الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها

ابن فارس

مقدمات

مقدمات مقدمة: أحمد بن فارس ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: أحمد بن فارس 1 نشأته: هو أبو الحسينِ أحمدُ بنُ فارِسَ بن زكريا بن محمد بن حبيب الرازي. ولد بقزوين2 ونشأ بهمذان، ودرس بها وعليه اشتغل بديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات، ثم دعاه فخر الدولة البويهي إلى الري ليؤدب ابنه مجد الدولة أبا طالب، فأقام بها قاطنًا، وممن تتلمذ عليه فيها الصاحب بن عباد، أما أساتذته وشيوخه الذين أخذ عنهم فكثيرون ومنهم أبو بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب، وأبو الحسن عليُّ بنُ إبراهيم القَطَّان، وأبو عبد الله أحمد بن طاهر المنجم، وعلي بن عبد العزيز المكي، وأبو عبيد، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. أما علومه فكانت متنوعة شاملة ولا سيما اللغة التي أتقنها وأكثر من التأليف في فروعها المختلفة، وقد أحسن صنعة الشعر، وكان فقيهًا شافعيًّا ويناصر مذهب مالك بن أنس. أما طريقته في النحو فطريقة الكوفيين. وكان ابن فارس جوادًا كريمًا لا يكاد يرد سائلا، حتى إنه كان يهب ثياب جسمه وفرش بيته.

_ 1 ترجمته في: إنباه الرواة: 1/ 29، نزهة الألباء: 219، دمية القصر: 257، يتيمة الدهر: 3/ 402، معجم الأدباء: 1/ 533، وفيات الأعيان: 1/ 118، بغية الوعاة: 1/ 352، تاريخ الأدب العربي بروكلمان: 2/ 265، الأعلام: 1/ 193. 2 تاريخ الأدب العربي بروكلمان: 2/ 265.

توفي ابن فارس في الري سنة 395هـ/ 1005م، وقيل سنة 396هـ، أو 390هـ، أو 396هـ، أو 360هـ، وقد وجد ياقوت الحموي خط ابن فارس على كتاب الفصيح وقد كتبه سنة 391هـ1. مؤلفاته: إنها كثيرة، وتشمل اللغة والحديث والتفسير والأدب والفقه وقد أورد له ياقوت2 طائفة من هذه التصانيف وهي على الشكل الآتي: 1- المجمل. 2- متخير الألفاظ. 3- فقه اللغة. 4- غريب إعراب القرآن. 5- تفسير أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم. 6- مقدمة كتاب دار العرب. 7- حلية الفقهاء. 8- كتاب العرق. 9- مقدمة الفرائض. 10- ذخائر الكلمات. 11- شرح رسالة الزهري إلى عبد الملك بن مروان. 12- كتاب الحجر. 13- سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم. 14- الليل والنهار. 15- العم والخال. 16- أصول الفقه. 17- أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 معجم الأدباء: 1/ 535. 2 معجم البلدان: 1/ 536.

18- كتاب الصاحبي1. 19- جامع التأويل في تفسير القرآن. 20- الثياب والحلى. 21- خلق الإنسان. 22- الحماسة المحدثة. 23- مقاييس اللغة. 24- كفاية المتعلمين في اختلاف النحويين. ولكن بروكلمان أورد طائفة من الكتب تختلف عما ذكره ياقوت في بعض الأسماء وتتفق مع بعضها الآخر ولعله من المفيد أن أذكر ما جاء في تاريخ بروكلمان بتمامه2: 1- المجمل في اللغة. 2- فقه اللغة المسمى بالصاحبي. 3- كتاب الثلاثة في الألفاظ المترادفة. 4- ذم الخطأ في الشعر. 5- نقد الشعر. 6- مختصر سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. 7- مقالة في أسماء أعضاء الإنسان. 8- مقالة "كلا" وما جاء منه فِي كتاب الله تعالى. 9- كتاب الفيروز. 10- كتاب اللامات. 11- جزء من اليشكريات. 12- مقاييس اللغة. 13- الإتباع والمزاوجة. 14- قصص النهار وسحر الليل. 15- تمام فصيح الكلام.

_ 1 هو كتاب فِي فقه اللغةِ، وقد قدمه ابن فارس إلى الصاحب بن عباد، وهو الكتاب الذي نقدمه. 2 تاريخ الأدب العربي 2/ 265، وزاد السيوطي في بغية الوعاة كتابًا هو: الانتصار لثعلب.

16- كتاب المسائل أو فتيا فقه العرب. 17- رسالة أبي عمرو محمد بن سعيد الخطيب. ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن فارس كان يجيد نظم الشعر، ومن شعره1: إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدراهم ومن شعره: وقالوا كيف أنت فقلت خير ... تقضى حاجة ويفوت حاج إذا ازدحمت هموم القلب قلنا ... عسى يومًا يكون لها انفراج ومما قال في همذان: سقى همذان الغيث لست بقائل ... سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرم ما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم ومن شعره: اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه إياك واحذر أن تبيـ ... ـت من الثقات على ثقه وقال قبل وفاته بيومين: يَا ربّ إن ذنوبي قد أحطت بها ... علمًا وبي وبإعلاني وإسراري أنا الموحد لكني المقر بها ... فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري كتابه "الصاحبي": هو كتاب فِي فقه اللغةِ، وقد سماه بالصاحبي نسبة إلى الصاحب بن عباد، وكان ابن فارس قدم الكتاب إليه وأودعه خزانته. أما مضمون الكتاب فيدور حول اللغة العربية، وأوليتها ومنشئها، ثم يبحث في أساليب العرب في تخاطبهم، وفي الحقيقة والمجاز. وقد بدأ الكتاب بباب قرر فيه أن اللغة توقيف وليست اصطلاحا، ثم ذهب في الأبواب التالية يدرس الظواهر اللغوية دراسة فلسفية،

_ 1 معجم الأدباء: 1/ 537.

فيبدأ بتفضيل العربية على ما سواها من اللغات، بعد ذلك مفصلا، مقارنًا بين اللغات مستشهدًا بالقرآن الكريم وبالشعر العربي، وبصور من كلام العرب، وينتقل بعد ذلك إلى دراسة المفردات اللغوية من حيث معانيها المختلفة وطرق استعمالها، وائتلافها واختلافها، فيفرق بين الاسمي منها والحرفي، ويبحث في أصول الأسماء، وما جرى مجراها من الصفات، كما يدرس الحروف المفردة من حيث المعاني ووجوه الاستعمال، والأفعال وأبنيتها إلى ما هناك من أبواب أخرى. وللكتاب قيمة من حيث إنه أضاف إلى مكتبتنا العربية مصدرًا هامًّا من المصادر اللغوية، ولا يستغني عنه عام أو خاص، عالم أو متعلم، ومن هنا كانت عنايتنا بإعادة نشر هذا الكتاب، ولا سيما أنه كان قد نشر لأول مرة في القاهرة سنة 1328هـ، وقد أعيد نشره بعد ذلك، ولكن ما وجدته في تلك النسخ كان يحتاج إلى الضبط والتحقيق، فقمت بضبط نصه، وتخريج آياته وأحاديثه، ونسبت الأقوال والأشعار إلى قائلها، ثم عرفت بالشعراء غير المعروفين، كما أنني فسرت ما رأيته ضروريًّا من غريب الألفاظ والأقوال، ولا أدعي فِي كلّ ذَلِكَ أنني بلغت الغاية، وحسبي أنني حاولت، والعذر إن كنت قد قصرت أو نسيت أو أخطأت. والله من وراء القصد أحمد حسن بسج بيروت: 21 شعبان/ 1417هـ الموافق 1/ 1/ 1997م

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب: الحمد لله وبه نستعين، وصلّى الله تعالى عَلَى محمد وآله. قال الشيخُ أبو الحسينِ أحمدُ بنُ فارِسَ أدام الله تأييده: هَذَا الكتاب "الصاحبي" فِي فقه اللغةِ العربيةِ وسننِ العربِ فِي كلامها. وإنَّما عَنْوَنْتُه بهذا الاسم لأنّي لما أَلَّفْتُه أَوْدعْتُه خزانةَ الصَّاحبِ1 الجليل كافي الكفاة، عَمَرَ اللهُ عِراص العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره، تَجمُّلاً بذلك وتحسُّناً، إذ كَانَ يقبَلَه كافي الكفاة من علم وأدب مَرضِيّاً مقبولاً، وَمَا يَرْذُلُه أَوْ يَنفيه منفيّاً مَرْذولاً، ولأنّ أحسنَ مَا فِي كتابنا هَذَا مأخوذٌ عنه ومُفاد منه. فأقول: إِن لعلم العرب أصلاً وفرعاً: أمَّا الفرعُ فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: "رجل" و"فرس" و"طويل" و"قصير". وهذا هو الَّذِي يُبدأ بِهِ عند التعلُّم. وأمَّا الأصلُ فالقولُ عَلَى موضوع اللغة وأوَّليتها ومنشأها، ثُمَّ عَلَى رسوم العرب فِي مخاطبتها، وَمَا لَهَا من الافْتِنان تحقيقاً ومجازاً. والنّاسُ فِي ذَلِكَ رجلانِ: رجلٌ شُغل بالفرع فلا يَعْرِف غيرَه، وآخَرُ جَمع الأمريْنِ معاً، وهذه هي الرُّتبة العليا، لأن بِهَا يُعلم خطابُ القرآن والسُّنة، وعليها يُعول أهلُ النَّظر والفُتيا، وذلك أن طالبَ العلم العُلويُ يكتفي من سماء "الطويل" باسم الطويل، ولا يَضِيرُه أن لا يعرف "الأشَقَّ"2 و"الأَمقَّ"3 وإن كَانَ فِي علم ذَلِكَ زيادةُ فَضل. وإنَّما لَمْ يَضِره خفاءُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، لأنَّه لا يَكاد يجدُ منه فِي كتاب الله جل ثناؤه

_ 1 هو الصاحب عباد وزير مؤيد الدولة أبي منصور بن بويه، وكانت له صحبة لأبي الفضل الوزير ابن العميد وأخذ عنه الأدب، توفي سنة 385هـ/ 995م. 2 الأشق: من الخيل ما يشتق في عدوه يمينًا وشمالا، أو البعيد ما بين الفروج، والطويل. 3 الأمق: من الخيل الطويل.

