الصارم المسلول على شاتم الرسول

ابن تيمية

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. قال الشيخ الإمام العالم العامل العلامة شيخ الإسلام ومفتي الأنام أوحد دهره وفريد عصره تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم العلامة مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن عبد الله بن تيمية الحرّاني قدس الله روحه ونور ضريحه: الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهاد الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق وجمع لهم الهدى والسداد والذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد كما وعده في كتابه وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفا وتبرئه من الإلحاد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل المرسلين وأكرم العباد أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره أهل الشرك والعناد ورفع له ذكره ولا يذكره إلا ذكر معه كما في الأذان والتشهد والخطب والمجامع والأعياد وكبت محاده واهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الأحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والآخرة

وجعل هوانه بالمرصاد واختصه من بين إخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى آله أفضل الصلوات وأعلاها وأكملها وأنماها كما يحب سبحانه أن يصلى عليه وكما ينبغي أن يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته أفضل تحية وأحسنها وأولاها وأبركها وأطيبها وأزكاها صلاة وسلاما دائمين إلى يوم التناد باقيين بعد ذلك أبدا رزقا من الله ما له من نفاد. أما بعد فان الله تعالى هدانا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأخرجنا به من الظلمات إلى النور وآتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والآخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع إلى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث أدنى ماله من الحق علينا بل هو ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل موذ وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب أن أذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكرا يتضمن الحكم والدليل وأنقل ما حضرني في ذلك من الأقاويل وأردف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب أن يكون عليه التعويل وأما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وإنما المقصد هاهنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي

ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه والله هو الهادي إلى سواء السبيل. وقد رتبته على أربع مسائل: المسألة الأولى: في أن الساب يقتل سواء كان مسلما أو كافرا. المسألة الثانية: في أنه يتعين قتله وإن كان ذميا فلا يجوز المن عليه ولا مفاداته. المسألة الثالثة: في حكمه إذا تاب. المسألة الرابعة: في بيان السب وما ليس بسب والفرق بينه وبين الكفر.

المسألة الأولى: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله.

المسألة الأولى: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله. هذا مذهب عليه عامة أهل العلم قال ابن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل" وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي قال: "وحكي عن النعمان لا يقتل" يعني الذي هم عليه من الشرك أعظم وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من يسب النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يجب قتله إذا كان مسلما وكذلك قيده القاضي عياض فقال: "أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه" وكذلك حكي عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: "أجمع المسلمون على أن

من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيا من أنبياء الله عز وجل: "أنه كافر بذلك وان كان مقرا بكل ما أنزل الله" قال الخطابي: "لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله" وقال محمد بن سحنون: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر". وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهوية وغيره وان كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة وسيأتي حكاية ألفاظهم وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل: "سمعت أبا عبد الله يقول: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب" قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: "كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة" وكذلك قال أبو الصفراء: "سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البينة يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا" رواهما الخلال. وقال في رواية عبد الله وأبي طالب وقد سئل عن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقتل قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم أحاديث منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال: سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وحديث حصين أن ابن عمر قال: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل" وعمر ابن عبد العزيز يقول: "يقتل" وذلك أنه من شتم النبي صلى الله عليه وسلم

فهو مرتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه وسلم زاد عبد الله: "سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم يستتاب قال: "قد وجب عليه القتل ولا يستتاب لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه" رواهما أبو بكر في الشافي وفي رواية أبي طالب: سئل أحمد عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل قد نقض العهد" وقال حرب: سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل إذا شتم النبي صلى الله عليه وسلم" رواهما الخلال وقد نص على هذا في غير هذه الجوابات. فأقواله كلها نص في وجوب قتله وفي أنه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف. وكذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم ومتأخرهم لم يختلفوا في ذلك إلا أن القاضي في المجرد ذكر الأشياء التي يجب على أهل الذمة تركها وفيها ضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال وهي: الإعانة على قتال المسلمين وقتل المسلم أو المسلمة وقطع الطريق عليهم وأن يؤوي للمشركين جاسوسا وأن يعين عليهم بدلالة مثل أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين وأن يزنى بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح وأن يفتن مسلما عن دينه قال: "فعليه الكف عن هذا شرط أو لم يشرط فإن خالف انتقض عهده" وذكر نصوص أحمد في بعضها مثل نصه في الزنا بالمسلمة وفي التجسس للمشركين وقتل المسلم وإن كان عبدا كما ذكره الخرقي ثم ذكر نصه في قذف المسلم على أنه لاينتقض عهده بل يحد حد القذف قال: فتخرج المسألة على روايتين ثم قال: "وفي معنى هذه الأشياء ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فهذه أربعة أشياء الحكم فيها كالحكم في الثمانية التي قبلها ليس ذكرها شرطا في صحة العقد فإن أتوا

واحدة منها نقضوا الأمان سواء كان مشروطا في العهد أو لم يكن" وكذلك قال في الخلاف بعد ذكر أن المنصوص انتقاض العهد بهذه الأفعال والأقوال. قال: وفيه رواية أخرى لا ينتقض عهده إلا بالامتناع من بذل الجزية وجرى أحكامنا عليهم. ثم ذكر نصه على أن الذمي إذا قذف المسلم يضرب قال: فلم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم مع ما فيه من الضرر عليه بهتك عرضه. وتبع القاضي جماعة من أصحابه ومن بعدهم مثل الشريف أبي جعفر وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني فذكروا أنه لا خلاف أنهم إذا امتنعوا من أداء الجزية أو التزام أحكام الملة انتقض عهدهم وذكروا في جميع هذه الأفعال والأقوال التي فيها ضرر على المسلمين وآحادهم في نفس أو مال أو فيها غضاضة على المسلمين في دينهم مثل سب الرسول وما مثله روايتين إحداهما: ينتقض العهد بذلك والأخرى: لا ينتقض عهده وتقام فيه حدود ذلك مع أنهم كلهم متفقون على أن المذهب انتقاض العهد بذلك. ثم إن القاضي والأكثرين لم يعدوا قذف المسلم من الأمور المضرة الناقضة مع أن الرواية المخرجة إنما خرجت من نصه في القذف. وأما أبو الخطاب ومن تبعه فنقلوا حكم تلك الخصال إلى القذف كما نقلوا حكم القذف إليها حتى حكوا في انتقاض العهد بالقذف روايتين. ثم إن هؤلاء كلهم وسائر الأصحاب ذكروا مسألة سب النبي صلى الله عليه وسلم في موضع آخر وذكروا أن سابه يقتل وأن كان ذميا وأن عهده ينتقض وذكروا نصوص أحمد من غير خلاف في المذهب إلا أن الحلواني قال: "ويحتمل أن لا يقتل من سب الله ورسوله إذا كان ذميا".

وسلك القاضي أبو الحسين في نواقض العهد طريقة ثانية توافق قولهم هذا فقال: "أما الثمانية التي فيها ضرر على المسلمين وآحادهم في مال أو في نفس فإنها تنقض العهد في أصح الروايتين" وأما ما فيه إدخال غضاضة ونقص على الإسلام وهي ذكر الله وكتابه ودينه ورسوله بما لا ينبغي فإنه ينقض العهد نص عليه ولم يخرج في هذا رواية أخرى كما ذكرها أولئك في أحد الموضعين وهذا أقرب من تلك الطريقة وعلى الرواية التي تقول: "لا ينتقض العهد بذلك" فإنما ذلك إذا لم يكن مشروطا عليهم في العقد فأما إن كان مشروطا ففيه وجهان أحدهما: ينتقض قاله الخرقي قال أبو الحسن الآمدي: "وهو الصحيح في كل ما شرط عليهم تركه" صحح قول الخرقي بانتقاض العهد إذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم والثاني: لا ينتقض قاله القاضي وغيره صرح أبو الحسين بذلك هنا كما ذكره الجماعة فيما إذا أظهروا دينهم وخالفوا هيئتهم من غير إضرار كإظهار الأصوات بكتابهم والتشبه بالمسلمين مع أن هذه الأشياء كلها يجب عليهم تركها بخصوصها. وهاتان الطريقتان ضعيفتان والذي عليه عامة المتقدمين من أصحابنا ومن تبعهم من المتأخرين إقرار نصوص أحمد على حالها وقد نص في مسائل سب الله ورسوله على انتقاض العهد في غير موضع وعلى أنه يقتل وكذلك فيمن جسس على المسلمين أو زنى بمسلمة على انتقاض عهده وقتله في غير موضع وكذلك نقله الخرقي فيمن قتل مسلما وقطع الطريق أولى وقد نص أحمد على أن قذف المسلم وسحره لا يكون نقضا للعهد في غير موضع هذا هو الواجب لأن تخريج حكم المسألتين إلى الأخرى وجعل المسألتين على روايتين مع وجود الفرق بينهما نصا واستدلالا أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندا للفرق غير جائز وهذا كذلك وكذلك قد وافقنا

على انتقاض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم جماعة لم يوافقوا على الانتقاض ببعض هذه الأمور. وأما الشافعي فالمنصوص عنه نفسه أن عهده ينتقض بسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يقتل هكذا حكاه ابن المنذر والخطابي وغيرهما والمنصوص عنه في الأم أنه قال: "إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب" وذكر الشروط إلى أن قال: "وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما أعطى من الأمان وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما تحل أموال أهل الحرب ودماؤهم وعلى أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنا أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده وحل دمه وماله وإن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم". ثم قال: فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فبها وإن لم يرضها فلا عقد له ولا جزية. ثم قال: ولو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد. وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدّدُه" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول يعاقب عليه ولا يقتل.

قال: فإن فعل أو قال ما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطى جزية" قتل وأخذ ماله فيئا. ونص في الأم أيضا أن العهد لا ينتقض بقطع الطريق ولا بقتل المسلم ولا بالزنا بالمسلمة ولا بالتجسس بل يحد فيما فيه الحد ويعاقب عقوبة مكملة فيما فيه العقوبة ولا يقتل إلا أن يجب عليه القتل. قال: ولا يكون النقض للعهد إلا بمنع الجزية أو الحكم بعد الإقرار والامتناع بذلك. قال: ولو قال "أؤدّي الجزية ولا أقر بالحكم" نبذ إليه ولم يقتل على ذلك مكانه وقيل: قد تقدم لك أمان فأمانك كان للجزية وإقرارك بها وقد أجلناك في أن تخرج من بلاد الإسلام ثم إذا خرج فبلغ مأمنه قتل إن قدر عليه. فعلى كلامه المأثور عنه يفرق بين ما فيه غضاضة على الإسلام وبين الضرر بالفعل أو يقال: يقتل الذمي بسبه وإن لم ينقض عهده كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما أصحابه فذكروا فيما إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء وجهين: أحدهما: ينتقض عهده بذلك سواء شرط عليه تركه أو لم يشرط بمنزلة ما إذا قاتلوا المسلمين وامتنعوا من التزام الحكم كطريقة أبي الحسين من أصحابنا وهذه طريقة أبي إسحاق المرزوي. ومنهم من خص سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بأنه يوجب القتل. والثاني: أن السب كالأفعال التي على المسلمين فيها ضرر من قتل المسلم

والزنا بالمسلمة والجس وما ذكر معه وذكروا في تلك الأمور وجهين أحدهما: أنه إن لم يشرط عليهم تركها بأعيانها ففي انتقاض العهد بفعلها وجهان والثاني: لم ينتقض العهد بفعلها مطلقا. ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالا وهي أقوال مشار إليها فيجوز أن تسمى أقوالا ووجوها هذه طريقة العراقيين وقد صرحوا بأن المراد شرط تركها لا شرط انتقاض العهد بفعلها كما ذكره أصحابنا. وأما الخراسانيون فقالوا: "المراد بالاشتراط هنا شرط انتقاض العهد بفعلها لا شرط تركها" قالوا: "لأن الترك موجب لنفس العقد" ولذلك ذكروا في تلك الخصال المضرة ثلاثة أوجه أحدها: ينتقض بفعلها والثاني: لا ينتقض والثالث: إن شرط في العقد انتقاض العهد بفعلها انتقض وإلا فلا. ومنهم من قال: إن شرط نقض وجها واحدا وإن لم يشرط فوجهان وحسبوا أن مراد العراقيين بالاشتراط هذا فقالوا حكاية عنهم: إن لم يجر شرط لم ينتقض العهد وإن جرى فوجهان ويلزم من هذا أن يكون العراقيون قائلين بأنه إن لم يجر شرط الانتقاض بهذه الأشياء لم ينتقض بها وجها واحدا وإن صرح بشرط تركها وهذا غلط عليهم والذي نصروه في كتب الخلاف أن سب النبي صلى الله عليه وسلم ينقض العهد ويوجب القتل كما ذكرنا عن الشافعي نفسه. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: لا ينتقض العهد بالسب ولا يقتل الذمي بذلك لكن يعزر على إظهار ذلك كما يعزر على إظهار المنكرات التي ليس لهم فعلها من إظهار أصواتهم بكتابهم ونحو ذلك وحكاه الطحاوي عن الثوري ومن أصولهم أن ما لا قتل فيه عندهم مثل القتل بالمثقل والجماع في غير القبل إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله وكذلك له أن يزيد على الحد المقدر إذا رأى المصلحة في ذلك ويحملون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من

القتل في مثل هذه الجرائم على أنه رأى المصلحة في ذلك ويسمونه القتل سياسة وكان حاصله أن له أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تغلظت بالتكرار وشرع القتل في جنسها ولهذا أفتى أكثرهم بقتل من أكثر من سب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وإن أسلم بعد أخذه وقالوا: يقتل سياسة وهذا متوجه على أصولهم. والدلائل على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار. أما الكتاب فيستنبط ذلك منه من مواضع: أحدها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر} إلى قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون ولا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية ومعلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا وامتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد وإذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملإ منا وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير وهذا فعل متعزز مراغم بل هذا

غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة قال أهل اللغة: الصغار الذل والضيم يقال: صغر الرجل بالكسر يصغر بالفتح صغرا وصغرا والصاغر: الراضي بالضيم ولا يخفى على المتأمل أن إظهار السب والشتم لدين الأمة التي اكتسب شرف الدنيا والآخرة ليس فعل راض بالذل والهوان وهذا ظاهر لا خفاء به. وإذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به وكل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه. وأيضا فإنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة. ولا يقال فيهم: فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان وشبهة الأمان كحقيقة فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم. لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها. وأيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وقد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه. وأيضا فإنا سنذكر شروط عمر رضي الله عنه وأنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه وماله.

الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وكتابنا وديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا ولا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله ورسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما؟. يوضح ذلك قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} أي كيف يكون لهم عهد ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم ولا العهد الذي بينكم وبينهم؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهد من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه فإنه إذا كان مع وجود العهد والذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة والقدرة؟ وهذا بخلاف من لم يظهر لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر. وهذه الآية وإن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى.

الموضع الثالث: قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وهذه الآية تدل من وجوه: أحدها: أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة وإنما ذكر الطعن في الدين وأفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر وبيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال ولهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح وبيان سبب القتال فان الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا وأما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة وحمية ورياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وبقوله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن ويعاهد وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره وإذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال وإن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة وإلا كان ذكره ضائعا. فان قيل: هذا يفيد أن من نكث عهده وطعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا

الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحدهما. قلنا: لا ريب أنه لابد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم وإلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال: من زنى وأكل جلد ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال: يقتل هذا لأنه مرتد زان وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ولكل وصف تأثير في البعض كما قال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية وقد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا وبيانا للموجب كما يقال: كفروا بالله وبرسوله وعصى الله ورسوله وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية وهذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال أن نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له وموجب له فنقول: إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه فأن يوجب قتال من بيننا وبينه ذمة وهو ملتزم للصغار أولى وسيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وإن لم يؤذنا فحاله أشد وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك.

الوجه الثاني: أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية وهذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه لكن نقول: ليس كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر والخنزير ونحو ذلك فنقول: قد وجد منه شيئان: ما منعه منه العهد وطعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط والقرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده وطعن في الدين ولا يمكن أن يقال "لم ينكث" لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى ولكن قد بقى من قواه ما يستمسك الحبل به وقد يهن بالكلية وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا وقد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن نقض بعض الشروط في البيع والنكاح ونحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما لو وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا وقد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن والضمين هذا عند من يفرق في المخالفة وأما من قال: "ينتقض العهد بجميع المخالفات" فالأمر ظاهر على قوله وعلى التقديرين قد اقتضى العقد أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا وأنهم متى أظهروا فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا ومعنى ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص.

الوجه الثالث: أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين وأوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} إما أن يعنى به الذين نكثوا أو طعنوا أو بعضهم والثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذا العلة يجب طردها إلا لمانع ولا مانع ولأنه علل ذلك ثانيا بأنهم لا أيمان لهم وذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين ولان النكث والطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال وقد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه وذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فيلزم أن الجميع أئمة كفر وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه وإنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك وهو مناسب لأن الطعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه وهذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتله لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ولا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين وخالف واليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون وهو كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية وإنما عاقدهم عقدا ونسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم وهذا لأن اليمين يقال: إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منهما يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا ويقال: سميت يمينا لأن اليمين هي القوة والشدة كما قال الله تعالى: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه وإن كان نذرا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "النذر حلفة" وقوله: "كفارة النذر كفارة اليمين" وقول

جماعة من الصحابة للذي نذَر نذْر اللجاج والغضب: "كفر يمينك" وللعهد الذي بين المخلوقين ومنه قوله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} والنهي عن نقض العهود وإن لم يكن فيها قسم وقال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} وإنما لفظ العهد "بايعناك على أن لا نفر" ليس فيه قسم وقد سماهم معاهدين لله وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} قالوا: معناه يتعاهدون ويتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله وكفالته وشهادته فثبت أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي أن لا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له فيجب قتله بنص الآية وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمام وهو من خالف بفعل شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين. الوجه الرابع: أنه قال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فجعل همهم بإخراج الرسول من المحضضات على قتالهم وما ذاك إلا لما فيه من الأذى وسبه أغلظ من الهم بإخراجه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عفا عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه ولم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله. الوجه الخامس: قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ

وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين وضمن لنا إن فعلنا ذلك أن يعذبهم بأيدينا ويخزيهم وينصرنا عليهم ويشفي صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم وطعنهم وأن يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالهم ترتيب الجزاء على الشرط والتقدير: إن تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله وإلا فالكفار يدالون علينا المرة وندال عليهم الأخرى وإن كانت العاقبة للمتقين وهذا تصديق ما جاء في الحديث: "ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو" والتعذيب بأيدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل والساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل وإنما ذكر سبحانه النصر عليهم وأنه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فأما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى يقال فيه "يعذبه الله ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" على أن قوله {مَنْ يَشَاءُ} يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه وإنما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك وعند التمييز فبعضهم دون بعضهم مباشر ولا يلزم من التوبة على الردء التوبة على المباشر ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء ولم يهدر دم الذين سمعوه وأهدر دم بني بكر ولم يهدر دم الذين أعاروهم السلاح. الوجه السادس: أن قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول وأن ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع:

" عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم والغم " ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم وأخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا لله والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه: أحدها: أن تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل. الثاني: أن شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل الساب أولى وأحرى. الثالث: أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء والأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا. الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة وهم القوم المؤمنين من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس. الموضع الرابع: قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم محادة لله ولرسوله لأنه قال هذه الآية عقب قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} ثم قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فلو لم يكونوا بهذا الأذى محادين لم يحسن أن يوعدوا بأن للمحاد نار جهنم لأنه يمكن حينئذ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نار جهنم لكنهم لم يحادوا وإنما آذوا فلا يكون في الآية وعيد لهم فعلم أن هذا الفعل لا بد أن يندرج في عموم المحادة ليكون وعيد المحاد وعيدا له ويلتئم الكلام. ويدل على ذلك أيضا ما روى الحاكم في صحيحه بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعين شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا بالله واعتذروا إليه " فأنزل الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فعلم أن هذا داخل في المحادة. وفي رواية أخرى صحيحة أنه نزل قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُم} وقد قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} ثم قال عقبه:

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَه} فثبت ان هؤلاء الشاتمين محادون وسيأتي إن شاء الله زيادة في ذلك. وإذا كان الأذى محادة لله ورسوله فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} والأذل أبلغ من الذليل ولا يكون أذل حتى يخاف على نفسه وماله إن أظهر المحادة لأنه إن كان دمه وماله معصوما لا يستباح فليس بأذل يدل عليه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} فبين سبحانه أنهم أينما ثقفوا فعليهم الذلة إلا مع العهد فعلم أن من له عهد وحبل لا ذلة عليه وان كانت عليه المسكنة فإن المسكنة قد تكون مع عدم الذلة وقد جعل المحادين في الأذلين فلا يكون لهم عهد إذ العهد ينافي الذلة كما دلت عليه الآية وهذا ظاهر فإن الأذل هو الذي ليس له قوة يمتنع بها ممن أرداه بسوء فإذا كان له من المسلمين عهد يجب عليهم به نصره ومنعه فليس بأذل فثبت أن المحاد لله ولرسوله لا يكون له عهد يعصمه والمؤذي للنبي صلى الله عليه وسلم محاد فالمؤذي للنبي ليس له عهد يعصم دمه وهو المقصود. وأيضا فإنه قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والكبت: الإذلال والخزي والصرع قال الخليل: "الكبت هو الصرع على الوجه" وقال النضر بن شميل وابن قتيبة: "هو الغيظ والحزن وهو في الاشتقاق الأكبر من كبده كأن الغيظ والحزن أصاب كبده" كما يقال: أحرق الحزن والعداوة كبده وقال أهل التفسير: "كبتوا أهلكوا وأخزوا وحزنوا" فثبت أن المحاد مكبوت مخزي ممتل غيظا وحزنا هالك

وهذا إنما يتم إذا خاف إن أظهر المحادة أن يقتل وإلا فمن أمكنه إظهار المحادة وهو آمن على دمه وماله فليس بمكبوت بل مسرور جذلان ولأنه قال: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والذين من قبلهم ممن حاد الرسل وحاد رسول الله إنما كبته الله بأن أهلكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين والكبت وإن كان يحصل منه نصيب لكل من لم ينل غرضه كما قال سبحانه: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} لكن قوله تعالى: {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني محادى الرسل دليل على الهلاك أو كتم الأذى يبين ذلك أن المنافقين هم من المحادين فهم مكبوتون بموتهم بغيظهم لخوفهم أنهم إن أظهروا ما في قلوبهم قتلوا فيجب أن يكون كل محاد كذلك. وأيضا فقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} عقب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} دليل على أن المحادة مغالبة ومعاداة حتى يكون أحد المتحادين غالبا والآخر مغلوبا وهذا إنما يكون بين أهل الحرب لا أهل السلم فعلم أن المحاد وليس بمسالم والغلبة للرسل بالحجة والقهر فمن أمر منهم بالحرب نصر على عدوه ومن لم يؤمر بالحرب أهلك عدوه وهذا أحسن من قول من قال: إن الغلبة للمحارب بالنصر ولغير المحارب بالحجة فعلم أن هؤلاء المحادين محاربون مغلوبون. أيضا فإن المحادة من المشاقة لأن المحادة من الحد والفصل والبينونة وكذلك المشاقة من الشق وهو بهذا المعنى فهما جميعا بمعنى المقاطعة والمفاصلة ولهذا يقال: إنما سميت بذلك لأن كل واحد من المتحادين والمتشاقين في حد وشق من الآخر وذلك يقتضي انقطاع الحبل الذي بين أهل العهد إذا حاد بعضهم بعضا فلا حبل لمحاد لله ورسوله.

وأيضا فإنها إذا كانت بمعنى المشاقة فإن الله سبحانه قال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم ومحادتهم فكل من حاد وشاق يجب أن يفعل به ذلك لوجود العلة. وأيضا فإنه تعالى قال: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والتعذيب هنا والله أعلم القتل لأنهم قد عذبوا بما دون ذلك من الإجلاء وأخذ الأموال فيجب تعذيب من شاق الله تعالى ورسوله ومن أظهر المحادة فقد شاق الله ورسوله بخلاف من كتمها فإنه ليس بمحاد ولا مشاق. وهذه الطريقة أقوى في الدلالة يقال: هو محاد وإن لم يكن مشاقا ولهذا جعل جزاء المحاد مطلقا أن يكون مكبوتا كما كبت من قبله وأن يكون في الأذلين وجعل جزاء المشاق القتل والتعذيب في الدنيا ولن يكون مكبوتا كما كبت من قبله في الأذلين إلا إذا لم يمكنه إظهار محادته فعلى هذا تكون المحادة أعم ولهذا ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية: إنها نزلت فيمن قتل من المسلمين أقاربه في الجهاد وفيمن أراد أن يقتل لمن تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى من كافر أو منافق قريب له فعلم أن المحاد يعم المشاق وغيره. ويدل على ذلك أنه قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} الآيات إلى قوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وإنما نزلت في

المنافقين الذين تولوا اليهود المغضوب عليهم وكان أولئك اليهود أهل عهد من النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن الله سبحانه بين أن المؤمنين لا يوادون من حاد الله ورسوله فلا بد أن يدخل في ذلك عدم المودة لليهود وإن كانوا أهل ذمة لأنه سبب النزول وذلك يقتضي أن أهل الكتاب محادون لله ورسوله وان كانوا معاهدين. ويدل على ذلك أن الله قطع الموالاة بين المسلم والكافر وإن كان له عهد وذمة وعلى هذا التقدير يقال: عوهدوا على أن لا يظهروا المحادة ولا يعلنوا بها بالإجماع كما تقدم وكما سيأتي فإذا أظهروا صاروا محادين لا عهد لهم مظهرين للمحادة وهؤلاء مشاقون فيستحقون خزي الدنيا من القتل ونحوه وعذاب الآخرة. فإن قيل: إذا كان كل يهودي محادا لله ورسوله فمن المعلوم أن العهد يثبت لهم مع التهود وذلك ينقض ما قدمتم من أن المحاد لا عهد له. قيل: من سلك هذه الطريقة قال: المحاد لا عهد له على إظهار المحادة فأما إذا لم يظهر لنا المحادة فقد أعطيناه العهد وقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} يقتضي أن الذلة تلزمه فلا تزول إلا بحبل من الله وحبل من الناس وحبل المسلمين معه على أن لا يظهر المحادة بالاتفاق فليس معه حبل مطلق بل حبل مقيد فهذا الحبل لا يمنعه أن يكون أذل إذا فعل ما لم يعاهد عليه أو يقول صاحب هذا المسلك: الذلة لازمة لهم بكل حال كما أطلقت في سورة البقرة وقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ} يجوز أن يكون تفسيرا للذلة أي ضربت عليهم أنهم أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس فالحبل لا يرفع الذلة وإنما يرفع بعض موجباتها وهو القتل فإن

من كان لا يعصم دمه إلا بعهد فهو ذليل وإن عصم دمه بالعهد لكن على هذا التقدير تضعف الدلالة الأولى من المحادة والطريقة الأولى أجود كما تقدم وفي زيادة تقريرها طول. الموضع الخامس: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وهذه الآية توجب قتل من آذى الله ورسوله كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره والعهد لا يعصم من ذلك لأنا لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله. ويوضح ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " فندب المسلمين إلى يهودي كان معاهدا لأجل أنه آذى الله ورسوله فدل ذلك على أنه لا يوصف كل ذمي بأنه يؤذي الله ورسوله وإلا لم يكن فرق بينه وبين غيره ولا يصح أن يقال: اليهود ملعونون في الدنيا والآخرة مع إقرارهم على ما يوجب ذلك لأنا لم نقرهم على إظهار أذى الله ورسوله وإنما أقررناهم على أن يفعلوا بينهم ما هو من دينهم. فصل. وأما الآيات الدالات على كفر الشاتم وقتله أو على أحدهما إذا لم يكن معاهدا وإن كان مظهرا للإسلام فكثيرة مع أن هذا مجمع عليه كما تقدم حكاية الإجماع عن غير واحد. منها قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

إلى قوله {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَه} فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلا فيه ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفا إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالدا فيها ولم يقل "هي جزاؤه" وبين الكلامين فرق بل المحادة هي المعاداة والمشاقة وذلك كفر ومحاربة فهو أغلظ من مجرد الكفر فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا عدوا لله ورسوله محاربا لله ورسوله لأن المحادة اشتقاقها من المبيانة بأن يصير كل واحد منهما في حد كما قيل "المشاقة: أن يصير كل منهما في شق والمعاداة: أن يصير كل منهما في عدوة". وفي الحديث أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " من يكفيني عدوي " وهذا ظاهر قد تقدم تقريره وحينئذ فيكون كافرا حلال الدم لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} ولو كان مؤمنا معصوما لم يكن أذل لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} والمؤمن لا يكبت كما كبت مكذبو الرسل قط ولأنه قد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية فإذا كان من يواد المحاد ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه؟ وقد قيل: إن من سبب نزولها أن أبا قحافة شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصديق قتله أو أن ابن أبي تنقص النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن ابنه

النبي صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك فثبت أن المحاد كافر حلال الدم. وأيضا فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله فقال تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} فعلم أنهم ليسوا من المؤمنين. وأيضا فإنه قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فجعل سبب استحقاقهم العذاب في الدنيا ولعذاب النار في الآخرة هو مشاقة الله ورسوله والمؤذي للنبي صلى الله عليه وسلم مشاق لله ورسوله كما تقدم والعذاب هنا هو الإهلاك بعذاب من عنده أو بأيدينا وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذهاب الأموال وفراق الأوطان. وقال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم} إلى قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فجعل إلقاء الرعب في قلوبهم والأمر بقتلهم لأجل مشاقتهم لله ورسوله فكل من شاق الله ورسوله يستوجب ذلك. وقولهم: {هُوَ أُذُنٌ} قال مجاهد: "هو أذن" يقولون: سنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا". وقال الوالبي عن ابن عباس: "يعني أنه يسمع من كل أحد".

قال بعض أهل التفسير: كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس: "بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا فإنما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية". وقال ابن إسحاق: كان نبتل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: " من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث " ينم حديث النبي إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه فأنزل الله هذه الآية. وقولهم: "أذن" قالوا: ليتبينوا أن كلامهم مقبول عنده فأخبر الله أنه لا يصدق إلا المؤمنين وإنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أذن خير لا لأنه صدقهم قال سفيان بن عيينة: "أذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخير ومن القول ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم ويدع سرائركم إلى الله تعالى وربما تضمنت هذه الكلمة نوع استهزاء واستخفاف". فإن قيل: فقد روى نعيم بن حماد ثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل لفاجر ولفاسق عندي يدا ولا نعمة فإني وجدت فيما أوحيته {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} " قال سفيان: "يرون أنها أنزلت فيمن يخالط السلطان" رواه أبو أحمد العسكري وظاهر هذا أن كل فاسق لا يبغي مودته فهو محاد لله ورسوله مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدم.

قيل: المؤمن الذي يحب الله ورسوله ليس على الإطلاق بمحاد لله ورسوله كما أنه ليس على الإطلاق بكافر ولا منافق وإن كانت له ذنوب كثيرة إلا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنعيمان وقد جلد في الخمر غير مرة "إنه يحب الله ورسوله" لأن مطلق المحادة يقتضي مطلق المقاطعة والمصارمة والمعاداة والمؤمن ليس كذلك لكن قد يقع اسم النفاق على من أتى بشعبة من شعبه ولهذا قالوا: "كفر دون كفر" و"ظلم دون ظلم" و"فسق دون فسق" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفر بالله تبرأ من نسب وإن دق " و" من حلف بغير الله فقد أشرك " و"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ". وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. فوجه هذا الحديث أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عنى بالفاجر المنافق فلا ينقض الاستدلال أو يكون عنى كل فاجر لأن الفجور مظنة النفاق فما من فاجر إلا يخاف أن يكون فجوره صادرا عن مرض في القلب أو موجبا له فإن المعاصي بريد الكفر فإذا أحب الفاسق فقد يكون محبا للمنافق فحقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يواد من أظهر من الأفعال ما يخاف معها أن يكون محادا لله ورسوله فلا ينقض الاستدلال أيضا أو أن تكون الكبائر من شعب المحادة لله ورسوله فيكون مرتكبها محادا من وجه وإن كان مواليا لله ورسوله من وجه آخر ويناله من الذلة والكبت بقدر قسطه من المحادة كما قال الحسن: "وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إنّ ذلّ المعصية لفي رقابهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه فالعاصي يناله من الذلة والكبت بحسب معصيته وإن كان له من عزة الإيمان بحسب إيمانه كما يناله من الذم والعقوبة وحقيقة الإيمان أن لا يواد المؤمن من حاد الله بوجه من

وجوه المودة المطلقة وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا اصطنع الفاجر إليه يدا أحبه المحبة التي جبلت القلوب عليها فيصير موادا له مع أن حقيقة الإيمان توجب عدم مودته من ذلك الوجه وإن كان معه من أصل الإيمان ما يستوجب به أصل المودة التي تستوجب أن يخص بها دون الكافر والمنافق وعلى هذا فلا ينقض الاستدلال أيضا لأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أظهر حقيقة المحادة ورأسها الذي يوجب جميع أنواع المحادة فاستوجب الجزاء المطلق وهو جزاء الكافرين كما أن من أظهر حقيقة النفاق ورأسه استوجب ذلك وإن لم يستوجبه من أظهر شعبة من شعبه والله سبحانه أعلم. الدليل الثاني: قوله سبحانه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا أو هازلا فقد كفر. وقد روى عن رجال من أهل العلم منهم ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا اكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء" يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء فقال

له عوف بن مالك: "كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق". قال ابن عمر: "كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه ". وقال مجاهد: "قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب فأنزل الله عز وجل هذه الآية". وقال معمر عن قتادة: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: أيظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها؟ فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " علي بهؤلاء النفر" فدعا بهم فقال: أقلتم كذا وكذا؟ فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب ". قال معمر: قال الكلبي: "كان رجل منهم لم يماثلهم في الحديث يسير عائبا لهم فنزلت {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَة} فسمي طائفة وهو واحد". فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه والعلماء من أصحابه

واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاء فكيف بما هو أغلظ من ذلك؟ وإنما لم يقم الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أمر به إذ ذاك بل كان مأمورا بأن يدع أذاهم ولأنه كان له أن يعفو عمن تنقصه وآذاه. الدليل الثالث: قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات} واللمز: العيب والطعن قال مجاهد: "يتهمك ويزريك" وقال عطاء: "يغتابك" وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيّ} الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن {الَّذِينَ} و {مَنْ} اسمان موصولان وهما من صيغ العموم والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم وإيذاء آخرين فحكمها عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ولكن إذا كان اللفظ أعم من ذلك السبب فقد قيل: أنه يقتصر على سببه والذي عليه جماهير الناس أنه يجب الأخذ بعموم القول ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه. وأيضا فإن كونه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده. وأيضا فإن الله سبحانه وإن كان قد علم منهم النفاق قبل هذا القول لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه بل قال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ثم أنه سبحانه ابتلى الناس بأمور تميز بين المؤمنين والمنافقين

كما قال سبحانه: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعينهم وإن لم يكن دليلا من غيرهم؟. قلنا: إذا كان دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى وأحرى. وأيضا فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وإن كانت أمرا مباحا كما لو قيل: من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحب الثوب الأسود ونحو ذلك فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول

والوعيد لصاحبه علم أنه لم يقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط بل هو دليل على نوع من المنافقين. وأيضا فإن هذا القول مناسب للنفاق فإن لمز النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا وأنه أولى به من نفسه وأنه لا يقول إلا الحق ولا يحكم إلا بالعدل وأن طاعته لله وأنه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره وإذا كان دليلا على النفاق نفسه فحيثما حصل حصل النفاق. وأيضا فإن هذا القول لا ريب أنه محرم فإما أن يكون خطيئة دون الكفر أو يكون كفرا والأول باطل لأن الله سبحانه قد ذكر في القرآن أنواع العصاة من الزاني والقاذف والسارق والمطفف والخائن ولم يجعل ذلك دليلا على نفاق معين ولا مطلق فلما جعل أصحاب هذه الأقوال من المنافقين علم أن ذلك لكونها كفرا لا لمجرد كونها معصية لأن تخصيص بعض المعاصي يجعلها دليلا على النفاق دون بعض لا يكون حتى يختص دليل النفاق بما يوجب ذلك وإلا كان ترجيحا بلا مرجح فثبت أنه لا بد أن يختص هذه الأقوال بوصف يوجب كونها دليلا على النفاق وكلما كان كذلك فهو كفر. وأيضا فإن الله سبحانه كما ذكر بعض الأقوال التي جعلهم بها من المنافقين وهو قوله تعالى: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} قال في عقب ذلك: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} إلى قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}

فجعل ذلك علامة مطردة على عدم الإيمان وعلى الريب مع أنه رغبة عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استنفاره وإظهار من القاعد أنه معذور بالقعود وحاصله عدم إرادة الجهاد فلمزه وأذاه أولى أن يكون دليلا مطردا لأن الأول خذلان له وهذا محاربة له وهذا ظاهر. وإذا ثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم أو آذاه منهم فالضمير عائد على المنافقين والكافرين لأنه سبحانه لما قال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه} وهذا الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور وهم الذين حلفوا {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفروا بالله ورسوله وقد جعل منهم من يلمز ومنهم من يؤذي وكذلك قوله: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} إخراج لهم عن الإيمان. وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين وأنهم في الدرك الأسفل من النار وأنهم يوم القيامة يقولون للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم} الآية إلى قوله: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وأمر نبيه في آخر الأمر بأن

لا يصلي علي أحد منهم وأخبر أنه لن يغفر لهم وأمره بجهادهم والإغلاظ عليهم وأخبر أنهم إن لم ينتهوا ليغرين الله نبيه بهم حتى يقتلوا في كل موضع. الدليل الرابع على ذلك أيضا: قوله سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا وباطنا وقال قبل ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟. ويؤيد ذلك ما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي: "أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه: لا أرضى فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى وقال: نأتي عمر بن الخطاب فأتياه فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى ثم أتينا أبا بكر الصديق فقال: أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرضى فسأله عمر فقال كذلك فدخل عمر منزله فخرج والسيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله" فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} الآية. وهذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار. قال ابن دحيم: حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة

عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: "اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى لأحداهما فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم انطلقوا إلى عمر" فانطلقا فلما أتيا عمر قال الذي قضي له: يا ابن الخطاب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لي وإن هذا قال: ردنا إلى عمر فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أكذلك؟ للذي قضي عليه قال: نعم فقال عمر: مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال "ردنا إلى عمر" فقتله وأدبر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قتل عمر صاحبي ولولا ما أعجزته لقتلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أظن أن عمر يجتري على قتل مؤمن" فأنزل الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} فبرأ الله عمر من قتله". وقد رويت هذه القصة من غير هذين الوجهين قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: "ما أكتب حديث ابن لهيعة إلا للاعتبار والاستدلال وقد أكتب حديث هذا الرجل على هذا المعنى كأني أستدل به مع غيره يشده لا أنه حجة إذا انفرد". الدليل الخامس مما استدل به العلماء على ذلك: قوله سبحانه تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ودلالتها من وجوه: أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته فمن آذاه فقد آذى الله تعالى وقد جاء ذلك منصوصا عنه ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله وإرضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئا واحدا فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} في مواضع متعددة وقال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} فوحد الضمير وقال أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وقال أيضا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول} . وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئا واحدا فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَه} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقال تعالى:

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَه} وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية. وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين وأن جهة حرمه الله تعالى ورسوله جهة واحدة فمن آذى الرسول فقد آذى الله ومن أطاعه فقد أطاع الله لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول ليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور. وثانيها: أنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات فجعل على هذا أنه {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل. الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا واللعن: الإبعاد عن الرحمة ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرا فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله فلا يثبت في حقه. ويؤيد ذلك قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فإن أخذهم وتقتيلهم والله أعلم بيان صفة لعنهم وذكر لحكمة فلا موضع له من الإعراب وليس بحال ثانية لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يظهر أثر لعنهم في الدنيا لم يكن في ذلك وعيد لهم

بل تلك اللعنة ثابتة قبل هذا الوعيد وبعده فلا بد أن يكون هذا الأخذ والتقتيل من آثار اللعنة التي وعدوها فثبت في حق من لعنه الله في الدنيا والآخرة. ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله" متفق عليه فإذا كان الله قد لعن هذا في الدنيا والآخرة فهو كقتله فعلم أن قتله مباح. قيل: واللعن إنما يستوجبه من هو كافر لكن ليس هذا جيدا على الإطلاق. ويؤيده قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} ولو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نصره لكان له نصير. ويوضح ذلك أنه قد نزل في شأن ابن الأشرف وكان من لعنته أن قتل لأنه كان يؤذي الله ورسوله. وأعلم أنه لا يرد على هذا أنه قد لعن من لا يجوز قتله لوجوه: أحدها أن هذا قيل فيه "لعنه الله في الدنيا والآخرة" فبين أنه سبحانه أقصاه عن رحمته في الدارين وسائر الملعونين إنما قيل فيهم "لعنه الله" أو "عليه لعنة الله" وذلك يحصل بإقصائه عن الرحمة في وقت من الأوقات وفرق بين من لعنه الله أو عليه لعنة مؤبدة عامة ومن لعنه لعنا مطلقا.

الثاني: أن سائر الذين لعنهم الله في كتابه مثل الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ومثل الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ومثل من يقتل مؤمنا متعمدا إما كافر أو مباح الدم بخلاف بعض من لعن في السنة. الثالث: أن هذه الصيغة خبر عن لعنة الله له ولهذا عطف عليه {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} وعامة الملعونين الذين لا يقتلون أو لا يكفرون إنما لعنوا بصيغة الدعاء مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله من غير منار الأرض " و" لعن الله السارق " و" لعن الله آكل الربا ومؤكله " ونحو ذلك. لكن الذي يرد على هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإن في هذه الآية ذكر لعنتهم في الدنيا والآخرة مع أن مجرد القذف ليس بكفر ولا يبيح الدم. والجواب عن هذه الآية من طريقين مجمل ومفصل. أما المجمل فهو أن قذف المؤمن المجرد هو نوع من أذاه وإذا كان كاذبا فهو بهتان عظيم كما قال سبحانه: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} والقرآن قد نص على الفرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ

عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} فلا يجوز أن يكون مجرد أذى المؤمنين بغير حق موجبا للعنة الله في الدنيا والآخرة وللعذاب المهين إذ لو كان كذلك لم يفرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين ولم يخصص مؤذي الله ورسوله باللعنة المذكورة ويجعل جزاء مؤذي المؤمنين أنه احتمل بهتانا وإثما مبينا كما قال في موضع آخر: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} كيف والعليم الحكيم إذا توعد على الخطيئة زاجرا عنها فلا بد أن يذكر أقصى ما يخاف على صاحبها فإذا ذكر خطيئتين إحداهما أكبر من الأخرى متوعدا عليهما زاجرا عنهما ثم ذكر في إحداهما جزاء عنها وذكر في الأخرى ما هو دون ذلك ثم ذكر هذه الخطيئة في موضع آخر متوعدا عليها بالعذاب الأدنى بعينه علم أن جزاء الكبرى لا يستوجب بتلك التي هي أدنى منها. فهذا دليل يبين لك أن لعنة الله في الدنيا والآخرة وإعداده العذاب المهين لا يستوجب بمجرد القذف الذي ليس فيه أذى لله ورسوله وهذا كاف في اطراد الدلالة وسلامتها عن النقض. وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في قول كثير من أهل العلم.

فروى هشيم عن العوام بن حوشب ثنا شيخ من بني كاهل قال: فسر ابن عباس سورة النور فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى آخر الآية قال: "هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهي مبهمة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة" قال: فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر. وقال أبو سعيد الأشج: ثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: " {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} نزلت في عائشة رضي الله عنها خاصة واللعنة في المنافقين عامة". فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه فإن زناء امرأته يؤذيه أذى عظيما ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرأ الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال. ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة والذمية ولها زوج أو ولد محصن حد لقذفها لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين.

والرواية الأخرى عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه لأنه أذى لهما لا قذف لهما والحد التام إنما يجب بالقذف وفي جانب النبي صلى الله عليه وسلم أذاه كقذفه ومن يقصد عيب النبي صلى الله عليه وسلم بعيب أزواجه فهو منافق وهذا معنى قول ابن عباس: "اللعنة في المنافقين عامة". وقد وافق ابن عباس على هذا جماعة فروى الإمام أحمد والأشج عن خصيف قال: سالت سعيد بن جبير فقلت: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟ قال: لا بل الزنا قال: قلت: وإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة. وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال: "هذه لأمهات المؤمنين خاصة". وروى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال: "هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم". وقال معمر عن الكلبي: إنما عنى بهذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأما من رمى امرأة من المسلمين فهو فاسق كما قال تعالى أو يتوب. ووجه هذا ما تقدم من أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف فتكون اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة أو تقصير اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك. ويؤيد هذا القول أن الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف محصنات

غافلات مؤمنات وقال في أول السورة {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية فرتب الجلد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات فلا بد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فتخصيصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعلم أنه الذي رمى أمهات المؤمنين ويعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي. وأعلم أنه على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضا موافقة لتلك الآية لأنه لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه في الدنيا والآخرة ولهذا قال ابن عباس: "ليس فيها توبة" لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاما جديدا وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة فإنه ما بغت امرأة نبي قط. ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ما خرجاه في

الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. وفي رواية أخرى صحيحة قالت: "لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطيبا وما علمت به فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي وايم الله ما علمت على أهلي سوءا قط وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ولا كنت في سفر إلا غاب معي فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله مرني أن أضرب أعناقهم ". فقوله "من يعذرني" أي: من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من أذاه في أهل بيتي والله لهم فثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد تأذى بذلك تأذيا استعذر منه وقال المؤمنون الذين لم تأخذهم حمية: " مرنا

نضرب أعناقهم فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم " ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على سعد استئماره في ضرب أعناقهم وقوله: " إنك معذور إذا فعلت ذلك ". بقى أن يقال: فقد كان من أهل الإفك مسطح وحسان وحمنة ولم يرموا بنفاق ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم أحدا بذلك السبب بل قد اختلف في جلدهم. وجوابه: أن هؤلاء لم يقصدوا أذى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يظهر منهم دليل على أذاه بخلاف ابن أبي الذي إنما كان قصده أذاه ولم يكن إذ ذاك قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هن أزواج له في الآخرة وكان وقوع ذلك من أزواجه ممكنا في العقل ولذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم في القصة حتى استشار عليا وزيدا وحتى سأل بريرة فلم يحكم بنفاق من لم يقصد أذى النبي صلى الله عليه وسلم لإمكان أن يطلق المرأة المقذوفة فأما بعد أن ثبت أنهن أزواجه في الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين فقذفهن أذى له بكل حال ولا يجوز مع ذلك أن تقع منهن فاحشة لأن في ذلك جواز أن يقيم الرسول مع امرأة بغي وأن تكون أم المؤمنين موسومة بذلك وهذا باطل ولهذا قال سبحانه: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب كلام الفقهاء فيمن قذف نساءه وأنه معدود من أذاه. الوجه الثاني: أن الآية عامة قال الضحاك:" قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} يعني به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة" ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة

وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: قذف المحصنات من الموجبات ثم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية وعن عمرو بن قيس قال: "قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة" رواهما الأشج وهذا قول كثير من الناس ووجه ظاهر الخطاب فإنه عام فيجب إجراءه على عمومه إذ لا موجب لخصوصه وليس هو مختصا بنفس السبب بالاتفاق لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم داخل في العموم وليس هو من السبب ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك وقد علم أن شيئا منها لم يقصر على سببه والفرق بين الآيتين أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجهه وعن أصحابه أن قذف المحصنات من الكبائر وفي لفظ في الصحيح "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وكان بعضهم يتأول على ذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} ثم اختلف هؤلاء: فقال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: "إنما خرجت تفجر" فعلى هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفا يصدهن به عن الإيمان ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام كما فعل كعب ابن الأشرف وعلى هذا فمن فعل ذلك فهو كافر وهو بمنزلة من سب النبي صلى الله عليه وسلم

وقوله: "إنها نزلت زمن العهد" يعني والله أعلم أنه عنى بها مثل أولئك المشركين المعاهدين وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك وكان الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق والهدنة كانت بعد ذلك بسنتين. ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها لأن سبب نزولها قدف عائشة وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق وسبب النزول لا بد أن يندرج في العموم ولأنه لا موجب لتخصيصها. والجواب على هذا التقدير أنه سبحانه قال هنا: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} على بناء الفعل للمفعول ولم يسم اللاعن وقال هناك: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت وجاز أن يتولى الله لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنا في الدين ويتولى خلقه لعنة الآخرين وإذا كان اللاعن مخلوقا فلعنته قد تكون بمعنى الدعاء عليهم وقد تكون بمعنى أنهم يبعدونهم عن رحمة الله. ويؤيد هذا أن الرجل قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبا في القذف أن يلعنه الله كما أمر الله رسوله أن يباهل من حاجه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعل لعنة الله على الكاذبين فهذا مما يلعن به القاذف ومما يلعن به أن يجلد وإن ترد شهادته ويفسق فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول وهي من رحمة الله وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة فإن لعنة الله له

توجب زوال النصر عنه من كل وجه وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين. ومما يؤيد الفرق أنه قال هنا: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} وقوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} وقوله {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له. وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدا للمؤمنين في قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفي المحارب: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

وفي القاتل: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} وقوله: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقد قال سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي وذلك قدر زائد على ألم العذاب فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان. فلما قال في هذه الآية: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين ولما قال هناك: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ومما يبين الفرق أيضا أنه سبحانه وتعالى قال هنا: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} والعذاب إنما أعد للكافرين فإن جهنم لهم خلقت لأنهم لا بد أن يدخلوها وما هم منها بمخرجين وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن لا يدخلوها إذا غفر الله لهم وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين. قال سبحانه: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فأمر سبحانه المؤمنين أن لا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا

المعاصي مع أنها معدة للكافرين لا لهم وكذلك جاء في الحديث "أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما أقوام لهم ذنوب يصيبهم سفع من نار ثم يخرجهم الله منها" وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم ويدخلها قوم بالشفاعة وقوم بالرحمة وينشئ الله لما فضل منها خلقا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه ولمن هو أولى الناس به ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر. الدليل السادس: قوله سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي حذر أن تحبط أعمالكم أو خشية أن تحبط أعمالكم أو كراهة أن تحبط أو منع أن تحبط هذا تقدير البصريين وتقدير الكوفيين لئلا تحبط. فوجه الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر فإنه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له بطلب سلامة العمل عن الحبوط وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب والعمل يحبط بالكفر قاله سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ

فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} كما أن الكفر إذا قارنه عمل لم يقبل لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} وقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه} وهذا ظاهر ولا يحبط الأعمال غير الكفر لأن من مات على الإيمان فإنه لابد من أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها ولا ينافي الأعمال مطلقا إلا الكفر وهذا معروف من أصول أهل السنة نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر. فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك وأنه مظنة لذلك وسبب فيه فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوقير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال ولما أن رفع الصوت

قد يشتمل على أذى له أو استخفاف به وإن لم يقصد الرافع ذلك فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفرا فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفرا بطريق الأولى. الدليل السابع على ذلك: قوله سبحانه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أمر من خالف أمره أن يحذر الفتنة والفتنة: الردة والكفر قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} وقال: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} وقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} . قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلوا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلوا هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} ". وقال أبو طالب المشكاني وقيل له: إن قوما يدعون الحديث

ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وتدري ما الفتنة؟ الكفر قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي فإذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحق الآمر كما فعل إبليس فكيف لما هو أغلظ من ذلك كالسب والإنتقاص ونحوه؟. وهذا باب واسع مع أنه بحمد الله مجمع عليه لكن إذا تعددت الدلالات تعاضدت على غلظ كفر الساب وعظم عقوبته وظهر أن ترك الاحترام للرسول وسوء الأدب معه مما يخاف معه الكفر المحبط كان ذلك أبلغ فيما قصدنا له. ومما ينبغي أن يتفطن له أن لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشر والمكروه ذكره الخطابي وغيره وهو كما قال واستقراء موارده يدل على ذلك مثل قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} . وفيما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القر بؤس والحر أذى "

وقيل لبعض النسوة العربيات: القر أشد أم الحر؟ فقالت: من يجعل البؤس كالأذى؟ والبؤس خلاف النعم وهو ما يشقي البدن ويضره بخلاف الأذى فإنه لا يبلغ ذلك ولهذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " وقال: " ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم " وقد قال سبحانه فيما يروي عنه رسوله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" وقال سبحانه في كتابه: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} فبين أن الخلق لا يضرونه سبحانه بكفرهم لكن يؤذونه تبارك وتعالى إذا سبوا مقلب الأمور وجعلوا له سبحانه ولدا أو شريكا وآذوا رسله وعباده المؤمنين ثم إن الأذى لا يضر المؤذى إذا تعلق بحق الرسول فقد رأيت عظم موقعه وبيانه أن صاحبه من أعظم الناس كفرا وأشدهم عقوبة فتبين بذلك أن قليل ما يؤذيه يكفر به صاحبه ويحل دمه. ولا يرد على هذا قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِي} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فإن المؤذي له هنا إطالتهم الجلوس في المنزل واستئناسهم للحديث لا أنهم هم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم والفعل إذا آذى النبي من غير أن يعلم صاحبه أنه يؤذيه

ولم يقصد صاحبه أذاه فإنه ينهى عنه ويكون معصية كرفع الصوت فوق صوته فأما إذا قصد أذاه وكان مما يؤذيه وصاحبه يعلم أنه يؤذيه وأقدم عليه مع استحضاره هذا العلم فهذا الذي يوجب الكفر وحبوط العمل والله سبحانه أعلم. الدليل الثامن على ذلك: أن الله سبحانه قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} فحرم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيما عند الله تعظيما لحرمته وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة ثم إن من نكح أزواجه أو سراريه فإن عقوبته القتل جزاء له بما انتهك من حرمته فالشاتم له أولى. والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن زهير عن عفان عن حماد عن ثابت عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " اذهب فاضرب عنقه " فأتاه علي فإذا هو ركن يتبرد فقال له علي: اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه لمجبوب ماله ذكر فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته ولم يأمر بإقامة حد الزنا لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة بل إن كان محصنا رجم وإن كان غير محصن جلد ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر

فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته ولعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رأياه يباشر هذه المرأة أو شهدا بنحو ذلك فأمر بقتله فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه أو أنه بعث عليا ليرى القصة فإن كان ما بلغه عنه حقا قتله ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها: أكون كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تقدم عليه وقيل: إنه خيرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما فقال عمر: ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب وقيل: إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها. فوجه الدلالة أن الصديق رضي الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنهما لذلك فعلم أنهم كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال: إن ذلك حد الزنا لأنها كانت تكون محرمة عليه ومن تزوج ذات محرمة حد حد الزنا أو قتل لوجهين: أحدهما: أن حد الزنا الرجم

الثاني: أن ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطء ببينة أو إقرار فلما أراد تحريق البيت مع جواز ألا يكون غشيها علم أن ذلك عقوبة لما انتهكه من حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل. وأما السنة فأحاديث: الحديث الأول: ما رواه الشعبي عن علي أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها هكذا رواه أبو داود في سننه وابن بطة في سننه وهو من جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله وقال: ثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كان رجل من المسلمين أعني أعمى يأوي إلى امرأة يهودية فكانت تطعمه وتحسن إليه فكانت لا تزال تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذيه فلما كان ليلة من الليالي خنقها فماتت فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنشد الناس في أمرها فقام الأعمى فذكر أمرها فأطل النبي صلى الله عليه وسلم دمها. وهذا الحديث جيد فإن الشعبي رأى عليا وروى عنه حديث شراحة الهمداني وكان على عهد علي قد ناهز العشرين سنة وهو كوفي فقد ثبت لقاؤه فيكون الحديث متصلا ثم إن كان فيه إرسال لأن الشعبي يبعد سماعه من علي فهو حجة وفاقا لأن الشعبي عندهم صحيح المراسيل لا يعرفون له مرسلا إلا صحيحا ثم هو من أعلم الناس بحديث علي وأعلمهم بثقات أصحابه وله شاهد حديث ابن عباس الذي يأتي فإن القصة إما أن تكون واحدة أو يكون

المعنى واحدا وقد عمل به عوام أهل العلم وجاء ما يوافقه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا المرسل لم يتردد الفقهاء في الاحتجاج به. وهذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم والمسلمة إذا سبا بطريق الأولى لأن هذه المرأة كانت موادعة مهادنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود الذين كانوا بها موادعة مطلقة ولم يضرب عليهم جزية وهذا مشورع عند أهل العلم بمنزلة المتواتر بينهم حتى قال الشافعي: لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية وهو كما قال الشافعي. وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود وهم: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وكان بنو قينقاع والنضير حلفاء الخزرج وكانت قريظة حلفاء الأوس فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه حتى أنه عاهد اليهود على أن يعينوه إذا حارب ثم نقض العهد بنوقينقاع ثم النضير ثم قريظة. قال محمد بن إسحاق يعني في أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم. قال ابن إسحاق: حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب عمر للعمال كتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المسلمين والمؤمنين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم

وجاهد معهم أنهم أمة واحدة دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ثم ذكر لبطون الأنصار بني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني النجار وبني عمرو ابن عوف وبني الأوس وبني النبيت مثل هذا الشرط. ثم قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه إلى أن قال: وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم فإن المؤمنين بعضهم مولى بعض دون الناس وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم وإن سلم المؤمنين واحدة إلى أن قال: وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين وإن ليهود بني عوف ذمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وإن اليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف وإن ليهود ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وإن لحقه بطن من ثعلبة مثله وإن لبني الشطبة مثل ما ليهود بني عوف وإن موالي ثعلبه كأنفسهم وإن بطانة يهود كأنفسهم ثم يقول فيها: وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وإنه ما كان بين أهل

هذه الصحيفة من حرث أو أشجار يخشى فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم على مثل ما في هذه الصحيفة مع البار المحسن من أهل هذه الصحيفة وفيها أشياء آخر. وهذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: كتب رسول الله على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتوالى رجل مسلم بغير إذنه وقد بين فيها أن كل من تبع المسلمين من اليهود فإن له النصر ومعنى الإتباع مسالمته وترك محاربته لا الإتباع في الدين كما بينه في أثناء الصحيفة فكل من أقام بالمدينة ومخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا. ثم بين أن ليهود كل بطن من الأنصار ذمة من المؤمنين ولم يكن بالمدينة أحد من اليهود إلا وله حلف إما مع الأوس أو مع بعض بطون الخزرج وكان بنو قينقاع وهم المجاورون بالمدينة وهم رهط عبد الله بن سلام حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط ابن أبي رهم البطن الذين بدئ بهم في هذه الصحيفة. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه فقام عبد الله بن أبي سلول إلى رسول الله حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني وغضب حتى إن لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلالا وقال: " ويحك أرسلني " فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني

والله لامرؤ أخشى الدوائر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم لك". وأما النضير وقريظة فكانوا خارجا من المدينة وعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن يخفى على عالم. وهذه المقتولة والله أعلم كانت من قينقاع لأن ظاهر القصة أنها كانت بالمدينة وسواء كانت منهم أو من غيرهم فإنها كانت ذمية لأنه لم يكن بالمدينة من اليهود إلا ذمي فإن اليهود كانوا ثلاثة أصناف وكلهم معاهد. وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر عن الحارث بن الفضيل عن محمد بن كعب القرظي قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وادعته يهود كلها فكتب بينه وبينها كتابا وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بحلفائهم وجعل بينه وبينهم أمانا وشرط عليهم شروطا فكان فيما شرط أن لا يظاهروا عليه عدوا. فلما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقدم المدينة بغت يهود وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فجمعهم ثم قال: "يا معشر يهود أسلموا فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله قبل أن يوقع الله بكم مثل وقعة قريش" فقالوا: يا محمد لا يغرنك من لقيت إنك لقيت أقواما أغمارا وإنا والله أصحاب الحرب ولئن قاتلتنا لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا. ثم ذكر حصارهم وإجلاءهم إلى أذرعات وهم بنو قينقاع الذي كانوا بالمدينة

فقد ذكر ابن كعب مثل ما في الصحيفة وبين أنه عاهد جميع اليهود وهذا مما لا نعلم فيه تردد بين أهل العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن تأمل الأحاديث المأثورة والسيرة كيف كانت معهم علم ذلك ضرورة. وإنما ذكرنا هذا لأن بعض المصنفين في الخلاف قال: يحتمل أن هذه المرأة ما كانت ذمية وقائل هذا ممن ليس له بالسنة كثير علم وإنما يعلم منها في الغالب ما يعلمه العامة ثم إنه أبطل هذا الاحتمال فقال: لو لم تكن ذمية لم يكن للإهدار معنى فإذا نقل السب والإهدار تعلق به كتعلق الرجم بالزنا والقطع بالسرقة وهذا صحيح وذلك أن في نفس الحديث ما يبين أنها كانت ذمية من وجهين. أحدهما: أنه قال: إن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فخنقها رجل فأبطل دمها فرتب علي رضي الله عنه إبطال الدم على الشتم بحرف الفاء فعلم أنه هو الموجب لإبطال دمها لأن تعليق الحكم بالوصف المناسب بحرف الفاء يدل على العلية وإن كان ذلك في لفظ الصحابي كما لو قال: زنا ماعز فرجم ونحو ذلك إذ لا فرق فيما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي وحكم وتعليل في الاحتجاج به بين أن يحكي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أو يحكي بلفظ معنى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهانا عن كذا أو حكم بكذا أو فعل لأجل كذا كان حجة لأنه لا يقدم على ذلك إلا بعد أن يعلمه الذي يجوز له معه أن ينقله وتطرق الخطأ إلى مثل ذلك لا يلتفت إليه كتطرق النسيان والسهو في الرواية وهذا مقرر في موضعه. ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر له أنها قتلت نشد

الناس في أمرها فلما ذكر له ذنبها أبطل دمها وهو صلى الله عليه وسلم إذا حكم بأمر عقب حكاية حكيت له دل ذلك على أن ذلك المحكي هو الموجب لذلك الحكم لأنه حكم حادث فلا بد له من سبب حادث ولا سبب إلا ما حكي له وهو مناسب فتجب الإضافة إليه. الوجه الثاني: أن نشد النبي صلى الله عليه وسلم الناس في أمرها ثم إبطال دمها دليل على أنها كانت معصومة وأن دمها كان قد انعقد سبب ضمانة وكان مضمونا لو لم يبطله النبي صلى الله عليه وسلم لأنها لو كانت حربية لم ينشد الناس فيها ولم يحتج أن يبطل دمها ويهدره لأن الإبطال والإهدار لا يكون إلا لدم قد انعقد له سبب الضمان ألا ترى أنه لما رأى امرأة مقتولة في بعض مغازيه أنكر قتلها ونهى عن قتل النساء ولم يبطله ولم يهدره فإنه كان في نفسه باطلا هدرا والمسلمون يعلمون أن دم الحربية غير مضمون بل هو هدر لم يكن لإبطاله وإهداره وجه وهذا ولله الحمد ظاهر. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد المعاهدين اليهود عهدا بغير ضرب جزية عليهم ثم إنه أهدر دم يهودية منهم لأجل سب النبي صلى الله عليه وسلم فأن يهدر دم يهودية من اليهود الذين ضربت عليهم الجزية وألزموا أحكام الملة لأجل ذلك أولى وأحرى ولو لم يكن قتلها جائزا لبين للرجل قبح ما فعل فإنه قد قال صلى الله عليه وسلم:" من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة" ولأوجب ضمانها أو الكفارة كفارة قتل المعصوم فلما أهدر دمها علم أنه كان مباحا. الحديث الثاني: ما روى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم

النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: " أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام" قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر " رواه أبو داود والنسائي. والمغول بالغين المعجمة قال الخطابي: شبيه المشمل ونصله دقيق ماض وكذلك قال غيره: هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسوط والمشمل: السيف القصير سمي بذلك لأنه يشتمل عليه الرجل أي يغطيه بثوبه واشتقاق المغول من غاله الشيء واغتاله إذا أخذه من حيث لم يدر. وهذا الحديث مما استدل به الإمام أحمد في رواية عبد الله قال: حدثنا روح ثنا عثمان الشحام ثنا عكرمة مولى ابن عباس أن رجلا أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها فسأله عنها فقال: يا رسول الله إنها كانت تشتمك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن دم فلانة هدر ". فهذه القصة يمكن أن تكون هي الأولى ويدل كلام الإمام أحمد لأنه قيل له في رواية عبد الله: في قتل الذمي إذا سب أحاديث؟ قال: نعم منها حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال سمعها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم

ثم روى عنه عبد الله كلا الحديثين ويكون قد خنقها وبعج بطنها بالمغول أو يكون كيفية القتل غير محفوظة في إحدى الروايتين. ويؤيد ذلك أن وقوع قصتين مثل هذه لأعميين كل منهما كانت المرأة تحسن إليه وتكرر الشتم وكلاهما قتلها وحده وكلاهما نشد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الناس بعيد في العادة وعلى هذا التقدير فالمقتولة يهودية كما جاء مفسرا في تلك الرواية وهذا قول القاضي أبي يعلي وغيره استدلوا بهذا الحديث على قتل الذمي ونقضه العهد وجعلوا الحديثين حكاية واقعة واحدة. ويمكن أن تكون هذه القصة غير تلك قال الخطابي: فيه بيان أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتداد عن الدين وهذا دليل على أنه اعتقد أنها كانت مسلمة وليس في الحديث دليل على ذلك بل الظاهر أنها كانت كافرة وكان العهد لها بملك المسلم إياها فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حكم أهل الذمة وهم أشد في ذلك من المعاهدين أو بتزوج المسلم بها فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهل الذمة في العصمة لأن مثل هذا السب الدائم لا يفعله مسلم إلا عن ردة واختيار دين غير الإسلام ولو كانت مرتدة منتقلة إلى غير الإسلام لم يقرها سيدها على ذلك أياما طويلة ولم يكتف بمجرد نهيها عن السب بل يطلب منها تجديد الإسلام لا سيما إن كان يطؤها فإن وطء المرتدة لا يجوز والأصل عدم تغير حالها وأنها كانت باقية على دينها يوضح ذلك إن الرجل لم يقل كفرت ولا ارتدت وإنما ذكر مجرد السب والشتم فعلم أنه لم يصدر منها قدر زائد على السب والشتم من انتقال من دين إلى دين أو نحو ذلك

وهذه المرأة إما أن تكون زوجة لهذا الرجل أو مملوكه له وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزا لبين النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرما وأن دمها كان معصوما ولأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم والدية إن لم تكن مملوكه له فلما قال: " اشهدوا أن دمها هدر " والهدر الذي لا يضمن بقود ولا دية ولا كفارة علم أنه كان مباحا مع كونها كانت ذمية فعلم أن السب أباح دمها لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قتلت لأجل السب فعلم أنه الموجب لذلك والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك. الحديث الثالث: ما احتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب قتل وبرئت منه الذمة وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي. قال الخطابي: قال الشافعي: يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة واحتج في ذلك بخبر ابن الأشرف وقال الشافعي في الأم: لم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا قربه مشرك من أهل الكتاب إلا يهود أهل المدينة وكانوا حلفاء الأنصار ولم تكن الأنصار أجمعت أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلاما فوادعت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر فتكلم بعضها بعداوته والتحريض عليه فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ومعلوم أنه إنما أراد بهذا الكلام كعب بن الأشرف. والقصة مشهورة مستفيضة وقد رواها عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم قال: فأذن لي أن أقول: شيئا قال قل قال: فأتاه

وذكره ما بينهم قال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقة وعنانا فلما سمعه قال: وأيضا والله لتملنه قال: إنا قد تبعناه الآن ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا قال: فما ترهنوني؟ نساءكم قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا؟ قال: ترهنوني أولادكم قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهنت في وسقين من تمر ولكن نرهنك الأمة يعني السلاح قال: نعم وواعده أن يأتيه بالحرب وأتى عبس بن حبر وعباد بن بشر فجاءوا فدعوه ليلا فنزل إليهم قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم قال: إنما هذا محمد ورضيعه أبو نائلة إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم قال: فلما نزل نزل وهو متوشح قالوا: نجد منك ريح الطيب قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب قال: أفتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه ثم قال: دونكم فقتلوه " متفق عليه. وروى ابن أبي أويس عن إبراهيم بن جعفر بن محمد بن مسلمه عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه ولا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلنا لمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم فكان أول ما خزع خزع عنه قوله: أذاهب أنت لم تحلل بمرفثة ... وتارك أنت أمر الفضل بالحرم في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتله وهذا محفوظ عن ابن أبي أويس رواه الخطابي وغيره وقال: قوله

"خزع" معناه قطع عهده وفي رواية غير الخطابي فخزع منه هجاؤه له فأمر بقتله والخزع: القطع يقال: خزع فلان عن أصحابه يخزع خزعا أي انقطع وتخلف ومنه سميت خزاعة لأنهم انخزعوا عن أصحابهم وأقاموا بمكة فعلى اللفظ الأول يكون التقدير أن قوله هذا هو أول خزعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أي أول غضاضة عنه بنقض العهد وعلى الثاني قيل: معناه قطع هجاه للنبي صلى الله عليه وسلم منه بعني أنه نقض عهده وذمته وقيل: معناه خزع من النبي صلى الله عليه وسلم معناه هجاه: أي نال منه وشعث منه ووضع منه. وذكر أهل المغازي والتفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة من وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت أمه من بني النضير قالوا: فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} . ثم لما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " وذكر قصة قتله مبسوطة. وقال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رمان ومعمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وإبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر وذكر القصة إلى قتله قال: ففزعت يهود ومن معها من المشركين فجاءوا إلى

النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف " ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابا ينتهون إلى ما فيه فكتبوا بينهم وبينه كتابا تحت العذق في دار رملة بنت الحارث فحذرت يهود وخافت وذلت من يوم قتل ابن الأشرف. والاستدلال بقتل كعب بن الأشرف من وجهين: أحدهما: أنه كان معاهدا مهادنا وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير وهو عندهم من العلم العام الذي يستغنى فيه عن نقل الخاصة. ومما لا ريب فيه عند أهل العلم ما قدمناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد لما قدم المدينة جميع أصناف اليهود بني قينقاع والنضير وقريظة ثم نقضت بنو قينقاع عهده فحاربهم ثم نقض عهده كعب بن الأشرف ثم نقض عهده بنو النضير ثم بنو قريظة وكان ابن الأشرف من بني النضير وأمرهم ظاهر في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقضوا العهد لما خرج إليهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين قتلهما عمر بن أمية الضمري وكان ذلك بعد مقتل كعب بن الأشرف وقد ذكرنا الرواية الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهد للنبي صلى الله عليه وسلم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله ناقضا للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة

والدليل على أنه إنما نقض العهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فعلل ندب الناس له بأذاه والأذى المطلق هو باللسان كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} وقال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} وقال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُن} وقال: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} الآية وقال: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيّ} إلى قوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} الآية ثم ذكر الصلاة عليه والتسليم خبرا وأمرا وذلك من أعمال اللسان ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر " وهذا كثير. وقد تقدم أن الأذى اسم لقليل الشر وخفيف المكروه بخلاف الضرر فلذلك أطلق على القول لأنه لا يضر المؤذي في الحقيقة. وأيضا فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله موجبا لقتل رجل معاهد

ومعلوم أن سب الله وسب ورسوله أذى لله ولرسوله وإذا رتب الوصف على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان مناسبا وذلك يدل على أن أذى الله ورسوله علة لندب المسلمين إلى قتل من يفعل ذلك من المعاهدين وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله والسب من أذى الله ورسوله باتفاق المسلمين بل هو أخص أنواع الأذى. وأيضا فقد قدمنا في حديث جابر أن أول ما نقض به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هجاه بهذه القصيدة ندب إلى قتله وهذا وحده دليل على أنه إنما نقض العهد بالهجاء لا بذهابه إلى مكة. وما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده وإن كان الواقدي لا يحتج به إذا انفرد لكن لا ريب في علمه بالمغازي واستعلام كثير من تفاصيلها من جهته ولم نذكر عنه إلا ما أسندناه عن غيره. فقوله: " لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف " نص في أنه إنما انتقض عهد ابن الأشرف بالهجاء ونحوه وأن من فعل هذا من المعاهدين فقد استحق السيف وحديث جابر المسند من الطريقين يوافق هذا وعليه العمدة في الاحتجاج. وأيضا فإنه لما ذهب إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى قتله فلما بلغه عنه الهجاء ندبهم إلى قتله والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث فعلم أن ذلك الهجاء والأذى الذي كان

بعد قفوله من مكة موجب لنقض عهده ولقتاله وإذا كان هذا في المهادن الذي لا يؤدي جزية فما الظن بالذمي الذي يعطي الجزية ويلزم أحكام الملة؟. فإن قيل: إن ابن الأشرف كان قد أتى بغير السب والهجاء. فروى الإمام أحمد قال: ثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا الصنبر المنتبر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية قال: أنتم خير قال: فنزلت فيهم {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} قال: وأنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى قوله: {نَصِيراً} . وقال: ثنا عبد الرازق قال: قال معمر: أخبرني أيوب عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يغزوه وقال لهم: إنا معكم فقالوا: إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل ثم قالوا له: أنحن أهدى أم محمد؟ نحن نصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بالبيت وننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده قال: بل أنتم خير وأهدى قال: فنزلت فيه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا

نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} . وقال: ثنا عبد الرزاق ثنا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال: "إن أهل مكة قالوا لكعب بن الأشرف لما قدم عليهم: ديننا خير أم دين محمد؟ قال: أعرضوا علي دينكم قالوا: نعمر بيت ربنا وننحر الكوماء ونسقي الحاج الماء ونصل الرحم ونقري الضيف قال: دينكم خير من دين محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية". قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان كعب بن الأشرف اليهودي وهو أحد بني النضير أو هو فيهم قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستعان بهم على رسول الله فقال أبو سفيان: أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال قال ابن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا ثم خرج مقبلا حتى أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا بعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهجائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لنا من ابن الأشرف؟ فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا وقد أخبرني الله بذلك ثم قدم على أخبث ما كان ينتظر قريشا أن تقدم فيقاتلنا معهم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ما أنزل فيه إن كان كذلك والله أعلم قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {سَبِيلاً} وآيات معها فيه وفي قريش.

وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت " فقال له محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله أاقتله وذكر القصة في قتله إلى آخرها ثم قال: فقتل الله ابن الأشرف بعداوته لله ورسوله وهجائه إياه وتأليبه عليه قريشا وإعلانه بذلك. وقال محمد بن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف أنه لما أصيب أصحاب بدر وقدم زيد بن حارثه إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى عليه وقتل من قتل من المشركين كما حدثني عبد الله ابن المغيث بن أبي بردة الظفري وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وصالح بن أبي أمامه بن سهل كل واحد قد حدثني بعض حديثه قالوا: كان كعب بن الأشرف من طيء ثم أحد بني نبهان وكانت أمه من بني النضير فقال حين بلغه الخبر: أحق هذا الذي يروون أن محمدا قتل هؤلاء الذين سمى هذان الرجلان؟ يعني زيدا وعبد الله بن رواحة فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمدا أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة ونزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فأنزلته وأكرمته وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر وذكر شعرا وما رد عليه حسان وغيره ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني عبد الله بن أبي المغيث: "من لي بابن الأشرف؟ " فقال محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله وذكر القصة. وقال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رومان ومعمر

عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وإبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله فكل قد حدثني منه بطائفة فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا: ابن الأشرف كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الأوس والخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشركا فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى شديدا فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم وفيهم أنزل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وفيهم أنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} الآية. فلما أبى ابن الأشرف أن يمسك عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء المسلمين وقد بلغ منهم فلما قدم زيد بن حارثة بالبشارة من بدر بقتل المشركين وأسر من أسر منهم ورأى الأسرى مقرنين كبت وذل ثم قال لقومه: ويلكم والله لبطن الأرض خير لكم من ظهرها اليوم هؤلاء سراة الناس قد قتلوا وأسروا فما عندكم؟ قالوا: عداوته ما حيينا قال: وما أنتم وقد وطئ قومه وأصابهم؟ ولكني أخرج إلى قريش فأحضها وأبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم فخرج حتى قدم مكة ووضع رحلة عند أبي وداعة بن أبي صبرة السهمي وتحته عاتكة بنت أسد بن أبي العيص فجعل يرثي

قريشا وذكر ما رثاهم به من الشعر وما أجابه به حسان فأخبره بنزول كعب على من نزل فقال حسان فذكر شعرا هجا به أهل البيت الذين نزل فيهم قال: فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان؟ فتحول فكلما تحول عند قوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسانا فقال: ابن الأشرف نزل على فلان فلا يزال يهجوهم حتى نبذ رحلة فلما لم يجد مأوى قدم المدينة فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قدوم ابن الأشرف قال: "اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لي من ابن الأشرف فقد آذاني؟ " فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله وأنا أقتله قال: فافعل وذكر الحديث. فقد اجتمع لابن الأشرف ذنوب: أنه رثى قتلى قريش وحضهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وواطأهم على ذلك وأعانهم على محاربته بإخباره أن دينهم خير من دينه وهجا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. قلنا: الجواب من وجوه: أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب إلى قتله لكونه ذهب إلى مكة وقال ما قال هناك وإنما ندب إلى قتله لما قدم وهجاه كما جاء ذلك مفسرا في حديث جابر المتقدم بقوله: "ثم قدم المدينة معلنا لعداوة النبي صلى الله عليه وسلم" ثم بين أن أول ما قطع به العهد تلك الأبيات التي قالها بعد الرجوع وأن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ندب إلى قتله وكذلك في حديث موسى بن عقبة: " من لنا من ابن الأشرف فإنه قد استعلن بعداوتنا وهجائنا؟ ". ويؤيد ذلك شيئان:

أحدهما: أن سفيان بن عيينة روى عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن خير أم هو؟ فقالوا: بل أنتم خير وأهدى سبيلا فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} . وكذلك قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب رجلين من اليهود من بني النضير لقيا قريشا في الموسم فقال لهما المشركون: نحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السدانة وأهل السقاية وأهل الحرم فقالا: أنتم أهدى من محمد وأصحابه وهما يعلمان أنهما كاذبان إنما محلهما على ذلك حسد محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى فيهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا حسده وبغضه. وهذان مرسلان من وجهين مختلفين فيهما أن كلا الرجلين ذهبا إلى مكة وقالا ما قالا ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل ابن الأشرف وأمسك عن ابن أخطب حتى نقض بنو النضير العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلحق بخيبر ثم جمع عليه الأحزاب فلما انهزموا دخل مع بني قريظة حصنهم حتى قتله الله معهم فعلم أن الأمر الذي أتياه بمكة لم يكن هو الموجب

للندب إلى قتل ابن الأشرف وإنما هو ما اختص به ابن الأشرف من الهجاء ونحوه وإن كان ما فعله بمكة مؤيدا عاضد لكن مجرد الأذى لله ورسوله موجب للندب إلى قتله كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " وكما بينه جابر في حديثه. الوجه الثاني: أن ابن أبي أويس قال حدثني إبراهيم بن جعفر الحارثي عن أبيه عن جابر قال: لما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وبني قريظة كذا فيه: وأحسبه بني قينقاع اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة وكان منها: وقال: لا أعين عليه ولا أقاتله فقيل له بمكة: أديننا خير أم دين محمد وأصحابه؟ قال: دينكم خير وأقدم من دين محمد ودين محمد حديث فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربته. الجواب الثاني: أن جميع ما أتاه ابن الأشرف إنما هو أذى باللسان فإن مرثيته لقتلى المشركين وتحضيضه وسبه وهجاءه وطعنه في دين الإسلام وتفضيل دين الكفار عليه كله قول باللسان ولم يعمل عملا فيه محاربة ومن نازعنا في سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه فهو في تفضيل دين الكفار وحضهم باللسان على قتل المسلمين أشد منازعة لأن الذمي إذا تجسس لأهل الحرب وأخبرهم بعورات المسلمين ودعا الكفار إلى قتالهم انتقض عهده أيضا عندنا كما ينتقض عهد الساب ومن قال إن الساب لا ينتقض عهده فإنه يقول لا ينتقض العهد بالتجسس للكفار ومطالعتهم بأخبار المسلمين بطريق الأولى عندهم وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي على خلاف بين أصحابه وابن الأشرف لم يوجد منه إلا الأذى باللسان فقط فهو حجة على من نازع في هذه المسائل ونحن نقول: إن ذلك كله نقض للعهد.

والجواب الثالث: أن تفضيل دين الكفار على دين المسلمين هو دون سب النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب فإن كون الشيء مفضولا أحسن حالا من كونه مسبوبا مشتوما فإن كان ذلك ناقضا للعهد فالسب بطريق الأولى وأما مرثيته للقتلى وحضهم على أخذ ثأرهم فأكثر ما فيه تهييج قريش على المحاربة وقريش كانوا قد أجمعوا على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم عقب بدر وأرصدوا العير التي كان فيها أبو سفيان للنفقة على حربه فلم يحتاجوا في ذلك إلى كلام ابن الأشرف نعم مرثيته وتفضيله ربما زادهم غيظا ومحاربة لكن سبه للنبي صلى الله عليه وسلم وهجاءه له ولدينه أيضا مما يهيجهم على المحاربة ويغريهم به فعلم أن الهجاء فيه من الفساد ما في غيره من الكلام وأبلغ فإذا كان غيره من الكلام نقضا فهو أن يكون نقضا أولى ولهذا قتل النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من النسوة اللواتي كن يشتمنه ويهجونه مع عفوه عما كانت تعين عليه وتحض على قتاله. الجواب الرابع: أن ما ذكره حجة لنا من وجوه أخر وذلك أنه قد اشتهر عند أهل العلم من وجوه كثيرة أن قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَاب} نزلت في كعب بن الأشرف بما قاله لقريش وقد أخبر الله سبحانه أنه لعنه وأن من لعنه فلن تجد له نصيرا وذلك دليل على أنه لا عهد له لأنه لو كان له عهد لكان يجب نصره على المسلمين فعلم أن مثل هذا الكلام يوجب انتقاض عهده وعدم ناصره فكيف بما هو أغلظ منه من شتم وسب؟ وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بمجرد ذلك ناقضا للعهد لأنه لم يعلن بهذا الكلام ولم يجهر به وإنما أعلم الله به رسوله وحيا كما تقدم بالأحاديث ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ أحدا من المسلمين والمعاهدين إلا بذنب ظاهر فلما رجع إلى المدينة

وأعلن الهجاء والعداوة استحق أن يقتل لظهور أذاه وثبوته عند الناس نعم من خيف منه الخيانة فإنه ينبذ إليه العهد أما إجراء حكم المحاربة عليه فلا يكون حتى تظهر المحاربة وتثبت عليه. فإن قيل: كعب بن الأشرف سب النبي صلى الله عليه وسلم بالهجاء والشعر كلام موزون يحفظ ويروى وينشد بالأصوات والألحان ويشتهر بين الناس وذلك له من التأثير في الأذى والصد عن سبيل الله ما ليس للكلام المنثور ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر حسان أن يهجوهم ويقول: "لهو أنكى فيهم من النبل" فيؤثر هجاءه فيهم أثرا عظيما يمتنعون به من أشياء لا يمتنعون عنها لو سبوا بكلام منثور أضعاف الشعر. وأيضا فإن كعب بن الأشرف وأم الولد المتقدمة تكرر منهما سب النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه وكثر والشيء إذا كثر واستمر صار له حال أخرى ليست له إذا انفرد وقد حكيتم أن الحنفية يجيزون قتل من كثر منه مثل هذه الجريمة وإن لم يجيزوا قتل من لم يتكرر منه فإذا ما دل عليه الحديث يمكن المخالف أن يقول به. قلنا أولا: إن هذا يفيدنا أن السب في الجملة من الذمي مهدر لدمه ناقض لعهده ويبقى الكلام في الناقض للعهد: هل هو نوع خاص من السب وهو ما كثر أو غلظ أو مطلق السب؟ هذا نظر آخر فما كان مثل هذا السب وجب أن يقال إنه مهدر لدم الذمي حتى لا يسوغ لأحد أن يخالف نص السنة فلو زعم زاعم أن شيئا من كلام الذمي وأذاه يبيح دمه كان مخالفا للسنة الصحيحة الصريحة خلافا لا عذر فيه لأحد. وقلنا ثانيا: لا ريب أن الجنس الموجب للعقوبة قد يتغلظ بعض أنواعه صفة أو قدرا أو صفة وقدرا فإنه ليس قتل واحد من الناس مثل قتل

والد أو ولد عالم صالح ولا ظلم بعض الناس مثل ظلم يتيم فقير بين أبوين صالحين وليست الجناية في الأوقات والأماكن الأحوال المشرفة كالحرم والإحرام والشهر الحرام كالجناية في غير ذلك وكذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين بتغليظ الديات إذا تغلظ القتل بأحد هذه الأسباب وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قيل له: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قيل له: ثم أي؟ قال: "ثم أن تزاني حليلة جارك " ولا شك أن من قطع الطريق مرات متعددة وسفك دماء خلق من المسلمين وكثر منه أخذ الأموال كان جرمه أعظم من جرم من لم يقطعه إلا مرة واحدة ولا ريب أن من أكثر من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو نظم القصائد في سبه فإن جرمه أغلظ من جرم من سبه بالكلمة الواحدة المنثورة بحيث يجب أن تكون إقامة الحد عليه أوكد والانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب وإن المقل لو كان أهلا أن يعفى عنه لم يكن هذا أهلا لذلك. ولكن هذا الحديث كغيره من الأحاديث يدل على أن جنس الأذى لله ورسوله ومطلق السب الظاهر مهدر لدم الذمي ناقض لعهده وإن كان بعض الأشخاص أغلظ جرما من بعض لتغلظ سبه نوعا أو قدرا وذلك من وجوه: أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ " فجعل علة الندب إلى قتله أنه آذى الله ورسوله وأذى الله ورسوله اسم مطلق ليس مقيدا بنوع ولا بقدر فيجب أن يكون مطلق أذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل من فعل ذلك من ذمي وغيره وقليل السب وكثيره ومنظومه ومنثوره أذى بلا ريب فيتعلق به الحكم

وهو أمر الله ورسوله بقتله ولو لم يرد هذا المعنى لقال: من لكعب فإنه قد بالغ في أذى الله تعالى ورسوله أو قد أكثر من أذى الله ورسوله أو قد داوم على أذى الله ورسوله وهو صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ولم يخرج من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم إلا حق في غضبه ورضاه. وكذلك قوله في الحديث الآخر: "إنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولا يفعل هذا أحد منكم إلا كان للسيف " ولم يقيده بالكثره. الثاني: أنه آذاه بهجائه المنظوم واليهودية بكلام منثور وكلاهما أهدر دمه فعلم أن النظم ليس له تأثير في أصل الحكم إذ لم يخص ذلك الناظم والوصف إذا ثبت الحكم بدونه كان عديم التأثير فلا يجعل جزاء من العلة ولا يجوز أن يكون هذا من باب تعليل الحكم بعلتين لأن ذلك إنما يكون إذا لم تكن إحداهما مندرجة في الأخرى كالقتل والزنا أما إذا اندرجت إحداهما في الأخرى فالوصف الأعم هو العلة والأخص عديم التأثير. الوجه الثالث: أن الجنس المبيح للدم لا فرق بين قليله وكثيره وغليظه وخفيفه في كونه مبيحا للدم سواء كان قولا أو فعلا كالردة والزنا والمحاربة ونحو ذلك وهذا هو قياس الأصول فمن زعم أن من الأقوال أو الأفعال ما يبيح الدم إذا كثر ولا يبيحه مع القلة فقد خرج عن قياس الأصول وليس له ذلك إلا بنص يكون أصلا بنفسه ولا نص يدل على إباحة القتل في الكثير دون القليل وما ذهب إليه المنازع من جواز قتل من كثر منه القتل بالمثقل والفاحشة في الدبر دون القبل إنما هو حكاية مذهب والكلام في الجميع واحد

ثم إنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رضخ رأس يهودي بين حجرين لأنه فعل ذلك بجارية من الأنصار فقد قتل من قتل بالمثقل قودا مع أنه لم يتكرر منه وقال في الذي يعمل عمل قوم لوط: " اقتلوا الفاعل والمفعول به " ولم يعتبر التكرر وكذلك أصحابه من بعده قتلوا فاعل ذلك إما رجما أو حرقا أو غير ذلك مع عدم التكرر. وإذا كانت الأصول المنصوصة أو المجمع عليها مستوية في إباحة الدم بين المرة الواحدة والمرات المتعددة كان الفرق بينهما في إباحة الدم إثبات حكم بلا أصل ولا نضير له بل على خلاف الأصول الكلية وذلك غير جائز. يوضح ذلك: أن ما ينقض الإيمان من الأقوال يستوي فيه واحده وكثيره وإن لم يصرح بالكفر كما لو كفر بآية واحدة أو بفريضة ظاهرة أو بسب الرسول مرة واحدة فإنه كما لو صرح بتكذيب الرسول وكذلك ما ينقض الإيمان من الأقوال لو صرح به وقال: "قد نقضت العهد وبرئت من ذمتك" انتقض عهده بذلك وإن لم يكرره فكذلك ما يستلزم ذلك من السب والطعن في الدين ونحو ذلك لا يحتاج إلى تكرير. الوجه الرابع: أنه إذا أكثر من هذه الأقوال والأفعال فإما أن يقتل لأن جنسها مبيح للدم أو لأن المبيح قدر مخصوص فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فما حد ذلك المقدار المبيح للدم؟ وليس لأحد أن يحد في ذلك حدا إلا بنص أو إجماع أو قياس عند من يرى القياس في المقدرات والثلاثة منفية في مثل هذا فإنه ليس في الأصول قول أو فعل يبيح الدم منه عدد مخصوص فلا يبيحه أقل منه ولا ينتقض هذا بالإقرار في الزنا فإنه لا يثبت إلا بأربع مرات عند من يقول به أو القتل بالقسامة فإنه لا يثبت إلا بعد خمسين يمينا عند من يرى القود بها أو رجم الملاعنة فإنه لا يثبت إلا بعد أن يشهد الزوج

أربع مرات عند من يرى أنها ترجم بشهادة الزوج إذا نكلت لأن المبيح للدم ليس هو الإقرار ولا الأيمان وإنما المبيح فعل الزنا أو فعل القتل وإنما الإقرار والأيمان حجة ودليل على ثبوت ذلك ونحن لم ننازع في أن الحجج الشرعية لها نصب محدودة وإنما قلنا: "إن نفس القول أو العمل المبيح للدم لا نصاب له في الشرع وإنما الحكم معلق بجنسه". الوجه الخامس: أن القتل عند كثرة هذه الأشياء إما أن يكون حدا يجب فعله أو تعزيزا يرجع إلى رأي الإمام فإن كان الأول فلا بد من تحديد موجبه ولا حد له إلا تعليقه بالجنس إذ القول بما سوى ذلك تحكم وإن كان الثاني فليس في الأصول تعزير بالقتل فلا يجوز إثباته إلا بدليل يخصه والعمومات الواردة في ذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " تدل على ذلك أيضا. الوجه الثاني من الاستدلال به: أن النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين: محمد بن مسلمة وأبا نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتالوه ويخدعوه بكلام يظهرون به أنهم قد آمنوه ووافقوه ثم يقتلوه ومن المعلوم أن من أظهر لكافر أمانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمنا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق: "من آمن رجل على دمه وماله ثم قتله فأنا منه بريء وإن كان المقتول كافرا " رواه الإمام أحمد وابن ماجه. وعن سليمان بن صرد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا آمنك الرجل على دمه فلا تقتله " رواه ابن ماجه.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن " رواه أبو داود وغيره. وقد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان ونقض العهد قبل هذا وزعم أن مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغرة لكن يقال: هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمنا بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله ومن حل قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمان ولا عهد كما لو آمن المسلم من وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل أو آمن من وجب قتله لأجل زناه أو آمن من وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك ولا يجوز أن يعقد له عقد عهد سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة لأن قتله حد من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافرا حربيا كما سيأتي وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين ولا اعتقدوا أنهم قد أومنوا بخلاف قصة كعب بن الأشرف فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يحقن معه الدم بالأمان فأن لا يحقن معه بالذمة المؤبدة والهدنة المؤقتة بطريق الأولى فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر ويعقده كل مسلم ولا يشرط على المستأمن شيء من الشروط والذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه ولا يعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة: من التزام الصغار ونحوه وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الأشرف فظن أن دم مثل هذا يعصم بذمة متقدمة أو بظاهر أمان وذلك نظير الشبهة التي عرضت لبعض الفقهاء

حتى ظن أن العهد لا ينتقض بذلك فروى ابن وهب: أخبرني سفيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سفيان بنى سعيد الثوري عن أبيه عن عباية قال: ذكر قتل ابن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين: كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة: يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تنكر؟ والله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدا ولا يخلوا لي دم هذا إلا قتلته. وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النظري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدرا ومحمد بن مسلمة جالس شيخ كبير فقال: يا مروان أيغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد وأما أنت يا ابن يامين فالله علي إن أفلت وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر وإلا لم ينزل فبينا محمد في جنازة وابن يامين في البقيع فرأى محمد يغشى عليه جرائد يظنه لا يراه فعاجله فقام إليه الناس فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك فقام إليه فلم يزل بضربه به جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مصحا ثم أرسله ولا طباخ به ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتك به. فإن قيل: فإذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن إسحاق قال: حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن أبيها محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ظفرتم به من رجال

يهود فاقتلوه" فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذا ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله قتلته؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة: فقلت له: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة: والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب. وقال الواقدي بالأسانيد المتقدمة: قالوا: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي قتل فيها ابن الأشرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطلقوا وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف وذكر قتل ابن سنينة إلى أن قال: وفزعت يهود ومن معها من المشركين وساق القصة كما تقدم عنه. فإن هذا يدل على أنهم لم يكونوا موادعين وإلا لما أمر بقتل من صودف منهم ويدل هذا على أن العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين اليهود كان بعد قتل بن الأشرف وحينئذ فلا يكون ابن الأشرف معاهدا. قلنا: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من ظفر به منهم لأن كعب بن الأشرف كان من ساداتهم وقد تقدم أنه قال: ما عندكم؟ يعني في النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: عداوته ما حيينا وكانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله وكان مما يهيجهم على المحاربة وإظهار نقض العهد نقض العهد انتصارهم للمقتول وذبهم عنه واما من قر فهو

مقيم على عهده المتقدم لأنه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحاربهم حتى أظهروا عداوته بعد ذلك وأما هذا الكتاب فهو شيء ذكره الواقدي وحده. وقد ذكر هو أيضا أن قتل ابن الأشرف في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأن غزوة بني قنيقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر. وذكر أن الكتاب الذي وادع فيه النبي صلى الله عليه وسلم اليهود كلها كان لما قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الأول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود لأجل ما كانوا قد أرادوا من إظهار العداوة. وقد تقدم أن ابن الأشرف كان معاهدا وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الكتاب لما قدم المدينة في أوائل الأمر والقصة تدل على ذلك وإلا لما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكوا إليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله وكلهم ذكر أن قتل ابن الأشرف كان بعد بدر وأن معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي. قال ابن إسحاق: "وكان فيما بين ذلك من غزو النبي صلى الله عليه وسلم أمر بني قينقاع يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الأولى وقد ذكر أن بني قينقاع هم أول من حارب ونقض العهد". الحديث الرابع: ما روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد " رواه أبو محمد الخلال وأبو القاسم الأرجي ورواه أبو ذر الهروي

ولفظه: " من سب نبيا فاقتلوه ومن سب أصحابي فاجلدوه ". وهذا الحديث قد رواه عبد العزيز بن الحسن بن زبالة قال: ثنا عبد الله بن موسى بن جعفر عن علي بن موسى عن أبيه عن جده عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن الحسين بن علي عن أبيه وفي القلب منه حزازة فإن هذا الإسناد الشريف قد ركب عليه متون نكرة والمحدث به عن أهل البيت ضعيف فإن كان محفوظا فهو دليل على وجوب قتل من سب نبيا من الأنبياء وظاهره يدل على أنه يقتل من غير استتابة وأن القتل حد له. الحديث الخامس: ما روى عبد الله بن قدامى عن أبي برزة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: أقتله؟ فانتهرني وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي من حديث شعبة عن توبة العنبري عنه. وفي رواية لأبي بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه عن أبي برزة: "أن رجلا شتم أبا بكر فقلت: يا خليفة رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: ويحك أو ويلك ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم". ورواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبد الله بن مطرف عن أبي برزة قال: "كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم قال: لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم".

قال أبو داود في مسائله: سمعت أبا عبد الله يسال عن حديث أبي بكر: "ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلا بإحدى ثلاث وفي رواية: بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس والنبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل". وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من العلماء منهم أبو داود وإسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو بكر عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وغيرهم من العلماء وذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر وأغلظ له حتى تغيظ أبو بكر استأذنه في أن يقتله بذلك وأخبره أنه لو أمره لقتله فقال أبو بكر: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل من سبه ومن أغلظ له وأن له أن يأمر بقتل من لا يعلم الناس منه سببا يبيح دمه وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا يأمر بمعصية الله قط بل من أطاعه فقد أطاع الله. فقد تضمن الحديث خصيصتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله. والثانية: أن له أن يقتل من شتمه وأغلظ عليه. وهذا المعنى الثاني الذي كان لله باقي في حقه بعد موته فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزا بل ذلك بعد موته أوكد وأوكد لأن حرمته بعد موته أكمل والتساهل في عرضه بعد موته غير ممكن.

وهذا الحديث يفيد أن سبه في الجملة يبيح القتل ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم. الحديث السادس: قصة العصماء بنت مروان ما روى عن ابن عباس قال: هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من لي بها؟ " فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا ينتطح فيها عنزان ". وقد ذكر بعض أصحاب المغازي وغيرهم قصتها مبسوطة. قال الواقدي: حدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه أن عصماء بنت مروان من بني أمية بنت زيد كانت تحت يزيد بن زيد ابن حصن الخطمي وكانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وتعيب الإسلام وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: فباست بني مالك والنبيت ... وعوف وباست بني الخزرج أطعتم أتاوي من غيركم ... فلا من مراد ولا مذحج ترجونه بعد قتل الرؤوس ... كما يرتجى مرق المنضج وقال عمير بن عدي الخطمي حين بلغه قولها وتحريضها: " اللهم إن لك عليّ نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأقتلنها" ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر جاء عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها فحسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها ثم خرج حتى صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى عمير فقال: أقتلت بنت مروان؟ قال: نعم بأبي أنت

يا رسول الله وخشي عمير أن يكون أفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها فقال: هل عليّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: لا ينتطح فيها عنزان فإن أول ما سمعت هذه الكلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمير: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى من حوله فقال: "إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي" فقال عمر بن الخطاب: "انظروا إلى هذا الأعمى الذي تسرى في طاعة الله" فقال: "لا تقل الأعمى ولكنه البصير ". فلما رجع عمير من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد بنيها في جماعة يدفنونها فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلا من المدينة فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ فقال: نعم فيكدوني جميعا ثم لا تنظرون والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان منهم رجال يستخفون بالإسلام خوفا من قومهم فقال حسان بن ثابت يمدح عمير بن عدي. قال الواقدي: أنشدنا عبد الله بن الحارث: بني وائل وبني واقف ... وخطمة دون بني الخزرج متى ما ادعت أختكم ويحها ... بعولتها والمنايا تجي فهزت فتى ماجدا عرقه ... كريم المداخل والمخرج فضرجها من نجيع الدما ... قبيل الصباح ولم تخرج فأورده الله برد الجنا ... ن جذلان في نعمة المولج قال عبد الله بن الحارث عن أبيه: وكان قتلها لخمس ليال بقين من رمضان مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر.

وروى هذه القصة أخصر من هذا أبو أحمد العسكري ثم قال: كانت هذه المرأة تهجو النبي صلى الله عليه وسلم وتؤذيه. وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم العنز لأن العنز تشام العنز ثم تفارقها وليس كنطاح الكباش وغيرها. وذكر هذه القصة مختصرة محمد بن سعد في الطبقات. وقال أبو عبيد في الأموال: وكذلك كانت قصة عصماء اليهودية إنما قتلت لشتمها النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المرأة ليست هي التي قتلها سيدها الأعمى ولا اليهودية التي قتلت لأن هذه المرأة من بني أمية بن زيد أحد بطون الأنصار ولها زوج من بني خطمة ولهذا والله أعلم نسبت في حديث ابن عباس إلى بني خطمة والقاتل لها غير زوجها وكان لها بنون كبار وصغار نعم كان القاتل من قبيلة زوجها كما في الحديث. وقال محمد بن إسحاق: أقام مصعب بن عمير عند أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من الأوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت كان شاعرهم يسمعون منه ويعظمونه. فهذا الذي ذكره ابن إسحاق يصدق ما رواه الواقدي من تأخر ظهور الإسلام ببني خطمة والشعر المأثور عن حسان يوافق ذلك. وإنما سقنا القصة من راوية أهل المغازي مع ما في الواقدي من الضعف للشهرة هذه القصة عندهم مع أنه لا يختلف اثنان أن الواقدي من أعلم الناس بتفاصيل أمور المغازي وأخبرهم بأحوالها وقد كان الشافعي وأحمد وغيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه نعم هذا الباب يدخله خلط الروايات بعضها

ببعض حتى يطهر أنه سمع مجموع القصة من شيوخه وإنما سمع من كل واحد بعضها ولم يميزه ويدخله أخذ ذلك من الحديث المرسل والمقطوع وربما حدس الراوي بعض الأمور لقرائن استفادها من عدة جهات ويكثر من ذلك إكثارا ينسب لأجله إلى المجازفة في الرواية وعدم الضبط فلم يمكن الاحتجاج بما ينفرد به فأما الاستشهاد بحديثه والاعتضاد به فمما لا يمكن المنازعة فيه لا سيما في قصة تامة يخبر فيها باسم القاتل والمقتول وصورة الحال فإن الرجل وأمثاله أفضل ممن ارتفعوا في مثل هذا في كذب ووضع على أنا لم يثبت قتل الساب بمجرد هذا الحديث وإنما ذكرناه للتقوية والتوكيد وهذا مما يحصل ممن هو دون الواقدي. ووجه الدلالة أن هذه المرأة لم تقتل إلا لمجرد أذى النبي صلى الله عليه وسلم وهجوه وهذا بين في قول ابن عباس: "هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من لي بها " فعلم أنه أنما ندب إليها لأجل هجوها وكذلك في الحديث الآخر "فقال عمير حين بلغه قولها وتحريضها: اللهم إن لك علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأقتلنها" وفي الحديث لما قال له قومه: "أنت قتلتها؟ " فقال: "نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون فوالذي نفسي بيده لو قلتم جميعا ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم" فهذه مقدمة ومقدمة أخرى وهو أن شعرها ليس فيه تحريض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقال: التحريض على القتال قتال وإنما فيه تحريض على ترك دينه وذم له ولمن اتبعه وأقصى غاية ذلك أن لا يدخل في الإسلام من لم يكن دخل أو أن يخرج عنه من دخل فيه وهذا شأن كل ساب. يبين ذلك أنها هجته بالمدينة وقد أسلم أكثر قبائلها وصار المسلم بها

أعز من الكافر ومعلوم أن الساب في مثل هذه الحال لا يقصد أن يقاتل الرسول وأصحابه وإنما يقصد إغاظتهم وأن لا يتابعوا. وأيضا فانها لم تكن تطمع في التحريض على القتال فإنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن جميع قبائل الأوس والخزرج لم يكن فيهم من يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم بيد ولا لسان ولا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك وإنما غاية الكافر أو المنافق منهم أن يثبط الناس عن إتباعه أو أن يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة ونحو ذلك مما فيه تخذيل عنه وحض على الكفر به لا على قتاله على أن الهجاء إن كان من نوع القتال فيجب انتقاض العهد به ويقتل به الذمي فإنه إذا قاتل انتقض عهده لأن العهد اقتضى الكف عن القتال فإذا قاتل بيد أو لسان فقد فعل ما يناقض العهد وليس بعد القتال غاية في نكث العهد. إذا تبين ذلك فمن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم بالمدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس والخزرج فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه وكان الناس إذ قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون ومنهم الباقي على دينه وهو متروك لا يحارب ولا يحارب وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على حلفهم. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فيها دار من دور الأنصار إلا فيها رهط من المسلمين إلا بني خطمة وبني واقف وبني وائل كانوا آخر الأنصار إسلاما وحول المدينة حلفاء

الأنصار كانوا يستظهرون بهم في حربهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلوا حلف حلفائهم للحرب التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من عادى الإسلام. وكذلك قال الواقدي فيما رواه عن يزيد بن رومان وابن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله في قصة ابن الأشرف قال: فكان الذي اجتمعوا عليه قالوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام فيهم أهل الحلقة والحصون ومنهم حلفاء للحيين جميعا الأوس والخزرج فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشركا ومن المعلوم أن قبائل الأوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرهم كانت هذه المرأة من المعاهدين وكان فيهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه يقول بلسانه ما ليس في قلبه وكان الإسلام والإيمان يفشوا في بطون الأنصار بطنا بعد بطن حتى لم يبق فيهم مظهر للكفر بل صاروا إما مؤمنا أو منافقا وكان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادع مهادن أو هو أحسن حالا من اليهود لما يرجى فيه من العصبية لقومه وأن يهوى هواهم ولا يرى أن يخرج عن جماعتهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم من الكف عنهم واحتمال أذاهم بأكثر مما يعامل به اليهود لما كان يرجوه منهم ويخاف من تغيير قلوب من أظهر الإسلام من قبائلهم لو أوقع بهم وهو في ذلك متبع قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} .

