال لأن الآنات لا تتالى وحدوث أعيان واحدة بعد الأخرى متباينة في العدد لا على سبيل الاتصال الموجود في مثل الحركة يوجب تتالي الآنات وقد بطل ذلك في العلم الطبيعي ومع ذلك فليس يمكن أن يقال إن كل موجود هو كذلك فإن في الموجودات موجودات باقية بأعيانها فلنفرض الكلام فيها فنقول إن كل حادث فله علة في حدوثه وعلة في ثباته ويمكن أن يكون ذاتا واحدة مثل القالب في تشكيله للماء ويمكن أن يكونا شيئين مثل الصورة الصنمية فإن محدثها الصانع ومثبتها يبوسة جوهر العنصر المتخذ منه".

وملخص هذا الكلام أن الموجود الحادث قد يبقى فلا يمكن أن يقال حين حدوثه بطل فإنه جمع بين النقيضين ولا أنه يجب عدمه بعد حدوثه إلا في مثل الحركة وأما في غيرها فأن نعلم أن فيها ما هو باق وأيضا فإنه يوجب تتالي الآنات وهو مبني على مسألة إثبات الجوهر الفرد فيكون الآن جزءا لا ينقسم تلو الآن الآخر وهو يبطل ذلك. وفي الجملة فهذه المقدمة هو أن في المحدثات أمورا باقية هي حق لا ينازعه فيها أحد وما يحكي عن النظام أنه قال إن الأجسام لا تبقى إما أن يقال هو مخالفة للضرورة وإما أن يقال النزاع فيها لفظي وإما أن يقال النزاع فيها في مسألة أخرى وهو افتقار المحدث في حال بقائه إلى ما يبقيه فإنه قد قيل إن النظام إنما أراد بذلك مخالفة أصحابه المعتزلة الذين يقولون إن المحدث إنما يفتقر إلى المؤثر حين حدوثه لا حين بقائه فقال هو إن الباقي حال بقائه مفتقر إلى المؤثر وهذا الذي قاله النظام هو الذي قصده ابن سينا أيضا وهو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة وجماهير العقلاء. ولهذا قال ابن سينا بعد ذلك كلاما صحيحا قال: "ولا يجوز أن يكون الحادث ثابت الوجود بعد حدوثه بذاته حتى يكون إذا حدث فهو واجب أن يوجد ويثبت لا بعلة في الوجود والثبات". "وذلك أنك تعلم أن كل حادث بل كل معلول فإنه

باعتبار ذاته ممكن الوجود ولكن الحق أن ذاته ممكنة في نفسها وإن كان باشتراط عدمها ممتنع الوجود وباشتراط وجودها واجب الوجود وفرق بين أن يقال وجود زيد الموجود واجب وبين أن يقال وجود زيد ما دام موجودا فإنه واجب وكذلك فرق بين أن يقال إن ثبات الحادث واجب بذاته وبين أن يقال إنه واجب بشرط ما دام موجودا فالأول كاذب والثاني صادق فإذا لم نتعرض لهذا الشرط كان ثبات الوجود غير واجب واعلم أن ما أكسبه الوجود وجوبا أكسبه العدم امتناعا ومحال أن يكون حال العدم ممكنا ثم يكون حال الوجود واجبا بل الشيء في نفسه ممكن ويعدم ويوجد وأي الشرطين اشترط عليه دوامه صار مع شرط دوامه ضروري الحكم لا ممكنا ولم يتناقض ذلك فإن الإمكان باعتبار ذاته والوجوب والامتناع باعتبار شرط لاحق به فإذا كانت الصورة كذلك فليس للمكن في نفسه وجود واجب بغير اشتراط ألبتة بل ما دام ذاته تلك الذات لم تكن واجبة الوجود بالذات بل بالغير وبالشرط فلم يزل متعلق الوجود بالغير وكل ما احتيج

فيه إلى غير وشرط فهو محتاج فيه إلى سبب فقد بان أن ثبات الحادث ووجوده بعد الحدوث بسبب يمد وجوده فإن وجوده هو بنفسه غير واجب فليس لأحد من المنطقيين أن يعترض علينا فنقول إن الإمكان الحقيقي هو الكائن في حال العدم للشيء وإن كل ما يوجد فوجوده ضروري فإن قيل له ممكن فباشتراك الاسم فإنه يقال له إن كان الحصول يلحقه بالضروري الوجود فإن العدم أيضا يجب أن يلحقه بالضروري العدم ولا يحفظ عليه الإمكان فإنه كما أنه متى كان موجودا كان واجبا أي يكون موجودا ما دام موجودا كذلك متى كان معدوما كان واجبا أي يكون معدوما ما دام

معدوما لأن نظرنا هنا في الواجب بذاته والممكن بذاته ونظرنا في المنطق ليس كذلك". قلت: هذا الذي ذكره من اعتراض أهل المنطق عليه قد اعترض عليه ابن رشد وغيره وإن كان ابن رشد متأخرا عنه. وذلك أن الممكن في كلام سلفهم الفلاسفة كأرسطو وأصحابه إنما يكون في حال العدم ولهذا يقولون إن الإمكان يفتقر إلى محل يقوم به قبل حصول الممكن ولهذا قالوا كل حادث فإنه مسبوق بإمكان العدم والإمكان وصف ثبوتي فلا بد له من مادة تقوم به. وأولئك لم يكونوا يقسمون الموجود إلى واجب وممكن وإنما هذا تقسيم ابن سينا وأتباعه بل العالم عندهم من قسم الواجب لا الممكن فلفظ الممكن يراد به هذا وهذا وابن سينا لم يرض أن يجعله من باب الاشتراط اللفظي فقط بل أخذ القدر المشترك وهو إمكان أن يوجد وأن يعدم مع قطع النظر عما هو متصف به في الحال وهو السبب الموجب لأحدهما ولا ريب أن هذا يتصف به في الحالين وأما إذا أريد بالممكن أن يوجد أي يصير موجودا في المستقبل فلا يتصف به إلا المعدوم القابل لذلك. وهذا الذي قاله يستلزم أمرين باطلين:

أحدهما: ما غلط فيه هو وسلفه حيث ظنوا أن في الخارج حقيقة تقبل هذا وهذا وأنها متصفة بالوجود والعدم كالذين قالوا المعدوم شيء وقد بسط هذا في موضعه وبين أن الصواب أن هذه الحقيقة المتصورة في العقل هي المحكوم عليها بأنها تقبل أن تكون موجودة في الأعيان وتقبل أن لا تكون موجوده كما أن الممتنع كاجتماع النقيضين إذا قلنا إنه ممتنع فالمراد أن هذه الحقيقة المتصورة ممتنع ثبوتها في الخارج. الثاني: ما خالف فيه وهو ومتبعوه سلفه حيث ظنوا أن القديم الأزلي الواجب الوجود قد يكون ممكنا بغيره يقبل العدم فإنهم جمعوا في ذلك بين كونه ممتنع العدم وكونه قابل العدم وهو إنما يقبل العدم باعتبار كون ذاته مجردة عن الموجب وهذا تقدير ممتنع فلا يقبل العدم إلا على تقدير ممتنع وما كان كذلك فقبوله للعدم ممتنع فجمعوا بين النقيضين وورد عليهم إشكالات لا جواب لهم عنها كما قد بسط في مواضع مثل الكلام على المحصل وغيره. والمقصود هنا تمام كلامه في افتقار المحدثات إلى علة دائمة ليتبين من نفس يصححونه بالمعقول ثبوت حدوث كل ما سوى الله. قال: "فتبين من هذا أن المعلولات مفتقرة في بيان

وجودها إلى العلة وكيف وقد قلنا إنه لا تأثير للعلة في العدم السابق فإن علته عدم العلة ولا في كون هذا الوجود بعد العدم فإن هذا مستحيل أن لا يكون هكذا فإن الحادثات لا يمكن أن يكون لها وجود بالطبع إلا بعد عدم فالمتعلق بالعلة هو الوجود الممكن في ذاته لا في شيء من كونه عبد عدم أو غير ذلك فيجب أن يدوم هذا المتعلق فيجب أن تكون العلل التي لوجود الممكن في ذاته من حيث وجوده الموصوف مع المعلول". قلت: هذا إشارة إلى ما قدمه قبل هذا من أن سبب الافتقار إلى المؤثر هو الإمكان لا الحدوث وليس لنا غرض هنا في كشف ذلك فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الافتقار إلى المؤثر ليس علة أصلا بل نفس المفتقر إلى المؤثر مفتقر إليه لذاته لا لوصف من أوصاف ذاته فكل ما سوى الله فإنه بذاته فقير إليه لا يتصور أن لا يكون فقيرا إليه وفقره إلى الله ليس لعلة أوجبت له أن يكون فقيرا بل فقره لذاته.

وأما كونه محدثا وكونه ممكنا يقبل الوجود والعدم فهذا دليل على فقره ومستلزم لفقره فإن المحدث كان معدوما وما كان معدوما لم يكن موجودا بنفسه بل بغيره وكذلك ما كان يقبل الوجود والعدم فإنه ليس له من ذاته أن يكون موجودا وهذا مثل قولنا مصنوع مخلوق ونحو ذلك فإن ذلك دليل على افتقاره وإلا ففقر الأشياء واحتياجها إلى الخالق هو لذاتها وقولنا لذاته هو بحسب ما اعتيد من الخطاب وإلا فليس لها ذات دونه توصف بفقر ولا غنى بل هو المبدع لإنياتها ولا إنية لها بدون إبداعه ولا دوام لإنياتها بدون إبداعه ولا علة لذلك أصلا كما أن وجوبه بنفسه لا علة له واستغناؤه عن غيره لا علة له. وإذا قلنا: هو موجود بنفسه أو واجب بنفسه أو غني بنفسه فليس المراد أن نفسه جعلته موجودا أو جعلته واجبا أو جعلته غنيا بل نفس الوجود الواجب الغني هو نفسه لا أن هنا فاعلا ومفعولا وعلة معلولا وإنما يغلط في هذا من يظن أن وجوده زائد على حقيقته كأبي هاشم وطائفة من أهل الكلام ومن وافقه من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم والرازي في أحد قوليه فإنهم يجعلون الوجود الواجب معلول الذات الموصوفة كما يجعلون هم والمتفلسفة الذات الممكنة قابلة للوجود المتصفة به ويجعلون الوجود صفة للذات الموجودة. وهذا يقوله تبعا لهم طوائف من نظار أهل السنة كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير منهم كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره والمتكلم بهذا

إما أنه توسع في العبارة أو زل في الفهم وإلا فالذي عليه حذاق النظار من متكلمي أهل السنة وغيرهم أن الموجود في الخارج هو الحقيقة الموجودة في الخارج ليس هناك شيئان: أحدهما: وجود هو جوهر أو عرض والثاني: حقيقة موجودة متصفة بهذا. ولفظ الوجود قد يعنى به المصدر إما مصدر وجد يجد وجودا أو مصدر أوجده الله او مصدر وجدته أجده وجودا. لكن ليس المراد في هذا المقام مسمى المصادر فإن إيجاد الله للخلق هو خلقه لهم وهذا عند الأكثرين هو فعل غير المخلوقين وعند كثير من النظار الخلق هو المخلوق. وأما مصدر وجدت الشيء أجده كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} (سورة النور 39) فهذا فعل قائم بالواجد كالرؤية والمعاينة ونحو ذلك وليس مرادهم بقولهم هذا موجود هذا مرئي معاين وإن كان أصل اللفظ أخذ من هذا فإن ما كان ثابتا في نفسه كان بحيث يجده الواجد أي يراه ويعاينه بخلاف المعدوم المنفي فسمي ما هو بحيث يجده الواجد موجودا لكن إذا قالوا وجد فمرادهم أنه حصل وكان ولا يلحظون أن غيره وجده وإن كان لفظ الفعل مبنيا لما لم يسم فاعله فإذا كان المراد أنه كان وحصل فمعلوم أن كونه وحصوله مصدر كان يكون وحصل يحصل لكن هو إذا صار كائنا وحاصلا فالكائن الحاصل هي حقيقته الموجودة ليس هناك هذا الكائن الحاصل وجود قائم به بعد كونه غير حقيقته الموجودة.

إذا تبين هذا فقولنا: مفتقر لذاته لا يريد به أن هناك ذاتا غير الموجودة ثابتة في الخارج هي الموصوفة بالفقر وإنما يسوغ هذا عند من يقول المعدوم شيء وحقيقته زائده على الوجود في الخارج وإنما المقصود بذلك أن هذا الموجود المخلوق في الخارج هو فقير محتاج فنفس حقيقته التي هي الموجودة هي الفقيرة وإذا قدر أن هناك وجودا زائدا عليه أو وجوده الذي هو مصدر فكل ذلك فقير محتاج كما أن نفسه الموجودة فقيرة محتاجة كما أن الرب غني بنفسه الموجودة وهذا المخلوق موصوف بالفقر والحاجة قبل أن يوجد وبعد أن وجد. أما قبل وجوده فالمراد بذلك أنه لا يكون موجودا إلا بالخالق فلا يصير موجودا بنفسه وأما بعد الوجود فالمراد بذلك أنه ما صار موجودا ولا يدوم وجوده ولا صار له حقيقة ولا تدوم له حقيقة إلا بالخالق. وإذا قلنا: لا يكون موجودا فقد أخبرنا عن شيء تصورناه قبل وجوده وهذه هي ما يتصور في الذهن منه. ولا ريب أن الذين قالوا: المعدم شيء والذين قالوا: إن ماهية الشيء زائدة على وجوده وجدوا الفرق بين ما هو ثابت في الذهن وما هو ثابت في الخارج. وهذا فرق صحيح فإن المعاني الذهنية ليست هي الحقائق

الخارجية لكن توهموا أن هذه المعاني الذهنية ثابتة في الخارج وهذا غلط وهذا مبسوط في موضعه. وإذا كان كل ما سوى الله مفتقرا إليه لذاته والحدوث والإمكان مستلزمان لفقره دالان عليه فهل يتصور إمكان بلا حدوث هذا محل نزاع فجمهور العقلاء من الأولين والآخرين أهل الملل قاطبة وأئمة الفلاسفة كأرسطو وأتباعه يقولون إن الإمكان والحدوث متلازمان وخالف في ذلك ابن سينا وموافقوه فزعموا أن الممكن قد يكون قديما أزليا واجبا بغيره. والمقصود هنا أن ابن سينا ذكر أنه يجب أن تكون العلل التي لوجود الممكن في ذاته من حيث وجوده الموصوف مع المعلول فما دام المعلول دامت عليته كذلك ما دامت العلة دام معلولها. قال: "فإذ قد اتضح هذه المقدمات فلا بد من واجب الوجود وذلك أن الممكنات إذا وجدت وثبت وجودها كان لها علل لثبات الوجود ويجوز أن تكون تلك العلل علل الحدوث بعينها إن بقيت مع الحادث ويجوز أن تكون عللا أخرى ولكن مع الحادثات وتنتهي لا محالة إلى واجب الوجود إذ قد بينا أن العلل لا تذهب إلى غير نهاية ولا تدور".

قال: "وهذا في ممكنات الوجود التي لا تفرض حادثة أولى وأظهر". قال: "فإن تشكك متشكك وسأل فقال إنه لما كان إنما يثبت الممكن الحادث بعلة وتلك العلة لا تخلو إما أن تكون دائما علة لثباته أو حدث كونها علة لثباته فإن كانت دائما علة لثباته وجب أن لا يكون الممكن حادثا وقد وضعناه حادثا فإن حدث كونها علة لثباته فيحتاج أيضا كونه علة لثباته والنسبة التي له إليه إلى علة أخرى لثباته بعد العلة المحدثة لهذه النسبة فإن النسبة التي بينهما قد كانت بسبب ما فيجب أن يدوم ويبقى بسبب والكلام في الأخرى كالكلام في الأولى فهذا بعينه يوجب وضع العلل الممكنة الحادثة معا بلا نهاية".

قال: "نقول في جواب هذا إنه لولا تسبب شيء من شأن ذلك الشيء أن يكون حدوثه بلا ثبات أو ثباته على سبيل الحدوث والتجدد على الاتصال فيلزم منه انتهاء علل محدثة ومثبتة إلى علل أخرى في زمان آخر يناقض تلك أو يزيد عليها تأثيرا حادثا من غير تشايع آنات بل مع بقاء كل علة ومعلول ريثما يتألف إلى الآخر لكان هذا الاعتراض لازما". قال: "فأما هذا الشيء فهو الحركة وخصوصا المكانية وخصوصا المستديرة". قلت: من هنا يتبين المقصود فإن هذا الاعتراض لازم لا محيد عنه وما ذكره من الجواب في غاية الفساد وذلك أن صاحب الاعتراض قال ثبات الحادث لا بد له من علة دائمة كما تقدم فإن كانت تلك العلة القديمة دائمة وجب كون المحدث بها قديما معها لا حادثا فإن حدث كونها علة فذاك أيضا حادث فيلزم أن تكون علية ذلك الحادث حادثة ثانية ثم علية ثبات تلك العلة الحادثة يقتضي علة حادثة ثالثة وهلم جرا.

والعلة يجب أن تكون مع المعلول فهذا يقتضي تقدير علل ممكنة حادثة معا بلا نهاية وهو ممتنع. وهذا الاعتراض مستقيم سواء قيل إن علة الحدوث هي علة الثبات أو قيل للثبات علة غير علة الحدوث وذلك أن علة الحدوث لا بد أن تكون حادثة أيضا فإنها لو كانت قديمة لزم صدور الحادث عن العلة القديمة وهذا ممتنع فإن تلك العلة إما أن تكون دائما علة لحدوثه فيلزم أن يكون المحدث غير محدث بل دائما وإما أن تكون حال كونه علة لحدوثه ثم حدوث كونها علة لحدوثه هو أمر حادث والقول فيه كالقول الأول فلا بد أن تكون له علة حادثة فهذه حوادث في آن واحد لأن علية العلة يجب أن تكون مع المعلول. وأما الجواب الذي ذكره فمقصوده به أنه لولا الحركة لكان هذا الاعتراض لازما فإن الحركة تحدث بلا ثبات أو تثبت على سبيل الحدوث والتجدد على الاتصال فلزم بها انتهاء العلل المحدثة والمثبتة إلى علل أخر في زمان آخر. ومضمون هذا أن كون الشيء علة لحدوث شيء أو لثباته وإن كان حادثا فيسبب حدوثه الحركة المتصلة والحركة المتصلة تحدث عللا أخر في زمان آخر لتلك الكليات فلا تزال العلة باقية بهذا السبب.

فيقال: هذا الجواب باطل من وجهين: أحدهما: أن الكلام في حدوث هذه الحركة الحادثة كالكلام في حدوث غيرها سواء كانت طبيعية أو قسرية أو إرادية لا سيما وهم يقولون هي إرادية. وقد قال بعد هذا: "وأما الحركة الإرادية فإن عللها أمور إرادية ثابتة واحدة كأنها كلية تنحو نحو الغرض الذي يحصل من التصور أولا فهو محفوظ بعينه ثابت وإرادة بعد إرادة بحيث يتصور بعد بعد بعد وأين بعد أين معين كحركة بعد حركة ويكون كل ذلك على سبيل التجدد لا على سبيل الثبات ويكون هناك شيء واحد ثابت دائما وهو الإرادة الثابتة ها هنا الكلية كما كانت الطبيعة في الطبيعة وأشياء تتجدد وهي تصورات جزئية وإرادات مختلفة كما يكون في الطبيعة اختلافات مقادير القرب والبعد ويكون جميعها على سبيل الحدوث".

قال: "ولولا حدوث أحوال على علة باقية بعضها علة لبعض على الاتصال لما أمكن أن كون حركة فإنه لا يجوز أن يلزم عن علة ثابتة أمر غير ثابت". قال: "وأنت تعلم من هذا أن العقل المجرد لا يكون مبدأ جزء الحركة بل يحتاج إلى قوة أخرى من شأنها أن تتجدد فيها الإرادة وتحيل الأينات الجزئية وهذا يسمى النفس وأن العقل المجرد إذا كان مبدأ الحركة فيجب أن يكون مبدءا آمرا متمثلا أو متشوقا أو شيئا مما أشبه هذا فأما مباشر للتحريك فكلا بل يجب أن يباشر التحريك بالإرادة ما من شأنه أن يتغير بوجه ما فيحدث منه إرادة بعد إرادة على الاتصال وقد أشار المعلم الأول في كلامه في النفس إلى أصل ينتفع به في هذا المعنى إذ قال إن لذلك أي العقل النظري الحكم العقلي وأما لهذا فالأفعال الجزئية

والتعقلات الجزئية أي العقل العملي وليس هذا في إرادتنا فقط بل وفي الإرادة التي تحدث عنها حركة السماء". قلت: فقد بين أن العلة الثابتة لا يلزمها أمر غير ثابت وأن الحركة لا تحدث إلا بحدوث تصورات وإرادات جزئية وحينئذ فيقال الكلام في حدوث تلك التصورات الجزئية والإرادات الجزئية التي تحدث عنها الحركة كالقول في حدوث الحركة وليس فوقها عندكم إلا أمر ثابت لا يحدث والأمر الثابت لا يلزم أن يحدث عنه أمر غير ثابت ولا يلزم الثابت أمر غير ثابت وهذا يلزم منه أن لا يكون للحوادث محدث أصلا أو لا يكون تمام علة حدوثها حاصلة بل تحدث حوادث متصلة من إرادات وتصورات وليس هناك إلا أمر ثابت والثابت لا يلزم عنه أمر غير ثابت. فهذا مما يبين بطلان قولهم ومن وجه آخر هو أنه إذا كانت العلة الثابتة لا يلزم عنها أمر غير ثابت فواجب الوجود عندكم علة ثابتة فلا يلزم عنها أمر غير ثابت بل أمر ثابت وإذا كان هذا الذي يلزم عنها فلا يلزم عنه إلا ثابت فالمعقول ثابت والنفس في ذاتها ثابتة فلا يلزم عن ذلك إلا أمر ثابت والتصورات والإرادات المتعاقبة والحركة الحادثة عنها أمر غير ثابت وليس هناك علة لا علة ثابتة ولا علة غير ثابتة.

وهذا تصريح بأن الحوادث تحدث بلا علة وأين تقريره من أن الحوادث بعد الحدوث لا بد لها من علة لثباتها وقد أنكر على من قال يكفيها علة الحدوث وقوله يستلزم أن لا تكون للحوادث علة لحدوثها ولا لثباتها. ومما يبين هذا انه قد ذكر عن المعلم الأول كلاما ارتضاه وهو قوله إن للعقل النظري الحكم العقلي وأما العقل العملي فله الأفعال الجزئية والتعقلات الجزئية. قال: "وليس هذا في إرادتنا فقط بل وفي الإرادة التي تحدث عنها حركة السماء" وإذا كان كذلك فمعلوم أن أعمالنا الحادثة بإراداتنا الجزئية وتعقلاتنا الجزئية لا تحصل إلا بسبب يقتضي ذلك وإلا فمجرد العقل الكلي لا يوجب ذلك لكن هم يقولون إن سبب تغيرات تصوراتنا وإراداتنا هي سبب لحدوث الحوادث مطلقا وهو الحركة الفلكية ولم يتكلم هنا في سبب حدوث الحركة الفلكية المقتضية لتغيرنا إذ لم يكن هناك إلا شيء ثابت دائم إلا عقل كلي وإرادة ثابتة واحدة كلية فأين سبب حدوث هذه الإرادات والتعقلات المتعاقبة التي هي سبب حدوث الحوادث كلها في السموات والأرض؟ وأيضا فقد قال بعد ذلك: "فقد بان إذاً أن شيئا ثباته على

سبيل الحدوث وهو الحركة وأن له علة إنما تكون علة بالفعل لتجدد بعد تجدد يعرض من حالها على الاتصال أو يكون لها ذات باقية متغيرة الأحوال ولولا أنها متغيرة الأحوال لم يحدث عنها تغير ولولا أنها دائمة باقية لم يحدث عنها اتصال التغير وعلى أنه لا بد للتغير من حامل باق سواء كان تغير المؤثر حين يؤثر أو تغير المتأثر فقد انكشفت الشبهة المسئول عنها إذ ظهر أن علل إثبات الحادثات تنتهي إلى علل أولى لها ثابتة الذوات متبدلة الأحوال تبدلا يكون سبب كل ما تجدد وتلك الذات الثابتة مع الحال المعلولة لتلك الذات بسبب أمر آخر مؤد إلى الحال الثابتة التي تصير الذات بها علة لما تجدد ثانيا".

فيقال لهذا: فهذا يقتضي أن العلل الأولى متبدلة الأحوال وتبدل أحوالها هو من الأمور الحادثة فلا بد من بيان سبب حدوثه وإلا فالعلل الثابتة لا يصدر عنها أمور غير ثابتة فهذا أحد الوجهين: الوجه الثاني: أن يقال هب أن الحركة سببها أحوال حادثة لهذه الذات لكن العلة يجب أن تكون مع المعلول فإذا كان المعلول ثابتا وجب أن تكون علته ثابتة والحركة منقضية والأحوال التي عنها الحركة وهي التصورات الجزئية والإرادات الجزئية منقضية لا يثبت منها شيء فيجب كما كان معلولها حادثا لا قديما أن يكون أيضا زائلا بزوالها لا ثابتا. وإن قلت بإثبات علية بأمر حادث غير ذلك الأمر الأول. قيل: الحادث الحركة المتوالية كما لا تكون ثابتة لا يكون علتها ولا معلولها ثابتا فكما أن الثابت لا يلزم عنه غير ثابت فغير الثابت لا يلزم عنه ثابت بل المعلول مساو للعلة في الثبات وعدم الثبات. فالقوم كما أنهم أثبتوا حوادث لا تحدث أصلا فأثبتوا ثبوت ثابتات بلا مثبت أصلا فحقيقة قولهم إنه ليس للحوادث محدث ولا للباقيات مبق وهو إنكار المبدع للممكنات وللحوادث فهذا اللازم مذهب القوم لا محيد عنه.