شيئًا فيُحْوَج إِلَى علمه؛ ويقل مثله أيضاً فِي ألفاظ رسول الله -صلى الله عَلَيْهِ وسلم- إذ كَانَتْ ألفاظُه -صلى الله عَلَيْهِ وسلم- هي السّهلة العَذْبَة. ولو أنه لَمْ يَعْلم توسُّع العرب فِي مخاطباتها لَعَيَّ بكثير من علم مُحْكَم الكتاب والسنَّة، ألا تسمع قول الله جل ثناؤه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 1 إِلَى آخر الآية? فسِرُّ هَذِهِ الآية في نَطْقها لا يكون بمعرفةٍ غريب اللغة والوَحْشيِّ من الكلام، وإنَّما معرفته بغير ذَلِكَ مما لعلَّ كتابنا هَذَا يأتي عَلَى أكثره بعون الله تعالى. والفرق بَيْنَ معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن مُتَوسِّماً بالأدب لو سُئل عن "الجَزْم والتسويد"2 فِي علاج النوق، فتوقف أَوْ عيَّ بِهِ أَوْ لَمْ يعرفه، لَمْ ينقصه ذَلِكَ عند أهل المعرفة نقصاً شائناً، لأن كلام العرب أكثر من أن يُحصى. ولو قيل لَهُ: هل تتكلم العربُ فِي النّفي بما لا تتكلم بِهِ فِي الإثبات، ثُمَّ لَمْ يعلمه لنَقْصه ذَلِكَ فِي شريعة الأدب عند أهل الأدب، لا أنَّ ذَلِكَ يُرْدد دينه أَوْ يَجُرُّه لمأثم. كما أن مُتوسِّماً للنَّحو لو سُئل عن قول القائل: لَهِنّكِ من عبْسية لوسيمة ... عَلَى هَنَوات كاذبٌ من يقولُها3 فتوقَّف أَوْ فكَّر أَوْ استمْهل, لكان أمرُهُ فِي ذَلِكَ عند أهل الفضل هَيِّناً، لكن لو قيل لَهُ مكان "لَهِنَّكِ" مَا أصل القَسم، وكم حروفه، وَمَا الحروفُ الخمسة المشبَّهة بالأفعال الَّتِي يكون الاسم بعدها منصوباً وخبرُهُ مرفوعاً? فلم يُجب لَحَكِم عَلَيْهِ بأنَّه لَمْ يُشامَّ4 صِناعةَ النحو قط. فهذا الفصلُ بَيْنَ الأمرين. والذي جمعناه فِي مؤلَّفنا هَذَا مفرَّق فِي أصناف العلماء المتقدمين رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء. وإنَّما لَنَا فِيهِ اختصارُ مبسوط أَوْ بسطُ مختصرٍ أَوْ شرحُ مشْكلٍ أَوْ جمعُ متفرقٍ. فأوَّل ذلك:

_ 1 سورة الأنعام: 52. 2 التسويد: دق المسح البالي ليداوى به أدبار الإبل والجزم: ما يحشى به حياء الناقة. 3 البيت في لسان العرب، مادة "هنا" دون نسبة. والهنوات: جمع الهنات وهي الداهية. 4 يشام: من الشم، وقولك: تشاما: شم أحدهما الآخر، وأشم الحروف: أذاقها الضمة أو الكسرة. وأراد أنه لَمْ يعرف صناعة النحو.

باب القول على لغة العرب: أتوقيف أم اصطلاح

باب القول على لغة العرب: أتوقيف، أم اصطلاح؟ أقول: إِن لغة العرب توقيف. ودليل ذَلِكَ قوله جلّ ثناؤه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 1 فكان ابن عبّاس يقول: علّمه الأسماء كلّها وهي هَذِهِ الَّتِي يتعارَفُها الناس من: دابة، وأرض، وسهل، وجبل، وحمار، وأشباه ذَلِكَ من الأمم وغيرها. وروى خُصَيْف عن مُجاهد قال: علمه اسم كلّ شيء. وقال غيرهما: إنما علَّمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علّمه ذرّيته أجمعين. والذي نذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل: لَوْ كَانَ ذَلِكَ كما تذهب إِلَيْهِ لقال: "ثُمَّ عرضهن أَوْ عرضها" فلما قال "عرضهم" عُلم أن ذَلِكَ لأعيان بني آدمَ أَوْ الملائكة، لأن موضوع الكناية فِي كلام العرب يُقال لما يَعقِل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أَوْ عرضهن" قيل لَهُ: إنما قال ذَلِكَ والله أعلم لأنه جَمع مَا يَعقل وَمَا لا يعقل فغلَّب مَا يعقل، وهي سنّة من سنن العرب، أعني باب التغليب. وذلك كقوله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 2 فقال: {مِنْهُمْ} تغليباً لمن يمشي عَلَى رجلين وهم بنو آدم. فإن قال: أفتقولون فِي قولنا: سيف, وحُسام, وعَضب3 إِلَى غير ذَلِكَ من أوصافه أنه توقيف حَتَّى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحاً عَلَيْهِ? قيل لَهُ: كذلك نقول

_ 1 سورة البقرة، الآية: 31. 2 سورة النور, الآية: 45. 3 العضب: السيف القاطع.

والدليل عَلَى صِحَّة مَا نذهب إِلَيْهِ إجماعُ العلماء عَلَى احتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فِيهِ أَوْ يتفقون عَلَيْهِ، ثُمَّ احتجاجهم بأشعارهم، ولو كَانَتْ اللغة مُواضَعَةً واصطلاحاً لَمْ يكن أولئك فِي الاحتجاج بهم بأولى منا فِي الاحتجاج لَوْ اصطلحنا عَلَى لغة اليوم ولا فرق. ولعلَّ ظاناً يظن أن اللغة الَّتِي دلَلنا عَلَى أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وَفِي زمان واحد. وَلَيْسَ الأمر كذا، بل وقّف الله جلَّ وعزَّ آدمَ عليه السلام عَلَى مَا شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إِلَى علمه فِي زمانه، وانتشر من ذَلِكَ مَا شاء الله، ثُمَّ علَّم بعد آدم عليه السلام من عرَب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً مَا شاء أن يعلمه، حَتَّى انتهى الأمر إِلَى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله جلَّ وعزَّ من ذَلِكَ مَا لَمْ يؤته أحداً قبله، تماماً عَلَى مَا أحسنَه من اللغة المتقدمة. ثُمَّ قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن تعمَّل1 اليوم لذلك متعمِّل وجد من نُقَّاد العلم من ينفيه ويُرده. ولقد بلغنا عن أبي الأسود2 أن أمراً كلمه ببعض مَا أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: "هَذِهِ لغة لَمْ تبلغك" فقال لَهُ: "يَا ابن أخي لا خير لَكَ فيما لَمْ يبلغني" فعرَّفه بلطف أن الذي تكلم بِهِ مختلَق. وخلةٌ3 أخرى أنه لَمْ يبلغنا أن قوماً من العرب فِي زمانٍ يُقارب زمانَه أجمعوا عَلَى تسمية شيء من الأشياء مصطلِحِين عَلَيْهِ، فكنا نَستدِل بذلك عَلَى اصطلاح كَانَ قبلهم. وقد كَانَ فِي الصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم البُلغاء والفُصحاء- النظر فِي العلوم الشريفة مَا لا خفاء بِهِ. وَمَا علِمناهم اصطلحوا عَلَى اختراع لغةٍ أَوْ إحداث لفظةٍ لَمْ تتقدمهم.

_ 1 تعمل: أي تكلف العمل. 2 هو أبو الأسود الدؤلي، أول من اشتغل بعلم النحو بأمر من الإمام عليَّ رضي الله عنه، مات سنة 10هـ. 3 الخلة: الثقبة الصغيرة.

باب القول على الخط العربي وأول من كتب به

باب القول عَلَى الخط العربي وأول من كتب بِهِ: يُروى أن أول من كتب الكتاب العربيَّ والسّريانيّ والكُتُب كلها آدم عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها فِي طين وطبخه. فلما أصاب الأرضَ الغرق وجد كلُّ قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيلُ عليه السلام الكتابَ العربيّ. وكان ابنُ عباس يقول: "أوّلُ من وضع الكتاب العربيّ إسماعِيلُ عليه السلام، وضعه عَلَى لفظه ومَنْطِقه". والرواياتُ فِي هَذَا الباب تكثر وتختلف. والذي نقوله فِيهِ: إن الخطّ توقيف، وذلك لِظاهِر قوله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1 وقال جلَّ ثناؤه: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} 2 وإذا كَانَ كذا فليس ببعيد أن يوَقِّفَ آدمَ عليه السلام أن غيرَه من الأنبياء عليهم السلام عَلَى الكتاب. فأما أن يكون مُخْتَرَع اخترعه من تِلْقاءِ نفسه, فشيءٌ لا تَعْلم صِحته إِلاَّ من خبر صحيح. وزعم قوم أن العرب العاربة3 لَمْ تعرف هَذِهِ الحروف بأسمائها، وأنهم لَمْ يعرفوا نحواً ولا إعراباً ولا رفعاً ولا نصباً ولا همزاً. قالوا والدليل عَلَى ذَلِكَ مَا حكاه بعضهم عن بعض الأعراب أنه قيل لَهُ: أتهمز إسرائيل? فقال: "إني إذن لَرَجُل سوء! " قالوا: وإنّما قال ذَلِكَ لأنه لَمْ يعرف من الهمز إِلاَّ الضغط والعصر. وقيل لآخر: أتجرُّ فلسطين? فقال: "إني إذن لقويٌّ! ". قالوا: وسُمع بعض فصحاء العرب يُنشد: نحن بني عَلْقمةَ الأخيارا

_ 1 سورة العلق: الآية 1-5. 2 سورة القلم، الآية: 1. 3 العرب العاربة: العرب الصرحاء.

فقيل لَهُ: لم نصبت "بني"? فقال: مَا نصبته، وذلك أنه لَمْ يعرف من النّصب إِلاَّ إِسناد الشيء. قالوا: وحكى الأخفش1 عن أعرابي فصيح أنه سُئل أن يُنشد قصيدة عَلَى الدال فقال: وَمَا الدال? وحكي أن أبا حيّة النُّميري2 سُئل أن يُنشد قصيدة عَلَى الكاف فقال3: كفى بالنَّأي من أسماء كافِ ... وَلَيْسَ لِسُقمها إِذ طال شافِ قلنا: والأمر فِي هَذَا بخلاف مَا ذهب إِلَيْهِ هؤلاء ومذهبنا فِيهِ التوقيف فنقول: إن أسماء هَذِهِ الحروف داخلة فِي الأسماء الَّتِي أعلم الله جلَّ ثناؤه أنه علَّمها آدم عليه السلام، وَقَدْ قال جل وعزَّ: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 4، فهل يكون أوّلُ البيان إِلاَّ علم الحروف الَّتِي يقع بِهَا البيان? ولِمَ لا يكون الذي علَّم آدم عليه السلام الأسماء كلّها هو الَّذِي علّمه الألِفَ والباء والجيم والدال? فأما من حُكي عنه من الأعراب, الَّذِين لَمْ يعرفوا الهمز والجرّ والكاف والدال, فإنَّا لَمْ نزعم أن العرب كلها مدراً ووبراً قَدْ عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وَمَا العربُ فِي قديم الزمان إِلاَّ كنحن اليومَ: فما كلٌّ يعرف الكتابة والخطّ والقراءة، وأبو حيّة كَانَ أمس؛ وَقَدْ كَانَ قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخطّ ويقرأ، وَكَانَ فِي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه سلم- كاتبون منهم أمير المؤمنين عليٌّ صلوات الله تعالى عَلَيْهِ وعثمان وزيد وغيرهم. فحدثني أبو الحسن عليُّ بنُ إبراهيم القَطَّان, قال أخبرنا عليّ بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: حدثنا ابن مَهْدِيّ, عن ابن المبارك قال حدثني أبو واثل شيخٌ من أهل اليمن عن هانئ قال: كنت عند عثمان رضي الله تعالى عنه، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاه إِلَى أبي بن كعب فِيهَا "لَمْ يتسنَّ" و"فأمهل الكافرين" و"لا تبديل للخلق" قال فدعا بالدّواة فمحا إحدى اللامين وكتب {لِخَلْقِ اللَّهِ} 5

_ 1 هو أبو الحسن بن سعد المجاشعي بالولاء، النحوي الأديب، البلخي البصري، مات سنة 215. 2 هو الهيثم بن الربيع بن زرارة من بني نمير بن عامر، من شعراء البصرة، مات سنة 183هـ. 3 البيت لبشر بن أبي خازم، وهو شاعر جاهلي، انظر ديوانه: 103، وفيه: وليس لحبها. 4 سورة الرحمن: آية 4. 5 سورة الروم: الآية: 30، وتمامها: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} .

