الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق

راغب السرجاني

حب رسول الله صلى الله عليه وسلم

سلسلة الصديق_حب رسول الله صلى الله عليه وسلم حب النبي صلى الله عليه وسلم فريضة من فرائض الدين التي لا يتم إسلام المرء إلا بها، وقد ضرب الصحابة الكرام أمثالاً عظيمة في حبه صلى الله عليه وسلم، ومنهم الصديق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه، أكثر الناس وأعظمهم حباً للنبي صلى الله عليه وسلم.

أهمية دراسة التاريخ الإسلامي

أهمية دراسة التاريخ الإسلامي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم فقهنا في الدين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علماً. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب، وفي هذا الجمع المبارك، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا أجمعين، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. قد تحدثت قبل ذلك كثيراً عن أهمية دراسة التاريخ الإسلامي، وأشرت قبل ذلك كثيراً إلى أنه لا جديد على الأرض، نعم والله لا جديد على الأرض، والتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، فنفس الأحداث نراها رأي العين، ولكن باختلاف في الأسماء والأمكنة. فمن يدرس التاريخ بعمق يكون كأنه يرى المستقبل ويقرأ ما يجد على وجه الأرض من أمور، ولا يخدع بسهولة مهما تعاظمت المؤامرات ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة. من يدرس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته، ويكون كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض؟ ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، وهذا أمر من الله عز وجل. ولكن قص القصة أو رواية الرواية لا يغني شيئاً إن لم يتبع بتفكر وتدبر، فدراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، بل دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة. وفي دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وستجدون أننا في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة وأمور من الفقه وأمور من الأخلاق وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام، ونعرض لفقه الموازنات والأولويات، ونعرض لفقه الواقع وغير ذلك من الأمور، وإن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين، فإن الله عز وجل في كتابه الحكيم يقص القصة فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل، ويعرض فيها الرقائق التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمراً عقائدياً، وقد يعرض فيها حكماً فقهياً، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حي ينبض ولساناً ينطق. ولا يحدثنا عن رجال ماتوا ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة، بل يحدثنا عن أحداثنا وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا. فالتاريخ ثروة حقيقية، ولكنها مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود وتفريغ وقت وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح، يعني: لن ينفع جهد رجل أو رجلين أو عشرة أو جهد يوم أو يومين أو سنة، بل تحتاج إلى جهود إلى جهود علماء كثر، وتحتاج إليكم جميعاً يا من ترجون للإسلام قياماً. التاريخ الإسلامي هو أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، ووالله! إني أشعر أن الدنيا قد سعدت بتدوين التاريخ الإسلامي، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة، أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو تاريخ أمة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر. التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال فهموا دينهم ودنياهم فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة العجيبة، عز في الدنيا وعز في الآخرة، ومجد في الدنيا ومجد في الآخرة، وملك في الدنيا وملك في الآخرة، التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، حضارة جمعت الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه، جمعت القوة والإعداد والذكاء والتدبير، جمعت كل ذلك جنباً إلى جنب مع سلامة العقيدة وصحة العبادة وصدق التوجه ونبل الغاية، وصدق الله تعالى إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. هذا هو التاريخ الإسلامي في أصله وجوهره، ولا يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوباً بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن أيضاً من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام؛ فالإسلام دين لا ثغرة فيه ولا خطأ ولا عيب، فهو دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه وليس على الإسلام، وكثيراً ما يخالف الناس فتحدث هنات وسقطات، لكنه في تاريخ المسلمين ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثاب المسلمون إلى رشدهم وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين. هذا هو التاريخ الإسلامي، ومع كل هذا القدر لهذا التا

أهمية دراسة قضية استخلاف الصديق

أهمية دراسة قضية استخلاف الصديق ولقد اخترت حدثاً هاماً جليلاً عظيماً من أحداث التاريخ الإسلامي، آثرت أن أفرد له مجموعة من المحاضرات حتى ندرسه ونفقهه ونحلله، ثم نتحرك به خطوات -إن شاء الله- إلى الأمام، هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاحظوا أنني أقول: استخلاف أبي بكر الصديق فقط، ولا أقول: إني سأتحدث عن خلافة أبي بكر الصديق؛ فهذا حديث يطول ويتشعب. لكني فقط في هذه المجموعة أتحدث عن قصة الاستخلاف، وكيف تم اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة للمسلمين؟ وما هي الخطوات؟ وما هي التبعات؟ وماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟ وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟ والحق أني أذكر لكم أن كثيراً من الإخوة المتابعين لهذه المحاضرات قد تعجبوا من إفراد مجموعة كاملة من المحاضرات لهذا الحدث، فهم يعدونه حدثاً قصيراً بسيطاً في التاريخ؛ لأن هذا الحدث تم في أقل من يوم واحد، فيقولون: لماذا نحن سنأخذ عشرة أيام أو عشرين يوماً في شرح حدث تم في يوم واحد أو في ساعة واحدة وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرناً من الزمان؟ يعني: على هذا نحن محتاجون إلى حوالي ألف سنة أو ألفي سنة من أجل أن نذكر التاريخ الإسلامي. والحقيقة أننا لن نفرد مثل هذا الوقت الطويل لكل الأحداث غير هذا الحدث؛ لأن هذا الحدث في غاية الأهمية، ولماذا هذا الحدث بالذات؟ أجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:

حرص المسلمين على دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين

حرص المسلمين على دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين النقطة الأولى: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة عامة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين- تعتبر من أهم الأمور التي يحرص عليها المسلمون، ويجب أن نحرص على دراستها دراسة وافية مستفيضة شاملة؛ لأنها فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الفترة تعتبر جزءاً من التشريع الخاص بالمسلمين، فإن قيل: وهل هناك تشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: إن كثيراً من الأمور استجدت في حياة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك أمور تحتاج إلى فقه واجتهاد فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار، واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها وسارت معهم الأمة فكانت تشريعاً للمسلمين، فحدثت أمور ما كان لها شبيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا الحدث الذي نحن بصدده، وهو اختيار خليفة للمسلمين. ومنها: فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور، ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها. إنها فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء. وهنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي رحمه الله وقال عنه: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وصدقت يا رسول الله! فنحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، حيث تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟ وفي أي الطرق نسير؟ وأي مناهج نتبع؟ وأي الأساليب نختار؟ استمع إلى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ -أي: الأضراس؛ لأنها تمسك بشدة- وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). فعند تشعب الطرق عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بالطبع أمر مفهوم، لكن لماذا يضيف صلى الله عليه وسلم: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ولو كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضحت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل وشرع للأمة إلى يوم الدين. خلاصة هذه النقطة: أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، ولابد أن يعطي له المسلمون اهتماماً خاصاً، وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء الراشدين، ولذلك سنتحدث عنها، ثم -إن شاء الله- يليها بعد ذلك أحاديث كثيرة عن تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين بتفصيل كبير.

استخلاص أحكام تفيد في بناء الأمة الإسلامية

استخلاص أحكام تفيد في بناء الأمة الإسلامية النقطة الثانية: التي تهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: أننا سنستخلص أحكاماً وأموراً هامة من هذه الحادثة تفيد جداً في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحاً: ما هو معنى الشورى؟ وكيف تم تطبيقها في هذا الحدث؟ وكيف التصرف عند الاختلاف؟ وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ ولماذا يختار رجل دون آخر لإمارة ما؟ وهناك أمور أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.

اعتبار هذا الحدث بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم

اعتبار هذا الحدث بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم النقطة الثالثة: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جلل، والأصعب من ذلك غياب الوحي، وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحاً من قصة أم أيمن رضي الله عنها: روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) وأم أيمن كانت بمثابة الأم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت الحاضنة له بعد وفاة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها). فالصحابة كانوا يعايشون الوحي، وتخيل معي هذا الأمر الفريد: كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل منهم: الله يقول لكم كذا، الله ينهاكم عن كذا، الله غفر لفلان، الله يحب فلاناً، الله يبشر فلاناً بالجنة، الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى. وإذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأياً على رأي، ويعدل المسار، ويصحح الوجهة، وفجأة انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا أين غضب الله وأين رضاه؟ وإذا اختلفوا فعليهم أن يختاروا رأياً دون انتظار التعديل الإلهي. نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي والموقف بعد انقطاع الوحي. فحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولابد أن في دراستها عبراً لا تحصى وفوائد لا تقدر بثمن.

الأحداث الجسام التي تبعت هذا الحدث في حياة المسلمين

الأحداث الجسام التي تبعت هذا الحدث في حياة المسلمين النقطة الرابعة في أهمية دراسة حادث الاستخلاف: أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين، ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليكون خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل له طابع يختلف كثيراً عن كثير من الصحابة، وسنتعرف عليه -إن شاء الله- في هذه الحلقات، وستشعر كم كان الله رحيماً بالمؤمنين، ومسدداً لخطاهم لما يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهما على سبيل المثال: حروب الردة، وسنفرد لها -إن شاء الله- مجموعة خاصة من المحاضرات بعد أن ننتهي من هذه المحاضرات، وسترون فيها أنه لولا أبي بكر الصديق لما ثبت المسلمون في فتنة الردة العظيمة. يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الصديق استخلف لما عبد الله في الأرض. ومنها على سبيل المثال أيضاً: الفتوح الإسلامية العجيبة لدولتي فارس والروم، إنها أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق، وقد يكون من السهل على من تبعه من خلفائه أن يقوموا بالفتوح من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسن سنة حسنة تبعه فيها الآخرون. فحادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، ولابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.

كثرة طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذا الحدث

كثرة طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذا الحدث النقطة الخامسة والأخيرة في أهمية دراسة هذا الحدث الخطير: أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة، فلم يتركوا أحداً، وطعنوا في كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، فطعنوا في أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح وعائشة وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وأبي هريرة والسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء، وذموه في صورة المدح، وطعنوا في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في معظم -أو قل: في كل- صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلاصة الأمر: أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال وخير القرون، فإن كانوا هم كذلك كما يقولون فأي خير يرتجى فيمن جاء من بعدهم؟ وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟ وكيف نقبل باجتهادهم؟ فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه، ويدمرون الإسلام في أصوله، وهذا الكلام ليس تاريخاً قديماً فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير كذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة التي تدرس التاريخ، سواء في الجامعات المحلية أو في الجامعات الغربية التي تفتح فروعاً في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضاً بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية؛ وذلك لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. وهنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله؛ فتاريخ المسلمين بحق بحر لا ساحل له.

شخصية أبي بكر الصديق

شخصية أبي بكر الصديق لكي نفهم هذا الحدث الكبير ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين لابد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولابد أن نفرد بعض المحاضرات لنعرض لطرف بسيط في حياته، فنحن لا نستطيع أبداً أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية هذا الرجل العملاق الفذ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإنما نحن فقط كما يقولون: نغلق الباب وننظر على استحياء لنعرف من هذا، وما هي مفاتيح الشخصية عند هذا الرجل العظيم، وما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور، وما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وفي آخرته. أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة، شخصية عجيبة جمعت كل ذلك وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله عز وجل حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجاب! واستمع إلى رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه الشخصية، شخصية أبي بكر الصديق، فقد دار حوار لطيف بين محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـ محمد ابن الحنفية وبين أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، أخرج هذا الحديث البخاري رحمه الله. قال محمد بن علي بن أبي طالب يسأل أباه علي بن أبي طالب: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان. فهو يعلم قدر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وأن علي بن أبي طالب يتبعه، فقال: وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. وهذا تواضع كبير من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورضي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. ترى كيف تكون شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر) يعني: من أكثرهم منة وفضلاً علي في صحبته وماله أبو بكر، قال: (ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته) إنها مقامات عالية جداً، فـ أبو بكر من أمن الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الله خليلاً، ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر، فكيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟ وكيف وصل إليها؟ في هذه المجموعة لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، بمعنى: تاريخ حياته منذ الميلاد إلى أن مات، وإنما سندرس الشخصية بالبحث في مفاتيحها، وأحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، وكيف سهل عليه فعل هذا الخير كله؟ وكيف وصل إليه؟ وكيف حافظ عليه؟ ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا التاريخ إلى أن نقلده فيما فعل، ونصل إلى ما إليه وصل؟ سنحاول في هذه المجموعة أن نضع أيدينا على هذه النقاط التي جعلت من أبي بكر الصديق أبا بكر الصديق.

الجوانب التي تميز بها أبو بكر الصديق

الجوانب التي تميز بها أبو بكر الصديق بتحليل شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة لعل من أهمها أربعة أمور، من هذه الأمور الأربعة تنبثق معظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه:

حب أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم

حب أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم الصفة الأولى: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا أن نصل إلى ما وصل إليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه أو إلى جزء منه فعلينا بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ الصديق أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً خالط لحمه ودمه وعظامه وروحه، حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً فريداً، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه أحبه الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعاً. روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد: (إن أبا بكر وزن بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فوزن بها). وفي رواية: (إن أبا بكر وضع في كفة وأمتي في كفة فعدلها). إذاً: هذا الرجل كان أشد الناس إيماناً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحب المتناهي له دليل من كل موقف من مواقف السيرة، ولو تتبعت رحلة الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لرأيت حباً قلما يتكرر في التاريخ. وتعالوا نقلب بعض الصفحات في حادث واحد من أحداث السيرة النبوية، إنه حادث الهجرة إلى المدينة المنورة، ثم سنتبعه بأحداث في مواقع أخرى من هذه المحاضرات. لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر الصديق في ساعة لم يكن يأت إليهم فيها كان أول ما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: (فداء له أبي وأمي، والله! ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر) يعني: هناك أمر خطير جاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة، فإنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يأتي الصديق في هذا الوقت في الظهيرة. ولما أخبره صلى الله عليه وسلم بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: (الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة). فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق لما علم أنه سيصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اسمعوا إلى السيدة عائشة تروي هذا الحدث، جاء في صحيح البخاري عنها رضي الله عنها أنها قالت: (فوالله! ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ) سبحان الله! يبكي من الفرح لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الهجرة، مع أن هذه الصحبة الخطيرة قد يكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده صلى الله عليه وسلم، وسيكون فيها ضياع المال، وسيكون فيها ضياع الأهل، وسيكون فيها ترك البلد، لكن ما دام في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر جعله يبكي من الفرح لأجله. وهنا نقطة أخرى من نقاط الهجرة، وهي عند الوصول إلى غار ثور، (ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله! لا تدخله حتى أدخله قبلك؛ فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه -يعني: كنس الغار ونضفه- ثم وجد في جانبه ثقوباً فشق إزاره وسدها، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه)، يعني: بقي ثقبان لم يسدا، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه وضع رجليه كل رجل تسد ثقباً من هذه الثقوب، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره -يعني: في حجر الصديق - ثم نام صلى الله عليه وسلم، فلدغ أبو بكر في رجله) يعني: عقرب أو حية لدغت الصديق في رجله، قال: (ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: أصابه ألم شديد ولم يتحرك حتى بكى من شدة الألم، قال: (فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا بكر؟! قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده)، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع على الإصابة من ريقه صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده من الألم ومن الإصابة، وهذا يدل على حب عجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونقطة أخرى من نقاط الهجرة الجميلة: روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي بكر الصديق رضي ا

حب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر

حب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر فهل كان هذا الحب من طرف واحد؟ كلا والله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) فلأن أبا بكر الصديق أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحب الذي فاق كل حب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره من الصحابة ومن الناس أجمعين. روى الشيخان عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل)، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على رئاسة هذا البعث أو هذا الجيش، فـ عمرو بن العاص يظن أنه ما دام قد أُمِّر على هذا الجيش فهو أحب الخلق إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟!) وهو يظن أنه سوف يقول له: أنت، قال: (أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة) فجاءت صدمة في قلب عمرو بن العاص، قال: (قلت: من الرجال؟ قال: أبوها) أي: الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قلت: ثم من؟ قال: عمر، فعد رجالاً) فاستمر يقول له: ثم من؟ ثم من؟ في رواية الترمذي يقول عمرو بن العاص: (فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم). وهنا Q هل كان يرغم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه نفسه على هذا الحب؟ وهل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟ ممكن أن يظن بعض الناس أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه متعب بسبب هذا الحب الذي تتبعه تكاليف وتبعات، لكن أبداً والله! فقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة التمتع والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان التي ذاقها رضي الله عنه وأرضاه في قلبه وعقله وكل كيانه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي وراه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذه هي حالة الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار). كل الناس يقولون: نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أهلنا ومالنا وأنفسنا، وطبعاً الكلام سهل جداً، لكن أين الدليل؟ ما هو الدليل أنك فعلاً تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسك ومالك وأهلك؟

نتائج حب أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم

نتائج حب أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحب الفريد الذي كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاده إلى شيئين عظيمين يفسران كثيراً من أعمال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في التاريخ، وهذه علامات الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذان الشيئان هما: الشيء الأول: اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقين دون جدال ولا نقاش ولا تنطع. الشيء الثاني: الاتباع الكامل له صلى الله عليه وسلم في كل ما قاله أو نهى عنه صلى الله عليه وسلم، فما نهاك عنه فانته، وما أمرك به فائت منه ما استطعت، قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].

يقين الصديق رضي الله عنه

يقين الصديق رضي الله عنه تعالوا نرى هذا اليقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتباع لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياة الصديق: أولاً: اليقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه الآية كما جاء في القرطبي: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وطبعاً الآية عامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالصدق وكل من صدق به هو من المتقين، لكن يقول علي بن أبي طالب: إنها نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن نجد أن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ما هي إلا تصديق مستمر متصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شك لحظة فيما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان بحق الصديق. ومن المؤكد أنه ليس عفوياً أو اعتباطياً أن الصديق سمي بـ الصديق، إذ نجد هذا التصديق في حياة الصديق من أول يوم عرض عليه فيه الإسلام، وعرض الإسلام على أبي بكر الصديق حدث لابد أن نقف معه وقفات ووقفات، فكيف قبل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد هكذا بمنتهى السهولة؟ وكيف قبل أن يخالف الناس أجمعين ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه أمر عجيب! لابد أن يلتفت إليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته) يعني: ما تردد، قال: (ما عتم عنه حين ذكرته وما تردد فيه) إنه يقين كامل أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم لا يكذب. وسنأتي -إن شاء الله- في محاضرة لاحقة إلى تحليل هذا الإسلام المبكر للصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن هناك حادث يشير فعلاً إلى يقين الصديق بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشير إليه بوضوح، إنه حادث الإسراء.

نماذج من يقين الصديق رضي الله عنه

نماذج من يقين الصديق رضي الله عنه

يقين الصديق في حادثة الإسراء والمعراج

يقين الصديق في حادثة الإسراء والمعراج أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس!) وهذا أمر عجيب وعجيب جداً! فالمسافة بين مكة والقدس أكثر من (1000) كيلو متر ذهاباً فقط، فكيف يذهب ويعود في جزء من الليل وفي هذا الزمن؟ انظر إلى رد فعل الصديق قال: (أوقال ذلك؟ -أي: هل قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - قالوا: نعم، قال: لقد صدق) صدقه هكذا حتى دون أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستوثق منه، ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، يقول: (إني لأصدقه بأبعد من ذلك؟ بخبر السماء غدوة وروحة) يعني: أصدقه أنه ينزل عليه ملك من السماء ثم يعود في طرفة عين، فانظر إلى المنطق الرائع وانظر إلى توابع تصديق هذا المنطق في حياة المسلمين لو كل المسلمين فعلاً يصدقون بكل ما قاله صلى الله عليه وسلم دون جدال ولا نقاش ولا تنطع. ويقال: إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بـ الصديق. والثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي سمى أبا بكر بـ الصديق، روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال: أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) وهذا من نبوءات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه والشهيدان هما: عمر وعثمان رضي الله عنهما استشهدا في سبيل الله. بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة رحمه الله أن الذي سماه بذلك هو الله عز وجل. قال النزال بن سبرة: (قلنا لـ علي: أخبرنا عن أبي بكر؟ قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا).

موقف الصديق في قتال الفرس والروم

موقف الصديق في قتال الفرس والروم هذا اليقين بصدق ما قال صلى الله عليه وسلم يفسر لنا أيضاً موقفاً عجيباً من مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو موقف إعلان الحرب على الفرس فور الانتهاء من حروب الردة، هذا والله! من أعجب مواقف التاريخ إن لم يكن أعجبها على الإطلاق، وتعالوا كذا نحسبها بحسابات المادة البشرية. دولة المسلمين دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط، والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية، فدولة المسلمين ما هي إلا مجموعة من القبائل جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أعوام قلائل، والدولة خارجة من حروب أهلية طاحنة هي حروب الردة الشديدة، والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب، باستثناء ثلاث مدن وقرية: مكة والطائف والمدينة المنورة وقرية تسمى قرية هجر في البحرين. والفرس على الجانب الآخر دولة تقتسم العالم مع دولة الروم، أي: أنها إحدى الدول العظمى في العالم في ذلك الوقت، وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية، وجيوش الفرس تجاوز الملايين، والمسلمون لما كانوا يفتحون بلاد الفرس كان أقل جيش يقابلهم (60. 000) عدة مرات، وفي القادسية كانوا (240. 000)، والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز الـ (10. 000) ووصلوا إلى (18. 000) عند اكتمال العدة، وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من مدن الفرس، كل هذا وغيره ويأخذ الصديق هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.

سبب إقدام الصديق على قتال فارس والروم

سبب إقدام الصديق على قتال فارس والروم ومن أجل أن تفهم هذا القرار ادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به الصديق رضي الله عنه وأرضاه. الأمر الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم، والأحاديث أكثر من أن تذكر في هذا المجال، لكن على سبيل المثال نذكر ما جاء في صحيح مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض ورأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) وليس فقط الدعوة التي ستبلغ، بل سيبلغ ملك المسلمين، والصديق يعرف ذلك، ويعرف أن ملك المسلمين سيصل إلى فارس وإلى غير فارس. الأمر الثاني: أن الصديق سمع البشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر تخصيصاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمشركي قريش وكان فيهم أبو جهل: (أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم) والعجم في ذلك الوقت هم الفرس والروم، (فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك! لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال صلى الله عليه وسلم: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم وقالوا: أتريد يا محمد! أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب) وأبو جهل هذا فعلاً كان أبو جهل، لكن فاز بها الصديق. فـ أبو بكر كان قد قال كلمة لا إله إلا الله، وسبق بها، وعمل بها، وجيش أبي بكر كذلك، قال الكلمة وصدق بها وعمل بها فلماذا لا ينصر؟ بل العجب كل العجب ألا ينصر؟ الأمر الثالث: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه قد سمع بشارة أكثر تخصيصاً من تلك التي سبقت، فقد كان مع المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربها وكان مما قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله! إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن) وهذه بشارة في منتهى الوضوح أن أمة المسلمين ستعطى فارس. الأمر الرابع: أن الصديق رأى بعينه وسمع بإذنه هو دون بقية الصحابة ما حدث في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة من أمر سراقة بن مالك، ورأى أقدام فرس سراقة تسوخ في الرمال، ثم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ سراقة: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام يبشر سراقة وسراقة كان حياً في خلافة الصديق وفي خلافة عمر بن الخطاب بعد ذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بشرى فتح فارس ستكون قريبة جداً حتى يلبس سراقة سواري كسرى. الأمر الخامس: الصديق حضر بنفسه مباحثات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان في مكة، وذلك لما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية لأنهم اشترطوا شرطاً ألا ينصروه إذا حارب الفرس فإنهم ليست لهم طاقة بحرب الفرس قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك أبو بكر الصديق: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً) ولبعثوا قليلاً فعلاً، يعني: حوالي (20) سنة، و (20) سنة في عمر الأمم تعتبر قليلة، قال: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم -يقصد بذلك الفرس- أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقالوا: لك ذلك). الأمر السادس أكثر من ذلك: حدث من الصديق رضي الله عنه ما يذهب العجب منك عندما تعلمه، فإنه في أوائل الفترة المكية نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4]، وكان هذا إخباراً بما حدث من هزيمة الروم، وبما سيحدث من انتصارهم لاحقاً على الفرس. فذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يذكر ذلك للمشركين يغيضهم به؛ وقد كان المسلمون يفرحون بنصر الروم؛ لأنهم أهل كتاب، بينما كان يفرح المشركون بنصر الفرس؛ لأنهم وثنيون مثلهم، فقال أبو بكر بيقين: ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا، فصاح به أبي بن خلف الجمحي: كذبت قال الصديق رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدو الله! قالوا: هل لك أن نقامرك؟ فقامروه على أربع قلائص إلى سبع سنين، يعني: أربع من الإبل إلى سبع سنين، وطبعاً لم يكن القمار حراماً لما فعل ذلك الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فمضت السبع ولم يكن شيء، يعني: أن الروم ما انتصرت على الفرس، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين، فذكر ذلك للن

رقة القلب

سلسلة الصديق_رقة القلب كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أرق الناس قلباً وأكثرهم خشية وخشوعاً، فكان لا يملك نفسه من البكاء في الصلاة وعند قراءة القرآن، حتى أثر ذلك على النساء والأطفال من كفار قريش، ولذا رفع الله قدره وأعلى مكانته.

اتباع الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم

اتباع الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. ثم أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في لقاء جديد نقلب فيه بعض الصفحات في تاريخ أعظم رجال الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صفحات في تاريخ الصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. والحقيقة أني لا أخفي عليكم أني سعيد سعادة عظيمة جداً، وأنا أعد لهذه الحلقات وهذه المحاضرات أشعر بسعادة حقيقية لمعايشة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأشعر أن هذه المعايشة انتقلت من طور المعايشة على صفحات الكتب والمراجع إلى طور المعايشة الفعلية، وكأني أسير معه في شوارع مكة والمدينة، وكأني أصلي بجواره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأني أسمعه وهو يأمر الأجناد ويسير الجيوش ويعلم الناس، وأتعجب إن كنت أنا أشعر بهذه السعادة بمجرد القراءة عنه، فكيف بمن كانوا يعيشون حقيقة معه رضي الله عنه وأرضاه؟ وإن كان أبو بكر كذلك فكيف بمعلمه ومرشده ومربيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ يا إخوة! نحن محتاجون أن نعيش فعلاً مع كل دقيقة وكل لحظة وكل موقف من مواقف هؤلاء الأطهار، فكم سينير الطريق، وكم ستظهر الحقيقة وكم ستطمئن النفس! في الدرس السابق تحدثنا عن السمات المميزة لشخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكرنا أن هناك أموراً أربعة كانت تميز حياته رضي الله عنه، وذكرنا منها أمراً واحداً ولم نكمله بعد. هذه السمة الأولى هي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أحبه الصديق رضي الله عنه وأرضاه حباً صادقاً حقيقياً مقدماً على حب النفس والمال والولد والأهل والبلد وغير ذلك من الأمور، وذكرنا في الدرس السابق أن هذا الحب له علامات وله أدلة، وإلا ادعى كل الناس أنهم يحبون محمداً صلى الله عليه وسلم: الدليل الأول على هذا الحب هو: التصديق بكل ما قاله وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، التصديق الذي ليس فيه شك ولا تخالطه ريبة. وقد تحدثنا عن هذا الأمر في الدرس السابق. الدليل الثاني هو: الاتباع الكامل لكل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، والعمل الدءوب وفق سنته صلى الله عليه وسلم، فالتصديق دون عمل نوع من العبث. وما أجمل ما قاله الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وهذا من كلام الحسن البصري، وبعض الناس يظن أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بحديث. إنه كلام جميل جداً، فما وقر في القلب هو التصديق بما أخبر به صلى الله عليه وسلم، والاقتناع الكامل به. (وصدقه العمل) هو الاتباع والاقتداء وفق التصديق الذي وقر في القلب. وفي هذا الدرس نتحدث عن اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هذا الاتباع علامة واضحة على حبه رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ويقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يحب الله عز وجل حباً لا يوصف، ويحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حباً لا يقدر، ويعلم أن الطريق الطبيعية لحب الله هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الاتباع المطلق، بمعنى: إن علم الحكمة فبها ونعمت، وإن لم يعلمها فالعمل هو العمل بنفس الحماسة وبنفس الطاقة. وكثير من الناس يعرضون أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم على عقولهم القاصرة، فإن وجدت موافقة من عقولهم فعلوها، وإن لم توافق عقولهم أو أهواءهم تركوها ونبذوها، بل وقد يسخرون منها. أما أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلم يكن من هذا النوع، أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، حتى إنك لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة؛ لما كان عنده من التصاق شديد بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتصاق شديد بطريقته ومنهجه في الحياة، فإذا كنت تريد أن تصل إلى ما وصل إليه الصديق أبو بكر وأمثاله رضي الله عنهم أجمعين فاعلم أن قدر السنة عندهم كان عظيماً جداً، وليس المقصود بالسنة النوافل التي كا

التطبيق العملي لمعنى الاتباع في حياة الصديق

التطبيق العملي لمعنى الاتباع في حياة الصديق تعالوا نرى التطبيق العملي لمعنى الاتباع في حياة الصديق: عندما تنظر إلى حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه تجد اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فاق كل اقتداء، وتشعر به في أقواله وفي أفعاله وفي حركاته وفي سكناته وبهذا الاقتداء بلغ أعلى المنازل رضي الله عنه وأرضاه.

موقف الصديق يوم صلح الحديبية

موقف الصديق يوم صلح الحديبية وهذا موقف عجيب من مواقف السيرة موقف لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد صلح الحديبية، والموقف في صلح الحديبية كان شديد الصعوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد رأى أنه يدخل المسجد الحرام ويعتمر، ثم لم يحدث هذا في ذلك العام، ثم بعد ذلك عقدت معاهدة كانت بنودها في الظاهر مجحفة وظالمة للمسلمين، ثم طبقت المعاهدة على أبي جندل رضي الله عنه ابن سهيل بن عمرو الذي عقد المباحثات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقت المعاهدة عليه مباشرة بعد إتمام المعاهدة فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين لما جاءه مسلماً، وكان المشهد مشهداً مؤثراً جداً في منتهى المأساة، كل هذه الأمور وغيرها أثرت كثيراً في نفسية الصحابة فأصابتهم بهم عظيم وغم لا يوصف، وكان من أشدهم هماً وغماً عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فانظر ماذا فعل عمر على عظم قدره وفقهه، وانظر ماذا فعل الصديق رضي الله عنهما. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والغيظ يملأ قلبه، يقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ سبحان الله! سؤال شديد. وطبعاً عمر بن الخطاب لا يشك في كونه رسول من عند الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يبدي استعجابه واستغرابه، لماذا هذا التنازل الشديد من صف المسلمين؟ قال: (يا رسول الله! ألست نبي الله حقاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: علام نعطي الدنية في ديننا؟) وعمر هنا ليس قليل الإيمان، ولو استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلامه ولرأيه فستكون الحرب، فـ عمر يريد ما هو أشق على النفس ولا يسأل التخفيف أو التقاعس، بل على العكس يلمح ويقول: (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار). ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يوضح ويبين للصحابة، لكن هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الاستسلام الكامل دون معرفة الأسباب، فما دام الله قد أمر فليس من الضرورة الاطلاع على الحكمة. قال صلى الله عليه وسلم: (إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه) يفهم أن هذا الأمر وحي من الله عز وجل، أمره الله عز وجل بذلك فأطاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك زاد عمر وقال: (قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام؟) يعني: هل قلت لكم: إنك ستطوفون السنة هذه؟ قال: (قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به) هكذا في يقين: (فإنك آتيه ومطوف به). والرسول صلى الله عليه وسلم يصابر جداً عمر؛ لأنه يعلم ما به من الغم، ويعذره، وهذه الدرجة من الإيمان عند عمر هي درجة عالية جداً من درجات الإيمان، أسميها: درجة غليان القلب حمية للدين، وفعلاً قلبه يغلي حمية لهذا الدين حتى وإن ذهبت حياته وذهبت نفسه، لكن تعال على الجانب الآخر وانظر إلى الدرجة الأعلى من الإيمان. وانظر إلى درجة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، انظر إلى درجة اليقين الكامل فيما قاله صلى الله عليه وسلم والاتباع الكامل لما فعله صلى الله عليه وسلم. يقول عمر بن الخطاب: (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟) لم يقدر أن مش قادر يستحمل رضي الله عنه وأرضاه، فرد الصديق وقال: (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره) سبحان الله! إنها نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله! إنه لعلى الحق). وهنا يغضب الرجل الرقيق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه شعر أن في هذه التلميحات إشارة ولو من بعيد إلى شك في وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا رفع صوته وتحدث بحمية: (أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره) ولم يسكت عمر بعد ذلك، بل قال: (قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال الصديق: فإنك آتيه ومطوف به). سبحان الله! إنه يقين ليس فيه قدر أنملة من الشك، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به.

موقف الصديق رضي الله عنه في إنفاذ بعث جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما

موقف الصديق رضي الله عنه في إنفاذ بعث جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما وانظروا إلى موقف آخر من مواقفه رضي الله عنه وأرضاه في إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وسنأتي -إن شاء الله- إلى تفصيل هذا الأمر لما نتحدث عن حروب الردة بالتفصيل، لكن هنا نشير في عجالة إلى أمر من أمور الصديق في هذا البعث. والحقيقة نحن نسمع بإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما فلا يعطيه أحدنا قدره، وإنما يتخيل أنه مجرد جيش خرج ولم يلق قتالاً يذكر فأي عظمة في إخراجه؟ لكن بدراسة ملابسات إخراجه تدرك عظمة شخصية الصديق، وكيف أنه بهذا العمل الذي هو أول أعماله في خلافته قد وضع سياسة حكمه بوضوح والتي تعتمد في المقام الأول على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعد هذا البعث ليرسله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية، وقد أمر عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت جزيرة العرب جميعاً، وكانت الجزيرة العربية كلها تموج بالردة، ومع هذا أصر أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر؛ لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين فكيف يرسل جيشاً كاملاً لحرب الروم ويترك المرتدين. والحق أنه قرار عجيب! وتخيل معي أن البلاد في حرب أهلية عنيفة وبها أكثر من عشر ثورات ضخمة ثم يرسل زعيم البلاد جيشاً لحرب دولة مجاورة كان قد أعده زعيم سابق، لكن أبا بكر الصديق كانت الأمور عنده في ذهنه في منتهى الوضوح، فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر فلا مجال للمخالفة حتى وإن لم تفهم مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية، وهذه درجة إيمانية عالية جداً. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم بردة مسيلمة الكذاب في اليمامة في بني حنيفة وردة الأسود العنسي في اليمن، ومع ذلك قرر أن يرسل البعث إلى الشام، إذاً: لابد من الاتباع، فما دام قد أمر صلى الله عليه وسلم فالخير كل الخير فيما أمر، فأصر الصديق على إنفاذ البعث إلى الروم. وجاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه، والصحابة على قدرهم الجليل لا يصلون إلى فهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فماذا قال لهم؟ قال لهم في ثبات عجيب: والله! لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير والسباع من حول المدينة تخطفنا، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة. إنه كلام شديد، ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال بعضهم لـ عمر بن الخطاب: قل له: فليؤمر علينا غير أسامة. يعني: أسامة صغير عمره ثماني عشرة سنة، وهذا أمر شديد ومهمة عظيمة، فذكر ذلك له ابن الخطاب رضي الله عنه، فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انظر إلى المعنى: الرسول صلى الله عليه وسلم اختار هذا فهذا هو الحق، ولحظات الغضب في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قليلة جداً، وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل أو عطل أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالفعل أنفذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان الخير في إنفاذه، وارتعبت قبائل الشمال وسكنت الروم، وظنوا أن المدينة في غاية القوة، يعني: أنه ليس معقولاً أن يخرج هذا الجيش الضخم الكبير إلى حرب الروم والمدينة ليست فيها حماية، لكن فعلاً المدينة لم يكن فيها حماية كافية، لكن هذا الخير كان من وراء إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه؛ لأنه كان يرى بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رسالة الصديق إلى عمرو بن العاص

رسالة الصديق إلى عمرو بن العاص وهنا أمر آخر في حياة الصديق، خطاب لطيف أرسله إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه: والقصة تبدأ من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى عمرو بن العاص رضي الله عنه مرة على عمان ووعده أخرى بالولاية عليها وهكذا، فلما استتب الأمر لـ أبي بكر الصديق بعد حروب الردة ولى على عمان مرة أخرى عمرو بن العاص؛ تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه يجوز للوالي الجديد أن يراها أو يرى غيرها حسب ما يرى من المصلحة، وهذا ليس أمراً شرعياً حتمياً، لكنه لا يريد أن يخالف ولو بقدر أنملة. وهذا هو عين المراد، هذا الذي وصل بـ الصديق إلى ما وصل، هذا الذي رفع قدره، هذا الذي سلم خطواته، هذا الذي سدد آراءه. ثم إنه قد احتاجه لإمارة جيش من جيوش الشام، وعمرو بن العاص رضي الله عنه كان عنده طاقة حربية هامة جداً، وعبقرية فذة في مجال الحروب، وأبو بكر الصديق يريد أن يأتي به إلى المدينة المنورة حتى يؤمره على جيش من جيوش الشام، لكنه يتحرج من استقدامه من مكان وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل له رسالة لطيفة قال: إني كنت قد رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكه مرة وسماه لك أخرى مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وليته ثم وليته. يعني: مرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ومرة بعد حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أحببت أبا عبد الله! -يتلطف معه في الحديث- أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه. أي: ما هو خير من هذه الإمارة، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، قال: إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك. يعني: أيضاً ما زال يخيره، مع أن سيدنا أبا بكر هو الخليفة ويستطيع أن يأمر عمرو بن العاص فيأتي دون تردد. وانظر إلى الرسالة اللطيفة التي رد بها عمرو بن العاص على أبي بكر الصديق، قال رضي الله عنه وأرضاه: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما أنا إلا سهم في كنانتك فارم به حيثما شئت. وفي هذا اتباع أيضاً من عمرو بن العاص كبير لأوامر الخليفة ولنصائح رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هيبة الصديق رضي الله عنه من جمع القرآن الكريم

هيبة الصديق رضي الله عنه من جمع القرآن الكريم ونجد أمراً آخر في حياة الصديق يفسر هذا الاتباع، إنه الأمر الغريب في هيبته رضي الله عنه وأرضاه في جمع القرآن، مع أن جمع القرآن هذا أمر عظيم جداً، لكن كانت عنده هيبة شديدة في جمع القرآن. فلما استشهد عدد كبير من حفظة القرآن في موقعة اليمامة وخشي الصحابة على ضياع القرآن ذهبوا إلى أبي بكر الصديق وبالذات عمر بن الخطاب، ذهبوا يعرضون عليه فكرة جمع القرآن، فكان متحرجاً أشد التحرج من هذا العمل الجليل، وقال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن جمعه، لم ينه عن جمع القرآن، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان من عادته أن ينظر قبل الفعل إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي أمر من الأمور، فما وجده من أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلده واتبعه، فلما نظر ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع القرآن احتار وتهيب ثم اجتمع عليه الصحابة، وبالذات عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقنعوه، فاستصوب جمعه؛ لما فيه من خير. وهكذا في كل مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه تجد حباً عميقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحب دفعه إلى اليقين التام بصدق ما قال صلى الله عليه وسلم، ودفعه أيضاً إلى الاقتداء به في كل الأفعال والأقوال. ونحن أحياناً لما نحب واحداً نفعل كل شيء لإرضائه، وأحياناً يتجاوز بعضنا بعض القيم والأخلاق، لكن الصديق رضي الله عنه ما كان ينسى الأخلاق والقيم التي تعلمها على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان ذلك لإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف الصديق رضي الله عنه عند خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة

موقف الصديق رضي الله عنه عند خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة فقد حدثت حادثة غريبة في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه في أواخر العهد المكي، حيث خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة أبي بكر عائشة حين ذكرتها له خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها، وطبعاً الأصل أن هذا يوم سعيد جداً عند أبي بكر الصديق؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنته، لكن كانت هناك مشكلة، فقد كان المطعم بن عدي خطبها قبل ذلك لابنه، والمطعم بن عدي كافر وابنه كافر ولم يكن محرماً على المسلمين في ذلك الوقت أن يزوجوا بناتهم للمشركين، فقال أبو بكر لزوجه أم رومان: إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه، ووالله! ما أخلف أبو بكر وعداً قط. فلا يريد أن يعطيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد أعطى وعداً للمطعم بن عدي. ثم أتى مطعماً وعنده امرأته جالسة معه فسأله: ما تقول في أمر هذه الجارية؟ يعني: في أمر السيدة عائشة، فأقبل الرجل على امرأته ليسألها: ما تقولين؟ فتركت الرجل وأقبلت على أبي بكر تقول: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك الذي أنت عليه؟ فلم يجبها أبو بكر، وواضح أنها رافضة، وأبو بكر طبعاً سيطير من السعادة، والمطعم بن عدي كذلك سيرفض، لكن مثلما يقولون: الصديق يمشي في القنوات الشرعية، فسأل المطعم بن عدي: ما تقول أنت؟ فكان جوابه: إنها تقول ما تسمع يا أبا بكر! يعني: هي سمعت هذا الكلام مني من قبل. فتحلل أبو بكر عند ذلك من وعده وقبل خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان علقها على موافقة المطعم بن عدي. فانظر مع رغبته الأكيدة في مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يريد أن يخلف وعداً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد علمه ذلك، إنه طراز نادر من الرجال رضي الله عنه وأرضاه. كانت هذه هي السمة الأولى من سمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، سمة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحب الذي قاده إلى التصديق وقاده إلى الاقتداء.