فإن قيل: هم يقولون إن تلك الأحوال لها محرك أول فهذا هم متفقون عليه كما ذكره أرسطو وأتباعه. وقد ذكره ابن سينا فقال: "فصل في أن المحرك الأول كيف يحرك وأنه محرك على سبيل الشوق" قال: "والذي يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واشتياق فهو الغاية والغرض الذي إليه ينحو المتحرك هو المعشوق والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق". قال: "ولا بد أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا قائما بذاته ليس من شأنه أن ينال وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان". قال: "والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل حال تكون للشيء دائما ولم يكن هذا ممكنا للجرم السماوي

بالعدد فحفظ بالنوع والتعاقب فصارت الحركة حافظة لما يمكن من هذا الكمال ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه ويتبع ذلك من الأحوال والمستفاد من المقادير الفائقة ما يتشبه فيه بالأول من حيث هو مفيض الخيرات لا أن يكون المقصود تلك الأشياء فتكون الحركة لأجل تلك الأشياء بل أن يكون المقصود هو التشبه بالأول بقدر الإمكان في أن يكون على أكمل الأمور في نفسه وفيما يتبعه من حيث هو تشبه بالأول لا من حيث هو يصدر عنه أمور

بعده فتكون الحركة لأجل ذلك المقصود الأول والتشبه به وتعقل ذاته في كمالها الأبدي وذلك يوجب البقاء الأبدي على أكمل ما يكون لجوهر الشيء في أحواله ولوازمه". إلى أن قال: "فعلى هذا النحو يحرك المبدأ الأول جرم السماء". قال: "وقد اتضح لك من هذه الجملة أيضا أن المعلم الأول إذا قال إن الفلك متحرك بطبعه فماذا يعني أو قال إنه متحرك بالنفس فماذا يعني أو قال إنه متحرك بقوة غير متناهية يحرك كما يحرك المعشوق فماذا يعني وأنه ليس في أقواله تناقض ولا اختلاف". قلت: فهذا الذي قالوه يقتضي أن الأول إنما يحرك الأفلاك الحركة الإرادية الشوقية كما يحرك المعشوق لعاشقه تحريك المتشبه به لا لأنه محبوب معبود لذاته ومعلوم أن هذا غايته أنه تحريك من جهة كونه محبوبا مرادا لا من جهة كونه فاعلا ومبدعا وهذا كتحريك الطعام للآكل

والشراب للشارب وكتحريك حسن المرأة لزوجها حتى يجامعها وتحريك الروائح الطيبة للشام حتى يشمها وتحريك كل شائق مطلوب مراد لمن طلبه وأراده واشتاق إليه وكل محبوب لمن أحبه. ومعلوم أن المطلوب المحبوب المراد ليس هو الفاعل المحدث لنفس القوة التي بها يشتهي ولا لنفس الشهوة ولكن وجوده سبب في أن هذا المريد أراد ذلك وفعله وهو سبب غائي لا سبب فاعلي والسبب الغائي هو سابق في التصور والقصد من غير أن يكون له وجود في الخارج وفي الحقيقة فإنما يحرك المحب العاشق الطالب ما في نفسه من تصور المطلوب وقصده ولهذا يكون قبل وجود المطلوب في الخارج بل إذا كانت ذات المحبوب تراد لفعل يتعلق بها كأكل الطعام وشرب الشراب والمتعة بالمرأة نظرا ومباشرة وجماعا ونحو ذلك فالمطلوب بهذه الأفعال هي العلة الغائية فكيف إذا كان المطلوب هو التشبه بالمحبوب لا فعل يتعلق به فليس هو هنا فاعلا شيئا من التصورات والإرادات الحادثة في نفس المحب ولا لشي من أفعاله التي يتشبه فيها بالمحب فقد تبين أن الذي قالوه لو كان صحيحا لم يكن فيه إثبات فاعل لشيء من الحوادث لا العلوية ولا السفلية بل ولا إثبات مبدع لشيء من الممكنات. وأيضا فالمعلم الأول وأتباعه لم يثبتوا أن الفلك ممكن بذاته واجب بغيره ولا أنه معلول علة مبدعه وإنما جعلوا علة حركته وجود الأول

الذي يتشبه به وإنما تكلم في الوجود والواجب والممكن وما يتبع ذلك ابن سينا الذي اشتق ذلك من كلام المتكلمين من المسلمين. وحينئذ فيقال لهؤلاء: هذا الفلك الذي يتحرك هذه الحركة الشوقية إما أن يكون ممكنا بذاته مفتقرا إلى مبدع يبدعه وإما أن يكون واجبا بذاته فإن كان الأول لزم أن يكون مبدعه يحركه وإن من أبدع ذاته فهو على إبداع حركاته أقدر وحينئذ فليس لكم أن تتكلفوا طريقا في إبداع حركاته فإن حركاته إذا كانت إرادية جاز أن يكون المحرك له ملائكة يحركونه بإرادات فيهم وجاز أن تكون تلك الإرادات عبادات لله لا لأجل التشبه بالله ولا طلب ما لا يدرك فإن كلامهم في مقصود الفلك بحركته يشبه كلام الصبيان إذ كان مقصود الفلك أن يتحرك دائما حركة ليس فيها مقصود إلا إخراج أيون وأوضاع يعلم أنه لا يمكنه إخراجها بمنزلة من تدور طول الزمان حول مكان لأن الكمال أن أتحرك من الأزل إلى الأبد وأنا لا يمكنني ذلك فأدور ما يمكنني من الدوران في هذا المكان فهذا بفعل المجانين أشبه منه بفعل العقلاء.

وإن كان الفلك واجبا بنفسه ليس له مبدع لزم أن يكون واجب الوجود بنفسه مفتقرا إلى علة تحركه لا سيما وقد قالوا إنه لا قوام له إلا بالمحرك الأول وما كان كذلك كان مفتقرا إلى غيره لا واجبا بنفسه فإن الواجب بنفسه لا بد أن يكون غنيا عن غيره فإذا جعلوه واجبا بنفسه مفتقرا إلى غيره فقد جمعوا بين النقيضين وإذا كان مفتقرا إلى غيره لزم أن يكون مربوبا مدبرا فيلزم النوع الأول. وأيضا فإن كان واجب الوجود لزم أن يجوز على واجب الوجود الحركة باختياره وإذا كان كذلك فقولوا هذا في الأول ولا حاجة إلى هذا. وأيضا فيلزم أن يكون الواجب الوجود جسما متحيزا تقوم به الحوادث وحينئذ فلا يمتنع أن يكون الأول كذلك. وأيضا فقد قلتم: إن الثابت لا يلزم عنه أمر غير ثابت والأول ثابت وحركة الفلك غير ثابتة وإرادته وتصوراته غير ثابتة فيجب أن لا تكون لازمة عن الأول فلا يكون الأول علة بحال. ومما يبين هذا أن يقال: حركة الفلك سواء كانت إرادية أو غير إرادية لا بد لها من علتين علة فاعلة وعلة غائية كسائر الحركات وأنتم لم تثبتوا لها لا علة فاعلة ولا علة غائية فإن ما ذكرتموه من الغاية يمتنع أن يكون مقصود العاقل الذي لا يزال يدور من الأزل إلى الأبد. وأيضا فيقال: إذا كان الحادث لا بد له من علة حادثة فأن تكون العلة مع المعلول لا يجوز أن تتقدم عليه بدون المعلول ولا أن تتأخر عنه

بدون المعلول فلا توجد إلا معه وحركات الفلك حادثة لزم أن يكون لها علل حادثة تكون معها حادثة والفلك وما فيه معلول لغيره فلا بد لما يحدث فيه من مؤثر منفصل عنه والكلام في ذلك المؤثر كالكلام في غيره فلا بد من إثبات المؤثر الواجب الوجود بنفسه ويمتنع أن يكون تأثيره موقوفا على غيره لئلا يلزم الدور أو التسلسل فيجب أن يكون هو المحدث لهذا كله ويمتنع أن يكون محدثا للحركة اليومية في الأزل لامتناع وجودها في الأزل فكل حركة يومية فإنها لا توجد إلا مقارنة لمؤثرها التام فإذا ليس في الأزل مؤثر تام لشيء من الحركات ويمتنع وجوده في الأزل معها وبدونها فيمتنع كونه أزليا على التقديرين. أما قدمه معها فلا يكون قديما مع مجموعها ولا مع حركة يومية بعينها لامتناع كون هذا أزليا ولا مع حركة بعد حركة. أما أولا فلأن المفعول لا يكون مقارنا للفاعل في الزمان ولا يعقل ذلك في شاهد ولا غائب سواء قيل إنه فاعل بمشيئته أو فاعل بغير مشيئته فكيف إذا كان فاعلا بمشيئته؟! فقوله: الفاعل إن كان موجبا بذاته جاز أن يقارنه مفعوله خطأ مخالف لما عليه جماهير عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين من أهل الملل والفلاسفة وإنما قال هذا شرذمة من الفلاسفة وإنما يعقل هذا في مستلزم ليس بفاعل كالذات المستلزمة للصفات وأما المفعول فلا يكون مقارنا للفاعل ألبتة كما قد بسط في موضع آخر.

وأما ثانيا: فلأنه إذا قدر قديما مفعولا فإن المقتضي له في الأزل لا بد أن يكون مؤثرا تاما له في الأزل مستلزما له بذاته في الأزل إذ لولا ذلك لم يكن أزليا لامتناع وجود قديم إلا بنفسه أو بموجب لقدمه والمقتضي لقدمه الذي هو مؤثر تام فيه لا يجوز أن يفعل ما هو متحرك دائما لأن المعلول يجب أن يناسب العلة فيمتنع وجود ما لم يزل متحركا عما لا حركة فيه بحال لأن نسبته إلى كل جزء من الحركات واحد في جميع الأوقات فتخصيص بعض الأوقات ببعضها دون بعض مع كون الموجب على حال واحدة في جميع الأوقات ممتنع وإن جوز هذا جاز أن يصدر عنه الفعل بعد أن لم يكن صادرا عنه ولأن العالم يشتمل على أنواع مختلفة فصدورها عن واجب بسيط ممتنع سواء قيل هي حادثة بواسطة أو بغير واسطة إذ الواسطة إن كان واحدا لزم أن يصدر عنه مختلف وإن لم يكن واحدا فقد صدر عن البسيط ما هو مختلف. وقول القائل: إنه أبدع الثاني بتوسط الأول لا يدفع هذا فإنه إذا قيل صدرا عنه معا لزم صدور المختلف المتعدد وإن كان أحدهما شرطا في الآخر وإن قيل بل أحدهما صدر عن الآخر لزم صدور المختلف عن البسيط ضرورة. وأيضا فالفلك الثاني مكوكب كثير الكواكب ففيه أمور كثيرة مختلفة وليس فوقه إلا ما هو بسيط عندهم يمتنع أن تصدر عنه المختلفات فكيفما قدروا ظهر ضلالهم. وإن قالوا: فالرب تقوم به الحوادث كما يقوله كثير من أساطينهم

قيل: فعلى هذا يكون القول بقدم العالم أبعد فإنه يمكن حدوثه على هذا التقدير. وأيضا فالذات هنا إنما تفعل بواسطة لا بقدرتها والفعل لا يكون إلا حادثا فيمتنع أن يكون مفعوله قديما فإن المفعول لا يتعدد فعله فلو كان المفعول قديما لزم أن يكون قبل فعله وهو ممتنع. فإن قيل: فعلى هذا القول تكون الذات مستلزمة لما يقوم بها شيئا بعد شيء فكذلك القول في حوادث الفلك. قيل: الفرق بينهما أن الذات واجبة الوجود بنفسها ما هي عليه من الصفات والأحوال لا يقف شيء من ذلك عليه فإذا قيل إنها مقتضية للثاني بشرط انقضاء الأول لم يمتنع بخلاف المعلول الممكن الذي ليس له من نفسه شيء فإنه مفتقر في نفسه وصفاته وأحواله إلى غيره وغيره هو الخالق لذلك كله فإذا قدر الخالق واحدا بسيطا لا تقوم به صفة ولا فعل امتنع أن تكون ذاته علة للأمور المتغيرة المتكثرة أعظم مما يمتنع أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إذ العلة إن لم يكن فيها تغير ولا تكثر امتنع وجود ذلك في المعلول كما أنها إذا كان فيها تغير وتكثر امتنع أن يكون المعلول واحدا بسيطا لما بين المعلول والعلة من المناسبة. ولهذا قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهو صحيح ولكن تقديرهم الأول بسيط لا يصدر عنه فعل تقدير باطل وكذلك

تقديرهم أنه صدر عنه واحد بسيط تقدير باطل فلهذا كثر التناقض والخطأ في أقوالهم وكثر رد الناس عليهم وتجهيلهم لهم في الإلهيات ومتى سلموا ما سلمه الأساطين الأول بحدوث الصفات والأفعال فإن امتناع مقارنة شيء من المفعولات له أزلا وأبدا أظهر منه على التقدير الأول فيمتنع على التقديرين أن يكون حين اقتضائه إياه مؤثرا في حركة بعد حركة بل لما تقدم من أن المؤثر في الحركة يجب أن يقارنها لا يتقدم عليها فالمؤثر التام فيه يجب أن يقارنه فيكون قديما والمؤثر التام في حركة بعد حركة حين تأثيره فيه وقبل تأثيره فيه وبعد تأثيره أما قبله فممتنع فإن القديم ليس قبله شيء وأما بعده فممتنع لأنه حينئذ يلزم أنه حين قدمه لم تكن فيه حركة. والتقدير أنه مستلزم للحركة ولأنه يستلزم أن يكون المؤثر الأول صار مؤثرا بعد أن لم يكن بدون سبب أوجب ذلك وهذا ممتنع لأن غيره لا يؤثر فيه وأما مع تأثيره فيه فممتنع أيضا لأنه حينئذ على هذا التقدير لا يكون مؤثرا إلا في حادث بعد حادث بل يكون تأثيره في كل حادث بعد تأثيره في الحادث الآخر مع أنه على حال واحدة مع جميع الحوادث. ووجود الفلك مع جميع حوادثه فممتنع لأنه قد صارت فيه الحوادث فلو حدثت بعد أن لم تكن لافتقرت إلى محدث يحدثها وذلك يقتضي أن المحدث لها حدث أو حدث إحداثه لها في حين إحداثها

لأن المعلول لا تتقدم عليه علته والقول في حدوث إحداث الإحداث كالقول في حدوث الإحداث وهلم جرا وذلك يستلزم تسلسل علل حادثة في آن واحد ليس فيها علة واجبة وذلك ممتنع فامتنع أن تكون فيه الحوادث بعد أن لم تكن وهم يسلمون ذلك وامتنع أن لا تزال فيه لامتناع موجب لها فامتنع أن تكون علة موجبة لفلك مع حوادثه بدون حوادثه وهو المطلوب. وأيضا فيقال لابن سينا وأتباعه إنكم عدلتم عن طريقة سلفكم في إثبات العلة الأولى عن طريقة الحركة إلى طريق الوجود وقلتم نحن نبين أن وجود الواجب بنفس الوجود لا يفتقر إلى إثباته بالحركة ثم في آخر الأمر أثبتم العلة الأولى بالحركة حركة الفلك كما أثبتها قدماؤكم فإن كانت هذه الطريق صحيحة فلا تعاب ولا يعدل عنها وإن كانت باطلة فلا تسلك. وإن قيل: هي صحيحة وتلك صحيحة. قيل: لا يحصل المراد لا بهذه ولا هذه فإن هذه إنما تثبت علة غائية وليس فيها إثبات مبدع للعالم وطريقة الوجود إنما فيها إثبات موجود واجب لا يتعين أن يكون هو الأول الذي يحرك الفلك بل ولا فيها إثبات مغايرته للفلك بل ولا إثبات لوجوده مباينا للعالم إن لم يضموا إلى ذلك طريقة نفي الصفات بنفي ما سموه تركيبا وذلك باطل على ما قد بسط في موضعه وهو باطل أيضا وإن قدر نفي الصفات لأن ذلك

يستلزم بسيطا لا صفة له ولا فعل وذلك يمتنع أن تصدر عنه الأمور البسيطة ا 4 لمتغيرة وأيضا تمتنع مقارنة المفعول للفاعل. وإن قلتم بمجموع الأمرين يحصل المقصود. قيل: ولا يحصل بمجموع الطريقين أيضا لأن الوجود الواجب الذي أثبتموه لا حقيقة له في الخارج فضلا عن أن يكون هو الأول ولا في أدلتكم الصحيحة ما يمنع أن يكون هو الأول والذي أثبته أولئك لا يقتضي أن الفلك ليس بواجب الوجود بنفسه وهذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا أنه من نفس كلامهم يتبين نقيض مطلوبهم والله أعلم. واعلم أن حقيقة قول هؤلاء القوم في أفعال السموات شر من قول القدرية في أفعال الحيوانات ومن أقوال الطبائعية في الطبيعيات مع فساد قول الطائفتين وذلك أن القدرية يقولون إن الله خالق الحيوان وخالق قدرته التي يقدر بها على الخير والشر لكنه يرجح أحدهما باختياره الذي أنشأه من غير أن يحدث ذلك أحد وهو إنما يختار هذا على هذا لحبه إياه فالأمور التي يحبها هي محركة له كما جعل هؤلاء الأول محركا للفلك وهؤلاء جعلوا حركة الفلك اختيارية وتصوراته التي أحدثها هو من غير أن يحدث ذلك أحد لكن لم يثبتوا أن الفلك وقوته من خلق

الخالق كما نفى ذلك القدرية في الحيوان وأما الطبائعية فإنهم يثبتون في الأجسام الطبيعية قوة هي مبدأ الحركة ولكن يجعلون فوقها أمرا آخر أحدثها ويثبتون حدوث الأسباب مع حدوث المسببات وهؤلاء يجعلون الحركة الفلكية متجددة دائما من غير حدوث أمر يقتضي حدوثها وقولهم شر من قول المجوس الذين قالوا بالأصلين اللذين أحدهما يحدث الخير والآخر يحدث الشر سواء قالوا إن فاعل الشر قديم أو محدث وذلك لأن المجوس جعلوا الخير الحادث من الإله القديم الفاعل للخير وهؤلاء لم يثبتوا أن الله أحدث شيئا لا خيرا ولا شرا فإنه لا موجب للحوادث عندهم إلا حركة الأفلاك والأفلاك تتحرك بما يحدثه من التصورات والإرادات من غير أن يكون الله فاعل شيء من ذلك على قولهم. وأيضا فالمجوس إما أن يجعلوا فاعل الشر قديما آخر فيكونوا قد أخرجوا بعض الحوادث عن خلق الرب وإما أن يكونوا قد جعلوه حادثا فيكونون فيه كالقدرية وقول القدرية خير من قول هؤلاء وقد علم أن كل حادث فلا بد له من محدث وأن كون الحيوان صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا لا بد له من مرجح ومحدث وإلا لو كان حاله وهو فاعل كحاله حين ليس بفاعل لزم الترجيح بلا مرجح فلا بد أن يحدث له عند الفعل ما به يصير فاعلا وذلك الحادث إن كان منه فالقول فيه كالقول في الأول وكالقول في سائر الحوادث وذلك يستلزم حدوث الحادث بلا

محدث وهو ممتنع وإن قيل بالتسلسل لزم تسلسل المؤثرات وهو ممتنع فلا بد أن ننتهي إلى الخالق. وهذا مما يسلمه الفلاسفة ويحتجون به على المعتزلة فهي حجة عليهم هنا وهو أن يقال كون الفلك متحركا لا بد له من محدث لحركته ونفس التشبه به لا يوجب إحداثا للحركة فيجب أن يكون هو المحدث لها ويمتنع أن يكون محدثا للشيء قبل حدوثه فيجب أن يكون محدثا لكل جزء جزء من الحركة عند حدوثه والفلك مستلزم للحوادث فلا بد له في كل آن من يحدث الحادث فيه ويمتنع في القدم إحداث حادث فيه فيمتنع قدمه لأن القدم لا يكون فيه حادث معين ولا جملة الحوادث بل القدم يتضمن أنه دائم بدوام موجبه فيلزم أن يكون موجبه موجبا لحوادثه شيئا بعد شيء والموجب بذاته المستلزم لمعلوله لا يوجب شيئا بعد شيء بل يكون موجبه لازما له دائما ولأن ذلك يستلزم وجود يتغير يقتضي لزوم ما يتغير بما لا يتغير وكونه مفعولا له وهو ممتنع. وأيضا فإذا كانت حركات الأفلاك اختيارية ولا موجب للحوادث إلا هي لزم أن يكون المدبر للعالم أربابا متعددة كل منها حي قادر مريد وقدماؤهم يسمونها الآلهة والأرباب وهذا ممتنع لأن الاثنين إذا اشترطا فإما أن يجب اتفاقهما أو يجوز اختلافهما فإن وجب اتفاقهما بحيث لا يجوز أن يريد أحدهما إلا ما يريد الآخر ولا يقدر أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله فقدرتهما إما أن تكون من غيرهما وإما أن تكون منهما

فإن كانت منهما لزم أن لا يكون كل واحد منهما قادرا إلا بإقدار الآخر له وذلك دور ممتنع فلا يكون واحد منهما قادرا وإن كانت قدرتهما من غيرهما فهما لا يقدران على الإرادة والفعل إلا بإقدار من فوقهما لهما وذلك يستلزم أن يكون فوق الأفلاك من يجعلها قادرة فاعلة وذلك هو ربها فثبت بذلك كون الأفلاك مربوبة وحينئذ يمتنع قدمها كما تقدم. وإن جاز اختلافهما لزم تمانعهما والتمانع يقتضي عجز كل من المتمانعين وأن فعله مشروط بتمكين الآخر له وحينئذ فالعاجز لا يحدث الحوادث بل فوقه قادر يدبره فيلزم أن لا يحدث في العالم حادث عنهما فثبت على كل تقدير أن الأفلاك ليست هي نفسها محدثة للحوادث فبطل قول من يجعلها هي المحدثة لحوادث العالم ويجعلها أربابا آلهة. وأيضا فكل من المخلوقات له وحدة تخصه كالإنسان الواحد والفرس الواحد والشجرة الواحدة ولا يجوز أن يكون المحدث له اثنين فصاعدا لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل التعاون. أما الأول فمتناقض ممتنع من نفسه فإن استقلال أحدهما يناقض مشاركة الآخر فضلا عن استقلاله. وأما الثاني فلأن المتشاركين في عمل الأبدان يتميز كل واحد منهما عن عمل الآخر فأما الواحد فيمتنع أن يكون بين اثنين ألا ترى أن البنائين والخياطين والحايكين والكاتبين والحارثين وحاملي الخشبة وكل متشاركين لا بد أن يتميز فعل كل واحد منهما عن فعل الآخر كما قال تعالى: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (سورة المؤمنون 91) .