ثم إنه مع ندب الناس إلى قتل المرأة التي هجته وقال فيمن قتلها: "إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا" فثبت بذلك أن هجاءه وذمه موجب للقتل غير الكفر وثبت أن الساب يجب قتله وإن كان من الحلفاء والمعاهدين ويقتل في الحال التي يحقن فيها دم من ساواه في غير السب لا سيما ولو لم تكن معاهدة فقتل المرأة لا يجوز إلا أن تقاتل لأنه صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في بعض مغازيه مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" ونهى عن قتل النساء والصبيان ثم إنه أمر بقتل هذه المرأة ولم تقاتل بيدها فلو لم يكن السب موجبا للقتل لم يجز قتلها لأن قتل المرأة لمجرد الكفر لا يجوز ولا نعلم قتل المرأة الكافرة الممسكة عن القتال أبيح في وقت من الأوقات بل القرآن وترتيب نزوله دليل على أنه لم يبح قط لأن أول آية نزلت في القتال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِم} الآية فأباح للمؤمنين القتال دفعا عن نفوسهم وعقوبة لمن أخرجهم من ديارهم ومنعهم من توحيد الله وعبادته وليس للنساء في ذلك حظ. ثم إنه كتب عليهم القتال مطلقا وفسره بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم} الآية فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله والنساء لسن من أهل القتال فإذا كان قد أمر بقتل هذه المرأة فإما أن يقال: "هجاؤها قتال" فهذا يفيدنا أن هجاء الذمي قتال فينقض العهد ويبيح الدم أو يقال: "ليس بقتال" وهو الأظهر لما قدمناه من أنه لم يكن فيه تحريض على القتال ولا كان لها رأي في الحرب فيكون السب جناية مضرة بالمسلمين غير القتال موجبة للقتل بمنزلة قطع الطريق عليهم ونحو ذلك يفيد أن السب موجب للقتل بوجوه.

أحدها: أنه لو لم يكن موجبا للقتل لما جاز قتل المرأة وإن كانت حربية لأن الحربية إذا لم تقاتل بيد ولا لسان لم يجز قتلها إلا بجناية موجبة للقتل وهذا ما أحسب فيه مخالفا لا سيما عند من يرى قتالها بمنزلة قتال الصائل. الثاني: أن هذه السابة كانت من المعاهدين ممن هو أحسن حالا من المعاهدين في ذلك الوقت فلو لم يكن السب موجبا لدمها لما قتلت ولما جاز قتلها ولهذا خاف الذي قتلها أن تتولد فتنة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا ينتطح فيها عنزان" مع أن انتطاحهما إنما هو كالتشام فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يتحرك لذلك قليل من الفتن ولا كثير رحمة من الله بالمؤمنين ونصرا لرسوله ودينه فلو لم يكن هناك ما يحذر معه قتل هذه لولا الهجاء لما خيف هذا. الثالث: أن الحديث مصرح بأنها إنما قتلت لأجل ما ذكرته من الهجاء وأن سائر قومها تركوا إذ لم يهجوا وأنهم لو هجوا لفعل بهم كما فعل بها فظهر بذلك أن الهجاء موجب بنفسه للقتل سواء كان الهاجي حربيا أو مسلما أو معاهدا حتى يجوز أن يقتل لأجله من لا يقتله بدونه وإن كان الحربي المقاتل يجوز قتله من وجه آخر وذلك في المسلم ظاهر وأما في المعاهد فلأن الهجاء إذا أباح دم المرأة فهو كالقتال أو أسوأ حالا من القتال. الرابع: أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة وفي أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال وكان قتل الكفار حينئذ محرما وهو من قتل النفس بغير حق كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَال} ولهذا أول ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُون} وهذا من

العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى على أحد منهم أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الهجرة وبعيدها ممنوعا عن الابتداء بالقتل والقتال ولهذا قال للأنصار الذين بايعوه ليلة العقبة لما استأذنوه في أن يميلوا على أهل منى "إنه لم يؤذن لي في القتال" وذلك حينئذ بمنزلة الأنبياء الذين لم يؤمروا بالقتال كنوح وهود وصالح وإبراهيم وعيسى بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل. ثم إنه لم يقاتل أحدا من أهل المدينة ولم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر ولا من غيرهم والآيات التي نزلت إذ ذاك إنما تأمر بقتال الذين أخرجوهم وقاتلوهم ونحو ذلك وظاهر هذا أنه لم يؤذن لهم إذ ذاك في ابتداء قتل الكافرين من أهل المدينة فإن دوام إمساكه عنهم يدل على استحبابه أو وجوبه وهو في الوجوب أظهر لما ذكرنا لأن الإمساك كان واجبا والمغير لحاله لم يشمل أهل المدينة فيبقى على الوجوب المتقدم مع فعله صلى الله عليه وسلم. قال موسى بن عقبة عن الزهري: كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدوه قبل أن تنزل براءة يقاتل من قاتله ومن كف يده وعاهده كف عنه قال الله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} وكان القرآن ينسخ بعضه بعضا فإذا نزلت آية نسخت التي قبلها وعمل بالتي أنزلت وبلغت الأولى منتهى العمل بها وكان ما قد عمل بها قبل ذلك طاعة لله حتى نزلت براءة وإذا أمر بقتل هذه المرأة التي هجته ولم يؤذن له في قتل قبيلتها الكافرين علم

أن السب موجب للقتل وإن كان هناك ما يمنع القتال لولا السبب كالعهد والأنوثة ومنع قتل الكافر الممسك أو عدم إباحته. وهذا وجه حسن دقيق فإن الأصل أن دم الآدمي معصوم لا يقتل إلا بالحق وليس القتل للكفر من الأمر الذي اتفقت عليه الشرائع ولا أوقات الشريعة الواحدة كالقتل قودا فإنه مما لا تختلف فيه الشرائع ولا العقول وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوما بالعصمة الأصلية وبمنع الله المؤمنين من قتاله ودماء هؤلاء القوم كدم القبطي الذي قتله موسى وكدم الكافر الذي لم تبلغه الدعوة في زماننا أو أحسن حالا من ذلك وقد عد موسى ذلك ذنبا في الدنيا والآخرة مع أن قتله كان خطأ شبه عمد أو خطأ محضا ولم يكن عمدا محضا. فظاهر سيرة نبيا وظاهر ما أذن له فيه أن حال أهل المدينة إذ ذاك ممن لم يسلم كانت كهذه الحال فإذا قتل المرأة التي هجته من هؤلاء وليسوا عنده محاربين بحيث يجوز قتالهم مطلقا كان قتل المرأة التي تهجوه من أهل الذمة بهذه المثابة وأولى لأن هذه قد عاهدناها على أن لا تسب وعلى أن تكون صاغرة وتلك لم نعاهدها على شيء. الحديث السابع: قصة أبي عفك اليهودي ذكرها أهل المغازي والسير. قال الواقدي: ثنا شعبة بن محمد عن عمارة بن غزية وحدثناه أبو مصعب إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت عن أشياخه قالا: إن شيخا من بني عمرو بن عوف يقال له أبو عفك وكان شيخا كبيرا قد بلغ عشرين ومائة سنة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل في الإسلام فلما خرج رسول

الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ظفره الله بما ظفره فحسده وبغى فقال وذكر قصيدة تتضمن هجو النبي صلى الله عليه وسلم وذم من اتبعه أعظم ما فيها قوله: فيسلبهم أمرهم راكب ... حراما حلالا لشتى معا قال سالم بن عمير: علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه فأمهل فطلب له غرة حتى كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف في بني عمرو بن عوف فأقبل سالم بن عمير فوضع السيف على كبده حتى خش في الفراش وصاح عدو الله فثاب إليه أناس ممن هم على قوله فأدخلوه منزله وقبروه وقالوا: من قتله؟ والله لو نعلم من قتله لقتلناه. وبه ذكر محمد بن سعد أنه كان يهوديا وقد ذكرنا أن يهود المدينة كلهم كانوا قد عاهدوا ثم إنه لما هجا وأظهر الذم قتل. قال الواقدي عن ابن رقش: قتل أبو عفك في شوال على رأس عشرين شهرا وهذا قديم قبل قتل ابن الأشرف وهذا فيه دلالة واضحة على أن المعاهد إذا أظهر السب ينتقض عهده ويقتل غيلة لكن هو من رواية أهل المغازي وهو يصلح أن يكون مؤيدا مؤكدا بلا تردد. الحديث الثامن: حديث أنس بن زنيم الديلي وهو مشهور عند أهل السيرة ذكره ابن إسحاق والواقدي وغيرهما. قال الواقدي: حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير عن محجن بن وهب قال: كان آخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله عليه الصلاة والسلام فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه

فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها. قال الواقدي: حدثني حرام بن هشام بن خالد الكعبي عن أبيه قال: وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بالذي أصابهم وذكر قصة فيها إنشاد القصيدة التى أولها: لا هم إني ناشد محمدا ... ... ... ... قال: فلما فرغ الركب قالوا: يا رسول الله إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك فندر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه فبلغ ذلك أنس بن زنيم فقدم معتذرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما بلغه عنه فقال وذكر قصيدة فيها مدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولها: أنت الذي تهدى معد بأمره ... بل الله يهديها وقال لك: اشهد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد تعلم رسول الله أنك مدركي ... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل سكن من تهام ومنجد ونبي رسول الله أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي سوى أنني قد قلت: يا ويح فتية ... أصيبوا بنحس يوم طلق وأسعد ويقول فيها: فإني لا عرضا خرقت ولا دما ... هرقت ففكر عالم الحق واقصد قال الواقدي: أنشدنيها حرام وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم

قصيدته هذه واعتذاره وكلمه نوفل بن معاوية الديلي فقال: يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا من لم يعادك ويؤذك؟ ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بك من الهلك وقد كذب عليه الركب وأكثروا عندك فقال دع الركب عنك فإنا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب ولا بعيد كان أبر من خزاعة فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفوت عنه قال نوفل: فداك أبي وأمي. وقال ابن إسحاق: وقال أنس بن زنيم يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن سالم حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصره ويذكر أنهم قد نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد تلك القصيدة وفيها: وتعلم أن الركب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كل موعد فوجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد صالح قريشا وهادنهم عام الحديبية عشر سنين ودخلت خزاعة في عقده وكان أكثرهم مسلمين وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم ودخلت بنو بكر في عهد قريش فصار هؤلاء كلهم معاهدين وهذا مما تواتر به النقل ولم يختلف فيه أهل العلم. ثم إن هذا الرجل المعاهد هجا النبي صلى الله عليه وسلم على ما قيل عنه فشجه بعض خزاعة ثم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أنه هجاه يقصدون بذلك إغراءه ببني بكر فندر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه أي أهدره

ولم يندر دم غيره فلولا أنهم علموا أن هجاء النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدة مما يوجب الانتقام منه لم يفعلوا ذلك. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ندر دمه لذلك مع أن هجاءه كان حال العهد وهذا النص في أن المعاهد الهاجي يباح دمه. ثم إنه لما قدم أسلم في شعره ولهذا عدوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "تعلم رسول الله" "تعلم رسول الله" "ونبي رسول الله" دليل على أنه أسلم قبل ذلك أو هذا وحده إسلام منه فإن الوثني إذا قال: "محمد رسول الله" حكم بإسلامه ومع هذا فقد أنكر أن يكون هجا النبي صلى الله عليه وسلم ورد شهادة أولئك بأنهم أعداء له لما بين القبيلتين من الدماء والحرب فلو لم يكن ما فعله مبيحا لدمه لما احتاج إلى شيء من ذلك. ثم إنه بعد إسلامه واعتذاره وتكذيب المخبرين ومدحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما طلب العفو من النبي صلى الله عليه وسلم عن إهدار دمه والعفو إنما يكون مع جواز العقوبة على الذنب فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يعاقبه بعد مجيئه مسلما معتذرا وإنما عفا عنه حلما وكرما. ثم إن في الحديث أن نوفل بن معاوية هو الذي شفع له إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر عامة أهل السير أن نوفلا هذا هو رأس المتكبرين الذين عدوا على خزاعة وقتلوهم وأعانتهم قريش على ذلك وبسبب ذلك انتقض عهد قريش وبني بكر ثم إنه أسلم قبل الفتح حتى صار يشفع في الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن الهجاء أغلظ من نقض العهد بالقتال بحيث إذا نقض قوم العهد بالقتال وآخر هجا ثم أسلما

عصم دم الذي قاتل وجاز الانتقام من الهاجي ولهذا قرن هذا الرجل خرق العرض بسفك الدم فعلم أن كليهما موجب للقتل وأن خرق عرضه كان أعظم عندهم من سفك دماء المسلمين والمعاهدين. ومما يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهدر دم أحد من بني بكر الناقضين العهد بعينه وإنما مكن منهم بني خزاعة يوم الفتح أكثر النهار وأهدر دم هذا بعينه حتى أسلم واعتذر هذا مع أن العهد كان عهد هدنة وموادعة لم يكن عهد جزية وذمة والمهادن المقيم ببلده يظهر ببلده ما شاء من منكرات الأقوال والأفعال المتعلقة بدينه ودنياه ولا ينتقض بذلك عهده حتى يحارب فعلم أن الهجاء من جنس الحرب وأغلظ منه وأن الهاجي لا ذمة له. الحديث التاسع: قصة ابن أبي سرح وهي مما اتفق عليها أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تستغنى عن رواية الآحاد وذلك أثبت وأقوى مما رواه الواحد العدل فنذكرها مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها: عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: " لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله" فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك إلا أومأت إلينا بعينك قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وراوه النسائي كذلك بأبسط من هذا عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة نفر وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حارث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله. وأما مقيس بن حبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه. وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمد حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عباس قال: كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود. وروى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح وفرتني وابن الزبعري وابن خطل فأتاه أبو بردة وهو متعلق بأستار الكعبة فبقر

بطنه وكان رجل من الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله فجاء عثمان وكان أخاه من الرضاعة فشفع له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الأنصاري بقائم السيف ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم متى يومئ إليه أن يقتله فشفع له عثمان حتى تركه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: "هلا وفيت بنذرك" فقال: يا رسول الله وضعت يدي على قائم السيف أنتظر متى تومئ فأقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لنبي أن يومئ". وقال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه: قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة " عبد الله بن خطل وعبد الله بابن أبي سرح وإنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فرجع مشركا ولحق بمكة فكان يقول: لهم إني لأصرفه كيف شئت أنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له: أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "عليم حليم" فيقول له: أو أكتب "عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلاهما سواء. قال ابن إسحاق: حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن

أهل مكة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا وهو واقف عليه ثم قال: " نعم" فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النبي لا يقتل بالإشارة ". وقال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه: حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال: والله لو أشاء لقلت كما يقول محمد وجئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء وأصرفه إلى شيء فيقول: أصبت ففيه أنزل الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا أحدا قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال: والله إني لأصرفه حيث أريد إنه ليملي علي فأقول أو كذا أو كذا فيقول: نعم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول: "عزيز حكيم" أو "حكيم حليم" فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول: "كل صواب". وروينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال: فدخل

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أصحابه بالكف وقال: "كفوا السلاح" إلا خزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فآمن الناس كلهم إلا أربعة: ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس الكناني وامرأة أخرى ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لم أحرم مكة ولكن الله حرمها وإنها لم تحل لأحد من قبلي ولا تحل لأحد بعدي إلى يوم القيامة وإنما أحلها الله لي ساعة من نهار" قال ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال: بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أعرضت عنه واني لأظن بعضكم سيقتله" فقال رجل من الأنصار: فهلا أومضت إلي يا رسول الله فقال: "إن النبي لا يومض" فكأنه رآه غدرا. وفي مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم وأمرهم بقتل أربعة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نقيد وابن خطل ومقيس بن حبابة أحد بني ليث وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ويقال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل النفر وأن يقتل عبد الله بن أبي سرح وكان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبأ حتى اطمأن الناس ثم أقبل يريد أن يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد ولم يشعروا بالذي في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: لو أشرت إلي يا رسول الله ضربت عنقه فقال "إن النبي لا يفعل ذلك" ويقال: أجاره

عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها. وذكر محمد بن عائد في مغازيه هذه القصة مثل ذلك. وذكر الواقدي عن أشياخه قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "سميع عليم" فيكتب "عليم حكيم" فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: كذاك قال الله ويقرأه فافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقوله إني لأكتب له ما شئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فقال: يا أخي إني والله أستجير بك فاحبسني ها هنا واذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رآني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا فقال عثمان: بل اذهب معي قال عبد الله: والله لئن رآني ليضربن عنقي ولا ينظرني قد أهدر دمي وأصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان: انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد ابن أبي سرح واقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتفطمه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل عثمان كلما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام وإنما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى أن لا يقوم أحد وعثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه وهو يقول:

يا رسول الله بايعه فداك أبي وأمي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه ويقال: قال هذا أبو اليسر ويقال: عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لا أقتل بالإشارة ". وقائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: " إن النبي لا تكون له خائنة الأعين ". فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأبي وأمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أبايعه وأومنه؟ " قال: بلى يا رسول الله ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما كان قبله" فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس. فوجه الدلالة أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتمم له الوحي ويكتب له ما يريد فيوافقه عليه وأنه يصرفه حيث شاء ويغير ما أمره به من الوحي فيقره على ذلك وزعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر به والردة في الدين وهو من أنواع السب.

وكذلك ما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية قصمه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة ريبا بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره وقد أخبر عنه بما أخبر فمن نصر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفتر. روى البخاري في صحيحه عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: "كان رجلا نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا فألقوه فحفروا له واعمقوا في الأرض ما استطاعوا فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه". ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: "كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال: فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذا". فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارا وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذبا إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا

وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذ تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه فعجلنا فتحة وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين. وكذلك لما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبي سرح أهدر دمه لما طعن في النبوة وافترى عليه الكذب مع أنه قد آمن جميع أهل مكة الذين قاتلوه وحاربوه أشد المحاربة ومع أن السنة في المرتد أنه لا يقتل حتى يستتاب إما وجوبا أو استحبابا. وسنذكر إن شاء الله أن جماعة ارتدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوا إلى التوبة وعرضت عليهم حتى تابوا وقبلت توبتهم. وفي ذلك دليل على أن جرم الطاعن على الرسول صلى الله عليه وسلم الساب له أعظم من جرم المرتد

ثم إن إباحة النبي صلى الله عليه وسلم دمه بعد مجيئه تائبا مسلما وقوله: "هلا قتلتموه" ثم عفوه عنه بعد ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وأن يعفو عنه ويعصم دمه وهو دليل على أن له صلى الله عليه وسلم أن يقتل من سبه وإن تاب وعاد إلى الإسلام. يوضح ذلك أشياء: منها: أنه قد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بها وقد تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي صلى الله عليه وسلم: إن جرمي أعظم الجرم وقد جئت تائبا وتوبة المرتد إسلامه. ثم إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وهدوء الناس وبعد ما تاب فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن يقتلوه حينئذ وتربص زمانا ينتظر فيه قتله ويظن أن بعضهم سيقتله وهذا دليل واضح على جواز قتله بعد إسلامه. وكذلك لما قال له عثمان: إنه يفر منك كلما رآك قال: "ألم أبايعه وأومنه" قال: بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال: "الإسلام يجب ما قبله" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خوف القتل سقط بالبيعة والأمان وأن الإثم زال بالإسلام فعلم أن الساب إذا عاد إلى الإسلام جب الإسلام إثم السب وبقي قتله جائزا حتى يوجد إسقاط القتل ممن يملكه إن كان ممكنا. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذا في موضعه فإن غرضنا هنا أن

نبين أن مجرد الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيه يوجب القتل في الحال التي لا يقتل فيه لمجرد الردة وإذا كان ذلك موجبا للقتل استوى فيه المسلم والذمي ولأن كل ما يوجب القتل سوى الردة يستوي فيه المسلم والذمي. وفي كتمان الصحابة لابن أبي سرح ولإحدى القينتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب قتلهم وإنما أباحه مع جواز عفوه عنهم وفي ذلك دليل على أنه كان مخيرا بين القتل والعفو وهذا يؤيد أن القتل كان لحق النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر. وكذلك قوله: "إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له أو كذا أو كذا فيقول نعم" فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتبه إلا ما أنزله الله ولا يأمره أن يكتب قرآنا إلا ما أوحاه الله إليه ولا ينصرف له كيف شاء بل ينصرف كما يشاء الله. وكذلك قوله: "إني لأكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد وإن محمدا إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل الله" فرية ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتبه ما شاء ولا كان يوحى إليه شيء. وكذلك قول النصراني: "ما يدري محمد إلا ما كتبت له" من هذا القبيل وعلى هذا الافتراء حاق به العذاب واستوجب العقاب. ثم اختلف أهل العلم: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أقره على أن

يكتب شيئا غير ما ابتدأه النبي صلى الله عليه وسلم بإكتابه؟ وهل قال له شيئا؟ على قولين: أحدهما: أن النصراني وابن أبي سرح افتريا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله وأنه لم يصدر منه قول فيه إقرار على كتابة غير ما قاله أصلا وإنما لما زين لهما الشيطان الردة افتريا عليه لينفرا عنه الناس ويكون قبول ذلك منهما متوجها لأنهما فارقاه بعد خبرة وذلك أنه لم يخبر أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: هذا الذي قلته أو كتبته صواب وإنما هو حال الردة أخبر أنه قال له ذلك وهو إذ ذاك كافر عدو يفتري على الله ما هو أعظم من ذلك. يبين ذلك أن الذي في الصحيح أن النصراني كان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له نعم ربما كان هو يكتب غير ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويغيره ويزيده وينقصه فظن أن عمدة النبي صلى الله عليه وسلم على كتابته مع ما فيه من التبديل ولم يدر أن كتاب الله آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وأنه لا يغسله الماء وأن الله حافظ له وأن الله يقرئ نبيه فلا ينسى إلا ما شاء الله مما يريد رفعه ونسخ تلاوته وأن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل عام وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه آية أقرأها لعدد من المسلمين يتواتر نقل الآية بهم وأكثر من نقل هذه القصة من المفسرين ذكر أنه كان يملي عليه {سَمِيعاً عَلِيماً} فيكتب هو {عَلِيماً حَكِيماً} وإذا قال: {عَلِيماً حَكِيماً} كتب {غَفُوراً رَحِيماً} وأشباه ذلك ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا. قالوا: وإذا كان الرجل قد علم أنه من أهل الفرية والكذب حتى أظهر الله كذبه آية بينة والروايات الصحيحة المشهورة لم تتضمن إلا أنه قال عن

النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أو أنه كتب ما شاء فقط علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له شيئا. قالوا: وما روي في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو منقطع أو معلل ولعل قائله قاله بناء على أن الكاتب هو الذي قال ذلك ومثل هذا قد يلتبس الأمر فيه حتى يشتبه ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وما قيل إنه قاله رد على هذا القول فلا سؤال. القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له شيئا فروى الإمام أحمد وغيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أملى عليه {سَمِيعاً عَلِيماً} يقول: كتبت {سَمِيعاً بَصِيراً} قال: دعه وإذا أملى عليه "عليما حكيما" كتب "عليما حليما" قال حماد نحو ذا. قال: وكان قد قرأ البقرة وآل عمران وكان من قرأهما فقد قرأ قرآنا كثيرا فذهب فتنصر وقال: لقد كنت أكتب لمحمد ما شئت فيقول: "دعه" فمات فدفن فنبذته الأرض مرتين أو ثلاثا قال أبو طلحة: فلقد رأيته منبوذا فوق الأرض رواه الإمام أحمد. حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس أن رجلا كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا يعني عظم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه {غَفُوراً رَحِيماً} فيكتب {عَلِيماً حَكِيماً} فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا وكذا اكتب كيف شئت ويملي عليه {عَلِيماً حَكِيماً} فيكتب {سَمِيعاً بَصِيراً} فيقول: اكتب كيف شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن

كنت لأكتب ما شئت فمات ذلك الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لا تقبله" قال أنس: فحدثني أبو طلحة "أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل فوجده منبوذا قال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟ قالوا: قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض" فهذا إسناد صحيح. وقد قال من ذهب إلى القول الأول: أعل البزار حديث ثابت عن أنس قال: رواه عنه ولم يتابع عليه ورواه حميد عن أنس قال وأظن حميدا إنما سمعه من ثابت قالوا: ثم إن أنسا لم يذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم أو شهده يقول ذلك ولعله حكى ما سمع. وفي هذا الكلام تكلف ظاهر والذي ذكرناه في حديث ابن إسحاق والواقدي وغيرهما موافق لظاهر هذه الرواية وكذلك ذكر طائفة من أهل التفسير وقد جاءت آثار فيها بيان صفة الحال على هذا القول ففي حديث ابن إسحاق: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فيقول: "أو أكتب عزيز حكيم" فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم كلاهما سواء" وفي الرواية الأخرى: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه فيقول "عزيز حكيم أو حكيم عليم" فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول: "كل صواب". ففي هذا بيان لأن كلا الحرفين كان قد نزل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأهما ويقول له: "اكتب كيف شئت من هذين الحرفين فكل صواب" وقد جاء مصرحا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إن قلت عزيز حكيم أو غفور رحيم فهو كذلك ما لم يختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة " وفي حرف جماعة من الصحابة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ

فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} والأحاديث في ذلك منتشرة تدل على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن تختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يخير القارئ في القراءة بأيها شاء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخيره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف وربما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم بحرف من الحروف فيقول له: "أو أكتب كذا وكذا" لكثرة ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخير بين الحرفين فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم كلاهما سواء" لأن الآية نزلت بالحرفين وربما كتب هو أحد الحرفين ثم قرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فأقره عليه لأنه قد نزل كذلك أيضا وختم الآي بمثل {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} و {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} و {غَفُورٌ رَحِيمٌ} أو بمثل {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أو {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أو {عَلِيمٌ حَلِيمٌ} كثير في القرآن وكان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرأن في كل رمضان وكانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم وهو الذي جمع عثمان والصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس ولهذا ذكر ابن عباس هذه القصة في الناسخ والمنسوخ وكذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه الناسخ والمنسوخ لتضمنها نسخ بعض الحروف. وروى فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في الناسخ والمنسوخ: حدثنا مسكين ابن بكير ثنا معان قال: وسمعت أبا خلف يقول: كان ابن أبي سرح كتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن فكان ربما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن خواتم الآي {يَعْمَلُونَ} و {يَفْعَلُونَ} ونحو ذا فيقول له النبي صلى الله عليه

وسلم: "اكتب أي ذلك شئت" قال: فيوفقه الله للصواب من ذلك فأتى أهل مكة مرتدا فقالوا: يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن؟ قال: أكتبه كيف شئت قال: فأنزل الله في ذلك {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} الآية كلها. قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "من أخذ ابن أبي سرح فليضرب عنقه حيثما وجده وإن كان متعلقا بأستار الكعبة ". ففي هذا الأثر أنه كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حرفين جائزين فيقول له: "اكتب أي ذلك شئت" فيوفقه الله للصواب فيكتب أحب الحرفين إلى الله وكان كلاهما منزلا أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر منزلا وكان هذا التخيير من النبي صلى الله عليه وسلم إما توسعة إن كان الله قد أنزلهما أو ثقة بحفظ الله وعلما منه بأنه لا يكتب إلا ما أنزل وليس هذا ينكر في كتاب تولى الله حفظه وضمن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذكر بعضهم وجها ثالثا وهو أنه ربما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يمله الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان فيستدل بما قرأ منها على باقيها كما يفعله الفطن الذكي فيكتبه ثم يقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "كذلك أنزلت" كما اتفق مثل ذلك لعمر في قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثل هذا في هذه القصة وإن كان هذا الإسناد ليس بثقة قال: عن ابن أبي سرح أنه كان تكلم بالإسلام وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين

فإذا أملى عليه {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كتب {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أو ذاك سواء" فلما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: {خَلْقاً آخَرَ} عجب عبد الله بن سعد فقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذا أنزلت علي فاكتبها" فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال فنزلت هذه الآية. ومما ضعفت به هذه الرواية أن المشهور أن الذي تكلم بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومن الناس من قال قولا آخر قال: الذي ثبت في رواية أنس أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ما كتبه بعدما كتبه فيملي عليه {سَمِيعاً عَلِيماً} فيقول: كتبت {سَمِيعاً بَصِيراً} فيقول: "دعه" أو "اكتب كيف شئت" وكذلك في حديث الواقدي أنه كان يقول: "كذاك أنزل الله" ويقره. قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلم به حاجة إلى من يكتب لقلة الكتاب في الصحابة وعدم حضور الكتاب منهم في وقت الحاجة إليهم فإن العرب كان الغالب عليهم الأمية حتى إن كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد وكان أحدهم إذا أراد كتابة أو شقة وجد مشقة حتى يحصل له كاتب فإذا اتفق للنبي صلى الله عليه وسلم من يكتب له انتهز الفرصة في كتابته فإذا زاد كاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه ولا يأمره بتغيير ذلك خوفا من ضجره وأن يقطع الكتابة قبل إتمامها ثقة منه صلى الله عليه وسلم بأن تلك الكلمة أو الكلمتين تستدرك فيما بعد بالإلقاء

إلى من يتلقنها منه أو بكتابتها تعويلا على المحفوظ عنده وفي قلبه كما قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} . والأشبه والله أعلم هو الوجه الأول وأن هذا كان فيما أنزل القرآن فيه على حروف عدة فإن القول المرضي عند علماء السلف الذي يدل عليه عامة الأحاديث وقراءات الصحابة أن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو أحد الحروف السبعة وهو العرضة الأخيرة وأن الحروف الستة خارجة عن هذا المصحف وأن الحروف السبعة كانت تختلف الكلمة مع أن المعنى غير مختلف ولا متضاد. الحديث العاشر: حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومولاة بني هاشم وذلك مشهور مستفيض عند أهل السير وقد تقدم في حديث سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم "أمر بقتل فرتني". وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم وأمر بقتل أربعة نفر قال: وأمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وقتلت إحدى القينتين وكمنت الأخرى حتى استؤمن لها. وكذلك ذكر محمد بن عائد القرشي في مغازيه.

وقال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر وعبد الله بن أبي بكر بن حزم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة وفرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة: عبد الله بن خطل" ثم قال: وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا وأمر المولى يذبح له تيسا ويصنع له طعاما فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكانت له قينة صاحبتها قينة كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتلهما معه قال: ومقيس بن حبابة بقتله الأنصاري الذي قتل أخاه وسارت مولاة لبني عبد المطلب وكانت ممن يؤذيه بمكة. وقال الأموي: حدثني أبي قال: وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر ونسوة وقال: "إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم" وسماهم بأسمائهم ستة: ابن أبي سرح وابن خطل والحويرث بن معبد ومقيس بن حبابة ورجل من بني تيم بن غالب. قال ابن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكتم اسم رجلين وأخبرني بأربعة قال: والنسوة قنيتا ابن خطل وسارة مولاة لبني عبد المطلب ثم قال: والقينتان كانتا تغنيان بهجائه وسارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها. وقال الواقدي عن أشياخه: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن القتال وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة ثم عددهم قال: ابن خطل وسارة مولاة عمرو بن هشام وقينتين لابن خطل فرتني وقريبة ويقال: فرتني وأرنب. ثم قال: وكان جرم ابن خطل أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا وبعث معه رجلا من خزاعة وكان يصنع طعامه ويخدمه فنزل في مجمع فأمره أن يصنع له طعاما ونام نصف النهار فاستيقظ والخزاعي نائم ولم يصنع له شيئا فاغتاظ عليه فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله فلما قتله قال: والله ليقتلني محمد به إن جئته فارتد عن الإسلام وساق ما أخذه من الصدقة وهرب إلى مكة فقال له أهل مكة: ما ردك إلينا؟ قال: لم أجد دينا خيرا من دينكم فأقام على شركه فكانت له قينتان وكانتا فاسقتين وكان يقول الشعر يهجو فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهما تغنيان به فيدخل عليه وعلى قينتيه المشركون فيشربون الخمر وتغني القينتان بذلك الهجاء. وكانت سارة مولاة عمرو بن هاشم مغنية نواحة بمكة فيلقى عليها هجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتغني به وكانت قد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب أن يصلها وشكت الحاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان لك في غنائك ونياحتك ما يكفيك؟ " فقالت: يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وهي على دينها فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذ. وأما القينتان فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما فقتلت إحداهما

أرنب أو قريبة وأما فرتنى فاستؤمن لها حتى آمنت وعاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت فقضى فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية آلاف درهم ديتها وألفين تغليظا للجرم. وحديث القينتين مما اتفق عليه علماء السير واستفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد وحديث مولاة بني هاشم ذكره عامة أهل المغازي ومن له مزيد خبرة واطلاع وبعضهم لم يذكره. فوجه الدلالة أن تعمد قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. وفي حديث آخر أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه فأنكر قتلها وقال: "ما كانت هذه لتقاتل " ثم قال لأحدهم: " ألحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا " رواه أبو داود وغيره. وقد روى الإمام أحمد في المسند عن كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر " نهى عن قتل النساء والصبيان" وهذا مشهور عند أهل السير. وفي الحديث من رواية الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك: "ثم صعدوا إليه في علية فقرعوا عليه الباب فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فقالت: ذاك الرجل عندكم في البيت فغلقنا علينا وعليها باب الحجرة ونوهت بنا فصاحت وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثنا عن قتل النساء والولدان فجعل الرجل

منا يحمل عليها السيف ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فيمسك يده فلولا ذلك فرغنا منها بليل" وذكر الحديث. وكذلك روى يونس بن بكير عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: حدثني عبد الله بن أنيس قال في الحديث: فقامت ففتحت فقلت لعبد الله بن عقيل: دونك فشهر عليها السيف فذهبت امرأته فشهرت عليها السيف وأذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهانا عن قتل النساء والصبيان فأكف. وكذلك رواه غير واحد عن ابن أنيس قال: فصاحت امرأته فهم بعضنا أن يخرج إليها ثم ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتل النساء. وهذه القصة كانت قبل فتح مكة بل قبل فتح خيبر أيضا بلا خلاف بين أهل العلم وذكر الواقدي أنها كانت في ذي الحجة من السنة الرابعة من الهجرة قبل الخندق وذكر ابن إسحاق أنها كانت عقب الخندق وهما جميعا يزعمان أن الخندق في شوال في سنة خمس وأما موسى بن عقبة فقال: في شوال سنة أربع وحديث ابن عمر يدل عليه وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان. وإنما ذكرنا هذا رفعا لوهم من قد يظن أن قتل النساء كان مباحا عام الفتح ثم حرم بعد ذلك وإلا فلا ريب عند أهل العلم أن قتل النساء لم يكن مباحا قط بأن آيات القتال وترتيب نزولها كلها دليل على أن قتل النساء لم يكن جائزا هذا مع أن أولئك النساء اللاتي كن في حصن ابن أبي الحقيق إذ ذاك لم يطمع هؤلاء النفر في استرقاقهن بل هن ممتنعات عند أهل خيبر قبل فتحها بمدة مع أن المرأة قد صاحت وخافوا الشر بصوتها ثم أمسكوا عن قتلها لرجائهم أن ينكف شرها بالتهويل عليها.

نعم المحرم إنما هو قصد قتلهن فأما إذا قصدنا قصد الرجال بالإغارة أو نرمي منجنيق أو فتح شق أو إلقاء نار فتلف بذلك نساء أو صبيان لم نأثم بذلك لحديث الصعب بن جثامة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب الذرية فقال "هم منهم" متفق عليه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى أهل الطائف بالمنجنيق مع أنه قد يصيب المرأة والصبي وبكل حال فالمرأة الحربية غير مضمونة بقود ولا دية ولا كفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من قتل المرأة في مغازيه بشيء من ذلك فهذا ما تفارق به المرأة الذمية وإذا قاتلت المرأة الحربية جاز قتلها بالاتفاق لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل المنع من قتلها بأنها لم تكن تقاتل فإذا قاتلت وجد المقتضى لقتلها وارتفع المانع لكن عند الشافعي تقاتل كما يقاتل المسلم الصائل فلا يقصد قتلها بل دفعها فإذا قدر عليها لم يجز قتلها وعند غيره إذا قاتلت صارت بمنزلة الرجل المحارب. إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء النسوة كن معصومات بالأنوثة ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن لمجرد كونهن كن يهجينه وهن في دار حرب فعلم أن من هجاه وسبه جاز قتله بكل حال. ومما يؤكد ذلك وجوه: أحدها: أن الهجاء والسب إما أن يكون من باب القتال باللسان فيكون كالقتال باليد وتكون المرأة الهاجية التي يستعان برأيها على حرب المسلمين كالملكة ونحوها مثل ما كانت هند بنت عتبة أو تكون بنفساه موجبة للقتل لما فيه من أذى الله ورسوله والمؤمنين وإن كان من جنس المحاربة أو لا يكون شيء من ذلك

فإن كان من القسم الأول أو الثاني جاز قتل المرأة الذمية إذا سبت لأنها حينئذ تكون قد حاربت أو ارتكبت ما يوجب القتل فالذمية إذا فعلت ذلك انتقض عهدها وقتلت ولا يجوز أن تخرج عن هذين القسمين لأنه يلزم منه قتل المرأة من أهل الحرب من غير أن تقاتل بيد ولا لسان ولا أن ترتكب ما هو بنفسه موجب للقتل وقتل مثل هذه المرأة حرام بالسنة والإجماع. الوجه الثاني: أن هؤلاء النسوة كن من أهل الحرب وقد آذين النبي صلى الله عليه وسلم في دار الحرب ثم قتلن بمجرد السب كما نطقت به الأحاديث فقتل المرأة الذمية بذلك أولى وأحرى كالمسلمة لأن الذمية بيننا وبينها من العهد ما يكفها عن إظهار السب ويوجب عليها التزام الذل والصغار ولهذا تؤخذ بما تصيبه للمسلم من دم أو مال أو عرض والحربية لا تؤخذ بشيء من ذلك. فإذا جاز قتل المرأة لأنها سبت الرسول وهي حربية تستبيح ذلك من غير مانع فقتل الذمية الممنوعة عن ذلك بالعهد أولى. ولا يقال: عصمة الذمي أوكد لأنه مضمون والحربي غير مضمون. لأنا نقول: الذمي أيضا ضامن لدم المسلم والحربي غير ضامن فهو ضامن مضمون لأن العهد الذي بيننا اقتضى ذلك وأما الحربية فلا عهد بيننا وبينها يقتضي ذلك فليس كون الذمي مضمونا يجب علينا حفظه بالذي يهون عليه ما ينتهكه من عرض الرسول بل ذلك أغلظ لجرمه وأولى بأن يؤاخذ بما يؤذينا به ولا نعلم شيئا تقتل به المرأة الحربية قصدا إلا وقتل الذمية به أولى. الوجه الثالث: أن هؤلاء النسوة لم يقاتلن عام الفتح بل كن متذللات مستسلمات والهجاء إن كان من جنس القتال فقد كان موجودا قبل ذلك

والمرأة الحربية لا يجوز قتلها في غزوة هي فيها مستسلمة لكونها قد قاتلت قبل ذلك فعلم أن السب بنفسه هو المبيح لدمائهن لا كونهن قاتلن. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم آمن جميع أهل مكة إلا أن يقاتلوا مع كونهم قد حاربوه وقتلوا أصحابه ونقضوا العهد الذي بينهم وبينه ثم إنه أهدر دماء هؤلاء النسوة فيمن استثناه وإن لم يقاتلن لكونهن كن يؤذينه فثبت أن جرم المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالسب ونحوه أغلظ من جرم القتال وغيره وأنه يقتل في الحال التي نهي فيها عن قتال من قتل وقاتل. الوجه الخامس: أن القينتين كانتا أمتين مأمورتين بالهجاء وقتل الأمة أبعد من قتل الحرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل العسيف وكونها مأمورة بالهجاء أخف لجرمها حيث لم تقصده ابتداء ثم مع هذا أمر بقتلهما فعلم أن السب من أغلظ الموجبات للقتل. الوجه السادس: أن هؤلاء النسوة إما أن يكن قتلن بالهجاء لأنهن فعلنه مع العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة فيكون من جنس هجاء الذمي أو قتلن لمجرد الهجاء مع عدم العهد فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فإذا جاز أن تقتل السابة التي لا عهد بيننا وبينها يمنعها فقتل الممنوعة بالعهد أولى لأن مجرد كفر المرأة وكونها من أهل الحرب لا يبيح دمها بالاتفاق على ما تقدم لاسيما والسب لم يكن بمنزلة القتال على ما تقدم. فإن قيل: ما وجه الترديد وأهل مكة قد نقضوا العهد وصاروا كلهم محاربين. قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستبح أخذ الأموال وسبي الذرية

والنساء بذلك النقض العام: إما لأنه عفا عن ذلك كما عفا عن قتل من لم يقاتل أو لأن النقض الذي وجد من بعض الرجال بمعاونة بني بكر ومن بعضهم بإقرارهم على ذلك لم يسر حكمه إلى الذرية. ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آمن الناس إلا بني بكر من خزاعة وإلا النفر المسمين إما عشرة أو أقل من عشرة أو أكثر لأن بني بكر هم الذين باشروا نقض العهد وقتلوا خزاعة فعلم أنه فرق بين من نقض العهد وفعل ما يبيح الدم وبين من لم يفعل شيئا غير الموافقة على نقض العهد فبكل حال لم يقتل هؤلاء النسوة للحراب العام والنقض العام بل لخصوص جرمهن من السب الناقض لعهد فاعله سواء ضم إليه كونه من ذي عهد أو لم يضم. واعلم أن ما تقدم من قتل النسوة اللاتي سببن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل اليهودية وأم الولد وعصماء لو لم يثبت أنهن كن معاهدات لكان الاستدلال به جائزا فإن كل ما جاز أن تقتل به المرأة التي ليست مسلمة ولا معاهدة من فعلها وقولها فأن تقتل به المرأة المعاهدة أولى وأحرى فإن موجبات القتل في حق الذمية أوسع من موجباته في حق التي ليست ذمية. ومما يدل على مثل هذه الدلالة ما روى أن امرأة كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يكفيني عدوي؟ " فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها. الحديث الحادي عشر: ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل وفي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة

عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: "اقتلوه" وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر ذم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره وأنه قتل. وقد تقدم عن ابن المسيب أن أبا برزة أتاه وهو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه. وكذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال: فيّ نزلت هذه الآية: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أخرجت عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن والمقام. وذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة فرأى خيل المسلمين ورأى القتال ودخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه وطرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره. وقد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الصدقة وأصحبه رجل يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما أمره بصنعه فقتله ثم خاف أن يقتل فارتد واستاق إبل الصدقة وأنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم: قتل النفس والردة والهجاء. فمن احتج بقصته يقول: لم يقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على

من قتل ثم ارتد أن يقتل قودا والمقتول من خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قتل قودا أن يسلم إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية ولم يقتل لمجرد الردة لأن المرتد يستتاب وإذا استنظر أنظر وهذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للأمان تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى نظر في أمره وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يقتل وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء وأن الساب وإن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة ولا يؤخر قتله وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة. وقد استدل بقصة ابن خطل طائفة من الفقهاء على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين يقتل وإن أسلم حدا. واعترض عليهم بأن ابن خطل كان حربيا فقتل لذلك وصوابه أنه كان مرتدا بلا خلاف بين أهل العلم بالسير وحتم قتله بدون استتابة مع كونه مستسلما منقادا قد ألقى السلم كالأسير فعلم أن من ارتد وسب يقتل بلا استتابة بخلاف من ارتد فقط. يؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم آمن عام الفتح جميع المحاربين إلا ذوي جرائم مخصوصة وكان ممن أهدر دمه دون غيره فعلم أنه لم يقتل لمجرد الكفر والحراب. السنة الثانية عشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل جماعة لأجل سبه وقتل جماعة لأجل ذلك مع كفه وإمساكه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرا

حربيا فمن ذلك ما قدمناه عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم الفتح بقتل ابن الزبعرى وسعيد بن المسيب هو الغاية في جودة المراسيل ولا يضره أن لا يذكره بعض أهل المغازي فإنهم مختلفون في عدد من استثني من الأمان وكل أخبر بما علم ومن أثبت الشيء وذكره حجة على من لم يثبته. وقد ذكر ابن إسحاق قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب ابن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش عبد الله بن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه ففي هذا بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل كل من كان يهجوه ويؤذيه بمكة من الشعراء مثل ابن الزبعرى وغيره. ومما لا خفاء فيه أن ابن الزبعرى إنما ذنبه أنه كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه فإنه كان من أشعر الناس وكان يهاجي شعراء الإسلام مثل حسان وكعب بن مالك وما سوى ذلك من الذنوب قد شركه فيه وأربى عليه عدد كثير من قريش. ثم إن ابن الزبعرى فر إلى نجران ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما وله أشعار حسنة في التوبة والاعتذار فأهدر دمه للسب مع أمانه لجميع أهل مكة إلا من كان له جرم مثل جرمه ونحو ذلك. ومن ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قصته في هجائه للنبي صلى الله عليه وسلم وفي إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنه لما جاءه مسلما مشهورة ومستفيضة

وقد ذكر الواقدي قال: حدثني سعيد بن مسلم بن قماذ عن عبد الرحمن بن سابط وغيره قال: "كان أبو سفيان بن الحارث أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعته حليمة أياما وكان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له تربا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده عداوة لم يعادها أحدا قط ولم يكن دخل الشعب وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا أصحابه وذكر الحديث إلى أن قال: ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام قال أبو سفيان: فقلت: من أصحب؟ ومع من أكون؟ قد ضرب الإسلام بجرانه فجئت زوجتي وولدي فقلت: تهيئوا للخروج فقد أقبل قدوم محمد قالوا: قد آن لك أن تنصر محمدا إن العرب والعجم قد تبعت محمدا وأنت توضع في عداوته وكنت أولى الناس بنصرته فقلت لغلامي مذكور: عجل بأبعرتي وفرسي قال: ثم سرنا حتى نزلنا بالأبواء وقد نزلت مقدمته الأبواء فتنكرت وخفت أن أقتل وكان قد أهدر دمي فخرجت واحد ابن جعفر على قدمي نحوا من ميل في الغداة التي صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء فأقبل الناس رسلا رسلا أي قطيعا قطيعا فتنحيت فرقا من أصحابه فلما طلع موكبه تصديت له تلقاء وجهه فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى فأعرض عني مرارا فأخذني ما قرب وما بعد وقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه وأتذكر بره ورحمه وقرابتي فيمسك ذلك مني وقد كنت لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحا شديدا لقرابتي برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عني أعرضوا عني جميعا فلقيني ابن أبي قحافة معرضا عني ونظرت إلى عمر يغري بي رجلا

من الأنصار فألزبى رجل يقول: يا عدو الله أنت الذي كنت تأذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتؤذي أصحابه؟ قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته فرددت بعض الرد عن نفسي فاستطال علي ورفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي قال: فدخلت على عمي العباس فقلت: يا عباس قد كنت أرجوا أن سيفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي لقرابتي وشرفي وقد كان منه ما رأيت فكلمه ليرضى عني قال: لا والله لا أكلمه كلمة فيك أبدا بعد الذي رأيت منه ما رأيت إلا أن أرى وجها إني أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهابه فقلت: يا عم إلى من تكلني؟ قال: هو ذاك فلقيت عليا فكلمته فقال لي مثل ذلك وذكر الحديث إلى أن قال: فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى راح إلى الجحفة وهو لا يكلمني ولا أحد من المسلمين وجعلت لا ينزل منزلا إلا أنا على بابه ومعي ابني جعفر قائم فلا يراني إلا أعرض عني فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة وأنا في خيله التي تلازمه حتى هبط من أذاخر حتى نزل الأبطح فنظر إلي نظرا هو ألين من ذلك النظر قد رجوت أن يتبسم ودخل عليه نساء بني عبد المطلب ودخلت معهن زوجتي فرققته علي وخرج إلى المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حال حتى خرج إلى هوازن فخرجت معه" وذكر قصته بهوازن وهي مشهورة. قال الواقدي: وقد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث بوجه آخر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثنية العقاب وذكر الحديث نحوا مما ذكره ابن إسحاق. قال ابن إسحاق: وكان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن

المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك فقال: "لا حاجة لي بهما أما ابن عمي فهتك عرضي وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال". فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له فقال: والله ليأذنن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا أو جوعا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما فدخلا عليه فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه فقال: لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى واهتدى هداني هاد غير نفسي ودلني ... على الله من طردت كل مطرد وذكر باقي الأبيات. وفي رواية الواقدي قال: فطلبا الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يدخلهما عليه فكلمته أم سلمة زوجته فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صهرك وابن عمتك وابن عمك وأخوك من الرضاعة وقد جاء الله بهما مسلمين لا يكونا أشقى الناس بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي بهما أما أخوك فالقائل لي بمكة ما قال: لن يؤمن لي حتى أرقى في السماء" فقالت: يا رسول الله إنما هو من قومك وكل قريش قد تكلم ونزل القرآن

فيه بعينه وقد عفوت عمن هو أعظم جرما منه ابن عمك قرابتك به قريبة وأنت أحق الناس عفا عنه جرمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو الذي هتك عرضي فلا حاجة لي بهما " فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث ومعه ابنه: ليقبلن مني أو لآخذن بيد ابني هذا فلأذهبن في الأرض حتى أهلك عطشا وجوعا وأنت أحلم الناس وأكرم الناس مع رحمي بك فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته فرق له وقال عبد الله ابن أبي أمية إنما جئت لأصدقك ولي من القرابة ما لي من الصهر بك وجعلت أم سلمة تكلمه فيهما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما فأذن لهما ودخلا فأسلما وكانا جميعا حسنى الإسلام. قتل عبد الله بن أبي أمية بالطائف ومات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه لم يغمص عليه بشيء ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه قبل أن يلقاه. فوجه الدلالة: أنه أهدر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد المشركين الذين كانوا أشد تأثيرا في الجهاد باليد والمال وهو قادم إلى مكة لا يريد أن يسفك دماء أهلها بل يستعطفهم على الإسلام ولم يكن لذلك سبب يختص بأبي سفيان إلا الهجاء ثم جاء مسلما وهو يعرض عنه هذا الإعراض وكان من شأنه أن يتألف الأباعد على الإسلام فكيف بعشيرته الأقربين؟ كل ذلك بسبب هتكه عرضه كما هو مفسر في الحديث. ومن ذلك أنه أمر يوم الفتح بقتل الحويرث بن نقيد وهو معروف عند أهل السير قال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري وهي من أصح المغازي كان مالك يقول: من أحب أن يكتب المغازي فعليه بمغازي الرجل الصالح

موسى بن عقبة قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحد إلا من قاتلهم وأمرهم بقتل أربعة نفر: منهم الحويرث بن نقيد. وقال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني أبي قال: وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر ونسوة وقال: إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم وسماهم بأسمائهم ستة وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن خطل والحويرث بن نقيد ومقيس بن حبابة ورجل من بني تيم بن غالب. قال ابن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكنم اسم رجلين وأخبرني بأربعة وزعم أن عكرمة بن أبي جهل أحدهم. قال: وأما الحويرث بن نقيد فقتله علي بن أبي طالب وكذلك ذكر ابن إسحاق في رواية ابن بكير وغيره عنه من نفر الذين استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ": الحويرث بن نقيد وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي عن أشياخه: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وابن أبي سرح ومقيس بن حبابة والحويرث بن نقيد وابن خطل. قال: وأما الحويرث بن نقيد فإنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه فبينا هو في منزلته يوم الفتح قد أغلق عليه وأقبل علي رضي الله عنه يسأل عنه فقيل: هو في البادية فأخبر الحويرث أنه يطلب وتنحى علي

عن بابه فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيت إلى بيت آخر فتلقاه علي فضرب عنقه. ومثل هذا مما يشتهر عند هؤلاء مثل الزهري وابن عقبة وابن إسحاق والواقدي والأموي وغيرهم أكثر ما فيه أنه مرسل والمرسل إذا روى من جهات مختلفة لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر ويتبع له كان كالمسند بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد ولا يوهنه أنه لم يذكر في الحديث المأثور عن سعد وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لأن المثبت مقدم على النافي ومن أخبر أنه أمر بقتله فمعه زيادة علم ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتله ثم أمر بقتله وذلك أنه يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه أن يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا النفر الأربعة ثم أمرهم أن يقتلوا هذا وغيره ومجرد نهيه عن القتال لا يوجب عصمة المكفوف عنهم لكنه بعد ذلك آمنهم الأمان العاصم للدم وهذا الرجل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله لمجرد أذاه له مع أنه قد آمن أهل البلد الذين قاتلوه وأصحابه وفعلوا بهم الأفاعيل. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما قفل من بدر راجعا إلى المدينة قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ولم يقتل من أسارى بدر غيرهما وقصتهما معروفة. قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب كما أخبرت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت. وقال موسى بن عقبة عن الزهري: ولم يقتل من الأسارى صبرا غير عقبة

ابن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح ولما أبصره عقبة مقبلا إليه استغاث بقريش فقال: يا معشر قريش علام أقتل من بين ها هنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على عداوتك لله ورسوله" وكذلك ذكر محمد بن عائد في مغازيه. وهذا والله أعلم لأن النضر قتل بالصفراء عند بدر فلم يعد من الأسرى عند هذا القائل لقتله قريبا من مصارع قريش وإلا فلا خلاف علمناه أن النضر وعقبة قتلا بعد الأسر. وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " بكفرك وافترائك على رسول الله ". وقال الواقدي: كان النضر بن الحارث أسره المقداد بن الأسود فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر فكان بالأثيل عرض عليه الأسرى فنظر إلى النضر بن الحارث فأبد النظر فقال لرجل إلى جنبه: محمد والله قاتلي لقد نظر إلي بعينين فيهما آثار الموت فقال الذي إلى جنبه: "والله ما هذا منك إلا رعب" فقال النضر لمصعب بن عمير: يا مصعب أنت أقرب من ها هنا بي رحما كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي هو والله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا وكنت تقول في نبيه كذا وكذا قال: يا مصعب ويجعلني كأحد أصحابي: إن قتلوا قتلت وإن من عليهم من علي قال مصعب: إنك كنت تعذب أصحابه وذكر الحديث إلى أن قال: فقتله علي بن أبي طالب صبرا بالسيف. قال الواقدي: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى حتى إذا كانوا بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة

ابن أبي معيط فجعل عقبة يقول: "يا ويلي علام أقتل يا قريش من بين من ها هنا؟ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعداوتك لله ورسوله " قال: "يا محمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني وإن مننت عليهم مننت علي وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمد من للصبية؟ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النار قدمه يا عاصم فاضرب عنقه" فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئس الرجل كنت والله ما علمت كافرا بالله وبكتابه وبرسوله مؤذيا لنبيه فأحمد الله الذي هو قتلك وأقر عيني منك ". ففي هذا بيان أن السبب الذي أوجب قتل هذين الرجلين من بين سائر الأسرى أذاهم لله ورسوله بالقول والفعل فإن الآيات التي نزلت في النضر معروفة وأذى ابن أبي معيط له مشهور بلسانه ويده حين خنقه بأبي هو وأمي بردائه خنقا شديدا يريد قتله وحين ألقى السلا على ظهره وهو ساجد وغير ذلك. ومن ذلك أنه أمر بقتل من كان يهجوه بعد فتح مكة من قريش وسائر العرب مثل كعب بن زهير وغيره. قال الأموي: حدثني أبي قال: قال ابن إسحاق وذكره يونس بن بكير والبكائي وغيرهما عن ابن إسحاق قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة منصرفا من الطائف كتب بجير بن زهير بن أبي سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في قتل رجال بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه. ولفظ يونس والبكائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل رجلا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعرى

وهبيرة ابن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض وكان كعب قد قال أبياتا نال فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رويت وعرفت وكان الذي قال: إلا ابلغا بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا لتخبرني أن كنت ليس بفاعل ... على أي شيء غير ذلك دلكا على خلق لم يلق يوما أبا له ... ولا أنت لم تعرف عليه أبا لكا فإن أنت لم تفعل فلست بفاعل ... ولا قائل إما عثرت لعا لكا سقاك بها المأمون كاسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا وإنما قال كعب "المأمون" لقول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم "الأمين" الذي كانت تقول له. فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقالوا: هو مقتول فلما لم يجد من شيء بدا قال قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لي فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم

حين صلى الصبح فلما صلى مع الناس أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقم إليه فذكر لنا أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كعب ابن زهير استأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعه عنك قد جاء تائبا نازعا " قال: فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته التي قال حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنشد ابن إسحاق قصيدته المشهورة "بانت سعاد" وفيها: أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الله الذي أعطاك نافلة ال ... فرقان فيه مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل وفي حديث آخر: وذلك أنه بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم ندر دمه بقول بلغه عنه فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما ودخل مسجده وأنشد القصيدة فقد أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب

في قتل رجال بمكة لأجل هجائهم وأذاهم حتى فر من فر منهم إلى نجران ثم رجع ابن الزبعرى تائبا مسلما وأقام هبيرة بنجران حتى مات مشركا ثم إنه أهدر دم كعب لما قاله مع أنه ليس من بليغ الهجاء لكونه طعن في دين الإسلام وعابه وعاب ما يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تاب قبل القدرة عليه وجاء مسلما وكان حربيا ومع هذا فهو يلتمس العفو ويقول: لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ... ... ... ... ومن ذلك: ما نقل أنه كان يتوجه صلى الله عليه وسلم إلى قتل من يهجوه ويقول: "من يكفيني عدوي؟ ". قال الأموي سعد بن يحيى بن سعيد في مغازيه: حدثنا أبي قال: أخبرني عبد الملك بن جريج عن عكرمة عن عبد الله بن عباس أن رجلا من المشركين شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكفيني عدوي؟ " فقام الزبير بن العوام فقال: أنا فبارزه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه ولا أحسبه إلا في خيبر حين قتل ياسر ورواه عبد الرزاق أيضا. وروى أن رجلا كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يكفيني عدوي؟ " فقال خالد: أنا فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليه فقتله. ومن ذلك: أن أصحابه كانوا إذا سمعوا من يسبه ويؤذيه صلى الله عليه وسلم قتلوه وإن كان قريبا فيقرهم على ذلك ويرضاه وربما سمى من يفعل ذلك ناصرا لله ورسوله. فروى أبو إسحاق الفزاري في كتابه المشهور في السير عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن سميع عن مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لقيت أبي في المشركين فسمعت منه مقاله قبيحة لك

فما صبرت أن طعنته بالرمح فقتلته فما شق ذلك عليه. قال: وجاءه آخر فقال: إني لقيت أبي في المشركين فصفحت عنه فما شق ذلك عليه. وقد رواه الأموي وغيره من هذه الطريق. وروى أبو إسحاق الفزاري أيضا في كتابه عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة وجابر فلما صافوا المشركين أقبل رجل منهم يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رجل من المسلمين فقال: أنا فلان ابن فلان وأمي فلانة فسبني وسب أمي وكف عن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزده ذلك إلا إغراء فأعاد مثل ذلك وعاد الرجل مثل ذلك فقال في الثالثة: لئن عدت لا رحلنك بسيفي فعاد فحمل عليه الرجل فولى مدبرا فاتبعه الرجل حتى خرق صف المشركين فضربه بسيفه وأحاط به المشركون فقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعجبتم من رجل نصر الله ورسوله؟ " ثم إن الرجل برئ من جراحته فأسلم فكان يسمى الرحيل ورواه الأموي في مغازيه من هذا الوجه. وقد تقدم حديث عمير بن عدي لما قال حين بلغه أذى بنت مروان للنبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إن علي نذرا لئن رددت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأقتلنها فقتلها بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي ". وكذلك حديث اليهودية وأم الولد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمها لما قتلت لأجل سبه.

وقد تقدم أيضا حديث الرجل الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح لما افتراه على النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عن مبايعته ليقوم إليه ذلك الرجل فيقتله ويفي بنذره. وقد ذكروا أن الجن الذي آمنوا به كانت تقصد من سبه من الجن الكفار فتقتله قبل الهجرة وقبل الإذن في القتال له وللإنس فيقرها على ذلك ويشكر ذلك لها. قال سعد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني محمد بن سعيد يعني عمه قال: قال محمد بن المنكدر: إنه ذكر له عن ابن عباس أنه قال: هتف هاتف من الجن على جبل أبي قبيس فقال: قبح الله رأيكم آل فهر ... ما أدق العقول والأحلام حين تغضي لمن يعيب عليها ... دين آبائها الحماة الكرام حالف الجن جن بصرى عليكم ... ورجال النخيل والآطام يوشك الخيل أن تروها نهارا ... تقتل القوم في حرام تهام هل كريم منكم له نفس حر ... ماجد الجدتين والأعمام ضاربا ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة واغتنام قال ابن عباس: فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا شيطان يكلم الناس من الأوثان يقال له مسعر والله مخزيه" فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول: نحن قتلنا في ثلاث مسعرا ... سفه الحق وسن المنكرا قنعته سيفا حساما مبترا ... بشتمه نبيا المطهرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عفريت من الجن اسمه سمحج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه منذ ثلاثة أيام فقال علي: جزاه الله خيرا يا رسول الله. وممن ذكر أنه قتل لأجل أذى النبي صلى الله عليه وسلم أبو رافع بن ابن الحقيق اليهودي وقصته معروفة مستفيضة عند العلماء فنذكر منها وضع الدلالة. عن البراء بن عازب قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس فهتف به البواب يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب قال: فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها

ففتحت الباب وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علية له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إليّ حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت قلت: أبا رافع قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم رجعت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أن قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء قد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم اشتكها قط رواه البخاري في صحيحه". وقال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار الأوس والخزرج كانا يتصاولان معه تصاول الفحلين لا يصنع أحدهما شيئا إلا صنع الآخر مثله يقولون: لا يعدون ذلك فضلا علينا في الإسلام وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قتل الأوس كعب بن الأشرف تذكرت الخزرج رجلا هو في العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثله فتذاكروا ابن أبي الحقيق

بخيبر فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فأذن لهم وذكر الحديث إلى أن قال: ثم صعدو إليه في علية له فقرعوا عليه الباب فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: حي من العرب نريد الميرة ففتحت لهم فألقت ذا كم الرجل عندكم في البيت وذكر تمام الحديث في قتله. فقد تبين في حديث البراء وابن كعب إنما تسرى المسلمين بقتله بإذن النبي صلى الله عليه وسلم لأذاه للنبي ومعاداته له وأنه كان نضير ابن الأشرف لكن ابن الأشرف كان معاهدا فآذى الله ورسوله فندب المسلمين إلى قتله وهذا لم يكن معاهدا. فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه من الكفار فإنه كان يقصد قتله ويحض عليه لأجل ذلك وكذلك أصحابه بأمره يفعلون ذلك مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في أنه كافر غير معاهد بل مع أمانه لأولئك أو إحسانه إليهم من غير عهد بينه وبينهم ثم من هؤلاء من قتل ومنهم من جاء مسلما تائبا فعصم دمه لثلاثة أسباب: أحدها: أنه جاء تائبا قبل القدرة عليه والمسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي أولى. الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من خلقه أن يعفو عنه. الثالث: أن الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله ولا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف}

ولقوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجب ما قبله " رواه مسلم ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية " متفق عليه. ولهذا أسلم خلق كثير وقد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحدا منه بقود ولا دية ولا كفارة. أسلم وحشي قاتل حمزة وابن العاص قاتل ابن قوقل وعقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي ومن لا يحصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم وقد علم أنه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم قصاصا بل قال صلى الله عليه وسلم: " يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم ويقتل في سبيل الله فيدخل الجنة " متفق عليه. وكذلك أيضا لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم مالا أتلفه للمسلمين ولا أقام على أحد حد زنا أو سرقة أو شرب أو قذف سواء كان قد أسلم بعد الأسر أو قبل الأسر وهذا مما لا نعلم بين المسلمين فيه خلافا لا في روايته ولا في الفتوى به. بل لو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص قول أحمد وقول الجماهير من أصحابه بناء على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لأنه خرج عن

مالكه المسلم في سبيل الله ووجب أجره على الله وآخذه هذا مستحلا له وقد غفر له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال ولا يقضي ما تركه من العبادات لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا وغيره. ومن العلماء من قال: يرده على مالكه المسلم وهو قول الشافعي وأبي الخطاب من الحنبلية بناء على أن اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب ولأنه لو أخذه المسلم منهم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما اتفق الناس فيما نعلمه عليه ولو كانوا قد ملكوه كملكه الغانم منهم ولم يرده. والأول أصح لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك وقد أسلم عامة أولئك المشركين فلم يسترجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد منهم مالا مع أن بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا. ويكفي في ذلك أن الله سبحانه قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} وقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} إلى قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} وقال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ

أَهْلِهِ مِنْه} وقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُم} . فبين الله سبحانه أن المسلمين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء. ثم إن المشركين استولوا على تلك الديار والأموال وكانت باقية إلى حين الفتح وقد أسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم أخرج من داره بعد الفتح والإسلام دارا ولا مالا بل قيل للنبي يوم الفتح: ألا تنزل في دارك؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟ ". وسأله المهاجرون أن يرد عليهم أموالهم التي استولى عليها أهل مكة فأبى ذلك صلى الله عليه وسلم وأقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه. وذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي صلى الله عليه وسلم ودور إخوته من الرجال والنساء مع ما ورثه من أبيه أبي طالب قال أبو رافع: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: "فهل ترك لنا عقيل منزلا؟ " وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة. وقد ذكر أهل العلم بالسيرة منهم أبو الوليد الأزرقي أن رباع عبد المطلب بمكة صارت لبني عبد المطلب فمنها شعب ابن يوسف وبعض دار ابن يوسف

لأبي طالب والجو الذي بينه وبين دار ابن يوسف دار المولد مولد النبي صلى الله عليه وسلم وما حوله لأبي النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد المطلب ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له هذه الدار ورثها من أبيه وبها ولد وكان له دار ورثها هو وولده من خديجة رضي الله تعالى عنها. قال الأزرقي: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنيه كليهما مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد وولد فيه ولده جميعا. قال: وكان عقيل بن أبي طالب أخذ مسكنه الذي ولد فيه وأما بيت خديجة فأخذه معتب بن أبي لهب وكان أقرب الناس إليه جوارا فباعه بعد من معاوية وقد شرح أهل السير ما ذكرنا في دور المهاجرين. قال: الأزرقي: دار جحش بن رئاب الأسدي التي بالمعلى لم تزل في يد ولد جحش فلما أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الهجرة إلى المدينة خرج آل جحش جميعا الرجال والنساء إلى المدينة مهاجرين وتركوا دارهم خالية وهم حلفاء حرب بني أمية فعمد أبو سفيان إلى دارهم هذه فباعها بأربعمائة دينار من عمرو بن علقمة العامري فلما بلغ آل جحش أن أبا سفيان باع دارهم أنشأ أبو أحمد يهجو أبا سفيان ويعيره ببيعها وذكر أبياتا. فلما كان يوم فتح مكة أتى أبو أحمد بن جحش وقد ذهب بصره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها فقال: يا رسول الله إن أبا سفيان عمد إلى داري فباعها فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فساره بشيء فما سمع أبو أحمد ذكرها بعد ذلك فقيل لأبي أحمد بعد ذلك: ما قال لك رسول الله

صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي " إن صبرت كان خيرا وكان لك بها دار في الجنة " قال: قلت: فأنا أصبر فتركها أبو أحمد. قال: وكان لعتبة بن غزوان دار تسمى ذات الوجهين فلما هاجر أخذها يعلي بن أمية وكان استوصاه بها حين هاجر فلما كان عام الفتح وكلم بنو جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم فكره أن يرجعوا في شيء من أموالهم أخذت منهم في الله تعالى وهجروه لله أمسك عتبة بن غزوان عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره هذه ذات الوجهين وسكت المهاجرون فلم يتكلم أحد منهم في دار هجرها لله ورسوله وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة وهذه القصة معروفة عند أهل العلم. قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر ببن حزم والزهير بن عكاشة بن أبي أحمد قال: أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عليهم في دورهم فقالوا لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره لكم أن ترجعوا في شيء من أموالكم مما أصيب في الله. وقال ابن إسحاق أيضا في رواية زياد بن عبد الله البكائي عنه: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد منهم بمكة إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله والى رسوله إلا أهل دور مسمون: بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة ليس فيها ساكن. ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب

فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة؟ " فقال: بلى فقال: "ذلك لك " فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد إن النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي عن أشياخه قالوا: وقام أبو أحمد بن جحش على باب المسجد على جمل له حين فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته يعني الخطبة التي خطبها وهو واقف بباب الكعبة حين دخل الكعبة فصلى فيها ثم خرج يوم الفتح فقال أبو أحمد وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي أنشد بالله يا بني عبد مناف داري قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فسار عثمان بشيء فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم فما سمع أبو أحمد ذكرها حتى لقي الله. فهذا نص في أن المهاجرين طلبوا استرجاع ديارهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها بيد من استولى عليها ومن اشتراها منه وجعل صلى الله عليه وسلم ما أخذه منهم الكفار بمنزلة ما أصيب من ديارهم وما أنفقوه من أموالهم وتلك دماء وأموال اشتراها الله وسلمت إليه ووجب أجرها على الله فلا رجعة فيها وذلك لأن المشركين يستحلون دماءنا وأموالنا وأصابوا ذلك كله استحلالا وهم آثمون في هذا الاستحلال فإذا أسلموا جب الإسلام

ذلك الإثم وصاروا كأنهم ما أصابوا دما ولا مالا فما بأيديهم لا يجوز انتزاعه منهم. فإن قيل: ففي الصحيحين عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ألا تنزل في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين. وفي رواية للبخاري أنه قال: يا رسول أين تنزل غدا؟ وذلك زمن الفتح فقال: "وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ " ثم قال: " لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر " قيل للزهري: ومن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب وفي رواية معمر عن الزهري أين منزلك غدا في حجتك؟ رواه البخاري. وظاهر هذا أن الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الإرث لا بطريق الاستيلاء ثم باعها. قلنا: أما دار النبي صلى الله عليه وسلم التي ورثها من أبيه وداره التي هي له ولولده من زوجته المؤمنة خديجة فلا حق لعقيل فيها فعلم أنه استولى عليها وأما دور أبي طالب فإن أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين والمواريث لم تفرض ولم يكن نزل بعد منع المسلم من ميراث الكافر بل كل من مات بمكة من المشركين أعطي أولاده المسلمون نصيبهم من الإرث كغيرهم بل كان المشركون ينكحون المسلمات الذي هو أعظم من الإرث وإنما قطع الله الموالاة بين المسلمين

والكافرين بمنع النكاح والإرث وغير ذلك بالمدينة وشرع الجهاد القاطع للعصمة. قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة نظر إلى تلك الرباع فما أدرك منها قد اقتسم على أمر الجاهلية تركه لم يحركه وما وجده لم يقسم قسمه على قسمة الإسلام. وهذا الذي رواه ابن أبي نجيح يوافق الأحاديث المسندة في ذلك مثل حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فإنه على ما قسم الإسلام " رواه أبو داود وابن ماجه. وهذا أيضا يوافق ما دل عليه كتاب الله ولا نعلم فيه خلافا فإن الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده ولم يجب عليه رده ولو ولم يكن قبضة لم يجز له أن يقبض منه إلا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فأمرهم بترك ما بقي في ذمم الناس ولم يأمرهم برد ما قبضوه. وكذلك وضع النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس كل دم أصيب في الجاهلية وكل ربا في الجاهلية حتى ربا العباس ولم يأمر برد ما كان قبض فكذلك الميراث: إذا مات الميت في الجاهلية واقتسموا تركته أمضيت القسمة فإن أسلموا قبل الاقتسام أو تحاكموا إلينا قبل القسمة قسم على قسم الإسلام فلما مات أبو طالب كان الحكم بينهم أن يرثه جميع ولده فلم يقتسموا رباعه حتى هاجر جعفر وعلي إلى المدينة فاستولى عقيل عليها

وباعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لم يترك لنا عقيل منزلا إلا استولى عليه وباعه " وكان معنى هذا الكلام أنه استولى على دور كنا نستحقها إذ ذاك ولولا ذلك لم تضف الدور إليه وإلى بني عمه إذا لم يكن لهم فيها حق ثم قال بعد ذلك: "لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن" يريد والله أعلم لو أن الرباع باقية بيده إلى الآن لم يقسم لكنا نعطي رباع أبي طالب كلها له دون إخوته لأنه ميراث لم يقسم فيقسم الآن على قسم الإسلام ومن قسم الإسلام أن لا يرث المسلم الكافر فكان نزول هذا الحكم بعد موت أبي طالب وقبل قسمة تركته بمنزله نزوله قبل موته فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليا وجعفرا ليس لهما المطالبة بشيء من ميراث أبي طالب لو كان باقيا فكيف إذا أخذ منهم في سبيل الله؟ فإذا كان المشرك الحربي لا يطالب بعد إسلامه بما كان أصابه من دماء المسلمين وأموالهم وحقوق الله ولا ينتزع ما بيده من أموالهم التي غنمها منهم لم يؤاخذ أيضا بما أسلفه من سب وغيره فهذا وجه العفو عن هؤلاء. وهذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس أصحابه على عهده وبعد عهده يقصدون قتل الساب ويحرضون عليه وإن أمسكوا عن غيره ويجعلون ذلك هو الموجب لقتله ويبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال: "سبني وسب أبي وأمي وكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم حمل عليه حتى قتل وحديث الذي قتل أباه لما سمعه يسب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأنصاري الذي نذر أن يقتل العصماء فقتلها وحديث الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح وكف النبي صلى الله عليه وسلم عن مبايعته ليوفي بنذره.

وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال: أي عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا قال: فتعجبت لذلك قال وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت لهما: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: " أيكما قتله؟ " فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال: "هل مسحتما سيفيكما" فقالا: لا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله " وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان: معاذ ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. والقصة مشهورة في فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسجوده شكرا وقوله: " هذا فرعون هذه الأمة " هذا مع نهيه عن قتل أبي البختري ابن هشام مع كونه كافرا غير ذي عهد لكفه عنه وإحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور ومع قوله: " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى يعني الأسرى لأطلقتهم له " يكافئ المطعم بإجارته له بمكة والمطعم كافر غير معاهد فعلم أن مؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين إهلاكه والانتقام منه بخلاف الكاف عنه وإن اشتراكا في الكفر كما كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه وإن كان كافرا.

يؤيد ذلك أن أبا لهب كان له من القرابة ما له فلما آذاه وتخلف عن بني هاشم في نصره نزل القرآن فيه بما نزل من اللعنة والوعيد باسمه خزيا لم يفعل بغيره من الكافرين كما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما كان أبو لهب إلا من كفار قومه حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا فظاهرهم فسبه الله وبنو المطلب مع مساواتهم لعبد شمس ونوفل في النسب لما أعانوه ونصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى وأبو طالب لما أعانه ونصره وذب عنه خفف عنه العذاب فهو من أخف أهل النار عذابا". وقد روي أن أبا لهب يسقى في نقرة الإبهام لعتقه ثويبة إذ بشرته بولادته. ومن سنة الله أن من لم يمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه كما قدمنا بعض ذلك في قصة الكاتب المفترى وكما قال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} . والقصة في إهلاك الله واحدا واحدا من هؤلاء المستهزئين معروفة قد ذكرها أهل السير والتفسير وهم على ما قيل نفر من رؤوس قريش منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسودان ابن المطلب وابن عبد يغوث والحارث بن قيس. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يسلم لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم رسوله فثبت ملكه فيقال: إن الملك باق في ذريته إلى اليوم وكسرى مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله الله بعد قليل ومزق ملكه كل ممزق ولم يبق للأكاسرة ملك

وهذا والله أعلم تحقيق لقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} فكل من شنأه أو أبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره وقد قيل: إنها نزلت في العاص بن وائل أو في عقبة بن أبي معيط أو في كعب بن الأشرف وقد رأيت صنيع الله بهم. ومن الكلام السائر "لحوم العلماء مسمومة" فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " فكيف بمن عادى الأنبياء؟ ومن حارب الله تعالى حرب وإذا استقصيت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة وباءوا بغضب من الله ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموما إلى كفرهم كما ذكر الله ذلك في كتابه ولعلك لا تجد أحدا آذى نبيا من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولا بد أن تصيبه قارعة وقد ذكرنا ما جر به المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة وهذا باب واسع لا يحاط به ولم نقصد قصده هنا وإنما قصدنا بيان الحكم الشرعي. وكان سبحانه يحميه ويصرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق حتى في اللفظ ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما ويلعنون مذمما وأنا محمد " فنزه الله اسمه ونعته عن الأذى وصرف ذلك إلى من هو مذمم وإن كان المؤذي إنما قصد عينه.

فإذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وغير ذلك أن الساب للرسول يتعين قتله فنقول: إنما يكون تعين قتله لكونه كافرا حربيا أو للسبب المضموم إلى ذلك والأول باطل لأن الأحاديث نص في أنه لم يقتل لمجرد كونه كافرا حربيا بل عامتها قد نص فيه على أن موجب قتله إنما هو السب فنقول: إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك المسلم والذمي أولى لأن الموجب للقتل هو السب لا مجرد الكفر والمحاربة كما تبين فحيثما وجد هذا الموجب وجب القتل وذلك لأن الكفر مبيح للدم لا موجب لقتل الكافر بكل حال فإنه يجوز أمانه ومهادنته والمن عليه ومفاداته لكن إذا صار للكافر عهد عصم العهد دمه الذي أباحه الكفر فهذا هو الفرق بين الحربي والذمي فأما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد. وقد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يأمر بقتل الساب لأجل السب فقط" لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه فإذا وجد هذا السب وهو موجب للقتل والعهد لم يعصم من موجبه تعين القتل ولأن أكثر ما في ذلك أنه كافر حربيا سابا والمسلم إذا سب يصير مرتدا سابا وقتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي والذمي إذا سب فإنه يصير كافرا محاربا سابا بعد عهد متقدم وقتل مثل هذا أغلظ. وأيضا فإن الذمي لم يعاهد على إظهار السب بالإجماع ولهذا إذا أظهره فإنه يعاقب عليه بإجماع المسلمين إما بالقتل أو بالتعزير وهو لا يعاقب على فعل شيء مما عوهد عليه وإن كان كفرا غليظا ولا يجوز أن يعاقب على فعل شيء قد عوهد على فعله وإذا لم يكن العهد مسوغا

لفعله وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقتل لأجله فيكون قد فعل ما يقتل لأجله وهو غير مقر عليه بالعهد ومثل هذا يجب قتله بلا تردد. وهذا التوجيه يقتضي قتله سواء قدر أنه نقض العهد أو لم ينقضه لأن موجبات القتل التي لم نقره على فعلها يقتل بها وإن قيل لا ينتقض عهده كالزنا بذمية وكقطع الطريق على ذمي وكقتل ذمي وكما فعل هذه الأشياء مع المسلمين وقلنا إن عهده لا ينتقض فإنه يقتل. وأيضا فإن المسلم قد امتنع من السب بما أظهره من الإيمان والذمي قد امتنع منه بما أظهره من الذمة والتزام الصغار ولو لم يكن ممتنعا منه بالصغار لما جاز عقوبته بتعزير ولا غيره إذا فعله فإذا قتل لأجل السب الكافر الذي يستحله ظاهرا وباطنا ولم يعاهدنا عهدا يقتضي تركه فلأن يقتل لأجله من التزم أن لا يظهره وعاهدنا على ذلك أولى وأحرى. وأيضا فقد تبين بما ذكرناه من هذه الأحاديث أن الساب يجب قتله فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الساب في مواضع والأمر يقضي الوجوب ولم يبلغه عن أحد السب إلا ندر دمه وكذلك أصحابه هذا مع ما قد كان يمكنه من العفو عنه فحيث لا يمكنه العفو عنه يجب أن يكون قتل الساب أوكد والحرص عليه أشد وهذا الفعل منه هو نوع من الجهاد والإغلاظ على الكافرين والمنافقين وإظهار دين الله وإعلاء كلمته ومعلوم أن هذا واجب فعلم أن قتل الساب واجب في الجملة وحيث جاز العفو له صلى الله عليه وسلم فإنما هو فيمن كان مقدورا عليه من مظهر الإسلام مطيع له أو ممن جاءه مستسلما أما الممتنعون فلم يعف عن أحد منهم ولا يرد على هذا أن بعض الصحابة آمن إحدى القينتين وبعضهم آمن ابن أبي سرح لأن

هذين كانا مستسلمين مريدين للإسلام والتوبة ومن كان كذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم له أن يعفو عنه فلم يتعين قتله فإذا ثبت أن الساب كان قتله واجبا والكافر الحربي الذي لم يسب لا يجب قتله بل يجوز قتله فمعلوم أن الذمة لا تعصم دم من يجب قتله وإنما تعصم دم من يجوز قتله ألا ترى أن المرتد لا ذمة له وأن القاطع والزاني لما وجب قتلهما لم تمنع الذمة قتلهما. وأيضا فلا مزية للذمي على الحربي إلا بالعهد والعهد لم يبح له إظهار السب بالإجماع فيكون الذمي قد شرك الحربي في إظهار السب الموجب للقتل وما اختص به من العهد لم يبح له إظهار السب فيكون قد أتى بما يوجب القتل وهو لم يقر عليه فيجب قتله بالضرورة. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من كان يسبه مع أمانه لمن كان يحاربه بنفسه وماله فعلم أن السب أشد من المحاربة أو مثلها والذمي إذا حارب قتل فإذا سب قتل بطريق الأولى. وأيضا فإن الذمي وإن كان معصوما بالعهد فهو ممنوع بهذا العهد من إظهار السب والحربي ليس له عهد يعصمه ولا يمنعه فيكون الذمي من جهة كونه ممنوعا أسوأ حالا من الحربي وأشد عداوة وأعظم جرما وأولى بالنكال والعقوبة التي يعاقب بها الحربي على السب والعهد الذي عصمه لم يف بموجبه فلا ينفعه لأنا إنما نستقيم له ما استقام لنا وهو لم يستقم بالاتفاق وكذلك يعاقب والعهد يعصم دمه وبشره إلا بحق فلما جازت عقوبته بالاتفاق علم أنه قد أاتى ما يوجب العقوبة. وقد ثبت بالسنة أن عقوبة هذا الذنب القتل وسر الاستدلال بهذه الأحاديث أنه لا يقتل الذمي لمجرد كون عهده قد انتقض فإن مجرد نقض

العهد يجعله ككافر لا عهد له وقد ثبت بهذه السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد وإنما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزما للكفر والعداوة والمحاربة وهذا القدر موجب للقتل حيث كان وسيأتي الكلام إن شاء الله على تعين قتله. السنة الثالثة عشرة: ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم [بلغه أن رجلا قال لقوم: إن النبي صلى الله عليه وسلم] "أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم كذا وكذا" وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذب عدو الله" ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا فاقتله وإن أنت وجدته ميتا فحرقه بالنار فانطلق فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ". ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل قال: ثنا الحسن بن محمد بن عنبر ثنا حجاج بن يوسف الشاعر ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه فأتاهم وعليه حلة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذب عدو الله" ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا وما أراك تجده حيا فاضرب عنقه وإن

وجدته ميتا فاحرقه بالنار قال: فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة. وله شاهد من وجه آخر رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتاب الجليس قال: ثنا أبو حامد الحصري ثنا السري ابن مرثد الخراساني ثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري ثنا داود ابن الزبرقان قال: أخبرني عطاء بن السائب عن عبد الله بن الزبير أنه قال يوما لأصحابه: أتدرون ما تأويل هذا الحديث: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "؟ قال: كان رجل عشق امرأة فأتى أهلها مساء فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إليكم أن أتضيف في أي بيوتكم شئت قال: وكان ينتظر بيتوتة المساء قال: فأتى رجل منهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا أتانا يزعم أنك أمرته أن يبيت في أي بيوتنا شاء فقال: "كذب يا فلان انطلق معه فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه واحرقه بالنار ولا أراك إلا قد كفيته " فلما خرج الرسول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوه" فلما جاء قال: " إني كنت أمرتك أن تضرب عنقه وأن تحرقه بالنار فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرقه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار ولا أراك إلا قد كفيته " فحانت السماء بصيب فخرج الرجل يتوضأ فلسعته أفعى فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هو في النار ".

وقد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن أسامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " وذلك أنه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض. وروي أن رجلا كذب عليه فبعث عليا والزبير إليه ليقتلاه. وللناس في هذا الحديث قولان: أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبا الفضل الهمداني: "مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله والملحدون كالمحاصربن من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له". ووجه هذا القول أن الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال: " إن كذبا علي ليس ككذب على أحدكم " فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب إتباعه كوجوب إتباع أمر الله وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به. ومن كذبه في خبره أو امتنع من التزام أمره ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبرا كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم فكذلك من تعمد الكذب على رسوله

ويبين ذلك أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثما من المكذب له ولهذا بدأ الله به كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره فإذا كان الكاذب مثل المكذب أو أعظم والكاذب على الله كالمكذب له فالكاذب على الرسول كالمكذب له. يوضح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق وذلك إبطال لدين الله ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار وإنما صار كافرا لما يتضمنه من إبطال رسالة الله ودينه والكاذب عليه يدخل في دينه ما ليس منه عمدا ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر لأنه دين الله مع العلم بأنه ليس لله بدين. والزيادة في الدين كالنقص منه ولا فرق بين من يكذب بآية من القرآن أو يضيف كلاما يزعم أنه سورة من القرآن عامدا لذلك. وأيضا فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به بل وقد لا يجوز الأمر بها وهذه نسبة له إلى السفه أو أنه يخبر بأشياء باطلة وهذه نسبة له إلى الكذب وهو كفر صريح. وأيضا فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان

أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك أو أنه حرم الخبز واللحم عالما بكذب نفسه كفر بالاتفاق. فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب شيئا لم يوجبه أو حرم شيئا لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول وزاد عليه بأن صرح بأن الرسول قال ذلك وأنه أعنى القائل لم يقله اجتهادا واستنباطا. وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالا وليس يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه فإنه مستخف به مستهين بحقه. وأيضا فإن الكاذب عليه لا بد أن يشينه بالكذب عليه وينقصه بذلك ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله: "كان يتعلم مني" أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة كفر بذلك فكذلك الكاذب عليه لأنه إما أن يأثر عنه أمرا أو خبرا أو فعلا فإن أثر عنه أمرا لم يأمر به فقد زاد في شريعته وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به لأنه لو كان كذلك لأمر به صلى الله عليه وسلم لقوله: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أمرتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا نهيتكم عنه " فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه فمن روى عنه أنه قد أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به وذلك نسبة له إلى السفه. وكذلك أن يقل عنه خبرا فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الإخبار به لأخبر به لأن الله تعالى قد أكمل الدين فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له أن يخبر به وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذبا فيه لو كان مما ينبغي فعله ويترجع لفعله فإذا لم يفعله فتركه أولى.

فحاصله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في جميع أحواله فما تركه من القول والفعل فتركه أكمل من فعله وما فعله ففعله أكمل من تركه فإذا كذب الرجل عليه متعمدا أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه إذ لو كان كمالا لوجد منه ومن انتقص الرسول فقد كفر. واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة وبين الذي يكذب عليه بواسطة مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فهذا إنما كذب علي ذلك الرجل ونسب إليه ذلك الحديث فأما إن قال: "هذا حديث صحيح" أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالما بأنه كذب فهذا قد كذب عليه أما إذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر لا سيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم. فالكذب لو وقع من أحد ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين فأراد صلى الله عليه وسلم قتل من كذب عليه وعجل عقوبته ليكون ذلك عاصما من أن يدخل في العدول من ليس منهم المنافقين ونحوهم. وأما من روى حديثا يعلم أنه كذب فهذا حرام كما صح عنه أنه قال: " من روى عني حديثا يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين " لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر لأنه صادق في أن شيخه حدثه به لكن لعلمه بأن شيخه كذب فيه لم تكن تحل له الرواية فصار بمنزلة أن يشهد على إقرار أو شهادة أو عقد وهو يعلم أن ذلك باطل فإن هذه الشهادة حرام لكنه ليس بشاهد زور. وعلى هذا القول فمن سبه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه فإن الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه وهذا قد طعن في الدين بالكلية وحينئذ

فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة فكذلك الساب له أولى. فإن قيل: الكذب عليه فيه مفسدة وهو أن يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه أو ينتقص منه ما هو منه والطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما أظهر الله من آيات النبوة. قيل: والمحدث عنه لا يقبل خبره إن لم يكن عدلا ضابطا فليس كل من حدث عنه قبل خبره لكن قد يظن عدلا وليس كذلك والطاعن عليه قد يؤثر طعنه في نفوس كثير من الناس ويسقط حرمته من كثير من القلوب فهو أوكد على أن الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب والصدق. القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلظ عقوبته لكن لا يكفر ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمنا لعيب ظاهر فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاما يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهرا ولا ريب أنه كافر حلال الدم. وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقا فقتله لذلك لا للكذب. وهذا الجواب ليس بشيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من سننه أنه يقتل أحد من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلا بمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمى خلقا

من المنافقين لحذيفة وغيره ولم يقتل منهم أحدا. وأيضا فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي صلى الله عليه وسلم كذبا له فيه غرض وعليه رتب القتل فلا تجوز إضافة القتل إلى سبب آخر. وأيضا فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار. وأيضا فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسبب ماض فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق والمنافق كافر وإذا كان النفاق متقدما وهو المقتضي للقتل لا غيره فعلام يؤخر الأمر بقتله إلى هذا الحين؟ وعلام لم يؤاخذه الله تعالى بذلك النفاق حتى فعل ما فعل. وأيضا فإن القوم أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فقال: "كذب عدو الله" ثم أمر بقتله إن وجده حيا ثم قال: "ما أراك تجده حيا" لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة. والنبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وصف له صالح لترتب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء ولا غيره كما أن الأعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة ولما أقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنا أمر بالرجم وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها وهو نوع من تنقيح المناط فأما أن يجعل ذلك الفعل عديم التأثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر وهذا فاسد بالضرورة لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو أن هذا الرجل كذب على

النبي صلى الله عليه وسلم كذبا يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكمه في دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكما في الدماء والأموال. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلل الحرام ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خاليا بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين وهذا طعن على النبي صلى الله عليه وسلم وعيب له وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة وهو المقصود في هذا المكان فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين. ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به والأغراض في الغالب إما مال أو شرف كما أن المسيء إنما يقصد إذا لم يقصد مجرد الإضلال إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة وبالجملة فمن قال أو فعل

ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله. السنة الرابعة عشرة: حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه: ما أحسنت ولا أجملت فأراد المسلمون قتله ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار " وسيأتي ذكره في ضمن الأحاديث المتضمنة لعفوه عمن آذاه فإن هذا الحديث يدل على أن من آذاه إذا قتل دخل النار وذلك دليل على كفره وجواز قتله وإلا كان يكون شهيدا وكان قاتله من أهل النار وإنما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عنه ثم استرضاه بعد ذلك حتى رضي لأنه كان له أن يعفو عمن آذاه كما سيأتي إن شاء الله. ومن هذا الباب: أن الرجل الذي قاله له لما قسم غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فقال عمر: "دعني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقتل هذا المنافق" فقال: " معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي " ثم أخبر أنه يخرج من ضئضه أقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وذكر حديث الخوارج رواه مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عمر من قتله إلا لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولم يمنعه لكونه في نفسه معصوما كما قال في حديث حاطب بن أبي بلتعة فإنه لما قال: "ما فعلت ذلك كفرا ولا رغبة عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه قد صدقكم " فقال عمر: "دعني أضرب عنق هذا المنافق" فقال: " إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل

الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فبين صلى الله عليه وسلم أنه باق على إيمانه وأنه صدر منه ما يغفر له به الذنوب فعلم أن دمه معصوم وهنا علل بمفسدة زالت. فعلم أن قتل مثل هذا القائل إذا أمنت هذه المفسدة جائز وكذلك لما أمنت هذه المفسدة أنزل الله قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} بعد أن كان قد قال له: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} قال زيد بن أسلم: "قوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} نسخت ما كان قبلها". ومما يشبه هذا أن عبد الله بن أبيّ لما قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} وقال: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} استأمر عمر في قتله فقال: "إذن ترعد له أنوف كثيرة بالمدينة" وقال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " والقصة مشهورة وهي في الصحيحين وستأتي إن شاء الله تعالى. فعلم أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام جاز قتله كذلك مع القدرة وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله لما خيف في قتله من نفور الناس عن الإسلام لما كان ضعيفا. ومن هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: " من يعذرني

في رجل بلغني أذاه في أهلي " قال له سعد بن معاذ: "أنا أعذرك إن كان من الأوس ضربت عنقه" والقصة مشهورة فلما لم ينكر ذلك عليه دل على أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه يجوز ضرب عنقه والفرق بين ابن أبيّ وغيره ممن تكلم في شأن عائشة أنه كان يقصد بالكلام فيها عيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن عليه وإلحاق العار به ويتكلم بكلام ينتقصه به فلذلك قالوا نقتله بخلاف حسان ومسطح وحمنة فإنهم لم يقصدوا ذلك ولم يتكلموا بما يدل على ذلك ولهذا إنما استعذر النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أبيّ دون غيره ولأجله خطب الناس حتى كاد الحيان يقتتلون. الحديث الخامس عشر: قال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه: حدثني أبي عن المجالد بن سعيد عن الشعبي قال: "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا بمال العزى فنثره بين يديه ثم دعا رجلا قد سماه فأعطاه منها ثم دعا أبا سفيان بن حرب فأعطاه منها ثم دعا سعد ابن حريث فأعطاه منها ثم دعا رهطا من قريش فأعطاهم فجعل يعطي الرجل القطعة من الذهب فيها خمسون مثقالا وسبعون مثقالا ونحو ذلك فقام رجل فقال: إنك لبصير حيث تضع التبر ثم قام الثانية فقال مثل ذلك فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام الثالثة فقال: إنك لتحكم وما نرى عدلا قال: "ويحك إذا لا يعدل أحد بعدي " ثم دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال: "اذهب فاقتله" فذهب فلم يجده فقال: " لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم ".

فهذا الحديث نص في قتل مثل هذا الطاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير استتابة وليست هي قصة قسم غنائم حنين ولا قسم التبر الذي بعث به علي من اليمن بل هذه القصة قبل ذلك في قسم مال العزى وكان هدم العزى قبل الفتح في أواخر شهر رمضان سنة ثمان وغنائم حنين قسمت بعد ذلك بالجعرانة في ذي القعدة وحديث علي في سنة عشر. وهذا الحديث مرسل ومخرجه عن مجالد وفيه لين لكن له ما يؤيد معناه فإنه قد تقدم أن عمر قتل الرجل الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بإقراره على ذلك وجرمه أسهل من جرم هذا. وأيضا فإن في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الذي لمزه في قسمة الذهيبة التي أرسل بها علي من اليمن وقال: " يا رسول الله اتق الله" أنه قال: "أنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ". وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة ".

وروى النسائي عن أبي برزة قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئا فقام رجل من وراءه فقال: يا محمد ما عدلت في القسمة رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال: " والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني" ثم قال: "يخرج في آخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة ". فهذه الأحاديث كلها دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل طائفة هذا الرجل العائب عليه وأخبر أن في قتلهم أجرا لمن قتلهم وقال: "لئن أدركتم لأقتلنهم قتل عاد" وذكر أنهم شر الخلق والخليقة. وفيما رواه الترمذي وغيره عن أبي أمامة أنه قال: "هم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه" وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك مرات متعددة وتلا فيهم قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وقال: "هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم" وتلا فيهم قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وقال: "زاغوا فزيغ بهم" ولا يجوز أن يكون أمر بقتلهم لمجرد قتالهم الناس كما يقاتل الصائل من قاطع الطريق ونحوه وكما يقاتل البغاة لأن أولئك إنما يشرع قتالهم حتى تنكسر شوكتهم ويكفوا عن الفساد ويدخلوا في الطاعة ولا يقتلون أينما لقوا ولا يقتلون قتل عاد وليسوا شر قتلى تحت أديم السماء ولا يؤمر بقتلهم وإنما يؤمر في آخر الأمر بقتالهم فعلم أن هؤلاء أوجب قتلهم مروقهم من الدين لما غلوا فيه حتى مرقوا منه كما دل عليه قوله في حديث علي: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم" فرتب الأمر بالقتل على مروقهم فعلم أنه الموجب له ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الطائفة الخارجة وقال: "لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم علي لسان محمد لنكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعيرات بيض" وقال: " إنهم يخرجون على خير فرقة من الناس يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق " وهذا كله في الصحيح فثبت أن قتلهم لخصوص صفتهم لا لعموم كونهم بغاة أو محاربين وهذا القدر موجود في الواحد منهم كوجوده في العدد منهم وإنما لم يقتلهم علي رضي الله عنه أول ما ظهروا لأنه لم يبن له أنهم الطائفة المنعوتة حتى سفكوا دم ابن خباب وأغاروا على سرح الناس فظهر فيهم قوله: " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " فعلم أنهم المارقون ولأنه لو قتلهم قبل المحاربة لربما غضبت لهم قبائلهم وتفرقوا على علي رضي الله عنه وقد كان حاجته إلى مداراة عسكره واستئلافهم

كحال النبي صلى الله عليه وسلم في حاجته في أول الأمر إلى استئلاف المنافقين. وأيضا فإن القوم لم يعترضوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل كانوا يعظمونه ويعظمون أبا بكر وعمر ولكن غلوا في الدين غلوا جازوا به حده لنقص عقولهم فصاروا كما تأوله علي فيهم من قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} . وأوجب ذلك لهم عقائد فاسدة ترتب عليها أفعال منكرة كفرهم بها كثير من الأمة وتوقف فيها آخرون فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الطاعن عليه في القسمة الناسب له عدم العدل بجهله وغلوه وظنه أن العدل هو ما يعتقده من التسوية بين جميع الناس دون النظر إلى ما في تخصيص بعض الناس وتفضيله من مصلحة التأليف وغيرها من المصالح علم أن هذا أول أولئك فإنه إذا طعن عليه في وجهه على سنته فهو يكون بعد موته وعلى خلفائه أشد طعنا. وقد حكى أرباب المقالات عن الخوارج أنهم يجوزون على الأنبياء الكبائر ولهذا لا يلتفتون إلى السنة المخالفة في رأيهم لظاهر القرآن وإن كانت متواترة فلا يرجمون الزاني ويقطعون يد السارق فيما قل أو كثر زعما منهم على ما قيل أن لا حجة إلا القرآن وأن السنة الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليست حجة بناء على ذلك الأصل الفاسد

قال من حكى ذلك عنهم: إنهم لا يطعنون في النقل لتواتر ذلك وإنما يبنونه على هذا الأصل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم: "إنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" يتأولونه برأيهم من غير استدلال على معانيه بالسنة وهم لا يفهمونه بقلوبهم إنما يتلونه بألسنتهم والتحقيق أنهم أصناف مختلفة فهذا رأي طائفة منهم وطائفة قد يكذبون النقلة وطائفة لم يسمعوا ذلك ولم يطلبوا علمه وطائفة يزعمون أن ما ليس له ذكر في القرآن بصريحه ليس حجة على الخلق: إما لكونه منسوخا أو مخصوصا بالرسول أو غير ذلك وكذلك ما ذكر من تجويزهم الكبائر فأظنه والله أعلم قول طائفة منهم وعلى كل حال فمن كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم جائر في قسمه يقول إنه يفعلها بأمر الله فهو مكذب له ومن زعم أن يجور في حكم أو قسمة فقد زعم أنه جائر وأن إتباعه لا يجب وهو مناقض لما تضمنته الرسالة من أمانته ووجوب طاعته وزوال الحرج عن الجنس من قضائه بقوله وفعله فإنه قد بلغ عن الله أنه أوجب طاعته والانقياد لحكمه وأنه لا يحيف على أحد فم طعن في هذا فقد طعن في صحة تبليغه وذلك طعن في نفس الرسالة وبهذا يتبين صحة رواية من روى الحديث "ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" لأن هذا الطاعن يقول: أنه رسول الله وأنه يجب عليه تصديقه وطاعته فإذا قال إنه لم يعدل فقد لزم أنه صدق غير عدل ولا أمين ومن اتبع مثل ذلك فهو خائب خاسر كما وصفهم الله بأنهم من الأخسرين أعمالا وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا ولأنه من لم يؤتمن على المال يؤتمن على ما هو أعظم منه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء " وقال صلى الله عليه وسلم لما قال له اتق الله: "أولست

أحق أهل الأرض أن يتق الله" وذلك لأن الله قال فيما بلغه إليهم الرسول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} بعد قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآية فبين سبحانه أنه ما نهى عنه من مال الفيء فعلينا أن ننتهي عنه فيجب أن يكون أحق أهل الأرض أن يتق الله إذ لولا ذلك لكانت الطاعة له ولغيره إن تساويا أو لغيره دونه إن كان دونه وهذا كفر بما جاء به وهذا ظاهر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "شر الخلق والخليقة" وقوله: "شر قتلى تحت أديم السماء" نص في أنهم من المنافقين لأن المنافقين أسوأ حالا من الكفار كما ذكر أن قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات} نزلت فيهم. وكذلك في حديث أبي أمامة أن قوله تعالى {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} نزلت فيهم هذا مما لا خلاف فيه إذا صرحوا بالطعن في الرسول والعيب عليه كفعل أولئك اللامزين له. فإذا ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من كان من جنس ذلك الرجل الذي لمزه أينما لقوا وأخبر أنهم شر الخليقة وثبت أنهم من المنافقين كان ذلك دليلا على صحة معنى حديث الشعبي في استحقاق أصلهم للقتل. يبقى أن يقال: ففي الأحاديث الصحيحة أنه نهى عن قتل ذلك اللامز. فنقول: حديث الشعبي هو أول ظهور هؤلاء كما تقدم فالأشبه والله

أعلم أن يكون أمر بقتله أولا طمعا في انقطاع أمرهم وإن كان قد كان يعفو عن أكثر المنافقين لأنه خاف من هذا انتشار الفساد من بعده على الأمة ولهذا قال: "لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم" وكان ما يحصل لقتله من المصلحة العظيمة أعظم مما يخاف من نفور بعض الناس بقتله فلما لم يوجد وتعذر قتله ومع النبي صلى الله عليه وسلم بما أوحاه الله إليه من العلم ما فضله الله به فكأنه علم أنه لا بد من خروجهم أنه لا مطمع في استئصالهم كما أنه لما علم أن الدجال خارج لا محالة نهى عمر عن قتل ابن صياد وقال: "إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله" فكان هذا مما أوجب نهيه بعد ذلك عن قتل ذي الخويصرة لما لمزه في غنائم حنين وكذلك لما قال عمر: "ائذن لي فاضرب عنقه" قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" إلى قوله: "يخرجون على حين فرقة من الناس " فأمر بتركه لأجل أن له أصحابا خارجين بعد ذلك فظهر أن علمه بأنهم لا بد أن يخرجوا منعه من أن يقتل منهم أحدا فيتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه الذين يصلون معه وتنفر بذلك عن الإسلام قلوب كثيرة من غير مصلحة تعمر هذه المفسدة هذا مع أنه كان له أن يعفو عمن آذاه مطلقا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يتبين سبب كونه في بعض الحديث يعلل بأنه يصلي وفي بعضه بأن لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وفي بعضه بأن له أصحابا سيخرجون وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بعض هذه الأحاديث وإن كان هذا الموضع خليقا بها أيضا. فثبت أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه أو قسمه فإنه يجب

قتله كما أمر به في حياته وبعد موته وأنه إنما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد. ومما يشهد لمعنى هذا الحديث قول أبو بكر رضي الله عنه في الحديث المشهور لما أراد أبو برزة أن يقتل الرجل الذي أغلظ لأبي بكر وتغيظ عليه أبو بكر وقال له أبو برزة أقتله فقال أبو بكر: "ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل أحدا" فإن هذا كما تقدم من دليل على أن الصديق علم أن النبي صلى الله عليه وسلم يطاع أمره في قتل من أمر بقتله ممن أغضب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان في حديث الشعبي أنه أمر أبا بكر بقتل ذلك الذي لمزه حتى أغضبه كانت هذه القصة بمنزلة العمدة لقول الصديق وكان قول صديق رضي الله عنه دليلا على صحة معناها. ومما يدل على أنهم كانوا يرون قتل من علموا أنه من أولئك الخوارج وإن كان منفردا حديث صبيغ بن عسل وهو مشهور قال أبو عثمان النهدي: "سأل رجل من بني يربوع أو من بني تميم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات والمرسلات والنازعات أو عن بعضهن فقال عمر: ضع عن رأسك فإذا له وفرة فقال عمر: أما والله لو رأيتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ثم قال: ثم كتب إلى أهل البصرة أو قال إلينا أن لا تجالسوه قال: فلو جاء ونحن مئة تفرقنا" رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح

فهذا عمر يحالف بين المهاجرين والأنصار أنه لو رأى العلامة التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج لضرب عنقه مع أنه هو الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل ذي الخويصرة فعلم أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" القتل مطلقا وأن العفو عن ذلك كان في حال الضعف والاستئلاف. فإن قيل: فما الفرق بين قول هؤلاء اللامزين في كونه نفاقا موجبا للكفر وحل الدم حتى صار جنس هذا القائل شر الخلق وبين ما ذكر من موجدة قريش والأنصار؟. ففي حديث أبي سعيد الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم الذهيبة بين أربعة غضبت قريش والأنصار وقالوا: تعطيه صناديد أهل نجد وتدعنا؟ فقال: "إنما أتألفهم" فأقبل رجل غائر العينين وذكر حديث اللامز. وفي رواية لمسلم: فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء " فقام رجل غائر العينين. وذكر موجدة الأنصار في غنائم حنين فعن أنس بن مالك أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا: "يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ " وفي رواية: لما فتحت مكة قسم الغنائم في قريش فقالت الأنصار: "إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم

وإن غنائمنا ترد عليهم" وفي رواية: فقال الأنصار: "إذا كانت الشدة فنحن ندعى ويعطى الغنائم غيرنا" قال أنس: فحدثت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا قال: "فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض" قالوا: "سنصبر ". قيل: إن أحدا من المؤمنين من قريش والأنصار وغيرهم لم يكن في شيء من كلامه تجوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجويز ذلك عليه ولا اتهام له أنه حابى في القسمة لهوى النفس وطلب الملك ولا نسبة له إلى أنه لم يرد بالقسمة وجه الله تعالى ونحو ذلك مما جاء مثله في كلام المنافقين. وذوو الرأي من القبيلتين وهم الجمهور لم يتكلموا بشيء أصلا بل قد رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا: "حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله" كما قالت فقهاء الأنصار: "أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئا" وأما الذين تكلموا من أحداث الأسنان ونحوهم فرأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يقسم المال لمصالح الإسلام ولا يضعه في محل إلا لأن وضعه فيه أولى من وضعه في غيره هذا مما لا يشكون فيه.