رقة قلب الصديق ولين جانبه وهدوء نفسه

رقة قلب الصديق ولين جانبه وهدوء نفسه السمة الثانية من سمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: سمة رقة القلب ولين الجانب وهدوء النفس. وبعض النفسيات تكون في طبيعتها غليظة جافية، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة وغير متكلفة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان من هذا النوع الأخير. لقد سمع أبو بكر الصديق وصايا حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فحفظها وعقلها وعمل بها: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله! إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه). كانت رقة قلبه رضي الله عنه وأرضاه تنعكس على حياته الشريفة، وتنعكس على علاقاته مع الناس، وتستطيع بعد أن تدرك حقيقة أنه جبل على الرحمة والرقة والهدوء، وأن تفهم كثيراً من أفعاله الخالدة رضي الله عنه وأرضاه. جاء في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين). وطبعاً! السيد عائشة لم تولد إلا بعد أن أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والسيدة أم رومان أمها، قالت: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً، ولما ابتلي المسلمون -يعني: إيذاء المشركين للمسلمين في فترة مكة- خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة -والقارة قبيلة من القبائل في ذلك الوقت- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟! فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي). سبحان الله! أبو بكر هنا سيترك التجارة والمال، وسيترك الوضع الاجتماعي المرموق، وسيترك البيت والأهل والبلد والكعبة، بل وأعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض الناس يحب أن يعبد الله بالطريقة التي يراها صحيحة، لكن أبا بكر كان يعبد الله بالطريقة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم له، كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة ويعبد الله في سرية ويتاجر ويحقق المال ويعطي هذا المال للدعوة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له حماية في مكة، فـ أبو بكر الصديق من قبيلة ضعيفة هي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر، وإلى أين؟ إلى أرض بعيدة مجهولة غير عربية إلى الحبشة، لكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك؛ أراد له البقاء في مكة، وأراد له الحماية والجوار فيها فسخر له ابن الدغنة. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، ثم وصف ابن الدغنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصفاً عجيباً جداً فقال: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار. سبحان الله! هذه نفس الكلمات التي ذكرتها السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه، وفي هذا إشارة لا تخفى على اللبيب لدرجة أن ابن حجر العسقلاني قال: يكفي بها مفخرة لـ أبي بكر الصديق ومنقبة له أن يوصف بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير اتفاق بين ابن الدغنة وبين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها. قال ابن الدغنة: فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ أنا له جار، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة. وقالوا لـ ابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. ولماذا النساء والأبناء؟ لأن قلوب النساء والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه رجل رقيق يخرج كلامه من قلبه فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتحة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال؛ فقلوبهم كانت قاسية عرفت الحق واتبعت غيره، فلبث أبو بكر الصديق يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، يعني: لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في الأسواق. ثم بدا لـ أبي بكر

موقف الصديق رضي الله عنه مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنه

موقف الصديق رضي الله عنه مع ربيعة الأسلمي رضي الله عنه هذه النفس الرقيقة والقلب الخاشع والروح الطاهرة النقية والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيراً من مواقف أبي بكر العجيبة رضي الله عنه وأرضاه، أخرج الإمام أحمد رحمه الله بسند حسن عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال: جرى بيني وبين أبي بكر كلام. يعني: كلام فيه شيء من الحدة، فقال لي كلمة كرهتها وندم. وهذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: بلغة العصر: نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة، ويبدو أن الخطأ كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مهما علا قدرهم وسمت أخلاقهم، لكنه ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف: فقال لي كلمة كرهتها وندم، لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبداً. رقة نفسه خرجت بهذا الندم إلى حيز العمل، وأسرع وهو نائب الرئيس يقول لـ ربيعة الخادم: يا ربيعة! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً، يعني: اشتمني يا ربيعة! كما شتمتك، يا ربيعة! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً. قال: قلت: لا أفعل. وطبعاً ربيعة عنده أدب عظيم؛ لأنه تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: لو ما شتمتني سأشتكيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ربيعة: فقلت: ما أنا بفاعل. يعني مستحيل ما أقدر، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، يعني: فعلاً ذهب يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ وطبعاً من الناس من لا يفهم هذه الأبعاد النبيلة في نفس الصديق رضي الله عنه وأرضاه. فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة في الإسلام. ربيعة الأسلمي رجل واع وفاهم، والإسلام جعل الناس سواسية، لكنه لابد أيضاً أن ينزل الناس منازلهم، وأن يعطي كل ذي قدر قدره. ثم يقول ربيعة: إياكم! لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة. إنه مجتمع عجيب، وأعجب من هذا المجتمع الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات معدودات حتى أصبحوا هكذا كالملائكة. قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. يعني: اتركوني أنا مع أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق أبو بكر رضي الله عنه وتبعته حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: (يا ربيعة! ما لك والصديق؟) رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا أحد أغضب الصديق رضي الله عنه وأرضاه. قال: (يا ربيعة! ما لك والصديق؟ فقلت: يا رسول الله! كان كذا وكذا بيني وبينه فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل كما قلت؛ حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل يا ربيعة! لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر!) إنها حكمة نبوية راقية، فالمؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذي، ومن حكمته صلى الله عليه وسلم أن يرد الإساءة بالإحسان فيكسب قلوب الخلق، بل هذا هو تعليم ربنا لنا في كتابه الكريم حيث قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: غفر الله لك يا أبا بكر! فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر! قال: فولى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي) وطبعاً! لابد أن نقدر موقف الصديق، فهذا الرجل صفحته بيضاء نقية لابد أن يحرص على نظافتها قدر الاستطاعة حتى ولو كانت كلمة بسيطة، فقال له الرجل: غفر الله لك يا أبا بكر! ومع ذلك هو يريد أن يبقي هذه الصفحة نقية طاهرة. ومثل هذا لو أن واحداً يحافظ على صلاة الفجر كل يوم كل يوم ثم فاتته يوماً فيحز

إشفاق أبي بكر على المستضعفين بمكة

إشفاق أبي بكر على المستضعفين بمكة وكان من رقته وحنانه يشفق على المستضعفين في مكة: يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة. بمعنى: أنه إذا أسلم الرجل أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال أبوه أبو قحافة -وكان ساعتها كافراً-: أي بني! أراك تعتق أناساً ضعافاً، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك، وكان أبو بكر في حاجة لأن قبيلته بني تميم قبيلة ضعيفة. فقال: أي أبت! أنا أريد ما عند الله، فنزلت فيه آية تتلى إلى يوم القيامة، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]. ونزلت فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. انظروا ربنا سبحانه وتعالى يعده في قرآنه: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] فأي ثمن دفع الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ وأي سلعة اشترى؟ ما أزهد الثمن المدفوع ولو كانت الدنيا بأسرها! وما أعظم السلعة المشتراة الجنة!

لين الصديق رضي الله عنه مع من قاتلوا المسلمين من كفار قريش

لين الصديق رضي الله عنه مع من قاتلوا المسلمين من كفار قريش وهذا حادث آخر يوضح لين جانب الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع من قاتله أكثر من عشرين سنة: روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه: أنا أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. وهذا الكلام يدور بعد صلح الحديبية، يعني: قبل فتح مكة، وكان في ذلك الوقت أبو سفيان كافراً، فـ سلمان وصهيب وبلال يريدون أن يغيظوا أبا سفيان بهذه الكلمة، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ انظر مع كل هذا القتال الذي دار بينهم سنوات وسنوات وهذا الطرد والتشريد والتعذيب الذي حدث في مكة حتى هاجروا إلى المدينة ومع ذلك هو في لين جانبه وفي رقة قلبه يحاول أن يقرب قلب أبي سفيان إلى الإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قد يكون قال كلمة أغضبت سلمان وصهيب وبلالاً. قال: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتك ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟) مع أن ظاهر الأمر أن الحق مع أبي بكر الصديق لكنه يستسمح هؤلاء الإخوة، ويريد أن تكون صفحته بيضاء، قال: (يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي!). ولما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى في موقعة بدر ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم وطردوهم من ديارهم وحرصوا على حربهم وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن من الله على المؤمنين بالنصر؟ ماذا كان رأيه؟ انظر إليه وكأنه لا يتحدث عن الأسارى، بل وكأنه يتحدث عن أصحابه وأحبابه، لقد قال الصديق: (يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً). أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان جوابه مختلفاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب؟!) وعمر بن الخطاب كما تعلمون ملهم ومحدث ومسدد الرأي وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة محمودة في زمان الحرب، بل إن رأيه كان هو الرأي الذي أراده الله عز وجل، ووافق فيه عمر ما أراد الله عز وجل. يروي عمر بن الخطاب فيقول: (قلت: والله! ما أرى ما رأى أبو بكر - هكذا في صراحة -رأي أبي بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -وذكر رجلاً قريباً له- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم). فـ عمر بن الخطاب رأيه في هذا مختلف عن رأي أبي بكر الصديق، ولكن كلاهما حريص على الدين، متين في الإسلام، قريب كل منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهما مختلفان في الطبيعة النفسية، فـ أبو بكر رقيق الطباع يغلب عليه العفو والصفح، وعمر بن الخطاب شديد في الحق يغلب عليه الانتصار بعد الظلم. قال عمر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. وفي هذا تقارب شديد في الطباع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان الصواب في هذا الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا نقوله نحن بل قاله رب العالمين. وانظر إلى عمر كيف يصف الموقف يقول: (فلما كان من الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما) إن عمر عملاق آخر صنعه الإسلام، رقة متناهية مختفية، ففيه شدة ظاهرة وفيه قلب يذوب ذوباناً في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضع جم وأدب عظيم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء؛ فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وأشار إلى شجرة قريبة) ولماذا العذاب؟ وكأ

نعمة السبق

سلسلة الصديق_نعمة السبق كان الصديق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه أسبق الناس إلى كل خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أول الناس إسلاماً، ولم يسبقه أحد من الصحابة إلى خير، فرضي الله عنه وأرضاه.

اتصاف أبي بكر الصديق بالحسم والسبق وعدم التسهيل

اتصاف أبي بكر الصديق بالحسم والسبق وعدم التسهيل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع الدرس الثالث من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا نستمتع بطرف من حياة الصديق رضي الله عنه، فوالله! إننا فعلاً نستمتع، وما زلنا نستمتع بحياة الصديق رضي الله عنه، ودراسة حياة الصديق تريح النفس، فعندما تحس بشيء من الظلم، أو شيء من التعب، أو شيء من اليأس أو شيء من الإحباط اذهب بسرعة واقرأ سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهو رجل من البشر وليس بنبي، ومع هذا يفعل كل هذا الخير، إذاً: هناك أمل كثير، فعندما نسمع عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: قال الرسول وعمل كذا، لا نقدر أن نصل لفعله، ولكن هذا رجل ليس برسول، ويعمل بعمل الأنبياء رضي الله عنه وأرضاه. فيبدو أن طاقة البشر أوسع مما نتخيل، ويبدو أن وسع النفس أرحب بكثير من اعتقادنا، ويبدو أيضاً أن الآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ليست آية تخفيفية كما يظن بعضنا، ولكنها آية تكليفية، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف إلا الوسع فقط، ولكن هذا يعني أيضاً من زاوية أخرى أن الله عز وجل يكلف الوسع، والوسع كبير جداً، لكننا أحياناً لا نقدره؛ تخاذلاً منا وإنقاصاً لقدرات البشر. والدليل على ذلك: أبو بكر الصديق رضي الله عنه. والدليل على ذلك أيضاً: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين والصالحين في كل زمان، وفي كل مكان. هؤلاء بشر، تلقوا منهجاً وساروا عليه، فسعدوا وأسعدوا غيرهم، هؤلاء بشر سمعوا كلاماً مثل الذي سمعناه تماماً، لكنهم أخذوه مأخذ الجد، فظهرت طاقات عجيبة أخفاها الله عز وجل في قلوب الناس، هذه الطاقات العجيبة في قلبي وقلبك، وفي قلوب كل الناس، لكن لا تخرج هذه الطاقات إلا بشروط، رأيناها مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إيمان بالله وبرسوله، وحب لله ولرسوله، وعمل بما قال الله ورسوله، إيمان وحب وعمل. فاكتشف نفسك يا أخي! وفتش في قلبك عن طاقاتك، وفتش في قلبك عن طاقات الصديق، وفتش في قلبك عن طاقات عمر، فتش وستلاقي قوة لم ترها من قبل، فالله سبحانه وتعالى الحكيم خلق وصور ثم كلف وأمر. والله سبحانه وتعالى كلف الخلق أجمعين بتكاليف ثوابت، ومن رحمته وعدله: أن وضع في خلقه ما يعينهم على أداء هذه التكاليف، وقد أمرنا جميعاً بما أمر به الصديق رضي الله عنه وأرضاه. والصديق لم يؤمر بعبادة خاصة، أو بتكاليف خاصة، أو بتشريعات خاصة، بل نفس المنهج، ونفس القانون، ونفس التشريع، ونفس الفجر الذي كان يصليه، ونفس الجماعة ونفس الزكاة والصدقة، ونفس الأخلاق الحسنة ونفس صلة الرحم وطاعة الوالدين، ونفس الابتسامة ونفس التواضع، ونفس الحمية للدين، ونفس التشريع بكامله التشريع أمر به الصديق، وأمرنا به نحن، والصديق قد وفى، فأين نحن منه ومن أمثاله؟ فيا ترى هل وفينا وأدينا المنهج؟ ويا ترى كم عملنا من الذي علينا؟ كم في المائة من التكاليف الذي علينا عملناها؟ وكم في المائة من الوقت يصرف في أمور لم نؤمر بها، وكم في المائة من الوقت يصرف في أشياء نهينا عنها؟ وفي النهاية نحن بشر والصديق بشر، والاقتداء به ممكن، والسير على طريقه مستطاع. وقد تحدثنا في المحاضرتين السابقتين عن صفتين رئيسيتين من صفاته رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب. وفي هذا الدرس نتحدث عن سمة ثالثة مميزة جداً للصديق رضي الله عنه، وإن كان جل الصحابة تقريباً يقتربون من الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الصفتين السابقتين، أما هذه الصفة فقد تفرد بها الصديق، وتفوق بها على سائر الصحابة أجمعين. هذه الصفة من أهم ما نحتاج في حياتنا اليوم، وما أجمل أن يوجد جيل يتصف بهذه الصفة، ولو وجد لاشك أن النصر سيكون حليفه، وسيكون قريباً جداً إن شاء الله. هذه الصفة الثالثة هي صفة الحسم والسبق وعدم التسهيل، الحسم في القرارات، والسبق إلى كل خير، وعدم التسهيل في أي قضية مهما صغرت في عين الإنسان، وهذه الصفة سمة واضحة جداً في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه. الشيطان كثيراً ما يمنع الإنسان من عمل الخير

سبق الصديق إلى الإسلام

سبق الصديق إلى الإسلام أول ما يلفت الأنظار إلى الصديق رضي الله عنه سبقه إلى الإسلام. من المعروف أنه أول رجل أسلم، ما تردد وما نظر، وما قال: آخذ يوماً أو يومين أفكر، بل أسرع إليه إسراعاً، وهذا الأمر لافت للنظر جداً، وهو ما سيغير الشغل أو يغير بيته أو حتى يغير بلده، بل سيغير عقيدته التي عاش عليها 38سنة، فـ الصديق لما أسلم كان عمره 38سنة. أحياناً بعض الرجال يعتقدون أن من الحكمة التروي جداً جداً في الأمر وعدم التسرع، وأخذ الوقت الطويل في التفكير قبل الإقدام على أي خطوة من خطوات الحياة، وبالذات لو كانت خطوة مصيرية، هذا قد يكون صواباً في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحاً جلياً مضيئاً كالشمس في كبد السماء يصبح التروي حينئذ حماقة، وتصبح الأناة كسلاً، وتصبح كثرة التفكير مذمة، هذا حدث مع قوم نوح، حدثنا ربنا عز وجل في كتابه الكريم عنهم، قال عز وجل على لسان قوم نوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] يعني: أولئك الذين يبدون آراءهم لأول وهلة دون تفكير ولا تمحيص هم الذين اتبعوك يعني: يلومونهم أنهم أسرعوا للإيمان مع نوح عليه الصلاة والسلام دون أن يترووا ودون أن يفكروا. وسبحان الله! هؤلاء كمن يقول للآخر: ما رأيك في الشمس هل طلعت؟ فيسأل عنها فيقول: دعوني أفكر وأتروى، ويقول: يا ترى هل طلع وإلا ما طلع. وما رأيكم في واحد عطشان وعلى حافة الهلكة ورأى نبعاً صافياً سلسبيلاً في الصحراء، يا ترى لو قعد وقال سآخذ يوماً أو يومين أفكر هل أشرب أو لا أشرب؟ ولو قعد يفكر يوماً أو يومين سيموت قبل أن يشرب، والذي يحصل مع أناس كثير ويحصل معنا أيضاً كثيراً أننا نفكر في الخير، فنظل نفكر في الخير اليوم واليومين والثلاثة والشهر والسنة، وثم نموت قبل أن نفعل هذا الخير. فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان في عطش الجاهلية، فرأى نبع الإسلام فلماذا لا يشرب؟ كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة تماماً فلماذا التردد والانتظار؟ والتردد ليس من الحكمة في هذه الأمور، وهو الرجل الحكيم العاقل عرض عليه الإسلام غضاً طرياً واضحاً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنار الله قلبه بنور الهداية، فلماذا لا يسلم؟ ولماذا لا يتبع الحق من أول وهلة؟ روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟) قالها مرتين صلى الله عليه وسلم وذلك لما حدث خلاف ذات مرة بين الصديق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلماذا هذه المكانة العالية للصديق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انظروا إلى المسوغات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت). إذاً: هي فضيلة ولاشك أن أسرع للإسلام هذا الإسراع! ومرت الأيام، وصدق أولئك الذين كذبوا من قبل، لكن كان أبو بكر الصديق هو الفائز في الأجر والسبق. ومن الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم من آمن بعد شهور، ومنهم من آمن بعد سنوات، ومنهم من انتظر حتى تم الفتح ثم آمن، الجميع آمن، والجميع صدق، لكن الصديق فاز بها، قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10 - 12]. فالأيام التي تمر لا تعود أبداً إلى يوم القيامة، ولاشك أن أولئك الذين تأخر إسلامهم أياماً وشهوراً وسنوات كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام ضاعت في ظلمات الكفر، لكن الحسرة ما أعادت الأيام، ونحن أيضاً نتحسر على الأيام التي ما قدمنا فيها عملاً صالحاً لأنفسنا، والأيام تمر، ولاشك أن الذي سارع إلى الخيرات استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان. وفي النهاية مرت الأيام على هذا وعلى ذاك. ونحن لا نقول هذا الكلام للتاريخ، نحن في واقعنا وحياتنا كثيراً ما نتردد في أعمال الخير، ونؤجل يوماً أو يومين، ثم نفعل الخير بعد ذلك، أو لا نفعله، فمرت الأيام وضاع السبق، قال عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10]. الأعمال لها أجران: أجر العمل ذاته، وأجر السبق فيه. وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل ذاته؛ لأنه يكون بمثابة السنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدك فيها. روى الإمام مسلم رحمه الله عن جرير بن عبد الله

صداقة أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام واشتراكهما في كثير من الصفات

صداقة أبي بكر الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام واشتراكهما في كثير من الصفات أول ما يلفت الأنظار في قصة الصديق رضي الله عنه أنه كان صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، بل كانا صديقين حميمين، وحقاً الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. فتعارفت روحا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، وأحب كل منهما الآخر حباً لا يوصف، وإنه لفضل عظيم للصديق أن يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقاً وحبيباً. لاشك أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أهلاً لذلك، هذا الحب المتبادل بين الطرفين يفتح القلب، وينور العقل، ويرفع كثيراً من الحواجز التي توجد عادة بين عموم الناس، ويمهد الطريق لكل خير. فرسالة لطيفة لكل الدعاة: لن تصل دعوتك إلى الناس إلا إذا أحببتهم وأحبوك حباً متبادلاً، ولابد أن يكون من نوع الحب الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الصديق؛ فإنه حب لم يبن على علاقة رحم، أو على مصالح مادية، أو على أغراض دنيوية، إنه الحب الذي يسميه الرسول صلى الله عليه وسلم الحب في الله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله. فلا يمكن أن يكون إيمان من غير حب يصدق هذا الإيمان. قد يقول قائل: أهل مكة جميعاً كانوا يحبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح، فلماذا لم يصل أحدهم إلى قلبه كما وصل الصديق رضي الله عنه؟ و A أنه كان هناك توافق عجيب بين الشخصيتين العظيمتين: شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصية الصديق رضي الله عنه. ومن أجل أن نعرف قدر الصديق رضي الله عنه نعرف أنه كانت صفات الصديق تتوافق مع صفات خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. وإذا توافقت بعض صفات الفرد مع فرد ينشأ نوع من التجاذب بين الفردين. فمثلاً: الكريم يحب الكريم الذي مثله، وينفر من البخيل، والأمين يحب الأمين الذي مثله، وينفر من الخائن وهكذا، وكلما ازدادت صفات التوافق بين الفردين ازداد التجاذب بينهما حتى يصل إلى حد يكون فيهما الفردان روحاً واحدة في جسدين، يفرح أحدهما فرحاً حقيقياً لفرح الآخر ويحزن أحدهما حزناً حقيقياً لحزن الآخر، ويألم أحدهما ألماً حقيقياً لألم الآخر، وكثيراً ما يقتنع رجل برأي رجل آخر، بل ويدافع عنه إلى نهاية المطاف، مع كون هذا الرأي محارباً من عامة الناس؛ ذلك أنه أصبح دون تكلف ولا افتعال كرأيه تماماً، والله لا أحسب أن رجلاً في أمة الإسلام كان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام من أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. والمقصود: هو الشبه في الأخلاق والأفعال، وليس في الصور والأجساد.

الاشتراك في صفة الصدق والأمانة

الاشتراك في صفة الصدق والأمانة ما الصفة الرئيسية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتهر بها في مكة قبل البعثة وبعدها؟ إنها صفة الصدق والأمانة، فعرف بالصادق الأمين، وتعالوا ننظر ما هي الصفة التي اشتهر بها الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ عرف بـ الصديق، يعني: من كل صفات الرسول صلى الله عليه وسلم النبيلة عرف بالصادق الأمين، ومن كل صفات أبي بكر النبيلة عرف بـ الصديق، وهذه ملحوظة في غاية الأهمية. ثم إن صفة الصدق هذه بالذات صفة في غاية الأهمية بالنسبة للداعية وأيضاً بالنسبة للمدعو؛ لأن الكذاب كثير الكذب والخائن كثير الخيانة وغالباً ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين أو يأتمن الآخرين؛ لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما يتصرف. وأبو بكر لم يكن صادقاً فقط بل كان صديقاً، وكان يستقبح الكذب، وما أثر عنه كذبة واحدة لا في جاهلية ولا في إسلام، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره أبداً، بل هو يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟ ولن يشتهر بهذا عاماً أو عامين، بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم أموره، بل في كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض فيه الكذب؟ وكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق أربعين سنة؟ وكيف يتوقع أن هذا الرجل الذي ترك الكذب على الناس يكذب على الله عز وجل؟ هذا استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق رضي الله عنه، بل إنه لم يغب عن ذهن أي رجل عاشر محمداً صلى الله عليه وسلم، بل حتى من لم يرها مثل هرقل ملك الروم؛ فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان - وكان ما زال كافراً -: إنه لا يكذب، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله وهكذا. فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول فكره، وإن كانت جديدة تماماً، وهي رسالة أيضاً إلى الدعاة: كن صادقاً وابحث عن الصادقين.

اتفاق خديجة وابن الدغنة في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

اتفاق خديجة وابن الدغنة في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأعجب من هذا التوافق في صفة الصدق نوع آخر من التوافق بين الصديقين الحميمين أشرنا إليه من قبل: لما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم عاد مذعوراً إلى السيدة خديجة رضي الله عنه يرجف فؤاده وهو يقول: (زملوني زملوني) ثم أخبر خديجة رضي الله عنه بالخبر وقال لها: (لقد خشيت على نفسي، فقالت المرأة المؤمنة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، هذه هي المبررات التي من أجلها قالت السيدة خديجة: إن الله لن يخزي الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وهي جميعاً من صفات المروءة والنخوة والنجدة. احفظ هذا الموقف وتعال انظر ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجراً إلى الحبشة، قال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر! لا يخرج. فما هي المسوغات أيضاً في هذا الموقف؟ استمع إليه وهو يبرر فيقول: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، سبحان الله! إنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن مشهوراً في العرب أن يوصف رجل بهذه الصفات، ولم يوصف بها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه. هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيراً سرعة تلبية الصديق رضي الله عنه وأرضاه لدعوة الإسلام. ولا نجد شخصاً فيه هذا التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي بين الصاحبين الجليلين، مما يؤكد أن الله عز وجل كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.

الاشتراك في صفة التواضع

الاشتراك في صفة التواضع وهناك توافق آخر في غاية الأهمية بين الصاحبين العظيمين: التوافق في صفة التواضع، والداعية المتكبر لا يصل بدعوته إلى الناس أبداً؛ لأن الناس يكرهون المتكبرين ولا يقبلون أفكارهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الخلق تواضعاً، ومع علو قدره ومكانته إلا أنه لم يكن يترفع أبداً على أي إنسان: حراً كان أو عبداً، غنياً كان أو فقيراً، ولذلك كان يصل بدعوته إلى الخلق أجمعين. لكن إذا كان كذلك فلماذا لم يؤمن كثير من أهل مكة؟ لماذا لم يؤمن مثلاً الوليد بن المغيرة، مع أنه في قياسات هذا الزمن كان عاقلاً حكيماً؟ A لأنه كان متكبراً. والدعوة وصلته بالفعل، ووصلت إلى قلبه، لكن كما قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] فماذا فعل الوليد؟ قال وقال من معه كما حكى عنهم ربنا في كتابه العزيز: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عظيماً فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق ولا في عقيدة، وإنما تكون في وفرة مال، أو في سعة أملاك، أو في سلطان، لهذا الكبر المقيت صرفوا عن آيات الله عز وجل، قال عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]. وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن من هذه الشاكلة، بل على العكس تماماً، كان الصديق متواضعاً شديد التواضع، ولم يكن تواضعه رضي الله عنه مختلقاً أو مصطنعاً، بل كان تواضعاً فطرياً أصيلاً في شخصيته، من أجل هذا عندما تأتي تقول لي: ما هي مواقف التواضع في حياة الصديق؟ أقول لك: هذا السؤال في منتهى الصعوبة؛ لأن معناه: أنك تحكي حياة الصديق بكاملها، لكن أنا أختار موقفاً واحداً من حياة الصديق، إنه موقف ينطق بتواضعه الفطري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الموقف كان بعد أن تولى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أشق وأصعب. والإنسان قد يتواضع عندما يفتقر إلى تمكين أو سيادة أو سلطان، لكن أن يتواضع وهو في أعلى مناصب الدولة فهذا هو التواضع الحقيقي الواضح. خرج الصديق رضي الله عنه يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتجه إلى حرب الروم في الشمال. والصديق حاكم الدولة، ويبلغ من العمر ستين عاماً، وأسامة بن زيد جندي من جنوده، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. وسن الثامنة عشرة سن من هم في الثانوية العامة، ومع ذلك الصديق الحاكم المسن يخرج يودع الجيش ماشياً على قدميه، وأسامة بن زيد الذي هو شاب يركب على جواده، إنه موقف في منتهى الغرابة، ولافت - جداً - للنظر، وطبعاً هذا الموقف لفت نظر أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله! لتركبن أو لأنزلن، فقال الصديق المتواضع رضي الله عنه: والله! لا تنزل، ووالله! لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة. انظروا التربية الراقية التي على منهج النبوة، إنه يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بنفسه، ويربي كل الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير الشاب، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه، وإخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يمعن في التواضع فيطلب من الأمير الشاب على سبيل الاستئذان طلباً غريباً فيقول: إن رأيت أن تعينني بـ عمر فافعل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد جعل عمر بن الخطاب في جيش أسامة تحت إمرة أسامة، والصديق يريد عمر للوزارة، والصديق هو الخليفة، لكنه لا يريد أن يكسر هيبة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يريد أن يكسر هيبة الأمير الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، فاستأذنه بأدب ولطف وقال: إن رأيت أن تعينني بـ عمر فافعل، فأذن له أسامة، وعمر بن الخطاب لما كان يرى أسامة كان يقول له: مرحباً بك أيها الأمير؛ لأنه كان أميراً عليه. هذا هو الصديق المتواضع، ورجل في هذا التواضع لا يمكن أبداً أن ينكر الحق إذا سمعه، وبالذات لو سمعه من أعظم المتواضعين رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا التواضع المتبادل بين الداعية والمدعو شرط لا يغفل لنجاح الدعوة.

الاشتراك في صفة البعد عن أماكن اللهو والفساد

الاشتراك في صفة البعد عن أماكن اللهو والفساد وهناك توافق آخر ملحوظ بين الصاحبين الكريمين العفيفين: أنهما كان يبتعدان تماماً عن أماكن الفساد واللهو والشهوات والمعاصي على كثرتها في مكة، وإذا كان ابتعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الموبقات لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم فإنه من العجيب لرجل مثل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد تماماً عن هذه المنكرات حتى قبل إسلامه وما فيه أحد في مكة يحاسب على هذه الأمور، فهذه الأمور كانت منتشرة انتشاراً كبيراً جداً في مكة، ومع ذلك كان يبتعد عنها؛ لأنها ليست من مكارم الأخلاق، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يشرب خمراً في جاهلية ولا في إسلام. روى ذلك ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة: أنه كان يعرض عنها لأنها تذهب بالعقل، وكان يقول: أصون عرضي وأحفظ مروءتي، وكان يحتقر من يشربها؛ لأنه يهين نفسه بشربها. والصديق لم يزن في جاهلية ولا في إسلام مع انتشار صاحبات الرايات الحمر في مكة، والصديق لم يأت طفرة، ولم يتعود على فحش القوم، ولم يؤذ جاراً، ولم يهضم حقاً، ولم يخلف موعداً، الصديق كان يقدس الأخلاق حتى قبل إسلامه، وحاربه أهل مكة ولم يستطع أحدهم أن يطعنه في خلقه؛ لأنه لم يكن به مطعن رضي الله عنه وأرضاه. ولو تخيلنا رجلاً كهذا تعرض عليه دعوة الإسلام ودعوة الأخلاق العظمى في الأرض وعلى لسان أفضل الناس أخلاقاً ماذا يكون رد فعله؟ من الطبيعي جداً: أن يقبلها، بل وأن يستمسك بها، فهي له خلاص من هذا المجتمع المتعفن بالمعاصي والشهوات والرذائل. إذاً: الحب المتبادل والصدق المتبادل والمروءة المتبادلة والتواضع المتبادل والعفة المتبادلة كانت أموراً واضحة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه، هذا التوافق العجيب بين الشخصيتين سهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم توصيل الدعوة كما سهل على الصديق رضي الله عنه وأرضاه قبولها.

معرفة الصديق بطلان دين المشركين قبل الإسلام

معرفة الصديق بطلان دين المشركين قبل الإسلام ثم تعالوا نفكر مع الصديق، فأي دين سأترك كي أنتقل لهذا الدين الجديد؟ هل سأترك دين قريش؟ وما هو دين قريش؟ وأي شيء يعظمون؟ ولأي إله يسجدون؟ أيترك الصديق دين الإسلام ليعظم اللات أو العزى، أو مناة أو هبلاً؟ مستحيل، فـ الصديق كان دائم الازدراء لهذه الأحجار، وكما يحكي هو فيقول: لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب. يقول الصديق: فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، وطبعاً الصديق يسأله في سخرية منه، فإنه لا ينتظر من هؤلاء إجابة، وكان الناس يعلمون ذلك. يقول الصديق: فقلت له: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، فقلت: إن عار فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه، فمنذ أن بلغ الحلم كان هذا الاعتقاد في داخله أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعلم علم اليقين أن هذه الأوثان ليست آلهة، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان ذكياً حاد الذكاء، ولم يكن يغيب عن ذهنه سفاهة هذه الأصنام، إذ كيف يعقل لصنم أن يخلق وأن يصور، وأن يهدي وأن يرحم، وأن يرزق وأن ينصر؟ كيف يعقل ذلك؟ وكيف يعقل أن بقرة تشرع؟ أو أن شجرة تحكم وتدبر؟ لم تكن هذه الأمور بالتي تغيب عن ذهن العبقري الفذ الصديق رضي الله عنه، فعلم ببساطة أن دين قريش دين منكر، وأن دين الإسلام هو دين الحق. وعلم ببساطة أن لهذا الكون خالقًا، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول. لما وضحت هذه الرؤية في عين الصديق رضي الله عنه ورأى حقيقة الإسلام وباطل الجاهلية وعلم الفرق بينهما قرر منذ اللحظة الأولى أن يغير الباطل إلى الحق، وأن يزيل المنكر ويقر المعروف، قرر أن يفعل ذلك مهما كانت التضحيات، فقرر أن يدخل في الإسلام حتى لو حاربته مكة والعرب، بل والعالم أجمع، قرر هذا كله لأنه كان رجلاً إيجابياً، والرجل الإيجابي قلبه يأكله لما يرى منكراً ولا يهدأ له بال، ولا يستريح له قلب، ولا تسكن له جارحة إلا عند تغيير المنكر إلى معروف، وهذه والله! من أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

إيجابية الصديق وتركه السلبية

إيجابية الصديق وتركه السلبية وهناك أناس كثيرون جداً فهموا حقيقة هذا الدين، لكن افتقروا إلى الإيجابية، وأناس كثيرون جداً غرقوا في السلبية وعاشوا على كلمة: وأنا ما لي؟ فكانت هذه الكلمة سبباً في هلاكه وهلاك المجتمع. من أجل أن نفهم قيمة إيجابية الصديق تعالوا نقارنه برجل من حكماء قريش وعقلائهم كما يقولون، لكنه كان يتسم بسلبية قاتلة فهلك وأهلك من حوله، إنه عتبة بن ربيعة، لما سمع كلام الله عز وجل على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت، عاد إلى قومه مسرعاً يتحدث عن القرآن، وكأنه داعية من دعاة الإسلام فقال: سمعت قولاً والله! ما سمعت مثله قط، والله! ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. لكن ماذا كانت النتيجة بعد هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ استمع إليه وهو يعرض رأيه: يقول عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله! ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله! يا أبا الوليد! بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. لكن الرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية، فهو على يقين من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام البشر، ومع هذا فرأيه الذي يظنه حكيماً أن تخلي قريش بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العرب، فإن انتصر العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم مع العرب، وقد أراحوا أهل قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصبهم أذى الحروب، وإن انتصر محمد صلى الله عليه وسلم على العرب سارعوا بالانضمام إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه سلبية مطلقة، فلما اعترض القوم على كلامه وقالوا: سحرك والله! يا أبا الوليد! بلسانه، ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي أدرك صدق الرسالة؟ قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم، والقوم صنعوا السيئ والقبيح، فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم، بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فإذا بـ عتبة بن ربيعة يحمل سيفه ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلاً تيقن أنه نبي. فأي سلبية هذه؟ وأي إمعية هذه؟ هذا الطراز الفاشل من الرجال لا يصلح للدعوات المصلحة. وإذا نظرنا إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه فليس في الإسلام رجل بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ظهرت إيجابيته في كل مواقف حياته رضي الله عنه، ظهرت في إسلامه، وظهرت في إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً في مكة أو في المدينة، وظهرت في إعداده للهجرة، وظهرت في ثباته في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت كذلك إيجابيته عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت في حروب الردة، وظهرت في فتوح فارس والروم، وظهرت في جمعه للقرآن، وظهرت إيجابيته في كل نقطة من نقاط حياته، وفي مساعدته للفقراء والمحتاجين وكبار السن، وفي معاملاته مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رضي الله عنه وأرضاه نبراساً لكل مصلح، ودليلاً لكل محسن، ما رأى معروفاً إلا وأمر به، وما رأى منكراً إلا وحاول تغييره بكل طاقته بيده ولسانه وقلبه، لذلك شق عليه كثيراً أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية من آيات الله عز وجل على غير معناها الصحيح. سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105]، فظن بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وظنوا أن الله يقول لهم: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: اهتموا بأنفسكم فقط، ولا يضركم ضلال غيركم، فلا تهتموا بهم، والأمر على خلاف ذلك تماماً، فوقف أبو بكر رضي الله عنه ليصحح لهم الفهم، وليصلح لهم الطريق، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه) روى ذلك أصحاب السنن والإمام أحمد رحمهم الله جميعاً، وهكذا فإن هذا الرجل الإيجابي كان ولابد أن يسعى للتغيير والإصلاح، وإذا وجد المنهج القويم المعين