وإذا كان الواحد لا يتميز فيه فعل واحد عن فعل آخر امتنع أن يكون مشتركا بين اثنين بل كان خالقه واحدا فمن لم يجعل حدوثه إلا للأفلاك والكواكب المتحركة ونحو ذلك كان قوله باطلا. وأيضا فقولهم إن العقل الفعال أفاض صور العالم إذا استعدت. يقال لهم: هذا الذي فاض عنها جوهر او عرض فإن كان عرضا كفيضان الشعاع عن الشمس والضوء عن السراج ونحو ذلك فالمحدثات الحيوان والنبات والمعدن وروح الإنسان جواهر لا أعراض وإن كان الفائض جوهرا قائما بنفسه فهذا إنما يعرف إذا انفصل من الأول شيء كالماء الفائض ونحو ذلك ولكن قد يكون سببا لحدوث شيء آخر. ومعلوم أن الأجسام تختلط ويمتزج بعضها ويستحيل من حال إلى حال وتلك الحركة عندهم من تحريك الفلك وحدوث الامتزاج الحاصل بالاستحالة تابع لحركة الأجسام لا يتميز أحدهما عن الآخر فلا يكون فاعل هذا غير فاعل هذا حتى يقال التحريك بالأفلاك والامتزاج من العقل الفعال بل فاعل التحريك والخلط هو فاعل المزج والاختلاط وهذا مستلزم لهذا وفعل الملزوم بدون اللازم محال. وهؤلاء يقولون: الأفلاك إذا تحركت تحركت العناصر فامتزجت فتستعد لقبول الصور التي تفيض عليها من العقل الفعال وهذا كلام لا حقيقة له وذلك أنه إذا نزل الماء على التراب فصار طينا فالذي خلط هذا بهذا هو الذي جعل ذلك طينا ولا يجوز أن يكون هذا غير هذا لأنهما لا يختلطان إلا ويصيرا طينا وفعل الملزوم بدون اللازم ممتنع

فلو قيل إن فاعل الاختلاط غير جاعلهما طينا لقيل إن فاعلا فعل الملزوم بدون لازمه الذي لا يمكن وجوده بدونه وذلك ممتنع. ويوضح ذلك أنا إذا قدرنا فاعلين ليس أحدهما ملازما للآخر أمكن وجود هذا أو فعله بدون هذا وفعله فيلزم وجود الاختلاط بدون الطين أو الطين بدون الاختلاط وذلك ممتنع وإن جعلا متلازمين امتنع كون كل منهما واجب الوجود بنفسه واستغناؤه عن غيره ولزم افتقار كل منهما إلى غيره وأن لا يوجد إلا بوجود ذلك الغير وحينئذ فيجب أن يكون لهما فاعل مباين لهما وإلا لزم الدور الممتنع وهو الدور في المؤثرات وهو الدور القبلي لأنه يلزم كون هذا مؤثرا في وجود هذا فلا يوجد إلا به وهذا مؤثر في وجود هذا فلا يوجد إلا به. وأما الدور المعي الاقتراني فذاك إنما يكون في الآثار كالأبوة مع البنوة وكلاهما أمر الإيلاد وأما المؤثرات وشروط التأثير فيمتنع أن يكون الشيئان كل منهما مؤثرا في الآخر أو شرطا في تأثير الآخر فإذا كان شيئان واجبان بأنفسهما كل منهما له تأثير في وجود الآخر بحيث يكون شرطا في وجوده لزم أن لا يوجد واحد منهما حتى يوجد شرط وجوده والتقدير أنه ليس هناك غيرهما ليكون هو الموجد لشرط الوجود بل هذا هو شرط وجود هذا وهذا شرط وجود هذا فلا يوجد واحد منهما وهذا مما يبين أن ليس في العالم ما هو واجب الوجود بنفسه بل الواجب هو واحد مباين للعالم. يوضح هذا أن وجود كل منهما مفتقر إلى إيجاد الآخر فإن هذا من باب الدور القبلي لأن الموجد قبل الإيجاد لم يكن من باب الدور المعي والدور المعي لا يكون إلا في مفعولين أو في الأمور المتلازمة التي لا تفتقر إلى فاعل لصفات الباري تعالى.

وأيضا فإن قوله بنفي الصفات في غاية الفساد واعتبر ذلك بقول فاضلهم ابن سينا فإن ما في كلامه من المستقيم أخذه من المسلمين وما فيه من ضلال فمن أصحابه أو منه وربما قرنه بما يأخذه من كلام المعتزلة وقولهم أيضا بنفي الصفات باطل فإنه أثبت علمه للأشياء بأنه مبدأ فيعقل نفسه ولوازم نفسه إذ العلم بالملزوم يستلزم العلم باللازم. وهذه الطريقة إذا بينت على وجهها فهي مأخوذة من قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (سورة الملك 14) ليس من كلام أئمته ولا عند أرسطو من ذلك خبر بل أرسطو نفي علمه بالأشياء مطلقا وأما كلامه في نفي الصفات فإنه قال في النجاة: "فصل في تحقيق وحدانية الأول بأن علمه لا يخالف قدرته وإرادته وحياته في المفهوم بل ذلك كله واحد لا يتجزأ لأجل هذه الصفات ذات الواحد المحقق فالأول يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل أنه كيف يكون بذلك النظام لا يعقله وهو مستفيض كائن موجود وكل معلوم الكون وجهة الكون عن مبدئه عنده مبدؤه وهو خير غير مناف وهو تابع الخيرية ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتهما فذلك الشيء مراد لكن ليس مراد الأول على نحو مرادنا حتى يكون له فيما يكون

عنه غرض بل هو لذاته مريد هذا النحو من الإرادة العقلية المختصة وحياته هذا بعينه فإن الحياة التي عندنا تكمل بإدراك فعل هذا التحريك ينبعثان عن قوتين مختلفتين وقد قدم أن نفس مدركه وهو ما يعقله عن الكل هو سبب الكل وهو بعينه مبدأ فعله وذلك إيجاد الكل فمعنى الحياة منه وأخذه منه هو إدراك وسبيل إلى الإيجاد فالحياة منه ليس مما يفتقر إلى قوتين مختلفتين ولا الحياة منه غير العلم". قال: "وكذلك القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ للكل لا مأخوذا عن الكل". فيقال: هذا الكلام من أفسد ما يعقل العقلاء بطلانه وإن كان هذا التلخيص الذي لخصه ابن سينا لم يصل إليه أحد من سلفه الفلاسفة بل هم أجهل من أن يصلوا إلى هذا. وذلك أن يقال: أولا ذاته هي نفس أن يعقل النظام أم لا؟ فإن قيل: هو هي لزم أن تكون ذاته هي نفس العلم الذي هو مصدر وصفة ومعنى قائم بغيره والعلم مع العالم هو صفة مع الموصوف كالعرض مع الجوهر ومن

المعلوم أن ذاته قائمة بنفسها وإثبات عقل لها ليس هو إياها. وأيضا فذاته هي نظام الخير أم لا والأول ممتنع لأن ذاته ليست هي النظام الموجود في الممكنات ولأنه قد فرق بين ذاته وبين النظام فهذا معلوم وذاته عالمة فقد ثبت بهذا أن العالم ليس هو العلم ولا المعلوم وهذا يبطل قولهم. وأيضا فهذا النظام الموجود في الكل هو واجب بنفسه أو ممكن؟ فالأول يوجب أن يكون الممكن هو الواجب والمبدع هو المبدع وأما الثاني فإذا كان النظام ممكنا فالموجب له ذاته أم علمه به أم مجموعهما؟ فإن كان الأول فلا حاجة إلى علمه بالنظام فتبقى ذات مجردة عن العلم وإن كان الثاني فذاته موجبة للعلم والعلم موجب للنظام فهذا ذات وعلم وهذا ينقض قوله وكذلك إذا قال المجموع. وأيضا فنفس العلم بنفس النظام من أين صار وحده مقتضيا للنظام ومجرد العلم لا يوجب المعلوم في صورة من الصور لا في العلم النظري ولا العملي أما النظري فظاهر وأما العملي فالعلم شرط في العمل لا أنه موجب للعمل بنفسه وإلا لكان كل من تصور شيئا مما يراد يصير موجودا بنفس تصوره. وإذا قيل: إن العلم ينقسم إلى فعل وانفعال فالعلم الفعلي غايته أن يكون شرطا في الفعل لا أنه موجب للفعل فكون العلم وحده هو الموجب للنظام قضية لم يذكر عليها دليلا بل ادعاها دعوى مجردة وإذا تصورت علم أنها فاسدة بالضرورة.

وأيضا فعلمه بالنظام الذي أبدعه تابع للنظام إذ لو فرض أن المبدع غير ذلك النظام كان العلم أيضا متعلقا به فيجب أن يكون سبب إبداع النظام غير العلم. وأيضا فالعلم من شأنه أن يطابق المعلوم أي معلوم كان فلا فرق بالنسبة إلى العلم بين نظام ونظام إن لم يكن هناك سبب يقتضي تخصيص ذلك النظام دون غيره. وأيضا فيقال: كون ذلك النظام هو النظام الأصلح أمر وجب له بنفسه أم استفاده من مبدعه؟ والأول ممتنع فتعين الثاني وإذا كان إنما استفاده من مبدعه فالموجب له ذات المبدع لا علمه بما في النظام من المصلحة إذ علمه بأن هذا نظام الخير لا يكون علما حتى يكون المعلوم نظام الخير فلا يكون العلم هو الذي جعله نظام الخير وهو في نفسه لم يكن نظام الخير بذاته لأنه يلزم أن يكون واجب الوجود فيلزم أن يكون إنما صار نظام الخير بمبدعه لا بذاته ولا بمجرد العلم وحينئذ فإذا لم يمكن صار نظام الخير بالعلم امتنع أن يصير موجودا بالعلم بطريق الأولى. وأيضا فإذا قدر الذات عالمة بنظام الخير وهي لا تريده امتنع أن تفعله وإذا قدر أنها إرادته ولم تقدر عليه امتنع أن تفعله ومجرد العلم لا يجعل العالم قادرا ولا مريدا فتعين أنه لا بد من القدرة ومن الإرادة وليس واحدة منهما هي العلم. وأيضا فافتقار الفعل إلى كون الفاعل قادرا أعظم من افتقاره إلى

كونه عالما ولهذا يثبتون الأفعال الطبيعية بقوى في الأجسام من غير علم فلو قالوا إنه يفعل بقدرة تغني عن العلم لكان خيرا من قولهم يفعل بعلم يغني عن القدرة مع أن كلاهما باطل وهذا المكان يضيق عن استيفاء بيان فساد كلامهم فإنه كلما ازداد اللبيب له تصورا وتفهما ازداد علما بفساده وتناقضه وبأن القوم من أجهل الناس بالله تعالى. ولهذا أطبق العقلاء على اضطرابهم في العلم الإلهي حتى ابن سبعين وأمثاله يصرحون بذلك فهذا حال هؤلاء الفلاسفة وصار الذين عارضوهم بالكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة الذين يقولون بأن الرب كان معطلا عن الفعل والكلام أو عن الكلام ثم أحدث الكلام عمدتهم في السمع قوله كان الله ولا شيء 4 معه ليس معهم آية ولا حديث. ثم إن هذا الحديث يحتج به نفاة الصفات على أن القرآن مخلوق وأن الله لا علم له ولا قدرة لقوله كان الله ولا شيء معه ثم زاد فيه كثير من المتأخرين وهو الآن على ما عليه كان ومنهم من يظن أن هذا من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أن هذا لم يروه أحد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ويحتج طائفة بهذا على أن الله تعالى لم يستو على العرش وأنه ليس فوق العالم بقولهم وهو الآن على ما عليه كان مع أن الناس متفقون على تجرد النسب والإضافات وأنه تعالى بعد أن خلق السموات والأرض تجدد له نسب وإضافات كالمعية والعلو وغير ذلك.

وجاءت الاتحادية القائلون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق يقولون وهو الآن على ما عليه كان ليس معه غيره، فهذه الموجودات ليست أغيارا له ولا تعدد في الوجود ولا ثنوية ويلقنون شيوخهم العباد المشهورين أن يقولوا الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله ويقولون نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ونحو ذلك من المقالات التي هي أعظم الكفر والإلحاد وهي عند ذاك الشيخ المعظم تحقيق التوحيد ويكتب مضمونه في ورقة ويبعثها إلى المشهورين بالعلم والذين يرقون بها المرضى. وقد تقدم أن هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه في غير موضع فرواه في أول الكتاب في كتاب العلم ولفظه: "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض" ولفظه في موضع آخر "ولم يكن شيء غيره" وفي موضع ثالث "ولم يكن شيء معه" والحديث واحد وذكر في مجلس واحد فالظاهر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل إلا أحد الألفاظ الثلاثة والآخران رويا بالمعنى واللفظ الثابت عنه بلا ريب هو الذي جاء في حديث آخر "ولا شيء قبله" وإذا قيل ولا شيء معه ولا غيره مع كونه أخبر عن حال كون عرشه على الماء فمراده أنه لا شيء معه من هذا الأمر المسئول عنه وهم سألوه عن أول الأمر وسياق الحديث يدل على أنه

أخبرهم بأول هذا العالم الذي خلق في ستة أيام لم يخبرهم بما قبل ذلك كما أن الله في القرآن إنما أخبر بذلك فالذي جاءت به السنة مطابق لما في القرآن في المستقبل أخبر تعالى بالقيامة والحسنات والجنة والنار ولم يخبر بأن العالم يعدم ويفنى بحيث لا يبقى شيء بل أخبر باستحالة العالم. قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (سورة إبراهيم 48) وقال تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (سورة الرحمن 37) وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} (سورة المعارج 8: 9) وقال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} (سورة الواقعة 4-7) وقال تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (سورة القارعة 4 5) وقال تعالى: {ذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (سورة التكوير 1 6) وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} (سورة الانفطار 1 4) وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (سورة الانشقاق 1 4) وأمثال هذه النصوص التي تبين الاستحالة والتغير على السموات والأرض والجبال وأنها تستحيل أنواعا من الاستحالة لتعدد الأوقات.

وكذلك أخبر بإحياء الموتى وقيامهم من قبورهم في غير موضع وقرر سبحانه معاد الأبدان بأنواع من التقرير فتارة يخبر بوقوع إحياء الموتى كما أخبر بذلك في سورة البقرة في عدة مواضع في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (سورة البقرة 55) إلى قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة البقرة 55-56) وقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (سورة البقرة 73) وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} (سورة البقرة 243) وقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} (سورة البقرة 259) وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} الآية (سورة البقرة 260) وذكر إحياء المسيح الموتى وذكر قصة أصحاب الكهف ونومهم ثلثمائة سنة وتسع سنين والنوم أخو الموت فهذه سبع مواضع. ومنها إحياء الحيوان البهيم وإبقاء الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير وذكر سبحانه إمكان ذلك بخلق الحيوان وهو الخلق الأول وبخلق النبات وهو نظيره وبخلق السموات والأرض وأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم فالأول بيان للوقوع وهذا بيان للإمكان.

وهؤلاء المتفلسفة المنكرون لمعاد الأبدان ولحدوث الأفلاك عامتهم يقولون إن المعجزات والكرامات قوى نفسانية إما قوة الإدراك والعلم وإما قوة الحركة والعمل فالإدراك هو قوة النفس التي ينال بها العلم فيجعلون ما أخبرت به الرسل وأمرت به كله استفادوه بهذه القوة من غير أن يكون هناك ملائكة هم أحياء ناطقون نزلوا عليهم بوحي ومن غير أن يكون لله كلام تكلم به خارجا عن أنفسهم ومن غير أن يكون هناك رب خلق العالم بقدرته ومشيئته يقدر على تغيير العلويات وتبديل الأرض والسموات. وكل من فهم حقيقة قولهم وحقيقة ما جاءت به الرسل علم مناقضتهم لهم كما قيل لبعض شيوخنا الفضلاء الذين كانوا يعرفون ذلك ما بين الفلاسفة والأنبياء فقال السيف الأحمر. بل حقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون لا بالله ولا كتبه ولا ملائكته ولا رسله ولا بالبعث بعد الموت فهم أسوأ حالا من اليهود والنصارى. والمقصود هنا أن ابن سينا وهؤلاء بنوا أصل دينهم على أن الوجود لا بد له من واجب وأن الواجب يشترط أن يكون واحدا ويعنون بالواحد ما لا صفة له ولا قدر ولا يقوم به فعل لئلا يثبتوا له صفة كالعلم والقدرة فيكون في الوجود واجبان وهذا ضاهوا به المعتزلة حيث قالوا أخص صفات الرب أن يكون قديما فلا تكون له صفة قديمة لئلا يكون في الوجود قديمان وهي عبارة موهمة فيظن الظان أن أهل الإثبات للأسماء والصفات أثبتوا إلهين قديمين وهم إنما أثبتوا إلها واحدا لا إله إلا هو وهو

موصوف بصفاته التي يستحقها وهو سبحانه قديم بصفاته القديمة والصفة القديمة لا يجب أن تكون مثل الموصوف القديم ولا تكون إلها كما أن صفة الإنسان المحدث لا يجب أن تكون مثل الموصوف المحدث ولا تكون إنسانا وكذلك صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا. وكذلك إذا قيل من أثبت الصفات فقد أثبت واجبين وتعدد الواجب ممتنع كان موهما أن المثبتن أثبتوا إلهين واجبين بذاتهما وإنما أثبتوا إلها واحدا واجبا بنفسه له صفات لازمة له واجبة بوجوبه لا يقبل العدم والتعدد الممتنع في الواجب إنما هو تعدد الإله كما أن التعدد الممتنع في القديم إنما هو تعدد الإله القائم بنفسه لأن ذلك هو تعدده. والمسلمون يقولون كما قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (سورة البقرة 163) والتوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له وهو متضمن لشيئين: أحدهما القول العلمي: وهو إثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن النقائص وتنزيهه عن أن يماثله احد في شيء من صفاته فلا يوصف بنقص بحال ولا يماثله أحد في شيء من الكمال كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (سورة الإخلاص) فالصمدية تثبت له الكمال والأحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع. والتوحيد العملي الإرادي: أن لا يعبد إلا إياه فلا يدعو إلا إياه

ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف إلا إياه ولا يرجو إلا إياه ويكون الدين كله لله قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (سورة الكافرون) . وهذا التوحيد يتضمن أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا شريك له في الملك فجاءت الجهمية ومن شاركهم في النفي فأدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهو في الحقيقة تعطيل مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول وأخذ ذلك هؤلاء الملاحدة فزادوا في النفي. وكانت الجهمية تقول الواحد هو الذي لا ينقسم وهذا لفظ مجمل فإن الله تعالى منزه عن قبول التفريق والتبعيض ولكن مقصودهم بذلك نفى الصفات كما يقولون الواحد الذي لا تركيب فيه ومعلوم أن التركيب الذي هو التركيب المعقول منتفي عن الله فإن التركيب المعقول هو أن يكون اثنان مفترقين فيركبهما غيرهما ثم إن تركبا بأنفسهما كان تركبا لا تركيبا لكن هو أعظم امتناعا في حق الله وكل ما يعقل الناس أنه مركب فهو هذا وهو يمتنع في حق الباري بضرورة العقل واتفاق العقلاء. وما يقولونه من تركيب الجسم من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهو منتف عند جمهور العقلاء في الأجسام المخلوقة فكيف لا يكون منتفيا عن الباري تعالى وما يقولونه من تركيب الأعيان من وجود وماهية هو أيضا منتف عند جمهور العقلاء عن المخلوقات فانتفاؤه عن الخالق أولى.

وما يقولونه أيضا من تركيب الأنواع من الصفات الذاتية الداخلة فهي في ماهيتها المقومة لها المشتركة المميزة هو منتف أيضا عند جمهور العقلاء عن المخلوقات فكيف يكون الخالق؟! وأما اتصاف الرب تعالى بصفات كماله فهذا ليس تركيبا في المخلوقات والواحد منها إذا قيل إنه موجود حي عليم قدير لم يكن في هذا تركيب يعقل أنه تركيب كما يعقل تركيب الكل من أجزائه وإذا سموا هذا تركيبا اصطلاحا لهم أو توهموه تركيبا ظنا منهم لم يكن لفظهم ووهمهم موجبا لأن ينفي عن الرب ما يستحقه من صفات كماله ويوجب أن يثبت وجودا مطلقا لا حقيقة له إلا في الأذهان وأي موجود قدر في الأذهان كان أكمل منه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. والمقصود هنا أن هؤلاء القائلين بقدم العالم وإن أقروا بمبدع العالم فقولهم بالحجة التي يثبتون عليها إثبات مبدع العالم حجة ضعيفة بل قولهم مستلزم لنفي الصانع وهذا كان المشهور عند أكثر أهل الكلام عن القائلين بقدم العالم أنهم ينكرون الصانع وأكثر كتب المتكلمين ليس فيها نقل عن القائلين بقدم العالم إلا إنكار الصانع ولكن الذين نقلوا كلام ابن سينا وأمثاله هم الذين صاروا يحكون عنهم قولين أحدهما إنكار الصانع والآخر القول بوجوب العالم عن علة موجبة له ولبسوا بهذا على بعض الناس لكن القول بنفي الصانع أعظم فسادا في العقول والأديان من قولهم.

وقد بسطنا الكلام على طرق الناس في إثبات الصانع في غير هذا الموضع وبينا كثرة الطرق في ذلك وأن القرآن جاء بأكمل الطرق في ذلك وتكلمنا على قول من قال إن الإقرار بالصانع فطري ضروري ومن قال إنه نظري استدلالي ومن قال إنه تارة يكون فطريا ضروريا وتارة يكون نظريا استدلاليا وذكرنا ما يذكر في ذلك من المقدمات التي لا يحتاج إليها في أصل الاستدلال وإنما يحتاج إليها من عرضت له الشبهة التي يحتاج إلى إزالتها فتكون الحاجة إلى تلك المقدمة عارضة بحسب حال بعض الناس ليست لازمة لكل من عرف الصانع أو استدل على وجوده فهي من عوارض طريق المعرفة لا من لوازم طريق المعرفة. وهذا مثل إبطال الدور والتسلسل وغير ذلك فإن الناس في هذا الباب تنوعت مسالكهم فمن الناس من سلك في العلم بإثبات الصانع طريقة يزعم أنه لا يمكن معرفته إلا بها كما يفعل ذلك كثير من أهل النظر والكلام ثم تلك الطريقة قد تكون صحيحة مع طولها واختصارها أو قد تكون باطلة وآخرون يقولون كل ما ذكره الناس من الطرق النظرية والمسالك الاستدلالية في هذا الباب فهو بدعة وضلال لا يحتاج إليه ولا ينتفع به. وتحقيق الأمر أن الأدلة المذكورة نوعان حق وباطل والحق نوعان أحدهما فيه تطويل لا يحتاج إليه كل أحد والباطل مذموم مطلقا. والتطويل الذي يذكر على سبيل الحاجة إليه مع أنه يمكن الاستغناء عنه مذموم أيضا.

وأما التطويل الذي قد ينتفع به بعض الناس أو يحتاج إليه بعضهم فإذا ذكر على هذا الوجه فهو حسن وإن كان يستغني عنه بعض الناس. والنوع الثاني من الأدلة ما هو صحيح مذكور على أقرب الطرق فهذا حق لا عيب فيه وليس هذا موضع تفصيل الكلام في هذا فإن هذا أعظم من أن يكون تبعا لغيره. والمقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء القائلين بأن العالم معلول لعلة مبدعة وأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية هم شر من أكثر المشركين وعباد الأصنام ومما يبين ذلك أن هؤلاء لا يقولون إن العبادات التي شرعتها الرسل إنما غايتها إصلاح خلق الإنسان فإن حكمتهم كحكمة سائر الناس نوعان علمية وعملية والعملية هي إصلاح سياسة الخلق والمنزل والمدينة ويزعمون أن الشرائع مقصودها هو هذا وهو السياسة المدنية والمنزلية والخلقية. وقد تقدم أنا لا ننكر ما في قولهم من الحق بل ننكر عليهم ما في قولهم من الباطل وننكر عليهم زعمهم أن لا حق فيما جاءت به الرسل إلا ما ذكروه فننكر تصديقهم بكثير من الباطل وتكذيبهم بكثير من الحق ولا ريب أن فيما جاءت به الرسل إصلاح أخلاق الناس وإصلاح منازلهم في عشرة الأهل والأزواج وغير ذلك وإصلاح المدائن بالسياسة العادلة الشرعية لكن هذا كله جزء من مقاصد الرسل وهؤلاء الفلاسفة إنما قالوا هذا لأن الله عندهم لا يجيب دعاء داع ولا يحدث ثوابا لعابد مطيع وليس للنفوس بعد المفارقة عندهم ثواب منفصل عنها

ولا عقاب منفصل عنها ولا يقوم الناس من قبورهم عندهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم والعمل الصالح ثوابه عندهم ما يحصل للنفوس من الهيئة الصالحة والنعيم بعد الفراق عندهم هو نفس تنعمها بما يحصل لها من العلم مع أن في أقوالهم أنواعا من الفساد فإن كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود يتمثل فيه صورة الوجود على ما هو عليه. ثم إنهم يجعلون ذلك هو العلم بالوجود المطلق والمطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان ويقولون الفلسفة الأولى هي العلم بالوجود ولواحقه فيقسمون الوجود إلى واجب وممكن وجوهر وعرض والجوهر خمسة أنواع والعرض تسعة أنواع ونحو ذلك وهذا كله علم بأمور كلية مطلقة لا وجود لها إلا في الذهن فليس هو علما بنفس أعيان الحقائق الموجودة في الخارج وليس في شيء من هذا علم بالله ولا ملائكته ولا بأنبيائه بل ولا بسمواته وأرضه فإن العلم بهذه عندهم من العلم الطبيعي لا من علم ما بعد الطبيعة. فهم ضلوا من وجوه منها ظنهم أن النفس كمالها في مجرد العلم وأن العبادات الشرعية مقصودها تهذيب الأخلاق ورياضة النفس حتى تستعد للعلم فإن هذا باطل قطعا وذلك أن النفس لها قوتان قوة علمية وقوة عملية قوة الشعور والعلم والإحسان وقوة الحب والإرادة والطلب والعمل فالنفس ليس كمالها في أن تعلم ربها فقط بل في أن