وكان العلم بجهة المصلحة قد تنال بالوحي وقد تنال بالاجتهاد ولم يكونوا علموا أن ذلك مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه بوحي من الله فإن من كره ذلك أو اعترض عليه بعد أن يقول ذلك فهو كافر مكذب. وجوزوا أن يكون قسمه اجتهادا وكانوا يراجعونه بالاجتهاد في الأمور الدنيوية المتعلقة بمصالح الدين وهو باب يجوز له العمل فيه باجتهاده باتفاق الأمة وربما سألوه عن الأمر لا لمراجعته فيه لكن ليتثبتوا وجهه ويتفقهوا في سننه ويعلموا علته. وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو هذين الوجهين: إما لتكميل نظره صلى الله عليه وسلم في ذلك إن كان من الأمور السياسة التي للاجتهاد فيها مساغ أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر ويزدادوا علما وإيمانا وينفتح لهم طريق التفقه فيه. فالأول كمراجعة الحباب بن المنذر له لما نزل ببدر منزلا قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتعداه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة" فقال: إن هذا ليس بمنزل قتال فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه وتحول إلى غيره. وكذلك أيضا لما عزم أن يصالح غطفان عام الخندق على نصف تمر المدينة ثم جاء سعد بن معاذ في طائفة من الأنصار فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هذا الذي تعطيهم أشيء من الله أمرك فسمع وطاعة لله ولرسوله أم شيء من قبل رأيك؟ قال: " لا بل من قبل رأيي أني رأيت القوم أعطوا الأموال فجمعوا لكم ما رأيتم من القبائل وإنما أنتم قبيل

واحد فأردت أن أدفع بعضهم ونعطيهم شيئا وننصب لبعض أشتري بذلك ما قد نزل بكم معشر الأنصار " فقال سعد: والله يا رسول الله لقد كنا في الشرك وما يطمعون منا في أخذ النصف أو كما قال وفي رواية: ما يأكلون منها تمرة إلا بشرى أو قرى فكيف اليوم والله معنا وأنت بين أظهرنا لا نعطيهم ولا كرامة لهم ثم تناول الصحيفة فتفل فيها ثم رمى بها. وما كان من قبل الرأي والظن في الدنيا فقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التلقيح: " ما أظن يعني ذلك شيئا إنما ظننت فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به فإني لن أكذب على الله " رواه مسلم. وفي حديث آخر: "أنتم أعلم بأمر دنياكم فما كان من أمر دينكم فإليّ ". ومن هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فترك رجلا منهم هو أعجبهم إلي فقمت فقلت له: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن فقال: "أو مسلم" ذكر ذلك سعد له ثلاثا وأجابه بمثل ذلك ثم قال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه" متفق عليه. فإنما سأله سعد رضي الله عنه ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الرجل لعله يرى أنه ممن ينبغي إعطاؤه أو ليتبين لسعد وجه تركه مع إعطاء من هو دونه فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن المقدمتين فقال: إن العطاء ليس لمجرد الإيمان بل أعطي وأمنع والذي أترك أحب إلي من الذي أعطيه لأن

الذي أعطيه لو لم أعطه لكفر فأعطيه لأحفظ عليه إيمانه ولا أدخله في زمرة من يعبد الله على حرف والذي أمنعه معه من اليقين والإيمان ما يغنيه عن الدنيا وهو أحب إلي وعندي أفضل وهو يعتصم بحبل الله ورسوله ويعتاض بنصيبه من الدين عن نصيبه من الدنيا كما اعتاض به أبو بكر وغيره وكما اعتاضت الأنصار حين ذهب الطلقاء وأهل نجد بالشاة والبعير وانطلقوا هم برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لو كان العطاء لمجرد الإيمان فمن أين لك أن هذا مؤمن؟ بل يجوز أن يكون مسلما وإن لم يدخل الإيمان في قلبه فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم من سعد بتمييز المؤمن من غيره حيث أمكن التمييز. ومن ذلك أيضا ما ذكره ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث أن قائلا قال: يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة من الإبل مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع ولكني تألفتهما على إسلامهما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ". وقد ذكر بعض أهل المغازي في حديث الأنصار: وددنا أن نعلم من أين هذا إن كان من قبل الله صبرنا وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه. فهذا يبين أن من وجد منهم جوز أن يكون القسم وقع باجتهاد في المصلحة فأحب أن يعلم الوجه الذي أعطى به غيره ومنع هو مع فضله على غيره في الإيمان والجهاد وغير ذلك.

وهذا في بادي الرأي هو الموجب للعطاء وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطيه كما أعطى غيره وهذا معنى قولهم: "استعتبناه" أي طلبنا منه أن يعتبنا أي يزيل عتبنا: إما ببيان الوجه الذي به أعطى غيرنا أو بإعطائنا وقد قال صلى الله عليه وسلم: "" فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذره في ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ما فعل فبين لهم ذلك فلما تبين لهم الأمر بكوا حتى أخضلوا لحاهم ورضوا حق الرضاء والكلام المحكي عنهم يدل على أنهم رأوا القسمة وقعت اجتهادا وأنهم أحق بالمال من غيرهم فتعجبوا من إعطاء غيرهم وأرادوا أن يعلموا هل هو وحي أو اجتهاد يتعين إتباعه لأنه المصلحة أو اجتهاد يمكن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بغيره إلى رأي أنه أصلح وإن كان هذا القسم إنما يمكن فيما لم يستقر أمره ويقره عليه ربه ولهذا قالوا: "يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ " وقالوا: "إن هذا لهو العجب إن سيوفنا لتقطر من دمائهم وإن غنائمنا لترد عليهم" وفي رواية: "إذا كانت الشدة فنحن ندعى ويعطي الغنائم غيرنا". واختلف الناس في العطايا: هل كانت من أصل الغنيمة أو من الخمس؟. فروي عن سعد بن إبراهيم ويعقوب بن عتبة قالا: كانت العطايا فارغة من الغنائم وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ نصيبهم من المغنم لطيب أنفسهم. وقد قيل: إنه أراد أن يقطعهم بدل ذلك قطائع من البحرين فقالوا: لا حتى يقطع إخواننا من المهاجرين مثله ولهذا لما جاء مال البحرين وافوه صلاة الفجر وقال لجابر: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك كذا وكذا لكن لم يستأذنهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل القسم لعلمه بأنهم يرضون

بما يفعل وإذا علم الرجل من حال صديقه أنه تطيب نفسه بما يأخذ من ماله فله أن يأخذ وإن لم يستأذنه نطقا وكان هذا معروفا بين كثير من الصحابة والتابعين كالرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم كبة من شعر فقال: " أما ما كان لي ولبني هاشم فهو لك " وعلى هذا فلا حرج عليهم إذا سألوا نصيبهم. وقال موسى بن إبراهيم عن أبيه: "كانت من الخمس". قال الواقدي: وهو أثبت القولين وعلى هذا فالخمس إما أن يقسمه الإمام باجتهاد كما يقوله مالك أو يقسمه خمسة أقسام كما يقوله الشافعي وأحمد وإذا قسمه خمسة أقسام فإذا لم يوجد يتامى أو مساكين أو ابن سبيل أو استغنوا ردت أنصباؤهم في مصارف سهم الرسول. وقد كان اليتامى والمساكين وأبناء السبيل إذ ذاك مع قلتهم مستغنين بنصيبهم من الزكاة لأنه لما فتحت خيبر واستغنى أكثر المسلمين رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار منائح النخل التي كانوا قد منحوها للمهاجرين فاجتمع للأنصار أموالهم التي كانت والأموال التي غنموها بخيبر وغيرها فصاروا مياسير ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ " فصرف النبي صلى الله عليه وسلم عامة الخمس في مصارف سهم الرسول؟ فإن أولى المصالح تأليف أولئك القوم ومن زعم أن مجرد خمس الخمس قام بجميع ما أعطي المؤلفة فإنه لم يدر كيف القصة ومن له خبرة بالقصة يعلم أن المال لم يكن يحتمل هذا. وقد قيل: إن الإبل كانت أربعة وعشرين ألف بعير والغنم أربعين ألفا أو أقل أو أكثر والورق أربعة آلاف أوقية والغنم كانت تعدل

عشرة منها ببعير فهذا يكون قريبا من ثلاثين ألف بعير فخمس الخمس منه ألف ومئتا بعير وقد قسم في المؤلفة أضعاف ذلك على ما لا خلاف فيه بين أهل العلم. وأما قول بعض قريش والأنصار في الذهيبة التي بعث بها علي من اليمن: أيعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟ فمن هذا الباب أيضا إنما سألوا على هذا الوجه. وها هنا جوابان آخران: الجواب الأول: أن بعض أولئك القائلين قد كان منافقا يجوز قتله مثل الذي سمعه ابن مسعود يقول في غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وكان في ضمن قريش والأنصار منافقون كثيرون فما ذكر من كلمة لا مخرج لها فإنما صدرت من منافق والرجل الذي ذكر عنه أبو سعيد أنه قال: "كنا أحق بهذا من هؤلاء" ولم يسمه منافقا والله أعلم. الجواب الثاني: أن الاعتراض قد يكون ذنبا ومعصية يخاف على صاحبه النفاق وإن لم يكن نفاقا مثل قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} ومثل مراجعتهم له في فسخ الحج إلى العمرة وإبطائهم عن الحل وكذلك كراهتهم للحل عام الحديبية وكراهتهم للصلح ومراجعة من راجع منهم فإن من فعل ذلك فقد أذنب ذنبا كان عليه أن يسغفر الله منه كما أن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته أذنبوا ذنبا

تابوا منه وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} . قال سهل بن حنيف: "اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت". فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين كما صدر عن حاطب التجسس لقريش مع أنها ذنوب ومعاص يجب على صاحبها أن يتوب وهي بمنزلة عصيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يدخل في هذا حديث أبي هريرة في فتح مكة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن " فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أدركته رغبة في قرابته ورأفة في بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لا يخفى علينا فإذا جاء فليس أحدا منا يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته؟ " قالوا: قد كان ذلك قال: "كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم" فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا إلا لظن بالله وبرسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم " رواه مسلم.

وذلك أن الأنصار لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد آمن أهل مكة وأقرهم على أموالهم ودمائهم مع دخوله عليهم عنوة وقهرا وتمكنه من قتلهم وأخذ أموالهم لو شاء خافوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يستوطن مكة ويستبطن قريشا لأن البلد بلده والعشيرة عشيرته وأن يكون نزاع النفس إلى الوطن والأهل يوجب انصرافه عنهم فقال من قال منهم ذلك ولم يقله الفقهاء وأولو الألباب الذين يعلمون أنه لم يكن له سبيل إلى استيطان مكة فقالوا ذلك لا طعنا ولا عيبا ولكن ضنا بالله وبرسوله والله ورسوله قد صدقاهم أنما حملهم على ذلك الضن بالله ورسوله وعذراهم فيما قالوا لما رأوا وسمعوا ولأن مفارقة الرسول شديد على مثل أولئك المؤمنين الذين هم شعار وغيرهم دثار والكلمة التي تخرج عن محبة وتعظيم وتشريف وتكريم تغفر لصاحبها بل يحمد عليها وإن كان مثلها لو صدر بدون ذلك استحق صاحبها النكال. وكذلك الفعل ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي بكر حين أراد أن يتأخر عن موقعه في الصلاة لما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم: "مكانك" فتأخر أبو بكر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منعك أن تثبت مكانك وقد أمرتك" فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أبو أيوب الأنصاري لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن ينتقل إلى السفل وأن يصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العلو وشق عليه أن يسكن فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكث في مكانه وذكر له

أن سكناه أسفل أرفق به من أجل دخول الناس عليه فامتنع أبو أيوب من ذلك أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرا له فكلمة الأنصار رضي الله عنهم من هذا الباب. وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام: إحداهن: ما هو كفر مثل قوله: "إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله". الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله مثل رفع الصوت فوق صوته ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبين له الحق وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره. الثالث: ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر: "ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ " وكقول عائشة: "ألم يقل الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه} " وكقول حفصة: "ألم يقل الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} " وكمراجعة الحباب في منزل بدر ومراجعة سعد في صلح غطفان على نصف تمر المدينة ومثل مراجعتهم له لما أمرهم بكسر الآنية التي فيها لحوم الحمر فقالوا: "أو لا نغسلها" فقال: "اغسلوها" وكذلك رد عمر لأبي هريرة لما خرج مبشرا ومراجعته للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وكذلك مراجعته له لما أذن له في نحر الظهر في بعض المغازي وطلبه منه أن يجمع الأزواد ويدعو الله ففعل ما أشار به عمر ونحو ذلك مما فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا ما اتفق ذكره من السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل

من سبه من معاهد وغير معاهد وبعضها نص في المسألة وبعضها ظاهر وبعضها مستنبط مستخرج استنباطا قد يقوى في رأي من فهمه وقد يتوقف عنه من لم يفهمه أو لم يتوجه عنده أو رأى أن الدلالة منه ضعيفة ولن يخفى الحق على من توخاه وقصده ورزقه الله تعالى بصيرة وعلما والله سبحانه وتعالى أعلم. فصل. وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فلأن ذلك نقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض ولم ينكرها أحد منهم فصارت إجماعا. واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسالة فرعية بأبلغ من هذا الطريق. فمن ذلك ما ذكره سيف بن عمر التميمي في كتاب "الردة والفتوح" عن شيوخه قال: "ورفع إلى المهاجر يعني المهاجر بن أبي أمية وكان أميرا على اليمامة ونواحيها امرأتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع يدها ونزع ثنيتيها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيتيها فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر". وكتب إليه أبو بكر في التي تغنت في بهجاء المسلمين: "أما بعد فإنه بلغني أنك قطعت يد امرأة في أن تغنت بهجاء المسلمين ونزعت ثنيتيها فإن كانت ممن تدعي الإسلام فأدب وتقدمة دون المثلة وإن كانت ذمية فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم ولو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت

مكروهك فاقبل الدعة وإياك في المثلة في الناس فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص. وقد ذكر هذه القصة غير سيف وهذا يوافق ما تقدم عنه أن من شتم النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وليس ذلك لأحد بعده وهو صريح في وجوب قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم ومعاهد وإن كان امرأة وأنه يقتل بدون استتابة بخلاف من سب الناس وأن قتله حد للأنبياء كما جلد من سب غيرهم حد له وإنما لم يأمر أبو بكر بقتل تلك المرأة لأن المهاجر سبق منه فيها حد باجتهاده فكره أبو بكر أن يجمع عليها حدين مع أنه لعلها أسلمت أو تابت فقبل المهاجر توبتها قبل كتاب أبي بكر وهو محل اجتهاد سبق منه فيه حكم فلم يغيره لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وكلامه يدل على أنه إنما منعه من قتلها ما سبق من المهاجر. وروى حرب في مسائله عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: أتي عمر برجل سب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ثم قال عمر: "من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه" قال ليث: وحدثني مجاهد عن ابن عباس قال: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل وأيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه". وعن أبي مشجعه بن ربعي قال: "لما قدم عمر بن الخطاب الشام قام قسطنطين بطريق الشام وذكر معاهدة عمر له وشروطه عليهم

قال: اكتب بذلك كتابا قال عمر: نعم فبينما هو يكتب الكتاب إذ ذكر عمر فقال: إني استثني عليك معرة الجيش مرتين قال: لك ثنتان وقبح الله من أقالك فلما فرغ عمر من الكتاب قال له: يا أمير المؤمنين قم في الناس فأخبرهم الذي جعلت لي وفرضت علي ليتناهوا عن ظلمي قال عمر: نعم فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له فقال النبطي: إن الله لا يضل أحدا فقال عمر: ما يقول؟ قال: لا شيء وعاد النبطي لمقالته فقال: أخبروني ما يقول قالوا: يزعم أن الله لا يضل أحدا قال عمر: إنا لم نعطك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن الذي فيه عيناك وعاد عمر ولم يعد النبطي فلما فرغ عمر أخذ النبطي الكتاب" رواه حرب. فهذا عمر رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين والأنصار يقول لمن عاهده: إنا لم نعطك العهد على أن تدخل علينا في ديننا وحلف لئن عاد ليضربن عنقه فعلم بذلك إجماع الصحابة على أن أهل العهد ليس لهم أن يظهروا الاعتراض علينا في ديننا وأن ذلك منهم مبيح لدمائهم. وإن من أعظم الاعتراضات سب نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر لا خفاء به لأن إظهار التكذيب بالقدر من إظهار شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما لم يقتله عمر لأنه لم يكن قد تقرر عنده أن هذا الكلام طعنا في ديننا لجواز أن يكون اعتقد أن عمر قال ذلك من عنده فلما تقدم إليه عمر وبين له أن هذا ديننا قال له: "لئن عدت لأقتلنك".

ومن ذلك ما استدل به الإمام أحمد ورواه عنه هشيم: ثنا حصين عمن حدثه عن ابن عمر قال: مر به راهب فقيل له: هذا يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: "لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا صلى الله عليه وسلم". ورواه أيضا من حديث الثوري عن حصين عن الشيخ أن ابن عمر أصلت على راهب سب النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: "إنا لم نصالحهم على سب النبي صلى الله عليه وسلم". والجمع بين الروايتين أن يكون ابن عمر أصلت عليه السيف لعله يكون مقرا بذلك فلما أنكر كف عنه وقال: "لو سمعته لقتلته" وقد ذكر حديث ابن عمر غير واحد. وهذه الآثار كلها نص في الذمي والذمية وبعضها عام في الكافر والمسلم أو نص فيهما. وقد تقدم حديث الرجل الذي قتله عمر من غير استتابة حين أبى أن يرضى بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وحديث كشفه عن رأس صبيغ بن عسل وقوله: "لو رأيتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك" من غير استتابة وإنما ذنب طائفته الاعتراض على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَات} الآية: "هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة" وقال: نزلت في عائشة خاصة واللعنة للمنافقين عامة ومعلوم أن ذاك إنما هو

لأن قذفها أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونفاق والمنافق يجب قتله إذا لم تقبل توبته. وروى الإمام أحمد بإسناده عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين أن امرأة سبت النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها خالد بن الوليد وهذه المرأة مبهمة. وقد تقدم حديث محمد بن مسلمة في ابن يامين الذي زعم أن قتل كعب ابن الأشرف كان غدرا وحلف محمد بن مسلمة لئن وجده خاليا ليقتلنه لأنه نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغدر ولم ينكر المسلمون عليه ذلك. ولا يرد على ذلك إمساك الأمير إما معاوية أو مروان عن قتل هذا الرجل لأن سكوته لا يدل على مذهب وهو لم يخالف محمد بن مسلمة ولعل سكوته لأنه لم ينظر في حكم هذا الرجل أو نظر فلم تتبين له حكمة أو لم تنبعث داعيته لإقامة الحد عليه أو ظن أن الرجل قال ذلك معتقدا أنه قتل دون أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو لأسباب أخر. وبالجملة فمجرد كفه لا يدل على أنه مخالف لمحمد بن مسلمة فيما قاله وظاهر القصة أن محمد بن مسلمة رآه مخطئا بترك إقامة الحد على ذلك الرجل ولذلك هجره لكن هذا الرجل إنما كان مسلما فإن المدينة لم يكن بها يومئذ أحد من غير المسلمين. وذكر ابن المبارك: أخبرني حرملة بن عثمان حدثني كعب بن علقمة أن غرفة ابن الحارث الكندي وكانت له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم سمع نصرانيا شتم النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدق أنفه فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص فقال له: "إنا قد أعطيناهم العهد" فقال له غرفة: "معاذ الله أن

نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يعملون فيها ما بدا لهم وأن لا نحملهم على ما لا يطيقون وإن أرادهم عدو قاتلنا دونهم وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم فيهم بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وإن غابوا عنا لم نتعرض لهم" فقال عمرو: "صدقت". فقد اتفق عمرو وغرفة بن الحارث على أن العهد الذي بيننا وبينهم لا يقتضي إقرارهم على إظهار شتم الرسول صلى الله عليه وسلم كما اقتضى إقرارهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب فمتى أظهروا شتمه فقد فعلوا ما يبيح الدم من غير عهد عليه فيجوز قتلهم وهذا كقول ابن عمر في الراهب الذي شتم النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته فإنا لم نعطهم العهد على أن يشتموا نبينا صلى الله عليه وسلم". وإنما لم يقتل هذا الرجل والله أعلم لأن البينة لم تقم عليه بذلك وإنما سمعه غرفة ولعل غرفة قصد قتله بتلك الضربة ولم يمكن من إتمام قتله لعدم البينة بذلك ولأن فيه افتئاتا على الإمام والإمام لم يثبت عنده ذلك. وعن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر: "إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اجلده على رأسه أسواطا ولولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل" رواه حرب وذكره الإمام أحمد وهذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة راشد عالم بالسنة متبع لها. فهذا قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان

لا يعرف عن صاحب ولا تابع خلاف لذلك بل إقرار عليه واستحسان له. وأما الاعتبار فمن وجوه: أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة والمحاربة بالأولى. يبين ذلك أن الله سبحانه قال في كتابه: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والجهاد بالنفس يكون باللسان كما يكون باليد بل قد يكون أقوى منه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم" رواه النسائي وغيره. وكان صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: "اغزهم وغازهم" وكان ينصب له منبرا في المسجد ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره وهجائه للمشركين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيده بروح القدس" وقال: "إن جبريل معك ما دمت تنافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقال: "هي أنكى فيهم من النبل". وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان حتى إن كعب بن الأشرف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة فيخرجونه من عندهم حتى لم يبقى له بمكة من يؤويه. وفي الحديث: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " و" أفضل

الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بحق عند سلطان جائر فأمر به فقتل ". وإذا كان شان الجهاد باللسان هذا الشأن في شتم المشركين وهجائهم وإظهار دين الله والدعاء إليه علم أن من شتم دين الله ورسوله وأظهر ذلك وذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين وحاربهم وذلك نقض للعهد. الوجه الثاني؟ : أنا وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر والشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة وإرادة السوء بنا وتمني الغوائل لنا فإننا نحن نعلم أنهم يعتقدون خلاف ديننا ويريدون سفك دمائنا وعلو دينهم ويسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر أقررناهم عليه فإذا عملوا بموجب هذه الإرادة بأن حاربونا وقاتلونا نقضوا العهد كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة من إظهار السب لله ولكتابه ولدينه ولرسوله نقضوا العهد إذ لا فرق بين العمل بموجب الإرادة وموجب الاعتقاد. الوجه الثالث: أن مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفوا ويمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا وشتم رسولنا كما يقتضي الإمساك عن دمائنا ومحاربتنا لأن معنى العهد أن كل واحد من المتعاهدين يؤمن الآخر مما يحذره منه قبل العهد ومن المعلوم أنا نحذر منهم إظهار كلمة الكفر وسب الرسول وشتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى لأنا نسفك الدماء ونبذل الأموال في تعزيز الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره وهم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره ونقاتله عليه قبل العهد وهذا واضح.

الوجه الرابع: أن العهد المطلق لو لم يقتض ذلك فالعهد الذي عاهدهم عليه عمر بن الخطاب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قد تبين فيه ذلك وسائر أهل الذمة إنما جروا على مثل ذلك العهد. روى حرب بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتب لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى أهل الشام: "هذا كتاب لعبد الله أمير المؤمنين من مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا على أن لا نحدث وذكر الشروط إلى أن قال: ولا نظهر شركا ولا ندعوا إليه أحدا وقال في آخره: شرطنا ذلك على أنفسنا وأهلينا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شيء شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل من أهل المعاندة والشقاق". وقد تقدم قول عمر له في مجلس العقد: "إنا لم نعطك الذي أعطيناك لتدخل علينا في ديننا والذي نفسي بيده لئن عدت لأضربن عنقك" وعمر صاحب الشروط عليهم. فعلم بذلك أن شروط المسلمين عليهم أن لا يظهروا كلمة الكفر وأنهم متى أظهروها صاروا محاربين وهذا الوجه يوجب أن يكون السب نقضا للعهد عند من يقول: لا ينتقض العهد به إلا إذا شرط عليهم تركه كما خرجه بعض أصحابنا وبعض الشافعية في المذهبين. وكذلك يوجب أن يكون نقضا للعهد عند من يقول: إذا شرط عليهم انتقاض العهد بفعله انتقض كما ذكره بعض أصحاب الشافعي فإن أهل الذمة إنما هم جارون على شروط عمر لأنه لم يكن بعده إمام عقد عقدا يخالف عقده بل كل الأئمة جارون على حكم عقده والذي سعى أن يضاف إلى من خالف

في هذه المسألة أنه لا يخالف إذا شرط عليهم انتقاض العهد بإظهار السب فإن الخلاف حينئذ لا وجه له البتة مع إجماع الصحابة على صحة هذا الشرط وجريانه على وفق الأصول فإذا كان الأئمة قد شرطوا عليهم ذلك وهو شرط صحيح لزم العمل به على كل قول. الوجه الخامس: أن العقد مع أهل الذمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام وعلى أنهم أهل صغار وذلة على هذا عوهدوا وصولحوا فإظهار شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في الدين ينافي كونهم أهل صغار وذلة فإن من أظهر سب الدين والطعن فيه لم يكن من الصغار في شيء فلا يكون عهده باقيا. الوجه السادس: أن الله فرض علينا تعزيز رسوله وتوقيره وتعزيزه: نصره ومنعه وتوقيره: إجلاله وتعظيمه وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق بل ذلك أولى درجات التعزيز والتوقير فلا يجوز أن نصالح أهل الذمة على أن يسمعونا شتم نبينا ويظهروا ذلك فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعزيز والتوقير وهم يعلمون أنا لا نصالحهم على ذلك بل الواجب علينا أن نكفهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق وعلى ذلك عاهدناهم فإذا فعلوه فقد نقضوا الشرط الذي بيننا وبينهم. الوجه السابع: أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض علينا لأنه من التعزيز المفروض ولأنه من أعظم الجهاد في سبيل الله ولذلك قال سبحانه: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} إلى قوله: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} الآية بل نصر آحاد المسلمين واجب بقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وبقوله: "المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه" فكيف لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. ومن أعظم النصر حماية عرضه ممن يؤذيه ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمى مؤمنا من منافق يؤذيه حمى الله جلده من نار جهنم يوم القيامة". ولذلك سمى من قابل الشاتم بمثل شتمه منتصرا وسب رجل أبا بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت فلما أخذ لينتصر قام فقال: يا رسول الله كان يسبني وأنت قاعد فلما أخذت لأنتصر قمت فقال: "كان الملك يرد عليه فلما انتصرت ذهب الملك فلم أكن لأقعد وقد ذهب الملك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وهذا كثير معروف في كلامهم يقولون لمن كافى الساب والشاتم "منتصرا" كما يقولون لمن كافى الضارب والقاتل "منتصرا". وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال للذي قتل بنت مروان لما شتمته: "إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى هذا" وقال للرجل الذي خرق صف المشركين حين ضرب بالسيف ساب النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعجبتم من رجل نصر الله ورسوله؟ ". وحماية عرضه صلى الله عليه وسلم في كونه نصرا أبلغ من ذلك في حق

غيره لأن الوقيعة في عرض غيره قد لا تضر مقصودة بل تكتب له بها حسنات. أما انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه مناف لدين الله بالكلية فإن العرض متى انتهك سقط الاحترام والتعظيم فسقط ما جاء به من الرسالة فبطل الدين فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه والانتصار له بالقتل لأن انتهاك عرضه انتهاك لدين الله. ومن المعلوم أن من سعى في دين الله بالإفساد استحق القتل بخلاف انتهاك عرض غيره معينا فإنه لا يبطل الدين والمعاهد لم نعاهده على ترك الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه ولا من غيره كما لم نعاهده على ترك استيفاء حقوق المسلمين ولا يجوز أن نعاهده على ذلك وهو يعلم أنا لم نعاهده على ذلك فإذا سبه فقد وجب علينا أن ننتصر له بالقتل ولا عهد معه على ترك ذلك فيجب قتله وهذا بين واضح لمن تأمله. الوجه الثامن: أن الكفار قد عوهدوا على أن لا يظهروا شيئا من المنكرات التي تختص بدينهم في بلاد الإسلام فمتى أظهروها استحقوا العقوبة على إظهارها وإن كان إظهارها دينا لهم فمتى أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحقوا عقوبة ذلك وعقوبة ذلك القتل كما تقدم. الوجه التاسع: أنه لا خلاف بين المسلمين علمناه أنهم ممنوعون من إظهار السب وأنهم يعاقبون عليه إذا فعلوه بعد النهي فعلم أنهم لم يقروا عليه كما أقروا على ما هم عليه من كفر وإذا فعلوا ما لم يقروا عليه من الجنايات استحقوا العقوبة بالاتفاق وعقوبة السب إما أن تكون جلدا وحبسا أو قطعا أو قتلا والأول باطل فإن مجرد سب الواحد من المسلمين

وسلطان المسلمين يوجب الجلد والحبس فلو كان سب الرسول كذلك استوى من سب الرسول ومن سب غيره من الأمة وهو باطل بالضرورة والقطع لا معنى له فتعين القتل. الوجه العاشر: أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء فإن الدم مباح بدون العهد والعهد عقد من العقود وإذا لم يف أحد المتعاقدين بما عاقد عليه فإما أن يفسخ العقد بذلك أو يتمكن العاقد الآخر من فسخه هذا أصل مقرر في عقد البيع والنكاح والهبة وغيرها من العقود والحكمة فيه ظاهرة فإنه إنما التزم ما التزمه بشرط أن يلتزم الآخر بما التزمه فإذا لم يلتزمه الآخر صار هذا غير ملتزم فإن الحكم المعلق بشرط لا يثبت بعينه عند عدمه باتفاق العقلاء وإنما اختلفوا في ثبوت مثله. إذا تبين هذا فإن كان المعقود عليه حقا للعاقد بحيث له أن يبذله بدون الشرط لم ينفسخ العقد بفوات الشرط بل له أن يفسخه كما إذا شرط رهنا أو كفيلا أو صفة في المبيع وإن كان حقا لله أو لغيره ممن يتصرف له بالولاية ونحوها لم يجز له إمضاء العقد بل ينفسخ العقد بفوات الشرط أو يجب عليه فسخه كما إذا شرط أن تكون الزوجة حرة فظهرت أمة وهو ممن لا يحل له نكاح الإماء أو شرط أن يكون الزوج مسلما فبان كافرا أو شرط أن تكون الزوجة مسلمة فبانت وثنية وعقد الذمة ليس حقا للإمام بل هو حق لله ولعامة المسلمين فإذا خالفوا شيئا مما شرط عليهم فقد قيل: يجب على الإمام أن يفسخ العقد وفسخه: أن يلحقه بمأمنه ويخرجه من دار الإسلام ظنا أن العقد لا ينفسخ بمجرد المخالفة بل يجب فسخه

وهذا ضعيف لأن المشروط إذا كان حقا لله لا للعاقد انفسخ العقد بفواته من غير فسخ. وهنا الشروط على أهل الذمة حق لله لا يجوز للسلطان ولا لغيره أن يأخذ منهم الجزية ويعاهدهم على المقام بدار الإسلام إلا إذا التزموها وإلا وجب عليه قتالهم بنص القرآن ولو فرضنا جواز إقرارهم بدون هذا الشروط فإنما ذاك فيما لا ضرر على المسلمين فيه فأما ما يضر المسلمين فلا يجوز إقرارهم عليه بحال ولو فرض إقرارهم على ما يضر المسلمين في أنفسهم وأموالهم فلا يجوز إقرارهم على إفساد دين الله والطعن على كتابه ورسوله. ولهذه المراتب قال كثير من الفقهاء: إن عهدهم ينتقض بما يضر المسلمين من المخالفة دون ما لا يضرهم وخص بعضهم ما يضرهم في دينهم دون ما يضرهم في دنياهم والطعن على الرسول أعظم المضرات في دينهم. إذا تبين هذا فنقول: قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب الرسول وهذا الشرط ثابت من وجهين: أحدهما: أنه موجب عقد الذمة ومقتضاه كما أن سلامة المبيع من العيوب وحلول الثمن وسلامة المرأة والزوج من موانع الوطء وإسلام الزوج وحريته إذا كانت الزوجة حرة مسلمة هو موجب العقد المطلق ومقتضاه فإن موجب العقد هو ما يظهر عرفا أن العاقد شرطه وإن لم يتلفظ به كسلامة المبيع. ومعلوم أن الإمساك عن الطعن في الدين وسب الرسول من ما يعلم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذمة ويطلبونه كما يطلبون الكف عن مقاتلتهم وأولى فإنه من أكبر المؤذيات والكف عن الأذى العام موجب عقد الذمة وإذا كان ظاهر حال المشترى أنه دخل على أن السلعة سليمة من العيوب حتى يثبت له الفسخ بظهور العيب وإن لم يشرطه فظاهر حال المسلمين الذين

عاقدوا أهل الذمة أنهم دخلوا على أن المشركين يكفون عن إفساد دينهم والطعن فيه بيد أو لسان وأنهم لو علموا أنهم يظهرون الطعن في دينهم لم يعاهدوهم على ذلك وأهل الذمة يعلمون ذلك كعلم البائع أن المشتري إنما دخل معه على أن المبيع سالم بل هذا أظهر وأشهر ولا خفاء به. الوجه الثاني: في ثبوت هذا الشرط أن الذين عاهدوهم أولا هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ومن كان معه وقد نقلنا العهد الذي بيننا وبينهم وذكرنا أقوال الذين عاهدوهم وهو عهد متضمن أنه شرط عليهم الإمساك عن الطعن في دين المسلمين وأنهم إذا فعلوا ذلك حلت دمائهم وأموالهم ولم يبق بيننا وبينهم عهد وإذا ثبت أن ذلك مشروط عليهم في العقد فزواله يوجب انفساخ العقد لأن الانفساخ أيضا مشروط عليهم ولأن الشرط حق الله كاشتراط إسلام الزوج والزوجة فإذا فات هذا الشرط بطل العقد كما يبطل إذا ظهر الزوج كافرا أو المرأة وثنية أو المبيع غصبا أو حرا أو تجدد بين الزوجين صهر أو رضاع يحرم أحدهما على الآخر أو تلف المبيع بعد القبض فإن هذه الأشياء كما لم يجز الإقدام على العقد مع العلم بها أبطل العقد مقارنتها له أو طروءها عليه فكذلك وجود هذه الأقوال والأفعال من الكافر لما لم يجز للإمام أن يعاهده مع إقامته عليها كان وجودها موجبا لفسخ عقده من غير إنشاء فسخ على أنا لو قدرنا أن العقد لا ينفسخ إلا بفسخ الإمام فإنه يجب عليه فسخه بغير تردد لأنه عقده للمسلمين فإنه لو اشترى الوالي سلعة لليتيم فبانت معيبة وجب عليه استدراك ما فات من مال اليتيم وفسخه يكون بقوله وبفعله وقتله له فسخ لعقده. نعم لا يجوز له أن يفسخه بجرد القول فإن فيه ضررا على المسلمين وليس للسلطان فعل ما فيه ضرر على المسلمين مع القدرة على تركه وقولنا:

"إن الذمي انتقض عهده" أي لم يبق له عهد يعصم دمه والأول هو الوجه فإن بقاء العقد مع وجود ما ينافيه محال. نعم هنا اختلف الفقهاء فيما ينافي العقد فقائل يقول: جميع المخالفات تنافيه بناء على أنه ليس للإمام أن يصالحهم بدون شيء من الشروط التي شرط عمر. وقائل يقول: التي تنافيه هي المخالفات المضرة بالمسلمين بناء على جواز مصالحتهم على ما هو دون ذلك كما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم أولا حال ضعف الإسلام. وقائل يقول: التي تنافيه هي ما يوجب الضرر العام في الدين أو الدنيا كالطعن على الرسول ونحوها. وبالجملة فكل ما لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع كونهم يفعلونه فهو مناف للعقد كما أن ما لا يجوز للمتبايعين والمتناكحين أن يتعاقدا مع وجوده فهو مناف للعقد. وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم أعني مع كونهم ممكنين من فعله إذا أرادوا وهذا مما أجمع المسلمون عليه ولهذا بعضهم يعاقبون على فعله بالتعزير وأكثرهم يعاقبون عليه بالقتل. وهو مما لا يشك فيه المسلم ومن شك فيه فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه. وإذا كان العقد لا يجوز عليه كان منافيا للعقد ومن خالف شرطا مخالفة تنافي ابتداء العقد فإن عقده ينفسخ بذلك بلا ريب كأحد الزوجين إذا أحدث دينا يمنع ابتداء العقد مثل ارتداد المسلم أو إسلام المرأة تحت الكافر فإن العقد ينفسخ بذلك: إما في الحال أو عقب انقضاء العدة

أو بعد عرض القاضي كما هو مقرر في مواضعه. فإحداث أهل الذمة الطعن في الدين مخالفة بموجب العقد مخالفة تنافي ابتداءه فيجب انفساخ عقدهم بها وهذا بين لما تأمله وهو يوجب انفساخ العقد بما ذكرناه عند جميع الفقهاء ويتبين أن ذلك هو مقتضى قياس الأصول. واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها من جهة المعنى في الذمي فأما المسلم إذا سب فلم يحتج أن يذكر فيه شيئا من جهة المعنى لظهور ذلك في حقه ولكون المحل محل وفاق ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الأمر فيه هل سبه ردة محضة كسائر الردد الخالية عن زيادة مغلظة أو هو نوع من الردة متغلظ بقتله على كل حال؟ وهل يقتل للسب مع الحكم بإسلامه أم لا؟ والله سبحانه أعلم. فإن قيل: فقد قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} فأخبر أنا نسمع منهم الأذى الكثير ودعانا إلى الصبر على أذاهم وإنما يؤذينا أذى عاما الطعن في كتاب الله ودينه ورسوله وقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} من هذا الباب. قلنا: أولا: ليس في الآية بيان أن ذلك مسموع من أهل الذمة والعهد وإنما هو مسموع في الجملة من الكفار. وثانيا: إن الأمر بالصبر على أذاهم وبتقوى الله لا يمنع قتالهم عند المكنة وإقامة حد الله عليهم عند القدرة فإنه لا خلاف بين المسلمين أنا إذا سمعنا مشركا أو كتابيا يؤذي الله ورسوله فلا عهد بيننا وبينه وجب علينا أن نقاتله ونجاهده إذا أمكن ذلك

وثالثا: أن هذه الآية وما شابهها منسوخ من بعض الوجوه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان بها يهود كثير ومشركون وكان أهل الأرض إذ ذاك صنفين: مشركا أو صاحب كتاب فهادن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بها من اليهود وغيرهم وأمرهم الله إذ ذاك بالعفو والصفح كما في قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فأمره الله بالعفو والصفح عنهم إلى أن يظهر الله دينه ويعز جنده فكان أول العز وقعة بدر فإنها أذلت رقاب أكثر الكفار الذين بالمدينة وأرهبت سائر الكفار. وقد أخرجا في الصحيحين عن عروة عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ركب حمارا على إكاف على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر فسار حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بي أبي وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون

فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي نزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذى قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله تعالى حتى أذن الله عز وجل فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله تعالى به من قتل من صناديد قريش وقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منصورين غانمين مع أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش فقال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا

أمر قد توجه فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا اللفظ للبخاري. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} ونحو هذا في القرآن مما أمر الله به المؤمنين بالعفو والصفح عن المشركين فإنه نسخ ذلك كله قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فنسخ هذا عفوه عن المشركين. وكذلك روى الإمام أحمد وغيره عن قتادة قال: أمر الله نبيه أن يعفو عنهم ويصفح حتى يأتي الله بأمره وقضائه ثم أنزل الله عز وجل براءة فأتى الله بأمره وقضائه فقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُه} الآية قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها وأمر الله فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يقروا بالجزية صغارا ونقمة لهم. وكذلك ذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل من كف عن قتاله كقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} إلى أن نزلت براءة.

وجملة ذلك أنه لما نزلت براءة أمر أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا عنه أو لم يكفوا وإن ينبذ إليهم تلك العهود المطلقة التي كانت بينه وبينهم وقيل له فيها: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} بعد أن كان قد قيل له: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم} . ولهذا قال زيد بن أسلم: نسخت هذه الآية ما كان قبلها فأما قبل براءة وقبل بدر فقد كان مأمورا بالصبر على أذاهم والعفو عنهم وأما بعد بدر وقبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه ويمسك عمن سالمه كما فعل بابن الأشرف وغيره ممن كان يؤذيه فبدر كانت أساس عز الدين وفتح مكة كانت كمال عز الدين فكانوا قبل بدر يسمعون الأذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه وبعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم فيؤمرون بالصبر عليه وفي تبوك أمروا بالإغلاظ للكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ولا منافق من أذاهم في مجلس خاص ولا عام بل مات بغيظه لعلمه بأنه يقتل إذا تكلم وقد كان بعد بدر لليهود استطالة وأذى للمسلمين إلى أن قتل كعب بن الأشرف. قال محمد بن إسحاق في حديثه عن محمد بن مسلمة قال: فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعد والله فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. وروى بإسناده عن محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه" فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة ابن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضر به ويقول: أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله إن كان لأول إسلام حويصة فقال محيصة: فقلت له: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك فقال: لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟

فقال محيصة: نعم والله فقال حويصة: والله إن دينا بلغ هذا منك لعجب. وذكر غير ابن إسحاق أن اليهود حذرت وذلت وخافت من يوم قتل ابن الأشرف فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بهما في أول الأمر وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهده خلفائه الراشدين وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فإن قيل: قد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} إلى قوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فأخبر أنهم يحيون الرسول تحية منكرة وأخبر أن العذاب في الآخرة يكفيهم عليها فعلم أن تعذيبهم في الدنيا ليس بواجب.

وعن أنس بن مالك قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعليك" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما يقول؟ " قالوا: لا قال: يقول "السام عليك" قالوا: يا رسول الله ألا نقتله قال: "لا إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك قالت عائشة: ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" فقلت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال: "قد قلت: وعليكم " متفق عليه. وعن جابر قال: " سلم ناس من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقال "وعليكم" فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: "بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب ولا يجابون علينا " رواه مسلم. ومثل هذا الدعاء أذى للنبي صلى الله عليه وسلم وسب له ولو قاله المسلم لصار به مرتدا لأنه دعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بأنه يموت وهذا فعل كافر ومع هذا فلم يقتلهم بل نهى عن قتل اليهودي الذي قال ذلك لما استأمره أصحابه في قتله. قلنا: عن هذا أجوبة: أحدها: أن هذا كان في حال ضعف الإسلام ألا ترى أنه قال لعائشة: "مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله" وهذا الجواب كما ذكرناه في الأذى الذي أمر الله بالصبر عليه إلى أن أتى الله بأمره.

ذكر هذا الجواب طوائف من المالكية والشافعية والحنبلية: منهم القاضي أبو يعلى وأبو إسحاق الشيرازي وأبو الوفاء بن عقيل وغيرهم ومن أجاب بهذا جعل الأمان كالإيمان في انتقاضه بالشتم ونحوه. وفي هذا الجواب نظر لما روي ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا: عليك ". وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " متفق عليهما. فعلم أن هذا سنة قائمة في حق أهل الكتاب مع بقائهم على الذمة وأنه صلى الله عليه وسلم حال عز الإسلام لم يأمر بقتلهم لأجل هذا وقد ركب إلى بني النضير فقال: "إذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم" وكان ذلك بعد قتل ابن الأشرف فعلم أنه كان بعد قوة الإسلام. نعم قد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع من الكفار والمنافقين في أول الإسلام إذا كثيرا وكان يصبر عليه امتثالا لقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم} لأن إقامة الحدود عليهم كان يفضي إلى فتنة عظيمة ومفسدة أعظم من مفسدة الصبر على كلاماتهم. فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا وأنزل الله براءة قال فيها: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} .

فلما رأى من بقي من المنافقين ما صار الأمر إليه من عز الإسلام وقيام الرسول بجهاد الكفار والمنافقين أضمروا النفاق فلم يكن يسمع من أحد من المنافقين بعد غزوة تبوك كلمة سوء وماتوا بغيظهم حتى بقي منهم أناس بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم صاحب السر حذيفة فلم يكن يصلي عليهم هو ولا يصلي عليهم من عرفهم بسبب آخر مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فهذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتمل من الكفار والمنافقين قبل براءة ما لم يكن يحتمل فهم بعد ذلك كما قد كان يحتمل من أذى الكفار وهو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة والنصرة لكن هذه الكلمة ليست من هذا الباب كما قد بيناه. الجواب الثاني: أن هذا ليس من السب الذي ينتقض به العهد لأنهم إنما أظهروا التحية الحسنة والسلام المعروف ولم يظهروا سبا ولا شتما وإنما حرفوا السلام تحريفا خفيا لا يظهر ولا يفطن له أكثر الناس ولهذا لما سلم اليهودي على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ السام لم يعلم به أصحابه حتى أعلمهم وقال: "إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول السام عليكم" وعهدهم لا ينتقض بما يقولونه سرا من كفر أو تكذيب فإن هذا لا بد منه وكذلك لا ينتقض العهد بما يخفونه من السب وإنما ينتقض بما يظهرونه. وقد ذكر غير واحد أن اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك فيرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعليكم"

ولا يدري ما يقولون فإذا خرجوا قالوا: لو كان نبيا لعذبنا واستجيب فينا وعرف قولنا فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا: السام عليك ففطنت عائشة إلى قولهم وقالت: وعليكم السام والذام والداء واللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله ولا يحب الفحش ولا التفحش " فقالت: يا رسول الله ألم تسمع إلى ما قالوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم ". فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يظهر له أنه سب ولذلك نهى عائشة عن التصريح بشتمهم وأمرها بالرفق بأن ترد عليهم تحيتهم فإن كانوا قد حيوا تحية سيئة استجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا ولو كان ذلك من باب شبهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذي هو السب لكان فيه العقوبة ولو بالتعزير والكلام. فلما لم يشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه التحية تعزيرا ونهى من أغلظ عليهم لأجلها علم أن ذلك ليس من السب الظاهر لكونهم أخفوه كما يخفي المنافقون نفاقهم ويعرفون في لحن القول فلا يعاقبون بمثل ذلك وسيأتي تمام الكلام إن شاء الله تعالى في ذلك. الجواب الثالث: أن قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له ألا نقتله لما أخبرهم أنه قال السام عليكم دليل على أنه كان مستقرا عندهم قتل الساب من اليهود لما رأوه قتل ابن الأشرف والمرأة وغيرهما فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله وأخبرهم أن مثل هذا الكلام حقه أن يقابل بمثله لأنه ليس إظهارا للسب والشتم من جنس ما فعلت تلك اليهودية وابن الأشرف وغيرهما وإنما هو إسرار به كإسرار المنافقين بالنفاق.

الجواب الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يعفو عمن شتمه وسبه في حياته وليس للأمة أن يعفو عن ذلك. يوضح ذلك أنه لا خلاف أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه بعد موته من المسلمين كان كافرا حلال الدم وكذلك من سب نبيا من الأنبياء ومع هذا فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فكان بنو إسرائيل يؤذون موسى في حياته بما لو قاله اليوم أحد من المسلمين وجب قتله ولم يقتلهم موسى عليه السلام وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يقتدى به في ذلك فربما سمع أذاه أو بلغه فلا يعاقب المؤذي على ذلك قال الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} الآية وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} . وعن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم إذ جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله قال: "ويلك من يعدل إذا لم اعدل؟ " قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه قال: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم

من الرمية " وذكر الحديث وفيه نزلت {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات} . هكذا رواه البخاري وغيره من حديث معمر عن الزهري وأخرجاه في الصحيحين من وجوه أخرى عن الزهري عن أبي سلمة والضحاك الهمداني عن أبي سعيد قال: "بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بن تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك من يعدل إذا لم اعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم " وذكر حديث الخوارج المشهور ولم يذكر نزول الآية. وتسمينة ذي الخويصرة هو المشهور في عامة الحديث كما رواه عامة أصحاب الزهري عنه والأشبه أن ما انفرد به معمر وهم منه فإن له مثل ذلك وقد ذكروا أن اسمه حرقوص بن زهير. وفي الصحيحين أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها فقسمها بين أربعة نفر وفيه: فغضب قريش والأنصار وقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا فقال: إنما أتألفهم فأقبل رجل غائر العينين ناتيء الجبين كث اللحية مشرف الوجنتين محلوق الرأس فقال: يا محمد اتق الله قال: " فمن يطع الله إذا عصيته؟ أفيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني " فسأل رجل من القوم قتله أراه خالد بن الوليد فمنعه

فلما ولى قال: إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" وذكر الحديث في صفة الخوارج وفي آخره " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ". وفي رواية لمسلم: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء " وفيها فقال: يا رسول الله اتق الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه فقال: "لا لعله أن يكون يصلي " قال خالد بن الوليد: "وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ". وفي رواية في الصحيح: فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا" فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا". فهذا الرجل قد نص القرآن أنه من المنافقين بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يعيبك ويطعن عليك وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل واتق الله بعدما خص بالمال أولئك الأربعة نسب للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه جار ولم يتق الله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ ". ومثل هذا الكلام لا ريب أنه يوجب القتل لو قاله اليوم أحد وإنما لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يظهر الإسلام وهو الصلاة التي

يقاتل الناس حتى يفعلوها وإنما كان نفاقه بما يخص النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى وكان له أن يعفو عنه وكان يعفو عنهم تأليفا للقلوب لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقد جاء ذلك مفسرا في هذه القصة أو في مثلها. فروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: "أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي منها الناس فقال: يا محمد اعدل فقال: "ويحك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل " فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية ". وروى البخاري منه عن عمرو عن جابر رضي الله عنهما: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل فقال: " لقد شقيت إن لم أعدل ". وجاء من كلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أغلظ من هذا قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه: حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث قال: خرجت أنا وتيلد بن كلاب الليثي فلقينا عبد الله بن عمرو بن العاص يطوف بالكعبة معلقا نعليه في يديه فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ذو الخويصرة التميمي يكلمه؟ قال: نعم ثم حدثنا فقال: أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم المغانم بحنين فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت قال: "فكيف رأيت؟ " فقال: لم أرك عدلت

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ " فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم إليه فأضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية " وذكر تمام الحديث. قال ابن إسحاق: حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: أتى ذو الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم المقاسم بحنين وذكر مثل هذا سواء. ورواه الإمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق نحو هذا. وقال الأموي عن ابن إسحاق وذكر الحديث عن أبي عبيدة وعن محمد بن علي وعن ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولم يسمه إلا محمد بن علي فإنه قال: هو ذو الخويصرة التميمي. وكذلك ذكر غيره أن ذا الخويصرة هو الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسم غنائم حنين وكذلك المنافق الذي سمعه ابن مسعود فإنه في غنائم حنين أيضا. وأما الذي في حديث ابن أبي نعم عن أبي سعيد فإنه كان بعد هذه المرة لأن فيه أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو باليمن بذهيبة فقسمها بين أربعة من أهل نجد ولا خلاف بين أهل العلم أن عليا كان في غزوة حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن اليمن فتحت يومئذ ثم إنه استعمل عليا على اليمن سنة عشر بعد تبوك وبعد أن بعثه مع أبي بكر إلى الموسم بنبذ العهود ووافى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع منصرفه من اليمن وكان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لما بعث علي بالصدقة ومما يبين ذلك أن

غنائم حنين نفل النبي صلى الله عليه وسلم منها خلقا كثيرا من قريش وأهل نجد وهذه الذهيبة إنما قسمها بين أربعة نجديين وإذا كان كذلك فإما أن يكون المعترض في هذه المرة غير ذي الخويصرة ويكون أبو سعيد قد شهد القصتين وعلى هذا فالذي في رواية معمر أن آية الصدقات نزلت في قصة ذي الخويصرة ليس بجيد بل هو مدرج في الحديث من كلام الزهري أو كلام معمر لأن ذا الخويصرة إنما أنكر عليه قسم الغنائم وليست هي الصدقات التي جعلها الله لثمانية أصناف ولا التفات إلى ما ذكره بعض المفسرين من أن الآية نزلت في قسم غنائم حنين وإما أن يكون المعترض في ذهيبة علي رضي الله عنه هو ذو الخويصرة أيضا وعلى هذا فتكون أحاديث أبي سعيد كلها في هذه القصة لا في قسم الغنائم وتكون الآية قد نزلت في ذلك أو يكون قد شهد القصتين معا والآية نزلت في إحداهما. وقد روى عن أبي برزة الأسلمي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال فقسمه فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله ولم يعط من وراءه شيئا فقام رجل من ورائه فقال: يا محمد ما عدلت في القسمة رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال: " والله لا تجدون بعدي رجلا هو أعدل مني" ثم قال: "يخرج في آخر الزمان قوم كان هذا منهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق والخليقة " رواه النسائي. ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي وائل عن عبد الله قال:

لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطي عيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها أو ما أريد بها وجه الله قال: فقلت والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فأخبرته بما قال فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصرف ثم قال: " فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ " ثم قال: "يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " قال: فقلت لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا. وفي رواية للبخاري قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله. وذكر الواقدي أن المتكلم بهذا كان معتب بن قشير وهو معدود من المنافقين. فهذا الكلام مما يوجب القتل بالاتفاق لأنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم ظالما مرائيا وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا من أذى المرسلين ثم اقتدى في العفو عن ذلك بموسى عليه السلام ولم يستتب لأن القول لم يثبت فإنه لم يراجع القائل ولا تكلم في ذلك بشيء. ومن ذلك ما رواه ابن أبي عاصم وأبو الشيخ في الدلائل بإسناد صحيح عن قتادة عن عقبة بن وساج عن عمر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليد من ذهب وفضة فقسمه بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل فقال: " ويحك من يعدل عليك بعدي؟ " فلما ولى قال: "ردوه علي رويدا". ومن ذلك قول الأنصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك" فقال: أن كان ابن عمتك؟

وحديث الرجل الذي قضى عليه فقال: لا أرضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله. ولهذا نظائر في الحديث إذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده أن أخاه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جيراني على ماذا أخذوا فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الناس يزعمون أنك تنهى عن الفيء وتستحل به فقال: "لئن كنت أفعل ذلك إنه لعليّ وما هو عليهم خلوا له جيرانه " رواه أبو داود بإسناد صحيح. فهذا وإن كان قد حكى هذا القذف عن غيره فإنما قصد به انتقاصه وإيذاءه بذلك ولم يحكه على وجه الرد على من قاله وهذا من أنواع السب. ومثل حديث ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزله فالتمس التمر فلم يجده في البيت قال: فخرج إلى الأعرابي فقال: "يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده" فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه فوكزه الناس وقالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه" رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في الدلائل. فهذا الباب كله مما يوجب القتل ويكون به الرجل كافرا منافقا حلال الدم كان النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالا لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وكقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي

الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وكقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم} وذلك لأن درجة الحلم والصبر على الأذى والعفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} وقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين} . والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة ثم الأنبياء أحق الناس بهذه الدرجة لفضلهم وأحوج الناس إليها لما ابتلوا به من دعوة الناس ومعالجتهم وتغيير ما كانوا عليه من العادات هو أمر لم يأت به أحد إلا عودي فالكلام الذي يؤذيهم يكفر به الرجل فيصير به محاربا إن كان ذا عهد ومرتدا أو منافقا إن كان ممن يظهر الإسلام ولهم فيه أيضا حق الآدمي فجعل الله لهم أن يعفوا عن مثل هذا النوع ووسع عليهم ذلك لما فيه من حق الآدمي تغليبا لحق الآدمي على حق الله كما جعل لمستحق القود وحد القذف أن يعفو عن القاتل

والقاذف وهم أولى لما في جواز عفو الأنبياء ونحوهم من المصالح العظيمة المتعلقة بالنبي وبالأمة وبالدين وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا انتقم لنفسه قط وفي لفظ: ما نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبة شيء حتى ينتقم لله متفق عليه. ومعلوم أن النيل منه أعظم من انتهاك المحارم لكن لما دخل فيها حقه كان الأمر إليه في العفو أو الانتقام فكان يختار العفو وربما أمر بالقتل إذا رأى المصلحة في ذلك بخلاف ما لا حق له فيه من زنا أو سرقة أو ظلم لغيره فإنه يجب عليه القيام به. وقد كان أصحابه إذا رأوا من يؤذيه أرادوا قتله لعلمهم بأنه يستحق القتل فيعفو هو عنه صلى الله عليه وسلم ويبين لهم أن عفوه أصلح مع إقراره لهم على جواز قتله ولو قتله قاتل قبل عفو النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض له النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنه قد انتصر لله ورسوله بل يحمده على ذلك ويثني عليه كما قتل عمر رضي الله عنه الرجل الذي لم يرضى بحكمه وكما قتل رجل بنت مروان وآخر اليهودية السابة فإذا تعذر عفوه بموته صلى الله عليه وسلم بقي حقا محضا لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقه فتجب إقامته. ويبين ذلك ما روى إبراهيم بن الحكم بن أبان: حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء فأعطاه شيئا ثم قال: أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت يعني فأعطاه فرضي

فقال: "إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك" قال: نعم فلما كان الغد أو العشي جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبكم هذا جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضي أكذلك؟ " قال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناخت فشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ". ورواه أبو أحمد العسكري بهذا الإسناد قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أعطني فإنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك فأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم فوثب إليه أصحابه فقالوا: يا عدو الله تقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ". وذكره بهذا يبين لك أن قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزا قبل الاستتابة وأنه صار كافرا بتلك الكلمة ولولا ذلك لما كان يدخل النار إذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لأنه مظلوم شهيد وكان قاتله دخل النار لأنه قتل مؤمنا متعمدا ولكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن قتله لم يحل لأن سفك الدم بغير حق من أكبر الكبائر وهذا الأعرابي كان مسلما ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حقه لفظ "صاحبكم" ولهذا جاءه الأعرابي يستعينه ولو كان كافرا محاربا لما جاء

يستعينه في شيء ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ليسلم لذكر في الحديث أنه أسلم فلما لم يجر للإسلام ذكر دل على أنه كان ممن دخل الإسلام وفيه جفاء الأعراب وممن دخل في قوله تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} . ومما يوضح ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعفو عن المنافقين الذين لا يشك في نفاقهم حتى قال: لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم وأمره بالإغلاظ عليهم فكثير مما كان يحتمله من المنافقين من الكلام وما يعاملهم من الصفح والعفو والاستغفار كان قبل نزول براءة لما قيل له: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} لاحتياجه إذ ذاك إلى استعطافهم وخشية نفور العرب عنه إذا قتل أحدا منهم وقد صرح صلى الله عليه وسلم لما قال ابن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} ولما قال ذو الخويصرة: اعدل فإنك لم تعدل وعند غير هذه القضية أنه أنما لم يقتلهم لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدا من أصحابه قد قتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى. فلما أنزل الله براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم وأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم نسخ جميع ما كان

المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم ولم يبق إلا إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله في حق الإنسان. فإن قيل: فقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} . وقولهم: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} مثل قولهم: اسمع لا سمعت واسمع غير مقبول منك لأن من لا يقصد إسماعه لا يقبل كلامه. وقولهم {رَاعِنَا} قال قتادة وغيره: كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم راعنا سمعك يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة. وروى الإمام أحمد عن عطية قال: كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود. وقال عطاء الخرساني: كان الرجل يقول: أرعنا سمعك ويلوي بذلك لسانه ويطعن في الدين. وذكر بعض أهل التفسير أن هذه اللفظة كانت سبا قبيحا بلغة اليهود. فهؤلاء قد سبوه صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام ولووا ألسنتهم به واستهزءوا به وطعنوا في الدين ومع ذلك فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. قلنا: عن ذلك أجوبة:

أحدها: أن ذلك كان في حال ضعف الإسلام في الحال التي أخبر الله عن رسوله والمؤمنين أنهم يسمعون من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أذى كثيرا وأمرهم بالصبر والتقوى ثم إن ذلك نسخ عند القوة بالأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والصاغر لا يفعل شيئا من الأذى في الوجه ومن فعله فليس بصاغر. ثم إن من الناس من يسمي ذلك نسخا لتغير الحكم ومنهم من لا يسميه نسخا لأن الله تعالى أمرهم بالعفو والصفح إلى أن يأتي الله بأمره وقد أتى الله بأمره من عز الإسلام وإظهاره والأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذا مثل قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد جعل الله لهن سبيلا" فبعض الناس يسمي ذلك نسخا وبعضهم لا يسميه نسخا والخلاف لفظي. ومن الناس من يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال بأن يكون في وقت أو مكان لا يتمكن منه وذلك لا يكون منسوخا إذ المنسوخ ما ارتفع في جميع الأزمنة المستقبلة. وبالجملة فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفروضا عليه لما قوي أن يترك ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى قتالهم وإقامة الحدود عليهم سمي نسخا أو لم يسم. الجواب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان له أن يعفو عمن سبه

وليس للأمة أن تعفو عمن سبه كما قد كان يعفو عمن سبه من المسلمين مع أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب قتل من سبه من المسلمين. الجواب الثالث: أن هذا ليس بإظهار للسب وإنما هو إخفاء له بمنزلة "السام عليكم" وبمنزلة ظهور النفاق في لحن القول لأنهم كانوا يظهرون أنهم يقصدون مسألته أن يسمع كلامهم وأن يراعيهم فينتظرهم حتى يقضوا كلامهم وحتى يفهموا كلامه ويأتونه على هذا الوجه ثم إنهم يلوون ألسنتهم بالكلام وينوون به الاستهزاء والسب والطعن في الدين كما يلوون ألسنتهم بالسام وينوون به الدعاء عليه بالموت واليهود أمة معروفة بالنفاق والخبث وأن تظهر خلاف ما تبطن ولكن ذلك لا يوجب إقامة الحد عليهم. ولو كان هذا سبا ظاهرا لما كان المسلمون يخاطبون بمثل ذلك قاصدين به الخير حتى نهوا عن التكلم بكلام يحتمل الاستهزاء ويوهمه بحيث يصير سبا بالنية ودلالة الحال. وذلك أن هذه اللفظة كانت العرب تتخاطب بها لا تقصد سبا قال عطاء: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية: إن مشركي العرب إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك فنهو عن ذلك وكذلك قال الضحاك وذلك أن العرب تقول: أرعيته سمعي إرعاء إذا فرغته لكلامه لأنك جعلت السمع يرعى كلامه وتقول "راعيته سمعي" بهذا المعنى لكن كانت اليهود تعتقدها سبا بينها: إما لما فيه من الاشتراك فإنها كما تستعمل في استرعاء السمع تستعمل بمعنى المفاعلة كأنه قيل: راعني حتى أراعيك وهذا إنما يكون بين الأمثال والنظراء ومرتبة الرئيس أعلى من ذلك أو أن اليهود ينوون بها معنى الرعونة أو فيها طلب حفظ الكلام والاهتمام به وهذا إنما يكون من الأعلى للأسفل لأن الرعاية هي الحفظ والكلاءة ومنه استرعاء الشاة.

وقد غلبت في عرفهم ولغتهم على معنى رديء كما قيل: إنهم ينوون بها اسمع لا سمعت وبالجملة إنما يصير مثل هذا سبا بالنية ولي اللسان ونحوه فنهي المسلمون عنها حسما لمادة التشبه باليهود وتشبه اليهود بهم وجعل ذلك ذريعة إلى الاستهزاء به ولما يحتمله لفظها من قلة الأدب في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم. الجواب الرابع: ما ذكره بعض أهل التفسير الذي ذكر أنها كانت سبا قبيحا بلغة اليهود قال: كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك يعنون من المراعاة وكانت هذه اللفظة سبا قبيحا بلغة اليهود فلما سمعتها اليهود اغتنموها وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها وكان يعرف لغتهم فقال لليهود: عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه فقالوا: أولستم تقولنها؟ فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} لكيلا يتخذ اليهود ذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا القول دليل على أن اللفظة مشتركة في لغة العرب ولغة العبرانيين وأن المسلمين لم يكونوا يفهمون من اليهود إذا قالوها إلا معناها في لغتهم فلما فطنوا لمعناها في اللغة الأخرى نهوهم عن قولها وأعلموهم أن ذلك ناقض لعهدهم ومبيح لدمائهم وهذا أوضح دليل على أنهم إذا تكلموا بما يفهم منه السب حلت دماؤهم وإنما لم يستحلوا دماءهم لأن المسلمين لم يكونوا يفهمون السب والكلام في السب الظاهر وهو ما يفهم منه السب.

فإن قيل: أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم ومن دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه وهذه نكتة المخالف. قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكل طريق ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد ومتى فعلوه نقضوا العهد وذلك لأنا وإن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين ونحن لا نقول بنقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك أو يشهد به المسلمون ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه. وتحرير الجواب أن كلتا المقدمتين باطلة. أما قوله "أقررناهم على دينهم" فيقال: لو أقررناهم على كل ما يدينون به لكانوا منزلة أهل ملتهم المحاربين ولو أقررناهم على كل ما يدينون به لم يعاقبوا على إظهار دينهم وإظهار الطعن في ديننا ولا خلاف أنهم يعاقبون على ذلك ولو أقررناهم على دينهم مطلقا لأقررناهم على هدم المساجد وإحراق المصاحف وقتل العلماء والصالحين فإن ما يدينون به مما يؤذي المسلمين كثيرة والخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ثم لا خلاف أنهم لا يقرون على شيء من ذلك وإنما أقررناهم كما قال غرفة بن الحارث على أن نخليهم يفعلون بينهم ما شاءوا مما لا يؤذي المسلمين ولا يضرهم ولا نعترض عليهم في أمور لا تظهر فإن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة وشرطنا عليهم أن لا يفعلوا شيئا يؤذينا ولا يضرنا سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه

فمتى آذوا الله ورسوله فقد نقضوا العهد وشرطنا عليهم التزام حكم الإسلام وإن كانوا يرون أن ذلك لا يلزمهم في دينهم وشرطنا عليهم أداء الجزية وإن اعتقدوا أن أخذها منهم حرام وشرطنا عليهم إخفاء دينهم فلا يظهرون الأصوات بكتابهم ولا على جنائزهم ولا ضرب ناقوس وشرطنا عليهم أن لا يرتفعوا على المسلمين وأن يخالفوا بهيآتهم هيئة المسلمين على وجه يتميزون به ويكونون أذلاء في تميزهم إلى غير ذلك من الشروط التي يعتقدون أنها ذا تجب عليهم في دينهم. فعلم أنا شرطنا عليهم ترك كثير مما يعتقدون دينا لهم إما مباحا أو واجبا وفعل كثير مما يعتقدونه ليس من دينهم فكيف يقال: أقررناهم على دينهم مطلقا. وأما المقدمة الثانية فنقول: هب أنا أقررناهم على دينهم فقوله: "استحلال السب من دينهم" جوابه أن يقال: أهو من دينهم قبل العهد أو من دينهم وإن عاهدوا على تركه. الأول مسلم لكن لا ينفع لأن هؤلاء قد عاهدوا فإن لم يكن هذا من دينهم في هذه الحال لم يكن لهم أن يفعلوه لأنه من دينهم في حال أخرى وهذا كما أن المسلم من دينه استحلال دمائهم وأموالهم وأذاهم بالهجاء والسب إذا لم نعاهدهم وليس من دينه استحلال ذلك إذا عاهدهم فليس لنا أن نؤذيهم وتقول: قد عاهدناكم على ديننا ومن ديننا استحلال أذاكم فإن المعاهدة التي بين المتحاربين تحرم على كل واحد منهما في دينه ما كان يستحله من ضرر الآخر وأذاه قبل العهد. وأما الثاني فمنوع فإنه ليس من دينهم استحلال نقض العهد ولا مخالفة

من عاهده في شيء مما عاهده بل من دين جميع أهل الأرض الوفاء بالعهد وإن لم يكن هذا معتقدهم فنحن إنما عاهدناهم على أن يدينوا بوجوب الوفاء بالعهد فإن لم يكن دينهم وجوب الوفاء به فلم نعاهدهم على دين يستحل صاحبه نقض العهد ولو عاهدناهم على هذا الدين لكنا قد عاهدناهم على أن يدينوا بنقض العهد فينقضوه ونحن موفون بالعهد وبطلان هذا واضح. وإذا لم يكن فعل ما عوهدوا على تركه من دينهم فنحن قد عاهدناهم على أن يكفوا عن أذانا بألسنتهم وأيديهم وأن لا يظهروا شيئا من أذى الله ورسوله وأن يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله ورسوله وإذا عاهدوا على ترك هذا وإخفاء هذا كان فعله حراما عليهم في دينهم لأن ذلك غدر وخيانة وترك للوفاء بالعهد ومن دينهم أن ذلك حرام ولو أن مسلما عاهده قوم من الكفار طائعا غير مكره على أن يمسك عن ذكر صليبهم لوجب عليه في دينه أن يمسك ما دام العهد قائما. فقول القائل: "من دينهم استحلال سب نبيا" باطل إذ ذلك مع العهد المقتضي لتركه حرام في دينهم كما يحرم عليهم في دينهم استحلال دمائنا وأموالنا لأجل العهد وهم يعتقدون عند أنفسهم أنهم إذا آذوا الله ورسوله بألستنهم أو ضروا المسلمين بعد العهد فقد فعلوا ما هو حرام في دينهم كما أن المسلم يعلم أنه إذا آذاهم بعد العهد فقد فعل ما هو حرام في دينه ويعلمون أن ذلك مخالفة للعهد وإن ظنوا أن لا عهد بيننا وبينهم وإنما هم مغلوبون تحت يد الإسلام فذلك أبعد لهم عن العصمة وأولى بالانتقام فإنه لا عاصم لهم منا إلا العهد فإن لم يعتقدوا الوفاء بالعهد فلا عاصم أصلا وهذا كله بين لمن تأمله يتبين به بعض فقه المسألة. ومن الفقهاء من أجاب عن هذا بأنا أقررناهم على ما يعتقدونه ونحن إنما نقول بنقض العهد إذا سبوه بما لا يعتقدونه من القذف ونحوه وهذا التفصيل

ليس بمرض وسيأتي إن شاء الله تحقيق ذلك. فإن قيل: فهب أنهم صولحوا على أن لا يظهروا ذلك لكن مجرد إظهار دينهم كيف ينقض العهد؟ وهل ذلك إلا بمثابة ما لو أظهروا أصواتهم بكتابهم أو صليبهم أو أعيادهم؟ فإن ذلك موجب لتنكيلهم وتعزيرهم دون نقض العهد. قلنا: وأي ناقض للعهد أعظم من أن يظهروا كلمة الكفر ويعلوها ويخرجوا عن حد الصغار ويطعنوا في ديننا ويؤذونا أذى هو أبلغ من قتل النفوس وأخذ الأموال. وأما إظهار تلك الأشياء بعد شرط عمر المعروف ففيها وجهان عندنا: أحدهما: ينتقض العهد فلا يلزمنا والآخر: لا ينتقض العهد. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن ظهور تلك الأشياء ليس فيه ظهور كلمة الكفر وعلوها وإنما فيه ظهور لدين المشركين وبين البابين فرق فإن المسلم لو تكلم بكلمة الكفر كفر ولو لم يفعل إلا مجرد مشاركة الكافر في هدية عوقب ولم يكفر وكان ذلك كإظهار المعاصي من المسلم يوجب عقوبته ولا يبطل إيمانه والمتكلم بكلمة الكفر يبطل إيمانه كذلك أهل العهد: إذا أظهروا الكفر ونحوه نقضوا أمانهم وإذا أظهروا زيهم عصوا ولم ينقضوا أمانهم. وهذا جواب من يقول من أصحابنا وغيرهم: إنهم لو أظهروا التثليث ونحوه مما هو دينهم نقضوا العهد. الجواب الثاني: أن ظهور تلك الأشياء ليس فيها ضرر عظيم على المسلمين ولا معرة في دينهم ولا طعن في ملتهم وإنما فيه أحد أمرين: إما اشتباه زيهم بزي المسلمين أو إظهار لمنكرات دينهم في دار الإسلام كإظهار الواحد من المسلمين لشرب الخمر ونحوه وأما سب الرسول والطعن في الدين ونحوه ذلك فهو مما يضر

المسلمين ضررا يفوق قتل النفس وأخذ المال من بعض الوجوه فإنه لا أبلغ في إسفال كلمة الله ولا إذلال كتاب الله وإهانة كتاب الله من أن يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب. ولأجل هذا الفرق فصل أصحابنا وأصحاب الشافعي الأمور المحرمة عليهم في العهد الذي بيننا وبينهم إلى ما يضر المسلمين في نفس أو مال أو دين وإلى ما لا يضر وجعلوا القسم الأول ينقض العهد حيث لا ينقضه القسم الثاني لأن مجرد العهد ومطلقه يوجب الإمتناع عما يضر المسلمين ويؤذيهم فحصوله تفويت لمقصود العقد فيفسخه كما لو فات مقصود البيع بتلف العوض قبل القبض أو ظهوره مستحقا ونحوه بخلاف غيره ولأن تلك المضرات يوجب جنسها عقوبة المسلم بالقتل فلأن يوجب عقوبة المعاهد بالقتل أولى وأحرى لأن كلاهما ملتزم إما بإيمانه أو بأمانة أن لا يفعلها ولأن تلك المضرات من جنس المحاربة والقتال وذلك لإبقاء العهد معه بخلاف المعاصي التي فيها مراغمة ومصارمة. فإن قيل: فقد أقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول عليه الصلاة والسلام فيكون إقرارهم على سب الرسول أولى بل قد أقروا على سب الله تعالى وذلك لأن النصارى يعتقدون التثليث ونحوه وهو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ".

وروى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وكان معاذ ابن جبل يقول إذا راى النصارى لا ترحموهم فلقد سب الله سبه ما سبه اياها أحد من البشر. وقد قال الله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} الآية. وقد أقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام وهي من أبلغ القذف. قلنا: الجواب من وجوه: أحدها: أن هذا السؤال فاسد الاعتبار فإن كون الشيء في نفسه أعظم إثما من غيره يظهر أثره في العقوبة عليه في الآخرة لا في الإقرار عليه في الدنيا ألا ترى أن أهل الذمة يقرون على الشرك ولا يقرون على الزنا ولا على السرقة ولا على قطع الطرق ولا على قذف المسلم ولا على محاربة المسلمين وهذه الأشياء دون الشرك بل سنة الله في خلقه كذلك فإنه عجل لقوم لوط العقوبة وفي الأرض مدائن مملوءة من الشرك لم يعاجلهم بالعقوبة لا سيما والمحتج بهذا الكلام يرى أن قتل الكفار إنما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره أصليا أو طارئا حتى أنه لا يرى قتل المرتد ويقول: الدنيا ليست دار الجزاء على الكفر وإنما الجزاء على الكفر في الآخرة وإنما يقاتل من يقاتل فقت لدفع أذاه. ثم لا يجوز أن يقال: إذا أقررناهم على الكفر فلأن نقرهم على المحاربة

التي هي دون الكفر بطريق الأولى وسبب ذلك أن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم " لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فإنه قد تؤخر عقوبته وإن كان أعظم كالكفر ونحوه فإذا أقررناهم على الشرك أكثر ما فيه تأخير العقوبة عليه وذلك لا يستلزم تأخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لأنه دونه كما قدمناه. الوجه الثاني: أن يقال: لا خلاف أنهم إذا أقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز أذاهم لا في دمائهم ولا في أبشارهم ولو أظهروا السب ونحوه عوقبوا على ذلك إما في الدماء أو في الأبشار. ثم إنه لا يقال: إذا لم يعاقبوا بالعزير على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه وإذا كان هذا السؤال معترضا على الإجماع لم يجب جوابه كيف والمنازع قد سلم أنهم يعاقبون على السب فعلم أنه لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال. والجواب عن هذه الشبهة مشترك فلا يجب علينا الانفراد به. الوجه الثالث: أن الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب ولا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر وإن كان دونه فإن اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد. الوجه الرابع: قوله: "ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول" ليس بجيد على الإطلاق وذلك لأن أهل الكتاب طائفتان: أما اليهود فأصل كفرهم تكذيب الرسول وسبه أعظم من تكذيبه

فليس لهم كفر أعظم من سب الرسول فإن جميع ما يكفرون به من الكفر بدين الإسلام وبعيسى وبما أخبر الله به من أمور الآخرة وغير ذلك متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لأن ذلك إنما علم من جهته وليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث يشهد عليه أنه من عند الله إلا العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم وما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه واختلط كثير منه أو أكثره والواجب فيما لا نعلم حقيقته منه أن لا يصدق ولا يكذب. وأما النصارى فسبهم للرسول طعنا فيما جاء به من التوحيد وأنباء الغيب والشرائع وإنما ذنبه الأعظم عندهم أن قال: أن عيسى عبد الله ورسوله كما أن ذنبه الأعظم عند اليهود أن غير شريعة التوراة وإلا فالنصارى ليسوا محافظين على شريعة مورثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الأحبار شريعة من الدين لم يأذن الله بها ثم لا يرعونها حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد وللشرك وللتكذيب بالأنبياء والدين ومجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الأنبياء ورد جميع الدين فلا يقال: ما هم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ما هم عليه من الشرك وزيادة. وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الأرض. ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجهه اليقين فإن عامة من تكلم

في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال به الظن والحسبان. والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا في بنبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فلا سفتهم وعامتهم قد أعرضوا عن الله وتوحيده وأقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والأصنام وغير ذلك من الأوثان والطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد ولا غيره. وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل قال الله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} فأخبر أن دينه الذي يدعوا إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك وهذا حق لا ريب فيه فعلم أن سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر وجماع

جميع الضلالات وكل كفر ففرع منه كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان وجماع مجموع أسباب الهدى. الوجه الخامس: أن نقول: قد ثبت بالسنة ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل من سبه وكان المسلمون يحرضون على ذلك مع الإمساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك أو هو أسوأ منه من محارب أو معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه أن يقال: إذا أمسكوا عن المشرك فالإمساك عن الساب أولى وإذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى وهذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل قياس عارض السنة فهو رد. الوجه السادس: أن يقال: ما هم عليه من الشرك وإن كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا وإنما يعتقدونه تمجيدا وتقديسا فليسوا قاصدين به قصد السب والاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شيء لا يقصدون به الاستخفاف إقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف وهذا جواب من يقتلهم إذا أظهروا سب الرسول ولا يقتلهم إذا أظهروا ما يعتقدونه من دينهم. الوجه السابع: أن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين وإضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها وإن كانت دون الشرك وهذا أيضا جواب هذا القائل. الوجه الثامن: منع الحكم في الأصل المقيس عليه فإنا نقول: متى أظهروا كفرهم وأعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فإنه ليس كل ما فيه كفر ولسنا نفقه ما يقولون وإنما فيه إظهار شعار الكفر وفرق بين إظهار الكفر وبين إظهار شعار الكفر.

أو نقول: متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا وهذا لأن العهد إنما اقتضى أن يقولوا ويفعلوا بينهم ما شاءوا مما لا يضر المسلمين فأما أن يظهروا كلمة الكفر أو أن يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البتة وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذين القولين والذين قبلهما. قال كثير من فقهاء الحديث وأهل المدينة من أصحابنا وغيرهم: "لم نقرهم على أن يظهروا شيئا من ذلك ومتى أظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد". قال أبو عبد الله في رواية حنبل: "كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا" وهذا مذهب أهل المدينة. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له: كذبت فقال: يقتل لأنه شتم. ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وإظهاره يضر بنا لأنه قدح في ديننا وبين ما يعتقدونه وإظهاره ليس بطعن في نفس ديننا وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك فإن فروع المسألة تظهر مأخذها. وقد قدمنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمحضر من المهاجرين والأنصار للنصراني الذي قال إن الله لا يضل أحدا: إنا لم نعطك ما أعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فوالذي نفسي بيده لأن عدت لآخذن الذي فيه عيناك. وجميع ما ذكرناه من الآيات والاعتبار يجئ أيضا في ذلك فإن الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا وحتى يكون الدين كله لله وحتى

يظهر دين الله على الدين كله وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. والنهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر وأعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه والصغار الذي التزموه ووجب علينا أن نجاهد الذي أظهروا كلمة الكفر وجهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم والله سبحانه أعلم.

المسألة الثانية: أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه.

المسألة الثانية: أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا فداءه. أما إن كان مسلما فبالإجماع لأنه نوع من المرتد أو من الزنديق والمرتد يتعين قتله وكذلك الزنديق وسواء كان رجلا أو امرأة وحيث قتل يقتل مع الحكم بإسلامه فإن قتله حد بالاتفاق فيجب إقامته وفيما قدمناه دلالة واضحة على قتل السابة المسلمة من السنة وأقاويل الصحابة فإن في بعضها تصريحا بقتل السابة المسلمة وفي بعضها تصريحا بقتل السابة الذمية وإذا قتلت الذمية للسب فقتل المسلمة أولى كما لا يخفى على الفقيه. ومن قال من أهل الكوفة: "إن المرتدة لا تقتل" فقياس مذهبه أن لا تقتل السابة لأن الساب عنده مرتد وقد كان يحتمل مذهبه أن تقتل السابة حدا كقتل الساحرة عند بعضهم وقتل قاطعة الطريق ولكن أصوله تأبى ذلك. والصحيح الذي عليه العامة قتل المرتدة فالسابة أولى وهو الصحيح لما تقدم وإن كان الساب معاهدا فإنه يتعين أيضا قتله سواء كان رجلا أو امرأة عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم. وقد ذكرنا قول ابن المنذر فيما يجب على من سب النبي صلى الله عليه وسلم

قال: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم فحده القتل وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي. قال: وحكى عن النعمان: لا يقتل من سبه من أهل الذمة وهذا لفظ دليل على وجوب قتله عند العامة وهذا مذهب مالك وإسحاق وسائر فقهاء المدينة وكلام أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذين: أحدهما: انتقاض عهده. والثاني: أنه حد من الحدود وهو قول فقهاء الحديث. قال إسحاق بن راهويه: إن أظهروا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منهم ذلك أو تحقق عليهم قتلوا وأخطأ هؤلاء الذين قالوا: "ما هم فيه من الشرك أعظم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال إسحاق: "يقتلون لأن ذلك نقض العهد" وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز ولا شبهة في ذلك لأنه يصير في ذلك ناقضا للصلح وهو كما قتل ابن عمر الراهب الذي سب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما على هذا صالحناهم". وكذلك نص الإمام أحمد على وجوب قتله وانتقاض عهده وقد تقدم بعض نصوصه في ذلك وكذلك نص عامة أصحابه على وجوب قتل هذا الساب ذكروه بخصوصه في مواضع وهكذا ذكروه أيضا في جملة ناقضي العهد من أهل الذمة. ثم المتقدمون منهم وطوائف من المتأخرين قالوا: إن هذا وغيره من ناقضي العهد يتعين قتلهم كما دل عليه كلام أحمد. وذكر طوائف منهم أن الإمام مخير فيمن نقض العهد من أهل الذمة كما يخير في الأسير بين الاسترقاق والقتل والمن والفداء ويجب عليه فعل الأصلح

للأمة من هذه الأربعة بعد أن ذكروه في الناقضين للعهد فدخل هذا الساب في عموم هذا الكلام وإطلاقه وإلا وجب أن يقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيره من ناقضي العهد لكن قيد محققو أصحاب هذه الطريقة ورؤوسهم مثل القاضي أبي يعلي في كتبه المتأخرة وغيره هذا الكلام وقالوا: التخيير هو غير ساب الرسول وأما سابه فيتعين قتله وإن كان غيره كالأسير وعلى هذا فإما أن لا يحكى في تعين قتله خلاف لكون الذين أطلقوا التخيير في موضع قد قالوا في موضع آخر بأن الساب يتعين قتله وصرح رأس أصحاب هذه الطريقة بأنه مستثنى من ذلك الإطلاق أو يحكى فيه وجه ضعيف لأن الذين قالوا به في موضع نصوا على خلافه في موضع آخر. واختلف أصحاب الشافعي أيضا فيه فمنهم من قال: يجب قتل الساب حتما وإن خير في غيره. ومنهم من قال: هو كغيره من الناقضين للعهد وفيه قولان: أضعفهما أنه يلحق بمأمنه والصحيح منهما جواز قتله قالوا: ويكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح للأمة من القتل والاسترقاق والمن والفداء. وكلام الشافعي في موضع يقتضي أن حكم الناقض للعهد حكم الحربي فلهذا قيل: إنه كالأسير وفي موضع آخر أمر بقتله عينا من غير تخيير. وتحريم الكلام في ذلك يحتاج إلى تقديم مقدمة فيما ينتقض به العهد وفي حكم ناقض العهد على سبيل العموم ثم نتكلم في خصوص مسألة السب. أما الأول فإن ناقض العهد قسمان: ممتنع لا يقدر عليه إلا بقتال ومن هو في أيدي المسلمين. أما الأول فأن يكون لهم شوكة ومنعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية والتزام أحكام الملة الواجبة عليهم دون ما يظلمهم به الوشاة أو يلحقوا

بدار الحرب مستوطنين بها فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع فإذا أسر الرجل منهم فحكمه عند الإمام أحمد في ظاهر مذهبه حكم أهل الحرب إذا أسروا يفعل بهم الإمام ما يراه أصلح. قال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال أحمد: إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى وأما الذرية فما ولد بعد نقضهم العهد فهو بمنزلة من نقض العهد ومن كان ممن ولد قبل نقض العهد فليس عليه شيء وذلك أن امرأة علقمة بن علاثة قالت: إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد وكذلك روى عن الحسن فيمن نقض العهد: ليس على النساء شيء. وقال في رواية صالح وقد سئل عن قوم من أهل العهد في حصن ومعهم مسلمون فنقضوا العهد والمسلمون معهم في الحصن: ما السبيل فيهم؟ قال: ما ولد لهم من بعد نقض العهد فالذرية بمنزلة من نقض العهد يسبون ومن كان قبل ذلك لا يسبون فقد نص على أن ناقض العهد إذا أسر بعد المحاربة بخير الإمام فيه وعلى أن الذرية الذين ولدوا بعد ما نقضوا العهد بمنزلة من نقض العهد يسبون فعلم أن ناقض العهد يجوز استرقاقه وهذا هو المشهور من مذهبه. وعنه: أنهم إذا قدر عليهم فإنهم لا يسترقون بل يردون إلى الذمة قال في رواية أبي طالب في رجل من أهل العهد لحق بالعدو هو وأهله وولده وولد له في دار العدو قال: يسترق أولادهم الذين ولدوا في دار العدو ويردون هم وأولادهم الذين ولدو في دار الإسلام إلى الجزية قيل له: لا يسترق

أولادهم الذين ولدوا في دار الإسلام؟ قال: لا قيل له: فإن كانوا أدخلوهم صغارا ثم صاروا رجالا قال: لا يسترقون أدخلوهم مأمنهم. وكذلك قال في رواية ابن إبراهيم وقد سأله عن رجل لحق بدار الحرب هو وأهله وولد له في بلاد العدو وقد أخذه المسلمون قال: ليس على ولده وأهله شيء ولكن ما ولد له وهو في أيديهم يسترقون ويردون هم إلى الجزية. فقد نص على أن الرجل الذي نقض العهد يرد إلى الجزية هو وولده الذين كانوا موجدين وأنهم لا يسترقون وأن ولده الذين حدثوا بعد المحاربة يسترقون وذلك لأن صغار ولده سبي من أولاد أهل الحرب وهم يصيرون رقيقا بنفس السبي فلا يدخلون في عقد الذمة أولا ولا آخرا وأما أولاده الذين ولدوا قبل النقض فلهم حكم الذمة المتقدمة. فعلى الرواية الأولى المشهورة يخير الإمام في الرجال إذا أسروا فيفعل ما هو الأصلح للمسلمين من قتل واسترقاق ومن فداء وإذا جاز أن يمن عليهم جاز أن يطلقهم على قبول الجزية منهم وعقد الذمة لهم ثانيا لكن لا يجب عليه ذلك كما لا يجب عليه في الأسير الحربي الأصلي إذا كان كتابيا وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى بني قريظة وأسرى من أهل خيبر ولم يدعهم إلى إعطاء الجزية ولو دعاهم إليها لأجابوا. وعلى الرواية الثانية يجب دعائهم إلى العود إلى الذمة كما كانوا كما يجب دعاء المرتد إلى أن يعود إلى الإسلام أو يستحب كما يستحب دعاء المرتد ومتى بذلوا العود إلى الذمة وجب قبول ذلك منهم كما يجب قبول الإسلام من المرتد وقبول الجزية من الحربي الاصلي إذا بذلها قبل الأسر ومتى امتنعوا فقياس هذه الرواية وجوب قتلهم دون استرقاقهم جعلا لنقض الأمان كنقض الإيمان ولو تكرر النقض منهم فقد يقال فيهم ما يقال فيمن تكررت ردته.

وبنحو من هذه الرواية قال أشهب صاحب مالك في مثل هؤلاء قال: "لا يعود الحر قنا ولا يسترق أبدا بحال بل يردون إلى ذمتهم بكل حال". وكذلك قال الشافعي في الأم وقد ذكر نواقض العهد وغيرها قال: "وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان ذلك فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا بنقض عهد". وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون قد فعل فعلا يوجب القصاص أو الحد فإن فعل أو قال مما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطي جزية" قتل وأخذ ماله فيئا. فقد نص على وجوب قبول الجزية منه إذا بذلها وهو في أيدينا وأنه إذا امتنع منها ومن الإسلام قتل وأخذ ماله ولم يخير فيه. ولأصحابه في وجوب قبول الجزية من أسير الحربي الأصلي وجهان. وعن الإمام أحمد رواية ثالثة: أنهم يصرون رقيقا إذا أسروا. وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا أسر الروم من اليهود ثم ظهر المسلمون عليهم فإنهم لا يتبعونهم وقد وجبت لهم الجزية إلا من ارتد منهم عن جزيته فهو بمنزلة المملوك. وهذا هو المشهور من مذهب مالك قال ابن القاسم وغيره من المالكية: "إذا خرجوا ناقضين للعهد ومنعوا الجزية وامتنعوا منا من غير أن يظلموا ولحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم وإذا انتقض عهدهم ثم أسروا فهم فيء ولا يردون إلى ذمتنا

فأوجبوا استرقاقهم ومنعوا أن يعقد لهم الذمة ثانيا كأنه جعل خروجهم من الذمة مثل ردة المرتد يمنع إقراره بالجزية لكن هؤلاء لا يسترقون لكون كفرهم أصليا. وقال أصحاب أبي حنيفة: من نقض العهد فإنه يصير كالمرتد إلا أنه يجوز استرقاقه والمرتد لا يجوز استرقاقه. فأما إن لم يقدر عليهم حتى بذلوا الجزية وطلبوا العود إلى الذمة فإنه يحوز عقدها لهم لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدوا الذمة لأهل الكتاب من أهل الشام مرة ثانية وثالثة بعد أن نقضوا العهد والقصة في ذلك مشهورة في فتوح الشام وما أحسب في هذا خلافا فإن مالكا وأصحابه قالوا: إذا منعوا الجزية وقاتلوا المسلمين والإمام عدل فإنهم يقاتلون حتى يردوا إليه مع أن المشهور عندهم أن الأسير منهم لا يرد إلى الذمة بل يكون فيئا فإذا كان مالك لا يخالف في هذه المسألة فغيره أولى أن لا يخالف فيها لأنه هو الذي اشتهر عنه القول بمنع عود الأسير منهم إلى الذمة. فإن بذل هؤلاء العود إلى الذمة فهل يجب قبول ذلك منهم كما يجب قبوله من الحربي الأصلي؟ إن قلنا إنه يجب رد الأسير منهم إلى ذمته فهؤلاء أولى وإن قلنا لا يجب هناك فيتوجه أن لا يجب هنا أيضا لأن بني قينقاع لما نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أراد قتلهم حتى ألح عليه عبد الله بن أبي في الشفاعة فيهم فأجلاهم إلى أذرعات ولم يقرهم بالمدينة مع أن القوم كانوا حراصا على المقام بالمدينة بعهد يجددونه وكذلك بنو قريظة لما حاربت أرادوا الصلح والعود إلى الذمة فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكذلك بنو النضير لما نقضوا العهد فحاصرهم أنزلهم على الجلاء من المدينة مع أنهم كانوا أحرص شيء على المقام بدارهم بأن يعودوا إلى الذمة وهؤلاء الطوائف كانوا أهل ذمة عاهدوا النبي صلى الله عليه

وسلم أن الدار دار الإسلام يجري فيها حكم الله تعالى ورسوله وأنه مهما كان بين أهل العهد من المسلمين ومن هؤلاء المعاهدين من حدث فأمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هكذا في كتاب الصلح فإذا كانوا نقضوا العهد فبعضا قتل وبعضا أجلى ولم يقبل منهم ذمة ثانية مع حرصهم على بذلها علم أن ذلك لا يجب ولا يجوز أن يكون ذلك لكون أرض الحجاز لا يقر فيها أهل دينين ولا يمكن الكفار من المقام بها لأن هذا الحكم لم يكن شرع بعد بل قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي بالمدينة وبالمدينة غيره من اليهود وبخيبر خلائق منهم وهي من الحجاز ولكن عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأن لا يبقى بها دينان فأنفذ عهده في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والفرق بين هؤلاء وبين المرتدين أن المرتد إذا عاد إلى الإسلام فقد أتى بالغاية التي يقاتل الناس حتى يصلوا إليها فلا يطلب منه غير ذلك وإن ظننا أن باطنه خلاف ظاهره فإنا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس وأما هؤلاء فإن الكف عنهم إنما كان لأجل العهد ومن خفنا منه الخيانة جاز لنا أن ننبذ إليه العهد وإن لم يجز نبذ العهد إلى من خفنا منه الردة فإذا نقضوا العهد فقد يكون ذلك أمارة على عدم الوفاء وإن إجابتهم إلى العهد إنما فعلوه خوفا وتقية ومتى قدروا غدروا فيكون هذا الخوف مجوزا لترك معاهدتهم على أخذ الجزية كما كان يجوز نبذ العهد إلى أهل الهدنة بطريق الأولى. وفي هذا دليل على أنه لا يجب رد الأسير الناقض للعهد إلى الذمة بطريق الأولى فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يردهم إلى الذمة وقد طلبوها ممتنعين فإن لا يردهم إليها إذا طلبوها موثقين أولى وقد أسر بني قريظة بعد نقض العهد فقتل مقاتلتهم ولم يردهم إلى العهد ولأن الله تعالى قال: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا

يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} فلو كان الناكث كلما طلب العهد منا وجب أن نجيبه لم يكن للنكث عقوبة يخافها بل ينكث إذا أحب لكن يجوز أن نعيدهم إلى الذمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الزبير بن باطا القرظي لثابت بن قيس بن شماس هو وأهله وماله على أن يسكن أرض الحجاز وكان من أسرى بني قريظة الناكثين فعلم جواز إقرارهم في الدار بعد النكث وإجلاء بني قينقاع بعد القدرة عليهم إلى أذرعات فعلم جواز المن عليهم بعد النكث وإذا جاز المن على الأسير الناكث وإقراره في دار الإسلام فالمفاداة به أولى. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الناقضين تدل على جواز القتل والمن على أن يقيموا بدار الإسلام وأن يذهبوا إلى دار الحرب إذا كانت المصلحة في ذلك وفي ذلك حجة على من أوجب إعادتهم إلى الذمة وعلى من أوجب استرقاقهم. فإن قيل: إنما أوجبنا إعادتهم إلى الذمة لأن خروجهم عن الذمة ومفارقتهم لجماعة المسلمين كخروجهم عن الإسلام ومفارقة جماعة المسلمين أو نقض الأمان كنقض الإيمان فإذا كان المرتد عن الإسلام لا يقبل منه ما يقبل من الكافر الأصلي بل إما الإسلام أو السيف فكذلك المرتد عن العهد لا يقبل منه ما يقبل من الحربي الأصلي بل إما الإسلام أو العهد وإلا فالسيف ولأنه قد صارت لهم حرمة العهد المتقدم فمنعت استرقاقهم كما منع استرقاق المرتد حرمة إسلامه المتقدم. قلنا: المرتد بخروجه عن الدين الحق بعد دخوله فيه تغلظ كفره فلم يقر عليه بوجه من الوجوه فتحتم قتله إن لم يسلم عصمه للدين كما تحتم غيره من الحدود حفظا للفروج وغير ذلك ولم يجز استرقاقه لأن فيه إقرارا له

على الردة لا لتشرفه بدين قد بدله وناقض العهد قد نقض عهده الذي كان يرعى به فزالت حرمته وصار بأيدي المسلمين من غير عقد ولا عهد فصار كحربي أسرناه وأسوء حالا منه ومثل ذلك لا يجب المن عليه بجزية ولا بغيرها لأن الله تعالى إنما أمرنا أن نقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمن أخذناه قبل أن يعطي الجزية لم يدخل في الآية لأنه لا قتال معه بل قد خيرنا الله إذا شددنا الوثاق بين المن والفداء ولم يوجب المن في حق ذمي ولا كتابي ولأن الأسير قد صار للمسلمين فيه حق بإمكان استبعاده والمفاداة به فلا يجب عليهم بذل حقهم منه مجانا وجاز قتله لأنه كافر لا عهد له وإنما هو باذل للعهد في حال لا تجب معاهدته وذلك لا يعصم دمه. فإن قال من منع من إعادته إلى الذمة وجعله فيئا: هذا من على الأسير مجانا وذلك إضاعة لحق المسلمين فلم يجز إتلاف أموالهم. قلنا: هذا مبني على أنه لا يجوز المن على الأسير والمرضيّ جوازه كما دل عليه الكتاب والسنة ومدعي النسخ يفتقر إلى دليل. فإن قيل: خروجه عن العهد موجب للتغليظ عليه فينبغي إما أن يقتل أو يسترق كما أن المرتد يغلظ حاله بتعين قتله فإذا جاز في هذا ما يجوز في الحربي الأصلي لم يبق بينهما فرق. قلنا: إذا جاز استرقاقه جاز إقراره بالجزية إذا لم يكن المانع حقا لله لأنه ليس في ذلك إلا فوات ملك رقبته وقد يرى الإمام أن في إقراره بالجزية أو في المن عليه والمفاداة به مصلحة أكبر من ذلك بخلاف المرتد فإنه لا سبيل في استبقائه وبخلاف الوثني إذا جوزنا استرقاقه فإن المانع من إقراره بالجزية حق لله وهو دينه وناقض العهد دينه قبل النقض وبعده سواء ونقضه إنما يعود ضرره على من يحاربه من المسلمين فكان الرأي فيه إلى أميرهم.

فإن قيل: فهلا حكيتم خلافا أنه يتعين قتل هذا الناقض للعهد كما يتعين قتل غيره من الناقضين كما سيأتي وقد قال أبو الخطاب: إذا حكمنا بنقض عهد الذمي فظاهر كلام الإمام أحمد أنه يقتل في الحال قال: وقال شيخنا: يخير الإمام فيه بين أربعة أشياء فأطلق الكلام فيمن نقض العهد مطلقا وتبعه طائفة على الإطلاق ومن قيده قيده بأن ينقضه بما فيه ضرر على المسلمين مثل قتالهم ونحوه فأما إن نقضه بمجرد اللحاق بدار الحرب فهو كالأسير ويؤيد هذا ما رواه عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن قوم نصارى نقضوا العهد وقاتلوا المسلمين قال: "أرى أن لا يقتل الذرية ولا يسبون ولكن يقتل رجالهم" قلت لأبي: فإن ولد لرجالهم أولاد في دار الحرب قال: "أرى أن يسبوا أولئك ويقتلوا" قلت لأبي: فإن هرب من الذرية إلى دار الحرب أحد فسباهم المسلمون ترى لهم أن يسترقوا؟ قال: "الذرية لا يسترقون ولا يقتلون لأنهم لم ينقضوا هم إنما نقض العهد رجالهم وما ذنب هؤلاء؟ " فقد أمر رحمه الله بقتل المقاتلة من هؤلاء إما لمجرد النقض أو للنقض والقتال. قلنا: قد ذكرنا فيما مضى نص أحمد على أن من نقض العهد وقاتل المسلمين فإنه يجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام وإذا أسر حكم فيه الإمام بما رأى. ونص رحمه الله فيمن لحق بدار الحرب على أنه يسترق في رواية وعلى أن يعاد إلي ذمته في رواية أخرى فلم يجز أن يقال: ظاهر كلامه في هذه الصورة يدل على وجوب قتله مع تصريحه بخلاف ذلك كيف والذين قالوا ذلك إنما أخذوا من كلامه في مسائل شتى ليست هذه الصورة منها؟ على أن أبا الخطاب وغيره لم يذكروا هذه الصورة ولم يدخل في كلامهم أعني صورة اللحاق بدار الحرب وإنما ذكروا من نقض العهد بأن ترك ما يجب عليه في العهد أو فعل ما ينتقض به عهده وهو في قبضة المسلمين.