حرص الصديق وسبقه في الاطمئنان على إيمانه

حرص الصديق وسبقه في الاطمئنان على إيمانه وتعالوا ننظر بعض المواقف الأخرى التي تجعلنا نفهم معنى السبق في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان من المستحيل حصر كل هذه الأمثلة في حياته، فهي حياته كلها: تعالوا ننظر حرصه وسبقه وحسمه في الاطمئنان على صدق إيمانه، وعلى سلامة عقيدته، وطبعاً هذا الكلام ممكن يتعجب منه الكثير، فقد نفهم أن عرض قضية سرعة إسلامه للمناقشة كان لغرابتها، ولكن الجميع يعلم أنه منذ أن أسلم وهو أعلى الصحابة إيماناً وأمتنهم عقيدة فكيف يسارع إلى الاطمئنان على عقيدته وإيمانه؟ هل من الممكن أن يشك أحد في هذا الإيمان، وفي هذه العقيدة؟ اسمع إلى هذه القصة العجيبة: روى الإمام مسلم رحمه الله عن حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب رسول الله قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟! وهذا سؤال عادي، الصديق رضي الله عنه وأرضاه يطمئن على حال حنظلة بسؤال عادي، لكن حنظلة رد بإجابة غير عادية إجابة غريبة جداً فقال: نافق حنظلة، وحنظلة من الرجال المشهود لهم بالإيمان، فكيف يقول ذلك عن نفسه؟ تعجب الصديق كما تعجبنا وقال: سبحان الله! ما تقول؟ فبدأ حنظلة رضي الله عنه وأرضاه يفسر كلماته العجيبة فقال: (نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً) يقصد أننا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم نتأثر كثيراً بالكلام عن الجنة والنار حتى كأننا نراها عياناً بياناً. ومن المؤكد وهم في هذه الحالة أنهم يعتزمون ألا يفعلوا شيئاً في حياتهم إلا أفعال الآخرة فقط، ينوون أن يخرجوا فيفردون الأوقات الطويلة في الصلاة، والقرآن والقيام والدعوة والجهاد وغير ذلك، ويصبحون في حالة زهد تام في الدنيا ومتاعها، لكن إذا خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلطوا بأمور الحياة الطبيعية، كما قال: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني: عالجنا ولاعبنا وتعاملنا واختلطنا مع الأزواج والأولاد، والمعايش المختلفة. وعند هذه الحالة الأخيرة ينسون كثيراً مما سمعوه من رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم. هذا التباين في المواقف بين حالتهم في مجلس العلم وحالتهم في معترك الحياة العامة عده حنظلة نفاقاً، وكان من المتوقع من أبي بكر الصديق الذي يزن إيمانه إيمان أمة أن يهون الأمر على حنظلة، ويوضح له أن ذلك يعتبر شيئاً طبيعياً من المستحيل على المرء أن يظل على حالة إيمانية مرتفعة جداً دون هبوط ولو قليل. كان من المتوقع من هذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي لا يشك أحد في إيمانه، والمبشر بالجنة تصريحاً والمقدم على غيره دائماً، كان من المتوقع منه أن يحادثه في قضية الإيمان برابطة جأش، وثبات قدم، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه رجل مفاجآت وقف يحاسب نفسه بسرعة عقله وكان لا يتوقف عن مساءلة نفسه ولو للحظة، وقلبه لا يطمئن إلى عظيم إيمانه، فحاسب نفسه بصراحة ووضوح، فكانت المفاجأة العظمى أن قال: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. أبو بكر الصديق المشهود له بالإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ليس إيماناً عادياً، بل إيمان كإيمان أمة أو يزيد، المشهود له بالتقوى من الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17] يعني: أبا بكر. هذا الرجل يجد في نفسه هذا الأمر الذي خشي أن يكون نفاقاً، ومع أن الخاطر عجيب، ومع أن الهاجس غريب، ومع أنه من الطبيعي تماماً لرجل في مكانته أن يترك هذه الأفكار بسرعة إلا أن الصديق ليس كذلك. الصديق يسبق إلى الاطمئنان على إيمانه، فإذا به يسارع مع حنظلة رضي الله عنه إلى الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاطمئنان على قضية الإيمان. يقول حنظلة رضي الله عنه: (فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وما ذاك؟ قال حنظلة: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً) وهنا يتكلم الطبيب الماهر والحكيم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله! كأني ألحظ على وجهه ابتسامة بسيطة وبشراً في أساريره، وحناناً في صوته وهو يقول في هدوء: (والذي نفسي بيده! لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا

سبق الصديق إلى الدعوة إلى الله عز وجل

سبق الصديق إلى الدعوة إلى الله عز وجل وسبحان الله يا إخوة! إن كان عجيباً سبق الصديق إلى الإسلام، وإلى الإيمان، فلعل الأعجب من ذلك: سبقه إلى الدعوة إلى هذا الدين، وحماسته لنشره، وحميته لجمع الأنصار له، وسرعته في تبليغ ما علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة ما علمه في ذلك الوقت. وبعضنا يعتقد أنه محتاج لعلم غزير جداً حتى يتحرك في مجال الدعوة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فسبق الصديق إلى الدعوة لهذا الدين الجديد، فإذا به يأتي في اليوم الأول من دعوته بمجموعة من الرجال قل أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل منهم بألف رجل والله! أو يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة، أتى بـ عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، هؤلاء الخمسة صناديد الإسلام وعباقرة الإسلام أتوا جميعاً على يد الصديق، وهذا الحدث عظيم لا يحتاج إلى وقفات، وبتحليل إسلام هؤلاء الخمسة يزداد المرء عجباً أكثر! أولاً: ليس من هؤلاء أحد من قبيلته بني تيم إلا طلحة بن عبيد الله فقط، وبقيتهم من قبائل أخرى، فـ عثمان بن عفان أموي من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، فالاستجابة له لم تكن من باب القبلية، ولكن كما هو واضح كانت له صداقات قوية، وعلاقات وطيدة في كثير من أركان المجتمع المكي قبل الإسلام، وهذا لاشك أساس رئيسي من أسس الدعوة. ثانياً: أعمار هذه المجموعة كانت صغيرة جداً وبعيدة عن عمر الصديق، فـ الصديق كان عمره (38) سنة، والزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه كان في الخامسة عشرة من عمره، ومع ذلك لم يستصغره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأسر بهذا السر الخطير -سر دعوة الإسلام- في بلد لا محالة ستحارب هذه الدعوة. فـ الزبير بن العوام أخذ قرار الإسلام وقرار تغيير الدين ومحاربة أهل مكة جميعاً وهو في سن الخامسة عشرة، ويبدو أن تربيتنا لأطفالنا تحتاج إلى إعادة نظر، فكثير منا يعتقد أن ابنه الذي في الجامعة أو بعد الجامعة لا يزال صغيراً ما يقدر أن يتحمل المسئولية ولا يقدر أن يتخذ قراراً، فـ الزبير بن العوام أسلم وعمره (15) سنة. وطلحة بن عبيد الله كان أكبر من ذلك قليلاً، يعني: كان عمره حوالي (16) سنة. وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه كان في السابعة عشرة من عمره، وقد يظن البعض أن سعد بن أبي وقاص كان حينئذ رجلاً كبيراً ابيض شعره. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه كان نحو ذلك أيضاً، وكان أكبرهم عثمان بن عفان كان عمره (28) سنة. إذاً: أبو بكر الصديق قبل الإسلام كانت له علاقات طيبة كثيرة مع كل طوائف مكة على اختلاف قبائلها، وعلى تفاوت أعمارها، وعندما فكر رضي الله عنه في تبليغ الدعوة بلغها للشباب من أهل مكة، وبالذات لأولئك الذين اشتهروا بالطهر والعفاف وحسن السيرة، وكان لهم رضي الله عنهم وأرضاهم بمثابة الأستاذ للتلميذ، فسمعوا له واستجابوا فكان خيراً له ولهم، وللإسلام والمسلمين، وهذه إشارة لكل الدعاة أن يعطوا قدراً كبيراً واهتماماً عظيماً للشباب؛ فعلى أكتاف الشباب تقوم الدعوات. ثالثاً: بعد أن أتى بهذا الرعيل الأول وهذا المجهود الوافر ما فتر حماسه، وما كلت عزيمته، ولكنه أسرع في الأيام التالية يأتي بغيرهم. وفي اليوم الثاني أتى بـ أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه أمين هذه الأمة، وهو من بني الحارث بن فهر، وكان عمره (27) سنة. وأيضاً في نفس اليوم جاء بـ عثمان بن مظعون وهو من بني جمح، ثم في اليوم الثالث أتى باثنين في منتهى الغرابة، وهما: الأرقم بن أبي الأرقم، وأبو سلمة بن عبد الأسد وهذه الغرابة أنهما من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة كانت تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أثر عليهما الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى أتى بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟ هذا أمر لافت للنظر، ولاشك من الواضح الجلي أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قريباً من قلوبهم إلى درجة هي أقرب من القبلية والعنصرية والعصبية وحمية الجاهلية وغير ذلك من الدوافع المنتشرة في ذلك الزمان. والأرقم بن أبي الأرقم الذي أتى به الصديق هو الذي فتح بعد ذلك بقليل بيته للمسلمين كما تعلمون، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدون فيه لقاءاتهم، ويتعلمون فيه دينهم، بعيداً من أهل مكة،

سبق الصديق رضي الله عنه إلى كل أعمال الخير

سبق الصديق رضي الله عنه إلى كل أعمال الخير وكما رأينا سبقه رضي الله عنه وأرضاه في الإسلام والإيمان والدعوة وغير ذلك فإننا أيضاً نرى بوضوح سبقه رضي الله عنه وأرضاه في كل أعمال الخير. روى الإمام مسلم عن أبي هريرة والبيهقي عن أنس بن مالك والبزار عن عبد الرحمن بن أبي بكر حديثاً يوضح لنا مثالاً لمسارعة الصديق رضي الله عنه إلى الخير. ونذكر رواية البزار؛ لأن فيها توضيحاً أكثر للموقف: يقول عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على أصحابه بوجهه فقال: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ فقال عمر: يا رسول الله! لم أحدث نفسي بالصوم البارحة، فأصبحت مفطراً، فقال أبو بكر: ولكني حدثت نفسي بالصوم البارحة فأصبحت صائماً) وطبعاً هذا تفتيش مفاجئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة. ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (هل أحد منكم اليوم عاد مريضاً؟ فقال عمر: يا رسول الله، لم نبرح فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: بلغني أن أخي عبد الرحمن بن عوف شاك فجعلت طريقي عليه لأنظر كيف أصبح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكيناً؟ فقال عمر: صلينا يا رسول الله! ثم لم نبرح، فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا بسائل فوجدت كسرة من خبز الشعير في يد عبد الرحمن فأخذتها ودفعتها إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت فأبشر بالجنة) ثم قال كلمة أرضى بها عمر رضي الله عنه. بل إن في رواية أبي هريرة في صحيح مسلم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا فيقول: (فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا) وفي نهاية الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). وحقاً والله! إنه من العسير أن تحصي مواقف السبق في حياة الصديق رضي الله عنه. فالسبق في حياته يشمل كل حياته، يلخص هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الذي أختم به حديثي هذا، الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. يقول عمر: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، قلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً) وواضح من هذا أن الصديق كان يسبق عمر بن الخطاب في كل الأفعال، قال: (فجئت بنصف مالي)، وهذا عطاء ضخم جداً، فواحد معه عشرة آلاف جنيه مثلاً وأخرج منها خمسة آلاف جنيه للدعوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستكثر هذه الصدقة: (ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده)، سبحان الله! أتى أبو بكر بكل ماله الذي في البيت، أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر بن الخطاب: لا أسبقه في شيء أبداً) هكذا يقول: لسان مقاله: إنه لا يسبق الصديق رضي الله عنه، وعن عمر وعن الصحابة أجمعين. وصل وسلم وبارك على الذي علمهم وأرشدهم ودلهم على كل خير صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

إنكار الذات

سلسلة الصديق_إنكار الذات ضرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أروع الأمثلة وأجملها في التواضع وغمط النفس، فقد كان رضي الله عنه كل همه أن يرضى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لذا كان لا يرى حظ نفسه في شيء، لا في إمارة ولا في مال ولا في جاه ولا في غير ذلك، فرضي الله عنه، وجزاه عن الأمة خيراً.

معنى صفة إنكار الذات

معنى صفة إنكار الذات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم فقهنا في الدين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. ثم أما بعد: إخواني وأخواتي في الله! أهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله، وأسأل الله عز وجل أن يغشانا برحمته، وأن ينزل علينا سكينته، وأن يحفنا بملائكته، وأن يذكرنا في ملأ عنده خير من هذا الملأ؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. هذا هو الدرس الرابع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ودروس الصديق لا تنتهي؛ فإن الرجل كان أمة فعلاً، جمع صفات الأمة الإسلامية بكاملها، إن أردت أن تتحدث عن أبي بكر تحدثت عن الإسلام، وإن أردت أن تتحدث عن الإسلام تحدثت عن أبي بكر الصديق، رجل في أمة، وأمة في رجل، الصديق رجل في أمة إذا ألم بالأمة خطب كان الصديق هو الرجل، والصديق أمة في رجل إذا جمعت خير الأمة وجدته ملخصاً ومركزاً في الصديق رضي الله عنه، ولا عجب في ذلك، فقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة، يقول الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، ما زلنا نقلب بعض الصفحات المجيدة في تاريخ المسلمين، ما زلنا نقلب صفحات قلائل في مجلد الصديق الضخم الهائل، ما زلنا نتدبر ونتعلم ونعتبر ونستمتع بحياة الصديق رضي الله عنه، نحن تكلمنا في الدروس الثلاثة التي مرت عن ثلاث صفات رئيسية من صفات الصديق رضي الله عنه. وليس معنى أننا نذكر صفات معينة للصديق أن هذه هي كل صفات الصديق، بل نحن نذكر صفات تميز بها بوضوح عن غيره، وإن كان لا يمنع هذا أنه يتمتع بكل صفات الخير التي وجدت في رجال الإسلام، كما لا يمنع هذا أيضاً أن غيره من الصحابة الكرام يتمتعون أيضاً بنفس الصفات ولكن فاقهم فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه. والصفات التي ذكرناها في الدروس السابقة هي: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب، والسبق. هذه صفات رئيسية غلبت على حياة الصديق ومنها خرجت كل الصفات الحميدة الأخرى التي تمتع بها رضي الله عنه من صدق ورحمة وعدل وأدب في الحديث، وأمانة في المعاملة، وشجاعة في القتال إلى غيرها من الصفات. والصحابة جميعاً تمتعوا بهذه الصفات، فالصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس كحب الصديق، والصحابة جميعاً تمتعوا بالقلوب الرقيقة والطبع الرحيم، كل الصحابة كانوا كذلك حتى الذين يعتقد الناس في شدتهم وبأسهم أمثال: عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهم، كل هؤلاء كانت لهم عاطفة جياشة وقلوب رحيمة لكن ليس كـ الصديق. وكل الصحابة كانوا سباقين إلى الخير، لكن ما سبقوا الصديق رضي الله عنه وهكذا فإن الله عز وجل جعل من الصديق رضي الله عنه نموذجاً رائعاً لأتباع الرسل، استوعب رسالة الإسلام بكاملها، وحملها نقية خالصة لمن بعده، فرضي الله عن الصديق ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. واليوم نتحدث عن صفة رابعة أصيلة في حياة الصديق رضي الله عنه، وهي صفة صعبة في تطبيقها وتنفيذها تحتاج إلى إيمان عظيم، وإلى همة عالية، وإلى فهم دقيق عميق. تلك الصفة هي: إنكار الذات. فماذا يعني إنكار الذات؟ إنكار الذات معناه: أن الإنسان لا يرى لنفسه حظاً في حياته مطلقاً، وإن كان حلالاً وإن كان مباحاً وإن كان مقبولاً في عرف الناس وفي الشرع، لكنه دائماً يؤخر نفسه ويقدم غيره. إنكار الذات معناه: أن تخلص النفس من حظ النفس فلا تهتم بثناء ولا مدح، ولا تنتظر أن يشار إليها في فعل أو قول. إنكار الذات معناه: أن تؤخر حاجاتك الضرورية وتقدم حاجات الآخرين، وإن لم ترتبط معهم بعلاقة رحم أو مال أو مصلحة. إنكار الذات هو أعلى درجات السمو في النفس البشرية، تقترب فيه النفس من أفعال الملائكة، بل لعلها تفوق الملائكة؛ فإن الملائكة جبلت على الطاعة، والإنسان مخير بين خير وشر. إنكار الذات ليس معناه أبداً: أن الإنسان ليس له قيمة، بل بالعكس المنكرون لذواتهم هم أعلى الناس قيمة، وهم أكثر ال

إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته

إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته الصديق رضي الله عنه وأرضاه من أروع الأمثلة الإسلامية في صفة إنكار الذات، الصديق أنكر ذاته في حق الله عز وجل، فلا يأمر الله بشيء ولا ينهى عن شيء إلا وامتثل واستجاب ولبى مهما كانت التضحيات. الصديق أنكر ذاته في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في إنكار الذات مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحصى ولا تعد، فلم يكن يرى نفسه مطلقاً بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم. الصديق أنكر ذاته في حق المؤمنين حتى من أخطأ منهم في حقه، وحتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة والمعروفة بين الناس، وابحث في حياة الصديق ونقب أين حظ النفس عند الصديق؟ لا تجد، أين إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر: من حب للمال، وحب للجاه، وحب للسلطان، وحب للسيادة، وحب للظهور، وحب للذكر، بل وحب للحياة، أين ذلك في حياة الصديق؟ والله! لا أجده. إنه مثال عجيب من البشر وآية من آيات الرحمن في خلقه، وتعالوا نستمتع بإنكار الذات عند الصديق، ونمر مروراً سريعاً فقط، فدرس أو مائة درس لا تكفي لذلك، لكن نمر مروراً سريعاً على حياة الصديق. فمثلاً: موضوع المال، يا ترى أين حظ الصديق في ماله؟ وتعالوا كذا نقفز قفزات في تاريخ الصديق، فسنلاحظ أشياء عجيبة جداً في سيرته.

نماذج من إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته في المال

نماذج من إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته في المال الصديق جبل على العطاء، يعني: يحب أن يعطي، يعني: هناك ناس جبلوا على العصبية، وناس على الشجاعة، وناس ظرفاء ودمهم خفيف، والصديق جبل على حب العطاء، فطرته تدفعه إلى العطاء، وتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء، ويبحث عن العطاء، وهذا شيء عجيب. والإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حباً شديداً، قال عز وجل: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وقال: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100]، أي: شديد البخل، وشديد المنع، والصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سواه على هذه الصورة، الصديق كان يهوى الإنفاق. وهنا أمر عجيب جداً: الصديق كان يستمتع بهذا الإنفاق حتى في الجاهلية قبل الإسلام، والزعامة في قريش كانت مقسمة بين عشر قبائل قبل الإسلام، فمثلاً: السقاية والرفادة في بني هاشم، والحجابة والولاء والندوة ومفتاح الكعبة في بني عبد الدار، والسفارة في بني عدي وهكذا. وأبو بكر كان مسئولاً عن ضمان الديات والمغارم في مكة، يعني: واحد عليه دية، واحد يريد قرضاً، واحد يريد أن يشتري جملاً، يذهب إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليضمنه عند قريش، وإذا سأل الصديق قريشاً ضماناً قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه. وهذا عمل في منتهى الخطورة، وهو أن يتحمل الصديق الديات، فإذا الرجل لم يوف الدية يتحمل الصديق، وإذا لم يوف الرجل دينه يتحمل الصديق أقساطاً على الرجل إذا لم يوف أقساطه، أي: أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير مال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس وتحمل مغارمهم. وبهذا نستطيع أن نفهم الوصف الذي وصف به ابن الدغنة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه فما بالكم به بعد أن أسلم؟ وما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قدسياً ينقله عن رب العزة عز وجل، يقول فيه الله تعالى: (أنفق يا ابن آدم! أنفق عليك)، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟ والصديق رضي الله عنه كان واضعاً نصب عينيه حقيقة ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه، تلك الحقيقة هي: إن كان قال فقد صدق صلى الله عليه وسلم، هكذا القول عنده، يعني: كان عند الصديق التصديق الكامل الذي لا شك فيه، فما بالكم إذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، - وذكر منها صلى الله عليه وسلم -: ما نقص مال عبد من صدقة)؟ هذه الطبيعة الفطرية، وهذا اليقين في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر لنا كثيراً من مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه. الصديق رضي الله عنه شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة التعذيب الشديد والنكال الأليم بكل من آمن من العبيد، والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون، وليس لهم أدنى حق من الحقوق، فتألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية من كفار مكة، وسارع لينقذ هذا ويفدي ذاك، فكان يشتري العبد ثم يعتقه لوجه الله، وحاله: لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً. فـ بلال رضي الله عنه وأرضاه كان يعذب على صخور مكة الملتهبة وعلى صدره الأحجار العظيمة، وكان سيد بلال في ذلك الوقت أمية بن خلف عليه لعنة الله، فمر عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه فساوم عليه سيده أمية بن خلف وعرض عليه أن يشتريه بمال كثير. وفي رواية: أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب، وهناك حوار لطيف جداً دار بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين أمية بن خلف، فـ أمية بن خلف يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق فقال: لو عرضت علي أوقية واحدة من الذهب لبعته لك، يعني: يحاول أن يحسره على البيعة، والصديق طبعاً كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، فالرجل قال له: سبع أوقيات من الذهب، فوافق، وطبعاً لو كان واحداً آخر كان ساومه على سعر أفضل، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه رد على أمية بن خلف في هدوء وقال: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لاشتريته، فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف. والمشرك لا يدرك قيمة بلال بعد أن أسلم، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه يدرك ذلك، فهذا العبد

حرص الصديق رضي الله عنه على ألا يرى مكانه

حرص الصديق رضي الله عنه على ألا يرى مكانه وتعالوا نرى جانباً آخر من إنكار الذات عند الصديق رضي الله عنه وأرضاه وأين حظ نفسه في أن يرى مكانه؟ أو في أن يشار إليه أنه فلان، حتى وهو خليفة وأعلى رأس في الدولة: ذكر له ذات مرة امرأة نذرت أن تحج وهي صامتة لا تتكلم، فلم يرسل إليها أحداً، ولم يرسل في طلبها، بل ذهب إليها بنفسه وهو الخليفة، فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، وهي لا تعرفه، فتريد أن تعرف من هو فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين، سبحان الله! هكذا بهذا التجهيل الكامل لشخصيته وهو الخليفة، قال: أنا امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر، فعرفت أنه الخليفة، لكنها لم تفزع، وكيف تفزع وهي ترى هذا التواضع من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لكن شجعها تواضعه أن تسأله سؤالاً كان يشغلها، فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقام به أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس، يعني: الصديق جعل بقاء الأمر الصالح بصلاح الأئمة والقواد، مثل الذي قال لـ عمر: عففت فعفت الرعية. الشاهد من القصة: عدم سعي الصديق لإظهار نفسه حتى مع كونه خليفة.

حرص الصديق على مصلحة المسلمين وتقديمها على مصلحته

حرص الصديق على مصلحة المسلمين وتقديمها على مصلحته موقف آخر جميل من مواقف الصديق في إنكار الذات: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه)، السيدة عائشة فقدت عقداً لها، فأوقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الجيش بكامله ليبحث عن العقد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يهتم بمشاعر السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها. والمشكلة الأكبر كما تقول السيدة عائشة: إنهم ليسوا على ماء، وليس معهم ماء، يعني: ليس هناك آبار ماء موجودة في المنطقة ولا يوجد معهم ماء، ومع ذلك في هذه الظروف الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف الجيش للبحث عن العقد، وزادت المشكلة أن نام بعض الرجال، فاستيقظوا جنباً، والماء لا يكفي للغسل، إنه موقف عظيم جداً! ولم تكن آية التيمم قد نزلت بعد، كل هذا المفروض أنه يعظم من شأن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ومن شأن أبيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم اهتماماً عظيماً بالسيدة عائشة ولا شك أن هذه فضيلة، لكن الصديق رضي الله عنه لم يكن ينظر إلى هذا، كان ينظر إلى المشقة التي وقعت على المسلمين، ونسي فخر نفسه، وتذكر ألم المسلمين. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال أبو بكر: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني)، وطبعاً واضح أنه لم يكن عتاباً عادياً، قالت: (فعاتبني ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم)، سبحان الله! فأنزل الله في هذا الوقت آية التيمم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، في سورة النساء. فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، فلهم بركات كثيرة إسلام ودعوة وإعتاق للعبيد وإنفاق وهجرة وجهاد وأيضاً آية التيمم، إنها فعلاً عائلة مباركة. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته).

إنكار الصديق لذاته في الراحة والكلام

إنكار الصديق لذاته في الراحة والكلام جانب آخر من جوانب إنكار الذات عند الصديق رضي الله عنه: أين حظ نفسه في الراحة؟ أريتم الهجرة وما فعل فيها رضي الله عنه وأرضاه؟ وقد تكلمنا قبل هذا عن الهجرة، أريتم موقف تجهيز الغار وتنظيفه، ثم تجهيز مكان ينام فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بجوار الصخرة، ثم البحث عن الطلب، ثم حلب اللبن وصب الماء عليه حتى يبرد، أليس الصديق أيضاً مسافراً كرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا يريد هو الآخر الراحة والنظافة والظل والفراش والشراب؟ لكنه لا يرى نفسه مطلقاً، ظل هكذا في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمتعاً بهذه الخدمة حتى دخلوا المدينة. وعندما دخلوا المدينة وارتفعت الشمس بعد كل هذا التعب والسفر والطريق الطويل يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ليستريح، فيقف الصديق رضي الله عنه ليضلل عليه بردائه، ألا يتعب هذا الرجل؟ أليست له احتياجات البشر العادية؟ ألا يجد له حقاً في أي شيء؟ أليست هناك حدود لطاقته؟ سبحان الله! هذا هو الصديق المنكر لذاته. أين حظ الصديق في الكلام؟ لقد آتاه الله قوة في الحجة، وطلاقة في اللسان، وحكمة في البيان، ومع ذلك كان قليل الكلام جداً، والكلام شهوة، وكثير من الناس -وبالذات الخطباء- يحبون أن يستمع الناس لكلامهم، والصديق مع أنه كان خطيباً مفوهاً، إلا أنه كان يتعمد الصمت قدر ما يستطيع. الصديق رضي الله عنه وأرضاه يضع في فمه حصاة تمنعه من الكلام، سبحان الله! لماذا هذا؟ إذا أراد أن يتكلم رفعها، وبذلك يأخذ وقتاً بالتفكير فيما يريد أن يقول. دخل عليه عمر بن الخطاب ذات مرة ورآه ممسكاً بلسانه وعلى وجهه آثار الحزن، فقال: ما لك يا أبا بكر؟! قال: هذا الذي أوردني الموارد، اللسان، الصديق يقول: هذا الذي أوردني الموارد، الصديق رضي الله عنه وأرضاه يحاسب نفسه على كلماته القلائل، فكيف بمن أضاع عمره في كلام هو من اللغو أو من الباطل، أو من الذي لا ينبني عليه كثير عمل. نسأل الله أن يهدينا إلى الطريق المستقيم.

إنكار الصديق حظ نفسه في الإمارة والسيادة

إنكار الصديق حظ نفسه في الإمارة والسيادة أين حظ نفسه في الإمارة والسيادة؟ فمع كونه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قلما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية، كان صلى الله عليه وسلم يبعثه تحت إمرة غيره، فما كان يعترض ولا تتحرك نفسه لقياده أو لسلطة، وأحياناً يكون الأمير عليه حديث الإسلام، والصديق رجل له باع طويل في الإسلام، لم يكن ينظر لذلك، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمر ووجوه الصحابة تحت إمرة عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه في سرية ذات السلاسل سنة 8 هـ، وكان إسلام عمرو بن العاص حديثاً جداً، يعني: أسلم منذ خمسة شهور، والصديق أسلم قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة ومع ذلك فإنه تقبل الأمر بصدر رحب تماماً واستمع وأطاع لأميره عمرو بن العاص. روى الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما انتهوا إلى مكان الحرب، أمرهم عمرو ألا ينوروا ناراً)، والليلة كانت ليلة باردة، والمسلمون في حاجة إلى الدفء، لكن عمرو بن العاص رضي الله عنه خاف من أن يكتشف العدو مكان المسلمين إذا أشعلوا النار، فغضب عمر بن الخطاب وهم أن يأتيه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلاحظ ما فكر فيه عمرو بن العاص، لكن انظروا إلى تجرد الصديق وفقهه وإنكاره لذاته، يقول عبد الله بن بريدة رضي الله عنه: فنهاه أبو بكر وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعمله عليك إلا لعلمه بالحرب، فهدأ عنه عمر رضي الله عنه وأرضاه. قيمة الإمارة عند الصديق ظهرت في كلمة من كلماته قالها وهو ينصح رجلاً من المسلمين كان ربيلاً، وهو رافع بن عمرو الطائي، والنصح هذا كان في نفس الغزوة ذات السلاسل، وكان رافع بن عمرو الطائي حديث الإسلام فقال: لا تؤمرن على اثنين، يعني لا تطلب الإمرة حتى على رجلين. وظهر ذلك أيضاً في كلمة أخرى للصديق رضي الله عنه قال: إنه من يك أميراً فإنه من أطول الناس حساباً، وأغلظهم عذاباً، ومن لم يكن أميراً فإنه من أيسر الناس حساباً وأهونهم عذاباً. هو هذا فهم الصديق للإمارة رضي الله عنه وأرضاه.

إنكار الصديق حظ نفسه في تحسين صورته أمام الناس

إنكار الصديق حظ نفسه في تحسين صورته أمام الناس أين حظ النفس عند الصديق في صورته أمام الناس؟ قد تشوه صورته أمام الناس فلا يعتبر إلا بمصالح الآخرين وإن كان على حساب صورته، وتعالوا بنا نرى الموقف اللطيف هذا: روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر تأيمت من خنيس بن حذافة -يعني: مات عنها زوجها خنيس بن حذافة رضي الله عنه وكان من أهل بدر- قال عمر: لقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فقال عثمان: سأنظر في أمري، قال عمر: فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، يعني: رفض الزواج. قال: فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فلم يرجع إلي شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، يعني: غضبت منه أكثر مما غضبت من عثمان رضي الله عنه، قال: فلبثت ليالي، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها)، الصديق لا يرى صورته، كان من الممكن أن يبشر عمر رضي الله عنه وأرضاه أو أن يقول له: لو لم يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأتزوجها، لكنه لا يريد أن يفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا مانع إن كان ذلك على حساب صورته أمام عمر. وروى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر -أي: خاصم- فسلم أبو بكر الصديق وقال: يا رسول الله! إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فغضبت ثم ندمت وسألته أن يغفر لي فأبى علي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر! قالها ثلاث مرات، ثم إن عمر ندم أنه لم يسامح أبا بكر الصديق، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ -يعني: أبو بكر هنا؟ - قالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم يتمعر -أي يغضب غضباً شديداً- حتى أشفق أبو بكر على عمر أن يناله ما يكره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجثا الصديق على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله! أنا كنت أظلم -ليس مهم صورته أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهم ألا يؤذى عمر - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)، قالها مرتين صلى الله عليه وسلم، يقول أبو الدرداء: فما أوذي بعدها رضي الله عنه وأرضاه.

إنكار الصديق حظ نفسه في الانتصار بعد الظلم

إنكار الصديق حظ نفسه في الانتصار بعد الظلم ثم أين حظ النفس عند الصديق في الانتصار لنفسه بعد الظلم؟ فهذا موقف من أروع مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكل مواقفه رضي الله عنه رائعة: لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق السيدة عائشة أم المؤمنين وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنة الصديق رضي الله عنهما، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاث رضي الله عنه، والحقيقة أن الذين تكلموا كلهم في حقها في كفة، ومسطح رضي الله عنه وأرضاه في كفة لوحده؛ لأنه: أولاً: هو من المهاجرين، ليس منافقاً أو حديث إسلام. ثانياً: هو ابن خالة الصديق ومن أعلم الناس بـ عائشة رضي الله عنها، الطاهرة المطهرة، البريئة العفيفة الشريفة. ثالثاً: كان الصديق يعوله وينفق عليه، فـ مسطح كان فقيراً وجعل الصديق على نفسه أن يعطي له عطاءً ثابتاً يكفله به، وبعد كل هذا طعن في السيدة عائشة ولم يطعن فيها بخطأ بسيط أو هفوة عابرة، لا، بل طعن في شرفها، واتهمها أنها فعلت جريمة الزنا وهي متزوجة، ومتزوجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي جريمة تلك التي فعلها مسطح رضي الله عنه؟ لكن الصديق فعل أقل رد فعل طبيعي متوقع من رجل طعن في شرف ابنته، ويشعر بالظلم الشديد، فحلف الصديق ألا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً، وننتبه أن الصديق لا يمنع حقاً كان يعطيه لـ مسطح، ولكنه يمنع فضلاً كان يتفضل به عليه. ثم مر شهر كامل عصيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصديق رضي الله عنه، وعلى عائشة رضي الله عنها، وعلى سائر المؤمنين، ثم نزلت آية البراءة وأقيم على المتكلمين في عرض السيدة عائشة حد القذف ثمانين جلدة، وبعد هذه الآيات نزلت آية خاصة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فيها خطاب رقيق من رب العالمين للصديق. ونحن مهما عملنا لن نقدر قدر الصديق رضي الله عنه، يقول الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22]، يعني: ولا يحلف، {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22]، انظر يصف الصديق بأنه {أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22]، والعلماء لهم تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين للصديق بأنه من أولي الفضل، والفضل هكذا على إطلاقه يعني كل أنواع الفضل. حتى إن الرازي رحمه الله استخرج منها أربعة عشر فضلاً للصديق. قال عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22]، وانظر رحمة ربنا حتى بالذين وقعوا في عرض زوجة حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22]. ثم جاء نداء رقيق ودود: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، وانظر إلى ردة فعل الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: بلى والله! إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا! وندم على قطعه للنفقة، وأقلع فوراً عن إمساكها، فأرجعها إلى مسطح وعزم على ألا يعود إلى قطعها أبداً، فقال: والله! لا أنزعها أبداً، كل هذا وليس بذنب بل قطع فضلاً، ولم يقطع حقاً لـ مسطح، ونحن يا ترى كم مرة نسمع نداء المغفرة من الله عز وجل وعندنا ذنوب كبيرة، كم مرة نسمع: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} [النور:22]، فنقول: إن شاء الله ربنا يتوب علينا، وما زلنا مصرين على الذنب. وكم مرة نسمع: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فنقول: إن شاء الله، لكن لما أحج، أو لما أتزوج، أو لما أكبر قليلاً، أو لما ربنا يريد. وكم مرة نسمع: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ *

إنكار الصديق حظ النفس في الحياة

إنكار الصديق حظ النفس في الحياة أخيراً: أين حظ النفس عند الصديق في الحياة؟ ظل الصديق منذ أسلم وحتى مات زاهداً في حياته، معرضاً نفسه للخطر تلو الخطر لم ينظر لحياته مطلقاً، وانظر إلى موقف رائع تحكيه السيدة عائشة رضي الله عنها: تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلاً -يعني: في أوائل فترة مكة- ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: (يا أبا بكر! إنا قليل)، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ويبدو أن هذا لم يكن ظهوراً كاملاً للمسلمين؛ لأنه من المعروف أن الظهور الكامل لم يكن إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام لم يكتف الصديق بمجرد الظهور، بل وقف خطيباً يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ولذا يقولون: إن الصديق هو أول خطيب في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا كان رد فعل المشركين؟ ثار المشركون ثورة عنيفة وقاموا يضربون الصديق ضرباً عنيفاً، وتنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق المرموقة في المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد حتى أعمى أبصارهم، تقول السيدة عائشة: ودنى الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه حتى ما يعرف وجهه من أنفه، فتورم وجهه حتى أصبحت ملامح الوجه غير معروفة، والأنف اختف في خلال الوجه، وجاء بنو تيم يتعادون، وبنو تيم هي قبيلة أبي بكر الصديق، فأجلوا المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم إلى المسجد وقالوا: والله! لئن مات أبو بكر لنقتل عتبة بن ربيعة، ثم رجعوا إلى أبا بكر فجعلوا يكلمون أبا بكر وهو في إغماة طويلة حتى أفاق آخر النهار، فرد عليهم، فماذا قال؟ أول كلمة قالها: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. سبحان الله! حتى وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت! وبنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، بل كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهاهم على وشك أن يفقدوا علماً من أعلامهم وهو الصديق رضي الله عنه. ثم هاهم على أبواب معركة لا يحمد عقابها مع قبيلة عبد شمس قبيلة عتبة بن ربيعة، وليست بالقبيلة الهينة في قريش، وهاهم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة، ولا شك أنهم إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذا في عرف العرب إهانة لا تستقيم لهم بعده حياة، كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق ويلومونه ويكيلون له الكلام بما فيهم أبوه أبو قحافة، ومع ذلك فـ الصديق لا يقول إلا شيئاً واحداً: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والتفتوا إلى أمه أم الخير -وكانت آنذاك مشركة- وقالوا: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه شيئاً، فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه وتسقيه، لكنه جعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يستطيع أن يأكل أو يشرب إلا بعد أن يطمئن على حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمي عليها ثم أفاقت، أيكون لها من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟ هكذا أحب الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يزيد والله! قال الصديق لأمه: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، وأم جميل هي أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها عمر كان مشركاً، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت: إن أبا أبا بكر سائلك عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهنا نرى موقفاً لطيفاً من أم جميل رضي الله عنها، المرأة المسلمة الواعية الحذرة، خشيت من أم الصديق؛ لأن أم الصديق لا زالت مشركة أفتكشف نفسها وتعرف بإسلامها أمامها ببساطة أو بسهولة؟ لا، وإن فعلت وكشفت إسلامها أتثبت لها أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس مع الصحابة في دار الأرقم، ودار الأرقم مجه

نعمة الثبات

سلسلة الصديق_نعمة الثبات الثبات على دين الله عز وجل نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أشد الناس ثباتاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت على الإسلام من أول يوم، وقدمه على نفسه وأهله وماله، وثبت عند موت حبيبه صلى الله عليه وسلم، وعند حروب الردة وفي غير ذلك من المواقف الكثيرة في حياته رضي الله عنه.