تعرفه وتحبه وإلا فإذا قدر أن النفس تعرف الواجب وهي تبغضه وتنفر عنه وتذمه كانت شقية معذبة بل هذا الضرب من أعظم الناس شقاء وعذابا وهي حال إبليس وفرعون وكثير من الكفار فإنهم عرفوا الحق ولم يحبوه ولم يتبعوه وكانوا أشد الناس عذابا. بل حب الله تعالى هو الكمال المطلوب من معرفته وهو من تمام عبادته فإن العبادة متضمنة لكمال الحب مع كمال الذل وهذا حقيقة دين إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة النحل 120) والأمة هو الذي يؤتم به كما أن القدوة هو الذي يقتدى به كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (سورة البقرة 124) وإبراهيم الخليل هو الذي عادى هؤلاء كالنمرود وغيره. فنفس عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه هو من أعظم كمال النفس وسعادتها لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي عن حب وعبادة وتأله وقول هؤلاء من جنس قول جهم وأتباعه الذين يجعلون الإيمان مجرد علم النفس أو تصديقها ولا يجعلون حبها وغير ذلك من أعمالها من الإيمان وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير موضع. وهؤلاء المتفلسفة جمعوا الشر كله فقول جهم بن صفوان الذي عظم السلف الإنكار عليه جزء من قولهم بل المشركون الذين جعلوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله خير من هؤلاء الفلاسفة فإن أولئك أثبتوا محبة الله فجعلوها من كمال الإنسان لكن ضلوا حيث أحبوا مع الله غيره

فكانوا مشركين وهؤلاء معطلون لم يثبتوا محبة له لا خالصة له ولا مشتركة مع غيره ولهذا لا يعبدونه بقلوبهم إذ العبادات عندهم إنما مقصودها إعداد النفس لمجرد العلم الذي يزعمون أنه الغاية عندهم. وكذلك الجهمية لا تجد في قلوبهم من محبة الله وعبادته ما في قلوب عباده المؤمنين بل غاية عابدهم أن يعتقد أن العباد من جنس الفعلة الذين يعملون بالكراء فمنتهى مقصوده هو الكراء الذي يعطاه وهو فارغ من محبة الله والفلاسفة تذم هؤلاء وتحتقرهم كما ذكرنا كلامهم في ذلك في غير هذا الموضع لكن هؤلاء خير منهم في الجملة فإنهم يوجبون العبادة ويلتزمونها ويعتقدون لها منفعة غير مجرد كونها سببا للعلم بخلاف الفلاسفة والمتصوفة والمتفلسفة فإن عبادتهم مقصودها الكشف والتأثير كما يذكره أبو حامد وأتباعه ومما يبين أمر هذا أنهم يقولون إن الله يلتذ ويبتهج وهذا وإن كان قد أنكره طوائف من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن اتبعهم فالسلف والأئمة وأهل السنة مقرون بما جاء به الكتاب والسنة من محبة الله وفرحه ورضاه وضحكه ونحو ذلك وما يثبتون من الحق فهو داخل في هذه المعاني لكن أهل السنة يعبرون بالعبارات الشرعية فيجمعون بين كمال المعنى واللفظ وموجب العقل والشرع. وهؤلاء المتفلسفة أخطأوا من وجه آخر حيث قالوا اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهذا غلط فإن اللذة ليست هي الإدراك ولكن الإدراك سببها فهي حاصلة عنه كحصول الصوت عن الحركة والشبع عن الأكل وذلك أن الإنسان يشتهي الطعام فيأكله فيلتذ به هنا ثلاثة أشياء شهوة وإدراك ولذة فليست اللذة هي نفس الأكل

والذوق وإنما هي أمر آخر يحصل بالأكل والذوق وهو أمر يجده الإنسان من نفسه فلا يعبر عنه بعبارة بمعنى أبين منه وكل حي يجد في نفسه اللذة والألم وهؤلاء القوم من عادتهم أنهم يجعلون المعاني المتعددة شيئا واحدا فيجعلون العلم والقدرة والإرادة شيئا واحدا بل يجعلون العلم هو العالم والقدرة هي القادر فكذلك جعلهم اللذة هي الإدراك وفي موضع آخر يجعلون الشيء الواحد أشياء متعددة كما يجعلون الحقائق الموجودة في الخارج شيئين ويجعلون صفاتها اللازمة لها ثلاثة أشياء مقومة داخلة فيها ولازمة لماهيتها. ومما يبين ذلك أن اللذة لا تكون إلا مع محبة فما لا يكون محبوبا لا يكون في إدراكه لذة وحب الشيء زائد على التصور المشروط في محبته فكذلك اللذة به زائدة على الإدراك المشروط في اللذة. وإذا تبين هذا علم أن الرب تعالى موصوف بالعلم والحب والفرح والرضا وغير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة والعبد كماله في أن يعرف الله فيحبه ثم في الآخرة يراه ويلتذ بالنظر إليه. كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة". وفي حديث عمار بن يسار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم إني أسألك

لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة" رواه النسائي وغيره. والمقصود هنا أن النفس ليس كمالها في مجرد علم بالله لا يقترن به حب لله ولا عبادة له ولا غير ذلك بل لا تصلح وتكمل إن لم تحب الله وتعبده. وأيضا فلو قدر كمالها في مجرد العلم فليس هو العلم بوجود مطلق وأمور كليات تقوم بنفسه وهذه هي العقليات التي يجعلونها كمال النفس لا سيما على رأي ابن سينا وموافقيه الذين يزعمون أن الأمور المعينة الشخصية لا تدرك إلا بجسم أو قوة في جسم والنفس عندهم ليست كذلك فلا تدرك شيئا من المعينات الموجودة في الخارج وهذا مما نفوا به كون الباري تعالى يعلم المعينات الموجودة المسماة بالجزئيات فهو عندهم لا يعلم إلا أمرا مطلقا كليا وكذلك النفس ومعلوم أن الموجودات الخارجة ليست كلية فلا يكون العلم بتلك المطلقة المجردة عن التعيين علما بموجود في الخارج فليس هذا علما حقيقيا مطلوبا بالقصد الأول وإنما العلم الحقيقي المطلوب بالقصد الأول هو العلم بالموجودات الخارجة الثابتة في نفسها. وأيضا فالعلم الذي تكمل النفس به لا بد أن يتضمن العلم بالله وهم لا يعرفون الله بل إنما يعرفون وجودا مطلقا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فهم إنما جعلوا العبادات لأجل إصلاح الأخلاق بناء

على أن المقصود بالقصد الأول إنما هو تكميل النفس بهذا العلم وأن تهذيب الأخلاق ورياضة النفس تعد النفس لذلك والعبادات تعين على ذلك فإذا بين فساد الأصل الذي بنوا عليه كلامهم تبين فساده من أصله. وأيضا فقد علم بالاضطرار من النقل المتواتر والتجارب المعروفة أن الأعمال الصالحة توجب أمورا منفصلة من الخيرات في الدنيا وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك وأن الله تعالى عذب أهل الشرك والفواحش والظلم كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون بالعذاب المنفصل والمشاهد الخارج عن نفوسهم وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة في المشاهدة وهذا أمر تقر به جميع الأمم فكيف يقال إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخلق؟. وأيضا فقد تبين بما تقدم أن الله تعالى فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته وأنه يجيب دعاء عباده المؤمنين وأنه يخرق العادات بأمور خارجة عن القوى الطبيعية والنفسانية المعلومة وهذا مما يبين تأثير العبادات والطاعات في الخارج. ومما يبين فاسد قولهم أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا وأن الرسل لم تبين للناس حقائق الأمور بل أظهرت خلاف ما أبطنت بناء على أن الحق في نفس الأمر هو قول الفلاسفة. وهذا إذا ظهر للناس أنكرته الفطر وكذب به الناس ولم يبق عندهم إله يخشى ويعبد ولا رب يصلى له ويسجد قالوا فالرسل

ما كان يمكنهم إظهار الحق الذي هو قولنا فأظهرت للناس من التمثيلات ما ينتفعون به وكانت في الباطن تعتقد ما تعتقده الفلاسفة ولهذا يقولون إن الخواص تسقط عنهم العبادات كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية والفلاسفة وملاحدة المتصوفة وغيرهم قالوا لأن المقصود العلم والمعرفة فإذا حصل المقصود لم يبق في العبادة فائدة. ويقولون إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسر إلى خواص أصحابه ما يوافق قولهم ومن عرف حال نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحال أصحابه معه علم بالاضطرار أن هؤلاء مخالفون له مناقضون مفترون عليه وأنهم من شرار المنافقين فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخواص أصحابه كانوا من أعبد الناس لله وأعظمهم إتيانا بأداء الواجبات وترك المحرمات وكان خواص أصحابه من أعظم الناس تقريرا لما بعث به من الإخبار عن الله بأسمائه وصفاته وعن ملائكته وعن اليوم الآخر وغير ذلك من أخباره ومن أعظم الناس تقريرا لما بعث به من الأمر والنهي فكان ما يبطنونه من العلم والحال موافقا لما يظهرونه من القول والعمل ولم يكونوا يبطنون ما يناقض ظاهرهم ولا كانوا يعتقدون مذهب أهل النفي بل قول نفاة الصفات إنما حدث في الأمة بعد انقضاء عصر الصحابة وكبار التابعين وإلا فلم يكن احد يتكلم في زمن الصحابة بشيء من أقوال الجهمية نفاة الصفات فكيف بأقوال هؤلاء الملاحدة الذين نفى الصفات بعض إلحادهم؟! ولهذا تنازع الناس في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقة

أم لا؟ فقالت طائفة من السلف كيوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك الثنتان وسبعون فرقة هم الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وأخرجوا الجهمية من أن تكون من الثنتين وسبعين فرقة وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. وبكل حال فالجهمية حدثوا في الإسلام بعد حدوث هذه البدع الأربعة فأما الصحابة والتابعون فمتفقون على إثبات ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفات الله واليوم الآخر والعبادات الشرعية واعلم أن النصارى واليهود خير من هؤلاء من وجوه متعددة فيما يتعلق بالاعتقادات والعبادات والاعتقاد يدخل عندهم في الحكمة النظرية والعبادات في الحكمة العملية. والمقصود هنا الحكمة العملية فإن اليهود والنصارى يقرون بالعبادات وبأن الله هو المستحق للعبادة ويقرون بالثواب والعقاب المنفصلين مع القيامة الكبرى ومعاد الأبدان مع معاد النفوس إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل لكن بدلوا بعض ما جاءت به الرسل ولم يتبعوا الناسخ من شرائعهم فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر بعد التبديل والنسخ للكتاب الأول وليس في أصل دين اليهود والنصارى سقوط فعل العبادات الشرعية عن أحد ولا حل المحرمات الشرعية لأحد.

وهؤلاء لما ظنوا أن كمال الإنسان في أن يعرف الوجود فقط وظنوا أن ما ذكروه يحصل به معرفة الوجود ظنوا أن العارف منهم لا تجب عليه العبادات الشرعية ولا تحرم عليه المحرمات الشرعية حتى صار المثل يضرب بهم فيقول المترسل في رسائله: "إنهم استحلوا حرمتي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع". ولهذا صارت الملاحدة الباطنية تسلك هذا المسلك فيسقطون الواجبات الشرعية عن البالغين منهم ويبيحون لهم المحرمات الشرعية والملاحدة الباطنية من الصوفية سلكوا نوعا من هذا وإن كانوا لا يصلون إلى إلحاد ملاحدة الإسماعيلية ونحوهم من المنتسبين إلى التشيع مع اتفاق الشيعة المسلمين على أنهم كفار وهؤلاء الطوائف براء من الحنيفية ملة إبراهيم بل من أتباع المرسلين كلهم. فإن الله تعالى أرسل الرسل ليدعوا الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات 56) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء 25) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (سورة النحل 36) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة 21) . وأخبر عن كل نبي أنه دعا قومه إلى ذلك فقال عن نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (سورة الأعراف 59) وقال عن هود

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (سورة هود 50) وكذلك سائرهم وأمثال ذلك فكمال الإنسان وصلاحه وسعادته في أن يعبد الله وحده لا شريك له وهذه ملة إبراهيم التي قال الله فيها: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (سورة البقرة 130) وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (سورة البقرة 112) . وهذا هو الإسلام العام الذي بعث الله به جميع الرسل وهو الذي لا يقبل من أحد دينا غيره لا من المتقدمين ولا من المتأخرين. قال تعالى عن نوح: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة يونس 71: 72) . وقال تعالى عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة البقرة 130 132) .

وقال تعالى عن موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (سورة يونس 84) وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (سورة المائدة 44) . وقال تعالى في قصة بلقيس: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة النمل 44) . وقال تعالى عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (سورة المائدة 111) فهؤلاء السعداء الكاملون من نوح إلى الحواريين على الإسلام. وكذلك الإيمان قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (سورة البقرة 62) . فبين اتصاف السعداء من هذه الأصناف الأربعة بالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وقد ذكر في سورة الحج ست ملل فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة الحج 17) فهنا لما ذكر فصله بينهم يوم القيامة ذكر الملل الست وهناك لما ذكر

السعداء لم يذكر إلا الملل الأربع فإن المجوس والمشركين ليس منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا بل كلهم كفار. والقرآن بين أن السعداء هم الذين اتبعوا الرسل ولا يكون الكامل إلا سعيدا وأن الأشقياء هم المخالفون للرسل فإنما يعذب الله في الآخرة من يخالف الرسل كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (سورة الإسراء 15) وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} (سورة الملك 8 9) وأمثال هذه النصوص. وقد قال تعالى في خطابه لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (سورة ص 85) فأقسم أنه لابد أن يملأها منه ومن أتباعه فدل ذلك على أنه لا يدخلها إلا من اتبع الشيطان إذ لو دخلها غيرهم لامتلأت من هؤلاء وهؤلاء وهو خلاف النص. ولهذا لما تنازع الناس في أطفال الكفار فطائفة جزمت بأنهم كلهم في النار وطائفة جزمت بأنهم كلهم في الجنة كان الصواب الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهو قول أهل السنة أنه لا يحكم فيهم كلهم بجنة ولا بنار بل يقال فيهم كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قيل: يا رسول الله أفرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين"

وكذلك ثبت هذا في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جاء في آثار أخرى أنهم يمتحنون يوم القيامة وجاءت بذلك أحاديث صحيحة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا كالمجنون والشيخ الكبير الأصم الذي أدركه الإسلام وهو أصم لا يسمع ما يقال ومن مات في الفترة وأن هؤلاء يؤمرون يوم القيامة فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلا استحقوا العذاب وكان هذا تصديقا لعموم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (سورة الإسراء 15) وبذلك استدل أبو هريرة على أن أطفال الكفار لا يعذبون حتى يمتحنوا في الآخرة

وقد قال تعالى في حق السعداء: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (سورة الحديد 21) فبين أن الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (سورة طه 123-126) فبين أن من اتبع الهدى الذي جاء من عنده وهو ما جاءت به الرسل فإنه لا يضل ولا يشقى بل يكون من المهتدين المفلحين كما قال تعالى في نعتهم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة البقرة 2 4) ولهذا قال في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} . فأهل الغضب والضلال هم أهل الشقاء والضلال وهم الذين قيل فيهم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} (سورة القمر 47) وهم ضد أهل الهدى والفلاح فأهل الهدى الذي يتضمن العلم والسعادة هم المتبعون للكتاب المنزل فمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض كاليهود والنصارى لم يكن من هؤلاء فكيف بمن لم يؤمن بالكتاب بل هو ممن

قيل فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} (سورة غافر 69 72) إلى قوله في آخر السورة: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (سورة غافر 83) ولهذا قال بعض أهل العلم: "إن هذه الآية تتناول الفلاسفة". وحقيقة الأمر أن المتفلسفة نوعان: نوع معرضون عما جاءت به الرسل بعد بلوغ ذلك لهم وقيام الحجة عليهم بما جاءت به الرسل فهؤلاء كفار أشقياء بلا ريب ومن كان منهم مؤمنا بما جاءت به الرسل ظاهرا وباطنا فهذا مؤمن حكمه حكم أهل الإيمان لكن لا يمكن مع هذا أن نعتقد ما يناقض الإيمان من أقوالهم بل نوافقهم في الأقوال التي توافق أقوال الرسل أو في أقوال لا تتعلق بالدين لا نفيا ولا إثباتا من الأمور الطبيعية والحسابية. وأما من وافقهم على أقوالهم المخالفة لما جاءت به الرسل مع تعظيمه للرسل ولنواميسهم وإيجابه لأتباعهم كالفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام فهؤلاء آمنوا ببعض ما جاء به الرسل وكفروا ببعض وهم يشبهون اليهود والنصارى من هذا الوجه لكن هؤلاء بإيمانهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من اليهود والنصارى واليهود والنصارى بإيمانهم بجنس ما اتفقت عليه الرسل من عبادة الله وحده والإيمان باليوم الآخر والقيامة الكبرى ومعاد الأبدان وإيجاب العبادات الشرعية وتحريم المحرمات الشرعية والتصديق

بحقيقة الملائكة وكلام الله هم خير منهم إلا من كان من اليهود والنصارى على مذهب الفلاسفة وهذا اجتمع فيه نقص الكفر من وجهين وهو أسوأ حالا من هؤلاء وهؤلاء. فالسعادة مشروطة بشرطين بالإيمان والعمل الصالح بعلم نافع وعمل صالح بكلم طيب وعمل صالح وكلاهما مشروط بأن يكون على موافقة الرسل كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير عن اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادا أو اقتصادا على منهاج الأنبياء وسننهم. وهؤلاء ظنوا أن الكمال ليس إلا في العلم وأن العمل إنما هو وسيلة فقط ثم خرجوا في العلم والعمل عن منهاج الأنبياء وسننهم وإذا كانت النصارى لكونهم أدخلوا في عبادتهم نوعا من الشرك والبدع خرجوا عن الحنيفية إذ كانت الحنيفية أن لا نعبد إلا الله وحده وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع والنصارى كما قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة التوبة 31) وقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ

اللَّهِ} (سورة الحديد 27) ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة الملك 2) قال: "أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة". فإذا كانت النصارى على هذه الحال فكيف بهؤلاء الذين هم أضل منهم فإن ما عند هؤلاء من الحكمة هو جزء مما عند النصارى فإن السياسة الخلقية والمنزلية والمدنية داخلة في دين النصارى الذين ابتدعوا بعضه ولم ينزل الله به وكسر الشهوة والغضب جزء من عبادة الرهبان وكذلك الزهد في المال والرئاسة جزء من حال الراهب الناقص الكافر فكيف يكون هذا هو مقصود العبادة والزهد الذي جاءت به الشريعة؟ وهؤلاء رأوا أن النفس لها قوتان قوة علمية وقوة عملية والقوة العلمية نوعان قوة الحب والبغض والشهوة من الحب والغضب من البغض فبالشهوة تجلب المنفعة والغضب لدفع المضرة وصلاح الجميع بالعدل فجعلوا الحكة العملية في هذه الأربع في العلم والعدل والعفة والشجاعة أو الحلم فالعفة اعتدال قوة الشهوة والحلم أو الشجاعة اعتدال قوة الغضب. وهذا الذي ذكره جزء من العمل الذي أمرت به الرسل وما ذكروه مع هذا أمر مجمل فإن العلم له أنواع كثيرة والشهوة

والغضب يحتاج معرفة صلاحهما والعدل فيهما إلى تفصيل لا يكفي فيه هذا الإجمال وكذلك العدل فلا ريب أنه لا بد في سلوك الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من إصلاح حال هذه القوى.

ما ذكره الفلاسفة فيه قصور وتقصير من وجوه

لكن ما ذكروه فيه قصور وتقصير من وجوه: أحدها: أن ما ذكروه كأمر مجمل لا يبين الأنواع التي تستعمل بها الشهوة والغضب والأنواع التي لا تستعمل ولا يبين مقدار ما يستعمل من هذا وهذا ومقدار ما لا يستعمل فكان بمنزلة من علم أن أخلاط البدن تنقسم إلى حار وبارد وأنه ينبغي استعمال ما يوجب اعتدال الأخلاط وهذا كلام مجمل لا يفيد حفظ الصحة ولا إزالة المرض. الثاني: أنه هب أنه حصل الاعتدال في الشهوة والغضب فهذا القدر لا يوجب السعادة ولو قدر أنه انضم إليه ما يسمونه علما ولا دليل لهم على أن السعادة تحصل بهذا والرسل متفقون على أن مجرد هذا لا يوجب السعادة. الثالث: أن العلم الذي تحصل به السعادة لم يعرفوا لا نوعه ولا قدره. الرابع: أن العلم الذي هو أصل السعادة ورأسها هو العلم بالله وهم أبعد الطوائف عنه فلا يعرف في المقالات المشهورة في العلم الإلهي مقالة أبعد عن الحق من مقالتهم فإن مقالة اليهود والنصارى في

العلم الإلهي خير من مقالتهم ومقالات أهل البدع الداخلين في الملل حتى الجهمية والمعتزلة ونحوهم من الطوائف التي تذمها أئمة أهل الملل هي خير من مقالتهم وأعني بذلك مقالة أرسطو وأتباعه وأما ما نقل عن الأساطين قبله فقولهم أقرب إلى الحق من قوله. الخامس: أن الصفة اللازمة للنفس الناطقة التي هي الحب والإرادة لم يتكلموا في كمالها ولا صلاحها فإن الشهوة والغضب متعلقان بالبدن إما لجلب منافعه وإما لدفع مضاره ولهذا يؤمر فيهما بالعدل بخلاف حب النفس لمعبودها وإلهها وبغضها لغيره وهذا هو حقيقة الحنيفية وهي حقيقة وقول لا إله إلا الله فهذا ليس لهم منه حظ أصلا ولهذا كان الشرك غالبا عليهم بل هم معطلون في العبادة شر من المشركين كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (سورة غافر 60) وهؤلاء مستكبرون عن عبادة الله بل وعن جنس العبادة مطلقا وهم ممن يتناوله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} (سورة غافر 56) . وسبب ذلك أنهم لا يجعلون للنفس بعد مفارقتها حركة أصلا بل تبقى عقلا محضا عندهم والعقل في اصطلاحهم هو الروحاني العاقل الذي ليس فيه حركة أصلا ولا له إرادة وطلب ومحبة بل كل ما يمكن أن يكون له فهو له أزلا وأبدا. وهم يزعمون أن الأول الصادر عن واجب الوجود هو العقل الأول.

ثم عنه العقل الثاني هو إله الفلك التاسع ثم عنه عقل ثالث الذي هو إله الفلك الثامن ثم كذلك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الذي هو إله فلك القمر وإله ما تحته وعنه يفيض ما تحت فلك القمر من العلوم والأخلاق وعنه يصدر عندهم ما يوحى إلى الأنبياء وغيرهم من العلوم والذين يريدون أن يجمعوا بين الكتب الإلهية وبين كلام هؤلاء المتفلسفة يزعمون أن ذاك هو جبريل الذي ذكرته الرسل ويقولون إنه ليس على الغيب بضنين على قراءة من قرأ بالضاد الساقطة أي هو فياض ليس ببخيل وتارة يجعلون جبريل هو ما يتشكل في نفس النبي من الصور الخيالية المناسبة للعلم الذي حصل له كما يحصل للنائم. ولهذا قال من سلك سبيلهم كابن عربي: "إن الولي أو خاتم الأولياء أفضل من الرسل والأنبياء وإن الولاية أفضل من النبوة قالوا لأن الذي سموه خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فإن الرسول يأخذ عندهم عن الخيال الذي في نفسه وهو جبريل عندهم والخيال يأخذ عن المعقولات الصريحة والولي بزعمهم يأخذ عن تلك المعقولات ويزعمون أن الملائكة التي أخبرت بها الرسل هي هذه العقول العشرة أو الصور الخيالية التي تمثل في نفوس الناس. وأما النفوس الفلكية فلهم فيها قولان أحدهما أنها أعراض قائمة بالفلك كالقوة الشهوية والغضبية وهذا قول أكثر أتباع أرسطو

والثاني: أنها جواهر قائمة بأنفسها كالنفس الناطقة وإليه يميل ابن سينا وغيره وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن النفس الناطقة تتبقى عندهم بعد مفارقة البدن عقلا ليس فيها طلب وإرادة ومحبة لعلم أصلا وهذا هو الكمال عندهم ولهذا لما ذكر أبو البركات مذهبهم بين هذا كما قال: "الفصل الثاني في ذكر رأي أرسطو وشيعته في بدء الخلق قال من يعتبر كلامه أن الله الذي بدأ منه الخلق واحد من كل وجه لا كثرة فيه بوجه والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فأول خلق من الموجودات موجود واحد هو أقرب الموجودات إليه وأشبهها به قال وأسميه عقلا ويكون معنى العقل عنده معروفا من معنى النفس الإنسانية من جهة كونه جوهرا روحانيا لا جسمانيا كالنفس لكن للنفس علاقة بالبدن كنفس الإنسان الشخصية ونفس الفلك ونفس الكوكب المحركة له على أنها تباشر التحريك والعقل بريء من الأجسام وعلائقها وتكون النفس كالقوة من جهة تحريك الأجسام وتبديل حالاتها فتشعر بمتجدداتها في

الأين والكيف وغير ذلك مما يتجدد للمتحركات بالحركات والعقل بالفعل فيما يعرفه ويعلمه لا يتجدد له علم ومعرفة بشيء لم يكن يعرفه ويعلمه فهذا بالفعل أبدا فيما يعقله على حال واحدة والنفس على حالات مختلفة من جهة ما تعرفه وتبتديه من الأجسام وفيها بحركاتها وتحريكاتها لها فالنفس عقل بالقوة والعقل عقل بالفعل والعقل يعقل جيمع المعقولات والنفس تعقل بعضها فإن تجردت النفس عن الأجسام وانقطعت علاقتها بها وكانت مما تعقل وممن تعقل صارت عقلا بالفعل أيضا وتكون مرتبتها بحسب نوعها في الموجودات وكسبها من المعلومات قالوا فأول العقول هو هذا الذي وجد عن العلة الأولى وكان أول ما سموا عقلا سموه من جهة النفس الإنسانية حيث قالوا إنها عقل بالقوة وتصير بالفعل وما بالقوة لا يخرج نفسه إلى الفعل وإنما يخرجه إلى الفعل شيء هو بالفعل كالنار بالفعل تجعل النفط الذي هو نار بالقوة نارا بالفعل ولا يشعل النفط نفسه فيجعل نفسه نارا بالفعل فهذا الشيء الذي هو عقل بالفعل الذي يجعل نفس الإنسان عقلا بالفعل يسمونه العقل الفعال ويقولون إنه لنفوسنا كالأستاذ والمعلم

والمبدأ الذي عنه توجد فهو مبدؤها القريب في الوجود ومعادها الأدنى من الكمال قالوا ولكل فلك نفس محركة ولكل نفس عقل مفارق تقتدي به فيما تفعله وتعقله حتى تنتهي إلى الفلك الأول فتكون نفسه أول النفوس وعقله أول العقول وهو أول موجود وجد عن المبدأ الأول ويقولون عن المبدأ الأول إنه عقل أيضا لكنه أعلى العقول مرتبة وهو بالفعل أبدا وكل عقل غيره يقتدي بغيره وقدوته هو مبدؤه القريب وهو تعالى قدوة كل مقتد ومبدأ كل مبدأ فهو المبدأ الأول والإله الأقصى ولا يتحاشون من تسميته عقلا وهذا العقل الذي يقولونه الآن منقول بالعربية من لفظة قيلت في لغة يونان وليس موقعها في تلك اللغة موقع هذه في العربية من جهة الوضع الأول على ما قلنا في علم النفس فإن في اللغة العربية يراد بالعقل الشيء الذي يمنع الخواطر والشهوات من الناس ويمنعها عن أن تمضي العزائم بحسبها فإن الإنسان يؤثر أشياء بخواطره الأولى التي تقتضي شهوته وغضبه ويرده

عنها فكره ورأيه ونظره في عواقب أمره فهذا الناظر المفكر الراد عن الخواطر الأولى هو الذي يسمونه عقلا من حيث يصد الإنسان عما هم به كما يصد الناقة عقالها عن الحركة إلى حيث تشاء فهو الذي يسمونه عقلا والعلم بهذا إنما يصح بدليل من جهة النظر حيث يقولون إنه إنما رد الخواطر بفكر صدر عن علم فهو عقل من جهة العمل لا من جهة العلم وهذا الذي يسميه اليونان هو من جهة العلم لا من جهة العمل ويصير مبدءا للعمل" إلى أن قال: "وليس للعقل في عرفهم المعنى الإضافي وله في العربية ذلك فإن العقل عقل لشيء ومعنى العقل المقول في لغتهم لا يراد به الإضافة إلى شيء وإن كانوا يعرفونه بشيء ومن شيء ويسمونه باسم يخصه من ذاته لا من جهة إضافاته وإن أضيف فإلى فعله الخاص به كالعلم والعالم والعاقل والعالم والعقل والعلم عندهم أسماء مترادفة ويقولون أيضا إن فعل العقل الذي هو بالفعل هو ذاته فالعقل والعاقل عندهم واحد".