ومحا "فأمهل" وكتب {فَمَهِّلْ} 1 وكتب {لَمْ يَتَسَنَّهْ} 2 ألحقَ فِيهَا هاءً. أفيكون جهلُ أبي حيّة بالكتابة حُجةً عَلَى هؤلاء الأئمة? والذي نقوله فِي الحروف هو قولنا فِي الإعراب والعروض. والدليل عَلَى صِحة هَذَا وأن القوم قَدْ تداوَلوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحُطَيْئة3 الَّتِي أوّلها: شاقَتْكَ أظعانٌ لِلَيلَى ... دون ناظرة بواكر4 فَنَجِدُ قوافيها كلَّها عند الترنُّم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علمُ الحطيئة بذلك لأشبهَ أن يختلف إعرابُها، لأن تساويها فِي حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون. فإن قال قائل: فقد تواترت الرّوايات بأن أبا الأسود5 أولُ من وضع العربية، وأن الخليل6 أول من تكلم فِي العروض. قيل لَهُ: نحن لا ننكر ذَلِكَ، بل نقول إن هذين العِلْمَين قَدْ كانا قديماً وأتت عليهما الأيام, وقلاّ فِي أيدي الناس، ثُمَّ جددهما هذان الإمامان، وَقَدْ تقدم دليلنا فِي معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل عَلَى أنه كَانَ متعارفاً معلوماً اتفاقُ أهل العلم عَلَى أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا أَوْ من قال منهم: "إنه شعر" فقال الوليدُ بنُ المغيرة منكراً عليهم "لقد عرضتُ مَا يقرؤه محمد عَلَى أقراء الشعر8: هزجه ورجزه, وكذا وكذا، فلم أرَه يشبه شيئاً من ذلك" أفيقول الوليدُ هَذَا، وهو لا

_ 1 سورة الطارق، الآية: 17، وتمامها: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} . 2 سورة البقرة، الآية: 259، وتمامها: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} . 3 هو جرول بن أوس شاعر مخضرم، كان هجاء، مات سنة 59هـ. 4 ديوان الحطيئة: 31 وفيه: يوم ناظرة. 5 هو أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة 10هـ. 6 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي، عالم في اللغة، والنحو، وواضع علم العروض، مات سنة 162هـ. 7 هو الوليد بن عبد الله بن عمرو، من زعماء قريش وأجوادها في الجاهلية، أدرك الإسلام ولم يسلم، مات سنة 1هـ. 8 أقراء الشعر: قوافيه، والواحد: قرء.

يعرف بحور الشعر? وَقَدْ زعم ناس أنّ علوماً كَانَتْ فِي القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها دَرسَت وجُدّدت منذ زمان قريب، وترجمت وأصلحت منقولة من لغة إِلَى لغة. وليس مَا قالوا ببعيد، وإن كَانَتْ تِلْكَ العلوم بحمد الله وحسن توفيقه مرفوضة عندنا. فإن قال: فقد سمعناكم تقولون: إن العرب فعلت كذا وَلَمْ تفعل كذا، مِن أنها لا تجمع بَيْنَ ساكنين، ولا تبتدئ بساكن، ولا تقف عَلَى متحرك، وأنها تسمي الشخص الواحد الأسماء الكثيرة، وتجمع الأشياء الكثيرة تَحْتَ الاسم الواحد، قلنا: نحن نقول إن العرب تفعل كذا بعدما وطأناه أن ذَلِكَ توقيف حَتَّى ينتهي الأمر إِلَى الموقّف الأول. ومن الدليل عَلَى عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف عَلَى الَّذِي يعلله النحويُّون فِي ذوات الواو والياء والهمز والمدّ والقصر فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو وَلَمْ يصوّروا الهمزة إذَا كَانَ مَا قبلها ساكناً فِي مثل "الخبء" و"الدفء" و"الملء" فصار ذَلِكَ كلّه حجة، وحتى كَرِهَ من العلماء تركَ اتباع المصحف من كَرِهَ. فحدثني عبد الرحمن بن حمدان عن محمد بن الجهم السّمرَّيّ عن الفرَّاء1 قال: "اتباعُ المصحف -إذَا وجدت لَهُ وجهاً من كلام العرب- وقراءةُ القراء أحبّ إليَّ من خلافه" قال: وَقَدْ كَانَ أبو عمرو بن العلاء2 يقرأ: "إِنْ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ"3 ولست أجترئ عَلَى ذَلِكَ. وقرأ: "فَأَصَّدَّقَ وَأَكُون"4 فزاد واواً فِي الكتاب وَلَمْ أستحبّ ذَلِكَ. والذي قاله الفرّاء حَسَن، وما بحسن قول ابن قتيبة5 فِي أحرُف ذكرها، وَقَدْ خالف الكُتَّابُ المصحفُ فِي هَذَا.

_ 1 الفراء: هو يحيى بن زياد النحوي اللغوي الكوفي، مات سنة 207هـ. 2 هو زبان بن عمار، اللغوي النحوي البصري، مات سنة 154هـ. 3 سورة طه, الآية: 63. 4 سورة "المنافقون", الآية: 10. 5 هو عبد الله بن مسلم الدينوري، الكوفي ثم البغدادي الأديب، مات سنة 276هـ.

باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها

باب القول فِي أن لغة العرب أفضلُ اللغات وأوسعُها: قال جلّ ثناؤه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1 فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام، وهو البيان. قال جلّ ثناؤه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2 فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان عَلَى جميع مَا توحَّد بخلقه وتفرَّد بإنشائه، من شمس وقمر ونجم وشجر وغيرِ ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة والنشايا المُتْقَنة. فلمّا خصَّ جلَّ ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ مَن أفْهَم بكلامه عَلَى شرط لغته فقد بَيَّن. قيل لَهُ: إِن كنتَ تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قَدْ يُعرِبُ عن نفسه حَتَّى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قَدْ يدلُّ بإشارات وحركات لَهُ عَلَى أكثر مراده ثُمَّ لا يسمّى متكلماً، فضلا عن أن يُسمَّى بَيِّناً أَوْ بليغاً. وإن أردت أنَّ سائر اللغات تبيّن إبانة اللغة العربية فهذا غَلط، لأنا لو احتجنا أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذَلِكَ إِلاَّ باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرةً، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسمّاة بالأسماء المترادفة. فأين هَذَا من ذاك، وأين لسائر اللغات من السَّعة مَا للغة العرب? هَذَا مَا لا خفاء بِهِ عَلَى ذي نُهيَة3. وَقَدْ قال بعضُ علمائنا حين ذكر مَا للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب فِي القرآن فقال: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم عَلَى أن ينقله إِلَى شيء من الألسنة كما نُقل الإنجيل عن

_ 1 سورة الشعراء، الآية: 192. 2 سورة الرحمن، الآية: 4. 3 النهية: العقل.

السريانية إِلَى الحَبشية والرُّومية وترجمت التوراة والزَّبور وسائرُ كتب الله عزّ وجلّ بالعربية، لأن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} 1 لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: "إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء" وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} 2. فإن قال قائل: فهل يوجد فِي سنن العرب ونظومها مَا يجري هَذَا المجرى? قيل لَهُ: إِن كلام الله جلّ ثناؤه أعلى وأرفع من أن يُضاهى أَوْ يُقابل أَوْ يعارض بِهِ كلام، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام العليّ الأعلى خالق كلّ لغة ولسان، لكنّ الشعراء قَدْ يؤمنون إيماءَ ويأتون بالكلام الَّذِي لو أراد مُريد نقْلُه لاعْتاص3 وَمَا أمكن إِلاَّ بمبسوطٍ من القول وكثير من اللفظ. ولو أراد أن يعبّر عن قول امرئ القيس4: فدع عنك نهبا صيح في حَجَراته بالعربية فضلاً عن غيرها لطال عَلَيْهِ. وكذا قول القائل5: "الظن عَلَى الكاذبِ". و"نِجارُها نارُها"6.

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 59. 2 سورة الكهف، الآية: 11. 3 اعتاص الأمر عليه: اشتد. 4 ديوانه: 146. وعجزه: ولكن حديثًا ما حديث الرواحل 5 هو ابن زيابة التيمي كما في الحماسة: 50. واسمه عمرو بن لأي، ومن بني تيم اللات، شاعر جاهلي. وتمام البيت: أنا ابن زيابة إن تدعني آتك والظنُّ عَلَى الكاذبِ 6 مجمع الأمثال: 2/ 338. ولسان العرب مادة "نور".

و"عَيَّ بالأسْناف"1. و"انْشأِي يُرمَ لكِ". و"هو باقِعة"2. و"قلبٌ لَو رَفع". و"عَلَى يَد فاخْضَمْ". و"شأنك إِلاَّ تركُه مُتفاقم". وهو كثير بمثله طالت لغةُ العرب اللغات. ولو أراد معبرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخفاق واليقين والشكّ والظاهر والباطن, والحق والباطل, والمبين والمشكل, والاعتزاز والاستسلام لعيّ بِهِ. والله جلّ ثناؤه أعلم حَيْثُ يجعل الفضل. ومما اختُصت بِهِ لغةُ العرب -بعد الَّذِي تقدم ذكره- قلبهُم الحروف عن جهاتها، ليكون الثاني أخفَّ من الأول، نحو قولهم: "ميعاد" وَلَمْ يقولوا "مِوْعاد" وهما من الوعد، إِلاَّ أن اللفظ الثاني أخفُّ. ومن ذَلِكَ تركهم الجمعَ بَيْنَ السَّاكنَينِ، وَقَدْ تجتمع فِي لغة العجم ثلاث سواكن. ومنه قولهم: "يَا حارِ" ميلاً إِلَى التخفيف. ومن اختلاسهم الحركات فِي مثل3: فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحقِبٍ ومنه الإدغامُ، وتخفيفُ الكلمة بالحذف، نحو"لَمْ يَكُ" و"لَمْ أُبَلْ" ومن ذَلِكَ إضمارهم الأفعال، نحو"امرؤ أتقى الله" و "أمرَ مُبكياتِكِ، لا أمرَ مضْحكاتِكِ". وممّا لا يمكن نقْله البتَّةَ: أوصافُ السيف والأسد والرمح وغير ذَلِكَ من

_ 1 مجمع الأمثال: 2/ 18. وأساس البلاغة مادة "سنف"، ويضرب لمن تحير في أمره. والسناف للبعير بمنزلة اللبب للدابة. وقد سنفت البعير: شددت عليه السناف. 2 مجمع الأمثال: 1/ 96، والباقعة: الداهية. 3 ديوان امرئ القيس: 149. وشطره: إثما من الله ولا واغل

