الصراع الفكري في البلاد المستعمرة

مالك بن نبي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الصّراع الفكري في البِلِادِ المسْتعمَرة

مالك بن نبي مشكلات الحضارة الصّراع الفكري في البلاد المستعمرة بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر الجزائر دار الفكر دمشق - سورية

الطبعة الثالثة 1408 هـ = 1988 م ط 1 القاهرة 1960 م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971، ترك أستاذنا مالك بن نبي، رحمه الله، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 الموافق 10 حزيران 1971، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي). وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، رحمه الله، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399 15 شباط (فبراير) 1979 عمر مسقاوي

تنبيه

تنبيه هذه أول محاولة للمؤلف في كتابة اللغة العربية مباشرة، فشأنها شأن كل محاولة: إنه لا يمكنها أن تكون في صورة مرضية. وإذن فلا غرابة ألا يجد القارئ في هذه الصفحات الرونق الأدبي الذي تعوده عند كتاب العربية، وعليه فإذا حصل له ملل خلال القراءة، على الرغم من الجهد الذي بذله الأستاذ عمر مسقاوي، الذي تفضل بمراجعة الأصول من أجل، تقويم الأسلوب اللغوي، فإن هذا الملل أمر متوقع. غير أن القارئ العربي سوف يجد تعويضاً عن ذلك من ناحية أخرى. إذ ربما يكون أول من يقرأ ما يكتب في هذا الموضوع. ولا يفوتنا في هذا التنبيه أن نلفت نظر القارئ من الآن إلى ما نعني بالأدب التقدمي بوصفه مصطلحاً تناولته هذه الدراسة في أكثر من مكان: إننا نعني الأدب الذي ظهر في بعض الأوساط الفكرية في البلاد الأوربية، ويمثله في فرنسا كتاب مختلفون في الاتجاه السياسي مثل (مورياك) أو (روبرت برا) من اليمين، و (سارتر) أو (فرنسيس جانسون) من اليسار. المعادي 2/ 5/ 1960 م. ب. ن.

مدخل

مدخل هناك أشياء لا يجدي الحديث عنها، إن لم يكن مستمداً برهانه من تجربة شخصية تضيء الموضوع من الداخل بضوئها الخاص. والصراع الفكري في البلاد المستعمَرة واحد من تلك الأشياء، فليس للقارئ إذن أن يتعجب، إن رأى كاتباً يطرق هذا الموضوع من زاوية تحددها له تجربته الخاصة، بما في هذه الكلمة من إشارة إلى بعض التفاصيل من حياته الشخصية، ولا مجال هنا لذكر علة هذا الموقف للكاتب في البلاد المستعمرة، لأن الأمر يستدرجنا إلى الحديث الطويل عن أوضاع البلاد ومقوماتها الفكرية، وربما سوف يأتي هذا الكلام أو بعضه في محله خلال هذه الدراسة. فيكفينا أن نقول في هذا المدخل إن الكاتب مضطر إلى هذا الموقف بطبيعة الموضوع، خصوصاً إذا ما اضطرته الظروف القاسية للدفاع عن أفكاره في فترة معينة، عندما يمر الصراع الفكري بأزمة خاصة كما يحدث في البلاد المستعمرة، حيث تجهل غالباً أمر الصراع الفكري بينما هو يدور في أرجائها، ومن أجلها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن الكاتب التقدمي، في الخارج، يجهل هو الآخر هذا الصراع، فنراه مثلاً يشارك في المعركة ضد الاستعمار بجانب المستعمَرين، ولكنه يشارك فيها ما دامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع الصراع الفكري كأنما يضيق صدره منها في طابعها الجديد، أو أنه بعبارة أخرى، يرى أن من حق الرجل المستعمَر أن يدافع عن

نفسه ما دام دفاعه في الحقل السياسي، ولكنه حينما ينتقل دفاعه إلى الميدان الفكري، يرى أن هذا الرجل قد دخل مكاناً لا حق له في دخوله. ومن الممكن أن يفسر هذا الوضع بالجهل الذي يحيط بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة سواء من ناحية أهل البلاد، أو من ناحية الكتاب التقدميين في الخارج، ولكن التجربة تدل على أن هذا الجهل قد يكون مصطنعاً، بصورة أو بأخرى، مما يجعل القيادة السياسية في البلاد المستعمرة تتخذ من معركة الأفكار - ولأسباب معينة- موقفاً حيادياً أو سلبياً، وأحياناً معادياً. كما يتخذ الكاتب التقدمي - في الخارج ولأسباب أخرى- الموقف نفسه، فتراه وهو يخوض المعركة ضد الاستعمار إذا به كأنه ينحاز إلى صفوفه، حينما تتخذ هذه المعركة صبغة فكرية. ولو حللنا هذا الموقف الغريب وجدنا أن هذا الكاتب التقدمي، إما أنه يخضع لاعتبارات ملقنة أو لعقد موروثة، وهو في كلتا الحالتين يصبح موقفه إزاء الصراع الفكري في البلاد المستعمرة موقف العداء أو الحياد، فحينما يقدم كاتب من هذه البلاد كتاباً للطبع، ترى الكاتب التقدمي مثلاً يعلن عنه في صحيفته بثلاثة أسطر أو أربعة ((كتاب اتخذ صاحبه موقفاً يناقض موقف الأحزاب الوطنية)). فإذا ما تصورت أن هذه الصحيفة توزع على نطاق واسع في البلاد المستعمرة، التي تدور فيها المعركة الفكرية، فسوف تدرك مدى تأثير هذه الجملة الغامضة على مصير الكتاب، خصوصاً إذا ما تابعت الصحيفة خطتها بعد صدوره، فنشرت مثلاً قائمة لـ ((الكتب القيمة التي صدرت خلال الشهر)) وتناست أن تذكره من بينها. وهكذا نشاهد موافقات غريبة بين بعض مواقف الكتاب التقدميين

وما يخططه الاستعمار، حتى يرتاب من يشاهدها فيصبح يتساءل: هل هي مجرد موافقات، أم هي على العكس اتفاقات تحمل طابع الصراع الفكري في أغمض صوره. مهما يكن من أمر فليس موضوعنا دراسة هذا الجانب من المشكلة، لأنه ينبغي لنا في دراستها أن نأخذ في اعتبارنا معطيات الشخصية التقدمية وخصائصها، مما لا يدخل في سياق حديثنا، غيرأنه لا بأس في أن نذكر للقارئ بعض تفاصيل مما يمكن أن نسميه (الأدب التقدمي) دون أن ننسى مجابهته لعمليات الاضطهاد في الجزائر مثلاً، أو في إفريقيا الجنوبية. ففي الجزائر نشهد بأن الكاتب التقدمي يقوم بالدور القيم، في فضح وحشية. الاستعمار في البلاد المستعمرة وكشفها للرأي العام العالمي. ولكن هذه الملاحظة لا تزيد موقف الكاتب التقدمي إلا غرابة، حينما نراه من ناحية أخرى يلتزم الصمت أمام بعض الجرائم الاستعمار ية، بينما يثيره غالباً، ما هو أقل منها، فيدهشنا موقفه في وقائع ذات دلالة: فقد رأينا مثلاً، منذ سنة، تلك الفاجعة التي عنونتها الصحافة، حتى في البلاد الربية، بـ (خطف خائن كبير في الجزائر)، وكانت بهذا النبأ، المنقول عن شركة أنباء أمريكية، تشير إلى مأساة مؤلمة وجريمة لا تغتفر، ارتكبها الاستعمار ضد فضيلة الشيخ العربي التبسي، الذي اختطفته فعلاً اليد السوداء في العاصمة الجزائرية حيث انقطعت أخباره من ذلك الحين. ومن تتبع أنباء هذه المأساة يرى أنه قرأ في الصحافة نبأ اختطاف (الخائن الكبير) في سطرين، ثم ثلاثة أسطر للتدارك بعد أسبوع وكان التدارك مائعاً جداً، حتى إنه لم يزل الشبهات التي ألقاها في الأذهان النبأ السابق، كأنما اليد التي حررت هذا التدارك زميلة اليد التي حررت نبأ الاختطاف وزميلة اليد التي اختطفت.

وهكذا نرى: ثلاثة أسطر تشوه اسماً محترماً، وسطران لتدارك مريب ... ثم يسدل الليل ظلامه مرة واحدة على مأساة هذا الشهيد الذي قام في وجه الاستعمار خلال ثلاثين سنة. وهكذا يسود الصمت في تلك الصحافة التقدمية، ذات اليمين أو ذات الشمال، بينما هي ملأت العالم صراخاً حينما اعتقل وحوكم الكردينال (مندزانتي). وها هو ذا رجل آخر، ذلك الصحفي هنري علاج الذي اعتقلته اليد نفسها التي اختطفت الشيخ العربي التبسي، وعذبه الجلادون أنفسهم، ولكنه لا زال حياً يرزق وينشر عن تعذيبه كتاب تذيع الصحافة التقدمية صيته في أرجاء العالم. ويبلغ طبعه في البلد الواحد- مثل بريطانيا العظمى- الملايين من النسخ، ثم تعرضه الولايات المتحدة في معرضها في موسكو خلال شهر آب سنة 1959. وهو لكاتب شيوعي!!! أليس لمن يتتبع هذه الأمور ببعض الاهتمام الحق في أن يتساءل: هل هذه مجرد موافقات أم هي محاولات لتحقيق أهداف معينة، أو بعبارة أخرى: هل هي اتفاقات خاصة بالصراع الفكري؟. إن شعورنا بمأساة الرجل الذي يعتقل ويعذب واجب، ولا بد أن نحني الرؤوس أمام كل محنة إنسانية، ولكنه من واجبنا أيضاً أن نتمسك بحرية الفكر حتى أمام الموت مع خشوعنا إزاءه. إن تفاصيل كالتي نذكرها قد تأتي في صور متنوعة في موقف الكاتب التقدمي، وفي مستويات مختلفة. إنني أذكر ما اعتراني من العجب خلال مطالعة أخيرة- وهي دون أي شك من أفيد مطالعاتي- فقد تتبعت خطوة خطوة، فكرة الكاتب ملاحظاً فيها أكثر

من مرة وجوه التشابه بين أفكاره وأفكار أودعتها في كتاب نشرته منذ زمن غير بعيد. وكان العجب يعتريني خلال هذه المطالعة إذ أنني لم أر الكاتب التقدمي يذكر- ولو مرة واحدة- كتابي، حتى حينما يكون وجه التشابه بيننا لا يمكن أن يفسر بمجرد الصدفة. بل كنت أراه يلجأ في حالة كهذه إلى التعبير عن الفكرة المشابهة بألفاظ أخرى، ثم يتبعها بتعليق فيقول مثلاً: ((إنه لمن فضول القول أن نقول كذا وكذا .. )) وكأنه يحاول بهذا التعليق أن يجعل التشابه من طبيعة الأشياء حتى يبعد عن ذهن القارئ التساؤل في شأنه. وهكذا تصبح الفكرة المستعارَة من مؤلف من أبناء المستعمَرات شيئاً لا يحتاج إلى ذكر صاحبه لأنه من الأشياء المتداولة، حسب التعليق الذي علق به الكاتب التقدمي الذي استعارها، وفي مكان آخر لا يلجأ هذا إلى مثل هذا التعليق، وإنما هو يبدل الألفاظ التي تعبر عن الفكرة: فقد تحدثت مثلاً عن الشعوب الإفريقية الآسيوية ووصفتها بأنها تكوّن (الطبقة الكادحة في العالم)، فنرى الكاتب التقدمي يبدل بهذه العبارة أخرى فيقول (الطبقة الكادحة العالمية). وليس لنا بعد هذا أن نصدر- بمقتضى هذه التفاصيل- حكماً عاماً بخصوص الأدب التقدمي والكتاب التقدميين، فإننا نجد في مواقفهم في أوربا من سمو الأفكار، وعلو النفس وطيبة الخاطر، وشجاعة الفؤاد ما هو جدير بالاحترام من كل إنسان يحترم نفسه. وإنما كان علينا في هذا المدخل أن ننبه القارئ الذي لم تسبق له خبرة بالموضوع، إلى بعض الجوانب المجهولة من الصراع الفكري في البلاد المستعمرة. ***

الفصل الأول

الفصل الأول عموميات عن الصراع الفكري ـــــــــــــــــــــــــــــــ يجب علينا أن نرجع إلى الوراء شيئاً ما، لنرى كيف بدأ الصراع الفكري يأخذ طابعه في البلاد المستعمرة. يجب أن نرجع- على الأقل- نصف قرن إلى الوراء في مجرى الوعي الإسلامي، اي في اللحظات الأولى التي بدأ يستيقظ فيها حوالي سنة 1900 م: إن الستار يرتفع على المشهد الأول من المسرحية التي نحاول هنا وصف بعض مقاطعها. ويمكننا أن نتصور المسرح الذي يرفع فيه الآن الستار في بلد معين، حتى يكون لنا إلمام أكثر بالميزات التاريخية والنفسية التي تسم الأشخاص، الذين يقومون بدور في هذه المسرحية، مع العلم بأنها ميزات ذات طابع عام يشمل العالم الإسلامي كله، ولا يختلف في مكان منه عن مكان آخر إلا بقدر ما تختلف الأسماء والتواريخ. ففي الجزائر مثلاً نرى الستار يرتفع عن شعب لا زال يخدره النوم الذي أخنى عليه بضعة قرون: إنه الشخصية الأولى. ولكن في اللحظة نفسها تدخل شخصية ثانية نطلق عليها (فكرة متجسدة)، لأنها تتمثل في شيخين وقورين: هما الشيخ بن مهنا والشيخ

عبد القادر المجاوي، يتقدمان على مسرح التاريخ الجزائري بوصفهما أول بطلين في الصراع الذي بدأ حينئذ ضد المرابطين والخرافات. ولما كان لظهورهما دوي كبير في البلاد، جاءت شخصية ثالثة تدخل على أثرهما: هي الاستعمار. فالاستعمار يدخل المسرح حتى يعيد إلى جوه صمتاً يغار ويحرص على بقائه كي يطيب للنائمين نومهم. ذلك هو المشهد الأول من الصراع الفكري في الجزائر. ولكن الاستعمار لا يلجأ في هذا الفصل الافتتاحي إلى غير وسائل القوة، إذ هو يدرك أنه يواجه (فكرة متجسدة)، يمكنه إقصاؤها عن خشبة المسرح إذا ما أبعد الشيخين اللذين يمثلانها، وكذلك فعل بالضبط. ولكن سرعان ما تبين له أن الفكرة التي أراد إقصاءها بقيت حية في ميدان المعركة، إذ بقيت في صورة جديدة بوصفها (فكرة مجردة) استقرت في ضمير الشعب. وهكذا يبدأ الفصل الثاني من الصراع الفكري، إذ أتيح للاستعمار أن يستنتج من الفصل الأول، الاستنتاجات التي سيطبقها فيما بعد في تخطيط سياسته الايديولوجية، إنه يدرك أن وسائل القوة إذا خابت إلى حد ما- كما رأينا في الفصل الأول في مقاومة فكرة متجسدة- فإنها ستخيب حتماً وبالأحرى في مقاومة فكرة مجردة، وأنه يجب إذن اتباع خطط أكثر دقة. وهنا يبتدئ الصراع الفكري على حقيقته، إذ أن الاستعمار سوف يجتهد في هذا الفصل الجديد، في امتصاص القوى الواعية في البلاد المستعمرة بأي طريقة ممكنة، حتى لا تتعلق بفكرة مجردة، ومن البديهي أنه سيحاول أولاً تعبئتها

لحساب فكرة متجسدة تجسّداً تصبح معه أقرب إليه منالاً، لأنه يمكنه مقاومتها إما بوسائل القوة أو بوسائل الإغراء. على أن الاستعمار لن يسلك هذا الطريق فقط، بل إنه سوف يواصل في الوقت نفسه حربه ضد الفكرة المجردة بوسائل ملائمة فيها أكثر مرونة، ويستعين من أجل ذلك بخريطة نفسية العالم الإسلامي: وهي خريطة تجري عليها التعديلات الضرورية في كل يوم، يقوم بها رجال متخصصون مكلفون برصد الأفكار؛ إنه يرسم خططه الحربية ويعطي توجيهاته العملية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمرة، معرفة تسوغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد حسب مختلف مستوياته وطبقاته، إنه يستخدم لغة ((الفكرة المتجسدة في مستوى الطبقة المثقفة، فيقدم للمثقفين شعارات سياسية تسد منافذ إدراكهم إزاء الفكرة المجردة)). وفي مستوى آخر تراء يفضل لغة الدين، لأنها تسد بصورة محكمة منافذ الوعي إزاء الفكرة، في هذا المستوى. غير أننا في مستوى أدنى درجة نراه يستغل جهل الجماهير، لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع، وهكذا حتى يصل إلى أحط مستوى يستخدم سلاح المال، إذ يكون لنفسه بهذه الوسيلة صداقات، أو كما يعبرون بلغة الحرب اتفاقات في البلاد المستعمَرة، تساعده على توجيه هجمات محكمة في الوقت المناسب على بعض القطاعات من الجهة الفكرية. ثم يزيد في إتقان خطته، فتراه يسدل ظلاماً شاملاً على تلك الجبهة كي يعزلها عن ضمير الشعب المستعمر نفسه وعن الضمير العالمي. وبهذا يصبح وضع الأشياء وكأننا في قاعة غارقة في الضوء، بينما يبقى المسرح ذاته غارقاً في الظلام.

تلك مسرحية مخرجها الاستعمار، وهذا المخرج لا يريد أن يشاهد النظارة فعلاً ما يجري على خشبة المسرح. هذا هو الأسلوب الخاص بالصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، نرجو أن نعطي عنها صورة موجزة في هذه الصفحات. ... طالما حلم إله الحرب أن يكون تحت تصرفه السلاح المطلق، الذي يعبر المسافات، ويتخطى حدود الأوطان، ولا يرد بأسه بأية وسيلة. وقد تحقق هذا الحلم القديم، باستخدام الطاقة النووية وبإعداد الصاروخ العابر للقارات. ولكن سرعان ما قلب هذا السلاح المطلق قضية الاستراتيجية في العالم رأساً على عقب: إنهم كانوا يقولون في عصر الحروب الكلاسيكية، إن ربع الساعة الأخير هو الذي يقرر مصير الحرب. أما الآن فينبغي أن نقول إن ربع الساعة الأول هو الذي يقرر مصيرها. من هنا اتخذت الأشياء مغزى جديداً في المنطق الحربي، الذي سيطر على قادة السياسة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى أن مستر دلاس لو كان صريحاً وجهر برأيه، حينما كان يعد إنشاء قاعدة حربية لبلاده في آسيا، لقال: إنه يريد في الحقيقة إنشاء مانعة صواعق، تجذب إليها صواعق ربع الساعة الأول في الحرب الذرية، بعيداً عن مواطن السكان ومراكز الإنتاج بأمريكا. ولو صارحنا هكذا قادة السياسة الغربية، لفهمنا حينئذ الفهم الصحيح تلك العطايا من الدولارات، التي توزعها أمريكا على بعض الحكومات الإفريقية والآسيوية، مقابل إنشاء مانعات صواعق في بلادها: إنها بلاد معدة بتلك العطايا لتصبح الهدف للمدفعية الذرية حينما تندلع الحرب.

هذه هي الفكرة التي يخفيها في نفسه مستر دلاس في سياسة الأحلاف العسكرية، من نوع (الحلف الأطلنطي) مطبقاً في آسيا وإفريقيا، غير أن هذه الأحلاف قد أصبحت غير مجدية، لأن الأرض أصبحت صغيرة جداً بالنسبة إلى المتوقع من الخراب والتدمير، على نطاق حرب ذرية لا ينفع فيها أي احتياط من النوع الذي يفكر فيه مستر دلاس، وهكذا باتت الحرب العالمية الثالثة التي عاشت الشعوب في انتظارها منذ عشر سنوات، من أبعد التوقعات. وأصبح من شأن السياسة اليوم أن تدرس كيف تكسب السلم، لا كيف تكسب الحرب. ولكن هذا لا يعني أن المشكلات قد زالت مع الخصوم بسبب الاتجاه الجديد: فإن وجود هذه المشكلات وبالتالي وجود الخصوم فيها منوط بمسوّغات لا زالت قائمة، طبقاً لبعض الرواسب النفسية التي حاولت، في دراسة سابقة، تبيين طبيعتها حينما تحدثت عن (ذهان القوة والسيطرة). وعليه، فإذا كانت الحرب لن تقع نظراً لهذه الاعتبارات، فإن الصراع سيستمر بسلاح آخر، وفي ساحات قتال جديدة، إن انتصارات السلام تتقرر في جبهات الصراع الفكري. ويجب ألا يبقى عندنا شك في أن الخصوم الذين يتنافسون، على محور واشنطن- موسكو، للاستيلاء على عناصر القوة، سيلجؤون إلى سلاح الأفكار، لأن قنابلهم الذرية أصبحت عاجزة في المستقبل عن حل مشكلاتهم المعلقة. وهذا الاستنتاج يطابق تماماً ما يتنبأ به أقطاب العلم والفكر مثل (برتراند راسل)، الذي يستنتج في مقال خصصه لهذا الموضوع ((بأن كل من يعتقد أن انتصار الشيوعية أو أعوانها أصبح مستحيلاً، يجب عليه أن يعدل أفكاره: إنه يجب عليه أن يعترف بأن وجهة النظر التي بفضلها يجب أن تنتشر، هي أن

تنتشر بالإقناع لا بالقوة (¬1))). فإذا اقتصرنا- في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الإنسانية- على اعتبار ما يتعلق بمحور (طنجة- جاكرتا) فإن المشكلة التي تعترضنا ذات وجهين، لأنه يجب علينا أن نفكر كيف نعطي لأفكارنا أقصى ما يمكن من الفعالية، ومن ناحية أخرى أن نعرف ما الوسائل التي يستخدمها الاستعمار لينقص ما يمكن من فاعملية أفكارنا؟. وهكذا نصبح- في الواقع- أمام مشكلتين: الأولى تتضمن كيف ننشئ أفكاراً فعالة في مجتمعنا (¬2)؟. والثانية كيف يجب أن نفهم أسلوب الاستعمار في الصراع الفكري؟. حتى لا يكون له أي سلطان على أفكارنا. ولكني سأهتم في الصفحات التالية بالمشكلة الثانية: ما طرق التخريب التي يمارسها الاستعمار ضد أفكارنا؟ هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عنه معتمداً على تجربة شخصية أعتبرها مفيدة لسببين: أولهما: لأنها تتضمن ربع قرن من حياتي. ثانيهما: لأنها حدثت في بلاد مستعمَرة حيث يمكن للاستعماراستخدام جميع وسائله. ومن المكن أن أورد هذه التجربة على أنها قصة أقصها على القارئ، أو مذكرات لمكافح في الجبهة الفكرية. ولكنني أتجنب الصورة الأولى لأنها ربما توحي للقارئ أنه يقرأ قصة ¬

_ (¬1) مقتطف من كتاب تيبور مند: (بين الخوف والرجاء) باريس 1958. (¬2) إنني أخصص دراسة لهذا الموضوع تحت عنوان (مشكلة الأفكار في المجتمع الإسلامي).

خيالية، كما أتجنب الصورة الثانية لأنها تضطرني لذكر الكثير من تفاصيل شخصية، لا أرى مناسبة لذكرها هنا، وإنما أود أن يقرأها القارئ بين الأسطر، لأنها تكشف له دقائق الاستعمار وتجلي خططه، في الصراع الفكري. إننا ذكرنا أن الاستعمار مُخرج لا يرى أين يقع الضوء على المسرح حينما يدور فيه فصل من فصول الصراع الفكري، وإذن سوف يكون من المفيد إن وجّه بعض الضوء على من يقوم بدور فيه، حتى لو كان ضوء شمعة جيب، محاولاً بذلك تجلية مهمة الصراع الفكري في وقت مناسب، أعني في الوقت الذي يجد العالم فيه نفسه مضطراً لخوض معركة الأفكار. وربما أتاحت لنا هذه المحاولة تصوير الطابع الخاص الذي تتخذه هذه المعركة في البلاد المستعمرة، حيث تكون فيها-كما قلنا- منعزلة عن الشعور في الداخل وفي الخارج معاً. ولسنا نشير بالشعور في الخارج، إلى الصحفي أو الكاتب التقدمي الأجني فقط؛ وقد بينا فيما سبق الدوافع التي تعزل هؤلاء نفسياً عن الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، ولكننا نشير إلى المثقف العربي نفسه، الذي كافح ضد الاستعمار ضمن (جبهة وطنية)، إنه على الرغم من ذلك، أو على الأصح بسبب ذلك، لم يكتسب التجربة الشخصية التي تتيحها الظروف لمن وجد نفسه في وضع الفدائي، أي منفرداً في جبهة الصراع الفكري في بلاده. إنه من الضروري لمن يريد أن يتعرف على وسائل الاستعمار في هذا الميدان، أن يكون له اتصال مباشر به، بينما لا يكون هذا الاتصال ممكنا لمن يكافح ضمن (جبهة وطنية) تموله وتحميه، وتحيطه بالاحترام، ثم تمنحه غالباً مركزاً يغبط عليه .. أما الصحافي أو الكاتب التقدمي الذي يكافح في بلاده ضد الاستعمار، بالكتابة أو بالقول، فإن قوانين بلاده ذاتها تحميه من الأذى وتحمي أسرته،

ولربما وضعت أفكاره أحيانا موضع التقديس، كما نرى أولئك الأحرار من الشعب الإنجليزي، الذين رافقوا المهاتما غاندي في طريق (الساتيا جراها) الذي قاد الهند إلى الاستقلال. وهكذا يصبح للصراع الفكري ظروفه الخاصة بالنسبة لمن يجد نفسه متورطاً فيه- في بلاد مستعمَرة كالجزائر، أي في بلاد تجهل هي ذاتها، أن معركة أفكار تدور في أرجائها- فيتأتى هكذا للاستعمار أن يعزل من دخل المعركة، حتى ليجد نفسه في وضع الفدائي الذي يخوض المعركة على حسابه الخاص، دون أي قاعدة تموله وتسلح كفاحه. إن ظروف البلاد المستعمَرة لم تترك لمن يدخل الصراع الفكري أن يختار، ولو قدرنا أنه قد اختار هو نفسه، هذا النوع من الكفاح، لكان في تقديرنا نوع من الاعتساف، لأننا نكون قد اتهمناه، بمقدار من البلادة لا يتصوره العقل أو بمقدار من البطولة لا يدعيه لنفسه. فالأشياء تسير بصورة آلية، وطبقاً لقدر مقدور تفرضه طبيعة المعركة في البلاد المستعمَرة، ومقارنات أحوال ناتجة عن أوضاعها وظروفها الخاصة، فهذه الأشياء هي التي تقرر نوع المركة وتضطر من أراد أن يخوضها أن يكون في وضع الفدائي المنعزل. ولكي تكون هذه الأشياء أكثر وضوحاً في أذهاننا، فلنتخذ من الواقع مثلاً يؤيد إيضاحها: إن ثورة تموز (يوليو) 1952م في القاهرة كانت من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري، لأنها كنست عهد فاروق وآذنت بعهد جديد وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم الإسلامي. وبذلك دخلت التاريخ فكرة معينة تمثل شخصية جديدة تدخل مسرح الصراع الفكري.

ولكن يجب أن نتصور بجانب ذلك، مدى اهتمام المراصد المختصة إزاء ظهور هذه الفكرة، إنهم سجلوها في الحال وأبلغوا عنها فوراً. وعلى أثر ذلك سنرى شخصية ثانية تدخل المسرح: الاستعمار. لقد بدأت المعركة فعلاً تزداد حرارة، بمقتضى تفاعل الرأي العام في البلاد المستعمَرة مع حوادث القاهرة، ولقد أبدى الضمير الجزائري مثلاً اهتماماً متزايداً لقضية الإصلاح الزراعي والملكية، حينما سجلتها الثورة المصرية بين أهدافها الأساسية، وكان الشعب الجزائري متحمساً لهذه القضية، ومتحمساً لها خاصة لأنها تمثل قضيته، ما دام الاستعمار قد استهدف في تخطيط سياسته الجزائرية، الاستيلاء على التراب وتحطيم طبقة الفلاحين. هنا شعر الاستعمار بأنه أمام حالة خطيرة، إذ أنه أمام (فكرة جديدة)، وكان من الطبيعي أن يستعد لحملة عنيفة ضد تلك الفكرة. هذه صورة موجزة من الظروف التي تكوّن فجأة فصلاً من فصول الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة. ومما يجب ملاحظته في هذه الأثناء، أن الصحافة (الوطنية) أي صحافة الأحزاب التي تحمل في البلاد طابع الكفاح ضد الاستعمار، كانت تتخذ إزاء هذه الحوادث موقفاً شبه حيادي، إذ لا تنتشر عنها غير الأنباء التي توزعها شركات الأنباء العالمية، التي نعلم ما لها من روابط وثيقة بالاستعمار، حتى كان من الميسور على القيادة الاستعمار ية أن تعد عدتها للهجوم في ظروف جد مواتية. وهكذا بدأ الاستعمار فعلاً هجومه ضد فكرة الإصلاح الزراعي وتعديل الملكية؛ ولا عجب في هذا، وإنما العجب كل العجب أن يصدر هجومه الأول على أعمدة صحيفة تحمل طابع الوطنية، والجهاد ضد الاستعمار.

فتعجب إن شئت، أيها القارئ الكريم، ولكنه واقع الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة .. ولنتصور الآن: ماذا يكون موقفك في مثل هذه الظروف، وليس أمامك إلا السكوت في صالح الاستعمار أو الكلام في صالح قضية تهم الشعب! فإذا قدرنا أنك اخترت الحل الثاني، فيبقى علينا أن نستنتج من هذا الفرض نتائجه، إذ لا يمكنك أن تدخل المعركة، في مثل هذه الظروف، إلا منفصلاً عن (الجبهة الوطنية) التي تمثل في بلادك (الجهاد) ضد الاستعمار، أي أن الوضع هو الذي يفرض عليك ألا تدخل المعركة إلا بوصفك (فدائياً) لا حيلة له إلا اتباع ما يمليه ضميره عليه، ولا وسيلة له سوى ما بين يديه، دون ما تمويل أو زاد، دون سلاح يأتيه من خلفه في جبهة الصراع. تلك هي بالضبط ظروف الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، وليس لأحد أن يختار سوى أن يستمر فيه على هذه الشروط، أو أن يخرج من الميدان. وإنك تعلم، لا شك، أن الاستعمار بالمرصاد: فهو يريد طبعاً أن يضطر المكافح إلى الحل الثاني، أي أن يضطره إلى الخروج من الميدان. ولسوف يستعين بطبيعة الحال للوصول إلى غايته تلك بجميع ما في البلاد المستعمَرة من ضعف في حياتها الفكرية ومن رواسب سلبية في حياتها السياسية. وهذا الجانب من القضية لابد من توضيحه بسبب ما له من الأهمية في سير الصراع الفكري، فلو أننا قمنا بدراسة مقارنة للأشكال السياسية في بلاد مختلفة، أو في بلد واحد في مراحل مختلفة من تطوره، فإننا سوف نجد على العموم، صنفين من السياسة وأن لكل صنف واقعه الخاص. فأما الصنف الأول فهو السياسة التي تتمثل في (أفكار مجردة)، وأما الصنف الثاني فهو السياسة التي تتمثل في (أفكار مجسدة).