قلت: العقل في لغة العرب بتناول العلم والعمل بالعلم جميعا ومن أهل الكلام من يجعله اسما لنوع من العلم فقط فيقول هو نوع من العلوم الضرورية ومن الناس من يريد به العمل بالعلم فقط كما ذكره أبو البركات. وقد يراد بالعقل القوة التي في الإنسان وهي الغريزة التي بها يحصل له ذلك العلم والعمل به ولهذا كان في كلام السلف كأحمد والحارث المحاسبي وغيرهما اسم العقل يتناول هذه الغريزة ومن أنكر الغرائز والطبائع والقوى التي في الأعيان وقال إن القادر المختار يحدث جميع الحوادث بمجرد المشيئة التي ترجح أحد المتماثلين على الآخر لا بمرجح كما يقوله أبو الحسن الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الحسن بن الزاغوني وأبي بكر بن عربي وغيرهم فإن هؤلاء لا يجعلون اسم العقل إلا لنوع من العلوم الضرورية إذ ليس عندهم طبيعة تكون بها العلوم والإرادات وليس عندهم في الموجودات أسباب تحصل بها الحوادث ولا يترجح حادث على حادث لمعنى فيه بل يقولون إن القادر المختار يفعل عند هذه الأمور لا بها بمجرد عادة فما يقول الإنسان إنه سبب ومسبب يقولون الخالق المختار قرن أحدهما بالآخر عادة لا لأن في أحدهما قوة اقتضى بها الآخر ولهذا من أثبت القياس من هؤلاء يقول إن علل الشرع مجرد أمارات وإنه إن حصل فيها مناسبة كما يحصل في المخلوقات رحمة فذلك مجرد عادة

اقتران لا لأن الخالق خلق هذا بهذا ولا لأجل هذا إذ لا سبب عندهم ولا حكمة يفعل الخالق لأجلها وليس عندهم في القرآن في أفعال الله وأحكامه لام تعليل بل لام عاقبة وهذه مسألة كبيرة قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن اسم العقل في اصطلاح جميع المسلمين بل وجميع أهل الملل وعامة بني آدم يراد به ما هو قائم بغيره سواء كان علما أو قوة أو عملا بعلم أو نحو ذلك لا يراد به ما هو جوهر قائم بنفسه إلا في اصطلاح هؤلاء الفلاسفة والنفس الكاملة بعد المفارقة تصير عقلا عندهم. ثم إن أتباع أرسطو يقولون إن العقل لا يتجدد له علم أصلا ويقولون إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد ويقولون إن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس له صفة أصلا إلى غير ذلك من الأقوال التي يخالفهم فيها غيرهم من الفلاسفة ويقول جمهور العقلاء إنها أقوال معلومة الفساد بصريح المعقول. وأبو البركات وغيره من الفلاسفة ممن يخالفهم في ذلك ويبين فساد قولهم فيه ولهذا لما حكى أبو البركات قولهم قال: "هذا هو الذي نقل عن شيعة أرسطو وما خالفهم فيه مخالف ولا اعترض

فيه معترض وهو بالأخبار النقلية أشبه منه بالأنظار العقلية فلنأخذ في تتبعه". قلت: قوله: "لم يخالفهم فيه مخالف" إنما قاله بحسب علمه واطلاعه أو أراد من الفلاسفة المشهورين المصنفين على طريقة أرسطو في المنطق الطبيعي والإلهي كبرقلس والأسكندر الأفرديوسي وثامسطيوس والفارابي وابن سينا وإلا فالمنقول في كتب المقالات عن الفلاسفة المتقدمين من مخالفة هذا المذهب موجود في كتب متعددة لكن أولئك ليس لهم كتب مصنفة على هذه الطريقة بل مذهب أرسطو يشبه مذهب أئمة الفقهاء في الفقه كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وإن خالفهم في كثير منها أئمة كبار مثل الأوزاعي والليث بن سعد والثوري وإسحاق بن راهويه فقد يقول القائل إنه لم يخالف أولئك مخالف أي في الكتب المعروفة المصنفة على مذاهبهم وكتب المقالات تنطق بأن أرسطو هو الذي اشتهر عنه القول بقدم العالم وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكن هذا قولهم وهذا يحكيه المعظمون لأرسطو وغير المعظمين له مع أن كلام الرجل في الإلهيات قليل جدا وفيه خطأ كثير وإنما علم الرجل الواسع هو الطبيعيات ففيها يتبجح. والمقصود أن هؤلاء القوم جعلوا النفس بعد فراقها ليس لها علم ولا حركة ولا ازدياد من علم ولا محبة لشيء يطلب حصوله وإنما تلتذ لذة دائمة متماثلة بما حصل لها من العلم كما يقولونه في المبدأ الأول وفي العقول

وظنوا أن هذا هو الكمال وكان ضلالهم في ذلك من أعظم الضلال من جهة أن الكمال ليس إلا في مجرد العلم ومن جهة أنهم لم يثبتوا لها مزيد علم ومن جهة أن ما أثبتوه من العلم لا يكفي في السعادة ومن جهة أن فيه من الجهل ما يناقض العلم فكثير من كلامهم في الإلهيات بل أكثره جهل لا علم. ولكن المقصود في هذا الوجه أنهم لم يثبتوا للنفس بعد المفارقة كمالا من جهة الحب والإرادة بل من نفس العلم فقط ثم إنهم غلطوا من وجه آخر وهم أنهم جعلوا اللذة هي مجرد العلم. ونحن نبين هذا فنقول الوجه السادس أن يقال السعادة وهي اللذة والبهجة والسرور الذي يحصل للنفس بما تعلمه من المعارف ليس هو نفس العلم بل هو أمر يحصل بشرط العلم فالعلم شرط فيه ليس موجبا له فضلا عن أن يكون هو إياه وهؤلاء غلطوا من وجهين من ظنهم أن مجرد العلم موجب لذلك والثاني أنهم جعلوا اللذة نفس الإدراك والعلم فقالوا اللذة هي إدراك الملائم من جهة كونه ملائما وهذا غلط فإن اللذة ليست هي نفس الإدراك ولكن هي حاصلة عقب الإدراك فإن الإنسان يشتهي الطعام مثلا فيذوقه فيلتذ بذلك فاللذة ليست هي الذوق ولكن هي حاصلة بالذوق. وكذلك الأنواع التي يسمونها إدراكا كالسمع والبصر والعلم واللمس ليست هي اللذة بل هي سبب اللذة فإن سمع الصوت الحسن

سبب للذة به وكذلك رؤية الشيء الحسن سببب للذة به والعلم بالشيء الملائم سبب للذة به فاللذة لا تحصل إن لم تكن بين الملتذ والملتذ به ملائمة وهي المحبة فإن لم يكن العالم والمدرك محبا لمعلومه ومدركه أو لما يحصل به لم يلتذ بسبب العلم والإدراك ولهذا قد يدرك الإنسان ما يؤذيه ويعلم ما يؤذيه كما يدرك ويعلم ما يلتذ به فتبين أن العلم والإدراك ليس هو اللذة ولا موجبا لها بل هو شرط فيها وسبب لها بمعنى أنه إذا حصل الحب للمعلوم والمدرك وحصل إدراكه ومعرفته حصلت اللذة به وإلا فلا. وهؤلاء يقولون: إنه إدراك مخصوص وهو إدراك الملائم فيكون الإدراك على قولهم جنسا تحته نوعان أحدهما اللذة وإذا كان أحدهما اللذة فينبغي أن يكون الألم إدراك المنافي فيكون أحد نوعيه اللذة والآخر الألم ويكون نفس العلم والسمع والبصر والذوق تارة ألما وتارة لذة وفساد هذا معلوم بالضرورة. وينبغي أن يكون قول القائل: علمت هذا ورأيته وسمعته إذا كان ملائما له بمنزلة قوله تنعمت به وفرحت به وسررت به وابتهجت به وبمنزلة قوله تأذيت به وتألمت به ونحو ذلك ومعلوم فساد هذا وهذا، وهذا ونفيهم فيه نفي الصفات المتعددة كما جعلوا نفس العاقل العالم هو نفس عقله وعلمه ونفس عقله وعلمه هو نفس إرادته ونفس إرادته هو نفس قدرته وكل هذا يعلم فساده بصريح العقل. والله تعالى فطر العباد على الإقرار به ومحبته وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

في الحديث الصحيح: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" أخرجاه في الصحيحين. وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يقول الله تبارك وتعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (سورة الروم 30) وهذه ملة إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (سورة النساء 125) وقوله: "أسلم وجهه" أي أخلص قصده وعمله لله وهو محسن في عمله فيكون الله هو معبوده بالعمل الصالح ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله

لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا" وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة الملك 2) قال: "أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة". وأول من أنكر حقيقة محبة الله لعبده والعبد لربه في الإسلام هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط وقال: "يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. وكان الجعد هذا أول من ظهر عنه التعطيل بإنكار صفات الله تعالى وبإنكار محبته وتكليمه كما يقول هؤلاء المتفلسفة والجهمية والباطنية ونحوهم من المعطلة والجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم فينكرون أن يكون الله يحب أو يحب حقيقة وينكرون التمتع برؤيته وينكرون أن يكون هو سبحانه موصوفا بالفرح ونحوه لزعمهم أن هذا من نوع اللذة والبهجة والله لا يوصف بذلك عندهم. وأما هؤلاء الفلاسفة فيقولون إنه يوصف بذلك لكن يتناقضون فيزعمون أن اللذيذ والملتذ واللذة شيء واحد بالعين فيجعلون الصفة هي

الموصوف ويجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويقولون إن نفس العلم هو نفس اللذة وهو نفس العالم وهو الملتذ وهذا مما يعلم بطلانه بصريح المعقول. والذين سلكوا مسلك المتفلسفة من أهل التصوف والكلام وأثبتوا لذة المعرفة بالله ولذة النظر إليه في الآخرة جعلوا ذلك هو نفس العلم بوجوده او نحو ذلك كما يذكر ذلك أبو حامد الغزالي ومن حذا حذوه وقد سلك هذا المسلك أبو نصر الفارابي وغيره من الفلاسفة فأقروا بما أخبر به الرسول من رؤية الله في الآخرة وفسروا الرؤية بهذا المعنى الذي أثبتوه على أصولهم الفاسدة. وهؤلاء الذين خلطوا الفلسفة بالكلام وإن كانوا أقرب إلى الحق المعقول والمنقول منهم فلم يثبتوا لله كل ما يستحقه من الأسماء والصفات كما نطق بذلك الكتاب والسنة ولا أثبتوا كل ما جاءت به الرسل من محبته وعبادته ولذة النظر إليه كما أثبت ذلك سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث. كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا دخل أهل الجنة منازلهم نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو ألم تبيض

وجوهنا وتثقل موازيننا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه وهو الزيادة". وفي السنن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث عمار بن ياسر وغيره: "أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك". وهذا يتعلق بمسألة محبة الله أي أنه محبوب في نفسه وهو محب لنفسه ولعباده المؤمنين وهي أصل هذا الباب وهي أصل ملة إبراهيم التي بعث الله بها موسى وعيسى ومحمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمعين بل هي أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وبها تزول عامة الشبهات الواقعة في هذا الباب في مسألة فعله هل هو معلل أم لا وفي الإرادة والمحبة وفي مسألة التحسين والتقبيح وفي عامة مسائل الخلق والأمر.

والمقصود هنا أن السعادة التي هي كمال البهجة والسرور واللذة ليس هي نفس العلم ولا تحصل بمجرد العلم بل العلم شرط فيها بل لا بد من العلم بالله وبأمره كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق على صحته: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" فكل من أراد الله به خيرا فلا بد أن يفقهه في الدين فمن لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرا وليس كل من فقهه في الدين قد أراد به خيرا بل لا بد مع الفقه في الدين من العمل به فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح فلا بد من معرفة الرب تعالى ولا بد مع معرفته من عبادته والنعيم واللذة حاصل بذلك لا أنه هو ذلك فغلطوا من هذين الوجهين هذا لو كان ما ذكروه من العلم حقا وكان كافيا فكيف والأمر بخلاف ذلك؟! ولهذا قال من قال من المسلمين: الإيمان قول وعمل ومتابعه للسنة وهؤلاء أخرجوا العمل ولم يلتزموا شرائع الأنبياء وإنما معهم نوع من القول لا يكفي مع ما فيه من الخطاء وهم يدعون أن كمال النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود ولهذا تنازعوا في بقائها بعد الموت على ثلاثة أقوال والثلاثة للفارابي: فمنهم من قال تبقى العالمة والجاهلة كما يقوله ابن سينا وأمثاله ومنهم من يقول بل تبقى العالمة فقط لأنها تبقى ببقاء معلوماتها والجاهلة ليس لها معلوم باق فلا تبقى ومنهم من يقول بل كلاهما تفسد بالموت وهو قول المعطلة المحضة منهم ومن غيرهم الذين ينكرون معاد الأبدان ومعاد الأرواح جميعا أو ينكرون معاد

الأرواح وبقاءها بعد الموت فقط مع بقاء البدن فقط كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام المحدث في الإسلام. فإن لبني آدم في المعاد أربعة أقوال: أحدها: القول بمعاد البدن والروح جميعا وأن الروح المفارقة للبدن التي يسمونها النفس الناطقة تكون بعد فراق البدن منعمة أو معذبة ثم إن الله يعيدها عند القيامة الكبرى إلى البدن وهذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وعليه دل الكتاب والسنة وإن كانوا لا يصفون بالنفس بالصفات التي يذكرها المتفلسفة بل يثبتون لها بعد الموت حركة وبقاء وغير ذلك مما دلت عليه النصوص النبوية والآثار السلفية. والثاني: القول بمعاد البدن فقط وهذا قول كثير من أهل الكلام من الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم فبنوا ذلك على أنه ليس فينا روح تبقى بعد فارق البدن بل ظنوا أن الروح عرض يقوم بالبدن كالحياة أو جزء من أجزاء البدن كالنفس الخارج والداخل فأنكروا أن تكون الأرواح المفارقة للأبدان منعمة أو معذبة ثم من أثبت من هؤلاء عذاب القبر كالأشعرية وبعض المعتزلة قال إنه تخلق حياة في جزء من أجزاء البدن فينعم أو يعذب وإنكار بقاء النفس بعد الموت

قول مبتدع في الإسلام لم يذهب إليه أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين وإن كان كثير من كتب الكلام لا يوجد فيها قول للمسلمين إلا هذا وربما حكاه بعضهم عن أكثر المسلمين وهذا لأن الذين يذكرون هذا كالرازي وأمثاله ليس لهم خبرة بأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة المسلمين في مسائل أصول الدين بل إنما يعرفون أقوال الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المحدث وهؤلاء كلهم مبتدعة عند سلف الأمة وأئمتها وبسبب مناظرة هؤلاء للمتفلسفة حصل شر كثير في الإسلام فإنهم يناظرون بجهل كثير بالعقليات والسمعيات. والقول الثالث: قول من يقول بمعاد الأرواح التي هي النفس الناطقة فقط كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. والرابع: إنكار المعادين مطلقا كما هو قول المكذبين بالجزاء بعد الموت كما كان عليه المكذبون بذلك من مشركي العرب وغيرهم من الأمم ولهذا بين الله المعاد في كتابه بأنواع متعددة من البيان كما قد بسط في موضعه. الوجه السابع: أن يقال: إن النفس بعد مفارقتها إن لم يكن لها حب وطلب لم يكن لها لذة فإن وجود اللذة بدون المحبة غير معقول ولا موجود بل هو ممتنع فإذا قالوا إن النفس بعد المفارقة لا يبقى لها إلا مجرد

أن تعلم لم يكن لها لذة ولا سرور وإذا قالوا لها لذة وسرور فقد أثبتوا لها محبة فحينئذ تكون لها قوتان قوة العلم والشعور والثاني قوة الإرادة والمحبة ولا تكمل النفس إلا بالكمال في القوتين فدعواهم أن الكمال في مجرد العلم دعوى باطلة بمنزلة من قال كمال النفس في مجرد القدرة أو في مجرد الإرادة. والكمال لا يحصل إلا بالعلم والقدرة والإرادة التي أصلها المحبة وحيث كان الإنسان يلتذ بالعلم فلا بد أن تكون هناك محبة لما يلتذ به. فتارة يكون المعلوم محبوبا يلتذ بعلمه وذكره كما يلتذ المؤمنون بمعرفة الله وذكره بل ويلتذون بذكر الأنبياء والصالحين ولهذا يقال عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة بما يحصل في النفوس من الحركة إلى محبة الخير والرغبة فيه والفرح به والسرور واللذة والأمور الكلية تحب النفس معرفتها لما فيها من الإحاطة التي توصلها إلى معرفة المعينات. وتارة يكون بالعلم يدفع من الشبه ما يعارض محبوبه فقد يكون محبه شيئا وقد عرف منه أمورا عورض فيها فصار عنده ألم ومرض قلب لما عنده من الجهل بزوال تلك الشبه فإذا علم ما يزيلها وجد لذة عظيمة وإما أن يكون محتاجا إلى العلم بذلك لأنه يتوصل به إلى جلب منفعة ودفع مضره وهذا كثير مشهور وأما إن لم يكن هناك محبوب بل المعلوم بغيض فإن تصوره يؤلم النفس لا يسرها فلا يقال إن كل علم يحصل به لذة وهم يسلمون هذا ويقولون إنما اللذة إدراك الملائم لكن يتناقضون مع ذلك فيجعلون اللذة في مجرد علم بالوجود المطلق

من غير بيان فلا يفيد الإنسان فيعود كلامهم إلى أن نفس اللذة هي نفس العلم من غير تقييد بالملائمة للمعلوم ويقولون إن العين تلتذ بالنظر والأذن بالسمع والنفس تلتذ بالعقل ومعلوم أن العين لا تلتذ برؤية كل شيء ولا يلتذ السمع بسمع كل شيء كذلك النفس لا تلتذ بعقل كل شيء بلا لا بد أن يكون ذلك الشيء ملائما أو عونا على الملائم أو مانعا من المنافي ونحو ذلك. الوجه الثامن: أن يقال إذا كان لها حب وإرادة كان لها عمل في تحصيل المحبوب المراد وهذا نوع من الحركة التي تناسبها فإن الحركة في اصطلاحهم ليست هي النقلة من مكان إلى مكان بل النقلة نوع من الحركة وهم يقولون حركة في الكم وحركة في الكيف وحركة في الأين وحركة في الوضع فالحركة في الكيف هو تحول الموصوف من صفة إلى صفة إما في لونه وإما في طعمه أو ريحه أو غير ذلك وكذلك النفس إذا كانت جاهلة فصارت عالمة أو كانت مبغضة فصارت محبة أو كانت متألمة فصارت ملتذة فهذا حركة في الكيف. والحركة في الكم مثل النمو الذي يحصل في أبدان الحيوان والنبات. والحركة في الوضع مثل حركة الفلك فإن حركته لا توجب خروجه من حيزه والحركة في الأين هي النقلة مثل حركة الماء والتراب والهواء والمولدات من حيز إلى حيز وإذا كان كذلك فالنفس بعد الموت لها محبة لشيء وطلب إن حصل التذت به وإلا تألمت فهي متألمة أو ملتذة لما تدركه من مناسب أو مناف وهذه حركة ومن المعلوم بالضرورة أن ما يحدث له آلام ولذات فلا بد له من نوع حركة.

الوجه التاسع: إنهم يقولون اللذة إدراك الملائم والألم إدراك المنافي وسواء كانت اللذة هي نفس الإدراك والشعور والمعرفة أم هي حاصلة بسبب الإدراك والشعور والمعرفة فعلى التقديرين إنما تكون اللذة في إدراك الملائم فلم يبق جنس الإدراك والعلم هو اللذة ولا موجبا للذة بل لا تكون اللذة إلا في إدراك الملائم فلا بد أن يكون المعروف المعلوم المشعور به المدرك ملائما في نفسه للعالم العارف الشاعر المدرك حتى يكون في إدراكه له لذة ومعلوم أن ما لاءم الشيء فهو محب له وما نافره فهو مبغض له فلا بد في اللذة والألم من ثلاثة أمور ملائمة ومنافرة بين المدرك والمدرك ومحبة أو بغضة من المدرك للمدرك ثم علم به وإدراك له ثم تحصل اللذة أو الألم بعد هذا وهذا مما يبين أن أكمل اللذات لذة النظر إلى الله كما دلت عليه نصوص الأنبياء. ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه قالوا: ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه وهي الزيادة". فدل على أن اللذة الحاصلة بالنظر أعظم من كل لذة كانت قبل ذلك.

وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه: "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الغنى والفقر وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين". وهذا كما أنه ليس في الدنيا من اللذات أعظم من لذة العلم بالله وذكره وعبادته ولهذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" هكذا لفظ الحديث لم يقل حبب إلي ثلاث فإن المحبب إليه من الدنيا اثنان وجعلت قرة عينه في الصلاة فهي أعظم من ذينك ولم يجعلها من الدنيا وفي الحديث: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر" ولهذا كان أعظم آية في القرآن آية الكرسي كما ثبت في

صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بن كعب: "يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (سورة البقرة 225) فضرب بيده في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر". وثبت في الصحيح من غير وجه أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. فإن القرآن كلام والكلام إما خبر وإما إنشاء فالإنشاء هو الأمر والنهي والإباحة والخبر إما عن المخلوق وهو القصص وإما عن الخالق وقل هو الله أحد اشتملت على هذا الثلث وهو الخبر عن الخالق. الوجه العاشر: إنه إذا كانت اللذة في إدراك الملائم ولا بد أن يكون المدرك ملائما للمدرك ثم بالإدراك له تحصل اللذة بطل ما يقولونه في

نهاية فلسفتهم وهو أن كمال النفس أن تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود فإن ذلك إنما يكون بإدراك الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم التي يقال لها علم ما بعد الطبيعة باعتبار علم الناس وقد يقال علم بأنها باعتبار وجودها في نفسها ويسمونه العلم الإلهي. ويقولون: موضوعه هو الوجود وما يلحقه من حيث هو وجود كانقسامه إلى واجب وممكن وإلى قديم ومحدث وإلى علة ومعلول وإلى الجوهر والعرض وانقسام الجواهر إلى خمسة وهي النفس والعقل والمادة والصورة والجسم وانقسام الأعراض إلى تسعة أجناس على رأي المعلم الأول جمعها بيتان: زيد الطويل الأسود بن مالك ... في داره بالأمس كان يتكي في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوا فذكر الجوهر والكم والكيف والإضافة والأين ومتى وهو المكان والزمان والوضع والملك وأن يفعل وأن ينفعل وقد مانع كثير من الناس في حصرها في تسعة حتى قال بعضهم تنحصر في ثلاثة وبعضهم قال في خمسة. والمقصود أن موضوع هذا العلم هو أمر كلي مطلق مشترك بين أنواعه فإن الوجود المنقسم إلى الواجب والممكن وإلى الجوهر والعرض وإلى القديم والمحدث ليس هو وجودا معينا موجودا في الخارج إذ القسمة قسمتان قسمة الكلي إلى أنواعه وقسمة الكل إلى أجزائه والمراد بلفظ القسمة عند الجمهور هو الثاني وبذلك جاء القرآن في مثل قوله:

{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} (سورة القمر 28) وقوله: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} (سورة الحجر 44) وقوله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (سورة الزخرف 32) ومنه باب القسمة التي يذكرها الفقهاء كقسمة المواريث والغنائم والفيء من عقار ومنقول بين المشتركين فيه فيحصل لكل واحد جزء من المقسوم موجود في الخارج غير الجزء الحاصل للشريك الآخر. وقد قال جابر: "قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". ولهذا كان قدماء النحاة يقولون: الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف كما ذكره غير واحد منهم ابن جني والزجاجي صاحب الجمل وغيرهما فاعترض عليهم بعض المتأخرين كالكزولي صاحب القوانين النحوية وقال: كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاص أنواعه فاسم المقسوم الأعلى صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له. وكذلك أبو البقاء النحوي ذكر هذا فيما اعترض به على ابن جني وأجاب أن مراده أجزاء الكلام ونحو ذلك. وليس هذا الاعتراض بشيء فإن ما ذكره هؤلاء إنما هو في القسمة العقلية وهو قسمة الكل الذي يكون كليا في العقل إلى أنواعه وأشخاص أنواعه وأما القسمة الحسية الموجودة في الخارج فهو قسمة

الكل إلى أجزائه والكلام مركب من الاسم والفعل والحرف كما يتركب البيت من السقف والحيطان والأرض وكتركب بدن الإنسان من رأس وصدر وبطن وأفخاذ وغير ذلك. فقولهم: الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام أرادوا به هذه القسمة كما يقال الدار ينقسم إلى سفل وعلو وهذه الأرض تنقسم إلى بيضاء وذات شجر ونحو ذلك وهذه القسمة التي يعرفها بنو آدم فإنها قسمة لما هو موجود معلوم بنفسه إما جوهر كالعقار وإما عرض قائم بالجوهر كالكلام والأصوات والألوان وتلك القسمة إنما هي بعد أن ينتزع العقل من الجزئيات أمرا كليا مشتركا عاما ثم يقسمه العقل إلى أنواعه وأشخاصه وهي تلك الجزئيات والكليات الخمسة التي يسمونها الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام تنقسم هذه القسمة فإذا كان موضوع الفلسفة الأولى والحكمة العليا عندهم هو الوجود الكلي المشترك المطلق الذي يعم كل موجود فلفظه ومعناه يتناول الموجودات كلها وكذلك لفظ الثبوت والشيء ونحوهما مطابق للفظ الوجود عند جمهور النظار. فغاية ما يسمى الوجود أن يكون بمنزلة مسمى الشيء ومسمى الثبوت والحصول ونحو ذلك وهذا المعلوم ليس هو شيئا موجودا في الخارج حتى يقال إنه ملائم للنفس أو غير ملائم بخلاف ما إذا قيل واجب الوجود ورب العالمين وخالق العالم فإن مسمى هذا الاسم موجود بنفسه سبحانه وتعالى وهو الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه فالنفس إذا عرفته عرفت ما يكون كمالها في معرفته وعبادته وهو سبحانه العلي الأعلى فالعلم به أعلى العلوم إذ العلم يطابق المعلوم. وأما الوجود العام المشترك كاسم الشيء فذاك لا يوجد كليا إلا في

الذهن ليس في الخارج شيء يعم جميع الأشياء ولا وجود يعم جميع الموجودات. ومن المعروف عندهم وعند غيرهم أن الكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان وهم قد جعلوا الكليات ثلاثة الطبيعي والعقلي والمنطقي فالطبيعي أن يوجد الكلي مطلقا لا بشرط الإطلاق كما إذا أخذ الإنسان مطلقا والحيوان مطلقا من غير تقييد بوجود ولا عدم ولا وحده ولا كثرة ولا غير ذلك من القيود. والمنطقي ما يعرض له من العموم والكلية فإن المنطقي ينظر في عموم هذا وخصوصه فكونه عاما وخاصا هو موضوع نظر المنطقي. والمركب منهما هو العقلي وهو الإنسان بشرط كونه عاما ومطلقا وهو المطلق بشرط الإطلاق وهذا يسلمون كلهم أنه لا يوجد إلا في الذهن إلا من قال بالمثل الأفلاطونية. وأما الطبيعي فقد يقولون هو موجود في الخارج وقد ينازع منازع في ذلك وفصل الخطاب أنه موجود في الخارج لكن لا يكون كليا في الخارج فليس في الخارج ما هو كلي في الخارج بل ما يوجد كليا في الذهن يوجد في الخارج معينا مشخصا مخصوصا مقيدا وقولهم هذا موجود في الخارج كما يقال لما يتصور في النفس إنه موجود في الخارج وكما يقال فعلت ما في نفسك وقلت ما في نفسك ونحو ذلك فإن الشيء موجود في نفسه ثم الذهن يتصوره ثم يعبر اللسان عن ما تصوره الذهن ثم يكتب بالخط عبارة اللسان ولهذا يقال للشيء أربع وجودات وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي.

ولهذا كان أول ما أنزل الله على رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق 1-5) فذكر في هذه السورة التي ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها أول ما أنزل عليه من القرآن أنه سبحانه موجد الموجودات الأربعة فذكر الوجود العيني وهو الوجود الحقيقي الثابت في نفسه فعم بالخلق وخص الإنسان فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ثم ذكر الموجودات الثلاثة المطابقة لهذا فعم وخص فقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فذكر العلم عموما وخص الإنسان بالتعليم وذكر أنه علم بالقلم وذلك هوالخط والخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى الذي في القلب فإن الخط لا يدل بنفسه على المعنى وإنما يدل على العبارة الدالة على المعنى. ولهذا من لم يعرف لغة صاحب الخط فإنه إذا قرأ خطا بالعربي واللسان فارسي وهو لا يعرف معنى اللغة الفارسية لم يعرف المعنى فإن الخط إنما يدل بواسطة اللفظ. فهؤلاء إذا قالوا الكلي الطبيعي موجود في الخارج كما يقال إن

المعلوم في نفسي موجود في الخارج فهو صحيح فإن الكلي الطبيعي مطلق لا بشرط فهو مطابق للأعيان الموجودة في الخارج. فإذا قيل الإنسان يطلق على هذا وهذا كان صحيحا بخلاف الكلي العقلي فإنه يطلق بشرط الإطلاق وذاك إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان فلا يطابق ما في الخارج بل هو من باب المقدرات الذهنية كما يقدر في الذهن ما يمتنع وجوده في الخارج مثل الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين. فإذا قدر أن الشيء موجود معدوم أو لا موجود ولا معدوم فهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن ولا يكون في الخارج والذين ظنوا أن هذا الكلي يكون في الخارج مقارنا للموجودات المعينة أو مفارقا لها فقد غلطوا في ذلك كما غلط أمثالهم من المتفلسفة فإن هؤلاء المتفلسفة كثيرا ما يغلطون فيظنون ما هو موجود في الأذهان موجودا في الخارج مثل غلط أولهم فيثاغورس وشيعته في الأعداد المقارنة المطلقة المجردة حيث ظنوا أنها تكون في الخارج مجردة عن المعدودات والمقدورات ومثل غلط أفلاطون وشيعته في الطبائع الكلية كالإنسان الكلي والحيوان الكلي حيث ظنوا أنها تكون في الخارج كليات مجردة عن الأعيان أزلية أبدية لم تزل ولا تزال وقالوا ذلك في الزمان والمكان والمادة فظنوا أن في الخارج جوهرا عقليا أزليا أبديا غير الأجسام وأعراضها وجوهرا مثالا أزليا أبديا غير الأجسام وحركاتها ومقدار حركاتها وظنوا وجود مادة عقلية مجردة عن جميع الصور هي المادة الأولية التي يثبتها هؤلاء.

وقد خالفهم أصحابهم كأرسطو وشيعته والمتأخرون الذين سلكوا خلفه كالفارابي وابن سينا وردوا على متقدميهم وقالوا إن الفلسفة كانت نية فأنضجت فإن مبدأها إنما هو النظر في الطبيعيات ثم انتزعوا من الأمور الطبيعية هذه الكلية العقلية وظنوا وجودها في الخارج. فرد عليهم هؤلاء وأصابوا في الرد ثم جعل هؤلاء هذه الماهيات العقلية موجودة في الخارج مقارنة للموجودات الحسية الطبيعية فاثبتوا مادة عقلية مع الجواهر الحسية وأثبتوا ماهية مجردة كلية مقارنة للأعيان وقالوا هذه الماهيات غير الوجود وأسباب الماهية شيء وأسباب الوجود شيء فإنا نعقل المثلث قبل أن نعلم وجوده وقالوا هذه الماهية يغشاها غواش غريبة حسية وخيالية. وقسموا في منطقهم اليوناني المتلقي عن معلمهم الأول أرسطو الذي هو صاحب تعاليم المنطق والطبيعي والإلهي قسموا الصفات اللازمة للموصوف إلى ذاتي داخل في الماهية مقوم لها وإلى عرضي خارج عن الماهية ثم العرضي قسموه إلى لازم للماهية وإلى لازم لوجودها لما فرقوا بين الوجود والماهية وإلى عارض لها إما بطيء الزوال أو سريع الزوال. وهذا التقسيم وما بنوه عليه من الحدوث مما أنكره عليهم جمهور النظار من المسلمين وغيرهم وبينوا ما بينوه من خطئهم فيه كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع. والمقصود هنا التنبيه على منشأ غلطهم أما تقسيم الصفات إلى لازم للموصوف وإلى غير لازم فهذا حق وهو تقسيم نظار المسلمين يقسمون الصفات إلى لازم وعارض فإن الحيوانية الناطقية والضاحكية لوازم للإنسان بخلاف العربية والعجمية والسواد والبياض والشباب والمشيب والإسلام والكفر.

وأما تقسيم الصفات اللازمة إلى ثلاثة أنواع: نوع داخل في الماهية ونوع خارج عنها والخارج على قسمين: لازم لها ولوجودها ودعوى أن الماهية مركبة من الصفات الداخلة فيها وهي الذاتية وهو الجنس والفصل كالحيوان والناطق وأن الإنسان مركب منهما وأن الحدود الحقيقية لا تصح إلا بذكر الصفات الذاتية المشتركة وهي الجنس والمميزة وهي الفصل وبهما يتم النوع المركب كما يتم الإنسان بالحيوان والناطق فهذا من الخطأ الذي أنكره عليهم نظار المسلمين كما قد كتبنا بعض كلام النظار في ذلك في غير هذا الموضع في الكلام على المحصل وعلى منطق الإشارات وعلى المنطق اليوناني مصنف كبير ومصنف مختصر وغير ذلك. وذلك أن لفظ الماهية والوجود قد يعني بالماهية ما يتصور في الذهن وبالوجود ما يكون في الخارج وهذا حق لم ينازع فيه نظار المسلمين ولا ريب أن الماهية المتصورة في الذهن ليست عين الموجود في الخارج ولكن ما يتصور في الذهن إذا كان مطابقا لما في الخارج كان علما كما أن القول الذي يكون معناه في الذهن ولفظه في اللسان إذا طابق ما في الخارج كان صدقا وليس نفس القول هو المقول الذي في الخارج فكذلك إذا تصورنا ماهية شيء من الأشياء في أنفسنا فما في النفس من التصور يطابق ما في الخارج لا أن هذا عين ذلك فمن قال إن الماهية غير الوجود وأراد بالماهية الصورة العلمية الذهنية وبالوجود ما يوجد في الخارج فقد أصاب وأما إذا عنى بالماهية والوجود جميعا

ما هو ثابت في الخارج أو عنى بهما جميعا ما هو متصور في الذهن وقيل إن في الذهن شيئين ماهية ووجودها أو في الخارج شيئان ماهية ووجودها فهذا خطأ. وبهذا التفصيل يزول الاشتباه والنزاع الموجود في أن الماهية هل هي غير وجودها أم لا فمن لم يفصل هذا التفصيل فإما أن يحار ويقف كالآمدي ونحوه وإما أن يختلف كلامه ويتناقض كالرازي ونحوه أو يصر على الباطل إذا نصر أحد القولين كبعض المتكلمين والمتفلسفة. والمقصود هنا التنبيه على مثار غلطهم وهو أنهم يتوهمون ما في الذهن موجودا بعينه في الخارج كما توهموا ذلك في هذه الكليات إما مجردة على رأي قدمائهم أصحاب المثل الأفلاطونية وأصحاب فيثاغورس وإما مقرونة بالموجودات على رأي متأخريهم كشيعة أرسطو ولهذا كان ما يثبتونه من المجردات المفارقة للمادة ليس يسلم لهم منها شيء إلا نفس الإنسان إذا فارقت بدنه فإنها تكون مفارقة لبدنه بالموت وإنما سموا ما سواها مجردا مفارقا للمادة من هذا الباب. فما أثبتوه من العقول العشرة المحركات المفارقات التي ليست جسما ولا متعلقة بجسم ويعبرون عن الجسم بالمادة فيقولون لا في مادة ولا متعلقة ومن النفوس الفلكية التسعة التي ليست في جسم ومادة لكنها متعلقة بالمادة التي هي الجسم تعلق التدبير والتصريف.

وهذا التفريق عندهم بين قسمي النفس والعقل أصله من نفس الإنسان فإنها تارة تكون في بدنه مدبرة له فتسمى نفسا وتارة تفارقه فتسمى عقلا عندهم لأنهم عقلت العقليات التي صارت بها عالما معقولا مطابقا للموجود ولهذا سموا العقول العشرة عقولا والنفوس الفلكية نفوسا وهم مختلفون هل هي أعراض في جسم أم هي مجردات؟ على قولين. وإذا أعطى النظر والبحث حقه وكشف حقيقة ما يقولونه في هذا الباب وأزيلت الشبه عن الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة لم يكن عند القوم من المعقولات المجردة إلا ما هو معقول للإنسان في نفسه مثل الكليات كالإنسانية والحيوانية والوجود العام المشترك ونحو ذلك وإما شيء موجود في نفسه خارج يكون من المعقولات التي أثبتوها فهذا لا حقيقة له. ولهذا غلط من ظن أن عالم المعقولات التي يثبتونها هو الغيب الذي أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم أجمعين كما يذكر مثل ذلك جماعة ممن رام أن يجمع بين ما قالوه وبين ما أخبرت به الرسل كما يوجد مثل ذلك في كلام الشهرستاني وأبي حامد والرازي وغيرهم فإن ما أثبتوه من العقليات يجعلون فيه الفرق بين العالم العقلي والحسي هو الفرق بين الغيب والشهادة وليس الأمر كذلك فإن المعقولات التي يثبتها هؤلاء إنما هي معقولات في نفس الناس وهو عرض قائم بنفسه. فأما ما يدعونه من عالم معقول يمتنع أن يكون محسوسا بحال فهذا ليس لهم عليه دليل ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات ذلك أثبتوه

بالكليات كما فعله ابن سينا في إشاراته أو بموجودات لا يحسها الإنسان لا لامتناع الإحساس بها مطلقا بل لأسباب أخر. وأما ما أخبرت به الرسل من الغيب فليس هو معقولا مجردا في النفس ولا هو موجود في الخارج لا يحس به بحال بل هو مما يحس به كما أخبرت بالملائكة والجن وغير ذلك وكل ذلك مما يجوز رؤيته والإحساس به. وكذلك ما أخبرت به من الجنة والنار هو مما يحس به وكذلك الرب تبارك وتعالى وتقدس وتعظم تجوز رؤيته بل يرى بالأبصار في الآخرة في عرصات القيامة وفي الجنة كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين. ولهذا فرقت الرسل بين هذا وذاك فإن هذا شهادة أي مشهود لنا محسوس الآن وذاك غيب أي غائب عنا الآن لا نشهده وهذا فرق إضافي باعتبار حالنا في شهوده الآن وعدم شهوده فإذا متنا صار الغيب شهادة وشهدنا ما كانت الرسل أخبرت به وكان غيبا عنا. قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (سورة ق 22) . وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (سورة الأنعام 30) .

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (سورة الأحقاف 34) . وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} (سورة الملك 25 27) . وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} (سورة الفرقان 21 22) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (سورة النساء 97 99) . وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (سورة الأنفال 50 51) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ

أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (سورة الأنعام 93) وقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وبالجملة الملائكة الذين أخبر رسل الله عنهم كما ذكرهم الله في القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من أخبار الأنبياء من تدبر بعض ما ذكر عنهم وما تقوله المتفلسفة في المجردات العقول العشرة والنفوس التسعة علم بالاضطرار أن هذا مباين لهم من وجوه كثيرة وأن كل من رام من القرامطة الباطنية أو باطنية أهل الكلام والتصوف أن يجعل هذا مكان هذا ويجمع بين ما أخبرت به الرسل وما ذكرته الفلاسفة كان من أجهل الناس إن لم يعرف وأعظمهم تعمدا للكذب إن عرف. والجمع بين هذا وهذا أبعد من الجمع بين شريعة التوراة بعد النسخ والتبديل وبين شريعة القرآن فإن هؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع كل ما سوى الرب وكل ما سواه معلول مربوب له والعقل الفعال أبدع كل ما تحت السماء وهو معلول ومربوب له وهذا مما يعلم صبيان المسلمين أنه تكذيب صريح لما جاءت به الرسل ليس في كلام الرسل أن ملكا

من الملائكة خلق كل ما سوى الله ولا خلق جنسا من المخلوقات ولا كان قديما. بل قد ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم". وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (سورة الأنبياء 26 27 28) . وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران 80) . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (سورة الإسراء 56 57) قال طائفة من السلف: "كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء الذين يدعونهم من الملائكة والأنبياء هم عباد الله كما أنتم عباده يرجون رحمته كما ترجون رحمته ويخافون عذابه كما تخافون عذابه ويتقربون إليه كما تتقربون إليه. وهؤلاء زعموا أن الشفاعة إنما هي بأن يتوجه الإنسان إلى روح

مفارق فيفيض عليه من ذلك الروح وذلك الروح قد فاض عليه الأمر من الرب وشبهوا ذلك بشعاع الشمس إذا وقع على مرآة ثم وقع شعاع المرآة على غيره وقد ذكر هذا المعنى ابن سينا والغزالي في المضنون به على غير أهله وغيرهما ممن بني على أصلهم الفاسد إذ كانوا لا يرون أن الله يسمع كلام عباده ولا يعلم ما في نفوسهم ولا يقدر أن يغير شيئا من العالم ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء فأثبتوا الشفاعة على هذا الوجه. وهذه شر من الشفاعة التي يثبتها مشركو العرب والنصارى والمبتدعون من المسلمين ونحوهم ممن يقول إن الله فاعل مختار فإن هؤلاء يثبتون شفيعا يشفع إلى الله فيقضي حاجته وجعلوا شفيعهم من جنس الذي شفع عند الملوك. فأبطل الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك وكفر من أثبت هذه الشفاعة فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} (سورة يونس 18) . وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (سورة الأنعام 51) . وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (سورة السجدة 4) .

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (سورة البقرة 255) . وقال عن الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} سورة الأنبياء 28) . وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (سورة النجم 26) . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (سورة سبأ 22) . وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سورة سبأ 23) . وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية بأن الملائكة إذا سمعوا تكلم الله بالوحي صعقوا فإذا أزيل الفزع عنهم: {قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سورة سبأ 23) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} (سورة البقرة 254) .

وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (سورة البقرة 48) . والناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا. والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر. وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر وشفاعة غيره لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله ويحد له حدا كما في الحديث الصحيح حديث الشفاعة أنهم يأتون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى وعيسى فيقول لهم عيسى اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: "فيأتوني فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع فأقول أي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حدا" ذكر هذا ثلاث مرات.

وفي الصحيح أن أبا هريرة قال لرسول الله: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "يا أبا هريرة لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه " فبين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أسعد الناس بشفاعته في الآخرة أعظمهم إخلاصا لله وتوحيدا له في الدين. وذلك أنه من يشفع عنده بغير إذنه كان الشافع شريكا له في العقل ولهذا سمي الشفيع شفيعا لأنه يشفع للطالب كما قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} (سورة النساء 85) فكل من أعان غيره على أمر فهو شافع له والشافع عند غيره تؤثر فيه حركة تغير اختياره ويكون شريكا له في المطلوب والله منزه عن ذلك كله.

وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأسعد الناس بالمغفرة التي تنال بالشفاعة وغير الشفاعة أعظمهم إخلاصا له لا من كان فيه شرك يرجو غير الله ويسأل غير الله ويعبد غير الله كما يفعل المشركون الذين اتخذوا من دون الله شفعاء سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو صالحين أو من يظن فيهم الصلاح فيسألونهم ويستغيثون بهم إما في مغيبهم وإما عند قبورهم. وكثيرا ما يتمثل لهؤلاء المشركين صورة ذلك الشخص المستغاث به ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورته ليضل ذلك المستغيث به المشرك كما كانت الشياطين تكلم الناس من الأصنام وكما يقع كثير من ذلك في أرض الشرك أرض الصين والترك والهند والغرب والجنوب والشمال يرون أحيانا أن ميتهم قد جاء وحدثهم بأمور وقضى لهم حوائج فيظنونه قد عاش بعد موته وإنما هو شيطان قد تمثل على صورته ومنهم من يصنع قربانا للشيطان ويقرب له ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ويغنون غناء يناسبه ويأتون بشيخ لهم يناسب ذلك الشيطان فيسقونه الدم أو يفعل به الفاحشة أو ينطق بالكفر الذي يختاره الشيطان ثم يتكلم الشيطان إما منفردا وإما على لسان ذلك الشيخ ببعض ما يريدونه وربما صعد الشيخ في الهواء وهم يرونه وقد يحمل للشيطان بعض هؤلاء الشيوخ الذين لهم حال شيطاني فيطير به في الهواء فيذهب به إلى مكان آخر وربما مشى به على الماء لكن لا بد أن يكون الشيخ عاصيا لله ورسوله وكلما كان أفجر وأكفر كان أقرب له إلى الشياطين.

كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (سورة الشعراء 221-222) . وإذا كان من أولياء الله المتقين المطيعين لله ورسوله هربت منه هذه الشياطين وكان أعوانه جند الله من الملائكة والجن المؤمنين وغيرهم وقد يطيع الشياطين لولى الله في بعض ما يأمر به من طاعة الله ورسوله تعظيما له وإكراما له لا طاعة لله ولرسوله فهذا يقع كثير ولكن لم تسخر الجن والشياطين تسخيرا مطلقا لغير سليمان عليه السلام وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يظنون الأمور الذهنية المتصورة في الذهن حقائق ثابتة في الخارج وهذا الأمر غالب عليهم كثير في كلامهم ومن تفطن له تبين له وجه غلطهم في كثير من مطالبهم مع أنهم لهم عقول ونظر وفضيلة بالنسبة إلى أتباعهم لا إلى أتباع الرسل. وعلم القوم الذي كانوا يعرفونه هو الطب والحساب فلهم في الطبيعيات كلام كثير جيد والغالب عليه الجودة وكذلك في الحساب في الكم المنفصل والكم المتصل وفيهم خلاف كثير في علم الهيئة وحركات الكواكب ومقاديرها وكذلك في سائر علومهم هم أكثر الطوائف اختلافا. وإذا قال أبو عبد الله الرازي: "اتفقت الفلاسفة" فإنما عنده ما ذكره ابن سينا في كتبه وكذلك كلام المشائين أتباع أرسطو وإلا فالفلاسفة أصناف مختلفة وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتابه

الكبير في المقالات لما ذكر مقالات غير الإسلاميين وكذلك أبو عيسى الوراق والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم ممن يحكي مقالات الناس ويناظرهم ذكروا من أقوال الفلاسفة اختلافهم ما يكون كلام المشائين فيه قليل من كثير. وإذا كان غاية فلسفتهم إنما هو العلم بكليات لا وجود لها في الخارج إنما يوجد في الخارج أشخاص معينة وتلك الكليات لا وجود لها في الخارج فليس هناك شيء يلائم النفس حتى تكون النفس كاملة سعيدة بمعرفته فتبين أن ما ذكروه من كمال النفس وسعادتها بعد الموت خطأ وضلال. الوجه الحادي عشر: أن الكليات هي مطابقة لجزئياتها فإذا كانت الجزئيات تقبل التغير من حال إلى حال لم تكن الكليات ثابتة على حال فلا يكون العلم بها علما بشيء باق وكل مخلوق فإنه يقبل التغير من حال إلى حال على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه العقول وإذا لم يكن في الموجودات كليات عقلية أزلية أبدية لا تقبل التغير فيبقى ما في النفس من هذه الكليات المتعلقة بالمخلوقات جهلا لا علما وذلك مثل الكليات الطبيعية وهو أن النار تحرق فإن هذا له شروط وموانع فقد لا تحرق لفوات الشروط أو وجود المانع وليست الموانع أمرا محدودا فلا يمكن العلم القاطع أن كل نار تحرق بالفعل لما من عادته أن تحرقه ثم هم يدعون قدم الأفلاك وبقائها وكذلك العقول والنفوس.