الأسماء المترادفة. ومعلوم أن العَجَم لا تعرف للأسد غير اسم واحد، فأما نحن فنُخرج لَهُ خمسين ومائة اسم. وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال: سمعت أبا عبد الله بن خالَوَيْهِ الهمذاني1 يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحيَّة مائتين. وأخبرني عليُّ بن أحمد بن الصباح قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي2 عن عمه أن الرشيد3 سأله عن شعر لابن حزام العُكْلِيّ ففسره، فقال: "يَا أصمعي، إِن الغريب عندك لغَيْرُ غريب" فقال: "يَا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وَقَدْ حفظتُ للحَجَر سبعين اسماً?", وهذا كما قاله الأصمعي. ولكافي الكفاة4 -أدام الله أيامه وأبقى للمسلمين فضله- فِي ذَلِكَ كتاب مجرد. فأين لسائر الأمم مَا للعرب? ومن ذا يمكنه أن يُعبّر عن قولهم: ذات الزُّمَيْن5، وكَثْرَة ذات اليد6، ويد الدهر7، وتخاوَصَت النجوم8، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ9، ومفاصل القول10، وأتى بالأمر من فصِّه11، وهو رحب العَطَن12، وغَمْرُ الرداء13، ويخْلق ويَفري14، وهو ضيق

_ 1 هو الحسين بن أحمد بن خالويه، لغوي نحوي، له مجالس مع المتنبي في حلب، مات في حلب سنة 370هـ. 2 الأصمعي هو عبد الملك بن قريب لغوي نحوي من علماء البصرة ورواتها، مات سنة 216هـ. 3 هو الخليفة العباسي هارون بن المهدي، خامس الخلفاء العباسيين، مات سنة 193هـ. 4 كافي الكفاة هو الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي، وفاته سنة 385هـ. 5 يقال: لقيته ذات الزمين. والمراد تراخي الوقت. 6 كثرة ذات اليد، أي: كثرة الخير. 7 يقال: لا أفعله يد الدهر، أي: أبدًا. 8 تخاوصت النجوم: أي صغت النجوم للغروب. 9 الفيء: الظل، والخراج. 10 مفاصل القول: أي القول القاطع. 11 آتيك بالأمر من فصِّه: أي من محزه وأصله. 12 يقال: فلان رحب العطن إذا كان واسع الذراع، والعطن في الأصل: مبرك الإبل حول الورد. 13 غمر الرداء: أي واسع الرداء. 14 يقال: يخلق ويفري إذا أتى بالعجب.

المَجَمّ1، قلِق الوَضِين2، رابط الجأش3، وهو ألْوى، بعيد المُسْتَمَرّ4، وهو شراب بِأنقع5، وهو جُذَيْلُها المحكَّك وعُذَيقُها المُرَجَّب6، وَمَا اشبه هَذَا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف والإشارة الدّالة. وَمَا فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب العالي أكثر وأكثر، قال الله جلّ وعزّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 7, و {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} 8، و {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} 9, و {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 10, و {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 11، و {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وهو أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ. وللعرب بعد ذَلِكَ كَلِم تلوح فِي أثناء كلامهم كالمصابيح فِي الدُّجى، كقولهم للجَموع للخير: قَثُوم، وهذا أمر قاتِم12 الأعماق، أسود النواحي، واقتحف13 الشرابَ كلّه، وَفِي هَذَا الأمر مصاعبُ وقُحَم14، وامرأة حييّة قدِعة15، وتَقَادَعوا تقادُعَ الفراش فِي النار، وَلَهُ قَدَم صِدق، وذا أمر أنت أردته ودبّرته، وتقاذَفَتْ بِنَا النَّوى، واشْتَفَّ الشراب، ولك قُرعة هَذَا الأمر خياره، وما

_ 1 ضيق المجم: أي ضيق الذراع، والأصل مجم البئر وهو مجتمع مائها. 2 قلق الوضين: أي بطانها من الهزال. 3 رابط الجأش: أي شديد البأس، والجأش: الصدر. 4 ألوى بعين المستمر، يضرب مثلا للرجل الذي لا يطاق نكارة، انظر جمهرة الأمثال: 1/ 32. 5 شراب بأنقع، يضرب مثلا لمن يعاود الأمر مرة بعد مرة. والأنقع: جمع نقع وهو الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء. انظر مجمع الأمثال: 1/ 360. 6 جزيلها المحكك يضرب للرجل يستشفى بعقله ورأيه، مجمع الأمثال: 1/ 160. والجذل أصل الشجرة. 7 سورة البقرة، الآية: 178. 8 سورة "المنافقون"، الآية: 4. 9 سورة الفتح، الآية: 21. 10 سورة النجم، الآية: 28. 11 سورة يونس، الآية: 23. 12 القاتم: الأغبر يعلوه السواد، وتطلق مجازًا على الأمر الشديد. 13 اقتحف: من القحف، والاقتحاف هو شدة الشرب. 14 يقال: قحم في الأمر: رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية. وقحم الطريق: مصاعبه. 15 المرأة القدعة: المرأة القليلة الكلام الحيية، والتقادع: التتابع في الشيء، والتهافت.

دخلت لفلان قريعة1 بيت، وهو يَبْهَر القرينة إِذَا جاذبته، وهم عَلَى قرو واحد أي طريقة، وهؤلاء قَرَابينُ الملك، وهو قشع إِذَا لَمْ يثبت عَلَى أمر، وقشبه بقبيح لطخه وصبي قصِع لا يكادُ يشبّ، وأقلت مَقاصِرُ الظلام، وقطَّع الفرسُ الخيلَ تقطيعاً إِذَا خلَّفها، وَلَيْسَ أقعَس لا يكاد يبرح، وهو منزول قفر. وهذه كلمات من قرحة2 واحدة، فكيف إِذَا جال الطرف فِي سائر الحروف مجاله? ولو تقصينا ذَلِكَ لجاوزنا الغرض ولما حوته أجلاد وأجلاد.

_ 1 القريعة: سقف البيت. 2 القرحة في وجه الفرس: دون الغرة. وقرحة الشتاء: أوله.

باب القول في لغة العرب وهل يجوز أن يحاط بها

باب: القول في لغة العرب وهل يجوز أن يحاط بها? قال بعض الفقهاء: "كلام العرب لا يحيط بِهِ إِلاَّ نبيّ". وهذا كلامَ حَرِيٌّ أن يكون صحيحاً. وَمَا بلغنا أنّ أحداً ممن مضى ادعى حفْظ اللغة كلِها. فأما الكتاب المنسوب إِلَى الخليل وَمَا فِي خاتمته من قوله: "هَذَا آخر كلام العرب" فقد كَانَ الخليل أورع وأتقى لله جلّ ثناؤه من أن يقول ذَلِكَ. ولقد سمعت عليَّ بن مِهْرُوَيْهِ يقول: سمعت هارون بن هَزاري يقول: سمعت سُفيان بن عُيْينة1 يقول: "من أحبّ أن ينظر إِلَى رجل خُلق من الذّهب والمِسك فلينظر إِلَى الخليل بن أحمد". وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذَلِكَ المَصاحِفِي عن النَّضر بن شُمَيْل2 قال: "كنا نُمَيِّل بَيْنَ ابن عون3 والخليل بن أحمد أيُّهما تقدّم فِي الزّهد والعبادة فلا ندري أيهما تقدم" قال: وسمعت النضر بن شميل يقول: "مَا رأيت أعلم بالسُّنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد" قال: وسمعت النضر يقول: "أُكلت الدنيا بأدب الخليل وكتبه وهو فِي خُصّ لا يشعر به".

_ 1 أبو محمد محدث الحرم المكي، كان حافظًا ثقة واسع العلم، مات سنة 198هـ. 2 أبو الحسن، عالم بالحديث، وبأيام العرب واللغة، توفي بمرو سنة 203هـ. 3 ابن عون: هو أحمد بن عون الله بن حدير بن يحيى القرطبي البزاز، أبو جعفر، محدث رحال، مات سنة 378هـ.

قلنا فهذا مكان الخليل من الدين، أفتراه يُقدم عَلَى أن يقول: "هَذَا آخر كلام العرب؟ ". ثُمَّ أن فِي الكتاب الموسوم بِهِ من الإخلال مَا لا خفاء بِهِ عَلَى علماء اللغة، ومن نظر فِي سائر الأصناف الصحيحة علم صحة مَا قلناهُ.

باب القول في اختلاف لغات العرب

باب القول فِي اختلاف لغات العرب: اختلاف لغات العرب من وجوه: أحدها: الاختلاف فِي الحركات كقولنا: "نَستعين" و"نِستعين" بفتح النون وكسرها. قال الفرَّاء: هي مفتوحة فِي لغة قريش، وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النون. والوجه الآخر: الاختلاف فِي الحركة والسكون مثل قولهم: "معَكم" و"معْكم" أنشد الفرّاء: ومَنْ يتَّقْ فإنّ الله معْهُ ورزق الله مؤتابٌ وغادِ1 ووجه أخر: وهو الاختلاف فِي إبدال الحروف نحو: "أولئك" و"ألالك". أنشد الفرّاء: أُلا لِك قومي لَمْ يكونوا أُشابَةً وهل يعِظُّ الضِّلّيلَ إلا أُلالكا2 ومنها قولهم: "أنّ زيداً" و"عَنّ زيداً". ومن ذَلِكَ: الاختلاف فِي الهمز والتليين نحو: "مستهزءون" و"مستهزُوْن". ومنه: الاختلاف فِي التقديم والتأخير نحو: "صاعقة" و"صاقعة". ومنها: الاختلاف فِي الحذف والإثبات نحو"استحيَيْت" و"استحْيت" و"وصدَدْت" و"أَصْدَدْت". ومنها: الاختلاف فِي الحرف الصحيح يبدلُ حرفًا معتلا نحو: "أما زيد",

_ 1 الخصائص: 1/ 306، 2/ 317، دون عزو. 2 البيت للأعشى كما في شرح المفصل: 10/ 6. ولأخي الكلحبة كما في خزانة الأدب: 1/ 394. وفي نوادر أبي زيد: 154، وسر صناعة الإعراب: 1/ 322.

و"أيْما زيد". ومنها: الاختلاف فِي الإمالة والتفخيم فِي مثل "قضى" و"رمى" فبعضهم يفخم وبعضهم يُميل. ومنها: الاختلاف فِي الحرف الساكن يستقبله مثله، فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم، فيقولون: "اشترَوُا الضلالة" و"اشترَوِ الضلالة". ومنها: الاختلاف فِي التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول "هَذِهِ البقر" ومنهم من يقول "هَذَا البقر" و"هذه النخيل" و"هَذَا النخيل". ومنها: الاختلاف فِي الإدغام نحو: "مهتدون" و"مُهَدُّون". ومنها: الاختلاف فِي الإعراب نحو: "مَا زيدٌ قائماً" و"مَا زيدٌ قائم" و"إنّ هذين" و"إنّ هذان" وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب يقولون لكلّ ياء ساكنة انفتح مَا قبلها ذَلِكَ. وينشدون: تزوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذناه ضربةً ... دَعَتْه إِلَى هابي التراب عقيمِ1 وذهب بعض أهل العلم إِلَى أن الإعراب يقتضي أن يقال: "إِن هذان" قال: وذلك أن "هَذَا" اسم منهوك، ونُهْكهُ أنه عَلَى حرفين أحدهما حرف علة وهي الألف و"ها" كلمة تنبيه ليست من الاسم فِي شيء، فلما ثُنّي احتيج إِلَى ألف التثنية، فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج إِلَى حذف أحديهما فقالوا: إِن حذَفنا الألف الأصلية بقي الاسم عَلَى حرف واحد، وإن أسقطنا ألِفَ التثنية كَانَ فِي النون منها عوض ودلالة عَلَى معنى التثنية، فحذفوا ألف التثنية. فلما كَانَتْ الألف الباقية هي ألف الاسم، واحتاجوا إِلَى إعراب التثنية لَمْ يغيروا الألف عن صورتها لأن الإعراب واختلافه فِي التثنية والجمع إنما يقع عَلَى الحرف الَّذِي هو علامة التثنية والجمع، فتركوها عَلَى حالها فِي النصب والخفض. قال: ومما يدلّ عَلَى هَذَا المذهب قوله جلّ ثناؤه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} 2 لَمْ تحذف النون -وَقَدْ أضيف- لأنه لو حذفت النون لذهب معنى التثنية

_ 1 لسان العرب: "صرع" ونسبه لهوبر الحارثي. وفي خزانة الأدب 7/ 453، شرح شذور الذهب: 61. والهابي: تراب القبر. 2 سورة القصص، الآية: 32.