وقد تكون الأولى نوعاً مطوراً من الثانية، كما يمكن أن تكون الأخيرة صورة منحطة من الأولى. ولكل صنف منهما اعتباراته الخاصة به، طبقاً لجذوره وفروعه النفسية. فالسياسة التي تتطور تبعاً لـ (أفكار مجردة) تعانق بحكم الضرورة الضمير الشعبي، ومن ناحية أخرى فإنها تلتزم المبادئ والمقاييس والقواعد التي تتحكم في سيرها، فإنها بذلك تحمل في طبيعتها مبدأ التعديل الذاتي الذي يفرض عليها رقابة من نفسها، معدلاً بذلك حركتها واتجاهها عند الحاجة. وكل حركة من حركاتها تتطلبكأي عملية حسابية، تعقيباً على نتيجتها، وتصحيحاً تابعاً لها، فإن السياسة المقعدة تراجع دائما نتائجها. وهذه المراجعة تحميها من تدخل أي عامل أجنبي يحاول تغيير مجراها ومرساها، لأنها تكون جهازاً معدلاً يطلق إشارة الخطر كلما حدث في الطريق أي حدث من شأنه أن يغير في الحركة أو في الاتجاه. ولقد لخص بعض الساسة هذه الاعتبارات كلها، أو أنها تلخصت تلقائياً، في ذهنه حينما صرح منذ عامين، قائلاً ((إن سياستنا لا تخطئ لأنها علم)). فبقدر ما نتصور أن العلم لا يخطئ، فإن هذا السياسي يكون محقاً في وجهة نظره. أما في البلاد التي لم تبلغ درجة معينة من التطور أو التي سببت لها بعض الظروف وعواصف التاريخ، نكسة في التطور وحركة تقهقر شامل، كما حدث لألمانيا في عهد هتلر، فإن الفكرة المجردة تحل في شخص لتنشئ صورة سياسية خاصة، وهذه بحكم شذوذها عن مقاييس العقل، تتشبث بفرد تتجسد في ذاته فتتطور وتنمو وتنتظم طبقاً لمصالحه الشخصية انتظاماً تصبح معه هذه المصالح تلقائياً، هي المسوغات والدوافع والمقاييس لسياسة عاطفية.

وقد يحدث أن يتنحى أو ينحى، الفرد الذي يجسد هذه السياسة فيحل مكانه كائن مركب، أو بعبارة أدق (مركب أفراد) يجمع بينهم اتصال عضوي، مثل ما يسمى في الطب (التوائم السيامية) (¬1). وقد يحدث أن يكون هذا الاتصال بواسطة جهاز هضم مشترك. فيصبح الكائن المركب بذلك قائماً على تضامن هضمي، فكل ما يمر بحنجرة فرد من الأفراد المركبين يدخل في عملية هضم مشتركة. وتصبح (القضية) كما يقال في العرف السياسي قضية هضم، ولا بأس أن يكون في الرؤوس المتصلة بالجهاز الهضمي أفكار مختلفة شريطة ألا يعطل ذلك الاختلاف عملية الهضم، وإلا تخلص مركب الأفراد من الرأس الذي يحمل فكرة مشوشة، وفصله عن جهازه الهضمي. إنه تركيب بالغ الدقة، والاستعمار يتقن تركيبه بدقة صانع الساعات العبقري، فهو يكوّن لها جهازاً صالحاً لتحويل أي فكرة تظهر في البلاد المستعمرة إلى فكرة (متجسدة) قريبة المنال، ويكون له بالتالي خير وسيلة لمقاومة أي محاولة، تظهر في البلاد المستعمَرة لتعديل وتصحيح نظمها السياسية. إنه جهاز يعمل طبقاً لآلية نفسية غير معقدة، تدفعه إلى الحركة دوافع عاطفية، وتوجهه العوامل التي تتحكّم فيه لسياسة عاطفية، وهي عوامل تمثلها في مستوى معين، مصالح خاصة. والاستعمار يعلم كل شيء عن آلية تلك المصالح، التي تعبر في النهاية عن ردود أفعال لجهاز هضم. ¬

_ (¬1) يعبرون بهذه العبارة عن التوائم التي تولد ملتصقة بعضو من أعضائها.

ولا يغيب عن نظرنا أن السياسة لا تحيد، ولا يمكن لأي محاولة أن تحيدها عن الطريق، طالما بقيت دوافعها في ضمير يعي، وفي عقل يدرك، وفي قلب يشعر، أو بعبارة أخرى طالما كانت دوافعها متصلة بالأفكار. أما إذا كانت دوافعها ناشئة عن آلية جهاز هضم، فإن الاستعمار يستطيع أن يتصرف في رغبات ذلك الجهاز، أي في شهوات (مركب أفراد) لتبقى البلاد المستعمَرة تحت تصرفه سياسياً واقتصادياً. والأمثال التي تدل على هذه الحالات كثيرة في البلاد الإفريقية- الآسيوية، إننا نرى- مثلاً- مصر تواصل تنميتها الاقتصادية (¬1)، على الرغم من الضغط الماحق المسلط على اقتصادها من الخارج منذ عامين، أي منذ تطبيق مشروع أيزنهاور المشهور، بينما ترى في بلاد إفريقية آسيو ية أخرى، النشاط الاقتصادي معطلاً على الرغم من حقنه بالدولارات أكثر من مرة، لأن سياسة تلك البلاد لا تخضع لسلطة ضمير وعقل وقلب، أي لسلطة أفكار ولكنها تخضع لشهوات أمعاء. فالأمعاء التي ركب عليها الاستعمار الرؤوس الحاكمة تعطل النشاط الطبيعي في الوطن. وحينما نتكلم عن هذا الكائن الغريب، فإننا لا نتحدث عن وحش من عصور ما قبل التاريخ، بل عن حيوان معاصر لنا: إنه كائن أميبي تتصرف دوافعه الهضمية في سياسات بدائية. وكل ما يقتضيه الإتقان من دقة تركيب هذا الجهاز الغريب، هو أن تؤدي شهواته وظيفة سياسية في البلاد المستعمَرة، وقد بينا أن الاستعمار يتقن جداً هذا ¬

_ (¬1) حرر هذا الفصل قبل تأسيس الجمهورية العربية المتحدة.

التركيب، وأساس نجاحه في هذه المهمة هو ما تتضمنه نفسية الشعوب عامة، من ميل طبيعي نحو (السهولة) والأشياء المسهلة. فحينما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة، فإنها سوف تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء على سهولات الحاضر، لا على صعوبات المستقبل. وإذا ما قدرنا أنه يضاف شيء من الإغراء إلى هذه الجاذبية الطبيعية، فإننا سوف نتصور حتمية الانزلاق إلى وحل السهولات المغرية. وهذا الشيء موجود بالفعل، إذ أن طريق السهولة تؤدي حتماً إلى سياسة هضمية تلبي وتغذي الشهوات. فهو موجود من بين الشعارات الرائجة في الأسواق السياسية، وإن كلمات مثل الاستعمار والامبريالية والوطنية، تليق جداً لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً. وقد رأينا في مؤتمر باندونج، كيف تستخدم كلمات (شيوعية) و (استعمار)، وقد استخدمها فعلاً بعض الدجالين في خطة تشحيم محكمة، كي يخرجوا المؤتمر من طريق البناء وينزلقوا به للتهافت والصخب. وهذا كله في سجية الإنسان في ميوله الطبيعية. وقد تعد برامج الثقافة في البلاد المتقدمة من أجل مقاومة هذه الأسباب النفسية حتى لا ينتج عنها انحرافٌ ما في حياة المجتمع. غير أن الاستعمار يستغل هذه الاستعدادات ويقرن أسبابها النفسية بخطط تربوية مناسبة في البلاد المستعمَرة، لأنها ليس لديها في ثقافتها الموروثة عن عهد انحطاط؛ ما يقاوم أسباب الانحراف في نفسية شعوبها، فيصل إلى أن يضع بتلك الاستعدادات سياسة (عاطفية- شهوانية) تتفق مع مصالحه. فهو يضعها حينما يربط عواطف الشعب الطيبة بشهوات (مركب أفراد) معين.

إنه يعلم أن كل شعب مستعمَر يحقد على الاستعمار، فتراه إذن يستخدم جاذبية اسمه نفسه ليربط براءة الشعب المستعمَر، وشهوات (مركب الأفراد) الذي يتزعم حياته السياسية. إن كلمة (استعمار) هي أخطر سلاح يستخدمه الاستعمار، وأحكم فخ ينصبه للجماهير، وما من خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمَرة، إلا وكلمة (استعمار) هي التي تفتح له أبواباً مغلقة في عواطف الجماهير. وبهذا وبغيره من الشعارات المثيرة، يتمكن الاستعمار من وضع الطابع البدائي على سياسة البلاد المستعمرة، ليقرر لنفسه بذلك انتصارات الحاضر والمستقبل، فهو يعلم أنه من الميسور دائماً أن يخدع فرداً أو زمرة أفراد، ولكنه من العسير عليه أن يخدع بفكرة أو يغري بها. ومن هنا ندرك ما سيبذل الاستعمار من جهد، لعزل الأفكار عن المجال السياسي، حتى إن عمليات الرقابة والتصحيح والنقد الذاتي، التي من شأنها أن تكشف نواياه وتعطل مشروعاته، تصبح غير ممكنة في البلاد المستعمَرة. إن الاستعمار شيطان، ولكنه لو جهر بإعجابه (بمركب الأفراد) وشكره على الخدمات التي يقدمها له، عن شعور أو عن غير شعور، لكان دون شك، شيطاناً بليداً أبلد من وزير الخارجية الأمريكي، لو أنه شكر عن طريق الإذاعة أو الصحافة، حكومة إفريقية آسيوية لأنها سمحت له بإنشاء قاعدة حربية في بلادها، لتجذب إليها الصواعق الذرية بعيداً عن أمريكا إذا ما نشبت حرب عالمية ثالثة. إن الشيطان- أو بعبارة أخرى الاستعمار - يكون أبلد من هذا الوزير الفضولي، لو أنه شكر (مركب الأفراد) على أنه أمعاء تهضم غذاءها بكل هدوء، فلا تكشف نواياه ولا مشاريعه.

إن الاستعمار يحسب حساباً لكل أعماله وأقواله، حتى لا ينفك الاتصال بين مصالح مركب الأفراد، وبين انفعالات الشعب، أي بين شهوات البطون المؤثرة وبين الأوضاع العاطفية الواقعة تحت تأثيرها. والمحافظة على هذا إلاتصال هو الشرط الأساسي في خطة الاستعمار الاستراتيجية، التي تقتضي في حالة التطبيق: أولاً: أن يضرب الاستعمار كل قوة مناهضة له، تحت أي راية تجمعت. ثانياً: أن يحول في كل الظروف، بينها وبين أن تتجمع تحت راية أكثر فعالية. وهذان الشرطان يحددان استراتيجية الاستعمار في الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة: إنه يحول بين الفكر والعمل السياسي حتى يبقى الأول غير مثمر والثاني أعمى. وهو من أجل هذا، يطبق طريقة التجميد، التي تطبق في جبهة القتال لتجميد قوات العدو عند نقطة معينة. فالاستعمار يتبع في ذلك طريقة تطبق في بعض الألعاب الإسبانية: إنهم يلوحون بقطعة قماش أحمر أمام ثور هائج في حلبة الصراع، فيزداد هيجانه بذلك. فبدلاً من أن يهجم على المصارع يستمر في الهجوم على المنديل الأحمر الذي يلوح به حتى تنتهك قواه ... فالاستعمار يلوح في مناسبات معينة، بشيء يستفز به الشعب المستعمَر حتى يثير غضبه، ويغرقه في حالة شبيهة بالحالة التنويمية التي يفقد معها شعوره ويصبح عاجزاً عن إدراك موقفه، وعن الحكم عليه حكماً صحيحاً، فيوجه ضرباته وإمكانياته توجيهاً أعمى، ويسرف من قواه دون أن يصيب بضربة

صادقة المصارع الذي يلوح بالمنديل الأحمر ... الاستعمار بطل الألعاب الإسبانية ... في المجال السياسي. ويمضي الشعب الباسل في هذا الوضع الدرامي، كأنما تضحياته ذاتها من النفس والنفيس جمدته وقضت عليه بالبقاء فيما هو فيه. وهكذا نصل إلى استنتاج جد غريب في السيكولوجية السياسية، وهو أن السياسة العاطفية لا تجد مسوغاتها في كسبها ولكن في خسارتها: فكلما تقطعت أنفاس الثور، ونزف دمه في حلبة الصراع، ازداد هجومه على المنديل الأحمر ... والاستعمار يجيد تشغيل هذا الجهاز، لأنه هو الذي ابتكره وركبه، أو ركب فيه بعض محركاته فهو يعلم أن هذه المحركات ليست من مواهب ضمير، ولكن من خصائص أمعاء ... فهو يستمر إذن، في التلويح بالمنديل الأحمر، حتى لا تكون للشعب المستعمَر فرصة يتدارك فيها، ويفكر في أمره، وأن ينظر إلى مشكلاته بمنطق الفعالية، أي أن يضعها طبقاً للأسس السياسية العملية. هكذا يجمد الاستعمار القوات التي تناضل ضده، يجمدها هكذا عند نقطة معينة وتحت راية معينة. فلو أتيح لإنسان أن يتتبع بإمعان، أحوال الصراع الفكري في بلد مستعمر معين، ورزق موهبة النقد السليم للأشياء، والإدراك الصحيح لمجرى التاريخ، أقول لو أنه تتبع هذه الأحوال منذ الحين الذي دخلت فيه القوى المناهضة للاستعمار على المسرح، فإنه سوف يتنبه لشيء هو أن الاستعمار يسلط الأضواء الكاشفة على ركن معين من المسرح، أي بالضبط على النقطة التي يريد أن يجمد عندها القوى المناهضة له.

ثم يرى أن ركناً آخر من المسرح بقي يغمره الظلام. وإذا هو حدَّق البصر لاحظ أن الأضواء الكاشفة تتحول عن هذا الركن عن قصد، كأن إرادة خفية تحرص على أن يبقى مغموراً بالظلام: ففي هذا الركن على وجه التحديد، يريد الاستعمار عزل (الفكرة) ومعها يعزل بطبيعة الحال، المكافح الذي دخل المعركة تحت رايتها، واضطرته الظروف كما بينا أن يدخلها بمفرده، أي بصفته فدائياً يجد نفسه في نقطة تقاطع النيران التي تصوب عليه من يمين وشمال، من خلفه وبين يديه. ثم لو أنه تأمل هذه الملاحظات لوجد نفسه أمام أمر يدعو إلى الدهشة: فهناك اتفاق ضمني بين السياسة الشهوية المتجسدة في (القناة الهاضمة) وبين الاستعمار. ومهما تكن حقيقة هذا الاتفاق فليس من الضروري، أن تكون الرؤرس المركبة على (القناة الهاضة) جميعها على بينة منه، فإن هذه الغفلة كما سبق أن بينا من طبيعة السياسة العاطفية التي تتجه تلقائياً نحو السهولة، أو بتعبيرآخر إنها من طبيعة القابلية للاستعمار. ومع ذلك فإن هذا الاتفاق قد يكون مقصوداً بالذات، فإننا لا نتصور على سبيل المثال أن مركب الأفراد الذي يحكم في كراتشي، يجهل علاقته بالاستعمار ودوره في سياسة الأحلاف الاستعمار ية، بينما هو أدق جهاز ركبه الاستعمار الذي أتقن جداً هذا التركيب، ونجح حتى في تركيب رأس علي خان على (القناة الهضمية)، التي تكوّن جهاز الحكم في تلك البلاد المظلومة. ومع هذا، أو على الرغم من هذه الدقة وهذا الإتقان في صنع الآلات الهاضمة، التي يحاول الاستعمار أن يجعل منها أجهزة الحكم في البلاد المستعمرة، قد يجد نفسه أمام أمر واقع، تحدث إشارة خطر مفاجئة، تفاجئه على الرغم من احتياطاته وتوقعاته كلها، وعلى الرغم من شركائه الذين يشاركونه الأمر بحكم الإغراء أو بحكم البلادة.

إن إشارة الخطر حينما تطلق، توشك أن توقظ شعباً مرهق الأعصاب جسيم الآلام مستولياً عليه الغضب، كأنما المنديل الأحمر جعله في حالة شبه تنويمية. فإشارة الخطر التي انطلقت فجأة، قد تذكره بحقه، بل بواجبه في فرض رقابته على السياسة المتبعة في بلاده وفي أن يطلب كشف الحسابات ومراجعتها، وهذا هو الخطر الأكبر على الاستعمار، حينما يرى الشعب المستعمر يتولى بنفسه الحياة السياسية، كما حدث ذلك أو كاد يحدث حينما تأسس في الجزائر سنة 1936م، ذلك المؤتمر الذي أقام قادة الأوساط الاستعمار ية وأقعدها. لقد كانت لحظة خطر شديد بالنسبة للاستعمار، فقد شعر أن الوصل الذي وضعه وأحكم وضعه بين شهوات بدائية تحرك مركب أفراد، وبين اندفاعات عاطفية تهز جماهير، بين عملية هضم وبين سياسة تستهدف السهولة، شعر الاستعمار فجأة أن ذلك الوصل قد أصبح مهدداً حينما انطلقت إشارة الخطر. فماذا سيفعل الاستعمار في مثل هذه اللحظة؟ ينبغي لنا أن نلاحظ أولاً، أن الإشارة التي أعلنت الحظر، قد تكون بلغت بل إنها بلغت فعلاً إلى علمه، عن طريق مراصده قبل أن تصل إلى شعور الشعب المستعمر، لأنه لا يملك جهازاً- كأن يكون طبقة مثقفة واعية- من وظيفته أن يبلغه هذا النبأ. وبهذه الملاحظة ذاتها ندخل في الموضوع من بابه: إن إشارة الخطر إذ تعلن في الواقع، عن كتاب صدر أو عن مقالة نشرت أو عن حديث انتشر، إنما تدل على وقوع الحدث الأول من فصل من فصول الصراع الفكري. الصراع الفكري؟ ... فهل لهذه الكلمة معنى في البلاد المستعمرة، وهذه البلاد تجهل عموماً قيمة

الفكرة في مصير المجتمعات، كما تجهل دقة الحطط التي ترسم من أجل التحكم في مصير الشعوب المتخلفة عن طريق أفكارها. إنه ينبغي أن نفهم الفرق الشاسع بين موقفين: موقف من يريد من الماء شيئاً تتطلبه تغذية جسمه حينما يعطش، وحاجة ترابه حينما يزرع، وموقف من يريد زيادة على ذلك أن يعرف ما هو الماء بوصفه (ماء)، ومن أي العناصر يتركب وتحت أي الشروط يتم تركيبه. فالفرق بيِّن: بين موقف من يعلم (تلقائياً) كيف يتصرف بالشيء في حاجاته مثل الماء، وبين موقف من يحاول أن يتصرف في الشيء ليس طبقاً لحاجاته فحسب بل أبعد من حاجاته البسيطة أيضاً. كذلك فإن البلاد المستعمرة لا تعرف عموماً ما هو الصراع الفكري، وإنما تسجل تلقائياً نتائجه السلبية في حياتها، فحينما ترسل إلى الخارج بعثة من الطلاب للدراسة العليا، فقد قام تلقائياً بعمل يتصل بالصراع الفكري، ولكنها لا تعلم بالضبط مقتضيات هذا الصراع وأسلوبه ووسائله وأهدافه. وعلى ذلك فإن عملها ينتهي حالما تخرج البعثة من أرضها، إذ تصبح شؤونها مجرد عملية صرف، يقوم بها المصرف الذي يؤدي لكل طالب مبلغه الشهري. إنها لا تعلم أن تلك البعثة التي سلمت شؤونها للمصرف، قد دخلت دون أن تشعر في حلبة الصراع الفكري، إذ تقبلتها رعاية الاستعمار وأحاطتها برقابة دقيقة، وأعدت لكل فرد من أفرادها ملفاً خاصاً، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة من تصرفاته إلا أحصاها، حتى يكون لدى الاستعمار عن تلك البعثة معلومات أكثر مما هي عليه عند المصلحة أو الوزارة التي أرسلتها. فهذا بالنسبة للبعثة هو الفصل الأول: فصل التعرف ثم يبتدئ الفصل الثاني: فصل التوجيه.

وهنا يبذل الاستعمار كل مواهبه الشيطانية حتى لا تعود البعثة بطائل لبلادها، إذ يتصرف من أجل ذلك طبقا للمعلومات التي سجلتها الملفات: فهو يغذي الهوى والشهوات دون أن يصرف قطميراً، فإن التكاليف تدفعها ميزانية البلاد المستعمَرة ذاتها والمصرف المختص يؤديها والحمد لله في كل شهر ... ويستمر هذا التوجيه السلبي خفياً كسرّ من أسرار ملفات الاستعمار الخاصة بالصراع الفكري، السر الذي لا نعلم عنه شيئاً نحن أبناء المستعمرات أو شبه المستعمرات، إلا عندما يأتينا فجأة صداه في صحيفة يومية في شكل فضيحة أو جريمة يرتكبها أحد أفراد البعثة، دون أن نشعر أنه في الواقع صدى المعركة ونبؤها في صورة جزئية عابرة، لأننا تعودنا بمقتضى (العقل الذري) الذي يجزئ الأشياء، ألا نرى الجزئيات التي تقع تحت حسنا تنبع من كليات لم تصل بعد إلى عقولنا، كما لا نرى من ناحية أخرى وبسبب تخلفنا الاجتماعي، أن العالم الذي نواجهه ونعيش فيه مخطط، أي أنه عالم لا تأتي فيه الأشياء عفواً وإنما بوصفها نتائج لخطط محكمة. ثم بعد سنوات من ذهاب تلك البعثة التي أرسلناها للخارج تأتي النتيجة النهائية: إن بعض أفرادها يعودون إلى البلاد بخفي حنين لأن التوجيهات الاستعمار ية المحكمة حطمتها في الطريق، وبعضها الآخر لا يريد العودة لأن الاستعمار حينما لاحظ امتيازهم في العلوم مثلاً، لم يرَ من مصلحته أن يتركهم يعودون، فاتخذ كل الإجراءات الضرورية من أجل ذلك بكل ما لديه من وسائل الإغراء. غير أن هذه الأشياء لا تصل إلينا إلا في صورة مجملة بصفتها مجرد أنباء نتلقاها من الصحافة اليومية، دون أن نتصور أسبابها الكامنة ودون أن نشعر أن هذه الفضائح اليومية، تنبع من فضيحة كبرى هي تصورنا الصبياني للعالم الذي نعيش فيه.

وبعبارة أخرى: إن البلاد المستعمرة تعيش الصراع الفكري، وتسجل نتائجه السلبية في حياتها أو ميزانيتها وفي أخلاقها، دون أن تعلن عن حقيقته شيئاً، وتترك المعركة في وجوه نشاطها نتائجها المتنوعة، دون أن تشعر تلك البلاد أن معركة مرت بأرجائها. فالأمر- كما بيّنا في غير هذا المكان (¬1) - أن الأشياء تمر علينا دون أن تصل لشعورنا، لأننا نمر على سطح الأشياء دون أن نصل إلى مكنونها. وهل يرجى من الاستعمار أن يسلّط الأضواء على المسرح، في الوقت الذي تدخل فيه الفكرة حلبة الصراع، وبالضبط على الركن الذي تبتدئ فيه المعركة؟ لاشك أنه سوف يكون شيطاناً بليداً لو فعل ذلك، بل على العكس سوف يحاول أن يجعل الظلام يتزايد في ذلك الركن حينما تدخل الفكرة حلبة الصراع، بمعنى أنه يحاول جهده عزل المعركة عن الطاقات المكافحة في البلاد وعن وعي البلاد ذاتها. وإذن فحينما تنطلق إشارة الخطر في كتاب صدر أو مقالة نشرت، فإن المكافح الذي أطلقها يجد نفسه منعزلاً وفي وضع الفدائي على الرغم من إرادته، وهكذا يبدأ كفاحاً فردياً بمعنى الكلمة، لا يجد فيه الفدائي قوة تسانده ولا قاعدة تمده بالغذاء والسلاح: فالظروف التي جعلت منه (فدائياً) لم تترك له وسيلة ولا حيلة ... وسوف يستوحي الاستعمار من تلك الظروف ذاتها خطته إزاء الفدائي، بما يقتضيه منطق الوحوش الضارية، فيوجه ضرباته القاسية لكل أفراد أسرته ¬

_ (¬1) كتاب (مشكلة الثقافة).

أطفالاً ونساء، لأن الضربات التي قد يتلقّاها طفل أو امرأة أو شيخ عجوز، تؤثر في أعصابه وفي معنوياته أكثر من الضربات التي يتلقاها في شخصه. هذا هو أسلوب الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة في صورته الإنسانية، وإن ظروف الحرب القاسية لهي التي تملي هذا الأسلوب، وقدى لا يجد القارئ في هذه الصورة، إلا مجرد تلميحات إلى الجانب المتعلّق بحياة شخص وبحياة أسرته، ولكن عليه أن يقرأ هذه التفاصيل بين السطور، إذا كان يريد أن يكوّن فكرة صحيحة، عن حقيقة الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، حيث يجعل منه الاستعمار صراعاً خفياً أصم دون صدى ودون شهرة: صراعاً يحيطه الظلام والإبهام والغموض، صراعاً يصب العذاب .. حتى على العجوز .. حتى على المرأة .. حتى على الطفل .. هذا هو الطابع العام للصراع الفكري في البلاد المستعمَرة. ***

الفصل الثاني

الفصل الثاني في حلبة الصراع ـــــــــــــــــــــــــــــــ إن الاعتبارات التي تقدمت في الفصل السابق. تبين كيف أن الغموض يكوّن العنصر الأساسي الذي يميز الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وكيف أن الاستعمار يبذل جهوده في إحاطة هذا الصراع بالغموض، سواء بالنسبة لابن البلد الذي يكافح الاستعمار في جبهة وطنية تساند كفاحه، وإن كانت تفرض عليه، في الوقت نفسه رقابة لا تتفق دائماً مع ضرورات الكفاح، كما سبق أن بينا، أم بالنسبة للمسلم الذي دخل المعركة ضد الاستعمار في بلد مستقل أو شبه مستقل، وبالتالي بالنسبة للكاتب التقدمي الذي يسهم أيضاً، في الخارج، في هذا الصراع في صورته السياسية كما ذكرنا آنفاً. ولا غرابة إذا كان هذا الكاتب التقدمي، وذلك المسلم المكافح في بلد مستقل أو شبه مستقل، يجهلان هذه الأشياء فإن ابن البلد المستعمرَ نفسه يجهلها. ومن هنا كان علينا أن نخص التجربة الشخصية في هذا الميدان بقيمة أكبر، مما يمكن أن تستحقه في ميدان آخر، لأنها سوف تنبه الشباب المسلم لأخطار الطريق ومفاجآتها في اللحظات التي سيدخل فيها حلبة الصراع الفكري، الذي سيقرر مصير العالم أجمع، ومصير العالم الإسلامي العربي بوجه خاص. إن الغموض الذي يريد الاستعمار أن يحيط به الصراع الفكري، لا تبدده الاعتبارات العامة، إن لم تستمد برهاناً من تفاصيل واقعية، أعني من صميم تجربة

وقعت فعلاً في ظروف معينة، فهذه التجربة تقضي حينما نريد أن نصور خطة الاستعمار في هذا السبيل، أن نلاحظ مبدأين: مبدأ الغموض ومبدأ الفعالية. فالمبدأ الأول يقضي بألا يكشف الاستعمار النقاب عن وجهه في المعركة، إلا إذا لم تترك له الظروف حيلة، فهو دائماً أو غالباً يستخدم قناع القابلية للاستعمار. والمبدأ الثاني ناتج عن الأول في حيز التطبيق، إذ أن هدف الاستعمار لا يتعلق في الأساس بذات شخص معين، ولكن بأفكار معينة يريد تحطيمها أو كفّها، حتى لا تؤدي مفعولها في توجيه الطاقات الاجتماعية في البلاد المستعمَرة. وهذا يعني أن الاستعمار لا يبغي حياة المكافح في ذاتها، فهو لا يلجأ إلى النَّيل منها، إلا إذا اضطرته الظروف إلى ذلك، بل لعلنا نراه في بعض الحالات يشعر بالخيبة والخسارة، إذا مات المكافح لأن موته أحياناً حياة لأفكاره، ولقد شعر بهذا الشعور، دون أي شك عندما قضى نحبه، ذلك المكافح (بن باديس) الذي قاد الفكرة الإصلاحية في الجزائر طيلة سنين عديدة. ذلك أن موته قد حرر نهائياً الفكرة الإصلاحية، التي كانت تشبه (فكرة متجسدة)، فأصبحت بموت صاحبها (فكرة مجردة) لا يجد الاستعمار إليها سبيلاً. ومهما يكن من أمر، فإن المبدأ الثاني يقتضي من الاستعمار، وبوجه التفصيل، عزل المكافح في حلبة الصراع الفكري، من جانبين: أولاً: أن ينفر من أفكاره الرأي العام في بلاده، بجميع الوسائل الصالحة لذلك. ثانيا: أن ينفره هو نفسه، من القضية التي يكافح من أجلها بأن يشعره بعبث كفاحه.

فكيف يطبق الاستعمار فعلاً، هذين المبدأين في ظروف معينة أي عندما تدخل فكرة على المسرح في صورة كتاب. اٍنني أوضحت في دراسة أخرى كيف تصرف الاستعمار في مثل هذا الموقف، فيضع إصبعه على (زر) خفي، لينطلق بذلك تيار من ردود أفعال مضادة للفكرة التي آذنت بظهورها مراصده، عندما دخلت إلى المسرح (¬1). فيكفينا إذن أن نصِف للقارئ حالة حدثت فعلاً: عندما ظهرت الطبعة الفرنسية من كتابي (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) منذ خمسة عشر عاماً، بالجزائر، وضع الاستعمار إصبعه على (الزر) الخفي، فانطلق التيار المضاد بثلاثة ردود أفعال. فقد صدر رد الفعل الأول في جريدة (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) في مقالتين يصف صاحبهما الكتاب بأنه في مجمله، مقتبس من مقالات نشرتها جريدة باريسية كبرى، هي لسان حال الحكومة الاستعمارية تقريباً، بإمضاء مراسلها في القاهرة، المسيو فلان ... ثم أتى رد الفعل الثاني في جريدة حزب وطني، في مقالتين أيضاً، يتظاهر صاحبهما بنقد نزيه للكتاب، فأورد نقده تحت عنوان (خطوة مخطئة واختبال)، وهو عنوان ذو إيحاء ... كما نرى. وأتى في الأخير، رد الفعل الثالث في الجريدة المركزية للحزب الشيوعي بالجزائر، وعلى الرغم من أن الموقف الشيوعي عموماً، يتسم بطابع (النقد الذاتي)، الذي من طبيعته التحري، حتى لا يترك للخصم فرصة، فإننا نرى الصحيفة الشيوعية المركزية تحقق هي الأخرى، خطة الاستعمار تجاه هذا ¬

_ (¬1) راجع كتابنا (شروط النهضة).