ثبات الصديق رضي الله عنه

ثبات الصديق رضي الله عنه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ولا أخفي أنني كلما توغلت في سيرة الصديق رضي الله عنه وكلما تشعبت وقرأت ودرست وحللت شعرت أنني أريد أن أعتذر للصديق؛ لأنني ولسنوات طوال لم أعطه حقه الكافي من التبجيل والتعظيم والتكريم، نعم كنت أعرف فضله ومكانته وقدمه الراسخة في الإسلام، لكن ليس بالصورة التي يستحقها بالفعل، بل لعلي لا أخفي أنني أحياناً كنت أعطي مساحة من التكريم أكبر لغيره من الصحابة مثل: عمر بن الخطاب ومثل: علي بن أبي طالب ومثل: حمزة بن عبد المطلب ومثل: أبي عبيدة بن الجراح. وهذا لاشك خطأ يستحق الاعتذار وقصور يحتاج إلى تفهيم وتوضيح، ولعل هذا القصور في فهم درجة العظمة التي وصل إليها الصديق رضي الله عنه يرجع إلى قصر مدة خلافته رضي الله عنه، لكن على العكس هذه المدة القصيرة التي حكم فيها الصديق تضاف إلى فضائل الصديق رضي الله عنه؛ فإن الأحداث التي تمت في خلافته قد تحتاج إلى عشرات الأعوام لتتم في عهد غيره. ولعل قصورنا أيضاً عن وضع الصديق رضي الله عنه في مكانته الحقيقية يرجع إلى طبيعته الهادئة الرقيقة اللينة التي تخفيه كثيراً عن الأنظار. ولعل قصورنا أيضاً في معرفته يرجع إلى قلة الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يرجع بالطبع إلى أنه مات سريعاً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك وقت كاف يحدث به عنه، وإلا فهو أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل طول صمته وكثرة تفكيره وحياءه من الكلام كان سبباً في قلة أقواله وخطبه مع أنه كان من أبلغ الصحابة وأحكم الناس، لعل واحداً من هذه الأمور أو أكثر كان سبباً في جهلي للصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فكل هذه أعذار لخطأ واضح؛ فحياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليست مخبأة في أماكن سرية أو صفحات مشفرة، بل حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه مبسوطة في مئات بل آلاف من الكتب، وقد يكون الكثير منها في مكتباتنا وفي بيوتنا، ولكننا تركنا التراب يعلو هذه الكتب ولم نفتش عن أمجادنا ولم ننقب عن كنوزنا، فعذراً يا صديق! وعذراً يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلم نوفكم معشار حقكم بعد، وعزاؤنا أننا والله! نحبكم في الله، ونسأل الله عز وجل أن يحبنا كما أحببناكم فيه. في الدروس الأربعة السابقة تحدثنا عن أربع صفات للصديق رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب، والسبق، وإنكار الذات. وفي هذا الدرس نتحدث عن صفة عجيبة هي أصعب من كل ما سبق حتى أنها أصعب من صفة إنكار الذات والتي ذكرنا في الدرس السابق أنها صفة صعبة وعسيرة، والأصعب في الصفة التي سنتحدث عنها أنها لا تكتسب، بل هي منحة ربانية من الله عز وجل لبعض عباده، ولذلك فإننا لم نضعها في الصفات الأصيلة في شخصية الصديق رضي الله عنه وأرضاه. فقد ذكرنا أن الصديق تميز بأربع صفات أصيلة فلما تحققت فيه هذه الصفات الأربع منحه الله عز وجل هذه الصفة الخامسة، بمعنى: أن الله عز وجل لما رأى منه حباً جارفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه فوجده رقيقاً حانياً عطوفاً ووجد طبعه سهلاً محبباً ليناً، ووجد خلقه حسناً رفيعاً عالياً لما علم منه سبقاً إلى الخيرات ومسارعة إلى الحسنات وحسماً وعزماً في كل أمور حياته، لما رأى منه عطاءً ثم عطاءً ثم عطاءً وإنكاراً لذاته في كل خطواته لما رأى منه كل ذلك وغيره أنعم عليه بنعمة عظيمة وهبة جليلة؛ أنعم عليه بنعمة الثبات. الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإسلام، والثبات على الإيمان، والثبات على الطاعة وحسن الخلق، والثبات على العطاء، والثبات أمام الفتن كلها صغيرة كانت أم كبيرة دقيقة كانت أم عظيمة خفية كانت أم معلنة. والثبات شيء صعب وعسير، فالإنسان قد ينشط في فترة من فترات حياته لكنه سرعان ما يفتر، وقد يقوى في زمان لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل

ثبات الصديق أمام فتنة المال

ثبات الصديق أمام فتنة المال أولاً: ثباته أمام فتنة المال، وبدأت بها لأنها فتنة عظيمة، فكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى فإذا جاءوا إلى فتنة المال وقعوا فيها، يقول أحد الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر! هكذا يقول الصحابي الجليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن كعب بن عياض رضي الله عنه-: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال) وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وقد شاهدنا كثيراً من المتقين، وشاهدنا كثيراً من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة وعن مواقف مشهودة، لكننا لم نسمع من قبل عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله ولا يبقي لنفسه ولا لأهله شيئاً، وليس مرة أو مرتين يفعلها ولكنه اعتاد الثبات على هذا الأمر، وقد تحدثنا من قبل في درس سابق عن إنفاقه رضي الله عنه وأرضاه على الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة أو سواء في فترة المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، لكن نذكر هنا طرفاً سريعاً من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة، فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله يمتلك مقاليد الحكم في المدينة ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وخراجها كثير، وتأتي زكاتها، ويمتلئ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح وها هي الشام كذلك تفتح وتأتي الغنائم وفيرة والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟ ما تغير قدر أنملة، وما تبدل شعرة، وما فتن بالدنيا لحظة. وليس الصديق بالذي يتبدل؛ لقد أعطى الدنيا حجمها فزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، لقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً وضح فيه حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، وسمع الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بن سعيد أحد رواة الحديث بالسبابة- في اليم فلينظر بما ترجع) فما غاب عن ذهنه أبداً هذا المقياس، ومن أجل هذا ما فتن بالدنيا لحظة. لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعها نصب عينيه، وكأنها خاصة بـ أبي بكر الصديق، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها)، وها هو الصديق قد استخلف فيها الخلافة الكبرى، يقول صلى الله عليه وسلم: (فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء). أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة وعلى يده أبراد، والبرد: هو الثوب المخطط. يعني: أخذ أثواباً لبيعها في السوق كعادته حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال عمر: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ سبحان الله! يده على بيت المال بكامله لكنه يقول: فمن أين أطعم أولادي؟ فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يذهب إلى أبي عبيدة أمين بيت المال ليفرض له قوته وقوت أولاده، فذهب إليه ففرض له، فانظر إلى هذه الشفافية في الضمير والأمانة والنقاء في النفس، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه ينزل إلى السوق وهو خليفة لكي يتاجر حتى يطعم أولاده! فعف الصديق رضي الله عنه وأرضاه فعفت الرعية في زمانه رضي الله عنه. وانظروا إلى الصديق وهو على فراش الموت بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة في ذلك الزمان الدولة التي دكت حصون فارس والروم يقول مخاطباً عائشة رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا -يعني: الطعام البسيط- ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وهذه القطيفة -كساء- فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن، تقول السيدة عائشة: ففعلت. فلما وصل الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه بكى عمر بن الخطاب حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله

ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب

ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب وتعالوا نرى ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب، وفتنة الرئاسة فتنة عظيمة جداً، وابتلاء كبير، فكثير من الناس يعيش حياة التواضع فإذا صعد على منبر الحكم تغير وتبدل وتجبر وتكبر؛ إنها فتنة كبيرة، وهنا كلمة حكيمة جداً للحسن البصري رحمه الله يقول: وآخر ما ينزع من قلوب الصالحين حب الرئاسة. لكن الصديق نزع من قلبه حب الرئاسة من قديم. والصديق رضي الله عنه وأرضاه وإن كان يعيش قدراً معيناً من التواضع قبل الخلافة فإن هذا القدر تضاعف أضعافاً مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن أعظم خلفاء الأرض تواضعاً بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه، فوالله! لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ومن المؤكد أنه تعلم من صديقه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه وأرضاه قال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، والصديق جاهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأشد ما يكون الجهد والنصح. ولذلك فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم بل يسبقهم إليها، وكيف يتكبر الصديق وهو الذي كان حريصاً طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر والخيلاء من شخصيته وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره؟ روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) هذه الكلمات وقعت في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، فأسرع الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده). أشعر والله! أنه قال هذه الكلمة وهو يرتجف يخشى من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه ووضح له متى يكون الاسترخاء للإزار منهي عنه فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: أن الصديق لا يفعل هذا خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له: إنك لست متعمداً للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى حقيقة تواضع الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وتعالوا نتجول في حياة الصديق كخليفة وكرئيس وكحاكم، ذكرنا بعض المواقف في السابق وذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال. والآن نذكر بعض المواقف الأخرى: موقف عجيب من مواقف الصديق وهو خليفة: كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، مكان قريب من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرماً منه وذلك أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يحلب للضعفاء أغنامهم، فسمع جارية بعد مبايعته بالخلافة وبعد أن أصبح خليفة تقول: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا، سمعها الصديق رضي الله عنه فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، فكان يحلبها وهو خليفة، وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ يعني: أجعل اللبن فيه رغوة وإلا بدون رغوة؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالته فعل. وهذا موقف آخر من مواقف الصديق رضي الله عنه أغرب: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها، يعني: أن سيدنا عمر كان يذهب بنفسه ليدبر أمر هذه العجوز العمياء، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة لكي لا يسبق إليها فكل مرة يلقى نفسه قد سبق إليها، فرصد عمر هذا الرجل الذي يأتي العجوز العمياء فإذا هو أبو بكر الذي كان يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري. وكان أبو بكر من الممكن أن يكلف رجلاً أن يفعل هذه الخدمة، لكنه يشعر بالمسئولية الفردية نحو كل فرد في الأمة، وأيضاً هو يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء. أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال: إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، يعني: أ

ثبات الصديق أمام فتنة الأولاد

ثبات الصديق أمام فتنة الأولاد نوع آخر من الثبات للصديق رضي الله عنه وأرضاه: ثبات الصديق أما فتنة الأولاد: الأولاد فتنة كبيرة، والمرء يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة إذا كان الأمر يخصه هو شخصياً، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده فإنه قد يتردد كثيراً، وغالباً ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد ورقتهم واعتمادهم على الأبوين يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]، روى الترمذي وقال: حسن صحيح: أن رجلاً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم -يعني: أولادهم؛ لأنهم منعوهم أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]، وانظر الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15]. هكذا بهذا التصريح وهذا التقرير الواضح: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، فأين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات ومن هذه الفتنة؟ القضية كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأوراقه كانت مرتبة تماماً، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة عنده على كل شيء، فـ الصديق مع رقة قلبه ومع عاطفته الجياشة ومع تمام رأفته بأولاده كان لا يقدم أحداً منهم مهما تغيرت الظروف على دعوته وعلى جهاده، وما فتن بهم لحظة، بل أعلن الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ودافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغاراً ضعافاً محتاجين في وسط من الكفار المتربصين، فكان يجاهد ويعلم أنه إذا أراد فعلاً الحماية للذرية الضعيفة عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة وكلمة الحق مهما كانت العوائق، قال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]. والصديق لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح؛ لأنه سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر مخلفاً وراءه ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشاً ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث ذلك وضرب أبو جهل عليه لعنة الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما فسال الدم منها، فما رأى الصديق كل ذلك، بل كل ما رآه هو نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إلى الله عز وجل، وليس هذا فقط ولكنه حمل كل أمواله معه، وكل ما تبقى بعد الإنفاق العظيم كان (5000) درهم حملها جميعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا ترك لأهله؟ ترك لهم الله ورسوله. إنه يقين عجيب وثبات يقرب من ثبات الأنبياء، وأبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه كان طاعناً في السن وقت الهجرة، وكان قد ذهب بصره؛ فدخل على أولاد الصديق وهو على وجل من أن الصديق قد أخذ كل ماله وترك أولاده هكذا، هو يعرف أن الصديق سيأخذ المال، لكن الابنة الواعية الواثقة المطمئنة أسماء بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وضعت يد الشيخ الكبير على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، هذا الشيخ الكبير لم يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب يقين الصديق رضي الله عنه. والصديق في موقف الهجرة يوظف أولاده في عملية خطيرة إنها عملية التمويه على الهجرة وهي عملية قد تودي بحياتهم في وقت شط الغضب بقريش حتى أذهب عقلها، فـ عبد الله بن الصديق رضي الله عنهما كان يتحسس الأخبار في مكة نهاراً ثم يذهب ليلاً إلى غار ثور يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأباه بما يحدث في مكة، ويظل حارساً ع

ثبات الصديق أمام فتنة ترك الديار والأوطان

ثبات الصديق أمام فتنة ترك الديار والأوطان وفتنة أخرى من الفتن التي تعرض لها الصديق رضي الله عنه وأرضاه كانت فتنة ترك الديار والأوطان، وترك الوطن فتنة عظيمة، فكم من الذكريات وكم من الأهل وكم من الأصحاب وكم من الأحباب؟ فترك الوطن فعلاً فتنة عظيمة ولاسيما إذا كان الرجل صاحب مكانة وكثير مال كـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ فـ الصديق كان تاجراً وأوضاعه مستقرة وتجارته رابحة، وها هو يترك الاستقرار والراحة وينطلق مهاجراً إلى أرض مجهولة وأقوام غريبين، ثم أي البلاد يترك؟ إنه يترك مكة المكرمة التي زادها الله تكريماً وتعظيماً وتشريفاً، يترك البلد الحرام ويترك البيت الحرام ويترك أشرف بقعة في الأرض، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند خروجه من مكة مهاجراً إلى المدينة يقول: (والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت). نحن نرى كيف أن الواحد يكون صعباً عليه أنه ينتقل من عمله إلى بلد آخر، بل يعده نوعاً من العقاب أن ينقل من المكان الذي يعمل فيه إلى مكان بعيد، كأن ينقل من جنوب البلد الذي هو ساكن فيه إلى شمالها بعيداً عن المكان الذي هو فيه. والصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عظم تجارته واستقراره هاجر مرتين من هذه البقعة المشرفة إلى غيرها من بقاع الأرض، الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وقد تحدثنا عنها في موقف سابق، وذكرنا أن ابن الدغنة سيد قبيلة القارة أجاره وأعاده إلى مكة، وقد كان الصديق في هذه الهجرة متجهاً إلى بلاد بعيدة عبر الصحراء والبحار إلى قوم لا يتكلمون العربية وإلى بلد لم يألف العادات المكية. الهجرة الثانية كانت إلى يثرب والتي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة لأنه نورها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، وقد تحدثت سابقاً عن فقرات من هذه الهجرة المباركة، وفيها برز الدور العظيم للصديق سواء في الإعداد قبل الهجرة أو أثناء الهجرة، وسواء في المساعدة المادية أو المعنوية وسواء في التضحية بالنفس أو بالمال أو بالجهد أو بالوقت، وقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الهجرة ثاني اثنين، وهذا يكفيه أن يكون ثانياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: الديار والأوطان والأملاك والأعمال مهما تعاظمت ما وقفت أبداً أمام إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على ثقلها، إنها فتنة عارضة ثبت فيها الصديق ثباته المعهود.

ثبات الصديق أمام غلبة أهل الباطل

ثبات الصديق أمام غلبة أهل الباطل والصديق أثبت لوناً آخر من الثبات ما عهدناه أمام كثير من الناس، إنه الثبات أمام غلبة أهل الباطل، وكثير من المسلمين ينظرون نظرة إحباط ويأس إلى واقعهم عندما يشاهدون محاور القوة الرئيسية في الأرض في أيدي الكافرين، وعندما يجدون أن الكفار قد ملكوا من المادة والسلاح والعدد والعدة ما يفوق المسلمين أضعافاً مضاعفة، إنها فتنة تحتاج إلى كثير إيمان وكثير فقه وكثير ثبات. وقد كان الصديق رضي الله عنه هو الرجل المؤمن الفقيه الثابت الذي من الله به على أمة المسلمين وحفظها خير الحفظ ونصح لها خير النصح وجاهد لها خير الجهاد، ففتنة غلبة أهل الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنة عظيمة هائلة مروعة لا نستطيع في هذا المضمار الضيق أن نوفيها حقها، لكن في هذه المجموعة فقط أشير إلى ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه هذا الثبات الذي فاق كل تخيل والله! حتى فاق تخيل الصحابة أنفسهم؛ فالفتنة كانت هائلة؛ إذ ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية: مكة والمدينة والطائف وقرية جواثة في منطقة هجر بالبحرين، ولا أقول: كان هناك عشرات الآلاف من المرتدين بل مئات الآلاف، وليس فقط بمنع الزكاة بل منهم من ارتد كلية عن الإسلام، ومنهم من فتن المسلمين في دينهم وعذبهم وقتلهم، ومنهم من ادعى النبوة، وحصلت غلبة عظيمة لأهل الردة وقلة في المؤمنين، في هذا الموقف الحرج رأى جمهور الصحابة أن اعتزال الفتنة بتركها هو الأولى، قالوا للصديق رضي الله عنه: الزم بيتك، وأغلق عليك بابك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين! إنه يأس كامل في الإصلاح وإحباط يملأ القلوب، وهذا موقف من أصعب مواقف التاريخ قاطبة. لكن الصديق رضي الله عنه كان أعلم الصحابة وأفقه الصحابة وأثبت الصحابة، فتحول الشيخ الكبير الرحيم المتواضع ضعيف البنية إلى أسد هصور عظيم الثورة شديد البأس عالي الهمة سريع النهضة، فأصر على قتال المرتدين جميعاً وفي وقت متزامن قال في شأن مانعي الزكاة: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عناقاً -العناق: الأنثى من ولد الماعز، وفي رواية: عقالاً، وهو: الحبل الذي يربط به البعير- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. وقال في شأن بقية المرتدين الذين يبلغون مئات الآلاف: أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي، يعني: حتى تقطع عنقي. فكان هكذا بهذه العزيمة وهذه العقيدة، ولما رأى الصحابة هذا الإصرار من الصديق رضي الله عنه انشرحت صدورهم لهذا الحق الذي أجراه الله على لسان هذا الرجل، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما جاء في صحيح البخاري: فوالله! ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. وهكذا أخرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه الجيوش تلو الجيوش أخرج (11) جيشاً في ملحمات خالدة وتضحيات عظيمة وتعب وجهد ودم وشهادة ثم نصر وتمكين وسيادة، وأشرقت الأرض من جديد بنور ربها، وحكمت الجزيرة العربية مرة ثانية بالقرآن والسنة، وأعز الله الإسلام وأهله وأذل الله الشرك وأهله، كل هذا كان في عام واحد فقط والحمد لله رب العالمين. وأيضاً رأينا ثباته رضي الله عنه وأرضاه أمام غلبة أهل فارس والروم، وفارس والروم في ذلك الزمان هما أعظم قوتين عسكريتين في الأرض يقتسمان العالم ويهيمنان على معظم مساحة المعمورة، وكانت كل منهما دولة متقدمة صاحبة حضارة ومال وعمران وجنات وأنهار وأعداد لا تحصى من الرجال وسلاح لا مثيل له في زمانهم وأعوان في كل بقاع الأرض وتاريخ في الحروب وخططها وتنظيماتها وطرقها، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان على الطرف الآخر يحكم دولة أقصى مساحتها جزيرة العرب، ولم تتعود على الحروب النظامية، وكانت فقيرة الموارد ضعيفة السلاح قليلة العدد، ليس هذا فقط ولكنها لم تنفض يدها بعد من حروب أهلية طاحنة أكلت الأخضر واليابس تلك الحروب هي حروب الردة، فيخرج الصديق من هذه الحروب الهائلة بعزيمة أقوى من الجبال ولم تهزه عروش كسرى وقيصر، واتخذ قراراً عجيباً وهو فتح فارس، وذلك بعد أقل من شهر على انتهاء حروب الردة، ثم أتبعه بقرار آخر أعجب بعد خمسة شهور وهو فتح الشام وقتال الروم في وقت متزامن مع قتال الفرس. وكما ذكرنا من قبل فـ الصديق كان على يقين من النصر، ولم يكن يساوره أدنى شك في أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، وخاض معاركه كلها بهذه الروح، وكتب الله له النصر بعد جهاد طويل ومعارك هائلة وضع فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه خططاً عبقرية وقال فيها آراءً سديدة وفعل فيها أعمالاً مجيدة، ومن المستحيل أن نحصي هذه الأعمال في هذا الإطار الضيق، وسنفرد -إن شاء الله- بعد هذه المجموعة مجموعات أخرى، ولا أقول: مجموعة واحدة، بل مجموعات؛ ففتح فارس قصة عظيمة تمتلئ بالمو

ثبات الصديق رضي الله عنه على الطاعة وعدم فتوره

ثبات الصديق رضي الله عنه على الطاعة وعدم فتوره وفتنة أخرى من الفتن التي ثبت فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي فتنة الفتور عن الطاعة: ثبت الصديق رضي الله عنه وأرضاه على الطاعة أياماً وشهوراً وسنوات حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وقد يظن ظان أن هذا الأمر بسيط وهين إلى جوار غيره من الفتن التي ذكرناها: فتنة المال والرئاسة والأولاد وترك الديار وغلبة أهل الباطل، فقد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة سيثبت حتماً في أمر الطاعة والعبادة؛ فهي أمور في يد كل مسلم يستطيع أن يصلي ويصوم ويزكي، وهذه بديهيات عند كثير من الناس، لكن والله إن هذه لمن أعظم الفتن، فقد يسهل على الإنسان أن يفعل شيئاً عظيماً مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً في حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم بلا كلل ولا ملل ولا كسل فهذا يحتاج إلى قلب عظيم وإيمان كبير وعقل متيقظ ومنتبه، لا يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال. وقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه سيد هذا القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)، يعني: أن بعض الناس يكون مكثراً في الصلاة فيدخل الجنة من باب الصلاة، وبعض الناس يكون مكثراً في الجهاد -والبديهي أنه مقل في بقية الأعمال أن هذا العمل أكثر من غيره في حياته- فيدخل من باب الجهاد وهكذا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: (ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟) يعني: هل ممكن أن ينادى أحد من كل الأبواب؛ لأنه يكثر من كل الأعمال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، وأرجو أن تكون منهم)؛ وذلك أن الصديق كان فعلاً مكثراً وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، وقد مر بنا من قبل كيف أنه أصبح صائماً ومتبعاً للجنازة وعائداً لمريض ومتصدقاً على مسكين، هكذا حياته كلها لا قعود ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرز جداً من فوات فريضة أو نافلة، روى أحمد وأبو داود والحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة -أي: العشاء- قال: فأنت يا عمر؟! قال: آخر الليل، قال صلى الله عليه وسلم: أما أنت يا أبا بكر! فأخذت بالثقة -أي: بالحزم والاحتياط مخافة أن يفوت الوتر- وأما أنت يا عمر! فأخذت بالقوة)، أي: بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع الفجر لصلاة قيام الليل ثم الوتر. والصديق رضي الله عنه وأرضاه لا يتخيل أن يفوته الوتر، وماذا يحدث لو استيقظ عند صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟ يكون في حقه كارثة؛ لذلك يأخذ نفسه بالحزم فيصليه أول الليل ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ قام وصلى من الليل ما شاء أن يصلي ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ ليصلي، إنهما منهجان مختلفان ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ومع حرصه وطاعته ومثابرته وثباته على أمر الدين رضي الله عنه وأرضاه كان شديد التواضع لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، فقد كان يقول: والله! لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد، أي: تقطع. وروى الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر حائطاً وإذا بطائر في ظل شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك! سبحان الله! أبو بكر يقول هذا الكلام؟ وكان يقول إذا مدح: اللهم أنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، فرضي الله عن الصديق وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

ثبات الصديق رضي الله عنه أمام فتنة ضياع النفس

ثبات الصديق رضي الله عنه أمام فتنة ضياع النفس وفتنة أخرى عظيمة هائلة تعرض لها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي فتنة ضياع النفس وفتنة الإيذاء للنفس، والنفس غالية إن ذهبت فلا عود لها إلى يوم القيامة، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان واضح الرؤية وثاقب النظر له قواعد ثابتة تحكم حياته، من هذه القواعد: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]. ومن هذه القواعد: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس:49]. ومن هذه القواعد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. ومن هذه القواعد: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]. إذا نظرت إلى هذه القواعد مجتمعة أدركت جانباً لا بأس به من حياة الصديق، وتعالوا نستمتع بوقفات مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لنرقب كيف خلصت نفسه من حفظ نفسه. وقد تكلمنا قبل على ثبات الصديق في مكة ودفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يفقد روحه، وتعالوا نرى بعض أنواع الثبات في حياة الصديق في المدينة المنورة في قضية النفس، ففي بدر مثلاً: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة قافلة أبي سفيان وعزم زعماء مكة على قتاله استشار الصحابة في هذا الموقف الخطير، والصحابة لم يخرجوا من المدينة ليقابلوا جيشاً، بل مجرد قافلة، فليس معهم إلا السيوف، ولم تكن العدة عدة قتال، كما أن هناك أقواماً بالمدينة كانوا يرغبون في اللقاء ولكن لم يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقاتل. إذاً: من الممكن أن يأتي على ذهن الصحابة أن لو أجلنا القتال لنقوم به في ظروف أفضل وعدد أكبر لكان أفضل؛ ففرصة ضياع الحياة في هذه المعركة كبيرة، والحق أن بعض الصحابة ترددوا، يصورهم ربنا في كتابه الكريم فيقول: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:5 - 6]، فأين كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموقف؟ كان أول الرجال قياماً يشجع النبي صلى الله عليه وسلم على القتال؛ فقد كان دائماً يسبق الناس حتى لو كان السبق لفقد الحياة. قام الصديق فقال وأحسن وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام من بعده الرجال الواحد تلو الآخر، لكن سبق بها الصديق، وقبل القتال أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعملية استطلاعية يستكشف فيها مواقع جيش المشركين وعدتهم، قام بالعملية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر رضي الله عنه الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل المواقف والأحداث، إنها مهمة خطيرة لكن ما أقل الدنيا في عين الصديق، وتبدأ المعركة ويلتحم الجيشان ويشتد القتال ويتصاعد الغبار وتسيل الدماء أنهاراً وتتناثر الأشلاء في كل مكان فأين كان الصديق رضي الله عنه؟ كان في أخطر الأماكن على الإطلاق؛ كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب الرأس ولاشك في ذلك، وقد يقتل حراسه، لكن أهلاً بالموت إن كان في سبيل الله. فما اقترب أحد من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حطمه بالسيف، يلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحيطه من كل جانب؛ يشفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشوكة يشاكها ويستعذب الألم إن كان فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى الله يستغيث به ويلوذ بحماه ويطلب عونه ويلح في الطلب ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً)، وما زال يجتهد في الدعاء حتى سقط رداؤه على الأرض، فأخذه الصديق رضي الله عنه من الأرض ورده على منكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه يتفطر عليه ويتقطع من أجله ويقول: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه منجز لك ما وعدك، يقين عجيب ثم خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة يستقبل الوحي ثم انتبه وقد جاءته البشرى بالنصر، فمن أول من يبشر؟ أنه يبشر أقرب الناس إليه وأعظم الناس رغبة في نصر هذا الدين وأكثر الناس تضحية من أجل هذا الدين وهو أبو بكر، فقال له: (أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله)، انظر إلى التعبير: أتاك أنت يا صديق! قال: (أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع)، أي: الغبار. هذا هو الصدي

ثبات الصديق رضي الله عنه أمام فتنة الموت

ثبات الصديق رضي الله عنه أمام فتنة الموت وفتنة أخرى هائلة مرت بـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه فتنة الموت، والموت فتنة عظيمة والفراق ألمه شديد، وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة؟ إلا أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان كما عودنا رابط الجأش مطمئن القلب ثابت القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته، فقد مر بنا موقفه من وفاة ابنه عبد الله شهيداً وكيف تلقى الأمر بصبر عظيم وبرضاً واسع، وماتت أيضاً زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان رضي الله عنها وأرضاها والدة السيدة عائشة رضي الله عنها ماتت في سنة (6) من الهجرة في المدينة المنورة بعد رحلة طويلة مع الصديق في طريق الإيمان، فقد أسلمت قديماً وعاصرت كل مواقف الشدة والتعب والإنفاق والإجهاد والهجرة والنصرة والجهاد والنزال، فكانت خير معين لزوجها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ثم ماتت وفارقت الصديق، وفراق الأحبة أليم، لكن صبر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صبراً جميلاً وحمد الله واسترجع، ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربوه، مات حمزة، ومات مصعب، ومات أسعد بن زرارة، ومات سعد بن معاذ، ومات جعفر، ومات زيد بن حارثة وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فانتظر الصديق رضي الله عنه وأرضاه صابراً غير مبدل، قال عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. وجاءت فتنة كبيرة فتنة موته هو شخصياً رضي الله عنه وأرضاه، ونام على فراش لابد من النوم عليه، نام على فراش الموت، فماذا فعل وهو في لحظاته الأخيرة؟ ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟ ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟ هل جزع أو اهتز؟ حاشا لله! إنه الصديق رضي الله عنه، فها هو الصديق رضي الله عنه على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في ثبات وثقة واطمئنان ويقول له: اتق الله يا عمر! واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، يعني: يحذره من التسويف وتأجيل الأعمال الصالحة، ويحفزه على السبق الذي كان سمتاً دائماً للصديق في حياته، يقول الصديق: وأن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف ألا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون مع هؤلاء؛ ليكون العبد راغباً راهباً لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أبغض إليك منه، ولن تعجزه. فانظر إلى صدق الوصية وحرص الصديق أن يصل بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب الخليفة الذي سيتبعه في قيادة هذه الأمة. ثم انظر إلى هذا الموقف العجيب وهو أيضاً على فراش الموت: استقبل المثنى بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق، وكان قد جاءه يطلب المدد لحرب الفرس، فإذا بـ الصديق الثابت رضي الله عنه لا تلهيه مصيبة الموت ولا يصده آلام المرض وإذا بعقله ما زال واعياً متنبهاً وإذا بقلبه ما زال مؤمناً نقياً وإذا بعزيمته وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون فأسرع يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد يأمره وينصحه ويعلمه، قال: اسمع يا عمر! ما أقول لك ثم اعمل به: إني لأرجو أن أموت من يومي هذا أتوقع أني أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت ولم يصب الخلق بمثله، يعني: أنت رأيت وقت المصيبة الكبيرة مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان الثبات سبباً في نجاة الأمة، ومصيبة موته مهما كانت أقل بكثير من مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأوصاه ألا ينشغل بالمصيبة عن أمر الله وعن أمر الدين، ثم قال: وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

سلسلة الصديق_وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تصب الأمة بمصيبة أعظم وأشد من موت نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وكان وقع ذلك أشد على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أعظم الناس حباً له، إلا أن ذلك لم يثنه عن الثبات، وقيادة الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

عظم قدر الرسول صلى الله عليه وسلم

عظم قدر الرسول صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ثم أما بعد: فمع الحلقة السادسة من حلقات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كنا في الحلقة السابقة قد استعرضنا جوانب من صفة عظيمة من الله بها على الصديق رضي الله عنه وهي صفة الثبات، قال عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. لا شك أن الصديق رضي الله عنه من هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن هؤلاء الذين عاشوا طويلاً ومروا بأحداث متقلبة ومواقف حرجة، وأزمات طاغية لكنه ما بدل ولا غير رضي الله عنه، بل ظل ثابتاً في كل فترات حياته رضي الله عنه وأرضاه. وتعرضنا في الدرس السابق لثباته رضي الله عنه أمام فتنة المال وفتنة الرئاسة وفتنة الأولاد وفتنة الهجرة وفتنة غلبة أهل الباطل، وفتنة الفتور عن الطاعة والعبادة، وفتنة الإيذاء وضياع النفس، بل وفتنة الموت، تعرضنا لكل ذلك ورأينا نموذجاً رائعاً لثبات البشر. ورغم كل هذه المواقف العظيمة فإنه يبقى موقف للصديق يمثل أروع درجات الثبات وأرقى درجات الإيمان، وأعمق درجات الفهم. وكل الذي قلناه في الدرس الماضي وثبات الصديق في الموقف الذي سنقوله في هذا الدرس يختلف تماماً، وذلك هو موقفه عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كارثة الكوارث ومصيبة المصائب. والحقيقة أني لا أعتقد أن رجلاً في التاريخ منذ أن نزل آدم عليه السلام إلى هذه الأرض وإلى يوم القيامة نال أو سينال حباً وتقديراً وإجلالاً مثلما نال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن تفكر في هذه الكلمة البسيطة التي ألفنا سماعها واعتدنا ذكرها فلم نقدر لها قدرها الحقيقي وقيمتها الأصيلة، إنها كلمة رسول، رسول من؟ رسول الله. نحن دائماً نفكر في الشق الأول من الكلمة، رسول نعظمه؛ لأنه رسول، لكن أحياناً ننسى الشق الثاني، رسول الله عز وجل، الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، الله الذي خلق الشمس والقمر والنجوم والكواكب، الله الذي خلق الجبال والبحار والأنهار، الله الذي خلق الإنس والجان والملائكة، الله العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تناهت حكمته، الحي القيوم الذي لا ينام، الله عز وجل الرحيم بخلقه، الكريم الحنان المنان، الله عز وجل في علوه وكبريائه وعظمته أرسل إلى خلقه رسولاً يبلغهم رسالته. أرسل إلى الخلق الضعيف البسيط القليل رسولاً منهم، فأي تشريف؟ وأي تعظيم؟ وأي تكريم؟ وإذا كان البشر قد كرموا بإرسال الرسول إليهم فكيف بالذي اصطفاه الله من بلايين الخلق كي يرسله إلى الناس برسالته؟ وليست أي رسالة، ولكن الرسالة الأخيرة الخاتمة. ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صنعه الله على عينه، وخلقه ورباه وعلمه وأدبه وحسن خلقه، وقوى حجته، وزكى سريرته، وطهر قلبه، وجمل صورته، وحببه إلى خلقه، وحبب الخلق جميعاً فيه، فلا يراه أحد إلا وأحبه، ولا يسمع به أحد إلا وأحبه، ولا يقرأ عنه أحد إلا وأحبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشر وأفضل الدعاة وسيد المرسلين وخاتم النبيين. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوفى حقه في مجلدات ومجلدات ولا في أعوام وأعوام، فقد وضع الله فيه خلاصة الفضائل البشرية. وكلما تعرضت لجانب من جوانب حياته صلى الله عليه وسلم حار عقلك كيف كان على هذه الصورة البهية النقية، ولا تملك إلا أن تقول: سبحان الذي صوره فأحسن تصويره، وأدبه فأحسن تأديبه، وعلمه فأحسن تعليمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على علو قدره وسمو منزلته يعيش وسط الصحابة، يخالطهم، وكان يصلي بهم ويعلمهم، وكان يتحمل الأذى معهم، يجوع مع جوعهم أو أكثر، ويتعب مع تعبهم أو أشد، ويهاجر كما يهاجرون، ويقاتل كما يقاتلون، ويحفر الخندق كما يحفرون. وكان صلى الله عليه وسلم يأكل مما يأكل منه الناس، ويشرب مما يشرب منه الناس، ويجلس على ما يجلس عليه الناس، لم تزده كفة الأذى إلا صبراً، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلماً، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله، وكان أكثر الناس كرماً، وأقواهم بأساً، وأشدهم حياءً، وكان يمنع الناس من القيام له، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، وتسير به الأمة في شوارع المدينة أينما شاءت. وكان يخصف نعله، ويخيط

عظم مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم

عظم مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم عاش الصحابة في سعادة لمصاحبته ورؤيته والسماع منه والانصياع له صلى الله عليه وسلم، عاشوا على ذلك فترة من الزمان، حتى أذن الله عز وجل برحيل الحبيب صلى الله عليه وسلم عن دار الدنيا إلى دار الخلد في جنات النعيم، إلى الرفيق الأعلى، إلى راحة لا تعب فيها ولا نصب ولا وصب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، والبشر يموتون، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]. ومع يقين الصحابة بذلك وثقتهم من بشريته صلى الله عليه وسلم إلا أنهم ما تخيلوا أن ذلك الموت سيحدث حقيقة، إنها فتنة عظيمة، ومصيبة كبيرة وبلاء مبين، فلم يصدق الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حقاً فكيف الحياة بدونه؟ ووراء من يصلون؟ وإلى نصح من ينصتون؟ من يعلمهم؟ ومن يربيهم؟ ومن يبتسم في وجوههم؟ ومن يرفق بهم؟ ومن يأخذ بأيديهم؟ إنها كارثة وأي كارثة؟ وأظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم كل شيء فيها، ليس الصحابة فقط بل نخيل المدينة وديار المدينة وطرق المدينة ودواب المدينة، فإذا كان جذع النخلة قد حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه ليخطب من فوق المنبر بدلاً منه حتى سمع الصحابة لجذع النخلة أنيناً، وحتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده على الجذع حتى سكن، إذا كان الجذع فعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم فارقه إلى منبر يبعد عنه خطوات معدودات فكيف بفراق لا رجعة فيه إلى يوم القيامة؟ فالصحابة ماذا يفعلون؟ أتطيب نفوسهم أن يهيلوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد تقطعت قلوب الصحابة، وتمزقت نفوسهم، وتحطمت مشاعرهم. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذه المصيبة أذهلت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، فاحتاروا جميعاً، حتى وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما أدراك ما عمر بن الخطاب في عقله ورزانته وحكمته وإلهامه وقف وقد أخرجته الكارثة عن وعيه يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. إذا كان عمر كذلك فكيف بغيره من الصحابة؟ قال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المصيبة: لقد عظمت مصيبتنا وجلت عشية قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتنزيل فينا يروج به ويغدو جبرئيل وذاك أحق ماسالت عليه نفوس الناس أو كادت تسيل نبي كان يجلو الشك عنا بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا تخشى ضلالاً علينا والرسول لنا دليل ثم يخاطب السيدة فاطمة رضي الله عنها فيقول: أفاطم إن جزعت فذاك عذر وإن لم تجزعي ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر وفيه سيد الناس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينما هم كذلك إذ جاء الجبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجازاه خيراً كثيراً عما قدمه لأمة المسلمين، جاء الصديق من السنح -منطقة خارج المدينة- بعد أن وصله النبأ هناك، وإن تخيل أحدنا أن صحابياً سوف يموت حزناً وهماً وكمداً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أننا جميعاً سنقول: إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أشد الخلق حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصديق سيفعل من علامات الغضب والثورة والانهيار والتصدع ما لم يفعل أحد غيره. لا شك أنه قد يخطر ببال أحد أنه سيفعل أكثر مما فعل عمر بن الخطاب مثلاً، لكن إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، انحدرت ساخنة حارة على وجنتي الصديق رضي الله عنه وأرضاه لفراق حبيب عمره ودرة قلبه وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه يتفطر: (بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)، ثم خرج في ثبات عجيب يليق بخير الأمة بعد نبيها ويليق بأول من سيدخل الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، وكيف يجزع ويخرج عن المنهج وهو الصديق؟ خرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس والناس مكتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول. قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر! لكن عمر قد أذهلته المصيبة فلم يسمع الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس كانوا قد وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أبا بكر، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول. قال الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، وهذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، قال: ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، والصديق رجل عجيب، يعيش مع القرآن في كل حركة وفي كل سكنة، فما أروع الاختيار! وما أبلغ الأثر الذي أحدثته الآية الربانية في قلوب الصحابة! يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله! لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. أفاق الناس وبدءوا في البكاء الشديد، وكانت الآية سلوى للمؤمنين وتعزية للصابرين، وجزاءً للشاكرين. ووصلت الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر بن الخطاب: والله! ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعثرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. وثبت الله الأمة جميعاً بثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذه واحدة من أعظم حسناته رضي الله عنه وأرضاه، وما أكثر حسناته رضي الله عنه وأرضاه!