أصلاً، لأنه لَمْ تكن للتثنية ها هنا علامة إِلاَّ النون وحدها، فإذا حذفت أشبهت الواحد لذهاب علامة التثنية. ومنها: الاختلاف فِي صورة الجمع نحو"أسرى" و"أُسارى". ومنها: الاختلاف فِي التحقيق والاختلاس نحو: "يأمُرُكم" و"يأمُرْكم" و"عفِي لَهُ" و"عفْي لَهُ". ومنها: الاختلاف فِي الوقف عَلَى هاء التأنيث مثل "هَذِهِ أُمَّهْ" و"هَذِهِ أمَّتْ". ومنها: الاختلاف فِي الزّيادة نحو: "أَنْظُرُ" و"أَنظورُ". أنشد الفراء1: الله يعلم أَنَّا فِي تلفُّتنا ... يوم الفراق إِلَى جيراننا صُورُ وأنَّني حَيْثُ مَا يَثْنِي الهوى بَصري ... من حَيْثُ مَا سلكوا أدنو فأنظورُ وكلّ هَذِهِ اللغات مسماة منسوبة إِلَى أصحابها، لكن هَذَا موضع اختصار، وهي -وإن كَانَتْ لقوم دون قوم- فإنها لما انتشرت تَعاوَرَها كلٌّ. ومن الاختلاف: اختلاف التضادِّ، وذلك قول حِمْيَر للقائم "ثبْ" أي اقعد. فحدثنا علي بن إبراهيم القطَّان عن المفسر عن القتيبي عن إبراهيم بن مسلم عن الزبير عن ظَمْياء بنت عبد العزيز بن مَوألة قالت: حدثني أبي عن جدّي موألة أن عامر بن الطُّفيْل2 قدم عَلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَوَثَّبَهُ وِسادة، يريد فرشه إياه وأجلسه عَلَيْهَا. والوِثاب: الفراش بلغة حِمْيَر. قال: وهم يسمّون الملك إِذَا كَانَ لا يغزو "موثَبان" يريدون أن يطيل الجلوس ولا يغزو، ويقولون للرجل "ثب" أي اجلس. وروي أن زيد بن عبد الله بن دارِم وفد عَلَى بعض ملوك حِمْيَر فألْفاه فِي مُتَصَيَّد لَهُ عَلَى جبل مُشْرِف، فسلم عَلَيْهِ وانتسب له، فقال لَهُ الملك "ثب" أي اجلس، وظن الرجل أنه أمره بالوثوب من الجبل فقال: "لتجدني أَيُّها الملك

_ 1 لسان العرب مادة "صور" و"شرى"، والمخصص: 12/ 103، والبيت الأول فقط، وفي الخصائص: 1/ 42 بلا عزو، وبهامشه للحارث بن هشام. 2 شاعر وفارس جاهلي، مات ولم يسلم.

مِطْواعاً" ثُمَّ وثب من الجبل فهلك، فقال: الملك: مَا شأنه? فخبّروه قصته وغلطه فِي الكلمة، فقال: "أما أنه ليست عندنا عربية: من دخل ظَفارِ1 حَمّر" وظفار المدينة الَّتِي كَانَ بِهَا، وإليها ينسب الجَزْع الظفَّاري. من دَخل ظفار فليتعلم الحميرية.

_ 1 ظفار: موضع باليمن قرب صنعاء.

باب القول في أفصح العرب

باب القول فِي أفصح العرب: أخبرني أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم بِقَزْوين، قال: حدثنا أبو الحسين محمدُ بن عباس الخشكي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عُبَيد الله قال: أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم أن قُرَيشاً أفصحُ العرب ألْسنةً وأصْفاهم لغةً. وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً -صلى الله عَلَيْهِ وسلم- فجعل قُريشاً قُطَّان1 حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إِلَى مكة للحج، ويتحاكمون إِلَى قريش فِي أُمورهم. وَكَانَتْ قريش تعلمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بَيْنَهم. ولن تزل العرب تَعرِف لقريش فضلها عليهم وتسمّيها أهل الله لأنهم الصَّريح من ولد إسماعيل عَلَيْهِ السلام، لَمْ تَشُبْهم شائبة، وَلَمْ تنقُلْهم عن مناسبهم ناقِلَة، فضيلةً من الله -جلّ ثناؤه- لهم وتشريفاً. إذ جعلهم رَهط نبيّه الأذْنَيْنَ، وعِتْرته2 الصالحين. وَكَانَتْ قريش، مع فصاحتها وحُسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إِذَا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع مَا تخيّروا من تِلْكَ اللغات إِلَى نَحائرهم3 وسَلائقهم4 الَّتِي طُبعوا عَلَيْهَا. فصاروا بذلك أفصح العرب.

_ 1 قطان: جمع قاطن أي الذي يقيم بالمكان. 2 العترة: نسل الرجل ورهطه، وعشيرته الأدنون ممن مضى وغبر. 3 نحائز: جمع نحيزة، وهي الطبيعة. 4 سلائق: جمع سليقة وهي الطبيعة.

ألا ترى أنك لا تجد فِي كلامهم عَنْعَنَة تَميم, ولا عَجْرفيّة قَيْس, ولا كَشْكَشَة أسَد, ولا كَسْكَسة رَبيعةَ, ولا الكَسْر الَّذِي تسمَعه من أسدَ وقَيْس مثل: "تِعلمون" و"نِعلم" ومثل "شِعير" و"بِعير"?

باب اللغات المذمومة

باب اللغات المذمومة: أما العَنْعَنة الَّتِي تُذكِر عن تَميم فقلبهم الهمزة فِي بعض كلامهم عيناً. يقولون: "سمعتُ عَنَّ فلاناً قال كذا" يريدون "أَنَّ". ورُوي فِي حديث قَيْلَة: "تَحسب عَنِّي نائمةٌ" قال أبو عُبيد: أرادت تَحْسب أني، وهذه لُغة تميم. قال ذو الرمّة1: أَعَنْ ترسَّمت من خرقاء منولة ... ماءُ الصَّبابة من عَيْنيك مَسْجُومُ أراد "أن", فجعل مكان الهمزة عيناً. وأما الكَشْكَشة الَّتِي فِي أسَد فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً فيقولون: "عَلَيْشَ" بمعني "عَلَيْكَ". ويُنشدون2: فَعَيْناشِ عيناها وجيدش جيدُها ... ولَوْنُشِ إِلاَّ أنها غيرُ عاطلِ وقال آخرون: يَصِلون بالكاف شيناً، فيقولون: "عَلَيكِش". وكذلك الكسكَسة الَّتِي فِي رَبيعة إنما هي أن يَصِلوا بالكاف سيناً، فيقولون: "عَلَيْكِسْ". وحدثني عليُّ بن أحمد الصبَّاحيُّ، قال سمعت ابن دُرَيْد3 يقول: حروفٌ لا تتكلم بها العرب إِلاَّ ضرورة، فإذا اضطُرُّوا إِلَيْهَا حوَّلوها عند التكلم بها إِلَى أقرب الحروف من مخارجها. فمن تِلْكَ الحروفِ الحرفُ الَّذِي بَيْنَ الباء والفاء. مثل "بور" إِذَا اضطُروا. فقالوا: "فور".

_ 1 ديوانه: 254. وفيه: خرقاء منزلة. 2 البيت للمجنون، ديوانه: 45 وفيه: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق 3 هو أبو بكر أحمد بن دريد الأزدي، لغوي نحوي راوية، مات سنة 321هـ.

ومثلُ الحرف الَّذِي بَيْنَ القاف والكاف والجيم -وهي لغة سائرة فِي اليمن- مثل: "جَمَل" إِذَا اضطرُّوا قالوا: "كَمَل". قال: والحرفُ الَّذِي بَيْنَ الشين والجيم والياء: فِي المذكر "غُلامِجْ" وَفِي المؤنث "غُلامِش". فأما بنو تميم فإنهم يُلحقون القاف باللَّهاة حَتَّى تَغْلظ جداً فيقولون: "القوم" فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر1: ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت ... ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفولُ وكذلك الياء تجعل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "غُلامِجْ" أي "غلامي". وكذلك الياء المشدَّدة تحوَّل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "بَصرِجّ" و"كُوفِجّ" قال الرَّاجِز2: خالي عويفٌ وأبو عَلِجّ ... المُطْعِمَانِ اللحمَ بالعَشِجِّ وبالغَداةَ فِلَقَ الْبرْنِجِّ ... وكذلك مَا أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف الَّتِي تُحوَّل شيناً. قلنا: أما الَّذِي ذكره ابن دُرَيد فِي "بور" و"فور" فصحيح. وذلك أن بور لَيْسَ من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يُصيّره فاءً. وأما سائر مَا ذكره فليس من باب الضرورة فِي شيء. وأيُّ ضرورة بالقائل إِلَى أن يقلب الكاف شيناً، وهي ليست فِي سجع ولا فاصلة? ولكن هَذِهِ لغات للقوم عَلَى مَا ذكرناه فِي باب اختلاف اللغات. وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل عَلَيْهِ السلام يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها -مع

_ 1 هو أبو الأسود الدؤلي، ديوانه: 353 برواية: ولا أقول لقدر القوم قد غليت ... ولا أقول لباب الدار مغلوق 2 لسان العرب مادة "عجج" و"شجر"، وفي أوضح المسالك: 4/ 372، وشرح شافية ابن الحاجب: 2/ 287. والشاهد في قوله: علج والمقصود "علي"، وقوله: بالعشج والمقصود: "بالعشي"، والبرنج أي البرني.

قول الله جلّ ثناؤه فِي قصة من قال: لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي- وأنهم يُسمُّون الذّيب "القِلوْبَ" مع قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} 1ويسمون الأصابع "الشنَّاتر" وَقَدْ قال الله جلّ ثناؤه: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} 2 وأنهم يسمّون الصَّديق "الخِلْمَ" والله جل ثناؤه يقول: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} وَمَا أشبه هَذَا. فليس اختلافُ اللُّغات قادِحاً فِي الأنساب. ونحن -وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات- فلسنا نُنكر أن يكون لكلّ قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرَب العارِبة، وأن مَن سواهم العرَب المَتَعَرِّبة، وأن إسماعيل عَلَيْهِ السلام بلسانهم نَطق، ومن لغتِهم أخَذَ، وإنَّما كَانَتْ لغةُ أبيه -صلى الله عليه وسلم- العِبرية وَلَيْسَ ذا موضوعَ مفاخَرة فنَستَقصي. ومما يُفسد الكلام ويَعيبُه الخزْمُ ولا نريد بِهِ الخزْمَ المستعمل فِي الشعر، وإنما نريد قولَ القائل3: ولئنْ قومٌ أصابوا غِرَّةً ... وأصِبْنا من زمان رَقَقا لَلَقَدْ كُنَّا لدى أزماننا ... لِشَريجَيْنِ لباسٍ وتُقى فزاد لاماً عَلَى "لقد" وهو قبيح جداً. ويزعُم ناسٌ أن هَذَا تأكيد كقول الآخر4: فَلا والله لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لِلِما بهم أبداً دَوَاءٌ فزاد لاماً عَلَى "لِمَا" وهذا أقبح من الأول. فأما التأكيد فإن هَذَا لا يزيد الكلام قُوة، بل يقبّحه. ومثله قول الآخر5: وصالياتٍ كَكَما يوثفين شوكل ذا من أغالِيطِ من يغلَط، والعرَب لا تعرِفهُ.