وذكروا أن ظاهر كلام أحمد يعين قتله وهو صحيح ممن فهم من كلامهم عموم الحكم في كل من انتقض عهده فمن فهمه أتي لا من كلامهم ومن ذكر اللحاق بدار الحرب وقتال المسلمين والامتناع من أداء الجزية وغير ذلك في النواقض فإنه احتاج أن يفرق بين اللحاق بدار الحرب وبين غيره كما ذكرناه من نصوص الإمام أحمد وغيره من الأئمة على الناقض الممتنع. والفرق بينهما أنه من لم يوجد منه إلا اللحاق بدار الحرب فإنه لم يجن جناية فيها ضرر على المسلمين حتى يعاقب عليها بخصوصها وإنما ترك العهد الذي بيننا وبينه فصار ككافر لا عهد له كما سيأتي إن شاء الله تعالى تقريره. ويجب أن يعلم أن من لحق بدار الحرب صار حربيا فما وجد منه من الجنايات بعد ذلك فهي كجنايات الحربي لا يؤخذ بها إن أسلم أو عاد إلى الذمة ولذلك قال الخرقي: "ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا" وكذلك أيضا إذا امتنعوا بدار الإسلام من الجزية أو الحكم ولهم شوكة ومنعة قاتلوا بها عن أنفسهم فإنهم قد قاتلوا بعد أن انتقض عهدهم وصار حكمهم حكم المحاربين فلا يتعين قتل من استرق منهم بل حكمه إلى الإمام ويجوز استرقاقه كما نص الإمام أحمد على هذه الصورة بعينها لأن المكان الذي تحيزوا فيه وامتنعوا بمنزلة دار الحرب ولم يجنوا على المسلمين جناية ابتدءوا بها للمسلمين وإنما قاتلوا عن أنفسهم بعد أن تحيزوا وامتنعوا وعلم أنهم محاربون فمن قال من أصحابنا إن من قاتل المسلمين يتعين قتله ومن لحق بدار الحرب خير الإمام فيه فإنما ذاك إذا قاتلهم ابتداء قبل أن يظهر نقض العهد ويظهر الامتناع بأن يعين أهل الحرب على قتال المسلمين ونحو ذلك فأما إذا قاتل بعد أن صار في شوكة ومنعة يمتنع بها عن أداء الجزية فإنه يصير

كالحربي سواء كما تقدم ولهذا قلنا على الصحيح: إن المرتدين إذا أتلفوا دما أو مالا بعد الامتناع لم يضمنوه وما أتلفوه قبل الامتناع ضمنوه وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الفرق. وأما ما ذكره الإمام أحمد في رواية عبد الله فإنما أراد به الفرق بين الرجال والذرية ليتبين أن الذرية لا يجوز قتلهم وأن الرجال يقتلون كما يقتل أهل الحرب ولهذا قال في الذرية الذين ولدوا بعد النقض "يسبون ويقتلون" وإنما أراد أنهم يسبون إذا كانوا صغارا ويقتلون إذا كانوا رجالا أي يجوز قتلهم كأهل الحرب الأصليين ولم يرد أن القتل يتعين لهم فإنهم على خلاف الإجماع والله أعلم. القسم الثاني: إذا لم يكن ممتنعا عن حكم الإمام فمذهب أبي حنيفة أن مثل هذا لا يكون ناقضا للعهد ولا ينقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة ومنعة فيمتنعوا بذلك على الإمام ولا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم أو تخلفوا بدار الحرب لأنهم إذا لم يكونوا ممتنعين أمكن الإمام أن يقيم عليهم الحدود ويستوفي منهم الحقوق فلا يخرجون بذلك عن العصمة الثابتة كمن خرج عن طاعة الإمام من أهل البغي ولم تكن له شوكة. وقال الإمام: مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ناقضين للعهد ومنعا للجزية وامتنعوا منا من غير أن يظلموا أو يلحقوا بدار الحرب فقد انتقض عهدهم لكن يقتل عنده الساب والمستكره للمسلمة على الزنى وغيرهما. وأما مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد فإنهم قسموا الأمور المتعلقة بذلك قسمين أحدهما يجب عليهم فعله والثاني يجب عليهم تركه. فأما الأول فإنهم قالوا: إذا امتنع الذمي مما يجب عليه فعله وهو أداء الجزية أو جريان أحكام الملة عليه إذا حكم بها حاكم المسلمين انتقض العهد بلا تردد

قال الإمام أحمد في الذي يمنع الجزية: إن كان واجدا أكره عليها وأخذت منه وإن لم يعطها ضربت عنقه وذلك لأن الله تعالى أمر بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون والإعطاء له مبتدأ وتمام فمبتدأه الالتزام والضمان ومنتهاه الأداء والإعطاء ومن الصغار جريان أحكام المسلمين عليهم فمتى لم يتم إعطاء الجزية أو أعطوها وليسوا بصاغرين فقد زالت الغاية التي أمرنا بقتالهم إليها فيعود القتال ولأن حقن دمائهم إنما ثبت ببذل الجزية والتزام جريان أحكام الإسلام عليهم فمتى امتنعوا منه وأتوا بضده صاروا كالمسلم الذي ثبت حقن دمه بالإسلام إذا امتنع منه وأتى بكلمة الكفر. وعلى ما ذكره الإمام أحمد فلا بد أن يمتنع من ذلك على وجه لا يمكن استيفاؤه منه مثل أن يمتنع من حق بدني لا يمكن فعله ونيابة عنه دائما أو يمتنع من أداء الجزية ولعيب ماله كما قلنا في المسلم إذا امتنع من الصلاة أو الزكاة فأما إن قاتل الإمام على ذلك فذلك هو الغاية في انتقاض العهد كمن قاتل على ترك الصلاة أو الزكاة. وأما القسم الثاني وهو ما يجب عليهم تركه فنوعان: أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين والثاني ما لا ضرر فيه عليهم والأول قسمان أيضا: أحدهما ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وأموالهم: مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يعين على قتال المسلمين أو يتجسس للعدو بمكاتبه أو كلام أو إيواء عين من عيونهم أو يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح والقسم الثاني ما فيه أذى وغضاضة عليهم: مثل أن يذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بالسوء والنوع الثاني ما لا ضرر فيه عليهم: مثل إظهار أصواتهم بشعائر دينهم من الناقوس والكتاب ونحو ذلك ومثل مشابهة المسلمين في هيآتهم ونحو ذلك وقد تقدم القول في انتقاض العهد بكل واحد من هذه الأقسام

فإذا نقض الذمي العهد ببعضها وهو في قبضة الإمام مثل أن يزني بمسلمة أو يتجسس للكفار فالمنصوص عن الإمام أحمد أنه يقتل قال في رواية حنبل: كل من نقض العهد أو أحدث في الإسلام حدثا مثل هذا يعني مثل سب النبي صلى الله عليه وسلم رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة فقد نص على أن من نقض العهد وأتى بمفسدة مما ينقض العهد قتل عينا وقد تقدمت نصوصه أن من لم يوجد منه إلا نقض العهد بالامتناع فإنه كالحربي. وقال في مواضع متعددة في ذمي فجر بامرأة مسلمة: يقتل ليس على هذا صولحوا والمرأة إن كانت طاوعته أقيم عليها الحد وإن كان استكرهها فلا شيء عليها. وقال في يهودي زنى بمسلمة: يقتل: لأن عمر رضي الله عنه أتى بيهودي نخس بمسلمة ثم غشيها فقتله فالزنى أشد من نقض العهد قيل: فعبد نصراني زنى بمسلمة قال: "يقتل أيضا وإن كان عبدا". وقال في مجوسي فجر بمسلمة: يقتل هذا نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد فقيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه. وقال مهنا: سالت أحمد عن يهودي أو نصراني فجر بامرأة مسلمة: ما يصنع به؟ قال: "يقتل" فأعدت عليه قال: "يقتل" قلت: إن الناس يقولون غير هذا قال: "كيف يقولون؟ " فقلت: يقولون عليه الحد قال: "لا ولكن يقتل" فقلت له: في هذا شيء؟ قال: "نعم عن عمر أنه أمر بقتله".

وقال في رواية جماعة من أصحابه في ذمي فجر بمسلمة: يقتل قيل: فإن أسلم قال: يقتل هذا قد وجب عليه. فقد نص رحمه الله على وجوب قتله بكل حال سواء كان محصنا أو غير محصن وأن القتل واجب عليه وإن أسلم وأنه لا يقام عليه حد الزنا الذي يفرق فيه بين المحصن وغير المحصن واتبع ذلك ما رواه خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك أن رجلا نخس بامرأة فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب ورواه المروزي عن مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة: "أن رجلا من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام وهي على الحمار فصرعها وألقى نفسه عليها فرآه عوف بن مالك فضربه فشجه فانطلق إلى عمر يشكو عوفا فأتى عوف عمر فحدثه حديثه فأرسل إلى المرأة يسألها فصدقت عوفا فقال: قد شهدت أختنا فأمر به عمر فصلب قال: فكان أول مصلوب في الإسلام ثم قال عمر: "أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له". وروى سيف في الفتوح هذه القصة عن عوف بن مالك مبسوطة وذكر فيها أن الحمار صرع المرأة وأن النبطي أرادها فامتنعت واستغاثت قال عوف: "فأخذت عصاي فمشيت في أثره فأدركته فضربت رأسه ضربة ذا عجر ورجعت إلى منزلي" وفيه: "فقال للنبطي: "أصدقني فأخبره". وقال الإمام أحمد أيضا في الجاسوس: إذا كان ذميا قد نقض العهد يقتل وقال في الراهب: لا يقتل ولا يؤذى ولا يسأل عن شيء إلا أن نعلم منه أنه يدل على عورات المسلمين ويخبر عن أمرهم عدوهم فيستحل حينئذ دمه. وقد نص الإمام أحمد على أنه من نقض العهد بسب الله أو رسوله فإنه يقتل

ثم اختلف أصحابنا بعد ذلك فقال القاضي وأكثر أصحابه مثل أبيه أبي الحسين والشريف أبي جعفر وأبي المواهب العكبري وابن عقيل وغيره وطوائف بعدهم: إن من نقض العهد بهذه الأشياء وغيرها فحكمه كحكم الأسير يخير الإمام فيه كما يخير بالأسير بين القتل والمن والاسترقاق والفداء وعليه أن يختار من الأربعة ما هو أصلح للمسلمين قال القاضي في المجرد: "إذا قلنا قد انتقض عهده فإنا نستوفي منه الحقوق والقتل والحد والتعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه وهذه أحكامنا فإذا استوفينا منه فالإمام مخير فيه بين القتل والاسترقاق ولا يرد إلى مأمنه لأنه بفعل هذه الأشياء قد نقض العهد وإذا نقض عاد بمعناه الأول فكأنه رجل نصراني بدار الإسلام". ثم إن القاضي في الخلاف قال: "حكم ناقض العهد حكم الأسير الحربي يتخير الإمام فيه بين أربعة أشياء: القتل والاسترقاق والمن والفداء" لأن الإمام أحمد قد نص في الأسير على الخيار بين أربعة أشياء وحكم الأسير لأنه كافر حصل في أيدينا بغير أمان قال: ويحمل كلام الإمام أحمد إذا رآه الإمام صلاحا واستثنى في الخلاف وهو الذي صنفه آخرا ساب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة قال: فإنه لا تقبل توبته ويتحتم قتله ولا يخير الإمام في قتله وتركه لأن قذف النبي صلى الله عليه وسلم حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي. وقد يستدل لهؤلاء من المذهب بعموم كلام الإمام أحمد وتعليله حيث قال في قوم من أهل العهد نقضوا العهد وخرجوا بالذرية إلى دار الحرب فبعث في طلبهم فلحقوهم فحاربوهم قال: إذا نقضوا العهد فمن كان منهم بالغا فيجري عليه ما يجري على أهل الحرب من الأحكام إذا أسروا فأمرهم إلى الإمام يحكم فيهم بما يرى وعلى هذا نقول:

فللإمام أن يعيدهم إلى الذمة إذا رأى المصلحة في ذلك كما له مثل ذلك في الأسير الحربي الأصلي. وهذا القول في الجملة هو الصحيح من قولي الإمام الشافعي والقول الآخر للشافعي أن من نقض العهد من هؤلاء يرد إلى مأمنه ثم من أصحابه من استثنى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فجعله موجبا للقتل حتما دون غيره ومنهم من عمم الحكم هذا هو الذي ذكره أصحابه وأما لفظه فإنه قال في الأم: "إذا أراد الإمام أن يكتب كتاب صلح على الجزية كتب وذكر الشروط" إلى أن قال: "وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة أمير المؤمنين وجميع المسلمين ونقض ما أعطي من الأمان وحل لأمير المؤمنين ماله ودمه كما يحل أموال أهل الحرب ودمائهم وعلى أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة بزنى أو اسم نكاح أو قطع الطريق على مسلم أو فتن مسلما عن دينه أو أعان المحاربين على المسلمين بقتال أو دلالة على عورات المسلمين أو إيواء لعيونهم فقد نقض عهده وأحل دمه وماله وإن نال مسلما بما دون هذا في ماله أو عرضه لزمه فيه الحكم". ثم قال: فهذه الشروط اللازمة إن رضيها فإن لم يرضها فلا عقد له ولا جزية. ثم قال: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلمين أن من فعله قتل حدا أو قصاصا فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا

يوجب القصاص أو الحد فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل. قال: فإن فعل أو قال ما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفر به فامتنع من أن يقول "أسلم أو أعطى جزية" قتل وأخذ ماله فيئا وهذا اللفظ يعطى وجوب قتله إذا امتنع من الإسلام والعود إلى الذمة. وسلك أبو الخطاب في "الهداية" والحلواني وكثير من متأخري أصحابنا مسلك المتقدمين في إقرار نصوص الإمام أحمد بحالها وهو الصواب فإن الإمام أحمد قد نص على القتل عينا فيمن زنى بمسلمة حتى بعد الإسلام وجعل هذا أشد من نقض العهد باللحاق بدار الحرب ثم إنه نص هناك على أن الأمر إلى الإمام كالأسير ونص هنا على أن على الإمام يخير أن يقتل ولا يخفى لمن تأمل نصوصه أن القول بالتخيير مطلقا مخالف لها. وأما أبو حنيفة فلا تجئ هذه المسألة على أصوله لأنه لا ينتقض عهد أهل الذمة عنده إلا أن يكونوا أهل شوكة ومنعة فيمتنعون بذلك على الإمام ولا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم. ومذهب مالك لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين منا مانعين للجزية من غير ظلم أو يلحقوا بدار الحرب لكن مالكا يوجب قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم عينا وقال: "إذا استكره الذمي مسلمة على الزنى قتل إن كانت حرة وإن كانت أمة عوقب العقوبة الشديدة" فمذهبه إيجاب القتل لبعض أهل الذمة الذين يفعلون ما فيه ضرر على المسلمين فمن قال؟: "إنه يرد إلى مأمنه" قال: لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله حتى يرد إلى مأمنه كما لو دخلها بأمان صبي وهذا ضعيف جدا لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية

فهذه الآية وإن كانت نزلت في أهل الهدنة فعمومها لفظا ومعنى يتناول كل ذي عهد على ما لا يخفى وقد أمر سبحانه بالمقاتلة حيث وجدناهم فعم ذلك مأمنهم وغير مأمنهم ولأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فمتى لم يعطوا الجزية أو لم يكونوا صاغرين جاز قتالهم من غير شرط على معنى الآية ولأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من رأوه من رجال يهود صبيحة قتل ابن الأشرف وكانوا معه معاهدين ولم يأمر بردهم إلى مأمنهم وكذلك لما نقضت بنو قينقاع العهد قاتلهم ولم يردهم إلى مأمنهم ولما نقضت بنو قريظة العهد قاتلهم وأسرهم ولم يبلغهم مأمنهم وكذلك كعب بن الأشرف نفسه أمر بقتله غيلة ولم يشعره أنه يريد قتله فضلا عن أن يبلغه مأمنه وكذلك بنو النضير أجلاهم على أن لا ينقلوا إلا ما حملته الإبل إلا الحلقة وليس هذا بإبلاغ للمأمن لأن من بلغ مأمنه يؤمن على نفسه وأهله وماله حتى يبلغ مأمنه وكذلك سلام ابن أبي الحقيق وغيره من يهود لما نقضوا العهد قتلهم نوبة خبير ولم يبلغهم مأمنهم ولأنه قد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وأبا عبيدة ومعاذ ابن جبل وعوف بن مالك قتلوا النصراني الذي أراد أن يفجر بالمسلمة وصلبوه ولم ينكره منكر فصار إجماعا ولم يردوه إلى مأمنه ولأن في شروط عمر التي شرطها على النصارى "فإن نحن خالفا عن شيء شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما حل لأهل المعاندة والشقاق" رواه حرب بإسناد صحيح وقد تقدم عن عمر وغيره من الصحابة مثل أبي بكر وعمر وابن عباس وخالد بن الوليد وغيرهم رضوان الله عليهم أنهم قتلوا وأمروا بقتل ناقض العهد ولم يبلغوه مأمنه ولئن دمه كان مباحا وإن عصمته الذمة فمتى ارتفعت الذمة بقي على الإباحة ولأن الكافر لو دخل دار الإسلام بغير أمان وحصل في أيدينا جاز قتله في دارنا وأما من دخل بأمان صبى فإنما ذاك لأنه يعتقد أنه مستأمن

فصارت له شبهة أمان وذلك يمنع قتله كمن وطء فرجا يعتقد أنه حلال لا حد عليه وكذلك لا ينسب في دخوله دار الإسلام إلى تفريط وأما هذا فإنه ليس له أمان ولا شبهة أمان لأن مجرد حصوله في الدار ليس بشبهة أمان بالاتفاق بل هو مقدم على ما ينتقض به العهد مفرط في ذلك عالم أنا لم نصالحه على ذلك فأي عذر له في حقن دمه حتى يلحقه بمأمنه؟ نعم لو فعل من نواقض العهد ما لم يعلم أنه يضرنا مثل أن يذكر الله تعالى أو كتابه أو رسوله بشيء يحسبه جائزا عندنا كان معذورا بذلك فلا ينقض العهد كما تقدم ما لم يتقدم إليه كما فعل عمر بقسطنطين النصراني. وأما من قال أنه كالأسير الحربي إذا حصل في أيدينا فقال: لأنه كافر حلال الدم حصل في أيدينا وكل من كان كذلك فإنه مأسور فلنا أن نقتله كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ولنا أن نمن عليه كما من النبي صلى الله عليه وسلم على ثمامه بن أثال الحنفي وعلى أبي عزة الجمحي ولنا أن نفادي به كما فادى النبي صلى الله عليه وسلم بعقيل وغيره ولنا أن نسترقه كما استرق المسلمون خلقا من الأسرى مثل أبي لؤلؤة قاتل عمر ومماليك العباس وغيرهم أما قتل الأسير واسترقاقه فما أعلم فيه خلافا لكن قد اختلف العلماء في المن عليه والمفادة هل هو باق أو منسوخ؟ على ما هو معروف في مواضعه وهذا لأنه إذا نقض العهد عاد كما كان والحربي الذي لا عهد له إذا قدر عليه جاز قتله واسترقاقه ولأنه ناقض للعهد فجاز قتله واسترقاقه كاللاحق بدار الحرب والمحارب في طائفة ممتنعة إذا أسر بل هذا أولى لأن نقض العهد بذلك متفق عليه فهو أغلظ فإذا جاز أن يحكم فيه بحكم الأسير ففي هذا أولى نعم إذا انتقض العهد بفعل له عقوبة تخصه مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق عليه ونحو ذلك أقيمت عليه تلك العقوبة سواء كانت قتلا أو جلدا ثم إن بقي حيا بعد إقامة حد تلك الجريمة عليه صار كالكافر الحربي الذي لا حد عليه.

ومن فرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سائر النواقض قال: لأن هذا حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعف عنه فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق ولا بالتوبة كسب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله تحرير مأخذ السب. وأما من قال إنه يتعين قتله إذا نقضه بما فيه مضرة على المسلمين دون ما إذا لم يوجد منه إلا مجرد اللحاق بدار الحرب والامتناع عن المسلمين فلأن الله تعالى قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} فأوجب سبحانه قتال الذين نكثوا العهد وطعنوا في الدين ومعلوم أن مجرد نكث العهد موجب للقتال الذي كان واجبا قبل العهد وأوكد فلا بد أن يفيد هذا زيادة توكيد وما ذاك إلا لأن الكافر الذي ليس بمعاهد يجوز الكف عنى قتاله إذا اقتضت المصلحة ذلك إلى وقت فيجوز استبقائه بخلاف هذا الذمي نقض وطعن فإنه يجب قتاله من غير استتابة وكل طائفة وجب قتالها من غير استئناف لفعل يبيح دم آحادها فإنه يجب قتل الواحد منهم إذا فعله وهو في أيدينا كالردة والقتل في المحاربة والزنى ونحو ذلك بخلاف البغي فإنه لا يبيح دم الطائفة إلا إذا كانت ممتنعة وبخلاف الكفر الذي لا عهد معه فإنه يجوز الاستيناء بقتل أصحابه بالجملة وقوله سبحانه: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} دليل على أن الله تعالى يريد الانتقام منهم وذلك لا يحصل من الواحد إلا إذا قتل ولا يحصل إن من عليه أو فودي به أو استرق نعم دلت الآية على أن الطائفة الناقضة الممتنعة يجوز أن يتوب الله على من يشاء منها بعد أن يعذبها

ويخزيها بالغلبة لأن ما حاق بهم من العذاب والخزي يكفي في ردعهم وردع أمثالهم عما فعلوه من النقض والطعن أما الواحد فلو لم يقتل بل من عليه لم يكن هناك رادع قوي عن قوله عن فعله. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سبى بني قريظة قتل المقاتلة واسترق الذرية إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين فقتلها لذلك وحديثها مع عائشة رضي الله عنها معروف ففرق صلى الله عليه وسلم بين من اقتصر على نقض العهد وبين من آذى المسلمين مع ذلك وكان لا يبلغه عن أحد من المعاهدين أنه آذى المسلمين إلا ندب إلى قتله وقد أجلى كثير ومن على كثير ممن نقض العهد فقط. وأيضا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهدوا أهل الشام من الكفار ثم نقضوا العهد فقاتلوهم ثم عاهدوهم مرتين أو ثلاثا وكذلك مع أهل مصر ومع هذا فلم يظفروا بمعاهد آذى المسلمين بطعن في الدين أو زنى بمسلمة ونحو ذلك إلا قتلوه وأمروا بقتل هؤلاء الأجناس عينا من غير تخيير فعلم أنهم فرقوا بين النوعين. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل مقيس بن حبابة وعبد الله بن خطل ونحوهما مما ارتد وجمع إلى ردته قتل مسلم ونحوه من الضرر ومع هذا فقد ارتد في عهد أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير وقتلوا من المسلمين عددا بعد الامتناع مثل ما قتل طليحة الأسدي عكاشة بن محصن وغيره ولم يؤخذ أحد منهم بقصاص بعد ذلك فإذا كان المرتد يؤخذ بما أصابه قبل الامتناع من الجنايات ولا يؤخذ بما فعله بعد الامتناع فكذلك الناقض للعهد لأن كليهما خرج عما عصم به دمه: هذا نقض إيمانه وهذا نقض أمانه وإن كان في هذا خلاف بين الفقهاء في المذهب وغيره فإنما قسنا على أصل ثبت بالسنة وإجماع

الصحابة نعم المرتد إذا عاد إلى الإسلام عصم دمه إلا من حد يقتل بمثله المسلم والمعاهد يقتل على ما فعله من الجنايات المضرة بالمسلمين لأنه يصير مباحا بالنقض ولم يعد إلى شيء يعصم دمه فيصير كحربي يغلظ قتله يبين ذلك أن الحربي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا آذى المسلمين وضرهم قتله عقوبة له على ذلك ولم يمن عليه بعد القدرة عليه فهذا الذي نقض عهده بضرر المسلمين أولى بذلك ألا ترى أنه لما من على أبي عزة الجمحي وعاهده أن لا يعين عليه فغدر به ثم قدر عليه بعد ذلك وطلب أن يمن عليه فقال: "لا تسمح سبلاتك بمكة وتقول: سخرت بمحمد مرتين" ثم قال: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" فلما نقض يمينه منعه ذلك من المن عليه لأنه ضره بعد أن كان عاهده على ترك ضراره فكذلك من عاهد من أهل الذمة أنه لا يؤذي المسلمين ثم أذاهم لو أطلقوا للدغوا من جحر واحد مرتين ولمسح المشرك سبلاته وقال: سخرت بهم مرتين. وأيضا فلأنه إذا لحق بدار الحرب وامتنع لم يضر المسلمين وإنما أبطل العقد الذي بينهم وبينه فصار كحربي أصلي أما إذا فعل ما يضر بالمسلمين من مقاتلة أو زنى بمسلمه أو قطع طريق أو حبس أو نحو ذلك فإنه يتعين قتله لأنه لو لم يقتل لخلت هذه المفاسد عن العقوبة عليها وتعطلت حدود هذه الجرائم ومثل هذه الجرائم لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق المسلم فلأن لا يجوز العفو عن عقوبتها في حق الذمي أولى وأحرى ولا يجوز أن يقام عليه حدها منفردا كما يقام على من بقيت ذمته الحد لأن صاحبها صار حربيا والحربي لا يقام عليه إلا القتل فتعين قتله وصار هذا كالأسير اقتضت المصلحة قتله لعلمنا أنه متى أفلت كان فيه ضرر على المسلمين أكثر من ضرر قتله فإنه لا يجوز المن عليه ولا المفاداة به اتفاقا ولأن الواجب في مثل هذا إما القتل أو المن أو الاسترقاق أو الفداء

فأما الاسترقاق فإنه أبقى له على ذمته بنحو مما كان فإنه كان تحت ذمتنا نأخذ منه الجزية بمنزلة العبد ولهذا قال بعض الصحابة لعمر في مسلم قتل ذميا: أتقيد عبدك من أخيك؟ بل ربما كان استبعاده أنفع له من جعله ذميا واستبعاد مثل هذا لا تؤمن عاقبته وسوء مغبته وأما المن عليه والمفاداة به فأبلغ في المفسدة وإعادته إلى الذمة ترك لعقوبته بالكلية فتعين قتله. يوضح ذلك أنا على هذا التقرير لا نعاقبه إذا عاد إلى الذمة إلا بما يعاقب فيه المسلم أو الباقي على ذمته وهذا في الحقيقة يؤول إلى قول من يقول: إن العهد لا ينقض بهذه الأشياء فلا معنى لجعل هذه الأشياء ناقضه للعهد وإيجاب إعادة أصحابها إلى العهد وأن لا يعاقبوا إذا عادوا إلا بما يعاقب به المسلم. ويؤيد ذلك أن هذه الجرائم إذا رفعت العهد وفسخته فلأن يمنع ابتداء بطريق الأولى لأن الدوام أقوى من الابتداء ألا ترى أن العدة والردة تمنع ابتداء عقد النكاح دون دوامه فأما إن كان وجود هذه المضرات يمنع دوام العقد فمنعه ابتداءه أولى وأحرى وإذا لم يجز ابتداء عقد الذمة فلأن لا يجوز المن عليه أولى ولأن الله تعالى أمر بقتل جميع المشركين إلا أن المشدود وثاقه من المحاربين جعل لنا أن نعامله بما نرى والخارج عن العهد وليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه كما أن الخارج عن الدين ليس بمنزلة الذي لم يدخل فيه فإن الذي لم يدخل فيه باق على حاله والذي خرج من الإيمان والأمان قد أحدث فسادا فلا يلزم من احتمال الفساد الباقي المستصحب احتمال الفساد المحدث المتجدد لأن الدوام أقوى من الابتداء.

يبين ذلك أن كل أسير كان يؤذي المسلمين مع كفره فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتله مثل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ومثل أبي عزة الجمحي في المرة الثانية. وأيضا فإنه إذا امتنع بطائفة أو بدار الحرب كان ما يتوقى من ضرره متعلقا بعزة ومنعته كالحربي الأصلي فإذا زالت المنعة بأسره لم يبق منه ما يبقى إلا من جهة كونه كافرا فقط فلا فرق بينه وبين غيره أما إذا ضر المسلمين وآذاهم بين ظهرانيهم أو تمرد عليهم بالامتناع مما أوجبته الذمة عليه كان ضرره بنفسه من غير طائفة تمنعه وتنصره فيجب إزهاق نفسه التي لا عصمة لها وهي منشأ الضرر وينبوع لأذى المسلمين ألا ترى أن الممتنع ليس فيما فعله إغراء للآحاد غير ذوي المنعة بخلاف الواحد فإن فيما يفعله فتح باب الشر فإن لم يعاقب فعل ذلك غيره وغيره ولا عقوبة لمن لا عهد له من الكفار إلا السيف. وأيضا فإن الممتنع منهم قد أمرنا بقتاله إلى أن يعطي الجزية عن يد وهو صاغر وأمرنا بقتاله حتى إذا أثخناه فشدوا الوثاق فكل آية فيها ذكر القتال دخل فيها فينتظمه حكم غيره من الكفار الممتنعين ويجوز إنشاء عقد ثان لهم واسترقاقهم ونحو ذلك أما من فعل جناية انتقض بها عهده وهو في أيدينا فلم يدخل في هذه العمومات لأنه لا يقاتل وإنما يقتل إذ القتال للممتنع وإذا كان أخذ الجزية والمن والفداء إنما هو لمن قوتل هذا لم يقاتل فيبقى داخلا في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} غير داخل في آية الجزية والفداء. وأيضا فإن الممتنع يصير بمنزلة الحربي والحربي يندرج جميع شأنه تحت الحراب بحيث لو أسلم لم يؤاخذ بضمان شيء من ذلك بخلاف الذي في أيدينا وذلك أنه ما دام تحت أيدينا في ذمتنا فإنه لا تأويل له في ضرر المسلمين وإيذائهم أما اللحاق بدار الحرب فقد يكون له معه شبهة في دينه يرى أنه إذا تمكن من الهرب هرب لا سيما وبعض فقهائنا يبيح له ذلك فإذا فعل ذلك

بتأويل كان بمنزلة ما يتلفه أهل البغي والعدل حال القتال لا ضمان فيه وما أتلفوه في غير حال الحرب ضمنته كل طائفة للأخرى فليس حال من تأول فيما فعله من النقض كحال من لم يتأول. وأيضا فإن ما يفعله بالمسلمين من الضرر الذي ينتقض به عهده لا بد له من عقوبة لأنه لا يجوز إخلاء الجرائم التي تدعو إليها الطباع من عقوبة زاجرة وشرع الزواجر شاهد لذلك ثم لا يخلو إما أن تكون عقوبته من جنس عقوبة من يفعل ذلك من مسلم أو ذمي بامرأة ذميه أو دون ذلك أو فوق ذلك والأول باطل لأنه يلزم أن يكون عقوبة المعصوم والمباح سواء ولأن الذي نقض العهد يستحق العقوبة على كفره وعلى ما فعله من الضرر الذي نقض به العهد وإنما أخرت عقوبة الكفر لأجل العهد فإذا ارتفع العهد استحق العقوبة على الأمرين وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من فعل ذلك وهو معصوم وبين مباح دمه لم يفعل ذلك لأن هذه المعاصي إذا فعلها المسلم فإنها منجبرة بما يلتزمه من نصر المسلمين ومنفعتهم وموالاتهم فلم يتمحض مضرا للمسلمين لأن فيه منفعة ومضرة وخيرا وشرا بخلاف الذمي فإنه إذا ضر المسلمين تمحض ضررا لزوال العهد الذي هو مظنة منفعته ووجود هذه الأمور المضرة وإذا لم يجز أن يعاقب بمثل ما يعاقب به المسلم فأن لا يعاقب بما هو دونه أولى وأحرى فوجب أن يعاقب بما هو فوق عقوبة المسلم ثم المسلم يتحتم قتله إذا فعل مثل هذه الأشياء فتحتم عقوبة ناقض العهد أولى لكن يختلفان في جنس العقوبة فهذا عقوبته القتل فيجب أن يتحتم وذلك عقوبته تارة القتل وتارة القطع وتارة الرجم أو الجلد. فصل. إذا تلخصت هذه القاعدة فيمن نقض العهد على العموم فنقول: شاتم

رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعين قتله كما قد نص عليه الأئمة. أما على قول من يقول: يتعين قتل كل من نقض العهد وهو في أيدينا أو يتعين قتل كل من نقض العهد بما فيه ضرر على المسلمين وأذى لهم كما ذكرناه في مذهب الإمام أحمد وكما قد دل عليه كلام الشافعي الذي نقلناه أو نقول: يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول صلى الله عليه وسلم وحده كما قد ذكره القاضي أبو يعلي وغيره من أصحابنا وكما ذكره طائفة من أصحاب الشافعي وكما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد وذكروا أن الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الإجمال فإنهم ذكروا في مواضع أخر أنه يقتل من غير تخيير فظاهر. وأما على قول من يقول: إن كل ناقض للعهد فإن الإمام يتخير فيه كالأسير فقد ذكرنا أنهم قالوا: إنه يستوفى منه الحقوق كالقتل والحد والتعزير لأن عقد الذمة على أن تجري أحكامنا عليه وهذه أحكامنا ثم إذا استوفينا منه ذلك فالإمام مخير فيه كالأسير وعلى هذا القول فيمكنهم أن يقولوا: إنه يقتل لأن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنى أو قطع طريق فإنه يقام عليه حد ذلك فيقتل إن أوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود وإن لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا آخر أو زنى بذمية فإنه يستوفي منه القود وحد الزنى وعهده باق ومذهب مالك يمكن أن يوجه على هذا المأخذ إن كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده. وبالجملة فالقول بأن الإمام يتخير في هذا إنما يدل عليه كلام بعض الفقهاء أو إطلاقه وكذلك القول بأنه يلحق بمأمنه وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة فإن تقرر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلا لما قدمناه وتوجيها لما سنذكره

والدليل على أنه يتعين قتله ولا يجوز استرقاقه ولا المن عليه ولا المفاداة به من طريقين. أحدهما: ما تقدم من الأدلة على وجوب قتل ناقض العهد إذا نقضه بما فيه ضرر على المسلمين مطلقا. الثاني: ما يخصه وهو من وجوه: أحدها: ما تقدم من الآيات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين. الثاني: حديث الرجل الذي قتل المرأة اليهودية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها وقد تقدم من حديث على بن أبي طالب وابن عباس فلو كان سب النبي صلى الله عليه وسلم يرفع العهد فقط ولا يوجب القتل لكانت هذه المرأة بمنزلة كافرة أسيرة وبمنزلة كافرة دخلت إلى دار الإسلام ولا عهد لها ومعلوم أنه لا يجوز قتلها وأنها تصير رقيقة للمسلمين بالسبي وهذه المرأة المقتولة كانت رقيقة والمسلم إذا كانت له أمة كافرة حربية لم يجز له ولا لغيره قتلها لمجرد كونها حربية بل تكون ملكا لسيدها ترد عليه إذا أخذها المسلمون ولا نعلم بين المسلمين خلافا أن المرأة لا يجوز قتلها لمجرد الكفر إذا لم تكن معاهدة كما يقتل الرجل لذلك ولا نعلم أيضا خلافا في أن المرأة إذا ثبت في حقها حكم نقض العهد فقط مثل أن تكون من أهل الهدنة وقد نقضوا العهد فإنه لا يجوز قتل نسائهم وأولادهم بل تسترق النساء والأولاد وكذلك الذمي إذا نقض العهد ولحق بدار الحرب فمن ولد له بعد نقض العهد لم يجز قتل النساء منهم والأطفال بل يكونون رقيقا للمسلمين وكذلك أهل الذمة إذا امتنعوا بدار الحرب ونحوها. فمن الفقهاء من قال: العهد باق في ذريتهم ونسائهم كما هو المعروف عن الإمام أحمد وقال أكثرهم: ينتقض العهد في الذرية والنساء أيضا ثم لا يختلفون أن النساء لا يقتلن وأصل ذلك أن الله تبارك وتعالى يقول: في كتابه

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فأمر بقتال الذين يقاتلون فعلم أن شرط القتال كون المقاتل مقاتلا. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. وعن رباح بن ربيع أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها يعني ويتعجبون من قتلها حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فانفرجوا عنها فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما كانت هذه لتقاتل " فقال لأحدهم: "الحق خالدا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن ابن كعب بن مالك عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر "نهى عن قتل النساء والصبيان " رواه الإمام أحمد. وفي الباب أحاديث مشهورة على أن هذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف وذلك لأن المقصود بالقتال أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله وأن لا تكون فتنة أي لا يكون أحد يفتن أحدا عن دين الله فإنما نقاتل من كان ممانعا عن ذلك وهم أهل القتال فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله كالمرأة والشيخ الكبير والراهب ونحو ذلك ولأن المرأة تصير رقيقة للمسلمين ومالا لهم ففي قتلها تفويت لذلك عليهم من غير حاجة وإضاعة المال لغير حاجة نعم لو قاتلت المرأة جاز أن تقتل بالاتفاق لوجود المعنى فيها

الذي جعل الله ورسوله عدمه مانعا من قتلها بقوله صلى الله عليه وسلم: " ما كانت هذه لتقاتل " لكن هل يجوز أن تقصد بالقتل كما يقصد الرجل أو يقصد كفها كما يقصد كف الصائل؟ ففيه خلاف بين الفقهاء فإذا كان الحكم في المرأة مثل ذلك وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم امرأة ذمية لأجل سبها مع أن قتلها لو كان حراما لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم كما أنكر قتل المرأة التي وجدها مقتولة في بعض مغازيه وإن لم تكن مضمونة بدية ولا كفارة فإنه صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن إنكار المنكر بل إقراره دليل على الجواز والإباحة علم أن السابة ليست بمنزلة الأسيرة الكافرة لأن تلك لا يجوز قتلها وعلم أن السب أوجب قتلها بنفسه كما يجب قتلها بالإجماع إذا قطعت الطريق وقتلت فيه وإذا زنت وكما يجب قتلها بالردة عند جماهير العلماء. فإن قيل: يجوز أن يكون سبها للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة قتالها والمرأة إذا قاتلت وكانت معاهدة انتقض عهدها كالرجل إذا فعل ذلك ويجوز أن تكون حينئذ بمنزلة المرأة المقاتلة إذا أسرت يتخير الإمام فيها بين أربعة أشياء كما يتخير في الرجل المقاتل إذا أسر. قلنا: الجواب من وجوه: أحدها: أن هذه المرأة لم يصدر عنها إلا مجرد شتم النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة سيدها المسلم ولم تحض أحدا من المشركين للقتال ولا أشارت على الكفار برأي تعين فيه على قتال المسلمين ومعلوم أن من لم يقاتل بيده ولا أعان على القتال بلسانه لم يجز أن ينسب إليه القتال بوجه من الوجوه ونحن لا ننكر أن من لا يجوز قتله كالراهب والأعمى والشيخ الفاني والمقعد ونحوهم إذا كان لهم رأي في القتال وكلام يعينون به على قتال المسلمين كانوا بمنزلة المقاتلين لكن مجرد سب المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوم مسلمين ليس من هذا القبيل وإنما هو أذى لله ولرسوله أبلغ من القتال من بعض الوجوه فلو لم يكن موجبا

للقتل لكانت المرأة الكافرة قد قتلت لأنها مقاتلة وهي لم تقاتل وذلك غير جائز فعلم أنه موجب للقتل وإن لم يكن قتالا وقد يكون قتالا إذا ذكر في معرض الحض على قتال المسلمين وإغراء الكفار بحربهم فأما في هذه الواقعة فلم يكن من القتال المعروف. الجواب الثاني: أنا نسلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة محاربة المسلمين ومقاتلهم من بعض الوجوه كما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك يعني سب الأنبياء من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر بل هو من أبلغ أنواع الحراب كما تقدم تقريره لكن الجواب نوعان: أحدهما: ما ينقطع مفسدته بالقتل تارة وبالاسترقاق أخرى وبالمن أو الفداء أخرى وهو حراب الكافر بالقتال يدا ولسانا فإن الحربي والحربية المقاتلة إذا أسرا فاسترقا انقطع عن المسلمين ضررهما كما قد يزول بالقتل وكذلك لو من عليهما رجاء أن يسلما إذا بدت مخائل الإسلام أو رجاء أن يكفا عن المسلمين شر من خلفهما أو فودي بهما فهنا مفسدة المحاربة قد تزول بهذه الأمور. الثاني: ما لا تزول مفسدته إلا بإقامة الحد فيه مثل حراب المسلم أو المعاهدة في دار الإسلام بقطع الطريق ونحوه فإن ذلك يتحتم إقامة الحد فيه باتفاق الفقهاء. فهذه الأمة التي كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم قد حاربت في دار الإسلام فإن قيل "تعاقب بالاسترقاق" فهي رقيقة لا يتغير حالها وإن قيل "يمن عليها أو يفادي بها" لم يجز لوجهين: أحدهما: أنها ملك مسلم ولا يجوز إخراجها عن ملكه مع حياتها

الثاني: أن ذلك إحسان إليها وإزالة للرق عنها فلا يجوز أن يكون جزاء لسبها وحرابها فتعين قتلها. الجواب الثالث: أن مفسدة السب لا تزول إلا بالقتل لأنها متى استبقيت طمعت هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض كقاطع الطريق سواء بخلاف المرأة المقاتلة إذا أسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها ولا يمكنها مع استرقاقها أن تقاتل ويمكنها أن تظهر السب والشتم فصار سبها من جنس الجنايات التي توجب العقوبات لا تزول مفسدتها إلا بإقامة الحد فيها وعلم أن الذمية التي تسب ليست بمنزلة الحربية التي تقاتل إذا أسرت بل هي بمنزلة الذمية التي تقطع الطريق وتزني. الجواب الرابع: أن الحديث فيه حكم وهو القتل وسبب القتل هو السب فيجب إضافة الحكم إلى السبب والأصل إيجاد الحكم فمن زعم أن السبب حكم آخر احتاج إلى دليل وقياسه على الأسيرة لا يصح لما سيأتي إن شاء الله تعالى. الجواب الخامس: أنها لو كانت بمنزلة الأسيرة لكان النظر فيها للإمام لا يجوز لآحاد الرعية تخير واحدة من الخصال الأربع فيها ومن قتلها ضمنها بقيمتها للمسلمين إن كانت فيئا وللغانمين إن كانت مغنما فعلم أن القتل كان واجبا فيها عينا. يبقى أن يقال: الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه وجوابه من وجوه: أحدها: أن السيد له أن يقيم الحد على عبده بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " وقوله: " إذا زنت أمة أحدكم فليحلدها " ولا أعلم خلافا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد مثل حد الزنا والقذف والشرب ولا خلاف بين المسلمين أن له أن

يعزره واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلا أو قطعا مثل قتله لردته أو لسبه النبي صلى الله عليه وسلم وقطعه للسرقة؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما يجوز وهو منصوص عن الشافعي والأخرى: لا يجوز كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو قول مالك وقد صح عن ابن عمر أنه قطع يد عبد له سرق وصح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر وكان ذلك برأي ابن عمر فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده مطلقا وعلى هذا القول فالسيد له أن يقيم الحد على عبده بعلمه في المنصوص عن الإمام أحمد هو إحدى الروايتين عن مالك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من سيد الأمة بينة على سبه بل صدقة في قوله: "كانت تسبك وتشتمك" ففي الحديث حجة لهذا القول أيضا. الوجه الثاني: أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتئات على الإمام والإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه. الوجه الثالث: أن هذا وإن كان حدا فهو قتل حربي أيضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله وهذا يجوز قتله لكل أحد وعلى هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له إنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو سمعته لقتلته. الوجه الرابع: أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يرض بحكمه فنزل القرآن بإقراره ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي صلى الله عليه وسلم ناصرا لله ورسوله وذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين ويفسده ليس بمنزلة من قتل لأجل معصية من زنى ونحوه. الجواب السادس: أن الفقهاء قد اختلفوا في المرأة المقاتلة إذا أسرت هل

يجوز قتلها؟ ومذهب الشافعي أنها لا تقتل فلو كانت هذه إنما قتلت لكونها قد قاتلت لم يجز أن تقتل بعد الأسر عنده فلا يصح أن يورد هذا السؤال على أصله. الدليل الثالث: أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوما بأمان يعقد له أو ذمة أو هدنة ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم والنفر الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن الأشرف جاؤا إليه على أن يستلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى وهذا كله يثبت الأمان فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافرا حربيا لم يجز قتله بعد أمانة إليهم وبعد أن أظهروا له أنهم مؤمنون له واستئذانهم إياه في إمساك يديه فعلم بذلك أن إيذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه أمان ولا عهد وذلك لا يكون إلا فيما أوجب القتل عينا من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح ولا يصيرون مستأمنين بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم فعلم أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم كذلك. يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لو قر كما قر غيره ما اغتيل ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف" فإن ذلك دليل على أن لا جزاء له إلا القتل. الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم إن كان ثابتا "من سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد" فأوجب القتل عينا على كل ساب ولم يخير بينه وبين غيره وهذا ما يعتمد في الدلالة إن كان محفوظا. الدليل الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قتل ابن الأشرف لأنه كان يؤذي الله ورسوله وكذلك كان يأمر بقتل من يسبه أو

يهجوه إلا من عفا عنه بعد القدرة وأمره صلى الله عليه وسلم للايجاب فعلم وجوب قتل الساب وإن لم يجب قتل غيره من المحاربين وكذلك كانت سيرته لم يعلم أنه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه إلا من تاب أو كان من المنافقين وهذا يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالجهاد وإقامة الحدود فيكون على الإيجاب يؤيد ذلك أن في ترك قتله تركا لنصر الله ورسوله وذلك غير جائز. الدليل السادس: أقاويل الصحابة فإنها نصوص في تعيين قتله مثل قول عمر رضي الله عنه: "من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه" فأمر بقتله عينا ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء عليهم السلام أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه" فأمر بقتل المعاهد إذا سب عينا ومثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد ومعاهد فهو محارب غادر" فبين أن الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك ولم يجعل فيه خيرة إلى الإمام لا سيما والسابة امرأة وذلك وحده دليل كما تقدم ومثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته" ولو كان كالأسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله وهذا الدليل واضح. الدليل السابع: أن ناقض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي وخروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين وأذى الله ورسوله ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة يزجر أمثاله عن مثل حاله والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ

كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فأمر الله رسوله إذا صادف الناكثين بالعهد في الحرب أن يشرد بهم غيرهم من الكفار بأن يفعل بهم ما يتفرق به أولئك وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فحض على قتال من نكث اليمين وهم بإخراج الرسول وبدأ بنقض العهد ومعلوم أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدئنا أول مرة ثم قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فعلم أن تعذيب هؤلاء وإخزاءهم ونصر المؤمنين عليهم وشفاء صدورهم بالانتقام منهم وذهاب غيظ قلوبهم مما آذوهم به أمر مقصود للشارع مطلوب في الدين ومعلوم أن هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي صلى الله عليه وسلم وآذى الله تعالى ورسوله وعباده المؤمنين إلا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه ولا بالمن عليه والمفادة به. وكذلك أيضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يريدون إظهار السب لا يحصل على سبيل التمام إلا بذلك ولا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة إذا أسرنا واحدا منهم لأن قتال أولئك والظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف ما كان في أيدينا قبل السب وبعده فإن لم نحدث فيه قتالا لم يحصل هذا المقصود. وجماع ذلك أن ناقض العهد لا بد له من قتال أو قتل إذ لا يحصل المقصود إلا بذلك وهذا الوجه وإن كان فيه عموم لكل من نقض

العهد بالأذى لكن ذكرناه هنا لخصوص الدلالة أيضا فإنها تدل عموما وخصوصا. الدليل الثامن: أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فقد صدر منه فعل تضمن أمرين أحدهما: انتقاض العهد الذي بيننا وبينه الثاني: جنايته على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهاكه حرمته وإيذاء الله ورسوله والمؤمنين وطعنه في الدين وهذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد. ونظير ذلك أن ينقضه بالزنى بمسلمة أو بقطع الطريق على المسلمين وقتلهم وأخذ أموالهم أو بقتل مسلم فإن فعله مع كونه نقضا للعهد قد تضمن جناية أخرى فإن الزنى وقطع الطريق والقتل من حيث هو هو جناية ونقض العهد جناية كذلك هنا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث هو هو جناية منفصلة عن نقض العهد له عقوبة تخصه في الدنيا والآخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوته والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} فعلق اللعنة في الدنيا والآخرة والعذاب المهين بنفس أذى الله ورسوله فعلم أنه موجب ذلك وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} وقد تقدم تقريره. يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة آمن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك والذين نقضوا العهد الذي كان بينه وبينهم وخانوه إلا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه وسارة مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة فإذا كان قد أمر بقتل التي كانت تهجوه من النساء مع أن قتل

المرأة لا يجوز إلا إذا قاتلت وهو صلى الله عليه وسلم قد آمن جميع أهل مكة من كان قد قاتل ونقض العهد من الرجال والنساء علم بذلك أن الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال والحراب لأن التفريق بين المتامثلين لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه أمر بقتل ابن خطل لأنه كان قد قتل مسلما ولأنه كان مرتدا ولأنه كان يأمر بهجائه وكل واحد من القتل والردة والأمر بهجائة جناية زائدة على مجرد الكفر والحراب ومما يبين ذلك أنه قد كان أمر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير والحويرث بن نقيد وابن خطل وغيرهم مع أمانه لسائر أهل البلد وكذلك أهدر دم أبي سفيان بن الحارث وامتنع من إدخاله عليه وإدخال عبد الله بن أبي أمية لما كانا يقعان في عرضه وقتل ابن أبي معيط والنضر بن الحارث دون غيرهما من الأسرى وسمى من يبذل نفسه في قتله ناصرا لله ورسوله وكان يندب إلى قتل من يؤذيه ويقول: "من يكفيني عدوي" وكذلك أصحابه يسارعون إلى قتل من آذاه بلسانه وإن كان أبا أو غيره وينذرون قتل من ظفروا به من هذا الضرب وقد تقدم من بيان ذلك ما فيه بلاغ ومن المعلوم أن هؤلاء لو كانوا بمنزلة سائر الكفار الذين لا عهد لهم لم يقتلهم ولم يأمر بقتلهم في مثل هذه الأوقات التي آمن فيها الناس وكف عمن هو مثلهم فعلم أن السب جناية زائدة على الكفر وقد تقدم تقرير ذلك في المسألة الأولى على وجه يقطع العاقل أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم جناية لها موقع يزيد على سائر الجنايات بحيث يستحق صاحبها من العقوبة ما لا يستحقه غيره وإن كان كافرا حربيا مبالغا في محاربة المسلمين وأن وجوب الانتصار ممن كان هذه حاله كان مؤكدا في الدين والسعي في إهدار دمه من أفضل الأعمال وأوجبها وأحقها بالمسارعة إليه وابتغاء رضوان الله تعالى فيه وأبلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده وفرضه عليهم ومن تأمل الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم يوم الفتح واشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم وأعرض

عن بعضهم وانتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر والحراب من ردة وقتل ونحو ذلك وجرم أكثرهم إنما كان من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاه بألسنتهم فأي دليل أوضح من هذا على أن سبه وهجاءه جناية زائدة على الكفر والحراب لا يدخل في ضمن الكفر كما يدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر وعلى أن المعاهدين إذا نقضوا العهد وفيهم من سب النبي صلى الله عليه وسلم كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد؟. ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفرا وحرابا وإن كان متضمنا لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه وقد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره ولو كان السب مجرد ردة لوجب قتله كالمرتد يجب قتله فعلم أنه قد تغلب في السب حق النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجوز له العفو عنه. ومما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحدا من المسلمين أو المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة ما لا يستحقه بمجرد نقض العهد فيكون سب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سب واحد من البشر. ومما يدل على ذلك أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم وشاتمه يؤذيه شتمه وهجائه كما يؤذيه التعرض لدمه وماله قال الله تعالى لما ذكر الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} فجعل الغيبة التي هي كلام صحيح بمنزلة أكل لحم المغتاب ميتا فكيف ببهتانه؟ وسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بهتانا.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن المؤمن كقتله" وكما يؤذي ذلك غيره من البشر. وأيضا فإن ذلك يؤذي جميع المؤمنين ويؤذي الله سبحانه وتعالى ومجرد الكفر والمحاربة لا يحصل بهما من أذاه ما يحصل بالوقيعة في العرض مع المحاربة فلو قيل: "إن الواقع في عرضه ممن انتقض عهده بمنزلة غيره ممن انتقض عهده" لكانت الوقيعة في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاه بذلك جرما لا جزاء له من حيث خصوص النبي صلى الله عليه وسلم وخصوص أذاه كما لو قتل رجل نبيا من الأنبياء فإن لقتله من العقوبة ما لا يستحق على مجرد الكفر والمحاربة وهذا كله ظاهر لا خفاء به فإن دماء الأنبياء وأعراضهم أجل من دماء المؤمنين وأعراضهم فإذا كان دماء غيرهم وأعراضهم لا تندرج عقوبتها في عقوبة مجرد نقض العهد فأن لا تندرج عقوبة دمائهم وأعراضهم في عقوبة نقض العهد بطريق الأولى. ومما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق به عدة حقوق: حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة ومن حيث طعن في ألوهيته فإن الطعن في الرسول طعن في المرسل وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بواسطته وسفارته فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآباءهم وأبناءهم وسب جميعهم كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس

أجمعين وتعلق به حق رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله وأكثر مما يؤذيه الضرب بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة فإن هتك عرضه قد يكون أعظم عنده من قتله فإن قتله لا يقدح عند الناس في نبوته ورسالته وعلو قدره كما أن موته لا يقدح في ذلك بخلاف الوقيعة في عرضه فإنها قد تؤثر في نفوس بعض الناس من النفره عنه وسوء الظن به ما يفسد عليهم إيمانهم ويوجب لهم خسارة الدنيا والآخرة فكيف يجوز أن يعتقد عاقل أن هذه الجناية بمنزلة ذمي كان في ديار المسلمين فلحق ببلاد الكفار مستوطنا لها مع أن ذلك اللحاق ليس في خصوصه حق لله ولا لرسوله ولا لأحد من المسلمين؟ أكثر ما فيه أن الرجل كان معتصما بحبلنا فخرق تلك العصمة فإنما أضر بنفسه لا بأحد من المؤمنين. فعلم بذلك أن السب فيه من الأذى لله ولرسوله ولعباده المؤمنين ما ليس في الكفر والمحاربة وهذا ظاهر إن شاء الله. إذا ثبت ذلك فنقول: هذه الجناية جناية السب موجبها القتل لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" فعلم أن من آذى الله ورسوله كان حقه أن يقتل ولما تقدم من إهدار النبي صلى الله عليه وسلم دم المرأة السابة مع أنها لا تقتل لمجرد نقض العهد ولما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بقتل من كان يسبه مع إمساكه عمن هو بمنزلته في الدين وندبه الناس إلى ذلك والثناء على من سارع في ذلك ولما تقدم من الحديث المرفوع

ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم أن من سب نبيا قتل ومن سب غير نبي جلد. والذي يختص بهذا الموضع أن نقول: هذه الجناية إما أن يكون موجبها بخصوصها القتل أو الجلد أو لا عقوبة لها بل تدخل عقوبتها في ضمن عقوبة الكفر والحراب. وقد أبطلنا القسم الثالث والقسم الثاني أيضا باطل لوجوه. أحدها: أنه لو كان الأمر كذلك لكان الذمي إذا نقض العهد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يجلد لسب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حق آدمي ثم يكون كالكافر الحربي يقتل للكفر ومعلوم أن هذا خلاف ما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة فإنهم اتفقوا على القتل فقط فعلم أن موجب كلا الجنايتين القتل والقتل لا يمكن تعدده وكذلك كان ينبغي أن يجلد المرتد لحق النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقتل لردته كمرتد سب بعض المسلمين فإنه يستوفى منه حق الآدمي ثم يقتل ألا ترى أن السارق يقطع لسرقته التي هي حق لله ويرد المال المسروق إذا كان باقيا بالاتفاق ويغرم بدله إن كان تالفا عند أكثر الفقهاء ولا يدخل حق الآدمي في حق الله مع ايجاد السبب. الثاني: أنه لو لم يكن موجبه القتل وإنما القتل موجب كونه ردة لم يجز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عنه لأن إقامة الحد على المرتد واجبة بالاتفاق لا يجوز العفو عنه فلما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم في جناية دل على أن السب نفسه يوجب القتل حقا للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه حق الله تعالى ويكون سابه وقاذفه بمنزلة ساب غيره وقاذفه قد اجتمع في سبه حقان: حق لله وحق لآدمي فلو أن المسبوب والمقذوف عفا عن حقه لم يعزر القاذف

والساب على حق الله بل دخل في العفو كذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذا عفا عمن سبه دخل في عفوه عنه حق الله فلم يقتل لكفره كما لا يعزر ساب غيره لمعصيته مع أن المعصية المجردة عن حق آدمي توجب التعزير. يوضح ذلك أنه قد ثبت أنه كان له أن يقتل من سبه كما في حديث أبي بكر وحديث الذي أمر بقتله لما كذب عليه وحديث الشعبي في قتل الخارجي وكما دلت عليه أحاديث قد تقدم ذكرها وثبت له أن يعفو عنه كما دل عليه حديث ابن مسعود وأبي سعيد وجابر وغيرهم فعلم أن سبه يوجب القتل كما أن سب غيره يوجب الجلد وإن تضمن سبه الكفر بالله كما تضمن سب غيره المعصية لله ويكون الكفر والحراب نوعين: أحداهما حق لله خالص والثاني ما فيه حق لله وحق لآدمي كما أن المعصية قسمان: أحدهما حق خالص لله والثاني حق لله ولآدمي ويكون هذا النوع من الكفر والحراب بمنزلة غيره من الأنواع في استحقاق فاعله القتل ويفارقه في الاستيفاء فإنه إلى الآدمي كما أن المعصية بسب غير النبيين بمنزلة غيرها من المعاصي في استحقاق فاعلها الجلد ويفارق غيرها في أن الاستيفاء فيها إلى الآدمي. يوضح هذا أن الحق الوجب على الإنسان قد يكون حقا محضا لله وهو ما إذا كفر أو عصى على وجه لا يؤذي أحدا من الخلق فهذا إذا وجب فيه حد لم يجز العفو عنه بحال وقد يكون حقا محضا لآدمي بمنزلة الديون التي تجب للإنسان على غيره من ثمن مبيع أو بدل قرض ونحو ذلك من الديون التي تثبت بوجه مباح فهذا لا عقوبة فيه بوجه وإنما يعاقب على الدين إذا امتنع عن وفائه والامتناع معصية وقد يكون حقا لله ولآدمي مثل حد القذف والقود وعقوبة السب ونحو ذلك فهذه الأمور فيها العقوبة من الحد والتعزير والاستيفاء فيها مفوض إلى اختيار الآدمي: إن أحب استوفى القود وحد القذف وإن شاء عفا فسب النبي صلى الله عليه وسلم لو كان من القسم الثاني لم يكن فيه عقوبة بحال فتعين أن يكون من القسم الثالث وقد ثبت أن

عقوبته القتل فعلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته القتل كما أن سب غيره من حيث هو سب له وحق لآدمي عقوبته الجلد إما حدا أو تعزيرا وهذا معنى صحيح واضح. وسر ذلك أنه إذا اجتمع الحقان فلا بد من عقوبة لأن معصية الله توجب العقوبة إما في الدنيا أو في الآخرة فإذا كان الاستيفاء جعل الله ذلك إلى المستحق من الآدميين لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيره فهو كله للذي أشرك كذلك من عمل عملا لغيره فيه عقوبة جعل عقوبته كلها لذلك الغير وكانت عقوبته على معصية الله تمكين ذلك الإنسان من عقوبته. وتمام هذا المعنى أن يقال: بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يتعين القتل لأن المستحق لا يمكن منه المطالبة والعفو كما أن من سب أو شتم أحدا من أموات المسلمين عزر على ذلك الفعل لكونه معصية لله وإن كان في حياته لا يؤدى حتى يطلب إذا علم. الوجه الثالث: أن سب النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يكون من حيث هو سب بمنزلة سب غيره من المؤمنين لأنه عليه الصلاة والسلام يباين سائر المؤمنين من أمته في عامة الحقوق فرضا وخطرا وغيرهما مثل وجوب طاعته ووجوب محبته وتقديمه في المحبة على جميع الناس ووجوب تعزيره وتوقيره على وجه لا يساويه فيه أحد ووجوب الصلاة عليه والتسليم إلى غير ذلك من الخصائص التي لا تحصى وفي سبه إيذاء لله ولرسوله ولسائر المؤمنين من عباده وأقل ما في ذلك أن سبه كفر ومحاربة وسب غيره ذنب ومعصية ومعلوم أن العقوبات على قدر الجرائم فلو سوى بين سبه وسب غيره لكان تسوية بين السبين المتباينين وذلك لا يجوز فإذا كان سب غيره مع كونه معصية يوجب الجلد وجب أن يكون سبه مع كونه كفرا يوجب القتل ويصير ذلك نوعا من أنواع الكفر من وجه ونوعا من أنواع السب من وجه فمن حيث

هو من جنس الكفر أوجب القتل ومن حيث هو من جنس السب كان حقا لآدمي. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب أحدا منهم إلا بالقتل ولو كان هو بانفراده لا يوجب القتل وإنما يوجب ما دونه وهو صلى الله عليه وسلم قد عفا عن عقوبته فيما دونه وآمن من فعل ذلك لكان صاحب ذلك لا ينبغي قتله لأن ذنبه الذي يختصه لا يقتضي القتل. فإن قيل: فقتله بمجموع الأمرين. قلنا: وهذا المقصود لأن السب حيث كان فإنه مستلزم لكفر لا عهد له. الدليل التاسع: أن سب رسول الله عليه الصلاة والسلام مع كونه من جنس الكفر والحراب أعظم من مجرد الردة عن الإسلام فإنه من المسلم ردة وزيادة كما تقدم تقريره فإذا كان كفر المرتد قد تغلظ لكونه قد خرج عن الدين بعد أن دخل فيه فأوجب القتل عينا فكفر الساب الذي آذى الله ورسوله وجميع المؤمنين من عباده أولى أن يتغلظ فيوجب القتل عينا لأن مفسدة السب في أنواع الكفر أعظم من مفسدة مجرد الردة. وقد اختلف الناس في قتل المرتدة وإن كان المختار قتلها ونحن قد قدمنا نصوصا عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وأصحابه في قتل السابة الذمية وغير الذمية والمرتد يستتاب من الردة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلوا الساب ولم يستتيبوه فعلم أن كفره أغلظ فيكون تعيين قتله أولى. الدليل العاشر: أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب حسب الإمكان لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله فحيث ما ظهر سبه ولم ينتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين

ظاهرا ولا كلمة الله عالية وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسراق وقطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب وجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة ملتزمين جريان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة وإنما تجوز مهادنة الكافر وأمانه عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك وكل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة يتعين عقوبة فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين فوجب أن يتعين قتل هذا لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين لأنه تعين بها حق الله ورسوله وجميع المؤمنين وبهذا يظهر الفرق بين الساب وبين الكافر لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفيا به ملتزما حكم الله ورسوله بخلاف المظهر للسب. الدليل الحادي عشر: أن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قتل كافر فهو حد من الحدود ليس قتلا على مجرد الكفر والحراب لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا وليس هذا موجب الكفر والمحاربة ولما تقدم من قول الصديق رضي الله عنه في التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم: "إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود" ومعلوم أن قتل الأسير الحربي ونحوه من الكفار والمحاربين لا يسمى حدا ولأن ظهور سبه في ديار المسلمين فساد عظيم أعظم من جرائم كثيرة فلا بد أن يشرع له حد يزجر عنه من يتعاطاه فإن الشارع لا يهمل مثل هذه المفاسد ولا يخليها من الزواجر وقد ثبت أن حده القتل بالسنة والإجماع وهو حد لغير معين حي لأن الحق فيه لله تعالى ولرسوله وهو ميت ولكل مؤمن وكل حد يكون بهذه المثابة فإنه يتعين إقامته بالاتفاق. الدليل الثاني عشر: أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيره

وتوقيره واجب وقتل سابه مشروع كما تقدم فلو جاز ترك قتله لم يكن ذلك نصرا له ولا تعزيزا ولا توقيرا بل ذلك أقل نصره لأن الساب في أيدينا ونحن متمكنون منه فإن لم نقتله مع أن قتله جائز لكان ذلك غاية في الخذلان وترك التعزيز له والتوقير وهذا ظاهر. واعلم أن تقرير هذه المسألة له طرق متعددة غير ما ذكرناه ولم نطل الكلام هنا لأن عامة الدلائل المذكورة في المسألة الأولى تدل على وجوب قتله لمن تأملها فاكتفينا بما ذكرناه هناك وإن كان القصد في المسألة الأولى بيان جواز قتله مطلقا وهنا بيان وجوب قتله مطلقا وقد أجبنا هناك عمن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله منم أهل الكتاب والمشركين السابين وبينا أن ذلك إنما كان في أول الأمر حين كان مأمورا بالعفو والصفح قبل أن يؤمر بقتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية ويجاهد الكفار والمنافقين وأنه كان له أن يعفو عمن سبه لأن هذه الجريمة غلب فيها حقه وبعد موته لا عافي عنها والله أعلم

المسألة الثالثة: أنه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا.

المسألة الثالثة: أنه يقتل ولا يستتاب سواء كان مسلما أو كافرا. قال الإمام أحمد في رواية حنبل: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم وتنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب". وقال: "كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة". وقال عبد الله: سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم يستتاب؟ قال: "قد وجب عليه القتل ولا يستتاب خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه". هذا مع نصه أنه مرتد إن كان مسلما وأنه قد نقض العهد إن كان ذميا وأطلق في سائر أجوبته أنه يقتل ولم يأمر فيه باستتابة هذا مع أنه لا يختلف

نصه ومذهبه أن المرتد المجرد يستتاب ثلاثا إلا أن يكون ممن ولد على الفطرة فقد روي عنه أنه يقتل ولا يستتاب والمشهور عنه استتابة جميع المرتدين واتبع في استتابته ما صح في ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة وقدرها عمر رضي الله عنه ثلاثا وفسر الإمام أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه فإذا تاب لم يكن مبدلا وهو راجع يقول: قد أسلمت. وهل استتابة المرتد واجبة أو مستحبة؟ فيه عن الإمام أحمد روايتان وكذلك الخرقي أطلق القول بأن من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما كان أو كافرا وأطلق أبو بكر أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك غيرهما مع أنهم في المرتد يذكرون أنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب من السب بأن يسلم أو يعود إلى الذمة إن كان كافرا أو يعود إلى الإسلام إن كان مسلما ويقلع عن السب فقال القاضي في المجرد وغيره من أصحابنا: "والردة تحصل بجحد الشهادتين وبالتعريض بسب الله تبارك وتعالى وبسب النبي صلى الله عليه وسلم" إلا أن الإمام أحمد قال: "لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لأن المعرة تلحق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" وكذلك وقال ابن عقيل: قال أصحابنا في سب النبي عليه الصلاة والسلام: إنه لا تقبل توبته من ذلك لما تدخل من المعرة من السب على النبي عليه الصلاة والسلام وهو حق لآدمي لم يعلم إسقاطه. وقال القاضي في خلافه وابنه أبو الحسين: "إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم تقبل توبته مسلما كان أو كافرا ويجعله ناقصا للعهد" نص عليه أحمد. وذكر القاضي النصوص التي قدمناها عن الإمام أحمد في أنه يقتل

ولا يستتاب وقد وجب عليه القتل قال القاضي: لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان حق لله وحق للآدمي والعقوبة إذا تعلق بها حق لله وحق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه لو تاب قبل القدرة لم يسقط حق الآدمي من القصاص ويسقط حق الله. وقال أبو المواهب العكبري: يجب لقذف النبي صلى الله عليه وسلم الحد المغلظ وهو القتل تاب أو لم يتب ذميا كان أو مسلما. وكذلك ذكر جماعات آخرون من أصحابنا أنه يقتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبل توبته سواء كان مسلما أو كافرا ومرادهم بأنه لا تقبل توبته أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة والتوبة اسم جامع للرجوع عن السب بالإسلام وبغيره فلذلك أتوا بها وأرادوا أنه لو رجع عن السب بالإسلام أو بالإقلاع عن السب والعود إلى الذمة إن كان ذميا لم يسقط عنه القتل لأن عامة هؤلاء لما ذكروا هذه المسألة قالوا: خلافا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن كان مسلما يستتاب فإن تاب وإلا قتل كالمرتد وإن كان ذميا فقال أبو حنيفة: لا ينتقض عهده واختلف أصحاب الشافعي فيه فعلم أنهم أرادوا بالتوبة توبة المرتد وهي الإسلام ولأنهم قد حكموا بأنه مرتد وقد صرحوا بأن توبة المرتد أن يرجع إلى الإسلام وهذا ظاهر فيه فإن كل من ارتد بقول فتوبته أن يرجع إلى الإسلام ويتوب من ذلك القول وأما الذمي فإن توبته لها صورتان: إحداهما: أن يقلع عن السب ويقول: لا أعود إليه وأنا أعود إلى الذمة وألتزام موجب العهد. والثانية: أن يسلم فإن إسلامه توبة من السب. وكلا الصورتين تدخل في كلام هؤلاء الذين قالوا: لا تقبل توبته مسلما كان أو كافرا وإن كانت الصورة الثانية أدخل في كلامهم في الأولى لكن إذا

لم يسقط عنه القتل بتوبة هي الإسلام فأن لا يسقط بتوبة هي العود إلى الذمة أولى وإنما كانت أدخل لأنه قد علم أن التوبة من المسلم إنما هي الإسلام فكذلك من الكافر لذكرهم توبة الاثنين بلفظ واحد ولأن تعليلهم بكونه حق آدمي وقياسه على المحارب دليل على أنه لا يسقط بالإسلام ولأنهم قد صرحوا في مواضع يأتي بعضها أن التوبة من الكافر هنا إسلامه. وقد صرح بذلك جماعة غيرهم فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في "الإرشاد" وهو ممن يعتمد نقله: "ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب ومن سبه صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة قتل وإن أسلم". وقال أبو علي بن البناء في "الخصال والأقسام" له: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم وجب قتله ولا تقبل توبته وإن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يقتل أيضا ولا يستتاب" قال: ومذهب مالك كمذهبنا. وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافا في وجوب قتل المسلم والكافر وأنه لا يسقط بالتوبة من إسلام وغيره وهذه طريقة القاضي في كتبه المتأخرة من "التعليق الجديد" وطريقة من وافقه وكان القاضي في "التعليق القديم" وفي "الجامع الصغير" يقول: "إن المسلم يقتل ولا تقبل توبته وفي الكافر إذا أسلم روايتان" قال القاضي في "الجامع الصغير" الذي ضمنه مسائل التعليق القديم: "ومن سب أم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم تقبل توبته فإن كان كافرا فأسلم ففيه روايتان" إحداهما: "يقتل أيضا" والثانية: "لا يقتل ويستتاب" قياسا على قوله في الساحر: "إذا كان كافرا لم يقتل وإن كان مسلما قتل" وكذلك ذكر من نقل من "التعليق القديم" مثل الشريف أبي جعفر

قال إذا سب أم النبي عليه الصلاة والسلام قتل ولم تقبل توبته وفي الذمي إذا سب أم النبي صلى الله عليه وسلم روايتان إحداهما: يقتل والأخرى: لا يقتل. قال: وبهذا التفصيل قال مالك وقال أكثرهم: تقبل توبته في الحالين. لنا أنه حد وجب كقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال أبو الخطاب في رؤوس المسائل: "إذا قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل التوبة منه وفي الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان" وقال أبو حنيفة والشافعي: "تقبل توبته في الحالين". لنا أنه حد وجب لقذف آدمي فلا يسقط بالتوبة دليله قذف غير أم النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما ذكرت عبارة هؤلاء ليتبين أن مرادهم بالتوبة هنا من الكافر الإسلام ويظهر أن طريقتهم هي بعينها طريقة ابن البناء في أن المسلم إذا سب لم تقبل توبته وأن الذمي إذا سب ثم أسلم قتل أيضا في الصحيح من المذهب. فإن قيل: فقد قال القاضي في خلافه "فإن قيل: أليس قد قلتم لو نقض العهد بغير سب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن نقضه بمنع الجزية أو قتال المسلمين أو أذيتهم ثم تاب قبلتم توبته وكان الإمام فيه بالخيار بين أربعة أشياء كالحربي إذا حصل أسيرا في أيدينا هلا قلتم في سب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تاب منه كذلك قيل: لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم قذف لميت فلا يسقط بالتوبة كما لو قذف ميتا" وهذا من كلامه يدل على أن التوبة غير الإسلام لأنه لو نقض العهد بغير السب ثم أسلم لم يتخير الإمام فيه.

قلنا: لا فرق في التخيير بين الأربعة قبل التوبة التي هي الإقلاع وبعده عند من يقول به وإنما أراد المخالف أن يقيس على صورة تشبه صور النزاع وهي الحكم فيه بعد التوبة إذا كان قبل التوبة قد ثبت جواز قتله. على أن توبة الذمي الناقض للعهد لها صورتان: إحداهما: أن يسلم فإن إسلامه توبة من الكفر وتوابعه. والثانية: أن يرجع إلى الذمة تائبا من الذنب الذي أحدثه حتى انتقض عهده فهذه توبة من نقض العهد فإذا تاب هذه التوبة وهو مقدور عليه جاز للإمام أن يقبل توبته حيث يكون حكمه حكم الأسير كما أن الأسير إذا طلب أن تعقد له الذمة جاز أن يجاب إلى ذلك. فألزم المخالف القاضي على طريقته أن الناقض التائب من الناقض يخير الإمام فيه فهلا خيرتموه في الساب إذا تاب توبة يمكن التخيير بعدها بأن يقلع عن السب ويطلب عقد الذمة له ثانيا فلذلك قيل في هذه الصورة: هلا خير الإمام فيه بعد التوبة وإن كان في صورة أخرى لا يمكن التخيير بعد توبة هي الإسلام. وقد تقدم ذكر ذلك وقد قدمنا أيضا أن الصحيح أنه لا يخير فيمن نقض العهد بما يضر المسلمين بحال وقد ظهر أن الرواية الأخرى التي حكوها في الفرق بين المسلم والكافر مخرجة من نصه على الفرق بين الساحر الكافر والساحر المسلم وذلك أنه قد قال في الساحر الذمي: لا يقتل ما هو عليه من الكفر أعظم واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن أعصم لما سحره والساحر المسلم يقتل عنده لما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وعثمان وابن عمر وحفصة رضي الله عنهم من الأحاديث ووجه الترجيح أن

ما الكافر عليه من الشرك أعظم مما هو عليه من السب والسحر فنسبة السب والسحر إليه واحدة بخلاف المسلم فإذا قتل الساحر المسلم دون الذمي فكذلك الساب الذمي دون المسلم لكن السب ينقض العهد فيجوز قتله لأجل نقض العهد فإذا أسلم امتنع قتله لنقض العهد وهو لا يقتل لخصوص السب كما لا يقتل لخصوص السحر فيبقى دمه معصوما. وقد حكى هذه الرواية الخطابي عن الإمام أحمد نفسه فقال: قال مالك بن أنس: "من شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم" وكذلك قال أحمد بن حنبل وحكى آخرون من أصحابنا رواية عن الإمام أحمد أن المسلم تقبل توبته من السب بأن يسلم ويرجع عن السب كذلك ذكر أبو الخطاب في "الهداية" ومن احتذى حذوه من متأخري أصحابنا في ساب الله ورسوله من المسلمين: هل تقبل توبته أم يقتل بكل حال؟ روايتان. فقد تلخص أن أصحابنا حكوا في الساب إذا تاب ثلاث روايات. إحداهن: يقتل بكل حال وهي التي نصروها كلهم ودل عليها كلام الإمام أحمد في نفس هذه المسألة وأكثر محققيهم لم يذكروا سواها. والثانية: تقبل توبته مطلقا. والثالثة: تقبل توبة الكافر ولا تقبل توبة المسلم وتوبة الذمي التي تقبل إذا قلنا بها أن يسلم فأما إذا أقلع وطلب عقد الذمة له ثانيا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة كما تقدم. وذكر أبو عبد الله السامري أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فهل تقبل توبته؟ على روايتين قال: "ومن سبه من أهل الذمة قتل وإن أسلم" ذكره ابن أبي موسى فعلى ظاهر كلامه يكون الخلاف في المسلم

دون الذمي عكس الرواية التي حكاها جماعة من الأصحاب وليس الأمر كذلك فإن ابن أبي موسى قال: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب ومن سبه من أهل الذمة قتل وإن أسلم" فلم يذكر خلافا في شيء من ذلك كما دل عليه المأثور عن الإمام أحمد وكتاب أبي عبد الله السامري تضمن نقل أبي الخطاب ونقل ابن أبي موسى كما اقتضى شرطه أن يضمنه عدة كتب صغار فلما ذكر ما حكاه أبو الخطاب من الروايتين في المسلم وما ذكره ابن أبي موسى في الذمي إذا أسلم ظهر نوع خلل وإلا فلا ريب أنا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذمي بإسلامه أولى فإن كل ما يفرض. في الكافر من غلظ السب فهو في المسلم وزيادة فإنهما يشتركان في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وينفرد سب المسلم بأنه يدل على زندقته وأن سابه منافق ظهر نفاقه بخلاف الذمي فإن سبه مستند إلى اعتقاد وذلك الاعتقاد زال بالإسلام. نعم قد يوجه ما ذكره السامري بأن يقال: السب قد يكون غلطا من المسلم لا اعتقادا فإذا تاب منه قبلت توبته إذ هو عثرة لسان وسوء أدب أو قلة علم والذمي سبه أذى محض لا ريب فيه فإذا وجب الحد عليه لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود وقد ينزع هذا إلى قول من يقول: إن السب لا يكون كفرا في الباطن إلا أن يكون استحلالا وهو قول مرغوب عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. واعلم أن أصحابنا ذكروا أنه لا تقبل توبته لأن الإمام أحمد قال: لا يستتاب ومن أصله أن كل من قبلت توبته فإنه يستتاب كالمرتد ولهذا لما اختلفت الرواية عنه في الزنديق والساحر والكاهن والعراف ومن ارتد وكان مسلم الأصل هل يستتابون أم لا؟ على روايتين فإن قلنا: "لا يستتابون" قتلوا بكل حال وإن تابوا.

وقد صرح في رواية عبد الله بأن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجب عليه القتل ولا يستتاب فتبين أن القتل قد وجب وما وجب من القتل لم يسقط بحال. يؤيد هذا أنه قد قال في ذمي فجر بمسلمة: يقتل قيل له: فإن أسلم؟ قال: يقتل هذا قد وجب عليه فتبين أن الإسلام لا يسقط القتل الواجب وقد ذكر في الساب أنه قد وجب عليه القتل. وأيضا فإنه أوجب على الزاني بمسلمة بعد الإسلام القتل الذي وجب عقوبة على الزنى بمسلمة حتى إنه يقتله سواء كان حرا أو عبدا أو محصنا أو غير محصن كما قد نص عليه في مواضع ولم يسقط ذلك القتل بالإسلام ويوجب عليه مجرد حد الزنا لأنه أدخل على المسلمين من الضرر والمعرة ما أوجب قتله ونقض عهده فإذا أسلم لم تزل عقوبة ذلك الإضرار عنه كما لا تزول عنه عقوبة قطعه للطريق لو أسلم ولم يجز أن يقال: هو بعد الإسلام كمسلم فعل ذلك يفعل به ما يفعل بالمسلم لأن الإسلام يمنع ابتداء العقوبة ولا يمنع دوامها لأن الدوام أقوى كما لو قتل ذمي ذميا ثم أسلم قتل ولو قتله وهو مسلم لم يقتل. ولهذا ينتقض عهد الذمي بأشياء: مثل الزنا بالمسلمة وإن لم يكن محصنا وقتل أي مسلم كان والتجسس للكفار وقتال المسلمين واللحاق بدار الحرب وإن كان المسلم لا يقتل بهذه الأشياء على الإطلاق فإذا وجب قتل الذمي بها عينا ثم أسلم كان كما لو وجب قتله بذمي ثم أسلم إذ لا فرق بين أن يجب عليه حد لا يجب على المسلم فيسلم أو يجب عليه قصاص لا يجب على المسلم فيسلم فإن القصاص في اندرائه بالإسلام كالحدود وهو يسقط بالشبهة حكما يمنع الإسلام ابتداءه دون دوامه فكذلك العقوبات الواجبة على المعاهد

وهذا ينبني على قولنا: يتعين قتل الذمي إذا فعل هذه الأشياء وأن لخصوص هذه الجنايات أثرا في قتله وراء كونه كافرا غير ذي عهد ويقتضي أن قتله حد من الحدود التي تجب على أهل دار الإسلام من مسلم ومعاهد ليس بمنزلة رجل من أهل دار الحرب أخذ أسيرا إذ ذاك المقصود بقتله تطهير دار الإسلام من فساد هذه الجنايات وحسم مادة جناية المعاهدين وإذا كان قد نص على أن لا تزول عنه عقوبة ما أدخله على المسلمين من الضرر في زناه بالمسلمة فأن لا تزول عنه عقوبة إضراره بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لأن ما يلحق المسلمين من المضرة في دينهم بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يلحق بالزنا بمسلمة إذا أقيم على الزاني الحد. ونصه هذا يدل على أن الذمي إذا قذف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سبه ثم أسلم قتل بذلك ولم يقم عليه مجرد حد قذف واحد من الناس وهو ثمانون أو سب واحد من الناس وهو التعزير كما أنه لم يوجب على من زنى بمسلمة إذا أسلم حد الزنا وإنما أوجب القتل الذي كان واجبا وعلى الرواية الأخرى التي خرجها القاضي في كتبه القديمة ومن اتبعه فإن الذمي يستتاب من السب فإن تاب وإلا قتل. وكذلك يستتاب المسلم على الرواية التي ذكر أبو الخطاب وغيره كما يستتاب الزنديق والساحر ولم أجد للاستتابة في كلام الإمام أحمد أصلا فأما استتابة المسلم فظاهرة كاستتابة من ارتد بكلام تكلم به وأما استتابة الذمي فإن يدعى إلى الإسلام فأما استتابة بالعود إلى الذمة فلا يكفي على المذهب لأن قتله متعين. فأما على الوجه المضطرب الذي يقال فيه: "أن الإمام يخير فيه" فيشرع استتابته بالعود إلى الذمة لأن إقراره بها جائز بعد هذا لكن لا تجب هذه

الاستتابة رواية واحدة وإن أوجبنا الاستتابة بالإسلام على إحدى الروايتين وأما على الرواية التي ذكرها الخطابي فإنه إذا أسلم الذمي سقط عنه القتل مع أنه لا يستتاب كالأسير الحربي وغيره من الكفار يقتلون قبل الاستتابة ولو أسلموا سقط عنهم القتل وهذا أوجه من قول من يقول بالاستتابة فإن الذمي إذا نقض العهد جاز قتله لكونه كافرا محاربا وهذا لا يجب استتابته بالاتفاق اللهم إلا أن يكون على قول من يوجب دعوة كل كافر قبل قتاله فإذا أسلم جاز أن يقال: عصم دمه كالحربي الأصلي بخلاف المسلم فإنه إذا قبلت توبته فإنه يستتاب ومع هذا فمن تقبل توبته فقد يجوز استتابته كما يجوز استتابة الأسير لأنه من جنس دعاء الكافر إلى الإسلام قبل قتله لكن لا يجب لكن المنصوص عن أصحاب هذا القول أنه لا يقال له: أسلم ولا لا تسلم لكن إن أسلم سقط عنه القتل فتلخص من ذلك أنهما لا يستتابان في المنصوص المشهور فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور أيضا. وحكي عنه في الذمي أنه إذا أسلم سقط عنه القتل وإن لم يستتب. وحكي عنه أن المسلم يستتاب وتقبل توبته وخرج عنه في الذمي أنه يستتاب وهو بعيد. واعلم أنه لا فرق بين سبه بالقذف وغيره كما نص عليه الإمام أحمد وعامة أصحابه وعامة العلماء. وفرق الشيخ أبو محمد المقدسي رحمه الله بين القذف والسب فذكر الروايتين في المسلم وفي الكافر في القذف ثم قال: وكذلك سبه بغير القذف إلا أن سبه بغير القذف يسقط بالإسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالإسلام فسب النبي صلى الله عليه وسلم أولى وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك إذا ذكر بأنواع السب فهذا مذهب الإمام أحمد.

وأما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب" قال ابن القاسم: "من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق" وقال أبو مصعب وابن أبي أويس: سمعنا مالكا يقول: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب" وكذلك قال محمد بن عبد الحكم: أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من النبيين من مسلم كان أو كافر قتل ولم يستتب" قال: وروى لنا مالك إلا أن يسلم الكافر قال أشهب عنه: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب" فهذه نصوصه نحو من نصوص الإمام أحمد والمشهور من مذهبه أنه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه حكم الزنديق عندهم ويقتل عندهم حدا لا كفرا إذا أظهر التوبة من السب وروى الوليد بن مسلم عن مالك أنه جعل سب النبي صلى الله عليه وسلم ردة قال أصحابه: فعلى هذا يستتاب فإن تاب نكل وإن أبى قتل ويحكم له بحكم المرتد وأما الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل؟ على الروايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب وغيره إحداهما: يسقط عنه قال مالك في رواية جماعة منهم ابن القاسم: "من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل إلا أن يسلم" وفي رواية: "لا يقال له أسلم ولا لا تسلم ولكن إن أسلم فذلك له توبة" وفي رواية مطرف عنه: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل وكذلك من فعل ذلك من اليهود والنصارى قتل ولا يستتاب إلا أن يسلم قبل القتل" قال ابن حبيب: وسمعت ابن الماجشون يقوله وقال لي ابن عبد الحكم: وقال لي أصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم: قال مالك: "إن شتم النصراني النبي صلى الله عليه وسلم شتما يعرف فإنه يقتل

إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة ولم يقل: يستتاب قال ابن القاسم ومحمد: قوله عندي إن أسلم طائعا وعلى هذا فإذا أسلم بعد أن يؤخذ وثبت عليه السب ويعلم أنهم يريدون قتله إن لم يسلم لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال والرواية الثانية: لا يدرأ عنه إسلامه القتل قال محمد بن سحنون: وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يسقط عن الذمي بإسلامه وإنما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فأما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره. وأما مذهب الشافعي رضي الله عنه فلهم في ساب النبي صلى الله عليه وسلم وجهان أحدهما: هو كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل وهذا قول جماعة منهم وهو الذي يحكيه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي والثاني: أن حد من سبه القتل فكما لا يسقط حد القذف بالتوبة لا يسقط القتل الواجب بسب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة قالوا: ذكر ذلك أبو بكر الفارسي وادعى فيه الإجماع ووافقه الشيخ أبو بكر القفال وقال الصيدلاني قولا ثالثا وهو أن الساب بالقذف مثلا يستوجب القتل للردة لا للسب فإن تاب زال القتل الذي هو موجب الردة وجلد ثمانين للقذف ولهذا الوجه لو كان السب غير قذف عزر بحسبه ثم منهم من ذكر هذا الخلاف في المسلم إذا سب ثم أسلم ولم يتعرض للكلام في الذمي إذا سب ثم أسلم ومنهم من ذكر الخلاف في الذمي كالخلاف في المسلم إذا جدد الإسلام بعد السب ومنهم من ذكر في الذمي إذا سب ثم أسلم أنه يسقط عنه القتل وهو الذي حكاه أصحاب الخلاف عن مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلام الشافعي في موضع من "الأم" فإنه قال بعد أن ذكر نواقض العهد وذكر فيها سب النبي صلى الله عليه وسلم: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان ذلك قولا وكذلك إذا كان فعلا لم يقتل إلا أن يكون في دين المسلم أن من فعله قتل حدا أو قصاصا

فيقتل بحد أو قصاص لا نقض عهد وإن فعل مما وصفنا وشرط أنه نقض لعهد الذمة فلم يسلم ولكنه قال: "أتوب وأعطي الجزية كما كنت أعطيها أو على صلح أجدده" عوقب ولم يقتل إلا أن يكون فعل فعلا يوجب القصاص أو القود فأما ما دون هذا من الفعل أو القول فكل قول فيعاقب عليه ولا يقتل قال: فإن فعل أو قال مما وصفنا وشرط أنه يحل دمه فظفرنا به فامتنع من أن يقول: "أسلم أو أعطي الجزية" قتل وأخذ ماله فيئا فقد ذكر أن من نقض العهد فإنه تقبل توبته إما بأن يسلم أو بأن يعود إلى الذمة. وذكر الخطابي قال: قال مالك بن أنس: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم" وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال الشافعي: "يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة" واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف وظاهر هذا القتل والاستدلال يقتضي أن لا يكف عنه إذا أظهر التوبة لأنه لم يحك عنه شيئا ولأن ابن الأشرف كان مظهرا للذمة مجيبا إلى إظهار التوبة لو قبلت منه. والكلام في فصلين: أحدهما: في استتابة المسلم وقبول توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أن المشهور عن مالك وأحمد أنه لا يستتاب ولا تسقط القتل عنه توبته وهو قول الليث بن سعد وذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وحكى مالك وأحمد أنه تقبل توبته وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة المرتد فنتكلم أولا في قبول توبته والذي عليه عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين أنه تقبل توبة المرتد في الجملة وروي عن الحسن البصري أنه يقتل وإن أسلم جعله كالزاني والسارق وذكر عن أهل الظاهر نحو ذلك أن توبته تنفعه عند الله ولكن لا يدرأ القتل عنه

وروي عن أحمد أن من ولد في الإسلام قتل ومن كان مشركا فاسلم استتيب وكذلك روي عن عطاء وهو قول إسحاق بن راهويه والمشهور عن عطاء وأحمد الاستتابة مطلقا وهو الصواب ووجه عدم قبول التوبة قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه البخاري ولم يستثن ما إذا تاب وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه فإذا كان القاتل والزاني لا يسقط عنهما القتل بالتوبة فكذلك التارك لدينه المفارق للجماعة وعن حكيم بن جماعة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله توبة عبد كفر بعد إسلامه" رواه الإمام أحمد ولأنه لا يقتل لمجرد الكفر والمحاربة لأنه لو كان كذلك لما قتل المترهب والشيخ الكبير الأعمى والمقعد والمرأة ونحوهم فلما قتل هؤلاء علم أن الردة حد من الحدود والحدود لا تسقط بالتوبة. والصواب ما عليه الجماعة لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأخبر الله أنه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة وذلك يقتضى مغفرته له في الدنيا والآخرة ومن هذه حاله لم يعاقب بالقتل. يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد قال: حدثنا على بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام ولحق

بالمشركين فأنزل الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} إلى آخر الآية فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وخلى عنه ورواه النسائي من حديث داود مثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا علي عن خالد عن عكرمة بمعناه وقال: "والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله والله أصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وخلى عنه. وقال: ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} في أبي عامر بن النعمان ووحوح بن الأسلت والحارث بن سويد بن الصامت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في الحارث بن سويد بن الصامت. وقال: ثنا عبد الرزاق نا جعفر عن حميد عن مجاهد قال: "جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: والله إنك ما علمت لصادق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه". وكذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد وجماعة معه ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة كهيئة البدء ولحقوا بمكة كفارا

فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث وأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه. فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى الإسلام ولأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه وقد يعذب وإنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة. وذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة وأن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له مخشي بن حمير وقال بعضهم: كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برئ من نفاقه وقال: "اللهم إني لا أزال أسمع آية تقر عيني تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك" وذكروا القصة. وفي الاستدلال بهذا نظر ولأنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ

يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} . وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه وأنهم لا يعذبون في الدنيا ولا في الآخرة عذابا أليما: بمفهوم الشرط ومن جهة التعليل ولسياق الكلام والقتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل لأن الله سبحانه قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ومن غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه عليه في الدنيا ولا في الآخرة. وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة: خرج ناس من المسلمين يعني المهاجرين فأدركهم المشركون ففتنوهم فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} الآية ونزل فيهم: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه} الآية ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} إلى آخر الآية ولأنه سبحانه

قال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} فعلم أن من لم يمت وهو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار وذلك دليل على قبول التوبة وصحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل ولعموم قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا تاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا. وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بمكة وافترى على الله ورسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه وسلم وحقن دمه وكذلك الحارث بن سويد وكذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم وقصص هؤلاء وغيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث والسيرة. وأيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة والمدينة والطائف واتبع قوم منهم من تنبأ فيهم مثل مسيلمة والعنسي وطليحة الأسدي فقاتلهم الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك ولم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام ومن رؤوس من كان قد ارتد ورجع طليحة الأسدي المتنبي والأشعث بن قيس وخلق كثير لا يحصون والعلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد وهذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى

عليه ولعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة ونحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما ونحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فنقول بموجبه فإنما يكون مبدلا إذا دام على ذلك واستمر عليه فأما إذا رجع إلى الدين الحق فليس بمبدل وكذلك إذا رجع إلى المسلمين فليس بتارك لدينه مفارق للجماعة بل هو متمسك بدينه ملازم للجماعة وهذا بخلاف القتل والزنى فإنه فعل صدر عنه لا يمكن دوامه عليه بحيث إذا تركه يقال إنه ليس بزان ولا قاتل فمتى وجد منه ترتب حده عليه وإن عزم على أن لا يعود إليه لأن العزم على ترك العود لا يقطع مفسدة ما مضى من الفعل. على أن قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق كذلك رواه أبو داود في سننه مفسرا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها" فهذا المستثنى هنا هو المذكور في قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" ولهذا وصفه بفراق الجماعة وإنما يكون هذا بالمحاربة. يؤيد ذلك أن الحديثين تضمنا أنه لا يحل دم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والمرتد لم يدخل في هذا العموم فلا حاجة إلى استثنائه وعلى هذا فيكون ترك دينه عبارة عن خروجه عن موجب الدين ويفرق بين ترك الدين وتبديله أو يكون المراد به من ارتد وحارب كالعرنيين ومقيس بن حبابة ممن ارتد وقتل وأخذ المال فإن هذا يقتل بكل حال إن تاب بعد القدرة عليه ولهذا والله أعلم استثني هؤلاء الثلاثة الذين يقتلون بكل

حال وإن أظهروا التوبة بعد القدرة ولو كان أريد المرتد المجرد لما احتيج إلى قوله: "المفارق للجماعة" فإن مجرد الخروج من الدين يوجب القتل وإن لم يفارق جماعة الناس فهذا وجه يحتمله الحديث وهو والله أعلم مقصود هذا الحديث. وأما قوله: "لا يقبل الله توبة عبد أشرك بعد إسلامه" فقد رواه ابن ماجه من هذا الوجه ولفظه: "لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد إسلامه عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين" وهذا دليل على قبول إسلامه إذا رجع إلى المسلمين وبيان أن معنى الحديث أن توبته لا تقبل ما دام مقيما بين ظهراني المشركين مكثرا لسوادهم كحال الذين قتلوا ببدر ومعناه أن من أظهر الإسلام ثم فتن عن دينه حتى ارتد فإنه لا تقبل توبته وعمله حتى يهاجر إلى المسلمين وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِم} الآية وأيضا فإن ترك الدين وتبديله وفراق الجماعة يدوم ويستمر لأنه تابع للاعتقاد والاعتقاد دائم فمتى قطعه وتركه عاد كما كان ولم يبق لما مضى حكم أصلا ولا فيه فساد ولا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه مبدل للدين ولا أنه تارك لدينه كما يطلق على الزاني والقاتل بأن هذا زان وقاتل فإن الكافر بعد إسلامه لا يجوز أن يسمى كافرا عند الإطلاق ولأن تبديل الدين وتركه في كونه موجبا للقتل بمنزلة الكفر الأصلي والحراب في كونهما كذلك فإذا كان زوال الكفر بالإسلام أو زوال المحاربة بالعهد يقطع حكم الكفر فكذلك زوال تبديل الدين وتركه بالعود إلى الدين وأخذه يقطع حكم ذلك التبديل والترك.

فصل. إذا تقرر ذلك فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب ومذهب مالك وأحمد أنه يستتاب ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام وهل ذلك واجب أو مستحب؟ على روايتين عنهما أشهرهما عنهما: أن الاستتابة واجبة وهو قول إسحاق بن راهويه. وكذلك مذهب الشافعي هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين لكن عنده في أحد القولين يستتاب فإن تاب في الحال وإلا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني وفي القول الآخر يستتاب كمذهب مالك وأحمد. وقال الزهري وابن القاسم في رواية: "يستتاب ثلاث مرات". ومذهب أبي حنيفة أنه يستتاب أيضا فإن لم يتب وإلا قتل والمشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة وذكر الطحاوي عنهم: لا يقتل المرتد حتى يستتاب وعندهم يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإنه يؤجل ثلاثة أيام. وقال الثوري: "يؤجل ما رجيت توبته وكذلك معنى قول النخعي". وذهب عبيد بن عمير وطاوس إلى أنه يقتل ولا يستتاب لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل المبدل دينه والتارك لدينه المفارق للجماعة ولم يأمر باستتابته كما أمر الله سبحانه بقتال المشركين من غير استتابة مع أنهم لو تابوا لكففنا عنهم. يؤيد ذلك أن المرتد أغلظ كفرا من الكافر الأصلي فإذا جاز قتل الأسير الحربي من غير استتابة فقتل المرتد الأولى. وسر ذلك أنا لا نجيز قتل كافر حتى نستتيبه بأن يكون قد بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فإن قتل من لم تبلغه الدعوة غير جائز

والمرتد قد بلغته الدعوة فجاز قتله كالكافر الأصلي الذي بلغته وهذا هو علة من رأى الاستتابة مستحبة فإن الكفار يستحب أن ندعوهم إلى الإسلام عند كل حرب وإن كانت الدعوة قد بلغتهم فكذلك المرتد ولا يجب ذلك فيهما. نعم لو فرض المرتد من يخفى عليه جواز الرجوع إلى الإسلام فإن الاستتابة هنا لا بد منها. ويدل على ذلك أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر يوم الفتح مكة دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ودم مقيس بن حبابة ودم عبد الله بن خطل وكانوا مرتدين ولم يستتبهم بل قتل ذانك الرجلان وتوقف صلى الله عليه وسلم عن مبايعة بن أبي سرح لعل بعض المسلمين يقتله فعلم أن قتل المرتد جائز ما لم يسلم وأنه لا يستتاب. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب العرنيين الذين كانوا في اللقاح ثم ارتدوا عن الإسلام بما أوجب موتهم ولم يستتبهم ولأنه فعل شيئا من الأسباب المبيحة للدم فقتل قبل استتابته كالكافر الأصلي وكالزاني وكقاطع الطريق ونحوهم فإن كل هؤلاء من قبلت توبته ومن لم تقبل يقتل قبل الاستتابة ولأن المرتد لو امتنع بأن يلحق بدار الحرب أو بأن يكون المرتدون ذوي شوكة يمتنعون بها عن حكم الإسلام فإنه يقتل قبل الاستتابة بلا تردد فكذلك إذا كان في أيدينا. وحجة من رأى الاستتابة إما واجبة أو مستحبة قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} أمر الله ورسوله أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف وهذا معنى الاستتابة والمرتد من الذين كفروا والأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد

واجبة ولا يقال: "فقد بلغهم عموم الدعوة إلى الإسلام" لأن هذا الكفر أخص من ذلك الكفر فإنه يوجب قتل كل من فعله ولا يجوز استبقاؤه وهو لم يستتب من هذا الكفر. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بالتوبة إلى الحارث بن سويد ومن كان قد ارتد معه إلى مكة كما قدمناه بعد أن كانت قد نزلت فيهم آية التوبة فيكون استتابته مشروعة ثم إن هذا الفعل منه خرج امتثالا للأمر بالدعوة إلى الإسلام والإبلاغ لدينه فيكون واجبا. وعن جابر رضي الله عنه: "أن امرأة يقال لها "أم مروان" ارتدت عن الإسلام فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" رواهما الدارقطني. وهذا إن صح أمر بالاستتابة والأمر للوجوب والعمدة فيه إجماع الصحابة عن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال: "قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا وأطعمتوه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى أمر الله اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني" رواه مالك والشافعي وأحمد وقال: أذهب إلى حديث عمر وهذا يدل على أن الاستتابة واجبة وإلا لم يقل عمر: "لم أرض إذ بلغني". وعن أنس بن مالك قال: لما افتتحنا تستر بعثني الأشعري إلى عمر بن الخطاب فلما قدمت عليه قال: ما فعل البكريون؟ قال: فلما رأيته لا يقطع قلت: يا أمير المؤمنين ما فعلوا؟ إنهم قتلوا ولحقوا بالمشركين ارتدوا عن الإسلام

قاتلوا مع المشركين حتى قتلوا قال: فقال: "لأن أكون أخذتهم سلما كان أحب إلي مما على وجه الأرض من صفراء أو بيضاء" وقال: فقلت: وما كان سبيلهم لو أخذتهم سلما؟ قال: "كنت أعرض عليهم الباب الذي خرجوا منه فإن أبوا استودعتهم الحبس". وعن عبد الله بن عتبة قال: أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق قال: فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله فإن قبلوا فخل عنهم وإن لم يقبلوا فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه ولم يقبلها بعضهم فقتله رواهما الإمام أحمد بسند صحيح. وعن العلاء أبي محمد أن عليا رضي الله عنه أخذ رجلا من بني بكر بن وائل قد تنصر فاستتابه شهرا فأبى فقدمه ليضرب عنقه فنادى: يا لبكر فقال علي: "أما إنك واجده أمامك في النار" رواه الخلال وصاحبه أبو بكر. وعن أبي موسى رضي الله عنه أنه أتى برجل قد ارتد عن الإسلام فدعاه عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه رواه أبو داود. وروى من وجه آخر أن أبا موسى استتابه شهرا ذكره الإمام أحمد. وعن رجل عن ابن عمر قال: "يستتاب المرتد ثلاثا" رواه الإمام أحمد. وعن أبي وائل عن أبي معين السعدي قال: "مررت في السحر بمسجد بني حنيفة وهم يقولون: إن مسيلمة رسول الله فأتيت عبد الله فأخبرته فبعث الشرط فجاءوا بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم وضرب عنق عبد الله بن النواحة فقالوا: أحدث قوم في أمر فقتلت بعضهم وتركت بعضهم

فقال: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم إليه هذا وابن أثال فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقالا: أتشهد أنت أن مسيلمة رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آمنت بالله ورسله ولو كنت قاتلا وفدا لقتلتكما" قال: فلذلك قتلته رواه عبد الله بن أحمد بإسناد صحيح. فهذه أقوال الصحابة في قضايا متعددة لم ينكرها منكر فصارت إجماعا. والفرق بين هذا وبين الكافر الأصلي من وجوه: أحدها: أن توبة هذا أقرب لأن المطلوب منه إعادة الإسلام والمطلوب من ذاك ابتداؤه والإعادة أسهل من الابتداء فإذا أسقط عنا استتابة الكافر لصعوبتها لم يلزم سقوط استتابة المرتد. الثاني: أن هذا يجب قتله عينا وإن لم يكن من أهل القتال وذاك لا يجوز أن يقتل إلا أن يكون من أهل القتال ويجوز استبقاؤه بالأمان والهدنة والذمة والإرقاق والمن والفداء فإذا كان حده أغلظ فلم يقدم عليه إلا بعد الإعذار إليه بالاستتابة بخلاف من يكون جزاؤه دون هذا. الثالث: أن الأصلي قد بلغته الدعوة وهي استتابة عامة من كل كفر وأما هذا فإنما نستتيبه من التبديل وترك الدين الذي كان عليه ونحن لم نصرح له بالاستتابة من هذا ولا بالدعوة إلى الرجوع. وأما ابن أبي سرح وابن خطل ومقيس بن حبابة فإنه كانت لهم جرائم زائدة على الردة وكذلك العرنيون فإن أكثر هؤلاء قتلوا مع الردة وأخذوا الأموال فصاروا قطاع طريق محاربين لله ورسوله وفيهم من كان يؤذي بلسانه أذى صار به من جنس المحاربين فلذلك لم يستتابوا على أن

الممتنع لا يستتاب وإنما يستتاب المقدور عليه ولعل بعض هؤلاء قد استتيب فنكل. فصل. ذكرنا حكم المرتد استطرادا لأن الكلام في الساب متعلق به تعلقا شديدا فمن قال: "إن ساب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين " قال: إنه نوع من الكفر فإن من سب الرسول أو جحد نبوته أو كذب بآية من كتاب الله أو تهود أو تنصر ونحو ذلك كل هؤلاء قد بدلوا دينهم وتركوه وفارقوا الجماعة فيستتابون وتقبل توبتهم كغيرهم. يؤيد ذلك أن في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى المهاجر في المرأة السابة "أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب منها فإن رجع وإلا قتل". والأعمى الذي كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر فقتلها بعد ذلك فإن كانت مسلمة فلم يقتلها حتى استتابها وإن كانت ذمية وقد استتابها فاستتابة المسلم أولى. وأيضا فإما أن يقتل الساب لكونه كفر بعد إسلامه أو لخصوص السب والثاني لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام أو زني بعد إحصان أو قتل نفس فيقتل بها".