الكتاب فتصوره للرأي العام، الذي لا يتصل به مباشرة لأنه مكتوب بلغة أجنبية، ولأن الأمية غالبة في البلد، تصوره بأنه ((كتاب يستحق الرضا من الاستعمار)). ويجب أن نضيف إلى هذه المواقف الثلاثة، موقف الصحافة التقدمية التي لم تقل كلمة في الموضوع، فكان سكوتها من ذهب بالنسبة للاستعمار. فلو حللنا الآن هذه القصة التي أوردناها، دون أي تعليق عن تركيب عناصرها الأساسية، فإنه يصعب علينا أن نجد فيها إمضاء الاستعمار، لأنه في الواقع لم يكن من مصلحته أن نراه. وهكذا نلاحظ أن القصة قد حققت فعلاً المبدأ الأول، إذ أننا لم نر في سطورها أن للاستعمار دخلاً في تصميمها، وتنسيق عناصرها وترتيبها. ولكن النظرة الفاحصة تبدي بين السطور، الأشياء التي تخفيها السطور، فلو حللنا بعض التفاصيل التي لا يمكن أن نعمد إليها هنا، حتى لا نقع في إطالة غير ممكنة، فإننا سوف نرى في التفاصيل التي أتت مثلاً في جريدة العلماء، الإتقان الذي نجده عادة فيما يصنعه الاختصاصيون الذين يعملون بالمراصد الخاصة بالصراع الفكري، ولتوضيح هذه الملاحظة، بصفة عابرة، نقول على سبيل المثال، إن صاحب المقالة التي تنسب كتابي إلى مراسل جريدة كبرى تصدر بباريس، هو- كما نعرفه- لا يقرأ هذه الجريدة حتى يمكنه أن ينسب شيئاً إليها، وإذن فهو مكلف بأن يقول هذا القول. المهم أننا إذا تجنبنا الخوض في تفاصيل جزئية وعدنا إلى القصة في جملها، فسوف نجدها بعد أن حققت المبدأ الأول الذي يحيطها بالغموض الكافي، قد حققت المبدأ الثاني أيضاً، لأن المعركة لم تعد بين كاتب يدافع عن قضية وبين الاستعمار الذي تتناقض مصالحه مع تلك القضية، بل هي أصبحت في ظاهرها، معركة بين ذلك الكاتب وبين هيئات وطنية تزعم بأنها تمثل تلك القضية.

وهذه الخطة التي تحوّل طبيعة المعركة لصالح الاستعمار تطبَّق بنجاح في ميدان كفاح الجماهير، كما تطبق في ميدان كفاح الفرد، فحينما تكوّن الأحداث والظروف وحدة كفاح شاملة ضد الاستعمار، نرى هذا الأخير يشرع في خلق وحدات كفاح جزئية، حتى يحدث الخلاف والتنافس بين القوى التي تقاومه، فتنحرف بذلك المعركة من معركة بين قوى الشعب المستعمَر والاستعمار إلى معركة بين القوى الشعبية ذاتها، كما وقع هذا في كوريا وفي الصين وفي الهند بعد التقسيم، وفي إندونيسيا إلى حدٍ ما. وهذه الخطة تحقق للاستعمار هدفين: أولاً- تحطيط من المستوى الروحي أو الأيديولوجي، الذي كانت تدور فيه المعركة ضده. ثانياً- تشتيت القوى الموجودة في المعركة. فأما النتيجة الأولى فإنها تنساق بطبيعة الحال: فالمعركة إذا ما فقدت طابعها بوصفها وحدة شاملة، فإنها تفقد بذلك من معنوياتها وشيئاً من قداستها في نظر الجماهير. وهذه الملاحظة تفسر لنا ما يحدث في بعض المعارك التي لا زالت تجري تحت أعيننا اليوم. والأمم التي لها تجربة في ميدان الكفاح السياسي تعلم أن أكبر مواقفها في التاريخ، هي المواقف التي أملاها ما يسميه العرف السياسي (الوحدة المقدسة)، مثل الوحدة التي كونتها الثورة الفرنسية (¬1)، للقيام في وجه الحلف الملكي الأوربي. ¬

_ (¬1) في عهد من عهود تلك الثورة عندما تألفت الهيئة الثورية المعروفة باسم (هيئة السلم العام) ( Comité de salut public) .

إن أكبر لحظات التاريخ هي دوماً اللحظات التي تتكون فيها وحدة كفاح شاملة ضد الطبيعة أو ضد البشر. فعندما تكون المعركة على هذه الصورة فإنها تكون في مستوى القداسة، وذلك هو مستواها الأيديولوجي في أوجه. ولكنها حالما تفقد طابع الشمول فإنها تهبط من هذا المستوى. وعليه فالمعركة تصاب بالتدهور والانحطاط الأيديولوجي حالما تحتل فيها وحدات كفاح جزئية مكان وحدة الكفاح الشاملة، وحالما يحدث هذا الانحطاط أو الهبوط في المستوى الروحي، فإن القوى المكافحة تتبدد. وهذه هي النتيجة الثانية. وإننا نجد في تاريخ الإسلام صورة هذا التدهور الروحي، الذي يؤدي حتماً إلى التدهور السياسي، بوصفه نتيجة ثانية. إن واقعة صفين فصمت الوحدة الشاملة التي بناها محمد - صلى الله عليه وسلم - بأمر من ربه، فحطّت بذلك من مستوى المعركة التي بدأت يوم بدر، وهذا الحطّ أو الهبوط الأيديولجي لم يلبث أن أتى بنتائجه المشؤومة في الميدان السياسي ... مصداقاً لقوله عز وجل {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال 8/ 46]. إن الاستعمار يطبق ضمناً هذه الاعتبارات في خططه المقررة ضد كفاح الشعوب المستعمرة: إنه يهدف أولاً، إلى الحط من مستوى كفاحهم الأيديولجي، وذلك بأنه يحاول قبل كل شيء فصم الوحدة الشاملة التي تضفي على ذلك الكفاح القداسة وتهبه قيمة خلقية عليا، وهو يعلم أنه يحقق بذلك الأهداف السياسية المقصودة.

ومن الطبيعي أن يكون فكر في تطبيق هذه الخطة، ضد وحدة الكفاح الشاملة التي تكونت في باندونج. إنه فكر لاشك، كيف يحط من مستوى هذا الكفاح العارم. ويحل فيه وحدات كفاح جزئية مكان وحدة الكفاح الشاملة التي بعثت في قلبه الرعب، لأنها مكونة من شعوب إفريقية وآسيا جميعاً .. فلكي يحقق الهدف الأول ما كان عليه إلا أن يبذل ما يستطاع، من أجل ألا تجد هذه الشعوب قاعدة نظرية في صورة كتاب مثلاً، تركز عليها أيديولوجية كفاحها، ويجب أن نعترف بأنه نجح حتى الآن في تحقيق هذا الهدف إلى حد ما، وربما يقول التاريخ كيف نجح ... أما بالنسبة للهدف الثاني، فإن الاستعمار حققه أيضاً إلى حد ما بتصرفه إزاء بعض الاستعدادات الشخصية، وبتشجيع بعض المبادرات أو الإيحاء بها عند الحاجة. فحينما يعقد البانديت نهرو خلال عام 1956، مؤتمرا للكتّاب الآسيويين بنيودلهي، فإنه من دون شك يعمل في نطاق تحرير االشعوب المستعمَرة؛ ولكننا إذا فحصنا عملاً كهذا بنظرة أدق، فإن جانباً منه يبدو لنا وكأنه يلتقي بنوايا الاستعمار، وذلك بقدر ما يكون في انعقاد مؤتمر الكتاب الآسيويين، تعويض عن وحدة كفاح إفريقي آسيوي شاملة بوحدة كفاح آسيوي جزئية. وقد نعلم على ضوء ما بينا، أنه بمجرد هذا التعويض يحدث هبوط في المستوى الأيديولوجي، في الصراع الذي نشأ في مؤتمر باندونج، وهذا الرجل السياسي الكبير، الذي رافق غاندي في مرحلة التحرير، قدم بهذه الصورة، في الميدان الفكري، سابقة سيستغلها الاستعمار، في الميدان السياسي، بمساعدة رجل سياسي آخر، هو الدكتور نكرومه، الذي يقوم بعقد مؤتمر إفريقي (بأكره) في اليوم

الذي يجتمع فيه مؤتمر إفريقي- آسيوي (بكوناكري)، أو بعبارة أخرى: الرجل الذي يحاول أن يحل وحدة كفاح جزئية مكان وحدة الكفاح الشاملة. وقد نعلم ما في هذه المبادرة من تحقيق لخطة الاستعمار بهدفيها المذكورين. كما أننا نعلم عندما ينعقد مؤتمر الكتاب الزنوج في مكان ما، أن حدثاً كهذا يدل على نهضة الشعوب المستعمرة الفكرية، ولكن لا ننسى ما قد يكون وراءه من تقديرات الاستعمار، حتى لو فرضنا أننا لا نعلم مباشرة شيئاً عن هذه التقديرات بالنسبة إلى الصراع الإفريقي- الآسيوي. وهكذا يستطيع الاستعمار بطرق مختلفة، تحويل المعركة التي تنشأ بينه وبين القوى التحررية إلى معركة، أو على الأقل إلى منافسة، بين تلك القوى نفسها، كما رأينا كيف يحوّل معركة بينه وبين فرد- يكتب مثلاً- إلى معركة بين هذا الفرد وإخوانه أنفسهم ... وهكذا فلو عدنا إلى القصة الآنفة التي دلتنا على الخطة التي يطبقها الاستعمار، ليحوّل اتجاه المعركة عندما تكون في مستوى الفرد، ولو عبرنا الآن عن مفادها بمصطلح علم النفس، لسوف نجد أن الاستعمار استطاع، بمجرد وضع إصبعه على زر خفي، أن يحوّل المعركة إلى عملية نفسية ذات هدفين: فمن جانب نرى أنه قد ألقى على الكتاب الذي صدر، كل الأضواء التي تشوه صورته أمام الرأي العام، وتخلق حوله شبهات، ليس من السهل إزالتها في بلد تسيطر عليه الأمية والسياسة العاطفية. ومن جانب آخر نرى أنه قد خلق، أو حاول أن يَخلق، في نفس الكاتب عقدة، محاولاً أن يفصله بذلك عن القضية. وهذان الجانبان يمثلان في الواقع تطبيقاً محكماً للمبدأ الثاني، يستطيع معه

هذا الاستعمار أن يحطم وحدة الجبهة المعادية له في البلاد المستعمَرة، ويعطل نشاطها الفكري كيما يبقى النشاط السياسي أعمى، والأفكار دون جدوى. ومع ذلك فنحن هنا لا نحاول تفسير ظاهرة لا نملك كل أسرارها، إذ ليس لدينا معلومات مدققة تبين كيف نسق الاستعمار تفاصيل القصة، حتى تأتي ردود الأفعال، الموجهة ضد الكتاب موحدة على الرغم من صدورها من هيئات مختلفة، وإنما نريد أن نجعل هذه الظاهرة موضع التأمل لدى القارئ، ليدرك قوة الاستعمار في هذا الميدان. وأمام هذه القوة يدرك خطورة الموقف الذي يوجد فيه من يكافح في هذه الجبهة، عندما يتم عزله على الصورة التي أشرنا إليها. وقد يفهم القارئ من خلال المبدأ الأول والثاني، أنه ليس من مصلحة الاستعمار عندما يريد خنق فكرة، أن يدفع بجهاز البوليس والقضاء في المعركة، إلا في بعض الظروف، عندما يتأكد علمياً أن الخطة المدبرة قد تؤدي بالفرد الذي يجد نفسه في هذه الظروف إلى حافة الانتحار، ذلك لأن الخطة تكون قد أحاطت بجوانب حياته كلها، وطوقته مادياً وأدبياً، حتى يكون على وشك اليأس، وحينئذ ربما يتبين للاستعمار أن من كان قريباً من اليأس سيكون قريباً من الانتحار. إن المختبرات التي تقوم أعمالها على علم النفس، توجه هذه العمليات بكل دقة، حتى يكون فصل من فصول المعركة في بعض الأحيان، قريباً من التجربة التي يجربها علماء الحياة على بعض الحيوانات الصغرى، لاكتشاف حقيقة من حقائق علمهم، وهكذا يصبح الكاتب الذي يحاول نشر فكرة، حيواناً تجرب فيه بعض وسائل الصراع الفكري، ولا يكون طبعاً لهذه التجربة العلمية، من النوع الخاص، أي صدى في الشارع أو في الصحافة. إذ حينما يمر الكاتب بمراحل هذه

التجربة، فإنه يمر في الواقع بمراحل عملية نفسية موجهة، فهو يطارد ويحاصر ويهدد بالاغتيال وبالتعذيب ولا ينتهي الأمر إلى هذا، لأن الاستعمار كان يهدف في الواقع إلى اغتيال أشنع، وإلى تعذيب أفظع، يبقى سرهما في خفايا النفوس المحطمة، وفي أوضاع أدبية ومادية أضر بالكاتب وبأسرته من الشنق أو الإحراق. وقد يحدث في مثل هذه الظروف ألا يجد الكاتب مخرجاً سوى أن يوجه صرخة ليخرق بها الصمت الخانق الذي أحاطه به الاستعمار، فيوجه حينئذ كتاباً مفتوحاً إلى الرأي العام عن طريق صحيفة وطنية، غير أن الاستعمار قد أخذ الحيطة من هذه الناحية أيضاً، فتمر الأيام والأسابيع وتأتي أعداد الصحيفة متوالية، دون أن يجد الكاتب فيها الصدى الذي يخلصه من التطويق، الصدى الذي يأخذ بثأره من عدوه. لقد خيبت الصحيفة الوطنية رجاءه، وهنا يجد الكاتب نفسه فجأة أمام نوع من الحيوان مزود بضمير فيه شق؛ كذلك الشق لصندوق الصدقات الذي توضع فيه الصدقات، والاستعمار يلقي في هذا الضمير ما شاء من النقود، حتى يسخره في تلك اللحظة لا يريد تحقيقه في جبهة الصراع الفكري. ولا شك أنها أقسى لحظة يواجهها المكافح، الذي يشعر فيها أن عزله قد تم فعلاً من جميع النواحي، وهنا تتفتح الهاوية تحت قدميه، وإذا بالظلام يحوطه، ويغمر أعماق حياته فلا يرى أمامه طريقاً ولا حيلة. تلك هي أقسى لحظات الصراع الفكري، لأن المكافح بدأ يشعر بعبث موقفه. كأنما ألقى بنفسه للتهلكة دون جدوى، ولا شك أن هذه الظروف تتنوع أشكالها، لكنها تتمسك بالطابع الذي يضعه الاستعمار على كل ظروف الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، تطبيقاً للمبدأين اللذين يكونان منهجه العام في

هذا الصراع، وبعبارة أخرى: إن الاستعمار سوف يجد في كل الظروف من يسلم إليه، مفاتيح القلعة عندما يلجأ إليها المكافح، ليتحصن فيها خلال معركة عنيفة، إنه سوف يجد من يسلمه تلك المفاتيح لأنه وضع بعض النقود في فتحة ضميره. وغني عن البيان أن صيحة الفدائي، أو إشارة الخطر التي أطلقها قد تذهب دون أن تنبه الرأي العام، لأن الاستعمار استطاع عزله وإحاطته بصمت عميق. إن هذه هي حقيقة الوضع الذي يوجد فيه الفدائي، في بعض مراحل الصراع، ولكن الأمثلة البسيطة التي قدمناها لا تعطينا الفكرة الصحيحة عن دقة الاستعمار ومهارته في هذا الفن. إن فنه يبلغ أوجه من الإحكام، عندما لا تبقى لديه الوسائل المادية، بمعنى أنه لا يستطيع استخدامها في ظروف معينة، وحينئذ تضطره تلك الظروف إلى الوسائل العلمية البحتة. ماذا يفعل الاستعمار عندما يكون ممكناً، أن يتصرف في المعركة بالإرهاب والإغراء، وبضمير يوجه بنقود يلقيها فيه من فتحته، وبما يملي على صحيفة (وطنية) كي تلزم السكوت، أو أن تختفي في ظروف معينة، عندما يكون غير كاف أو غير ممكن، تطويق المكافح بالصمت وبالظلام. ماذا يفعل حينئذ الاستعمار؟ يجب أولاً أن نرى كيف يرتبط الصراع الفكري بالقضية السياسية في البلاد المستعمرة: إن هذه القضية تشكل على مسألتين هامتين هما حسب اطرادهما الطبيعي: أولاً: تجميع قوى الكفاح التحرري من أجل الاستقلال السياسي.

ثانيأ: توجيه هذا التحرر من أجل الاستقلال النفسي. فبالنسبة للمرحلة الأولى قد بينا كيف يحرص الاستعمار على ألا تتجمع تلك القوى تحت راية سياسية مقعدة، وكيف أنه يستخدم من أجل ذلك وسائل مختلفة. وقد رأينا مثلاً كيف يستخدم المنديل الأحمر والأضواء الموجهة. وإن علينا هنا أن نكوّن فكرة عن المرحلة الثانية، حتى نعرف صورة الصراع الفكري في هذه المرحلة. فكفاح الهند وباكستان مثلاً قد بدأ في ظروف واحدة، وعلى أرض واحدة، وقد حققت القوى التحررية التي تجمعت تحت راية هذا الكفاح الاستقلال السياسي كما نعلم. كما أننا قد رأينا كيف انتهت هذه القوى، بعد أن حققت الاستقلال السياسي، إذ ذهب بعضها مع الهند، وبعضها مع باكستان في اتجاهين مختلفين تمام الاختلاف. ونحن نرى اليوم بعد أن تحقق استقلال تركيا على يد أتاتورك، كيف أصبح من خلفه في أنقرة، يتصرف في هذا الاستقلال لصالح الاستعمار حتى أصبحت تركيا قاعدة للتجسس لصالح أمريكا. من هنا نعلم مدى الأهمية التي يعطيها الاستعمار إلى هذه المرحلة، والمكان الذي تحتله في التخطيط العام لسياسته العليا، وبالتالي المكان الذي تحتله في الخطة المرسومة للصراع الفكري في البلاد المستعمَرة. فإذا أدركنا أن مقتضيات تلك السياسة العليا تفرض رقابة شديدة على نقل وبيع السلاح في البلاد المستعمرة، وقد أدركنا ذلك بالتجربة المباشرة عندما قامت معركة التحرر، ولا بد أن ندرك أيضاً أنها تفرض رقابة شديدة على حركة الأفكار في تلك البلاد.

ولكن تصور هذة الرقابة الأخيرة سوف يكون ضعيفاً أو غير ممكن في تلك البلاد لسببين بيناهما فيما تقدم وهما: أولاً: الأمية السائدة في البلد التي تجعل الشعب غير مؤهل للصراع الفكري، لأنه يجعل قيمة الأفكار أدوات كفاح وتحرر. ثانياً: السياسة العاطفية القائمة في البلاد تجعل القيادة السياسية على حذر من الأفكار، فهي تخشاها كما يخشاها الاستعمار نفسه، لأنها عادة لا تتفق مع مركب الأفراد الذي يمثل تلك القيادة. وهكذا نجد أنه عندما يرتفع الستار عن حدث في الصراع الفكري، فإن هذا الحدث يبدأ كمسرحية ذات شخصيات خمس: فكرة كشفت عن وجودها المراصد المختصة بالصراع الفكري، وشعب يجهل دخولها على المسرح، وقيادة تتجاهلها، وصاحبها الذي يحاول تبليغها، والاستعمار الذي حاول خنقها. ولقد سبق أن تساءلنا كيف يفعل الاستعمار عندما يفقد الوسائل المادية وتضطره الظروف إلى الوسائل العلمية البحتة. إن هذا السؤال يتضمن في الواقع جانبين يتعلق أحدهما (بالكيفية) والآخر (بالسببية). ولسوف نتناوله، من الجانب الأول فقط، أعني سوف نتساءل (كيف) يفعل الاستعمار حتى يخنق الأفكار، لا (لماذا) يفعل ذلك؟ لأننا قد نعلم أحياناً السبب الذي يدفع الاستعمار لمقاومة الأفكار، دون أن نعرف (كيف) يقاومها. فماذا يفعل عندما تعطيه مراصده إشارة عن ظهور فكرة؟ كيف يتصرف ليحول بينها وبين المجتمع الذي يحاول صاحبها نشرها فيه؟

هذا هو موضوعنا. إنه ينبغي لنا أن نتصور الفكرة هدفاً يصوب إليه الاستعمار مدفعيته: فالفكرة هدف يمكن إصابته، منفصلة أو متصلة بصاحبها. ولسنا نريد هنا أيضاً أن نعالج الموضوع في رحابته وسعته، وإنما نريد فقط، أن نلقي عليه ضوء تجربة خاصة نرى خلالها كيف يستخدم الاستعمار الوسائل العلمية في الصراع الفكري في حالة معينة. إننا نراه يصوب مدفعيته على اسم كاتب ليصيب فكرته إصابة، يصبح الاسم معها نقطة القياس لتوجيه خط النار لمدفعيته. إننا نعلم أن الترسانة الاستعمارية التي تعد سلاح الصراع الفكري، مزودة بمختلف أنواع القذائف، ولكن نريد وصف نوع خاص منها، يمكن أن نقول إن مكتشفه هو العالم الروسي بافلوف، اكتشفه حينما قام، على ضوء تجاربه المشهورة، علم النفس التجريبي، الذي يهتم بدراسة رد الفعل المنعكس ( Réflexologie). وربما أوردنا ضمناً، إشارة إلى هذا الموضوع في القصة التي ذكرناها عند الحديث عن الكتاب الذي نشر بالجزائر، فإن القارئ أدرك لا شك بين السطور أن ردود الأفعال التي تقبلته بها الصحافة (المناضلة)، كانت في الواقع طلقات من مدفعية الاستعمار، بقذائف من نوع خاص: النوع الذي يحدث في الرأي العام شيئاً من النفور نحو الكتاب. فالقصة نفسها، تدخل في نطاق الأسلوب العلمي الذي يتبعه الاستعمار في الصراع الفكري، وتعطينا فكرة عامة أو مقدمة، عن كيفية استخدام بعض قواعد علم النفس في هذا الصراع، كما سنشرح ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد. وربما عرضت للقارئ إشارة إلى هذه القصة في الترجمة العربية للكتاب

نفسه، عندما نشرت بالقاهرة سنة 1957، فقد ذكرت مجملها في هامش إحدى صفحات تلك الترجمة، للفت نظر القارئ العربي إلى إحدى الظواهر التي تؤثر في الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ألا وهي القابلية للاستعمار. ولكن حين أوردت هذه القصة، على سبيل التنبيه للقابلية للاستعمار، لم أكن أتوقع أن الاستعمار كان يعد في الوقت ذاته خطة لمقاومة جميع الكتب، التي أتيت إلى القاهرة من أجل نشرها بالعربية. ولما لم يبق في استطاعته أن يمنع صدور هذه الكتب، بمجرد وضع إصبعه على زر، أو بإصدار أمر قاهر، كما كان الأمر ممكناً في الجزائر، فلم يبق إذن لديه إلا أن يستخدم وسائل أخرى، ومنذ هذا الحين تصبح خطته العلمية في الصراع الفكري، في كل وضوحها. إن الكاتب يشعر في بعض الظروف، أنه ذرة يستطيع الاستعمار تحطيمها بكل سهولة، لولا أن تلك الظروف تضطره إلى احترام الشكليات، التي تصبح في النهاية هي الحصانة الوحيدة لذلك الكاتب، حينما يجد نفسه فرداً معزولاً عاجزاً. ولكن احترام الشكليات هو نفسه من الأسباب التي تضفي على المعركة الطابع الخاص، عندما يلجأ الاستعمار إلى الوسائل العلمية البحتة التي نحن بصدد الحديث عنها. فلنعد من هذا الاستطراد، إلى قصة صدور ترجمة (كتاب شروط النهضة ومشكلات الحضارة) التي تضمنت كما قدمنا، إشارة وجيزة إلى هذا الجانب من الصراع الفكري. فهي تكوّن واقعة مادية من الصراع الفكري، في مرحلة من مراحله، واقعة تعطينا الفرصة لنرى رأي العين، كيف أن الاستعمار يستغل القواعد العامة

في علم النفس، فيطبقها على وسط إنساني معين قد درس من قبل استعداداته الخاصة، بالنسبة إلى مقتضيات الصراع الفكري، ونسيج القصة التي نتحدث عنها هنا يشمل هذه المقتضيات وعلاقتها بقوانين علم النفس. والطريقة في ذاتها تتسم ببساطة ملحوظة، اتساماً تمثل معه في صورتها النظرية ما يمكن أن نسميه (مرآة الكف)، أي المرآة التي تعكس عليها حالة الحرمان، أو حالة نفور إزاء الشيء الموضوع للانعكاس. والصورة النظرية لهذه المرآة تكون على النمط التالي: ـ[مرآة الكف مصباح نفسي عاكس ... (موضوع الانعكاس) ... مصباح نفسي عاكس مصباح نفسي عاكس]ـ وهذا التخطيط يطبق على علم النفس، قاعدة بصرية بسيطة: إننا نعرف أن صورة الشيء تتغير حسب الأضواء التي تسلط عليه، وتطبق هذه القاعدة في فن التنوير، خاصة في المتاحف حيث نريد عرض بعض الأشياء في ضوء خاص. هذه القاعدة تطبق أيضاً في الإطار العقلي، (فموضوع الانعكاسات) هو هنا (فكرة) نريد أن نعطي عنها صورة معينة، وبما أن الفكرة شيء لا يرى؛ أي شيء لا يمكن عكسه على مرآة مادية، فيجب أن نعكسه على مرأة ذهنية، بإضافة ما يجعله مرئياً في هذه المرآة، فمن أجل هذا يكون من المفيد أن تلصق الفكرة باسم صاحبها، حتى تجرى عليها العمليات التي تجرى على (الفكرة المتجسدة).

وبعبارة أخرى، إن هذه العمليات تجري في الواقع على اسم صاحب الفكرة، ثم يلحق أثرها النفسي الفكرة بالتبعية، أي إن الانعكاسات التي تسلطها (مرآة الكف) على الاسم، تنعكس في النهاية عن الفكرة. هذه هي القاعدة العامة. والآن فلنشرح كيف تطبق هذه القاعدة في حالة وقعت فعلاً، وكيف تركب مرآة الكف في مثل حالة كهذه. والواقع أنه في الوقت الذي كانت فيه ترجمة كتابي (شروط النهضة ومشكلات الحضارة) تحت الطبع، وأصبحت الترجمات العربية لمؤلفات أخرى متوقعة، ظهر في مكتبات القاهرة كتاب كبير يضم مجموعة المقالات التي نشرها السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في مجلتهما (العروة الوثقى)، والقارئ يعلم لا شك ما يكون لكتاب هذا عنوانه من قيمة لافتة، لأنه يعلم ما لهذا العنوان من صدى في تاريخ العالم الإسلامي الحديث، إذ أن كلمة (العروة الوثقى) تحمل دوي معركة فكرية سجلتها النهضة الإسلامية تحت قيادة الفقيدين العظيمين، وخاصة ما دار من جدل بينهما وبين أرنست رينان وجبرائيل هانوتو. ولا يخفى أن ما يحمله عنوان كهذا- (العروة الوثقى) - من وقار عند الجماهير الإسلامية، وما يؤدي إلى نفوسها من إشعاع عهد ماجد لازال حياً في ذاكرتها، يجعل منه أحسن لافتة يوضع فيها شيء لإلفات النظر إليه بصورة معينة، وإذا استخدمنا مصطلحاتنا نقول: إنه يكون خير مرآة تعكس الأضواء التي نريدها على هذا الشيء حسب تصرفنا، لتظهره في الصورة التي نتمناها. ولقد أورد مقدم هذا الكتاب، ذي العنوان المثير، اسمي بصفتي مؤلفاً لكتاب معين هو (مستقبل الإسلام) ورجع إليه مرتين في مقدمته، ولا شك أن

هذا يشرفني بصفتي مؤلفاً يُذكر اسمه على لوحة دعاية مثل (العروة الوثقى)، ولكن يجب أن أوضح للقارئ، أن اسمي قد ذكر على أنني مؤلف فرنسي ((عاش في الشمال الافريقي، وامتزج به وأحبه، واعتنق الإسلام، ولاقى الأهوال في سبيل الدفاع عنه)). هذه هي القصة في كل بساطتها، أو في بساطة مظهرها: فهي في ظاهرها بريئة ومادحة فعلاً، ومن كتبها أو من طلبت منه كتابتها بهذه الصورة قد أودع فيها دون شك براءته ونيته الطيبة. ولكن تجربة ربع قرن علمتني كيف أتعرف على حقيقة شيء من هذا القبيل: فإنني أعرف أين تصنع ولماذا تصنع هذه البضاعة. فإن من وضع عليها خاتمه، قد طلب منه ذلك كي لا يظهر الاستعمار في المعركة طبقاً للمبدأ الأول من منهجه، كما بينا ذلك؛ وهو لاشك قد فعل ذلك دون أن يعرف على أي بضاعة وضع خاتمه. ونبقى إذن بالفعل أمام قصة بريئة على ظاهرها، لم يرَ فيها القارئ أثراً لكيد كائد، وليس من موضوع البحث هنا أن نقول كل ما تعنيه هذه القصة في إطار الصراع الفكري، وإنما نريد الاهتمام بما تعنيه في جانب معين بحد ذاته حتى لا نقع في تطويل غير مناسب في هذا العرض. فنحن نريد هنا أن نعطي للقارئ فرصة التأمل في نبذة معينة من الصراع الفكري، فليعد نظره إلى ألفاظ القصة التي نحن بصددها ثم فلنقل له، لنضعه على الطريق المستقيم؛ إن مالك بن نبي لم (يعتنق الإسلام) - كما يقول صاحب مقدمة العروة الوثقى- بل هو يدلي إلى الإسلام بعرق مسلم منذ ثلاثة عشر قرناً على الأقل، ولعل القارئ حينما يعلم هذه الحقيقة يدب في نفسه شعور غامض بأنه أمام لغز يسلمه إلى الحيرة.