_ 1 سورة يوسف، الآية: 13. 2 سورة البقرة، الآية: 19. 3 البيت الثاني في خزانة الأدب: 9/ 258، 11/ 330، ولسان العرب مادة "لقد" دون نسبة. 4 البيت في خزانة الأدب: 2/ 308، 312، 5/ 157، 9/ 528، 534، ونسبته لمسلم بن معبد الوالبي، وفي الإنصاف 2/ 571. 5 مقاييس اللغة مادة "أثف" وبهامشه أنه للخطام المجاشعي.

باب القول في اللغة التي بها نزل القرآن

باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن: وأنه لَيْسَ فِي كتاب الله جل ثناؤه شيء بغير لغة العرب: حدثنا أبو عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال: حدثنا عليُّ بن عبد العزيز عن أبي عُبيد عن شيخ لَهُ أنه سمع الكلبيّ يحدث عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن عَلَى سبعة أحرُف أَوْ قال بسبعِ لغات، منها خمسٌ بلغة العَجْزِ من هَوازن وهم الذين يقال لهم علُيا هَوازن وهي خمس قبائل أَوْ أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر بن مُعاوية وثَقيف. قال أبو عُبيد: وأحسب أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصَح العَرَب مَيْد أني من قريش وأني نشأت فِي بني سعد بن بكر" 1, وَكَانَ مُسْتَرْضَعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العَلاء: أفصح العرب عُليا هَوازِن وسُفْلى تميم. وعن عبد الله بن مسعود أنه كَانَ يَستَحبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضر. وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إِلاَّ غلمان قريش وثَقيف. وقال عثمان: اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف. قال أبو عبيد: فهذا مَا جاءَ فِي لغات مُضر وَقَدْ جاءت لغاتٌ لأهل اليَمن فِي القرآن معروفةٌ. منها قوله جلّ ثناؤه: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} 2 فحدّثنا أبو الحسن علي عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: حدثنا هُشَيْم أخبرنا منصور عن الحسن قال: "كُنا" يقال إنها بالحبشية. وقوله "هَيْتَ لَكَ" يقال إنها بالحوْرانيَّة. قال: فهذا قول أهل العلم من الفُقهاء. قال: وزعم أهل العَربية أن القرآن لَيْسَ فِيهِ من كلام العجَم شيء وأنه كله

_ 1 غريب الحديث: 1/ 96، والنهاية في غريب الحديث: 1/ 171. وميد: بمعنى غير وهي لغة في بيد. 2 سورة الكهف، الآية: 31.

بلسانٍ عربيّ، يتأوَّلون قوله جلّ ثناؤه: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1، وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. قال أبو عبيد: والصواب من ذَلِكَ عندي -والله اعلم- مذهب فِيهِ تصديق القوْلين جميعاً, وذلك أنَّ هَذِهِ الحروف وأصولها عجمية -كما قال الفقهاء- إِلاَّ أنها سقَطَت إِلَى العرب فأعرَبَتها بألسنَتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العجم إِلَى ألفاظها فصارت عربيَّة. ثُمَّ نزل القرآن وَقَدْ اختَلَطت هَذِهِ الحروف بكلام العَرَب, فمن قال: إنها عَرَبية فهو صادق، ومن قال: عجمية فهو صادق. قال: وإنما فسَّرنا هَذَا لئلا يُقدِمَ أحد عَلَى الفقهاء فَيَنْسَبهم إِلَى الجهل، ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا عَلَى كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير مَا أرداهُ الله جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلمَ بالتأويل وأشدَّ تعظيماً للقرآن. قال أحمد بن فارس: لَيْسَ كل من خالف قائلاً فِي مقالته فقد نَسَبه إِلَى الجهل. وذلك أن الصدر الأول اختلفوا فِي تأويل آي من القرآن فخالف بعضهم بعضاً. ثُمَّ خَلَفَ من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم بقولٍ وأخذ بعض بقول، حسب اجتهادهم وَمَا دلَّتهم الدَّلالة عَلَيْهِ. فالقول إذن مَا قاله أبو عبيد، وإن كَانَ قوم من الأوائل قَدْ ذهبوا إِلَى غيره. فإن قال قائل: فما تأويل قول أبي عبيد، فقد أعظم وأكبر? قيل لَهُ: تأويله أنه أتي بأمر عظيم وكبير. وذلك أن القرآن لَوْ كَانَ فِيهِ من غير لغة العرب شيء، لتوهَّم متوهْمِ أن العرب إنما عَجَزت عن الإتيان بمثله لأنه أتي بلغات لا يعرفونها، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ. وإذا كَانَ كذا فلا وجه لقول من يجيز قراءة القرآن فِي صلاته بالفارسية لأن الفارسية ترجمة غير مُعْجِزة. وإنَّما أمر الله جلّ ثناؤه بقراءة القرآن العربي المعجز. ولو جازت القراءة بالترجمة الفارسية لكانت كتُب التفسير والمصنّفات فِي معاني القرآن باللَّفظ العربيّ أولى بجواز الصَّلاة بِهَا، وهذا لا يقوله أحد.

_ 1 سورة الزخرف، الآية: 3. 2 سورة الشعراء، الآية: 195.

باب القول فِي مأخذ اللغة: تؤخذ اللغة اعتياداً كالصبي العربيّ يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم عَلَى مر الأوقات. وتؤخذ تلقُّناً من ملقّن, وتؤخذ سماعاً من الرُّواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظنون. فحدثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَانيّ عن أبيه عن معروف بن حسان عن اللَّيْث عن الخليل قال: إن النَّحارير1 رُبَّما أدخلوا عَلَى الناس مَا لَيْسَ من كلام العرب إرادة اللَّبْس والتَّعْنِيت2. قلنا فَليَتَحرّ آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة. فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد مَا بلغنا. واللهَ جل ثناؤه نستهدي التوفيق، وإليه نرغب فِي إرشادنا لسُبُل الصدق، إنه خير موفق ومعين.

_ 1 النحارير: جمع النحرير: الحاذق الماهر. 2 التعنيت: المشقة والفساد والخطأ.

باب القول في مأخذ اللغة

باب القول فِي مأخذ اللغة ... باب القول فِي الاحتجاج باللغة العربية: لغةُ العرب يحتج بِهَا فيما اختلفُ فيه، إِذَا كَانَ أقْرائِكَ. قال أبو بكر: ومن العظيم أنَّ علياً وعمرَ رضي الله عنهما قَدْ قالا: "القُرْؤُ: الحَيضُ" فهل يُجْتَرا عَلَى تجهيلهما باللغة؟ ومنها قوله فِي قوله جلّ ثناؤه: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} 1 أنه أرادَ الذكور دون الإناث. قال: وهذا من غريب مَا يَغلَط فِيهِ مثله. يقول الله جلّ ثناؤه: {يَا بَنِي آَدَمَ} 2 أفَتُراه أراد الرِّجالَ دون النساء؟ قال ابن داود: وإنَّ قبيحاً مُفْرِط القَبَاحة بمن يعيب مالك بن أنسٍ بأنه لَحَنَ فِي مخاطَبَةِ العامَّة بأن قال: "مُطرنا البارحة مطراً أيَّ مطراً" أن يرضَى هو لنفسه أن يتكلم بمثل هَذَا. لأن النَّاس لَمْ يزالوا يلحنون ويَتَلاحَنُون فيما يخاطب بعضُهم

_ 1 سورة النساء، الآية: 83. 2 سورة الأعراف، الآية: 26، 27، 31، 35.

بعضاً اتِّقَاءً للخروج عن عادة العامة فلا يَعيبُ ذَلِكَ من يُنْصِفِهم من الخاصة، وإنّما العيب عَلَى من غلِط من جهة اللغة فيما يغير بِهِ حكَم الشريعة والله المستعان. فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تأليفهم أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء. وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية، فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني. ألا ترى أن القائل إِذَا قال: "مَا أحسن زيد" لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب. وكذلك إِذَا قال: "ضرب أخوك أخانا" و"وَجْهُك وجهُ حُرّ" و"وجهُك وجهٌ حرٌ" وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه. هَذَا وَقَدْ روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أعْرِبوا القرآن". وَقَدْ كَانَ الناس قديماً يجتنبون اللحن1 فيما يكتبونه أَوْ يقرءونه اجتنابَهم بعضَ الذنوب. فأما الآن فقد تجوزا حَتَّى أن المحدّث يحدث فليحن. والفقيه يؤلف فيلحن. فإذا نُبها قالا: مَا ندري مَا الإعراب وإنما نحن محدّثون وفقهاء. فهما يسران بما يُساء بِهِ اللبيب. ولقد كلمت بعض من يذهبُ بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العُليا فِي القياس، فقلت لَهُ: مَا حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو? فقال: لَيْسَ عليَّ هَذَا وإنما علي إقامة الدَّليل عَلَى صحته. فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو. ونعوذ بالله من سوء الاختيار.

_ 1 اللحن: الخطأ في القراءة.

باب القول على لغة العرب

باب القول على لغة العرب: هل لها قياس وهل يشتق بعض الكلام من بعض?: أجمع أهل اللغة -إلا من شذ عنهم- أن للغة العرب قياساً, وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض, وأن اسم الجنّ مشتق من الاجتنان. وأن الجيم والنون تدُلاَّن أبداً عَلَى الستر. تقول العرب للدّرع: جُنَّة, وأجَنة الليلُ, وهذا جنين، أي هو فِي بطن أمّه أَوْ مقبور, وأن الإنس من الظهور؛ يقولون: آنَسْت

الشيء: أبصرته. وَعَلَى هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم وجَهِلَه من جهل. قلنا: وهذا أيضاً مبنيٌ عَلَى مَا تقدم من قولنا فِي التوقيف. فإن الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الاجتنان التستر هو الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الجنّ مشتق منه. وَلَيْسَ لَنَا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير مَا قالوه ولا أن نقيس قياساً لَمْ يقيسوه، لأن فِي ذَلِكَ فسادَ اللغة وبُطلان حقائقها. ونكنةُ الباب أن اللغة لا تؤخذ قياساً نَقيسهُ الآن نحن.

باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها

باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها ... باب القول على أن لغة العرب لن تنته إلينا بكليتها: وأن الَّذِي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيراً من الكلام ذهب بذهاب أهله: ذهب علماؤنا أَوْ أكثرهم إِلَى أنّ الَّذِي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ. ولو جاءنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلام كثير. وأحر بهذا القول أن يكون صحيحاً. لأنّا نرى علماء اللغة يختلفون فِي كثير مما قالته العرب، فلا يكاد واحد منهم يُخبّر عن حقيقة مَا خولف فيه، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان. ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقة قول العرب فِي الإغراء "كَذَبك كذا" وعما جاء فِي الحديث من قوله: "كَذَبَ عليكم الحَجُّ" و"كَذَبَك العَسَلُ" وعن قول القائل1: كذبتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَلِّلُوا ... بيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبَا وعن قول الآخر2: كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ باردٌ ... إِن كنت سائلتي غَبُوقاً فاذهب

_ 1 مقاييس اللغة مادة "كذب" بلا عزو. ولسان العرب مادة "كذب" و"وظب" و"أرض" ونسبه إلى خداش بن زهير. والقردان: جمع قرد. دويبة. وموظب: موضع قرب مكة. 2 البيت لعنترة، في ديوانه: 29. الغبوق: شراب المساء.