فتنة انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فتنة انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كون فتنة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراقه إلى يوم القيامة فتنة عظيمة ومصيبة هائلة مع كون هذه الفتنة عظيمة إلا أنها لم تكن الفتنة الوحيدة التي مرت بالمسلمين في هذه الأيام الحزينة، فإلى جوار فتنة الموت والفراق كانت هناك فتن أخرى عظيمة. كانت هناك فتنة انقطاع الوحي، فقد كانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تعلل ذلك بأنها تبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، وانقطاع الوحي من السماء لا شك أنه فتنة عظيمة، وجبريل عليه السلام لن ينزل على بشر إلى يوم القيامة. فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ولا شك أن البشر سيخطئون كثيراً ويحتاجون إلى تقويم وإصلاح، فمن سيقوم بذلك؟ عليهم أن يقوموا بذلك بأنفسهم؛ فالمنهج الإسلامي المتكامل أعطى لهم هذه الصلاحيات لإكمال مسيرة الحياة إلى يوم القيامة بدون رسل ولا أنبياء ولا وحي، لكن لا شك أن الفترة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمثل عبئاً ثقيلاً على نفوس الصحابة، وقلقاً بالغاً من أن يفشلوا في حل أمورهم دون وحي، ولا شك أنهم سيختلفون، وسيختلفون كثيراً، فمن يكون على صواب؟ ومن يكون على خطأ؟ عليهم أن يحكموا بالمنهج المتروك في أيديهم القرآن والسنة. ولكن ستظل طوائف من المؤمنين تخطئ وهي تظن أنها على صواب، فالوحي كان يفصل في هذه الأمور فصلاً لا يدع مكاناً للريبة، والآن انقطع الوحي. والرجل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير على الأرض، وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويوقن بذلك إذا بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقينه بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وتخيل معي كيف يطيق رجل صبراً أن يسير على الأرض وهو يعلم أنه من أهل الجنة. هذا الذي جعل عمير بن الحمام في غزوة بدر يلقي بالتمرات لما بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ويقول: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. وبلال بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإذا به على فراش موته سعيداً؛ لأنه سيموت وغداً يلقي الأحبة محمداً وصحبه. وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة، وهكذا عبد الله بن مسعود وهكذا خديجة وعائشة وسائر أمهات المؤمنين، وهكذا غيرهم ممن بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الآن بعد أن انقطع الوحي فلا أحد يدري أهو من أهل الجنة أم من أهل النار؟ وعجبت لمن يضحك كيف يضحك وهو على يقين من ورود النار، قال عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ثم هو لا يعلم أيجوز الصراط إلى الجنة أم يسقط في النار. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عن كثير من أمور الغيب بالوحي، فبشرهم بنصر بدر، وبشرهم بالفتح، وبشرهم بفتح الشام وفارس واليمن، وكان يخبرهم عما كان وعما هو كائن وعما سيكون إلى يوم القيامة، أما الآن بعد انقطاع الوحي فأغلب باب المستقبل لا نعرف منه إلا ما أنبأنا به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، لكن كم من الأمور سيحدث كنا نتمنى أن نعرف عاقبتها، أترانا سنفوز أم سنخسر، وأحداث العالم كيف ستئول في النهاية. وهكذا الفرس انتصرت على الروم، والرسول صلى الله عليه وسلم يبشر بأن الروم ستنتصر، كما قال عز وجل: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4]. وأما الآن فلا نعرف شيئاً على وجه اليقين، نعم ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهاجاً واضحاً من قرآن وسنة نستقرئ به سنن الله في الأرض، ونستنبط به النتائج قبل أن تحدث، لكن ستظل كثير من الأمور معروفة على وجه الظن لا على وجه اليقين، ويقين الوحي لا عودة له حتى تنتهي حياة الأرض وتقوم القيامة. ولا شك أن هذه الفتنة أذهلت الصحابة، وسيبدأ طريق مليئ بالأشواك، وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في السير بعد فقد القائد العظيم، والدليل الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً كانت هناك فتنة فراق أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وكانت هناك أيضاً فتنة انقطاع الوحي.

فتنة اختيار خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

فتنة اختيار خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك فتنة ثالثة خطيرة: من من الرجال يجلس في كرسي الحكم مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نبياً فقط، ولكن كان أيضاً حاكماً للمسلمين، فإن كانت النبوة قد ختمت به صلى الله عليه وسلم فالحكم لابد أن يستمر، فمن من الصحابة الكرام يكمل المسيرة ويحمل الراية؟ إنه أمر خطير وخطورته ليست في احتمال التكالب على السلطة والتنازع فيها كما يحدث في بلدان العالم المختلفة إذا مات قائد أو زعيم، كلا، ولكن الخطورة لاعتبارات خاصة جداً بهذه الفترة: أولاً: لا يجوز في الصحابة ولا في أهل الأرض جميعاً من يساوم أو يقترب في الفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي سيوضع في مكانه كحاكم لابد وأنه سيقارن به صلى الله عليه وسلم، وإذا حدثت المقارنة فإنها لا شك ستكون مقارنة ظالمة، فهذا رسول يوحى إليه من ربه وأدبه ربه، وهذا رجل يجتهد، قد يصيب وقد يخطئ. ثانياً: من من الصحابة ستطيب نفسه أن يجلس في هذا المكان؟ الصحابة على خلاف أهل الأرض في زماننا أو في أي زمان، كانوا لا ينظرون إلى الإمارة على أنها تشريف وتعظيم أبداً، وإنما كانوا يعتبرونها تكليفاً وتبعة، وفضلاً عن أنهم لا تطيب نفوسهم بالحكم بدلاً من نبيهم فهم تعلموا منه صلى الله عليه وسلم أن يزهدوا في الإمارة ولا يطلبونها. روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! ألا تستعملنى؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها). فمن من الصحابة يضمن أن يأخذها بحقها؟ ومن منهم يعرض نفسه لحمل الأمانة؟ ومن يضع نفسه يوم القيامة موضع سؤال عن تبعات عظيمة من أجل الإمامة؟ ثالثاً: إذا كان ولابد أن يُختار رجل من الصحابة لهذا الأمر الجليل فمن يكون هذا الرجل؟ الصحابة جميعاً أعلام يقتدى بهم، وطاقاتهم عظيمة، وإمكانياتهم واسعة، والمؤهل ليكون حاكماً على الناس أو أميراً عليهم كثير، معظم الصحابة. إذا نظرت إلى المهاجرين مثلاً فهناك الصديق أبو بكر رضي الله عنه وهناك الفاروق عمر، وهناك أمين الأمة أبو عبيدة، وهناك ذو النورين وزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه، وهناك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته علي، وهناك العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك سعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك طلحة بن عبيد الله طلحة الخير، وهناك غيرهم كثير، كـ عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وهناك شيوخ مكة الذين أسلموا في الفتح ولهم من الهيبة في قلوب العرب، كـ أبي سفيان وسهيل بن عمرو وغيرهم. وإذا نظرت إلى الأنصار وجدت أيضاً فريقاً كبيراً من العظماء، وإن كانت الأسماء المطروحة للزعامة أقل من المهاجرين؛ لكون الأنصار من قبيلتين فقط: الأوس والخزرج، وكان زعيم الخزرج سعد بن عبادة من أقوى الأسماء المرشحة للخلافة. أما من الأوس فهناك على سبيل المثال أسيد بن حضير سيد الأوس، وهناك عباد بن بشر من أكبر الأنصار، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر. وسعد بن معاذ استشهد قبل ذلك بكثير، استشهد بعد أن أقر الله عينه من بني قريظة في سنة (5) من الهجرة، وكل واحد من هذه الأسماء -سواء من المهاجرين أو من الأنصار- لا تنقصه الكفاءة ولا القدرة على القيادة، كذلك لا ينقص أحدهم التقوى، فمن يحمل الراية؟

فتنة الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

فتنة الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ومع كل هذه الفتن لم تكن هذه هي الفتن الوحيدة الموجودة في هذه الفترة، بل كان هناك فتن أخرى عظيمة وخطيرة، فالأعداد المهولة التي دخلت في الإسلام حديثاً لم تتلق تربية كافية في محضن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيراً منهم دخل الإسلام طمعاً في المال والثراء، كطائفة المؤلفة قلوبهم، فقد ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالمال والغنائم حتى يدخلوا في الإسلام. وتعالوا نراجع بعض الأرقام: كان فتح مكة سنة (8) من الهجرة، فتح مكة (10. 000) مؤمن بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعدها بقليل كانت حنين والطائف، وكانت الغنائم وفيرة جداً، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوس القوم، وأعطى عوام الناس، وأعطى وأعطى حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، ذكر ذلك ربنا عز وجل في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]. وبعد فتح مكة بحوالي سنة واحدة فقط كانت غزوة تبوك سنة (9) من الهجرة، وكان جيش المسلمين (30. 000) مسلم غير المنافقين الذين تخلفوا عن الغزو، فتضاعف الرقم من سنة (8) هـ إلى (9) هـ ثلاث مرات، وهو تضاعف كبير في هذه الفترة الوجيزة. وأعجب من ذلك في حجة الوداع سنة (10) من الهجرة بعد غزوة تبوك بسنة واحدة حدث تضاعف مهول في عدد المسلمين، حيث حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من (100. 000) مسلم، هذا غير عشرات الآلاف من الذين دخلوا الإسلام في قبائلهم البعيدة عن المدينة ولم يسعدوا برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين الذين ارتبطوا بالإسلام فقط منذ شهور ولم يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الكلمات القليلات، وبعضهم لم يره أصلاً، وبعضهم دخل لأجل المال، وبعضهم دخل لأجل الخوف من القوة الإسلامية الناشئة، وكلهم حديث عهد بجاهلية وإشراك. هذه العوامل جميعاً وغيرها جعلتهم على خطر عظيم وبالذات إذا وصل إليهم نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. ترى ماذا سيكون رد فعلهم؟ أتراهم يتشككون في أمر الرسالة؟ أتراهم يعتقدون أن الخروج عن جماعة المسلمين أصبح أمراً ميسوراً؟ أتراهم يرتدون على أعقابهم ويعودون إلى جاهليتهم وشركهم؟ كل هذه الاحتمالات واردة، ولا شك أن الصحابة في المدينة كانوا يفكرون في هؤلاء القوم، ويتسمعون أخبارهم، ويخافون من ردتهم عن الإسلام، هذه المشاعر المتزاحمة من قلق وخوف وتربص وحيرة زادت الأزمة في المدينة تفجراً واضطراباً، ولا شك أن هذا زاد من ظلمة المدينة بعد غياب النور المبين محمد صلى الله عليه وسلم. إنها فتنة مظلمة أخرى تحيط بالصحابة، فتنة الردة الفعلية لبني حنيفة ولأهل اليمن، وقد جاءت الأنباء قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور من يدعي النبوة في هذه البلاد، فقد ظهر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة شرق الجزيرة، وظهر في اليمن الأسود العنسي، وتبع هذا وذاك آلاف مؤلفة قبلية وعصبية وجهل وشك وكبر وسفه، تبع مسيلمة وحده ما يزيد على، (40000) مرتد، هؤلاء كانوا مع مسيلمة الكذاب قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مرتدون بالفعل، ومن المؤكد أنهم يتربصون بالمدينة الدوائر، ومن أدرى الصحابة أنهم لا يعدون العدة لغزو المدينة ولاستئصال الإسلام من جذورة، فهذا خطر داهم، لا شك أن الصحابة كانوا يترقبونه.

الفتن التي كانت تحيط بالمدينة النبوية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

الفتن التي كانت تحيط بالمدينة النبوية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أضف إلى هذا كثرة المنافقين بالمدينة المنورة، فإنه منذ أقل من عامين كانت هناك أعداد ضخمة من المنافقين يسكنون المدينة أيام تبوك، ولا شك أنهم يتزايدون مع زيادة قوة الإسلام، ولا شك أنهم ينتظرون الفرصة للانقلاب على الإسلام والمسلمين، وقد أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولكنهم فشلوا، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وهذه مصيبة عظيمة، ولا شك أن سعادتهم بهذه المصيبة كبيرة، قال عز وجل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50]. فيا ترى ماذا سيفعل المنافقون؟ سؤال يتردد في أذهان الصحابة ولا شك. ثم هل هذا هو كل الشر الذي يتربص بالمدينة؟ أبداً، فكم من الأعداء يتربص؟ وكم من الكارهين يترقب؟ فالفرس دولة عظمى مجاورة، وقد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ملكها كسرى مراسلات يعرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، لكن أبى كسرى فارس، بل ومزق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضم إلى دولة المسلمين قبل أن يموت منطقة اليمن وكانت تتبع دولة فارس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ذلك أدخل في الإسلام حكام اليمن الفارسيين وانتزع من كسرى فارس هذه المنطقة وأهلها، فيا ترى ماذا سيفعل كسرى فارس بعد هذه المصيبة التي حلت على المسلمين؟ أتراه يعيد الكرة في احتلال اليمن؟ أم يفكر فيما هو أبعد من ذلك ويغزو المدينة ومكة؟ أسئلة بلا إجابة. وهكذا الروم الدولة العظمى الأخرى على الساحة العالمية في ذلك الزمن كانت تحتل كامل الشام وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى شرق أوروبا بكاملة إنها دولة ضخمة مهولة على رأسها قيصر الروم هرقل، ودولة الروم العظمى لها تاريخ مع دولة الإسلام الناشئة في المدينة. وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، وهرقل مال قلبه إلى الإسلام لكن منعه قومه ودفعوه إلى الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فقط، بل دفعوه أيضاً إلى تحريض قبائل غسان العربية في الشام على المسلمين ومن ثم قتل بعض رسل المسلمين المبعوث إلى تلك المناطق، وغرق بذلك هرقل في مستنقع الكفر، وهكذا بطانة السوء ومن رضي ببطانة السوء. ونتيجة هذا الإعراض عن الرسالة وهذا التحرش بالمسلمين نتجت موقعتان بين المسلمين والروم، نتجت معركة مؤتة في سنة (8) من الهجرة، وهذه كانت معركة عجيبة ثبت فيها المسلمون بثلاثة آلاف مقاتل أمام (200. 000) من الروم المقاتلين، وقتل من المسلمين زعماؤهم الثلاثة. ثم استطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بتكتيك رائع أن ينسحب بجيشه دون هزيمة من الروم، بل إن التحليل الصادق للمعركة يثبت فرار الروم وخشيتهم من الجيش الإسلامي، وما حدث من فرار لبعض المسلمين حتى وصلوا إلى المدينة لم يكن إلا من طائفة محدودة. لكن بصرف النظر عن أي شيء فقد تراءى للروم ثبات المسلمين وخطورتهم، وعلموا أن بأسهم شديد وقتالهم شرس. ومرت سنة واحدة على مؤتة وجاء ما هو أعظم، فحشد المسلمون ثلاثين ألفاً من المقاتلين الأشداء في غزوة تبوك العظيمة سنة (9) من الهجرة، ومع قلة إمكانيات المسلمين المادية من سلاح ومؤنة إلا أن معنويات الجيش كانت مرتفعة جداً، وتحركت الجموع الإسلامية إلى مسافات بعيدة جداً عن المدينة دونما وجل ولا خوف، وفر الجيش الروماني وأعوانه من نصارى الشام العرب أمام الجيش الإسلامي. ولا شك أيضاً أن الرومان قد سمعوا بأنباء بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما والذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل حتى يغزو الشام ويقاتل الروم والقبائل المناصرة لها، ولا شك أنهم يعلمون أن الجيش الإسلامي ما زال رابضاً في المدينة بعد خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا سيكون رد فعل الرومان والقبائل المتحالفة معهم أمام هذا الحدث؟ أتراهم يستغلون الفرصة ويهاجمون المدينة حيث إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؟ هل يستغلون انشغال المسلمين بالمصيبة الكبيرة ويحالفون عدداً أكبر من القبائل ويحاصرون الجيش الإسلامي في المدينة قبل خروجه؟ أم تراهم سينقلبون على القبائل المسلمة في شمال الجزيرة العربية؟ لا شك أن الروم سيتربصون بالمسلمين، وجذور العلاقة توحي بأن ذلك سيكون قريباً، فكيف يتعامل المسلمون مع هذا التوقع؟ سؤال يحتاج إلى إجابة. واليهود ماذا سيكون رد فعلهم بعد أن يعلموا بخبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن جذور العداء تاريخية مع اليهود، ومن أول يوم سمعوا فيه بأمر الرسالة وهم يكيدون لها، وحاولوا من قبل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم تغلي بالحقد على المسلمين، وكراهيتهم للإسلام والمسلمين ثابتة في كتاب الله، وستظل الكراهية موجودة بين الفريقين إلى يوم القيامة،

أهمية سرعة اختيار خليفة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم

أهمية سرعة اختيار خليفة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف المعقد والمتشابك والمدينة المنورة كالسفينة الصغيرة في بحر لجي هائج تتلاطمها الأمواج العاتية وقد مات قبطانها، في هذا الموقف الرهيب الفريد أين النجاة؟ أين النجاة؟ بتحليل الموقف نجد أنه لا نجاة إلا باختيار سريع وسريع جداً لخليفة يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية، وفقدان الخلافة أو ضياع الخلافة كارثة مهولة، فالخلافة والخليفة كالخيط ينتظم حبات العقد في عقد واحد جميل، وبغير هذا الخيط ستضيع الحبات لا محالة، ولا يشفع للحبات هنا كونها جميلة أو براقة، كذلك أمة الإسلام إذا غاب منصب الخلافة فلن يجتمع المسلمون وإن كانوا صالحين، بل سيكونون فرقة هنا وفرقة هناك، وقبيلة هنا وقبيلة هناك، ودولة هنا ودولة هناك، وستظل الفرقة في غياب الخلافة، وهذه هي مصيبتنا العظمى في زماننا الآن، فقد غابت الخلافة وآخرها كانت الخلافة العثمانية، فتفرق المسلمون، حتى وإن كانت الخلافة ضعيفة فهي واجبة؛ فالاجتماع على ضعف خير من التفرق على قوة، وهذا أمر عام في كل حياة المسلمين، فإنهم إذا اجتمعوا على رجل كانت البركة والقوة، وإذا تفرقوا كان الفشل والضعف. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلفت النظر إلى ذلك حتى في أدق الأمور، روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم). والصحابة الكرام أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء وخير القرون في هذه الأمة يفقهون هذه الحقائق بوضوح، ويعلمون مدى الخطورة المنتظرة لأي تأخير في اختيار هذا الخليفة مهما كان اسمه. لذلك قام الصحابة الكرام بمشروع أحسبه من أرقى وأجل المشاريع الحضارية في التاريخ، إنه مشروع اختيار الخليفة والقائد والربان للسفينة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل الأحزان والهموم والآلام، إذ لابد أن تسير الحياة ولا تتوقف لموت بشر أو زعيم وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه فقه واسع وعلم غزير، فماذا حدث في هذا اليوم (12) من ربيع الأول من (11هـ)؟

ذكر بعض فضائل الأنصار

ذكر بعض فضائل الأنصار اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وسقيفة بني ساعدة هي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم الهامة، فرأى الأنصار أن الخليفة لابد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ. هذا الموقف لابد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام. يبرز من هذه الأسئلة في هذا الموقف سؤالان هامان ركز عليهما المستشرقون وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب أو الشرق أو من أبناء المسلمين، هذان السؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة بأسئلة أخرى للطعن في المهاجرين وبقية الصحابة. السؤال الأول: كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟ يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألم بهم، وهذا السؤال أيضاً قد يتردد في أذهان بعض المؤمنين. السؤال الثاني: لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟ والحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين جداً أود أن أقدم بتعريف للأنصار، فمن هم الأنصار؟ يبدو أن كثيراً من المسلمين لا يدركون قيمة الأنصار، والأنصار طائفة من المؤمنين اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة أنتجت في النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، وفعلاً الأنصار ظاهرة فريدة؛ اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصاراً، ومروا بهذه الصفات بكل مواقفهم، إلى أن انتهى الأنصار من المدينة، فالأنصار نسمة رقيقة حانية أقبلت على دولة الإسلام فأصابت من بركتها وخيرها على الأمة، ثم مضت النسمة ولم تأخذ شيئاً لنفسها، سبحان الله! الأنصار قدموا وقدموا وقدموا ولم يأخذوا شيئاً، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمراً آخر فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط ولا ضجر وكأن الله عز وجل أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئاً في دنياهم، إنهم الأنصار وما أدراك ما الأنصار؟ روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)، هذا حديث يلخص كل المسألة. فلابد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، فالقضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار). وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: اللهم أنتم من أحب الناس إلي) قالها ثلاثاً. وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: (موعدكم الحوض)، وغير ذلك كثير من الأحاديث، وسيأتي -إن شاء الله- في أثناء المحاضرات أحاديث أخرى في حقهم. هذا الحب العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعاً يجلون الأنصار ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني، وجرير بن عبد الله من أشراف قبيلة بجيلة ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة قبل وبعد الإسلام، وفوق هذا فهو أسن وأكبر كثيراً من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، ويستغرب، فقال أنس: لا تفعل، أي: كيف تخدمني؟ فقال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آليت أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته. وأنس من الأنصار، فإذاً: يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هكذا هو وضع الأنصار وهذه هي قيمة الأنصار وسط الصحابة. هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة من الأنصار وأعمال متواصلة وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى تاريخ الأنصار وإلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، فكل أنصار

الرد على من طعن على الأنصار في سرعة اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة منهم

الرد على من طعن على الأنصار في سرعة اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة منهم ونعود إلى السؤالين اللذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم. السؤال الأول: كيف أسرعوا إلى ذلك ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزناً كافياً، ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح. وللرد على هذه الشبهة نقول: أولاً: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها ويتجاهلونها عن قصد وعمد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم نزههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم بقرآن باقٍ إلى يوم القيامة، فإذا تغير منهم رجل أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعاً أو أن يجتمعوا على حب الدنيا. ثانياً: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل، {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5]، الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى. روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى). فصبر الأنصار رضي الله عنهم كان صبراً جميلاً صبراً عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم. ثالثاً: هل يمنع هذا من كون قلوبهم تتفطر حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل؟ لا تعارض أبداً، فالمسلم الإيجابي مهما حزن فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب، فالحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن غير مرغوب فيه. وتعالوا نفكر قليلاً مع الأنصار، ترى لو انتظر الأنصار يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين حتى تهدأ عواطف الحزن وتعود الحياة إلى طبيعتها ماذا ستكون النتيجة؟ ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟ من سيتخذ قرار الحرب من عدمه؟ من سيجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟ ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟ وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة وإسلامهم حديث، وردتهم متوقعة. وماذا يحدث لو هجم مسيلمة الكذاب بجحافلة المرتدة على المدينة؟ من سيتخذ قرار الحرب ضدهم؟ وماذا لو نقض اليهود عهدهم! أيحاربون أم يوادعون؟ أتكون لهم شروط جديدة؟ أيكون لهم عهد جديد؟ ثم ماذا سيحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلاً منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟ ماذا سيكون رد فعل الصحابة؟ أينكرون بيعته ويحاربونه وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى، أم يتركون منافقاً يترأسهم؟ وماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة التي تكون دولة الإسلام الآن زعيماً لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزاباً وشيعا؟ من يجمع؟ ومن يوحد؟ بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي نجد أن إسراع الإنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فضيلة تحسب للأنصار وليس نقصاً أو عيباً، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال. لكن السؤال الأصعب والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلاً عن غير المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم وليس من المهاجرين؟ تعالوا نفكر مع الأنصار. أولاً: حتى نفهم موقف الأنصار تعالوا نسمي الأشياء بالمصطلحات الحديثة من أجل أن ندرك أبعاد الموقف بكاملة، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم أهل البلد الأصليون، فقد كانت المدينة كأنها دولة مستقلة يعيش فيها الأوس والخزرج، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة وهي أيضاً دولة مستقلة أخرى بجوار المدينة المنورة، وضيق على المهاجرين فاضطروا إلى ترك مكة واللجوء إلى المدينة المنورة، أي: أن التعريف الحديث للمهاجرين هو أنهم مجموعة من اللاجئين السياسيين في دولة المدينة المنورة، والمدينة كدولة كريمة سخية عادلة استقبلت اللاجئين أو المهاجرين خير استقبال وأكرمتهم وأعطت لهم ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض عليهم أبداً قيوداً تعوق من حياتهم، بل على العكس، كثيراً ما آثرتهم على أهل البلاد الأصليين. ثم مرت أيام أخرى ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، فهل من المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين أم من اللاجئين إليها؟ وهل من المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قدموا كل شيء لأجل من قدم إليهم، أم يقدم الذي جاء طريداً من بلده فاستقبل في بلد آخر؟ لو هاجر مجموعة من الفلسطنيين مثلاً إلى أمر

يوم السقيفة

سلسلة الصديق_يوم السقيفة يوم السقيفة من الأيام المشهورة في التاريخ؛ إذ اجتمع فيه الأنصار رضي الله عنهم لاختيار خليفة منهم، وفيه تم حضور ثلاثة من المهاجرين، بينوا للأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون من قريش، فاختاروا أبا بكر الصديق، وبايعوه رضي الله عنهم.

بعض فضائل سعد بن عبادة رضي الله عنه

بعض فضائل سعد بن عبادة رضي الله عنه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. ثم أما بعد: فمع الدرس السابع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في الحلقة السابقة تحدثنا عن المصيبة الكبرى والبلية العظمى التي عصفت بالمدينة المنورة، وكادت أن تطيش بعقول الصحابة لولا أن الله عز وجل من على المسلمين بـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، تلك المصيبة هي وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفصلنا في الفتن المتعددة التي مرت بالمسلمين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكانت هلكة المدينة محققة إذا لم ينتخب خليفة لها في أسرع وقت. وذكرنا إسراع الأنصار رضي الله عنهم أجمعين بالذهاب إلى سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة اعتقاداً منهم أن هذا حق لهم لا ينازعهم فيه أحد، وذكرنا مبرراتهم في ذلك، ثم ختمنا الحلقة السابقة بوصول نبأ اجتماع الأنصار في السقيفة إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأرضاهم فذهب ثلاثتهم إلى السقيفة. في هذه الأثناء وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، فاجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه زعيماً للمسلمين وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه لا شك فضيلة إيمانية عالية. فمنذ سنوات قليلة وقبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث، والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة جداً بين الطرفين: الأوس والخزرج، لكن الآن تغيرت النفوس وتركت حظوظها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس حرجاً في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، وأن يقفوا جميعاً وراءه، ولم يطرحوا اسماً أوسياً بديلاً، بل قبلوا به دونما أدنى جدل. إذاً: الرجل المرشح الأول للخلافة في نظر الأنصار هو سعد بن عبادة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختياراً موفقاً لا ريب فيه. وتعالوا نتعرف على المرشح الأول للخلافة من قبل الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه. للأسف كثير منا لا يعرف سعد بن عبادة أو يعرفه بصورة مشوهة، فمن هو سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه؟ إنه الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه سيد الخزرج، وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، ففي يوم العقبة الثانية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار اثني عشر نقيباً كان منهم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وكان شريفاً في قومه، وكان يجير للمطعم بن عدي قوافله المارة بالمدينة، وذلك قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف رضي الله عنه وأضاه. وكان ممن شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف مشهورة في الغزوات ولا سيما في الخندق حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأيه في ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله ويقدره ويكثر من زيارته؛ وذلك لمكانته بين الأنصار رضي الله عنهم. يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زارهم في بيتهم فقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال قيس: فرد أبي رداً خفياً) يعني: أن سعد بن عبادة رد السلام لكن بصوت منخفض فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بصوت لا يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال قيس: فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام. فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) وسيدنا سعد بن عبادة يريد أن يسمع (السلام عليكم) كثيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اتركه حتى يكثر علينا من السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا أحد بالبيت فرجع، فتبعه سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً؛ لتكثر علينا م

اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لمبايعة سعد بن عبادة

اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لمبايعة سعد بن عبادة وتعالوا نرجع إلى سقيفة بني ساعدة: اختار الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وكان مريضاً رضي الله عنه وأرضاه وجلس وهو مزمل بثوبه، يعني: متغطياً بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره؛ لأنهم فعلاً اختاروه، ولكن لا زالت البيعة لم تتم، فلم يقدر على إسماع القوم جميعاً فكان يبلغ عنه ابنه الكلام ويتحدث ابنه إلى الناس، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: يا معشر الأنصار! ونلاحظ في كلمته أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة لا زالوا لم يدخلوا، ولا أحد من المهاجرين موجود في السقيفة في هذه الخطبة. قال: يا معشر الأنصار! لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. ونلاحظ هنا أنه يرفع من شأن الأنصار فوق كل القبائل العربية بما فيها قبائل مكة وقريش. ثم فسر سبب ذلك في خطبته فقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشر سنة في قومه -يعني: أنه قعد ثلاث عشرة سنة في مكة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان- فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة. وانظر إلى كلام سيدنا سعد بن عبادة كم هو لطيف. يقول: حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وهنا ينسب سعد بن عبادة الفضل إلى الله عز وجل، ثم يكمل ويقول: وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه وأثقلهم على عدوه من غيركم. وطبعاً! كلام سعد بن عبادة كلام صحيح وكلام حقيقي، فالمهاجرون في بدر كانوا اثنين وثمانين أو ثلاثة وثمانين، لكن الأنصار كانوا مائتين وواحداً وثلاثين، وهكذا في كل المشاهد كان الأنصار دائماً أعدادهم أكثر بكثير من أعداد المهاجرين. ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول: حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً. يعني: أن العرب جميعاً سلموا القيادة للمسلمين بفضل الأنصار. قال: حتى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض ودانت له بأسيافكم العرب. وهنا سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه كأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الاتباع. ثم ختم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض وبكم قرير العين. ومع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معاني عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالاً: إن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم وحب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب، ذكر كل ذلك لهدفين رئيسين فيما يبدو لي: الهدف الأول: رفع الحالة المعنوية للأنصار، فهناك مصاب فادح وهو أنه لا يزال الرسول عليه الصلاة والسلام لم يدفن بعد، فنفى رضي الله عنه وأرضاه عنهم الإحباط واليأس، ودعاهم لاستمرار المسيرة كما بدءوها والثبات على أمر هذا الدين. الهدف الثاني الواضح: التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة فيما يبدو لهم؛ من حيث إنهم هم الذين نصروا وآووا وقاتلوا العرب ومكنوا للدين. هكذا، هذه كانت خطبة سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه في أول اجتماع السقيفة. وإجمالاً: الخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه، ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.

وصول الصديق وعمر وأبي عبيدة إلى سقيفة بني ساعدة وتفاصيل ما جرى فيها

وصول الصديق وعمر وأبي عبيدة إلى سقيفة بني ساعدة وتفاصيل ما جرى فيها بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، وظهور المهاجرين في هذا الوقت قد يعطل البيعة، فالأنصار استقروا على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، فقد دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين والصاحب القريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول صلى الله عليه وسلم والملهم المحدث الفاروق، ومعه أيضاً أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثير الاستشارة له والاعتماد عليه في أمور كثيرة، فالسيدة عائشة -كما جاء في صحيح مسلم - عندما سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ فقالت: أبو بكر. قيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: ثم من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح). وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه مات في سنة ثمانية عشر هجرية، ولا شك أنه لو كان حياً لكان من الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليختاروا من بينهم خليفة للمسلمين بعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين. إذاً: هنا في هذا الوقت من الممكن أن تحدث مواجهة، فالأنصار يريدون سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، لكن لعل لهم رأياً آخر، وهنا حدثت لحظة هدوء وترقب، فيا ترى ماذا سيقول المهاجرون؟ أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟ أترك لكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يصور لكم الموقف كما جاء في صحيح البخاري ومسلم. يقول عمر: فانطلقنا حتى إذا أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. يعني: أنهم قد وضعوه في مكان في صدر المجلس فلفت نظر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة. يقول عمر: قلت: ما له؟ قالوا: يوعك. وفي رواية: وجع يوعك، يعني: مريض. فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم. يعني: خطيب الأنصار، وهنا حدثت لحظة أكيد من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، ولم يشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في فتح الباري: إنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر. المهم أنه وقف خطيب الأنصار وأراد أن يتكلم كلاماً فصلاً كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية: رهط منا. وهذه بوادر مشكلة، فالخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية: رهط منا، أي: عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه توقع أن المهاجرين سيريدون الخلافة، فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار. وطبعاً الأنصاري يقصد المهاجرين قبل فتح مكة الذين هاجروا إلى المدينة المنورة والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا فلو اعتبر أعداد القرشيين في مكة والذين أسلموا بعد الفتح فسيكونون أضعاف أضعاف الأنصار. المهم أن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح إلى أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر الذي نصر الإسلام في كل المشاهد والمواقع بنسبة دائماً ما تكون أكبر من المهاجرين. هذا كان من باب التلميح، ثم إنه بعد ذلك صرح الخطيب الأنصاري بعد ذلك وقال: وقد دفت دافة من قومكم -يعني: جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، أي: يستثنونا من الخلافة في بلادنا، ثم سكت الأ

اتفاق المهاجرين والأنصار في السقيفة على اختيار خليفة من المهاجرين

اتفاق المهاجرين والأنصار في السقيفة على اختيار خليفة من المهاجرين وتعالوا نرجع ثانية لموقف الصحابة بعد الكلمات الأخيرة لـ عمر بن الخطاب وللحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟ وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟ وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟ تعالوا نرى. إذا كان حديث العقل والحجة والبرهان يقسي القلب أحياناً فليكن حديث الوجدان والروح، فتكلم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه الرجل الرصين الهادئ أمين الأمة، وقال جملة من سطر واحد نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، وأول ما قالها الجو هدأ والناس ارتاحت والغضب راح والمناقشة مرت في طريق ثاني. قال: يا معشر الأنصار! إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير. إنها كلمة في منتهى الغرابة، إنها كلمات قليلة لكن نزلت على الأنصار فزلزلت كيانهم وهزت مشاعرهم هزاً عنيفاً، أطلق الأمين أبو عبيدة سهماً استقر في قلوب الأنصار قلباً قلباً، الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قالوا: يا رسول الله! اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، والذين قال عز وجل فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] الأنصار الذين قالوا: يا رسول الله! خذ لنفسك ولربك ما أحببت. وقالوا: يا رسول الله! نبايعك على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله. إنها ذكريات رائعة خالدة، وهم الذين قالوا: (فما لنا بذلك يا رسول الله! إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه) أفاق الأنصار رضي الله عنهم أجمعين على حقيقتهم العجيبة: أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، وهم أصحاب النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير ولا تأخذ شيئاً. فارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض إلى مصاف الملائكة والسماء، وتذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد والشهادة، وتذكروا إخواناً قدموا أرواحهم وسبقوا صادقين ما بدلوا وما غيروا، تذكروا سعد بن معاذ، وتذكروا أسعد بن زرارة، وتذكروا سعد بن الربيع، وتذكروا أنصاراً عاشوا أنصاراً وماتوا أنصاراً، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبيب الذي ما فارقوه إلا منذ قليل، الذي ما زال نائماً على سريره لم يدفن بعد، الذي ما زال حياً في قلوبهم وسيظل كذلك حتى يموتون، فانهمرت دموع الأنصار، وقام بشير بن سعد رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي مسرعاً ملبياً لنداء أبي عبيدة وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخاً كبيراً، قام فقال: يا معشر الأنصار! إنا والله! لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضاء ربنا وطاعة نبينا والفتح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً، فإن الله ولي النعمة وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله! ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم. وسبحان الله! تغير خط الحوار في السقيفة بالكلية، وبدأت نفوس الجميع تهدأ، وظهر واضحاً أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن ما كان الأنصار ليقتنعوا لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة. ثم قام أسيد بن حضير رضي الله عنه زعيم الأوس ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين الأوس والخزرج إن تولى أحد الفريقين الخلافة، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين. ولما رأى الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أنها حجة تدل على ذكاء الصديق وسعة اطلاعه على كتاب الله عز وجل، فقال الصديق رضي الله عنه: إن الله سمانا الصادقين وسماكم المفلحين، وذلك إشارة لقوله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] هذا وصف المهاجرين في القرآن الكريم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] وهذا هو وصف الأنصار في القرآن الكريم. ثم انظر إلى الاستنباط الذي قاله الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال

استخلاف الصديق

سلسلة الصديق_استخلاف الصديق لاختيار الخليفة طرق في الإسلام، ومن أهم تلك الطرق اختيار الأصلح ومبايعته من أهل الحل والعقد، وقد كان اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه كذلك، فقد اختاره الصحابة وبايعوه ليتمثلوا بذلك أول صورة تطبيقية في اختيار الخليفة.

حديث: (الأئمة من قريش) وأثره يوم السقيفة

حديث: (الأئمة من قريش) وأثره يوم السقيفة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه. في الدرس السابق تحدثنا عما دار في سقيفة بني ساعدة، وكيف رشح الأنصار للخلافة رجلاً منهم هو الصحابي الجليل: سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وذلك اعتقاداً منهم أن الخلافة يجب أن تكون فيهم. وذكرنا كيف دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين إلى السقيفة، وكيف عرضوا طرحاً جديداً في هذا الأمر، وهو: ترشيح رجل من المهاجرين، وكانت حجة المهاجرين في ذلك الأمر: أن العرب جميعاً لن تسمع وتطيع إلا لرجل من قريش؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، ولكونهم أوسط العرب داراً ونسباً. والعرب في المعتاد لا يألفون أن يتأمر عليهم رجل من خارج قبيلتهم، لكنهم قد يقبلون برجل من قريش لمكانتها القديمة في النفوس، والتي زادت ولاشك بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم. ودارت نقاشات وجدالات طويلة بين المهاجرين والأنصار، وكانت الحجة أقوى وأظهر في صف المهاجرين، ولم ترجح الكفة بكاملها في صف المهاجرين إلا عندما لمس أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة قلوب الأنصار، وذكرهم بتاريخهم المجيد، وأنهم دائماً كان يؤوونه وينصرونه، فلا داعي أن يكونوا أول من يبدلون ويغيرون. وذكرنا في الدرس السابق الاستجابة العظيمة من الأنصار لنداء أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، وكيف أنهم بدءوا يتسابقون إلى الموافقة على ترشيح رجل من المهاجرين، وقام أكثر من صحابي من الأنصار يؤيد هذا التوجه. كل هذا الموقف حصل وسعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه جالس لا يتكلم، ولاشك أنه كان عنده صراع داخلي عنيف بين رأي الأنصار ورأي المهاجرين، ووجد فجأة أن الأمور تصير في اتجاه ترشيح رجل من المهاجرين، وبرغم هذا لم يعترض ولا بكلمة واحدة إلى هذه اللحظة سعد بن عبادة، ولم يتكلم كلمة واحدة منذ دخول المهاجرين، ومع ذلك فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الرجل الخبير المحنك كان يرقبه ويشعر بالصراع الذي بداخله، وهو صراع طبيعي جداً، صراع لرجل كان مشرحاً لخلافة الدولة بكاملها منذ ساعة واحدة فقط، فإذا بغيره يرشح. وهنا أراد الصديق رضي الله عنه أن يلقي بالحجة البينة الظاهرة، والتي لا تبقي شكاً في قلب أحد، والتي تريح في نفس الوقت قلب سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه يخاطب سعد بن عبادة بذاته: لقد علمت يا سعد! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد، يعني: هناك حديث للرسول عليه الصلاة والسلام قاله في وجود أبي بكر وفي وجود سعد بن عبادة، وهنا أبو بكر يذكر سعد بن عبادة رضي الله عنهما بالحديث. وواضح أن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه نسي هذا الحديث، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمرض، أو لغيره من الأسباب. قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لقد علمت يا سعد! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: (قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم)، وهذا قانون وضعه صلى الله عليه وسلم (قريش ولاة هذا الأمر) قانون صريح جداً، ورغم كل المحادثات والمجادلات والحوارات التي حدثت في السقيفة ومع كل هذا الجدال رد سعد بن عبادة على أبي بكر الصديق بكلمة عجيبة، وفي بساطة غريبة فقال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، هكذا في بساطة، فالكلمة الوحيدة التي قالها سعد بن عبادة منذ دخل المهاجرون إلى السقيفة إلى هذه اللحظة هي: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء هكذا قالها في بساطة، وهكذا سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة قطع بخلافة قريش دون الأنصار. هذا الحدث لابد أن نقف أمامه وقفة طويلة؛ لأنه حدث فريد، فتعالوا نحلل هذا الموقف العجيب في التاريخ الإسلامي، ونحاول أن نخرج منه بعض الدروس: أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهذا

موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه من استخلاف الصديق

موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه من استخلاف الصديق وهنا تعليق آخر هام على الحوار القصير جداً الذي دار بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة رضي الله عنهما: موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه حق، وهذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعط للموقف حقه، ولم نعط لـ سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، فكيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا فلا يتعلمونه ولا يعلمونه؟ وكيف لا يظهرونه وغيره من المواقف الخالدة جداً جداً في التاريخ الإسلامي؟! فهذا رجل سيد في قومه كبير في عائلته يقف وحوله الفرسان والجنود والأنصار والعشيرة، ويقف في سقيفته وليس سقيفة الأنصار، بل سقيفته هو شخصيًا، سقيفة بني ساعدة، فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟ في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة والرئاسة والزعامة، وليس على شركة أو مسجد أو نادي أو حزب، بل رشحوه على أمة وعلى دولة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه يتمتع بذكاء وفطنة وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده. يقف هذا الرجل الممكن أمام رجل لاجئ سياسي ولجأ إليه، وإلى بلده، يقف هذا الرجل بعد أن فر من قومه فآواه، هذا الرجل الممكن آواه وأكرمه ونصره وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين مهاجرين من بلده فقط، وهما أيضاً لاجئان إلى هذه البلد، يقف الثلاثة الرجال في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له: قريش ولاة هذا الأمر، هكذا بسهولة ينزع الأمر الذي كان قد وكل إليه، ويعطيه إلى غيره! فماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟! يقول في بساطة شديدة: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، لا جادل، ولا أخذ الحديث على محمل معين أو محمل آخر، بل قال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، فأي نفس طاهرة؟ وأي روح زكية؟ وأي رجل وقاف عند كتاب الله عز وجل وعند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكم من الدماء حقنت ولو شاء هذا الرجل لسالت أنهاراً في شوارع المدينة؟! وكم من الأرواح لو شاء هذا الرجل لقتلت بالآلاف؟! فأي فتنة قمعت؟ وأي وحدة بين المسلمين حدثت؟! إنها آثار مجيدة ونتائج هائلة لموقف واحد وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقفه لله، وكان بيده أن يقف الموقف لنفسه، لكنه ما فعل. فأين الدنيا في عين الأنصار كما اتهمهم المستشرقون وأذنابهم؟ ولو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد فيصبح في نظرهم مستفيداً من نتائجه؟ والمستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين: إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، يقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث الذي طغت فيه المادية على الناس، والذي كثرت فيه المؤامرات والدس والكيد والغش والنفاق والخداع. والرجل الآخر هو رجل حاقد موتور، رأى ديناً قيماً ورجالاً أخياراً، وتاريخاً ناصعاً خالداً نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وأغمض عينيه عنه، وعلم الصواب وخالفه، {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72]. هؤلاء المستشرقون -جهالاً كانوا أو حاقدين- قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟ أتراه عدلاً أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم والأخلاق والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوروبا أو تاريخ الفراعنة أو تاريخ الحضارة في الصين أو الهند؟ أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبعهم دون سؤال ولا استفسار؟ أتراه صحيحاً أن ينشغل علماء المسلمين عن دراسة تاريخنا وشرحه وتبسيطه للشباب في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟ أليس خيراً لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية وأصولنا الدينية؟ فأي أمة أعظم من أمة الإسلام؟ وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟ والله! لا أجده.

سبب عدم استشهاد الصديق بحديث: (الأئمة من قريش) في سقيفة بني ساعدة من أول المناقشة

سبب عدم استشهاد الصديق بحديث: (الأئمة من قريش) في سقيفة بني ساعدة من أول المناقشة وهنا تعليق ثالث على موقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه: إذا كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعرف هذا الحديث القاطع: (ولاة الأمر من قريش) وهو في منتهى الوضوح فلماذا لم يذكره في أول المناقشة؟ يعني: لو قاله فإنه سيقطع تماماً باب الجدل من بدايته، هكذا نظن. والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن فطنته، ومن توفيق الله عز وجل له، فلو ذكر هذا الحديث ولم يقدم له بالبراهين الساطعة والأدلة الدامغة والحجة العقلية في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وأن العرب سيكونون أكثر طوعاً لقريش لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك فقد يرفض الأنصار الانصياع له، وستقع الكارثة والله! فمن الحكمة ألا تطلب أمراً عسيراً من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسياً، لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، واقدر للأمر قدره، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية. والأنصار مهيئون نفسياً لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويخشى عليهم ألا ينصاعوا بهدوء لأمر الله ولرسوله. إذاً: لابد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم عليهم قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، إنه فقه راق وحكمة رائعة، هذا هو الصديق الذي عرفناه رضي الله عنه وأرضاه.

الرد على المستشرقين الذين يتهمون الصديق بوضع حديث: (الأئمة من قريش)

الرد على المستشرقين الذين يتهمون الصديق بوضع حديث: (الأئمة من قريش) وهنا تعليق رابع على كلام الصديق رضي الله عنه وأرضاه: هناك شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين وهي: أن هذا الحديث قد يكون من اختلاق الصديق؛ لكي يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وطبعاً واضح أن المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل يفتقرون أيضاً إلى الأدب، وواضح أنهم لا يعلمون شيئاً عن الصديق ولا عن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ثم ألم يرو الحديث من طرق أخرى كثيرة غير طريق الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وعن طريق بعض الأنصار أيضاً، وجاءت في كتب الصحاح والسنن في أكثر من موضع؟ ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟ أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟ أكانوا يتركون ملكاً لحديث مشكوك فيه؟ فماذا قال المستشرقون؟ قالوا: الأنصار استحوا من أبي بكر، فنقول لهم: ألم تقولوا عنهم منذ قليل: إنهم طلاب دنيا وسلطان، أيستحيي طالب الدنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟ أليس انصياع الأنصار التام دليلاً على نبل أخلاقهم وقيمهم من ناحية، ودليلاً على ارتفاع الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟ هذا والله! أراه حقاً لا ريب فيه، لكن {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

تفاصيل بيعة الصديق رضي الله عنه

تفاصيل بيعة الصديق رضي الله عنه استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة وهامة جداً للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة ملأى بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة؟ ثم إن المهاجرين كثيرون، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، وكل رجل من المهاجرين أمة، فمن من هؤلاء سيتولى هذه الخلافة؟ ممكن نتخيل أن الأمر سيكون صعباً جداً، يعني: أن المهاجرين كثر، وكلهم على درجة عظيمة جداً من الفضل، لكن تعالوا ننظر ما الذي حصل في السقيفة؟ قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ببساطة شديدة: ابسط يدك نبايع لك، الصديق يريد أن يبايع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على الخلافة، فقال عمر: أنت أفضل مني، قال أبو بكر: أنت أقوى مني، قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك. سبحان الله! أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟ نحن نرى والله! إخوة ملتزمين متمسكين بالدين وهم المفروض أن يكونوا فاهمين الدين لكن نراهم يتقاتلون على إمامة مسجد، وعلى إمامة صلاة، فماذا سيعملون لو كانت إمامة أمة؟! فتقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين رضي الله عنه وأرضاه وقال: لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر! أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتكى، وصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، وسبحان الله! أبو عبيدة بن الجراح كلامه قليل لكنه رجل موفق إذا تحدث أصاب الهدف بكلمات معدودات. وهنا عمر أخذ زمام الكلام من أبي عبيدة ورآها فرصة يبعد عن نفسه الخلافة فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا جميعاً: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر! هذا كما رواه النسائي والحاكم. وهنا وثب عمر بن الخطاب لما سمع هذه الكلمات من أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، والفاروق واضح جداً أنه فاروق بين أمور كثيرة وأمور أخرى، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور، فماذا حدث؟ قام أسيد بن حصير -أنصاري- وبشير بن سعد رضي الله عنه -أنصاري- قاما يستبقان للبيعة، ووثب - كما يقول الرواة - أهل السقيفة يبتدرون البيعة، فبايع الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وبايع ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه، وبايع زيد بن ثابت، وبايع كل الأنصار في السقيفة ما عدا رجل واحد فقط معذور وهو سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه؛ وحتى لا يذهب الذهن بعيداً ليعلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة الموقف، فقد كان في بادئ هذا اليوم مبايعاً للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه كان لا يستطيع حراكاً لمرضه، ويحسب له أنه أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة واحدة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه أي اعتراض على إمارته، بل أنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهداً حيث استشهد هناك. وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لـ أبي بكر الصديق بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا هو تاريخ المسلمين، هذا هو تاريخنا، انظروا الناس الذين حولكم، وانظروا كل بلاد العالم كيف يكون الصراع فيها على السلطة، وآخر ما سمعت أنه سقط نصف مليون قتيل في صراعات السلطة في أنغولا، ونحن نرى الذي يحصل في فنزويلا مثلاً، والذي يحصل في الصومال، والذي يحصل في راوندا، والذي يحصل في معظم بلاد العالم، وانظروا الذي يحصل حتى في البلاد التي يطلقون عليها بلاداً حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين: المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات، وهكذا المحور الثاني: محاولة التعريض والسب والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر، حيث يبحث كل مرشح عن عيوب غيره ليبرزها للناس، ويسجل بها نقاطاً لصالحه. ثم ألا تسمعون يا إخوة! عن تزييف وتزوير ودس ومكيدة؟ ألا تسمعون عن قهر وتعذيب وظلم وبهتان؟! فقارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة وبين ما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين، ورقي هذا ال

وقفة مع ما ذكر بخصوص يوم السقيفة

وقفة مع ما ذكر بخصوص يوم السقيفة ونقف وقفة مع بعض التعليقات التي ذكرت بخصوص هذا اليوم: أولاً: جاءت رواية عجيبة في الطبري أعجب بها المستشرقون أيما إعجاب وأظهروها في تاريخهم، ويرددها وراءهم المعجبون بالمستشرقين، والحق أن الطبري رحمه الله مع أنه كان عالماً جليلاً وإماماً عظيماً ما كان ينظر كثيراً إلى الروايات التي يذكرها في كتابه، وهو بنفسه اعترف بذلك في مقدمته لكتابه المشهور: تاريخ الأمم والملوك. فهمه كان الجمع وليس التحقيق، وعلى علماء الرجال والحديث والرواية أن يبحثوا في صحة ما جاء في كتابه. الرواية هذه تقول: إن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه قال بعد مبايعة الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، فكان لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجماعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم، يعني: في الحج لا يفيض بإفاضتهم. وطبعاً هذه الرواية باطلة تماماً من الأساس، فابحث عن إسناد هذه الرواية ستجد في إسنادها رجلاً اسمه: لوط بن يحيى، وهو شيعي معروف صاحب هوى كثير الكذب متروك، قال عنه الذهبي رحمه الله: إخباري تالف لا يوثق به، ولم ينقل عنه أحد إلا الشيعة، لا يؤخذ بقوله ألبتة، وبالذات في القضايا الخلافية، وفي أمور الفتن. وهذه الرواية سنداً لا تصح بالمرة، كما أنها متناً أيضاً لا تصح، إذ كيف يمكن أن نتخيل أن سعد بن عبادة الصحابي الجليل الذي في رقبته بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة كيف نتخيل أنه ممكن أن يقول هذا الكلام؟ كيف يمكن أن نتخيل أن هذا الكلام يقال في المدينة المنورة، ولا يخاطب فيه الصحابة أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الحاكم في ذلك الوقت؟ هذا الكلام في غاية الخطورة، فـ سعد بن عبادة ليس رجلاً عادياً في المدينة المنورة، بل سعد بن عبادة سيد الأنصار لو قال مثل هذا الكلام لأحدث فتنة لا محالة في المدينة، وليس ممكناً أن يقول مثل هذا الكلام ويمر الموقف دون تعليق. لو كان هذا الموقف فعلاً حقيقياً لذكرته كتب السيرة الموثقة، فلم نجد في كتاب سيرة ولا كتاب سنن ولا كتاب صحاح هذا الأمر بالكلية. إذاً: هذا واضح فيه الاختلاق سواء في السند أو سواء في المتن.

الرد على من طعن في خلافة الصديق بسبب غضب علي والزبير

الرد على من طعن في خلافة الصديق بسبب غضب علي والزبير والقضية الثانية هي: مسألة غضب علي والزبير رضي الله عنهما يوم المبايعة، تذكر الرواية أن علياً والزبير رضي الله عنهما غضبا يوم المبايعة، والرواية رواية صحيحة فعلاً، فسيدنا علي وسيدنا الزبير غضبا يوم المبايعة فعلاً لكن لماذا غضبا؟ أشاع الحاقدون أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكانا -في ظن هؤلاء الحاقدين- يريان أن غيره أفضل. وطبعاً المقصود بغيره سيدنا علي بن أبي طالب، هكذا جاء في الرواية. لكن بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما نجد أنها قد فسرت الغضب على محمل آخر، ومحمل مقبول، لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية، وتركوا بقيتها. روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه بسند صحيح -كما صححه ابن كثير رحمه الله- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال: قال الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها؛ إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي. وهذا كلام في منتهى الوضوح، والغضب لم يكن لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه تولى الخلافة، بل الغضب كان لأن المشورة في اختيار الخليفة تمت في غيابهما، وطبعاً هذا أمر مفهوم ومقبول؛ لأنهما كانا من أهم الصحابة، بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر؛ لأنهم جميعاً لم يحضروا هذا الحدث الهام، ولاشك أن كثيراً منهم من أهل الرأي والمشورة، وكان ينبغي لهم أن يكونوا حضوراً في هذا الحدث الهام، حدث اختيار الخليفة، ولا يكتفى بثلاثة فقط من المهاجرين، هذا عذرهم، لكن تعال ننظر إلى الجانب الثاني. في الجانب الآخر: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة كانوا معذورين في هذا الأمر، كانوا معذورين في أن كل المهاجرين غابوا عن الحدث، فنحن رأينا الأحداث التي تمت، ورأينا كيف أن أبا بكر الصديق وعمر كانا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت اجتماع الأنصار وجاء إليهما رجل فأخبرهما بالخبر، فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير، وهما ذاهبان في الطريق رأيا سيدنا أبا عبيدة بن الجراح فأخذاه معهما على غير اتفاق، وذهبوا جميعاً إلى السقيفة. وهناك في السقيفة -كما رأينا أيضاً- تسارعت الأحداث بشدة، وكان يخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت أن تحدث فتنة في المدينة، وأن يكثر القيل والقال والخلاف والتفرق، ونحن رأينا الذي حصل، ويمكن أن يكون القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور، لكن الذي حصل سرعة التقاء الأنصار، ونحن ذكرنا ما يبرر هذه السرعة التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة. ويبدو أن بعض المهاجرين أيضاً غير الزبير وغير علي كانوا يجدون في أنفسهم، يعني: كانوا غاضبين لهذا السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب والزبير بن العوام. والصديق يقوم ثاني يوم يخطب في المهاجرين، وكلام الصديق رضي الله عنه وأرضاه يطيب خاطر المهاجرين، روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المهاجرين فقال: ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله، يقول عبد الرحمن بن عوف: فقبل المهاجرون مقالته. والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا لـ أبي بكر؛ فهم يعرفون صدق الصديق وزهده ومكانته وقدره وإيمانه، ولو أخذت آراءهم جميعاً ما اختاروا غير الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن الصديق رجل يريد أن يقطع الشك باليقين، ويقتل الفتنة في مهدها، ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئاً في استثنائهم، بل كان مضطراً. وبهذا وضح لنا أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهاداً مصيباً منهم، فها هي آثار ورواسب ذلك حدثت في نفوس المهاجرين، مع أن الخليفة أبا بكر منهم فكيف لو كان من غيرهم؟ نعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمور قبلية أو عصبية أو اعتراض على الاختيار، ولكن المهاجرين وجدوا في أنفسهم؛ لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة.

موقف عمر بن الخطاب يوم السقيفة

موقف عمر بن الخطاب يوم السقيفة هذا الموقف من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين هو الذي حدا بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين، ولا يفهم ذلك إلا من اطلع على كل هذه الظروف: العبارة الأولى: قالها يوم السقيفة، وبعد مبايعة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. قال رجل من الأنصار لـ عمر بن الخطاب: قتلتم سعداً والله! يقصد: قتلتم سعد بن عبادة سيد الأنصار باختياركم غيره، فقال عمر بن الخطاب: قتل الله سعداً! قتل الله سعداً! وهذه رواية صحيحة في البخاري، هذه الكلمة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كما قال ابن حجر هي دعاء على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه. ولاشك أن هذه الكلمة تعبر تعبيراً واضحاً عما يجيش في صدر عمر بن الخطاب من أسى وحزن وغضب من اجتماع الأنصار بمفردهم؛ ذلك أنه كان يخشى الفتنة التي كان من الممكن أن تحدث لو اختاروا زعيماً ليس على رغبة المهاجرين. وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه تفسيراً لهذا الموقف فيقول: أما والله! ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون الفساد. وهذا منتهى الوضوح، وقد يحمل كلام عمر بن الخطاب أيضاً على محمل آخر، وهو: أنه يقول: قتل الله سعداً بأخذ الإمارة منه، لسنا نحن الذين قتلناه، بل إن التشريع الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الولاية هو وحي من الله عز وجل وليس لنا ولا لأحد فيه يد. فكأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول للأنصاري: إنك إن كنت تعتبر أن سحب الخلافة من سعد بن عبادة قتلاً فإن الذي فعله هو الله عز وجل. وسواء كان هذا المعنى أو غيره فليس معنى ذلك أنه كان بين سعد وعمر رضي الله عنهما شقاق أو كراهية أبداً، وإنما عمر بن الخطاب غضب من سعد في موقف من مواقف حياته العديدة، كما يغضب رجل من رجل أو يختلف رجل مع رجل، وهذا شيء طبيعي جداً، وهذا حتمي أن يحدث بين المؤمنين، لكن ليس معناه أن يحدث هجران بين المسلمين أكثر من ثلاث، وهذا مما لم ينقل عن عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة أو عن عمر بن الخطاب والحباب بن المنذر أو غيرهم. وليس من الطبيعي ولا الفطري أن يتعايش الناس دون اختلاف في الرأي، أو غضب من بعض الأفعال، أو حتى خروج لبعض الكلمات التي لا يرضى عنها قائلها، فهذا أمر وارد في حق البشر أجمعين، لكن المهم هو عدم التمادي في هذه الأمور، والمهم أيضاً: العودة سريعاً إلى الاجتماع بعد الاختلاف. والعبارة الثانية التي قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جاءت في رواية البخاري ومسلم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في أيام إمارته على المسلمين خطب في الناس فقال: بلغني أن فلاناً منكم - وليس هناك تبين من هو هذا الشخص- يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً، يعني: أنه سيبايع طلحة بن عبيد الله دون مشورة أحد، فهو في رأيه أحق الناس بالخلافة بعد عمر، هكذا يقول الرجل. يقول سيدنا عمر: فلا يغترن امرئ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وتمت، يعني: فجأة، وعمر رضي الله عنه يريد أن يحذر من يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فجأة دون ترتيب ومع ذلك تمت ونجحت، وبويع لـ أبي بكر، فما المانع إن مات عمر أن نبايع رجلاً آخر فجأة، ويتم له الأمر؟! فسيدنا عمر يصحح المفاهيم لهذه الأمة فيقول: ألا وإنها -يعني: بيعة الصديق - قد كانت كذلك -يعني: كانت فلتة- إلا أن الله وقى شرها. وهذه عبارة في غاية الأهمية. وسيدنا عمر بن الخطاب يقصد أن عملية البيعة الفجائية كان من الممكن أن يتبعها شر عظيم، ولابد أن تعقد الشورى بين كل الأطراف الذين يستعان برأيهم في هذه الأمور. وبيعة الصديق الفجائية كان من الممكن ألا تقر من عامة المسلمين، لولا أن المبايع هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولذا سيدنا عمر بن الخطاب خائف، فلو تخيلنا أن المهاجرين انقسموا على أنفسهم بعد وفاة عمر بن الخطاب فاختار بعضهم طلحة مثلاً، واختار بعضهم علياً مثلاً، واختار بعضهم عثمان مثلاً

سر إجماع الصحابة على بيعة الصديق

سر إجماع الصحابة على بيعة الصديق وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا هذا الإجماع العجيب على الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ يبدو والله! أننا مهما قلنا ومهما شرحنا ومهما ذكرنا من مواقف وأحداث فإننا لن نوفي هذا الرجل حقه، فنحن لو كنا نقارنه بأناس عاديين لكان يسيراً أن نفقه هذا الاجتماع من الصحابة على صعوبة هذا الاجتماع، لكنه رضي الله عنه يقارن برجال أعلام أفذاذ عباقرة لم يوجد في التاريخ جيل مثلهم، فكل رجل منهم أمة، وخذ كتب السيرة والتاريخ واقرأ، اقرأ -مثلاً- حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وما فعله للإسلام والمسلمين منذ أسلم وحتى مات، اقرأ عن علمه وعدله وفقهه وورعه وتقواه. واقرأ -مثلاً- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وما قدمه في حياة طويلة، واقرأ عن كرمه وعن زهده وعن أخلاقه. واقرأ -مثلاً- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وعن تاريخه المجيد، وفضله العظيم، وكلامه الحكيم، واقرأ عن قوته وحكمته وحلمه وشجاعته، وذكائه. واقرأ عن غيرهم من الصحابة، اقرأ عن الزبير وعن طلحة وعن أبي عبيدة وعن سعيد بن زيد وعن عبد الرحمن بن عوف وعن سعد بن أبي وقاص، فكل اسم من هؤلاء ستجد له ذكريات كثيرة من الإيمان والجهاد والبذل والمروءة. واقرأ عن حمزة وعن مصعب وعن سلمان وعن حذيفة وعن صهيب وعن بلال وعن خالد اقرأ عنهم وعن عشرات معهم، وعن مئات معهم، بل وعن آلاف معهم، واقرأ عن عظماء وعلماء المسلمين في كل عصر وفي كل مكان، اقرأ عنهم جميعاً، واعلم أن كل من سبق ذكره لو جمعوا في كفة والصديق في كفة لرجح بهم الصديق، فأي فضل؟ وأي قدر؟ وأي عظمة؟ وأي مكانة؟ روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي توزنون بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فوزنت بهم فرجحت، ثم جيء بـ أبي بكر فوزن بهم فوزن، ثم جيء بـ عمر فوزن فوزن، ثم جيء بـ عثمان فوزن بهم، ثم رفعت) أي: رفعت الموازين. ويبدو أيضاً أننا لا نعطي القدر الكافي لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ولـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه، ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا الحديث عنهم بشيء من التفصيل لاحقاً إن شاء الله رب العالمين. لكن نعود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهناك أحاديث كثيرة جداً تذكر فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهي أكثر من أن تحصر في هذه الدقائق القليلة، وحتى لا أبخسه حقه أتحدث عنها في الدرس القادم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شروط الاستخلاف

سلسلة الصديق_شروط الاستخلاف لاختيار الخليفة شروط لا بد من توافرها فيه، وهي شروط مهمة، وقد توافرت كلها في الصديق الأكبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

بعض الأحاديث الواردة في فضائل أبي بكر الصديق

بعض الأحاديث الواردة في فضائل أبي بكر الصديق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين. اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد تكلمنا في الدرس السابق عن اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ ليكون خليفة للمسلمين، وذكرنا في الدرس السابق ما تم من بيعة الصحابة جميعاً بغير استثناء، فبايع المهاجرون وبايع الأنصار وبايع أيضاً علي بن أبي طالب في اليوم الثاني، وبايع الزبير بن العوام أيضاً في اليوم الثاني، وبايع سعد بن عبادة بعد عدة أيام، وهكذا أجمع المسلمون إجماعاً لا شبيه له في تاريخ أمة من الأمم على رجل واحد، أجمعوا على الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وذكرنا في الدرس السابق أنه مما يرفع قدر الصديق إلى أعلى الدرجات أنه كان يقارن بمجموعة من العمالقة الأفذاذ يقارن بجيل السابقين، ومع ذلك فمن الواضح أن الصحابة جميعاً كانوا مهيئين نفسياً لقبول أبي بكر زعيماً عليهم، واضح أنه حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان الصديق بارزاً في المكانة وسابقاً في الفضل، وكان الناس جميعاً يضعونه في مكان مختلف عن بقية الصحابة، ولذلك سهل عليهم ترشيحه وانتخابه ومبايعته بهذه الصورة غير المتكررة. وتعالوا بنا نرى تعليقات الصحابة على هذه الشخصية الفريدة في التاريخ الإسلامي. وتعالوا بنا أيضاً نرى تعليقات الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل. وبعد أن نرى هذه التعليقات سنعرف أنه كان طبيعياً جداً أن يجتمع الصحابة على اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه هذا الاجتماع الفريد. روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين). وفي رواية الطبراني زاد: (فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره). وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر قال: كنا لا نعدل بـ أبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم. وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متوافرون -يعني: ونحن كثرة- نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت). وأخرج الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر). والذهبي رحمه الله يعلق على هذا الحديث فيقول: هذا متواتر عن علي رضي الله عنه، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم، والرافضة هم طائفة من الشيعة رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمة (أحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ليست استنتاجاً من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بل الرسول صلى الله عليه وسلم صرح بها من قبل، فقد روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، قلت: ثم من؟ فعد رجالاً). وروى الطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أزرى على المهاجرين والأنصار، أي: انتقص من المهاجرين والأنصار. وروى البخاري عن

الرد على من يطعن في خلافة الصديق بزعم أن غيره أصلح

الرد على من يطعن في خلافة الصديق بزعم أن غيره أصلح وهنا سؤال هام؟ يقول بعض العلمانيين والمتشككين: آمنا بفضل الصديق ومكانته وإيمانه وتقواه لكن ليس بالضرورة أن يكون المؤمن التقي الورع هو أصلح الناس للخلافة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط الإمارة لأناس لا يشك أحد في تقواهم وورعهم؛ لأنهم لا يصلحون للقيادة والإمارة، فمثلاً: لم يعط الإمارة لـ أبي ذر، وقال له: (إنك امرؤ ضعيف)، بينما ولى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه على وجوه الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر في سرية ذات السلاسل، ولاه لأنه أبصر بالحرب، يعني: يقولون: قد يكون هناك من هو أبصر بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن وإن كنا نعلم أن هذا الطرح من المتشككين طرح جدلي؛ لأن الأيام أثبتت بعد ذلك كفاءة الصديق كخليفة وكقائد، أثبتت تفوقه على غيره في كل الأمور، إلا أننا نسير معهم فيما قالوه، ونقارع -كما يقولون- الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فنقول لهم: ما هي شروط الخليفة في الإسلام؟

شروط الخليفة في الإسلام وتوافرها في الصديق

شروط الخليفة في الإسلام وتوافرها في الصديق

الإسلام والبلوغ والذكورة

الإسلام والبلوغ والذكورة الشرط الأول يتفق فيه كل الصحابة وهو: الإسلام، فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين أن يكون الحاكم نصرانياً أو يهودياً مثلاً، ولكن للأسف في بعض البلاد الإسلامية التي غالب سكانها من المسلمين يحكمها نصراني، مثل نيجيريا، فإن 90% من السكان مسلمون، ومع ذلك الحاكم نصراني ولا حول ولا قوة إلا بالله. الشرط الثاني: البلوغ، وهذا أيضاً متحقق في كل الصحابة المرشحين للخلافة. الشرط الثالث: الذكورة، فلابد أن يتولى أمور المسلمين -وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها- رجل، وبعض البلدان الإسلامية يُجعل على رئاستها امرأة، فلعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمام. فشرط الذكورة يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة. وهذه الشروط والشروط التي ستأتي بعد ذلك ليست من كلامي، بل هذه الشروط جاءت في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي رحمه الله وجاءت في كتاب أحكام القرآن للقرطبي رحمه الله، واتفق عليها عامة علماء المسلمين.

العدالة

العدالة إذاً: هذه شروط ثلاثة: الإسلام والبلوغ والذكورة، ولا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد، ثم يأتي شرط هام، شرط العدالة: الصحابة جميعاً عدول باتفاق العلماء، والعلماء يعرفون العدالة فيقولون: العدالة هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، وانتبه لكلمة (ملازمة)، فملازمة التقوى والمروءة يعني: أن يكون في حالة مستديمة من التقوى والمروءة، والتقوى وإن كانت من الأعمال التي تحتاج إلى توافق بين الظاهر والباطن وبين السر والعلن إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة هي التي يراها الناس فقط، يعني: لا نختار الخليفة على أساس القلب؛ فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد، ومن هذا المنطلق فإن تعريف التقوى المطلوب في الخليفة هو: اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة، فلا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك، ولابد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق، يعني: لا ينفع أن يكون لا يصلي، ولا ينفع أن يكون لا يدفع الزكاة، ولا ينفع أن يكون لا يصوم رمضان، ولا ينفع أيضاً أن يكون فاعلاً للكبائر الأخرى مثل شرب الخمر أو الزنا أو المجاهرة بفحش القول أو العمل أو القتل بغير حق أو الاستهزاء بالدين. أيضاً لابد أن يجتنب البدعة، فضلاً عن أن يدعو إليها، فلابد أن يتصف بالتقوى والمروءة. والمروءة يعرفها العلماء: أنها التنزه عن الخسائس والنقائص التي قد تكون مباحة، يعني: ممكن أن تكون حلالاً لكن لا تصح في حق الخليفة، هذه أيضاً ترتبط بالشرع وترتبط بالعرف، فمثلاً: كثرة المزاح وضياع الهيبة هذه أشياء تسقط مروءة الرجل وإن كان صادقاً في مزاحه، وطبعاً الموضوع فيه تفصيل كبير ليس المجال الآن لشرح هذا التفصيل. فشرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقياً صاحب مروءة، وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أكثرهم عدالة وأعظهم تقوى وأشدهم مروءة؛ لما سبق من الأحاديث، ولشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة. ثم تأتي بعد هذا الشرط شروط في غاية الأهمية، هذه الشروط تحتاج منا إلى بعض البحث في أحوال الصحابة؛ لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة، والشروط المتبقية ثلاثة: الشرط الأول: الشجاعة والقوة والنجدة. الشرط الثاني: العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة. الشرط الثالث: حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور. وهناك شرط رابع تكلمنا عليه قبل، وهو شرط أن يكون من قريش، وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا وفصلنا فيه في الدرس السابق. تعالوا بنا نتعرف على هذه الشروط الثلاثة وأين موقع الصديق منها:

الشجاعة

الشجاعة أولاً: شرط الشجاعة والقوة والنجدة؛ لابد لخليفة المسلمين أن يكون شجاعاً قوياً وإلا ضاعت هيبة البلاد، فقرار الحرب يحتاج إلى رجل شجاع لا يهاب الموت، بل يطلبه، فإذا تردد الخليفة في نفسه ساعة أو ساعتين أو يوماً أو يومين فقد تضيع البلاد نتيجة التردد والجبن، فأين الصديق رضي الله عنه وأرضاه في صفة الشجاعة؟ روى البخاري عن عروة بن الزبير رحمه الله قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ هذا الموقف العصيب فيه محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى أبو بكر الصديق دون غيره من الصحابة ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف من أشد المواقف خطورة على حياة الرسول وعلى حياة الصديق نفسه، فإذا انتهكت حرمة الدين أو حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الصديق لا ينظر لنفسه أبداً. وتعالوا بنا نرى هذه الرواية اللطيفة التي رواها البزار في مسنده، وذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عند شرحه للحديث السابق، هذه الرواية: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ وفي ذلك الوقت كان علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، قالوا: أنت؟ قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني من أشجع الناس؟ يعني: أنا شجاع لكن هناك من هو أكثر شجاعة مني، فقال الناس: لا نعلم، فمن؟ قال علي: أبو بكر، شيء غريب جداً، من كل الصحابة اختار أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليكون أكثر الناس شجاعة في رأي علي بن أبي طالب، فبدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسر لهم قال: إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟ يقول سيدنا علي: فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع علي رضي الله عنه وأرضاه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون. يعني: لأن ذاك رجل يكتم إيمانه، أي: مؤمن آل فرعون، {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28]، والصديق أعلن إيمانه. فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل المشاهد والغزوات بما في ذلك أحد وحنين، حيث فر معظم القوم، ولم يبق معه إلا القليل، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هؤلاء القليل. وهنا شيء مهم: شرط الشجاعة في الخليفة يقصد به الشجاعة في القلب والتي تؤدي إلى قرار شجاع غير متردد، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي الشجاع هو أمهر الناس في القتال أو هو أقواهم جسداً، ولكن المراد أن يأخذ القرار الشجاع المناسب في الموقف حتى وإن كان على حساب حياته، ولا يشترط في الخليفة أن يقاتل بنفسه حتى يشترط أن يكون أمهر الناس وأقواهم جسداً، وإن كان أبو بكر كان يقاتل بنفسه أحياناً رضي الله عنه وأرضاه وهو خليفة إذا تطلب الأمر ذلك، ففي حروب الردة خرج في حرب عبس وذبيان بنفسه لما غزوا المدينة المنورة، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وإن كان رجلاً نحيلاً ضعيفاً في بنيته إلا أنه كان أشجع الصحابة، كما في قرار حروب الردة وقرار فتح فارس والروم. نعم هناك من الصحابة من هو أقوى منه جسداً وهناك من هو أمهر منه حرباً ورمياً لكن هذا لا يشترط في الخليفة، إنما يشترط في قائد الجيوش أو الممارس للقتال، لذلك ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على أبي بكر في موقعة ذات السلاسل؛ لأن عمرو بن العاص في هذه الجزئية يتفوق، لكن في شمول معنى القيادة

العلم

العلم هذا بالنسبة لشرط الشجاعة، وأما بالنسبة لشرط العلم فكيف كان حال الصديق؟ الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أعلم الصحابة. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبداً) والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد هذا العبد في الحديث، وقال: (خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله تعالى، فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، يقول أبو سعيد الخدري: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير) يعني: لماذا أبو بكر يبكي؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن عبداً خير)، فلماذا يبكي، يقول أبو سعيد: (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا) فكان أبو بكر هو الوحيد الذي فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد نفسه في هذا الحديث. وكان الصديق لعلمه الغزير يفتي في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: يكون الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً ويفتي الصديق في حضرته، وكانت هذه الخاصية له أساساً وأحياناً لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وليس لغيرهما، سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما أعلم غيرهما. وتعالوا بنا نرى القصة التي حدثت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، روى البخاري رحمه الله عن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله، يعني: يريد أن يأخذه على غرة، حتى يقتله غدراً، قال: فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني فضربت يده فقطعتها، ثم يكمل أبو قتادة الموقف فيقول: ثم أخذني -أي: هذا الرجل المشرك الذي قطعت يده- فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت، ويبدو أنه كان رجلاً شديداً وقوياً، قال: فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت، يعني: خفت على نفسي أن أموت، قال: ثم ترك ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم. وطبعاً هذا كان في أول يوم حنين، قال: فإذا بـ عمر بن الخطاب في الناس رضي الله عنه فقلت له: ما شأن الناس؟ ما الذي حدث؟ لماذا يهربون؟ قال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتصروا، يعني: انتصر المسلمون وهزم المشركون، قال: وبعد الموقعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه) يعني: من يأتي بشاهد على أنه قتل قتيلاً يأخذ هذا السلب الذي للقتيل، قال: فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أر أحداً يشهد لي، فجلست، يعني: لم أتكلم، قال: ثم بدا لي، يعني: قلت: وما المانع أن أتكلم، قال: فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: صدق، يعني: أنا شاهد على هذا الأمر، وسلبه عندي، فأرضه مني، يعني: هناك رجل آخر من المسلمين اعترف أن السلب معه، لكنه يريد أن يأخذه أو يرضيه أبو قتادة بشيء، يعني: السلب هذا عندما أعيده لك تدفع لي أي شيء. وهنا قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وطبعاً لم يطلب أحد منه الكلام، لكنه قام, وكل هذا الكلام أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فهنا قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال في حمية: كلا لا يعطيه أضيبع من قريش -يعني: طائراً ضعيفاً- ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: يستنكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يأخذ الرجل من السلب شيئاً وإن كان معه ولكن يعطى لـ أبي قتادة كاملاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق فأعطه). فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتوى الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو في حضرته. قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: إن أهل السنة اتفقوا على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد. فلماذا هذا العلم الغزير عند الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لعل سبب هذا العلم الغزير وتفوقه على الصحابة هو ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره، فقد كان يجتمع به ليلاً ونهاراً وسفراً وحضراً وما أكثر الأحاديث التي ذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج هو وأبو بكر، أو دخل هو وأبو بكر، أو جلس هو وأبو بكر هكذا. وأيضاً هناك أدلة أخرى كثيرة ع

حسن الرأي

حسن الرأي إذا قال أحد الناس: نعم، إنه كان عالماً أو كان أعلمهم، لكن قد يفوقه آخرون في حسن الرأي وفي استغلال العلم الذي يعلمه. فإننا نرد على ذلك بأن نقول: إن الصديق كان أعظم الصحابة رأياً وأحكمهم في التصرف، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم الاستشارة للصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكان أحياناً يستشيره بمفرده وأحياناً يستشيره مع الصحابة، وكان يميل إلى رأيه دائماً صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك واضحاً في استشارته في أمر قتال المشركين في بدر، وظهر في أمر الأسارى في بدر، وظهر في الحديبية بشكل عجيب لما توافقت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه مع كلمات ورأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. أخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه والطبراني عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر وعمر: (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما). وظهر من حسن الرأي للصديق رضي الله عنه وأرضاه في أيام خلافته ما يعجز البيان عن وصفه، فهناك تفصيلات كثيرة سنتحدث عنها -إن شاء الله- في حلقات حروب الردة، وفي حلقات فتوح فارس والعراق، وفي حلقات فتوح الشام، ونشرح فيها آراء الصديق السديدة واختياراته الحكيمة، ولا يخفى علينا جميعاً ما في حسن اختياره لـ عمر بن الخطاب كخليفة من بعده ما أصلح للأمة أمرها وقوى من شأنها، فالرجل فعلاً يا إخوة مسدد الرأي وعظيم الحكمة، ومن العسير حقاً أن تبحث له عن خطأ في رأي أو في حكم أو في قضية. روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يسرح معاذاً إلى اليمن استشار ناساً من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأسيد بن حضير فتكلم القوم كل إنسان برأيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا معاذ؟ قال معاذ: أرى ما قال أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يكره فوق سمائه أن يُخطأ أبو بكر). وروى ذلك أيضاً ابن أبي أسامة في مسنده بلفظ: (إن الله يكره في السماء أن يُخطأ أبو بكر الصديق في الأرض). وأخرج ذلك الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يكره أن يُخطأ أبو بكر). قال السيوطي: رجاله ثقات. واستدل ابن القيم رحمه الله على فضل الصديق بهذا الحديث، وأضاف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطئ أبا بكر أبداً في حياته إلا مرات قليلة، وهذه المرات كانت في تعبير الرؤيا، وليست في حكم من الأحكام، يعني: في رؤيا عرضت للصديق ففسرها الصديق فبعض التفسيرات للصديق كانت خاطئة. قال ابن القيم: إن المقصود بالتخطيء في الحديث الشريف الذي لا يرضاه الله عز وجل هو تخطيء البشر العاديين من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق، لكن ليس هناك أحد من البشر يعرف يخطئ الصديق في حكم من الأحكام. فأي رجل هذا؟ ومع هذا العلم الغزير والرأي الحكيم إلا أن الصديق رضي الله عنه كان دائم الاستشارة لأصحابه، ولم يكن يعتد برأيه أبداً حتى في قضايا حروب الردة وإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وطبعاً نحن نعرف أن هذا كان رأي الصديق وأصر عليه ونفذه، وإن كان هو صاحب الرأي إلا أنه لم يفعله إلا بعد إقناع الصحابة برأيه، وعلموا جميعاً أن الحق مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وعن ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه نفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءً، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم

الاستخلاف بين التصريح والتلميح

سلسلة الصديق_الاستخلاف بين التصريح والتلميح كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها الإشارة والتلميح إلى استخلاف الصديق رضي الله عنه، ولم يأت استخلافه صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