ولكن الاستعمار قد أخذ في حسابه جميع العناصر النفسية التي تكون هذا لموقف السلبي، فهو يدرك أن الوسط الإسلامي مصاب بشيء من ضعف الإرادة، الذي يتركنا في حيرتنا أمام بعض الألغاز فلا نحاول حلها؛ أو بصورة أعم إننا نقف في منتصف الطريق لا نحاول الوصول إلى نهايته، وهذا يتجلى في هروبنا من المشكلات حينما تفاجئنا. وهكذا تتجدد المشكلة، فالاستعمار يدبر مكائده عن معرفة تامة بالنفسية المسلمة، فهو يعرف النقص الذي يمنع عقولنا من أن تضع بين الوقائع الارتباط المطلوب، الذي يجعلنا نضعها تحت قاعدة موحدة ونستخلص منها حقيقة عامة، ولا داعي للإطالة هنا، فقد أوضحت في غير هذا المكان هذا النوع من النقص، الذي لم يخطئ أحد المستشرقين الإنجليز حين أطلق عليه (الذرية) أي الاتجاه إلى اعتبار الوقائع والأحداث مجزأة منفصلة فردية، دون أي رباط عضوي بينها، كأنما هي في مجموعها لا تكون وحدة معينة، أي حلقة من التاريخ وفصلاً من فصوله، وإنما تكون في النظرية الذرية كوماً من الأحداث والوقائع جمعتها الصدفة، في غير ما تركيب ولا تنسيق، فلا يمكن أن نستخلص من كوم كهذا، كونته الصدفة المحضة أية نتيجة عملية؛ أي قانوناً عاماً نطبقه في حالات خاصة. وهكذا عندما نفصل القصة التي نتحدث عنها، عن الملابسات التي تتضمنها بوصفها تفصيلاً من تفاصيلها وحلقة من سلسلتها في اطراد معين، فإننا سوف نعدها (غلطة مؤسفة) على الأكثر، وهذا كل ما نأخذه من واقعة عندما نعزلها عن قريباتها دون أن تفقد الواقعة- بسبب موقفنا البسيط والمبسط للأشياء- تأثيرها النفسي في سير الصراع الفكري، كما سنبين ذلك وكما يجب أن نفهم بذلك بداهة، إذ أن جهلنا لميزات شيء ما، لا يعني أنه يفقدها فالجاذبية كانت جاذبية قبل نيوتن. أما إذا نطرنا للواقعة من خلال شبكة علاقاتها المنطقية العضوية، فإن

نظرتنا تشملها في نطاق اطراد تاريخي وتسلسل حوادث، تجعلنا نقدرها بوصفها نتيجة للواقعة التي قبلها وعلة للتي سوف تأتي بعدها، وحينئذ سوف يتحدد مركزها في الصراع الفكري. وتظهر لنظرنا أهميتها السياسية، إن أهميتها الحقيقية لا تبدو لنا حينما تكون منفردة، بل حينما ننظر إليها بمقتضى قرابتها من وقائع أخرى، أو بتعبير آخر بمقتضى شبكة علاقاتها في اطراد معين، يعطيها معناها الصحيح، بقطع النظر عن حرفية مضمونها، الذي قد يكون بسيطاً جداً. وهذا ما يجب أن نراعيه بالنسبة إلى كل تفصيل يتصل بحياة الأفكار وبحركتها، بأن نقدر حساباً لكل جزئية تتضمنها ملحمة فكرة تكون حلقة من حلقات الصراع الفكري. فينبغا علينا إذن أن نتناول (الأغلوطة) التي وردت في مقدمة العروة الوثقى، على أنها جزء من اطراد معين، أي بوصفها نتيجة للعنصر الذي سبقها، ومقدمة للذي سيتلوها. فنحن نجدها مسبوقة بعنصرين مفسرين لها، لا بعنصر واحد: إنها مسبوقة بصدور ترجمة عربية لأحد كتبي في لبنان، نشرت دون علمي ثم ألغيت منها نبذة وجيزة عن حياتي، كما ن الناشر الفرنسي أضافها للطبعة الأصلية طبقاً للعرف المعمول به في بعض دور النشر بفرنسا. فيجب إذن أن نقول أولاً إنه لولا التصرف في أحد كتبي دون علمي، وثانياً لولا إغفال نبذة عن حياتي في الطبعة الفرنسية، لما أمكن لصاحب مقدمة العروة الوثقى، أن يرجع لكتابي مرتين في سياق معين. ثم ما أمكنه أن يجد مسوغاً لإصدار حكمه عليّ بأنني ((كاتب فرنسي اعتنق الإسلام)). وعليه فالأغلوطة، مهما كانت مقصودة أو صادرة عن سهو، فإنها بحكم

الوراثة النفسية التي تنشأ، في أي الأحوال بينها وبين العنصرين السابقين، تدخل حتماً معهما في اطراد نفسي في تسلسل منطقي واحد. وعليه فكل حكم يفصل الأغلوطة عن هذا الاطراد، سوف يكون على ضوء ما قدمنا، حكماً (ذرياً)، أي حكماً مخطئاً على المسألة. وواضح أن ظهور ترجمة عربية لكتاب لم أُسْتَأذن في ترجمته، وإغفال نبذة منه عن حياة مؤلفه، (والأغلوطة) الناتجة عنهما تتصل كلها بالسلسلة نفسها من الوقائع. ويجب أن أكرر هنا مرة أخرى، أنني لا أحاول تفسير (علة) الأمر، وإنما أهدف إلى توضيح (كيفية) وقوعه كي لا ننجرّ إلى استطراد لا يناسب هذا المقام. ومهما يكن من أمر فعلى ضوء ما قدمنا، نجد أن الواقعة التي نحن بصددها. لا تتركب من عنصر، هو الخطأ الذي صدر فيما يتصل بشخص في مقدمة (العروة الوثقى)، ولكن من عناصر ثلاثة: ظهور الترجمة السابقة وإغفال شيء منها، ثم الخطأ الذي ينتج عن ذلك. فالوقائع الثلاث متماسكة، وإذا ما تناولناها بوصفها وحدة، كما يبق مجال لأن نصدر على جزء منها حكماً قائماً على مبدأ الصدفة، ولم تعد تمر علينا (الأغلوطة) بسيطة، كشأنها حين يلقي القارئ النزيه، نظرته الأولى عليها، بل إنها إذا ما نظرنا إليها نظرة تشمل صلاتها السياسية وطبقنا عليها منطق الصراع الفكري، تدل بكل بساطة، على أن الأفكار التي جئت إلى الشرق من أجل نشرها، قد وقعت داخل شبكة المراصد الفكرية التي سبقت الإشارة إليها، وأن حركتها أصبحت موضع رقابة معينة. هذه هي النقطة التي كان علينا توضيحها أولاً، فها نحن أولاء قد أوضحناها هنا بقدر الإمكان.

والآن يجب أن نرتب حولها العناصر التي أدلت بها مقدمة العروة الوثقى، لندرك جيداً كيف تكوّن هذه المجموعة من المعطيات المرآة التي قدمنا إلى القارئ فكرة عن صورتها النظرية، وعن كيفية تسخيرها لحاجة الصراع الفكري. فالعروة الوثقى بحكم صلاتها التاريخية العريقة في ذهن القارئ المسلم، تكون بالنسبة إليه مرآة مثالية، يمكن أن تعكس على فكره ما نشاء عكسه، أي أنه في إمكاننا أن نستخدمها مرآة (كف) أو مرآة حرمان، إذا ما عكسنا عليها الانطباعات والخواطر السلبية متذرعين بالمؤثرات النفسية المناسبة كما سنبين ذلك. إنه يمكننا استخدامها مرآة كف بالنسبة إلى أفكار كتاب من الكتب، إذا ما وضعنا اسم مؤلفه أمام (المرآة) بطريقة معينة، وفي الضوء المناسب للإيحاء الذي نهف إليه. ولا يخفى على فطنة قارئ ما توحي به عبارة ((كاتب فرنسي اعتنق الإسلام))، عندما تظهر في ضوء خاص، يسلطه مصباح مزدوج، مركب من اسمين آخرين. فإن اسمي في المقدمة المذكورة يظهر فعلاً بين اسم الأستاذ ليوبولد فايس مؤلف كتاب (الإسلام على مفترق الطرق)، واسم حيدر بامات مؤلف كتاب (مجالي الإسلام)، والقلم الذي وضع اسمي بين هذين الاسمين، هو قلم كاتب قد تذوقت كثيراً ما نشره عن التصوف في الإسلام، وإذا ما اعترفنا لهذا الرجل من ناحية بحسن النية، فإنه يجب أن نعترف من ناحية أخرى بدقة الاستعمار الجهنمية، إذ أنه لا يستخدم أصحاب الشهوات وذوي الميول السيئة فحسب، بل يستخدم أحياناً ذوي النوايا الطيبة؛ ومعروف كيف يستغل سمعتهم الخلقية مراعاة لمبدأ الغموض في كل الظروف. فهو في المجال السياسي خاصة، يستخدم

الفضيلة ضماناً ليبعد بها الشكوك، التي ربما تثيرها بعض العلاقات المريبة بين (مركب الأفراد) الذي يمثل سياسة عاطفية في البلاد المستعمرة، والجهاز الذي يشرف بالطرق العملية، على الصراع الفكري في تلك البلاد، ومن أثر هذا المبدأ في التطبيق، أنه يضع بين الرؤوس التي تتركب على الآلة الهاضمة رؤوساً لا يتطرق إليها الشك. وإذن فلا غرابة أن يستغل الاستعمار رجلاً طيباً، دون علمه، ليقحم اسمي في (مرآة) مكونة من العناصر التي ذكرناها، أي من اسم (العروة الوثقى)، الذي يمثل- بسبب الهالة التي يحيطه بها تاريخ الإسلام الحديث- المرآة العاكسة في أجلى صورها، ثم اسمي الكاتبين الكبيرين، باعتبارهما مصباحين نفسيين. ليسلطا على موضوع الانعكاس الأضواء المناسبة، ثم اسم صاحب المقدمة الطيّب القلب بصفته ضماناً أدبياً يبعد الشكوك عن المرآة. وعلى هذا فالتركيب العملي يتم على هذه الصورة: ـ[العروة الوثقى ليوبولد فايس ... (اسم المؤلف المقصود) ... حيدر بامات الضمان الأدبي]ـ فما هي الآن الآلية النفسية التي طبقت في التركيب؟. أو بعبارة أخرى كيف تصاغ المشكلة في مصطلح علم النفس، في معركة فكرية أعلنت ببدئها مراصد الاستعمار، وأصدرت في شأنها الإدارة المختصة الأوامر اللازمة؟

إنه حينما تبتدئ المعركة ضد فكرة فإن اسم صاحبها لا يستخدم كما ذكرنا إلا في توجيه النيران، ولهذا يوضع في وسط المرآة، في مركز تلاقي الأضواء، أي مركز تلاقي الإيحاءات التي يراد عكسها عليه، كي يعكسها هو بدوره على الفكرة المقصودة بالذات. فمن المؤكد مثلاً أن القارئ في العالم الإسلامي يطلع على الكتب القيمة التي نشرها الأستاذ ليوبولد فايس، ويستفيد منها فائدة عظيمة، ولكن هذه الأفكار - لمعامل شخصي يصدر عن تاريخ صاحبها- يختلف تأثيرها في (العقل) عن تأثيرها في (الضمير)، لأنها خاضعة لذلك المعامل الذي يربطها بصاحبها، فجهود أحد المؤلفين قد يؤدي إلى إدراك الحقائق، بينما يؤدي مجهود مؤلف آخر، ويهدف في أساسه، إلى تكييف الحقائق، إذ أن الأول يقلم بعض التفسيرات للقارئ، بينما يحاول الآخر أن يوحي إليه ببعض (التغييرات) الاجتماعية. وهذا الاختلاف، في موقف المؤلف وتأثيره الخاص، إنما يحدث في صورة الفعل الإرادي أو غير الإرادي، بمقتضى صلاته الشخصية بالوسط الذي يتوجه إليه، حيث تنعكس في أفكاره آلياً كانعكاس لحياته الشخصية فيما يكتب. وبعبارة أخرى لا يمكن لكتابات الأستاذ ليوبولد فايس أن تقدم للوسط الإسلامي مطالب (تغييرات) معينة في منهج حياته، أي أن تقدم له نظرية تقتضي تعديلاً في السلوك الجماعي، ولا دخل لإرادته في هذا الأمر، بل لعله يحدث بصفة لا شعورية تماماً. وحين نؤكد هذا، فنحن أبعد ما نكون عن تقويم أفكار الأستاذ ليوبولد فايس، وإنما نذكر فقط واقعاً اجتماعياً- نفسياً يتصل بالوضع الخاص بهذا المؤلف، بالنسبة إلى الأوضاع العامة في المجتمع الإسلامي.

ولسنا نفقد الدليل على ذلك، لو كنا في موقف التسويغ، إذ يكفينا أن نذكر القارئ بالجدل الذي دار منذ سنوات حول اسمه، وكيف أسهمت فيه مجلة كانت تصدر آنذاك بالقاهرة، فقامت بالدفاع عنه، ولقد ترجمت هذه المجادلة في الواقع المحسوس، الظاهرة التي تحلل هنا آليتها النفسية. وما يقال عن الأستاذ ليوبولد فايس يقال مثله عن الأستاذ حيدر بامات، فإن اسمه كاتباً، يستحق تقدير القارئ دون أي شك، ولكنه قد يكون هناك انعكاس حرماني على أفكاره بسبب التعامل الشخصي الصادر عن تاريخ الرجل. فإذا حدث أن مؤلفاً أطلق على نفسه ذلك الاسم- حيدر بامات- في ظروف معيننة، ثم أطلق على نفسه أيضاً اسم جورج ريفوار، في ظروف أخرى، فإننا ندرك ما يكون لاسم كهذا من تأثير حرماني على أفكار صاحبه، كما ندرك في الوقت نفسه، أن تلك الأفكار قد تكوّن مجموعة هامة من (التفسيرات) القيمة. دون أن يكون لها فعالية من حيث (التغييرات) الاجتماعية المنشودة. ولعل القارئ يدرك أننا قد تجنبنا حتى الآن الاعتبارات التي تتصل بالتخطيط السياسي العام، بينما نعلم أن خطة الاستعمار ضد الأفكار تشمل جانبين، الجانب الذي يهتم بالشؤون العالمية والجانب الخاص بالبلاد المستعمَرة، كما تجنبنا عامة الخوض في السياسة، على الرغم من أن محور الموضوع هو السياسة. فإن الفكرة لا تقاوم إلا لأنها العضو الفعال في الحياة السياسية، ولكننا مع ذلك، تجنبنا الخوض في الاعتبارات السياسية، حرصاً منا على ألا نتناول سوى الاعتبارات ذات الطابع الفكري فحسب. فإذا وضعنا هذه الاعتبارات في محيط المرآة التي قدمنا صورتها فسندرك ما يعكسه جهاز مركب على هذا النحو، من انعكاسات حرمانية، عن الاسم الموضوع للانعكاس في تلك المرآة.

فالقارئ المسلم الذي تتجه إليه الأفكار، المقصودة بالذات، يعكس عليها، بصفة آلية ما عكسته في نفسه (مرآة الحرمان) على اسم صاحبها، فيكون هذا الاسم بنقطة التقاطع، حيث تتقاطع انعكاسات الكف والحرمان المسلطة عليه من قبل تلك المرآة، التي تعكس عليه الإيحاءات السلبية الصادرة عن المعامل الشخصي، الخاص بالمؤلفين اللذين أقحم صاحب مقدمة العروة الوثقى بينهما في تركيب الجهاز، وهنا ينطلق هذا الجهاز من تلقاء ذاته طبقاً للقوانين النفسية المحددة، التي يجيد الاستعمار استخدامها في ميادين الصراع الفكري، وهو يعلم أن القارئ المسلم عامة بسبب تخلف بلاده، لم يمتلك المقدرة الكافية في نقد الأشياء، حتى إنه لا يؤسس أحكامه على الأفكار، على جوهرها وطبيعتها مباشرة، ولكن على صورتها في مرآة معينة، أي بعبارة أخرى على الصورة التي يريد الاستعمار إبرازها فيها، فهو يحكم عليهاطبقاً لانعكاسها على بصره، لا وفقاً لبصيرته؛ وبمقتضى الضوء النفسي الذي يسلط عليها من الخارج لا بمقتضى ما في جوهرها من برهان. والحق أن هذا ليس شيئاً خاصاً بالشاب المسلم، فهو قد اتصف به عرضاً بسبب قصور بيئته بالنسبة إلى النمو العقلي، إذ إنها تُعَد حديثة العهد في هذا المجال؛ حتى إن مرآة العروة الوثقى تجبره في مثل هذه الظروف على أن يعكس ما يتلقاه من اسم الأستاذ ليوبولد فايس والأستاذ حيدر بامات على الأفكار التي أقدمها له في كتبي، ومما يزيد في استعداده لهذا ما يكون قد سبق في ذهنه عن (كاتب فرنسي اعتنق الإسلام). وفي النهاية، ربما تصبح الأفكار غير مفهومة طبقاً لطبيعتها ولجوهرها، ولكن طبقاً لما تبدو في ضوء مصباحين نفسيين. ومع ذلك فقد يكون للتركيب أهداف أخرى، خارج المجال الذي خصصناه بهذا التحليل، فقد تكون المرآة زمنية، تؤجل تأثيرها حتى تؤديه في ظروف

معينة؛ وبصورة عكسية يصبح الاسم الموضوع في نقطة الانعكاس، يلقي بدوره، ما تلقاه في هذا الوضع، على أفكار صدرت في كتاب معين، ككتاب (الفكرة الإفريقية-الآسيوية) على وجه المثال. وقد يزيد التركيب من الدقة والإحكام بصورة شيطانية، حينما يجعل المؤلف الذي عرض اسمه في هذا الضوء الخاص عاجزاً على أن يصحح الوضع، لأنه من الصعب عليه، في مثل هذه الظروف أن يقوم بمثل هذا التصحيح. فالمرآة تصبح إذن، تعمل شبكة للأفكار، ولصاحبها نفسه؛ ويكون الاستعمار قد حقق بتركيبها هدفين، لأنه يكون قد صنع منها شبكة ذات دقة نفسية يتصيد بها الأفكار، وفي الوقت نفسه، شبكة ذات دقة أخلاقية لمؤلفها كي يمنعه من رد الفعل. وتلك على وجه التحديد هي القمة التي تبلغها خطة الاستعمار في الصراع الفكري، ويتم فيها بكل دقة تطبيق مبدأ الغموض ومبدأ الفعالية ... ***

الفصل الثالث

الفصل الثالث تركيب آخر لمرآة الكف ـــــــــــــــــــــــــــــــ لو أننا اقتنعنا في هذا العرض بالجانب القصصي، لكانت القصة التي تابعنا تفاصيلها إلى هنا كافية؛ ويمكن إذن أن نسدل الستار على المسرحية التي وضعناها لفصل من فصول الصراع الفكري، للتعريف بحلقة من حلقات سلسلته. بيد أننا لا نريد عرض قصة وإنما تحليل (حالة)، لنظهر ما يتصل فيها بجهود الاستعمار من ناحية، وما يتصل بجمود القابلية للاستعمار من ناحية أخرى. ولقد يكون مفيداً بعد أن نكون قد لاحظنا هذه (الحالة) في صورة معينة، أن نلاحظها في صورة أخرى، أي أن نتتبع الموضوع في ظروف وأحوال مختلفة، كي نحيط به من أكبر زاوية ممكنة وكي نقدم عنه للقارئ أكثر ما يمكن من المعلومات. فلا بأس إذن أن نعود إلى الموضوع في ظروف جديدة حتى ترى كيف يتابع الاستعمار عمله، وكيف يجدد خططه حسب الظروف، وكيف تستمر القابلية للاستعمار في طريقها، فلا هي تستفيد من تجربة مرت بها، ولا هي تحاول أن تستفيد من تجربة تقدم إليها. إنه لا حاجة بنا إلى القول دائماً إن الاستعمار ولا شك هو الشر، وإنه صورته المجسمة على الأرض، فنحن في هذه النقطة متفقون.

ولكن من هذه النقطة بالضبط ينطلق طريقان أمام العقل الذي يريد مواجهة هذه المشكلة: فالطريق الأول ينطلق من سؤال ينبع من نفوسنا، في قليل أو كثير من الوضوح، حينما نقول: لماذا هذا الشر موجود؟ والطريق الثاني ينطلق من سؤال يختلف تماماً عن الأول، يدركه عقلنا أيضاً في قليل أو كثير من الوضوح، حينما نقول: لماذا نحن، المسلمين، مُعَرَّضون خاصة لهذا الشر؟ ولو أننا أعرنا الموضوع نصيباً من التأمل، لوجدنا أن كلا الطريقين يؤدي إلى مواقف، وإلى نتائج تختلف تمام الاختلاف عما يؤدي إليه الطريق الآخر. فالسؤال الأول يقحمنا فعلاً في عالم الميتافيزيقا، في اتجاه لا يمكن أن تجد فيه المشكلة المطروحة حلاً عملياً، أو أي حل، لأن عناصر المشكلة كلها تصبح خارج نطاقنا، وتحت تأثير مسببات وعوامل لا تخضع لإرادتنا. لماذا يوجد الشر؟ ولماذا يوجد الشيطان، ولماذا الاستعمار يمثلهما؟ هذه الأسئلة تعبر في الواقع عن سؤال واحد في صور مختلفة، لا تجدي صورة منها لأنها لا تؤدي إلى موقف سليم واقعي وفعّال، تجاه المشكلة التي تعبر عنها. والواقع أن ليس لنا أن ننكر على أحد وضع السؤال في هذه الصورة، ولكن الجواب عليه سيقوده حتماً إلى الميتافيزيقا البحتة، مع كل ما يترتب عن هذا من النتائج المنطقية والأخلاقية والاجتماعية. وإن مما يذكر عن أهل بيزنطة في عهد تدهور حضارتها، أنهم كانوا يتجادلون في جنس الملائكة: هل هم ذكور أم إناث .. ؟ ونحن إذا ما تورطنا في الميتافيزيقا، يمكننا أن نتجادل في جنس الاستعمار: هل هو رجل أم أنثى؟ ولو أن هذا قد وقع، فإنني على يقين من أن الاستعمار سوف يرينا عورته

كرجل مرة، وأخرى عورته كأنثى ثم يتركنا في غينا هائمين. وربما تنشأ عندنا مدرستان، ويظهر في هذا الأمر مذهبان، ولا شك فإنه حينئذٍ سوف يبذل كل ما في وسعه لبث روح الجدال بينهما، حتى تنصرف كل الطاقات العقلية، في العالم الإسلامي إلى هذا الجدال العقيم. ثم عندما يؤول الجدال إلى مشاجرة، فسوف يسعى الاستعمار من بعد ذلك، حتى يقر في أذهان كل من الطائفتين، أن كل من لا يشارك في هذا الجدال وتلك المشاجرة خائن، وأن كل من لا يقول إن الاستعمار أنثى أو ذكر، يصبح في نظر المذهبين مرتداً خائناً. وبطبيعة الحال، فإن الاستعمار سوف يقوم هو نفسه، وعلى حسابه الخاص، بنشر هذه الإدانة وبتعليق نصها على الجدران في المدينة ... فهذا شيء لا غرابة فيه. ولكن فلنترك هنا الجدال عن عورة الاستعمار، لنرى ما هي نتائج هذا الموقف في الطور العقلي والاجتماعي في البلاد الإسلامية. فإننا حينما نضع المشكلة في هذا الاتجاه الميتافيزيقي وننظر نتائجها في سلوك الفرد بالنسبة إلى الاستعمار، فسوف يتبين أنه لابد له من أن يكون في إحدى حالتين: 1 - حالة فيها نوع من العبادة والخنوع. 2 - حالة فيها الثورة والحقد. ونحن نشاهد فعلاً هاتين الحالتين في المجتمع الإسلامي منذ أخذ يشعر بالاستعمار، ويسعى لتخليص نفسه منه: إننا نجد من بين المسلمين من يرى فيه الشيطان، فيعتريه الهول منه ويهزه الغضب من الشعور بأنه الشيطان. ومنهم من يرى فيه إلهاً، فيعبده لأنه يتصور أن النعم بيده، في الدنيا على الأقل.

وكلتا الحالتين، هما في الواقع، نتيجة للصورة الميتافيزيقية التي توضع فيها المشكلة الأساسية. ونكون على جانب لا بأس به من البلادة أو من الادعاء، إذا قدرنا أن الاستعمار يجهل هذه الأوضاع النفسية، كما نكون على جانب هام من العبث إذا قدرنا أن الاستعمار يعلم هذا ولا يستغله. وعلينا إذن أن ندرك كيف يحدد الاستعمار نفسه، وموقفه أمام هاتين الحالتين، ولقد أشرنا إلى موقفه إشارة عابرة، حينما تحدثنا عن (المنديل الأحمر) الذي يترك الثور يتزايد غضبه، حتى يفقد أنفاسه. ولا شك فإن الاستعمار سيبذل جهده بكل تأكيد، حتى يزداد من يكره الشيطان حقداً أو غضباً عليه، ويزداد من يدين له بالنعم، شكراً وحمداً. وهذان الموقفان- وإن كانا يختلفان من الناحية الأخلاقية- يحققان النتيجة نفسها من الناحية العملية، إذ هما يكوّنان حجر الزاوية في الخطة التي يرسمها الاستعمار لتنويم الوعي الإسلامي، كيما يحول بينه وبين المشاكل القائمة. فكما شعر أن المشكلة الأساسية على وشك لفت النظر إليها، وإثارة الاهتمام بها، تراه يزيد في التلويح بالمنديل الأحمر كما يزيد حفنات جديدة من النقود في ضمائر بعض الولاة المسلمين ذوي الضمائر، المعدة على صندوق الصدقات، وإذا بالمشكلة تعود إلى الغيوم. فهذا فعل لفت، أو تحويل للموضوع ولا شك، فإن كل بلد إسلامي يعرف على الأقل فصلاً من فصوله، في نضاله ضد الاستعمار في السنوات الأخيرة. وعلى سبيل المثال، فإن الجزائري المعاصر لنا يذكر، دون لبس أو شك كيف ولد سنة 1936 المؤتمر الجزائري المشهور، وكيف قتل في مهده، وقد كان

يمثل أهم مرحلة في تطور الشعب الجزائري السياسي بعد الحرب العالمية الأولى، كما كان يمثل بالنسبة للاستعمار أخطر الظروف التي عرفها في سياسته الجزائرية منذ 1830. ولقد كان المؤتمر يحمل في روحه، وفي النزعات التي ورثها عن الكفاح الطويل الذي سبقه، ما يؤهله ليكون في توجيه الحياة السياسية في الجزائر، العنصر الفعال، فقد قام ليكون في البلاد جهازاً سياسياً فوق الأحزاب، يجعل الإدارة الاستعمارية وجهاً لوجه، مع الشعب الجزائري ذاته لا مع القادة السياسيين. فشعر الاستعمار أنه سيفقد وسائل التأثير والرقابة على سياسة البلد، إذا ما خرجت من تصرف القادة بوضع هذا التصرف تحت نظر الشعب. وإذا به يلوح بالمنديل الأحمر: فيغتال مفتي الجزائر حتى تكون جثته مسوغاً للإدارة الاستعمارية في إصدار الأوامر الصارمة، ثم يلقي من ناحية أخرى بحفنات نقود في ضمائر بعض القادة، فيذهب المؤتمر بعد ذلك قتيلاً، ويصبح هباء خلال شهر واحد، ما كافح من أجله الشعب الجزائري ربع قرن. ولا شك أن التاريخ السياسي الحديث في أي بلد مسلم، سجل فصلاً كهذا، أعني أن الاستعمار يستغل الأوضاع النفسية نفسها، فهو يثير الغضب الأعمى عند الجماهير، ويغذي شهوات القادة. ومن الواضح فإن هذا الجهاز سوف يظل خفياً لا يرى، لأنه مقيم في أعماق أنفسنا، كما من في استعدادنا لتقبل الإيحاءات التي من شأنها أن توجه سلوكنا، فهناك مختبرات متخصصة في الكيمياء السياسية تخصصاً عميقاً، تعد تلك الإيحاءات وتشحنها في شعورنا بالطرق المناسبة، ويكفي أن يضع أحد الاختصاصيين إصبعه على زر خفي، فتنطلق في شعورنا شحنة من الغضب والثورة، أو من

الإجلال والخشوع، حسب ما تكون الشحنة مجرد عوامل نفسية، تسلط على إحساس الجماهير أو نقود تصب في ضمائر بعض القادة. وهنا تواجهنا مشكلتان، ولكن مشكلة العوامل النفسية والإيحاءات هي الأهم في نظرنا، لأن تلك العوامل تحرك الملايين من الجماهير الطيبة، بينما لا تحرك النقود سوى أفراد، أعدت ضمائرهم على صورة صندوق الصدقات الذي توضع فيه النقود، كتلك الضمائر التي باعت المؤتمر الجزائري سنة 1936 إلى الاستعمار. فالمشكلة الأولى هي التي تهمنا لأنها تتصل بسلوك كل مسلم بصفة عامة، وينبغي لنا ألا نلاحظ في هذا السلوك، النتائج التي تقع مباشرة تحت حسنا لأنها ظاهرة في أثرها- فلا حاجة بنا إلى تأملها- بل الأسباب التي تسبب تلك النتائج، والتي لا نراها لأنها أسباب خفية. وهذا يعني أنه ينبغي ألا نعد الأشياء من الوجهة السياسية في سطحيتها، ولكن من الوجهة النفسية في عمقها. فكثيراً ما يرى الفرد منا في قضية ما أن أسبابها متعددة، وفي الغالب يكون ذلك التعدد في صورتها الخارجية فقط بمعنى أنها تظهر متعددة، لأن تأثيرها على شعوره يتكرر في ظروف مختلفة باختلاف الزمن والمكان. فكلما أتى منها مظهر جديد لتغير الظروف ظن أن السبب جديد في ماهيته. وإذا كنا نقع هكذا في الخطأ بالنسبة لسلوك الفرد، فمن الواضح أننا سنقع في الخطأ نفسه وللسبب ذاته، بالنسبة للسلوك العام، أو بتعبيرآخر بالنسبة للسياسة في البلاد المستعمرة، حيث إن الضعف الموجود في موقف الفرد إزاء مشكلاته الشخصية سيوجد مجموعاً في ضعف عام متفشٍ في السياسة. وعليه فإن بحث القضية في مستوى الفرد، سيؤدي إلى نتائج صحيحة في مستوى المجتمع إذا تصرفنا في تطبيقها كما يجب.

إن مشكلة الفرد المسلم بالنسبة للصراع الفكري، هي أن سلوكه يصبح في حكم الفعل الشرطي كما يحدده بافلوف، أي إنه لا يستطيع توجيه فكره وعمله باختياره طبقاً لمقاييس يحددها عقله ويعيها ضميره، والخطة التي يطبقها الاستعمار تهدف إلى هذه النتيجة النفسية عن طريق بافلوف. وهذا السلوك الشرطي ينتج عند المسلم- بصفة طبيعية- من جراء الدوافع المتعلقة بغريزة الدفاع عن النفس، وهي الدوافع التي انطلقت منذ الهجوم الاستعماري، في غرة القرن الماضي. كما ينتج أيضاً- بصفة صناعية- من الإيحاءات التي تسلطها على مشاعره، ومن وقت إلى آخر المختبرات المختصة، كي ترفع توتر طاقات الدفاع عن النفس فوق الدرجة اللائقة، حتى يكون الفرد في حالة توتر شاذة. ويمكن أن نقول دون تردد، إن هذه الدوافع المنطلقة في حالة غير عادية، وهذه الإيحاءات السلبية هي التي جعلت من المسلم- فيما يظهر- منبوذ القرن العشرين، أي الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع العالمي المعاصر. ومما يلاحظ بشأنه فعلاً حينما نراقب سلوكه في المناطق الخارجية عن دار الإسلام القائمة على حدوده، أي في مناطق الاتصال بعالم الآخرين، فإننا نجده يسلك غالباً- إن لم نقل دائماً- مسلك المتهم أو المتهم بالنسبة للآخرين، أي مسلك الفرد الذي يعيش منبوذاً في المجتمع العالمي في القرن العشرين. وهذه الحالة تلقي ثقلاً على مصيره، في الوقت الذي يتقرر فيه مصير العالم بإجماع الإنسانية. وإنه لمن لغو الحديث أن نقول إن الاستعمار يعلم هذا الوضع الشاذ في سلوكنا، ويرى فيه أحسن مشجع لعزلنا عن المجتمع العام، كما يعزل مكافح الصراع الفكري عن المجتمع الخاص، إذ يعزلنا فعلاً عن عالم نتهمه ويتهمنا، ويملأ

أبصارنا فيه بالأشباح التي يزيد تأثيرها في توترنا، فوق درجة مجرد الدفاع عن النفس، بينما يزيد المنديل الأحمر في فزعنا من إبليس. وهكذا تستطيع المختبرات المختصة أن تصرف كل إمكاناتنا الفكرية والمادية إلى معارك وهمية، فنسمع فيها قعقعة السلاح ودوي الحرب، ولكنا نتصارع فيها مع أشباح تحركها أمام أبصارنا المسحورة يد خفية ماهرة. فحينما تصعد صرخة الانتصار في الفضاء، فإن ذلك يعني أن شبحاً قد اختفى عن المسرح حتى يتيح لنا الشعور بالانتصار عليه. والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية، التي ننتصر فيها على الأشباح، كتلك المعركة التي خاضها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو. ويتبين من خلال بعض الموازنات الحديثة، أن عهد المعارك الوهمية ضد الأشباح لم ينقض في العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك سنة 1948 حينما خسرنا معركة وهمية ضد شبح اسمه إسائيل، كان يحركه أمام أبصارنا (المسحورة) ذلك (الحاوي) الماهر، المستر تشرشل وتلميذه الشاطر ترومان. أو بكلمة واحدة، إننا لا زلنا مستعدين لنصرف من الوقت والمال والفكر دون جدوى. ويجب أن نضيف إلى هذا أنه كلما وضعنا أنفسنا في فصل كهذا، فإن الاستعمار سوف يكلف الاختصاصيين في لعبة الظل، ليصور لنا معركة خيالية تصرف المسؤولين في البلاد الإسلامية عن المشاكل الحقيقية. وهذا هو ما نشعر به أولاً، إزاء بعض المشاريع ذات الشأن، حينما يحاول من يقوم بها، أن يجند الأفكار والأقلام والأموال للدفاع عن الإسلام من هجمات المستشرقين.