ونحن نعلم أن قوله: "كذب" يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء. وكذلك قولهم "عنْكَ فِي الأرض" و"عنك شيئاً" وقول الأفْوه1: عنكُم فِي الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ... ورُويداً يفضح الليلَ النهارُ ومن ذَلِكَ قولهم: "أعَمَدُ من سيّد قتله قومُه?" أي "هل زاد?" فهذا من مشكل الكلام الَّذِي لَمْ يفسر بعدُ. قال ابن ميَّادة2: وأعمَدُ من قوم كفاهم أخوهم ... صدامَ الأعادي حينَ فُلَّتْ نيوبُها قال الخليل وغيره: "معناهُ هل زدنا علة أن كفينا?" وقال أبو ذْؤَيب3: صَخِبُ الشوارِب لا يزالُ كأنه ... عبدٌ لآل أبي ربيعة مُسْبَعُ فقوله "مسْبَعٌ" مَا فُسّرَ حَتَّى الآن تفسيراً شافيًا. ومنه قول الأعشي4: ذاتُ غَرْب تَرمي المُقدَّم بالرَّدْ ... ف إِذَا مَا تتابع الأرواق وقوله فِي هَذِهِ القصيدة5: المِهِنينَ مَا لهم فِي زمان الـ ... ـجدب حَتَّى إِذَا أفاق أفاقوا ومن هَذَا الباب قولهم "يا عيد ما لك" و"يا هيئ ما لك" و"يَا شَيْء ما لك". وَلَمْ يفسّر قولهم "صَهُ" و"وَيْهَكَ" و"إنيْه" ولا قول القائل6: بخائبك الحَقْ يَهْتِفُونَ وحَيّ هَل ويقولون: "خائِبكُما" و"خائبكم". فأمَّا "الزَّجرُ والدّعاء" الَّذِي لا يُفْهم موضوعُه فكثير. كقولهم: "حيِّ هَلاَ", و"بِعَيْنٍ مَا أرَيَنَّك", فِي موضِع أعْجَل, و"هَج", و"هَجَا", و"دَعْ", و"دعا",

_ 1 الطرائق الأدبية: 13. والأفوه الأودي هو صلاءة بن عمرو، شاعر جاهلي حكيم. 2 ديوان ابن مقبل: 79، وابن مقبل هو تميم بن أبي المتوفى سنة 25هـ، وقل: ثلم. وفل القوم: هزمهم. وفي مقاييس اللغة مادة "عمد"، ونسبه لابن ميادة، وهو الرماح بن أبرد المتوفى سنة 149هـ. 3 شرح أشعار الهذليين: 125. وأبو ذؤيب هو خويلد المتوفى سنة 27هـ. 4 ديوانه: 124، وفيه: تدافع الأرواق. 5 ديوانه: 125، وفيه: في زمان السوء. 6 هو الكميت بن زيد الأسدي المتوفى سنة 126هـ, والبيت في ديوانه: 2/ 98.

و"لعًا" للعاثر يدعون لَهُ. وينشدون1: ومَطيَّة حَمَّلتُ ظَهْرَ مَطيَّةٍ ... حَرَجٍ تُنَمَّى مِلْ عِثارِ بِدَعدَع ويروى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقولوا: دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ، ولكن قولوا: اللهم ارْفَعْ وانْفَعْ". فلولا أن للكلمتين معنى مفهوماً عند القوم مَا كَرِههُما النبيّ -صلى الله عَلَيْهِ وسلم. وكقولهم فِي الزّجر "أخِّرْ" و"أخِّري" و"ها" و"هَلا" و"هابِ" و"ارْحَبِي" و"عَدِّ" و"عاجِ" و"يا عاط" و"يعاطِ" وينشدون2: وَمَا كَانَ عَلَى الجيْءِ ... ولا الهيءِ امتداحيكا وكذلك "إِجْدِ" و"أجْدِمْ" و"حِدِّجْ" لا نعلم أحداً فسَّر هَذَا. وهو باب يَكثُرُ ويُصَحّحُ مَا قلناه. ومن المُشتَبِه الَّذِي لا يقال فِيهِ اليومَ إِلاَّ بالتقريب والاحتمال, وَمَا هو بغريب اللفظ لكَنَّ الوقوف على كنهه مُعتاصٌ, قولنا: "الحِينُ", و"الزمان", و"الدهر", و"الأوان", إِذَا قال القائل أَوْ حلَف الحالف: "والله لا كلمته حيناً ولا كلمته زماناً أَوْ دهراً". وكذلك قولنا: "بِضْعَ سِنين" مُشتَبِه. وأكثر هَذَا مُشكل لا يُقْصَر بشيء منه عَلَى حدّ معلوم. ومن الباب قولهم فِي الغِنى والفَقْر وَفِي الشريف والكَريم واللئيم، إِذَا قال: "هَذَا لأغنياء أهلي" أَوْ"فقرائهم" أَوْ"أشرافهم" أَوْ"كرامهم" أَوْ"لئامهم". وكذلك أن قال: "امْنعُوه سفهاء قومي" لَمْ يمكن تحديد السَّفه. ولقد شاهدتُ منذ زمانٍ قريب قاضياً يريد حَجْراً عَلَى رجل مكْتَهِل. فقلت: "مَا السبب فِي حجره عليه?" فقال: "يَزْعم أنه يَتَصيَّدَ بالكلاب وأنه سفيه" فقرئ

_ 1 هو الحادرة واسمه قطبة بن أوس بن محصن، شاعر جاهلي، والبيت في ديوانه: 62، وفي شرح اختيارات المفضل: 234، وفيه: ومطية كلفت رحل مطية حرج يتم من العشار بدعدع 2 لسان العرب مادة "جأجأ" ونسبته إلى معاذ السهراء وهو أديب في كوفي من المعمرين مات سنة 187هـ.

عَلَى القاضي قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 1 فأمسكَ القاضي عن الحجر عَلَى الكَهْلِ. وكذلك إِذَا قال: "مَا لي لِذَوي الحسب" أَوْ"امنعوه السَّفِلَة" وَمَا أشبه هَذَا مما يطول الباب بذكره فلا وَجْهَ فِي شيء من هَذَا غير التقريب والاحتمال، وَعَلَى اجتهاد الموصى إِلَيْهِ أَوْ الحاكم فِيهِ. وإلا فإنَّ تحديدَه حَتَّى لا يجوز غيره بعيدٌ. وَقَدْ كَانَ لذلك كله ناس يعرفونه. وكذلك يعلمون معنى مَا نستغربه اليوم نحن من قولنا2: "عُبْسُور" فِي الناقة: "وعَيْسَجور" و"امرأة ضِنانِّي" و"فرس أشَقُّ أمقُّ خِبَقٌ" ذهب هَذَا كله بذهاب أهله وَلَمْ يبق عندنا إِلاَّ الرسم الذي نراه. وعلماء هَذِهِ الشريعة -وإن كانوا اقتصروا من علم هَذَا عَلَى معرفة رَسْمه دون علم حقائقه- فقد اعتاضوا عنه دقيقَ الكلام فِي أصول الدين وفروعه من الفقه والفرائض. ومن دقيق النحو وجليله. ومن علم العروض الَّذِي يربي بحسنه ودقته واستقامته عَلَى كل مَا يبجح بِهِ الناسبون أنفسهم إِلَى الَّتِي يقال لَهَا: الفلسفة. ولكل زمان علم، وأشرف العلوم علم زماننا هَذَا والحمد لله.

_ 1 سورة المائدة, الآية: 48. 2 العبسور والعسبور والعبسر: الناقة الشديدة السريعة. العيسجور: الناقة الصلبة، والسريعة. والأشق من الخيل: الطويل، ومثله أمق وخبق.

باب انتهاء الخلاف في اللغات

باب انتهاء الخلاف فِي اللغات: تقع فِي الكلمة الواحدة لُغتان. كقولهم: "الصِّرام", و"الصَّرام", و"الحِصاد", و"الحَصاد". وتقع فِي الكلمات ثلاث لُغات. نحو: "الزُّجاج" و"الزِّجاج" و"الزَّجاج", و"وَشكان ذا", و"وُشكان ذا", و"وِشكان ذا"1. وتقع فِي الكلمة أربع لُغات. نحو: "الصِّداق" و"الصَّداق" و"الصَّدقة" و"الصُّدْقة". وتكون منها خمس لُغات. نحو: "الشَّمال" والشَّمِل" و"الشَّمَل" و"الشَّأمَل" و"الشَّمْل".

_ 1 وشكان ما يكون: سرع.

وتكون فِيهَا ست لُغات: "قُسْطاس" و"قِسْطاس" و"قُصْطاس" و"قُسْتاس" و"قُسَّاط" و"قِسَّاط"1. ولا يكون أكثر من هَذَا. والكلام بعد ذَلِكَ أربعة أبواب: الباب الأول: المجمع عَلَيْهِ الَّذِي لا علة فيه، وهو الأكثر والأعم. مثل: الحمد والشكر، لا اختلاف فِيهِ فِي بناء ولا حركة. والباب الثاني: مَا فِيهِ لغتان وأكثَر إِلاَّ أن إحدى اللُّغات أفصح. نحو: "بَغْداذ" و"بَغْدادَ" و"بَغْدانَ" هي كلّها صحيحة، إِلاَّ أن "بَغْدادَ" فِي كلام العرب أصح وأفصح. والباب الثالث: مَا فِيهِ لُغتان أَوْ ثلاث أَوْ أكثر، وهي متساوية، كـ"الحَصاد" و"الحِصاد". و"الصَّداق" و"الصِّداق"، فأيَّا مَا قال القائل: فصحيح فصيح. والباب الرابع: مَا فِيهِ لغة واحدة، إِلاَّ أن المُوَلَّدينَ غَيَّروا فصارت ألسنتهم بالخطأِ جاريةً. نحو قولهم: "أصْرَف الله عنك كذا" و"إنْجاص" و"إِمرأة مُطاعةٌ" و"عِرْق النِّسا" بكسر النون، وَمَا أشبه ذا. وَعَلَى هَذِهِ الأبواب الثلاثة بنى أبو العباس ثعلب2 كتابه المسمّى فصيح الكلام أخبرنا بِهِ أبو الحسن القَطَّان عنه.

_ 1 القسطاس: الميزان، وأقوم الموازين، أو هو ميزان العدل. 2 ثعلب: أبو العباس، أحمد بن يحيى لغوي نحوي كوفي، مات سنة 292هـ.