وقد صح ذلك عنه من وجوه متعددة وهذا الرجل لم يزن ولم يقتل فإن لم يكن قتله لأجل الكفر بعد الإسلام امتنع قتله فثبت أنه إنما يقتل لأنه كفر بعد إسلامه وكل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل لقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية ولما تقدم من الأدلة الدالة على قبول توبة المرتد. وأيضا فعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما كان قبله" رواه مسلم يوجب أن من أسلم غفر له كل ما مضى. وأيضا فإن المنافقين الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم} إلى قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وقد قيل فيهم: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} مع أن هؤلاء قد آذوه بألسنتهم وأيديهم أيضا ثم العفو مرجو لهم وإنما يرجى العفو مع التوبة فعلم أن توبتهم مقبولة ومن عفى عنه لم يعذب في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضا فقوله سبحانه وتعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً} الآية فإنها تدل على أن المنافق إذا كفر بعد إسلامه ثم تاب

لم يعذب عذابا أليما في الدنيا ولا في الآخرة والقتل عذاب أليم فعلم أنه لا يقتل. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رجال من المنافقين اطلع أحدهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فأنزل الله هذه الآية. وعن الضحاك قال: "خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ " فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله هذه الآية إكذابا لهم. وأيضا فلا ريب أن توبتهم فيما بينهم وبين الله وإن تضمنت التوبة من حقوق الآدميين لأوجه: أحدها: أنه قد قيل كفارة الغيبة الاستغفار لمن استغيبه وقد ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى مثل ذلك فجاز أن يكون ما أتى به من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم الموجب لأنواع الثناء عليه والتعظيم له موجبا لما ناله من عرضه. الثاني: أن حق الأنبياء تابع لحق الله وإنما عظمت الوقيعة في أعراضهم لما يتضمن ذلك من الكفر والوقيعة في دين الله وكتابه ورسالته فإذا تبعت حق الله في الوجوب تبعته في السقوط لئلا ليكون أعظم منه ومعلوم أن الكافر تصح توبته من حقوق الله فكذلك من حقوق

الأنبياء المتعلقة بنبوتهم بخلاف التوبة من الحقوق التي تجب للناس بعضهم على بعض. الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم منه أنه يدعو للتأسي به وإتباعه ويخبرهم أن من فعل ذلك فقد غفر الله له كل ما أسلفه في كفره فيكون قد عفا لمن قد أسلم عما ناله من عرضه. وبهذه الوجوه يظهر الفرق بين سب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سب واحد من الناس فإنه إذا سب واحدا من الناس لم يأت بعد سبه ما يناقض موجب السب وسبه حق آدمي محض لم يعف عنه والمقتضى للسب هو موجود بعد التوبة والإسلام كما كان موجودا قبلهما إن لم يزجر عنه بالحد وهنا كان الداعي إليه الكفر وقد زال بالإيمان وإذا ثبت أن توبته وإيمانه مقبول منه فيما بينه وبين الله فإذا أظهرها وجب أن يقبلها منه لما روى أبو سعيد في حديث ذي الخويصرة التميمي الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في القسمة فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: "لا لعله أن يكون يصلي" قال خالد: "وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" رواه مسلم. وقال لأسامة في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله: "كيف قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله" قال: إنما قالها تعوذا قال: "فهلا شققت عن قلبه". وكذلك في حديث المقداد نحو هذا وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف وهو مطلق أو مقيد

يصح إسلامه وتقبل توبته من الكفر وإن كانت دلالة الحال تقضي أن باطنه بخلاف ظاهره. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من المنافقين علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع إخبار الله له أنهم اتخذوا أيمانهم جنة وأنهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} فعلم أن من أظهر الإسلام والتوبة من الكفر قبل ذلك منه فهذا قول هؤلاء وسيأتي إن شاء الله تعالى الاستدلال على تعين قتله من غير استتابة والجواب عن هذه الحجج. الفصل الثاني في الذمي إذا سبه ثم تاب. وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقتل بكل حال وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك إذا تاب بعد أخذه وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي. الثاني: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام وهو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك وأحمد. والثالث: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو بالعودة إلى الذمة كما كان وعليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول وعلى هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة ولا يقتل. فمن قال: "إن القتل يسقط عنه بالإسلام" فإنه يستدل بمثل ما ذكرناه في المسلم فإنه كله يدل على أن الكافر أيضا إذا أسلم سقط عنه موجب السب ويدل على ذلك أيضا أن الصحابة ذكروا أنه إذا فعل ذلك فهو غادر محارب وأنه ناقض للعهد ومعلوم أن من حارب ونقض العهد إذا أسلم

عصم دمه وماله وقد كان كثير من المشركين مثل ابن الزبعرى وكعب بن زهير وأبي سفيان بن الحارث وغيرهم يهجون النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع الهجاء ثم أسلموا فعصم الإسلام دماءهم وأموالهم وهؤلاء وإن كانوا محاربين لم يكونوا من أهل العهد فهو دليل على أن حقوق الآدميين التي يستحلها الكافر إذا فعلها ثم أسلم سقطت عنه كما تسقط عنه حقوق الله ولهذا أجمع المسلمون إجماعا مستنده كتاب الله وسنة نبيه الظاهرة أن الكافر الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بما كان أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه معتقد حل ذلك وعقد الذمة لم يوجب عليه تحريم ذلك فإذا أسلم لم يؤخذ به بخلاف ما يصيبه من دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فإن عقد الذمة يوجب تحريم ذلك عليه منا كما يوجب تحريم ذلك علينا منه وإن كان يوجب علينا الكف عن سب دينهم والطعن فيه فهذا أقرب ما يتوجه به الاستدلال بقصص هؤلاء وإن كان الاستدلال به خطأ. وأيضا فإن الذمي إما أن يقتل إذا سب لكفره أو حرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود كما يقتل لزناه بذمية وقطع الطريق على ذمي والثاني باطل فتعين الأول وذلك لأن السب من حيث هو سب ليس فيه أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لا يوجب إلا الجلد بل لا يوجب على الذمي شيئا لاعتقاده حل ذلك نعم إنما صولح على الكف عنه والإمساك فمتى أظهر السب زال العهد وصار حربيا ولأن كون السب موجبا للقتل حدا حكم شرعي فيفتقر إلى دليل ولا دليل على ذلك إذا أكثر ما يذكر من الأدلة إنما يفيد أنه يقتل وذلك متردد بين كون القتل لكفره وحرابه أو لخصوص السب ولا يجوز إثبات الأحكام بمجرد الاستحسان والاستصلاح فإن ذلك شرع للدين بالرأي وذلك حرام لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ

مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} والقياس في المسألة متعذر لوجهين: أحدهما: أن كثيرا من النظار يمنع جريان القياس في الأسباب والشروط والموانع لأن ذلك يفتقر إلى معرفة نوع الحكمة وقدرها وذلك متعذر لأن ذلك يخرج السب عن أن يكون سبا وشرط القياس بقاء حكم الأصل ولأنه ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يمكن إلحاق السب بها لاختلافهما نوعا وقدرا واشتراكهما في عموم المفسدة لا يوجب الإلحاق بالاتفاق وكون هذه المفسدة مثل هذه المفسدة يفتقر إلى دليل وإلا كان شرعا بالرأي ووضعا للدين بالمعقول وذلك انحلال عن معاقد الدين وانسلال عن روابط الشريعة وانخلاع من ربق الإسلام وسياسة للخلق بالآراء الملكية والأنحاء العقلية وذلك حرام بلا ريب فثبت أنه إنما يقتل لأجل كفره وحرابه ومعلوم أن الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق. وأيضا فالذمي لو كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين الله تعالى ويقول فيه ما عسى أن يقول من القبائح ثم أسلم واعتقد نبوته ورسالته لمحا ذلك عنه جميع تلك السيئات ولا يجوز أن يقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم يطالبه بموجب سبه في الدنيا ولا في الآخرة" ومن قال ذلك علم أنه مبطل في مقالته للعلم بأن الكافرين يقولون في الرسول شر المقالات وأشنعها وقد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ببعضها مثل قولهم ساحر وكاهن ومجنون ومفتر وقول اليهود في مريم بهتانا عظيما ونسبتها إلى الفاحشة وأن المسيح لغير رشدة وهذا هو القذف الصريح ثم لو أسلم اليهودي وأقر بنبوة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وأنه بريء مما رمته به اليهود لم يبقى للمسيح عليه تبعة. ونحن نعلم أن من الكفار من يعتقد نبوة نبينا إلى الأميين ومنهم من يعتقد نبوته مطلقا لكن إلف الدين وعادته وأغراض أخر

تمنع الدخول في الإسلام ومنهم المعرض عن ذلك الذي لا ينظر إليه ولا يتفكر فهؤلاء قد لا يسبونه ومنهم من يعتقد فيه العقيدة الردية ويكف عن سبه وشتمه أو يسبه ويشتمه بما يعتقده فيه مما يكفر به ولا يظهر ذلك ومنهم من يظهر ذلك عند المسلمين ومنهم من يسبه بما لم يكفر به مما يكون سبا للنبي صلى الله عليه وسلم وغير النبي كالقذف ونحوه وإذا أسلم الكفار غفر لهم جميع ذلك ولم يجئ في كتاب ولا سنة أن الكافر إذا أسلم يبقى عليه تبعة من التبعات بل الكتاب والسنة دليلان على أن الإسلام يجب ما قبله مطلقا وإذا كان إثم السب مغفورا له لم يجز أن يعاقب عليه بعد الإسلام. وأيضا فلو سب الله سبحانه ثم أسلم لم يؤخذ بموجب ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنه ربه تبارك وتعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد" ثم لو تاب النصراني ونحوه من شتم الله سبحانه لم يعاقب على ذلك في الدنيا ولا في الآخرة بالاتفاق قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فسب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أعظم من سب الله فإنه إنما عظم وصار موجبا للقتل لكون حقه تابعا لحق الله فإذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى وبهذا يظهر الفرق بين سب الأنبياء وسب غيرهم من المؤمنين فإن سب الواحد من الناس لا يختلف بين ما قبل الإسلام وما بعده والأذى والغضاضة التي تلحق المسبوب قبل الإسلام الساب وبعده سواء بخلاف سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه

قد زال موجبه بالإسلام وتبدل بالتعزير له والتوقير والثناء عليه والمدحة له كما تبدل السب لله بالإيمان وتوحيده وتقديسه وتحميده وعبادته. يوضح ذلك أن الرسول له نعت البشرية ونعت الرسالة كما قال: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} فمن حيث هو بشر له أحكام البشر ومن حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه وفضله بما خصه به فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين وموجب للعقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلا وسبه من حيث هو رسول حق لله فقط فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب ويبقى حق بشريته من هذا السب وحق البشرية إنما يوجب جلد ثمانين. فمن قال: "إنه يجلد لقذفه بعد إسلامه ويعزر لسبه لغير القذف" قال: إن الإسلام يسقط حق الله وحق الرسالة ويبقى حق خصوص الآدمية كغيره من الآدميين فيؤدب سابه كما يؤدب ساب جميع المؤمنين بعد إسلامه. ومن قال: "إنه لا يعاقب بشيء" قال: هذا الحق اندرج في حق النبوة وانغمر في حق الرسالة فإن الجريمة الواحدة إذا أوجبت القتل لم توجب معه عقوبة أخرى عند أكثر الفقهاء ولهذا اندرج حق الله المتعلق بالقتل والقذف في حق الآدمي فإذا عفي للجاني عن القصاص وحد القذف لم يعاقب على ما انتهكه من الحرمة كذلك اندرج هنا حق البشرية في حق الرسالة وفي هذين الأصلين المقيس عليهما خلاف بين الفقهاء فإن مذهب مالك أن القاتل يعزره الإمام إذا عفا عنه ولي الدم.

وعند أبي حنيفة أن حد القذف لا يسقط بالعفو وكذلك تردد من قال: "إن القتل يسقط بالإسلام" هل يؤدب حدا أو تعزيرا على خصوص القذف والسب؟ ومن قال هذا القول قال: لا يستدل علينا بأن الصحابة قتلوا سابه أو أمروا بقتل سابه أو أرادوا قتل سابه من غير استتابة فإن الذمي إذا سبه لا يستتاب بلا تردد فإنه يقتل لكفره الأصلي كما يقتل الأسير الحربي ومثل ذلك لا يستتاب كاستتابة المرتد إجماعا لكن لو أسلم عصم دمه. كذلك يقول فيمن شتمه من أهل الذمة فإنه يقتل ولا يستتاب كأنه حربي آذى المسلمين وقد أسرناه فإنا نقتله فإن أسلم سقط عنه القتل. وكذلك أكثر نصوص مالك وأحمد وغيرهما إنما هي أنه يقتل ولا يستتاب وهذا لا تردد فيه إذا سبه الذمي. ومن قال: "إن الذمي يستتاب" فقد يقول: إنه قد لا يعلم أنه إذا أسلم سقط عنه القتل فيستتاب كما يستتاب المرتد وأولى فإن قتل الكفار قبل الإعذار إليهم وتبليغهم رسالات الله غير جائز. ومن لم يستتبه قال: هذا هو القياس لما جاء في الكتب في قتل كل كافر أصلي أسير وقد ثبت ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقتلون كثيرا من الأسرى من غير عرض للإسلام عليهم وإن كانوا ناقضين للعهد وذلك في قصة قريظة وخيبر ظاهر لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم بالسيرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى بعد أن نقضوا العهد وضرب رقابهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام وقد أمر بقتل ابن الأشرف من غير عرض للإسلام عليه وإنما قتله لأنه كان يؤذي الله ورسوله وقد نقض العهد. ومن قال: "إذا تاب بالعود إلى الذمة قبلت توبته أو خير الإمام فيه" قال: إنه في هذه الحال بمنزلة حربي قد بذل الجزية عن يد وهو صاغر فيجب الكف عنه.

واعلم أن هنا معنى لا بد من التنبيه عليه وهو أن الأسير الحربي الأصل لو أسلم فإن إسلامه لا يزيل عنه حكم الأسر بل إما أن يصير رقيقا للمسلمين بمنزلة النساء والصبيان كأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد أو يخير الإمام فيه بين الثلاثة غير القتل على القول الآخر في المذهبين. والدليل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق فقال: يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء فقال: أخذتك بجريرة حلفائك من ثقيف ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا فرجع إليه فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ثم انصرف فناداه: يا محمد يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال: هذه حاجتك ففدى بالرجلين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أسلم بعد الأسر لم يفلح كل الفلاح كما إذا أسلم قبل الأسر وأن ذلك الإسلام لا يوجب إطلاقه". وكذلك العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أظهر الإسلام بعد الأسر بل أخبر أنه قد أسلم قبل ذلك فلم يطلقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى فدى نفسه والقياس يقتضي ذلك فإنه لو أسلم رقيق للمسلمين لم يمنع ذلك دوام رقه فكذلك إسلام الأسير لا يمنع دوام أسره لأنه نوع رق ومجوز للاسترقاق كما أن إسلامه لا يوجب أن يرد عليه ما أخذ من ماله قبل الإسلام فإذا كان هذا حال من أسلم بعد أن أسر ممن هو حربي الأصل فهذا الناقض

للعهد حاله أشد بلا ريب فإذا أسلم بعد أن نقض العهد وهو في أيدينا لم يجز أن يقال: إنه يطلق بل حيث قلنا قد عصم دمه فإما أن يصير رقيقا وللإمام أن يبيعه بعد ذلك وثمنه لبيت المال أو أنه يتخير فيه وهذا قياس قول من يجوز استرقاق ناقض العهد ومن لم يجوز استرقاقهم فإنه يجعل هذا بمنزلة المرتد ويقول: إذا عاد إلى الإسلام لم يسترق ولم يقتل ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لو أسلمت وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" دليل على أن من أسلم ولا يملك أمره لم يكن حاله كحال من أسلم وهو مالك أمره فلا تجوز التسوية بينهما بحال وفي هذا أيضا دليل على أنه إذا بذل الجزية لم يجب إطلاقه فإنه إذا لم يجب إطلاقه بالإسلام فببذل الجزية أولى لكن ليس في الحديث ما ينفي استرقاقه. فصل. والدليل على أن المسلم يقتل من غير استتابة وإن أظهر التوبة بعد أخذه كما هو مذهب الجمهور قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} . وقد تقدم أن هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله وإن تاب بعد الأخذ لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات فإذا كانت عقوبة أولئك لا تسقط إذا تابوا بعد الأخذ فعقوبة هؤلاء أولى وأحرى لأن عقوبة كليهما على الأذى الذي قاله بلسانه لا على مجرد كفر هو باق عليه.

وأيضا فإنه قال: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} وهو يقتضي أن من لم ينته فإنه يؤخذ ويقتل فعلم أن الانتهاء العاصم ما كان قبل الأخذ. وأيضا فإنه جعل ذلك تفسيرا للعن فعلم أن الملعون متى أخذ قتل إذا لم يكن انتهى قبل الأخذ وهذا ملعون فدخل في الآية. يؤيد ذلك ما قدمناه عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال: "هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ليس فيها توبة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة" قال: فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر فهذا ابن عباس قد بين أن من لعن هذه اللعنة لا توبة له واللعنة الأخرى أبلغ منها. يقرره أن قاذف أمهات المؤمنين إنما استحق هذه اللعنة على قوله لأجل النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن مؤذيه لا توبة له. وأيضا قوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية. وهذا الساب محارب لله ورسوله كما تقدم تقريره من أنه محاد لله ورسوله وأن المحاد لله ورسوله مشاق لله ورسوله محارب لله ورسوله

ولأن المحارب ضد المسالم والمسالم الذي تسلم منه ويسلم منك ومن آذاه لم يسلم منه فليس بمسالم فهو محارب وقد تقدم من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه عدوا له ومن عاداه فقد حاربه وهو من أعظم الساعين في الأرض بالفساد قال الله تعالى في صفة المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} . وكل ما في القرآن من ذكر الفساد مثل قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} وقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَاد} وغير ذلك فإن السب داخل فيه فإنه أصل لكل فساد في الأرض إذ هو إفساد للنبوة التي هي عماد صلاح الدين والدنيا والآخرة. وإذا كان هذا الساب محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض بفساد وجب أن يعاقب بإحدى العقوبات المذكورة في الآية إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وقد قدمنا الأدلة على أن عقوبته متعينة بالقتل كعقوبة من قتل في قطع الطريق فيجب أن يقام ذلك عليه إلا أن يتوب قبل القدرة عليه وهذا الساب الذي قامت عليه البينة ثم تاب بعد ذلك إنما تاب بعد القدرة فلا تسقط العقوبة عنه ولهذا كان الكافر الحربي إذا أسلم بعد الأخذ لم تسقط عنه العقوبة مطلقا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للعقيلي: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" بل يعاقب بالاسترقاق أو بجواز الاسترقاق وغيره ولكن هذا مرتد محارب فلم يمكن استرقاقه كالعرنيين إذ المحاربة باللسان كالمحاربة باليد فتعين عقوبته بالقتل.

وأيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دلت من غير وجه على قتل الساب من غير استتابة فإنه أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة وقد ذكرنا أن ذلك يقتضي قتل الساب سواء أجرينا الحديث على ظاهره أو حملناه على من كذب عليه كذبا يشينه وكذلك في حديث الشعبي أنه أمر بقتل الذي طعن عليه في قسم مال العزى من غير استتابة. وفي حديث أبي بكر لما استأذنه أبو برزة أن يقتل الرجل الذي شتمه من غير استتابة قال: "إنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فعلم أنه كان له قتل من شتمه من غير استتابة وعمر رضي الله عنه قتل الذي لم يرض بحكمه صلى الله عليه وسلم من غير استتابة أصلا فنزل القرآن بإقراره على ذلك وهو من أدنى أنواع الاستخفاف به فكيف بأعلاها؟. وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما طعن عليه وافترى افتراء عابه به بعد أن أسلم أهدر دمه وامتنع عن مبايعته وقد تقدم تقرير الدلالة منه على أن الساب يقتل وإن أسلم وذكرنا أنه كان قد جاءه مسلما تائبا قد أسلم قبل أن يجيء إليه كما رويناه عن غير واحد أو قد جاء يريد الإسلام وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاء يريد الإسلام ثم كف عنه انتظار أن يقوم إليه رجل فيقتله. وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته بل يجوز قتله وإن جاء تائبا وإن تاب وقد قررنا هذا فيما مضى وهنا من وجوه أخرى أن الذي عصم دمه عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه لا مجرد إسلامه وأن بالإسلام والتوبة انمحى الإثم وبعفو رسول الله صلى الله عليه وسلم احتقن الدم والعفو بطل بموته صلى الله عليه وسلم وليس للأمة أن يعفوا

عن حقه وامتناعه من بيعته حتى يقوم إليه بعض القوم فيقتله نص في جواز قتله وإن جاء تائبا. وأما عصمة دمه بعد ذلك فليس دليلا لنا على أن نعصم دم من سب وتاب بعد أن قدرنا عليه لأنا قد بينا من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن سبه ممن لا خلاف بين الأمة في وجوب قتله إذا فعل ذلك وتعذر عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقد ذكرنا أيضا أن حديث عبد الله بن خطل يدل على قتل الساب لأنه كان مسلما فارتد وكان يهجوه فقتل من غير استتابة. وأيضا فما تقدم من حديث أنس المرفوع وأثر أبي بكر في قتل من آذاه في أزواجه وسراريه من غير استتابة وما ذاك إلا لأجل أنه نوع من الأذى ولذلك حرمه الله ومعلوم أن السب أشد أذى منه بدليل أن السب يحرم منه ومن غيره ونكاح الأزواج لا يحرم إلا منه صلى الله عليه وسلم وإنما ذاك مبالغة في تحريم ما يؤذيه ووجوب قتل من يؤذيه أي أذى كان من غير استتابة. وأيضا فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل النسوة اللاتي كن يؤذينه بألسنتهن بالهجاء مع أمانه لعامة أهل البلد ومع أن قتل المرأة لا يجوز إلا أن تفعل ما يوجب القتل ولم يستتب واحدة منهن حين قتل من قتل والكافرة الحربية من النساء لا تقتل إن لم تقاتل والمرتدة لا تقتل حتى تستتاب وهؤلاء النسوة قتلن من غير أن يقاتلن ولم يستتبن فعلم أن قتل من فعل مثل فعلهن جائز بدون استتابة فإن صدور ذلك عن مسلمة أو معاهدة أعظم من صدوره عن حربية. وقد بسطنا بعض هذه الدلالات فيما مضى بما أغنى عن إعادته هنا

وذكرنا أن السنة تدل على أن السب ذنب مقتطع عن عموم الكفر وهو من جنس المحاربة والتوبة التي تحقن الدم دم المرتد إنما هي التوبة عن الكفر فأما إن ارتد بمحاربة مثل سفك الدم وأخذ المال كما فعل العرنيون وكما فعل مقيس بن حبابة حيث قتل الأنصاري واستاق المال ورجع مرتدا فهذا يتعين قتله كما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيس بن حبابة وكما قيل له في مثل العرنيين "إنما جزاؤهم أن يقتلوا" فلذلك من تكلم بكلام من جنس المحادة والمحاربة لم يكن بمنزلة من ارتد فقط. وأيضا ما اعتمده الإمام أحمد من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقوا بين الساب وبين المرتد المجرد فقتلوا الأول من غير استتابة واستتابوا الثاني وأمروا باستتابته وذلك أنه قد ثبت أنهم قتلوا سابه وقد تقدم ذكر بعض ذلك مع أنه قد تقدم عنهم أنهم كانوا يستتيبون المرتد ويأمرون باستتابته فثبت بذلك أنهم كانوا لا يقبلون توبة من يسبه من المسلمين لأن توبته لو قبلت لشرعت استتابته كالمرتد فإنه على هذا القول نوع من المرتدين ومن خص المسلم بذلك قال: لا يدل ذلك على أن الكافر الساب لا يسقط عنه إسلامه القتل فإن الحربي يقتل من غير استتابة مع أن إسلامه يسقط عنه القتل إجماعا ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة أنه أمر باستتابة الساب إلا ما روى عن ابن عباس وفي إسناد الحديث عنه مقال ولفظه: "أيما مسلم سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن رجع وإلا قتل" وهذا والله أعلم فيمن كذب بنبوة شخص من الأنبياء وسبه بناء على أنه ليس بنبي ألا ترى إلى قوله: "فقد كذب برسول الله عليه الصلاة والسلام" ولا ريب أن من كذب بنبوة بعض الأنبياء وسبه بناء على ذلك ثم تاب قبلت توبته كمن كذب ببعض آيات القرآن فإن هذا أظهر أمره فهو كالمرتد أما من كان يظهر الإقرار بنبوة النبي ثم أظهر سبه فهذا هو مسألتنا.

يؤيد هذا أنا قد روينا عنه أنه كان يقول: "ليس لقاذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة وقاذف غيرهن له توبة" ومعلوم أن ذلك رعاية لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أن مذهبه أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم وقاذفه لا توبة له وأن وجه الرواية الأخرى عنه إن صحت ما ذكرناه أو نحوه. وأيضا فإن سبه أو شتمه ممن يظهر الإقرار بنبوته دليل على فساد اعتقاده وكفره به بل هو دليل على الاستهانة به والاستخفاف بحرمته فإن من وقر الإيمان في قلبه والإيمان موجب لإكرامه وإجلاله لم يتصور منه ذمه وسبه والنقص به وقد كان من أقبح المنافقين نفاقا من يستخف بشتم النبي صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجر نسائه في نفر من المسلمين قد كان تقلص عنهم الظل فقال: سيأتيكم إنسان ينظر بعين شيطان فلا تكلموه فجاء رجل أزرق فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ دعاهم بأسمائهم فانطلق فجاء بهم فحلفوا له واعتذروا إليه فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} الآية رواه أبو مسعود بن الفرات ورواه الحاكم في صحيحه وقال: فأنزل الله تعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} الآية وإذا ثبت أنه كافر مستهين به فإظهار الإقرار برسالته بعد ذلك لا يدل على زوال الكفر والاستهانة لأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا معتمدا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه.

ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه وإن شهد عنده بذلك العدول ويجوز له أن يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها وكذلك أيضا لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أكبر منه "هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه باتفاق العلماء وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر العدل الواحد ومثل الأمر والنهي والعموم والقياس يجب إتباعها إلا أن يقوم دليل أقوى منها يدل على أن باطنها مخالف لظاهرها ونظائر هذا كثيرة. فإذا علمت هذا فنقول: هذا الرجل قد قام الدليل على فساد عقيدته وتكذيبه به واستهانته له فإظهاره الإقرار برسالته الآن ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا وهذا القدر بطلت دلالته فلا يجوز الاعتماد عليه وهذه نكتة من لا يقبل توبة الزنديق وهو مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه وعنهما أنه يستتاب وهو المشهور عن الشافعي. وقال أبو يوسف آخرا: أقتله من غير استتابة لكن إن تاب قبل أن أقتله قبلت توبته وهذا أيضا الرواية الثالثة عن أحمد. وعلى هذا المأخذ فإذا كان الساب قد تكرر منه السب ونحوه مما يدل على الكفر اعتضد السبب بدلالات أخر من الاستخفاف بحرمات الله والاستهانة بفرائض الله ونحو ذلك من دلالات النفاق والزنديق كان ذلك أبلغ في ثبوت زندقته وكفره وفي أن لا يقبل منه مجرد ما يظهر من الإسلام مع ثبوت هذه الأمور وما ينبغي أن يتوقف في قتل مثل هذا وفي أن لا يسقط عنه القتل بما يظهر من الإسلام إذ توبة هذا بعد أخذه لم تجدد له حالا لم تكن قبل ذلك فكيف تعطل الحدود بغير موجب؟ نعم لو أنه

قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وكف عن ذلك لم يقتل في هذه الحال وفيه خلاف بين أهل هذا القول سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره. وعلى مثل هذا ومن هو أخف منه ممن لم يظهر نفاقه قط تحمل آيات التوبة من النفاق وعلى الأول تحمل آيات إقامة الحد. ثم من أسقط القتل عن الذمي إذا أسلم قال: بهذا يظهر الفرق بينه وبين الكافر إذا أسلم فإنه كان يظهر لدين يبيح سبه أو لا يمنعه من سبه فأظهر دين الإسلام الذي يوجب تعزيره وتوقيره فكان ذلك دليلا على صحة انتقاله ولم يعارضه ما يخالف فوجب العمل به وهذه الطريقة مبنية على عدم قبول توبة الزنديق كما قررناه من ظهور دليل الكفر مع عدم ظهور دليل الإسلام وهو من القياس الجلي. ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قوله وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} إلى قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} . قال أهل التفسير: {أَوْ بِأَيْدِينَا} بالقتل: إن أظهرتم ما في قلبوكم قتلناكم وهو كما قالوا: لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا القتل لكفرهم ولو كان المنافق يجب قبول ما يظهره من التوبة بعد ما ظهر نفاقه وزندقته لم يمكن أن نتربص بهم أن يصيبهم الله تعالى بعذاب من عنده أو بأيدينا لأنا كلما أردنا أن نعذبهم على ما أظهروه أظهروا التوبة.

وقال قتادة وغيره: قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} إلى قوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} قالوا: "في الدنيا القتل وفي البرزخ عذاب القبر". ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وقوله سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وكذلك قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} وقوله سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتخذوا إيمانهم اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إلى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} إلى قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . دلت هذه الآيات كلها على أن المنافقين كانوا يرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة وينكرون أنهم كفروا ويحلفون أنهم لم يتكلموا بكلمة الكفر.

وذلك دليل على أنهم يقتلون إذا ثبت ذلك عليهم بالبينة لوجوه. أحدها: أنهم لو كانوا إذا أظهروا التوبة قبل ذلك منهم لم يحتاجوا إلى الحلف والإنكار ولكانوا يقولون: قلنا وقد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون إذا ظهر ذلك عليهم أنهم يعاقبون من غير استتابة. الثاني: أنه قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} واليمين إنما تكون جنة إذا لم نأت ببينة عادلة تكذبها فإذا كذبتها بينة عادلة انخرقت الجنة فجاز قتلهم ولا يمكنه أن يجتن بعد ذلك إلا بجنة من جنس الأولى وتلك جنة مخروقة. الثالث: أن الآيات دليل على أن المنافقين إنما عصم دماءهم الكذب والإنكار ومعلوم أن ذلك إنما يعصم إذا لم تقم البينة بخلافه ولذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} الآية وقوله تعالى في موضع آخر: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال الحسن وقتادة: "بإقامة الحدود عليهم" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" وعن ابن عباس وابن جريج: "باللسان وتغليظ الكلام وترك الرفق". ووجه الدليل أن الله أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين وأن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة فإنه ما لم يظهر منه شيء البتة لم يكن لنا سبيل عليه فإذا ظهر منه كلمة الكفر فجهاده القتل وذلك يقتضي أن لا يسقط عنه بتجديد الإسلام

له ظاهرا لأنا لو أسقطنا عنهم القتل بما أظهروه من الإسلام لكانوا بمنزلة الكفار وكان جهادهم من حيث هم كفار فقط لا من حيث هم منافقون والآية تقتضي جهادهم لأنهم صنف غير الكفار لا سيما قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} يقتضي جهادهم من حيث هم منافقون لأن تعليق الحكم باسم مشتق مناسب يدل على أن موضع الاشتقاق هو العلة فيجب أن يجاهد لأجل النفاق كما يجاهد الكافر لأجل الكفر. ومعلوم أن الكافر إذا أظهر التوبة من الكفر كان تركا له في الظاهر ولا يعلم ما يخالفه. أما المنافق فإذا أظهر الإسلام لم يكن تركا للنفاق لأن ظهور هذه الحال منه لا ينافي النفاق ولأن المنافق إذا كان جهاده بإقامة الحد عليه كجهاد الذي في قلبه مرض وهو الزاني إذا زنى لم يسقط عنه حده إذا أظهر التوبة بعد أخذه لإقامة الحد عليه كما عرفت ولأنه لو قبلت علانيتهم دائما مع ثبوت ضدها لم يكن إلى الجهاد على النفاق سبيل فإن المنافق إذا ثبت عنه أنه أظهر الكفر فلو كان إظهار الإسلام حينئذ ينفعه لم يمكن جهاده. ويدل على ذلك قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} دلت هذه الآية على أن المنافقين إذا لم ينتهوا فإن الله يغري نبيه بهم وأنهم لا يجاورونه بعد الإغراء بهم إلا قليلا وأن ذلك في حال كونهم ملعونين أينما وجدوا وأصيبوا أسروا وقتلوا وإنما يكون ذلك إذا أظهروا النفاق لأنه ما دام مكتوما لا يمكن قتلهم. وكذلك قال الحسن: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق

فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه وأسروه وقال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا ولو كان إظهار التوبة بعد إظهار النفاق مقبولا لم يمكن أخذ المنافق ولا قتله لتمكنه من إظهار التوبة لا سيما إذا كان كلما شاء أظهر النفاق ثم أظهر التوبة وهي مقبولة منه. يؤيد ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل جزاءهم أن يقتلوا ولم يجعل جزاءهم أن يقاتلوا ولم يستثن حال التوبة كما استثناه من قتل المحاربين وقتل المشركين فإنه قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقال في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إلى قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فعلم أنهم يقتلون من غير استتابة وأنه لا يقبل منهم ما يظهرونه من التوبة. يوضح ذلك أنه جعل انتهاءهم النافع قبل الإغراء بهم وقبل الأخذ والتقتيل وهناك جعل التوبة بعد ذكر الحصر والأخذ والقتل فعلم أن الانتهاء بعد الإغراء بهم لا ينفعهم كما لا تنفع المحارب التوبة بعد القدرة عليه وإن نفعت المشرك من مرتد وأصلي التوبة بعد القدرة عليه وقد أخبر سبحانه أن سنته فيمن لم يتب عن النفاق حتى قدر عليه أن يؤخذ ويقتل وأن هذه السنة لا تبديل لها والانتهاء في الآية إما أن يعنى به الانتهاء عن النفاق بالتوبة الصحيحة أو الانتهاء عن إظهاره عند شياطينه وعند بعض المؤمنين. والمعنى الثاني أظهر فإن من المنافقين من لم ينته عن إسرار النفاق حتى

مات النبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا عن إظهاره حتى كان في آخر الأمر لا يكاد أحد يجترئ على إظهار شيء من النفاق نعم الانتهاء يعم القسمين فمن انتهى عن إظهاره فقط أو عن إسراره وإعلانه خرج من وعيد هذه الآية ومن أظهره لحقه وعيدها. ومما يشبه ذلك قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فإنه دليل على أن المنافق إذا لم يتب عذبه الله في الدنيا والآخرة وكذلك قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} إلى قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} وأما قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} فقد قال أبو: "هذا شيء واحد هم المنافقون" وكذلك قال مجاهد: "كل هؤلاء منافقون فيكون من باب عطف الخاص على العام" كقوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَال} وقال سلمة بن كهيل وعكرمة: "الذين في قلوبهم مرض أصحاب الفواحش والزناة ومعلوم أن من أظهر الفاحشة لم يكن بد من إقامة الحد عليه فكذلك من أظهر النفاق". ويدل على جواز قتل الزنديق المنافق من غير استتابة ما خرجاه في الصحيحين في قصة حاطب بن أبي بلتعة فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فدل على أن ضرب عنق المنافق من غير استتابة مشروع إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر استحلال ضرب عنق المنافق ولكن أجاب

بأن هذا ليس بمنافق ولكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مبيح للدم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك قالت: "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه: إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد يعني ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت" متفق عليه. وفي الصحيحين عن عمر وعن جابر بن عبد الله قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال: فقال النبي عليه الصلاة والسلام:

دعوها فإنها خبيثة وقال عبد الله بن أبي بن سلول: أقد تداعوا علينا؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال عمر: ألا نقتل يا نبي الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". وذكر أهل التفسير وأصحاب السير أن هذه القصة كانت في غزوة بني المصطلق: اختصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار حتى غضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن وقال عبد الله بن أبي: أفعلوها؟ قد نافرونا وكابرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لئن أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فقال زيد بن ابن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب فمشى زيد بن أرقم بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بعد فراغه من الغزوة وعنده عمر بن الخطاب فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال: "إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب" فقال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر؟ إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل" وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها

وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب بالحق ما قلت من هذا شيئا وإن زيدا لكاذب فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه ولم يحفظ ما قال فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه قالوا: وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من فضلاء الصحابة ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولكن بر أباك وأحسن صحبته" وذكروا القصة قالوا: وفي ذلك نزلت سورة المنافقين. وقد أخرجا في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله قال: فوقع في نفسي مما قالوه شدة حتى

أنزل الله تصديقي: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم. ففي هذه القصة بيان أن قتل المنافق جائز من غير استتابة وإن أظهر إنكار ذلك القول وتبرأ منه وأظهر الإسلام وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ما ذكره من تحدث الناس أنه يقتل أصحابه لأن النفاق لم يثبت عليه بالبينة وقد حلف أنه ما قال وإنما علم بالوحي وخبر زيد ابن أرقم. وأيضا لما خافه من ظهور فتنة بقتله وغضب أقوام يخاف افتتانهم بقتله. وذكر بعض أهل التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم عد المنافقين الذين وقفوا له على العقبة في غزوة تبوك ليفتكوا به فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم فقال: "أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالرسالة". وذكر بعضهم أن رجلا من المنافقين خاصم رجلا من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب فأقبل إلى عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم فقال لهما: رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت فأخذ السيف وأشتمل عليه ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد فقال: هكذا أقضي بين من لم يرض

بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقد تقدمت هذه القصة مروية من وجهين. ففي هذه الأحاديث دلالة على أن قتل المنافق كان جائزا إذ لولا ذلك لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من استأذنه في قتل المنافق ولأنكر على عمر إذ قتل من قتل من المنافقين ولأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدم معصوم بالإسلام ولم يعلل ذلك بكراهية غضب عشائر المنافقين لهم وإن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وأن يقول القائل: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم لأن الدم إذا كان معصوما كان هذا الوصف عديم التأثير في عصمة دم المعصوم ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له ونزل تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم وكما أنه دليل على القتل فهو دليل على القتل من غير استتابة على ما لا يخفى. فإن قيل: فلم لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم؟. قلنا: إنما ذاك لوجهين: أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة بل كانوا يظهرون الإسلام ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحلفون بالله أنهم ما قالوها أو لا يحلفون وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد واستثقالهم للزكاة وظهور الكراهية منهم لكثير من أحكام الله وعامتهم يعرفون في لحن القول كما قال الله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ

أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فأخبر سبحانه أنه لو شاء لعرفهم رسوله بالسيماء في وجوههم ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فأقسم أنه لا بد أن يعرفهم في لحن القول ومنهم من كان يقول القول أو يعمل العمل فينزل القرآن يخبر أن صاحب ذلك القول والعمل منهم كما في سورة براءة ومنهم من كان المسلمون أيضا يعلمون كثيرا منهم بالشواهد والدلالات والقرائن والأمارات ومنهم من لم يكن يعرف كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ويحلفون أنهم مسلمون وقد اتخذوا أيمانهم جنة وإذا كانت هذه حالهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ولا بخبر الواحد ولا بمجرد الوحي ولا بالدلائل والشواهد حتى يثبت الموجب للحد ببينة أو إقرار ألا ترى كيف أخبر عن المرأة الملاعنة أنها إن جاءت بالولد على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به وجاءت به على النعت المكروه فقال: "لولا الإيمان لكان لي ولها شأن". وكان بالمدينة امرأة تعلن الشر فقال: "لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها". وقال للذين اختصموا إليه: "إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" فكان ترك قتلهم مع كونهم كفارا لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية. ويدل على هذا أنه لم يستتبهم على التعيين ومن المعلوم أن أحسن حال

من ثبت نفاقه وزندقته أن يستتاب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ولم يبلغنا أنه استتاب واحدا بعينه منهم فعلم أن الكفر والردة لم تثبت على واحد بعينه ثبوتا يوجب أن يقتل كالمرتد ولهذا كان يقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله فإذا كانت هذه حال من ظهر نفاقه بغير البينة الشرعية فكيف حال من لم يظهر نفاقه؟ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" لما استؤذن في قتل ذي الخويصرة ولما استؤذن أيضا في قتل رجل من المنافقين قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" قيل: بلى قال: "أليس يصلي؟ " قيل: بلى قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه نهي عن قتل من أظهر الإسلام من الشهادتين والصلاة وإن ذكر بالنفاق ورمي به وظهرت عليه دلالته إذا لم يثبت بحجة شرعية أنه أظهر الكفر وكذلك قوله في الحديث الآخر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" معناه إني أمرت أن أقبل منهم ظاهر الإسلام وأكل بواطنهم إلى الله والزنديق والمنافق إنما يقتل إذا تكلم بكلمة الكفر وقامت عليه بذلك بينة وهذا حكم بالظاهر لا بالباطن وبهذا الجواب يظهر فقه المسألة. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد بين ذلك حيث قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" وقال: "إذا ترعد له آنف كثيرة بيثرب" فإنه لو قتلهم بما يعلمه من كفرهم لأوشك أن يظن الظان أنه إنما قتلهم لأغراض وأحقاد وإنما قصده الاستعانة بهم على الملك كما قال: "أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه

أقبل يقتلهم" وأن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يقتل مع إظهاره الإسلام كما قتل غيره. وقد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلته وناس آخرون فيكون ذلك سببا للفتنة واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرض سعد بن معاذ بقتله خاصم له أناس صالحون وأخذتهم الحمية حتى سكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنه عمر في قتل ابن أبي قال أصحابنا: ونحن الآن إذا خفنا مثل ذلك كففنا عن القتل. فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا إلا في شيء واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم. والذي يبين حقيقة الجواب الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة مستضعفا هو وأصحابه عاجزين عن الجهاد أمرهم الله بكف أيديهم والصبر على أذى المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وصار له دار عز ومنعة أمرهم بالجهاد وبالكف عمن سالمهم وكف يده عنهم لأنه لو أمرهم إذ ذاك بإقامة الحدود على كل منافق لنفر عن الإسلام أكثر العرب إذ رأوا أن بعض من دخل فيه يقتل وفي مثل هذه الحال نزل قوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} وهذه السورة نزلت بالمدينة بعد الخندق فأمره الله في تلك الحال أن يترك أذى

الكافرين والمنافقين له فلا يكافئهم عليه لما يتولد في مكافأتهم من الفتنة ولم يزل الأمر كذلك حتى فتحت مكة ودخلت العرب في دين الله قاطبة ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في غزو الروم وأنزل الله تبارك وتعالى سورة براءة وكمل شرائع الدين من الجهاد والحج والأمر بالمعروف فكان كمال الدين حين نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قبل الوفاة بأقل من ثلاثة أشهر ولما أنزل براءة أمره بنبذ العهود التي كانت للمشركين وقال فيها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وهذه ناسخة لقوله تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم} وذلك أنه لم يبق حينئذ للمنافق من يعينه لو أقيم عليه الحد ولم يبق حول المدينة من الكفار من يتحدث بأن محمد يقتل أصحابه فأمره الله بجهادهم والإغلاظ عليهم وقد ذكر أهل العلم أن آية الأحزاب منسوخة بهذه الآية ونحوها وقال في الأحزاب: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} الآية فعلم أنهم كانوا يفعلون أشياء إذ ذاك إن لم ينتهوا عنها أقبلوا عليها في المستقبل لما أعز الله دينه ونصر رسوله فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه عملنا بآية {وَدَعْ أَذَاهُم} كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} . فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة والسلام إذ لا نسخ بعده ولم ندع أن الحكم تغير بعده لتغير

المصلحة من غير وحي نزل فإن هذا تصرف في الشريعة وتحويل لها بالرأي ودعوى أن الحكم المطلق كان لمعنى وقد زال وهو غير جائز كما قد نسبوا ذلك إلى من قال: إن حكم المؤلفة انقطع ولم يأت على انقطاعه بكتاب ولا سنة سوى ادعاء تغير المصلحة. ويدل على المسألة ما روى أبو إدريس قال: أتى على رضي الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا فقامت عليهم البينة العدول قال: فقتلهم ولم يستتبهم وقال: وأتى برجل كان نصرانيا وأسلم ثم رجع عن الإسلام قال: فسأله فأقر بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل له: كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك؟ قال: إن هذا أقر بما كان منه وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم رواه الإمام أحمد. وروى عن أبي إدريس قال: أتى علي برجل قد تنصر فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله وأتى برهط يصلون القبلة وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا الإسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال: "أتدرون لم استتبت هذا النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه وأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة وجحدوني فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة". فهذا من أمير المؤمنين على رضي الله عنه بيان أن كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة. ويدل على ذلك قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً

صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} فعلم أن من لم يعترف بذنبه كان من المنافقين ولهذا الحديث قال الإمام أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحد: "ليست له توبة إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحد فلا توبة له". قال القاضي أبو يعلي وغيره: وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر ولا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل علي رضي الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا. وقد يستدل على المسألة بقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الآية وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قال: "هذه في أهل الإيمان" {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} قال: "هذه في أهل النفاق" {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: "هذه في أهل الشرك" هذا مع أنه الراوي عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيما أظن أنهم قالوا: "كل من أصاب ذنبا فهو جاهل بالله وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب". ويدل على ما قال أن المنافق إذا أخذ ليقتل ورأى السيف فقد حضره الموت بدليل دخول مثل هذا في عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} وقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} وقد قال حين حضره الموت {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فليست له توبة كما ذكره الله سبحانه نعم إن تاب توبة صحيحه فيما بينه وبين الله لم يكن ممن قال {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} بل يكون ممن تاب من قريب لأن الله سبحانه إنما نفى التوبة عمن حضره الموت وتاب بلسانه فقط ولهذا قال في الأول {ثُمَّ يَتُوبُونَ}

وقال هنا {إِنِّي تُبْتُ الآنَ} فمن قال: "إني تبت" قبل حضور الموت أو تاب توبة صحيحة بعد حضور أسباب الموت صحت توبته. وربما استدل بعضهم بقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين وبقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} الآية وقوله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} الآية فوجه الدلالة أن عقوبة الأمم الخالية بمنزلة السيف للمنافقين ثم أولئك إذا تابوا بعد معاينة العذاب لم ينفعهم فكذلك المنافق ومن قال هذا فرق بينه وبين الحربي بأنا لا نقاتله عقوبة على كفره بل نقاتله ليسلم فإذا أسلم فقد أتى بالمقصود والمنافق إنما يقاتل عقوبة لا ليسلم فإنه لم يزل مسلما والعقوبات لا تسقط بالتوبة بعد مجيء البأس وهذا كعقوبات سائر العصاة فهذه طريقة من يقتل الساب لكونه منافقا. وفيه طريقة أخرى وهي أن سب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه موجب للقتل مع قطع النظر عن كونه مجرد ردة فإنا قد بينا أنه موجب للقتل وبينا أنه جناية غير الكفر إذ لو كان ردة محضة وتبديلا للدين وتركا له لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم العفو عمن كان يؤذيه كما لا يجوز العفو عن المرتد ولما قتل الذين سبوه وقد عفا عمن قاتل وحارب. وقد ذكرنا أدلة أخرى على ذلك فيما تقدم ولأن التنقص والسب قد يصدر عن الرجل مع اعتقاد النبوة والرسالة لكن لما وجب تعزير الرسول وتوقيره بكل طريق غلظت عقوبة من انتهك عرضه بالقتل فصار قتله حدا من الحدود لأن سبه نوع من الفساد في الأرض كالمحاربة باليد لا لمجرد كونه بدل الدين وتركه وفارق الجماعة وإذا كان كذلك لم يسقط بالتوبة كسائر

الحدود غير عقوبة الكفر وتبديل الدين قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} . فثبت بهذه الآية أن من تاب بعد أن قدر عليه لم تسقط عنه العقوبة وكذلك قال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأمر بقطع أيديهم جزاء على ما مضى ونكالا عن السرقة في المستقبل منهم ومن غيرهم وأخبر أن الله يتوب على من تاب ولم يدرأ القطع بذلك لأن القطع له حكمتان: الجزاء والنكال والتوبة تسقط الجزاء ولا تسقط النكال فإن الجاني متى علم أنه إذا تاب لم يعاقب لم يردع ذلك الفساق ولم يزجرهم عن ركوب العظائم فإن إظهار التوبة والإصلاح لمقصود حفظ النفس والمال سهل. ولهذا لم نعلم خلافا يعتمد في أن السارق أو الزاني لو أظهر التوبة بعد ثبوت الحد عليه عند السلطان لم يسقط الحد عنه وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وأخبر بحسن توبتهما وحسن مصيرهما وكذلك لو قيل: "إن سب النبي صلى الله عليه وسلم يسقط بالتوبة وتجديد الإسلام" لم يردع ذلك الألسن عن انتهاك عرضه ولم يزجر النفوس عن الاستحلال حرمته بل يؤذيه الإنسان بما يريد ويصيب من عرضه ما شاء من أنواع السب والأذى ثم يجدد إسلامه ويظهر إيمانه وقد ينال المرء من عرضه ويقع منه تنقص له واستهزاء ببعض أقواله أو أعماله وإن لم يكن منتقلا من دين إلى دين فلأنه لا يصعب على

من هذه سبيله كلما نال من عرضه واستخف بحرمته أن يجدد إسلامه بخلاف الردة المجردة عن الدين فإن سقوط القتل فيها بالعود إلى الإسلام لا يوجب اجتراء الناس على الردة أو الانتقال لأن الانتقال عن الدين لا يقع إلا عن شبهة قادحة في القلب أو شهوة قامعة للعقل فلا يكون قبول التوبة من المرتد محرضا للنفوس على الردة ويكون ما يتوقعه من خوف القتل زاجرا له عن الكفر فإنه إذا أظهر ذلك لا يتم مقصوده لعلمه بأنه يجبر على العود إلى الإسلام وهنا من فيه استخفاف أو اجتراء أو سفاهة تمكن من انتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وعيبه والطعن عليه كلما شتم يجدد الإسلام ويظهر التوبة وبهذا يظهر أن السب والشتم يظهر الفساد في الأرض الذي يوجب الحد اللازم من الزنى وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر فإن مريد هذه المعاصي إذا علم أنه تسقط عنه العقوبة إذا تاب فعلها كلما شاء كذلك من يدعوه ضعف عقله أو ضعف دينه إلى الانتقاص برسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم أن التوبة تقبل منه أتى ذلك متى شاء ثم تاب منه وقد حصل مقصوده بما قاله كما حصل مقصود أولئك بما فعلوه بخلاف مريد الردة فإن مقصوده لا يحصل إلا بالمقام عليها وذلك لا يحصل له إذا قتل إن لم يرجع فيكون ذلك رادعا له وهذا الوجه لا يخرج السب عن أن يكون ردة لكن حقيقته أنه نوع من الردة تغلظ بما فيه من انتهاك عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد تتغلظ ردة بعض الناس بأن ينضم إليها قتل وغيره فيتحتم القتل فيها دون الردة المجردة كما يتحتم القتل في قتل من قطع الطريق لتغلظ الجرم وإن لم يتحتم قتل من قتل لغرض آخر فعوده إلى الإسلام يسقط موجب الردة المحضة ويبقى خصوص السب ولا بد من إقامة حده كما أن توبة القاطع قبل القدرة عليه تسقط تحتم القتل ويبقى حق أولياء المقتول من القتل الدية أو العفو وهذه مناسبة ظاهرة وقد تقدم نص الشارع وتنبيهه على اعتبار هذا المعنى.

فإن قيل: تلك المعاصي يدعو إليها الطمع مع صحة الاعتقاد فلو لم يشرع عنها زاجر لتسارعت النفوس إليها بخلاف سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الطبع لا يدعوا إليه إلا بخلل في الاعتقاد أكثر ما يوجب الردة فعلم أن مصدره أكثر ما يكون الكفر فيلزمه عقوبة الكافر وعقوبة الكافر مشروطة بعدم التوبة وإذا لم يكن إليه مجرده باعث طبيعي لم يشرع ما يزجر عنه وإن كان حراما كالاستخفاف في الكتاب والدين ونحو ذلك. قلنا: بل قد يكون إليه باعث طبيعي غير الخلل في الاعتقاد من الكبر الموجب للاستخفاف ببعض أحواله وأفعاله والغضب الداعي إلى الوقيعة فيه إذا خالف الغرض بعض أحكامه والشهوة الحاملة على ذم ما يخالف الغرض من أموره وغير ذلك فهذه الأمور قد تدعو الإنسان إلى نوع من السب له وضرب من الأذى والانتقاص وإن لم يصدر إلا مع ضعف الإيمان به كما أن تلك المعاصي لا تصدر أيضا إلا مع ضعف الإيمان وإذا كان كذلك فقبول التوبة ممن هذه حاله يوجب اجتراء أمثاله على أمثال كلماته فلا يزال العرض منهوكا والحرمة محفورة بخلاف قبول التوبة ممن يريد انتقالا عن الدين إما إلى دين آخر أو إلى تعطيل فإنه إذا علم أنه يستتاب على ذلك فإن تاب وإلا قتل لم ينتقل بخلاف ما إذا صدر السب عن كافر به ثم آمن به فإن علمه بأنه إذا أظهر السب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف يردعه عن هذا السب إلا أن يكون مريدا للإسلام ومتى أراد الإسلام فالإسلام يجب ما كان قبله فليس في سقوط القتل بإسلام الكافر من الطريق إلى الوقيعة في عرضه ما في سقوطه بتجديد إسلام من يظهر الإسلام. وأيضا فإن سب النبي صلى الله عليه وسلم حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة كحد القذف وكسب غيره من البشر.

ثم من فرق بين المسلم والذمي قال: المسلم قد التزم أن لا يسب ولا يعتقد سبه فإذا أتى ذلك أقيم عليه حده كما يقام عليه حد الخمر وكما يعزر على أكل لحم الميت والخنزير والكافر لم يلتزم تحريم ذلك ولا يعتقده فلا تجب عليه إقامة حده كما لا تجب عليه إقامة حد الخمر ولا يعزر على الميت والخنزير. نعم إذا أظهره نقض العهد الذي بيننا وبينه فصار بمنزلة الحربي فنقتله لذلك فقط لا لكونه أتى حدا يعتقد بحرمته فإذا أسلم سقط عنه العقوبة على الكفر ولا عقوبة عليه لخصوص السب فلا يجوز قتله. وحقيقة هذه الطريقة أن سب النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من الغضاضة عليه يوجب القتل تعظيما لحرمته وتعزيرا له وتوقيرا ونكالا عن التعرض له والحد إنما يقام على الكافر فيما يعتقد تحريمه خاصة لكنه إذا أظهر ما يعتقد حله من المحرمات عندنا زجر عن ذلك وعوقب عليه كما إذا أظهر الخمر والخنزير فإظهار السب إما أن يكون كهذه الأشياء كما زعمه بعض الناس أو يكون نقضا للعهد كمقاتلة المسلمين وعلى التقديرين فالإسلام يسقط تلك العقوبة بخلاف ما يصيبه المسلم مما يوجب الحد عليه. وأيضا فإن الردة على قسمين: ردة مجردة وردة مغلظة شرع القتل على خصوصها وكل منهما قد قام الدليل على وجوب قتل صاحبها والأدلة الدالة على سقوط القتل بالتوبة لا تعم القسمين بل إنما تدل على القسم الأول كما يظهر لمن ذلك تأمل الأدلة على قبول توبة المرتد فيبقى القسم الثاني وقد قام الدليل على وجوب قتل صاحبه ولم يأت نص ولا إجماع لسقوط القتل عنه والقياس متعذر مع وجود الفرق الجلي فانقطع الإلحاق. والذي يحقق هذه الطريقة أنه لم يأت في كتاب ولا سنة ولا إجماع أن كل من ارتد بأي قول أو أي فعل كان فإنه يسقط عنه القتل إذا تاب بعد

القدرة عليه بل الكتاب والسنة والإجماع قد فرق بين أنواع المرتدين كما سنذكره وإنما بعض الناس يجعل برأيه الردة جنسا واحدا على تباين أنواعه ويقيس بعضها ببعض فإذا لم يكن معه عموم نطقي يعم أنواع المرتدين لم يبق إلا القياس وهو فاسد إذا فارق الفرع الأصل بوصف له تأثير في الحكم وقد دل على تأثيره نص الشارع وتنبيهه والمناسبة المشتملة على المصلحة المعتبرة. وتقرير هذا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن دلائل قبول توبة المرتد مثل قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ونحوها ليس فيها إلا توبة من كفر بعد الإيمان فقط دون من انضم إلى كفره مزيد أذى وإضرار وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فيها قبول توبة من جرد الردة فقط وكذلك سنة الخلفاء الراشدين إنما تضمنت قبول توبة من جرد الردة وحارب بعد ارتداده كمحاربة الكافر الأصلي على كفره فمن عزم أن في الأصول ما يعم توبة كل مرتد سواء جرد الردة أو غلظها بأي شيء كان فقد أخطأ وحينئذ فقد قامت الأدلة على وجوب قتل الساب وأنه مرتد ولم تدل الأصول على أن مثله يسقط عنه القتل فيجب قتله بالدليل السالم عن المعارض. الثاني: أن الله سبحانه قال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ

بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} فأخبر سبحانه أن من ازداد كفرا بعد إيمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفرا والكفر المجرد في قبول التوبة من الثاني دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن. وهذه الآية إن كان قد قيل فيها إن ازدياد الكفر المقام عليه إلى حين الموت وإن التوبة المنفية هي توبته عند الغرغرة أو يوم القيامة فالآية أعم من ذلك. وقد رأينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقت بين النوعين فقبل توبة جماعة من المرتدين ثم إنه أمر بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه وأمر بقتل العرنيين لما ضموا ردتهم نحوا من ذلك وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم وأمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء وإذا كان الكتاب والسنة قد حكما في المرتدين بحكمين ورأينا أن من ضر وآذى بالردة أذى يوجب القتل لم يسقط عنه القتل إذا تاب بعد القدرة عليه وإن تاب مطلقا دون من بدل دينه فقط لم يصح القول بقبول توبة المرتد مطلقا وكان الساب من القسم الذي لا يجب أن تقبل توبته كما دلت عليه السنة في قصة ابن أبي سرح ولأن السب إيذاء عظيم للمسلمين أعظم عليهم من المحاربة باليد كما تقدم تقريره فيجب أن يتحتم عقوبة فاعله ولأن المرتد المجرد إنما نقتله لمقامه على التبديل فإذا عاود الدين الحق زال المبيح لدمه كما يزول المبيح لدم الكافر الأصلي

بإسلامه وهذا الساب أتى من الأذى لله ورسوله بعد المعاهدة على ترك ذلك بما أتى به وهو لا يقتل لمقامه عليه فإن ذلك ممتنع فصار قتله كقتل المحارب باليد. وبالجملة فمن كانت ردته محاربة لله ورسوله بيد أو لسان فقد دلت السنة المفسرة للكتاب أنه من كفر كفرا مزيدا لا تقبل توبته منه. الوجه الثالث: أن الردة قد تتجرد عن السب فلا تتضمنه ولا تستلزمه كما تتجرد عن قتل المسلمين وأخذ أموالهم إذ السب والشتم إفراط في العداوة وإبلاغ في المحادة مصدره شدة سفه الكافر وحرصه على فساد الدين وإضرار أهله ولربما صدر عمن يعتقد النبوة والرسالة لكن لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من التوقير والانقياد فصار بمنزلة إبليس حيث اعتقد ربوبية الله سبحانه بقوله (رب) وقد أيقن أن الله أمره بالسجود ثم لم يأت بموجب هذا الاعتقاد من الاستسلام والانقياد بل استكبر وعاند معاندة معارض طاعن في حكمة الآمر. ولا فرق بين من يعتقد أن الله ربه وأن الله أمره بهذا الأمر ثم يقول: إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب ولا سداد وبين من يعتقد أن محمدا رسول الله وأنه صادق واجب الإتباع في خبره وأمره ثم يسبه أو يعيب أمره أو شيئا من أحواله أو تنقصه انتقاصا لا يجوز أن يستحقه الرسول وذلك أن الإيمان قول وعمل فمن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله سبحانه وتعالى والرسالة لعبده ورسوله ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام والذي هو حال في القلب يظهر أثره على الجوارح بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح إذ الاعتقادات الإيمانية تزكي النفوس وتصلحها فمتى لم توجب

زكاة النفس ولا صلاحا فما ذاك إلا لأنها لم ترسخ في القلب ولم تصر صفة ونعتا للنفس وصلاحا وإذا لم يكن علم الإيمان المفروض صفة لقلب الإنسان لازمة لم ينفعه فإنه يكون بمنزلة حديث النفس وخواطر القلب والنجاة لا تحصل إلا بيقين في القلب ولو أنه مثقال ذرة. هذا فيما بينه وبين الله وأما في الظاهر فتجري الأحكام على ما يظهره من القول والفعل. والغرض بهذا التنبيه على أن الاستهزاء بالقلب والانتقاص ينافي الإيمان الذي في القلب منافاة الضد ضده والاستهزاء باللسان ينافي الإيمان الظاهر باللسان كذلك. والغرض بهذا التنبيه على أن السب الصادر عن القلب يوجب الكفر ظاهرا وباطنا. هذا مذهب الفقهاء وغيرهم من أهل السنة والجماعة خلاف ما يقوله بعض الجهمية والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو المعرفة والقول بلا عمل من أعمال القلب من أنه إنما ينافيه في الظاهر وقد يجامعه في الباطن وربما يكون لنا إن شاء الله تعالى عودة إلى هذا الموضع. والغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب فكذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين وإرادة التكذيب بالرسالة كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال: الكفر أن لا يقصد أن يكفر. وإذا كان كذلك فالشارع إذا أمر بقبول توبة من قصد تبديل دينه الحق وغير اعتقاده وقوله فإنما ذاك لأن المقتضى للقتل الاعتقاد الطارىء وإعدام الاعتقاد الأول فإذا عاد ذلك الاعتقاد الإيماني وزال هذا الطارئ كان بمنزلة الماء والعصير: يتنجس بتغيره ثم يزول التغير فيعود حلالا لأن الحكم

إذا ثبت بعلة زول بزوالها وهذا الرجل لم يظهر مجرد تغير الاعتقاد حتى يعود معصوما بعوده إليه وليس هذا القول من لوازم تغير الاعتقاد حتى يكون حكمه كحكمه إذ قد يتغير الاعتقاد كثيرا ولا يكون به أذى لله ورسوله. وإضرار بالمسلمين يزيد على تغيير الاعتقاد ويفعله من يظن سلامة الاعتقاد وهو كاذب عند الله ورسوله والمؤمنين في هذه الدعوة والظن ومعلوم أن المفسدة في هذا أعظم من المفسدة في مجرد تغير الاعتقاد من هذين الوجهين: من جهة كونه إضرارا زائدا ومن جهة كونه قد يظن أو يقال إن الاعتقاد قد يكون سالما معه فيصدر عمن لا يريد الانتقال من دين إلى دين ويكون فساده أعظم من فساد الانتقال إذ الانتقال قد علم أنه كفر فنزع عنه ما نزع عن الكفر وهذا قد يظن أنه ليس بكفر إلا إذا صدر استحلالا بل هو معصية وهو من أعظم أنواع الكفر فإذا كان الداعي إليه غير الداعي إلى مجرد الردة والمفسدة فيه مخالفة لمفسدة الردة وهي أشد منها لم يجز أن يلحق التائب منه بالتائب من الردة بالردة لأن من شروط القياس قياس المعنى استواء الفرع والأصل في حكمة الحكم باستوائهما في دليل الحكمة إذا كانت خفية فإذا كان في الأصل معان مؤثرة يجوز أن تكون التوبة إنما قبلت لأجلها وهي معدومة في الفرع لم يجز إذا لا يلزم من قبول توبة من خففت مفسدة جنايته أو انتفت قبول توبة من تغلظت مفسدته أو بقيت. وحاصل هذا الوجه أن عصمة دم هذا بالتوبة قياسا على المرتد متعذر لوجود الفرق المؤثر فيكون المرتد المنتقل إلى دين آخر ومن أتى من القول بما يضر المسلمين ويؤذي الله ورسوله وهو موجب للكفر نوعين تحت جنس الكافر بعد إسلامه وقد شرعت التوبة في حق الأول فلا يلزم شرع التوبة في حق الثاني لوجود الفارق من حيث الإضرار ومن حيث إن مفسدته لا تزول بقبول التوبة.

فصل. قد تضمن هذه الدلالة على وجوب قتل الساب من المسلمين وإن تاب وأسلم ويوجبه قول من فرق بينه وبين الذمي إذا أسلم وقد تضمن الدلالة على أن الذمي إذا عاد إلى الذمة لم يسقط عنه القتل بطريق الأولى فإن عود المسلم إلى الإسلام أحقن لدمه من عود الذمي إلى ذمته ولهذا عامة العلماء الذين حقنوا دم هذا وأمثاله بالعود إلى الإسلام لم يقولوا مثل ذلك في الذمي إذا عاد إلى الذمة. ومن تأمل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله لبني قريظة وبعض أهل خيبر وبعض بني النضير وإجلائه لبني النضير وبني قينقاع بعد أن نقض هؤلاء الذمة وحرصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيا فلم يفعل ثم سنة خلفائه وصحابته في مثل هذا المؤذي وأمثاله مع العلم بأنه كان أحرص شيء على العود إلى الذمة لم يسترب في أن القول بوجوب إعادة مثل هذا إلى الذمة قول مخالف للسنة ولإجماع خير القرون وقد تقدم التنبيه على ذلك في حكم ناقض العهد مطلقا ولولا ظهوره لأشبعنا القول فيه وإنما أحلنا على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته من له بها علم فإنهم لا يستريبون أنه لم يكن الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء اليهود هدنة مؤقتة وإنما كانت ذمة مؤبدة على أن الدار دار الإسلام وأنه يجري عليهم حكم الله ورسوله فيما يختلفون فيه إلا أنهم لم يضرب عليهم جزية ولم يلزموا بالصغار الذي ألزموه بعد نزول براءة لأن ذلك لم يكن شرع بعد. وأما من قال: "إن الساب يقتل وإن تاب وأسلم وسواء كان كافرا أو مسلما" فقد تقدم دليله على أن المسلم يقتل بعد التوبة وأن الذمي يقتل وإن طلب العود إلى الذمة.

وأما قتل الذمي إذا وجب عليه القتل بالسب وإن أسلم بعد ذلك فلهم فيه طرق وهي دالة على تحتم قتل المسلم أيضا كما تدل على تحتم قتل الذمي: الطريقة الأولى: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فوجه الدلالة أن هذا الساب المذكور من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا الداخلين في هذه الآية سواء كان مسلما أو معاهدا وكل من كان من المحاربين الداخلين في هذه الآية فإنه يقام عليه الحد إذا قدر عليه قبل التوبة سواء تاب بعد ذلك أو لم يتب فهذا الذمي أو المسلم إذا سب ثم أسلم بعد أن كل واحد قد قدر عليه قبل التوبة فيجب إقامة الحد عليه وحده القتل فيجب قتله سواء تاب أو لم يتب. والدليل مبني على مقدمتين: إحداهما: أنه داخل في هذه الآية. والثانية: أن ذلك يوجب قتله إذا أخذ قبل التوبة. أما المقدمة الثانية فظاهرة فإنا لم نعلم مخالفا في أن المحاربين إذا أخذوا قبل التوبة وجب إقامة الحد عليهم وإن تابوا بعد الأخذ وذلك بين في الآية فإن الله أخبر أن جزاءهم أحد هذه الحدود الأربعة إلا الذين تابوا قبل أن تقدروا عليهم فالتائب قبل القدرة ليس جزاؤه شيئا من ذلك وغيره هذه أحد هذه جزاؤه وجزاء أصحاب الحدود تجب إقامته على الآية لأن جزاء العقوبة إذا لم يكن حقا لآدمي حي بل كان حدا من حدود الله وجب استيفاؤه باتفاق

المسلمين وقد قال تعالى في آية السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} فأمر بالقطع جزاء على ما كسباه فلو لم يكن الجزاء المشروع المحدود من العقوبات واجبا لم يعلل وجوب القطع به إذ العلة المطلوبة يجب أن تكون أبلغ من الحكم وأقوى منه والجزاء اسم للفعل واسم لما يجازى به ولهذا قرأ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} بالتنوين وبالإضافة وكذلك الثواب والعقاب وغيرهما فالقتل والقطع قد يسمى جزاء ونكالا وقد يقال فعل هذه ليجزيه وللجزاء. ولهذا قال الأكثرون: إنه نصب على المفعول له والمعنى أن الله أمر بالقطع ليجزيهم ولينكل عن فعلهم. وقد قيل: إنه نصب على المصدر لأن معنى "اقطعوا" اجزوهم ونكلوا. وقيل: إنه على الحال أي فاقطعوهم مجزين منكلين هم وغيرهم أو جازين منكلين. وبكل حال فالجزاء مأمور به أو مأمور لأجله فثبت أنه واجب الحصول شرعا وقد أخبر أن جزاء المحاربين أحد الحدود الأربعة فيجب تحصيلها إذ الجزاء هنا يتحد فيه معنى الفعل ومعنى المجزي به لأن القتل والقطع والصلب وهي أفعال وهي عين ما يجزي به وليست أجساما بمنزلة المثل من النعم. يبين ذلك أن لفظ الآية خبر عن أحكام الله سبحانه التي يؤمر الإمام بفعلها ليست عن الحكم الذي يخير بين فعله وتركه إذا ليس لله أحكام في أهل ذنوب يخير الإمام بين فعلها وترك جميعها. وأيضا فإنه قال: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} والخزي لا يحصل إلا بإقامة الحدود لا بتعطيلها.

وأيضا فإنه لو كان هذا الجزاء إلى الإمام له إقامته وتركه بحسب المصلحة لندب إلى العفو كما في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} . وأيضا فالأدلة على وجوب إقامة الحدود على السلطان من السنة والإجماع ظاهرة ولم نعلم مخالفا في وجوب جزاء المحاربين ببعض ما ذكر الله في كتابه وإنما اختلفوا في هذه الحدود: هل يخير الإمام بينها بحسب المصلحة أو لكل جرم جزاء محدود شرعا؟ كما هو مشهور فلا حاجة إلى الإطناب في وجوب الجزاء لكن نقول: جزاء الساب القتل عينا بما تقدم من الدلائل الكثيرة ولا يخير الإمام فيه بين القتل والقطع بالإنفاء وإذا كان جزاؤه القتل من هذه الحدود وقد أخذ قبل التوبة وجب إقامة الحد عليه إذا كان من المحاربين بلا تردد. فلنبين المقدمة الأولى وهي أن هذا من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا وذلك من وجوه: أحدها: ما رويناه من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث قال: ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وقوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف

وأما النفي فهو أن يهرب في الأرض فإن جاء تائبا فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما سلف منه ثم قال في موضع آخر وذكر هذه الآية من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله ثم قال: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وكذلك روى محمد بن يزيد الواسطي عن جويبر عن الضحاك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} قال: "كان ناس من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فقطعوا الميثاق وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله أن يقتل إن شاء أو يصلب أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأما النفي أن يهرب في الأرض ولا يقدر عليه فإن جاء تائبا داخلا في الإسلام قبل منه ولم يؤاخذ بما عمل". وقال الضحاك: "أيما رجل مسلم قتل أو أصاب حدا أو مالا لمسلم فلحق بالمشركين فلا توبة له حتى يرجع فيضع يده في يد المسلمين فيقر بما أصاب قبل أن يهرب من دم أو غيره أقيم عليه أو أخذ منه". ففي هذين الأثرين أنها نزلت في قوم معاهدين من أهل الكتاب لما نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض وكذلك في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وإن كان لا يعتمد عليه إذا انفرد أنها نزلت في قوم موادعين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على ألا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن أن يهاج ومن أتى المسلمين منهم فهو آمن أن يهاج ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن أن يهاج.

قال: "فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه جبريل بالقصة فيهم" فقد ذكر أنها نزلت في قوم معاهدين لكن من غير أهل الكتاب. وروى عكرمة عن ابن عباس وهو قول الحسن أنها نزلت في المشركين ولعله أراد الذين نقضوا العهد كما قال هؤلاء فإن الكافر الأصلي لا ينطبق عليه حكم الآية. والذي يحقق أن ناقض العهد بما يضر المسلمين داخل في هذه الآية من الأثر ما قدمناه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى برجل من أهل الذمة نخس بامرأة من المسلمين بالشام حتى وقعت فتجللها فأمر به عمر فقتل وصلب فكان أول مصلوب في الإسلام وقال: "يا أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد عليه الصلاة والسلام ولا تظلموهم فمن فعل هذا فلا ذمة له" وقد رواه عنه عوف بن مالك الأشجعي وغيره كما تقدم. وروى عبد الملك بن حبيب بإسناده عن عياض بن عبد الله الأشعري قال: "مرت امرأة تسير على بغل فنخس بها علج فوقعت من البغل فبدا بعض عورتها فكتب بذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: "أن اصلب العلج في ذلك المكان فإنا لم نعاهدهم على هذا إنما عاهدناهم على أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". وقد قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مجوسي فجر بمسلمة: "يقتل هذا قد نقض العهد وكذلك إن كان من أهل الكتاب يقتل أيضا قد صلب عمر رجلا من اليهود فجر بمسلمة هذا نقض العهد" قيل له: ترى عليه الصلب مع القتل؟ قال: "إن ذهب رجل إلى حديث عمر كأنه لم يعب عليه".

فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمر وأبو عبيدة وعوف بن مالك ومن كان في عصرهم من السابقين الأولين قد استحلوا قتل هذا وصلبه وبين عمر أنا لم نعاهدهم على مثل هذا الفساد وأن العهد انتقض بذلك فعلم أنهم تأولوا فيمن نقض العهد بمثل هذا أنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا فاستحلوا لذلك قتله وصلبه وإلا فصلب مثله لا يجوز إلا لمن ذكره الله في كتابه. وقد قال آخرون منهم ابن عمر وأنس بن مالك ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن جبير ومكحول وقتادة وغيرهم رضي الله عنهم: "إنها نزلت في العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" وحديث العرنيين مشهور ولا منافاة بين الحديثين فإن سبب النزول قد يتعدد مع كون اللفظ عاما في مدلوله وكذلك كان عامة العلماء على أن الآية عامة في المسلم والمرتد والناقض كما قال الأوزاعي في هذه الآية: هذا حكم حكمه الله في هذه الأمة على من حارب مقيما على الإسلام أو مرتدا عنه وفيمن حارب من أهل الذمة. وقد جاءت آثار صحيحة عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم تقتضي أن حكم هذه الآية ثابت فيمن حارب المسلمين بقطع الطريق ونحوه مقيما على إسلامه لهذا يستدل جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حد قطع الطريق بهذه الآية. والمقصود هنا أن هذا الناقض للعهد والمرتد عن الإسلام بما فيه الضرر داخل فيها كما ذكرنا دلائله عن الصحابة والتابعين وإن كان يدخل فيها بعض

من هو على الإسلام وهذا الساب ناقض للعهد بما فيه ضرر على المسلمين ومرتد بما فيه ضرر على المسلمين فيدخل في الآية. ومما يدل على أنه قد عنى بها ناقضو العهد في الجملة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى بني قينقاع والنضير لما نقضوا العهد إلى أرض الحرب وقتل بني قريظة وبعض أهل خيبر لما نقضوا العهد والصحابة قتلوا وصلبوا بعض من فعل ما ينقض العهد من الأمور المضرة فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أصناف ناقض العهد كحكم الله في هذه الآية مع صلاحه لأن يكون امتثالا لأمر الله فيها دليل على أنهم مرادون منها. الوجه الثاني: أن ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله ورسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربا لله ورسوله ثم لا يخلو إما أن لا يكون محاربا لله ورسوله حتى يقاتلهم ويمتنع عنهم أو يكون محاربا إذا فعل ما يضرهم مما فيه نقض العهد وإن لم يقاتلهم والأول لا يصح لما قدمناه من أن هذا قد نقض العهد وصار من المحاربين ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أيما معاهد تعاطى سب الأنبياء فهو محارب غادر. وعمر وسائر الصحابة قد جعلوا الذمي الذي تجلل المسلمة بعد أن نخس بها الدابة محاربا بمجرد ذلك حتى حكموا فيه بالقتل والصلب فعلم أنه لا يشترط في المحاربة المقاتلة بل كل ما نقض العهد عندهم من الأقوال والأفعال المضرة فهو محارب داخل في هذه الآية.

فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون كل من نقض العهد بما فيه ضرر يقتل إذا أسلم بعد القدرة عليه. قيل: وكذلك نقول وعليه يدل ما ذكرناه في سبب نزولها فإنها إذا نزلت فيمن نقض العهد بالفساد وقد قيل فيها: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم} علم أن التائب بعد القدرة مبقى على حكم الآية. الوجه الثالث: أن كل ناقض للعهد فقد حارب الله ورسوله ولولا ذلك لم يجز قتله ثم لا يخلوا إما أن يقتصر على نقض العهد بأن يلحق بدار الحرب أو يضم إلى ذلك فسادا فإن كان الأول فقد حارب الله ورسوله فقط فهذا لم يدخل في الآية وإن كان الثاني فقد حارب وسعى في الأرض فسادا مثل أن يقتل مسلما أو يقطع الطريق على المسلمين أو يغصب مسلمة على نفسها أو يظهر الطعن في كتاب الله ورسوله ودينه أو يفتن مسلما عن دينه فإن هذا قد حارب الله ورسوله بنقضه العهد وسعى في الأرض فسادا بفعله ما يفسد على المسلمين إما دينهم أو دنياهم وهذا قد دخل في الآية فيجب أن يقتل أو يقتل ويصلب أو ينفى من الأرض حتى يلحق بأرض الحرب إن لم يقدر عليه أو تقطع يده ورجله إن كان قد قطع الطرق وأخذ المال ولا يسقط عنه ذلك إلا أن يتوب من قبل أن يقدر عليه وهو المطلوب. الوجه الرابع: أن هذا الساب محارب الله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية وذلك لأنه عدو لله ولرسوله ومن عادى الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سبه: "من يكفنني عدوي؟ " وقد تقدم ذكر ذلك من غير وجه إذا كان عدوا له فهو محارب

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة". وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" فإذا كان من عادى واحدا من الأولياء قد بارز الله بالمحاربة فكيف من عادى صفوة الله من أوليائه؟ فإنه يكون أشد مبارزة له بالمحاربة وإذا كان محاربا لله لأجل عداوته للرسول فهو محارب للرسول بطريق الأولى فثبت أن الساب للرسول محارب لله ورسوله. فإن قيل: فلو سب واحدا من أولياء الله غير الأنبياء فقد بارز الله بالمحاربة فإنه إذا سبه فقد عاداه كما ذكرتم وإذا عاداه فقد بارز الله بالمحاربة كما نصه الحديث الصحيح ومع هذا لا يدخل في المحاربة المذكورة في الآية فقد انتقض الدليل وذلك يوجب صرف المحاربة إلى المحاربة باليد. قيل: هذا باطل من وجوه: أحدها: أن ليس كل من سب غير الأنبياء يكون قد عاداهم إذ لا دليل يدل على ذلك وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} بعد أن أطلق أنه من آذى الله ورسوله فقد لعنه الله في الدنيا والآخرة فعلم أن المؤمن قد يؤذى بما اكتسب ويكون أذاه بحق كإقامة الحدود والانتصار في الشتمة ونحو ذلك مع كونه وليا لله وإذا كان واجبا في بعض الأحيان أو جائزا لم يكن مؤذيه في تلك الحال عدوا له لأن المؤمن يجب عليه أن يوالي المؤمن ولا يعاديه وإن عاقبه

عقوبة شرعية كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} . الثاني: أن من سب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يكون مع السب مواليه من وجه آخر فإن سباب المسلم إذا لم يكن بحق كان فسوقا والفاسق لا يعادي المؤمنين بل يواليهم ويعتقد مع السب للمؤمن أنه تجب موالاته من وجه آخر أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينافي اعتقاد نبوته ويستلزم البراءة منه والمعاداة له لأن اعتقاد عدم نبوته وهو يقول "إنه نبي" يوجب أن يعامل معاملة المتنبيين وذلك يوجب أبلغ العداوات له. الثالث: لو فرض أن سب غير النبي صلى الله عليه وسلم عداوة له لكن ليس أحد بعينه يشهد له أنه ولي لله شهادة توجب أن ترتب عليها الأحكام المبيحة للدماء بخلاف الشهادة للنبي بالولاية فإنها بعينه نعم لما كان الصحابة قد يشهد لبعضهم بالولاية خرج في قتل سابهم خلاف مشهور ربما نبينه أن شاء الله تعالى عليه. الرابع: أنه لو فرض أنه عادى وليا علم أنه ولي فإنما يدل على أنه بارز الله بالمحاربة وليس فيه ذكر محاربة الله ورسوله والجزاء المذكور في الآية إنما هو لمن حارب الله ورسوله ومن سب الرسول فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه وقد حارب الله أيضا كما دل عليه الحديث فيكون محاربا لله ورسوله ومحاربة الله ورسوله أخص من محاربة الله والحكم المعلق بالأخص لا يدل على أنه معلق بالأعم وذلك أن محاربة الرسول تقتضي مشاقته على ما جاء به من الرسالة وليس في معاداة ولي بعينه مشاقة في الرسالة بخلاف الطعن في الرسول.

الخامس: أن الجزاء في الآية لمن حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا والطاعن في الرسول قد حارب الله ورسوله كما تقدم وقد سعى في الأرض فسادا كما سيأتي وهذا الساب للولي وإن كان قد حارب الله فلم يسع في الأرض فسادا لأن السعي في الأرض فسادا إنما يكون بإفساد عام لدين الناس أو دنياهم وهذا إنما يتحقق في الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لا يجب على الناس الإيمان بولاية الولي ويجب عليهم الإيمان بنبوة النبي. السادس: أن ساب الولي لو فرض أنه محارب لله ورسوله فخروجه من اللفظ العام لدليل أوجبه لا يوجب أن يخرج هذا الساب للرسول لأن الفرق بين العداوتين ظاهر والقول العام إذا خصت منه صورة لم تخص منه صورة أخرى لا تساويها إلا بدليل آخر. السابع: أن حمله على المحاربة باليد متعذر أيضا في حق الولي لأن من عاداه بيده لم يوجب ذلك أن يدخل في حكم الآية على الإطلاق مثل أن يضربه ونحو ذلك فلا فرق إذا في حقه بين المعاداة باليد واللسان بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا فرق بين أن يعاديه بيد أو لسان فإنه يمكن دخوله في الآية وذلك مقرر الاستدلال كما تقدم. وإذا ثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله فهو أيضا ساع في الأرض فسادا لأن الفساد نوعان: فساد الدنيا من الدماء والأموال والفروج وفساد الدين والذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقع في عرضه يسعى ليفسد على الناس دينهم ثم بواسطة ذلك يفسد عليهم دنياهم وسواء فرضنا أنه أفسد على أحد دينه أو لم يفسد لأنه سبحانه وتعالى إنما قال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} قيل أنه نصب على المفعول له أي ويسعون في الأرض للفساد وكما قال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ

وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} والسعي هو العمل والفعل فمن سعى ليفسد أمر الدين فقد سعى في الأرض فسادا وإن خاب سعيه وقيل: إنه نصب على المصدر أو على الحال تقديره سعى في الأرض مفسدا كقوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أو كما يقال: جلس قعودا وهذا يقال لكل من عمل عملا يوجب الفساد وإن لم يؤثر لعدم قبول الناس له وتمكينهم إياه بمنزلة قاطع الطريق إذا لم يقتل أحدا ولم يأخذ مالا على أن هذا العمل لا يخلو من فساد في النفوس قط إذا لم يقم عليه الحد. وأيضا فإنه لا ريب أن الطعن في الدين وتقبيح حال الرسول في أعين الناس وتنفيرهم عنه من أعظم الفساد كما أن الدعاء إلى تعزيره وتوقيره من أعظم الصلاح والفساد ضد الصلاح فكما أن كل قول أو عمل يحبه الله فهو من الصلاح فكل قول أو عمل يبغضه الله فهو من الفساد قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} يعني الكفر والمعصية بعد الإيمان والطاعة ولكن الفساد نوعان: لازم وهو مصدر فسد يفسد فسادا ومتعد وهو اسم مصدر أفسد يفسد إفسادا كما قال تعالى: {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا هو المراد هنا لأنه قال: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} وهذا إنما يقال لمن أفسد غيره لأنه لو كان الفساد في نفسه فقط لم يقل سعى في الأرض فسادا وإنما يقال في الأرض لما انفصل عن الإنسان كما قال سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب}

وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم} وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ} . وأيضا فإن الساب ونحوه انتهك حرمة الرسول ونقص قدره وآذى الله ورسوله وعباده المؤمنين وأجرأ النفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام وطلب إذلال النفوس المؤمنة وإزالة عز الدين وإسفال كلمة الله وهذا من أبلغ السعي فسادا. ويؤيد ذلك أن عامة ما ذكر في القرآن من السعي في الأرض فسادا والإفساد في الأرض فإنه قد عنى به إفساد الدين فثبت أن هذا الساب محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فيدخل في الآية. الوجه الخامس: أن المحاربة نوعان: محاربة باليد ومحاربة باللسان والمحاربة باللسان في باب الدين قد تكون أنكى من المحاربة باليد كما تقدم تقريره في المسألة الأولى ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من كان يحاربه باللسان مع استبقائه بعض من حاربه باليد خصوصا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته فإنها إنما تمكن باللسان وكذلك الإفساد قد يكون باليد وقد يكون باللسان وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد والسعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله ورسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق. الوجه السادس: أن المحاربة خلاف المسألة والمسألة: أن يسلم كل من المتسالمين من أذى الآخر فمن لم تسلم من يده أو لسانه فليس بمسالم لك بل هو محارب

ومعلوم أن محاربة الله ورسوله هي المغالبة على خلاف ما أمر الله ورسوله إذ المحاربة لذات الله ورسوله محال فمن سب الله ورسوله لم يسالم الله ورسوله لأن الرسول لم يسلم منه بل طعنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم مغالبة لله ورسوله على خلاف ما أمر الله به على لسان رسوله وقد أفسد في الأرض كما تقدم فيدخل في الآية. وقد تقدم في المسألة الأولى أن هذا الساب محاد لله ورسوله مشاق لله تعالى ورسوله وكل من شاق الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله لأن المحاربة والمشاقة سواء فإن الحرب هو الشق ومنه سمي المحارب محاربا وأما كونه مفسدا في الأرض فظاهر. واعلم أن كل ما دل على أن السب نقض للعهد فقد دلل على أنه محاربة لله ورسوله لأن حقيقة نقض العهد أن يعود الذمي محاربا فلو لم يكن بالسب يعود محاربا لما كان ناقضا للعهد وقد قدمنا في ذلك من الكلام ما لا يليق إعادته لما فيه من الإطالة فليراجع ما مضى في هذا الموضوع فبقى أنه سعى في الأرض فسادا وهذا أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن إظهار كلمة الكفر والطعن في المرسلين والقدح في كتاب الله ودينه ورسله وكل سبب بينه وبين خلقه لا يكون شيء أشد منه فسادا وعامة الآي في كتاب الله التي تنهى عن الإفساد في الأرض فإن من أكثر المراد بها الطعن في الأنبياء كقوله سبحانه عن المنافقين الذين يخادعون الله والذين آمنوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وإنما كان إفسادهم نفاقهم وكفرهم وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}

وقوله: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وإذا كان هذا محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا تناولته الآية وشملته. ومما يقرر الدلالة من الآية أن الناس فيها قسمان: منهم من يجعلها مخصوصة بالكفار من مرتد وناقض عهد ونحوها ومنهم من يجعلها عامة في المسلم المقيم على إسلامه وفي غيره ولا أعلم أحدا خصها بالمسلم المقيم على إسلامه فتخصيصها به خلاف الإجماع ثم الذين قالوا إنها عامة قال كثير منهم قتادة وغيره: قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} "هذا لأهل الشرك خاصة فمن أصاب من المشركين شيئا من المسلمين وهو لهم حرب فأخذ مالا أو أصاب دما ثم تاب من قبل أن يقدر عليه أهدر عنه ما مضى" لكن المسلم المقيم على إسلامه محاربته إنما هي باليد لأن لسانه موافق مسالم للمسلمين غير محارب أما المرتد والناقض للعهد فمحاربته تارة باليد وباللسان أخرى ومن زعم أن اللسان لا تقع به محاربة فالأدلة المتقدمة في أول المسألة مع ما ذكرناه هنا تدل على أنه محاربة على أن الكلام في هذا المقام إنما هو بعد أن تقرر أن السب محاربة ونقض للعهد. واعلم أن هذه الآية آية جامعة لأنواع من المفسدين والدلالة منها ظاهرة قوية لمن تأملها لا أعلم شيئا يدفعها. فإن قيل: مما يدل على أن المحاربة هنا باليد فقط أنه قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وإنما يكون هذا فيمن يكون ممتنعا والشاتم ليس ممتنعا. قيل: الجواب من وجوه: أحدها: أن المستثنى إذا كان ممتنعا لم يلزم أن يكون المستبقى ممتنعا لجواز أن تكون الآية تعم كل محارب بيد أو لسان ثم استثنى منهم

الممتنع إذا تاب قبل القدرة فيبقى المقدور عليه مطلقا والممتنع إذا تاب بعد القدرة. الثاني: أن كل من جاء تائبا قبل أخذه فقد تاب قبل القدرة عليه. سئل عطاء عن الرجل يجيء بالسرقة تائبا قال: ليس عليه قطع وقرأ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وكل من لم يؤخذ فهو ممتنع لا سيما إذا لم يؤخذ ولم تقم عليه حجة وذلك لأن الرجل وإن كان مقيما فيمكنه الاستخفاء والهرب كما يمكن المصحر فليس كل من فعل جرما كان مقدورا عليه بل يكون طلب المصحر أسهل من طلب المقيم إذا كان لا يواريه في الصحراء خمر ولا غابة بخلاف المقيم في المصر وقد يكون المقيم له من يمنعه من إقامة الحد عليه فكل من تاب قبل أن يؤخذ ويرفع إلى السلطان فقد تاب قبل القدرة عليه. وأيضا فإذا تاب قبل أن يعلم به ويثبت الحد عليه فإن جاء بنفسه فقد تاب قبل القدرة عليه لأن قيام البينة وهو في أيدينا قدرة عليه فإذا تاب قبل هذين فقد تاب قبل القدرة عليه قطعا. الثالث: أن المحارب باللسان كالمحارب باليد قد يكون ممتنعا وقد يكون المحارب باليد مستضعفا بين قوم كثيرين وكما أن الذي يخاطر بنفسه بقتال قوم كثيرين قليل فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الضرر بين قوم كثيرين قليل وإن الغالب أن القاطع بسيفه إنما يخرج على من يستضعفه فكذلك الذي يظهر الشتم ونحوه من الساب ونحوه إنما يفعل ذلك في الغالب مستخفيا مع من لا يتمكن من أخذه ورفعه إلى السلطان والشهادة عليه.

ومما يقرر الدلالة الاستدلال بالآية من وجهين آخرين: أحدهما: أنها قد نزلت في قوم ممن كفر وحارب بعد سلمه باتفاق الناس فيما علمناه وإن كانت نزلت أيضا فيمن حارب وهو مقيم على إسلامه فالذمي إذا حارب إما بأن يقطع الطريق على المسلمين أو يستكره مسلمة على نفسها ونحو ذلك يصير به محاربا وعلى هذا إذا تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه القتل الواجب عليه وإن كان هذا قد اختلف فيه فإن العمدة على الحجة فالساب للرسول أولى ولا يجوز أن يخص بمن قاتل لأخذ المال فإن الصحابة جعلوه محاربا بدون ذلك وكذلك سبب النزول الذي ذكرناه ليس فيه أنهم قتلوا أحدا لأخذ مال ولو كانوا قتلوا أحدا لم يسقط القود عن قاتله إذا تاب قبل القدرة وكان قد قتله وله عهد كما لو قتله وهو مسلم. وأيضا فقطع الطرق إما أن يكون نقضا للعهد أو يقام عليه ما يقام على المسلم مع بقاء العهد فإن كان الأول فلا فرق بين قطع الطريق وغيره من الأمور التي تضر المسلمين وحينئذ فمن نقض العهد بها لم يسقط حده وهو القتل إذا تاب بعد القدرة وإن كان الثاني لم ينتقض عهد الذمي بقطع الطريق وقد تقدم الدليل على فساده ثم إن الكلام هنا إنما هو تفريع عليه فلا يصح المنع بعد التسليم. الثاني: أن الله سبحانه فرق بين التوبة قبل القدرة وبعدها لأن الحدود إذا رفعت إلى السلطان وجبت ولم يمكن العفو عنها ولا الشفاعة فيها بخلاف ما قبل الرفع ولأن التوبة قبل القدرة عليه توبة اختيار والتوبة بعد القدرة توبة إكراه واضطرار بمنزلة توبة فرعون حين أدركه الغرق وتوبة الأمم المكذبة لما جاءها البأس وتوبة من حضره الموت فقال: إني تبت الآن فلم يعلم صحتها حتى يسقط الحد الواجب ولأن قبول التوبة بعد القدرة لو أسقطت الحد

لتعطلت الحدود وانبثق سد الفساد فإن كل مفسد يتمكن إذا أخذ أن يتوب بخلاف التوبة قبل القدرة فإنها تقطع دابر الشر من غير فساد فهذه معان مناسبة قد شهد لها الشارع بالاعتبار في غير هذا الأصل فتكون أوصافا مؤثرة أو ملائمة فيعلل الحكم بها وهي بعينها موجودة في الساب فيجب أن لا يسقط القتل عنه بالتوبة بعد الأخذ لأن إسلامه توبة منه وكذلك توبة كل كافر قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} في موضعين والحد قد وجب بالرفع وهذه توبة إكراه أو اضطرار وفي قبولها تعطيل للحد ولا ينتقض هذا علينا بتوبة الحربي الأصلي فإنه لم يدخل في هذه الآية ولأنه إذا تاب بعد الأسر لم يخل سبيله بل يسترق ويستعبد وهو إحدى العقوبتين اللتين كان يعاقب بإحداهما قبل الإسلام والساب لم يكن عليه إلا عقوبة واحدة فلم يسقط كقاطع الطريق والمرتد المجرد لم يسع في الأرض فسادا فلم يدخل في الآية ولا يرد نقضا من جهة المعنى لأنا إنما نعرضه للسيف ليعود إلى الإسلام وإنما نقتله لمقامه على تبديل الدين فإذا أظهر الإعادة إليه حصل المقصود الذي يمكننا تحصيله وزال المحذور الذي يمكننا إزالته وإنما تعطيل هذا الحد أن يترك على ردته غير مرفوع إلى الإمام ولم يقدح كونه مكرها بحق في غرضنا لأنا إنما طلبنا منه أن يعود إلى الإسلام طوعا أو كرها كما لو قاتلناه على الصلاة أو الزكاة فبذلها طوعا أو كرها حصل مقصودنا والساب ونحوه من المؤذين إنما نقتلهم لما فعلوه من الأذى والضرر لا لمجرد كفرهم فإنا قد أعطيناهم العهد على كفرهم فإذا أسلم بعد الأخذ زال الكفر الذي لم يعاقب عليه بمجرده. وأما الأذى والضرر فهو إفساد في الأرض قد مضى منه كالإفساد بقطع الطريق لم يزل إلا بتوبة اضطرار لم تطلب منه ولم يقتل ليفعلها بل قوتل

أو لا ليبذل واحدا من الإسلام أو إعطاء الجزية طوعا أو كرها فبذل الجزية كرها على أنه لا يضر المسلمين فضرهم فاستحق أن يقتل فإذا تاب بعد القدرة عليه وأسلم كانت توبة محارب مفسد مقدور عليه. الطريق الثانية: قوله سبحانه: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} الآيات. وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والأصمعي وغيرهم عن أبي عمر (لا إيمان لهم) بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة. وهذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان ولا يمين ثانية. أما على قراءة الأكثرين فإن قوله {لا أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا وفاء بالأيمان ومعلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عهد ثان أبدا. وأما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان ولم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى: (لا إيمان لهم) وأدل على علة الحكم ولكن يشبه والله أعلم أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى: {لا إيمان} نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء وأنه يجب قتله وإن أظهر الإيمان.

يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب ولا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم. والمعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون وأنهم لو أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" لأن الشيخ قد عسا في الكفر وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص: "ستلقون أقواما محوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله تعالى قال: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} والله أصدق القائلين" فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه ولم يطعن في الدين أو طعن ولم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان. يبين ذلك أنه قال: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} أي عن النقض والطعن كما سنقرره وإنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون. ومما يوضح ذلك أن هذه الآية قد قيل: إنها نزلت في اليهود الذين كانوا قد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود

والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداء من المشركين وهموا بمعاونة الكفار والمنافقين على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر ونكث العهد فأمر بقتالهم. ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثل مسألتنا سواء. وقد قيل: إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة وقالت طائفة من العلماء: وبراءة إنما نزلت بعد تبوك وبعد فتح مكة ولم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء ولم يبق قتله من الكفر إذا أظهروا النفاق. ويؤيد هذا قراءة مجاهد والضحاك: {نكثوا إيمانهم} بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام وطعن في الدين فإنه يقاتل وإنه لا إيمان له قال من نصر هذا لأنه قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ثم قال: {وَإِنْ نَكَثُوا إيمانهم} فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} وقوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} الآية وقد تقدم أن الأيمان من العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان ومن نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل وأنه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول ونحوه من المسلمين وأهل الذمة لا إيمان له ولا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك.