فيقال: هذه أمور معينة لا كلية فإذا كانت النفس تبقى ببقاء معلومها فالمعلوم الباقي الأزلي الأبدي الذي لا ريب في بقائه وقدمه وهو رب العالمين فالسعادة والكمال في معرفته وعبادته وهذا هو العلم الأعلى الذي هو علم بالرب الأعلى ليس العلم هو العلم بوجود مطلق وأقسامه كما قوله هؤلاء ومن تبعهم حتى أدخل ذلك في أصول الفقه الرازي ونحوه ويحيلون بالبرهان على العلم الأعلى الناظر في الوجود ولواحقه. وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع على كلامهم في الحد والبرهان وبينا ما عليه نظار المسلمين في الحد وأن المقصود به التمييز للمحدود من غيره فمقصوده تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال سواء كان حد الشيء اسم وهو الحد بحسب الاسم أو لشيء موجود وهو الحد بحسب الحقيقة وهذا الحد يحصل بالعرف المطابق للمحدود في العموم والخصوص بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه فيكون الحد مطردا منعكسا كالاسم مع المسمى. وأما ما يدعونه هم من أن الحد يحصل به معرفة حقيقة المحدود في الخارج وأنه يكون بالصفات الذاتية الداخلة في الحدود المركبة من الجنس والفصل فهذا مما تكلم نظار المسلمين على خطئهم فيه من وجوه كما بيناه في موضعه وبينا أن قولهم إن الإنسان مركب من الجنس والفصل إن أريد به تركيب ما في الذهن فهذا صحيح فإن الإنسان إذا تصور في نفسه حيوانا ناطقا كان ما تصوره مركبا من هذا وهذا وإن

تصور حيوانا ضاحكا كان ما تصوره مركبا هذا وهذا وكان لفظه دالا على ما تصوره بالمطابقة وعلى بعضه بالتضمن وعلى الخارج عنه اللازم له بالالتزام فالمجموع هو مجموع الماهية التي تصورها في نفسه وجزؤها هو جزء الماهية وهو المدلول عليه بالتضمن والخارج عنها اللازم لما هو اللازم للماهية المقصودة في الذهن فيعود تمام الماهية وجزؤها الداخل ولازمها الخارج إلى ما دل عليه بالمطابقة والتضمن والالتزام هذا هو الذي يتحصل من هذا كما حرره من حرره كما قد بسط في غير هذا الموضع. وأما أن تكون صفات الموصوف اللازمة بعضها داخل في ماهيته الخارجة وبعضها خارج عن ماهيته الخارجة فهذا باطل وما ذكروه من الفروق الثلاثة بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم قد اعترفوا هم ببطلانها وقد بين بطلانها بالدليل. وما ذكروه من الوسط بين بعض اللوازم وبعضها أراد به أئمتهم كابن سينا ونحوه أنه الدليل كما يقولون الحد الأوسط فجعلوا من الذات ما يعلم بلا دليل ومنها ما لا يعلم إلا بالدليل وهذا فرق يرجع إلى علم العالم بها لا إلى حقيقة هي علمها في نفس الأمر فظن من ظن من متأخريهم أنهم أرادوا بالوسط أن الصفات اللازمة تارة يتصف بها الموصوف بنفسها وتارة يكون بينه وبينها وسط في هذا الاتصاف.

واضطربوا هنا اضطرابا يظهر به أن القوم في ظلمات بعضها فوق بعض فكلام سلفهم فيه خطأ كثير وقد حصل في النقل والترجمة ما حصل من الخطأ ويزيده متأخروهم خطأ فصاروا في شر من دين اليهود والنصارى فإن ذاك أصله حق جاء من عند الله ولكن هم بدلوا وغيروا وهؤلاء كان الأصل فاسد وكثر الفساد في الفروع فإن حاصل ما انتهى إليه أرسطو في الإلهيات فيه من الفساد ما لا يسعه هذا الموضع والقوم من أجهل الناس بذلك وفيه من الغلط أكثر مما في الطبيعيات. وهذا إذا اقتصر على الفلسفة الموروثة عن أولئك ولكن المنتسبون إلى الإسلام منهم والعربية صار لهم بسبب ما استفادوه من المسلمين من العقليات الصحيحة والمعارف الإلهية ما صاروا به خيرا من أوليهم وأعلم وأعقل ولهذا يوجد في كلام ابن سينا وأمثاله من تحقيق الأمور الإلهية والكليات العقلية ما لا يوجد لأوليهم وإن كان هو وأمثاله عند أهل الإيمان بالله ورسوله من جملة المرتدين والمنافقين. وإذا قالوا الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية فإن أرادوا انه مركب من جوهرين لزم أن يكون كل موصوف بصفات لازمة ذاتية مركبا من جواهر كثيرة فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق وهذا مما يعلم كل عاقل أنه فاسد وإن أرادوا أنه مركب من عرض فالجوهر كيف يتركب من الأعراض وكيف تكون الأعراض قائمة به مقومة له سابقة عليه وتكون هي أجزاءه وهل تكون قط

صفة موصوف متقدمة عليه بوجه من الوجوه لا سيما وهم يثبتون تقدما في الخارج لكنه تقدم كلي مثلما يدعونه من تقدم العلة على المعلول. وكلامهم في هذا أيضا فاسد فإنه لا يعرف قط أن الفاعل متقدم على مفعوله إلا تقدما حقيقيا بحيث يكون الفعل بعده حقيقة وهو الذي يسمونه تقدم بالزمان وسواء سمي الفاعل علة أم لم يسم. وأما قول القائل: حركت يدي فتحرك الخاتم فحركة اليد ليست علة فاعلة لحركة الخاتم بل المحرك لليد هو المحرك للخاتم والخاتم في اليد كأصبع في يد وليست حركة الكف علة لحركة الأصبع ولكنهما متلازمان لما بينهما من الاتصال. وقد بين هذا في موضعه وبين أن ما يدعونه من الفاعل الموجب بالذات الذي يكون مفعوله مساوقا له بالزمان مما اجتمع الأولون والآخرون من جميع طوائف العقلاء على فساده حتى أرسطو وأتباعه من الفلاسفة المتقدمين وإنما قال هذا بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين ادعوا أن الممكن بنفسه الذي يقبل الوجود والعدم يكون بنفسه قديما أزليا واجبا بغيره. وهذا قول شرذمة منهم وأما جمهور الفلاسفة القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه والقائلون بحدوثه فكلهم ينكرون هذا كما ينكره سائر

العقلاء ويقولون الممكن لا يكون إلا محدثا فكل ما كان ممكنا يقبل أن يكون موجودا ويقبل أن يكون معدوما لم يكن إلا حادثا كما قد بسط في موضعه. وحينئذ فإذا قالوا النفس تبقى ببقاء معلومها فليس من المعلومات المشهودة ما هو باق أبدا لا يستحيل من حال إلى حال ولا في المعلومات الموجودة التي يعلمون وجودها بالبرهان عندهم ما هو باق أزلا وأبدا لا يستحيل من حال إلى حال إلا الله وحده وما يثبتونه من العقول والنفوس ليس له حقيقة إلا في الوجود الذهني لا الخارجي وأما نفوس بني آدم وإن كانت باقية فهي العالمة التي تكمل وتبقى ببقاء معلومها. والمقصود أي ليس لها موجود معلوم يعلم بالبرهان بقاؤه أزلا وأبدا ليبقى ببقائه إلا الله وحده وإذا قالوا تصير عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود فهذا العالم ليس ثابتا على حال من الأحوال بل هو يستحيل من حال إلى حال. أما على القول الحق فإن الأفلاك مخلوقة ومستحيلة وأما على زعمهم بأنها أزلية أبدية فليست كلية إنما هي أشياء معينة فهي من قبيل الحسيات لا من قبيل المعقولات الكلية ولهذا لما قال من قال منهم كابن سينا ونحوه إن الرب لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي وقال إنه يعلم نفسه ويعلم ما يصدر عنه صار متناقضا فإنه سبحانه معين وما يصدر عنه معين والعقول معينة لا كلية والأفلاك معينة لا كلية

فكيف يقال: لا يعلم إلا الكليات ويقال مع ذلك إنه يعلم ما يصدر عنه. ولهذا كان هذا مما احتج به عليه المسلمون المثبتون للصفات واستدركه عليه أتباعه كالطوسي فأما المسلمون فقالوا كلامه صريح بإثبات كثرة المعلوم وهو دائما يفر من الكثرة وأما الطوسي فلما رأى هذا لازما أنكره على ابن سينا وادعى أن علمه بالمعلومات هي نفس المعلومات وزعم أنه حقق هذا وهذا من أفسد ما قيل في العالم وأبعده عن العقل. ولقد كان الناس يعجبون ويسخرون من قول الفلاسفة إن العلم هو العالم والعلم هو القدرة فيجعلون هذه الصفة هي الأخرى ويجعلون الصفة هي الموصوف فإن فساد هذا من أبين الأمور في العقل والعلم بفساده ضروري فجاء هذا المتأخر منهم ففر إلى ما هو شر من ذلك فقال بل العلم نفس المعلومات وهذا ما عرفت أحدا من العالمين سبقه إليه وهم يدعون معرفة العقليات وهذا كلامهم في رب العالمين لا يقوله إلا من هو من أضل الناس. وهم إنما قالوا ما قالوه فرارا من كثرة الصفات وفرارا من حلول الحوادث ولهذا كان كثير من أساطينهم أو أكثرهم وكثير من متأخريهم كأبي البركات يخالفونهم في هذين الأصلين ويقولون بإثبات الصفات وبقيام الحوادث به كما قد حكيت مقالاتهم فإن عامة الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو كانوا يقولون بحدوث الأفلاك لكن

كانوا في المادة هل يقال بحوادث لا أول لها ولكل مادة مادة أو يقال بمادة قديمة أو حديثة وأما صورة الفلك فكانوا يقولون بحدوثها كما أخبرت به الرسل وأول من عرف عنه القول بقدمها أرسطو. هذا ذكره غير واحد من أهل المقالات وبحث أرسطو في كتابه يدل على ذلك وقد بسط الكلام على أرسطو نفسه وأقواله المنقولة عنه في الإلهيات وبين ما فيها من قلة العلم وكثرة الجهل وأنهم من أبعد الناس معرفة برب العالمين.

الإسلام دين جميع الأنبياء ولا يقبل الله من أحد دينا غير دين الإسلام

والذي لا ريب فيه أنهم لا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا يدينون دين الإسلام الذي بعث الله به جميع الرسل وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن هذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد من الأولين والآخرين دينا غيره. قال تعالى عن نوح: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة يونس 71-72) . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض وأنه قال: {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الزمر 12) .

وقال تعالى عن إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة البقرة 130 132) . وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة آل عمران 67) . وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة النحل 120) . وقال: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة الأنعام 161) .

وقال عن قوم موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (سورة يونس 84) . وقال عن سحرة فرعون: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (سورة الشعراء 47-48) إلى قوله: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الشعراء 51) وقال في الآية الأخرى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (سورة الأعراف 126) . وقال عن يوسف الصديق: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (سورة يوسف 101) . وقال عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة النمل 44) . وقال عن أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (سورة المائدة 44) . وقال عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} إلى قوله: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (سورة المائدة 111-112) . فهذه الرسل وأممهم من نوح إلى الحواريين كلهم على الإسلام

وكذلك كل من كان قبلنا من أهل السعادة فهو مؤمن قال تعال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (سورة البقرة 62) وفي الآية الأخرى: {وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} (سورة المائدة 69) فإن النصارى أفضل من الصابئين فلما قدموا عليهم نصب لفظ الصابئون ولكن الصابئون أقدم في الزمان فقدموا ها هنا لتقدم زمنهم ورفع اللفظ ليكون ذلك عطفا على المحل فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير ليشعر أنهم مؤخرون في المرتبة وإن قدموا في الزمن واللفظ. وهو سبحانه ذكر في سورة الحج ملل العالم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة الحج 17) فأخبر أنه يفصل بين أهل الملل أجمعين ولم يذكرهم هنا ليتبين المحمود منهم في الآخرة وفي سورة البقرة والمائدة ذكر أربعة أصناف المسلمين والذين هادوا والنصارى والصابئين ثم قال: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (سورة البقرة 62) فدل على أن هذه الأربعة منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وأولئك هم السعداء في الآخرة بخلاف من لم يكن من هؤلاء مؤمنا بالله واليوم الآخر وعمل صالحا وبخلاف من كان من المجوس والمشركين فهؤلاء كلهم لم يذكر منهم سعيد في الآخرة.

وكذلك الإسلام العام قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (سورة البقرة 111 112) . وقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (سورة النساء 125) . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي" ولهذا ترجم البخاري على ذلك (باب من جاء في أن دين الأنبياء واحد".

وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (سورة الشورى 13) فقد أمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه. وقال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (سورة المؤمنون 51 53) فذم الذين تفرقوا على الأنبياء فآمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض وهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (سورة الروم 30 31) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (سورة الأنعام 159) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} (سورة النساء 150 151) .

وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (سورة البقرة 213) قال ابن عباس: "وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على الحق وهو دين الإسلام فاختلفوا كما ذكر ذلك في سورة يونس هذا قول الجمهور وهو الصواب.

الدين واحد وهو الإسلام والشرائع تتنوع

وقد قيل: كانوا أمة واحدة على الباطل وهو من الباطل فدين الله تعالى الذي ارتضاه لنفسه دين واحد في الأولين والآخرين وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهذا هو دين الإسلام وتنوع الشرائع كتنوع الشريعة الواحدة للشيء الواحد فإن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين وأفضل المرسلين لا نبي بعده وقد بعث بدين الإسلام ما زال الإسلام دينه وقد

أمر أولا باستقبال صخرة بيت المقدس ثم أمر ثانيا باستقبال الكعبة والدين واحد وإن تنوعت الشريعة فكذلك قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (سورة المائدة 48) . فما جعله الله لكل كتاب من الشرعة والمنهاج والمنسك لا يمنع أن يكون الدين واحد فالذين كانوا يتمسكون بالتوراة والإنجيل قبل النسخ والتبديل كانوا على دين الإسلام وإن كان لهم شريعة تختص بهم وكذلك المتمسكون بالإنجيل قبل النسخ والتبديل على دين الإسلام وإن كان المسيح قد نسخ بعض ما في التوراة وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم وكذلك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بدين الإسلام وإن نسخ الله ما نسخه كالقبلة ومن لم يتبع محمدا لم يكن مسلما بل كافرا ولا ينفعه بعد أن بلغه دعوة محمد التمسك بما يخالف ما أمر به فإن ذلك لا يقبل منه. ولهذا لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (سورة آل عمران 85) قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون فقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (سورة آل عمران 97) فقالوا: لا نحج فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (سورة آل عمران 97) وقد روى الترمذي وغيره عن النبي

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من ملك زاد أو راحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا". وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (سورة آل عمران 18-20) فأخبر سبحانه أن الدين عنده هو الإسلام أولا وآخرا وهو دين واحد ثم بين أن أهل الكتاب إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم من بعضهم على بعض لا لأجل طلب الحق. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (سورة البينة 4 5) .

وقال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (سورة الجاثية 16-19) . والاختلاف المطلق الذي ذمه الله تعالى في القرآن أن تبتدع كل طائفة قولا يلتبس فيه الحق والباطل فتخالف كل طائفة الطائفة الأخرى وتعاديهم وكلهم مخالفون لما بعث الله به الرسل من دين الإسلام كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح وغيره واختلاف أهل الأهواء من هذه الأمة.

الإسلام وسط بين الملل وأهل السنة وسط في الإسلام

فإن الإسلام وسط في الملل بين الأطراف المتجاذبة والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل فالمسلمون في صفات الله تعالى وسط بين اليهود الذين شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الخالق بالصفات التي تختص بالمخلوق وهي صفات النقص فقالوا إن الله فقير وإن الله بخيل وإن الله تعب لما خلق العالم فاستراح وبين النصارى الذين شبهوا المخلوق بالخالق فوصفوه بالصفات المختصة بالخالق فقالوا هو الله. والمسلمون وصفوا الخالق بصفات الكمال ونزهوه عن صفات النقص ونزهوه أن يكون شيء كفوا له في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن صفات النقص مطلقا ومنزه في صفات الكمال أن يماثله فيها شيء من المخلوقات.

وكذلك هم في الأنبياء وسط فإن اليهود كما قال فيهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} (سورة البقرة 87) وكذلك كانوا يقتلون الأنبياء ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس. والنصارى غلوا فأشركوا بهم ومن هو دونهم قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (سورة التوبة 31) . والمسلمون آمنوا بهم كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم ومن سب نبيا من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء وفي استتابته نزاع قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (سورة البقرة 136) . وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (سورة البقرة 177) . وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً

إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (سورة البقرة 285-286) والآية الأخرى وفي الصحيحين عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من قرأ الآيتين في آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " وقد ثبت عنه في الصحيح "أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وتارة يقرأ في الأولى بآية الإيمان التي في البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية وفي الثانية بآية الإسلام في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران 64) . وكذلك المسلمون وسط في النسخ فإن اليهود قالوا ليس لرب العالمين أن يأمر ثانيا بخلاف ما أمر به أولا والنصارى جوزوا لرؤوسهم أن

يغيروا شريعة المسيح فيحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاؤوا والمسلمون قالوا رب العالمين يأمر بما يشاء له الخلق والأمر وليس لأحد من الخلق أن يغير دينه ولا يبدل شرعه ولكن هو يحدث من أمره ما يشاء فينسخ ما يشاء. ويثبت ما يشاء وكذلك في الشرائع كالحلال والحرام فإن اليهود حرمت عليهم طيبات أحلت لهم عقوبة لهم وعليهم تشديد في النجاسات يجتنبون أشياء كثيرة طاهرة مع اجتناب النجاسة والنصارى لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله بل يستحلون الخبائث ويباشرون النجاسات وكلما كان الراهب أكثر ملابسة للنجاسات والخبائث كان أفضل عندهم والمسلمون أباح الله لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث وهم وسط في سائر الأمور وليس هذا موضع بسط ذلك. وكذلك أهل السنة في الإسلام فهم في الصحابة وسط بين الرافضة التي يغلون في على فيجعلونه معصوما أو نبيا أو إلها وبين الخوارج الذين يكفرونه. وهم وسط في الوعيد بين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة الذين لا يجزمون بتعذيب أحد من فساق الأمة. وهم في القدر وسط بين النفاة للقدر من المعتزلة وغيرهم وبين الجهمية المثبتة الذين ينكرون حكمة الله في خلقه وأمره. وهم في الصفات وسط بين المعطلة الذين ينفون صفات الله أو بعضها ويشبهونه بالجماد والمعدوم وبين الممثلة الذين يمثلون صفاته

بصفات خلقه فيصفون الله بصفات خلقه فيصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ومن غير تكييف ولا تحريف. فمن حيث بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن الإسلام إلا ما أمر به لأن الإسلام أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا لغيره فمن استسلم له ولغيره فجعل له ندا فهو مشرك قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (سورة البقرة 165) . ومن استكبر عن عبادة الله فلم يستسلم له فهو معطل لعبادته وهو شر من المشركين كفرعون وغيره قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (سورة غافر 60) . والإسلام إنما يكون بأن تعبد الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أمر به فكل ما أمر به فهو حين أمر به من دين الإسلام وحين نهى عنه لم يبق من دين الإسلام كما كانت الصخرة أولا من دين الإسلام ثم لما نهى عنها لم تبق من دين الإسلام فلهذا صار المتمسك بالسبت وغيره من الشرائع المنسوخة ليس من دين الإسلام فكيف بالمبدل. والله تعالى قط لم يرض له دينا غير الإسلام ولا أحد من رسله لا سيما خاتم الأنبياء فإنه لم يرض من أحد إلا بدين الإسلام لا من

المشركين ولا من الذين أوتوا الكتاب وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخرها وهي كلمة تقتضي براءته من دينهم وأن ديني لي وأنتم بريئون منه ودينكم لكم وأنا بريء منه. كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة يونس 41) فقوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} هو نظير قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وقرنه بمقتضاه وموجبه فقال: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} . ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه السورة: "هي براءة من الشرك" ولهذا كان يقرأها كثيرا مع {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغيرهما لأن فيهما التوحيد هذه فيها توحيد العمل والإرادة وتلك فيها توحيد القول والعلم وإذا قال في تلك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحد فأمره أن

يقول ما هو خبر عن الله بأنه الأحد الصمد وقال في هذه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فأمره أن يقول أنه لا يعبد ما يعبدون من دون الله إذ لا يعبد إلا الله وحده. ومثل هذا المعنى قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} (سورة الشورى 15) أي لا خصومة والحجة هي ما يحتج به الخصم وإن كان باطلا فليس من شرط لفظ الحجة أن تكون حقا بل إذا كانت حقا سميت بينة وبرهانا ودليلا ولهذا قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء 165) : {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (سورة البقرة 150) وهم المشركون يحتجون عليكم بحجة باطلة فيقولون قد رجع إلى قبلتنا فيوشك أن يرجع إلى ديننا وبهذا فسر الآية علماء الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن قال من المتأخرين إن إلا بمعنى الواو وقالوا إن المراد لئلا يكون للناس عليكم حجة والذين ظلموا منهم قولهم من الباطل الذي يظهر فساده من وجوه كثيرة.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (سورة الشورى 16) وقال في الحق: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} (سورة الأنعام 83) . وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق على صحته: "إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعا من النار". وقد قال طائفة من المفسرين أن هذه السورة منسوخة أي فيما ظنوها دلت عليه من ترك القتال فإنهم ظنوا أن قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} يتضمن ترك القتال ومعلوم أن الله لم يأمر نبيه بمكة بالقتال بل إنما أمره بالقتال بالمدينة وأول آية نزلت في القتال قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (سورة الحج 39) فأذن الله لهم أولا فيه ثم كتب عليهم ثانيا فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (سورة البقرة 216) .