بعض الأدلة التي تشير إلى خلافة الصديق

بعض الأدلة التي تشير إلى خلافة الصديق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على ذكرك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في الدرس السابق تحدثنا عن المبررات التي من أجلها أجمع الصحابة هذا الإجماع الفريد على اختيار الصديق خليفة للمسلمين، وذكرنا أنه رضي الله عنه كان أفضل الصحابة على الإطلاق بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشهادة جميع الصحابة، وذكرنا شروط الخليفة في الإسلام، وكيف أنها تواترت أعظم ما تكون في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وذكرنا كيف فاق غيره في الشجاعة، وكيف فاق غيره في العلم، وكيف فاق غيره في حسن الرأي، وكيف فاق غيره في العدالة وهكذا. وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه بحق هو الرجل المناسب في المكان المناسب. إذاً: كما ذكرنا في الدرس السابق فإن العقل والحكمة والمنطق كل ذلك كان يؤيد اختيار الصديق دون غيره من الصحابة ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفوق كل ما سبق فإنه كانت هناك رغبة حقيقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وظهرت هذه الرغبة في أحاديث كثيرة، وفي مواقف متعددة، من ذلك: ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، والصحابة كانت تفتح لهم أبواب إلى المسجد النبوي الشريف، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر أن تسد جميع الأبواب إلا باب أبي بكر فقط. قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منه إلى الصلاة بالمسلمين كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته للصلاة بالمسلمين، وكذلك سيفعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحاً وهو: (سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر)، أخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها والطبراني عن معاوية والبزار عن أنس رضي الله عنهم أجمعين. وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي أبا بكر). قال الشافعي تعليقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وفي حديث آخر أخرجه الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال: (بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته فسألته فقال: إلى أبي بكر). هذا الحديث يكاد يكون صريحاً؛ لأن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة. وأيضاً أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه -أي: في مرض الموت الأخير-: ادعي لي أبا بكر وأخاك - عبد الرحمن - حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن) أي: أخاف أن يطالب بالخلافة أحد من المسلمين، (ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فهذا فيه تصريح أشد من رسول صلى الله عليه وسلم. يقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: هذا قد يعتبر نصاً جلياً في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. لكن لماذا لم يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً؟ القصة هذه توضحها رواية أخرى جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، روى أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه

بعض آراء العلماء في أحقية الصديق بالخلافة

بعض آراء العلماء في أحقية الصديق بالخلافة ومن ألطف التعليقات على قضية إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه المسلمين بالصلاة في أثناء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عدي رحمه الله عن أبي بكر بن عياش رحمه الله -وأبو بكر بن عياش من العلماء في زمان الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله- قال: قال لي الرشيد: يا أبا بكر بن عياش! كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟ يعني: يظهر أنه كانت هناك بعض الأمور الغامضة في ذهن الرشيد، فيريد أن يتأكد، فقال: أبو بكر بن عياش رحمه الله: يا أمير المؤمنين! سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون، فقال الرشيد: والله! ما زدتني إلا غماً يعني: أنا لم أكن فاهماً ولكنني بعد سؤالك لم أفهم أكثر، فقال أبو بكر بن عياش: يا أمير المؤمنين: (مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله! من يصلي بالناس؟ قال: مر أبا بكر يصلي بالناس، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله عز وجل) أي: لو أن الله عز وجل يريد غير أبي بكر لأخبر رسوله عن طريق الوحي، ولكن اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر كان اختياراً يرضي الله عز وجل، وسكت المؤمنون بعد ذلك لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعجب ذلك الرشيد رحمه الله وقال: بارك الله فيك. وأيضاً من التعليقات اللطيفة ما علق به أبو الحسن الأشعري رحمه الله على مسألة تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق في الصلاة حيث قال: وتقديمه له -أي: تقديم الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر - أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام، لماذا الأشعري يقول هذا الكلام؟ لأن الصحابة جميعاً علموا هذا الأمر وقبلوا أبا بكر إماماً لهم، وتواتر ذلك عنهم، ثم قال الأشعري رحمه الله: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم؛ لما ثبت في الحديث المتفق على صحته بين العلماء: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) أي: إسلاماً. هذا لفظ الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وفي رواية أخرى: (أكبرهم سناً) بدلاً من (أقدمهم سلماً). ويعلق ابن كثير رحمه الله على كلام الأشعري رحمه الله فيقول: مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، فانظروا كلام العلماء على غيرهم من العلماء، يقول: هذا الكلام من الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. يعني: اجتمعت فيه قراءة القرآن والعلم بالسنة والقدم في الهجرة والقدم في الإسلام والسن الكبير بين المرشحين للخلافة، فرضي الله عن الصديق ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. وتعالوا بنا نرى أيضاً بعض التعليقات اللطيفة من الصحابة والعلماء على استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، تعالوا بنا نرى رأي عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن مسعود قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الترمذي وحسنه وكذلك رواه الإمام أحمد بن حنبل وصححه الألباني عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر)، وهذه إشارة واضحة إلى الاستخلاف أيضاً. ثم قال: (واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه). قال ابن مسعود فيما رواه الحاكم وصححه: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. يقصد اجتماع المسلمين الصالحين على أمر، فإذا اجتمعوا على أمر ورأوه حسناً فهو عند الله حسن، ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود: وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ. ثم يقول عبد الله بن مسعود: وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر. يعني: أن استخلاف أبي بكر الصديق ليس فقط حسناً عند المسلمين بل هو حسن عند الله عز وجل كذلك. وأخرج البيهقي عن الشافعي رحمه الله أ

آراء العلماء حول الآيات والأحاديث التي تشير إلى استخلاف الصديق

آراء العلماء حول الآيات والأحاديث التي تشير إلى استخلاف الصديق انقسم العلماء في رأيهم حول هذه الآيات وحول هذه الأحاديث إلى فريقين: وفي الحقيقة الفريقان ليس بينهما خلاف كبير، فالكل يتفق على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرغب في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولكن الخلاف بينهما في: هل كان ذلك بالنص الجلي الصريح أم بالنص الخفي والإشارة؟ فبعض العلماء مثل ابن حزم الظاهري رحمه الله قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر بالنص الصريح الجلي، واستشهدوا بأحاديث مثل حديث المرأة التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لم تجديني فأتي أبا بكر)، وبقوله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وبحديث الرؤيا التي على القليب، ورؤيا الأنبياء حق، وغير ذلك من الأحاديث. أما الطائفة الأخرى من العلماء فقالت: إن استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق كان بالإشارة والنص الخفي، وليس تصريحاً، وينسب هذا القول إلى الحسن البصري وأحمد بن حنبل وابن تيمية وطائفة كبيرة من أهل الحديث. وهذا هو الرأي الغالب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يصرح فيقول: إذا مت فليكن أبو بكر من بعدي، هكذا بوضوح، فالأمر ليس أمراً ثانوياً في حياة المسلمين حتى يتعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بهذا الأسلوب غير المباشر. إذاً: كانت هناك حكمة نبوية من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصرح بالاستخلاف، وترك الأمر بمجرد الإشارة، وكان هناك رضا من الله عز وجل على هذا التلميح دون التصريح؛ لأن كل أمور الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عن طريق الوحي، فكيف بهذا الأمر الخطير؟ يؤكد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحاً ما جاء في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عند وفاته، روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، -يعني: أبا بكر - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في رأي سيدنا عمر لم يستخلف. ويؤكد على هذا أيضاً ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ وهذا واضح في أنه لم يستخلف، فقالت: أبو بكر إلى آخر الحديث.

سبب عدم تصريح النبي صلى الله عليه وسلم باستخلاف الصديق

سبب عدم تصريح النبي صلى الله عليه وسلم باستخلاف الصديق فإذا كان الحق أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحاً فلماذا لم يصرح صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف واكتفى بالإشارة فقط؟ ولماذا لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أمراً مباشراً بتعيين أبي بكر خليفة؟ وما هي الحكمة في ترك المسلمين دون تصريح باسم الخليفة. وطبعاً الحكمة الإلهية الكاملة وراء هذا الحدث لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولكننا نجتهد في فهم هذا الموقف وفق المعطيات التي معنا، والذي يبدو لي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصرح بذلك حتى يترك المسلمين يدبرون أمرهم في غيابه صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لا يتلقون وحياً، وليس لهم عصمة. فماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الآن بوضوح؟ كانت النتيجة أنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدث في سقيفة بني ساعدة، طيب ما الفائدة من هذا الحوار؟ لقد تعلم المسلمون في هذا الوقت المبكر وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟ وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه المواقف؟ وكيف يمكن قبول وجهات النظر المختلفة؟ وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟ وهي حدود الشرع، وما الذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟ وما هي صفات الخليفة المنتخب؟ وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره؟ ماذا يحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار لهم أبا بكر بالتصريح؟ ما الذي كان سيحدث؟ كان أبو بكر الصديق سيتولى أمور المسلمين إلى أجل ثم يموت، فماذا يفعل المسلمون بعد موته؟ يعني: أن المشكلة ستتأخر فقط؟ وكيف يختارون الخليفة الجديد وليس بين أيديهم رسول يختار لهم؟ الصحابة اكتمل نموهم رضوان الله عليهم أجمعين، وحان الآن وقت الفطام عن الوحي وعن العصمة، وآن لهم أن ينطلقوا في الحياة بالكتاب والسنة دون رسول حي بين أظهرهم، فإذا كان سيكتب على المسلمين أن يختاروا في يوم من الأيام خليفة بمفردهم فليكن هذا الجيل الراقي الرائع التقي الورع العاقل الحكيم من الصحابة هو الذي يختار؛ حتى يعطي القدوة والمثل لمن بعده من الناس. هذا أول أمر يبدو لي في عدم تصريح الرسول عليه الصلاة والسلام في استخلاف أبي بكر. الأمر الثاني الذي ألاحظه: هو أنه لو فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المسلمين فرضاً بالتصريح لكان لازماً عليهم أن يقبلوا به حتى وإن لم ترض نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القوم يخضعون لكلامه عند الاختلاف؛ وذلك لمكانته العظيمة صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم من أنه معصوم صلى الله عليه وسلم. أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جداً أن يحدث اختلاف في الرأي لا يفصل بوحي ولا بعصمة، وهنا سيقول الناس عن الخليفة: هو رجل ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل من المسلمين على المسلمين دون اختيارهم سوف يسبب ضعفاً في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخاباً حقيقياً من شعبه وأتباعه فإنه يعطى قوة لا مثيل لها، والجميع يرضى به، والجميع يجتمع لرأيه، بل والجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله، وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراء والتباس الأمور، بل وقد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أتوا به حقيقة إلى هذا المكان؟ إذاً: الانتخاب الحقيقي الذي قام به المسلمون لـ أبي بكر الصديق أعطى له قوة حقيقية وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطى له شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث ومهما تغير هذا الظرف. ونحن رأينا هذا الأمر في حياة الصديق أكثر من مرة؛ فكم من الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كان من الممكن ألا تلقى هوى في قلوب الناس أو اقتناعاً في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم وعلى بصيرة وثقة في إمكانياته وإيماناً بقدراته فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة أو ضجر أو تقصير في الاتباع. الأمر الثالث الهام: هو كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرض أبا بكر فرضاً على الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسي قاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحاً من ورائه لكانت سنة قد تطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفة مهما كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خير القرون وأنه ستأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فلو جعل الأمر في يد رجل واحد يستخلف رجلاً آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل الجهل وعوامل عدم الدراية في الاختيار، ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو صلى الله عليه وسلم بعدم استخلافه ق

معنى الأحاديث التي تشير إلى استخلاف الصديق

معنى الأحاديث التي تشير إلى استخلاف الصديق وهنا وقفة و Q هل كانت كل هذه الإشارات والمواقف والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة، أم أن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟ والإجابة على هذا الأمر هي: أن الأمرين معاً كانا مقصودين: الأمر الأول: حفظ حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لفضله ومكانته وقدراته وكفاءاته، ولا يجب أن يولى غيره في وجوده. الأمر الثاني وهو الهام جداً: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون غيره من الناس. فكان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها؛ وذلك لأسباب عديدة أذكر منها ثلاثة: أولاً: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التغيير في نمط الحياة في الإدارة والمعاملة قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس والتخبط وعدم توقع خطوات المستقبل، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه لطول صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقدم العشرة من أول ما نزلت الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم ومروراً بفترة مكة والهجرة وكل المشاهد والغزوات في المدينة لكل هذا كان يعرف كل دقائق حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته. وبالذات أن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سبباً في كثرة اللقاءات بينهما، حتى إنه كثيراً ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء ليتبادل معه الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع الصديق رضي الله عنه وأرضاه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره. ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء، وفوق هذا الاطلاع على حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن الصديق قد تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره قدر الوسع، ونحن تكلمنا في درس كامل عن اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لخطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: الصديق امتلك الرغبة في الاتباع، وامتلك العلم الذي يؤدي هذه الرغبة، ومن ثم كانت حياته رضي الله عنه وأرضاه تطبيقاً كاملاً لما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن هذا كان رحمة بالأمة. الأمر الثاني: كان اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة للأمة فيه مصلحة كبيرة أخرى وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة وكارثة مروعة وهي مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكارثة انقطاع الوحي، فتحتاج الأمة في هذه المصيبة إلى الرحمة لا الشدة، وإلى الرفق لا العنف، ومن أرحم بالأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لا نقول نحن ذلك بل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)، فرحمة الله عز وجل بهذه الأمة اقتضت أن يتولى أمورها أرحمها وهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه. الأمر الثالث: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضاً أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتاً وأرسخهم قدماً فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالاً عظاماً وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيراً من التجمعات والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم، فمن يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟ ومن أشد الصحابة ثباتاً وعزيمة؟ ومن أكثرهم يقيناً في وعد الله بالنصر؟ ومن أعظم الصحابة غيرة على الدين؟ إنه الصديق ولاشك في ذلك. فقد ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتاً في كل المواقف والمشاهد والأهوال، وظل ثابتاً في الردة، وظل ثابتاً أمام فارس، وظل ثابتاً أمام الروم، ما لانت له عزيمة وما اهتز له جفن. روى البيهقي بسند صحيح -كما ذكر ابن كثير رحمه الله- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله! الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله، ثم قالها الثانية، ثم قالها الثالثة، يعني: كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له: مه يا أبا هريرة؟! ومه كلمة تقال للزجر عن الشيء، يعني: أكثرت، وكفاك ما قلته، إنه لقول عجيب، فأخذ أبو هر

شبهات حول استخلاف الصديق

سلسلة الصديق_شبهات حول استخلاف الصديق جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه خصال الخير كلها، لذا كان أحق الناس وأجدرهم بالخلافة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحاقدين على الإسلام حاولوا الطعن في الإسلام بالطعن في الصديق واستخلافه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

الصديق هو الرجل الأمثل للخلافة

الصديق هو الرجل الأمثل للخلافة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فمع الدرس الحادي عشر من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وما زلنا نتحدث عن الحدث الهام الذي تم في ذات اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو انتخاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للمسلمين، ذكرنا في الدرس السابق رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه، وإن كان لمح بذلك تلميحاً قوياً، وأعرض عن التصريح المباشر، وذكرنا أسباب ذلك. وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه جمع كل مقومات الخلافة، وكان أكثر المستحقين لهذا المنصب الخطير في الأمة الإسلامية، فقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه بحق أفضل الصحابة على الإطلاق، وتوافرت فيه كل شروط الخليفة في أعلى درجاتها، وحاز رضا وموافقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان استخلافه بحق رحمة وخيراً لأمة الإسلام، ومع كل هذا فقد كثرت الشبهات التي أثارها بعض الشيعة والمستشرقون حول هذا الاستخلاف، وذكروا أنه قد يكون هناك من هو أحق من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بهذا الأمر.

شبهة أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة من أبي بكر

شبهة أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة من أبي بكر نحن في هذا الدرس سنخصصه بكامله لعرض الشبهات وللرد عليها، ونبتدئ بسؤال هام: إذا لم يكن الصديق رضي الله عنه فمن غيره يكون خليفة للمسلمين؟ وهذا السؤال ليس مجرد طرح نظري لأسماء أخرى، بل هذا سؤال لأن هناك طوائف مختلفة من المتشككين في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد طرحت أسماء أخرى للطعن في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولتشويه الصورة الجميلة للجيل الأول، ولأهداف أخرى كثيرة. وكثير من المستشرقين فعل ذلك، وسار على نهجهم بعض المستغربين من أبناء المسلمين، وكثير من طوائف الشيعة أيضاً فعلت ذلك، ولم يطعنوا في خلافة الصديق فقط، بل طعنوا أيضاً في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وتكاد تنحصر الأسماء المرشحة في شخصين: الأول هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، والثاني: هو سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقد يفكر البعض في عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أما سعد بن عبادة رضي الله عنه زعيم الخزرج فقد تحدثنا عن تفصيلات موقفه، ولماذا كان مرشحاً للخلافة، وكيف نزل الأنصار عن رأيهم بترشيحه، وعادوا بعد ذلك إلى ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكيف بايعوا جميعاً بما فيهم سعد بن عبادة رضي الله عنه. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يطرح اسمه حقيقة من أحد، اللهم إلا من أبي بكر الصديق نفسه يوم السقيفة لما رشحه للخلافة، حيث قال: أنت أقوى مني. فقال عمر: قوتي مع فضلك، والجميع يعلم أن أبا بكر مقدم على عمر، وعمر نفسه كان يقول: والله! لئن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. كما أن الشدة المعروفة عند عمر رضي الله عنه وأرضاه لم تكن مناسبة للأمة وهي خارجة من المصيبة الكبيرة وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: يبقى اسم واحد هو محل كلام ونقاش وجدال، وهو البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. هذا الصحابي الجليل أشاع كثير من الشيعة أنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والمستشرقون أعجبتهم الفكرة وذكروها في كتبهم على أساس أن الخلافة حق منهوب من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ظهر في أواخر أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه عند اتساع رقعة الإسلام، ودخول الكثير من المغرضين في دين الله، وبدايات الفتنة، ومحاولات هؤلاء المغرضين هدم الإسلام من جذوره وأصوله، حيث دخل في دين الله عز وجل كثير من اليهود والمجوس الذين أرادوا أن يقسموا الدولة الإسلامية إلى طائفتين متناحرتين، ومن الناحية الثانية أرادوا أن يطعنوا في رموز الصحابة جميعاً. وقد يكون عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أشاع بين الناس فكرة التشيع لـ علي بن أبي طالب وأنه أولى بالخلافة، وليس من عثمان فقط، بل ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وكان لـ عبد الله بن سبأ أعوان من قبائل شتى كلها كانت تنقم على الإسلام لأسباب مختلفة، وكثير منهم من أرض فارس من الأقوام الذين أكل الحقد قلوبهم لانهيار دولتهم على أيدي المسلمين، وكان يقود المسلمين أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، وما زالت إلى الآن هذه المغالاة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأكثر طوائف الشيعة اعتدالاً ترى شرعية خلافة الصديق وعمر على سبيل جواز إمامة المفضول للفاضل، أي: أنهم يزعمون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان، لكن يجوز أن يتولى الخلافة الأقل فضلاً في رأيهم. هذا الفكر المتشيع لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لا يقتصر على طوائف الشيعة فقط، بل كما ذكرنا أعجبت الفكرة المستشرقون فذكروها في كتبهم، وأفردوا لها البحوث والتحليلات، وانتقل هذا الفكر إلى طائفة من المسلمين المحسوبين على أهل السنة المتعلمين على أيدي هؤلاء الغربيين، وقد قرأت في هذا الموضوع كتابات يقشعر منها البدن، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من أولئك الذين يطعنون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، وما زال هذا الفكر يدرس إلى الآن في جامعات إسلامية وغربية كثيرة. وهنا سؤال يأتي على الذهن: لماذا اختار عبد الله بن سبأ اليهودي أو غيره ممن ابتدع هذه الفكرة علي بن أبي طالب رضي الله

الرد على فرية أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بن أبي طالب بالخلافة

الرد على فرية أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بن أبي طالب بالخلافة وهناك نقطة أخرى خطيرة: لا شك أن الذين أشاعوا هذه القضية كانوا يعلمون أن حجتهم ليست بالقوية، فهم يطلبون خلافة لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أساس القبلية والقرابة، وهذه مؤهلات غير مقبولة في الشرع، فماذا يفعلون حتى يثبتوا خلافة في غير موضعها؟ لقد بحثوا عن مصداقية أخرى لهذا الأمر، فوجدوها في فرية أخرى ابتدعوها ابتداعاً، تلك الفرية هي الادعاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة من بعده، فعملوا موضوع الوصية المشهور، ونشرت طوائف كثيرة من الشيعة هذه الإشاعة، وأعجبت المستشرقون والعلمانيون حتى درسوها في المدارس والجامعات؛ حتى يوهموا الدارسين أن المخالفات الشرعية بين الصحابة كانت مبكرة جداً، فبمجرد أن مات الرسول عليه الصلاة والسلام بدأ الصحابة يخالفون، هكذا أرادوا. وللأسف وجدت مثل هذه المناهج رواجاً، وما زالت تدرس وبشدة في أكثر من جامعة مسلمة، ووجدت أيضاً كتب كثيرة تتبنى هذا الفكر مع كونه مغايراً للحقيقة تماماً. وللرد على هذه الإشاعة أو الشبهة (شبهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالخلافة) نقول: أولاً: لم يرد بهذه الوصية نقل صحيح، فكل الروايات التي ذكرت هذه الوصية روايات في غاية الضعف، بل هي موضوعة من الأصل، يعني: أنها مؤلفة، ونحن كمسلمين حريصون على ديننا فيجب أن نحرص على أن ننقل الصحيح فقط من الروايات، وبالذات في هذه القضايا الشائكة وهذه الأمور التي يطعن بسببها في صحابي أو أكثر، ومن أراد أن يخرج علينا بفكرة الوصاية فعليه أن يأتي بالدليل الصحيح، وإلا فما أسهل الكلام! النقطة الثانية: إذا كانت هناك وصية معلومة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، للزم أن نفترض أن الصحابة جميعاً اتفقوا على مخالفتها، وطبعاً مخالفة وصية كهذه ستكون مخالفة واضحة صريحة للشرع، فيلزم هنا مرة ثانية أن نتهم الصحابة جميعاً بالمخالفة الشرعية للإسلام، وهذا أمر خطير لا يعقله عاقل. وكيف يمكن أن جيلاً بأكمله يتفق على خلافة رجل وإنكار خلافة رجل آخر، مع وجود الوصية بغير ذلك؟ مع العلم أن أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما كلاهما من قريش، يعني: لا مجال لترجيح واحد على الآخر إن كانت هناك وصية بذلك، وكيف يتفق الأنصار مع القرشيين على علي بن أبي طالب؟ ولماذا الأنصار يختارون سيدنا أبا بكر ولا يختارون سيدنا علياً ويتفقون مع القرشيين على ذلك؟ هذه تساؤلات لا رد عليها عند طوائف الشيعة التي تتبنى فكرة الوصية لـ علي بن أبي طالب، ولن يستطيعوا أن يخرجوا من هذا المأزق إلا بأمر عجيب. ففسقوا وأحياناً كفروا كل جيل الصحابة إلا مجموعة تعد على أصابع اليدين، وهذا من المستحيل أن يستساغ عقلاً فضلاً عن غياب النقل الصحيح بذلك. هذا الموقف في غاية الخطورة، وترتبت عليه نتائج خطيرة، فإن هذه الطوائف الشيعية المتجاوزة قالت: إن كان هؤلاء الصحابة بدلوا وغيروا في أمر خطير كهذا، فكيف يقبل منهم بقية الأمور؟ لذلك قالوا: يجب ألا ينقلوا عنهم حديثاً ولا ديناً ولا تشريعاً ولا فقهاً، فحرموا أنفسهم وأتباعهم من آلاف الأحاديث التي نقلت عن طريق هؤلاء الصحابة. فقالوا: لا نأخذ عن عائشة، ولا نأخذ عن أبي هريرة، ولا نأخذ عن عمر بن الخطاب، ولا نأخذ عن عبد الله بن عمر، ولا نأخذ عن عبد الله بن عمرو، ولا نأخذ عن كل الأنصار. إذاً: أين الدين؟ وأين الشرع الذي تتبعون؟! لا يأخذون إلا ما جاء عن طريق علي بن أبي طالب وعدد محدود جداً لا يزيد عن العشرة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقلون عنهم بواسطة طرقهم الخاصة التي هي في غالبها ضعيفة، بينما يعرضون كلية عن كل الطرق التي قبلها علماء السنة المسلمين؛ لأنهم كما يقولون: نقلوا عن الصحابة الذين تآمروا -في زعمهم- على علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فهؤلاء لا يعترفون بـ البخاري ولا بـ مسلم ولا بسنن أبي داود، ولا بـ الترمذي، ولا بـ النسائي، ولا بـ ابن ماجه، ولا بالإمام أحمد ولا يعترفون بكل أئمة الحديث عند المسلمين. وهذه كارثة وهاوية سحيقة، وضرب للدين في أصوله. النقطة الثالثة: إذا كان هناك فعلاً وصية لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلماذا لم يصرح بها علي بن أبي طالب أو حتى يكتفي بالإشارة أو بالتلميح؟ ألا يعد علي بن أبي طالب هنا كاتماً لما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وإذا كانت هناك وصية لأحد فكتمها فإنه يعد

الرد على شبهة أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا بسورة براءة فيه إشارة إلى استخلافه

الرد على شبهة أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً بسورة براءة فيه إشارة إلى استخلافه وهذه شبهة جديدة قالوها في هذا المضمار أيضاً، قالوا: لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بصورة براءة، ليقرأها على الناس في الحج، ويقطع بها عهود المسلمين معهم، وفي ذلك -كما زعموا- إشارة إلى استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن المعروف أن أمير الحج في هذا الموسم كان أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقالوا: لو لم يكن يقصد أن يستخلف علياً لجعل أبا بكر هو الذي يقطع العهود. وسبحان الله! ما أسخف هذه الشبهة! وما أتفهها! أولاً: نزلت سورة براءة بعد خروج أبي بكر بوفد الحج، وكان أبو بكر هو الأمير، فلما نزلت السورة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من رجاله لم يكن في الحج وهو علي بن أبي طالب، أرسله بالسورة حتى يصل بها إلى الناس المجتمعة في الحج. ثانياً: من عادة العرب أن الذي ينقض عهد رجل لابد أن يكون من قبيلته، فلكي يقطع عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون القاطع لهذا العهد من قبيلته، وهو علي بن أبي طالب. والحديث هنا في موسم الحج ليس للمسلمين فقط؛ حتى يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا ينظر إلى تقاليد العرب في نقض العهود، بل إن الحديث المقصود موجه إلى المشركين في الأساس، ولابد أن يصله إليهم بالصورة التي يقبلونها دون جدال ولا نقاش. ثالثاً: لقد تعلق المغرضون بإشارة خفية في إرسال علي بن أبي طالب وأغفلوا أمراً جلياً واضحاً في ذات القصة، وهو أن علي بن أبي طالب لما جاء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مكة قال له أبو بكر الصديق: أمير أم مأمور؟ فقال علي بن أبي طالب: بل مأمور. فكيف يعتقدون في استخلاف المأمور علي بن أبي طالب ويتركون الأمير أبا بكر الذي يعلم الناس أمور حجهم، والذي يقود الجميع بما فيهم علي بن أبي طالب نفسه؟!! فمن الواضح أن هذه القصة حجة عليهم لا لهم، ولكن: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

الرد على شبهة أن علي بن أبي طالب لم يكن راضيا ببيعة أبي بكر فأخر البيعة

الرد على شبهة أن علي بن أبي طالب لم يكن راضياً ببيعة أبي بكر فأخر البيعة وهنا شبهة أخرى للتأكيد على أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالخلافة: قالوا: إنه لم يكن راضياً على اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولذلك لم يبايعه لمدة ستة شهور كاملة. فنقول: أولاً: هل غضب علي بن أبي طالب رضي الله عنه حقاً، وإن كان غضب فلماذا غضب؟! الحقيقة أن هناك رواية صحيحة في صحيح مسلم تذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها بعد ستة شهور من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وستة شهور من مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ومع ذلك فقد روى ابن حبان وغيره بسند صحيح موصولاً إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن علياً بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه في اليوم الثاني للخلافة. فما تفسير ذلك؟! وكيف نجمع بين الروايتين؟! التفسير الذي يرجحه ابن كثير رحمه الله: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد بايع مرتين: المرة الأولى وفي اليوم الثاني من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وذلك بعد ستة شهور من المبايعة الأولى للصديق رضي الله عنه. أما المبايعة الأولى فهي التي جاءت في رواية الحاكم والبيهقي وابن سعد وابن حبان بسند صحيح كما ذكرنا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صعد المنبر في اليوم الثاني، وهو اليوم الذي كان يوم بيعة الجمهور، فنظر رضي الله عنه في وجوه القوم فلم ير الزبير بن العوام رضي الله عنه، فدعا بـ الزبير فجاء، وكان الزبير في ذلك الوقت في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم يجهزه للدفن، فقال أبو بكر له: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! يعني: أن سيدنا أبا بكر يلوم سيدنا الزبير أنه لم يأت ويبايع سيدنا أبا بكر الصديق كما بايع عامة المسلمين، فقال الزبير بن العوام: لا تثريب -أي: لا لوم- يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقام فبايعه، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علياً فدعا به فجاء، فقال له: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! ختنه يعني: زوج ابنته. فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فبايعه. ففي هذه الرواية التصريح بالمبايعة، فتخلف الزبير وعلي رضي الله عنه عن الحضور في يوم السقيفة وفي اليوم الثاني لأنهما كانا مشغولين بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن، ولما استراب أبو بكر رضي الله عنه لغيابهما، أرسل إليهما يلومهما، فجاءا يعتذران ويبايعان. روى الطبري بأسانيده عن حبيب بن ثابت رحمه الله: أن علياً كان في بيته، فأتى إليه الخبر عن جلوس أبي بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطئ عنه حتى بايعه، ثم جلس إليه، وبعث فأحضر ثوبه وتجلله، ولزم مجلسه. فلماذا كان سيدنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام يشعران بشيء من الغضب أو عدم الرضا بخصوص ما تم في سقيفة بني ساعدة؟ Aلم يكن ذلك لعدم اقتناعهما بـ أبي بكر الصديق أبداً، ولكن لأنهما أخرا عن المشورة، وهما -كما يعلم الجميع- على درجات عالية من الفضل والسبق والرأي. روى الحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام قالا: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة. فهذا تصريح عن سبب الغضب. قالا: وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي. إذاً: كانت هذه هي المبايعة الأولى. وهناك أمر آخر كان مع هذه المبايعة الأولى، كان هناك حدث آخر صاحب هذه المبايعة، وهو طلب السيدة فاطمة رضي الله عنها ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء علي بن أبي طالب يطلب ميراث السيدة فاطمة من أبيها صلى الله عليه وسلم، رفض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال لها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، فوجدت عليه السيد

الرد على من زعم أن الصديق وعمر وأبا عبيدة وعائشة تآمروا على أمر الخلافة

الرد على من زعم أن الصديق وعمر وأبا عبيدة وعائشة تآمروا على أمر الخلافة وسبحان الله! مع فداحة الشبهات السابقة إلا أن سهام المغرضين لا تنتهي. فهذه شبهة جديدة خطيرة أطلقوها بخصوص هذه البيعة للصديق رضي الله عنه، هذا الشبهة الجديدة شنيعة تهدف إلى هدم الإسلام من أساسه، تولى كبرها طائفة من الشيعة، أرادوا الطعن في رموز الإسلام العظيمة بصورة تظهرهم كأسوأ ما يكون الرجال، هذا الشبهة الشنيعة هي: أن الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين قد تآمروا على أمر الخلافة فيما بينهم، وساعدتهم في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها. وحاشا لله من هذه الفرية. يزعمون أنهم جميعاً قد تآمروا على أن يأخذ الصديق الخلافة في بادئ الأمر، ثم يعطيها بعد ذلك لـ عمر بن الخطاب ثم يعطيها عمر لـ أبي عبيدة بن الجراح، لكن أبا عبيدة مات قبل موت عمر، فلم تكتمل أطراف المؤامرة كما يقولون. ويقولون: إن هذا التآمر ساعدت فيه السيدة عائشة بأن ادعت -كما يقولون- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالصلاة إلى أبي بكر، بينما الحقيقة -في زعمهم- أنه أوصى بالصلاة لـ علي بن أبي طالب، وأخفت ذلك السيدة عائشة، وبذلك أوصلت الخلافة إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه. هذا الكلام جاء في كتابات المستشرق هنري لامانس ونقل عنه للأسف بعض المسلمين مثل كتاب غروب الخلافة الإسلامية للأستاذ علي الخربوطلي، فإنه ذكر هذه الفرية بتفاصيلها. وهذا تصوير قبيح وشنيع لأعظم أجيال الإسلام، ولأرقى رموز الإسلام، فإذا كان هؤلاء السابقون على هذه الشاكلة فلا أمل فيمن جاء من بعدهم، وهذا هو بيت القصيد في الشبهة، فليست القضية اتهام رجل أو رجلين، ولكن القضية أعمق من ذلك بكثير، فهي فعلاً هدم لدين الإسلام من جذوره. من جديد نقول: إن هؤلاء الطاعنين يقيسون الأحداث بمقاييس هذا العصر الذي نعيش فيه الآن، ويرون السياسة كما يرونها الآن: مؤامرات ودسائس ومكائد وخداع ونفاق وغش وتحايل، هذه هي السياسة التي يشاهدها الناس، وعلى هذا الأساس يقومون سياسة الإسلام في عهد الخلفاء، وما أدركوا أن الإسلام قدم أروع أنظمة السياسة، وأرقى الأمثلة للتطبيق العملي لهذه القواعد السياسية، فهم لا يتخيلون أن رجلاً نقياً مثل أبي بكر أو عمر يكون رجلاً سياسياً ناجحاً، يقولون: إما أنه رجل صالح وسياسي فاشل، وإما أنه سياسي ناجح ولكنه فشل في مجال الأخلاق. لكن الشواهد تثبت حسن سياستهم، والشواهد أيضاً تثبت قيادتهم الحكيمة ليس لأوطانهم فقط، بل وللأرض جميعاً في زمانهم. إذاً: في عرف العلمانيين والمستشرقين لابد لهؤلاء الساسة الناجحين أن يكونوا متآمرين، هذا ما شاهدوه في الواقع الآن، ولا يتخيلون أن توجد في هذا الماضي هذه الصورة النقية البهية للساسة المسلمين المهرة في سياستهم والأنقياء في قلوبهم، الذين يديرون الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، قال عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، فهذا يعتبر طرازاً أسطورياً بالنسبة للعلمانيين، لكنه حدث في عهد الإسلام، ويتكرر كثيراً في تاريخنا، ليس في عهد الصحابة فقط، ولكن في عصور أخرى كثيرة، وفي أماكن متعددة، ولابد لنا أن نفرغ الأوقات لاستخراج الكنوز الثمينة والرموز العظيمة، وما أكثرها! المهم أن المستشرقين ساروا وراء طوائف الشيعة المبتدعة لهذه الشبهة الخطيرة، شبهة التآمر بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لتبادل أدوار الخليفة، الواحد تلو الآخر، وذلك في زعمهم بمساعدة السيدة عائشة. فتعالوا بنا لنرى هذه المؤامرة المزعومة كيف قيلت، وما هو الرد عليها: الأمر الأول: من هم المتهمون بالمؤامرة؟ ومن هم أعضاء المؤامرة كما يزعمون؟ الأول: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وسبحان الله! أهذا الرجل الذي تحدثنا معه في هذه المحاضرات هو الذي يتآمر على الخلافة؟! أهذا الرجل الذي تحدثنا عن إيمانه وصدقه وورعه ورقة قلبه وسبقه وإنكاره لذاته وثباته هو الذي يتآمر؟! أهذا الرجل الذي كان يتورع عن لقمة واحدة حرام لا يتورع عن أكل حقوق أمة كاملة؟! روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـ أبي بكر الصديق غلاماً يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه. والخراج: شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم، وباقي الكسب يكون للعبد، فجاء هذا الغلام يوماً بشيء فأكل منه

شبهة الطعن في أبي بكر الصديق بسبب ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم

شبهة الطعن في أبي بكر الصديق بسبب ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم هناك قضية أخرى غير هذه الشبهة أثير حولها كلام كثير من كثير من طوائف الشيعة، وأيضاً من المستشرقين، هذه القضية هي قضية ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم. القضية لها علاقة وثيقة بقصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فالقضية من أول أعماله رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة، ونتج عنها بعض المواقف التي أساء المستشرقون وأحبابهم فهمها، واستغلوها في الطعن في عظماء الصحابة. الرسول صلى الله عليه وسلم ترك أرضاً كانت له بالمدينة وفدك وهي قرية خارج المدينة المنورة، وما بقي من خمس خيبر، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ذهب العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان نصيب العباس ونصيب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الصديق رضي الله عنه لهما كما جاء في صحيح البخاري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة، ثم قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، وإني والله! لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال أيضاً في رواية أخرى للبخاري: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به. ثم قال كلمة جميلة، قال: فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ. إنها كلمة جميلة جداً من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كلمة رائعة تلخص فلسفة الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حياته. اللهم! ارزقنا فهماً كهذا الفهم، وعملاً كهذا العمل، وإخلاصاً كهذا الإخلاص. إذاً: أبو بكر الصديق عرف علياً والعباس رضي الله عنه بحكم هام وهو أن الأنبياء لا يورثون درهماً ولا ديناراً، وما تركوه فهو صدقة، أي: في بيت مال المسلمين، وقد شاء الله عز وجل ذلك الأمر، حتى لا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، ولذلك فحياة الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته كانت زهداً وورعاً وبعداً عن الدنيا، وكذلك يكون الحال أيضاً لورثتهم. ولكن هل كان هذا الحكم خافياً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ أبداً لم يكن خافياً عليه هذا الحكم، بل لم يكن خافياً أيضاً على العباس رضي الله عنه، ولم يكن خافياً عن كثير من الصحابة. فقد روي نفس الحديث من طريق أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس والسيدة عائشة وأبي هريرة، كل هؤلاء نقلوا نفس الحديث بنفس الألفاظ. فما هو تفسير طلب علي والعباس رضي الله عنهما الإرث؟ وما تفسير سؤال السيدة فاطمة رضي الله عنها نصيبها من أبيها صلى الله عليه وسلم؟ ولما رفض أبو بكر الصديق إعطاء العباس وعلي رضي الله عنهما من الإرث تشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمد الله ثم قال: إنا نعرف يا أبا بكر! فضيلتك، ثم ذكر علي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم، أي: أنه ما زال يطلب الإرث لزوجته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل من قرابتي. أي: أنه لا يقطع قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقضي بما يراه صواباً، فما تفسير تكرار الطلب من علي رضي الله عنه مع علمه بالحكم؟! ولما رفض أبو بكر الأمر وجدت السيدة فاطمة رضي الله عنها، أي: حزنت وغضبت في نفسها، كما جاء في رواية البخاري، وهجرت الصديق رضي الله عنه فلم تكلمه حتى مرضها الأخير التي ماتت فيه بعد ستة شهور كاملة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تفسير غضبها وهجرانها لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟! وطبعاً المستشرقون والمستغربون والشيعة وجدوا في هذا الموقف مادة ثرية للطعن في كل الصحابة، فمنهم من اتهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بالظلم؛ لأنه حرم السيدة فاطمة من نصيبها في الإرث. ومنهم من اتهم السيدة فاطمة وعلي والعباس بحب الدنيا والسعي وراءها، وبمخالفة الشرع بطلب شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم من ا

دروس من حياة الصديق

سلسلة الصديق_دروس من حياة الصديق إن الناظر في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليجد العجب العجاب؛ فقد كان رضي الله عنه أمة في رجل، وكان أشبه الناس سمتاً ودلاً وهدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت صفاته تشبه صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك وصف ابن الدغنة له بما يوافق وصف خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم.