فإن قيل: قد قيل قوله تعالى: {لا إيمان لهم} أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أومنه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} . قيل: إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد وإنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر والمستقبل وحينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال. فإن قيل: إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل وقد قال بعدها: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} فعلم أن التوبة منه مقبولة قيل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة وأخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصر المؤمنين عليهم ثم بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا ممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود ولذلك قال: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وإنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم. يوضح ذلك أنه قال: {وَيَتُوبُ اللَّه} بالضم وهذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر وذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم ولا هي حاصلة بقتالهم وإنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث والطعن والمضمون بقتالهم تعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وفي ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل ويقاتل لأجلها. يؤيد هذا أنه قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله:

{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} ثم قال: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد والطعن في الدين وجعل للمعاهد ثلاثة أحوال: أحدها: أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين. الحالة الثانية: أن يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وإنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه: {وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . وذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخلية سبيله إذ حاجته إنما هي إلى ذلك وجاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} والمعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلى التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة ولا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا والمؤمنون إخوة فيكون أخا. الحالة الثالثة: أن ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتاله وبين أنه ليس له أيمان ولا إيمان والمقصود من قتاله أن ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر ولم يكن قتاله جائزا فعلم

أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وإنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتفائها في الحال الأخرى. وذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام وللزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون ولا يخزون ولا تشفى الصدور منهم وهو خلاف ما أمر به في الآية وصار هؤلاء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن ارتد وسفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله وإن عاد إلى الإسلام وإن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل والله سبحانه أعلم. الطريقة الثالثة: قوله سبحانه: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا

إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} وقد تقدم تقرير الدلالة من هذه الآيات في قتل المنافق وذكرنا الفرق بين توبة الحربي والمرتد المجرد وتوبة المنافق والمفسد من المعاهدين ونحوهما وفرقنا بين التوبة التي تدرأ العذاب والتوبة التي تنفع في المآب. الطريقة الرابعة: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} الآيات وقد قررنا فيما مضى أن هذه الآية تدل على قتل المؤذي من المسلمين مطلقا وهي تدل على قتل من أظهر الأذى من أهل الذمة لأن اللعنة المذكورة موجبة للقتل كما في تمام الكلام وقد تقدم تقرير هذا. وقد ذكرنا أن قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} نزلت في ابن الأشرف لما طعن في دين الإسلام وقد كان عاهد النبي صلى الله عليه وسلم فانتقض عهده بذلك وأخبر الله أنه ليس له نصير ليبين أن لا ذمة له إذ الذمي له نصر والنفاق له قسمان: نفاق المسلم استبطان الكفر ونفاق الذمي استبطان المحاربة وتكلم المسلم بالكفر كتكلم الذمي بالمحاربة فمن عاهدنا على أن لا يؤذي الله ورسوله ثم نافق بأذى الله ورسوله فهو من منافقي المعاهدين فمن لم ينته من هؤلاء المنافقين أغرى الله نبيه بهم فلا يجاورونه {إِلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} ففي الآية دلالتان. إحداهما: أن هذا ملعون والملعون هو الذي يؤخذ أين وجد ويقتل فعلم أن قتله حتم لأنه لم يستثن حالا من الأحوال كما استثنى في سائر الصور ولأنه قال (قتلوا) وهذا وعد من الله لنبيه يتضمن نصره والله لا يخلف

الميعاد فعلم أنه لا بد من تقتيلهم إذا أخذوا ولو سقط عنهم القتل بإظهار الإسلام ولم يتحقق الوعد مطلقا. الثانية: أنه يجعل انتهاءهم النافع قبل الأخذ والتقتيل كما جعل توبة المحاربين النافعة لهم قبل القدرة عليهم فعلم أنهم إن انتهوا عن إظهار النفاق من الأذى ونحوه النفاق في العهد والنفاق في الدين وإلا أغراه الله بهم حتى لا يجاورونه في البلد ملعونين يؤخذون ويقتلون وهذا الطاعن الساب لم ينته حتى أخذ فيجب قتله. وفيها دلالة ثالثة وهو أن الذي يؤذي المؤمنين من مسلم أو معاهد إذا أخذ أقيم عليه حد ذلك الأذى ولم تدرأه عنه التوبة الآن فالذي يؤذي الله ورسوله بطريق الأولى لأن الآية تدل على أن حاله أقبح في الدنيا والآخرة. الطريقة الخامسة: أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل حدا من الحدود لا لمجرد الكفر وكل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالإسلام. وهذا الدليل مبني على مقدمتين: إحداهما: أنه يقتل لخصوص سب رسول الله صلى الله عليه وسلم المستلزم للردة ونقض العهد وإن كان ذلك متضمنا للقتل لعموم ما تضمنه من مجرد الردة ومجرد نقض العهد في بعض المواضع والدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسبه صلى الله عليه وسلم عند الأعمى الذي كان يأوي إليها ولا يجوز أن يكون قتلها لمجرد نقض العهد لأن المرأة الذمية إذا انتقض عهدها فإنها تسترق ولا يجوز قتلها ولا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تقاتل وهذه المرأة لم تكن تقاتل ولم تكن معينة على قتال كما تقدم ثم إنها لو

كانت تقاتل ثم أسرت صارت رقيقة ولم تقتل عند كثير من الفقهاء منهم الشافعي رضي الله عنه لاسيما إن كانت رقيقة فإن قتلها يمتنع لكونها امرأة ولكونها رقيقة لمسلم فثبت أن قتلها كان لخصوص السب للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل كما لو زنت المرأة الذمية أو قطعت الطريق على المسلمين أو قتلت مسلما أو كما لو بدلت دين الحق عند أكثر الفقهاء الذين يقتلون المرتدة بل هذا أبلغ لأنه ليس في قتل المرتدة من السنة المأثورة الخاصة في كتب السنن المشهورة مثل الحديث الذي في قتل السابة الذمية. يوضح ذلك أن بني قريظة نقضوا العهد ونزلوا على حكم سعد ابن معاذ فحكم فيهم بأن تقتل مقاتليهم وتسبى الذرية من النساء والصبيان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" ثم قتل النبي صلى الله عليه وسلم الرجال واسترق النساء والذرية ولم يقتل من النساء إلا امرأة واحدة كانت قد ألقت رحى من فوق الحصن على رجل من المسلمين ففرق صلى الله عليه وسلم بين الذرية التي لم يثبت في حقهم إلا مجرد انتقاض العهد وبين الذرية الذين نقضوا العهد بما يضر المسلمين وهذه المرأة الذمية لم ينتقض عهدها بأنها لحقت بدار الحرب وامتنعت عن المسلمين وإنما نقضت العهد بأن ضرت المسلمين وآذت الله ورسوله وسعت في الأرض فسادا بالصد عن سبيل الله والطعن في دين الله كما فعلت المرأة الملقية للرحى فعلم أنها لم تقتل لمجرد انتقاض العهد وهي لم تكن مسلمة حتى يقال: إنها قتلت للردة ولا هي أيضا بمنزلة امرأة قاتلت ثم أسرت حتى يقال: تصير رقيقة بنفس السبي لا تقتل أو يقال: يجوز قتلها كما يجوز قتل الرجل إذا أسلمت عصم الإسلام الدم وبقيت رقيقة لوجهين:

أحدهما: أن هذا السب الذي كانت تقوله لم تكن تقوله للمشركين ولا لعموم المسلمين حتى يقال: هو بمنزلة إعانة الكفار على القتال من كل وجه. الثاني: أنها لم تكن ممتنعة حين السب بل هي حين السب ممكنة مقدور عليها وحالها قبله وبعده سواء. فالسب وإن كان حرابا لكنه لم يصدر من ممتنعة أسرت بعد ذلك بل من امرأة ملتزمة للحكم بيننا وبينها العهد على الذمة ومعلوم أن السب من الأمور المضرة بالمسلمين وأنه من أبلغ الفساد في الأرض لما فيه من ذل الإيمان وعز الكفر وإذا ثبت أنها لم تقتل للكفر ولا لنقض العهد ولا لحراب أصلي متقدم على القدرة عليها ثبت أن قتلها حد من الحدود والقتل الواجب حدا لا لمجرد الكفر لا يسقط بالإسلام كحد الزاني والقاطع والقاتل وغيرهم من المفسدين. ومما يقرر الأمر أن السب إما أن يكون حرابا أو جناية مفسدة ليست حرابا فإن كان حرابا فهو حراب من ذمي أو مسلم وسعي في الأرض فسادا والذمي إذا حارب وسعى في الأرض فسادا وجب قتله وإن أسلم بعد القدرة عليه حيث يكون حرابا موجبا للقتل وحراب هذه المرأة موجب للقتل كما جاءت به السنة وإن كانت جناية مفسدة ليست حرابا وهي موجبة للقتل قتلت أيضا بعد الأخذ بطريق الأولى كسائر الجنايات الموجبة للقتل وهذا كلام مقرر ومداره على حرف واحد وهو أن السب وإن كان من أعمال اللسان فقد دلت السنة بأنه بمنزلة الفساد والمحاربة بعمل الجوارح وأشد ولذلك قتلت هذه المرأة. وتمام ذلك أن قياس مذهب من يقول: "إن الساب إذا قتل إنما يقتل لأنه نقض العهد" أن لا يجوز قتل هذه بل لو كانت قد قتلت باليد واللسان

ثم أخذت لم تقتل عنده فإذا دلت السنة على فساد هذا القول علم صحة القول الآخر إذ لا ثالث بينهما ولا ريب عند أحد أن من قتل لحدث أخذ به أوجب نقض عهده ولم يقتل لمجرد أن انتقض عهده فقط فإن قتله لا يسقط بالإسلام لأن فساد ذلك الحدث لا يزول بالإسلام. ألا ترى أن الجنايات الناقضة للعهد مثل قطع الطريق وقتل المسلم والتجسس للكفار والزنى بمسلمة واستكراهها على الفجور ونحو ذلك إذا صدر من ذمي فمن قتله لنقض العهد قال: "متى أسلم لم آخذه إلا بما يوجب القتل إذا فعله المسلم باقيا على إسلامه مثل أن يكون قد قتل في قطع الطريق فأقتله أو زنى فأحده أو قتل مسلما فأقيده لأنه بالإسلام صار بمنزلة المسلمين فلا يقتل كفرا" ومن قال: "أقتله لمحاربة الله ورسوله وسعيه في الأرض فسادا" قال: أقتله وإن أسلم وتاب بعد أخذه كما أقتل المسلم إذا حارب ثم تاب بعد القدرة لأن الإسلام الطارئ لا يسقط الحدود الواجبة قبله لآدمي بحال وإن منع ابتداء وجوبها كما لو قتل ذمي ذميا أو قذفه ثم أسلم فإن حده لا يسقط ولو قتله أو قذفه ابتداء لم يجب عليه قود ولا حد ولا يسقط ما كان منها لله إذا تاب بعد القدرة كما لو قتل في قطع الطريق فإنه لا يسقط عنه بالإسلام وفاقا فيما أعلم وكذلك لو زنى ثم أسلم فإن حده القتل الذي كان يجب عليه قبل الإسلام عند أحمد وعند الشافعي حده حد المسلم فحد السب إن كان حقا لآدمي لم يسقط بالإسلام وإن كان حقا لله فليس حدا على الكفر الطارئ والمحاربة الأصلية كما دلت عليه السنة ولا على مجرد الكفر الأصلي بالاتفاق فيكون حدا لله على محاربة موجبة كقتل المرأة وكل قتل وجب حدا على محاربة ذمية لم يسقط بالإسلام بعد القدرة بالاتفاق فإن الذمية إذا لم تقتل في المحاربة لم يقتلها من يقول: "قتل

الذمي المحارب إنما هو لنقض العهد" ومن قتلها كما دلت علية السنة فلا فرق في هذا الباب بين أن تسلم بعد القدرة أو لا تسلم. واعلم أن من قال: "إن هذه الذمية تقتل فإذا أسلمت سقط عنها القتل لم يجد هذا في الأصول نظيرا أن ذمية تقتل وهي في أيدينا ويسقط عنها القتل بالإسلام بعد الأخذ ولا أصلا يدل على المسألة والحكم إذا لم يثبت بأصل ولا نظير كان تحكما ومن قال "إنها تقتل بكل حال" فله نظير يقيس به وهو المحاربة باليد والزانية ونحوهما. الطريقة السادسة: الاستدلال من قتل بنت مروان وهو كالاستدلال من هذه القصة لأنا قد قدمنا أنها كانت من المهادنين الموادعين وإنما قتلت للسب خاصة والتقرير كما تقدم. الطريقة السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" وقد كان معاهدا قبل ذلك ثم هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه قد أمنهم على دمه وماله باعتقاده بقاء العهد ولأنهم جاءوه مجيء من قد آمنه ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا أمنهم كما تقدم لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمانا وكذلك كل من يجوز أمانه فعلم أن هجاءه للنبي عليه الصلاة والسلام وأذاه لله تعالى ورسوله لا ينعقد معه أمان ولا عهد وذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق إذ ذلك يقتل وإن أومن كما يقتل الزاني والمرتد وإن أومن وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالإسلام وفاقا. الطريقة الثامنة: أنه قد دل هذا الحديث على أن أذى الله ورسوله علة للانتداب إلى قتل كل أحد فيكون ذلك علة أخرى غير مجرد الكفر والردة

فإن ذكر الوصف بعد الحكم بحرف الفاء دليل على أنه علة والأذى لله ورسوله يوجب القتل ويوجب نقض العهد ويوجب الردة. يوضح ذلك أن أذى الله ورسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان الأخص عديم التأثير فلما علل قتله بالوصف الأخص علم أنه مؤثر في الأمر بقتله لا سيما في كلام من أوتي جوامع الكلم وإذا كان المؤثر في قتله أذى الله ورسوله وجب قتله وإن تاب كما ذكرناه فيمن سب النبي عليه الصلاة والسلام من المسلمين فإن كلاهما أوجب قتله أنه آذى الله ورسوله وهو مقر للمسلمين بأن لا يفعل ذلك فلو كان عقوبة هذا المؤذي تسقط بالتوبة سقطت عنهما ولأنه قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} وقال في خصوص هذا المؤذي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} وقد أسلفنا أن هذه اللعنة توجب القتل إذا أخذ ولأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ولا خلاف علمناه أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة فالذين يؤذون الله ورسوله أحق وأولى لأن القرآن قد بين أن هؤلاء أسوأ حالا في الدنيا والآخرة فلو أسقطنا عنهم العقوبة بالتوبة لكانوا أحسن حالا. وليس للمنازع هنا إلا كلمة واحدة وهو أن يقول: هذا قد تغلظت عقوبته بالقتل لأنه نوع من المرتدين وناقض العهد والكافر تقبل توبته من الكفر وتسقط عنه العقوبة بخلاف المؤذي بالفسق.

فيقال له: هذا لو كان الموجب لقتله إنما هو الكفر وقد دلت السنة على أن الموجب لقتله إنما هو أذى الله ورسوله وهذا أخص من عموم الكفر وكما أن الزنا والسرقة والشرب وقطع الطريق أخص من عموم المعصية والشارع رتب الأمر بالقتل على هذا الوصف الأخص الذي نسبته إلى سائر أنواع الكفر نسبة أذى المؤمنين إلى سائر أنواع المعاصي فإلحاق هذا النوع بسائر الأنواع جمع بين ما فرق الله بينه ورسوله وهو من القياس الفاسد كقياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا وإنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء والصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها وتغلظ عقوبته ابتداء لا يوجب تخفيفها انتهاء بل يوجب تغلظها مطلقا إذا كان الجرم عظيما وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداء ولا انتهاء مثل هذا فإنه يجوز إقرارهم بجزية واسترقاقهم في الجملة ويجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب وهذا بخلاف ذلك. وأيضا فإن الموجب لقتله إذا كان هو أذى الله ورسوله كان محاربا لله ورسوله وساعيا في الأرض فسادا وقد أومأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك في حديث ابن الأشرف كما تقدم وهذا الوصف قد رتب عليه من العقوبة ما لم يرتب على غيره من أنواع الكفر وتحتمت عقوبة صاحبه إلا أن يتوب قبل القدرة. الطريقة التاسعة: أنا قد قدمنا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أهدر عام الفتح دماء نسوة لأجل أنهن كن يؤذينه بألسنتهن منهن القينتان لابن خطل اللتان كانتا تغنيان بهجائه ومولاة لبني عبد المطلب كانت تؤذيه وبينا بيانا واضحا أنهن لم يقتلن لأجل حراب ولا قتال وإنما قتلن لمجرد السب وبينا أن سبهن لم يجر مجرى قتالهن بل كان أغلظ لأن النبي عليه الصلاة والسلام آمن عام الفتح المقاتلة كلهم إلا من له جرم خاص يوجب

قتله ولأن سبهن كان متقدما على الفتح ولا يجوز قتل المرأة في بعض الغزوات لأجل قتال متقدم قد كفت عنه وأمسكت في هذه الغزوة وبينا بيانا واضحا أن قتل هؤلاء النسوة أدل شيء على قتل المرأة السابة من مسلمة ومعاهدة وهو دليل قوي على جواز قتل السابة وإن تابت من وجوه: أحدها: أن هذه المرأة الكافرة لم تقتل لأجل أنها مرتدة ولا لأجل أنها مقاتلة كما تقدم فلم يبق ما يوجب قتلها إلا أنها مفسدة في الأرض محاربة لله ورسوله وهذه يجوز قتلها بعد التوبة إذا كان قتلها جائزا قبلها بالكتاب والسنة والإجماع. الثاني: أن سب أولئك النسوة إما أن يكون حرابا أو جناية موجبة للقتل غير الحراب إذ قتلهن لمجرد الكفر غير جائز كما تقدم فإن كان حرابا فالذمي إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا يجب قتله بكل حال كما دل عليه القرآن وإن كان جناية أخرى مبيحة للدم فهو أولى وأحرى وقد قدمنا فيما مضى ما يبين أن هؤلاء النسوة لم يقتلن لحراب كان موجودا منهن في غزوة الفتح وإنما قتلن جزاء على الجرم الماضي نكالا عن مثله وهذا يبين أن قتلهن بمنزلة قتل أصحاب الحدود من المسلمين والمعاهدين. الثالث: أن اثنتين منهن قتلتا والثالثة أخفيت حتى استؤمن لها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فآمنها لأنه كان له أن يعفوا عمن سبه كما تقدم وله أن يقتله ولم يعصم دم أحد ممن أهدر دمه عام الفتح إلا أمانه فعلم أن مجرد الإسلام لم يعصم دم هذه المرأة وإنما عصم دمها عفوه. وبالجملة فقصة قتله لأولئك النسوة من أقوى ما يدل على جواز قتل السابة بكل حال فإن المرأة الحربية لا يبيح قتلها إلا قتالها وإذا قاتلت ثم تركت القتال في غزوة أخرى واستسلمت وانقادت لم يجز قتلها في هذه المرة الثانية ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن.

وللحديث وجهان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان عاهد أهل مكة والظاهر أن عهده انتظم الكف عن الأذى باللسان فإن في كثير من الحديث ما يدل على ذلك وحينئذ فهؤلاء اللواتي هجونه نقضن العهد نقضا خاصا بهجائهن فكان للنبي عليه الصلاة والسلام قتلهن بذلك وإن تبن وهذه ترجمة المسألة. الثاني: أنه كان له أن يقتل من هجاه إذا لم يتب حتى قدر عليه وإن كان حربيا لكن سقط هذا بموته كما يسقط بموته العفو عن المسلم والذمي الساب ويكون قد كان أمر الساب هو مخير فيه مطلقا لكونه أعلم بالمصلحة فإذا مات تحتم قتل من التزم أن لا يسب وكان الحربي الساب كغيره من الحربيين إذا تاب. وهذا الوجه ضعيف فإنه إثبات حكم باحتمال والأول جار على القياس ومن تأمل قصة الذين أهدرت دمائهم عام الفتح علم أنهم كلهم كانوا محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا. الطريقة العاشرة: أنه صلى الله عليه وسلم أمر في حال واحدة بقتل جماعة ممن كان يؤذيه بالسب والهجاء مع عفوه عمن كان أشد منهم في الكفر والمحاربة بالنفس والمال فقتل عقبة بن أبي معيط صبرا بالصفراء وكذلك النضر بن الحارث لما كانا يؤذيانه ويفتريان عليه ويطعنان فيه مع استبقائه عامة الأسرى. وقد تقدم أنه قال: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم" ومعلوم أن مجرد الكفر يبيح القتل فعلم أن الافتراء على

النبي صلى الله عليه وسلم سبب آخر أخص من عموم الكفر موجب للقتل فحيث ما وجد وجد معه وجوب القتل وأهدر عام الفتح دم الحويرث بن نقيد ودم أبي سفيان بن الحارث ودم ابن الزبعرى وأهدر بعد ذلك دم كعب ابن زهير وغيرهم لأنهم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أهدر دم من ارتد وحارب ودم من ارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم ودم من ارتد وحارب وآذى الله ورسوله مع أمانه لجميع الذين حاربوا ونقضوا عهده فعلم أن أذاه سبب منفرد بإباحة القتل وراء الكفر والحراب بالأنفس والأموال كقطع الطريق وقتل النفس. وقد تقدم ما كان يأمر به ويقر عليه إذا بلغه وما كان يحرض عليه المسلمين من قتل الساب دون غيره من الكافرين حتى إنه لا يحقن دم الساب إلا عفوه بعد ذلك فعلم أنه كان يلحق الساب بذوي الأفعال الموجبة للقتل من قطع طريق ونحوه وهذا ظاهر لمن تأمله فيما مضى من الأحاديث وما لم نذكره ومثل هذا يوجب قتل فاعله من مسلم ومعاهد وإن تاب بعد القدرة وإذا ضم هذا الوجه إلى الذي قبله وعلم أن الأذى وحده سبب يوجب القتل لا لكونه من جنس القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد آمن الذين قاتلوه بالأنفس والأموال من الرجال. فأمان المرأة التي أتت بما يشبه القتال أولى لو كان جرمها من جنس القتال ولأن المرأة إذا قاتلت في غزوة من الغزوات ثم غزا المسلمون غزوة وعلموا أنها لم تقاتل فيها بيد ولا لسان لم يجز قتلها عند أحد من المسلمين علمناه وهؤلاء النسوة كان أذاهن متقدما على فتح مكة ولم يكن لهن في غزو الفتح معرة

بيد ولا لسان بل كن مستسلمات منقادات لو علمن أن إظهار الإسلام يعصم دماءهن لبادرن إلى إظهاره فهل يعتقد أحد أن مثل هذه المرأة تقتل لكونها محاربة خصوصا عند الشافعي فإن منصوصه أن قتل المرأة والصبي إذا قاتلا بمنزلة قتل الصائل من المسلمين يقصد به دفعهما وإن أفضى إلى قتلهما فإذا انكفا بدون القتل كأسر أو ترك للقتال ونحو ذلك لم يجز قتلهما كما لا يجوز قتل الصائل. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل من كان يؤذيه ويهجوه من النساء وقد تركن ذلك واستسلمن وربما كن يوددن أن يظهرن الإسلام إن كان عاصما وقد آمن المقاتلين كلهم علم أن السب سبب مستقل موجب يحل دم كل أحد وأن تركه ذلة وعجز. يؤيد ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام آمن أهل مكة إلا من قاتل إلا هؤلاء النفر فإنه أمر بقتلهم قاتلوا أو لم يقاتلوا فعلم أن هؤلاء النسوة قتلن لأجل السب لا لأجل أنهن يقاتلن. الطريقة الحادية عشرة: أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ونذر رجل من المسلمين ليقتلنه ثم حبسه عثمان أياما حتى اطمأن أهل مكة ثم جاء تائبا ليبايع النبي عليه الصلاة والسلام ويؤمنه فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره. ففي هذا دلالة على أن المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم الطاعن عليه قد كان له أن يقتله وأن دمه مباح وإن جاء تائبا من كفره وفريته لأن قتله لو كان حراما لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ولا قال للرجل: هلا وفيت بنذرك بقتله.

ولا خلاف بين المسلمين علمناه أن الكافر إذا جاء تائبا مريدا للإسلام مظهرا لذلك لم يجز قتله لذلك ولا فرق في ذلك بين الأصلي والمرتد إلا ما ذكرناه من الخلاف الشاذ في المرتد مع أن هذا الحديث يبطل ذلك الخلاف بل لو جاء الكافر طالبا لأن يعرض عليه الإسلام ويقرأ عليه القرآن لوجب أمانه لذلك. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} . وقال تعالى في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . وعبد الله بن سعد إنما جاء تائبا ملتزما لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بل جاء بعد أن أسلم كما تقدم ذكر ذلك ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه كان مريدا لقتله وقال للقوم: "هلا قام بعضكم إليه ليقتله" و"هلا وفيت بنذرك في قتله" فعلم أنه قد كان جائزا له أن يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار وإن جاء مظهر للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه يجوز له قتل فاعله وإن أظهر الإسلام والتوبة. ومما يشبه هذا إعراضه عن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي أمية وقد جاءا مهاجرين يريدان الإسلام أو قد أسلما وعلل ذلك بأنهما كانا يؤذيانه ويقعان في عرضه مع أنه لا خلاف علمناه أن الحربي إذا جاء يريد الإسلام وجبت المسارعة إلى قبوله منه وكان الاستئناء به حراما وقد عده بعض الناس كفرا.

وقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في المسارعة إلى قبول الإسلام من كل من أظهره وتأليف الناس عليه بالأموال وغيرها أشهر من أن يوصف فلما أبطأ عن هذين وأراد أن لا يلتفت إليهما البتة علم أنه كان له أن يعاقب من كان يؤذيه ويسبه وإن أسلم وهاجر وأن لا يقبل منه من الإسلام والتوبة ما يقبل من الكافر الذي لم يكن يؤذيه وفي هذا دلالة على أن السب وحده موجب للعقوبة. يوضح ذلك ما ذكره أهل المغازي أن علي بن أبي طالب قال لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . ففي هذا دلالة على أن ما ناله من عرضه كان له أن يعاقب عليه وأن يعفو كما كان ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يعاقب إخوته على ما فعلوا به من الإلقاء في الجب وبيعه للسيارة ولكن لكرمه عفا صلى الله عليه وسلم ولو كان الإسلام يسقط حقه بالكلية كما يسقط حقوق الله لم يتوجه شيء من هذا. وقد تقدم تقرير هذا الوجه في أول الكتاب وبينا أنه نص في جواز قتل المرتد الساب بعد إسلامه فكذلك قتل الساب المعاهد لأن المأخذ واحد. ومما يوضحه أن المسلمين قد كان استقر عندهم أن الكافر الحربي إذا أظهر الإسلام حرم عليهم قتله لا سيما عند السابقين الأولين مثل عثمان ابن عفان

ونحوه وقد علموا قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} وقصة أسامة بن زيد وحديث المقداد فلما كان أولئك الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم: منهم من قتل ومنهم من أخفي حتى اطمأن أهل مكة وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبايعه دل على أن عثمان رضي الله عنه وغيره من المسلمين علموا أن إظهار عبد الله ابن سعد بن أبي سرح ونحوه الإسلام لا يحقن دماءهم دون أن يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فقد كان يمكنهم أن يأمروهم بإظهار الإسلام والخروج من أول يوم. والظاهر والله أعلم أنهم قد كانوا أسلموا وإنما تأخرت بيعتهم للنبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام حتى يؤمنهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك دليل على أنه قد كان للنبي عليه الصلاة والسلام قتلهم لأجل سبه مع إظهار التوبة. وقد روي عن عكرمة أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة وكذلك ذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران. وهذا الذي ذكروه نص في المسألة وهو أشبه بالحق فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بمر الظهران شعرت به قريش حينئذ وابن أبي سرح قد علم ذنبه فيكون قد أسلم حينئذ ولما بلغه أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أهدر دمه تغيب حتى استؤمن له والحديث لمن تأمله دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله وأن يؤمنه وأن الإسلام وحده

لم يعصم دمه حتى عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك أن عثمان جاء ليشفع له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا وأعرض عنه مرة بعد مرة وعثمان يأتيه من كل وجهة وهو معرض عنه رجاء أن يقوم بعضهم فيقتله وعثمان في ذلك يكب على النبي صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويطلب منه أن يبايعه ويذكر أن لأمه عليه حقوقا حتى استحيا النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان فقضى حاجته ببيعته مع أنه كان يود أن لا يفعل فعلم أن قتله كان حقا له أن يعفو عنه ويقبل فيه شفاعة شافع وله أن لا يفعل ولو كان ممن يعصم الإسلام دمه لم يحتج إلى شافع ولم يجز رد الشفاعة. ومنها: أن عثمان لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يقر منك قال: "ألم أبايعه وأومنه" قال: بلى ولكنه يتذكر عظيم جرمه فقال: "الإسلام يجب ما قبله" وفي هذا بيان لأن خوفه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله إنما زال بأمانه وبيعته لا لمجرد الإسلام فعلم أن الإسلام يمحو إثم السب وأما سقوط القتل فلا يحصل بمجرد الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أزال خوفه من القتل بالأمان وأزال خوفه من الذنب بالإسلام. ومما يدل على أن الأنبياء لهم أن يعاقبوا من آذاهم بالهلاك وإن أظهر التوبة والندم ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن قارون كان يؤذي موسى وكان ابن عمه فبلغ من أذاه إياه أن قال لامرأة بغي: إذا اجتمع الناس عندي غدا فتعالي وقولي: إن موسى راودني عن نفسي فلما كان الغد واجتمع الناس جاءت فسارت قارون ثم قالت للناس: إن قارون قال لي كذا وكذا وإن موسى لم يقل لي شيئا من هذا فبلغ ذلك

موسى عليه الصلاة والسلام وهو قائم يصلي في المحراب فخر ساجدا فقال: أي رب إن قارون قد آذاني وفعل وفعل وبلغ من أذاه إياي أن قال ما قال فأوحى الله إلى موسى: أن يا موسى إني قد أمرت الأرض أن تطيعك وكان لقارون غرفة قد ضرب عليها صفائح الذهب فأتاه موسى ومعه جلساؤه فقال لقارون: قد بلغ من أذاك أن قلت كذا وكذا يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى كعبهم فهتفوا: يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أنصاف سوقهم فهتفوا وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن ينجينا مما نحن فيه فنؤمن بك ونتبعك ونطيعك فقال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فلم يزل يقول: يا أرض خذيهم حتى تطابقت عليهم وهم يهتفون فأوحى الله إليه يا موسى ما أفظك أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخلصتهم". ورواه عبد الرزاق قال: حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا علي بن زيد ابن جدعان فذكره أبسط من هذا وفيه: "أن المرأة قالت: إن قارون بعث إلي فقال: هل لك إلى أن أمولك وأعطيك وأخلطك بنسائي على أن تأتيني والملأ من بني إسرائيل عندي تقولين: يا قارون ألا تنهى موسى عن أذاي. وإني لم أجد اليوم توبة أفضل من أن أكذب عدو الله وأبرئ رسول الله قال: فنكس قارون رأسه وعرف أنه قد هلك وفشا الحديث في الناس حتى بلغ موسى عليه الصلاة والسلام وكان موسى صلى الله عليه وسلم شديد الغضب فلما بلغه ذلك توضأ فسجد وبكى وقال: يا رب عدوك قارون كان لي مؤذيا فذكر أشياء ثم لم يتناه حتى أراد فضيحتي يا رب فسلطني عليه فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت تطعك

قال: فجاء موسى يمشي إلى قارون فلما رآه قارون عرف الغضب في وجهه فقال: يا موسى ارحمني فقال موسى: يا أرض خذيهم فاضطربت داره وخسف به وبأصحابه إلى ركبهم وساخت داره على قدر ذلك وجعل يقول: يا موسى ارحمني ويقول موسى: يا أرض خذيهم" وذكر القصة. فهذه القصة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه قول القائل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله "دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". فهذا مع ما ذكرناه من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لهم أن يعاقبوا من آذاهم وإن تاب ولهم أن يعفوا عنه كما ذلك لغيرهم من البشر لكن لهم أن يعاقبوا من يؤذيهم بالقتل والإهلاك وليس لغيرهم أن يعاقبه بمثل ذلك. وذلك دليل على أن عقوبة مؤذيهم حد من الحدود لا لمجرد الكفر فإن عقوبة الكافر تسقط بالتوبة بلا ريب وقارون قد كان تاب في وقت تنفع فيه التوبة ولهذا في الحديث: "أما إنهم لو كانوا إياي دعوا لخلصتهم" وفي لفظ "لرحمتهم" وإنما كان يرحمهم سبحانه والله أعلم بأن يستطيب نفس موسى من أذاهم له كما يستوهب المظالم لمن رحمه من عباده ممن هي له ويعوضه منها. الطريقة الثانية عشرة: ما تقدم من حديث أنس بن زنيم الديلي الذي ذكر عنه أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءه وأنشده قصيدة تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهدا فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم فيه وجعل يسأل العفو عنه حتى عفا عنه فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد جائزة لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمه ولا احتاج إلى العفو

عنه ولولا أن للرسول صلى الله عليه وسلم حقا يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه كما لم يكن يعفو عمن أسلم ولا تبعه عليه وحديثه لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدين ثم أسلم كما أن حديث ابن أبي سرح دليل واضح على جواز قتل من سبه مرتدا ثم أسلم وذلك أنه لما بلغه أنه هجاه وقد كان مهادنا موادعا وكان العهد الذي بينهم يتضمن الكف عن إظهار أذاه وكان على ما قيل عنه قد هجاه قبل أن يقتل بنو بكر خزاعة وقبل أن ينقضوا العهد فلذلك نذر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ثم أنشد قصيدة تتضمن أنه مسلم يقول فيها "تعلم رسول الله" و"هبني رسول الله" وينكر فيها أن يكون هجاه ويدعو على نفسه بذهاب اليد إن كان هجاه وينسب الذين شهدوا عليه إلى الكذب وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته واعتذاره قبل أن يجئ إليه وشفع له كبير قبيلته نوفل بن معاوية وكان نوفل هذا هو الذي نقض العهد وقال: يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو ومن منا لم يعادك ويؤذك ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا بك عن الهلك وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك فقال: "دع الركب عنك فإنا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم قريب ولا بعيد كان أبر من خزاعة" فأسكت نوفل بن معاوية فلما سكت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عنه" قال نوفل: فداك أبي وأمي. فلو كان الإسلام المتقدم قد عصم دمه لم يحتج إلى العفو كما لم يحتج إليه من أسلم ولا حد عليه ولكان قال: الإسلام يجب ما قبله كما قاله لغيره من الحربيين كما يقول له من يقول: ألا نقتل هذا بعد إسلامه؟ فيقول: "الإسلام يجب ما قبله" وصاحب الشريعة بين أن ما أسقط قتله عفوه وذلك أن قوله: "عفوت عنه" إما أن يكون أفاده سقوط ما كان أهدره من دمه

أو لم يفده ذلك فإن لم يفده فلا معنى لقوله: "عفوت عنه" وإن كان قد أفاده سقوط ذلك الإهدار فقبل ذلك لو قتله بعض المسلمين بعد أن أسلم وقبل أن عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم لكان جائزا لأنه متبع لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله أمرا مطلقا إلى حين عفا عنه كما أن أمره بقتل ابن أبي سرح كان باقيا حكمه إلى أن عفا عنه وكذلك عتبهم إذ لم يقتلوه قبل عفوه وهذا بين في هذه الأحاديث بيانا واضحا ولو كان عند المسلمين أن من هجاه من معاهد ثم أسلم عصم دمه لكان نوفل وغيره من المسلمين علموا ذلك وقالوا له كما قالوا لكعب بن زهير ونحوه ممن هجاه وهو حربي: إنه لا يقتل من جاءه مسلما ألا ترى أنهم لم يظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عفا عنه كما لم يظهروا ابن أبي سرح حتى عفا عنه بخلاف كعب بن زهير وابن الزبعرى فإنهما جاءا بأنفسهما لثقتهما بأنه لا يمكن قتل الحربي إذا جاء مسلما وإمكان أن يقتل الذمي الساب والمرتد الساب وإن جاءا مسلمين وإن كانا قد أسلما ثم إنه في قصيدته قال: فإني لا عرضا خرقت ولا دما هرقت ففكر عالم الحق واقصد فجمع بين خرق العرض وسفك الدم فعلم أنه مما يؤخذ به وإن أسلم ولولا أن قتله كان ممكنا بعد إسلامه لم يحتج إلى هذا الإنكار والاعتذار. ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينذر دم واحد بعينه من بني بكر الناقضي العهد إلا هذا مع أنهم فعلوا تلك الأفاعيل فعلم أن خرق عرضه كان أعظم من نقض العهد بالمقاتلة والمحاربة باليد وقد تقدم الحديث بدلالته وإنما نبهنا عليه هنا إحالة على ما مضى. الطريقة الثالثة عشرة: أنه قد تقدم أنه كان له عليه الصلاة والسلام أن يقتل من أغلظ له وآذاه وكان له أن يعفو عنه فلو كان المؤذي له إنما يقتل للردة لم يجز العفو عنه قبل التوبة وإذا كان هذا حقا له فلا فرق فيه بين

المسلم والذمي فإنه قد أهدر دم من آذاه من أهل الذمة وقد تقدم أن ذلك لم يكن لمجرد نقض العهد فعلم أنه كان لأذاه وإذا كان له أن يقتل من أذاه وسبه من مسلم ومعاهد وله أن يعفو عنه علم أنه بمنزلة القصاص وحد القذف وتعزير السب لغير الأنبياء من البشر وإذا كان كذلك لم يسقط عن مسلم ولا معاهد بالتوبة كما لا تسقط هذه الحدود بالتوبة وهذه طريقة قوية وذلك أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد أباح الله له أن يعفو عنه كان المغلب في هذا الحد حقه بمنزلة سب غيره من البشر إلا أن حد سابه القتل وحد ساب غيره الجلد وإذا كان المغلب حقه وكان الأمر في حياته مفوضا إلى اختياره لينال بالعفو علي الدرجات تارة ويقيم بالعقوبة من الحدود ما ينال به أيضا على الدرجات فإنه صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة وهو الضحوك القتال والذمي قد عاهده على أن لا يخرق عرضه وهو لو أصاب لواحد من المسلمين أو المعاهدين حقا من دم أو مال أو عرض ثم أسلم لم يسقط عنه فأولى أن لا يسقط عنه هذا. وإذ قد قدمنا أن قتله لم يكن لمجرد نقض العهد وإنما كان لخصوص السب وإذا كان يجوز له أن يقتل هذا الساب بعد مجيئه مسلما وله أن يعفو عنه فبعد موته تعذر العفو عنه وتمحضت العقوبة حقا لله سبحانه فوجب استيفاؤها على ما لا يخفى؟ إذا القول بجواز عفو أحد عن هذا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي إلى أن يكون الإمام مخيرا بين قتل هذا واستبقائه وهو قول لم نعلم له قائلا ثم إنه خلاف قواعد الشريعة وأصولها وقد تقدم فيما مضى الفرق بين حال حياته وحال مماته. الطريقة الرابعة عشرة: أنه قد تقدم الحديث المرفوع إن كان ثابتا: "من

سب نبيا قتل ومن سب أصحابه جلد" فأمر بالقتل مطلقا كما أمر بالجلد مطلقا فعلم أن السب للنبي عليه الصلاة والسلام موجب بنفسه للقتل كما أن سب غيره موجب للجلد وأن ذلك عقوبة شرعية على السب وكما لا يسقط هذا الجلد بالتوبة بعد القدرة فكذلك لا يسقط هذا القتل. الطريقة الخامسة عشرة: أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعالهم. فمن ذلك: أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي ربيعة في المرأة التي غنت بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر" فأخبره أبو بكر أنه لولا الفوت لأمره بقتلها من غير استتابة ولا استيناء حال توبة مع أن غالب من تقدم ليقتل على مثل هذا يبادر إلى التوبة أو الإسلام إذا علم أنه يدرأ عنه القتل ولم يستفصله الصديق عن السابة: هل هي مسلمة أو ذمية؟ بل ذكر أن القتل حد من سب الأنبياء وأن حدهم ليس كحد غيرهم مع أنه فصل في المرأة التي غنت بهجاء المسلمين بين أن تكون مسلمة أو ذمية. وهذا ظاهر في أن عقوبة الساب حد للنبي واجبة عليه له أن يعفو عنها في بعض الأحوال وأن يستوفيها في بعض الأحوال كما أن عقوبة ساب غيره حد له واجبة على الساب. وقوله: "فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد" ليس فيه دلالة على قبول توبته لأن الردة جنس تحتها أنواع: منها ما تقبل فيه التوبة ومنها ما لا تقبل كما تقدم التنبيه على هذا ولعله أن تكون لنا إليه عودة وإنما غرضه أن يبين الأصل الذي يبيح دم هذا وكذلك قوله: "فهو محارب غادر" فإن المحارب

الغادر جنس يباح دمه ثم منهم من يقتل وإن أسلم كما لو حارب بقطع الطريق أو باستكراه مسلمة على الزنا ونحو ذلك. قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية ثم إنه لم يرفع العقوبة إلا إذا تابوا قبل القدرة عليهم وقد قدمنا أن هذا محارب مفسد فيدخل في هذه الآية. وعن مجاهد قال: أتى عمر برجل يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ثم قال عمر: "من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه". هذا مع أن سيرته في المرتد أنه يستتاب ثلاثا ويطعم كل يوم رغيفا لعله يتوب فإذا أمر بقتل هذا من غير استتابة علم أن جرمه أغلظ عنده من جرم المرتد المجرد فيكون جرم سابه من أهل العهد أغلظ من جرم من اقتصر على نقض العهد لا سيما وقد أمر بقتله مطلقا من غير ثنيا. وكذلك المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها خالد بن الوليد ولم يستتبها دليل على أنها ليست كالمرتدة المجردة. وكذلك حديث محمد بن مسلمة لما حلف ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا وطلبه لقتله بعد ذلك مدة طويلة ولم ينكر المسلمون ذلك عليه مع أنه لو قتله لمجرد الردة لكان قد عاد إلى الإسلام بما أتى به بعد ذلك من الشهادتين والصلوات ولم يقتل حتى يستتاب. وكذلك قول ابن عباس في الذمي يرمي أمهات المؤمنين: "إنه لا توبة له" نص في هذا المعنى وهذه القضايا قد اشتهرت ولم يبلغنا أن أحدا أنكر شيئا

من ذلك كما أنكر عمر رضي الله عنه قتل المرتد الذي لم يستتب وكما أنكر ابن عباس رضي الله عنهما تحريق الزنادقة وأخبر أن حدهم القتل فعلم أنه كان مستفيضا بينهم أن حد الساب أن يقتل إلا ما روي عن ابن عباس: "من سب نبيا من الأنبياء فقد كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب فإن تاب وإلا قتل" وهذا في سب يتضمن جحد نبوة نبي من الأنبياء فإنه يتضمن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن من قال عن بعض الأنبياء أنه ليس بنبي وسبه بناء على أنه ليس بنبي فهذه ردة محضة ويتعين حمل حديث ابن عباس على هذا أو نحوه إن كان محفوظا عنه لأنه أخبر أن قاذف أمهات المؤمنين لا توبة له فكيف تكون حرمتهن لأجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من حرمة نبي معروف مذكور في القرآن؟. الطريقة السادسة عشرة: أن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقا زائدة على مجرد التصديق بنبوته كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وحرم سبحانه لحرمة رسوله مما يباح أن يفعل مع غيره أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته. فمن ذلك: أنه أمر بالصلاة عليه والتسليم بعد أن أخبر أن الله وملائكته يصلون عليه والصلاة تتضمن ثناء الله عليه ودعاء الخير له وقربته منه ورحمته له والسلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة فقد جمعت الصلاة عليه والتسليم جميع الخيرات ثم إنه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة واحدة حضا للناس على الصلاة عليه ليسعدوا بذلك وليرحمهم الله بها.

ومن ذلك: أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن حقه أنه يجب أن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال كما قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} . فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام. وقال تعالى مخاطبا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقات الحصر والجهاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . ومن حقه: أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دل على ذلك قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية مع الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي" فقال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال: "فأنت والله يا رسول الله أحب إلي من نفسي" قال: "الآن يا عمر" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" متفق عليه.

ومن ذلك: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} والتعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. ومن ذلك: أنه خصه في المخاطبة بما يليق به فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} فنهى أن يقولوا: يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولوا: يا رسول الله يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء فلم يدعه باسمه في القرآن قط بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} مع أنه سبحانه قد قال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} الآية

{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاس} {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِك} . ومن ذلك: أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن وحرم رفع الصوت فوق صوته وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل فهذا يدل على أنه قد يقتضي الكفر لأن العمل لا يحبط إلا به وأخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى وأن الله يغفر لهم ويرحمهم وأخبر أن الذين ينادونه وهو في منزله لا يعقلون لكونهم رفعوا أصواتهم عليه ولكونهم لم يصبروا حتى يخرج ولكن أزعجوه إلى الخروج. ومن ذلك: أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا تمييزا له مثل نكاح أزواجه من بعده فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} . وأوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام فقال سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} . وأما ما أوجبه من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله فهذا باب واسع

لكن ذاك قد يقال: هو من لوازم الرسالة وإنما الغرض هنا أن ننبه على بعض ما أوجبه الله من الحقوق الواجبة والمحرمة على الأمة مما يزيد على لوازم الرسالة بحيث يجوز أن يبعث الله رسولا ولا يوجب له هذه الحقوق. ومن كرامته المتعلقة بالقول: أنه فرق بين أذاه وأذى المؤمنين فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وقد تقدم في هذه الآية ما يدل على أن حد من سبه القتل كما أن حد من سب غيره الجلد. ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله وأوجب ذكره في كل خطبة وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع. هذا إلى خصائص له أخر يطول تعدادها. وإذا كان كذلك فمعلوم أن سابه ومنتقصه قد ناقض الإيمان به وناقض تعزيره وتوقيره وناقض رفع ذكره وناقض الصلاة عليه والتسليم وناقض تشريفه في الدعاء والخطاب بل قابل أفضل الخلق بما لا يقابل به أشر الخلق. يوضح ذلك أن مجرد إعراضه عن الإيمان به يبيح الدم مع عدم العهد وإعراضه عن هذه الحقوق الواجبة يبيح العقوبة فهذا بمجرد سكوته عن تشريفه وتكريمه فإذا أتى بضد ذلك من الذم والسب والانتقاص

والاستخفاف فلا بد أن يوجب ذلك زيادة على الذم والعقاب فإن مقادير العقوبات على مقادير الجرائم ألا ترى أن الرجل لو قتل رجلا اعتباطا لكن عقوبته القود وهو التسليم إلى ولي المقتول فإن انضم إلى ذلك قتله لأخذ المال مجاهرة صارت العقوبة تحتم القتل فإن انضم إلى ذلك أخذ المال عوقب مع ذلك بالصلب وعوقب عند بعض العلماء أيضا بقطع اليد والرجل حتما مع أن أخذ المال سرقة لا يوجب إلا قطع اليد فقط وكذلك لو قذف عبدا أو ذميا أو فاجرا لم يجب عليه إلا التعزير فلو قذف حرا مسلما عفيفا لوجب عليه الحد التام فلو قيل: "إنه لا يجب عليه مع ذلك إلا ما يجب على من ترك الإيمان به أو ترك العهد الذي بيننا وبينه" لسوى بين الساكت عن ذمه وسبه والمبالغ في ذلك وهذا غير جائز كما أنه غير جائز التسوية بين الساكت عن مدحه والصلاة عليه والمبالغ في ذلك ولزم من ذلك أن لا يكون لخصوص سبه وذمه وأذاه عقوبة مع أنه من أعظم الجرائم وهذا باطل قطعا. ومعلوم أن لا عقوبة فوق القتل ثم ليس سوى الزيادة على ذلك إلا تعين قتله وتحتمه تاب أو لم يتب كحد قاطع الطريق إذ لا يعلم أحد وجب أن يجلد لخصوص السب ثم يقتل للكفر إذا كانت العقوبة لخصوص السب كانت حدا من الحدود وهذه مناسبة ظاهرة قد دل على صحتها دلالات النصوص السالفة من كون السب موجبا للقتل والعلة إذا ثبت بالنص أو بالإيماء لم يحتج إلى أصل يقاس عليه الفرع وبهذا يظهر أنا لم نجعل خصوص السب موجبا للقتل إلا بما دل عليه من الكتاب والسنة والأثر لا بمجرد الاستحسان والاستصلاح كما زعمه من لم يحظ بمآخذ الأحكام على أن الأصل الذي يقاس به هذا الفرع ثابت وهو: الطريقة السابعة عشرة: وذلك أنا وجدنا الأصول التي دل عليها الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة حكمت في المرتد وناقض العهد حكمين فمن لم يصدر منه

إلا مجرد الردة أو مجرد نقض العهد ثم عاد إلى الإسلام عصم دمه كما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكر بعض ما يدل على ذلك في المرتد وهو في ناقض العهد أيضا موجود بقوله في بعض من نقض العهد: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلام من أسلم من بني بكر وكانوا قد نقضوا العهد وعدوا على خزاعة فقتلوهم وقبل إسلام قريش الذين أعانوهم على قتال المسلمين حتى انتقض عهدهم بذلك ودلت سنته على أن مجرد إسلامهم كان عاصما لدمائهم وكذلك في حصره لقريظة والنضير مذكر أنهم لو أسلموا لكف عنهم وقد جاء نفر منهم مسلمين فعصموا دماءهم وأموالهم منهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية وأسد ابن عبيد أسلموا في الليلة التي نزل فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبرهم مشهور ومن تغلظت ردته أو نقضه بما يضر المسلمين إذا عاد إلى الإسلام لم تسقط عنه العقوبة مطلقا بل يقتل إذا كان جنس ما فعله موجبا للقتل أو يعاقب بما دونه إن لم يكن كذلك كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية وكما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن أبي سرح وابن زنيم وفي قصة ابن خطل وقصة مقيس بن حبابة وقصة العرنيين وغيرهم وكما دل عليه الأصول المقررة فإن الرجل إذا اقترن بردته قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى أو غير ذلك ثم رجع إلى الإسلام أخذت منه الحدود وكذلك لو اقترن بنقض عهده الإضرار بالمسلمين من قطع طريق أو قتل مسلم أو زنى بمسلمة فإن الحدود تستوفى منه بعد الإسلام: إما الحد الذي يجب على المسلم لو فعل ذلك أو الحد الذي كان واجبا قبل الإسلام وهذا الرجل الساب قد وجد منه قدر زائد على مجرد نقض العهد كما قدمنا من الإضرار بالمسلم الذي

صار به أغلظ جرما من مجرد نقض العهد أو فعل ما هو أعظم من أكثر الأمور المضرة كما تقدم فصار بمنزلة من قرن بنقض عهده أذى المسلمين في دم أو مال أو عرض وأشد وإذا كان كذلك فإسلامه لا يزيل عنه عقوبة هذا الإضرار كما دلت عليه الأصول في مثله وعقوبة هذا الإضرار قد ثبت أنه القتل بالنص والإسلام الطارئ لا يمنع ابتداء هذه العقوبة فإن المسلم لو ابتدأ بمثل هذا قتل قتلا لا يسقط بالتوبة كما تقدم. وإذا لم يمنع الإسلام ابتداءها فأن لا يمنع بقاءها ودوامها أولى وأحرى لأن الدوام والبقاء أقوى من الابتداء والحدوث في الحسيات والعقليات والحكميات. ألا ترى أن العدة والإحرام والردة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع دوامه والإسلام يمنع ابتداء الرق ولا يمنع دوامه ويمنع ابتداء وجوب القود وحد القذف على المسلم إذا قتل أو قذف ذميا ولا يمنع دوامه عليه إذا أسلم بعد القتل والقذف. ولو فرض أن الإسلام يمنع ابتداء قتل هذا فلا يجب أن يسقط القتل بإسلامه لأن الدوام أقوى من الابتداء وجاز أن يكون بمنزلة القود وحد القذف فإن الإسلام يمنع ابتداءه دون دوامه لا سيما والسب فيه حق لآدمي ميت وفيه جناية متعلقة بعموم المسلمين فهو مثل القتل في المحاربة ليس حقا لمعين وإذا كان كذلك وجب استيفاؤه كغيره من المحاربين المفسدين. يحقق ذلك أن الذمي إذا قطع الطريق وقتل مسلما فهو يعتقد في دينه جواز قتل المسلم وأخذ ماله وإنما حرمه عليه العهد الذي بيننا وبينه كما أنه يعتقد جواز السب في دينه وإنما حرمه عليه العهد وقطع الطريق قد يفعل استحلالا وقد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض كما أن سب الرسول قد يفعل استخفافا بالحرمة لغرض فهو مثله من كل وجه إلا أن مفسدة ذلك في الدنيا ومفسدة هذا في الدين وهي أعظم من مفسدة الدنيا عند المؤمنين بالله

العالمين به وبأمره فإذا أسلم قاطع الطريق فقد تجدد منه إظهار اعتقاد تحريم دم المسلم وماله مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد وكذلك إذا أسلم الساب فقد تجدد إظهار اعتقاد تحريم عرض الرسول مع جواز أن لا يفي بموجب هذا الاعتقاد فإذا كان هناك يجب قتله بعد إسلامه فكذلك يجب قتله هنا بعد إسلامه ويجب أن يقال: إذا كان ذلك لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة فكذلك هذا لا يسقط حده بالتوبة بعد القدرة. ومن أمعن النظر لم يسترب في أن هذا محارب مفسد كما أن قاطع الطريق محارب مفسد. ولا يرد على هذا سب الله تعالى لأن أحدا من البشر لا يسبه اعتقادا إلا بما يراه تعظيما وإجلالا كزعم أهل التثليث أن له صاحبة وولدا فإنهم يعتقدون أن هذا من تعظيمه والتقرب إليه ومن سبه لا على هذا الوجه فالقول فيه كالقول فيمن سب الرسول على أحد القولين وهو المختار كما سنقرره ومن فرق قال: إنه تعالى لا تلحقه غضاضة ولا انتقاص بذلك ولا يكاد أحد يفعل ذلك أصلا إلا أن يكون وقت غضب ونحو ذلك بخلاف سب الرسول فإنه يسبه انتقاصا له واستخفافا به سبا يصدر عن اعتقاد وقصد إهانة وهو من جنس تلحقه الغضاضة ويقصد بذلك وقد يسب تشفيا وغيظا وربما حل منه في النفوس خبائل ونفر عنه بذلك خلائق ولا تزول نفرتهم عنه بإظهار التوبة كما لا تزول مفسدة الزنا وقطع الطريق ونحو ذلك بإظهار التوبة وكما لا يزول العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة فكانت عقوبة الكفر يندرج فيها ما يتبعه من سب الله سبحانه بخلاف سب الرسول. فإن قيل: قد تكون زيادة العقوبة على عقوبة مجرد الناقض للعهد تحتم قتله ما دام كافرا بخلاف غيره من الكافرين فإن عقد الأمان والهدنة والذمة

واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة بهم جائز في الجملة فإذا أتى مع حل دمه لنقض العهد أو لعدمه بالسب تعين قتله كما قررتموه وهكذا الجواب عن المواضع التي قتل النبي صلى الله عليه وسلم فيها من سبه أو أمر بقتله أو أمر أصحابه بذلك فإنها تدل على أن الساب يقتل وإن لم يقتل من هو مثله من الكافرين. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ليهود في قصة ابن الأشرف: "إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل ولكنه نال منا وهجانا بالشعر ولم يفعل هذا أحدا منكم إلا كان السيف". وإذا كان كذلك فيكون القتل وجب لأمرين: للكفر ولتغلظه بالسب كما يجب قتل المرتد للكفر ولتغلظه بترك الدين الحق والخروج منه فمتى زال الكفر زال الموجب للذم فلم يستقل بقاء أثر السب بإحلال الدم وتبع الكفر في الزوال كما تبعه في الحصول فإنه فرع للكفر ونوع منه فإذا زال الأصل زالت جميع فروعه وأنواعه. وهذا السؤال قد يمكن تقريره في سب من يدعي الإسلام بناء على أن السب فرع للردة ونوع منها وقد لا يمكن لأنه لم يتجدد من هذا بعد السب ما لم يكن موجودا حال السب بخلاف الكافر. قلنا: وهذا أيضا دليل على أن قتل الساب حد من الحدود فإنه قد تقدم أنه يجب قتله إن كان معاهدا ولا يجوز استبقاؤه بعد السب بأمان ولا استرقاق ولو كان إنما يقتل لكونه كافرا محاربا لجاز أمانه واسترقاقه والمفاداة به فلما كان جزاؤه القتل علم أن قتله حد من الحدود ليس بمنزلة قتل سائر الكفار. ومن تأمل الأدلة الشرعية نصوصها ومقاييسها مما ذكرناه ومما لم نذكره

ثم ظن بعد هذا أن قتل الساب لمجرد كونه كافرا غير معاهد كقتل الأسير فليس على بصيرة من أمره ولا ثقة من رأيه. وليس هذا من المسالك المحتملة بل من مسالك القطع فإن من تأمل دلالات الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وما توجبه الأصول الشرعية علم قطعا أن للسب تأثيرا في سفح الدم زائدا على تأثير مجرد الكفر الخالي عن عهد. نعم قد يقال: هو مقتول بمجموع الأمرين بناء على أن كفر الساب نوع مغلظ لا يحتمل الاستبقاء ككفر المرتد فيكون مقتولا لكفره وسبه ويكون القتل حدا بمعنى أنه يجب إقامته ثم يزول موجبه بالتوبة كقتل المرتد فهذا ليس بمساغ فيما تقدم ما يضعف هذا الوجه ومع هذا فإنه لا يقدح في كون قتل الساب حدا من الحدود وجب لما فيه خصوص ظهور سب الرسول من المفسدة. وإنما يبقى أن يقال: هذا الحد هل يسقط بالإسلام أم لا؟ فنقول: جميع ما ذكرناه من الدلالات وإن دلت على وجوب قتله بعد إظهار التوبة فهي دالة على أن قتله حد من الحدود وليس لمجرد الكفر وهي دالة على هذا بطريق القطع لما ذكرناه من تفريق الكتاب والسنة والإجماع بين من اقتصر على الكفر الأصلي أو الطارىء أو نقض العهد وبين من سب الرسول من هؤلاء وإذا لم يكن القتل لمجرد الكفر لم يبق إلا أن يكون حدا وإذا ثبت أنه يقتل لخصوص السب لكونه حدا من الحدود لا لعموم كونه كافرا غير ذي عهد أو لعموم كونه مرتدا فيجب أن لا يسقط بالتوبة والإسلام لأن الإسلام والتوبة لا يسقط شيئا من الحدود الواجبة قبل ذلك إذا كانت التوبة بعد الثبوت والرفع إلى الإمام بالاتفاق.

وقد دل القرآن أن حد قاطع الطريق والزاني والسارق والقاذف لا يسقط بالتوبة بعد التمكن من إقامة الحد. ودلت السنة على مثل ذلك في الزاني وغيره ولم يختلف المسلمون فيما علمناه أن المسلم إذا زنى أو سرق أو قطع الطريق أو شرب الخمر فرفع إلى السلطان وثبت عليه الحد ببينة ثم تاب من ذلك أنه تجب إقامة الحد عليه إلا أن يظن أحد في ذلك خلافا شاذا لا يعتد به فهذه حدود الله وكذلك لو وجب عليه قصاص أو حد أو قذف أو عقوبة سب لمسلم أو معاهد ثم تاب من ذلك لم تسقط عنه العقوبة وكذلك أيضا لم يختلفوا فيما علمناه أن الذمي لو وجب عليه حد قطع الطريق أو حد السرقة أو قصاص أو حد قذف أو تعزير ثم أسلم وتاب من ذلك لم تسقط عنه عقوبة ذلك وكذلك أيضا لو زنى فإنه إذا وجب عليه حد الزنا ثم أسلم لم يسقط عنه بل يقام عليه حد الزنا عند من يقول بوجوبه قبل الإسلام ويقتل حتما عند الإمام أحمد إن كان زنى نقض عهده. هذا مع الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها فيغفر للتائب ذنبه مع إقامة الحد عليه تطهيرا له وتنكيلا للناس عن مثل تلك الجريمة فتحصل بإقامة الحد المصلحة العامة وهي زجر الملتزمين للإسلام أو الصغار عن مثل ذلك الفساد فإنه لو لم يقم الحد عند إظهار التوبة لم يتأت إقامة حد في الغالب فإنه لا يشاء المفسد في الأرض إذا أخذ أن يظهر التوبة إلا أظهرها وأوشك كل من هم بعظيمة من العظائم من الأقوال والأفعال أن يرتكبها ثم إذا أحيط به قال: إني تائب. ومعلوم أن ذلك لو درأ الحد الواجب لتعطلت الحدود وظهر الفساد في البر والبحر ولم يكن في شرع العقوبات والحدود كبير مصلحة وهذا ظاهر لا خفاء به.

ثم الجاني لو تاب توبة نصوحا فذلك نافعة فيما بينه وبين الله يغفر له ما سلف ويكون الحد تطهيرا له وتكفيرا لسيئته وهو من تمام التوبة كما قال ماعز بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم "طهرني" وقد جاء تائبا وقال تعالى لما ذكر كفارة قتل الخطأ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} وقال تعالى في كفارة الظهار: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} . فيشتمل الحد مع التوبة على مصلحتين عظيمتين: مصلحة زجر النفوس عن مثل تلك الجريمة وهي أهم المصلحتين فإن الدنيا في الحقيقة ليست دار كمال الجزاء وإنما كمال الجزاء في الآخرة وإنما الغالب في العقوبات الشرعية الزجر والنكال وإن كان فيها مقاصد أخر كما أن غالب مقصود العدة براءة الرحم وإن كان فيها مقاصد أخر ولهذا كانت هذه المصلحة مقصودة في كل عقوبة مشروعة. والمصلحة الثانية: تطهير الجاني وتكفير خطيئته إن كان له عند الله خير أو عقوبة والانتقام منه إن لم يكن كذلك وقد يكون زيادة في ثوابه ورفعه في درجاته. ونظير ذلك المصائب المقدرة في النفس والأهل والمال فإنها تارة تكون كفارة وطهورا وتارة تكون زيادة في الثواب وعلوا في الدرجات وتارة تكون عقابا وانتقاما. لكن إذا تاب الإنسان سرا فإن الله يقبل توبته سرا ويغفر له من غير إحواج له إلى أن يظهر ذنبه حتى يقام حده عليه أما إذا أعلن الفساد بحيث يراه الناس ويسمعونه حتى شهدوا به عند السلطان أو اعترف هو به عند السلطان فإنه لا يطهره مع التوبة بعد القدرة إلا إقامته منه عليه

إلا أن في التوبة إذا كان الحد لله وثبت بإقراره خلافا سنذكره إن شاء الله تعالى ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وقال النبي عليه الصلاة والسلام لما شفع إليه في السارقة: "تطهر خيرا لها" وقال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره" وقال: "من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله". إذا تبين ذلك فنقول: هذا الذي أظهر سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسلم أو معاهد قد أتى بهذه المفسدة التي تضمنت مع الكفر ونقض العهد أذى الله ورسوله وانتهاك تلك الحرمة التي هي أفضل حرمة المخلوقين والوقيعة في عرض لا يساوي غيره من الأعراض والطعن في صفات الله وأفعاله وفي دين الله وكتابه وجميع أنبيائه والمؤمنين من عباده فإن الطعن في واحد من الأنبياء طعن في جميع الأنبياء كما قال سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} وطعن في كل من آمن بنبينا من الأنبياء والمؤمنين المتقدمين والمتأخرين وقد تقدم تقرير هذا. ثم هذه العظيمة صدرت ممن التزم بعقد إيمانه أو أمانه أنه لا يفعل ذلك فإذا وجبت عقوبته على تلك الجريمة لخصوصها كما تقدم امتنع أن يسقط بما يظهره من التوبة كما تقدم أيضا. ثم هنا مسلكان: المسلك الأول: وهو مسلك طائفة من أصحابنا وغيرهم أن يقتل حدا لله كما يقتل لقطع الطريق وللردة وللكفر لأن السب للرسول عليه

الصلاة والسلام قد تعلق به حق الله وحق كل مؤمن فإن أذاه ليس مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط كمن سب واحدا من عرض الناس بل هو أذى لكل مؤمن كان ويكون بل هو عندهم من أبلغ أنواع الأذى ويود كل منهم أن يفتدي هذا العرض بنفسه وأهله وماله وعرضه كما تقدم ذكره عن الصحابة من أنهم كانوا يبذلون دماءهم في صون عرضه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدح من فعل ذلك سواء قتل أو غلب ويسميه ناصر الله ورسوله ولو لم يكن السب أعظم من قتل بعض المسلمين لما جاز بذل الدم في صون عرض واحد من الناس وقد قال حسان بن ثابت يخاطب أبا سفيان بن الحارث: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبى ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء وذلك أنه انتهاك للحرمة التي نالوا بها سعادة الدنيا والآخرة وبها ينالها كل واحد سواهم وبها يقام دين الله ويرضى الله عن عباده ويحصل ما يحبه وينتفي ما يبغضه كما أن قاطع الطريق وإن قتل واحدا فإن مفسدة قطع الطريق تعم جميع الناس فلم يفوض الأمر فيه إلى ولي المقتول. نعم كان الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مفوضا إليه فيمن سبه: إن أحب عفا عنه وإن أحب عاقبه وإن كان في سبه حق الله ولجميع المؤمنين لأن الله سبحانه يجعل حقه في العقوبة تبعا لحق العبد كما ذكرناه في القصاص وحقوق الآدميين تابعة لحق الرسول فإنه أولى بهم من أنفسهم ولأن في ذلك تمكينه صلى الله عليه وسلم من أخذ العفو والأمر بالعرف والإعراض عن الجاهلين الذي أمره الله تعالى به في كتابه وتمكينه من العفو والإصلاح الذي يستحق به

أن يكون أجره على الله وتمكينه من أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة كما أمره الله وتمكينه من استعطاف النفوس وتأليف القلوب على الإيمان واجتماع الخلق عليه وتمكينه من ترك التنفير عن الإيمان وما يحصل بذلك من المصلحة يغمر ما يحصل باستبقاء الساب من المفسدة كما دل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} . وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس هذه الحكمة حيث قال: "أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" وقال فيما عامل به ابن أبي من الكرامة "رجوت أن يؤمن بذلك ألف من قومه" فحقق الله رجاءه ولو عاقب كل من آذاه بالقتل لخامر القلوب عقدا أو وسوسة أن ذلك لما في النفس من حب الشرف وأنه من باب غضب الملوك وقتلهم على ذلك ولو لم يبح له عقوبته لانتهك العرض واستبيحت الحرمة وانخل رباط الدين وضعفت العقيدة في حرمة النبوة فجعل الله له الأمرين فلما انقلب إلى رضوان الله وكرامته ولم يبق واحدا مخصوص من الخلق إليه استيفاء هذه العقوبة والعفو عنها والحق فيها ثابت لله سبحانه ورسول الله عليه الصلاة والسلام ولعباده المؤمنين وعلم كل ذي عقل أن المسلمين إنما يقتلونه لحفظ الدين وحفظ حمى الرسول ووقاية عرضه فقط كما يقتلون قاطع الطريق لأمن الطرقات من المفسدين وكما يقطعون السارق لحفظ الأموال وكما يقتلون المرتد صونا للداخلين في الدين عن الخروج عنه ولم يبق هنا توهم مقصود جزوي كما قد كان يتوهم في زمانه أن قتل الساب كذلك

وتقرير ذلك بالساب له من المسلمين فإنه قد كان له أن يعفو عنه مع أنه لا يحل للأمة إلا إراقة دمه فحاصله أنه في حياته قد غلب في هذه الجناية حقه ليتمكن من الاستيفاء والعفو وبعد موته فهي جناية على الدين مطلقا ليس لها من يمكنه العفو عنها فوجب استيفاؤها وهذا مسلك جيد لمن تدبر غوره. ثم هنا تقريران: أحدهما: أن يقال: الساب من جنس المحارب المفسد وقد تقدم في ذلك زيادة بيان ومما يؤيده أنه سبحانه وتعالى قال: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} فعلم أن كل ما أوجب القتل حقا لله كان فسادا في الأرض وإلا لم يبح. وهذا السب قد أباح الدم فهو فساد في الأرض وهو أيضا محاربة لله ورسوله على ما لا يخفى لأن المحاربة هنا والله أعلم إنما عني بها المحاربة بعد المسالمة لأن المحاربة الأصلية لم يدخل حكمها في هذه الآية وسبب نزولها إنما كان فعل مرتد وناقض عهد فعلم أنهما جميعا دخلا فيها وهذا قد حارب بعد المسالمة وأفسد في الأرض فيتعين إقامة الحد عليه. الثاني: أن يكون السب جناية من الجنايات الموجبة للقتل كالزنى وإن لم يكن حرابا كحراب قاطع الطريق فإن من الفساد ما يوجب القتل وإن لم يكن حرابا وهذا فساد قد أوجب القتل فلا يسقط بالتوبة كغيره من أنواع الفساد إذ لا يستثنى من ذلك إلا القتل للكفر الأصلي أو الطارىء وقد قدمنا أن هذا القتل ليس هو كقتل سائر الكفار.

فإن قيل: فإذا كان السب حدا لله فيجب أن يسقط بالإسلام كما يسقط حد المرتد بالإسلام وكما يسقط قتل الكافر بالإسلام وذلك أن مجرد تسميته حدا لا يمنع سقوطه بالتوبة أو بالإسلام فإن قتل المرتد حد فإن الفقهاء يقولون: باب حد المرتد ثم إنه يسقط بالإسلام ثم إن هذا أمر لفظي لا تناط به الأحكام وإنما تناط بالمعاني وكل عقوبة لمجرم فهي حد من حيث تزجره وتمنعه عن تلك الجريمة وإن لم تسم حدا لكن لا ريب أنه إنما يقتل للكفر والسب والسب لا يمكن تجريده عن الكفر والمحاربة حتى يفرض ساب قد وجب قتله وهو مؤمن أو معاهد باق على عهده كما يفرض مثل ذلك في الزاني والسارق والقاذف فإن أولئك وجبت عقوباتهم لتلك الجرائم وهي قبل الإسلام وبعده سواء وهذا إنما وجب عقوبته بجرم هو من فروع الكفر وأنواعه فإذا زال الأصل تبعته فروعه فيكون الموجب للقتل أنه كافر محارب وأنه مؤذ لله ولرسوله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعقبة بن أبي معيط لما قال "مالي أقتل من بينكم صبرا" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك على رسول الله" والعلة إذا كانت ذات وصفين زال الحكم بزوال أحدهما. ونحن قد نسلم أنه يتحتم قتله إذا كان ذميا كما يتحتم قتل المرتد لتغلظ كفره بأذى الله ورسوله كتغلظ كفر المرتد بترك الدين لكن الإسلام يسقط كل حد تعلق بالكفر كما يسقط حد المرتد فلم ألحقتم هذا الحد بقاطع الطريق والزاني والسارق ولم تلحقوه بالمرتد؟ فهذا نكتة هذا الموضع. فنقول لا يسقط شيء من الحدود بالإسلام ولا فرق بين المرتد وغيره في المعنى بل كل عقوبة وجبت لسبب ماض أو حاضر فإنها تجب

لوجود سببها وتعدم لعدمه فالكافر الأصلي والمرتد لم يقتل لأجل ما مضى من كفره فقط وإنما يقتل للكفر الذي هو الآن موجود إذ الأصل بقاؤه على ما كان عليه فإذا تاب زال الكفر فزال المبيح للدم لأن الدم لا يباح بالكفر إلا حال وجود الكفر إذ المقصود بقتله أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله فإذا انقاد لكلمة الله ودان بدين الله حصل مقصود القتال ومطلوب الجهاد وكذلك المرتد إنما يقتل لأنه تارك للدين مبدل له فإذا هو عاد لم يبقى مبدلا ولا تاركا وبذلك يحصل حفظ الدين فإنه لا يترك مبدلا له. أما الزاني والسارق وقاطع الطريق فإنه سواء كان مسلما أو معاهدا لم يقتل لدوامه على الزنا والسب وقطع الطريق فإن هذا غير ممكن ولم يقتل لمجرد اعتقاده حل ذلك أو إرادته له فإن الذمي لا يباح دمه بهذا الاعتقاد ولا يباح دم مسلم ولا ذمي بمجرد الإرادة فعلم أن ذلك وجب جزاء على ما مضي وزجرا عما يستقبل منه ومن غيره فمن أظهر سب الرسول من أهل الذمة أو سبه من المسلمين ثم ترك السب وانتهى عنه فليس هو مستديما للسب كما يستديم الكافر المرتد وغيره على كفره بل أفسد في الأرض كما أفسد غيره من الزناة وقطاع الطريق ونحن نخاف أن يتكرر مثل هذا الفساد منه ومن غيره كما نخاف مثل ذلك في الزاني وقاطع الطريق لأن الداعي له إلى ما فعله من السب ممكن منه ومن غيره من الناس فوجب أن يعاقب جزاء بما كسب ونكالا من الله له ولغيره وهذا فرق ظاهر بين قتل المرتد والكافر الأصلي وبين قتل الساب والقاطع والزاني. وبيانه لأن السب من جنس الجريمة الماضية لا من جنس الجريمة الدائمة لكن مبناه على أن السب يوجب الحد لخصوصه لا لكونه كافرا وقد تقدم بيان ذلك.

يوضح ذلك أن قتل المرتد والكافر الأصلي إلا أن يتوب يزيل مفسدة الكفر لأن الهام بالردة متى علم أنه لا يترك حتى يقتل أو يتوب لم يأتها لأنه ليس له غرض في أن يرتد ثم يعود إلى الإسلام وإنما غرضه في بقائه على الكفر واستدامته. فأما الساب من المسلمين والمعاهدين فإن غرضه من السب يحصل بإظهاره وينكأ المسلمين بأذاه كما يحصل غرض القاطع من القتل والزاني من الزنا وتسقط حرمة الدين والرسول بذلك كما تسقط حرمة النفوس والأموال في قطع الطريق والسرقة ويؤذي عموم المسلمين أذى يخشى ضرره كما يؤذيهم مثل ذلك من فعل القاطع والسارق ونحوهما ثم إنه إذا أخذ فقد يظهر الإسلام والتوبة مع استبطانه العود إلى مثل ذلك عند القدرة كما يظهر القاطع والسارق والزاني العود إلى مثل هذه الجرائم عند إمكان الفرصة بل ربما يتمكن من هذا السب بعد إظهار الإسلام عند شياطينه ما لم يتمكنه قبل ذلك ويتنوع في أنواع التنقص والطعن غيظا على ما فعل به من القهر والضغط حتى أظهر الإسلام بخلاف من لم يظهر شيئا من ذلك حتى أسلم فإنه لا مفسدة ظهرت لنا منه وبخلاف المحارب الأصلي إذا قتل وفعل الأفاعيل فإنه لم يكن قد التزم الأمان على أنه لا يفعل شيئا من ذلك. وهذا قد كان التزم لنا بعقد الذمة أن لا يؤذينا بشيء من ذلك ثم لم يف بعهده فلا يؤمن إليه أن يلتزم بعقد الأيمان أن لا يؤذينا بذلك ولا يفي بعقده وذلك لأنه واجب عليه في دينه أن يفي بالعهد فلا يظهر الطعن علينا في ديننا وعالم أن ذلك من التزام الأمور التي عاهدناه على أن لا يؤذينا بها وهو خائف من سيف الإسلام إن خالف كما أنه واجب عليه في دين الإسلام أن لا يتعرض للرسول بسوء وهو خائف من سيف الإسلام إن هو خالف فلم يتجدد له بإظهار الإسلام جنس العاصم الزاجر بخلاف الحربي في ذلك وإن كان في ضمن ذلك زجر لغيره من الناس عن الردة ألا ترى أنه

لا يشرع الستر عليه ولا يستحب التعريض للشهود بترك الشهادة عليه وتجب إقامة الشهادة عليه عند الحاكم ولا يستحب العفو عنه قبل الرفع إلى الحاكم وإن كان قد ارتد سرا لأنه متى رفع إلى الحاكم استتابه فنجاه من النار وإن لم يتب قتله فقصر عليه مدة الكفر فكان رفعه مصلحة له محضة بخلاف من استسر لقاذورة من القاذورات فإنه لا ينبغي التعرض إليه لأنه إذا رفع يقتل حتما وقد يتوب إذا لم يرفع فلم يكن الرفع له مصلحة محضة وإنما المصلحة للناس فإذا لم تظهر الفاحشة لم تضرهم. ومن سب الرسول فإنما يقتله لأذاه لله ولرسوله وللمؤمنين ولطعنه في دينهم فكان بمنزلة من أظهر قطع الطريق والزنى ونحوه المغلب فيه جانب الردع والزجر وإن تضمن مصلحة الجاني وكان قتله لأنه أظهر الفساد في الأرض وكذلك لو سب الذمي سرا لم يتعرض له وكذلك لم ينبغي الستر عليه لأن من أظهر الفساد لا يستر عليه بحال. وقوله: "السب مستلزم للكفر والحراب بخلاف تلك الجرائم" قلنا: ليس لنا سب خال عن كفر حتى تجرد العقوبة له بل العقوبة على مجموع الأمرين وهذه الملازمة لا توهن أمر السب فإن كونه مستلزما للكفر يوجب تغلظ عقوبته فإذا انفصل الكفر عنه فيما بعد لم يلزم أن لا يكون موجبا للعقوبة إذا كان هو في نفسه يتضمن من المفسدة ما يوجب العقوبة والزجر كما دل عليه الكتاب والسنة والأثر والقياس. ثم نقول: أقصى ما يقال أنه حد على كفر مغلظ فيه ضرر على المسلمين صدر عن مسلم أو معاهد فمن أين لهم أن مثل هذا تقبل منه التوبة بعد القدرة؟ فإنا قد قدمنا أن التوبة إنما شرعت في حق من تجردت ردته أو تجرد نقضه للعهد فأما من تغلظت ردته أو نقضه بكونه مضرا بالمسلمين فلا بد من عقوبته بعد التوبة.

وقولهم: "إن السب من فروع الكفر وأنواعه" فإن عنوا أن الكفر يوجب ذلك فليس بصحيح وإن عنوا أن الكفر يبيح ذلك فنقول: لكن عقد الذمة حرم عليه في دينه إظهار ذلك كما حرم قتل المسلمين وسرقة أموالهم وقطع طريقهم وافتراش نسائهم وكما حرم قتالهم وإن كان دينه يبيح له ذلك كله فإذا هو آذى المسلمين بما يقتضيه الكفر المجرد عن عهد فإنه يعاقب على ذلك وإن زال الكفر الموجب لذلك فيقتل ويقطع ويعاقب كذلك هنا يعاقب على ما آذى به الله ورسوله والمؤمنين مما يخالف عهده وإن كان دينه يبيحه. وقولهم: "إن الزاني والسارق وقاطع الطريق قبل الإسلام وبعده سواء" قلنا: هو مثل الساب لأنه قبل الإسلام يعتقد استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم لولا العهد الذي بينهم وبينه وبعد الإسلام إنما يعتقد تحريمها لأجل الدين وكذلك انتهاكه لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقد حله لولا العهد الذي بيننا وبينه وبعد الدين إنما يمنعه منه الدين ولا فرق بين أن يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم. وأما قولهم: "إنما وجب قتله لأجل الأمرين فيسقط بزوال أحدهما" فنقول: بل اجتمع فيه سببان كل منهما يوجب نوعا من القتل يخالف لنوع الآخر وإن كان أحدهما يستلزم الآخر فالكفر يوجب القتل للكفر الأصلي أو للكفر الارتدادي وله أحكام معروفة والسب يوجب القتل لخصوصه حتى يندرج فيه قتل الكفر وقتل الردة وهذا القتل هو المغلب في حق مثل هذا حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له القتل والعفو وله القتل مع امتناع القتل بالكفر والردة وله القتل بعد سقوط القتل بالكفر والردة كما قدمنا من الدلائل على ذلك أثرا ونظرا وبينا أن في خصوص السب ما يقتضي القتل لو فرض تجرده عن الكفر والردة فإذا انفصل عنه في أثناء الحال

فسقط موجب الكفر والردة لم يسقط موجب السب وقد قدمنا في المسألة الثانية دلائل على ذلك. ثم نقول: هب أنه وجب لأجل الأمرين فالقتل الواجب لكفر متغلظ بالإضرار إذا زال لا تسقط عقوبة فاعله فوجب أن لا تسقط عقوبة فاعل هذا والعقوبة التي استحقها هي القتل. وأيضا فإن الإسلام الطارىء لا يمنع ما وجب من العقوبة وإن كان الإسلام يمنع وجوبها ابتداء كالقتل قودا وكحد القذف فإنه إنما يجب بشرط كون الفاعل ذميا ولا يسقط بإسلامه بعد ذلك إذا كان المقتول والمقذوف ذميا. وأيضا فإن الإسلام لا يمنع قتل الساب ابتداء فأن لا يمنع قتله دواما بطريق الأولى فقوله: "اجتمع سببان فزال أحدهما" ممنوع بل الموجب لقتل هذا لم يزل. المسلك الثاني: أن يقتل حدا للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقتل قودا وكما يجلد القاذف والساب لغيره من المؤمنين وقد تقدمت الدلالة على أن عقوبة شاتم النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن عقوبة شاتم غيره الجلد وهذا مسلك كثير من أصحابنا وغيرهم. ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن الرجل لو سب واحدا من المؤمنين أو سب واحدا من أعيان الأمة وهو ميت أو غائب لوجب على من حضره من المسلمين أن ينتصروا له وإذا بلغ الأمر إلى السلطان فإنه يعاقب هذا الجريء بما يزعه عن أذى المؤمنين ثم إن كان حيا وعلم فله أن يعفو عن سابه وأما إن تعذر علمه لموته أو غيبته لم يجز للمسلمين الإمساك عن عقوبة هذا وإذا رفع إلى السلطان عاقبه وإن أظهر التوبة لأن هذا من المعاصي والذنوب المتعلقة بحق آدمي لا يمكن قيامه بطلب هذا الحد وكل ما كان كذلك لم تحتج

العقوبة عليه إلى طلب أحد ولا تسقط بالتوبة إذا رفع إلى السلطان ولهذا قلنا: إن من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب أن يعزر ويؤدب أو يقتل وإن لم يطالب بحقهم معين لأن نصر المسلم واجب على كل مسلم بيده ولسانه فكيف على ولي الأمر؟. وعلى هذا التقدير فنقول: إن سب النبي صلى الله عليه وسلم كان موجبا للقتل في حياته كما تقدم تقريره وكان إذا علم بذلك تولى هذا الحق فإن أحب استوفى وإن أحب عفا فإذا تعذر إعلامه لغيبته أو موته وجب على المسلمين القيام بطلب حقه ولم يجز العفو عنه لأحد من الخلق كما لا يجوز العفو عن من سب غيره من الأموات والغياب. وقد قدمنا الدلائل على القتل بخصوص سبه وأن المغلب فيه حقه حتى كان له أن يقتل من سبه أو يعفو عنه كما للرجل أن يعاقب سابه وأن يعفو عنه. فإن قيل: هذا ينبني على مقدمتين: إحداهما: أن قذف الميت موجب للحد وقد ذهب أبو بكر بن جعفر صاحب الخلال إلى أنه لا حد لقذف ميت لأن الحي وارثه لم يقذف وإنما قذف الميت وحد القذف لا يستوفى إلا بعد المطالبة وقد تعذرت منه والحد لا يورث إلا بمطالبة الميت وهي منتفية والأكثرون يثبتون الحد لقذف الميت لكن من الفقهاء من يقول: إنما يثبت إذا تضمن القدح في نسب الحي وهو قول الحنفية وبعض أصحابنا وقيل عن الحنفية: لا يأخذ به إلا الوالد أو الولد ومن الفقهاء من يقول: يثبت مطلقا ثم هل يرثه جميع الورثة أو من سوى الزوجين لبقاء سبب الإرث أو العصبة فقط لمشاركتهم له في عمود نسبه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب الشافعي وأحمد.

الثانية أن حد قذف الميت لا يستوفي إلا بطلب الورثة وذلك أنهم لا يختلفون أنه لا يستوفي إلا بمطالبة الورثة أو بعضهم ومتى عفوا سقط عند الأكثرين. فعلى هذا ينبغي أن يسقط الحد لقذف النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يورث ويكون كقذف من لا وارث له وهذا ليس فيه حد قذف عند أكثر الفقهاء أو يقال: لا يستوفي حتى يطالب بعض الهاشميين أو بعض القرشيين. فنقول: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنا لم نجعل سب النبي صلى الله عليه وسلم وقذفه من حد القذف الذي لا يستوفى حتى يطلبه المستحق فإن ذاك إنما هو إذا علم به وإنما هو من باب السب والشتم الذي يعلم أنه حرام باطل وقد تعذر علم المسبوب به كما لو رمى رجل بعض أعيان الأمة بالكفر أو الكذب أو شهادة الزور أو سبه سبا صريحا فإنا لا نعلم مخالفا في أن هذا الرجل يعاقب على ذلك كما يعاقب على ما ينتهكه من المحارم انتصارا لذلك الرجل الكريم في الأمة وزجرا عن معصية الله كمن يسب الصحابة أو العلماء أو الصالحين. الوجه الثاني: أن سبه سب لجميع أمته وطعن في دينهم وهو سب تلحقهم به غضاضة وعار بخلاف سب الجماعة الكثيرة بالزنا فإنه يعلم كذب فاعله وهذا يوقع في بعض النفوس ريبا وإذا كان قد آذى جميع المؤمنين أذى يوجب القتل وهو حق تجب عليهم المطالبة به من حيث وجب عليهم إقامة الدين فيكون شبيها بقذف الميت الذي فيه قدح في نسب الحي إذا طالب به وذاك يتعين إقامته.

وبهذا يظهر الفرق بينه وبين غيره من الأموات على قول أبي بكر فإن ذلك الميت لا يتعدى ضرر قذفه في الأصل إلى غيره فإذا تعذرت مطالبته أمكن أن يقال: لا يستوفي حد قذفه وهنا ضرر السب في الحقيقة إنما يعود إلى الأمة بفساد دينها وذل عصمتها وإهانة مستمسكها وإلا فالرسول صلوات الله عليه وسلامه في نفسه لا يتضرر بذلك. وبه يظهر الفرق بينه وبين غيره في أن حد قذف الغير إنما يثبت لورثته أو لبعضهم وذلك لأن العار هناك إنما يلحق الميت أو ورثته وهنا العار يلحق جميع الأمة لا فرق في ذلك بين الهاشميين وغيرهم بل أي الأمة كان أقوى حبا لله ورسوله وأشد إتباعا له وتعزيرا وتوقيرا كان حظه من هذا الأذى والضرر أعظم وهذا ظاهر لا خفاء به وإذا كان هذا ثابتا لجميع الأمة فإنه مما يجب عليهم القيام به ولا يجوز لهم العفو عنه بوجه من الوجوه لأنه وجب لحق دينهم لا لحق دنياهم بخلاف حد قذف قريبهم فإنه وجب لحظ نفوسهم ودنياهم فلهم أن يتركوه وهذا يتعلق بدينهم فالعفو عنه عفو عن حدود الله وعن انتهاك حرماته فظهر الجواب عن المقدمتين المذكورتين. الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث فلا يصح أن يقال: إن حق عرضه يختص به أهل بيته دون غيرهم كما أن ماله لا يختص به أهل بيته دون غيرهم بل أولى لأن تعلق حق الأمة بعرضه أعظم من تعلق حقهم بماله وحينئذ فيجب المطالبة باستيفاء حقه على كل مسلم لأن ذلك من تعزيره ونصره وذلك فرض على كل مسلم. ونظير ذلك أن يقتل مسلم أو معاهد نبيا من الأنبياء فإن قتل ذلك الرجل متعين على الأمة ولا يجوز أن يجعل حق دمه إلى من يكون وارثا له لو كان يورث: إن أحب قتل وإن أحب عفا على الدية أو مجانا ولا يجوز تقاعد الأمة عن قتل قاتله فإن ذلك أعظم من جميع أنواع الفساد ولا يجوز

أن يسقط حق دمه بتوبة القاتل أو إسلامه فإن المسلم أو المعاهد لو ارتد أو نقض العهد وقتل مسلما لوجب عليه القود ولا يكون ما ضمه إلى القتل من الردة ونقض العهد مخففا لعقوبته وما أظن أحدا يخالف في مثل هذا مع أن مجرد قتل النبي ردة ونقض للعهد باتفاق العلماء وعرضه كدمه فإن عقوبته القتل كما أن عقوبة دمه وعرضه ممنوع من المسلم بإسلامه ومن المعاهد بعهده فإذا انتهكا حرمته وجبت عليهما العقوبة لذلك. الطريقة الثامنة عشرة: وهي طريقة القاضي أبي يعلى أن سب النبي صلى الله عليه وسلم يتعلق به حقان: حق لله وحق لآدمي. فأما حق الله فهو ظاهر وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه. وأما حق الآدمي فظاهر أيضا فإنه أدخل المعرة على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السب وأناله بذلك غضاضة وعارا. والعقوبة إذا تعلق فيها حق لله وحق لآدمي لم تسقط بالتوبة كالحد في المحاربة فإنه يتحتم قتله ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من انحتام القتل والصلب ولم يسقط حق الآدمي من القود كذلك هنا. فإن قيل: المغلب هنا حق الله ولهذا لو عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لم يسقط بعفوه. قلنا: قد قال القاضي أبو يعلى: في هذا نظر على أنه إنما لم يسقط بعفوه لتعلق حق الله به فهو كالعدة إذا أسقط الزوج حقه منها لم تسقط لتعلق حق الله بها ولم يدل هذا على أنه لا حق لآدمي فيها كذلك هنا فقد تردد القاضي أبو يعلى في جواز عفو النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع وقطع في موضع آخر أنه كان له أن يسقط حق سبه لأنه حق له وذكر في قول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: "أن كان ابن عمتك" وقد عرض للنبي بما يستحق به العقوبة ولم يعاقبه لأنه حمل قول النبي صلى الله

عليه وسلم للزبير اسق بأنه قضى له على الأنصاري للقرابة وفي الرجل الذي أغلظ لأبي بكر ولم يعزره فقال القاضي: التعزير هنا وجب لحق آدمي وهو افتراؤه على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وله أن يعفو عنه وكذلك ذكر ابن عقيل عنه أن الحق كان للنبي صلى الله عليه وسلم وله تركه وقال ابن عقيل: قد عرض هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي العقوبة والتهجم على النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التعزير لحق الشرع دون أن يختصه في نفسه قال: وقد عزره النبي صلى الله عليه وسلم بحبس الماء عن زرعه وهو نوع ضرر وكسر لعرضه وتأخير لحقه وعندنا أن العقوبات بالمال باقية غير منسوخة وليس يختص التعزير بالضرب في حق كل أحد. وقول ابن عقيل هذا يضمن ثلاثة أشياء: أحدها: أن هذا القول إنما كان يوجب التعزير لا القتل. والثاني: أن ذلك واجب لحق الشرع ليس له أن يعفو عنه. الثالث: أنه عزره بحبس الماء. والثلاثة ضعيفة جدا والصواب المقطوع به أنه كان له العفو كما دلت عليه الأحاديث السابقة لما ذكرناه من المعنى فيه وحينئذ فيكون ذلك مؤيدا لهذه الطريقة. وقد دل على ذلك ما ذكرناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب من سبه وآذاه في الموضع الذي سقطت فيه حقوق الله نعم صار سب النبي صلى الله عليه وسلم سبا لميت وذلك لا يسقط بالتوبة البتة. وعلى هذه الطريقة فالفرق بين سب الله وسب رسوله ظاهر فإن هناك الحق لله خاصة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وهنا الحق لهما فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة. الطريقة التاسعة عشرة: أنا قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من المسلمين قتل ابن أبي سرح وقد جاء مسلما تائبا ونذر دم أنس بن زنيم

إلى أن عفا عنه بعد الشفاعة وأعرض عن أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وقد جاءا مسلمين مهاجرين وأراق دماء من سبه من النساء من غير قتال وهن منقادات مستسلمات وقد كان هؤلاء حربيين لم يلتزموا ترك سبه ولا عاقدونا على ذلك فالذي عقد الأيمان أو الأمان على ترك سبه إذا جاء يريد الإسلام ويرغب فيه إما أن يجب قبول الإسلام منه والكف عنه أو لا يجب فإن قيل "يجب" فهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن قيل "لا يجب" فهو دليل على أنه إذا جاء ليتوب ويسلم جاز قتله وكل من جاز قتله وقد جاء مسلما تائبا مع علمنا بأنه قد جاء كذلك جاز قتله وإن أظهر الإسلام والتوبة لا نعلم بينهما فرقا عند أحد من الفقهاء في جواز القتل فإن إظهار إرادة الإسلام هي أول الدخول فيه كما أن التكلم بالشهادتين هو أول الالتزام له ولا يعصم الإسلام إلا دم من يجب قبوله منه فإذا أظهر أنه يريده فقد بذل ما يجب قبوله فيجب قبوله كما لو آذاه. وهنا نكتة حسنة وهي أن ابن أبي أمية وأبا سفيان لم يزالا كافرين وليس في القصة بيان أنه أراد قتلهما بعد مجيئهما وإنما فيها الإعراض عنهما وذلك عقوبة من النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث ابن أبي سرح فهو نص في إباحة دمه بعد مجيئه لطلب البيعة وذلك لأن ابن أبي سرح كان مسلما فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يتمم له القرآن ويلقنه ما يكتبه من الوحي فهو ممن ارتد بسب النبي صلى الله عليه وسلم ومن ارتد بسبه فقد كان له أن يقتله من غير استتابة وكان له أن يعفو عنه وبعد موته تعين قتله. وحديث ابن زنيم فإنه أسلم قبل أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم مع بقاء دمه مندورا مباحا إلى أن عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن روجع في ذلك.

وكذلك النسوة اللاتي أمر بقتلهن إنما وجهه والله أعلم أنهن كن قد سببنه بعد المعاهدة فانتقض عهدهن فقتلت اثنتان والثالثة لم يعصم دمها حتى استؤمن لها بعد أيام ولو كان دمها معصوما بالإسلام لم يحتج إلى الأمان وهذه الطريقة مبناها على أن من جاز قتله بعد أن أظهر أنه جاء ليسلم جاز قتله بعد أن أسلم فإن من لم يعصم دمه إلا عفو وأمان لم يكن الإسلام هو العاصم لدمه وإن كان قد تقدم ذكر هذا لكن ذكرناه لخصوص هذا المأخذ. الطريقة الموفية عشرين: أن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مطلقة بقتل سابه لم يؤمر فيها باستتابة ولم يستثن منها من تاب وأسلم كما هي مطلقة عنهم في قتل الزاني المحصن ولو كان يستثني منها حال دون حال لوجب بيان ذلك فإن سب النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع منه وهو الذي علق القتل عليه ولم يبلغنا حديث ولا أثر يعارض ذلك وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فإن المبدل للدين هو المستمر على التبديل دون من عاد وكذلك قوله: "التارك لدينه المفارق للجماعة" فإن من عاد إلى دينه لم يجز أن يقال: هو تارك لدينه ولا مفارق للجماعة وهذا المسلم أو المعاهد إذا سب الرسول ثم تاب لم يكن أن يقال: ليس بساب للرسول أو لم يسب الرسول فإن هذا الوصف واقع عليه تاب أو لم يتب كما يقع على الزاني والسارق والقاذف وغيرهم. الطريقة الحادية والعشرون: أنا قد قررنا أن المسلم إذا سب الرسول يقتل وإن تاب بما ذكرناه من النص والنظر والذمي كذلك فإن أكثر ما يفرق به إما كون المسلم تبين بذلك أنه منافق أو أنه مرتد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفى منه ونحو ذلك وهذا المعنى موجود في الذمي فإن إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة فإذا لم يكن صادقا في عهده وأمانه

لم نعلم أنه صادق في إسلامه وإيمانه وهو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود فيستوفي منه كسائر الحدود. وقول من يقول "قتل المسلم أولى" يعارضه قول من يقول "قتل الذمي أولى" وذلك أن الذمي دمه أخف حرمة والقتل إذا وجب عليه في حال الذمة لسبب لم يسقط عنه بالإسلام. يبين ذلك أنه لا يبيح دمه إلا إظهار السب وصريحه بخلاف المسلم فإن دمه محقون وقد يجوز أنه غلظ بالسب فإذا حقق الإسلام والتوبة من السب ثبت العاصم مع ضعف المبيح والذمي المبيح محقق والعاصم لا يرفع ما وجب فيكون أقوى من هذا الوجه. ألا ترى أن المسلم لو كان منافقا لم يقتصر على السب فقط بل لا بد أن تظهر منه كلمات مكفرة غير ذلك بخلاف الذمي فإنه لا يطلب على كفره دليل وإنما يطلب على محاربته وإفساده والسب من أظهر الأدلة على ذلك كما تقدم. الطريقة الثانية والعشرون: أنه سب لمخلوق لم يعلم عفوه فلا يسقط بالإسلام كسب سائر المؤمنين وأولى فإن الذمي لو سب مسلما أو معاهدا ثم أسلم لعوقب على ذلك بما كان يعاقب به قبل أن يسلم فكذلك إذا سب الرسول وأولى وكذلك يقال في المسلم إذا سبه. تحقيق ذلك أن القاذف والشاتم إذا قذف إنسانا فرفعه إلى السلطان فتاب كان له أن يستوفي منه الحد وهذا الحد إنما وجب لما ألحق به من العار والغضاضة فإن الزنا أمر يستخفى منه فقذف المرء به يوجب تصديق كثير من الناس به وهو من الكبائر التي لا يساويها غيرها في العار والمنقصة إذا تحقق ولا يشبهه غيره في لحوق العار إذا لم يتحقق فإنه إذا

قذفه بقتل كان الحق لأولياء المقتول ولا يكاد يخلو غالبا من ظهور كذب الرامي به أو براءة المرمي به من الحق بإبراء أهل الحق أو بالصلح أو بغير ذلك على وجه لا يبقي عليه عار وكذلك الرمي بالكفر فإن ما يظهره من الإسلام يكذب هذا الرامي به فلا يضر إلا صاحبه ورمي الرسول صلى الله عليه وسلم بالعظائم يوجب إلحاق العار به والغضاضة لأنه بأي شيء رماه من السب كان متضمنا للطعن في النبوة وهي وصف خفي فقد يؤثر كلامه أثرا في بعض النفوس فتوبته بعد أخذه قد يقال: إنما صدرت عن خوف وتقية فلا يرتفع العار والغضاضة الذي لحقه به كما لا يرتفع العار الذي يلحق بالمقذوف بإظهار القاذف التوبة ولذلك كانت توبته توجب زوال الفسق عنه وفاقا وتوجب قبول شهادته عند أكثر الفقهاء ولا يسقط الحد الذي للمقذوف فكذلك شاتم الرسول. فإن قيل: ما أظهره الله لنبيه من الآيات والبراهين المحققة لصدقه في نبوته تزيل عار هذا السب وتبين أنه مبرأ بخلاف المقذوف بالزنا. قيل: فيجب على هذا أن لو قذفه أحد بالزنا في حياته أن لا يجب عليه حد قذف وهذا ساقط وكان يجب على هذا أن لا يعبأ بمن يسبه ويهجوه بل يكون من يخرج عن الدين والعهد بهذا وبغيره على حد واحد وهو خلاف الكتاب والسنة وما كان عليه السابقون ويجب إذا قذف رجل سفيه معروف بالسفه والفرية من هو مشهور عند الخاصة والعامة بالعفة مشهود له بذلك أن لا يحد وهذا كله فاسد وذلك لأن مثل هذا السب والقذف لا يخاف من تأثيره في قلوب أولي الألباب وإنما يخاف من تأثيره في عقول ضعيفة وقلوب مريضة ثم سمع العالم بكذبه له من غير نكير يصغر الحرمة عنده وربما طرق له شبهة وشك فإن القلوب سريعة

التقلب وكما أن حد القذف شرع صونا للعرض من التلطخ بهذه القاذورات وسترا للفاحشة وكتما لها فشرع ما يصون عرض الرسول من التلطيخ بما قد ثبت أنه بريء منه أولى وستر الكلمات التي أوذي بها في نيل منه فيها أولى لما في ذكرها من تسهيل الاجتراء عليه إلا أن حد هذا السب والقذف القتل لعظم موقعه وقبح تأثيره فإنه لو لم يؤثر إلا تحقيرا لحرمته أو فساد قلب واحد أو إلقاء شبهة في قلب كان بعض ذلك يوجب القتل بخلاف عرض الواحد من الناس فإنه لا يخاف منه مثل هذا وسيجيء الجواب عما يتوهم فرقا بين سب النبي صلى الله عليه وسلم وسب غيره في سقوط حده بالتوبة دون حد غيره. الطريقة الثالثة والعشرون: أن قتل الذمي إذا سب إما أن يكون جائزا غير واجب أو يكون واجبا والأول باطل بما قدمناه من الدلائل في المسألة الثانية وبينا أنه قتل واجب وإذا كان واجبا فكل قتل يجب على الذمي بل كل عقوبة وجبت على الذمي بقدر زائد على الكفر فإنها لا تسقط بالإسلام أصلا جامعا وقياسا جليا فإنه يجب قتله بالزنا والقتل في قطع الطريق وبقتل المسلم أو الذمي ولا يسقط الإسلام قتلا واجبا وبهذا يظهر الفرق بين قتله وقتل الحربي الأصلي أو الناقض المحض فإن القتل هناك ليس واجبا عينا وبه يظهر الفرق بين هذا وبين سقوط الجزية عنه بالإسلام عند أكثر الفقهاء غير الشافعي فإن الجزية عند بعضهم عقوبة للمقام على الكفر وعند بعضهم عوض عن حقن الدماء وقد يقال: أجرة سكنى الدار ممن لا يملك السكنى فليست عقوبة وجبت لقدر زائد على الكفر. الطريقة الرابعة والعشرون: أنه قتل لسبب ماض فلم يسقط بالتوبة والإسلام كالقتل للزنى وقطع الطريق وعكسه القتل لسبب حاضر وهو القتل لكفر قديم باق أو محدث جديد باق أعني الكفر الأصلي والطارئ

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله" فأمر بقتله للأذى ماض ولم يقل "فإنه يؤذي الله ورسوله" وكذلك ما تقدم من الآثار فيها دلالة على أن السب أوجب القتل والسب كلام لا يدوم ويبقى بل هو كالأفعال المنصرمة من القتل والزنى وما كان هكذا فالحكم فيه عقوبة فاعله مطلقا بخلاف القتل للردة أو للكفر الأصلي فإنه إنما يقتل لأنه حاضر موجود حين القتل لأن الكفر اعتقاد والاعتقاد يبقى في القلب وإنما يظهر أنه اعتقاد بما يظهر من قول ونحوه فإذا ظهر فالأصل بقائه فيكون هذا الاعتقاد حاصلا في القلب وقت القتل وهذا وجه محقق ومبناه على أن قتل الساب ليس لمجرد الردة ونقض العهد فقط كغيره ممن جرد الردة وجرد نقض العهد بل لقدر زائد على ذلك وهو ما جاء به من الأذى والإضرار وهذا أصل قد تمهد على وجهه لا يستريب فيه لبيب. الطريقة الخامسة والعشرون: أن هذا قتل تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيا وذلك أن المسلم أو المعاهد إذا قتل نبيا ثم أسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل فإنه لو قتل بعض الأمة لم يسقط عنه القتل بإسلامه فكيف يسقط عنه إذا قتل النبي؟ ولا يجوز أن يتخير فيه خليفة بعد الإسلام بين القتل والعفو على الدية أو أكثر منها كما يتخير في قتل قاتل من لا وارث له لأن قتل النبي أعظم أنواع المحاربة والسعي في الأرض فسادا فإن هذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا بلا ريب وإذا كان من قاتل على خلاف أمره محاربا له ساعيا في الأرض فسادا فمن قاتله أو قتله فهو أعظم محاربة وأشد سعيا في الأرض فسادا وهو من أكبر أنواع الكفر ونقض العهد وإن زعم أنه لم يقتله مستحلا كما ذكره إسحاق بن راهويه من أن هذا إجماع من المسلمين وهو ظاهر وإذا وجب قتله عينا وإن أسلم وجب قتل سابه أيضا وإن أسلم لأن كلاهما أذى له يوجب القتل لا لمجرد كونه ردة أو نقض

عهد ولا تمثيلا له بقتل غيره أو سبه فإن سب غيره لا يوجب القتل وقتل غيره إنما فيه القود الذي يتخير فيه الوارث أو السلطان بين القتل أو أخذ الدية وللوارث أن يعفو عنه مطلقا بل لكون هذا محاربة لله ورسوله وسعيا في الأرض فسادا ولا يعلم شيء أكثر منه فإن أعظم الذنوب الكفر وبعده قتل النفس وهذا أقبح الكفر وقتل أعظم النفوس قدرا ومن قال: "إن حد سبه يسقط بالإسلام" لزمه أن يقول: إن قاتله إذا أسلم يصير بمنزلة قاتل من لا وارث له من المسلمين لأن القتل بالردة ونقض العهد سقط ولم يبق إلا مجرد القود كما قال بعضهم: إن قاذفه إذا أسلم جلد ثمانين أو أن يقول: يسقط عنه القود بالكلية كما أسقط حد قذفه وسبه بالكلية وقال: انغمر حد السب في موجب الكفر لا سيما على رأيه إن كان السب من كافر ذمي يستحل قتله وعداوته ثم أسلم بعد ذلك وأقبح بهذا من قول ما أنكره وأبشعه وأنه لا يقشعر منه الجلد أن تطل دماء الأنبياء في موضع تثأر فيه دماء غيرهم وقد جعل الله عامة ما أصاب بني إسرائيل من الذلة والمسكنة والغضب حتى سفك منهم من الدماء ما شاء الله ونهبت الأموال وزال الملك عنهم وسبيت الذرية وصاروا تحت أيدي غيرهم إلى يوم القيامة إنما هو بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق وكل من قتل نبيا فهذا حاله وإنما هذا بقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُم} عطف خاص على عام وإذا كان هذا باطلا فنظيره باطل مثله فإن أذى النبي إما أن يندرج في عموم الكفر والنقض أو يسوى بينه وبين أذى غيره فيما سوى ذلك أو يوجب القتل لخصوصه فإذا بطل القسمان الأولان تعين الثالث ومتى أوجب القتل لخصوصه فلا ريب أنه يوجبه مطلقا.