فإذا بالاستعمار يبدي ارتياحه لمثل هذه المشاريع حينما يأتيه نبؤها، إن لم نقل إنه أوحى من بعيد بفكرتها، لأنها سوف تصرف الأموال والأقلام والأفكار عن الأشياء الجدية. كما نشعر أيضاً أنه سوف يبدي قلقه، لو أن أحداً انفلت من تأثير سحره، وحاول أن يقول إن المشكلة ليست في الدفاع عن الإسلام، الذي يجد في جوهره حصانته من عطاء الله إليه، ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم بما في الإسلام من وسائل الدفاع. فالاستعمار يغضب حينما يتوقع بأن المشكلة سوف توضع هكذا، إذ بذلك سوف يفلت من يده زمام الأمور، وأن الناس سوف ينتهون من الحديث عن عورته، هل هو امرأة أم رجل، وأن القضية سوف تخرج من عالم الميتافيزيقا والظلام لتدخل عالم الجد، وتصبح قضية مطروحة لعلم النفس والاجتماع، لتدرس في ضوئها الشروط التي تشجع الاستعمار أو تنمي القابلية للاستعمار، وها نحن أولاء في صميم موضوع هذا الفصل. إنه لمن ترف القول إذا قلنا إن كل ما يحدث اضطراباً في خطة الاستعمار المطبقة، أو يحدث أثراً يناقض السلوك الشرطي، الذي أصبحت أفكارنا وأفعالنا خاضعة له، بمقتضى تلك الخطة، قد يصبح موضع كل اهتهام من طرف الاستعمار. وإنني لا أشك في أن ما كتبته في محاولة سابقة عن التجربة التي تتعلق بالعروة الوثقى، لكي أطلع بعض الطلبة المتصلين بي على أسلوب الصراع الفكري في البلاد المستعمرة قد بلغ الدوائر المختصة، إذ تناولته الأيدي منذ سنتين داخل الجمهورية العربية المتحدة وخارجها، حتى إن بعض الطلبة وزعوا منه عدداً من النسخ طبعوها على حسابهم بالآلة الكاتبة الكبيرة (¬1). ¬

_ (¬1) نشير إلى التوزيع الذي قام به بعض أبنائي الطلبة بليبيا.

ويكون من العبث ومن جهل أسلوب الصراع الفكري إن لم نقدر هذا. ولكن هذا التقدير يحتمل نتائج منطقية لا سبيل لأن نقصيها عن الاعتبار. وهي أن الدوائر المختصة لا يمكنها أن تقف عند حد الاطلاع عندما يبلغها ما كتب في الموضوع منذ سنتين. وإذا قدرنا هذا كما يجب، فما النتيجة العلمية بالنسبة إلى خطة الاستعمار في مواصلة الصراع؟ إن أقل ما يمكن أن نتصوره هو أن تلك الدوائر المختصة، لابد أن تتقبل الملاحظات المسجلة في الخطوط الذي وزعت منه بعض النسخ في البلاد العربية، بوصفها نقداً قد يفيدها في تعديل الخطة، إذا ما اقتضت الظروف ذلك، وإننا نكون قد اتهمنا الاستعمار بما ليس فيه، إذا قدرنا، حينما يشعر بضعف في خطته، أو بحاجة إلى تعديلها، أنه لا يسارع إلى تدارك الضعف وإلى تصحيح الخطأ في خطته. والحق إنه ليس للقيادة الاستعمارية في بنائها الفكري، تلك الحواجز التي نراها تكف عملية التكيف عند قيادتنا. وإذن فماذا يستنتج من هذا كله؟ إن الدوائر المختصة التي ركبت الجهاز الذي وصفناه في الفصل السابق، وأطلقنا عليه مرآة الكف ومرآة الحرمان، لم تشعر بالحاجة إلى تغييره تغييراً كلياً، وإنما رأت أن تعديله قد يكون مجدياً لسايرة ظروف جديدة. وربما أن هؤلاء الاختصاصيين استفادوا من ملاحظاتي، أكثر مما استفاد منها الطلبة الذين أردت اطلاعهم عليها، وليس في ذلك أية غرابة. فكان إذن على أولئك الاختصاصيين تعديل الجهاز، أو بالضبط تحسينه من

الناحية الفنية ومن ناحية الوسائل، بأن تكون الخطة معززة هذه المرة، بالوسائل الكافية وبالكفاءات اللازمة، وبالآلات البشرية ( Robots) التي تنجز الأعمال حينما يوضع في ضميرها بعض نقود كما توضع في صندوق الصدقات. فالتركيب الجديد يتجاوب أولاً مع الضرورة التي تنتج عامة، من أن كل فخ عرف مكانه يصبح دون جدوى، أو بالتعبير العسكري: من أن كل جهاز يقع تصميمه في يد العدو لايبقى صالحاً للاستعمال ضده. فكان من الضروري إذن- ضرورة فنية- تعديل مرآة الكف التي وصفناها في الفصل الأخير لأن هذا الوصف ذاته كشف سره منذ سنتين. ولا شك أن هناك أشياء أخرى تؤيد هذه الضرورة، أشياء ناتجة عن الظروف الجديدة الخاصة بالبلاد الإسلامية والعربية، وعن الطور الجديد الذي يمر به الصراع الفكري في العالم عامة، وخاصة في البلاد التي لا زالت في المعركة التحررية. فيجب علينا إذن أن نوازن بين الجهاز الجديد والقديم من جهة جوانب الضعف فيه كي ندرك التحسين الذي أتى به الجديد. لقد ذكرنا كيف كان التركيب الأول يعرض اسم مؤلف لانعكاسات المرآة (بوصفه فرنسياً اعتنق الإسلام)، يعرضه لها بصفة ثنائية، بما أنه كان يقحمه بين اسمين آخرين تلقي عليه تلك الانعكاسات، أي أن الاسم القصود لم يكن في هذا التركيب ينتج مباشرة الإيحاءات السلبية، وإنما كان يتلقاها من الخارج ويعكسها فقط. وكان هذا جانب ضعف في الجهاز، بل إن ما يزيد في هذا الضعف هو أن أجزاء التركيب كلها ظاهرة مرئية، لأنها كانت مكتوبة على صفحة من صفحات (العروة الوثقى).

وبعبارة أخرى، إنه كان تركيباً فجاً بدائياً. فكان إذن من الحكمة أن يفكر يوماً ما الهتمون بالصراع الفكري، في تركيب جهاز جديد تكون أجزاؤه غير ظاهرة، وغير ظاهرة خاصة إلى الشخص المقصود، حتى تؤدي المرآة مفعولها دون أن يشعر بذلك. والتحسين المنشود الذي أتى به الجهاز الجديد، هو بالضبط أنه لا يراه إلا من قدّر له، عن قصد أن يراه، أو بتعبير مصطلحنا: لا يراه إلا من هو معد من أجله، ليعكس إلى نظره وشعوره خاصة تلك الإيحاءات التي من شأنها أن تجعله في حالة (السلوك المشروط)، إزاء الأفكار المقصودة من وراء هذا كله. فميزة التركيب الجديد هو أنه يمكنه أن يلفت النظر إلى كاتب معين، دون أن يشعر هذا بأنه أصبح يشع إيحاءات، ويعكس ردود أفعال شرطية موجهة ضد أفكاره ذاتها. فهذه المرة لا يمكن لهذا المؤلف أن يتفطن للشبك الذي نصب لأفكاره، لأنه نصب وراء ظهره، وبعيداً عن نظره، فهو عبارة عما يسمى (لعب صور الظل)، أي تلك الصور التي يمكن للاعب ماهر أن يصورها من ظل يديه وأصابعه، بوصفها قصة يراها الناظر على الحائط، ويمكن أن يزيد اللاعب الماهر في إعجاب ذلك الناظر، إذا كان عنده الصوت المناسب مثل لاعب (جراجوز)، ليعقب على الصور التي تلقيها يداه وأصابعه على الحائط بما يناسب من التعليقات. وكل مهارة هذا المخرج تكون في أن يستمر لعبه حتى النهاية، دون أن يشعر به الكاتب الذي أعد من أجل أفكاره هذا الجهاز، ولسنا نرى مكاناً لوصف تفصيلي لهذا الجهاز، إذ أننا لا نرى مسوغاً لأن نقدم في هذا العرض النظري،

لقصة من الصراع الفكري، كل تفاصيلها الواقعية، فحسبنا أن نورد جمل القصة بالصورة التي تتيح لنا أن نعطي فكرة عن تركيب الجهاز الجديد وعن كيفية تشغيله في ظروف معينة. إن الاختصاصيين المهتمين بالصراع الفكري قرروا ألا يكون عملهم قائماً، في هذه المرة على (دائرة أفكار) معينة، كما كان شأنهم في المرة الأولى التي وصفناها. إن مبدأ الجهاز الجديد من نوع آخر: إن كل كاتب له- قبل دائرة أفكاره- دائرة تشمل حياته الشخصية في عقر بيته، ودائرة تضم علاقاته الاجتماعية، خارج بيته، مهما يكن عددها. وهذه الدوائر الثلاث ليست منفصلة الواحدة عن الأخرى، فقد بينا في الفصل السابق كيف أن دوافع الحرمان التي تسلط على شخص كاتب، بأنها وهي توجه إلى دائرته الشخصية، بصفته (كاتباً فرنسياً) مثلاً، تكون موجهة في الواقع إلى دائرة أفكاره. ولكننا بينا في الوقت نفسه، ضعف هذا التركيب، لأنه لا يشمل الدائرة الشخصية لتنتج مباشرة دوافع الحرمان، وإنما هي تتلقاها من الخارج، وتعكسها فحسب، على دائرة الأفكار التي تكون بهذا، لأن ما تتضمنه من أفكار قد وضع في إضاءة غير مباشرة، أي تحت تأثير دوافع واردة من الخارج. فالتحسين الذي أدخل على هذا التركيب هو أن يضعها في إضاءة مباشرة، أي أن يضع دائرة أفكار مؤلف مقصود تحت تأثير دائرته الشخصية مباشرة. والتصميم النظري لهذا الجهاز قد يكون على هذه الصورة:

ـ[(دائرة الأفكار) (دائرة الصلات الاجتماعية) (الدائرة الشخصية)]ـ فيمكننا الآن أن نفسر عمل الجهاز على ضوء هذه الصورة النظرية. إننا نرى أولاً، أن كل ما يصدر من إشعاع من الدائرة الشخصية الخاصة بفرد معين، يصب حتماً بخيره أو بشره في دائرة أفكاره، لأنه ينعكس عليها بمقتضى تداخل الدائرتين؛ بمعنى أن أي تعفن أخلاقي يحدث داخل الدائرة الشخصية يصل إشعاعه فوراً- بصفته تعفناً- إلى دائرة الأفكار. وبالآلية نفسها، فإن كل ما يحدث من خير أو شر، على الدائرة الاجتماعية يحدث أثراً إلى الخارج، تجاه دائرة الأفكار وينعكس عليها أيضاً. ولكن يجب أن نلاحظ أن نصيب الإشعاع الذي يرد من الدائرة الاجتماعية تجاه الداخل، ينعكس على الدائرة الشخصية ثم يعود منها، كإشعاع منعكس، إلى دائرة الأفكار ليلقي عليها ما يحمل وما حمل من الدوافع الحرمانية. حتى إن دائرة الأفكار تتلقى في النهاية، كل ما تشعه الدائرة الاجتماعية في الاتجاهين. وبالتالي فإن كل ما يحدث بطريقة طبيعية أو صناعية، تعفناً في الدائرة

الشخصية الخاصة بفرد أو في دائرته الاجتماعية، فإن تأثيره يصيب بأكمله دائرة أفكاره. وإنما يجب أن نلاحظ، كي نكون أكثر دقة وتحرياً، أن لدائرة الأفكار ذاتها إشعاعها الخاص: تشع هي نفسها بإيحاءاتها على الدائرة الشخصية، التي تعكس بعض هذه الإيحاءات على الدائرة الاجتماعية التابعة لها. إن للأفكار سلطة خاصة تفرض رقابة على الإيحاءات، التي ترد إلى دائرتها من الدائرة الشخصية ومن الدائرة الاجتماعية، وتصحح معناها إذا وقع فيه انحراف، مقصود أو غير مقصود. فعندما يقول لنا أحد إن غاندي مثلاً، كان ينشر أفكاره المعروفة (باللاعنف) عن اتفاق خاص بينه وبين الاستعمار البريطاني، أو لأنه تقاضى رشوة عن ذلك، فإن دائرة الأفكار نفسها التي توجه إليها هذه الإيحاءات السخيفة، تضرب بها عرض الحائط وتلغيها بمجرد ما لها من القيمة الذاتية، أي بقطع النظر عن الدائرة الشخصية الخاصة بغاندي، وعن دائرته الاجتماعية، حتى إنه يمكننا إصدار الحكم المبطل لتلك الإيحاءات، بمجرد الالتفات إلى دائرة الأفكار فقط، باعتبار قيمتها الأخلاقية والعقلية من ناحية، وباعتبار مكانها في التخطيط السياسي العالمي من ناحية أخرى. وأحياناً نرى أن الأفكار تدافع مباشرة عن دائرتها ضد أفكار أخرى يراد زجها فيها، عن قصد أو بحكم الصدفة؛ إن التاريخ الإسلامي نفسه يعطينا صورة من هذا القبيل: إننا نذكر بصفتنا مسلمين المحاولة أو المحاولات التي قام بها بعض الأشرار الآثمين لانتحال الآيات تزييفاً للوحي. وقصة (الغرانيق) كانت إحدى تلك المحاولات، التي كانت تصدر من مركز الإشعاع المزيف الذي كان يشرف عليه، لاشك السبائيون والمنافقون، لقصد

تشويه القرآن الكريم، غير أن هذه المحاولات الأثيمة لم تحظ بأي نجاح، لأن دائرة الأفكار القرآنية تلغي بنفسها تلقائياً كل فكرة دخيلة عليها، فتطردها وتقصيها عن دائرتها. حتى إنه ليمكننا القول إن السبئيين قد نجحوا، إلى حدٍ ما، في مساعيهم الأثيمة ضد الحكم الإسلامي، إذ أنهم تمكنوا من تغيير مجراه منط واقعة صفين، ولكنهم مع ذلك لم يتمكنوا من تغيير ذرة من دستوره المنزل، لأن القرآن يدفع عن نفسه الأباطيل، ويطرد كل دخيل عليه. فما كان لأحد من السبئيين أو غيرهم، أن يضيف إليه شيئاً، مثل قصة ((الغرانيق)). ذلك لأن الأفكار عامة، لها من قوة الدفاع عن نفسها مما يخولها سلطة، تفرض بها رقابة على كل ما يكون من شأنه أن يشوه معناها أو يفقدها وحدتها: إنها تطرده فوراً من دائرتها. فكذلك الأفكار القرآنية قد استخدمت خلال القرون قوتها ضد كل محاولة تحريف أو تزييف، وفرضت رقابتها على كل دخيل عليها مثل قصة (الغرانيق)، تطرده من دائرتها مقصية بذلك شحنة الإيحاءات السلبية التي يحملها الدخيل إليها، حتى لا يكون لها، أي أثر سيئ على الضمير الإسلامي في النهاية. وهكذا كان مصير جميع المحاولات التي أريد بها تشويه القرآن وتحريفه عبر التاريخ، لأن الأفكار القرآنية خاصة، والأفكار من حيث هي أفكار عامة، وفي نطاق شروط اجتماعية معينة، تقوم بدور المصفي بالنسبة للأفكار الدخيلة، المشتبه فيها، التي تحاول يد خفية أن تزجها في دائرتها. غير أن لهذه الرقابة، وهذه السلطة، التي تحتمي بها من أفكار الغش والدس، شرطاً نفسياً- اجتماعياً يمكننا فهمه على ضوء قصة (الغرانيق): لماذا لم

يتح لهذا الدخيل أن يندس في دائرة الأفكار القرآنية، وبالتالي أن يدس الريب والحرمان في الضمير الإسلامي؟ والجواب على ذلك أن هذا الضمير نفسه كانت له حصانته الخاصة ضد الحرمان، فقد كان محصناً أولاً بنظافته الأخلاقية، التي لم تكن تتيح لأي جرثومة أن تصل إليه من الخارج، أي أنه لم يكن فيه أي استعداد للتعفن. ثم إنه كان محصناً ثانياً بميزة فكرية، وهي التي تكون بالضبط حجر الزاوية في الصراع الفكري، فهذه الميزة هي التي تجعلنا ندرك تلقائياً قيمة الأفكار بصفتها أفكاراً، وتجعلنا بالتالي ندرك أهمية الصراع الفكري وخطورته، وخاصة تكون هذه الميزة المصفي الذي يمسك الأفكار المزيفة، فلا يتركها تندس في دائرة الأفكار المستقيمة لتزيف وحدتها، وتشوه صورتها. وبهذا ننتهي إلى أن الشيء الذي يتكفل حصانة دائرة أفكار معينة، هو في الحقيقة، قيمة أخلاقية تشترط النظافة وتفرضها في كل الظروف، وقيمة فكرية تجعلنا نميز بين الغث والسمين. فإذا حدث في مجتمع ما أن اختل هذا الشرطان الأساسيان فإن الأفكار تفقد كل حصانة، كما يفقد من يدخل الصراع تحت رايتها ضمن ما هو ضد الإيحاءات السلبية، التي تنتجها مختبرات السياسة العلمية لمواجهة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وفي هذه الحالة تفقد الأفكار كل فعاليتها في مجتمع لم تبق لها فيه سلطة الرقابة والتصفية والتصحيح، أو لم تكتسب فيه بعد هذه الميزات. وهكذا تصبح دائرتها معرضة لكل الإيحاءات السلبية الموجهة ضدها، دون أن يمكنها أن ترد من ناحيتها على هذا التحدي. ويكون المكافح الذي دخل المعركة تحت راية تلك الأفكار، معرضاً لأن يخوض المعركة وحده، دون أن تسانده عن يمينه أو شماله أو من خلفه أو من

الأمام، أية قوة تعزز كفاحه كما بينا ذلك في الفصول السابقة. والواقع أن مجتمعنا أصبح يعاني في قيادته أزمة أخلاقية وفكرية، تجعله عامة لا يحقق للأفكار شروط حصانتها وفعاليتها فيه، حتى إنها تكون معرضة للدس إما لضعف أخلاقي يحيط بها وإما لضعف فكري يخذلها. غير أننا إذا ما فحصنا هذه الحالة على ضوء تجربة طويلة، فسوف نجد أن الضعف الفكري هو أقوى العوامل تأييداً ومساعدة، لمساعي الاستعمار في جبهة الصراع الفكري. فالتجربة تكشف لنا أن مأساة الأفكار عندنا تدور فعلاً على هذا المحور. ويمكنني أن أذكر، على سبيل المثال، وتأييداً لهذا الرأي، قصة تتصل بموقف جمعية الطلبة الجزائريين المسلمين، بالجزائر. عندما صدر هناك سنة 1948م، كتاب (شروط النهضة ومشكلات الحضارة). إن هذه الجمعية قامت برد فعل غريب، فنشرت في الصحافة بلاغاً يدين الكتاب المذكور على أنه مضر بقضية الشعب. ولا شك أن هذا (الإيحاء) قد أتى عن طريق طالبين أو ثلاثة، يستخدمهم الاستعمار لحسابه في مثل هذه المهمات. ولكن هل (تَعَفُّن) طالبين أو ثلاثة هو أساس المشكلة؟ أم الضعف الفكري الغريب الذي أبداه مئتان أو ثلاث مئة طالب حينما تقبلوا دون أية رقابة، الإيحاء الموجه ضد الكتاب؟ وكذلك الأمر سنة 1954م حينما صدر كتاب (وجهة العالم الإسلامي) للمؤلف نفسه، فإن جمعية العلماء الجزائريين كأنما قد أرادت أن تصدر حكماً بإدانته، بطريق غير مباشر، فسحبت من مؤلفه منحة شهرية كانت تزعم أنها

تقدمها له لتأييد الإنتاج الفكري، ومن الواضح أن رد فعل كهذا كان مقرراً بمقتضى المبدأ الثاني الذي قدمنا ذكره، أي المبدأ الذي يقضي في منهج الاستعمار، بفصل الكتاب عن القضية التي يكافح من أجلها فصلاً عمليا بوسائل مادية، أو معنويا بوسائل نفسية، وتحويل المعركة التي بدأت بينه وبين الاستعمار إلى معركة بينه وبين إخوانه. ولكن حينما يحدث هذا فهل أساس المشكلة (تعفن) الشخص من بين المشرفين على جمعية العلماء، الذي أتى عن طريقه هذا الإيحاء من طرف الاستعمار ليلقيه في آذان أولئك المشرفين؟ أم أساسها الضعف الفكري الفظيع الذي أبداه هؤلاء المشرفون الذين عبروا في هذه المناسبة، عن عدم كفاءهم، وأخص منهم بالذكر فضيلة الشيخ العربي التبسي، لأنني أعلم أنه كان على جانب خلقي عظيم، بينما نراه من الناحية الفكرية يبدي ضعفاً كبيراً، فلم يقتنع بتقبل الإيحاء المذكور، بل أصبح يدافع عنه بكل إخلاص دون أن يشعر بأن موقفه ذاته كان في خطة الاستعمار، بصفته أهم العوامل التي من شأنها أن تبعد كاتباً معيناً عن القضية. فهو قد وقف هذا الموقف لأنه لم يكن يعلم- رحمه الله- أن الصراع الفكري، هو فوق كل شيء. الصراع الذي يصنع سلاحه مما في طيات النفس وخفايا الروح. وبالتالي فإن الجانب الفكري هو الأساسي في المشكلة التي نحن بصددها: إن الأفكار لا تتمتع في المجتمع الإسلامي بقيمة ذاتية، تجعلنا ننظر إليها بصفتها أسمى المقومات الاجتماعية، وقوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها، وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها. وهذه الثغرة تعود في تكوينها، إلى شيء من التخلف في تطورنا الاجتماعي، عرفناه في دراسة أخرى (¬1) بـ ((الطور لما قبل الاجتماعي))، أي ¬

_ (¬1) راجع (فكرة كومنولث إسلامي).

الطور الذي لم يكتشف فيه الطفل بعد عالم الأفكار، وحينما يكون المجتمع في هذا العمر النفسي فإن الأفكار لا تجد فيه مسوغاً ولا هو مسؤول عن ذلك، كما لا يسأل الطفل عن شيء ليس من سنه. وبسبب هذه الثغرة، فإن الصراع الفكري لا زال يغشاه الظلام الذي يغشى الحقائق، التي لم تكتسبها ولم تهضمها تجربتنا، لأنها لم تصل بعد إلى إدراكنا. وفي مثل هذه الظروف، فإن دائرة الأفكار تكون معرضة إلى تحدي الاستعمار ومؤامراته، دون أن تستطيع الرد اللازم عليه. فهي معرضة خاصة، إلى الإشعاع الذي يصدر إليها من دائرة صاحبها الشخصية، ومن دائرته الاجتماعية، دون أن يحميها من هذا الإشعاع شيء من الرقابة والتصفية والتصحيح .. فالجهاز الذي يتركب من الوجهة النظرية من ثلاث دوائر متداخلة كما بينا، يصبح من ناحية التأثير، كأنه مركب من دائرتين فقط: الدائرة الشخصية والدائرة الاجتماعية. أما الأفكار التي يصل إليها التحدي دون أن يمكنها الرد عليه، فإنها فقدت تأثيرها بسبب الضعف المتفشي في الجهاز الفكري عندنا اليوم، فكأنما دائرتها أصبحت ملغاة لا تلعب دوراً في الصراع الفكري في البلاد الإسلامية. هكذا يمكننا أن نتصور من الوجهة الفنية، التعديل والتحسين الذي طبق في إنتاج عوامل الحرمان ودوافع الكف. كما نحاول وصف ذلك في هذا الفصل. فالمنهج المطبق في الصورة الأولى التي تحدثنا عنها، كما ن يقتضي تسليط إشعاع الحرمان على دائرة الأفكار، من تلقاء دائرتي أفكار لمؤلفين آخرين معروفين ذكرناهما في الفصل السابق. فكان هذا الإشعاع خارجياً، يأتي من الخارج إلى دائرة الأفكار التي نريد تسليطه عليها.

أما في الصورة الجديدة التي نخصص لها هذا الفصل، فإن الإشعاع يسلط على دائرة الأفكار من الداخل، فهو يأتيها من دائرة صاحبها الشخصية ومن دائرته الاجتماعية. وهذا يعني طبعاً أن هاتين الدائرتين تنتجان الإشعاع، من تلقاء نفسهما بحكم طبيعتهما، أو أنهما أعدتا لإنتاجه، بطريقة صناعية معينة. وبالتالي فإنتاج هذا الإشعاع النفسي هو القضية الأساسية، والمشكلة الرئيسية لا ينتظر من التعديل المقصود والتحسين المنشود. وهذه النتيجة المنتظرة تكون بالضرورة، مطابقة لطبيعة الدائرة الشخصية والدائرة الاجتماعية اللتين أعدتا لإنتاج الإيحاءات المقصودة، ومطابقة أيضاً للمنهج المطبق من أجل ذلك. فعلينا إذن أن نحدد هاتين الدائرتين من وجهة تركيبهما ومحتواهما: أ - أما الدائرة الشخصية: فإنها تتضمن بحكم الضرورة حياة الفرد الخاصة، مع أسرته أو بمفرده. ب - أما الدائرة الاجتماعية فإنها تتضمن بالضرورة، الجوار والعلاقات المهنية، والعلاقات الودية والعلاقات الناشئة عن الضرورة اليومية (مثل علاقتنا مع البائع الذي نشتري منه يومياً جريدتنا وخبزنا)، والعلاقات التي تنشأ بمقتضى حاجة التسلية، إذا تعودنا الذهاب إلى مقهى، والعلاقات الأدبية، إذا كان لنا صلات ببعض الطلبة. هذه هي العناصر الأساسية للدائرتين. فكيف تنتج الدائرتان، وهذا تركيبهما، إشعاع الحرمان والكف؟ وبعبارة أخرى كيف تعدان لإنتاج هذا الحرمان صناعياً، حتى يوجه إلى دائرة الأفكار التابعة لهما؟

فمما تجب ملاحظته بالنسبة للدائرة الشخصية أن هناك ثلاث حالات ممكنة: 1 - حالة تنتج فيها بطبيعتها الدوافع الحرمانية، بسبب تعفّن في جوهرها. 2 - وأخرى تنتج فيها تلك الدوافع بصفة طارئة، أعني بسبب ما يحقن فيها من التعفن بطريقة صناعية أو ما يلصق بصورتها الظاهرة على الأقل. 3 - لا تنتج مطلقاً إشعاعاً حرمانياً لأنها سليمة من طبيعتها من ناحية، ولم تنجح، من ناحية أخرى محاولات تعفينها صناعياً أو تشويه مظهرها. أما بالنسبة للدائرة الاجتماعية فهناك حالتان ممكنتان: 1 - أنها لا تنتج انعكاسات الحرمان لأنّ ما تتضمنه من علاقات إنما هي علاقات سليمة في جوهرها. 2 - أنها تشع انعكاسات الحرمان لأن علاقة، على الأقل، من العلاقات التي تشملها مشتبه بها. وهذه الحالة الأخيرة تنقسم بدورها إلى حالتين جزئيتين: أ - فإما أن العلاقة المشتبه بها قد دخلت في دائرة الفرد، وهو يعلم الشبهات التي تحوم حولها. ب - وإما أنها قد دخلت في دائرة الفرد، وهو لا يعلم شيئاً عما بها من الشبهات، أو لا يعلم شيئاً لأن تلك الشبهات قد أضيفت إليها بطريقة صناعية. وبالتالي فلو أننا تأملنا هذه الحالات بإمعان، فسوف نجد أن الدائرة الشخصية كلها تحت تصرف صاحبها، أما دائرته الاجماعية فإنها لا تكون تحت تصرفه إلا بصفة جزئية، أي في نطاق علمه فقط، إذ لا يمكنه أن يفرض رقابة

على كل علاقاته الاجتماعية في جواره، في الدكان، وقي المقهى، وبين الطلبة إلخ ... حتى إنه يكون من الممكن جدا إضافة علاقة مشتبه بها، أو تعفين علاقة موجودة من قبل في تلك الدائرة، دون أن يعلم صاحبها شيئاً عن ذلك، وقد لا يعلم شيئاً عن ذلك حتى من يحمّل الشبهات ليحملها إلى تلك الدائرة. فهذا التحليل يبين لنا كيف يمكن، في حالة واقعية، أن يتصرف من هو قائم بهذه العمليات لينتج أولاً، انعكاسات الحرمان في الدائرتين، الشخصية والاجتماعية، ثم كيف يسلطها على دائرة الأفكار. والتحليل يبين لنا أيضاً، أن الدائرة الشخصية هي، في النهاية التي تتحكم في مشكلة من يقوم بعملية إنتاج انعكاسات وإيحاءات الكف والحرمان: فإن كانت متعفنة بطبيعتها، أو إذا تمكن القائم بالعملية أن يدخل فيها التعفن بطريقة صناعية، فإن إلقاء الشبهات على الدائرة الاجتماعية يكون أيسر، لأنها تجد في التعفن الداخلي، طبيعيا كان أو صناعياً صورة مسبقة في الأذهان تحمل تفسيرات ومسوّغات منطقية مسبقة للشكوك والشبهات، التي يراد إلقاؤها على الدائرة الاجتماعية. فإذا كان أي خلل أخلاقي في الدائرة الشخصية فإنه يكون أيسر من لعب الصبيان بالنسبة إلى القائم بهذه العمليات، أن يلقي ما يريد من الظلام على دائرة الأفكار في البلاد التي تفقد فيها الأفكار نورها الذاتي، وذلك لأنه يستعين بالشبهات التي يمكنه في هذه الحالة خلقها بكل سهولة في الدائرة الاجتماعية. ومن هنا ندرك أن اهتمام من يقوم بهذه العمليات، سوف يتعلق أولاً باستغلال التعفن الطبيعي الموجود في الدائرة الشخصية المطابقة للأفكار المقصودة، أو بإنتاج التعفّن فيها بطريقة صناعية، بكل ما لديه من الوسائل إن لم يكن التعفن في طبيعتها.