خطبة الصديق بعد استخلافه

خطبة الصديق بعد استخلافه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم اغفر لنا وارحمنا واهدنا وعافنا وارزقنا واجبرنا وارفعنا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا، اللهم آتنا الحكمة وثبّتنا، واجعلنا هادين مهديين. وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم. أما بعد. فمع الدرس الأخير من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ودروس الصديق رضي الله عنه لا تنتهي، ولكن أقصد أن هذه هي الحلقة الأخيرة في هذه المجموعة مجموعة الصديق الصاحب والخليفة. وقد تحدثنا فيها عن صفات الصديق الرئيسية التي ميزت شخصيته عن الآخرين، وإن كان الحق أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه جمع خلال الخير كلها، وتفوق فيها على غيره، وكان بحق نِعم الصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونِعم الخليفة من بعده. وتحدثنا أيضاً في هذه المجموعة عن مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكوارث التي أحاطت بالمدينة بعد موته صلى الله عليه وسلم، وكيف خرج المسلمون من هذا المأزق العنيف وهم مستمسكون بشرع الله عز وجل ومحتكمون إلى كتابه وإلى سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وتحدثنا أيضاً عن السقيفة وما دار فيها من أحداث وحوارات. وتحدثنا عن أرقى عملية انتخاب على وجه الأرض. وتحدثنا عن مقومات الصديق رضي الله عنه وأرضاه كخليفة، وعن رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلافه وإن كان لمح لذلك ولم يصرّح. وأخيراً تحدثنا عن الشبهات التي آثارتها بعض طوائف الشيعة، وأثارها المستشرقون والمستغربون بعد ذلك، وفصّلنا في الرد عليها قدر المستطاع. وبقيت لنا بعض الأمور المتعلقة بهذا الحدث، ولكن آمل أن تكتمل بها الصورة عند الجميع. وهذه الأمور أربعة: أولاً: الخطبة التي خطبها الصديق رضي الله عنه وأرضاه في اليوم الثاني لمبايعته، وكيف حدد فيها الصديق رضي الله عنه الخطوط العريضة لسياسته في الحكم. ثانياً: خطة المحاضرات القادمة، وكيف سنكمّل الحديث عن بقية الجوانب الهامة في حياة الصديق رضي الله عنه. ثالثاً: سألني بعض الإخوة عن المراجع التي رجعت إليها في هذا البحث، وإن شاء الله ستكون نقطة من نقاط هذه المحاضرة. رابعاً: الدروس المستفادة من هذا الحدث الكبير، أو من هذه المجموعة بصفة عامة. ونبدأ بعون الله وفضله في الأمر الأول وهو خطبة الصديق رضي الله عنه يوم أن بايعه العامة في اليوم الثاني لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذه الخطبة على قصرها وإيجازها كانت بليغة وهادفة جداً، ومحددة لسياسة الصديق رضي الله عنه في الحكم، وشارحة للمسلمين وحكامهم الأصول الصحيحة للحكم في الإسلام والخطبة فعلاً عجيبة، فقد حوت معاني كثيرة جداً في كلمات قليلة جداً، ولذلك فالخطبة أتت في صورة بيان يلقيه زعيم الأمة في يوم استلامه للحكم، تلا فيه قواعد حكمه القاعدة تلو الأخرى. قال الصديق رضي الله عنه في خطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: أما بعد: أيها الناس! فإني قد ولّيت عليكم ولست بخيركم. هذه هي القاعدة الأولى في بيان الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهي المساواة بين جميع أفراد الأمة، وأنه ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، لا فرق بين الحاكم والمحكوم، ولا فرق بين الوزير والجندي، فالكبر مهلك، سواء الكبر في الحاكم أو الهيئة الحاكمة فإنه يُهلك الأمة بكاملها، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف الكبر في الحديث فقال: (الكِبر بطر الحق وغمط الناس) بطر الحق: إنكار الحق، وغمط الناس: احتقار الناس، وانظر إلى قوله عز وجل في كتابه الكريم: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:45 - 47] هذا هو الكبر، فالكِبر: غمط الناس واحتقارهم واستصغار شأنهم، فكانت النتيجة: {فَكَذَّبُوهُمَا} [المؤمنون:48] وهذا هو بطر الحق، أنكروا الحق لأنه أتى من قبل غيرهم، فكانت النتيجة النهائية والمحصلة النهائية للأمة: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48]. فالكبر مهلك، والصديق رضي الله عنه وأرضاه يضع قاعدة هامة لكل من تولى أمراً للمسلمين: لا تتكبر، فها هو أعظم رجال الأمة على الإطلاق بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بشهادة

الأحداث التي وقعت في خلافة الصديق رضي الله عنه

الأحداث التي وقعت في خلافة الصديق رضي الله عنه وبعد هذه الخطبة الجليلة وهذه المبايعة المباركة ستبدأ فترة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، ستبدأ فترة عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معاني، ستبدأ حياة قصيرة جداً في أيامها طويلة جداً في أعمالها، ستبدأ فترة خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والمدة الزمنية لهذه الفترة هي سنتان وثلاثة شهور فقط، أما الأعمال فلا تكفي القرون لأدائها. وطبعاً في هذه المجموعة التي نتحدث فيها الآن من المستحيل أن نشرح كل هذه الأحداث، وقد كان الغرض من هذه المجموعة هو التعريف بـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وبيان مكانته وقدره في المنظور الإسلامي، وكان الغرض منها أيضاً هو شرح ما حدث في سقيفة بني ساعدة وما دار حولها من أحداث، وما ورد على ألسنة المستشرقين والشيعة من شبهات، وكيف يكون الرد عليهم، ولم نتعرض في هذه المجموعة لمعظم الأحداث التي تمت في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وليس هذا بالطبع تقليلاً لها ولكن فقط لضيق الوقت، وقد اتفقت مع الإخوة الأفاضل أن ينظموا عدة لقاءات أخرى لشرح ما تم في عهد الصديق رضي الله عنه وأرضاه من أحداث، وقد اتفقنا على جعل ذلك مقسّماً في ثلاث مجموعات من المحاضرات: المجموعة الأولى سنتحدث فيها عن حروب الردة، وسنحاول في هذه المجموعة أن نجيب على التساؤلات الآتية وغيرها إن شاء الله رب العالمين: لماذا ارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية؟ وما هي الدوافع وراء هذا الارتداد المهول؟ ولماذا اشتهر بيننا أن الردة كانت فقط بمنع الزكاة مع أن مانعي الزكاة كانوا قلة في المرتدين؟ وهل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مخالفاً للشورى عندما قرر الحرب ضد المرتدين ولم ينزل على رغبة عموم الصحابة؟ وإن كان مخالفاً فكيف يخالف؟ وإن لم يكن كذلك فما هو التفسير الصحيح لموقفه؟ ولماذا أخرج الصديق 11 جيشاً إسلامياً في وقت متزامن لحرب المرتدين؟ وهل كانت الحكمة تستلزم ذلك، أم كان من الأفضل أن يُخرج جيشاً قوياً واحداً لحرب فريق من المرتدين، فإذا انتهى منه توجه إلى غيره؟ ومن هم القادة الذين اختارهم الصديق لقيادة هذه الجيوش العديدة؟ وما هو موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة التميمي ومن زوجته؟ وما هي الشبهات التي أُثيرت حول هذا الموقف؟ وما هو الرد عليها؟ وكيف بدأ طليحة بن خويلد حياته مدعياً للنبوة ثم انتهى شهيداً في سبيل الله؟ ومن هو مسيلمة الكذاب؟ وكيف تبعه الناس مع سفاهة كلامه؟ ومن هو الصحابي الذي ارتد وارتد بردته أربعون ألفاً؟ ومن هي سجاح المرأة التي ادعت النبوة؟ وكيف سار وراءها مائة ألف رجل؟ وكيف هُزمت دون قتال؟ وما هو المهر الذي عُرض عليها من مسيلمة ليتزوجها ووصف بأنه أسوأ مهر في التاريخ؟ وما سر هزيمة الجيش الإسلامي الثاني والثالث؟ وكيف انتصر الجيش الإسلامي الأول في معاركه كلها؟ وكيف قُلبت هزيمة الجيش الثاني والثالث إلى انتصار؟ وكيف انتصر الجيش السابع بالدعاء؟ وكيف ثبتت مكة على الإسلام بعد أن كانت على حافة الردة؟ ولماذا لم ترتد القبائل في شمال الجزيرة العربية مع قوتها ورغبتها في الارتداد؟ وما هي دلائل النبوة في ثبات هذه القبائل؟ ومن هو الأسود العنسي؟ وكيف قتل في اليمن؟ وكيف وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في ساعة قتله والمسافة بين المدينة واليمن تزيد عن 1000 كيلو متر؟ وما هي تفاصيل أشرس موقعة في التاريخ الإسلامي موقعة اليمامة؟ وكيف حارب رجل مسلم بمفرده أربعين ألف مرتد؟ ومن هو الفجاءة؟ ولماذا أمر الصديق بحرقه حياً؟ وكيف انتصر الجيش الثامن على مرتدي عمان مع كثرتهم؟ وما هي الحيلة الذكية التي قام بها الجيش التاسع لقمع الردة في حضرموت؟ وكيف أدار الصديق حروب الردة بعبقرية السياسي وبأخلاق الداعية؟ وأخيراً كيف خرجت الأمة الإسلامية من هذه الحروب الضارية أشد قوة وأقوى بأساً وأثبت قدماً؟ وكيف وضعت الأمة الإسلامية أقدامها على أول طريق المجد؟ وكيف ظهر المسلمون كقوة عالمية جديدة لا يثبت أمامها أحد؟ هذه التساؤلات وغيرها سنرد عليها -إن شاء الله- في المجموعة القادمة. المجموعة الثانية من المحاضرات الخاصة بخلافة الصديق رضي الله عنه ستتحدث عن بدء الفتح الإسلامي لدولة فارس الكبرى. وسنتحدث فيها -إن شاء الله- عن العمليات العسكرية الفذة للقائد الإسلامي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، والتي نتج عنها فتح العراق بكامله تقريباً في عام واحد فقط، وسنتحدث فيها عن تفاصيل كل موقعة من المواقع الخمس عشرة التي قادها سيف الله المسلول خالد بن الوليد والذي لم يُهزم في واحدة منها. وسنذكر ما هي الخطة العبقرية التي خطها الصديق

أهم المراجع في سيرة الصديق رضي الله عنه

أهم المراجع في سيرة الصديق رضي الله عنه النقطة الثالثة في المحاضرة: أحد الإخوة كان يسأل عن أهم المراجع التي رجعت إليها في هذا البحث في قضية استخلاف أبي بكر الصديق وفي التعريف بـ أبي بكر الصديق بصفة عامة. وفي الحقيقة المكتبة الإسلامية عامرة بالبحوث القيمة والدراسات الرائعة التي تتحدث عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه وعن بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وكل ما نحتاجه هو أن نفرغ وقتاً مناسباً لدراسة هذه التفصيلات، وأن نعمل بما علمناه عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه. وهذا البحث جاءت فيه آيات قرآنية كثيرة استعنت في تفسيرها غالباً بكتب ابن كثير والقرطبي والظلال، واستعنت ببعض التفاسير الأخرى في مواقف متفرقة. ومن أهم المراجع في هذا البحث الكتب التي شرحت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك أحاديث كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم ومواقف متعددة للصديق رضي الله عنه وأرضاه جاءت في كتب الحديث، جاءت في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن البيهقي وموطأ مالك وغيرها. وأهم الشروح التي رجعت إليها هي فتح الباري في شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر رحمه الله، وهو من أهم المصادر لحياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، مع أن البحث فيه متعب قليلاً ما؛ لأنك تضطر أن تبحث بحثاً كاملاً عن كل الأحاديث التي جاءت في حق أبي بكر الصديق ثم تنظر إلى الشرح في هذه الأحاديث مفرقة بين كل صفحات الكتاب، لكنه من أروع ما كُتب عن الصديق ومن أوثق ما كُتب عن الصديق وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً شرح النووي لصحيح مسلم، وأيضاً عون المعبود في شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي، وأيضاً تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي لـ عبد الرحمن مباركفوري. ومن المراجع الهامة أيضاً في هذا البحث كتاب البداية والنهاية لـ ابن كثير، والكتاب الذي رجعت إليه كان بتحقيق الأستاذ أحمد عبد الوهاب، وكتاب الكامل في التاريخ لـ ابن الأثير، وهناك أيضاً كتاب التاريخ الإسلامي للأستاذ المحقق محمود شاكر رحمه الله، وهو كتاب قيّم يتحدث عن التاريخ الإسلامي من أول عهد الخلفاء وحتى آخر عهد الدولة العثمانية. وأيضاً رجعت إلى كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي، وكتاب منهاج السنة لـ ابن تيمية رحمه الله، وهو كتاب هام في الرد على شبهات الشيعة، كذلك أيضاً كتاب العواصم من القواصم لـ ابن العربي، وهو أيضاً للرد على الشبهات، وهناك أيضاً كتاب للرد على الشبهات وهو كتاب أباطيل يجب أن تُمحى من التاريخ للدكتور إبراهيم شعوط. كذلك استعنت بمجموعة ضخمة من الكتب التي تحدثت عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن هذه الكتب كتاب: أبو بكر الصديق شخصيته وعصره للدكتور الصلابي، وهو كتاب طيب جداً ومنظم ومرتب. ومنها كتاب عبقرية الصديق للعقاد استفدت منه بعض التعليقات على بعض المواقف في حياة الصديق. وأيضاً أخذت بعض التعليقات من كتاب استخلاف أبي بكر للدكتور جمال عبد الهادي. وكذلك استفدت من مجموعة هامة من الكتب التي تحدثت عن حياة الخلفاء الأربعة مثل كتاب: الخلفاء الراشدون للدكتور عبد الوهاب النجار رحمه الله، وكتاب إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري. وأيضاً أخذت ما ذُكر عن الصديق في الكتب التي تحدثت عن عموم الصحابة، مثل كتاب صفة الصفوة لـ ابن الجوزي وكتاب حياة الصحابة للكاندهلوي وغير ذلك من الكتب. وكتب السيرة في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وأهم الكتب التي رجعت إليها من كتب السيرة النبوية الرحيق المختوم للمباركفوري والسيرة النبوية لـ ابن هشام، وكتاب الأساس في السنة، وهذا كتاب في الحقيقة في منتهى الروعة فهو كتاب قيم جداً ومحقق للأستاذ سعيد حوى رحمه الله. بالإضافة إلى كتب الفقه والأحكام حسب الحاجة، مثل كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، ونيل الأوطار للشوكاني. وهناك مواقف أخرى عابرة للصديق أخذتها من كتب الرقائق والأخلاق والعقيدة والسياسة الشرعية وغيرها. هذه كانت أهم المراجع

الدروس المستفادة من سلسلة الصديق

الدروس المستفادة من سلسلة الصديق ونأتي إلى النقطة الرابعة وهي من أهم النقاط في هذه المجموعة بكاملها وهي: الدروس المستفادة من هذه المجموعة، لا شك أن كل الحضور لهم تعليقات كثيرة واستنبطوا دروساً علمية، ودروس الصديق -كما قلنا- لا تنتهي فعلاً، لكن هنا لضيق الوقت فقط أشير إلى بعض الدروس والتعليقات، وأترك المجال لكم للزيادة عليها حسب ما رأيتم، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وينفعكم بما علمناه من حياة هذا الرجل الجبل، ومن دراسة هذا الحدث الجليل، حدث استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقصة سقيفة بني ساعدة. أعددت لكم من هذه الدروس والتعليقات عشرة دروس:

فلاح الأمة ونجاحها في اتباع الكتاب والسنة

فلاح الأمة ونجاحها في اتباع الكتاب والسنة الدرس الأول: لا فلاح ولا نجاح لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إلا باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] وهذا تحذير واضح عن التفريط في أي جزئية من جزئيات الشرع الإسلامي. وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا النهج ولم يخالفوا، ولذلك سبقوا ونجحوا. ولا معنى لاتباع القرآن دون اتباع السنة، فالصحابة ما كانوا يفرقون بين حكم جاء في كتاب الله وحكم جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما دام قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المؤكد أنه لن يتعارض مع القرآن، ومن المؤكد أنه سيكون وحياً من الله عز وجل، قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. فالسنة مفصلة لما أجمله القرآن الكريم، والسنة مقيدة لما أطلقه القرآن الكريم، والسنة شارحة لما خفي عن الناس من أحكام القرآن الكريم، بل وأحياناً تأتي في السنة أحكام ليست في كتاب الله عز وجل، والمسلمون مأمورون باتباعها كاتباع القرآن الكريم تماماً بتمام. وعلى سبيل المثال رأينا في هذه المجموعة اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، رأينا اتباعاً دقيقاً في كل خطوة، ورأينا إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما مع تعارضه مع عقول بعض الصحابة، لكن إذا أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن الخير سيكون في تنفيذه، ورأينا اتباعه لأمره في صلح الحديبية مع اختلاف حسابات البشر عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأينا بعد ذلك كيف كان الخير في ذلك الأمر. ورأينا في السقيفة كيف انصاع الأنصار لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وهو ليس من القرآن، لكن الصحابة ما كانوا يفرقون بين قرآن ولا سنة، فالقرآن والسنة مصدران متكاملان للتشريع، ولو ترك المسلمون أحدهما فإنهم سيضلون لا محالة. جاء في موطأ الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم).

شمول الدين الإسلامي

شمول الدين الإسلامي الدرس الثاني في هذه المجموعة: أن هذا الدين ليس -كما يعتقد البعض- صلاة وصياماً وإيماناً بالله واليوم الآخر فقط، بل الإسلام دين متكامل يهتم بكل جزئية من جزئيات الحياة صغرت أو كبرت فالإسلام فيه شمول عجيب، لا يفسر إلا بكون هذا الدين نزل من لدن عزيز حكيم، وأنه دين يختلف كلية عن تشريعات الأرض والبشر، قال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. جاء في صحيح مسلم أنه دار بين أحد المشركين وبين سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه حوار، وجاء فيه تعجُب المشرك من أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم المسلمين كل شيء حتى دخول الخلاء! هكذا يقول المشرك لـ سلمان الفارسي، وفعلاً الرسول صلى الله عليه وسلم علمهم العقيدة والعبادة والمعاملات بينهم وبين بعضهم، وبينهم وبين الآخرين، وعلمهم القتال، وعلمهم السياسة، وعلمهم التجارة وعلمهم كل فن من فنون الحياة، ثم هو يعلمهم كل شيء في أدق دقائق حياتهم، يعلمهم كيف يكون الرجل في بيته، وكيف يتعامل مع زوجته وأولاده؟ وكيف يتعامل مع والديه وإخوانه وخدّامه؟ وكيف يأكل؟ وكيف يشرب؟ وكيف يغتسل؟ وكيف ينظّف نفسه؟ وكيف يهتم بجسده وهيئته؟ كل هذا أمر لافت للنظر جداً، وقد خاب قوم وخسروا حين قصروا الدين على بعض العبادات فقط وقالوا: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله!! فنقول: أبداً، بل كل شيء في حياتنا يجب أن يكون لله عز وجل {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. ففي هذه المجموعة رأينا كيف اجتمع الصحابة في نضوج كامل ووعي دقيق يدبرون أمر دولتهم ويختارون زعيمهم على طريقة الكتاب والسنة، ويسمعون له ويطيعون بشرط اتباع الكتاب والسنة، ويديرون حياتهم بكاملها في ضوء الكتاب والسنة، هؤلاء الأطهار الذين اشتُهروا بطول القيام والصيام والذكر وقراءة القرآن وجدناهم يحكمون دولتهم، ثم يحكمون الأرض بعد ذلك في حكمة واقتدار، ورأينا هذا الرجل العجيب الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي كان معتاداً على الصيام وعلى عيادة المرضى وعلى شهود الجنائز وعلى إطعام الفقراء رأيناه يقف على المنبر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد أن بايعه الناس يخطب خطبة متوازنة رائعة بليغة حكيمة، يرسم فيها بوضوح خطوط سياسته وبرنامجه في الحكم. ثم وجدناه بعد ذلك يعقد مجالس الحرب، ويسير الجيوش، ويفتح البلدان، ويجمع الخراج، وجدناه يضع الخطط العجيبة والتدابير المحكمة في حروبه مع المرتدين، ثم مع فارس والروم بعد ذلك. وجدناه يهتم ببيت المال وتفيض الخيرات في زمانه على الناس مع كونه في معارك هائلة منذ أن تولى الخلافة وحتى مات، لكنه ترك اقتصاد بلده منتعشاً عظيماً متفوقاً على غيره. وجدناه مع كل هذا التفوق في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد والدعوة والمراسلات والوفود وجدناه لا ينسى أحداً من رعيته. وجدناه ينزل بنفسه ليرعى العجوز العمياء في بيتها، ويكنس حجرتها ويعد طعامها. وجدناه يحلب الشاة للضعفاء. وجدناه ما زال عائداً للمريض متّبعاً للجنازة واصلاً للرحم، مهتماً بأولاده وزوجاته، عطوفاً حنوناً على خدمه فأي شمول؟ وأي كمال؟ وإن كنا رأينا في هذه المجموعة أن الصديق رجل عظيم فأعظم منه ذلك الدين الذي صنع من الصديق صدّيقاً، وأعظم معجزات الإسلام هي بناء الرجال وبناء الأمم، وفي أزمان قياسية ها هي القبائل البدوية المتفرقة والمشتتة والمتحاربة تكون في سنوات معدودات دولة حضارية عظيمة تحكم الأرض بقوانين السماء. فشمول الإسلام وكماله درس لا يُنسى من دروس التاريخ الإسلامي، قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

الشورى في حياة المسلمين

الشورى في حياة المسلمين الدرس الثالث والهام في هذه المجموعة: هو قضية الشورى في حياة المسلمين. والشورى ليست أمراً جانبياً في حياة المسلمين، ولما وصف الله عباده المؤمنين في كتابه كان من صفاتهم الرئيسية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]. وقد رأينا كيف اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة في اجتماع من اجتماعات الشورى الرائعة يقارعون الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، والدليل بالدليل فإذا اجتمعوا على رأي واتفقوا عليه كان هذا الرأي هو رأي الجماعة الذي لا يُتّبع غيره ولا يُعلن سواه. وما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة وقال: لقد اتفقوا على كذا وكذا بينما كان رأيي كذا وكذا، أو قال: رأيي كان صواباً ولم يأخذوا به. فالمسلمون بعد الشورى لا يحدثون جيوباً داخلية داخل صفهم، وما سمعنا عن رجل خرج من السقيفة يقول رأياً مخالفاً لما اتفق عليه المسلمون بعد الشورى، وهذا هو عين الصواب. وأيضاً هناك نقطة أخرى هامة جداً في موضوع الشورى وهي: أن الشورى لا تكون في الأحكام التي جاءت من الله عز وجل أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا فرق هائل بين الديمقراطية والشورى. فالديمقراطية كنظام يقوم على احترام آراء الأغلبية لا شك أنه نظام طيب بهذه النقطة، ويُعتبر من أفضل نظم الحكم في العالم الآن، لكن هناك فارق خطير بينها وبين الشورى وهو المرجعية، فنحن في شرعنا نرجع دائماً إلى الكتاب والسنة، وهم في الديمقراطية يرجعون إلى حكم الشعب فقط، ونحن في شرعنا لا يجوز أن يجتمع الشعب على ما يخالف حكم الله ولا حكم رسوله، وقد رأينا في السقيفة أن الأنصار تم استثناؤهم بالكامل من الترشيح للخلافة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، مع أن الأنصار كانوا يملكون من الحجج والأدلة والبراهين ما يكفي للنقاش والجدال، بل والصراع لشهور وسنوات، ولكن إذا كان الله قال أو إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال فلا مجال إلا للطاعة، ولا مكان للشورى في هذا الرأي. إذاً: درس الشورى في هذه المجموعة من أعظم الدروس المستفادة.

اتباع الشرع سعادة في الدنيا والآخرة

اتباع الشرع سعادة في الدنيا والآخرة الدرس الرابع: هو أن اتباع الشرع لا يضمن سعادة في الآخرة فقط بل يضمن أيضاً سعادة في الدنيا. فأي الشعوب أسعد: الشعب الذي تتصارع فيه الفرق المختلفة على سلطة وحكم وسيطرة، أم هذا الشعب الذي رأيناه في المدينة المنورة وهو يخرج مطمئناً راضياً سعيداً بالاختيار مع أنهم يمرون بكارثة ضخمة وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؟ فاتباع الشرع يورث في القلب اطمئناناً إلى جوار الله عز وجل، وإلى دفاع الله عن المؤمنين، وهذا ولا شك يورث في القلب سعادة. واتباع الشرع يزرع في القلب الرضا بما قسمه الله عز وجل، والرضا بما حكم الله عز وجل، والرضا بما أمر به الله عز وجل، وهذا الرضا لا شك يورث في القلوب سعادة. واتباع الشرع يرسّخ مشاعر الأخوة والألفة والمودة بين المسلمين، ولا شك أن هذا المجتمع المتحاب في الله مجتمع سعيد. واتباع الشرع يكون سبباً في أن تحل البركة؛ البركة في المال، والبركة في الأرض، والبركة في الجيش، والبركة في الأولاد، والبركة في كل الأعمال، فتجد بركات كثيرة تنهمر على الأمة المتمسكة بكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]. أخي في الله! لو رأيت انهياراً في الاقتصاد، وضعفاً في الجيوش، وانحلالاً في الأولاد، وبواراً في الأرض، واحتقاراً من كل صغير وكبير، ومن كل قليل وكثير فاعلم أن هذا عقاب من الله عز وجل، قال عز وجل: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. فطريق النجاح والرفعة والقوة والصدارة في الدنيا واضح ومعروف، قال عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] ماذا يحدث لو عدنا إلى ربنا واستغفرناه على ذنوبنا وتمسكنا بشرعنا؟ هل سيدخلنا ربنا عز وجل الجنة ويمتعنا في الآخرة فقط؟ لا، بل هناك شيء أقرب وجائزة سريعة، قال عز وجل: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:11 - 12] كل هذا في الدنيا، وفوقه وأعظم منه نعيم الآخرة، فما أكرمه من إله! وما أحكمه من شرع!

اختيار الله عز وجل لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم

اختيار الله عز وجل لصحابة نبيه صلى الله عليه وسلم الدرس الخامس: هو أن الله عز وجل كما اختار نبيه محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار هذا الجيل الذي عاصره للصحبة، وعلى قدر هذا الاصطفاء الجليل يجب أن يكون تقديرنا لهذا الجيل، وليس أبداً كما يقول بعض من قل أدبهم وانعدم حياؤهم: هم رجال ونحن رجال! فهم جيل اختاره الله لحمل الأمانة ولتوصيل الرسالة، ولتعليم الأمة ولنشر الدين، فكما اختار الله عز وجل جبريل عليه السلام لينزل بالرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم، واختار الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس بما أراده الله فإنه اختار هؤلاء الأصحاب لكي يسمعوا ويفهموا ويستوعبوا ويتحركوا بهذه الكلمات وهذه الأفعال التي نقلوها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج هذا الجيل كأرقى ما تكون الأجيال، وصُنع هذا الجيل على عين الله عز وجل، فهم ليسوا كغيرهم من البشر. روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) والمد: ملء الكفين، فلو أن أحدنا ينفق مثل جبل أحد من الذهب فإنه لا يساوي إنفاق أحد الصحابة مثل ملء الكفين فقط، هذا قدرهم وهذه مكانتهم. وقال الله تعالى في حقهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وطبعاً ليس من المعقول أننا في هذه العجالة سنوفي حق الصحابة، ولكن إن شاء الله أننا سنخصص محاضرة كاملة في ذكر فضل الصحابة، وسنذكرها في مجموعة الفتنة الكبرى بإذن الله، وأسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذلك.

بيان كون الصديق أعظم الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم

بيان كون الصديق أعظم الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم الدرس السادس: هو أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أعظم رجال هذه الأمة على الإطلاق بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو أعظم أهل الأرض جميعاً بعد الأنبياء، ومن الواضح أننا لم نوف حقه بعد. ومن الواضح أيضاً أن جل المسلمين لا يعرفون كثيراً عن حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد يكون ذلك لقصر مدة حكمه رضي الله عنه، ولكن هذا ليس مبرراً أبداً لغفلتنا عن سيرة حياة هذا العملاق. وقد تعرضنا في هذه المجموعة لجوانب محدودة في حياته رضي الله عنه، ولكنا رأينا فيها العجب، فكيف بنا بعد أن نعلم خطواته في حروب الردة وفارس والشام؟ لا شك أن دراسة تاريخ الصديق وأمثاله من عظماء المسلمين ستضرب أروع القدوات لنا ولأبنائنا من بعدنا، وخاصة أننا في زمان لا تعدو فيه قدوة كثير من أبنائنا على أن تكون لمطرب شرقي أو غربي، أو لكاتب علماني، أو لرجل لا يملك من مقومات النباهة إلا المال. فماذا يعرف أبناؤنا عن الصديق؟ وماذا يعرفون عن عمر وعن عثمان وعن علي رضي الله عنهم أجمعين؟ وماذا يعرفون عن حمزة وعن خالد وعن القعقاع وعن الزبير؟ وماذا يعرفون عن موسى بن نصير وعن يوسف بن تاشفين وعن نور الدين محمود وعن صلاح الدين الأيوبي؟ لا يكفي هنا أن يعرف اسمه وسطراً عن حياته أبداً، بل نريد معرفة كاملة لمناهج هؤلاء في حياتهم، وكيف وصلوا إلى أعلى درجات المجد في الدنيا؟ ونسأل الله عز وجل أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة، ولا شك أن تاريخ هؤلاء الأبطال سيكون خير معين لنا على إصلاح أنفسنا ومجتمعاتنا.

أهمية دراسة التاريخ الإسلامي

أهمية دراسة التاريخ الإسلامي الدرس السابع: دراسة التاريخ بصفة عامة والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة تعتبر من الأساليب التي يتحتم على المسلمين أن يأخذوا بها إذا أرادوا القيام من جديد، وإذا رغبوا في إصلاح ما فسد من أحوالنا. وكما ذكرنا من قبل فإن الله عز وجل جعل قريباً من ثلث كتابه العظيم القرآن قصصاً وتاريخاً، ولا شك أن هذا هو الأسلوب الأمثل لتربية الناس، ولابد أن تشتمل مناهجنا التربوية على جوانب ضخمة من التاريخ، فثلث المناهج يجب أن يكون تاريخاً، ولابد أن نقدمه بصورة شيّقة لطيفة يقبلها الصغير والكبير، ويقبلها الرجل والمرأة، ويقبلها المتخصص والعامي. ولابد أيضاً أن ندرس التاريخ بأسلوب هادف يقوم بالأساس على استخلاص العبرة وعلى تربية الشعوب، قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] فلا يكفي أن نسرد الأحداث سرداً، بل لابد من تحليل كل نقطة، ولابد من استعراض تفاصيل كل موقف، ولابد من الوقوف على المسببات والنتائج، ولابد من ربط التاريخ في أي فترة من فتراته بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، ولابد أيضاً من ربط التاريخ بواقعنا المعاصر، فعندها يصبح التاريخ حياً ينبض يُصبح التاريخ دليلاً يقود إلى المستقبل، ويُصبح التاريخ واقياً من الوقوع في الزلات والعثرات، ويُصبح أيضاً دافعاً للقيام بعد النكبات والسقطات. هذا هو التاريخ الذي نريده، ولا نريد أن نقف في التاريخ على توافه الأمور وسفاسفها، بل نريد التاريخ الذي ينبني عليه عمل، ويستخرج منه عبرة، ويُهتدى بدراسته إلى طريق.

سنة الله عز وجل في وجود أعداء للدين إلى قيام الساعة

سنة الله عز وجل في وجود أعداء للدين إلى قيام الساعة الدرس الثامن: أنه سيظل لهذا الدين أعداء إلى أن تقوم الساعة، وهذه سنة من سنن الله عز وجل، وسيظل الصراع بين الحق والباطل، وسيظل التزييف والتزوير والتحريف والتبديل من أقوى أسلحة الباطل، ولا يُعذر المسلمون الصادقون بالجهل في مثل هذه المواطن. وهذه حرب صريحة معلنة ولا بد من الاستعداد لها، فكما زوروا وحرّفوا لابد أن يوجد من يصحح ويعدل، فتشويه الإسلام يحدث من أول أيام البعثة النبوية الشريفة، فقد قال الكافرون على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أقوالاً ما كانوا هم أنفسهم يصدّقونها، قالوا: ساحر، وقالوا: كاهن، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن كان التوضيح والتعديل والتبيين مسايراً لهذا التزوير، بل ومتفوقاً عليه، فوقف الإسلام على قدميه، ومرت الأيام ودارت دورات التاريخ وظهر من يطعن في نزاهة الصحابة وفي أصول الدين، ظهرت فرق كثيرة ضالة أشاعت أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وتصدى لها من المسلمين علماء أجلاء دافعوا عن الدين، ودافعوا عن رجاله، ثم ظهرت حركة الوضع في الأحاديث النبوية والافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمّد الكذب عليه فظهر علماء الجرح والتعديل، وظهر علم الرجال، ونخلوا الأحاديث نخلاً فصححوا الصحيح، وحسّنوا الحسن، وضعّفوا الضعيف، واستبان المسلمون بذلك أمرهم، واهتدوا إلى الصراط المستقيم. ثم ها هي حملة الاستشراق وحملة العلمانية وحملة الجهّال الذين يتكلمون في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ها هي تتناول تاريخ الإسلام ورجال الإسلام ودين الإسلام بكل ما هو قبيح وشنيع، ولابد للمسلمين الصادقين من وقفة كوقفة أسلافهم، فالدفاع عن تاريخ الإسلام وعن رجال الإسلام دفاع عن الدين، وعلى قدر جهد وفكر وإنفاق وإعداد المحاربين لهذا الدين لا بد أن يكون جهد المسلمين أو يزيد، ليس هذا هو جهد العلماء فقط، بل هو جهد الآباء والمدرسين وأساتذة الجامعات وأئمة المساجد والدعاة إلى الله عز وجل، والمتعلمين بصفة عامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب مبلّغ أوعى من سامع)، وقال: (من كان عنده علم فليظهره، ومن وصل إليه علم فليصل به إلى غيره)، قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].

عظم مقام الخلافة

عظم مقام الخلافة الدرس التاسع: أن مقام الخلافة مقام عظيم. رأينا اهتمام الصحابة بأمر الخلافة بصورة لا يتخيلها العقل، فمصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعظم مصيبة مرت بهم وبأمة الإسلام، ومع ذلك فإن هذه المصيبة على فداحتها لم تثنهم عن اختيار الخليفة في نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل سعيد بن زيد رضي الله عنه: متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة. فانظر إلى فهم سيدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه وقوله: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة. فالفرقة من أشد عوامل انهيار الأمم، وإنها طامة كبرى أن تتفرق الأمة الإسلامية إلى أكثر من ستين جزءاً، فمنذ أن أسقط الغرب واليهود الخلافة العثمانية وهم يزرعون في أعماقنا عن طريق التعليم والإعلام أن التجمع الأمثل للناس لا يكون إلا على أساس القوميات: عربي وكردي وبربري وباكستاني وغيره، ثم العرب: مصري وسوري وسعودي وأردني وفلسطيني وهكذا، والأصل الذي نسيه المسلمون أن التجمع في الإسلام لا يكون إلا على الإسلام. وقد رأينا في هذه المجموعة كيف تجمع المسلمون من قبائل شتى ومناطق مختلفة على رباط واحد فقط، وهو رباط العقيدة والإسلام، مع أنهم كانوا قريبي عهد بجاهلية، وقريبي عهد بقبلية، لكن لا تصلح هذه الأمة بغير هذا، ونحن مع أننا مكثنا قروناً نتجمع على الإسلام إذا بنا نُصاب بغزو فكري في سنوات معدودات فيُهدم في داخلنا صرح بناه الأقدمون بجهد وعرق ودماء. روى الإمام مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه -واللفظ هنا لـ مسلم - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية). قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: إنه مات على صفة أهل الجاهلية من حيث هم فوضى لا إمام لهم، فأهل الجاهلية هكذا فوضى لا إمام لهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن قاتل تحت راية عمّية) (أو عُمّية) والروايتان صحيحتان، قال أحمد بن حنبل رحمه الله يفسّر كلمة عمّية أو عُمّية: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، أي: الرجل الذي لا يدري لأي سبب يقاتل ولأي هدف يقاتل، ثم يكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (ومن قاتل تحت راية عمّية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية) أي: أن القتال للقومية والعصبية والعائلة والقبيلة وليس للإسلام ما الذي سوف يحدث لمن يقاتل من أجل هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقُتل فقتلة جاهلية) نسأل الله العافية، ونسأل الله عز وجل أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

دور التربية في بناء الأمم والشعوب

دور التربية في بناء الأمم والشعوب الدرس العاشر والأخير: دور التربية في بناء الأمم والشعوب. لا أعتقد أن أحداً من الممكن أن يقبل بما حدث في السقيفة إلا إذا كان على درجة عالية راقية من التربية، فالجهد الضخم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل سواء في فترة مكة أو في المدينة لم يصبح هباء منثوراً بموته صلى الله عليه وسلم أبداً، فمعجزة هذا الدين هي بناء الرجال، وليس من السهل أبداً أن يتنازل رجل مثل سعد بن عبادة عن الخلافة وهو يقف في عشيرته وسقيفته ومدينته، وليس من السهل أن يفزع الفاروق من الخلافة فيبعدها عنه إلى الصديق رضي الله عنه، وليس من السهل أن يتمنى الصديق رضي الله عنه أن لو حمل الأمر رجل غيره وكفاه تبعات الأمانة الثقيلة، وليس من السهل أن يتسابق الأنصار على بيعة قرشي، وليس من السهل أن يقبل أهل المدينة جميعاً وأهل الإسلام جميعاً برجل واحد دون اعتراض ولا تمرد. هذا كله نتاج تربية، ولن يأتي هذا من فراغ ولن ينزل عليهم الورع فجأة. وإذا أردنا أن نكون مثلهم فلابد من تربية جيل يعرف قيمة الدنيا ويزهد فيها، ويعلم قيمة الآخرة ويرغب فيها، لابد من تربية جيل يقدم رضا الله عز وجل على هوى نفسه، ويستجيب لشرع الله وإن تعارض مع مصلحته ورأيه، ولابد من تربية جيل يتنازل لأخيه عن أشياء يعتقد أنها قد تكون من حقه لا يتنازل عن ذلك إلا لله، ولا يرغب من وراء ذلك إلا رضا الله وجنته. إن رُبي هذا الجيل فسيصبح أمر الخلافة والصدارة والمجد أمراً يسيراً إن شاء الله، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. كانت هذه دروساً عشرة أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بها، وأن يجعلها في ميزان حسناتنا أجمعين. وختاماً: فوداعاً يا صديق! ووداعاً يا خير الناس! بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وداعاً يا صاحب! وداعاً يا خليفة! فكم من اللحظات السعيدة مرت علي وأنا أقرأ عن الصديق! وكم من الأيام والليالي مرت كدقائق قليلة وأنا أعيش معه في مكة والمدينة! وأكاد أجزم أني أراه وأعرفه، ووالله! يا صديق! إني أحُبك في الله، وأسأل الله أن يجمعنا جميعاً معك في الفردوس الأعلى مع حبيبك وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

كلام علي بن أبي طالب في أبي بكر الصديق رضي الله عنهما

كلام علي بن أبي طالب في أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وأختم كلامنا بكلام قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم مات الصديق رضي الله عنه، يوم ارتجت المدينة لفراقه، ويوم أن أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بيت الصديق مسرعاً باكياً مسترجعاً، ووقف والناس حوله يقول: رحمك الله يا أبا بكر! كنت إلف رسول الله، وأنيسه ومستراحه، وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلاماً، وأخلصهم يقيناً، وأشدهم لله يقيناً، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناءً في دين الله، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه فجزاك الله عن الإسلام أفضل الجزاء، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سمّاك الله في تنزيله صدّيقاً، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، وآسيته حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين عنه قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين، صاحبه في الغار، والمنزّل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسنت الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وهنوا، وكنت -كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله تعالى، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس، كبيراً في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، الغريب والبعيد عندك في ذاك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله فسبقت والله! سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلمنا له أمره، والله! لن يُصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

§1/1