واعلم أن منشأ الشبهة في هذه المسألة القياس الفاسد وهو التسوية في الجنس بين المتباينين تباينا لا يكاد يجمعهما جامع وهو التسوية بين النبي وغيره في الدم أو في العرض إذا فرض عود المنتهك إلى الإسلام وهو مما يعلم بطلانه ضرورة ويقشعر الجلد من التفوه به فإن من قتله للردة أو للنقض فقط ولم يجعل لخصوص كونه أذى له أثرا وإنما المؤثر عنده عموم وصف الكفر إما أن يهدر خصوص الأذى أو يسوى فيه بينه وبين غيره زعما منه أن جعله كفرا ونقضا هو غاية التعظيم وهذا كلام من لم ير للرسول حقا يزيد على مجرد تصديقه في الرسالة وسوى بينه وبين سائر المؤمنين فيما سوى هذا الحق. وهذا كلام خبيث يصدر عن قلة فقه ثم يجر إلى شعبة نفاق ثم يخاف أن يخرج إلى النفاق الأكبر وأنه لخليق به ومن قال هذا القول من الفقهاء لا يرتضي أن يلتزم مثل هذا المحذور ولا يفوه به فإن الرسول أعظم في صدورهم من أن يقولوا فيه مثل هذا لكن هذا لازم قولهم لزوما لا محيد عنه وكفى بقول فسادا أن يكون هذا حقيقته بعد تحريره وإلا فمن تصور أن له حقوقا كثيرة عظيمة مضافة إلى الإيمان به وهي زيادة في الإيمان به كيف يجوز أن يهدر أذاه إذا فرض عريا عن الكفر أو يسوى بينه وبين غيره؟ أرأيت لو أن رجلا سب أباه وآذاه كانت عقوبته المشروعة مثل عقوبة من سب غير أبيه أم يكون أشد لما قابل الحقوق بالعقوق؟ وقد قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} الآية

وفي مراسيل أبي داود عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ضرب أباه فاقتلوه" وبالجملة فلا يخفى على لبيب أن حقوق الوالدين لما كانت أعظم كان النكال على أذاهما باللسان وغيره أشد مع أنه ليس كفرا فإذا كان قد أوجب له من الحقوق ما يزيد على التصديق وحرم من أنواع أذاه ما لا يستلزم التكذيب فلا بد لتلك الخصائص من عقوبات على الفعل والترك ومما هو كالإجماع من المحققين امتناع أن يسوى بينه وبين غيره في العقوبة على خصوص أذاه وهو ظاهر لم يبق إلا أن يكون القتل جزاء ما قوبل به من حقوقه بالعقوق جزاء وفاقا وأنه لقليل له ولعذاب الآخرة أشد وقد لعن الله مؤذيه في الدنيا والآخرة وأعد له عذابا مهينا. الطريقة السادسة والعشرون: أنا قد قدمنا من السنة وأقوال الصحابة ما دل على قتل من آذاه بالتزوج بنسائه والتعرض بهذا الباب لحرمته في حياته أو بعد موته وأن قتله لم يكن حد الزنا من وطء ذوات المحارم وغيرهن بل لما في ذلك من أذاه فإما أن يجعل هذا الفعل كفرا أو لا يجعل فإن لم يجعل كفرا فقد ثبت قتل من آذاه مع تجرده عن الكفر وهو المقصود فالأذى بالسب ونحوه أغلظ وإن جعل كفرا فلو فرض أنه تاب منه لم يجز أن يقال: يسقط القتل عنه لأنه يستلزم أن يكون من الأفعال ما يوجب القتل ويسقط بالتوبة بعد القدرة وثبوته عند الإمام وهذا لا عهد لنا به في الشريعة ولا يجوز إثبات مالا نضير له إلا بنص وهو لعمري سمح فإن إظهار التوبة باللسان من فعل تشتهيه النفوس سهل على ذي الغرض إذا أخذ

فيسقط مثل هذا الحد بهذا وإذا لم يسقط القتل الذي أوجبه هذا الأذى عنه فكذلك القتل الذي أوجبه أذى اللسان وأولى لأن القرآن قد غلظ هذا على ذاك والتقدير أن كلاهما كفر فإذا لم يسقط قتل من أتى بالأدنى فأن لا يسقط قتل من أتى بالأعلى أولى. الطريقة السابعة والعشرون: أنه سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} فأخبر سبحانه أن شانئه هو الأبتر والبتر: القطع يقال: بتر يبتر بترا وسيف بتار إذا كان قاطعا ماضيا ومنه في الاشتقاق الأكبر تبره تتبيرا إذا أهلكه والتبار: الهلاك والخسران وبين سبحانه أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد لأنهم قالوا: إن محمدا ينقطع ذكره لأنه لا ولد له فبين الله أن الذي يشنأه هو الأبتر لا هو والشنآن منه ما هو باطن في القلب لم يظهر ومنه ما يظهر على اللسان وهو أعظم الشنآن وأشده وكل جرم استحق فاعله عقوبة من الله إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته وإذا كان ذلك واجبا وجب قتله وإن أظهر التوبة بعد القدرة وإلا لما انبتر له شانئ بأيدينا في غالب الأمر لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل فإن ذلك سهل على من يخاف السيف. تحقيق ذلك أنه سبحانه رتب الانبتار على شنآنه والاسم المشتق المناسب إذا علق به حكم كان ذلك دليلا على أن المشتق منه علة لذلك الحكم فيجب أن يكون شنآنه هو الموجب لانبتاره وذلك أخص مما تضمنه الشنآن من الكفر المحض أو نقض العهد والانبتار يقتضي وجوب قتله بل يقتضي

انقطاع العين والأثر فلو جاز استحياؤه بعد إظهار الشنآن لكان في ذلك إبقاء لعينه وأثره وإذا اقتضى الشنآن قطع عينه وأثره كان كسائر الأسباب الموجبة لقتل الشخص وليس شيء يوجب قتل الذمي إلا هو موجب لقتله بعد الإسلام إذ الكفر المحض مجوز للقتل لا موجب له على الإطلاق وهذا لأن الله سبحانه لما رفع ذكر محمد عليه الصلاة والسلام فلا يذكر إلا ذكر معه ورفع ذكر من اتبعه إلى يوم القيامة حتى أنه يبقى ذكر من بلغ عنه ولو حديثا وإن كان غير فقيه قطع أثر من شنأه من المنافقين وإخوانهم من أهل الكتاب وغيرهم فلا يبقى له ذكر حميد وإن بقيت أعيانهم وقتا ما إذا لم يظهروا الشنآن فإذا أظهروه محقت أعيانهم وآثارهم تقديرا وتشريعا فلو استبقى من أظهر شنآنه بوجه ما لم يكن مبتورا إذ البتر يقتضي قطعه ومحقه من جميع الجوانب والجهات فلو كان له وجه إلى البقاء لم يكن مبتورا. يوضح ذلك أن العقوبات التي شرعها الله نكالا مثل قطع السارق ونحوه لا تسقط بإظهار التوبة إذ النكال لا يحصل بذلك فما شرع لقطع صاحبه وبتره ومحقه كيف يسقط بعد الأخذ فإن هذا الفظ يشعر بأن المقصود اصطلام صاحبه واستئصاله واجتياحه وقطع شنآنه وما كان بهذه المثابة كان عما يسقط عقوبته أبعد من كل أحد وهذا بين لمن تأمله والله أعلم. والجواب عن حججهم: أما قولهم "هو مرتد فيستتاب كسائر المرتدين" فالجواب أن هذا مرتد بمعنى أنه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا بنوبته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقصه في كلامه ارتفع حكم التصديق وصار

بمنزلة اعتراف إبليس لله بالربوبية فإنه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالإيمان بالله وبرسوله قول وعمل أعني بالعمل ما ينبعث عن القول والاعتقاد من التعظيم والإجلال فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار والاستخفاف صار كافرا وكذلك كان قتل النبي كفرا باتفاق العلماء فالمرتد: كل من أتى بعد الإسلام من القول أو العمل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه وإذا كان كذلك فليس كل من وقع عليه اسم المرتد يحقن دمه بالإسلام فإن ذلك لم يثبت بلفظ علم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وإنما جاء عنه وعن أصحابه في ناس مخصوصين أنهم استتابوهم أو أمروا باستتابتهم ثم إنهم أمروا بقتل الساب وقتلوه من غير استتابة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل العرنيين من غير استتابة وأنه أهدر دم ابن خطل ومقيس بن حبابة وابن أبي سرح من غير استتابة فقتل منهم اثنان وأراد من أصحابه أن يقتلوا الثالث بعد أن جاء تائبا. فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وسائر الصحابة تبين لك أن من المرتدين من يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ومنهم من يستتاب وتقبل توبته فمن لم يوجد منه إلا مجرد تبديل الدين وتركه وهو مظهر لذلك فإذا تاب قبلت توبته كالحارث بن سويد وأصحابه والذين ارتدوا في عهد الصديق رضي الله عنه ومن كان مع ردته قد أصاب ما يبيح الدم من قتل مسلم وقطع الطريق وسب الرسول والافتراء عليه ونحو ذلك وهو في دار الإسلام غير ممتنع بفئة فإنه إذا أسلم يؤخذ بذلك الموجب للدم فيقتل للسب وقطع الطريق مع قبول إسلامه

هذه طريقة من يقتله لخصوص السب وكونه حدا من الحدود أو حقا للرسول فإنه يقول: الردة نوعان: ردة مجردة وردة مغلظة والتوبة إنما هي مشروعة في الردة المجردة فقط دون الردة المغلظة وهذه ردة مغلظة وقد تقدم تقرير ذلك في الأدلة. ثم الكلمة الوجيزة في الجواب أن يقال: جعل الردة جنسا واحدا تقبل توبة أصحابه ممنوع فلا بد له من دليل ولا نص في المسألة والقياس متعذر لوجود الفرق. ومن يقتله لدلالة السب على الزندقة فإنه يقول: هذا لم يثبت إذا لا دليل يدل على صحة التوبة كما تقدم. وبهذا حصل الجواب عن احتجاجهم بقول الصدق وتقدم الجواب عن قول ابن عباس وأما استتابة الأعمى أم ولده فإنه لم يكن سلطانا ولم تكن إقامة الحدود واجبة عليه وإنما النظر في جواز إقامته للحد ومثل هذا لا ريب أنه يجوز له أن ينهى الساب ويستتيبه فإنه ليس عليه أن يقيم الحد ولا يمكنه أن يشهد به عند السلطان وحده فإنه لا ينفع ونظيره في ذلك من كان يسمع من المسلمين كلمات من المنافقين توجب الكفر فتارة ينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة ينهي صاحبها ويخوفه ويستتيبه وهو بمثابة من ينهى من يعلم منه الزنا أو السرقة أو قطع الطريق عن فعله لعله يتوب قبل أن يرفع إلى السلطان ولو رفع قبل التوبة لم يسقط حده بالتوبة بعد ذلك. وأما الحجة الثانية فالجواب عنها من وجوه: أحدها: أنه مقتول بالكفر بعد الإسلام وقولهم "كل من كفر بعد إسلامه فإن توبته تقبل". قلنا: هذا ممنوع والآية إنما دلت على قبول توبة من كفر بعد إيمانه

إذا لم يزدد كفرا أما من كفر وزاد على الكفر فلم تدل الآية على قبول توبته بل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} قد يتمسك بها من خالف ذلك على أنه إنما استثنى من تاب وأصلح وهذا لا يكون فيمن تاب بعد أخذه وإنما استفدنا سقوط القتل عن التائب لمجرد توبته من السنة وهي إنما دلت على من جرد الردة مثل الحارث بن سويد ودلت على أن من غلظها كابن أبي سرح يجوز قتله بعد التوبة والإسلام. الوجه الثاني: أنه مقتول لكونه كفر بعد إسلامه ولخصوص السب كما تقدم تقريره فاندرج في عموم الحديث مع كون السب مغلظا لجرمه ومؤكدا لقتله. الوجه الثالث: أنه عام قد خص منه تارك الصلاة وغيرها من الفرائض عند من يقتله ولا يكفره وخص منه قتل الباغي وقتل الصائل بالسنة والإجماع فلو قيل "إن السب موجب للقتل بالأدلة التي ذكرناها وهي أخص من هذا الحديث" لكان كلاما صحيحا. وأما من يحتج بهذا الحديث في الذمي إذا سب ثم أسلم فيقال له: هذا وجب قتله قبل الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد إباحة الدم بعد حقنه بالإسلام ولم يتعرض لمن وجب قتله ثم أسلم أي شيء حكمه ولا يجوز أن يحمل الحديث عليه فإنه إذا حمل على حل الدم بالأسباب الموجودة قبل الإسلام وبعده لزم من ذلك أن يكون الحربي إذا قتل أو زنى ثم شهد شهادتي الحق أن يقتل بذلك القتل والزنى لشمول الحديث على هذا التقدير له وهو باطل قطعا ولا يجوز أن يحمل على أن كل من أسلم لا يحل دمه إلا بإحدى الثلاث إن صدر عنه بعد ذلك لأنه يلزمه أن لا يقتل الذمي لقتل أو زنى

صدر منه قبل الإسلام فعلم أن المراد أن المسلم الذي تكلم بالشهادتين يعصم دمه لا يبيحه بعد هذا إلا إحدى الثلاث ثم لو اندرج هذا في العموم لكان مخصوصا بما ذكرناه من أن قتله حد من الحدود وذلك أن كل من أسلم فإن الإسلام يعصم دمه فلا يباح بعد ذلك إلا بإحدى الثلاث وقد يتخلف الحكم عن هذا المقتضى لمانع من ثبوت حد قصاص أو زنى أو نقض عهد فيه ضرر وغير ذلك ومثل هذا كثيرا في العمومات. وأما الآية على الوجهين الأولين فنقول: إنما تدل على أن من كفر بعد إيمانه ثم تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم ونحن نقول بموجب ذلك أما من ضم إلى الكفر انتهاك عرض الرسول والافتراء عليه أو قتله أو قتل واحد من المسلمين أو انتهك عرضه فلا تدل الآية على سقوط العقوبة عن هذا على ذلك والدليل على ذلك قوله سبحانه: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فإن التوبة عائدة إلى الذنب المذكور والذنب المذكور هو الكفر بعد الإيمان وهذا أتى بزيادة على الكفر توجب عقوبة بخصوصها كما تقدم والآية لم تتعرض من للتوبة من غير الكفر ومن قال "هو زنديق" قال: أنا لا أعلم أن هذا تاب ثم إن الآية إنما استثنى فيها من تاب وأصلح وهذا الذي رفع إليّ لم يصلح وأنا لا أؤخر العقوبة الواجبة عليه إلى أن يظهر صلاحه نعم الآية قد تعم من فعل ذلك ثم تاب وأصلح قبل أن يرفع إلى الإمام وهذا قد يقول كثير من الفقهاء بسقوط العقوبة على أن الآية التي بعدها قد تشعر بأن المرتد قسمان: قسم تقبل توبته وهو من كفر فقط وقسم لا تقبل توبته وهو من كفر ثم ازداد كفرا قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} وهذه الآية وإن كان قد تأولها أقوام على من ازداد كفرا إلى أن عاين الموت فقد يستدل بعمومها

على هذه المسألة فقال: من كفر بعد إيمانه وازداد كفرا بسب الرسول ونحوه لم تقبل توبته خصوصا من استمر به ازدياد الكفر إلى أن ثبت عليه الحد وأراد السلطان قتله فهذا قد يقال: إنه ازداد كفرا إلى أن رأى أسباب الموت وقد يقال فيه: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} إلى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} وأما قوله سبحانه وتعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فإنه يغفر لهم ما قد سلف من الآثام وأما من الحدود الواجبة على مسلم مرتد أو معاهد فإنه يجب استيفاؤها بلا تردد على أن سياق الكلام يدل أنها في الحربي. ثم نقول: الانتهاء إنما هو الترك قبل القدرة كما في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فمن لم يتب حتى أخذ فلم ينته ويقال أيضا: إنما تدل الآية على أنه يغفر لهم وهذا مسلم وليس كل من غفر له سقطت العقوبة عنه في الدنيا فإن الزاني أو السارق لو تاب توبة نصوحا غفر الله له ولا بد من إقامة الحدود عليه وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" كقوله: "التوبة تجب ما قبلها" ومعلوم أن التوبة بعد القدرة لا تسقط الحد كما دل عليه القرآن وذلك أن الحديث خرج جوابا لعمرو بن العاص لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي فقال: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن التوبة تهدم ما كان قبلها وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله" فعلم أنه عنى

بذلك أنه يهدم الآثام الذنوب التي سأل عمرو مغفرتها ولم يجر للحدود ذكر وهي لا تسقط بهذه الأشياء بالاتفاق وقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث ابن أبي سرح أن ذنبه سقط بالإسلام وأن القتل إنما سقط عنه يعفو النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ولو فرض أنه عام فلا خلاف أن الحدود لا تسقط عن الذمي بإسلامه وهذا منها كما تقدم. وأما قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} فالجواب عنها من وجوه: أحدها: أنه ليس في الآية دليل على أن هذه الآية نزلت فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وإنما فيها أنها نزلت في المنافقين وليس كل منافق يسبه ويشتمه فإن الذي يشتمه من أعظم المنافقين وأقبحهم نفاقا وقد ينافق الرجل بأن لا يعتقد النبوة وهو لا يشتمه كحال كثير من الكفار ولو أن كل منافق بمنزلة من شتمه لكان كل مرتد شاتما ولاستحالت هذه المسألة وليس الأمر كذلك فإن الشتم قدر زائد على النفاق والكفر على ما لا يخفى وقد كان ممن هو كافر من يحبه ويوده ويصطنع إليه المعروف خلق كثير وكان ممن يكف عنه أذاه من الكفار خلق أكثر من أولئك وكان ممن يحاربه ولا يشتمه خلق آخرون بل الآية تدل على أنها نزلت في منافقين غير الذين يؤذونه فإنه سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} إلى قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}

فليس في هذا ذكر سب وإنما فيه ذكر استهزاء ومن الاستهزاء بالدين ما لا يتضمن سبا ولا شتما للرسول. وفي هذا الوجه نظر كما تقدم في سبب نزولها إلا أن يقال: تلك الكلمات ليست من السب المختلف فيه وهذا ليس بجيد. الوجه الثاني: أنهم قد ذكروا أن المعفو عنه هو الذي استمع أذاهم ولم يتكلم وهو مخشي بن حمير هو الذي تيب عليه وأما الذين تكلموا بالأذى فلم يعف عن أحد منهم. يحقق هذا أن العفو المطلق إنما هو ترك المؤاخذة بالذنب وإن لم يتب صاحبه كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} والكفر لا يعفى عنه فعلم أن الطائفة المعفو عنها كانت عاصية لا كافرة إما بسماع الكفر دون إنكاره والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله أو بكلام هو ذنب وليس هو كفرا أو غير ذلك وعلى هذا فتكون الآية دالة على أنه لا بد من تعذيب أولئك المستهزئين وهو دليل على أنه لا توبة لهم لأن من أخبر الله بأنه يعذب وهو معين امتنع أن يتوب توبة تمنع العذاب فيصلح أن يجعل هذا دليلا في المسألة. الوجه الثالث: أنه سبحانه وتعالى أخبر أنه لا بد أن تعذب طائفة من هؤلاء إن عفا عن طائفة وهذا يدل على أن العذاب واقع بهم لا محالة وليس فيه ما يدل على وقوع العفو لأن العفو معلق بحرف الشرط فهو محتمل وأما العذاب فهو واقع بتقدير وقوع العفو وهو بتقدير عدمه أوقع فعلم أنه لا بد من التعذيب: إما عاما أو خاصا لهم ولو كانت توبتهم كلهم مرجوة صحيحة لم يكن كذلك لأنهم إذا تابوا لم يعذبوا وإذا ثبت أنهم لا بد أن

يعذبهم الله لم يجز القول بجواز قبول التوبة منهم وإنه يحرم تعذيبهم إذا أظهروها وسواء أراد بالتعذيب التعذيب بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين لأنه سبحانه وتعالى أمر نبيه فيما بعد بجهاد الكفار والمنافقين فكان من أظهره عذب بأيدي المؤمنين ومن كتمه عذبه الله بعذاب من عنده وفي الجملة فليس في الآية دليل على أن العفو واقع وهذا كاف هنا. الوجه الرابع: أنه إن كان في هذه الآية دليل على قبول توبتهم فهو حق وتكون هذه التوبة إذا تابوا قبل أن يثبت النفاق عند السلطان كما بين ذلك قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآيتين فإنها دليل على أن من لم ينته حتى أخذ فإنه يقتل وعلى هذا فلعله والله أعلم عنى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} وهم الذين أسروا النفاق حتى تابوا منه: {نُعَذِّبْ طَائِفَة} وهم الذين أظهروه حتى أخذوا فتكون دالة على وجوب تعذيب من أظهره. الوجه الخامس: أن هذه الآية تضمنت أن العفو عن المنافق إذا أظهر النفاق وتاب أو لم يتب فذلك منسوخ بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} كما أسلفناه وبيناه. ويؤيده أنه قال: {إِنْ نَعْفُ} ولم يبت وسبب النزول يؤيد أن النفاق ثبت عليهم ولم يعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كان في غزوة تبوك قبل أن تنزل براءة وفي عقبها نزلت سورة براءة فأمر فيها بنبذ العهود إلى المشركين وجهاد الكفار والمنافقين. فالجواب عما احتج به منها من وجوه: أحدها: أنه سبحانه وتعالى إنما ذكر أنهم قالوا كلمة الكفر وهموا بما لم ينالوا وليس في هذا ذكر للسب والكفر أعم من السب ولا يلزم من ثبوت

الأعم ثبوت الأخص لكن فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على أنها نزلت فيمن سب فيبطل هذا. الوجه الثاني: أنه سبحانه وتعالى إنما عرض التوبة على الذين يحلفون بالله ما قالوا وهذا حال من أنكر أن يكون تكلم بكفر وحلف على إنكاره فأعلم الله نبيه أنه كاذب في يمينه وهذا كان شأن كثير ممن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم عنه الكلمة من النفاق ولا تقوم عليه به بينة ومثل هذا لا يقام عليه حد إذ لم يثبت عليه في الظاهر شيء والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحكم في الحدود ونحوها بالظاهر والذي ذكروه في سبب نزولها من الوقائع كلها إنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما قالوه بخبر واحد إما حذيفة أو عامر بن قيس أو زيد بن أرقم أو غير هؤلاء أو أنه أوحي إليه وحي بحالهم وفي بعض التفاسير أن المحكي عنه هذه الكلمة الجلاس بن سويد اعترف بأنه قالها وتاب من ذلك من غير بينة قامت عليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه وهذا كله دلالة واضحة على أن التوبة من مثل هذا مقبولة وهي توبة من ثبت عليه نفاق وهذا لا خلاف فيه إذا تاب فيما بينه وبين الله سرا كما نافق سرا أنه تقبل توبته ولو جاء مظهرا لنفاقه المتقدم ولتوبته منه من غير أن تقوم عليه بينه بالنفاق قبلت توبته أيضا على القول المختار كما تقبل توبة من جاء مظهرا للتوبة من زنى أو سرقة ولم يثبت عليه على الصحيح وأولى من ذلك وأما من ثبت نفاقه بالبينة فليس في الآية ولا فيما ذكر من سبب نزولها ما يدل على قبول توبته بل وليس في نفس الآية ما يدل على ظهور التوبة بل يجوز أن يحمل على توبته فيما بينه وبين الله فإن ذلك نافع وفاقا وإن أقيم عليه الحد كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ

سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} وقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وقال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} إلى غير ذلك من الآيات مع أن هذا لا يوجب أن يسقط الحد الواجب بالبينة عمن أتى فاحشة موجبة للحد أو ظلم نفسه بشرب أو سرقة فلو قال من لم يسقط الحد عن المنافق سواء ثبت نفاقه ببينه أو إقرار "ليس في الآية ما يدل على سقوط الحد عنه" لكان لقوله مساغ. الوجه الثالث: أنه قال سبحانه وتعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} الآية وهذا تقرير لجهادهم وبيان لحكمته وإظهار لحالهم المقتضي لجهادهم فإن ذكر الوصف المناسب بعد الحكم يدل على أنه علة له وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} وصف لهم وهو مناسب لجهادهم فإن كونهم يكذبون في أيمانهم ويظهرون الإيمان ويبطنون الكفر موجب للإغلاظ عليهم بحيث لا يقبل منهم ولا يصدقون فيما يظهرونه من الإيمان بل ينتهرون ويرد ذلك عليهم. وهذا كله دليل على أنه لا يقبل ما يظهره من التوبة بعد أخذه إذ لا فرق بين كذبه فيما يخبر به عن الماضي أنه لم يكفر وفيما يخبره من الحاضر أنه ليس بكافر فإذا بين سبحانه وتعالى من حالهم ما يوجب أن لا يصدقوا وجب أن لا يصدق

في إخباره أنه ليس بكافر بعد ثبوت كفره بل يجري عليه حكم قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لكن بشرط أن يظهر كذبه فيها فأما بدون ذلك فإنا لم نأمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم وعلى هذا فقوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} أي قبل ظهور النفاق وقيام البينة به عند الحاكم حتى يكون للجهاد موضع وللتوبة موضع وإلا فقبول التوبة الظاهرة في كل وقت يمنع الجهاد لهم بالكلية. الوجه الرابع: أنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وفسر ذلك في قوله تعالى: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} وهذا يدل على أن هذه التوبة قبل أن نتمكن من تعذيبهم بأيدينا لأن من تولى عن التوبة حتى أظهر النفاق وشهد عليه به وأخذ فقد تولى عن التوبة التي عرضها الله عليه فيجب أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا والقتل عذاب أليم فيصلح أن يعذب به لأن المتولي أبعد أحواله أن يكون ترك التوبة إلى أن لا يتركه الناس لأنه لو كان المراد به تركها إلى الموت لم يعذب في الدنيا لأن عذاب الدنيا قد فات فلا بد أن يكون التولي ترك التوبة وبينه وبين الموت مهل يعذبه الله فيه كما ذكره سبحانه فمن تاب بعد الأخذ ليعذب فهو ممن لم يتب قبل ذلك بل تولى فيستحق أن يعذبه الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ومن تأمل هذه الآية والتي قبلها وجدهما دالتين على أن التوبة بعد أخذه لا ترفع عذاب الله عنه. وأما كون هذه التوبة مقبولة فيما بينه وبين الله وإن تضمنت التوبة من

عرض الرسول فنقول أولا وإن كان حق هذا الجواب أن يؤخر إلى المقدمة الثانية: هذا القدر لا يمنع إقامة الحد عليه إذا رفع إلينا ثم أظهر التوبة بعد ذلك كما أن الزاني والشارب وقاطع الطريق إذا تاب فيما بينه وبين الله قبل أن يرفع إلينا قبل الله توبته وإذا اطلعنا عليه ثم تاب فلا بد من إقامة الحد عليه ويكون ذلك من تمام توبته وجميع الجرائم من هذا الباب. وقد يقال: إن المنتهك لأعراض الناس إذا استغفر لهم ودعا لهم قبل أن يعلموا بذلك رجي أن يغفر الله له على ما في ذلك من الخلاف المشهور ولو ثبت ذلك عند السلطان ثم أظهر التوبة لم تسقط عقوبته وذلك أن الله سبحانه لا بد أن يجعل للمذنب طريقا إلى التوبة فإذا كان عليه تبعات للخلق فعليه أن يخرج منها جهده ويعوضهم عنها ما يمكنه ورحمة الله من وراء ذلك ثم ذلك لا يمنع أن نقيم عليه الحد إذا ظهرنا عليه ونحن إنما نتكلم في التوبة المسقطة للحد والعقوبة لا في التوبة الماحية للذنب. ثم نقول ثانيا: إن كان ما أتاه من السب قد صدر عن اعتقاد يوجبه فهو بمنزلة ما يصدر من سائر المرتدين وناقضي العهد من سفك دماء المسلمين وأخذ أموالهم وانتهاك أعراضهم فإنهم يعتقدون في المسلمين اعتقادا يوجب إباحة ذلك ثم إذا تابوا توبة نصوحا من ذلك الاعتقاد غفر لهم موجبه المتعلق بحق الله وحق العباد كما يغفر للكافر الحربي موجب اعتقاده إذا تاب منه مع أن المرتد أو الناقض متى فعل شيئا من ذلك قبل الامتناع أقيم عليه حده وإن عاد إلى الإسلام سواء كان لله أو لآدمي فيحد على الزنا والشرب وقطع الطريق وإن كان في زمن الردة ونقض العهد يعتقد حل ذلك الفرج لكونه وطئه بملك اليمين إذا قهر مسلمة على نفسها ويعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم

كما يؤخذ منه القود وحد القذف وإن كان يعتقد حلهما ويضمن ما أتلفه من الأموال وإن اعتقد حلها. والحربي الأصل لا يؤخذ بشيء من ذلك بعد الإسلام فكان الفرق أن ذاك كان ملتزما بأيمانه وأمانه أن لا يفعل شيئا من ذلك فإذا فعله لم يعذر بفعله بخلاف الحربي الأصل ولأن في إقامة هذه الحدود عليه زجرا له عن فعل هذه الموبقات كما فيها زجر للمسلم المقيم على إسلامه بخلاف الحربي الأصل فإن ذلك لا يزجره بل هو منفر له عن الإسلام ولأن الحربي الأصل ممتنع وهذان ممكنان. وكذلك قد نص الإمام أحمد على أن الحربي إذا زنى بعد الأسر أقيم عليه الحد لأنه صار في أيدينا كما أن الصحيح عنه وعن أكثر أهل العلم أن المرتد إذا امتنع لم تقم عليه الحدود لأنه صار بمنزلة الحربي إذ الممتنع يفعل هذه الأشياء باعتقاد وقوة من غير زاجر له ففي إقامة الحدود عليهم بعد التوبة تنفير وإغلاق لباب التوبة عليهم وهو بمنزلة تضمين أهل الحرب سواء وليس هذا موضع استقصاء هذا وإنما نبهنا عليه وإذا كان هذا هنا هكذا فالمرتد والناقض إذا آذيا الله ورسوله ثم تابا من ذلك بعد القدرة توبة نصوحا كانا بمنزلتهما إذا حاربا باليد في قطع الطريق أو زنيا وتابا بعد أخذهما وثبوت الحد عليهما ولا فرق بينهما وذلك لأن الناقض للعهد قد كان عهده يحرم عليه هذه الأمور في دينه وإن كان دينه المجرد عن عهد يبيحها له. وكذلك المرتد قد كان يعتقد أن هذه الأمور محرمة فاعتقاده إباحتها إذا لم يتصل به قوة ومنعه ليس عذرا له في أن يفعلها لما كان ملتزما له من الدين الحق ولما هو به من الضعف ولما في سقوط الحد عنه من الفساد وإن

كان السب صادرا عن غير اعتقاد بل سبه مع اعتقاد نبوته أو سبه بأكبر مما يوجبه اعتقاده أو بغير ما يوجبه اعتقاده فهذا من أعظم الناس كفرا بمنزلة إبليس وهو من نوع العناد أو السفه وهو بمنزلة من شتم بعض المسلمين أو قتلهم وهو يعتقد أن دمائهم وأعراضهم حرام. وقد اختلف الناس في سقوط حد المشتوم بتوبة الشاتم قبل العلم به سواء كان نبيا أو غيره فمن اعتقد أن التوبة لا تسقط حق الآدمي له أن يمنع هنا أن توبة الشاتم في الباطن صحيحة على الإطلاق وله أن يقول: إن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يطالب هذا بشتمه مع علمه بأنه حرام كسائر المؤمنين لهم أن يطالبوا شاتمهم وسابهم بل ذلك أولى وهذا القول قوي في القياس وكثير من الظواهر تدل عليه. ومن قال "هذا من باب السب والغيبة ونحوهما مما يتعلق بأعراض الناس وقد فات الاستحلال فليأت للمشتوم من الدعاء والاستغفار بما يزن حق عرضه ليكون ما يأخذه المظلوم من حسنات هذا بقدر ما دعا له واستغفر فيسلم له سائر عمله فكذلك من صدرت منه كلمة سب أو شتم فليكثر من الصلاة والتسليم ويقابلها بضدها" فمن قال: "إن ذلك يوجب قبول التوبة ظاهرا وباطنا" أدخله في قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" ومن قال: "لا بد من القصاص" قال: قد أعد له من الحسنات ما يقوم بالقصاص وليس لنا غرض في تقرير واحد من القولين هنا وإنما الغرض أن الحد لا يسقط بالتوبة لأنه إن كان عن اعتقاد فالتوبة منه صحيحة مسقطة لحق الرسول في الآخرة وهي لا تسقط الحد عنه في الدنيا كما تقدم وإن كانت من غير اعتقاد ففي سقوط حق الرسول بالتوبة خلاف.

فإن قيل: "لا يسقط" فلا كلام وإن قيل: "يسقط الحق ولم يسقط الحد كتوبة الأول وأولى" فحاصله أن الكلام في مقامين: أحدهما: أن هذه التوبة إذا كانت صحيحة نصوحا فيما بينه وبين الله هل يسقط معها حق المخلوق؟ وفيه تفصيل وخلاف فإن قيل: "لم يسقط" فلا كلام وإن قيل: "يسقط" فسقوط حقه بالتوبة كسقوط حق الله بالتوبة فتكون كالتوبة من سائر أنواع الفساد وتلك التوبة إذا كانت بعد القدرة لم تسقط شيئا من الحدود وإن كانت تجب الإثم في الباطن. وحقيقة هذا الكلام أن قتل الساب ليس لمجرد الردة ومجرد عدم العهد حتى تقبل توبته كغيره بل لردة مغلظة ونقض مغلظ بالضرر ومثله لا يسقط موجبه بالتوبة لأنه من محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا أو هو من جنس الزنا والسرقة أو هو من جنس القتل والقذف فهذه حقيقة الجواب وبه يتبين الخلل فيما ذكر من الحجة. ثم نبينه مفصلا فنقول: أما قولهم: "إن ما جاء به من الإيمان به ماح لما أتى به من هتك عرضه" فنقول: إن كان السب مجرد موجب اعتقاد فالتوبة من الاعتقاد توبة من موجبه وأما من زاد على موجب الاعتقاد أو أتى بضده وهم أكثر السابين فقد لا يسلم أن ما يأتي به من التوبة ماح إلا بعد عفوه بل يقال: له المطالبة وإن سلم ذلك فهو كالقسم الأول وهذا القدر لا يسقط الحدود كما تقدم غير مرة. وأما قولهم: "حقوق الأنبياء من حيث النبوة تابعة لحق الله في الوجوب فتبعته في السقوط" فنقول: هذا مسلم إن كان السب موجب اعتقاد وإلا ففيه الخلاف وأما حقوق الله فلا فرق في باب التوبة بين ما موجبه اعتقاد أو غير اعتقاد فإن التائب من اعتقاد الكفر وموجباته والتائب من الزنا

سواء ومن لم يسو بينهما قال: ليست أعظم من حق الله إذا لم يسقط في الباطن بسقوطه ولكن الأمر إلى مستحقها: إن شاء جزى وإن شاء عفا ولم يعلم بعد ما يختاره الله سبحانه قد أعلمنا أنه يغفر لكل من تاب. وأيضا فإن مستحقها من جنس تلحقهم المضرة والمعرة بهذا ويتألمون به فجعل الأمر إليهم والله سبحانه وتعالى إنما حقه راجع إلى مصلحة المكلف خاصة فإنه لا ينتفع بالطاعة ولا يستضر بالمعصية فإذا عاود المكلف الخير فقد حصل ما أراده ربه منه فلما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم نعت البشر ولهم نعت النبوة صار حقهم له نعت حق الله ونعت حق سائر العباد وإنما يكون حقهم مندرجا في حق الله إذا صدر عن اعتقاد فإنهم لما وجب الإيمان بنبوتهم صار كالإيمان بوحدانية الله فإذا لم يعتقد معتقد نبوتهم كان كافرا كما إذا لم يقر بوحدانية الله وصار الكفر بذلك كفرا برسالات الله ودينه وغير ذلك فإذا كان السب موجبا بذا الاعتقاد فقط مثل نفي الرسالة أو النبوة ونحو ذلك وتاب منه توبة نصوحا قبلت توبته كتوبة المثلث وإذا زاد على ذلك مثل قدح في نسب أو وصف لمساوي الأخلاق أو فاحشة أو غير ذلك مما يعلم هو أنه باطل أو لا يعتقد صحته أو كان مخالفا للاعتقاد مثل أن يحسد أو يتكبر أو يغضب لفوات غرض أو حصول مكروه مع اعتقاد النبوة فيسب فهنا إذا تاب لم يتجدد له اعتقاد أزال موجب السب إنما غير نيته وقصده وهو قد آذاه فهذا السب إذا يتألم به البشر ولم يكن معذورا بعدم اعتقاد النبوة فهو لحق الله من حيث جنى على النبوة التي هي السبب الذي بين الله وبين خلقه فوجب قتله وهو كحق البشر من حيث أنه آذى آدميا يعتقد أنه لا يحل أذاه فلذلك كان له أن يطالبه بحق أذاه وأن يأخذ من حسناته بقدر أذاه وليست له حسنة تزن ذلك إلا ما يضاد السب من الصلاة والتسليم ونحوهما وبهذا يظهر أن

التوبة من سب صدر من غير اعتقاد من الحقوق التي تجب للبشر ثم هو حق متعلق بالنبوة لا محالة فهذا قول هذا القائل وإن كنا لم نرجح واحدا من القولين. ثم إذا كانت حقوقهم تابعة لحق الله فمن الذي يقول: إن حقوق الله تسقط عن المرتد وناقض العهد بالتوبة؟ فإنا قد بينا أن هؤلاء تقام عليهم حدود الله بعد التوبة وإنما تسقط بالتوبة عقوبة الردة المجردة والنقض المجرد وهذا ليس كذلك. وأما قوله: "إن الرسول يدعوا الناس إلى الإيمان به ويخبرهم أن الإيمان يمحو الكفر فيكون قد عفا لمن كفر عن حقه" فنقول: هذا جيد إذا كان السب موجب الاعتقاد فقط لأنه هو الذي اقتضاه ودعاه إلى الإيمان به فإنه من أزال اعتقاد الكفر به باعتقاد الإيمان به زال موجبه أما من زاد على ذلك وسبه بعد أن آمن به أو عاهده فلم يلتزم أن يعفو عنه وقد كان له أن يعفو وله أن لا يعفو والتقدير المذكور في السؤال إنما يدل على سب أوجبه الاعتقاد ثم زال باعتقاد الإيمان لأنه هو الذي كان يدعو إليه الكفر وقد زال بالإيمان وأما ما سوى ذلك فلا فرق بينه وبين سب سائر الناس من هذه الجهة وذلك أن الساب إن كان حربيا فلا فرق بين سبه للرسول أو لواحد من الناس من هذه الجهة وإن كان مسلما أو ذميا فإذا سب الرسول سبا لا يوجبه اعتقاده فهو كما لو سب غيره من الناس فإن تجدد الإسلام منه كتجدد التوبة منه يزعه عن هذا الفعل وينهاه عنه وإن لم يرفع موجبه فإن موجب هذا السب لم يكن الكفر به إذ كلامنا في سب لا يوجبه الكفر به مثل فريه عليه يعلم أنها فرية ونحو ذلك لكن إذا أسلم الساب فقد عظم في قلبه عظمة تمنعه أن يفتري عليه كما أنه إذا تاب من سب المسلم عظم الذنب في قلبه عظمة تمنعه من مواقعته وجاز أن

لا يكون هذا الإسلام وازعا لكون موجب السب كان شيئا غير الكفر وقد يضعف هذا الإسلام عن دفعه كما يضعف هذه التوبة عن موجب الأذى وفرق بين ارتفاع الأمر بارتفاع سببه أو بوجود ضده فإن ما أوجبه الاعتقاد إذا زال الاعتقاد زال سببه فلم يخش عوده إلا بعود السبب وما لم يوجبه الاعتقاد من الفرية ونحوها على النبي صلى الله عليه وسلم وغيره يرفعها الإسلام والتوبة رفع الضد للضد إذ قبح هذا الأمر وسوء عاقبته والعزم الجازم على فعل ضده وتركه ينافي وقوعه لكن لو ضعف هذا الدافع عن مقاومة السبب المقتضي عمل عمله فهذا يبين أنه لا فرق في الحقيقة بين أن يتوب من سب لم يوجبه مجرد الكفر بالإيمان به الموجب لعدم ذلك السب وبين أن يتوب من سب مسلم بالتوبة الموجبة لعدم ذلك السب. واعتبر هذا برجل له غرض في أمر فزجر عنه وقيل له: هذا قد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إليه فحمله فرط الشهوة وقوة الغضب لفوات المطلوب على أن لعن وقبح فيما بينه وبين الله مع أنه لا يشك في النبوة ثم إنه جدد إسلامه وتاب وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل باكيا من كلمته ورجل أراد أن يأخذ مال مسلم بغير حق فمنعه منه فلعن وقبح سرا ثم إنه تاب من هذا واستغفر لذلك الرجل ولم يزل خائفا من كلمته أليست توبة هذا من كلمته كتوبة هذا من كلمته؟ وإن كانت توبة هذا يجب أن تكون أعظم لعظم كلمته لكن نسبة هذه إلى هذه كنسبة هذه إلى هذه بخلاف من إنما يلعن ويقبح من يعتقده كذابا ثم تبين له أنه كان ضالا في ذلك الاعتقاد وكان في مهواة التلف فتاب ورجع من ذلك الاعتقاد توبة مثله فإنه يندرج فيه جميع ما أوجبه. ومما يقرر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغه سب مرتد أو معاهد سئل أن يعفو عنه بعد الإسلام ودلت سيرته على جواز قتله بعد

إسلامه وتوبته ولو كان مجرد التوبة يغفر لهم بها ما في ضمنها مغفرة تسقط الحد لم يجز ذلك فعلم أنه كان يملك العقوبة على من سبه بعد التوبة كما يملكها غيره من المؤمنين. فهذا الكلام في توبة الساب فيما بينه وبين الله هل تسقط حق الرسول أم لا؟ وبكل حال سواء أسقطت أم لم تسقط لا يقتضي ذلك أن إظهارها مسقط للحد إلا أن يقال: هو مقتول لمحض الردة أو محض نقض العهد فإن توبة المرتد مقبولة وإسلام من جرد نقض العهد مقبول مسقط للقتل. وقد قدمنا فيما مضى بالأدلة القاطعة أن هذا مقتول لردة مغلظة ونقض مغلظ بمنزلة من حارب وسعى في الأرض فسادا. ثم من قال: "يقتل حقا لآدمي" قال: العقوبة إذا تعلق بها حقان حق لله وحق لآدمي ثم تاب سقط حق الله وبقي حق الآدمي من القود وهذا التائب إذا تاب سقط حق الله وبقي حق الآدمي. ومن قال: "يقتل حدا لله" قال: هو بمنزلة المحارب وقد يسوى بين من سب الله وبين من سب الرسول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقولهم في المقدمة الثانية: "إذا أظهر التوبة وجب أن نقبلها منه" قلنا: هذا مبني على أن هذه التوبة مقبولة مطلقا وقد تقدم الكلام فيه. ثم الجواب هنا من وجهين: أحدهما: القول بموجب ذلك فإنا نقبل منه هذه التوبة ونحكم بصحة إسلامه كما نقبل توبة القاذف ونحكم بعدالته ونقبل توبة السارق وغيرهم لكن الكلام في سقوط القتل عنه ومن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء من الحدود الواجبة بقدر زائد على الردة أو النقض ومن تاب قبلها لم تسقط

عنه حقوق العباد إذا قبلنا توبته أن يطهر بإقامة الحد عليه كسائر هؤلاء وذلك أنا نحن لا ننازع في صحة توبته ومغفرة الله له مطلقا فإن ذلك إلى الله وإنما الكلام في: هل هذه التوبة مسقطة للحد عنه وليس في الحديث ما يدل على ذلك فإنا قد نقبل إسلامه وتوبته ونقيم عليه الحد تطهيرا له وهذا جواب من يقتله حدا محضا مع الحكم بصحة إسلامه. الثاني: أن هذا الحديث في قبول الظاهر إذا لم يثبت خلافه بطريق شرعي وهنا قد ثبت خلافه وهذا جواب من يقتله لزندقته وقد يجيب به من يقتل الذمي أيضا بناء على أنه زنديق في حال العهد فلا يوثق بإسلامه. وأما إسلام الحربي والمرتد ونحوهما عند معاينة القتل فإنما جاز لأنا إنما نقاتلهم لأن يسلموا ولا طريق إلى الإسلام إلا ما يقولونه بألسنتهم فوجب قبول ذلك منهم وإن كانوا في الباطن كاذبين وإلا لوجب قتل كل كافر أسلم أو لم يسلم ولا تكون المقاتلة حتى يسلموا بل يكون القتال دائما وهذا باطل ثم إنه قد يسلم الآن كارها ثم إن الله يحبب إليه الإيمان ويزينه في قلبه كذلك أكثر من يسلم لرغبته في المال ونحوه أو لرهبته من السيف ونحوه ولا دليل يدل على فساد الإسلام إلا كونه مكرها عليه بحق وهذا لا يلتفت إليه. أما هنا فإنما نقتله لما مضى من جرمه من السب كما نقتل الذمي لقتله النفس أو لزناه بمسلمة وكما نقتل المرتد لقتله مسلما ولقطعه الطريق كما تقدم تقريره فليس مقصودنا بإرادة قتله أن يسلم ولا تجب مقاتلته على أن يسلم بل نحن نقتله جزاء له على ما آذانا ونكالا لأمثاله على مثل هذه الجريمة فإذا أسلم فإن صححنا إسلامه لم يمنع ذلك وجوب قتله كالمحارب المرتد

أو الناقض إذا أسلم بعد القدرة وقد قتل فإنه يقتل وفاقا فيما علمناه وإن حكم بصحة إسلامه وإن لم يصحح إسلامه فالفرق بينه وبين الحربي والمرتد من وجهين: أحدهما: أن الحربي والمرتد لم يتقدم منه ما دل على أن باطنه بخلاف ظاهره بل إظهاره للردة لما ارتد دليل على أن ما يظهره من الإسلام صحيح وهذا ما زال مظهر للإسلام وقد أظهر ما دل على فساد عقده فلم يوثق بما يظهره من الإسلام بعد ذلك وكذلك ناقض العهد قد عاهدنا على أن لا يسب وقد سب فثبتت جنايته وغدره فإذا أظهر الإسلام بعد أن أخذ ليقتل كان أولى أن يخون ويغدر فإنه كان ممنوعا من إظهار السب فقط وهو لم يف بذلك فكيف إذا أصبح ممنوعا من إظهاره وإسراره؟ ولم يكن له عذر فيما فعله من السب بل كان محرما عليه في دينه فإذا لم يف به صار من المنافقين في العهد. الثاني: أن الحربي أو المرتد نحن نطلب منه أن يسلم فإذا أعطانا ما أردناه بحسب قدرته وجب قبوله منه والحكم بصحته والساب لا نطلب منه إلا القتل عينا فإذا أسلم ظهر أنما أسلم ليدرأ عن نفسه القتل الواجب عليه كما إذا تاب المحارب بعد القدرة عليه أو أسلم أو تاب سائر الجناة بعد أخذهم فلا يكون الظاهر صحة هذا الإسلام فلا يسقط ما وجب من الحد قبله. وحقيقة الأمر أن الحربي والمرتد يقتل لكفر حاضر ويقاتل ليسلم فلا يمكن أن يظهر وهو مقاتل أو مأخوذ الإسلام إلا مكرها فوجب قبوله منه إذ لا يمكن بذله إلا هكذا وهذا الساب والناقض لم يقتل لمقامه على الكفر أو كونه بمنزلة سائر الكفار غير المعاهدين لما ذكرناه من الأدلة

الدالة على أن السب مؤثر في قتله ويكون قد بذل التوبة التي لم تطلب منه في حال الأخذ للعقوبة فلا تقبل منه. وعلى هذين المأخذين ينبني الحكم بصحة إسلام هذا الساب في هذه الحال مع القول بوجوب قتله. أحدهما: لا يحكم بصحة إسلامه وهو مقتضى قول ابن القاسم وغيره من المالكية. والثاني: يحكم بصحة إسلامه وعليه يدل كلام الإمام أحمد وأصحابه في الذمي مع وجوب إقامة الحد وأما المسلم إذا سب ثم قتل بعد أن أسلم فمن قال: "يقتل عقوبة على السب لكونه حق آدمي أو حدا محضا لله" قال بصحة هذا الإسلام وقبله وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم وهو قول من قال يقتل من أصحاب الشافعي. وكذلك من قال: "يقتل من سب الله" ومن قال: "يقتل لزندقته" أجرى عليه إذا قتل بعد إظهار الإسلام أحكام الزنادقة وهو قول كثير من المالكية وعليه يدل كلام بعض أصحابنا وعلى ذلك ينبني الجواب عما احتج به من قبول النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر الإسلام من المنافقين فإن الحجة إما أن تكون في قبول ظاهر الإسلام منهم في الجملة فهذا لا حجة فيه من أربعة أوجه قد تقدم ذكرها. أحدها: أن الإسلام إنما قبل منهم حيث لم يثبت عنهم خلافه وكانوا ينكرون أنهم تكلموا بخلافه فأما أن البينة تقوم عند رسول الله عليه الصلاة والسلام على كفر رجل بعينه فيكف عنه فهذا لم يقع قط إلا أن يكون في بادئ الأمر. الثاني: أنه كان في أول الأمر مأمورا في مبادئ الأمر أن يدع أذاهم

ويصبر عليهم لمصلحة التأليف وخشية التنفير إلى أن نسخ ذلك بقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} . الثالث: أنا نقول بموجبه فنقبل من هذا الإسلام ونقيم عليه حد السب كما لو أتى حدا غيره وهذا جواب من يصحح إسلامه ويقتله حدا لفساد السب. الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستتب أحدا منهم ويعرضه على السيف ليتوب ممن مقالة صدرت منه مع أن هذا مجمع على وجوبه فإن الرجل منهم إذا شهد عليه بالكفر والزندقة فإما أن يقتل عينا أو يستتاب فإن لم يتب وإلا قتل. وأما الاكتفاء منه بمجرد الجحود فما أعلم به قائلا بل أقل ما قيل فيه أنه يكتفي منهم بالنطق بالشهادتين والتبري من تلك المقالة فإذا لم تكن السيرة في المنافقين كانت هكذا علم أن ترك هذا الحكم لفوات شرطه وهو إما ثبوت النفاق أو العجز عن إقامة الحد أو مصلحة التأليف في حال الضعف حتى قوي الدين فنسخ ذلك. وإن كان الاحتجاج بقبول ظاهر الإسلام ممن سب فعنه جواب خامس وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يعفو عمن شتمه في حياته وليس هذا العفو لأحد من الناس بعده. وأما تسمية الصحابة الساب غادرا محاربا فهو بيان لحل دمه وليس كل من نقض العهد وحارب سقط القتل عنه بإسلامه بدليل ما لو قتل مسلما أو قطع الطريق عليه أو زنى بمسلمة بل تسميته محاربا مع كون السب فسادا يوجب دخوله في حكم الآية كما تقدم.

وأما الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه ثم عفا عنهم فالجواب عن ذلك كله قد تقدم في المسألة الأولى لما ذكرنا قصصهم وبينا أن السب غلب فيه حق الرسول إذا علم فله أن يعفو وأن ينتقم وليس في هؤلاء ما يدل على أن العقوبة إنما سقطت عنهم مع عفوه وصفحه لمن تأمل أحوالهم معه والتفريق بينهم وبين من لم يهجه ولم يسبه. وأيضا فهؤلاء كانوا محاربين والحربي لا يؤخذ بما أصابه من المسلمين من دم أو مال أو عرض والمسلم والمعاهد يؤخذ بذلك. وقولهم: "الذمي يعتقد حل السب كما يعتقده الحربي وإن لم يعتقد حل الدم والمال" غلط فإن عقد الذمة منعهم من الطعن في ديننا وأوجب عليهم الكف عن أن يسبوا نبينا كما منعهم دماءنا وأموالنا وأبلغ فهو إن لم يعتقد تحريمه للدين فهو يعتقد تحريمه للعهد كاعتقادنا نحن في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ونحن لم نعاهد على أن نكف عن سب دينهم الباطل وإظهار معايبهم بل عاهدناهم على أن يظهروا في دارنا ما شئنا وأن يلتزموا جريان أحكامنا عليهم وإلا فأين الصغار؟. وأما قولهم: "الذمي إذا سب فإما أن يقتل لكفره وحرابه كما يقتل الحربي الساب أو يقتل حدا من الحدود" قلنا: هذا تقسيم منتشر بل يقتل لكفره وحرابه بعد الذمة وليس من حارب بعد الذمة بمنزلة الحربي الأصلي فإن الذمي إذا قتل مسلما اجتمع عليه أنه نقض العهد وأنه وجب عليه القود فلو عفا ولي الدم قتل لنقض العهد بهذا الفساد وكذلك سائر الأمور المضرة بالمسلمين يقتل بها الذمي إذا فعلها وليس حكمه فيها كحكم الحربي الأصلي إجماعا وإذا قتل لحرابه وفساده بعد العهد فهو حد من الحدود فلا تنافي بين الوصفين حتى يجعل أحدهما قسيما للآخر وقد بينا بالأدلة الواضحة أن قتله

ليس لمجرد كونه كافرا غير ذي عهد بل حد أو عقوبة على سب نبينا الذي أوجبت عليه الذمة تركه والإمساك عنه مع أن السب مستلزم لنقض العهد العاصم لدمه وأنه يصير بالسب محاربا غادرا وليس هو كحد الزنا ونحوه مما لا مضرة علينا فيه وإنما أشبه الحدود به حد المحاربة. وأما قولهم "ليس في السب أكثر من انتهاك العرض وهذا القدر لا يوجب إلا الجلد" ففي الكلام عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن هذا كلام في رأس المسألة فإنه إذا لم يوجب إلا الجلد والأمور الموجبة للجلد لا تنقض العهد لم ينتقض العهد به كسب بعض المسلمين وقد قدمنا الدلالات التي لا تحل مخالفتها على وجوب قتل الذمي إذا فعل ذلك وأنه لا عهد له يعصم دمه مع ذلك وبينا أن انتهاك عرض عموم المسلمين يوجب الجلد وأما انتهاك عرض الرسول فإنه يوجب القتل وقد صولح على الإمساك عن العرضين فمتى انتهك عرض الرسول فقد أتى بما يوجب القتل مع التزامه أن لا يفعله فوجب أن يقتل كما لو قطع الطريق أو زنى والتسوية بين عرض الرسول وعرض غيره في مقدار العقوبة من أفسد القياس. والكلام في الفرق بينهما يعد تكلفا فإنه عرض قد أوجب الله على جميع الخلق أن يقابلوه من الصلاة والسلام والثناء والمدحة والمحبة والتعظيم والتعزير والتوقير والتواضع في الكلام والطاعة للأمر ورعاية الحرمة في أهل البيت والأصحاب بما لا خفاء به على أحد من علماء المؤمنين عرض به قام دين الله وكتابه وعباده المؤمنون به وجبت الجنة لقوم والنار لآخرين به كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس عرض قرن الله ذكره بذكره وجمع بينه وبينه في كتابة واحدة وجعل بيعته بيعة له وطاعته

طاعة له وأذاه أذى له إلى خصائص لا تحصى ولا يقدر قدرها أفيليق لو لم يكن سبه كفرا أن تجعل عقوبة منتهك هذا العرض كعقوبة منتهك عرض غيره؟. ولو فرضنا أن لله نبينا بعثه إلى أمة ولم يوجب على أمة أخرى أن يؤمنوا به عموما ولا خصوصا فسبه رجل ولعنه عالما بنبوته إلى أولئك أفيجوز أن يقال: إن عقوبته وعقوبة من سب واحدا من المؤمنين سواء؟ هذا أفسد من قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا. قولهم: "الذمي يعتقد حل ذلك" قلنا: لا نسلم فإن العهد الذي بيننا وبينه حرم عليه في دينه السب كما حرم عليه دماءنا وأموالنا وأعراضنا فهو إذا أظهر السب يدري أنه قد فعل عظيمة من العظائم التي لم نصالحه عليها ثم إن كان يعلم أن عقوبة ذلك عندنا القتل فبها وإلا فلا يجب لأن مرتكب الحدود يكفيه العلم بالتحريم كمن زنى أو سرق أو شرب أو قذف أو قطع الطريق فإنه إذا علم تحريم ذلك عوقب العقوبة المشروعة وإن كان يظن أن لا عقوبة على ذلك وأن عقوبته دون ما هو مشروع. وأيضا فإن دينهم لا يبيح لهم السب واللعنة للنبي وإن كان دينا باطلا أكثر ما يعتقدون أنه ليس بنبي أو ليس عليهم إتباعه أما أن يعتقدوا أن لعنته وسبه جائزة فكثير منهم أو أكثرهم لا يعتقدون ذلك على أن السب نوعان أحدهما: ما كفروا به واعتقدوه والثاني: ما لم يكفروا به فهذا الثاني لا ريب أنهم لا يعتقدون حله. وأما قولهم: "صولح على ترك ذلك فإذا فعله انتقض العهد" فإنه إذا فعله انتقض عهده وعوقب على نفس تلك الجريمة وإلا كان يستوي حال من ترك العهد ولحق بدار الحرب من غير أذى لنا وحال من قتل وسرق وقطع الطريق وشتم الرسول مع نقض العهد وهذا لا يجوز.

وأما قولهم: "كون القتل حدا حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي" فصحيح وقد تقدمت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والأثر والنظر الدالة على أن نفس السب من حيث خصوصيته موجب للقتل ولم يثبت ذلك استحسانا صرفا واستصلاحا محضا بل أثبتناه بالنصوص وآثار الصحابة وما دل عليه إيماء الشارع وتنبيهه وبما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الخصوصية لهذا السب والحرمة لهذا العرض التي يوجب أن لا يصونه إلا القتل لا سيما إذا قوي الداعي على انتهاكه وخفة حرمته بخفة عقابه وصغر في القلوب مقدار من هو أعظم العالمين قدرا إذا ساوى في قدر العرض زيدا وعمروا وتمضمض بذكره أعداء الدين من كافر غادر ومنافق ماكر فهل يستريب من قلب الشريعة ظهرا لبطن أن محاسنها توجب حفظ هذه الحرمة التي هي أعظم حرمات المخلوقين وحرمتها متعلقة بحرمة رب العالمين بسفك دم واحد من الناس؟ مع قطع النظر عن الكفر والارتداد فإنهما مفسدتان اتحادهما في معنى التعداد ولسنا الآن نتكلم في المصالح المرسلة فإنا لم نحتج إليها في هذه المسألة لما فيها من الأدلة الخاصة الشرعية وإنما ننبه على عظم المصلحة في ذلك بيانا لحكمة الشرع لأن القلوب إلى ما فهمت حكمته أسرع انقيادا والنفوس إذا ما تطلع على مصلحته أعطش أكبادا ثم لو لم يكن في المسألة نص ولا أثر لكان اجتهاد الرأي يقضي بأن يجعل القتل عقوبة هذا الجرم لخصوصه لا لعموم كونه كفرا أو ردة حتى لو فرض تجرده عن ذلك لكان موجبا للقتل أخذا له من قاعدة العقوبات في الشرع فإنه يجعل أعلى العقوبات في مقابلة أرفع الجنايات وأوسطها في مقابلة أوسطها وأدناها في مقابلة أدناها فهذه الجناية إذا انفردت تمتنع أن تجعل في مقابلة الأذى فتقابل بالجلد أو الحبس تسوية بينها وبين الجناية على عرض زيد وعمرو فإنه لا يخفى على من له أدنى نظر بأسباب الشرع أن هذا من أفسد أنواع الاجتهاد ومثله في الفساد خلوها من عقوبة تخصها

وأما جعله في الأوسط كما اعتقده المهاجر بن أبي أمية حتى قطع يد الجارية السابة وقلع ثنيتها فباطل أيضا كما أنكره عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الجناية جناية على أشرف الحرمات ولأنه لا مناسبة بينها وبين أوسط العقوبات من قطع عضو من الأعضاء فتعين أن تقابل بأعلى العقوبات وهو القتل. ولو نزلت بنا نازلة السب وليس معنا فيها أثر يتبع ثم استراب مستريب في أن الواجب إلحاقها بأعلى الجنايات لما عد من بصراء الفقهاء ومثل هذه المصلحة ليست مرسلة بحيث أن لا يشهد لها الشرع بالاعتبار فإذا فرض أنه ليس لها أصل خاص تلحق به ولا بد من الحكم فيها فيجب أن يحكم فيها بما هو أشبه بالأصول الكلية وإذا لم يعمل بالمصلحة لزم العمل بالمفسدة والله لا يحب الفساد. ولا شك أن العلماء في الجملة من أصحابنا وغيرهم قد يختلفون في هذا الضرب من المصالح إذا لم يكن فيها أثر ولا قياس خاص والإمام أحمد قد يتوقف في بعض أفرادها مثل قتل الجاسوس المسلم ونحوه إن جعلت من أفرادها وربما عمل بها وربما تركها إذا لم يكن معه فيها أثر أو قياس خاص ومن تأمل تصاريف الفقهاء علم أنهم يضطرون إلى رعايتها إذا لم يخالف أصلا من الأصول ولم يخالف في اعتبارها الطوائف من أهل الجدل والكلام من أصحابنا وغيرهم ولو أنهم خاضوا مخاض الفقهاء لعلموا أنه لا بد من اعتبارها وذوق الفقه ممن لجج فيه شيء والكلام على حواشيه من غير معرفة أعيان المسائل شيء آخر وأهل الكلام والجدل إنما يتكلمون في القسم الثاني فيلزمون غيرهم ما لا يقدرون على التزامه ويتكلمون في الفقه كلام من لا يعرف إلا أمورا كلية وعمومات إحاطية وللتفاصيل خصوص نظر ودلائل يدركها من عرف أعيان المسائل.

وأثبتناه أيضا بالقياس الخاص وهو القياس على كل من ارتد ونقض العهد على وجه يضر المسلمين مضرة فيها العقوبة بالقتل وبينا أن هذا أخص من مجرد الردة ومجرد نقض العهد وأن الأصول فرقت بينهما. وأثبتناه أيضا بالنافي لحقن دمه وبينا أن هذا حل دمه بما فعله والأدلة العاصمة لم أسلم من مرتد وناقض لا تتناوله لفظا ولا معنى. وقولهم: "القياس في الأسباب لا يصح" خلاف ما عليه الفقهاء وهو قول باطل قطعا لكن ليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك. وقولهم: "معرفة نوع الحكمة وقدرها متعذر" قلنا: لا نسلم هذا على الإطلاق بل قد يمكن وقد يتعذر بل ربما علم قطعا لأن الفرع مشتمل على الحكمة الموجودة في الأصل وزيادة. وقولهم: "هو يخرج السبب عن أن يكون سببا" ليس كذلك فإن سبب السبب لا يمنعه أن يكون سببا والإضافة إلى السبب لا تقدح في الإضافة إلى سبب السبب والعلم بها ضروري. وأما قولهم: "ليس في الجنايات الموجبة للقتل حدا ما يجوز إلحاق السب بها" قلنا: بل هو يلحق بالردة المقترنة بما يغلظها والنقض المقترن بما يغلظه وإن الفساد الحاصل في السب أبلغ من الفساد الحاصل بتلك الأمور المغلظة كما تقدم بيانه بشواهده من الأصول الشرعية على أن هذا الحكم مستغن عن أصل يقاس به بل هو أصل في نفسه كما تقدم ثم إن هذا الكلام يقابل بما هو أنور منه بيانا وأبهر منه برهانا وذلك أن القول بوجوب الكف عن هذا الساب بعد الاتفاق على حل دمه قول لا دليل عليه إلا قياس له على بعض المرتدين وناقضي العهد مع ظهور الفرق بينهما

ومن قاس الشيء على ما يخالفه ويفارقه كان قياسه فاسدا فإن جعل هذا سببا عاصما قياس لسبب على سبب مع تباينهما في نوع الحكمة وقدرها ثم إنه إخلاء للسب الذي هو أعظم الجناية على الأعراض من العقوبات ولا عهد لنا بهذا في الشرع فهو إثبات حكم خارج عن القياس وجعل لكونه موجبا للقتل موجبا لكونه أهون من أعراض الناس في باب السقوط وهذا تعليق على العلة ضد مقتضاها وخروج عن موجب الأصول فإن العقوبات لا يكون تغلظها في الوجوب سببا لتخفيفها في السقوط قط لكن إن كان جنسها مما يسقط سقطت خفيفة كانت أو غليظة كحقوق الله في بعض المواضع ولم تسقط خفيفة كانت أو غليظة كحقوق العباد. ثم إن القول باستتابة الساب قول يخالف كتاب الله ويخالف صريح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وأصحابه والقول بأن لا حق للرسول على الساب إذا أسلم الذمي أو المسلم ولا عقوبة له عليه قول يخالف المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخالف أصول الشريعة ويثبت حكما ليس له أصل ولا نظير إلا أن يلحق بما ليس مثلا له. الجواب الثاني: أنا لم ندع أن مجرد السب موجب للقتل وإنما بينا أن كل سب فهو محاربة ونقض للعهد بما يضر المسلمين فيقتل بمجموع الأمرين السب ونقض العهد ولا يجوز أن يقال: خصوص السب عديم التأثير فإن فساد هذا معلوم قطعا بما ذكرناه من الأدلة القاطعة على تأثيره وإذا كان كذلك فلم نثبته سببا خارجا عن الأسباب المعهودة وإنما هو مغلظ للسبب المعروف وهو الكفر كما أن قتل النفس موجب لحل دمه ثم إن كان قد قتله في المحاربة تغلظ بتحتم القتل وإلا بقي الأمر فيه إلى الأولياء

ومعلوم أن المقتول من قطاع الطريق لا يقال فيه "قتل قودا ولا قصاصا" حتى يرتب عليه أحكام من يجب عليه القود وإنما يضاف القتل إلى خصوص جنايته وهو القتل في المحاربة كذلك هنا الموجب هو خصوص المحاربة. وقولهم: "الأدلة مترددة بين كون القتل لمجرد المحاربة أو لخصوص السب" قلنا: هي نصوص في أن السب مؤثر تأثيرا زائدا على مطلق تأثير الكفر الخالي عن عهد فلا يجوز إهمال خصوصه بعد اعتبار الشرع له وأن يقال: إنما المؤثر مجرد ما في ضمنه وطيه من زوال العهد ولذلك وجب قتل صاحبه عينا من غير تخيير كما قررنا دلالته فيما مضى وإذا كان كذلك فليس مع المخالف ما يدل على أن القتل المباح يسقط بالإسلام وإن كان هذا من فروع الكفر كما أن الذمي إذا استحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فانتهكها لاعتقاده أنهم كفار وأن ذلك حلال له منهم ثم أسلم فإنه يعاقب على ذلك: إما بالقتل إن كان فيها ما يوجب القتل أو بغيره ولذلك لو استحل ذلك ذمي من ذمي مثل أن يقتل نصراني يهوديا أو يأخذ ماله لاعتقاده أن ذلك حلال له أو يقذفه أو يسبه فإنه يعاقب على ذلك عقوبة مثله وإن أسلم وكذلك لو قطع الطريق على قافلة فيهم مسلمون ومعاهدون فقتل بعض أولئك المسلمين أو المعاهدين قتل لأجل ذلك حتما وانتقض عهده وإن أسلم بعد ذلك وإن كان هذا من فروع الكفر فهذا رجل انتقض عهده بأمر يعتقد حله قبل العهد ولو فعله مسلم لم يقتل عند كثير من الفقهاء إذا كان المقتول ذميا وكل واحد من الكفر ومن القتل مؤثر في قتله وإن كان عهده إنما زال بهذا القتل فهذا نظير السب ثم لو أسلم هذا لم يسقط عنه القتل بل يقتل إما حدا أو قصاصا سواء كان ذلك القتل مما يقتل به المسلم بأن يكون

المقتول مسلما أو لا يقتل به بأن يكون المقتول ذميا وعلى التقديرين يقتل هذا الرجل بعد إسلامه لقطعه الطريق مثلا وقتله ذلك المعاهد من غير أهل دينه وإن كان إنما فعل هذا مستحلا له لكفره وهو قد تاب من ذلك الكفر فتكون التوبة منه توبة من فروعه وذلك لأن هذا الفرع ليس من لوازم الكفر بل هو محرم عليه في دينه لأجل الذمة كما أن تلك الدماء والأموال محرمة عليه لأجل الذمة. ومنشأ الغلط في هذه المسألة اعتقاد أن الذمي يستبيح هذا السب فإن هذا غلط إذ لا فرق بالنسبة إليه بين إظهار الطعن في دين المسلمين وبين سفك دمائهم وأخذ أموالهم إذ الجميع إنما حرمه عليه العهد لا الدين المجرد فكيف لم يندرج أخذه لعرض بعض الأمة أو لعرض واحد من غير أهل دينه من أهل الذمة في ضمن التوبة من كفره مع أنه فرعه واندرج أخذه لعرض نبينا عليه الصلاة والسلام في ضمن التوبة من كفره؟. الجواب الثالث: هب أنه إنما يقتل للكفر والحراب فقوله: "الإسلام يسقط القتل الثابت للكفر والحراب بالاتفاق" غلط وذلك أنا إنما اتفقنا على أنه يسقط القتل الثابت للكفر والحراب الأصلي فإن ذلك إذا أسلم لم يؤخذ بما أصاب في الجاهلية من دم أو مال أو عرض للمسلمين أما الحراب الطارىء فمن الذي وافق على أن القتل الثابت بجميع أنواعه يسقط بالإسلام؟ نعم نوافق على ما إذا نقض العهد بما لا ضرر على المسلمين فيه ثم أسلم أما إذا أسلم ثم حارب وأفسد بقطع طريق أو زنى بمسلمة أو قتل مسلم أو طعن في الدين فهذا يقتل بكل حال كما دل عليه الكتاب والسنة وهو يقتل في مواضع بالإجماع كما إذا قتل في المحاربة وحيث لم يكن مجمعا عليه فهو كمحل النزاع والقرآن يدل على أنه

يقتل لأنه إنما استثنى من تاب قبل القدرة في الجملة فهذه المقدمة ممنوعة والتمييز بين أنواع الحراب يكشف اللبس. وأما ما ذكروه من أن الكافر أو المسلم إذا سب فيما بينه وبين الله وقذف الأنبياء ثم تاب قبل الله توبته ولم يطالبه النبي بموجب قذفه في الدنيا ولا في الآخرة وأن الإسلام يجب قذف اليهود لمريم وابنها وقولهم في الأنبياء والرسل فهو كما قالوا ولا ينبغي أن يستراب في مثل هذا وقد صرح به بعض أصحابنا وغيرهم وقالوا: إنما الخلاف في سقوط القتل عنه أما توبته وإسلامه فيما بينه وبين الله فمقبولة فإن الله يقبل التوبة عن عباده من الذنوب كلها وعموم الحكم في توبة المسلم والذمي فأما توبة المسلم فقد تقدم القول فيها وأما توبة الذي من ذلك فإن كان ذلك السب ليس ناقضا للعهد بأن يقوله سرا فتوبته منه كتوبة الحربي من جميع ما يقوله ويفعله وتوبة الذمي من جميع ما يقر عليه من الكفر فإن هذا لم يكن ممنوعا منه بعقد الذمة وليس كلامنا فيه وبه يخرج الجواب عما ذكروه فإن السب الذي قامت الأدلة على مغفرته بالإسلام ليس هو السب الذي ينتقض به عهد الذمي إذا فعله وإنما فرق في الذمي بين الجهر بالسب والإسرار به بخلاف المسلم لأن ما يسره من السب لا يمنعه منه إيمان ولا أمان ألا ترى أنه لو قذف واحدا من المسلمين سرا مستحلا لذلك ثم أسلم كما لو قذفه وهو حربي ثم أسلم ومعلوم أن الكافر الذي لا عهد معه يمنعه من شيء متى أسلم سقط عنه جميع الذنوب تبعا للكفر نعم لو أتى من السب بما يعتقده حراما في دينه ثم أسلم ففي سقوط حق المسبوب هنا نظر ونظيره أن يسب الأنبياء بما يعتقده محرما في دينه وأما إن كان السب ناقضا للعهد فإظهاره له مستحلا له في الأصل وغير مستحل كقتله المسلم مستحلا أو غير مستحل فالتوبة هنا تسقط حق الله في الباطن وأما إسقاطها لحق الآدمي

ففيه نظر والذي يقتضيه القياس أنه كتوبة المسلم: إن كان قد بلغ المشتوم فلا بد من استحلاله وإن لم يبلغه ففيه خلاف مشهور وذلك لأنه حق آدمي يعتقده محرما عليه وقد انتهكه فهو كما لو قتل المعاهد مسلما سرا ثم أسلم وتاب أو أخذ له مالا سرا ثم أسلم فإن إسلامه لم يسقط عنه حق الآدمي الذي كان يعتقده محرما بالعهد لا ظاهرا ولا باطنا وهذا معنى قول من قال من أصحابنا: "إن توبته فيما بينه وبين الله مقبولة" فإن الله يقبل التوبة من الذنوب كلها وإن الله يقبل التوبة من حقوقه مطلقا أما من حقوق العباد فإن التوبة لا تبطل حقوقهم بل إما أن يستوفيها صاحبها ممن ظلمه أو يعوضه الله عنها من فضله العظيم. وجماع هذا الأمر أن التوبة من كل شيء كان يستحله في كفره تسقط حقوق الله وحقوق العباد ظاهرا وباطنا لكن السب الذي نتكلم فيه هو السب الذي يظهره الذمي وليس هذا مما كان يستحله كما لم يكن يستحل دماءنا وأموالنا وإن كان ذلك مما يستحله لولا العهد. وقد تقدم ذكر هذا وبينا أن العهد يحرم عليه في دينه كثيرا مما كان يعتقده حلالا لولا العهد ونظير هذا توبة المرتد من السب الذي يعتقد صحته وأما ما لم يكن يستحله وهو إظهار السب ففيه حقان: حق الله وحق للآدمي فتوبته تسقط فيما بينه وبين الله حقه لكن لا يلزم أن تسقط حق الآدمي في الباطن فهذا الكلام على قبول التوبة فيما بينه وبين الله. وحينئذ فالجواب من وجوه: أحدها: أن الموضع الذي ثبت فيه قبول توبته فيما بينه وبين الله من حق الله وحق عباده ليس هو الموضع الذي ينتقض فيه عهده ويقتل وإن تاب فإن ادعى أنه يسقط حق العباد في جميع الصور فهذا محل منع لما فيه من

الخلاف فلا بد من إقامة الدلالة على ذلك والأدلة المذكورة لم تتناول السب الظاهر الذي ينتقض به العهد. الوجه الثاني: أن صحة التوبة فيما بينه وبين الله لا تسقط حقوق العباد من العقوبة المشروعة في الدنيا فإن من تاب من قتل أو قذف أو قطع طريق أو غير ذلك فيما بينه وبين الله فإن ذلك لا يسقط حقوق العباد من القود وحد القذف وضمان المال وهذا السب فيه حق لآدمي فإن كانت التوبة يغفر له بها ذنبه المتعلق بحق الله وحق عباده فإن ذلك لا يوجب سقوط حقوق العباد من العقوبة. الوجه الثالث: أن من يقول بقبول التوبة من ذلك في الباطن بكل حال يقول: إن توبة العبد فيما بينه وبين الله ممكنه من جميع الذنوب حتى إنه لو سب سرا آحادا من الناس موتى ثم تاب واستغفر لهم بدل سبهم لرجي أن يغفر الله له ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها فكذلك ساب الأنبياء والرسل لو لم تقبل توبته وتغفر زلته لانسد باب التوبة وقطع طريق المغفرة والرحمة وقد قال تعالى لما نهى عن الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فعلم أن المغتاب له سبيل إلى التوبة بكل حال وإن كان الذي اغتيب ميتا أو غائبا بل على أصح الروايتين ليس عليه أن يستحله في الدنيا إذا لم يكن علم فإن فساد ذلك أكثر من صلاحه وفي الأثر: "كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته" وقد قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أما إذا كان الرسول حيا وقد بلغه السب فقد يقول هنا: إن التوبة لا تصح حتى يستحل الرسول ويعفو الرسول عنه كما فعل أنس بن زنيم وأبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وابن الزبعرى وإحدى القينتين

وكعب بن زهير وغيرهم كما دلت عليه السيرة لمن تدبرها وقد قال كعب بن زهير: نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول وإنما يطلب العفو في شيء يجوز فيه العفو والانتقام وإنما يقال "أوعده" إذا كان حكم الإيعاد باقيا بعد الإسلام وإلا فلو كان الإيعاد معلقا ببقائه على الكفر لم يبق إيعاد. إذا تقرر هذا فصحة التوبة فيما بينه وبين الله وسقوط حق الرسول بما أبدله من الإيمان به الموجب لحقوقه لا يمنع أن يقيم عليه حد الرسول إذا ثبت عند السلطان وإن أظهر التوبة بعد ذلك كالتوبة من جميع الكبائر الموجبة للعقوبات المشروعة سواء كانت حقا لله أو حقا لآدمي فإن توبة العبد فيما بينه وبين الله بحسب الإمكان صحيحة مع أنه إذا ظهر عليه أقيم عليه الحد وقد أسلفنا أن سب الرسول فيه حق لله وحق لآدمي وأنه من كلا الوجهين يجب استيفاؤه إذا رفع إلى السلطان وإن أظهر الجاني التوبة بعد الشهادة عليه. وأما ما ذكره من كون سب الرسول ليس بأعظم من سب الله وأن ما فيه من الشرف فلأجله ففي الجواب عنه طريقان: أحدهما: أنه لا فرق بين البابين فإن ساب الله أيضا يقتل ولا تسقط التوبة القتل عنه إما لكونه دليلا على الزندقة في الإيمان والأمان أو لكونه ليس مجرد ردة ونقض وإنما هو من باب الاستخفاف بالله والاستهانة ومثل هذا لا يسقط القتل عنه إذا تاب بعد الشهادة عليه كما لا يسقط القتل عنه إذا انتهك محارمه فإن انتهاك حرمته أعظم من انتهاك محارمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك ومن قاله من أصحابنا وغيرهم ومن أجاب بهذا لم يورد عليه صحة إسلام النصراني ونحوه وقبول توبتهم لأنه لا خلاف في قبول

التوبة فيما بينه وبين الله وفي قبول التوبة مطلقا إذا لم يظهروا السب وإنما الخلاف فيما إذا أظهر النصراني ما هو سب وطعن ودعاؤهم إلى التوبة لا يمنع إقامة الحدود عليهم إذا كانوا معاهدين كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} وكانت فتنتهم أنهم ألقوهم في النار حتى كفروا ولو فعل هذا معاهد بمسلم فإنه يقتل وإن أسلم بالاتفاق وإن كانت توبته فيما بينه وبين الله مقبولة. وأيضا فإن مقالات الكفار التي يعتقدونها ليست من السب المذكور فإنهم يعتقدون هذا تعظيما لله ودينا له وإنما الكلام في السب الذي هو السب عند الساب وغيره من الناس وفرق بين من يتكلم في حقه بكلام يعتقده تعظيما له وبين من يتكلم بكلام يعلم أنه استهزاء به واستخفاف به ولهذا فرق في القتل والزنى والسرقة والشرب والقذف ونحوهن بين المستحل لذلك المعذور وبين من يعلم التحريم. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر" وقوله فيما يروي عن ربه عز وجل: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" فإن من سب الدهر من الخلق لم يقصد سب الله سبحانه وإنما يقصد أن يسب من فعل به ذلك الفعل مضيفا له إلى الدهر فيقع السب على الله لأنه هو الفاعل في الحقيقة وسواء قلنا أنه الدهر اسم من أسماء الله تعالى كما قال نعيم بن حماد أو قلنا إنه ليس باسم وإنما قوله: "أنا الدهر" أي أنا الذي أفعل ما ينسبونه إلى الدهر ويوقعون السب عليه كما قاله أبو عبيدة والأكثرون ولهذا لا يكفر من سب الدهر ولا يقتل لكن يؤدب ويعزر لسوء منطقه والسب المذكور في قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً

بِغَيْرِ عِلْمٍ} قد قيل: إن المسلمين كانوا إذا سبوا آلهة الكفار سب الكفار من يأمرهم بذلك وإلههم الذين يعبدونه معرضين عن كونه ربهم وإلههم فيقع سبهم على الله لأنه إلهنا ومعبودنا فيكونوا سابين لموصوف وهو الله سبحانه ولهذا قال سبحانه: {عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهو شبيه بسب الدهر من بعض الوجوه وقيل: كانوا يصرحون بسب الله عدوا وغلوا وفي الكفر قال قتادة: "كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله بغير علم فانزل الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} " وقال أيضا: "كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله" وذلك أنه في اللجاجة أن يسب الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا كما قال بعض الحمقى: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم ... كفرا بكفر وإيمانا بإيمان وكما يقول بعض الجهال: مقابلة الفاسد بمثله وكما قد تحمل بعض جهال المسلمين الحمية على أن يسب عيسى إذا جاهره المحاربون بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من الموجبات للقتل. الطريقة الثانية: طريقة من فرق بين سب الله وسب رسوله وذلك من وجوه: أحدها: أن سب الله حق محض لله وذلك يسقط بالتوبة كالزنى والسرقة وشرب الخمر وسب النبي صلى الله عليه وسلم فيه حقان: لله وللعبد فلا يسقط حق الآدمي بالتوبة كالقتل في المحاربة هذا فرق القاضي أبي يعلى في خلافه. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلحقه المعرة بالسب لأنه

مخلوق وهو من جنس الآدميين الذين تلحقهم المعرة والغضاضة بالسب والشتم وكذلك يثابون على سبهم ويعطيهم الله من حسنات الشاتم أو من عنده عوضا على ما أصابهم من المصيبة بالشتم فمن سبه فقد انتقص حرمته والخالق سبحانه لا تلحقه معرة ولا غضاضة بذلك فإنه منزه عن لحوق المنافع والمضار كما قال سبحانه فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" وإذا كان سب النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤثر انتقاصه في النفوس وتلحقه بذلك معرة وضيم وربما كان سببا للتنفير عنه وقلة هيبته وسقوط حرمته شرعت العقوبة على خصوص الفساد الحاصل بسبه فلا تسقط بالتوبة كالعقوبة على جميع الجرائم وأما ساب الله سبحانه فإنه يضر نفسه بمنزلة الكافر والمرتد فمتى تاب زال ضرر نفسه فلا يقتل. وهذا الفرق ذكره طوائف من المالكية والشافعية والحنابلة منهم القاضي عبد الوهاب بن نصر والقاضي أبو يعلي في "المجرد" وأبو علي بن البناء وابن عقيل وغيرهم وهو يتوجه مع قولنا: إن سب النبي صلى الله عليه وسلم حد لله كالزنى والسرقة. يؤيد ذلك أن القذف بالكفر أعظم من القذف بالزنا ثم لم يشرع عليه حد مقدر كما شرع على الرمي بالزنا وذلك لأن المقذوف بالكفر لا يلحقه العار الذي يلحقه بالرمي بالزنا لأنه بما يظهر من الإيمان يعلم كذب القاذف وبما يظهره من التوبة تزول عنه تلك المعرة بخلاف الزنا فإنه يستسر به ولا يمكنه إظهار البراءة منه ولا تزول معرته في عرف الناس عند إظهار التوبة فكذلك ساب الرسول يلحق بالدين وأهله من المعرة ما لا يلحقهم إذا سب الله لكون المنافي لسب الله ظاهرا معلوما لكل أحد يشترك فيه كل الناس.

الوجه الثالث: أن عليه الصلاة والسلام إنما يسب على وجه الاستخفاف به والاستهانة وللنفوس الكافرة والمنافقة إلى ذلك داع: من جهة الحسد على ما آتاه الله من فضله ومن جهة المخالفة في دينه ومن جهة الانقهار تحت حكم دينه وشرعه ومن جهة المراغمة لأمته وكل مفسدة يكون إليها داع فلا بد من شرع العقوبة عليها حدا وكل ما شرعت العقوبة عليه لم يسقط بالتوبة كسائر الجرائم وأما سب الله سبحانه فإنه لا يقع في الغالب استخفافا واستهانة وإنما يقع تدينا واعتقادا وليس للنفوس في الغالب داع إلى إلقاء السب إلا عن اعتقاد يرونه تعظيما وتمجيدا وإذا كان كذلك لم يحتج خصوص السب إلى شرع زاجر بل هو نوع من الكفر فيقتل الإنسان عليه كردته وكفره إلا أن يتوب. وهذا الوجه من نمط الذي قبله والفرق بينهما أن ذلك بيان لأن مفسدة السب لا تزول بإظهار التوبة بخلاف مفسدة سب الله تعالى والثاني بيان لأن سب الرسول إليه داع طبعي فيشرع الزجر عليه لخصوصه كشرب الخمر وسب الله تعالى ليس إليه داع طبعي فلا يحتاج خصوصه إلى زجر آخر كشرب البول وأكل الميتة والدم. والوجه الرابع: أن سب النبي عليه الصلاة والسلام حد وجب لسب آدمي ميت لم يعلم أنه عفا عنه وذلك لا يسقط بالتوبة بخلاف سب الله تعالى فإنه قد علم أنه قد عفا عمن سبه إذا تاب وذلك أن سب الرسول متردد في سقوطه حده بالتوبة بين سب الله وسب سائر الآدميين فيجب إلحاقه بأشبه الأصلين به ومعلوم أن سب الآدمي إنما لم تسقط عقوبته بالتوبة لأن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء حقوقهم ولا ينتفعون بتوبة التائب فإذا تاب من للآدمي عليه حق قصاص أو قذف فإن له أن يأخذه منه لينتفع

به تشفيا ودرك ثأر وصيانة عرض وحق الله قد علم سقوطه بالتوبة لأنه سبحانه إنما أوجب الحقوق لينتفع بها العباد فإذا رجعوا إلى ما ينفعهم حصل مقصود الإيجاب وحينئذ فلا ريب أن حرمة الرسول ألحقت بحرمة الله من جهة التغليظ لأن الطعن فيه طعن في دين الله وكتابه وهو من الخلق الذين لا تسقط حقوقهم بالتوبة لأنهم ينتفعون باستيفاء الحقوق ممن هي عليه وقد ذكرنا ما دل على ذلك من أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان له أن يعاقب من آذاه وإن جاءه تائبا وهو عليه الصلاة والسلام كما أنه بلغ الرسالة لينتفع بها العباد فإذا تابوا ورجعوا إلى ما أمرهم به فقد حصل مقصوده فهو أيضا يتألم بأذاهم له فله أن يعاقب من آذاه تحصيلا لمصلحة نفسه كما أنه يأكل ويشرب فإن تمكين البشر من استيفاء حقه ممن بغى عليه من جملة مصالح الإنسان ولولا ذلك لماتت النفوس غما ثم إليه الخيرة في العفو والانتقام فقد تترجح عنده مصلحة الانتقام فيكون فاعلا لأمر مباح وحظ جائز كما له أن يتزوج النساء وقد يترجح العفو والأنبياء عليهم السلام منهم من كان قد يترجح عنده أحيانا الانتقام ويشدد الله قلوبهم فيه حتى تكون أشد من الصخر كنوح وموسى ومنهم من كان يترجح عنده العفو فيلين الله قلوبهم فيه حتى تكون ألين من اللبن كإبراهيم وعيسى فإذا تعذر عفوه عن حقه تعين استيفاؤه وإلا لزم إهدار حقه بالكلية. قولهم: "إذا سقط المتبوع بالإسلام فالتابع أولى". قلنا: هو تابع من حيث تغلظت عقوبته لا من حيث إن له حقا في الاستيفاء لا ينجبر بالتوبة. قولهم: "ساب الواحد من الناس لا يختلف حاله بين ما قبل الإسلام وبعده بخلاف ساب الرسول".

عنه جوابان: أحدهما: المنع فإن سب الذمي للمسلم جائز عنده لأنه يعتقد كفره وضلاله وإنما يحرمه عنده العهد الذي بيننا وبينه فلا فرق بينهما وإن فرض الكلام في سب خارج عن الدين مثل الرمي بالزنا والافتراء عليه ونحو ذلك فلا فرق في ذلك بين سب الرسول وسب الواحد من أهل الأمة ولا ريب أن الكافر إذا أسلم صار أخا للمسلمين يؤذيه ما يؤذيهم وصار معتقدا لحرمة أعراضهم وزال المبيح لانتهاك أعراضهم ومع ذلك لا يسقط حق المشتوم بإسلامه وقد تقدم هذا الوجه غير مرة. الثاني: أن شاتم الواحد من الناس لو تاب وأظهر براءة المشتوم وأثنى عليه ودعا له بعد رفعه إلى السلطان كان له أن يستوفي حده مع ذلك فلا فرق بينه وبين شاتم الرسول إذا أظهر اعتقاد رسالته وعلو منزلته وسبب ذلك أن إظهار مثل هذه التوبة لا يزيل ما لحق المشتوم من الغضاضة والمعرة بل قد يحمل ذلك على خوف العقوبة وتبقى آثار السب الأول جارحة فإن لم يمكن المشتوم من أخذ حقه بكل حال لم يندمل جرحه. قولهم: "القتل حق الرسالة وأما البشرية فإنما لها حقوق البشرية والتوبة تقطع حق الرسالة". قلنا: لا نسلم ذلك بل هو من حيث هو بشر مفضل في بشريته على الآدميين تفضيلا يوجب قتل سابه ولو كان القتل إنما وجب لكونه قدحا في النبوة لكان مثل غيره من أنواع الكفر ولم يكن خصوص السب موجبا للقتل وقد قدمنا من الأدلة ما يدل على أن خصوص السب موجب للقتل وأنه ليس بمنزلة سائر أنواع الكفر ومن سوى بين الساب للرسول وبين المعرض عن تصديقه فقط في العقوبة فقد خالف الكتاب والسنة الظاهرة والإجماع الماضي وخالف المعقول وسوى بين الشيئين المتباينين

وكون القاذف له لم يجب عليه مع القتل جلد ثمانين أوضح دليل على أن القتل عقوبة لخصوص السب وإلا كان قد اجتمع حقان: حق لله وهو تكذيب رسوله فيوجب القتل وحق لرسوله وهو سبه فيوجب الجلد على هذا الرأي فكان ينبغي قبل التوبة على هذا أن يجتمع عليه الحدان كما لو ارتد وقذف مسلما وبعد التوبة يستوفى منه حد القذف فكان إنما للنبي عليه الصلاة والسلام أن يعاقب من سبه وجاء تائبا بالجلد فقط كما أنه ليس للإمام أن يعاقب قاطع الطريق إذ جاء تائبا إلا بالقود ونحوه مما هو خالص حق الآدمي ولو سلمنا أن القتل حق الرسالة فقط فهو ردة مغلظة بما فيه ضرر أو نقض مغلظ بما فيه ضرر كما لو اقترن بالنقض حراب وفسادا بالفعل من قطع طريق وزنى بمسلمة وغير ذلك فإن القتل هنا حق لله ومع هذا لم يسقط بالتوبة والإسلام وهذا متحقق سواء قلنا إن ساب الله يقتل بعد التوبة أو لا يقتل كما تقدم تقريره. قولهم: "إذا أسلم سقط القتل المتعلق بالرسالة". قلنا: هذا ممنوع أما إذا سوينا بينه وبين سب الله فظاهر وإن فرقنا فإن هذا شبه من باب فعل المحارب لله ورسوله الساعي في الأرض فسادا والحاجة داعية إلى ردع أمثاله كما تقدم وإن سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول وسبه فإن هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع التزام تركها فإن الذمي يلتزم لنا أن لا يظهر السب وليس ملتزما لنا أن لا يكفر به فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما أقررناه عليه؟ وجماع الأمر أن هذه الجناية على الرسالة له نقض يتضمن حرابا وفسادا أو ردة تضمنت فسادا وحرابا وسقوط القتل عن مثل هذا ممنوع كما تقدم.

قولهم: "حق البشرية انغمر في حق الرسالة وحق الآدمي انغمر في حق الله". قلنا: هذه دعوة محضة ولو كان كذلك لما جاز للنبي عليه الصلاة والسلام العفو عمن سبه ولا جاز عقوبته بعد مجيئه تائبا ولا احتيج خصوص السب أن يفرد بذكر العقوبة لعلم كل أحد أن سب الرسول أغلظ من الكفر به فلما جاءت الأحاديث والآثار في خصوص سب الرسول بالقتل علم أن ذلك لخاصة في السب وإن اندرج في عموم الكفر. وأيضا فحق العبد لا ينغمر في حق الله قط نعم العكس موجود كما تندرج عقوبة القاتل والقاذف على عصيانه لله في القود وحد القذف أما أن يندرج حق العبد في حق الله فباطل فإن من جنى جناية واحدة تعلق بها حقان لله ولآدمي ثم سقط حق الله لم يسقط حق الآدمي سواء كان من جنس أو جنسين كما لو جنى جنايات متفرقة كمن قتل في قطع الطريق فإنه إذا سقط عنه تحتم القتل لم يسقط عنه القتل ولو سرق سرقة ثم سقط عنه القطع لم يسقط عنه الغرم بإجماع المسلمين حتى عند من قال "إن القطع والغرم لا يجتمعان" نعم إذا جنى جناية واحدة فيها حقان لله ولآدمي: فإن كان موجب الحقين من جنس واحد تداخلا وإن كانا من جنسين ففي التداخل خلاف معروف مثال الأول قتل المحارب فإنه يوجب القتل حقا لله وللآدمي والقتل لا يتعدد فمتى قتل لم يبق للآدمي حق في تركته من الدية وإن كان له أن يأخذ الدية إذا قتل عدة مقتولين فيقتل ببعضهم عند الشافعي وأحمد وغيرهما أما إن قلنا: "إن موجب العمد القود عينا" فظاهر وإن قلنا: "إن موجبه أحد شيئين" فإنما ذاك حيث يمكن العفو وهنا لا يمكن العفو وصار موجبه القود عينا وولي استيفائه الإمام لأن ولايته أعم ومثال الثاني أخذ المال

سرقة وإتلافه فإنه موجب للقطع حدا لله وموجب للغرم حقا للآدمي ولهذا قال الكوفيون: إن حد الآدمي يدخل في القطع فلا يجب وقال الأكثرون: بل يغرم للآدمي ماله وإن قطعت يده وأما إذا جنى جنايات متفرقة لكل جناية حد فإن كانت لله وهي من جنس واحد تداخلت بالاتفاق وإن كانت من أجناس وفيها القتل تداخلت عند الجمهور ولم تتداخل عند الشافعي وإن كانت للآدمي لم تتداخل عند الجمهور وعند مالك تتداخل في القتل إلا حد القذف فهنا هذا الشاتم الساب لا ريب أنه يتعلق بسبه حق لله وحق لآدمي ونحن نقول: إن موجب كل منهما القتل ومن ينازعنا إما أن يقول: اندرج حق الآدمي في حق الله أو موجبه الجلد فإذا قتل فلا كلام إلا عند من يقول: إن موجبه الجلد فإنه يجب أن يخرج على الخلاف وأما إذا أسقط حق الله في بالتوبة فكيف يسقط حق العبد؟ فإنا لا نحفظ لهذا نظيرا بل النظائر تخالفه كما ذكرناه والسنة تدل على خلافه وإثبات حكم بلا أصل ولا نظير غير جائز بل مخالفته للأصول دليل على بطلانه. وأيضا فهب أن هذا حد محض لله لكن لم يقال: "إنه يسقط بالتوبة"؟ وقد قدمنا أن الردة ونقض العهد نوعان: مجرد ومغلظ فما تغلظ منه بما يضر المسلمين يجب قتل صاحبه بكل حال وإن تاب وبينا أن السب من هذا النوع. وأيضا فأقصى ما يقال أن يلحق هذا السب بسب الله وفيه من الخلاف ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وأما ما ذكر من الفرق بين سب المسلم وسب الكافر فهو وإن كان له توجه كما للتسوية بينهما في السقوط توجه أيضا فإنه معارض بما يدل على أن

الكافر أولى بالقتل لكل حال من المسلم وذلك أن الكافر قد ثبت المبيح لدمه وهو الكفر وإنما عصمه العهد وإظهاره السب لا ريب أنه محاربة لله ورسوله وإفساد في الأرض ونكاية في المسلمين فقد تحقق الفساد من جهته وإظهاره التوبة بعد القدرة عليه لا يوثق بها كتوبة غيره من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا بخلاف من علم منه الإسلام وصدرت منه الكلمة من السب مع إمكان أنها لم تصدر عن اعتقاد بل خرجت سفها أو غلطا فإذا عاد إلى الإسلام مع أنه لم يزل يتدين به لم يعلم منه خلافه كان أولى بقبول توبته لأن ذنبه أصغر وتوبته أقرب إلى الصحة. ثم إنه يجاب عنه بأن إظهار المسلم تجديد الإسلام بمنزلة إظهار الذمي الإسلام لأن الذمي كان يزعه عن إظهار سبه ما أظهره من الأمان كما يزع المسلم ما أظهره من عقد الإيمان فإذا كان المسلم الآن إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فكذلك الذمي إنما يظهر عقد إيمان قد ظهر ما يدل على فساده فإن من يتهم في أمانه يتهم في إيمانه ويكون منافقا في الإيمان كما كان منافقا في الأمان بل ربما كان حال هذا الذي تاب بعد معاينة السيف أشد على المسلمين من حاله قبل التوبة فإنه كان في ذلة الكفر والآن فإنه قد يشرك المسلمين في ظاهر العز مع ما ظهر من نفاقه وخبثه الذي لم يظهر ما يدل على زواله على أن في تعليل سبه بالزندقة نظرا فإن السب أمر ظاهر أظهره ولم يظهر منه ما يدل على استبطانه إياه قبل ذلك ومن الجائز أن يكون قد حدث له ما أوجب الردة. نعم إن كان ممن تكرر ذلك منه أو له دلالات على سوء العقيدة فهنا الزندقة ظاهرة لكن يقال: نحن نقتله لأمرين لكونه زنديقا ولكونه

سابا كما نقتل الذمي لكونه كافرا غير ذي عهد ولكونه سابا فإن الفرق بين المسلم والذمي في الزندقة لا يمنع اجتماعهما في علة أخرى تقضي كون السب موجبا للقتل وإن أحدث الساب اعتقادا صحيحا بعد ذلك بل قد يقال: إن السب إذا كان موجبا للقتل قتل صاحبه وإن كان صحيح الاعتقاد في الباطن حال سبه كسبه لله تعالى وكالقذف في إيجابه للجلد وكسب جميع البشر. وأما الفرق الثاني الذي مبناه على أن السب يوجب قتل المسلم حدا لأن مفسدته لا تزول بسقوطه بتجديد الإسلام بخلاف سب الكافر فمضمونه أنا نرخص لأهل الذمة في إظهار السب إذا أظهروا بعده الإسلام ونأذن لهم أن يشتموا ثم بعد ذلك يسلمون وما هذا إلا بمثابة أن يقال: على الذمي بأنه إذا زنى بمسلمة أو قطع الطريق أخذ فقتل إلا أن يسلم يزعه عن هذه المفاسد إلا أن يكون من يريد الإسلام وإذا أسلم فالإسلام يجب ما كان قبله ومعلوم أن معنى هذا أن الذمي يحتمل منه ما يقوله ويفعله من أنواع المحاربة والفساد إذا قصد أن يسلم بعده وأسلم ومعلوم أن هذا غير جائز فإن الكلمة الواحدة من سب النبي صلى الله عليه وسلم لا تحتمل بإسلام ألوف من الكفار ولأن يظهر دين الله ظهورا يمنع أحدا أن ينطق فيه بطعن أحب إلى الله ورسوله من أن يدخل فيه أقوام وهو منتهك مستهان وكثير ممن يسب الأنبياء من أهل الذمة قد يكون زنديقا لا يبالي إلى أي دين انتسب فلا يبالي أن ينال غرضه من السب ثم يظهر الإسلام كالمنافق سواء ثم هذا يوجب الطمع منهم في عرضه فإنه ما دام العدو يرجو أن يستبقى ولو بوجه لم يزعه ذلك عن إظهار مقصوده في وقت ما ثم إن ثبت ذلك عليه ورفع إلى السلطان وأمر بقتله أظهر الإسلام وإلا

فقد حصل غرضه وكل فساد قصد إزالته بالكلية لم يجعل لفاعله سبيل إلى استبقائه بعد الأخذ كالزنى والسرقة وقطع الطريق فإن كان مقصود الشارع من تطهير الدار من ظهور كلمة الكفر والطعن في الدين أبلغ من مقصوده من تطهيرها من وجود هذه القبائح ابتغى أن يكون تحتم عقوبة من فعل ذلك أبلغ من تحتم عقوبة هؤلاء. وفقه هذا الجواب أن تعلم أن ظهور الطعن في الدين من سب الرسول ونحوه فسادا عريض وراء مجرد الكفر فلا يكون حصول الإسلام ماحيا لذلك الفساد. وأما الفرق الثالث قولهم: "إن الكافر لم يلتزم تحريم السب" فباطل فإنه لا فرق بين إظهاره لسب النبي صلى الله عليه وسلم وبين إظهاره لسب آحاد من المسلمين وبين سفك دمائهم وأخذ أموالهم فإنه لولا العهد لم يكن فرق عنده بيننا وبين سائر من يخالفه في دينه من المحاربين له ومعلوم أنه يستحل ذلك كله منهم ثم إنه بالعهد صار بذلك محرما عليه في دينه منا لأجل العهد فإذا فعل شيئا من ذلك أقيم عليه حده وإن أسلم سواء انتقض عهده بما يفعله أو لم ينتقض فتارة يجب عليه الحد مع بقاء العهد كما لو سرق أو قذف مسلما وتارة ينتقض عهده ولا حد عليه فيصير بمنزلة المحاربين وتارة يجب عليه الحد وينتقض عهده كما إذا سب الرسول أو زنى بمسلمة أو قطع الطريق على المسلمين فهذا يقتل وإن أسلم وعقوبة هذا النوع من الجنايات القتل حتما كعقوبة القاتل في المحاربة من المسلمين جزاء له على ما فعل من الفساد الذي التزم بعقد الإيمان أن لا يفعله مع كون مثل ذلك الفساد موجبا للقتل ونكالا لأمثاله عن فعل مثل هذا إذا علموا أنه لا يترك صاحبه حتى يقتل. فهذا هو الجواب عما ذكر من الحجج للمخالف مع أن فيما تقدم من كلامنا ما يغني عن الجواب لمن تبينت له المآخذ والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل: في مواضيع التوبة. وذلك مبني على التوبة من سائر الجرائم فنقول: لا خلاف علمناه أن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما كان حدا لله من تحتم القتل والصلب والنفي وقطع الرجل وكذلك قطع اليد عند عامة العلماء إلا في وجه لأصحاب الشافعي وقد نص الله على ذلك بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومعنى القدرة عليهم إمكان الحد عليهم لثبوته بالبينة أو الإقرار وكونهم في قبضة المسلمين فإذا تابوا قبل أن يؤخذوا سقط ذلك عنهم. وأما من لم يوجد منه إلا مجرد الردة وقد أظهرها فذلك أيضا تقبل توبته عند العامة إلا ما يروى عن الحسن ومن قيل إنه وافقه. وأما القاتل والقاذف فلا أعلم مخالفا أن توبتهم لا تسقط عنهم حق الآدمي بمعنى أنه إذا طلب بالقود وحد القذف فله ذلك وإن كانوا قد تابوا قبل ذلك. وأما الزاني والسارق والشارب فقد أطلق بعض أصحابنا أنه إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد فهل يسقط عنه الحد؟ على روايتين: أصحهما: أنه يسقط عنه الحد بمجرد التوبة ولا يعتبر مع ذلك إصلاح العمل. والثانية: لا يسقط ويكون من توبته تطهيره بالحد. وقيد بعضهم إذا تاب قبل ثبوت حده عند الإمام وليس بين الكلامين خلاف

في المعنى فإنه لا خلاف أنه لا يسقط في الموضع الذي لا يسقط حد المحارب بتوبته وإن اختلفت عباراتهم: هل ذلك لعدم الحكم بصحة التوبة أو لإفضاء سقوط الحد إلى المفسدة؟ فقال القاضي أبو يعلى وغيره وهو ممن أطلق الروايتين: التوبة غير محكوم بصحتها بعد قدرة الإمام عليه لجواز أن يكون أظهرها تقية من الإمام والخوف من عقوبته قال: ولهذا نقول في توبة الزاني والسارق والشارب: لا يحكم بصحتها بعد علم الإمام بحدهم وثبوته عنده وإنما يحكم بصحتها قبل ذلك قال: وقد ذكره أبو بكر في "الشافي" فقال: "إذا تاب يعني الزاني بعد أن قدر عليه فمن توبته أن يطهر بالرجم أو الجلد وإذا تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته" فمأخذ القاضي أن نفس التوبة المحكوم بصحتها مسقطة للحد في كل موضع فلم يحتج إلى التقييد هو ومن سلك طريقته من أصحابه مثل الشريف أبي جعفر وأبي الخطاب ومأخذ أبي بكر وغيره الفرق بين ما قبل القدرة وبعدها في الجميع مع صحة التوبة بعد القدرة ويكون الحد من تمام التوبة فلهذا قيدوا فلا فرق في الحكم بين القولين والتقييد بذلك موجود في كلام الإمام أحمد نقل عنه أبو الحارث في سارق جاء تائبا ومعه السرقة فردها قبل أن يقدر عليه قال: "لم يقطع" وقال: قال الشعبي: "ليس على تائب قطع" وكذلك نقل حنبل ومهنا في السارق إذا جاء إلى الإمام تائبا: "يدرأ عنه القطع". ونقل عنه الميموني في الرجل إذا اعترف بالزنا أربع مرات ثم تاب قبل أن يقام عليه الحد: إنه تقبل توبته ولا يقام عليه الحد وذكر قصة ماعز إذ وجد مس الحجر فهرب قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهلا تركتموه" قال الميموني: وناظرته في مجلس آخر قال: إذا رجع عما أقر به لم يرجم قلت: فإن تاب؟ قال: من توبته أن يطهر بالرجم قال: ودار بيني وبينه الكلام غير مرة أنه إذا رجع لم يقم عليه وإن تاب فمن توبته أن يطهر بالجلد

قال القاضي: والمذهب الصحيح أنه يسقط بالتوبة كما نقل أبو الحارث وحنبل ومهنا. فتلخص من هذا أنه إذا أظهر التوبة بعد أن ثبت عليه الحد عند الإمام بالبينة لم يسقط عنه الحد وأما إن تاب قبل أن يقدر عليه بأن يتوب قبل أخذه وبعد إقراره الذي له أن يرجع عنه ففيه روايتان وقد صرح بذلك غير واحد من أئمة المذهب منهم الشيخ أبو عبد الله بن حامد قال: "فأما الزنا فإنه لا خلاف أنه فيما بينه وبين الله تصح توبته منه". فأما إذا تاب الزاني وقد رفع إلى الإمام فقول واحد: لا يسقط الحد فأما إن تاب بحضرة الإمام فإنه ينظر فإن كان بإقرار منه ففيه روايتان وإن كان ذلك ببينه فقول واحد: لا يسقط لأنه إذا قامت البينة عليه بالزنا فقد وجب القضاء بالبينة والإقرار بخلاف البينة لأنه إذا رجع عن إقراره قبل منه. وقال في السرقة: لا خلاف أن الحق الذي لله يسقط بالتوبة سواء تاب قبل القطع أو بعده وإنما الخلاف فيمن تاب قبل إقامة الحد فإن كان ذلك قبل أن يرفع إلى الإمام سقط الحد سواء رفع إلى الإمام أو لم يرفع وأما إذا تاب بعد أن رفع إلى الإمام فلا يسقط الحد عنه لأنه حق يتعلق بالإمام فلا يجوز تركه. قال: وكذلك المحارب إذا تاب من حق الله وقد قدمنا أنا إذا قلنا يسقط الحد عن غير قطاع الطريق بالتوبة فإنه يكفي مجرد التوبة وهذا هو المشهور من المذهب كما يكفي ذلك في قطاع الطريق. وفيه وجه ثان: أنه لا بد من إصلاح العمل مع التوبة وعلى هذا فقد قيل: يعتبر مضي مدة يعتبر بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة لأن التوقيت يفتقر إلى توقيف ويتحرج أن يعتبر مضي سنة كما

نص عليه الإمام أحمد في توبة الداعي إلى البدعة أنه يتعين فيه مضي سنة إتباعا لما أمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية صبيغ بن عسل فإنه تاب عنده ثم نفاه إلى البصرة وأمر المسلمين بهجره فلما حال الحول ولم يظهر منه إلا خير أمر المسلمين بكلامه وهذه قضية مشهورة بين الصحابة هذه طريقة أكثر أصحابنا. وظاهر طريقة أبي بكر أنه يفرق بين التوبة قبل أن يقر بأن يجيء تائبا وبين أن يقر ثم يتوب لأن أحمد رضي الله عنه إنما أسقط الحد عمن جاء تائبا فأما إذا أقر ثم تاب فقد رجع أحمد عن القول بسقوط الحد. وللشافعي أيضا في سقوط سائر الحدود غير حد المحارب بالتوبة قولان أصحهما أنه يسقط لكن حد المحارب يسقط بإظهار التوبة قبل القدرة وحد غيره لا يسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح في زمن يوثق بتوبته وقيل: مدة ذلك سنة. هكذا ذكر العراقيون من أصحابه وذكر بعض الخراسانيين أن في توبة المحارب وغيره بعد الظفر قولين إذا اقترن بها الإصلاح واستشكلوا ذلك فيما إذا أنشأ التوبة حيث أخذ لإقامة الحد فإنه لا يؤخر حتى يصلح العمل. ومذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يسقط بالتوبة وذكر بعضهم أن ذلك إجماع وإنما هو إجماع في التوبة بعد ثبوت الحد. فصل. إذا تلخص ذلك فمن سب الرسول صلى الله عليه وسلم ورفع إلى السلطان وثبت ذلك عليه بالبينة ثم أظهر التوبة لم يسقط عنه الحد عند من يقول: "إنه يقتل حدا" سواء تاب قبل أداء البينة أو بعد أداء البينة لأن هذه توبة بعد أخذه والقدرة عليه فهو كما لو تاب قاطع الطريق والزاني والسارق

في هذه الحال وكذلك لو تاب بعد أن أريد رفعه إلى السلطان والبينة بذلك ممكنة وهذا لا ريب فيه والذمي في ذلك كالملي إذا قيل: "إنه يقتل حدا" كما قررناه. وأما إن أقر بالسب ثم تاب أو جاء تائبا منه فذهب المالكية أنه يقتل أيضا لأنه حد من الحدود والحدود لا تسقط عندهم بالتوبة قبل القدرة ولا بعدها ولهم في الزنديق إذا جاء تائبا قولان لكن قال القاضي عياض: "مسألته أقوى لا يتصور فيها الخلاف لأنه حق يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين" وكذلك يقول من يرى أنه يقتله حدا كما يقرر الجمهور ويرى أن التوبة لا تسقط الحد بحال كأحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وأما على المشهور في المذهبين من أن التوبة قبل القدرة تسقط الحد فقد ذكرنا أنما ذاك في حدود الله فأما حدود الآدميين من القود وحد القذف فلا تسقط بالتوبة فعلى هذا لا يسقط القتل عنه وإن تاب قبل القدرة كما لا يسقط القتل قودا عن قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة لأنه حق آدمي ميت فأشبه القود وحد القذف وهذا قول القاضي أبي يعلى وغيره وهو مبني على أن قتله حق لآدمي وأنه لم يعف عنه ولا يسقط إلا بالعفو وهو قول من يفرق بين من سب الله ومن سب رسوله وأما من سوى بين من سب الله ومن سب رسوله وقال: "إن الحدود تسقط بالتوبة قبل القدرة" فإنه يسقط القتل هنا لأنه حد من الحدود الواجبة لله تعالى تاب صاحبه قبل القدرة عليه وهذا موجب قول من قال: "إن توبته تنفعه فيما بينه وبين الله ويسقط عنه حق الرسول في الآخرة" وبه صرح بذلك غير واحد من أصحابنا وغيرهم لأن التوبة المسقطة لحق الله وحق العبد وجدت قبل أخذه لإقامة الحد عليه وذلك أن هذا الحد ليس له عاف عنه فإن لم تكن التوبة مسقطة له لزم أن يكون من الحدود ما لا تسقطه توبة قبل القدرة ولا عفو

وليس لهذا نظير نعم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيا لتوجه أن يقال: لا يسقط الحد إلا عفوه بكل حال. وأما إن أخذ وثبت السب بإقراره ثم تاب أو جاء فأقر بالسب غير مظهر للتوبة ثم تاب فذلك مبني على جواز رجوعه عن هذا الإقرار: فإذا لم يقبل رجوعه أقيم عليه الحد بلا تردد وإن قبل رجوعه وأسقط الحد عمن جاء تائبا ففي سقوطه عن هذا الوجهان المتقدمان وإن أقيم الحد على من جاء تائبا فعلى هذا أولى والقول في الذمي إذا جاء مسلما معترفا أو أسلم بعد إقراره كذلك. فهذا ما يتعلق بالتوبة من السب ذكرنا ما حضرنا ذكره كما يسره الله سبحانه وتعالى. وقد حان أن نذكر المسألة الرابعة فنقول:

المسألة الرابعة: في بيان السب المذكور والفرق بينه وبين مجرد الكفر.