فما هي تلك الوسائل؟ فلنفرض أنك تعيش بمفردك، بعيداً عن زوجتك وأهلك، ففي مثل هذه الحالة يحاول القائم بالعمليات أن يدخل امرأة في حياتك، ليس فحسب لإحداث خلل أخلاقي في دائرتك الشخصية، ولكن لذلك أولاً، ثم تمهيداً لعمليات أخرى على الدائرة الاجتماعية، حسبما توحي به الظروف، لأن دخول المرأة في الدائرة الشخصية يخلق مسوغات ويمهد السبيل لإيحاءات كثيرة في الدائرة الاجتماعية. وعليه فسوف ترى في يوم ما أن حسناء شقراء تطرق بابك وتحاول أن تدخل إلى قلبك ولعلها تكون أجنبية، ولكن من أرسلها إلى بابك يعلم أن لك شيئاً من الاهتمام بشؤون الدين مثلاً، فرأى طبقاً لذلك أنه من إتقان الخطة أن يلقن رسولته الساحرة بعض الآيات من الذكر الحكيم، كي تبرهن بها على اهتمامها بالشؤون التي تهمك، ولتجد أيسر الطرق إلى قلبك. ولكن للقلوب أقفالاً مفاتيحها ليست بيد البشر، وعليه فإن المبعوثة الجميلة المهذبة قد تخيب في مهمتها مثلاً. فماذا يفعل إذن القائم بالعمليات؟ إنه ربما يرسل إليك هذه المرة ساحرة سمراء، وإن رأى أنها لم تنجح في مهمتها أكثر من الأولى، فربما يرسل ثالثة من نوع آخر، لا تتلو عليك من الذكر الحكيم، ولكنها تقدم لك مثلاً هدية معينة من المصنوعات الضرورية لصاحبة البيت، وبالمناسبة تسألك؟ - هل السيدة صاحبة البيت هنا؟ ربما إنك أيها القارئ الكريم لا تتصور بسهولة، أن مثل هذا السؤال يتصل بالصراع الفكري فالأحسن إذن أن نترك الموضوع. وفي النهاية، فإذا فشلت هذه المحاولات كلها لإدخال امرأة في دائرتك

الشخصية، فإن القائم بالعمليات سوف يشعر على الأقل بنصف الهزيمة، ولكنه مع ذلك فإنه لا يترك المعركة إذ يبقى له الأمل في دائرتك الاجتماعية. فلنقدر أن دائرتك الاجتماعية لسبب ما، لا تضم إلا عدداً قليلاً من الصلات يمكن تعدادها كما يلي: (أ) صلة جوار تشمل زوجين في عنفوان الشباب تكون الزوجة (ف) شقراء مثلاً، وجار فوقك لا تعرفه ولكنه ينصب فوق رأسك (دوشة) لا تعرف في البداية معناها، وربما تكتشفه فجأة يوماً فلنسمه (ج). (ب) صلة أدبية مع عدد من الطلبة لأنهم يهتمون بالقضايا التي تهمك فلنشر إليهم بـ (ط). (ت) صلة ودية مع سيدة (م) تكتب في الصحافة التي تكتب فيها أنت، وخاضت مع زوجها المرحوم المعركة ضد الاستعمار. (ث) علاقة حاجية في دكان تأخذ فيه كل أسبوع جريدة أجنبية فلنشر إليها بـ (د). (ج) ثم علاقة غير مستمرة بأسرة (ب) تزورها قليلاً مرة في الشهرين أو في الثلاثة أشهر مثلاً. فإذا أردنا أن نرسم هذه العلاقات في تخطيط فستكون لدينا دائرة اجتماعية على هذه الصورة:

ـ[صورة التخطيط]ـ ولنفرض بعد هذا أنك تعرف جيداً العنصر (م) وإلى حد ما العنصر (ط)، حتى إنه لا يتطرق إلى ذهنك بسببهما شيء من الريب، ولكنك ليس لديك عن العناصر (ج ف ب د) المعلومات الكافية، بينما مراصد الاستعمار تعلم عنهم كل شيء كما تعلم جهلك أحوالهم. فكيف يبدأ إذن عمل القائم بالعمليات التي نتحدث عنها؟ فإنه بكل وضوح، لا يمكنه التأثير مباشرة على العناصر (م ط)، ولكنه يمكنه بطريقة غير مباشرة أن يجعل من كليهما، أو من أحدهما أو من بعض عناصر أحدهما مراكز إشعاع الحرمان، دون أن يشعروا، لأنه يمكنه في كل الظروف، أن يستخدم عناصر أخرى خارجة عن الدائرة الاجتماعية وموجودة تحت تصرفه، ليحمل الشبهات إلى العناصر الموجودة فيها، أو إلى بعضها كالعنصر (م) مثلاً، دون أن يشعر هذا ولا أن يشعر صاحب الدائرة، كما أن الذباب يحمل بعض الأمراض إلينا دون أن نشعر بذلك: فعندما تملي الحاجة أن يصبح العنصر (م) مشعاً دون أن يشعر، فيكفي للقائم بالعمليات أن يخلق بينه وبين أحد العناصر

المشبوه فيها صلة صورية، فيقوم مثلاً العنصر المشبوه فيه بزيارة إلى المعهد الذي تدرس فيه (م) فيقدمه إليها أحد معارفها، وفي الوقت الذي تصافحه بالضبط تلتقط صورة، ومن هنا يبتدئ تصرف بسيط ليجعل من (م) مركز إشعاع يشع على دائرتك الاجتماعية الشبهات، دون أن تشعر هي أو تشعر أنت، غير أنه على فرض أن قصة الصورة الملتقطة في معهد، لم تثر الشكوك لديك أول الأمر، إلا أنه قد يحدث شيء خاص يجعلك تدرك فجأة معناها الصحيح في نطاق الصراع الفكري، وذلك حينما ينكشف لك صدفة أن دائرتك الاجتماعية كلها قد أصبحت مركز إشعاع موجه إلى دائرة أفكارك. ولهذا التحول الغريب شروط فنية خاصة ليس هنا موضوع الحديث عنها، لا يتحقق بدونها تركيب الجهاز كله وتشغيله، ولكن فلنترك هذا جانباً تجنباً للإطالة في غير مكانها، وإنما سنذكر في الفصل المقبل الشروط العامة التي تجعل مثل هذه العمليات متيسرة في البلاد المستعمَرة، غير أننا لا نترك هذا الفصل قبل أن نوضح للقارئ ولو بصفة عابرة، نقطة تتضمن زبدته إلى حد ما: فماذا تفعل أنت حينما تكشف لك الصدفة الخطة الجديدة التي تضمنها هذا الفصل؟ إنك سوف تجد نفسك مضطراً بطبيعة الأشياء، إلى أن تحطم دائرتك الاجتماعية، حينما تشعر أنها أصبحت مركز إشعاع خطير موجه إلى أفكارك، إذ لم يبق أمامك إلا أن تفصل عنك كل العناصر، التي تتركب منها تلك الدائرة أو تنفصل أنت عنها. وإذا حدث هذا، وبوغت القائم بالعمليات بتحطيم الجهاز الدقيق الذي ركبه في دائرتك الاجتماعية، فكيف تتصور أنه سيرد الفعل؟ إنك لست في الموضوع إذا تصورت أن الاستعمار يترك معركة، علق عليها شيئاً من الاهتمام وبذل فيها شيئاً من الجهد- لأنه رأى، في ظروف معينة، أن

لابد أن يوقف بعض الأفكار عند حدها- لست في الموضوع إذا تصورت أنه سيقف مكتوف الأيدي لأنك باغته بمبادرة لم يكن يتوقعها. وإذن ماذا سيفعل؟ إنه بكل بساطة سيحاول تدارك الموقف بكل ما يتوافر عنده من الوسائل المادية والفنية. إنك حطمت جهازه، نعم، ولكنه يمكنه أن يرتقه إلى حد ما حتى تستمر المعركة إلى النهاية التي قدرها. وإذن كيف يفعل؟ إنه سيحاول التعويض عن الدائرة المحطمة بدائرة ملفقة، يركب فيها عناصر مشبوهة لا تعرفها، وبما أنك لا تتصل بها أنت فسوف تتصل بك هي في كل مكان تكون فيه، تتصل بك، أو بصورة أدق، تبدي أنها تتصل بك: فهذا مثلاً رجل يركب الأتوبيس الذي ركبت فيه، وتلاحظ أنه يتظاهر بأنه يعرفك، دون أن يحدثك، فهو كأنما يومئ إليك بشيء في نظره، وحينما تنزل أنت في المكان الذي قررت النزول فيه، تفاجأ بأنه نزل وراءك، ولم يبق إذن أمامك إلا التعلق فوراً بالأتوبيس الذي وضعك على الرصيف، إن لم يكن فاتك .. وهكذا يبقى الرجل على الرصيف مشدوهاً لفساد خطته. وتستمر المعركة هكذا، بمثل هذه التفاصيل الغريبة. هل هذا كل شيء، وكل ما يقال في هذا الفصل؟ فإذن تبقى فائدته معلقة. قد بينا في الفصل السابق أن تطبيق المبدأين- اللذين يكونان أساس الصراع الفكري، بالنسبة للاستعمار- يهدف إلى إقصاء المكافح عن ميدان المعركة، وفصله عملياً وروحياً عن القضية التي يكافح من أجلها.

يجب إذن أن نبين كيف يصل الاستعمار أو يحاول الوصول إلى هذه الغاية، في نطاق التجربة الجديدة التي يصفها هذا الفصل. إننا تناولنا الجانب التحليلي ولم نعط الجانب العملي كفاية من التوضيح: إننا قدمنا أن الاستعمار يريد أن يعزل عملياً من يدخل حلبة الصراع الفكري ضده، وفصله عن القضية التي دخل من أجلها في المعركة، أو على الأقل يحاول فصله عنها معنوياً بالوسائل النفسية المناسبة. ولكن إذا قررنا أن الاستعمار يعرف الغايات لأنه هو الذي حددها، فهذا لا يعني أنه يعلم مسبقاً طوارئ الطريق. وعليه فالقضية تتضمن، بالنسبة له احتمالين: أولهما، هو أن لا يطرأ في الطريق شيء يخالف بصورة ما الأمر الذي بيّته، فتسير الأمور حسب تقديره إلى النهاية، أي إلى أن يجد المكافح نفسه في شبكة، بعض خيوطها من مكر الاستعمار وبعضها من بلادة القابلية للاستعمار، وبذلك سيجد نفسه مفصولاً فعلاً عن القضية. والاحتمال الثاني هو أن يحدث طارئ في الطريق يغير وجه المعركة، لأنك شعرت فجأة بأن عمليات خطيرة تجري على دائرتك الشخصية ودائرتك الاجتماعية، فيتبين لك على ضوء تجربتك، معنى هذه العمليات في مصطلح الصراع الفكري في البلاد المستعمرة. وربما يحدث هذا الطارئ من جراء هذه العمليات ذاتها، عندما يخطئ الاستعمار في تقدير بعض تفاصيلها رغبة في التعجيل مثلاً، فتؤدي به رغبته إلى الخطأ، كي يحقق قوله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء 4/ 76]. ويتغير فعلاً وجه المعركة لأن الكاتب سيقوم بردود أفعال.

ولو تتبعنا، منذ هذه اللحظة، المعركة في صورتها الجديدة، لحصلنا على تفاصيل أخرى تثري معلوماتنا عن الصراع الفكري. فما ردود الأفعال التي يستطيع أن يقوم بها الكاتب، عندما يكتشف فجأة أنه قد أصبح موضوع عمليات الكف التي أشرنا إليها في هذا الفصل؟ وما أثرها من الناحية الموضوعية ومن الناحية الشكلية في تعديل خطة الاستعمار، منذ أن يصبح في مواجهة ردود أفعال لم يكن ينتظرها؟ إن المكافح الذي يكتشف فجأة الأحبولة التي تهدد أفكاره، سيسرع أولاً إلى تحطيم دائرته الاجتماعية كما قدمنا، كي ينتزع من أيدي الاستعمار الأداة التي يستطيع بها القيام بعمليات الكف. ولقد رأينا أن الاستعمار في مثل هذه الحالة، يرد الفعل نفسه بمحاولة إنشاء دائرة اجتماعية ملفقة حولك، لأنك حطمت الدائرة السابقة، فيبدأ هكذا دوراً جديداً، وإذن ستشعر بأن يداً سوداء تنسج حولك ظروفاً غامضة، في كل مناسبة تضطرك إلى الخروج؛ فمثلاً عندما تركب الأتوبيس تجد نفسك مع راكب أجنبي يقوم بكل وضوح بدور (المعرفة المورطة) فيظهر ويخفي، في آن واحد، أن بينك وبينه علاقة، لا يمكنك أن تنفيها، لأن الرجل لم يقل كلمة واحدة، وإنما تكلم بطريقة الإيحاء، حتى تكون أي محاولة من طرفك لإيقافه عند حده، محاولة غير قانونية تعرضك لضحك الناس منك. وتجري المعركة هكذا بمثل هذه التفاصيل، فتكون يوماً على رصيف في انتظار (الباص)، وإذا سيدة أقرب إلى الكهولة منها إلى الشباب، وعليها ملامح الأناقة الخاصة بالسيدات اللائي احتككن كثيراً بالحضارة الغربية، تسألك عن الطريق بلغة عربية تشعرك لهجتها أنها أجنبية، وتدخل فعلاً معك في الحديث، فتشعرك أنها تسافر كثيراً، وأنها آتية من تركيا واليونان، وأنها

مسلمة، وأنها تقضي صلاتها في جامع كذا، ثم تسألك هل أنت مسلم؟ وهكذا يتسع الحديث، وفي النهاية تسألك عن كتاب هو أحد كتبك وأنت لم تشر بنصف كلمة إلى شخصيتك كاتباً. ولا يستطيع من له بعض التجربة في هذا الموضوع، أن يفسر هذه المحاورة الغريبة على أنها مجرد مصادفة كلامية، ومن طرف هذه السيدة الأنيقة، التي أتت تسأل عن طريقها فقط. ومما يزيد في ريبتك هو أنك خلال حديثك مع السيدة، قد لاحظت أن عدسة تصوير بدأت تستعد على الرصيف الآخر، لالتقاط صورتك مع هذه السيدة التركية اليونانية. فلا يبقى شك في ذهنك بأنك في فصل من فصول الصراع الفكري، وأن وراء حديث السيدة عن صلواتها وأسفارها وعما كتب عن القرآن، وراء كل هذا غاية أخرى. أي غاية يا ترى؟ إنه سؤال يبقى للأسف بلا جواب، لأنك لا تعلم الغيب، وليس لديك من وسائل المعرفة والوصول إلى الحقيقة إلا التفسير والتأويل على ضوء تجربتك ... وهذا الطريق غير معصوم من الخطأ إن لم تسنده وسائل أخرى ليست في يدك ... ولا يبقى لك إذن لمواجهة هذه المحاولات- التي تفهمها، دون أن يقنعك فهمها لا يبقى إلا رد فعل واحد: أن تلزم بيتك ولا تخرج منه إلا عند الضرورة القصوى ... وتشعر إذن أنك الفرد الذي يواجه الجهاز الضخم، أنك الإنسان المركب من

لحم ودم، أمام الآلة الدقيقة المركبة من حديد وفولاذ، ويتحقق أمام عينيك المعنى الذي خطر ببالك يوماً ما، عندما أودعت في مذكراتك أنك ((الذرة التي ألقت بنفسها بين قوى هائلة تتصارع في العالم ... وأن الذرة إن لم تحطم، فهي معجزة ... )). هذا وجه الصراع، أو بعض ملامحه من الناحية الموضوعية، ولكن ما صورته من الناحية الشكلية؟ إن الفرد الذي اكتشف فجأة أن عمليات حرمانية تجري على دائرته الاجتماعية، قد يقرن تاريخ هذه العمليات بالحدث الذي لفت نظره إليها لأول مرة، فيصبح هذا الحدث في ذهنه هو بداية العمليات ... ثم تأتي الأيام بمزيد من المعلومات، فتكشف عن أن الحدث السابق، ليس هو البداية وإنما هو من طوارئ الطريق الطارئ، الذي لم يقدره القائم بالعمليات تقديراً محكماً، حتى استطاع أن يلفت به نظر من تجري على حسابه هذه العمليات، فيكشف هذا الأخير أو يرى على ضوء المعلومات الجديدة، أن الصورة الأولى التي أخذها عن القضية، وإن كانت صحيحة من الناحية الموضوعية، ليست صحيحة من الناحية الشكلية، إذ أن الحدث الذي كان يرى فيه بدايتها ما كان في الواقع إلا طارئاً من طوارئ الطريق .. وربما تأتي الأيام بمعلومات أخرى، فتكون نتيجتها من الناحية الشكلية، صورة جديدة للقضية في ذهن من يعيش هذه التجربة ... والآن لو فرضنا أن هذا الرجل ليس لديه، للوصول إلى الحقيقة إلا وسائله الشخصية،- وسائل الفرد أمام الجهاز الضخم، وسائل الإنسان المركب من لحم ودم أمام الآلة المركبة من الفولاذ، وسائل الذرة المقحمة بين قوى هائلة- لو فرضنا أنه أراد أن يرفع القضية، في صورتها الأولى مثلاً، أمام مجلس أرواح استحضره، كي يصدر حكمه فيها ... ماذا سيحدث؟

إن الاستعمار لا يفقد، في أي حال من الأحوال حق الدفاع عن نفسه، ولا يفقد وسائل الدفاع طبعاً ... إنه من دون شك سيكون في أحد الاحتمالين: أولهما هو أنه يعلم أنه في المرحلة التي أثيرت فيها القضية، لم يكن لأحدى علم بالعمليات إلا عند من هو قائم بها، وعند الذي اكتشف فجاة أنها تجري على حسابه. ففي هذه المرحلة يكون تصرف الاستعمار من أبسط ما يكون: إنه يوقف العمليات، ويدخل إصبعه في الظلام ويقول: إن صاحبكم الذي رفع علي هذه القضية مصاب بالوهم والخيال، فاتركوه إلى حاله حتى يرجع إليه رشده. ولا يقول هذا جهراً وإنما يهمس به همساً، ويوحي به إيحاء على عاداته وطريقته. وثاني الاحمالين هو أن تثار القضية، في مرحلة لا يمكن للاستعمار فيها أن يبني دفاعه على أساس البراءة. ولكنه يعلم بطريقته الخاصة أن الرجل الذي أثارها، لا يعرف بالضبط بدايتها، وليس في يده وسائل الوصول إلى معرفتها معرفة قد تكون معها الصورة التي عرض فيها القضية على مجلس الأرواح صحيحة من الناحية الموضوعية، ولكن غير صحيحة من الناحية الشكلية، إذ فيها خطأ من جهة تحديد البداية. وإذن فسوف يستغل الاستعمار هذا الضعف، فيقوم بما يسميه أهل القانون بـ (دفع شكلي) لينقض الدعوى، لا من حيث محتواها ولكن من حيث صورتها، وهذا بالضبط منطق إبليس بعد أن أتم تعليمه في مدرسة القانون الروماني التي تهتم بالشكليات أكثر من الموضوع.

هذه هي الصورة العامة لتجربة معينة خصصنا لها هذا الفصل، كي نبين للقارئ أن الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، يجدد بجانب من جوانبه وبصورة ما، الأسطورة الشهيرة التي يصف فيها أفلاطون، بطريقة رمزية الحالة الغريبة التي يكون عليها بعض الناس، حينما يتصورون الواقع، حسبها يصور لهم لا طبقاً لحقيقته؛ فهم يعيشون في نظر الفيلسوف العتيق، في قعر غار، ملتفتين إلى جدرانه قهراً، فلا يرون سوى الأشباح المتحركة عليه دون أن يفكروا أنها الأشخاص يأتون ويذهبون وراء ظهورهم، وأن ناراً أوقدت بين باب الغار وأولئك الأشخاص هي التي تلقي ظلهم في صورة أشباح متحركة على الجدران، ودون أن يشعروا خاصة، أن الحقيقة ليست في تلك الصور الوهمية، ولا في النار التي تصورها لأبصارهم المسحورة، بل هي خارج الغار، في ضوء النهار، تحت الشمس الساطعة ... ولو عاش أفلاطون في زماننا لأتيحت له الفرصة أن يضيف لأسطورته صوتاً يتخافت ويهمس همساً: صوت الملقن أو المفسر الذي يدلي بالتفسيرات، أو بوجه أدق يدلي بالإيحاءات المناسبة لأصحاب الغار ليزيد في خبالهم خبالاً. ويكون بذلك وصف حالتنا حينما يبدي لنا الاستعمار ما يريد من الصور الوهمية، ويصف لنا الأشياء كيفما يريد بصوت المتخافت. ومهما يكن من الأمر فإننا نستفيد مما قدمنا، أن الاستعمار إذا حاول وخاب مرة أولى، وثانية وثالثة إلخ فإنه مستمر على الرغم من ذلك في طريقه، مصرّ على خططه ... وقد نعجب من هذا ونتساءل لماذا يصر؟ والجواب هو أن الاستعمار يعلم بكل تأكيد، أن الرجل الذي دخل المعركة هكذا، في جبهة الصراع الفكري، ليس بيده كل ما يتمنى من وسائل الدفاع، وأن ردود أفعاله ستكون محدودة بالضرورة، والظروف السياسية ذاتها قد تحدها

أحياناً، وعليه ليس في مواصلة العمليات التي وصفنا بعضها أي خطر بالنسبة لمن يقوم بها، لأن الاستعمار يعرف كما بينا، خريطة الأرض التي تجري عليها، وإنه أمن جميع طرقه ... وبالتالي فإنه يقدر على ضوء معرفة دقيقة في هذا الميدان، أن اسقراره في خططه بعد المرة الأولى والثانية والثالثة إلخ، سوف يؤدي إما لفصل المكافع فصلاً عملياً عن القضية التي دخل من أجلها في المعركة، وإما أن يفصله عنها معنوياً عندما يصور له عبث تلك الذرة التي تريد أن تحطم الجبل. هذا ما يريد وما يقدر الاستعمار، ولكن الأمر ليس بيده ولا بيد أحد إنه بيد من يقدر الأشياء تقديراً فتسير الذرة ويسير الجبل حسب تقديره. ***

الفصل الرابع

الفصل الرابع مظاهر أخرى للصراع الفكري ـــــــــــــــــــــــــــــــ إننا بيّنا في الفصول السابقة كيف يركب الاختصاصيون المشرفون على الصراع الفكري أجهزة خاصة لتحطيم الأفكار، كما يركب العلماء المختصون في علم المواد المشعة أجهزة لتحطيم الذرة. وقد تعرضنا ونحن في الطريق إلى حالات كشفت لنا عن بعض أسرار الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وعن الشروط الاجتماعية- النفسية التي يجري على مقتضاها هذا الصراع. ولكن حالات أخرى بقيت، لاشك، في الظلام، إما لأننا نجهلها تماماً، على الرغم مما يكون فيها من الدلالة والفائدة، وإما لأننا أغفلناها في الفصول السابقة بمقتضى الترتيب الذي يفرضه الموضوع، بينما لاشك بأننا لو تناولناها، وأمكن ذلك، لكشفت لنا عن حقائق أخرى تدل على قوة جهاز الاستعمار في هذا الميدان وعلى إحكام خططه، وربما دل أيضاً بعضها أحياناً، بصورة غير منتظرة على ضعف غير متوقع في هذه الخطط، يشعرنا بمصداق الآية الكريمة: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 4/ 76]. فعندما نتناول فصلاً من الصراع الفكري، تعترضنا حالات تدل فعلاً على أدق قوة الاستعمار في الوسائل يتخللها أحياناً ضعف في التفكير، يجب أن نعيره أيضاً بعض الاهتمام، كما نهتم بالعناصر التي تدل على قوته.

فعلى سبيل المثال ليتصور القارئ أنه دعي يوماً ليحاضر، وأنه اختار إحدى مشكلات البلاد الإفريقية الآسيوية موضوعاً لمحاضرته. فمن المعلوم على ضوء ما قدمنا أن موضوعاً كهذا جدير بأن يثير اهتمام مراصد الاستعمار، فوق أي موضوع آخر، لأنه يتصل بالمشكلات التي تناولها، مباشرة أو ضمناً مؤتمر باندونج، أي بالمشكلات التي تكوّن أهم نشاط سياسي في منتصف القرن العشرين، وأهم مركز للتفكير الاجتماعي في عصرنا. وعليه فنكون من البسطاء إن لم نقدر مبدئياً أن المراصد المختصة ستكون، بصورة أو بأخرى، على أهبة القيام بمهمتها، وهذا من بديهيات الصراع الفكري في البلاد المتخلفة، ثم نجد فعلاً في صحافة اليوم الذي يلي المحاضرة تعليقاً طويلاً على موضوعها، دون أن يذكر اسم المحاضر مرة واحدة، أو يذكر أنه تعليق على محاضرة معينة، وإنما يقوم صاحب هذا التعليق بدور تمثيلي، شاهدنا أدواراً مثله في الطريق، خلال التجربة الطويلة، فنراه يفور غضباً على موضوع المحاضرة، فيستخف صاحبها الذي يتناول موضوعاً سخيفاً كهذا إلخ ... ثم يتنازل ويعطف على هذا الغبي، فيتبرع عليه بالحقيقة التي لم يهتد إليها في محاضرته غير الموفقة، فهذا دور كامل بجميع تفاصيله من الأدوار التي يخصص لها الاستعمار بعض الممثلين. فلو كان ليد الاستعمار رائحة لاكتشفنا بعض الحقائق الخاصة بالصراع الفكري دون أي جهد لعقولنا، ولاكتشفنا مثلاً أن الظروف التي أحاطت بمحاضرة كهذه كانت كلها تعبق بهذه الرائحة، منذ توجيه الدعوة إلى المحاضر، إلى ظهور التعليق الصحافي الغريب على المحاضرة نفسها ... وليس في هذا كله أية غرابة، إنه الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ... ومهما يكن من أمر، فإن غرضنا في هذا الفصل الوصول، بقدر الإمكان، إلى بعض الحقائق التي لم نصل إليها في الفصول السابقة.

وقد تكون الحقيقة التي نصل إليها متصلة بجانب واقعي، أي إننا نستخلصها من سياق قصة تتضمن سلوكاً معيناً، يكشف لنا عن ضعف خلقي في مجتمعنا، أو تكون متصلة بجانب نظري، عندما نستنتجها من سياق منطقي، يتضمن طريقة تفكير معينة، تكشف لنا عن ضعف في جهازنا الفكري. وأحياناً يكشف لنا الواقع الذي نقف عنده جانبي الضعف في وقت واحد: قد نذكر مثلاً كيف تتصرف جريدة، تصدر تحت شعار العلم والدين، حينما يرسل إليها أحد بمقالة في موضوع اجتماعي يتصل بصفته توجيهاً عاماً بالحياة السياسية، فإذا بنا نرى الصحيفة العلمية الدينية تجزئ المقالة المذكورة إلى نصفين، فتنشر النصف الأول، ثم لا تنشر النصف الثاني إلا بعد أسابيع، أي عندما لا يبقى أثر ما نشر من الأول في الأذهان، ولا يبقى للقارئ فرصة يشعر معها بوحدة الموضوع ويدرك معناه في حدودها، وحتى تفوت بالتالي، على القارئ الفائدة التوجيهية التي قدرها صاحب المقالة هدفاً لمقالته. فقصة كهذه، زيادة على أنها تعرض إلى تأملنا اعتبارات واقعية تتعلق بسلوك أفراد، يستغلهم الاستعمار في بعض ظروف الصراع الفكري، فإنها تضعنا من ناحية أخرى، أمام اعتبارات نظرية ذات أهمية تتعلق بحياة الأفكار الخاصة ذاتها، بوصفها كائنات حية مستقلة، تؤدي وظيفتها بنفسها طبقاً لفعاليتها الخاصة، كما تتعلق بالفكر بصفته أداة تنسيق وتركيب للأفكار حتى تؤدي وظيفتها. وعليه فالجانب النظري في موقف صحيفة كالتي سبق ذكرها يجب أن يثير اهتمامنا كله. إننا تحدثنا فيما سبق عن النزعة (الذرية)، النزعة التي تجعل كما بينا تفكيرنا عاجزاً عن ضم مجموعة من الأفكار في اطراد واحد طبقاً لتسلسلها، ضماً يحول بين

عقلنا وبين تتبع الفكرة في حركتها المنطقية؛ ولهذه النزعة في الميدان السياسي يرجع سبب تحطيم وحدة المشكلات العضوية وتجزئة الحلول، حتى تصبح السياسة العاطفية، وهي التعبير عن التفكير (الذري) في الواقع المحس، تصبح تلك السياسة عاجزة عن صياغة حكم صحيح على ذلك الواقع، لأن الحكم يفترض قاعدة يجب الرجوع إليها، ومقياساً تقاس به الأمور! أي يفترض تركيب مجموعة أفكار وتنسيقها، أعني أن (الحكم) يفترض عمليات ذهنية لا تتفق مع التفكير الذري. والشيء المؤسف في مثل هذه الحالة هو أن المرض له تأثير عكسي أو متبادل، فعندما تصبح السياسة عاجزة عن صياغة الحكم اللائق عن واقع البلاد، تصبح البلاد عاجزة عن صياغة الحكم الموفق في توجيه سياستها وفي تعديلها إذا انحرفت. فلو أننا حللنا بعض الحالات السياسية التي نتجت في البلاد الإسلامية على أثر الحرب العالمية الثانية، فسنخرج حتماً بنتيجة هي أن الذين قادوا الشعوب إلى الكوارث الكبرى، لم يكونوا من المحترفين العاديين الذين يسيرون في ركب الاستعمار على مرأى العيون، بل هم على العكس من ذلك، رجال مكرمون، مرفوعون على منابر الزعامة وكراسي الحكم: رجال وضعوا في حرم أوطانهم مواضع (الأبطال) وبنيت لهم الأضرحة الفخمة أو هم بنوها من أموال أوطانهم قبل أن يبرحوا الحياة الدنيا. ليس في إمكان أي مؤرخ اجتماعي أن يقدر تقديراً صائباً الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي، يوم تأسست دولة باكستان، ولكن نستطيع من الآن أن نقول إنها غيرت مجرى تاريخ الإسلام في آسيا لعدة قرون، وحينما نحلل هذه الكارثة بصفتها حادثاً سياسياً يتصل بطبيعة الحال بطريقة تفكير معينة، نرى أن فكرة (باكستان) هي أبرز صورة تظهر فيها النزعة (الذرية) بكل وضوح.

فهي بصفتها فكرة، تكوّن في حد ذاتها حالة جديرة بالاهتمام في دراسة كهذه، لأنها تكشف لنا جانباً من الصراع الفكري لم نقف عنده في الفصول السابقة، إذ أننا لم نتناول الموضوع حتى الآن، إلا من جانب سلبي، أي إننا تعرضنا إلى الحالات التي تكشف لنا، كيف يرسم الاستعمار خطته كي يحطم أفكاراً معينة، أو كيف يسد أمامها الطريق حتى لا يتركها تصل إلى وعي الجماهير. أما الحالة التي نتناولها هنا فإنها تكشف لنا عن جانب إيجابي، أي تكشف لنا هذه المرة، كيف يخلق الاستعمار الأفكار المناسبة لمصالحه، وكيف يغذيها في وعي الجماهير، ويروجها في أسواق السياسة العاطفية. إن فكرة باكستان من هذا الإنتاج: فكيف استطاع الاستعمار أن يحقن بها ضمير المسلمين؟. إنه من الواضح أن القضية تتصل بجوانب الضعف في هذا الضمير، أي بمجموعة الاستعدادات التي أطلقنا عليها، في دراسة أخرى، القابلية للاستعمار، كما تتصل من ناحية ثانية، بفن الاستعمار في خلق الأسطورة. فربما أعطانا عرض هذه القضية على أنها مجرد حادث من حوادث التاريخ السياسي في القرن العشرين فرصة لإضافة بعض الملاحظات للموضوع، لأن خلق فكرة باكستان من أهم الحوادث السياسية التي تتجلى فيها جوانب ضعفنا وفنية الاستعمار. لسنا في حاجة إلى أن نتناول أصول الفكرة البعيدة التي تمتد إلى حوالي سنة 1906، حينما أعلنت مراصد الاستعمار الإنجليزي ظهور فكرة جديدة في أفق السياسة الإمبراطورية في ذلك العهد، تلك الفكرة التي كانت تتمثل في صورة جبهة وطنية معادية للاستعمار، تكونت في الهند على يد الزعماء الذين كانوا يخوضون المعارك التحريرية الأولى مثل متيلال نهرو، والد رئيس الحكومة الهندية السابق.