وكتب عليهم قتال من لم يسالمهم فأما من سالمهم فلم يؤمروا بقتاله كما قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (سورة الأنفال 61) وقال: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (سورة النساء 90) . ولهذا كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كثير من المشركين عهود مطلقة ومؤقتة فالمؤقتة كانت لازمة والمطلقة لم تكن لازمة بل لكل منهما فسخها فلما فتح الله مكة وغزا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك سنة تسع من الهجرة وهي آخر غزواته أمر فيها بغزو أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (سورة التوبة 29) . ولما رجع من غزوة تبوك أنزل الله سورة براءة وذكر أحوال المنافقين بقوله (ومنهم) ، (ومنهم) ولهذا تسمى الكاشفة والمبعثرة والفاضحة وأمر بنبذ العهود المطلقة وتحريم الحرم على الكفار

فأرسل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أميرا على الموسم وأمره أن ينهى عن طواف العراة بالبيت وأن ينهى المشركين عن الحج ولهذا كان ينادي في الموسم ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان وأتبعه بعلي بن أبي طالب لأجل نبذ العهود إلى المشركين الذين كانت لهم عهود مطلقة وكان أبو بكر هو الأمير على الموسم وعلي معه يصلي خلفه ويأتمر بأمره لكن أرسله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان من عادة العرب أن العهود لا يعقدها ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فخاف إن لم يبعث واحدا من أهل بيته أن لا يقبلوا نبذ العهود ولم يرجع أبو بكر إلى المدينة ولا عزله عن شيء كان ولاه وما روى من ذلك فهو من الكذب المعلوم أنه كذب. وكان تأميره على علي بعد قوله لعلي في غزوة تبوك أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى كما قد بسط في موضعه فقال

الله تعالى في براءة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة التوبة 1) إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة التوبة 4) إلى قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (سورة التوبة 4) . وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه لا يجوز أن يعاهد الكفار إلا إلى أجل مسمى ثم اضطربوا فقال بعضهم يجوز نقضه ولا يكون لازما وقال بعضهم بل يكون لازما لا ينقضي واضطربوا في نبذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العهد والصحيح أنه يجوز العهد مطلقا ومؤجلا فإن كان مؤجلا كان لازما لا يجوز نقضه لقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (سورة التوبة 4) وإن كان مطلقا لم يكن لازما فإن العقود اللازمة لا تكون مؤبدة كالشركة والوكالة وغير ذلك وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وسمي من قال كل قول. والمقصود أن الله لما أنزل براءة وقال فيها: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (سورة التوبة 5) وهي الأربعة التي قال الله فيها: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (سورة التوبة 2) ليست الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وقد قال بعضهم هي هذه وغلط في ذلك قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ

وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (التوبة 5) وهذه تسمى آية السيف فأمر الله فيها بقتال المشركين وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولهذا قال في آية الفتح: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (سورة الفتح 16) وهم الروم وفارس كانوا أشد بأسا من العرب ولا بد من مقاتلتهم أو إسلامهم وإذا قوتلوا فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون بخلاف ما كان قبل آية الجزية فإنهم كانوا تارة يقاتلون وتارة يعاهدون بلا جزية كما عاهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليهود والمشركين بلا جزية وكانوا قد دعوا عام الحديبية إلى قتال من يقاتل أو يعاهد وبعد ذلك يدعون إلى قتال من يقاتلون أو يسلمون ولم يقل أو يسلموا فإنه كان يكون المعنى حتى يسلموا وقتالهم لا يجب إلى هذه الغاية بل إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فقد قوتلوا القتال المأمور به. ثم العلماء مختلفون بعد نزول آية الجزية هل تؤخذ من أهل

الكتاب ومن له شبهة كتاب دون غيره أو تؤخذ من كل كافر جازت معاهدته والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما لم يأخذها من العرب لأن قتالهم كان قبل نزول آية الجزية أو يستثنى مشركو العرب فيها ثلاثة أقوال للعلماء مشهورة والجمهور يجوزون أخذها من مشركي الهند والترك وغيرهم من أصناف العجم كما يجوز الجميع معاهدة هؤلاء عند الحاجة أو المصلحة وهل يجوز أن يعاهدوا عهدا مطلقا أو لا يكون إلا مؤقتا على قولين. فلهذا يوجد كثير من المفسرين يقول في آيات يظن معناها النهي عن القتال إنها منسوخة بآية السيف فالذين قالوا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} منسوخة هذا مأخذهم والصواب أن هذه الآية لم تتعرض للقتال لا بأمر ولا بنهي بل مضمونها البراءة من دين الكفار وهذا أمر محكم لا ينسخ أبدا وأما أن يقال فيها أو في غيرها رضي الرسول بدين كافر فهذا لم يقله أحد من علماء المسلمين أصلا ولا أحد من سلف الأمة ولا من الأولين ولا من الآخرين ولا يقول ذلك إلا من هو مفتقر

على الله ورسوله لم يرض الله بغير دين الإسلام وهو الذي بعث الله به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض الله ولا رسوله من أحد من الخلق بغير هذا الدين قط وإن كان لم يأمر بجهادهم في أول الأمر لعجز المسلمين وقلتهم. ولهذا لما استأذن الأنصار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة لما بايعوه في الجهاد قال إني لم أومر بذلك بعد ثم لما كتب القتال كرهه بعضهم فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (سورة النساء 77) وهذه الآية لبسطها موضع آخر. والمقصود هنا ذكر ما يتعلق بالفلاسفة والفلسفة لفظ يوناني ومعناها محبة الحكمة والفيلسوف في لغتهم محب الحكمة ولهذا يقولون سوفستيا أي حكمة مموهة ثم كثرت في الألسنة فقيل سفسطة أي حكمة مموهة وأما ما يقوله طائفة ممن يحكي مقالات الناس إن في العام رجلا كان اسمه سوفسطا وأنه كان هو شيعته ينكرون الحقائق كلها وجعلوا هذه أربع فرق فرقة تجزم بنفي الحقائق وطائفة تجزم بنفي العلم بها وتقول ليس عند أحد منهم علم بشيء وطائفة واقفة يقولون لا ندري تسمى المتجاهلة وتسمى اللاأدرية وطائفة تجعل الحقائق تتبع العقائد فكل من اعتقد شيئا فهو في نفس الأمر على ما اعتقد فهذا النقل على ظاهره باطل ليس في العالم طائفة معروفة تقول بشيء من هذه الأقوال في كل شيء ولا رجل اسمه سوفسطا.

ولكن كل من هذه الأقوال قد يعرض لكثير من الناس في بعض الأمور فيكون قد سفسط في ذلك الأمر كالكفار الذين جحدوا ما علموا أنه الحق. قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (سورة النمل 14) وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (سورة البقرة 146) وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (سورة الأنعام 33) . فإن في العالم من يكذب فيخبر بخلاف ما يعلم في كثير من الأمور ليس في العالم من يكذب في كل ما يقول وكذلك في العالم من كذب بكثير من الحق الذي يعلمه لكن لا يكذب بكل ما يقال له من الحسيات وغيرها فمن نفى الحقائق مع علمه بها ونفى العلم مع ثبوته فهو من الكاذبين ومن تجاهل وقال لا أدري فهو من الكاتمين ما معه من الحق مثل كاتم الشهادة ومن جعل الحقائق تتبع العقائد كما يظن طائفة من النظار أن ليس في الحوادث التي ليس فيها نص قاطع عندهم حكم معين يطلب بالاجتهاد بل الحكم فيها يتبع الإعتقاد ولهذا قيل في هذا المذهب أوله سفسطة ولكن هو سفسطة حدثت على طائفة من النظار الأذكياء فإن هذا قول أبي الهذيل وأبي

علي وأبي هاشم والأشعري في أظهر قوليه وقول القاضي أبي بكر وأبي حامد الغزالي وغيرهم. وهو وإن كان قولا ضعيفا مخالفا للكتاب والسنة وإجماع السلف باطل شرعا وعقلا فالقائلون به قوم فضلاء قصدهم الحق لم يكن غرضهم أن يقولوا ما يعلمون أنه باطل وقد بسط الكلام على هذه المسألة في مواضع. والمقصود أن الفلاسفة هم حكماء اليونان وكل أمة من أهل الكتب المنزلة وغيرهم فلهم حكماء بحسب دينهم كما للهند المشركين حكماء وكان للفرس المجوس حكماء وحكماء المسلمين هم أهل العلم بما بعث الله به رسوله وأهل العمل به قال مالك الحكمة معرفة الدين والعمل وقال ابن قتيبة وغيره الحكمة في اللغة هي العلم والعمل فمن علم ما أخبرت به الرسل فآمن به وصدق بعلم ومعرفة وعلم ما أمر به فسمع وأطاع فقد أوتي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. فلما كان هذا أصل لفظ الفلسفة صار هذا مطلقا على كل من سلك سبيل أولئك اليونان واتبعهم في حكمتهم والذين اتبعوهم من المتأخرين فصرحوا فيها بأشياء وقربوها إلى الملل وإلا فإذا ذكرت على وجهها ظهر فيها من الباطل ما ينفر عنها كل عاقل عرف دين الرسل فإن الرسل فد جاءوا من العلم والبيان في الأمور الإلهية ما يكون في حكمة اليونان معه من جنس نسبة طب العجائز إلى طب أبقراط أو من جنس نسبة ملحة الإعراب إلى كتاب سيبويه.

وإذا كان كذلك فلاسفة اليونان وفلاسفة العرب والفرس والهند وسائر الأمم الذين لا كتاب لهم ليسوا في الأمور الإلهية بمنزلة علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى بل هؤلاء أعلم منهم بالأمور الإلهية ثم هؤلاء كلهم إذا جاءهم رسول وكذبوه فهم كفار وإن كانوا على شريعة رسول يعملون بها بلا تبديل فهم مؤمنون مسلمون من أهل الجنة وإن لم يكونوا على شريعة ولا جاءهم رسول فهم من أهل الجاهلية كأمثالهم من أهل الفترات وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. والفلاسفة الذين بلغتهم دعوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم من المتظاهرين بالإسلام وبعضهم من اليهود وبعضهم من النصارى وكل من خالف ما جاءت به الرسل فهو ضال من أي الطوائف كان فإن الله بعثهم بالحق والمعقول الصريح دائما يوافق ما جاءت به الرسل لم يخالف العقل الصريح شيئا مما جاءت به الرسل وقد بسط هذا في الكتاب المصنف في درء تعارض العقل والنقل. والفلاسفة المتظاهرون بالإسلام يقولون إنهم متبعون للرسول لكن إذا كشف حقيقة ما يقولونه في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر تبين لمن يعرف ما جاء به الرسول وما يقولونه في نفس الأمر أن قولهم ليس هو قول المؤمنين بالله ورسوله والمسلمين بل فيه من أقوال الكفار والمنافقين شيء كثير. وفرق أهل الكلام مع بدعهم وضلالهم أقرب إلى الرسول وإلى دين الإسلام خارجيهم وشيعيهم ومعتزليهم وكراميهم لكن غالب

هؤلاء ناظروهم مناظرة فاسدة سمعا وعقلا فلا هم عرفوا دين الإسلام في كثير من المسائل التي نازعوهم فيها بل صاروا يضيفون إلى دين الإسلام ما ليس منه ولا قالوا في الاستدلال والجواب عن معارضيهم ما هو حق بل ردوا باطلا بباطل وقابلوا بدعة ببدعة. لكن باطل الفلاسفة أكثر وهم أعظم مخالفة للحق المعلوم بالأدلة الشرعية والعقلية في الأمور الإلهية والدينية من أولئك المبتدعين من أهل الكلام ولكن ضعف معرفة هؤلاء المتكلمين بالحق وأدلته سلطت أولئك كالجند الفساق إذا قاتلوا عسكر الكفار قتالا لم يكونوا فيه بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وكان ذلك مما يسلط الكفار عليهم وإن غلبوهم بالفجور والظلم أديلوا عليهم فإن البغي مصرعه وخيم والعدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال وإنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط. قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (سورة الحديد 25) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (سورة الشورى 17) وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (سورة الرحمن 7) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (سورة المائدة 8) فأمر الله المؤمنين بالعدل على الكفار وإن كانوا يبغضونهم بغضة أمر الله بها ورسوله قال تعالى: {إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (سورة المائدة 42) وقال: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (سورة البقرة 190) . وقد تكلم أهل البدع معهم في مسألة حدوث العالم والمعاد والصفات والنبوات بما أضافوا إلى دين المسلمين من الأقوال التي ليست في كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله ولا قالها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين وإنما هي مأخوذة عن أهل الكلام المبتدع المحدث المذموم عند السلف والأئمة الذي أصله مأخوذ عن الجهمية والمعتزلة فصارت الأصول التي يذكرها أهل البدع وأتباعهم التي هي يضاف بعضها إلى الله ورسوله ودين الإسلام ويناظر عليها عند من لم يعرف إلا أقوال أهل البدع والمتكلمين والفلاسفة الملحدين بل ومنها ما يظن بل يحكى أنها إجماع المسلمين وأن من خالفها فقد خرج عن دين الإسلام وتكون تلك الأصول من البدع المحدثة في الإسلام المخالفة لقول الله ورسوله والصحابة والتابعين بإحسان. وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في خلق الله للسموات والأرض في ستة أيام وما جاء به القرآن والحديث الصحيح وما قاله الصحابة والتابعون وما أخبر به أيضا في المعاد من انشقاق السماء

وانفطارها وتسيير الجبال وسجر البحار وتكوير الشمس والقمر وغير ذلك مما فيه استحالة أجزاء هذا العام من حال إلى حال ليس في شيء من ذلك أن العالم كله بعدم ولا يبقى شيء موجود إلا الله كما يقوله من يقوله من أهل الكلام الذين تلقوا ذلك عن الجهمية. فإن الجهم أصل قوله أن الله لا يقدر على فعل ما لا يتناهى بل جعل لفعله مبدأ ومنتهى وجعله معطلا في الأزل والأبد ولهذا قال إن الجنة والنار يفنيان ويفنى كل شيء وهذا من بدعه التي أنكرها عليه السلف والأئمة وادعى هو وغيره من المعتزلة وغيرهم أن العالم يعدم كله ثم يعاد كله بعد عدمه كله وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف كما قد بسط في موضعه. وكذلك خلق السموات والأرض قد أخبر أنه كان قبل ذلك عرشه على الماء وقد بسطنا القول في هذه المواضع وبينا ما جاء به السمع وهو مطابق للعقل من أن الله خالق كل شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم وذلك غير تعطله سبحانه عن القول والعمل بمشيئته فإن هذا ليس هو قول السلف وأئمة السنة بل الثابت عنهم خلاف ذلك كما قد بسط في موضعه. ولهذا تكلم الجهمية والقدرية ومن تبعهم في مسألة قدرة الرب بكلام ناقص جدا ومن نظر في بحوث الرازي وأمثاله معهم في مسألة القادر رأى عجائب ورأى أن الواحد من هؤلاء كأنه يبطن خلاف ما يظهر، يظهر الانتصار لقوله وكلامه يدل على نقيضه فإن كان مع ظهور رجحان أحد القولين لا يشعر برجحانه فهذا جهل عظيم.

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وأولئك أثبتوا موجبا بالذات مستلزما لمعلوله مجردا عن الصفات وهذا فاسد من وجوه كثيرة قد بينا بعضها وهؤلاء أثبتوا قادرا يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح أصلا وقالوا القادر من يفعل مع جواز أن لا يفعل وهذا إنما هو قول القدرية الذين يقولون إن العبد يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح وهو قول الجهمية والقدرية في فعل الرب فأما أهل السنة فعندهم القادر لا يرجح أحد مقدوريه إلا بمرجح وهذا من حججهم على القدرية. يقول أهل السنة إن الله خص المطيعين بما به رجحوا الطاعة على المعصية دون العصاة ولولا تفضله عليهم بما به رجحوا لم يطيعوه كما قد بسط هذا في موضعه والقادر إذا كان له إرادة تامة لزم وجود مقدوره فهو يوجب بقدرته ومشيئته ما يريده وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما شاءه الرب فواجب كونه وما لم يشأ فيمتنع كونه لكن وجوب لوجود مشيئته وامتناع لعدم مشيئته وإذا فسر القادر المختار بمثل هذا بطلت شبه الفلاسفة النافية للقادر المختار وكذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه يزعمون أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا سبب ولا حكمة فأنكروا ما في الأجسام من الطبائع وما في خلق الله وأمره من الحكمة وما في المخلوقات والشرائع من الأسباب.

والأشعري ومن وافقه اتبعوا جهما على قوله في القدر وإن كانوا يثبتون قدرة وكسبا لكن ما أثبتوه لا حقيقة له في المعنى بل قولهم هو قول جهم وإن نازعوه في إثبات القدرة والكسب ولهذا كان قولهم في نفي ما في الشريعة من الحكم والأسباب خلاف إجماع السلف والفقهاء فإن من أصولهم أن الله لا يخلق لحكمة ولا يأمر لحكمة بل ليس عندهم في القرآن لام تعليل في خلقه وأمره وإذا تكلموا معهم في الأمور الطبيعية أحالوا جميع ذلك على مجرد ترجيح القادر بلا سبب وأن ما وجد من الاقتران فهو عادة محضة لا لارتباط بين هذا وهذا ثم قد يضيفون هذا القول إلى السنة. وهذا القول لم يقله قط أحد من سلف الأئمة ولا أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم بل المنصوص عنهم وعن غيرهم خلاف هذا القول وإن كان قد قاله طوائف من أصحابهم المتأخرين متابعة لمن قال ذلك من أهل الكلام المتبعين لجهم. ولهذا لما تكلموا في العقل لم يجعلوه غريزة إذ كان عندهم ليس في الوجود غريزة ولا طبيعة ولا قوة يكون لها أثر أو تكون سببا في غيرها لا قدرة ابن آدم ولا غيرها فاحتاجوا إلى أن جعلوه نوعا من العلوم الضرورية وأتموا الأمر فيه. والمنصوص عن أئمة الدين أن العقل غريزة كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما.

وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يعرف دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة وأن ذلك الأمر لا يمكن أن يخالفه معقول صحيح قط بل كل ما خالفه فهو باطل وأن المتكلمين الذين تلقوا أصل كلامهم عن الجهمية والقدرية ونحوهم في كلامهم باطل كثير أدخلوه في دين الإسلام وليس من دين الإسلام ولم يكن أحد منهم ممن يجزم بسعادته في الأولين والآخرين إلا من المؤمنين المسلمين كما دل القرآن على ذلك في غير موضع.

كلام أبي البركات في "المعتبر"

فصل: وليس في كتب المشائين دعوة إلى عبادة الله ومحبته أصلا بل غايتهم أنهم يقولون: "الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة" ولفظ إله في كلامهم يعني هذا المعنى. كما قال أبو البركات في المعتبر الفصل الثاني في العلم الإلهي والإلهيات: "يظهر من المتداول في كلام القدماء أن المراد بلفظ إله

هي معنى إضافي بالقياس إلى من هو إله له وهو الذي يقتديه نفس الشيء الذي هو له إله في فعلها وتحرك الجسد الذي هي فيه على شاكلة إرادته بحسب مشيئته وتحريكه فكان المتعلم يسمى معلمه الذي يقتدي به إلها وربا ويظهر منه أيضا أن الإله هو الفاعل الذي لا يرى وله على البشر سلطان وقدرة وليس لهم عليه". قال: "فالنفوس على مذاهبهم فعالة لا ترى ولها سلطان على البشر لكن لهم عليها أيضا سلطان فإن النفوس البشرية يؤذي بعضها بعضها ويتسلط بعضها على بعض وكانوا يشيرون بذلك إلى الملائكة الروحانية وقد سبق لذلك ذكر في كتاب النفس ونستوفي ها هنا النظر فيه فعلم الإلهيات هو الذي تعرف فيه صفات الإله مطلقا ثم صفات إله الآلهة ورب الأرباب هذا لفظه.

قلت: قوله: "هو الذي يقتديه نفس الشيء الذي هو إله في فعلها" أي يقتديه نفس المتأله في فعلها. وقوله: "وتحرك الجسد الذي هي فيه على شاكلة إرادته بحسب مشيئته وتحريكه فكان المتعلم يسمى معلمه الذي يقتدي به إلها وربا" يبين أنه يفعل للتشبه به فتجد له النفس جسدها على ما يشاكل إرادة المألوه ويشابهها بحسب مشيئة المألوه وتحريكه فقد بين أن المتأله يفعل كما يفعل مألوهه ويأمره مألوهه فيريد ويحرك جسده بحسب مشيئة المألوه وتحريكه ثم مثل ذلك بالمتعلم مع المعلم الذي يقتدي به ويأتمر بأمره للتشبه به وأنه عندهم إلهه وربه وذلك بمنزلة التلميذ مع أستاذه وغايته أن يكن بمنزلة الأمة مع نبيها تقتدي به وتطيع أمره. وهذا الذي حكاه عنهم مطابق لما حكاه سائر الناس عنهم أن الفلسفة عندهم هي التشبه بالإله على قدر الطاقة وذكر لله معنى آخر وهو الفاعل الذي لا يرى وله سلطان وجعل الملائكة هي الآلهة بهذا التفسير وبين أن العلم الإلهي يتكلمون فيه على جنس الآلهة ثم على صفات الإله الأكبر الذي هو إله الآلهة فالإلهية عند القوم أمر مشترك بين الله وبين الملائكة وبين المعلمين ومن نقتدي به لكن

إلهية الله أفضل وأكمل كما أن الوجود مشترك بين الموجودات لكن الوجود الواجب أكمل. وهذا الشرك شر من شرك مشركي العرب فإن أولئك وإن أشركوا بالوسائط وقالوا هم شفعاؤنا عند الله وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فلم يكن التأله عندهم بمعنى التشبه والإقتداء بل بمعنى العبادة والذل والمحبة وهؤلاء مع عظيم شركهم بالله بمخلوقاته جعلوا التأله لنا هو التشبه بالإله لا أنه يحب ويعبد ويدعى ويسأل ولهذا لم تكن الآلهة مختصة بالله عندهم لأن التشبه مبناه على أن الأدنى يتشبه بالذي فوقه والذي فوقه يتشبه بمن فوقه حتى ينتهي إلى الغاية ولهذا سموه إله الآلهة. ولهذا يقولون: إن كل فلك يتحرك للتشبه بعقله ففلك القمر يتحرك للتشبه بالعقل العاشر والفلك التاسع يتحرك للتشبه بالعقل الثامن. وبهذا الطريق أثبت أرسطو وأتباعه وجوده وقالوا إن الفلك يتحرك للتشبه به وشبهوه بتحريك المعشوق لعاشقه لكن العاشق يحب ذات المعشوق والفلك عندهم إنما يحب التشبه بالله وهو كتحريك الإمام للمصلين والمتبوع للتابعين فلم يثبتوا بهذا أن الله رب العالمين خلقه وأنشأه ولا أنه إله العالم الذي يحبه العبد ويرجوه ويخشاه.

لكن اسم الإله لما كان موجودا في القرآن وذكره المعربون لكتب أولئك وبينوا معناه في لغة أولئك صار بسبب الاشتراك في اللغتين في إطلاقه تلبيس على من لم يعرف مراد القرآن العزيز باسم الإله ومراد القوم باسم الإله وبين المرادين بون عظيم. ثم لما كان مقصود القوم التشبه به فهم في الحقيقة لا يعبدونه ولا يستعينونه فهم خارجون عن دين المرسلين القائلين إياك نعبد وإياك نستعين فإن التشبه بغيره مقصوده أن يكون مثله بحسب قدرته فلو قدر أن يكون مثله من كل وجه لفعل ذلك لكن يفعل ما يقدر عليه وليس مراده محبة نفس ذلك المتشبه به ولا الذل له بل مماثلته كما يقوم التلميذ مقام أستاذه والابن مقام أبيه. وهذا لا يستلزم حب المتشبه ولا بغضه بل كثيرا ما يكون مع البغض الحسد والمنافسة كما قد يكون مع عدم ذلك والغالب انه مع وجود الإثنين لا بد من المنافسة والمنادة وهذا هو الند والكمال عند القوم أن يجعل أحدهم نفسه لله ند. ثم من العجب أن القوم يدعون التوحيد ويبالغون في نفي التشبيه حتى نفوا الصفات وشنعوا على أهل الكتاب لما جاء من الصفات في التوراة وغيرها وأنكروا قوله في التوراة إنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا وهو يدعون أن أحدهم يجعل نفسه شبيها لله فإن كان هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحا عندهم لإمكان المشابهة من وجه دون وجه فالله أقدر على أن يفعل ذلك من الواحد منهم وإن كان هذا ممتنعا

مطلقا فما بالهم زعموا أنهم يتشبهون بالله تعالى مع أن التشبيه الذي أثبتوه شرك صريح في الإلهية التي هي مختصة بالله. ودعوى القدرة على جعل الند لله بقدرة الواحد منا واختياره ومن أثبت الإلهية لغير الله من الملائكة والأنبياء كان مشركا أعظم فكيف من أثبتها لآحاد الناس وأمر الخلق أن يصيروا آلهة متشبهين بالله؟! وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران 79 80) . ولهذا ضل من سلك سبيل هؤلاء فصار مقصودهم هو التشبه بالله واحتجوا بما يروون تخلقوا بأخلاق الله. وصنف أبو حامد شرح أسماء الله الحسنى وضمنه التشبه بالله في كل اسم من أسمائه وسماه التخلق حتى في اسمه الجبار والمتكبر والإله ونحو ذلك من الأسماء التي ثبت بالنص والإجماع أنها مختصة بالله وأنه ليس للعباد فيها نصيب كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث

الصحيح الذي رواه مسلم وغيره "يقول الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته". وسلك هذا المسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعا لهم في الحلول والإتحاد. وقد أنكر المازري وغيره على أبي حامد ما ذكره في التخلق وبالغوا في النفي حتى قالوا ليس لله اسم يتخلق به العبد. ولهذا عدل أبو الحكم بن برجان عن هذا اللفظ إلى لفظ التعبد ولبسط الكلام على ذلك موضع آخر فإن من أسمائه وصفاته ما يحمد العبد على الاتصاف به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك ومنها ما يذم العبد على الاتصاف به كالإلهية والتجبر والتكبر.

وللعبد من الصفات التي يحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الرب به كالعبودية والافتقار والحاجة والذل والسؤال ونحو ذلك وهو في كل ذلك كماله في عبادته لله وحده وغاية كماله أن يكون الله هو معبوده فلا يكون شيء أحب إليه من الله ولا شيء أعظم عنده من الله ويكون هو إلهه الذي يعبده وربه الذي يسأله فيتحقق بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . ومتصوفة الفلاسفة تسلك مسلك ابن سينا في مقامات العارفين الذي ذكره في آخر الإشارات وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين أن ذلك مع مدح الرازي له غايته فناء ناقص مع نقص توحيد الربوبية والإثبات. وأما الفناء الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب فهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه ومحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه فيتحقق بحقيقة قول لا إله إلا الله. وقد ثبت في الصحيح عن عثمان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".

وفي السنن عن معاذ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وهذا التوحيد يتضمن إثبات صفات الكمال لله ونفي النقص ونفي مماثلته لشيء من الأشياء وإثبات خصائصه بالمحبة والعبادة والتعظيم ونحو ذلك. وإنما يتفاوت أهل العلم والإيمان بحسب تفاوتهم في تحقيق هذا التوحيد كما قد بسط في موضعه والله أعلم. تمت القاعدة من كلام شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي مؤلف كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) .

§1/1