المسألة الرابعة: في بيان السب المذكور والفرق بينه وبين مجرد الكفر. وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة وقد كان يليق أن تذكر في أول المسألة الأولى وذكرها هنا مناسب أيضا لينكشف سر المسألة. وذلك أن نقول: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل. وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بما أنزل الله.

وكذلك قال محمد بن سحنون وهو أحد الأئمة من أصحاب مالك وزمنه قريب من هذه الطبقة: "أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر". وقد نص على مثل هذا غير واحد من الأئمة قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل يا ابن كذا وكذا أعني أنت ومن خلقك: "هذا مرتد عن الإسلام يضرب عنقه" وقال في رواية عبد الله وأبي طالب: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل وذلك أنه إذا شتم فقد ارتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه وسلم" فبين أن هذا مرتد وأن المسلم لا يتصور أن يشتم وهو مسلم. وكذلك نقل عن الشافعي أنه سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى أنه قال: "هو كافر" واستدل بقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: من سب الله كفر سواء كان مازحا أو جادا لهذه الآية وهذا هو الصواب المقطوع به. وقال القاضي أبو يعلى في "المعتمد": "من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله" فإن قال: "لم أستحل ذلك" لم يقبل منه في ظاهر الحكم رواية واحدة وكان مرتدا لأن الظاهر خلاف ما أخبر لأنه لا غرض له في سب الله وسب رسوله إلا لأنه غير معتقد لعبادته غير مصدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويفارق الشارب والقاتل والسارق إذا قال: "أنا غير مستحل لذلك" أنه يصدق في الحكم

لأن له غرضا في فعل هذه الأشياء مع اعتقاد تحريمها وهو ما يتعجل من اللذة قال: وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر الحكم فأما في الباطن فإن كان صادقا فيما قال فهو مسلم كما قلنا في الزنديق: لا تقبل توبته في ظاهر الحكم. وذكر القاضي عن الفقهاء أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم إن كان مستحلا كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر كساب الصحابة وهذا نظير ما يحكى أن بعض الفقهاء من أهل العراق أفتى هارون أمير المؤمنين فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلده حتى أنكر ذلك مالك ورد هذه الفتيا مالك وهو نظير ما حكاه أبو محمد ابن حزم أن بعض الناس لم يكفر المستخف به. وقد ذكر القاضي عياض بعد أن رد هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزم بما نقله من الإجماع عن غير واحد وحمل الحكاية على أن أولئك لم يكونوا ممن يوثق بفتواه لميل الهوى به أو أن الفتيا كانت في كلمة اختلف في كونها سبا أو كانت فيمن تاب ذكر أن الساب إذا أقر بالسب ولم يتب منه قتل كفرا لأن قوله إما صريح كفر كالتكذيب ونحوه أو هو من كلمات الاستهزاء أو الذم فاعترافه بها وترك توبته منها دليل على استحلاله لذلك وهو كفر أيضا قال: فهذا كافر بلا خلاف. وقال في موضع آخر: إن من قتله بلا استتابة فهو لم يره ردة وإنما يوجب القتل فيه حدا وإنما يقول ذلك مع إنكاره ما شهد عليه به أو إظهاره الإقلاع عنه والتوبة ونقتله حدا كالزنديق إذا تاب قال: ونحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد والنبوة وإنكاره ما شهد به عليه أو زعمه أن ذلك كان منه ذهولا ومعصية وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه

قال: وأما من علم أنه سبه معتقدا لاستحلاله فلا شك في كفره بذلك وكذلك إن كان سبه في نفسه كفرا كتكذيبه أو تكفيره ونحوه فهذا ما لا إشكال فيه وكذلك من لم يظهر التوبة واعتراف بما شهد به وصمم عليه فهو كافر بقوله واستحلاله هتك حرمة الله أو حرمة نبيه وهذا أيضا تثبيت منه بأن السب يكفر به لأجل استحلاله له إذا لم يكن في نفسه تكذيبا صريحا. وهذا موضع لا بد من تحريره ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع ما يناقض ما قاله هنا وإنما وقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح وصرح القاضي أبو يعلى بذلك هنا قال عقب أن ذكر ما حكيناه عنه: وعلى هذا لو قال الكافر: "أنا معتقد بقلبي معرفة الله وتوحيده لكني لا آتي بالشهادتين كما لا آتي غيرها من العبادات كسلا" لم يحكم بإسلامه في الظاهر ويحكم به باطنا قال: وقول الإمام أحمد: "من قال إن المعرفة تنفع في القلب من غير أن يتلفظ بها فهو جهمي" محمول على أحد وجهين أحدهما: أنه جهمي في ظاهر الحكم والثاني: على أنه يمتنع من الشهادتين عنادا لأنه احتج أحمد في ذلك بأن إبليس عرف ربة بقلبه ولم يكن مؤمنا ومعلوم أن إبليس اعتقد أنه لا يلزم امتثال أمره تعالى بالسجود لآدم وقد ذكر القاضي في غير موضع أنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق بلسانه مع القدرة وبقلبه وأن الإيمان قول وعمل كما هو مذهب الأئمة كلهم: مالك وسفيان والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق ومن قبلهم وبعدهم من أعيان الأمة.

وليس الغرض هنا استيفاء الكلام في هذا الأصل وإنما الغرض البينة على ما يختص هذه المسألة وذلك من وجوه. أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلا كفر وإلا فلا ليس لها أصل وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوها عن الفقهاء وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريا في أصولهم أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولا وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء وحكاية إجماعهم ممن هو أعلم الناس بمذاهبهم فلا يظن ظان أن في المسألة خلافا يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل البتة. الوجه الثاني: أن الكفر إذا كان هو الاستحلال فإنما معناه اعتقاد أن السب حلال فإنه لما اعتقد أن ما حرمه الله تعالى حلال كفر ولا ريب أن من اعتقد في المحرمات المعلوم تحريمها أنها حلال كفر لكن لا فرق في ذلك بين سب النبي وبين قذف المؤمنين والكذب عليهم والغيبة لهم إلى غير ذلك من الأقوال التي علم أن الله حرمها فإنه من فعل شيئا من ذلك مستحلا كفر مع أنه لا يجوز أن يقال: من قذف مسلما أو اغتابه كفر ويعنى بذلك إذا استحله. الوجه الثالث: أن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن فإذا لا أثر للسب في التكفير وجودا وعدما وإنما المؤثر هو الاعتقاد وهو خلاف ما أجمع عليه العلماء. الوجه الرابع: أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال: "أنا اعتقد أن هذا حرام وإنما أقول غيظا وسفها أو عبثا أو لعبا" كما قال المنافقون: {إِنَّمَا

كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَب} كما إذا قال: إنما قذفت هذا أو كذبت عليه لعبا وعبثا فإن قيل لا يكونون كفارا فهو خلاف نص القرآن وإن قيل يكونون كفارا فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرا وقول القائل أنا لا أصدقه في هذا لا يستقيم فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل فإذا كان قد قال: "أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله" فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرا؟ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ولم يقل قد كذبتم في قولكم إنما كنا نخوض ونلعب فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروه من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر كما لو كانوا صادقين بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم بهذا الخوض واللعب. وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وما ذكرناه من الأحاديث والآثار فإنها أدلة بينة في أن نفس أذى الله ورسوله كفر مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودا وعدما فلا حاجة إلى أن نعيد الكلام هنا بل في الحقيقة كل ما دل على أن الساب كافر وأنه حلال الدم لكفره فقد دل على هذه المسألة إذ لو كان الكفر المبيح هو اعتقاد أن السب حلال لم يجز تكفيره وقتله حتى يظهر هذا الاعتقاد ظهورا تثبت بمثله الاعتقادات المبيحة للدماء

ومنشأ هذه الشهبة التي أوجبت هذا الوهم من المتكلمين ومن حذا حذوهم من الفقهاء أنهم رأوا أن الإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر به ورأوا أن اعتقاد صدقة لا ينافي السب والشتم بالذات كما أن اعتقاد إيجاب طاعته لا ينافي معصيته فإن الإنسان قد يهين من يعتقد وجوب إكرامه كما يترك ما يعتقد وجوب فعله ويفعل ما يعتقد وجوب تركه ثم رأوا أن الأمة قد كفرت الساب فقالوا: إنما كفر لأن سبه دليل على أنه لم يعتقد أنه حرام واعتقاد حله تكذيب للرسول فكفر بهذا التكذيب لا بتلك الإهانة وإنما الإهانة دليل على التكذيب فإذا فرض أنه في نفس الأمر ليس بمكذب كان في نفس الأمر مؤمنا وإن كان حكم الظاهر إنما يجري عليه بما أظهره فهذا مأخذ المرجئة ومعتضديهم وهو الذين يقولون: "الإيمان هو الاعتقاد والقول" وغلاتهم وهم الكرامية الذين يقولون: "هو مجرد القول وإن عري عن الاعتقاد" وأما الجهمية الذين يقولون: "هو مجرد المعرفة والتصديق بالقلب فقط وإن لم يتكلم بلسانه" فلهم مأخذ آخر وهو أنه قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه فإذا كان في قلبه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن كما لا ينفع المنافق إظهار خلاف ما في قلبه في الباطن. وجواب الشبهة الأولى من وجوه: أحدها: أن الإيمان وإن كان أصله تصديق القلب فذلك التصديق لا بد أن يوجب حالا في القلب وعملا له وهو تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته وذلك أمر لازم كالتألم والتنعم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم وكالنفرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي فإذا لم تحصل هذه الحال والعمل في القلب لم ينفع ذلك التصديق ولم يغن شيئا وإنما يمتنع حصوله إذا عارضه معارض من حسد الرسول أو التكبر عليه أو الإهمال له وإعراض القلب عنه ونحو ذلك كما أن إدراك الملائم والمنافي يوجب اللذة والألم إلا أن يعارضه معارض ومتى حصل المعارض كان وجود

ذلك التصديق كعدمه كما يكون وجود ذلك كعدمه بل يكون ذلك المعارض موجبا لعدم المعلول الذي هو حال في القلب وبتوسط عدمه يزول التصديق الذي هو العلة فينقلع الإيمان بالكلية من القلب وهذا هو الموجب لكفر من حسد الأنبياء أو تكبر عليهم أو كره فراق الإلف والعادة مع علمه بأنهم صادقون وكفرهم أغلظ من كفر الجهال. الثاني: أن الإيمان وإن كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق وإنما هو الإقرار والطمأنينة وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر وكلام الله خبر وأمر فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد وإذا كان كذلك فالسب إهانة واستخفاف والانقياد للأمر إكرام وإعزاز ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد أو استسلام فلا يكون فيه إيمان وهذا هو بعينه كفر إبليس فإنه سمع أمر الله له فلم يكذب رسولا ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرا وهذا موضع زاغ فيه خلق من الخلف: تخيل لهم أن الإيمان ليس في الأصل إلا التصديق ثم يرون مثل إبليس وفرعون ممن لم يصدر عنه تكذيب أو صدر عنه تكذيب باللسان لا بالقلب وكفره من أغلظ الكفر فيتحيرون

ولم أنهم هدوا لما هدي إليه السلف الصالح لعلموا أن الإيمان قول وعمل أعني في الأصل قولا في القلب وعملا في القلب فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته وكلام الله ورسالته يتضمن إخباره وأوامره فيصدق القلب إخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به والتصديق هو من نوع العلم والقول وينقاد لأمره ويستسلم وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل ولا يكون مؤمنا إلا بمجموع الأمرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين وإذا كان مصدقا فالكفر أعم من التكذيب يكون تكذيبا وجهلا ويكون استكبارا وظلما ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالا وهو الجهل ألا ترى أن نفرا من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتعبوه وكذلك هرقل وغيره فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق؟ ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله وقد تضمنت خبرا وأمرا فإنه يحتاج إلى مقام ثان وهو تصديقه خبر الله وانقياد لأمر الله فإذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله" فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره فإذا قال: "وأشهد أن محمدا رسول الله" تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار فلما كان التصديق لا بد منه في كلا الشهادتين وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن الأصل الآخر لا بد منه وهو الانقياد وإلا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للأمر إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى كإبليس وهذا مما يبين

لك أن الاستهزاء بالله وبرسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه وكلاهما كفرا صريح ومن استخف به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادا لأمره فإن الانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال وهذان ضدان فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد. الوجه الثالث: أن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند ولهذا قالوا: من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفره الخوارج فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقا بأن الله ربه فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلا لها فهو كافر بالاتفاق فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه وكذلك لو استحلها بغير فعل والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو لخلل في الإيمان بالرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفرا ممن قبله وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى

عدم التصديق بصفة من صفاته وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردا أو إتباعا لغرض النفس وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ويقول: أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق وأنفر عنه فهذا نوع غير النوع الأول وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع بل عقوبته أشد وفي مثله قيل: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" وهو إبليس ومن سلك سبيله وبهذا يظهر الفرق بين العاصي فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويحب أنه يفعله لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة فقد أتى من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد وذلك قول وعمل لكن لم يكمل العمل. وأما إهانة الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما فلأنه لم يهن ما كان الانقياد له والإكرام شرطا في إيمانه وإنما أهان من إكرامه شرط في بره وطاعته وتقواه وجانب الله والرسول إنما كفر فيه لأنه لا يكون مؤمنا حتى يصدق تصديقا يقتضي الخضوع والانقياد فحيث لم يقتضه لم يكن ذلك التصديق إيمانا بل كان وجوده شرا من عدمه فإن من خلق له حياة وإدراك ولم يرزق إلا العذاب كان فقد تلك الحياة والإدراك أحب إليه من حياة ليس فيها إلا الألم وإذا كان التصديق ثمرته صلاح حاله وحصول النعيم له واللذة في الدنيا والآخرة فلم يحصل معه إلا فساد حاله والبؤس والألم في الدنيا والآخرة كان أن لا يوجد أحب إليه من أن يوجد. وهنا كلام طويل في تفصيل هذه الأمور ومن حكم الكتاب والسنة على

نفسه قولا وفعلا ونور الله قلبه تبين له ضلال كثير من الناس ممن يتكلم برأيه في سعادة النفوس بعد الموت وشقاوتها جريا على منهاج الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ونبذوا الكتاب الله وراء ظهورهم وإتباعا لما تتلوه الشياطين. وأما الشبهة الثانية فجوابها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه على ذلك فإنه يجوز أن يكون مع ذلك في نفس الأمر مؤمنا ومن جوز هذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. الثاني: أن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان حتى اختلفوا في تكفير من قال: "إن المعرفة تنفع من غير عمل الجوارح" وليس هذا موضع تقرير هذا. وما ذكره القاضي رحمه الله من التأويل لكلام الإمام أحمد فقد ذكر هو وغيره خلاف ذلك في غير موضع وكذلك ما دل عليه كلام القاضي عياض فإن مالكا وسائر الفقهاء من التابعين ومن بعدهم إلا من نسب إلى بدعة قالوا: "الإيمان قول وعمل" وبسط هذا له مكان غير هذا. الثالث: أن من قال: "إن الإيمان مجرد معرفة القلب من غير احتياج إلى المنطق باللسان" يقول: لا يفتقر الإيمان في نفس الأمر إلى القول الذي يوافقه باللسان لكن لا يقول إن القول الذي ينافي الإيمان لا يبطله فإن القول قولان: قول يوافق تلك المعرفة وقول يخالفها فهب أن القول الموافق لا يشترط لكن القول المخالف ينافيها فمن قال

بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامدا لها عالما بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فإنه كافر أيضا فصار كل من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع والفقه فيه ما تقدم من أن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم وإرادة فعل فيه استهانة واستخفاف كما أنه يوجب المحبة والتعظيم واقتضاؤه وجود هذا وعدم هذا أمر جرت به سنة الله في مخلوقاته كاقتضاء إدراك الموافق للذة وإدراك المخالف للألم فإذا عدم المعلول كان مستلزما لعدم العلة وإذا وجد الضد كان مستلزما لعدم الضد الآخر فالكلام والفعل المتضمن للاستخفاف والاستهانة مستلزم لعدم التصديق النافع ولعدم الانقياد والاستسلام فلذلك كان كفرا. واعلم أن الإيمان وإن قيل هو التصديق فالقلب يصدق بالحق والقول يصدق في القلب والعمل يصدق القول والتكذيب بالقول مستلزم

للتكذيب بالقلب ورافع للتصديق الذي كان في القلب إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثر في الجوارح فإنما قام به كفر تعدى حكمه إلى الآخر والكلام في هذا واسع وإنما نبهنا على هذه المقدمة. فصل. ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول: قد ثبت أن كل سب وشتم يبيح الدم فهو كفر وإن لم يكن كل كفر سبا ونحن نذكر عبارات العلماء في هذه المسألة: قال الإمام أحمد: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب". وقال في موضع آخر: "كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة". وقال أصحابنا: "التعرض بسب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم ردة وهو موجب للقتل كالتصريح ولا يختلف أصحابنا أن قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم من جملة سبه الموجب للقتل وأغلظ لأن ذلك يفضي إلى القدح في نسبه وفي عبارة بعضهم إطلاق القول بأن من سب أم النبي صلى الله عليه وسلم يقتل مسلما كان أو كافرا وينبغي أن يكون مرادهم بالسب هنا القذف كما صرح به الجمهور لما فيه من سب النبي صلى الله عليه وسلم". وقال القاضي عياض: "جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهة بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو ساب

له والحكم فيه حكم الساب: يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا تمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا وكذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو عيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال: هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه وهلم جرا". وقال ابن القاسم عن مالك: "من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب" قال ابن القاسم: "أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره". وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه: "من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب". وروى ابن وهب عن مالك من قال: "إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويروى برده "وسخ" وأراد به عيبه قتل". وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة. وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم: منها: رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال: تريدون تعرفون صفته؟ هذا المار في خلقه ولحيته. ومنها: رجل قال: النبي صلى الله عليه وسلم أسود. ومنها: رجل قيل له: "لا وحق رسول الله" فقال: فعل الله برسول الله كذا

وكذا ثم قيل له: ما تقول يا عدو الله فقال أشد من كلامه الأول ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب قالوا: لأن ادعاء للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا موقر له فوجبت إباحة دمه. ومنها: عشار قال: أدوا شك إلى النبي أو قال: إن سألت أو جهلت فقد سأل النبي وجهل. ومنها: متفقه كان يستخف بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسميه في أثناء مناظرته اليتيم وختن حيدره ويزعم أن زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها وأشباه هذا. قال: فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتأخرهم وإن اختلفوا في حكم قتله. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه: "إنه مرتد" وكذلك قال أصحاب الشافعي: "كل من تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح" فإن الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله أو يسقط بالتوبة؟ على الوجهين وقد نص الشافعي على هذا المعنى. فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص به كفر مبيح للدم وهم في استتابته على ما تقدم من الخلاف ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك. فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد آذى الله ورسوله وهو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى وإن لم يقصد

أذاهم ألم تسمع إلى الذين قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب فقال الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . وهذا مثل من يغضب فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو حكم من حكمه أو يدعى لما سنه فيلعن ويقبح ونحو ذلك وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه ثم لا يجدوا في نفوسهم حرجا من حكمه فمن شاجر غيره في حكم وحرج لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحش في منطقه فهو كافر بنص التنزيل ولا يعذر بأن مقصوده رد الخصم فإن الرجل لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. ومن هذا الباب قول القائل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وقول الآخر: اعدل فإنك لم تعدل وقول ذلك الأنصاري: أن كان ابن عمتك فإن هذا كفر محض حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم للزبير لأنه ابن عمته ولذلك أنزل الله تعالى هذه الآية وأقسم أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه وإنما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما عفا عن الذي قال: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله وعن الذي قال: اعدل فانك لم تعدل وقد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه أنه قتل رجلا لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته فكيف بمن طعن في حكمه؟ وقد ذكر طائفة من الفقهاء منهم ابن عقيل وبعض أصحاب الشافعي أن هذا كان عقوبته التعزير ثم منهم من قال: لم يعزره النبي

صلى الله عليه وسلم لأن التعزير غير واجب ومنهم من قال: عفا عنه لأن الحق له ومنهم من قال: عاقبه بأن أمر الزبير أن يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر وهذه أقوال ردية لا يستريب من تأمل في أن هذا كان يستحق القتل بعد نص القرآن أن من هو بمثل حاله ليس بمؤمن. فإن قيل: ففي رواية صحيحة أنه كان من أهل بدر وفي الصحيحين عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ولو كان هذا القول كفرا للزم أن يغفر الكفر والكفر لا يغفر ولا يقال عن بدري: إنه كفر. فقيل: هذه الزيادة ذكرها أبو اليمان عن شعيب ولم يذكرها أكثر الرواة فيمكن أنها وهم كما وقع في حديث كعب وهلال بن أمية أنهما لم يشهدا بدرا وكذلك لم يذكره ابن إسحاق في روايته عن الزهري لكن الظاهر صحتها. فنقول: ليس في الحديث أن هذه القصة كانت بعد بدر فلعلها كانت قبل بدر وسمي الرجل بدريا لأن عبد الله بن الزبير حدث بالقصة بعد أن صار الرجل بدريا فعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" فقال الزبير: والله لأني أحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} متفق عليه وفي رواية للبخاري من حديث عروة قال: فاستوعى رسول الله

صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم وهذا يقوي أن القصة متقدمة قبل بدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن الأعلى يسقى ثم يحبس حتى يبلغ الماء إلى الكعبين فلو كانت قصة الزبير بعد هذا القضاء لكان قد علم وجه الحكم فيه وهذا القضاء الظاهر أنه متقدم من حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحاجة إلى الحكم فيه من حين قدم ولعل قصة الزبير أوجبت هذا القضاء. وأيضا فإن هؤلاء الآيات قد ذكر غير واحد أن أولها نزل لما أراد بعض المنافقين أن يحاكم يهوديا إلى ابن الأشرف وهذا إنما كان قبل بدر لأن ابن الأشرف ذهب عقب بدر إلى مكة فلما رجع قتل فلم يستقر بعد بدر بالمدينة استقرارا يتحاكم إليه وإن كانت القصة بعد بدر فإن القائل لهذه الكلمة يكون قد تاب واستغفر وقد عفا له النبي صلى الله عليه وسلم عن حقه فغفر له والمضمون لأهل بدر إنما هو المغفرة: إما بأن يستغفروا إن كان الذنب مما لا يغفر إلا بالاستغفار أو لم يكن كذلك وإما بدون أن يستغفروا ألا ترى أن قدامة بن مظعون وكان بدريا تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية حتى أجمع رأي عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو أصحابه فإن أقروا بالتحريم جلدوا وإن لم يقروا به كفروا ثم إنه تاب وكاد ييأس لعظم ذنبه في نفسه حتى أرسل إليه عمر رضي الله عنه بأول سورة غافر فعلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنة وأنهم مغفور لهم وإن جاز أن يصدر عنهم قبل ذلك ما عسى أن يصدر فإن التوبة تجب ما قبلها.

وإذا ثبت أن كل سب تصريحا أو تعريضا موجب للقتل فالذي يجب أن يعتني به الفرق بين السب الذي لا تقبل منه التوبة والكفر الذي تقبل منه التوبة فنقول: هذا الحكم قد نيط في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسب وكذلك جاء في ألفاظ الصحابة والفقهاء ذكر السب والشتم والاسم إذا لم يكن له حد في اللغة كاسم الأرض والسماء والبر والبحر والشمس والقمر ولا في الشرع كاسم الصلاة والزكاة والحج والإيمان والكفر فإنه يرجع في حده إلى العرف كالقبض والحرز والبيع والرهن والكرى ونحوها فيجب أن يرجع في الأذى والشتم إلى العرف فما عده أهل العرف سبا أو انتقاصا أو عيبا أو طعنا ونحو ذلك فهو من السب وما لم يكن كذلك فهو كفر به فيكون كفرا ليس بسب حكم صاحبه حكم المرتد إن كان مظهرا له وإلا فهو زندقة والمعتبر أن يكون سبا وأذى للنبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن سبا وأذى لغيره فعلى هذا كل ما لو قيل لغير النبي صلى الله عليه وسلم أوجب تعزيرا أو حدا بوجه من الوجوه فإنه من باب سب النبي صلى الله عليه وسلم كالقذف واللعن وغيرهما من الصورة التي تقدم التنبيه عليها وأما ما يختص بالقدح في النبوة فإن لم يتضمن إلا مجرد عدم التصديق بنبوته فهو كفر محض وإن كان فيه استخفاف واستهانة مع عدم التصديق فهو من السب وهنا مسائل اجتهادية يتردد الفقهاء هل هي من السب أو من الردة المحضة ثم ما ثبت أنه ليس بسب فإن استسر به صاحبه فهو زنديق حكمه حكم الزندقة وإلا فهو مرتد محض واستقصاء الأنواع والفرق بينها ليس هذا موضعه.

فصل. فأما الذمي فيجب التفريق بين مجرد كفره به وبين سبه فإن كفره به لا ينقض العهد ولا يبيح دم المعاهد بالاتفاق لأنا صالحناهم على هذا وأما سبه له فإنه ينقض العهد ويوجب القتل كما تقدم. قال القاضي أبو يعلى: "عقد الأمان يوجب إقرارهم على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لا على شتمهم وسبهم له". وقد تقدم أن هذا الفرق أيضا معتبر في المسلم حيث قتلناه بخصوص السب وكونه موجبا للقتل حدا من الحدود بحيث لا يسقط بالتوبة وإن صحت وأما حيث قتلناه لدلالته على الزندقة أو لمجرد كونه مرتدا فلا فرق حينئذ بين مجرد الكفر وبين ما تضمنه من الأنواع فنقول: الآثار عن الصحابة والتابعين والفقهاء مثل مالك وأحمد وسائر الفقهاء القائلين بذلك كلها مطلقة في من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو معاهد فإنه يقتل ولم يفصلوا بين شتم وشتم ولا بين أن يكرر الشتم أو لا يكرره أو يظهره أو لا يظهره وأعني بقولي لا يظهره: أن لا يتكلم به في ملأ من المسلمين وإلا فالحد لا يقام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتمه أو حتى يقر بالشتم وكونه يشتمه بحيث يسمعه المسلمون إظهارا له اللهم إلا أن يفرض أنه شتمه في بيته خاليا فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرق السمع منهم. قال مالك وأحمد: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فإنه يقتل ولا يستتاب" فنصا على أن الكافر يجب قتله بتنقصه له كما يقتل بشتمه وكما يقتل المسلم بذلك وكذلك أطلق سائر أصحابنا أن سب النبي صلى الله عليه وسلم من الذمي يوجب القتل.

وذكر القاضي وابن عقيل وغيرهما أن ما أبطل الإيمان فإنه يبطل الأمان إذا أظهروه فإن الإسلام أوكد من عقد الذمة فإذا كان من الكلام ما يبطل حق الإسلام فأن يبطل حقن الذمة أولى مع الفرق بينهما من وجه آخر فإن المسلم إذا سب الرسول دل على سوء اعتقاده في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كفر والذمي قد علم أن اعتقاده ذلك وأقررناه على اعتقاده وإنما أخذ عليه كتمه وأن لا يظهره فبقي تفاوت ما بين الإظهار والإضمار. قال ابن عقيل: "فكما أخذ على المسلم أن لا يعتقد ذلك أخذ على الذمي أن لا يظهره فإظهار هذا كإضمار ذاك وإضماره لا ضرر على الإسلام ولا إزراء فيه وفي إظهاره ضرر وإزراء على الإسلام ولهذا ما بطن من الجرائم لا يتبعها في حق المسلم ولو أظهرها أقمنا عليهم حد الله". وطرد القاضي وابن عقيل هذا القياس في كل ما ينقض الإيمان من الكلام مثل التثنية والتثليث كقول النصارى: "إن الله ثالث ثلاثة" ونحو ذلك: أن الذمي متى أظهر ما يعلمه من دينه من الشرك نقض العهد كما أنه إن أظهر ما نعلمه بقوله في نبينا عليه الصلاة والسلام نقض العهد. قال القاضي: وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية حنبل: "كل من ذكر شيئا يعرض به الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا هذا مذهب أهل المدينة". وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له: كذبت فقال: "يقتل لأنه شتم" فقد نص على قتل من كذب المؤذن في كلمات الأذان وهي قول "الله أكبر" أو "أشهد أن لا إله إلا الله" أو "أشهد أن محمدا رسول الله" وقد ذكرها الخلال والقاضي في سب الله بناء

على أنه كذبه فيما يتعلق بذكر الرب سبحانه والأشبه أنه عام في تكذيبه فيما يتعلق بذكر الرب وذكر الرسول بل هو في هذا أولى لأن اليهودي لا يكذب من قال "لا إله إلا الله" ولا من قال "الله أكبر" وإنما يكذب من قال أن محمدا رسول الله وهذا قول جمهور المالكيين قالوا: إنه يقتل بكل سب سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه لأنهم وإن استحلوه فإنا لم نعطهم العهد على إظهاره وكما لا يحصن الإسلام من سبه كذلك لا تحصن منه الذمة وهو قول أبي مصعب وطائفة من المدنيين. قال أبو مصعب في نصراني قال: "والذي اصطفى عيسى على محمد": "اختلف العلماء فيه فضربته حتى قتلته أو عاش يوما وأمرت من جر برجله وطرح على مزبلة فأكتله الكلاب". قال أبو مصعب في نصراني قال: "عيسى خلق محمدا" قال: "يقتل". وأفتى سلف الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية وبنوة عيسى لله. وقال ابن القاسم فيمن سبه فقال: "ليس بنبي أو لم يرسل أو لم ينزل عليه قرآن وإنما هو شيء يقوله" ونحو هذا: فيقتل وإن قال: "إن محمدا لم يرسل إلينا وإنما أرسل إليكم وإنما نبينا موسى أو عيسى" ونحو هذا: لا شيء عليهم لأن الله أقرهم على مثله. قال ابن القاسم: وإذا قال النصراني "ديننا خير من دينكم إنما دينكم دين الحمير" ونحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول "أشهد أن محمدا رسول الله" فقال: كذلك يعظكم الله ففي هذا الأدب الموجع والسجن الطويل وهذا قول محمد بن سحنون وذكره عن أبيه ولهم قول آخر فيما إذا سبه بالوجه الذي به كفروا أنه لا يقتل.

قال سحنون عن ابن القاسم: "من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم". وقال سحنون في اليهودي يقول للمؤذن إذا تشهد "كذبت": "يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل". وقد تقدم نص الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل لأنه شتم. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي في السب الذي ينتقض به عهد الذمي ويقتل به إذا قلنا بذلك على الوجهين: أحدهما: ينتقض بمطلق السب لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه وإن كانوا يعتقدون ذلك دينا وهذا قول أكثرهم والثاني: أنهم إذا ذكروه بما يعتقدونه فيه دينا من أنه ليس برسول والقرآن ليس بكلام الله فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث قالوا: وهذا لا ينقض العهد بلا تردد بل يعزرون على إظهاره وأما ما ذكروه بما لا يعتقدونه دينا كالطعن في نسبه فهو الذي قيل فيه: ينقض العهد وهذا اختيار الصيدلاني وأبي المعالي وغيرهما. وحجة من فرق بين ما يعتقدونه فيه دينا وما لا يعتقدونه كما اختاره بعض المالكية وبعض الشافعية أنهم قد أقروا على دينهم الذي يعتقدونه لكن منعوا من إظهاره فإذا أظهروه كان كما لو أظهروا سائر المناكير التي هي من دينهم كالخمر والخنزير والصليب ورفع الصوت بكتابهم ونحو ذلك وهذا إنما يستحقون عليه العقوبة والنكال بما دون القتل. يؤيد ذلك أن إظهار معتقدهم في الرسول ليس بأعظم من إظهار معتقدهم في الله وقد علم هؤلاء أن إظهار معتقدهم لا يوجب القتل واستبعدوا أن ينتقض عهدهم بإظهار معتقدهم إذا لم يكن مذكورا في الشرط وهذا بخلاف ما إذا سبوه بما لا يعتقدونه دينا فإنا لم نقرهم على ذلك ظاهرا ولا باطنا وليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنا والسرقة وقطع الطريق وهذا القول مقارب لقول الكوفيين

وقد ظن من سلكه أنه خلص بذلك من سؤالهم وليس الأمر كما اعتقده فإن الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كلها تدل على السب بما يعتقده فيه دينا وما لا يعتقده فيه دينا وأن مطلق السب موجب للقتل ومن تأمل كل دليل بانفراده لم يخف عليه أنها جميعا تدل على السب المعتقد دينا كما تدل على السب الذي لا يعتقده دينا ومنها ما هو نص في السب الذي يعتقد دينا بل أكثرها كذلك فإن الذين كانوا يهجونه من الكفار الذين أهدر دماءهم لم يكونوا يهجونه إلا بما يعتقدونه دينا مثل نسبته إلى الكذب والسحر وذم دينه ومن اتبعه وتنفير الناس عنه إلى غير ذلك من الأمور فأما الطعن في نسبه أو خلقه أو أمانته أو وفائه أو صدقه في غير دعوى الرسالة فلم يكن أحدا يتعرض لذلك في غالب الأمر ولا يتمكن من ذلك ولا يصدقه أحد في ذلك لا مسلم ولا كافر لظهور كذبه وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى إعادته. ثم نقول: هنا هذا الفرق متهافت من وجوه: أحدها: أن الذمي لو أظهر لعنة الرسول أو تقبيحه أو الدعاء عليه بالسخط وجهنم والعذاب أو نحو ذلك فإن قيل: "ليس من السب الذي ينتقض به العهد" كان هذا قولا مردودا سمجا فإنه من لعن شخصا وقبحه لم يبق من سبه غاية وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن المؤمن كقتله" ومعلوم أن هذا أشد من الطعن في خلقه وأمانته أو وفائه وإن قيل: "هو سب له" فقد علم أن من الكفار من يعتقد ذلك دينا ويرى أنه من قرباته كتقريب المسلم بلعن مسيلمة والأسود العنسي. الوجه الثاني: أنه على القول بالفرق المذكور إذا سبه بما لا يعتقده دينا مثل الطعن في نسبه أو خلقه أو خلقه ونحو ذلك فمن أين ينتقض عهده ويحل دمه؟ ومعلوم أنه قد أقر على ما هو أعظم من ذلك من الطعن في دينه الذي هو أعظم

من الطعن في نسبه ومن الكفر بربه الذي هو أعظم الذنوب ومن سب الله بقوله: إن له صاحبة وولدا وأنه ثالث ثلاثة فإنه لا ضرر يلحق الأمة في دينها بإظهار ما لا يعتقد صحته من السب إلا ويلحقهم بإظهار ما كفر به أعظم من ذلك فإذا أقر على أعظم السببين ضررا فإقراره على أدناهما ضررا أولى نعم بينهما من الفرق أنه إذا طعن في نسبه أو خلقه فإنه يقر لنا بأنه كاذب أو أهل دينه يعتقدون أنه كاذب آثم بخلاف السب الذي يعتقده دينا فإنه وأهل دينه متفقون على أنه ليس بكاذب فيه ولا آثم فيعود الأمر إلى أنه قال كلمة أثم بها عندهم وعندنا لكن في حق من لا حرمة له عنده بل مثاله عنده أن يقذف الرجل مسيلمة أو العنسي أو ينسبه إلى أنه كان أسود أو أنه كان دعيا أو كان يسرق أو كان قومه يستخفون به ونحو ذلك من الوقيعة في عرضه بغير حق ومعلوم أن هذا لا يوجب القتل بل ولا يوجب الجلد أيضا فإن العرض يتبع الدم فمن لم يعصم دمه لم يصن عرضه فلو لم يجب قتل الذمي إذا سب الرسول لكونه قد قدح في ديننا لم يجب قتله بشيء من السب أيضا فإن خطب ذلك يسير. يبين ذلك أن المسلم إنما قتل إذا سبه بالقذف ونحوه لأن القدح في نسبه قدح في نبوته فإذا كنا بإظهار القدح في النبوة لا نقتل الذمي فأن لا نقتله بإظهار القدح فيما لا يقدح في النبوة أولى إذ الوسائل أضعف من المقاصد. وهذا البحث إذا حقق اضطر المنازع إلى أحد الأمرين: إما موافقة من قال من أهل الرأي إن العهد لا ينقض من السب وإما موافقة الدهماء في أن العهد ينتقض بكل سب وأما الفرق بين سب وسب في انتقاض العهد واستحلال الدم فمتهافت. ثم إنه إذا فرق لم يمكنه إيجاب القتل ولا نقض العهد بذلك أصلا ومن ادعى وجوب القتل بذلك وحده لم يمكنه أن يقيم عليه دليلا. الثالث: أنا إذا لم نقتلهم بإظهار ما يعتقدونه دينا لم يمكنا أن نقتلهم بإظهار

شيء من السب فإنه ما من أحد منهم يظهر شيئا من ذلك إلا ويمكنه أن يقول: إني معتقد لذلك متدين به وإن كان طعنا في النسب كما يتدينون بالقدح في عيسى وأمه عليهما السلام ويقولون على مريم بهتانا عظيما ثم إنهم فيما بينهم قد يختلفون في أشياء من أنواع السب: هل هي صحيحة عندهم أو باطلة؟ وهم قوم بهت ضالون فلا يشاءون أن يأتوا ببهتان ونوع من الضلال الذي لا راد للقلوب منه ثم يقولون "هو معتقدنا" إلا فعلوه فحينئذ لا يقتلون حتى يثبت أنهم لا يعتقدونه دينا وهذا القدر هو محل اختلاف وبعضه لا يعلم إلا من جهتهم وقول بعضهم في بعض غير مقبول ونحن وإن كنا نعرف أكثر عقائدهم فيما تخفي صدورهم أكبر وتجدد الكفر والبدع منهم غير مستنكر فهذا الفرق مفضاة إلى حتم القتل بسب الرسول وهو لعمري قول أهل الرأي ومستندهم ما أبداه هؤلاء وقد قدمنا الجواب عن ذلك وبينا أنا إنما أقررناهم على إخفاء دينهم لا على إظهار باطل قولهم والمجاهرة بالطعن في ديننا وإن كانوا يستحلون ذلك فإن المعاهدة على تركه صيرته حراما في دينهم كالمعاهدة على الكف عن دمائنا وأموالنا وبينا أن المجاهرة بكلمة الكفر في دار الإسلام كالمجاهرة بضرب السيف بل أشد على أن الكفر أعم من السب فقد يكون الرجل كافرا ولا يسب وهذا هو سر المسألة فلا بد من بسطه فنقول: التكلم في تمثيل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب واللسان ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين لكن الاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقا من غير تعيين والفقيه يأخذ حظه من ذلك فنقول: السب نوعان دعاء وخبر أما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله أو قبحه الله أو أخزاه

الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي: لا صلى الله عليه أو لا سلم أو لا رفع الله ذكره أو محا الله اسمه ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة. فهذا كله إذا صدر من مسلم أو معاهد فهو سب فأما المسلم فيقتل به بكل حال وأما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره. فأما إن أظهر الدعاء للنبي وأبطن الدعاء عليه إبطانا يعرف من لحن القول بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض مثل قوله: السام عليكم إذا أخرجه مخرج التحية وأظهر أنه يقول السلام ففيه قولان: أحدهما: أنه من السب الذي يقتل به وإنما كان عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهود الذين حيوه بذلك حال ضعف الإسلام بالبقاء عليه لما كان مأمورا بالعفو عنهم والصبر على أذاهم وهذا قول طائفة من المالكية والشافعية والحنبلية مثل القاضي عبد الوهاب والقاضي أبي يعلي وأبي إسحاق الشيرازي وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وممن ذهب إلى أن هذا سب من قال قال لم يعلم أن هؤلاء كانوا أهل عهد وهذا قول ساقط لأنا قد بينا فيما تقدم أن اليهود الذين بالمدينة كانوا معاهدين وقال آخرون: كان الحق له وله أن يعفو عنهم فأما بعده فلا عفو. والقول الثاني: أنه ليس من السب الذي ينتقض العهد لأنهم لم يظهروا السب ولم يجهروا به وإنما أظهروا التحية والسلام لفظا وحالا وحذفوا اللام حذفا خفيا يفطن له بعض السامعين وقد لا يفطن له الأكثرون ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود إذا سلموا فإنما يقول أحدهم: السام عليكم فقولوا: وعليكم" فجعل هذا شرعا باقيا في حياته وبعد موته حتى صارت السنة أن يقال للذمي إذا سلم: وعليكم وكذلك لما سلم عليهم اليهودي قال: "أتدرون ما قال؟ إنما قال: السام عليكم" ولو كان هذا من السب الذي هو سب لوجب أن يشرع عقوبة اليهودي إذا سمع منه ذلك ولو بالجلد فلما لم يشرع ذلك علم

أنه لا يجوز مؤاخذتهم بذلك وقد أخبر الله عنهم بقوله تعالى {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فجعل عذاب الآخرة حسبهم يدل على أنه لم يشرع على ذلك عذابا في الدنيا وهذا لو أنهم قد قرروا على ذلك لقالوا إنما قلنا السلام وإنما السمع يخطئ وأنتم تتقولون علينا فكانوا في هذا مثل المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويعرفون في لحن القول ويعرفون بسيماهم فإنه لا يمكن عقوبتهم باللحن والسيما فإن موجبات العقوبات لا بد أن تكون ظاهرة الظهور الذي يشترك فيه الناس وهذا القدر وإن كان كفرا من المسلم فإنما يكون نقضا للعهد إذا أظهره الذمي وإتيانه به على هذا الوجه غاية ما يكون من الكتمان والإخفاء ونحن لا نعاقبهم على ما يسرونه ويخفونه من السب وغيره وهذا قول جماعات من العلماء من المتقدمين ومن أصحابنا والمالكيين وغيرهم وممن أجاز هذا القول ممن زعم أن هذا دعاء بالسام وهو الموت على أصح القولين أو دعاء بالسامة وأما الذين قالوا إن الموت محتوم على الخليقة قالوا: وهذا تعريض بالأذى لا بالسب وهذا القول ضعيف فإن الدعاء على الرسول والمؤمنين بالموت وترك الدين من أبلغ السب كما أن الدعاء بالحياة والعافية والصحة والثبات على الدين من أبلغ الكرامة. النوع الثاني: الخبر فكل ما عده الناس شتما أو سبا أو تنقصا فإنه يجب به القتل كما تقدم فإن الكفر ليس مستلزما للسب وقد يكون الرجل كافرا ليس بساب والناس يعلمون علما عاما أن الرجل قد يبغض الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه وقد يضم إلى ذلك مسبة وإن كانت المسبة مطابقة للمعتقد فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا ولا ما يحتمل أن يقال سرا يحتمل أن يقال جهرا والكلمة الواحدة تكون في حال سبا وفي حال ليست بسب فعلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال وإذا لم يكن للسب حد

معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء وما لا فلا ونحن نذكر من ذلك أقساما فنقول: لا شك أن إظهار التنقص والاستهانة عند المسلمين سب كالتسمية باسم الحمار أو الكلب أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة أو الإخبار بأنه في العذاب وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتال وأنه يضر من اتبعه وأن ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك فإن نظم ذلك شعرا كان أبلغ في الشتم فإن الشعر يحفظ ويروى وهو الهجاء وربما يؤثر في نفوس كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تأثير البراهين فإن غني به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره وأما من أخبر عن معتقده بغير طعن فيه مثل أن يقول: أنا لست متبعه أو لست مصدقه أو لا أحبه أو لا أرضى دينه ونحو ذلك فإنما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصا لأن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الأسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي خلاف ما إذا قال من كان ومن هو رأى كذا وكذا هو ونحو ذلك وإذا قال: لم يكن رسولا ولا نبيا ولم ينزل عليه شيء ونحو ذلك فهو تكذيب صريح وكل تكذيب فقد تضمن نسبته إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب لكن بين قوله: "ليس بنبي" وقوله: "هو كذاب" فرق من حيث إن هذا إنما تضمن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول: إني رسول الله وليس من نفى عن غيره بعض صفاته نفيا مجردا كمن نفاها عنه ناسبا له إلى الكذب في دعواها والمعنى الواحد قد يؤدى بعبارات بعضها يعد سبا وبعضها لا يعد سبا وقد ذكرنا أن الإمام أحمد نص على أن من قال للمؤذن "كذبت" فهو شاتم وذلك لأن ابتداءه بذلك للمؤذن معلنا

بذلك بحيث يسمعه المسلمون طاعنا في دينهم مكذبا للأمة في تصديقها بالوحدانية والرسالة لا ريب أنه شتم. فإن قيل: ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الرسول عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني" فقد قرن بين التكذيب والشتم. فيقال قوله: "لن يعيدني كما بدأني" يفارق قول اليهودي للمؤذن "كذبت" من وجهين: أحدهما: أنه لم يصرح بنسبته إلى الكذب ونحن لم نقل: إن كل تكذيب شتم إذ لو قيل ذلك لكان كل كافر شاتما وإنما قيل: إن الإعلان بمقابلة داعي الحق بقوله: "كذبت" سب للأمة وشتم لها في اعتقاد النبوة وهو سب للنبوة كما أن الذين هجوا من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على إتباعهم إياه كانوا سابين للنبي صلى الله عليه وسلم مثل شعر بنت مروان وشعر كعب بن زهير وغيرهما وأما قول الكافر: "لن يعيدني كما بدأني" فإنه نفي لمضمون خبر الله بمنزلة سائر أنواع الكفر. الثاني: أن الكافر المكذب بالبعث لا يقول: إن الله أخبر أنه سيعيدني ولا يقول: إن هذا الكلام تكذيب لله وإن كان تكذيبا بخلاف القائل للرسول أو لمن صدق الرسول "كذبت" فإنه مقر بأن هذا طعن على المكذب وعيب له وانتقاص به وهذا ظاهر وكل كلام تقدم ذكره في المسألة الأولى من نظم ونحوه عده النبي صلى الله عليه وسلم سبا حتى رتب على قائله حكم الساب فإنه سب أيضا وكذلك ما كان في معناه وقد تقدم ذكر ذلك والكلام على أعيان الكلمات لا ينحصر وإنما جماع ذلك أن ما يعرف

الناس أنه سب فهو سب وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاصطلاحات والعادات وكيفية الكلام ونحو ذلك وما اشتبه فيه الأمر ألحق بنظيره وشبهه والله سبحانه أعلم. فصل. وكل ما كان من الذمي سبا ينقض عهده ويوجب قتله فإن التوبة توبته منه لا تقبل على ما تقدم هذا هو الذي عليه عامة أهل العلم من أصحابنا وغيرهم. وقد تقدم عن الشيخ أبي محمد المقدسي رضي الله عنه أنه قال: إن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم سقط عنه القتل وإنه إذا قذفه ثم أسلم ففي سقوط القتل عنه روايتان وينبغي أن يبنى كلامه على أنه إن سبه بما يعتقده فيه دينا سقط عنه القتل بإسلامه كاللعن والتقبيح ونحوه وإن سبه بما لا يعتقده فيه كالقذف لم يسقط عنه لأن ما يعتقده فيه كفر محض سقط حده بالإسلام باطنا فيجب أن يسقط ظاهرا أيضا لأن سقوط الأصل الذي هو الاعتقاد يستتبع سقوط فروعه وأما ما لا يعتقده فهو فرية يعلم هو أنها فرية فهي بمنزلة سائر حقوق الآدميين وإن حمل الكلام على ظاهره في أنه يستثنى القذف فقط من بين سائر أنواع السب فيمكن أن يوجه بأن قذف غيره لما تغلظ بأن جعل على صاحبه الحد المؤقت وهو ثمانون بخلاف غيره من أنواع السب فإن عقوبته التعزير المفوض إلى اجتهاد ذي السلطان كذلك يفرق في حقه بين القذف وغيره فيجعل على قاذفه الحد مطلقا وهو القتل وإن أسلم ويدرأ عن الساب الحد إذا تاب لكن هذا الفرق ليس بمرضي فإن قذفه إنما أوجب القتل ونقض العهد لما قدح في نسبه وكان ذلك قدحا في نبوته وهذا معنى يستوي فيه السب بالقذف وبغيره من أنواع الأكاذيب بل قد توصف من الأفعال أو الأقوال المنكرة بما يلحق بالموصوف شيئا وغضاضة

أعظم من هذا وإنما فرق في حق غيره بين القذف وغيره لأنه لا يمكن تكذيب القاذف به كما يمكن تكذيب غيره فصار العار به أشد. وهنا كلمات السب القادحة في النبوة سواء في العلم ببطلانها ظهورا وخفاء فإن العلم بكذب القاذف كالعلم بكذب الناسب له إلى منكر من القول وزور لا فرق بينهما. وبالجملة فالمنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه وسائر أهل العلم أنه لا فرق في هذا الباب بين السب بالقذف وغيره بل من قال: "إنه ينتقض عهده ويتحتم قتله" لم يفرق بين القذف وغيره ومن قال: "يسقط عنه القتل بإسلامه" لم يفرق بين القذف وغيره ومن فرق من الفقهاء بين ما يعتقده وما لا يعتقده فإنما فرق في انتقاض العهد لا في سقوط القتل عنه بالإسلام لكن هو يصلح أن يكون معاضدا لقول الشيخ أبي محمد لأنه فرق بين النوعين في الجملة وأما الإمام أحمد وسائر العلماء المتقدمين فإنما خلافهم في السب مطلقا وليس في شيء من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه تعرض للقذف لخصوصه وإنما ذكره أصحابه في القذف لأنهم تكلموا في أحكام القذف مطلقا فذكروا هذا النوع من القذف أنه موجب للقتل وأنه لا يسقط القتل بالتوبة لنص الإمام على أن السب الذي هو أعم من القذف موجب للقتل لا يستتاب صاحبه ثم منهم من ذكر المسألة بلفظ السب كما هي في لفظ أحمد وغيره ومنهم من ذكرها بلفظ القذف لأن الباب باب القذف فكان ذكرها بالاسم الخاص أظهر تأثيرا في الفرق بين هذا القذف وغيره ثم علل الجميع وأدلتهم تعم أنواع السب بل هي في غير القذف أنص منها في القذف وإنما تدل على القذف بطريق العموم أو بطريق القياس والدليل يوافق ما ذكره الجمهور من التسوية كما تقدم ذكره نفيا وإثباتا ولا حاجة إلى الإطناب هنا فإن من سلم أن جميع أنواع السب من القذف وغيره ينقض العهد ويوجب القتل ثم فرق بين بعضهما وبعض في السقوط بالإسلام فقد

أبعد جدا لأن السب لو كان بمنزلة الكفر عنده لم ينقض العهد ولوجب قتل الذمي وإذا لم يكن بمنزلة الكفر فإسلامه إما أن يسقط الكفر فقط أو يسقط الكفر وغيره من الجناية على عرض الرسول فأما إسقاطه لبعض الجنايات دون بعض مع استوائهما في مقدار العقوبة فلا يتبين له وجه محقق. والاحتجاج بأن الإسلام يسقط عقوبة من سب الله فإسقاطه عقوبة من سب النبي أولى إن صح فإنما يدل على أن الإسلام يسقط عقوبة الساب مطلقا قذفا كان السب أو غير قذف ونحن في هذا المقام لا نتكلم إلا في التسوية بين أنواع السب لا في صحة هذه الحجة وفسادها إذ قد تقدم التنبيه على ضعفها وذلك لأن سب النبي إن جعل بمنزلة سب الله مطلقا وقيل بالسقوط في الأصل فيجب أن يقال بالسقوط في الفرع وإن جعل بمنزلة سب الخلق أو جعل موجبا للقتل حدا لله أو سوي بين السبين في عدم السقوط ونحو ذلك من المآخذ التي تقدم ذكرها فلا فرق في هذا الباب بين القذف وغيره في السقوط بالإسلام فإن الذمي لو قذف مسلما أو ذميا أو شتمه بغير القذف ثم أسلم لم يسقط عنه التعزير المستحق بالسب كما لا يسقط الحد المستحق بالقذف فعلم أنهما سواء في الثبوت والسقوط وإنما يختلفان في مقدار العقوبة بالنسبة إلى غير النبي أما بالنسبة إلى النبي فعقوبتهما سواء فلا فرق بينهما بالنسبة إليه البتة. وإذ قد ذكرنا حكم الساب للرسول عليه الصلاة والسلام فنردفه بما هو من جنسه مما قد تقدم في الأدلة المذكورة بأصل حكمه فإن ذلك من تمام الكلام في هذه المسألة على ما لا يخفى ونفصله فصولا.

فصل: فيمن سب الله تعالى. فإن كان مسلما وجب قتله بالإجماع لأنه بذلك كافر مرتد وأسوأ من الكافر فإن الكافر يعظم الرب ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له. ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته بمعنى أنه هل يستتاب كالمرتد ويسقط عنه القتل إذا أظهر التوبة من ذلك بعد رفعه إلى السلطان وثبوت الحد عليه؟ على قولين: أحدهما: أنه بمنزلة ساب الرسول فيه الروايتان في ساب الرسول هذه طريقة أبي الخطاب وأكثر من احتذى حذوه من المتأخرين وهو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد حيث قال: كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة فأطلق وجوب القتل عليه ولم يذكر استتابته وذكر أنه قول أهل المدينة ومن وجب عليه القتل يسقط بالتوبة وقول أهل المدينة المشهور أنه لا يسقط القتل بتوبته ولو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يقتل وإنما اختلفوا في توبته فلما أخذ بقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي علم أنه قصد محل الخلاف بإظهار التوبة بعد القدرة عليه كما ذكرناه في ساب الرسول. وأما الرواية الثانية فإن عبد الله قال: سئل أبي عن رجل قال: "يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك" قال أبي: "هذا مرتد عن الإسلام" قلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: "نعم نضرب عنقه" فجعله من المرتدين.

والرواية الأولى قول الليث بن سعد وقول مالك روى ابن القاسم عنه قال: "من سب الله تعالى من المسلمين قتل ولم يستتب إلا أن يكون افترى على الله بارتداده إلى دين دان به وأظهره فيستتاب وإن لم يظهره لم يستتب وهذا قول ابن القاسم ومطرف وعبد الملك وجماهير المالكية. والثاني: أنه يستتاب وتقبل توبته بمنزلة المرتد المحض وهذا قول القاضي أبي يعلى والشريف أبي جعفر وأبي علي بن البناء وابن عقيل مع قولهم: "إن من سب الرسول لا يستتاب" وهذا قول طائفة من المدنيين: منهم محمد بن مسلمة والمخزومي وابن أبي حازم قالوا: "لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب وكذلك اليهودي والنصراني فإن تابوا قبل منهم وإن لم يتوبوا قتلوا ولا بد من الاستتابة" وذلك كله كالردة وهو الذي ذكره العراقيون من المالكية. وكذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه قالوا: سب الله ردة فإذا تاب قبلت توبته وفرقوا بينه وبين سب الرسول على أحد الوجهين وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة أيضا. وأما من استتاب الساب لله ولرسوله فمأخذه أن ذلك من أنواع الردة ومن فرق بين سب الله وسب الرسول قالوا: سب الله تعالى كفر محض وهو حق لله وتوبة من لم يصدر منه إلا مجرد الكفر الأصلي أو الطارئ مقبولة مسقطة للقتل بالإجماع ويدل على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم: هو ثالث ثلاثة وبقولهم: إن له ولدا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله: إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد" وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ

ثَلاثَة} إلى قوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} وهو سبحانه قد علم منه أنه يسقط حقه عن التائب فإن الرجل لو أتى من الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب تاب الله عليه وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضة ولا معرة وإنما يعود ضرر السب على قائله وحرمته في قلوب العباد أعظم من أن يهتكها جرأة الساب وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول فإن السب هناك قد تعلق به حق آدمي والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة والرسول تلحقه المعرة والغضاضة بالسب فلا تقوم حرمته وتثبت في القلوب مكانته إلا باصطلام سابه لما أن هجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس ويقدح في مكانه في قلوب كثيرة فإن لم يحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك وإلا أفضى الأمر إلى فساد. وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حد سب الرسول حقا لآدمي كما يذكره كثير من الأصحاب وبالنظر إلى أنه حق الله أيضا فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد فأشبه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم. وأيضا فإن سب الله ليس له داع عقلي في الغالب وأكثر ما هو سب في نفس الأمر إنما يصدر عن اعتقاد وتدين يراد به التعظيم لا السب ولا يقصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر بخلاف سب الرسول فإنه في الغالب إنما يقصد به الإهانة والاستخفاف والدواعي إلى ذلك متوفرة من كل كافر ومنافق وصار من جنس الجرائم التي تدعوا إليها الطباع فإن حدودها لا تسقط بالتوبة بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها. ونكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داع غالب

الأوقات فيندرج في عموم الكفر بخلاف سب الرسول فإن لخصوصه دواعي متوفرة فناسب أن يشرع لخصوصه حد والحد المشروع لخصوصه لا يسقط بالتوبة كسائر الحدود فلما اشتمل سب الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه وحرص أعداء الله عليه وأن الحرمة تنتهك به انتهاك الحرمات بانتهاكها وأن فيه حق لمخلوق تحتمت عقوبته لا لأنه أغلظ إثما من سب الله بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل. ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر والردة أعظم إثما من الزنا والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر ثم الكافر والمرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما ولو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم مع أن الكفر أعظم من الفسق ولم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثما من الكافر؟ فمن أخذ تحتم العقوبة سقوطها من كبر الذنب وصغره فقد نأى عن مسالك الفقه والحكمة. ويوضح ذلك أنا نقر الكفار بالذمة على أعظم الذنوب ولا نقر واحدا منهم ولا من غيرهم على زنى ولا سرقة ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود وقد عاقب الله قوم لوط من العقوبة بما لم يعاقبه بشرا في زمنهم لأجل الفاحشة والأرض مملوءة من المشركين وهم في عافية وقد دفن رجل قتل رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرات والأرض تلفظه في كل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراكم هذا لتعتبروا" ولهذا يعاقب الفاسق الملي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يعاقب به الكافر الذمي مع أن ذلك أحسن حالا عند الله وعندنا من الكافر. فقد رأيت العقوبات المقدورة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبة ما هو أشد منها وسبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجزاء وإنما الجزاء

يوم الدين يجزي الله العباد بأعمالهم: إن خبرا فخير وإن شرا فشر لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يخص فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه فالخطيئة إذا خيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبة فاعلها فلما كان الكفر والردة إذا قبلت التوبة منه بعد القدرة لم تترتب على ذلك مفسدة تتعدى التائب وجب قبول التوبة لأن أحدا لا يريد أن يكفر أو يرتد ثم إذا أخذ أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يحصل مقصوده بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا أسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحا لباب الفسوق فإن الرجل يعمل ما اشتهى ثم إذا أخذ قال: إني تائب وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها فكذلك سب الله هو أعظم من سب الرسول لكن لا يخاف أن النفوس تتسرع إلى ذلك إذا استتيب فاعله وعرض على السيف فإنه لا يصدر غالبا إلا عن اعتقاد وليس للخلق اعتقاد يبعثهم على إظهار السب لله تعالى وأكثر ما يكون ضجرا وبرما وسفها وروعه بالسيف والاستتابة تكف عن ذلك بخلاف إظهار سب الرسول فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه متى علم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كف عنه لم يزعه ذلك عن مقصوده. ومما يدل على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في قبول إسلام أحد منهم ولا عهد بقتل واحد منهم بعينه وقد توقف في قبول توبة من سبه مثل أبي سفيان وابن أبي أمية وعهد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء مثل الحويرث بن نقيد والقينتين وجارية لبني عبد المطلب ومثل الرجال والنساء الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة وقد تقدم الكلام على تحقيق الفرق عند من يقول به بما هو أبسط من هذا في المسألة الثالثة.

وأما من قال: "لا تقبل توبة من سب الله سبحانه وتعالى كما لا تقبل توبة من سب الرسول" فوجهه ما تقدم من عمر رضي الله تعالى عنه من التسوية بين سب الله وسب الأنبياء في إيجاب القتل ولم يأمر بالاستتابة مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد لكن قد ذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يستتاب لأنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل ذلك على السب الذي يتدين به. وأيضا فإن السب ذنب منفرد عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد فإن الكافر يتدين بكفره ويقول: إنه حق ويدعوا إليه وله عليه موافقون وليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافا واستهزاء وسبا لله وإن كان في الحقيقة سبا كما أنهم لا يقولون: إنهم ضلال جهال معذبون أعداء الله وإن كانوا كذلك وأما الساب فإنه مظهر للتنقص والاستخفاف والاستهانة بالله منتهك لحرمته انتهاكا يعلم من نفسه أنه منتهك مستخف مستهزئ ويعلم من نفسه أنه قد قال عظيما وأن السماوات والأرض تكاد تنفطر من مقالته وتخر الجبال وأن ذلك أعظم من كل كفر وهو يعلم أن ذلك كذلك ولو قال بلسانه: "إني كنت لا أعتقد وجود الصانع ولا عظمته والآن فقد رجعت عن ذلك" علمنا أنه كاذب فإن فطرة الخلائق كلها مجبولة على الاعتراف بوجود الصانع وتعظيمه فلا شبهة تدعوه إلى هذا السب ولا شهوة له في ذلك بل هو مجرد سخرية واستهزاء واستهانة وتمرد على رب العالمين تنبعث عن نفس شيطانية ممتلئة من الغضب أو من سفيه لا وقار لله عنده كصدور قطع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة وإذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبة تخصه حدا من الحدود وحينئذ فلا تسقط تلك العقوبة بإظهار التوبة كسائر الحدود.

ومما يبين أن السب قدر زائد على الكفر قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} . ومن المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله ثم نهى المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعة إلى سبهم لله فعلم أن سب الله أعظم عنده من أن يشرك به ويكذب رسوله ويعادي فلا بد له من عقوبة تختصه لما انتهكه من حرمة الله كسائر الحرمات التي تنتهكها بالفعل وأولى فلا يجوز أن يعاقب على ذلك بدون القتل لأن ذلك أعظم الجرائم فلا يقابل إلا بأبلغ العقوبات. ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} فإنها تدل على قتل من يؤذي الله كما تدل على قتل من يؤذي رسوله والأذى المطلق إنما هو باللسان وقد تقدم تقرير هذا. وأيضا فإن إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله تعالى فإنه لا يشاء شاء أن يفعل ذلك ثم إذا أخذ أظهر التوبة إلا فعل كما في سائر الجرائم الفعلية. وأيضا فإنه لم ينتقل إلى دين يريد المقام عليه حتى يكون الانتقال عنه تركا له وإنما فعل جريمة لا تستدام بل هي مثل الأفعال الموجبة للعقوبات فتكون العقوبة على نفس تلك الجريمة الماضية ومثل هذا لا يستتاب عند من يعاقب على ذنب مستمر من كفر أو ردة. وأيضا فإن استتابة مثل هذا توجب أن لا يقام حد على ساب لله فإنا نعلم أن ليس أحد من الناس مصرا على السب لله الذي يرى أنه سب فإن ذلك لا يدعو إليه عقل ولا طبع وكل ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلا

ولما كان استتابة الفساق بالأفعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه فاستتابة الساب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كل أحد أولى أن لا يشرع إذا تضمن تعطيل الحد وأوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به. وهذا كلام فقيه لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب. ولمن ينصر الأول أن يقول: تحقيق إقامة الحد على الساب لله ليس لمجرد زجر الطباع عما تهوى بل تعظيما لله وإجلالا لذكره وإعلاء لكلمته وضبطا للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجناية وتقييدا للألسن أن تتفوه بالانتقاص لحقه. وأيضا فإن حد سب المخلوق وقذفه لا يسقط بإظهار التوبة فحد سب الخالق أولى. وأيضا فحد الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة فكذلك حد الأقوال بل شأن الأقوال وتأثيرها أعظم. وجماع الأمر أن كل عقوبة وجبت جزاء ونكالا على فعل أو قول ماض فإنها لا تسقط إذا أظهرت التوبة بعد الرفع إلى السلطان فسب الله أولى بذلك ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي فلا يصلح نقضا لوجهين: أحدهما: أن عقوبة الساب لله ليست كذنب استصحبه واستدامه

فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي الكفر الذي هو مصر عليه مقيم على اعتقاده. الثاني: أن الكافر إنما يعاقب على اعتقاد هو الآن في قلبه وقوله وعمله دليل على ذلك الاعتقاد حتى لو فرض أنا علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقاد لموجبها لم نكفره بأن يكون جاهلا بمعناها أو مخطئا قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلافها ونحو ذلك والساب إنما يعاقب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيقتل وإن علمنا أنه لا يستحسن السب لله ولا يعتقده دينا إذ ليس أحد من البشر يدين بذلك ولا ينتقض هذا أيضا بتارك الصلاة والزكاة ونحوهما فإنهم إنما يعاقبون على دوام الترك لهذه الفرائض فإذا فعلوها زال الترك وإن شئت أن تقول: إن الكافر والمرتد وتاركي الفرائض يعاقبون على عدم فعل الإيمان والفرائض أعني على دوام هذا العدم فإذا وجد الإيمان والفرائض امتنعت العقوبة لانقطاع العدم وهؤلاء يعاقبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة لا على دوام وجودها فإذا وجدت مرة لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك. وبالجملة فهذا القول له توجه وقوة وقد تقدم أن الردة نوعان: مجردة ومغلظة وبسطنا هذا القول فيما تقدم في المسألة الثالثة ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح. ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكا آخر وهو أنه جعله من باب الزنديق كأحد المسلكين اللذين ذكرناهما في ساب الرسول لأن وجود السب منه مع إظهاره للإسلام دليل على خبث سريرته لكن هذا ضعيف فإن الكلام هنا إنما هو في سب لا يتدين به فإن السب الذي

يتدين به كالتثليث ودعوى الصاحبة والولد فحكمه حكم أنواع الكفر وكذلك المقالات المكفرة مثل مقالة الجهمية والقدرية وغيرهم من صنوف البدع. وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يؤدب أدبا وجيعا حتى يردعه عن العود إلى مثل ذلك هكذا ذكره بعض أصحابنا وهو قول أصحاب مالك في كل مرتد. فصل. وإن كان الساب لله ذميا فهو كما لو سب الرسول وقد تقدم نص الإمام أحمد على أن من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب سبحانه فإنه يقتل سواء كان مسلما أو كافرا وكذلك أصحابنا قالوا: من ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء فجعلوا الحكم فيه واحدا وقالوا: الخلاف في ذكر الله وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم سواء وكذلك مذهب مالك وأصحابه وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا لمن سب الله أو رسوله أو كتابه من أهل الذمة حكما واحدا لكن هنا مسألتان: إحداهما: أن سب الله تعالى على قسمين أحدهما: أن يسبه بما لا يتدين به مما هو استهانة به عند المتكلم وغيره مثل اللعن والتقبيح ونحوه فهذا هو السب الذي لا يرب فيه. والثاني: أن يكون مما يتدين به ويعتقده تعظيما ولا يراه سبا ولا انتقاصا مثل قول النصراني: إن له ولدا وصاحبة ونحوه فهذا مما اختلف فيه إذا أظهره الذمي فقال القاضي وابن عقيل من أصحابنا: ينتقض به العهد كما ينتقض إذا أظهروا اعتقادهم في النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقتضى ما ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وغيرهما فإنهم ذكروا أن ما ينقض

الإيمان ينقض الذمة ويحكى ذلك عن طائفة من المالكية ووجه ذلك أنا عاهدناهم على أن لا يظهروا شيئا من الكفر وإن كانوا يعتقدونه فمتى أظهروا مثل ذلك فقد آذوا الله ورسوله والمؤمنين بذلك وخالفوا العهد فينتقض العهد بذلك كسب النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه أنه قال للنصراني الذي كذب بالقدر: لئن عدت إلى مثل ذلك لأضربن عنقك وقد تقدم ما تقرر ذلك. والمنصوص عن مالك أن من شتم الله من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي كفروا به قتل ولم يستتب قال ابن القاسم: إلا أن يسلم تطوعا فلم يجعل ما يتدين به الذمي سبا وهذا قول عامة المالكية وهو مذهب الشافعي ذكره أصحابه وهو منصوصه قال في "الأم" في تحديد الإمام ما يأخذه من أهل الذمة وعلى أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما هو أهله ولا يطعنوا في دين الإسلام ولا يعيبوا من حكمه شيئا فإن فعلوه فلا ذمة لهم ويأخذ عليهم أن لا يسمعوا المسلمين شركهم وقولهم في عزير وعيسى فإن وجودهم فعلوا بعد التقدم في عزير وعيسى إليهم عاقبهم على ذلك عقوبة لا يبلغ بها حدا لأنهم قد أذن لهم بإقرارهم على دينهم مع علم ما يقولون وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد لأنه سئل عن يهودي مر بمؤذن فقال له: "كذبت" فقال: يقتل لأنه شتم فعلل قتله بأنه شتم فعلم أن ما يظهره به من دينه الذي ليس بشتم ليس كذلك قال رضي الله عنه: من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تعالى فعليه القتل مسلما كان أو كان كافرا وهذا مذهب أهل المدينة وإنما مذهب أهل المدينة فيما هو سب عند القائل وذلك أن هذا القسم ليس من باب السب والشتم الذي يلحق بسب الله وسب النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكافر لا يقول هذا طعنا ولا عيبا وإنما يعتقده تعظيما وإجلالا وليس هو ولا أحد من الخلق يتدين بسب الله تعالى بخلاف ما يقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم

من السوء فإنه لا يقال إلا طعنا وعيبا وذلك أن الكافر يتدين بكثير من تعظيم الله وليس يتدين بشيء من تعظيم الرسول ألا ترى أنه إذا قال: "محمد عليه الصلاة والسلام ساحر أو شاعر" فهو يقول: إن هذا نقص وعيب وإذا قال: "إن المسيح أو عزيرا ابن الله" فليس يقول: إن هذا نقص وعيب وإن كان هذا عيبا ونقصا في الحقيقة وفرق بين قول يقصد به قائله العيب والنقص وقول لا يقصد به ذلك ولا يجوز أن يجعل قولهم في الله كقولهم في الرسول بحيث يجعل الجميع نقضا للعهد إذ يفرق في الجميع بين ما يعتقدونه وبين ما لا يعتقدونه لأن قولهم في الرسول كله طعن في الدين وغضاضة على الإسلام وإظهار لعداوة المسلمين يقصدون به عيب الرسول ونقصه وليس مجرد قولهم الذي يعتقدونه في الله مما يقصدون به عيب الله ونقصه ألا ترى أن قريشا كانت تقار النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده ولا يقارونه على عيب آلهتهم والطعن في دينهم وذم آبائهم وقد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان لئلا يسب المشركون الله مع كونهم لم يزالوا على الشرك فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به فلا يجعل حكمهما واحدا. المسألة الثانية. في استتابة الذمي من هذا وقبل توبته. أما القاضي وجمهور أصحابه مثل الشريف وابن والبناء وابن عقيل ومن تبعهم فإنهم يقبلون توبته ويسقطون عنه القتل بها وهذا ظاهر على أصلهم فإنهم يقبلون توبة المسلم إذا سب الله فتوبة الذمي أولى وهذا هو المعروف من مذهب الشافعي وعليه يدل عموم كلامه حيث قال في شروط أهل الذمة: وعلى أن أحدا منكم إن ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله

ودينه بما لا ينبغي فقد برئت منه ذمة الله ثم قال: وأيهم قال أو فعل شيئا مما وصفته نقضا للعهد وأسلم لم يقتل إذا كان قولا إلا أنه لم يصرح بالسب لله فقد يكون عنى إذا ذكروا ما يعتقدونه وكذلك قال ابن القاسم وغيره من المالكية: إنه يقتل إلا أن يسلم وقال ابن مسلمة وابن أبي حازم والمخزومي: إنه لا يقتل حتى يستتاب فإن تاب وإلا قتل والمنصوص عن مالك أنه يقتل ولا يستتاب كما تقدم وهذا معنى قول أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايتين. قال في رواية حنبل: من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب فعليه القتل مسلما كان أو كافرا وهذا مذهب أهل المدينة وظاهر هذه العبارة أن القتل لا يسقط عنه بالتوبة كما لا يسقط القتل عن المسلم بالتوبة فإنه قال مثل هذه العبارة في شتم النبي صلى الله عليه وسلم في رواية حنبل أيضا قال: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا فعليه القتل" وكان حنبل يعرض عليه مسائل المدنيين ويسأله عنها. ثم إن أصحابنا فسروا قوله في شاتم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يسقط عنه القتل بالتوبة مطلقا وقد تقدم توجيه ذلك وهذا مثله وهذا ظاهر إذا قلنا إن المسلم الذي يسب الله لا يسقط عنه القتل بالتوبة لأن المأخذ عندنا ليس هو الزندقة فإنه لو أظهر كفرا غير السب استتبناه وإنما المأخذ أن يقتل عقوبة على ذلك وحدا عليه مع كونه كافرا كما يقتل لسائر الأفعال. ويظهر الحكم في المسألة بأن يرتب هذا السب ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن من شان الرب بما يتدين به وليس فيه سب لدين الإسلام إلا أنه سب عند الله تعالى مثل قول النصارى في عيسى ونحو ذلك فقد قال الله تعالى فيما يرويه عنه رسوله: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك" ثم قال: "وأما شتمه إياي فقوله إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد

الذي لم ألد ولم أولد" فهذا القسم حكمه حكم سائر أنواع الكفر سميت شتما أو لم تسم وقد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد بإظهار مثل هذا وإذا قيل بانتقاض العهد به فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجه وهو في الجملة قول الجمهور. المرتبة الثانية: أن يذكر ما يتدين به وهو سب لدين المسلمين وطعن عليهم كقول اليهودي للمؤذن "كذبت" وكرد النصراني على عمر رضي الله عنه وكما لو عاب شيئا من أحكام الله أو كتابه ونحو ذلك فهذا حكمه حكم سب الرسول في انتقاض العهد به وهذا القسم هو الذي عناه الفقهاء في نواقض العهد حيث قالوا: إذا ذكر الله أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوء ولذلك اقتصر كثير منهم على قوله: أو ذكر كتاب الله أو دينه أو رسوله بسوء وأما سقوط القتل عنه بالإسلام فهو كسب الرسول إلا أن في ذلك حقا لآدمي فمن سلك ذلك المسلك في سب الرسول فرق بينه وبين هذا وهي طريقة القاضي وأكثر أصحابه ومن قتله لما في ذلك من الجناية على الإسلام وأنه محارب لله ورسوله فإنه يقتل بكل حال وهو مقتضى أكثر الأدلة التي تقدم ذكرها. المرتبة الثالثة: أن يسبه بما لا يتدين به بل هو محرم في دينه كما هو محرم في دين الله تعالى كاللعن والتقبيح ونحو ذلك فهذا النوع لا يظهر بينه وبين سب المسلم فرق بل ربما كان فيه أشد لأنه يعتقد تحريم مثل هذا الكلام في دينه كما يعتقد المسلمون تحريمه وقد عاهدناه على أن نقيم عليه الحد فيما يعتقد تحريمه فإسلامه لم يجدد له اعتقادا لتحريمه بل هو فيه كالذمي إذا زنى أو قتل أو سرق ثم أسلم سواء ثم هو مع ذلك مما يؤذي المسلمين كسب الرسول بل أشد فإذا قلنا لا تقبل توبة المسلم من سب الله فأن نقول لا تقبل توبة الذمي أولى بخلاف الرسول فإنه يتدين

بتقبيح من يعتقد كذبه ولا يتدين بتقبيح خالقه الذي يقر أنه خالقه وقد يكون من هذا الوجه أولى بأن لا يسقط عنه القتل ممن سب الرسول ولهذا لم يذكر عن مالك نفسه وأحمد استثناء فيمن سب الله تعالى كما ذكر عنهما الاستثناء لمن سب الرسول وإن كان كثير من أصحابهما يرون الأمر بالعكس وإنما قصدا هذا الضرب من السب ولهذا قرنا بين المسلم والكافر فلا بد أن يكون سبا منهما وأشبه شيء بهذا الضرب من الأفعال زناه بمسلمة فإنه محرم في دينه مضر بالمسلمين فإذا أسلم لم يسقط عنه بل إما أن يقتل أو يحد حد الزنا كذلك سب الله تعالى حتى لو فرض أن هذا الكلام لا ينقض العهد لوجب أن يقام عليه حده لأن كل أمر يعتقده محرما فإنا نقيم عليه فيه حد الله الذي شرعه في دين الإسلام وإن لم يعلم مأخذه في كتابه مع أن الأغلب على القلب أن أهل الملل كلهم يقتلون على مثل هذا الكلام كما أن حده في دين الله القتل ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام على الزاني منهم حد الزنا قال: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" ومعلوم أن ذلك الزاني منهم لم يكن يسقط عنه لو أسلم فإقامة الحد على من سب الرب تبارك وتعالى سبا هو سب في دين الله ودينهم عظيم عند الله وعندهم أولى أن يحيا فيه أمر الله ويقام عليه حده. وهذا القسم قد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الذمي يستتاب منه كما يستتاب المسلم منه هذا قول طائفة من المدنيين كما تقدم وكأن هؤلاء لم يروه نقضا للعهد لأن ناقض العهد يقتل كما يقتل المحارب ولا معنى لاستتابة الكافر الأصلي المحارب وإنما رأوا حده القتل فجعلوه كالمسلم وهو يستتيبون المسلم فكذلك يستتاب الذمي

وعلى قول هؤلاء فالأشبه أن استتابته من السب لا تحتاج إلى إسلامه بل تقبل توبته مع بقائه على دينه. القول الثاني: أنه لا يستتاب لكن إن أسلم لم يقتل وهذا قول ابن القاسم وغيره وهو قول الشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد وعلى طريقة القاضي لم يذكر فيه خلاف بناء على أنه قد نقض عهده فلا يحتاج قتله إلى استتابة لكن إذا أسلم سقط عنه القتل كالحربي. القول الثالث: أنه يقتل بكل حال وهو ظاهر كلام مالك وأحمد لأن قتله وجب على جرم محرم في دين الله وفي دينه فلم يسقط عنه موجبه بالإسلام كعقوبته على الزنا والسرقة والشرب وهذا القول هو الذي يدل عليه أكثر الأدلة المتقدم ذكرها. فصل. السب الذي ذكرنا حكمه من المسلم هو: الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن والتقبيح ونحوه وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} . فهذا أعظم ما تفوه به الألسنة فأما ما كان سبا في الحقيقة والحكم لكن من الناس من يعتقده دينا ويراه صوابا وحقا ويظن أن ليس فيه انتقاص ولا تعييب فهذا نوع من الكفر حكم صاحبه إما حكم المرتد المظهر للردة أو المنافق المبطن للنفاق والكلام في الكلام الذي يكفر به صاحبه أو لا يكفر وتفصيل الاعتقادات وما يوجب منها الكفر أو البدعة فقط

أو ما اختلف فيه من ذلك ليس هذا موضعه وإنما الغرض أن لا يدخل هذا في قسم السب الذي تكلمنا في استتابة صاحبه نفيا وإثباتا والله أعلم. فصل. فإن سب موصوفا بوصف أو مسمى باسم وذلك يقع على الله سبحانه أو بعض رسله خصوصا أو عموما لكن قد ظهر أنه لم يقصد ذلك: إما لاعتقاده أن الوصف أو الاسم لا يقع عليه أو لأنه وإن كان يعتقد وقوعه عليه لكن ظهر أنه لم يرده لكون الاسم في الغالب لا يقصد به ذلك بل غيره فهذا القول وشبهه حرام في الجملة يستتاب صاحبه منه إن لم يعلم أنه حرام ويعزر مع العلم تعزيرا بليغا لكن لا يكفر بذلك ولا يقتل وإن كان يخاف عليه الكفر. مثال الأول: أن يسب الدهر الذي فرق بينه وبين الأحبة أو الزمان الذي أحوجه إلى الناس أو الوقت الذي أبلاه بمعاشرة من ينكد عليه ونحو ذلك مما يكثر الناس قوله نظما ونثرا فإنه إنما يقصد أن يسب من يفعل ذلك به ثم إنه يعتقد أو يقول إن فاعل ذلك هو الدهر الذي هو الزمان فيسبه وفاعل ذلك إنما هو الله سبحانه فيقع السب عليه من حيث لم يعتمده المرء وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر بيده الأمر" وقوله فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى يقول: "يا ابن آدم تسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" فقد نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن هذا القول وحرمه ولم يذكر كفرا ولا قتلا والقول المحرم يقتضي التعزيز والتنكيل. ومثال الثاني: أن يسب مسمى باسم عام يندرج فيه الأنبياء وغيرهم لكن يظهر أنه لم يقصد الأنبياء من ذلك العام مثل ما نقل الكرماني قال:

سألت أحمد قلت: رجل افترى على رجل فقال: يا ابن كذا وكذا إلى آدم وحواء فعظم ذلك جدا وقال: نسأل الله العافية لقد أتى هذا عظيما وسئل عن الحد فيه فقال: لم يبلغني في هذا شيء وذهب إلى حد واحد وذكر هذا أبو بكر عبد العزيز أيضا فلم يجعل أحمد رضي الله عنه بهذا القول كافرا مع أن اللفظ يدخل فيه نوح وإدريس وشيث وغيرهم من النبيين لأن الرجل لم يدخل آدم وحواء في عمومه وإنما جعلهما غاية وحدا لمن قذفه وإلا لو كانا من المقذوفين تعين قتله بلا ريب ومثل هذا العموم في مثل هذا الحال لا يكاد يقصد به صاحبه من يدخل فيه من الأنبياء فعظم الإمام أحمد ذلك لأن أحسن أحواله أن يكون قذف خلقا من المؤمنين ولم يوجب إلا حدا واحدا لأن الحد هنا ثبت للحي ابتداء على أصله وهو واحد وهذا قول أكثر المالكية في مثل ذلك. وقال سحنون وأصبغ وغيرهما في رجل قال له غريمه: صلى الله على النبي محمد فقال له الطالب: لا صلى الله على من صلى عليه قال سحنون: "ليس هو كمن شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه إذا كان على ما وصف من الغضب لأنه إنما شتم الناس" وقال أصبغ وغيره: "لا يقتل إنما شتم الناس" وكذلك قال ابن أبي زيد فيمن قال: "لعن الله العرب ولعن الله بني إسرائيل ولعن الله بني آدم وذكر أنه لم يرد الأنبياء وإنما أردت الظالمين منهم": إن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان. وذهب طائفة منهم الحارث بن مسكين وغيره إلى القتل في مسألة المصلي ونحوها وكذلك قال أبو موسى بن مياس فيمن قال: "لعنه الله إلى آدم" إنه يقتل وهذه مسألة الكرماني بعينها وهذا قياس أحد الوجهين لأصحابنا فيمن قال: عصيت الله في كل ما أمرني به فإن أكثر أصحابنا قالوا: ليس ذلك بيمين لأنه إنما التزم المعصية كما لو قال: محوت المصحف

أو شربت الخمر إن فعلت كذا ولم يظهر قصد إرادة الكفر من هذا العموم لأنه لو أراده لذكره باسمه الخاص ولم يكتف بالاسم الذي يشركه فيه جميع المعاصي. ومنهم من قال: هو يمين لأن مما أمره الله به الإيمان ومعصيته فيه كفر ولو التزم الكفر بيمينه بأن قال: هو يهودي أو نصراني أو هو برئ من الله أو من الإسلام أو هو يستحل الخمر والخنزير أو لا يراه الله في مكان كذا إن فعل كذا ونحوه كان يمينا في المشهور عنه ووجه هذا القول أن اللفظ عام فلا يقبل منه دعوى الخصوص ولعل من يختار هذا يحمل كلام الإمام أحمد على أن القائل كان جاهلا بأن في النسب أنبياء. ووجه الأول أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية في المرأة التي كانت تهجو المسلمين يلومه على قطع يدها ويذكر له أنه كان الواجب أن يعاقبها بالضرب مع أن الأنبياء يدخلون في عموم هذا اللفظ ولأن الألفاظ العامة قد كثرت وغلب إرادة الخصوص بها فإذا كان اللفظ لفظ سب وقذف وللأنبياء ونحوهم من الخصائص والمزايا ما يوجب ذكرهم بأخص أسمائهم إذا أريد ذكرهم والغضب يحمل الإنسان على التجوز في القول والتوسع فيه كان ذلك قرائن عرفية ولفظية وحالية في أنه لم يقصد دخولهم في العموم لا سيما إذا كان دخول ذلك الفرد في العموم لا يكاد يشعر به. ويؤيد هذا أن يهوديا قال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي اصطفى موسى على العالمين" فلطمه المسلم حتى اشتكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفضيله على موسى لما فيه من انتقاص المفضول بعينه والغض منه ولو أن اليهودي أظهر القول بأن

موسى أفضل من محمد لوجب التعزير عليه إجماعا بالقتل أو بغيره كما تقدم التنبيه عليه. فصل. والحكم في سب سائر الأنبياء كالحكم في سب نبينا فمن سب نبيا مسمى باسمه من الأنبياء المعروفين كالمذكورين في القرآن أو موصوفا بالنبوة مثل ما يذكر حديثا أن نبيا فعل كذا أو قال كذا فيسب ذلك القائل أو الفاعل مع العلم بأنه نبي وإن لم يعلم من هو أو يسب نوع الأنبياء على الإطلاق فالحكم في هذا كما تقدم لأن الإيمان بهم واجب عموما وواجب الإيمان خصوصا بمن قصه الله علينا في كتابه وسبهم كفر وردة إن كان من مسلم ومحاربة إن كان من ذمي. قد تقدم في الأدلة الماضية ما يدل على ذلك بعمومه لفظا أو معنى وما أعلم أحدا فرق بينهما وإن كان أكثر كلام الفقهاء إنما فيه ذكر من سب نبيا فإنما ذلك لمسيس الحاجة إليه وأنه وجب التصديق له والطاعة له جملة وتفصلا ولا ريب أن جرم سابه أعظم من جرم ساب غيره كما أن حرمته أعظم من حرمة غيره وإن شاركه سائر إخوانه من النبيين والمرسلين في أن سابهم كافر محارب حلال الدم. فأما إن سب نبيا غير معتقد لنبوته فإنه يستتاب من ذلك إذا كان ممن علمت نبوته بالكتاب والسنة لأن هذا جحد لنبوته إن كان ممن يجهل أنه نبي فإنه سب محض ولا يقبل قوله: إني لم أعلم أنه نبي. فصل. فأما من سب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال القاضي أبو يعلى: "من قذف

عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف" وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم. فروي عن مالك: "من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن لأن الله تعالى قال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ". وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق: أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر فقال إسماعيل: "ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم". قال أبو السائب القاضي: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام يفرق على سائر ولد الصحابة وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال: "يا غلام اضرب عنقه" فقال له: العلويون: هذا رجل من شيعتنا فقال: "معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه" فضربوا عنقه وأنا حاضر رواه اللالكائي. وروي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من

العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء فقال: "هذا سمى جدي قرنان ومن مسمي جدي قرنان استحق القتل فقتله". وأما من سب غير عائشة من أزواجه ففيه قولان: أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة على ما سيأتي. والثاني: وهو الأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وقد تقدم معنى ذلك عن ابن عباس وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده وقد تقدم التنبيه على ذلك فيما مضى عند الكلام على قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} الآية والأمر فيه ظاهر. فصل. فأما من سب أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيته وغيرهم فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب ضربا نكالا وتوقف عن قتله وكفره. قال أبو طالب: سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القتل أجبن عنه ولكن أضربه ضربا نكالا". وقال عبد الله: سألت أبي عمن شتم رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أرى أن يضرب" قلت له: حد فلم يقف على الحد إلا أنه قال: "يضرب" وقال: "ما أراه على الإسلام". وقال: سألت أبي من الرافضة؟ فقال: "الذين يشتمون أو يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما".

وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الإصطخري وغيره: وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتيبه فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده الحبس حتى يموت أو يراجع. وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم. وقال الميموني: سمعت أحمد يقول: "ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية" وقال لي: "يا أبا الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام". فقد نص رضي الله عنه على جواب تعزيره واستتابة حتى يرجع بالجلد وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع وقال: "ما أراه على الإسلام" وقال: "واتهمه على الإسلام" وقال: "أجبن عن قتله". وقال إسحاق بن راهويه: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس. وهذا قول كثير أصحابنا منهم ابن أبي موسى قال: "ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة إلا أن يتوب ويظهر توبته وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين.

قال الحارث بن عتبة: "إن عمر بن عبد العزيز أتى برجل سب عثمان فقال: ما حملك على أن سببته؟ قال: أبغضه قال: وإن أبغضت رجلا سببته؟ قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطا". وقال إبراهيم بن ميسرة: "ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا رجل شتم معاوية فضربه أسواطا. رواهما اللالكائي وقد تقدم أنه كتب في رجل سبه: "لا يقتل إلا من سب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن اجلده فوق رأسه أسواطا ولولا أني رجوت أن ذلك خير له لم أفعل". وروى الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم الأحول قال: "أتيت برجل قد سب عثمان قال: فضربته عشرة أسواط قال: ثم عاد لما قال فضربته عشرة أخرى قال: فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطا". وهو المشهور من مذهب مالك قال مالك: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ومن سب أصحابه أدب". وقال عبد الملك بن حبيب: "من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم". وقال ابن المنذر: "لا أعلم أحدا يوجب قتل من سب من بعد النبي صلى الله عليه وسلم". وقال القاضي أبو يعلى: "الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة: إن كان مستحلا لذلك كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم". وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة

وكفر الرافضة قال محمد بن يوسف الفريابي "وسئل عمن شتم أبا بكر قال: كافر قيل: فيصلى عليه؟ قال: لا وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته". وقال أحمد بن يونس: "لو أن يهوديا ذبح شاة وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي لأنه مرتد عن الإسلام". وكذلك قال أبو بكر بن هاني: "لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد وأهل الذمة يقرون على دينهم وتؤخذ منهم الجزية". وكذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة: "ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم". وقال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: "والله إن قتلك لقربة إلى الله وما امتنع من ذلك إلا بالجواز وفي رواية قال: رحمك الله قذفت إنما تقول هذا تمزح قال: لا والله ما هو بالمزاح ولكنه الجد قال: وسمعته يقول: لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم". وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم. وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع: "فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج". ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى أنه إن سبهم سبا يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك وإن سبهم سبا لا يقدح مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سبا يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر.

قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذه زندقة وقال في رواية المروزي: من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام. قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله وكمال الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره. قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "ما أراه على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال: ويحتمل قوله: "ما أراه على الإسلام" على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله: كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان: إحداهما يكفر والثانية يفسق وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكوا في تكفيرهم روايتين. قال القاضي: "ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف". ونحن نرتب الكلام في فصلين أحدهما: في سبهم مطلقا والثاني: في تفصيل أحكام السب. أما الأول فسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة. أما الأول فلأن الله سبحانه يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتابا وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ

هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} والطاعن عليهم همزة لمزة وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} وهم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم لأن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقا بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافقه على موجبات الرضى ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا وقوله تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} سواء كانت ظرفا محضا أو ظرفا فيها معنى التعليل فإن ذلك لتعلق الرضى بهم فإنه يسمى رضى أيضا كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه وقيل: بل الظرف يتعلق بنفس الرضى وإنه يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه ويحب من اتبع الرسول بعد إتباعه له وكذلك أمثال هذا وهذا قول جمهور السلف وأهل الحديث وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر وعلى هذا فقد بين في مواضع أخر أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة". وأيضا فكل من أخبر الله أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له فلو علم أنه يتعقب ذلك ما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك. وهذا كما في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} ولأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} الآية وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وهو أول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي

قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم فعلم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ومحبة الشيء كراهته لضده فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم" رواه مسلم. وعن مجاهد عن ابن عباس قال: "لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وقد علم أنهم سيقتتلون" رواه الإمام أحمد. وعن سعد بن أبي وقاص قال: "الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال: ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {وَرِضْوَاناً} فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَحِيمٌ} قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت يقول: أن تستغفروا لهم" ولأن من حاز سبه بعينه أو بغيره لم يجز الاستغفار له كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وكما لا يجوز أن يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية لأن ذلك لا سبيل إليه ولأنه شرع لنا أن نسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا والسب باللسان أعظم من الغل الذي لا سب معه ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزا لم يشرع لنا أن نسأله ترك ما لا يضر فعله ولأنه وصف مستحقي الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة والنصرة فعلم أن ذلك صفة للمؤثر فيهم ولو كان السب جائزا لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز كما لا يشترط ترك سائر المباحات بل لو لم يكن الاستغفار لهم واجبا لم يكن شرطا في استحقاق الفيء لأن استحقاق الفيء لا يشترط فيه ما ليس بواجب بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين وأصله. وأما السنة ففي الصحيحين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". وفي رواية لمسلم واستشهد بها البخاري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". وفي رواية للبرقاني في صحيحه: "لا تسبوا أصحابي دعوا لي أصحابي فإن أحدكم لو أنفق كل يوم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". والأصحاب: جمع صاحب والصاحب: اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحابة وكثيرها لأنه يقال: صحبته ساعة وصحبته شهرا وصحبته

سنة قال الله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قد قيل: هو الرفيق في السفر وقيل: هو الزوجة ومعلوم أن صحبة الرفيق وصحبة الزوجة قد تكون ساعة فما فوقها وقد أوصى الله به إحسانا ما دام صاحبا وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" وقد دخل في ذلك قليل الصحبة وكثيرها وقليل الجوار وكثيره وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك. فإن قيل: فلم نهى خالد عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضا؟ وقال: "لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهو أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسية خالد إلى السابقين وأبعد. وقوله: "لا تسبوا أصحابي" خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: "أيها الناس إني أتيتكم فقلت: إني رسول الله إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" أو كما قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم قال ذلك

لما عاير بعض الصحابة أبا بكر وذاك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه. وعن محمد بن طلحة المديني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني واختار لي أصحابا جعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا" وهذا محفوظ بهذا الإسناد. وقد روى ابن ماجة بهذا الإسناد حديثا وقال أبو حاتم في تحديثه: هذا محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به على انفراده ومعنى هذا الكلام أنه يصلح للاعتبار تحديثه والاستشهاد به فإذا عضده آخر مثله جاز أن يحتج به ولا يحتج به على انفراده. وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي من أحبهم فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" رواه الترمذي وغيره من حديث عبيدة ابن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عنه وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروي هذا المعنى من حديث أنس أيضا ولفظه: "من سب أصحابي فقد سبني ومن سبني فقد سب الله" رواه ابن البناء. وعن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من سب أصحابي" رواه أبو أحمد الزبيري: حدثنا محمد بن خالد عنه وقد روى عنه عن ابن عمر مرفوعا من وجهه آخر رواهما اللالكائي.

وقال علي بن عاصم: أنبأ أبو قحذم حدثني أبو قلابة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا" رواه اللالكائي. ولما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي: كان يقال: "شتم أبي بكر وعمر من الكبائر" وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: "شتم أبي بكر وعمر من الكبائر" التي قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وإذا كان شتمهم بهذه المثابة فأقل ما فيه التعزير لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة وقد قال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم واعتقاد محبتهم وموالاتهم وعقوبة من أساء فيهم القول. ثم من قال: لا أقتل بشتم غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يستدل بقصة أبي بكر المتقدمة وهو أن رجلا أغلظ له وفي رواية شتمه فقال له أبو برزة: أقتله؟ فانتهره وقال: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبأنه كتب إلى المهاجر بن أبي أمية: "إن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود" كما تقدم ولأن الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعونا في الدنيا والآخرة وقال في الثاني: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة فتكون عليه عقوبة مطلقة ولا يلزم من العقوبة جواز القتل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن

لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو رجل قتل نفسا فيقتل بها" ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضا ولم يكفر أحدا بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما من قال: "يقتل الساب" أو قال: "يكفر" فلهم دلالات احتجوا بها: منها: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فلا بد أن يغيظ بهم الكفار وإذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أذلهم الله به وأخزاهم وكبتهم على كفرهم ولا يشارك الكفار في غيظهم الذين كبتوا به جزاء لكفرهم إلا كافر لأن المؤمن لا يكبت جزاء للكفر. يوضح ذلك أن قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب لأن الكفر مناسب لأن يغاظ صاحبه فإذا كان هو الموجب لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه موجب ذاك وهو الكفر. قال عبد الله ابن إدريس الأودي الإمام: "ما آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار يعني الرافضة لأن الله تعالى يقول: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} " وهذا معنى قول الإمام أحمد: "ما أراه على الإسلام".

ومن ذلك: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" وقال: "فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل كما تقدم وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين وبين أذاهم بعد صحبتهم له فإنه على عهده قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقا ويمكن أن يكون مرتدا فأما إذا مات مقيما على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود: "اعتبروا الناس بأخدانهم" وقالوا: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا كان أصحابه صالحين أو كما قال: وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ومعلوم أن رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه وعد ذلك أذى له وإلى هذا أشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: "لا تسبوا أصحاب محمد فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله" رواه اللالكائي وكأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه" وهذا تفاوت عظيم جدا.

ومن ذلك: ما روي عن علي رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" رواه مسلم. ومن ذلك: ما خرجاه في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" وفي لفظ قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق". وفي الصحيحين أيضا عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله". ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر". وروى مسلم في صحيحه أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر". فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وإنما خص الأنصار والله أعلم لأنهم هم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الأحمر والأسود من أجله وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال وكان المهاجرون إذ ذاك قليلا غرباء فقراء مستضعفين ومن عرف السيرة وأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمنا يحب الله ورسوله لم يملك أن لا يحبهم كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك والله أعلم أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه

فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق. ومن هذا رواه طلحة بن مصرف قال: كان يقال: "بغض بني هاشم نفاق وبغض أبي بكر وعمر نفاق والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة". ومن ذلك: ما رواه كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام" هكذا رواه عبد الله ابن أحمد في مسند أبيه. وفي السنة من وجوه صحيحة عن يحيى بن عقيل: حدثنا كثير ورواه أيضا من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الخياط عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده يرفعه قال: "يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام" وكثير النواء يضعفونه. وروى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني أو النخعي عن عمه عن علي قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا علي أنت وشيعتك في الجنة وإن قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون" قال علي: "ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك وآية ذلك أنه يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما". ورواه عبد الله بن أحمد: حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى ورواه أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال: قال علي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على عمل إذا عملته كنت من أهل الجنة؟ وإنك من

أهل الجنة إنه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون" قال: وقال علي رضي الله عنه: "سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا يكذبون علينا مارقة آية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما". ورواه أبو القاسم البغوي: حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن حازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال: "يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به وينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر أينما أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون". وقال سويد: حدثنا مروان بن معاوية عن حماد بن كيسان عن أبيه وكانت أخته سرية لعلي رضي الله عنه قال: سمعت عليا يقول: "يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون" فهذا الموقوف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث أم سلمة وفي إسناده سوار ابن مصعب وهو متروك. وروي ابن بطة بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني واختار لي أصحابي فجعلهم أنصاري وجعلهم أصهاري وإنه سيجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم ألا فلا تواكلوهم ولا تشاربوهم ألا فلا تناكحوهم ألا فلا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم عليهم حلة اللعنة" وفي هذا الحديث نظر. وروى ما هو أغرب من هذا وأضعف رواه ابن البناء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فإن كفارتهم القتل".

وأيضا فإن هذا مأثور عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو الأحوص عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله بن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر فهم بقتله فقيل له: تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت؟ فقال: "لا يساكنني في دار أبدا". وفي رواية عن شباك قال: بلغ عليا أن ابن السوداء يبغض أبا بكر وعمر قال: فدعاه ودعا بالسيف أو قال: فهم بقتله فكلم فيه فقال: "لا يساكنني ببلد أنا فيه" فنفاه إلى المدائن وهذا محفوظ عن أبي الأحوص وقد رواه النجاد وابن بطة واللالكائي وغيرهم ومراسيل إبراهيم جياد لا يظهر علي رضي الله عنه أنه يريد قتل رجل إلا وقتله حلال عنده ويشبه والله أعلم أن يكون إنما تركه خوف الفتنه بقتله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك عن قتل بعض المنافقين فإن الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه وصار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم وبسبب هذا وشبهه كانت فتنة الجمل. وعن سلمه بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: يا أبت لو كنت سمعت رجلا يسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكفر أكنت تضرب عنقه؟ قال: نعم رواه الإمام أحمد وغيره ورواه ابن عيينة عن خلف بن حوشب عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى قال: قلت لأبي: لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا؟ قال: أضرب عنقه قلت: فعمر؟ قال: أضرب عنقه وعبد الرحمن ابن أبزى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أدركه وصلى خلفه وأقره عمر رضي الله عنه عاملا على مكة وقال: هو ممن رفعه الله بالقرآن بعد أن قيل له: أنه عالم بالفرائض قارئ لكتاب الله واستعمله على رضي الله عنه على خراسان. وروى قيس ابن الربيع عن وائل عن البهي قال: وقع بين عبيد الله بن

عمر وبين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر: "علي بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده بشتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية فهم عمر بقطع لسانه فكلمه فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "ذروني أقطع لسان ابني لا يجترئ أحد بعده يسب أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" رواه حنبل وابن بطة واللالكائي وغيرهم ولعل عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولعل المقداد كان فيهم. وعن عمر بن الخطاب أنه أتى بأعرابي يهجو الأنصار فقال: "لولا أن له صحبة لكفيتكموه" رواه أبو ذر الهروي. ويؤيد ذلك ما روى الحكم بن جحل قال: سمعت عليا يقول: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا جلدته جلد المفتري". وعن علقمة بن قيس قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: "إنه بلغني أن قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه ولكني أكره العقوبة قبل التقدم ومن قال شيئا من ذلك فهو مفتر عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر" رواهما عبد الله بن أحمد وروى ذلك ابن بطة اللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال: "تداروا في أبي بكر وعمر فقال رجل من عطارد: عمر أفضل من أبي بكر فقال الجارود: بل أبو بكر أفضل منه قال: فبلغ ذلك عمر قال: فجعل يضربه ضربا بالدرة حتى شغر برجله ثم أقبل إلى الجارود فقال: إليك عني ثم قال عمر: "أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا" ثم قال عمر: "من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري".

فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل عليا على أبي بكر وعمر أو من يفضل عمر على أبي بكر مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير. فصل. في تفصيل القول فيهم. أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم

والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الأمة التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفارا أو فساقا ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب إلا صحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب. وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره ومنهم من لا يحكم بكفره ومنهم من تردد فيه وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك وإنما ذكرنا هذه المسائل لأنها في تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها. فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب ذكرنا ما يسره الله واقتضاه الوقت والله سبحانه يجعله لوجهه خالصا وينفع به ويستعملنا فيما يرضاه منم القول والعمل. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا.

§1/1