ولكنا سنتناولها حين كانت على وشك التحقيق، في صورة مشكلة سياسية ملحة، أعني في الملابسات الدولية التي خلقتها الحرب العالمية الثانية. إن من الواضح أن هذه الحرب قد خلقت تصميماً عالمياً جديداً، وانتهت إلى توزيع جديد للقوى في العالم، ولم تكن السياسة الإنجليزية متسمة بطابع العاطفة، حتى تنسى أنها ملزمة بمواجهة هذه الحالة الجديدة. فعلينا إذن أن نتصور هذه الضرورة السياسية، حينما تدخل الدور العملي التطبيقي في تخطيط يشرف عليه رجل مثل تشرشل، إنه يجب أولاً أن نتصور القضية كما يتصورها هذا العملاق السياسي، أي أن نضع المشكلة كما يضعها هو في مصطلحات (القوة) كي نفهم الحل الذي وضعه لها. وتشرشل لم يكن بكل تأكيد، آخر من قرأ، من رجال الدولة الإنجليزية، المحاضرة الشهيرة التي ألقاها السير جون هالفورد وتناول فيها موضوع (القاعدة الجغرافية للتاريخ)، كما أنه لم يكن بكل تأكيد أيضاً الرجل الذي لا يحسم أية مشكلة سياسية ذات أهمية معينة، دون أن يلقي أولاً نظرة على الخريطة الجغرافية. وعلى هذا، ففي سنة 1945 وجدت إنجلترا نفسها مضطرة إلى حل مشكلة الهند، في وضع دولي غيرته الحرب العالمية الثانية تغييراً شاملاً، حتى لم يعد أي حل صالحاً لحسم هذه المشكلة، إذا لم تستمد عناصرها كلها من الواقع العالمي الجديد، إذا لم يراع فيها ما تمليه خريطة التوزيع الجديد للقوة في العالم. وهذا الواقع العالمي الجديد يفرض، أولاً وقبل كل شيء استقلال الهند، على أنه ضرورة تمليها الظروف القاسية بالنسبة للاستعمار، التي نتجت عن الحرب، ولكن هذه الظروف نفسها وضعت انجلترا أمام (مشكلة القوة)، لابد من حلها في ملابسات دولية جديدة على أي صورة، فكان عليها إذن أن تأخذ في حسابها، ثلاثة عوامل في سياق واحد:

1 - تطور ست مئة مليون صيني على حدود البلد. 2 - تطور أربع مئة مليون، تمثل مجموع الشعب الهندي. 3 - تطور الجماهير المسلمة الموزعة على خريطة آسيا. وهذه الحشود من البشر تكون، في نظر رجل سياسة مثل تشرشل، يخضع تفكيره إلى مبدأ الفعالية ومنطق القوة، قوات هائلة لابد من تضعيفها أو توجيهها أو تحطيمها. وكان حل المشكلة الأولى يبدو، خلال السنوات التي تلت الحرب مباشرة، كأنه قد تحقق فعلاً في شخص تشانج كاي شيك، فقد كان توجيه الشعب الصيني على يده شيئاً ممكناً. ولكن سرعان ما ذهبت التطورات السياسية في البلاد بهذا الحل إلى ظلمات التاريخ، وبدت هذه المشكلة في صورة جديدة بالنسبة للمنطق السياسي الذي يطبقه تشرشل، إذ يجب أن يفكر الآن كيف يبني على حدود الهند، سداً للحد من انتشار الشيوعية الصينية في شبه القارة وفي جنوب شرق آسيا. بينما لا يمكن أن يكون هذا السد سوى استقلال الهند، حتى لا يبقى للشيوعية تأثير على الشعور الوطني في الهند، ولا تبقى - في حالة نشوب حرب عالمية ثالثة- جاذبية خفية، كالجاذبية النازية التي أثرت قليلاً أو كثيراً، على الشعوب المستعمرة خلال الحرب العالمية الثانية. وهنا تواجه إنجلترا المشكلة الثانية: فعندما تستغل الهند بملايينها الأربع مئة، تصبح قوة من الدرجة الأولى في آسيا (¬1). فيجب إذن التوفيق بين استقلال الهند، بصفته ضرورة في التخطيط السياسي العالمي الجديد وبين ضرورة إضعاف قوتها. ¬

_ (¬1) مما يلاحظ بهذا الصدد أن نهرو نفسه اعترته نشوة القوة، غداة استقلال الهند، فقد رأيناه يصرح في ذروة الفرح أن الهند تكافح إلى أن تكون دولة عظمى مع الصين وأمريكا. فكان إذن تشرشل محقاً في وضع المشكلة في مصطلح القوة.

فكانت فكرة باكستان ثمرة هذا التوفيق، أي إنها الحل المناسب للمشكلة الثانية التي كان على تشرشل أن يحلها، غداة الحرب العالمية الثانية، في نطاق استقلال الهند. ولكن إذا كانت الفكرة تحددت مبدئياً فيما يبدو في نطاق المشكلة الثانية فإنها تتخذ صورتها الكاملة في نطاق المشكلة الثالثة، أي بالنسبة إلى مصير الجماهير المسلمة التي يحتمل أن تكوّن في الهند وفي جنوب شرق آسيا قوة هائلة، إذا تابعت سيرها على الطريق الذي تسير عليه منذ انتشار الإسلام هناك. فكما أن استقلال الهند كان في الواقع سداً في وجه الشيوعية ليحد من انتشارها، فكذلك كان تأسيس دولة (باكستان) سداً وضع ليحد من انتشار الإسلام في الهند، حتى لا تنشأ (قوة) إسلامية في شبه القارة، نظراً إلى أن كل ما يضعف مركز الإسلام في الهند يضعف إشعاعه في آسيا وبالتالي في العالم. إن هذه التفاصيل تدخل كلها في الحسبان في عملية سياسية معقدة، وفي عملية ذهنية واحدة يقوم بها رجل سياسة مثل تشرشل، حينما يفكر في مشكله معينة تتضمن التوزيع الجديد للقوى في العالم. ومن هنا تبدأ فكرة باكستان التي تهمنا بصفتها قضية فكرية في نطاق الصراع الفكري، لأننا نرى الاستعمار يحقنها في الضمير المسلم بسهولة نادرة. إننا رأينا كيف قدر الاستعمار الحلول لمشكلة سياسية معينة، طبقاً لمبدأ توزيع القوى المناسب لمصالحه. ونحن هنا نرى في الواقع أن الاستعمار يأتي بهذه الحلول، وهو يلقي نظرة على الخريطة الجغرافية التي سترسم على سطحها، ونظرة أخرى على الخريطة النفسية للعالم الإسلامي الذي سيستقبل تلك الحلول بالتهليل والتكبير. وهو في نظرته الأخيرة هذه إنما يكشف النزعة الذرية: أي النزعة التي تجعلنا لا نتصور قضية سياسية في صورتها الحقيقية، لأننا لا نجمع عناصرها في

عملية ذهنية واحدة، ولا نرتب تفاصيلها في سياق واحد. فعندما فكر تشرشل، على أثر الحرب العالمية الثانية، في قضية التوزيع الجديد للقوى في العالم، نراه يدرس في الواقع ثلاث مشكلات أشرنا إليها، لم تر قيادتنا السياسية في كل هذا إلا مظهراً واحداً، هو تأسيس دولة باكستان، طبقاً للميول العاطفية المستولية على الخطة السياسية في بلادنا وطبقاً للنزعة الذرية المستولية على العمليات الفكرية عندنا. وهكذا فعندما يحطم الاستعمار فكرة معينة، مثلاً كتلك المقالة التي مزقتها الصحيفة العلمية الدينية التي أشرنا إليها، نرى الفكر عندنا عاجزاً عن جمع شتاتها، في عملية ذهنية واحدة تعيد إليها وحدتها ومغزاها (¬1)، نراه عاجزاً أيضاً وللسبب نفسه عن اكتشاف التزييف عندما يخلق الاستعمار فكرة مزيفة ليروجها في سوق السياسة العاطفية. وهذا العجز في الاتجاهين، ليس من طبيعة الفكر الإسلامي كي يزعم المستشرق جيب؛ ولكن من أثر التطورات التاريخية التي اعترته مند عهد ما بعد الموحدين، وخاصة، منذ عهد الاستعمار والقابلية للاستعمار، فسلبته ميزات العقل الذي شق طريق الحضارة الإسلامية ومهد سبيل الحضارة الحديثة ... وهكذا كلما سلب العقل ميزاته، وفقد المقاييس التي تهديه السبيل، كانت الكوارث السياسية على الأبواب، واستطاع الاستعمار أن يحقق أهدافه ضد الأوطان والأديان، تحت شعارات مقدسة كـ (إسلام) و (وطن). وها نحن أولاء، بعد عشر سنوات تقريباً، نرى أن المسلمين الذين كانت دعوى إنقاذهم أساساً لفكرة باكستان، يرون أن منقديهم شتتوا شملهم وبددوا ¬

_ (¬1) قد شاهد المؤلف هذه الظاهرة، لا في تجربة واحدة، ولكن في تجارب متعددة، فهو إذن يقدر هذه الخاصية تقديراً موضوعياً.

قوتهم، ومزقوا وحدتهم وصيروهم أقلية حقيقية، بدعوى أنهم لا يريدون أن يتركوهم في وضع أقلية وهمية، ومما يزيد في العار وفي فضيحة الموقف وفي خزي السياسة العاطفية، أن نرى سخف المنطق الذي سارت على هديه القضية حيث قلنا، تأييداً لها، أو سمعنا من يقول، تدعيما لبرهانها: نعم إن المسلمين يأكلون البقرة والهندكيين يعبدونها، فلا يمكن أبداً أن نجمع بين طائفتين هذا شأنهما. ولو استطاعت البقرة النطق لقالت: ما بال القوم لا يتركونني وشأني، مع من يعبدني ومن يأكلني. ولكن للأسف إن القيادة السياسية التي قادتنا في معركة فلسطين، وفي تقسيم الهند لم تكن من نوع البقر ... وإلا ما كان يستطيع تشرشل أن ينفذ خطته ولا الاستعمار أن يحقق أهدافه. وها نحن أولاء مضطرون في النهاية إلى تسجيل حقيقة مرة مثلما سجلها التاريخ: فعلى اعتبار أن فكرة باكستان كانت في عقولنا دواء لحالة مسلمي الهند، فيجب أن نعترف أن الدواء كان شراً من الداء. ولكن مما يسلينا ويواسينا هو أن القواعد والمقاييس المنطقية قد تغيب، أحياناً حتى في البلاد التي نتلقى منها الدروس. لقد رأينا منذ أسابيع، موجة استنكار تكتسح العالم بسبب حكم أصدرته السلطات الاستعمارية في الجزائر على فتاة جزائرية. وإننا نشارك طبعاً في هذا الاستنكار حينما نرى أبرز الشخصيات السياسية تحني الرأس تقديراً للرأي العالمي، ونحن أيضاً نحني الرأس أمامه، ولكن أليس من حقنا أن نسأل أنفسنا لماذا هذه الصحافة التي هزتها الموجة التي نشير إليها، كما اهتزت أيضاً لقضية الكردينال مندزنتي ولقضية مكاريوس، لم تحرك ساكناً بشأن فضيلة الشيخ العربي التبسي، حينما اختطفته اليد السوداء من بيته في الجزائر فغاب حتى الآن خبره.

إن مشكلة المقاييس لها حتماً دورها في جميع البلاد، وفي سائر الميادين، والواقع يدلي لنا أحياناً بالبرهان: فمثلاً، بمناسبة معرض الرسم في لوس انجلوس، منذ شهر (¬1) منحت الجائزة للوحة ثبت أخيراً أنها من عمل ببغاء أراد صاحبه أن يفسح مناسبة للضحك، وطبيعي أن الجمهور ضحك فعلاً عندما بلغه صدى القصة، وضحك على حساب المحلفين الذين أصدروا حكماً على عمل دون الرجوع إلى مقياس، ولكن عندما يحدث هذا الخطأ، في السياسة على أثر حكم مماثل، فالمناسبة لا تكون حينئذٍ للضحك بل للبكاء. غير أن هذه المشكلة لا يبلغ أثرها في البلاد الأخرى ما يبلغه عندنا، حيث يمتد إلى جميع الميادين السياسية والفكرية. إن العالم الغربي على الرغم من أن (القاعدة المنطقية) لا تحتل فيه مكاناً كالذي نجده في دول أخرى، فإن الناس هناك لا يستهينون بالمقاييس، بل يرجعون إليها في قياس الأفكار وأنواع السلوك، بل يحدث أن يتخذ (النقد الذاتي) في الغرب لهجة، تفوق قساوتها ما تصل إليه في بلاد أخرى تتعصب لمبدأ النقد، وقد حدث فعلاً هذا منذ شهور عندما وجه أحد أعضاء مجلس اللوردات بإنجلترا نقداً إلى الملكة اليزابيث، فكان لنقده صدى كبير في البلاد نفسها وفي العالم. وهكذا نرى تأثير المقاييس المعدل في حياة الشعوب وفي توجيه سياستها. إننا ندرك من هنا اهتهام الاستعمار بالاتجاهات المعادية لنظام الرقابة الذاتية، وكيف يرعاها لأنها تدعم الانحرافات التي يريد دسها، عن طريق (أفكار متجسدة) في سياسة البلاد التي تحاول التخلص منه، وكيف يسعى بكل جهده لتحطيم الأفكار المجردة حتى لا تقوم بدورها المعدل، وهو يبلغ هذه الغاية حين يحرك الميول المتجسمة في الفرد أو (مركب الأفراد) الذي يمثل الكفاح ضد ¬

_ (¬1) كتب هذا الفصل سنة 1956

الاستعمار، في الصورة التي تكون في نظره شراً لابد منه، لإبقاء الشعب المستعمر في نطاق السياسة العاطفية، وللحيلولة بينه وبين بلوغ مرحلة السياسة المقعدة التي يشير إليها رجل السياسة، في التصريح الذي أوردناه في الفصل الأول، بأنها (علم لا يخطئ). والاستعمار يطبق في هذا المجال طريقة (دمل التصفية)، فهو يجمع القوى المعادية له تحت سلطان العاطفة، حتى لا تتجمع تحت قيادة (الفكر المجردة)، فتراه أحياناً يلوح بالمنديل الأحمر في مكان معين ليستدرج إليه القوات المكافحة ضده، وتارة يسلط عليه أضواء المصابيح كي يلفت انتباه الجماهير عن مكان آخر تدور فيه المعركة. ونرى أحياناً أبطال السياسة العاطفية يقومون تحت إشرافه، دون أن يشعروا، بدور صمام فصل الدائرة الكهربائية، في الراديو، ذلك الجهاز الذي يفصل بعض الموجات غير المرغوب فيها عن الاستقبال: فهو يفصل هنا بعض الأفكار عن الحركة السياسية، حتى لا تؤثر في توجيهها أو في تعديل انحرافاتها إذا حدثت. فلو أننا تتبعنا النشاط الاستعماري في الميدان الفكري في دورة كاملة، أي في معركة تحرر من بدايتها، لرأينا أن (صمام الفصل) الذي نشير إليه يقوم بدوره على مرحلتين: أ - ففي مرحلة ما قبل الثورة يقوم بدور اللافتة التي ترفع فوق رأس الشعب الشعارات الساحرة: الحرية، الاستقلال، الوطن؛ حتى يحوّل الأنظار عن الأفكار الفنية التي تبحث عن الطرق العملية لتحقيق هذه الشعارات. ب - وفي مرحلة ما بعد الثورة أي في مرحلة التنظيم بعد التحرر، ترى نشاطه يشوه تلك الشعارات ذاتها حتى يستولي على العقول الريب، ويتسرب إلى القلوب الندم، والأسف على عهد الاستعمار.

وهكذا تستخدم السياسة العاطفية على أنها (صمام فصل) في المرحلة الأولى لتجميد الطاقات التحررية في المكان الذي يلوح فيه الاستعمار بالمنديل الأحمر، ثم في المرحلة الثانية تستخدم لتهديد المثاليات التي دارت تحت لوائها معارك التحرر ... وفي كلتا الحالتين يهدف الاستعمار، بالوسائل المناسبة إلى فصل البلد المستعمَر عن بعض الأفكار، فإذا كانت منبعثة من الداخل، فمن الميسور لديه أن يستخدم وسائل الضغط والإرهاب مع من دخل المعركة تحت رايتها، أما إذا كانت آتية من الخارج، أي إذا كان صاحبها قد أفلت من نفوذ الاستعمار المباشر، فسيكون الاستعمار مضطراً إلى التكيف مع الظروف الجديدة في الصراع الفكري، وإلى استخدام الوسائل العلمية التي أشرنا إليها عندما وصفنا صنفين من (مرآة الحرمان) في الفصول السابقة. ***

الفصل الخامس

الفصل الخامس على هامش كتاب ـــــــــــــــــــــــــــــــ إننا لم نقل، عندما وصفنا في الفصول السابقة صنفين من (مرآة الحرمان)، إن ما وصفنا هو كل ما تنتجه ترسانة الاستعمار لتحطيم الأفكار. إننا لو فكرنا هكذا فسوف نكون قد أسأنا الظن بالاستعمار، وبإمكانياته المتعددة المتنوعة لمواجهة الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، بل إن كل مناسبة جديدة تكشف لنا عن وسائل جديدة، وعن خطة مجددة، وعن شباك محدثة كأن الاستعمار لا يريد أن يترك لخصومه أن يدخلوا معركة اليوم، بما تزودوا به لمعركة الأمس، فوسائله تتنوع حسب الظروف، وطبقاً للمناسبات، فهو لا يحافظ إلا على المبادئ الأساسية التي يطبقها في كل مناسبة وفي أية ظروف. وعليه فتكون محاولة جنونية، لو هدفنا في هذا العرض إلى أن نضع قائمة إحصائية للوسائل التي يستخدمها، وللخطط التي يطبقها في الصراع الفكري لقد أردنا فقط تزويد القارئ بمعلوممات كافية عن المبادئ ذاتها. ولو استطعنا أداءها له بالطريقة النظرية البحتة، أي دون ذكر تفاصيل خاصة لفعلنا، ولكننا نطرق موضوعاً جديداً كل الجدة، لا يمكن معه تناول الجانب النظري منه منفصلاً عن الواقع الذي يدل عليه، وإنه لا يمكن أن نجرد حقائق الصراع الفكري في البلاد المستعمرة دون أن نذكر الواقع الذي منه جردناها، ولا يمكن أن نستخلص المبادئ دون أن نشير إلى الوقائع التي استخلصناها منها، مع

ما يناسب من التحفظ في الموضوع، حتى لا يكون للنزعة الذاتية فيه مجالٌ باسم التجربة الشخصية. إن الشيء الذي تقره التجربة بكل وضوح، هو أن الاستعمار يتكيف مع الظروف، حتى إنه يتخذ أحياناً طرقاً وسبلاً، لا ينتظر أن يتخذها ويتبعها لبعدها ظاهراً عن الميدان الذي تدور فيه المعركة، حتى إن الفكر يصبح أحياناً في حيرة حينما تتجلى له فجأة الحقيقة، وهي أن الاستعمار يفتح دائماً في الصراع الفكري أبواباً جديدة، لم نكن نفكر أنه سيأتي منها هجوم، فيأتي الهجوم من تلك الناحية التي لم نعدّ لها عدتها، ولم نستعد لصد الغارات التي تأتينا منها. هذه حقيقة الصراع الفكري عامة، وإنما نريد توضيحها بواقعة تتضمن تفاصيلها ومحتواها. فليتصور القارئ أنه أتى إلى عاصمة عربية منذ أربع سنوات ليقوم بمسؤولية مواطن ومسؤولية كاتب. وأنه أتى خاصة من أجل نشر كتاب يتعلق موضوعه بمؤتمر باندونج، ولا شك أن القارئ الذي أخذ عبرة مما قدمناه وأصبحت لديه خبرة بما سلف ذكره، لاشك أنه يقدر أول ما يقدر، أن كتاباً هذا موضوعه لا يمكن أن تغيب فكرته عن شبكة المراصد المختصة بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ولو ذكرنا بعض التفاصيل البسيطة لزدنا هذا القارئ يقيناً بموضوعية هذا التقدير، وإنما نلخص هذه التفاصيل كلها فنقول: إن من يكتب في موضوعات كهذه، وهو يعيش في بلاد مستعمرة، يرى نفسه ((كذرة ألقت بنفسها بين قوى رهيبة متطاحنة، ويشعر بأنه إن لم يحدث لتلك الذرة أن تسحق إلى غبار الغبار فإنها معجزة)). ومن الطبيعي إذا كان في نفسك هذا الشعور عند وصولك إلى العاصمة العربية، أن تفكر أولاً كيف تضع الكتاب الممقوت في قرار مكين، فتتوجه به

مثلاً إلى إحدى الهيئات لتجعله تحت رعايتها، ولسوف يتم هذا فعلاً، كما تمنيت، إلا أنك سوف تفاجأ أثناء زيارتك لتلك المصلحة الحكومية، حينما يقول لك من يتحدث باسمها، إن أحد الصحفيين، وهو مراسل جريدة كبرى من باريس قد سبقك، وقدم للمصلحة نفسها عرضاً بأن يقوم فيلسوف فرنسي بدراسة عن موضوع مؤتمر باندونج، حتى يستخلص منه نتائجه النظرية، في صورة تخطيط لحضارة إفريقية آسيوية تضم في تركيبها جانباً غربياً. ولا شك أن من تتبع النظريات السياسية منذ الحرب العالمية الثانية، سيشعر حيناً بما في هذا العرض الغريب من قرابة لفكرة أوربا- إفريقية ((التي جادت بها القريحة الاستعمارية الصادرة عن فلسفة النازية))، وهي من مخلفات هتلر الفكرية في النفسية الاستعمارية الجديدة، التي نرى من آثارها السياسية، الجبهة الأوربية التي اتخذت قاعدتها في مدينة سترازبورج بشرق فرنسا. فعرض الصحفي الباريسي يتصمن هذه الفكرة الاستعمارية في نطاق أوسع: نطاق فكرة أوربية - إفريقية - آسيوية. ومما يزيد أهمية هذا العرض، هو أنه- فيما يبدو وكما قيل أثناء زيارة المصلحة المذكورة- قد عرض أيضاً على شخصيات مختصة بنيودلهي وبجاكرتا. فهذا دون ريب مسعى غريب، ولكن غرابته ذاتها تزيدنا اهتماماً بشأنه، وتدعونا إلى التفكير في أمره. وإذا فكرنا فيه زاد اهتمامنا بقدر ما تقل غرابته في نظرنا إليه من وجهات متعددة: فيمكننا أولاً أن نناقش العرض الذي قدمه الصحفي الباريسي على أنه مجرد فكرة نشأت في عقل إنسان، أي بصفته فكرة تقبل المناقشة، ورأياً يقبل الأخذ والرد، على أنه وجهة نظر خاصة تحتمل الصواب والخطأ، تبعاً لما إذا كنا نعترف أو ننكر إمكان قيام حضارة إفريقية آسيوية، يكون في تركيبها دور خاص للحضارة الغربية.

ولكن أليس في موقف كهذا إفراط في البراءة؟ إن من له أدنى حظ من الخبرة بالموضوع، يرى نفسه مضطراً إلى تأويل عرض الصحافي الباريسي تأويلاً آخر: وإذا بما كان يُستهان به بمجرد النظرة الأولى إلى هذا العرض الغريب، يأخذ مظهراً جديداً لا مجال فيه للبراءة. فالنظرة الفاحصة إلى عرض غريب كهذا، تكشف من أول لحضة (في لونه الخاص، وفي ضوء الملابسات السياسية التي تمر بها البلاد الإفريقية الآسيوية) أنه يتصل بالصراع الفكري الذي نشأ على أثر مؤتمر باندونج، فإذا قدرنا أن المراصد المختصة بهذا الصراع قد تهتم بظهور أي كتاب يتصل بموضوع باندونج، فبالأحرى أن نقدر اهتمامها الخاص بكتاب فيه محاولة استنباط مضمون فكري من هذا المؤتمر، يحتمل أن يكون نظرية للفكرة التي سوّغتها مناقشاته وقاعدة أيديولوجية، يقوم عليها كفاح الشعوب التي تعارفت فيه؛ ومن المعقول جداً أن نرى صلة بين هذا الكتاب وعرض الصحافي الباريسي، لأنهما يلتقيان في نقطة اهتمام الاستعمار بكل ما ينشأ- في النطاق السياسي والفكري- عن مؤتمر باندونج، مع كل ما يتخذه من احتياطات بهذا الصدد: فاهتمام الاستعمار بشيء يتلاقى حتماً في نقطة معينة مع احتياطه منه. وإذن فليس من ترف الحديث أن نقول: إن كتاباً من طبيعته أن يثير اهتمام الاستعمار لابد أن يتلاقى مع احتياطاته منه. وإذا صح لنا أن نقرر هذا بمقتضى الظروف التي تحيط بالواقعة والشروط التي يجري عليها الصراع الفكري، فإننا لا نغلو في نظرنا إلى الأشياء، عندما نقدر أن عرض الصحافي الباريسي هو بالضبط نقطة الالتقاء، التي تمثل اهتمام الاستعمار بكتاب نوهت به مراصده والاحتياطات التي يجب أن يتخذها ضده.

وما هذه الاحتياطات؟ وكيف يمكن أن نرى أثرها في عرض الصحافي الباريسي؟ يجب أولاً أن نقدر، مع ضرورة ذكرنا مسوّغات هذا التقدير كي لا نتورط في إطالة لا حاجة لها هنا ... يجب أن نقدر أن الاستعمار كان على علم بالطريق الذي سيسلكه صاحب الكتاب، عند وصوله إلى العاصمة العربية التي أشرنا إليها، وهذا استنتاج جد بسيط بالنسبة للاستعمار، لأنه قدر تقريباً جميع الظروف التي تحيط بالمؤلف. وإذن فليس من الغلو في شيء أن نرى في وصول الصحافي الباريسي إلى العاصمة نفسها وفي زيارته للمصلحة نفسها ليقدم لها عرضه الغريب، قبل بضعة أيام من وصول وزيارة صاحب الكتاب، نرى شيئاً قدرته ضرورة الصراع الفكري بالنسبة لهذا الكتاب. وهذا أمر سهل تصوره: فإذا أخذنا في اعتبارنا على ضوء ما سلف توضيحه في زيارة الصحافي الباريسي، وما يمكن أن تثير من نقط استفهام، بسبب الصورة التي قدم فيها عرضه الغريب، كأنما كان يهدف إلى إحاطته بالشبهات، ويستحث حوله الشكوك، تبين لنا أن هذه الأشياء كلها بما فيها من شذوذ تكوّن في الواقع مرآة حرمان من نوع خاص، لأن هذا الشذوذ هو نفسه مصدر الكف والحرمان. وحتى ندرك ذلك يجب أن نجمع هذه العناصر كلها، كما تتجمع فعلاً الآثار التي خلفتها زيارة الصحافي الباريسي، وستخلفها زيارة الكاتب بعده، إلى المصلحة نفسها، يجب جمعها في عملية ذهنية واحدة وفي سياق نفسي واحد. إن مدير المصلحة الذي زاره صحافي يعرض عليه ((مساهمة فيلسوف فرنسي في إبراز فكرة باندونج))، ثم يزوره صاحب كتاب يتصل بالضبط بهذا

الموضوع، لا يمكنه عادة، أن يفصل، في عقله وفي نفسه هاتين الزيارتين. وهكذا تصبح تلقائياً، زيارة الصحافي مقدمة لزيارة المؤلف، ولكنها تشع دوافع الحرمان على ما تقدمه، وإذن فلا مبالغة في القول إنها مقدمة مقصودة بجميع تفصيلاتها المشبوهة، أي بجميع تفاصيلها المشعة للكف والحرمان لسد الطريق في وجه كتاب أفلت- في ظروف معينة لا يتسع المجال إلى شرحها- من رقابة الاستعمار المباشرة، إفلاتاً لم يبق معه في استطاعة الاستعمار إلا أن يلجأ إلى الوسائل العلمية لسد الطريق في وجهه. وليس من الصعب أن نتصور الأثر العقلي- النفسي الذي خففه بهذا الصدد، الصحفي الباريسي أثناء زيارته بالعاصمة العربية، ونيودلهي، وبجاكرتا ... أي على طول الخط الذي من شأن كل كتاب يتصل بباندونج أن يتبعه في حالة انتشاره الطبيعي. إن المتحدثين معه خلال هذه الزيارات، ما كانوا لينخدعوا بعرضه الغريب، وهم يعلمون أن الفلسفة ليست بضاعة يعرضها في الأسواق صحافي يقوم بدور السمسار، ويعلمون أنه لا يوجد فيلسوف، فرنسياً كان أو غيره، يعرض نفسه بهذه الطريقة المحتقرة. والصحفي نفسه، يعلم هذا: فحينما يقوم بدور السمسار فليس ذلك في الواقع عرض أفكاره، ولكن لتشويه أفكار معينة، وهذا من صميم الصراع الفكري، ومن نبعه ومن منطقه ومن أسلوبه. إن السمسار الذي يأتي بعرض غريب كالذي أتى به الصحفي الباريسي، لا يمكنه أن يخدع محدثيه، هذا إذا قسنا بمقياس العقل، وأما إذا قسنا بمقياس النفس فربما قلنا إنه خدعهم فعلاً بما خلف في نفوسهم من دوافع لا شعورية تؤدي

مفعولها تلقائياً في الوقت المناسب، على طريقة القنبلة الزمنية التي تنفجر في وقت معين، أي عندما يأتي بعده صاحب الكتاب. ومما يجب ملاحظته، على الأقل بالنسبة للعاصمة العربية هو أن (العروة الوثقى) مهدت لهذه المقدمة النفسية، حينما أشارت إلى ((الكاتب الفرنسي الذي اعتنق الإسلام)) كما بينا ذلك في فصل سابق. وهكذا يتم تركيب لمرآة كف بجميع شروطها، ليكون فيها كتاب معين، موضوع الإلقاء للدوافع الحرمانية، ويكون الصحفي مصدراً أول لهذه الدوافع، وهو يشعر بذلك، بينما يكون صاحب الكتاب نفسه، ومن حيث لا يشعر، مصدراً آخر. أو إذا ما استخدمنا لغة بافلوف، يكون شخصه بمثابة المثير الشرطي- بما أن زيارته كانت تحركاً تلقائياً- لآلية انعكاس الكف الخفي الذي خلقته زيارة الصحفي. ولسنا هنا نبحث القضية من جانب واحد، هو جانب الأفعال المنعكسة الشرطية التي تلقيها مرآة الكف على فكرة معينة. ومع ذلك فمن الممكن أن تحدث للفكرة وهي في طريقها على خط طنجة - جاكرتا، انعكاسات أخرى لا صلة لها بالصحفي، تنتجها مصادر أخرى مزمنة ليست موضوع هذا العرض، الذي نخصصه للمرآة ووظيفتها في الصراع الفكري، لنبين كيف أن تركيبها يتنوع بالنسبة للموضوع الواحد، وبالنسبة للفكرة الواحدة، تبعاً للظروف، كما بينا ذلك في الفصول السابقة. فلو أننا راجعنا ذكرياتنا في مدى ربع قرن مثلاً أو يزيد، سيبدو لنا هذا التوزيع في خطط الاستعمار بكل وضوح، مع محافظته على المبادئ التي حللناها فيما سبق. فيمكننا مثلاً أن نقف حوالي عام 1939 عند فكرة (الوهابية)، لأنه كان لها

دوي في الغرب، لا تعرف البلاد العربية مداه، لأننا بحكم تطورنا الاجتماعي لم ندخل بعد إلى عالم الأفكار، فلا ندرك قيمتها حتى تعكسها لنا مرآة الغرب، وليس طبعاً من مصلحة الغرب أن يعكس لنا الأفكار التي يريد تحطيمها. وفكرة (الوهابية) قبل عام 1939 كانت تبدو للاستعمار ممتلئة بالمخاوف، لأنها كانت تمثل في نظره مركز الثقل في الصراع الفكري في البلاد العربية الإسلامية، وكان دوماً يفكر في وسائل التخلص منها حتى خلصه منها فعلاً البترول. فاستخدمت إنجلترا وسائل القوة لتحطيم عبد العزيز: حاولت أن تؤلب عليه خصوم ملكه، مثل ابن رفادة والدرويش، كي تمتص قواته الفتية بثورات متكررة. غير أنها كانت تحاول أولاً وقبل كل شيء أن تحطم الفكرة ذاتها التي قام عليها هذا الملك، وتأسست عليها الدولة السعودية الفتية، فكانت تطبق من أجل ذلك خطة يمكن أن نسميها (خطة المحامي المورّط)، الذي يورِّط موكله بدعوى أنه يقوم بالدفاع عنه. فكان من يتحدث باسم الحكومة في لندن، لا يترك فرصة تمر دون أن يذكر بحرارة الصداقة العظيمة التي تكنها إنجلترا لابن سعود، مثل الفكرة الوهابية التي أنهت دورها بوصفها (فكرة مجردة) حوالي عام 1925، وبدأت دورها الجديد (فكرة مجسدة) منذ ذلك العهد، أي منذ تأسيس الدولة السعودية في حدودها الحالية ... حتى إن الملك العربي أصدر (حوالي عام 1933) في نداء وجهه للعالم، كعادته بمناسبة الحج، تصحيحاً ذا مغزى في هذا الصدد. وإذا كانت طريقة (المحامي المورّط) مستخدمة من ناحية في ميدان

السياسة، أي في ميدان الأفكار المتجسدة في البلاد المستعمرة، فإنها تطبق من الناحية الأخرى في ميدان الأفكار المجردة. ويجب ألا نغفل في هذا السياق ملاحظة نرى فيها بعض الأهمية فيما يتعلق بـ (المحامي المورّط): فإن هذا الكائن الغريب قد يكون موجوداً بالفعل تحت تصرف مراصد الاستعمار، وأحياناً أخرى قد يكون من الواجب صنعه خاصة. فإذا أخذنا فيما سبق فكرة كافية عن الصورة الأولى، يجب أن نكوّن أيضاً فكرة عن الصورة الثانية. فلنتصور مثلاً أن شاباً قد أنهى دراسته العليا في عاصمة عربية ورجع ناجحاً إلى بلاده، حيث ترغب حكومته في توظيفه في وزارة الخارجية. ولكن الشاب اندفع بدافع ثقافته، فنشر مقالات للتعريف ببعض الأفكار التي تثير اهتماماً بليغاً من طرف مراصد الاستعمار، كالأفكار التي تتصل بمؤتمر باندونج، ثم أبدى رأيه في بعض المواقف السياسية، التي يريد الاستعمار عادة إحاطتها بالسر، فهذا الشاب الجسور يلاحظ مثلاً أنه ((في الوقت الذي كان الاستعداد يجري فيه لعقد مؤتمر التضامن الآسيوي- الإفريقي في كوناكري دعا الرئيس نكروما إلى مؤتمر للشعوب الإفريقية في أكرا)). فهذه الملاحظة تمثل بالضبط ما أطلقنا عليه، خلال هذه الدراسة (إشارة خطر)، الإشارة التي تعلن بأن معركة قد بدأت في جبهة الصراع الفكري، لأن مراصد الاستعمار تلقتها قبل أن تبلغ إلى وعي الشعب المستعمَر. أو شبه المستعمَر. فماذا سيحدث لهذا الشاب النبيل؟ إن مراصد الاستعمار ستتدخل أولاً وقبل كل شيء، حتى لا يحصل على الوظيفة التي كان ينتظرها بوزارة الخارجية ..

ثم بكل هدوء وبرود فإنها ستعرض عليه وظيفة أخرى يتقاضى منها، إذا ما قبل، ماهية تزيد على ما يتقاضاه موظف مبتدئ بوزارة خارجية، فتعرض عليه مثلاً مائة وخمسين جنيها في مقابل عمل بسيط، إن لم نقل مقابل عمل صوري، في سفارة تمثل مصالح معينة، لا تتفق مع فكرة باندونج ولا فكرة التضامن الإفريقي- الآسيوي، ولا فكرة بناء حضارة كحل لمشكلة البلاد المتخلفة، ولا أية فكرة من الأفكار التي دخل هذا الشاب من أجلها المعركة. وإذن وفي حالة قبول هذا الشاب النبيل العرض السخي الذي قدم له، نكون أمام احتمالين: أولهما هو أن هذا الشاب سيشعر بضيق الموقف: فيعدل سلوكه طبقاً لذلك، ويكف قلمه ولسانه عن أفكار تحرم صاحبها من منصب يستحقه بوزارة الخارجية. وثانيهما، هو أنه يستمر أو على وجه أدق، ربما تحمله السفارة التي توظفه على أن يستمر في دفاعه عن تلك الأفكار. ففي الاحتمال الأول تكون السفارة قد حلت المشكلة بوجه من الوجوه. أما في الاحتمال الثاني فإنها تكون صنعت من شاب مثقف نبيل (محامياً مورّطاً) للأفكار التي دخل من أجلها المعركة. وهذا الاحتمال الأخير أقرب من أسلوب الصراع الفكري ومن واقعية الاستعمار فيه ومن حقيقته المؤلمة، التي لا ندركها ما دمنا نفقد المقاييس المطلقة التي تدل على قيمة الأفكار مباشرة، في حد ذاتها دون ربطها بأي شخص يدافع عنها دفاع المؤمن بها (مثل الشاب الذي ذكرنا قصته) أو يدافع عنها دفاع (المحامي المورِّط). ومهما يكن الأمر فلا غرابة إذن في أن يجد كتاب، يتعلق بموضوع هام مثل

باندونج من يقوم بالدفاع عنه بكيفية ما وفي ظروف معينة، حتى يكون لدفاعه الأثر المورِّط للكتاب (¬1) في بعض الأوساط الدبلوماسية التي كان من المتوقع أن تهتم به. وليس موضوعنا عندما يقع هذا، أن نعلق على نضج هذه الأوساط، ولكن يجب أن نعلم كيف يستخف بها الاستعمار فيطبق عليها ما يطبقه في الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة، أي في البلاد التي تتفق على أن الناس فيها لا يدرسون الأفكار من خلال تأمل شخصي مباشر، بل من خلال الانعكاسات التي يلقيها عليها (محام مورِّط) أو في الصورة التي تعكسها لنا (مرآة حرمان). وقوة الاستعمار في هذه الحال، هو أن يطبق طرقاً بسيطة كشفت تجارب بافلوف، عن صلتها بالتركيب النفسي عند الأفراد وهمَّ (جوبلز) بتطبيقها العلمي في ميدان السياسة في عهد هتلر. وإنما الفرق بين الاستعمار وبافلوف، هو أن الكائنات التي يجري عليها العالم الروسي تجاربه كانت حيوانات صغيرة مثل الكلاب والفئران، بينما الاستعمار يجريها على علماء ودبلوماسيين ورجال سياسة إلخ .. ويجب أن نعلم أن فن بافلوف يطبق في كل وسط إنساني لم يتم نضجه الفكري، أو لم تتخذ في توجيه ثقافته الاحتياطات اللازمة ضد الانحراف الذهني. ومن أخطر وجوه هذا الانحراف ما أطلقنا عليه اسم (الذرية). فأي إنسان لا يحكم على الأمور بناء على تفكير شخصي مباشر، يتعرض لأن يصدر أحكامه طبقاً لما يتلقاه عن هذا الواقع بطريق الإيحاء، لا طبقاً لما في ¬

_ (¬1) يرى المؤلف أنه في غنى عن ذكر التفاصيل الواقعية التي تفسر هذا المعنى: وإلا أوردنا لكل سطر من هذا البحث قصة تشرحه.

الواقع من حقيقة ظاهرة أو كامنة، لأنه لا يحاول أن يجمع عناصر الحكم المختلفة في عملية ذهنية واحدة لا عنده من ميل مرضي إلى (الذرية). (فالمحامي المورط) و (الصداقة المورطة) و (مرآة الحرمان) هي في الواقع النقاط المختلفة في الآلة، التي تلعب عليها أصابع ماهرة في الموسيقا الخاصة بالصراع الفكري. ولكن لا يستطيع التوقيع على هذه الآلة الدقيقة من ليس له دراية، بما يمكن أن نسميه رياضة أو جبر الأفكار، ومن ليس له إلمام بالأفكار على أنها كائنات حية تؤدي دورها في شروط عضوية معينة، ولا تقوم بأي دور بدونها، بل تفقد الحياة بفقدها فتصبح جثثاً هامدة لا صوت لها، ولا قيمة لها في الإيقاع الذي يمثل موسيقا الصراع الفكري في العالم. ***

الفصل السادس

الفصل السادس حياة الأفكار وقيمتها الرياضية ـــــــــــــــــــــــــــــــ يظهر أحياناً في سلوك الاستعمار من البلادة، ما يجعلنا نشعر بأن كيده، هو في النهاية ضعيف مثل كيد الشيطان. ولكن يجب ألا نغتر بهذا المظهر مهما يكن فيه من الصحة، كما يجب علينا أن نقدر لكيد الشيطان في كل وقت تقديره. يجب أن نعترف في كل لحظة، بأن الاستعمار فنان بارع في موسيقا الصراع الفكري، فهو يبدع في سمفونية هذا الصراع، إذ هو ينسجها من الخيال أو من لعبة الظل كما بينا في الفصول السابقة، ثم يبلغ إيقاعها الساحر عن طريق الإيحاء، لأنه يجيد التوقيع على (النقاط) التي تسحر الألباب، فتعطي لفنه كل قيمته الفنية. فهو يعلم أنه يكفي للتشكيك في فكرة، أن يشوه منطوقها اللغوي، أي الكلمة التي تتضمن معناها الحرفي، أو الشعار الذي يؤدي معناها بالطريق الرمزي: فالكلمة أو الشعار قد يمكن أن يصبح كلاهما مركز إشعاع حرماني، بالنسبة للفكرة التي تعبر عنها تلك أو يشير إليها هذا، كما يكون أحياناً الكاتب نفسه، مركز إشعاع حرماني بالنسبة إلى كتابه، في بعض الظروف كما بينا هذا في الفصول السابقة. فلو كان لفكرة كتاب شعار معبر عنها بصفة رمزية، لرأينا الاستعمار حينما

تنوه مراصده بظهور الفكرة، يبادر إلى طمس تلك الرمزية بما يناسب من الوسائل. فلو كان لدينا للتدليل على محاولة كهذا عبارة مثل (محور طنجة- جاكرتا)، تعبر عن فكرة كتاب وتشير إلى الاتجاه الذي ينشده، لرأينا فعلاً الاستعمار يقوم بمحاولة ضم هذا المصطلح إلى قاموسه السياسي، فيحاول مثلاً جمع مؤتمر سياسي بمدينة طنجة، هدفه على نقيض ما يهدف إليه الكتاب، وبما يسلط من الأضواء على مدينة طنجة، خلال مؤتمر تشرف عليه دول استعمارية، تصبح كلمة طنجة مركز إشعاع حرماني، تعكسه على ما يتصل بها في الميدان السياسي: تصبح العبارة (محور طنجة- جاكرتا) كلها تتلقى من ناحية الإيحاءات التي تلقيها عليها كلمة طنجة، وتعكسها من ناحية أخرى على كتاب جعل شعاره من تلك العبارة. ولكن لماذا لم تتم محاولة الاستعمار في هذا الاتجاه، بعد أن أعلنت الصحافة بانعقاد مؤتمر طنجة في شهر نيسان (إبريل) سنة 1957؟ ذلك لأن الظروف ليست كلها في يد الاستعمار، فقد يحدث أن تختل بعض الشروط في تنفيذ خططه، وهذا لا يعني طبعاً أن المعركة انتهت وإنما تغيرت ظروفها. ولكن الشيء الذي لا يتغير هو المقاييس المنطقية والحقائق النفسية، التي تطبق في معركة مهما تكن ظروفها الخاصة. ومن الأشياء التي لا تتغير في الصراع الفكري، حقيقة (الفكرة) ذاتها بوصفها كائناً حيوياً له وحدة عضوية لا يمكن أن نزيد فيها شيئاً ولا ننقصه، دون أن تتغير شروط الحياة بالنسبة إليها، كما أننا نغير شروط حياة أي حيوان، لو أننا أضفنا له عضواً زائداً، مثل الرأس الذي أضافه بعض علماء الاتحاد السوفييتي إلى كلب، أو أنقصنا منه عضواً.

فالكائن الحي كائن كما هو، وإن أضيف إليه شيء أو بتر منه شيء، فإنه لا يبقى ذلك الكائن. وهذه الحقيقة تطبق على الأفكار بوصفها كائنات حية، ويمكننا الآن أن نلقي هذه الاعتبارات على كيان الأفكار: فلو أننا قدرنا أن فكرة ما تبلورت في شعار معين ذي تركيب ثنائي، نشير إلى عنصريه بحرفي (أ) و (ب)، فإنه يمكننا أن نضع له معادلة تعبر عن وحدته العضوية وعن ذاتيته هكذا: شعار = أ + ب وبما أن الفكرة مرتبطة بهذا الشعار بربط عضوي، يمكننا أن نعبر عنها بالمعادلة نفسها هكذا: فكرة = أ + ب ولنفترض الآن أننا أخذنا العنصر (أ) وأدخلناه في تركيب جديد إدخالاً يكون معه بجانب عنصر جديد ذي شبهة هو (ت) مثلاً، وبذلك نستطيع أن نرمز إلى هذه العلاقة الجديدة بالمعادلة الآتية: تركيب جديد = أ + ت ولما كان هذا التركيب يتضمن خصائص العنصرين اللذين يكونانه، فإنه ينطوي ضرورة على كل الآثار النفسية التي يحملها العضو المشبوه فيه (ت) ويعكسها على كل أجزائه، أي على (أ) بالذات، وهكذا يصبح هذا العنصر مشتبهاً به، بحكم علاقته الجديدة فيحيل نوعاً من العدوى النفسية إلى التركيب الأول: (أ + ب)، وهكذا يصل الاستعمار عن طريق علاقات مصطنعة كالتي وضحناها هنا، وبعد سلسلة معينة من الانعكاسات المشروطة إلى المساس بالفكرة التي يريد إصابتها، إذ يصلها الإشعاع النفسي المقصود عن طريق شعارها ومنطوقها.

وهذه الكيمياء الخاصة ليست جديدة إلا من الناحية النظرية، لأن علم النفس وعلم النفس التجريبي منذ بافلوف، خاصة، هو الذي حدد قواعدها، وأما من الناحية العملية فهي قديمة، نجد أثرها في وقائع كثيرة من التاريخ الإسلامي مثلاً، فمنذ المراحل الأولى من هذا التاريخ نجد أحداثاً سياسية هامة تفسر على ضوء هذه الكيمياء. هذه الاعتبارات تتصل بحياة الأفكار من الناحية النفسية، وتعبر عن تأثير العلاقات في تحديد الدور الذي تقوم به الأفكار بوصفها مجموعة معينة، أي طبقاً لعلاقاتها في نطاق دائرة أو في اطراد. ولكن هناك اعتبارات أخرى، يمكن أن نسميها اعتبارات جبرية، تتصل بدور الأفكار بصفتها أفراداً مستقلة. إن لكل فكرة كياناً مستقلاً، ووحدة قائمة بذاتها، تؤثر بقدر ما تبقى محتفظة بوحدتها، باعتبارها قيمة منطقية يمكن التعبير عنها طبقاً لقواعد رياضية خاصة بالأفكار. إن لكل فكرة (ف) قيمة معطاة هي (كـ) مثلاً، وهذا الفرض يمكن أن يكتب كما في الحال في علم الجبر: ف = كـ وهذه العلاقة تعبر عن القيمة الرياضية للفكرة، ولكن لرياضة الأفكار قواعد خاصة، فإذا كانت القيمة العددية في الرياضة العادية يمكن أن تزداد بجمعها إلى أخرى، فإن القيمة الخاصة بفكرة تنقص عموماً بمجرد أن نضيف لها قيمة أخرى، حتى لو كانت القيمة المضافة إيجابية: ت > (أكبر من) صفر

فإذا أضفنا هذا الحد مثلاً، إلى العلاقة السابقة يكون لدينا قيمة فكرية جديدة هي: ف = كـ + ت فنشعر أننا زدنا في قيمة (ف) الأصلية، ولكن ليس الأمر كذلك بصورة طبيعية، كما هو شأن القيمة العددية، فالحد (ت) يمكن أن ينقص من قيمة الفكرة على الرغم من أنه إيجابي، أما لو كان سلبياً فمن باب أحرى؛ ويمكن أن نفهم هذا أو نلخص هذا في صورة فقهية: إن الفقهاء يحددون، في شروط الوضوء، ما يجب أن يكون عليه الماء لصلاحيته للوضوء، فهم بذلك كأنهم يحددون قيمة مفهوم معين (م) أو الماء الطهور بصلاحيته (ص) للوضوء. فيمكن إذن أن نشير إلى قيمة هذا المفهوم الفقهي هكذا: م = ص ولكن نعلم من مشايخ الفقه أن كل دنس (د) يحدث في الماء يجعله غير صالح للوضوء، أي أن قيمة (م) نقصت بإضافة حد سلبي، وهذه حقيقة بديهية يدركها عقل الفقيه وغير الفقيه. ولكن نعلم من مشايخ الفقه أيضاً، أننا لو أضفنا شيئاً من العطر أو الطيب، أي لو أضفنا حداً إيجابياً فإن الماء يفقد أيضاً صلاحيته للوضوء، أو يفقد قيمته بوصفه مفهوماً فقهياً. فإذا كانت هذه الاعتبارات صحيحة بالنسبة إلى مفهوم من مفاهيم الفقه، هو الماء الطهور، فإن صحتها أعم بالنسبة للمفاهيم العامة. وعليه يجب أن نراعي في الصراع الفكري كل ما يتصل بكيان الأفكار

بصفتها أفراداً مستقلة بوحدتها العضوية، كائنات حية لا تقبل القسمة ولا الضرب. والاستعمار يطبق طبعاً هذه الحقائق، فهو تارة يحاول تجزئة الفكرة كأنه يريد تقسيم طاقتها الانفجارية، وأحياناً يحاول على العكس، أن يجري عليها نوعاً من الضرب يجعلها مقحمة في عدة أفكار ثانوية، تضيف إلى حجم الفكرة الأصلية عناصر فكرية خامدة، لا أثر لها سوى إضعاف سلطانها على العقول، كما لو أننا لففنا سن المسمار أو حد المنقار بلفائف من الورق أو القماش حتى لا تؤثر فيما نريد نقره أو ثقبه من الخشب. ولقد رأينا مثلاً في باندونج كيف طبقت هذه الرياضة الفكرية في صورة (الضرب)، فيما يتصل بالفكرة التي تتضمن المبادئ الأساسية الخمسة Paneh Shila، التي تكون وحدة فكرية قامت بدور هام في توجيه سياسة التعايش والحياد قبل المؤتمر، خلال مداولات نيودلهي وبكين، وفي تحضير المؤتمر ذاته، فكان إذن من الطبيعي أن تكون هذه المبادئ (الفكرة)، أي الأساس النظري الذي يقوم عليه بناء المؤتمر، ولكن عندما وصل وفد إحدى الدول الآسيوية المشتركة، بذل كل جهده ليكون عدد هذه المبادئ سبعة أو عشرة، ويمكن أن نتصور هذه الإضافة المقصودة بصفتها عملية تشتيت للقاعدة. ويمكن أن نتابع هذه الاعتبارات في مؤتمر القاهرة ذاته، فلم يكن من مصلحة الشعوب الأفرسيوية الإكثار من المقترحات، لأن هذا الإكثار يزيل أولاً مضاء الفكرة الأساسية ثم يكون عقبة في سبيل التطبيق، وهذا وذاك في صالح الاستعمار طبعاً، ولا يخفى ماللاستعمار من الحضور في كل مداولة مثل مؤتمر باندونج أو مؤتمر القاهرة، حضوراً خفياً أو ظاهراً، تصل عن طريقه الإيحاءات المناسبة لتطبيق القواعد الخاصة بكيمياء وبرياضة الأفكار، فتطبق أحياناً في صورة (المزلقة) وأحياناً في صورة (الاستبدال) وأخرى في صورة (البتر).

(فطريقة المزلقة) تطبق عندما يكون الهدف ألا يقف البحث عند فكرة معينة، فتطرح خلال المناقشة أفكار جديدة بالتوالي، طرحاً لا تنتهي معه المناقشة إلى أية نتيجة عملية .. وطريقة (الاستبدال) تطبق عندما يرى الاستعمار من مصلحته- بينما تكون المعركة محتدة حول فكرة معينة- أن يطلق في حلبة الصراع، فكرة جديدة تكون أقل ضرراً بالنسبة لمصلحته. أما طريقة (البتر) فإنها تطبق عندما توشك مناقشة أن تأتي بنتيجة في موضوع هام في صحيفة وطنية مثلاً، وإذا بمحرري الصحيفة (المعادية للاستعمار) يقلبون الصفحة بكل بساطة، وتبقى المناقشة معلقة دون نتيجة، فيجد الكاتب نفسه فجأة مجرداً من السلاح، كأنما يد خفية نزعت من يده القلم، في الوقت الذي تدخل المعركة في دورها الحاسم. والخطر الذي يتهدد مؤتمراً دولياً كؤتمر باندونج، يكمن في ألا يأخذ دعاة المؤتمر حذرهم من هذه الطرق، ومن الواضح مثلاً أنه عندما يقدم اقتراح بإنشاء (بنك للمادة الأولية) فيخرج من مؤتمر دولي بقرارين أحدهما (تأسيس هيئة للإنشاء والتعمير) والآخر (إنشاء بنك للتبادل الاقتصادي الإفريقي الآسيوي)، فإن الفكرة الأولى المقدرة بالنسبة إلى طور اقتصادي محدد، وإلى إمكانيات معينة في البلاد الإفريقية- الآسيوية، وهي تهدف في أساسها إلى تخليص المادة الأولية المتوفرة في تلك البلاد، من رقابة العملة المفقودة فيها، فهذه الفكرة تختفي تماماً في القرارات النهائية، وتترك مكانها إلى فكرتين ثنائيتين، كل واحدة تعيد إلى العملة سلطانها ورقابتها على سوق المادة الخام، أي تناقض الفكرة الأولى في أساسها: وهذه خطة قد طبقت فيها بنجاح طريقة (الاستبدال) وطريقة (الضرب أو الإكثار).

ولا شك أن أي مؤتمر دولي يكسب كثيراً لو أنه حين ينعقد يؤلف لجنة (للنقد الذاتي) وخاصة لنقد التقارير في صيغتها النهائية، حتى لا يترك للاستعمار ذريعة ومنفذاً يبلغ منها إلى (تعقيم تلك القرارات). ولا بد أن ندرك أن (الفكرة) التي يعبر عنها مشروع إنشاء (جائزة منطقة السلام)، لا تؤدي أبداً مفعولها ولا تقوم بدورها، عندما تصب في قرار نهائي يضع كلمة (سلام) - وهي مقصودة بالذات بوصفها شعاراً خاصاً لمداولات تجري- في تركيب معقد كهذا: من أجل الحرية والاستقلال والصداقة والسلام. فهذه الكلمات الأربع مجموعة لا تقوم بدور كلمة (سلام) وحدها، كما أن صاروخاً ركب من أجل الوصول إلى القمر، لا يصل إليه إذا ركبت فيه صواريخ موجهة إلى المريخ وزحل (¬1) ... ولا شك في أن أي مؤتمر دولي، ينعقد من أجل تحرير البلاد المستعمرة أو البلاد التي وطئها الاستعمار، يكسب كثيراً لو أولى نظره هذه الاعتبارات، ولو أولى تطبيقها لجنة مخصصة للنقد الذاتي، كي يحتاط بهذا النقد من طرق التعقيم التي ذكرناها، والتي لم نذكرها كلها خشية الإطالة، فهناك مثلاً طريقة التعطيل التي تلعب دوراً هاماً في الصراع الفكري، لأنها تعلق تحقيق قرار على شكليات لا قيمة لها. أو تعطل توزيع كتاب: فعندما يكون كتاب قد أنجز طبعه ببلد عربي قريب، منذ ستة أشهر، ولم يصل بعد إلى عاصة عربية مثل القاهرة، فهذا يعني أن الكتاب دخل عملية تعطيل ... إن ظروف الصراع الفكري، في أي بلد يكون فيه نفوذ خفي أو ظاهر ¬

_ (¬1) ولا شك أن مؤسسي (جائزة نوبل للسلام) يقدرون قيمة الكتاب كما يجب، فإنهم لم يفكروا بإضافة كلمات (إنسانية، وحرية وديموقراطية) مثلاً في عنوان جائزة نوبل ولكن هذه الحقائق لا زالت مجهولة على محور طنجة- جاكرتا، وفي البلاد العربية خاصة.

للاستعمار أكثر غرابة مما نتصورها عادة، فلا يمكن أن يتناولها الوصف المحدود بطبيعة الحال، لأنه لا يمكن أن ينقل كل الألوان التي تشملها التجربة، بينما هذه التجربة نفسها، لا تحيط إلا بمقدار ضئيل من واقع الصراع الفكري في حقيقته، ولا غرابة في أن صاحب التجربة يعلم بعض الأشياء من هذا الواقع الزاخر المتنوع، ولكن يغيب عليه أكثرها، لأن الاستعمار يسدل دائماً الظلام (كما بينا فيما سبق) على عملياته في هذا الميدان، حتى يبقى مسيطراً على الموقف، ولو كشفت الصدفة فجأة عن تفصيل من تفاصيل هذا الصراع، فسوف يبقى في إمكانه أن يسلم بهذا التفصيل للخصم، ويدخل الباقي في الظلام، كما تسلم الحية بجزء من ذيلها وتدخل جحرها لتنجو بذاتها .. ولا يمكن وصف هذه التفاصيل كلها ولو كانت على مرأى العين، كما يصعب وصف بيت العنكبوت خصوصاً إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد. هذه هي حقيقة الصراع الفكري وتلك هي لغته، لغة صامتة ليس لها من معنى واضح إلا بالنسبة لمن عاش تجربة شخصية. ***

ملخص

ملخص إننا قد أنهينا هذا العرض، ولم نقل فيه إلا جزءاً بسيطاً مما تتضمنه تجربة شخص، وحري بنا أن نقول إن تجربة الشخص مهما تكن، ليست إلا جزءاً ضئيلاً من واقع الصراع الفكري. ومهما يكن من أمر، فإن القول محدود بطبيعته في موضوع كهذا، لأن هناك موضوعات محرمة، قد أحاطها العرف بسياج من الاعتبارات التي لا تترك مجالاً كبيراً إلى القول، لأن الناس الذين أشرنا إليهم في هذه الصفحات، والذين تعرفنا عليهم ودرسنا مواقفهم العامة في بلاد مستعمرة، خلال ما يزيد على ربع قرن، لا زالوا على قيد الحياة، ولولا ضرورات الصراع الفكري ذاته لما أشرنا إلى أحد، ولا ذكرنا تفصيلاً من التفاصيل التي تتضمنها تجربة شخص معين. ولكن الضرورات تبيح المحظورات ... والأفكار ليست منفصلة عن عالم الأشخاص، على طريقة (مثل أفلاطون)، بل إن ملحمتها تجري كلها على الأرض، حتى لا يمكننا- مهما تحرينا من التجريد- أن نفصل مغامرة (فكرة) عن مغامرة صاحبها فصلاً تاماً، ولو لخصنا هذه الاعتبارات في جملة لقلنا: إن الاستعمار يسعى أولاً أن يجعل من الفرد خائناً ضد المجتمع الذي يعيش فيه، فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار. ومهما يكن من أمر، فإن هناك حقائق لا يملك النطق بها إلا من واراه التراب، وتحصنت أقواله بالموت، كما أن هناك أقوالاً لا تقال في كل الظروف، وفي

مثل هذا الموقف يتعرض الضمير لنقاش حرج، عندما يكون المرء بحيث يستغل الاستعمار كلامه كما يستغل صمته، فهذه الصفحات تعد إذن محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام، ولعل القارئ الشاب يجد فيها المنبه الذي يلفت نظره إلى واقع الصراع الفكري، ويكفيه أن يفتح عينه لكي يرى بنفسه أمارات هذا الصراع قائمة حوله. وربما يستطيع أن يستخلص من الوقائع المعروضة لنظره، نتائج لم تلفت انتباهنا، أو أغفلناها عمداً خلال هذا العرض، احتياطاً من التطويل ورغبة في الموضوعية. وكل ما نتمناه هو أن تقوم في بلادنا رابطة من المثقفين، لكشف هجمات الاستعمار على الجبهة الفكرية، حتى لا تبقى الأفكار معرضة لتلك الهجمات دون نجدة ولا مدد. ***

المسارد 1 - مسرد الآيات القرآنية 2 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) 3 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب 4 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات 5 - مسرد الكتب والمراجع والمصادر 6 - مسرد الموضوعات

1 - مسرد الآيات القرآنية ¬

2 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة)

¬

_ "د" الدرويش (من خصوم الملك عبد العزيز) 119 دلاس (وزير خارجية أمريكي سابق) 17 "ر" روبرت برا (مفكر فرنسي يميني) "س" سارتر (مفكر فرنسي يساري) سترازبورج 114 "ط" طرابلس لبنان 5 طنجة- جاكرتا (محور) 125، 131/ 1 ح "ص" صفين 79 الصين 41، 105 "ع " عبد الحميد بن باديس 38 عبد العزيز (ملك السعودية) 119 عبد القادر المجاوي 15، 16 العربي التبسي 11، 12، 82، 108 عمرمسقاوي 7 "غ " غاندي 21، 43، 78 فاروق (ملك مصر سابقاً) 21 فرنسا 7 فرنسيس جانسون (مفكر فرنسي يساري) فلسطين 108 "ق " القاهرة 21، 22، 39، 51، 53، 61، 131 "ك " كوريا 41 كوناكري 44 "ل " لندن 119 لوس أنجلوس 109 ليوبولد فايس (مؤلف) 58 - 59 (الرسم) - 60، 62 مالك بن نبي 5 - 54 متيلال نهرو (والد نهرو) 103 محمد عبده 53، 71 المعادي (بلدة مصرية) مكاريوس (الأسقف (108 مند زانتي (الكردينال) 12، 108 مورياك (مفكر فرنسي يميني) موسكو 12 "ن" نكرومه (زعيم إفريقي) 43 نهرو 43، 15 نوبل (جائزة السلام) 131 نيودلهي 43، 114، 117، 129

¬

_ هتلر 24، 122 الهند 21، 41، 48، 103، 105، 106 هنري علاج 12 "و" واشنطن- موسكو (محور) 18 الولايات المتحدة 12

3 - مسرد المذاهب والمجاعات والشعوب ¬

4 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات ¬

5 - مسرد الكتب والمراجع والمصادر ¬

6 - مسرد الموضوعات ¬

§1/1