باب مراتب الكلام في وضوحه وإشكاله

باب مراتب الكلام فِي وُضوحه وإشكاله: أما واضح الكلام فالذي يفهمه كلّ سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب. كقول القائل: شربت ماءً ولَقيت زيداً. وكما جاء في كتاب الله جل ثناؤه من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ

وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 1، وكقول النبي -صلى الله عَلَيْهِ وسلم: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أحدُكم من نومه، فلا يَغْمِسْ يدَه فِي الإِناء حَتَّى يَغْسِلَها ثلاثاً" 2. وكقول الشاعر: إن يحسدوني فإني غير لائِمِهم ... قبلي من الناس أهلُ الفَضل قَدْ حُسِدُوا3 وهذا أكثر الكلام وأعمُّه. وأما المشكل، فالذي يأتيه الإشكال من غَرابة لفظه، أَوْ أن تكون فِيهِ إشارة إِلَى خبر لَمْ يذكره قائلهُ عَلَى جهته، أَوْ أن يكون الكلام فِي شيء غير محدود، أَوْ يكون وَجيزاً فِي نفسه غير مَبْسوط، أَوْ تكون ألفاظه مُشتركةً. فأما المُشكلِ لغرابة لفظه فقول القائل: "يَمْلَخُ فِي الباطل ملخاً يَنْقُضُ مِذْرَوَيه", وكما أنه قيل: "أيُدْالكُ الرجل المَرْأَة?" قال: "نعم، إِذَا كَانَ مُلْفَجاً" ومنه في كتاب الله جل ثناؤه: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} 4، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} 5، {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} 6، {وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} 7, وغيرُهُ مما صَنَّف علماؤنا فِيهِ كتَبَ غريب القرآن. ومنه فِي حديث النبي -صلى الله عَلَيْهِ وسلم: "عَلَى التِّيعَةِ شاة, والتِّيمة لصاحبها, وَفِي السُّيُوبِ الخُمُس لا خِلاطَ ولا وِراطَ ولا شِناقَ ولا شِغارَ. من أجْبى فقد أربى" 8 وهذا كتابُه إِلَى الأقيال العَبَاهِلة9. ومنه في شعر العرب10:

_ 1 سورة البقرة، الآية: 173. 2 رواه مسلم: طهارة 87، وأبو داود: طهارة 495، والترمذي: طهارة 19، وأحمد: 2/ 241، 289، 455، 471، 507. 3 ديوان الحماسة لأبي تمام: 123، دون عزو. 4 سورة البقرة، الآية: 232. 5 سورة الحج، الآية: 11. 6 سورة آل عمران، الآية: 39. 7 سورة المائدة، الآية: 110. 8 حديث: "لا شغار في الإسلام" رواه النسائي: نكاح 60، ومسلم: نكاح 60، وابن ماجه: نكاح 16، أحمد: 2/ 35، 91، 215، 216، 3/ 162، 165، 197، 4/ 429، 9/ 403، 441، 443. 9 الأقيال: جمع القيل: الملك، أو دون الملك الأعلى، أو هو في حمير كالوزير في الإسلام. العباهلة: الأقيال المقرون على ملكهم فلم يزالوا عنه. 10 ديوان رؤبة بن العجاج: 104، وفي الأصل: وقاتِم الأَعْمَاق شَأزٍ بِمَنْ عَوَّه.

وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... مَضْبُورَةٍ قَرْواءَ هرْجَابٍ فنق وفي أمثال العرب: "باقِعَةٌ"1, و"شرَاب بأَنْقُع"2, و"ومُخْرَنْبِقٌ لِيَنْباع"3. والذي أشكل لإيماء قائله إِلَى خبر لَمْ يُفصح بِهِ كقول القائل: "لَمْ أفِرَّ يومَ عَيْنَيْنِ" و"رُويداً سَوْقَكَ بالقوارير" وقول امرئِ القيس: دع عنك نهباً صِيح فِي حَجَراته4 وقول الآخر5: إِن العصا قُرِعَت لِذِي الحِلْمِ وَفِي كتاب الله جل ثناؤه مَا لا يعلم معناه إِلاَّ بمعرفة قصته، قوله جلّ ثناؤه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 6 وفي أمثال العرب: "عَسَى الغُوَيْر أبْؤُساً"7. والذي يشكل لأنه لا يُحَدُّ فِي نفس الخطاب, فكقوله جلّ ثناؤه: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} 8 فهذا مجمّل غير مفصل حَتَّى فَسَّره النبي -صلى الله عَلَيْهِ وسلم: والذي أشكل لوجَازة لفظه قولهم9: الغَمَراتِ ثُمَّ يَنْجَلِينَا والذي يأتيه الإشكال لاشتراك اللفظ قول القائل10: "وضَعوا اللُّجَّ عَلَى قَفيَّ".

_ 1 مجمع الأمثال: 1/ 96. والباقعة: الداهية. 2 مجمع الأمثال: 1/ 390، ويضرب لمن يعاود الأمر مرة بعد مرة. 3 جمهرة الأمثال: 2/ 225، والمخرنبق: اللاطئ. ينباع: ينبسط ويثب. 4 ديوانه: 146، وشطره: ولكن حديثًا ما حديث الرواحل 5 هو الحارث بن وعلة، انظر جمهرة الأمثال: 1/ 321. وصدر البيت: وزعمت أنا لا حلوم لنا 6 سورة البقرة، الآية: 97. 7 جمهرة الأمثال: 2/ 45. 8 سورة الأنعام، الآية: 72. 9 جمهرة الأمثال: 2/ 71 بلا عزو، وفي ديوان الأغلب العجلي: 167. والمقاييس مادة "غمر" بلا عزو. 10 الحديث لطلحة كما في أساس البلاغة مادة "لجج". وأراد السيف شبهه باللج في كثرة مائه.

وَعَلَى هَذَا الترتيب يكون الكلام كلُّه فِي الكتاب والسُّنة وأشعار العرب وسائر الكلام.

باب ذكر ما اختصت به العرب

باب ذكر مَا اختصت بِهِ العرب: من العلوم الجليلة الَّتِي خصت بِهَا العرب الإعرابُ الَّذِي هو الفارق بَيْنَ المعاني المتكافِئَة فِي اللفظ، وبه يعرف الخبر الَّذِي هو أصل الكلام، ولولاه مَا مُيّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من مَنْعوت، ولا تَعَجُّبٌ من استفهام، ولا صَدْر من مصدَر، ولا نعتٌ من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالأخبار، وَقَدْ يكون الإعراب فِي غير الخبر أيضاً. لأنّا نقول: "أزيدٌ عندك?" و"أزيداً ضربت?" فقد عَمِل الإعراب وَلَيْسَ هو من باب الخبر. ورغم ناس يُتَوقفُ عن قبول أخبارهم أن الذين يسمون الفلاسفة قَدْ كَانَ لهم إعرابٌ ومؤلَّفاتُ نحوٍ. قال أحمد بن فارس: وهذا كلام لا يَعَرَّجُ عَلَى مثله. وإنما تَشَبّهَ القوم آنفاً بأهل الإسلام، فأخذوا من كتب علمائنا، وغَيَّروا بعض ألفاظها، ونسبوا ذَلِكَ إِلَى قوم ذَوي أسماء منكرةٍ بتراجمَ بَشِعَةٍ لا يكاد لسان ذي دين ينطق بِهَا, وادَّعوا مع ذَلِكَ أن للقوم شعراً، وَقَدْ قرأناه فوجدناه قليل الماءِ، نَزْرَ الحَلاوة، غير مستقيم الوزن. بلى، الشِّعر شِعر العرب، ديوانُهم وحافظ مآثِرهم، ومُقيّدُ أحسابهم، ثُمَّ للعرب العَروض الَّتِي هي ميزان الشِّعر، وبها يُعرف صحيحه من سقيمه. ومن عرف دقائقه وأسراره وخفاياه علم أنه يُربي عَلَى جميع مَا يبَجَحُ بِهِ هؤلاء الَّذِين يَنْتَحلون معرفة حقائق الأشياء من الأعداد والخطوط والنقط الَّتِي لا أعرف لَهَا فائدة غير أنها مع قلة فائدتها تُرِقّ الدّين، وتنتج كل مَا نعوذ بالله منه. وللعرب حفظ الأنساب وَمَا يُعلم أحدٌ من الأمم عُني بحفظ النسب عناية العرب. قال الله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 1 فهي آية مَا عَمِل بمضمونها غيرهم.

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 13.

ومما خصَّ الله جلَّ ثناؤه بِهِ العَرب طهارتُهم ونَزاهَتُهم عن الأدناس الَّتِي استباحها غيرهم من مخالَطَةِ ذوات المحارِم. وهي منقبة تَعْلو بِجَمالها كلَّ مأثرةٍ والحمد لله.

باب الأسباب الإسلامية

باب الأسباب الإسلامية: كَانَتْ العربُ فِي جاهليتها عَلَى إرثٍ من إرث آبائهم فِي لُغاتهم وآدابهم ونسائكهم1 وقَرابينهم. فلما جاءَ الله جلّ ثناؤه بالإسلام حالت أحوالٌ، ونُسِخَت دِيانات، وأبطلت أمورٌ، ونُقِلت من اللغة ألفاظ من مواضعَ إِلَى مواضع أخَر بزيادات زيدت، وشرائع شُرعت، وشرائط شُرطت. فَعفَّى الآخرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم -بعد المُغاوَرات والتّجارات وتَطَلُّب الأرباح والكدْح للمعاش فِي رحلة الشتاء والصَّيف، وبعد الأغرام بالصَّيْد والمُعاقرة والمياسرة2- بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتَّفقُّه فِي دين الله عزّ وجلّ، وحفظ سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- مع اجتهادهم فِي مجاهدة أعداء الإسلام. فصار الَّذِي نشأ عَلَيْهِ آباؤهم ونشأوا عَلَيْهِ كَأَن لَمْ يكن وحتى تكلَّموا فِي دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دُوّن وحُفِظ حَتَّى الآن. فصاروا -بعدما ذكرناه- إِلَى أن يُسأل إمامٌ من الأئمة وهو يخطب عَلَى منبره عن فريضة فَيُفْتي ويَحْسُبُ بثلاث كلمات. وذلك قول أمير المؤمنين عليّ صلوات الله عَلَيْهِ حين سُئل عن ابنتين وأبوين وامرأة: "صار ثُمْنُها تُسعاً" فسميت: "المنبريَّة". وإلى أن يقول هو صلوات الله عَلَيْهِ علي منبره والمهاجرون والأنصار متوافرون: "سلوني، فوالله مَا من آية إِلاَّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم فِي جبل" وحتى قال صلوات الله عَلَيْهِ وأشار إِلَى ابنيه: "يَا قوم، استنبطوا منّي ومن هذين علمَ مَا مضى وما يكون".

_ 1 النسائك: جمع النسيكة: الذبيحة. 2 المعاقرة: المفاخرة بالإبل. والمياسرة: لعب الميسر.

وإلى ان يتكلم هو وغيره فِي دقائق العلوم بالمشهور من مسائلهم فِي الفرض وحده، كالمشتركة، ومسألة المباهلة1 والغَرَّاء، وأُمّ الفَرُّوخ، وأُمّ الأرامل، ومسألة الامتحان، ومسألة ابن مسعود، والأكدريّة، ومختصرة زيد، والخرقاء، وغيرها ممّا هو أغْمَضُ وأدقُّ. فسبحان من نقل أولئك فِي الزمن القريب بتوقيفه، عمّا ألفوه ونشأوا عَلَيْهِ وغذوا بِهِ، إلى مثل هَذَا الَّذِي ذكرناه. وكلّ ذَلِكَ دليل عَلَى حقّ الإيمان وصحة نُبوة نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم. فكان مما جاء فِي الإسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. وأنَّ العرب إنَّما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق. ثُمَّ زادت الشريعة شرائطَ وأوصافاً بِهَا سُمِيَ المؤمن بالإطلاق مؤمناً. وكذلك الإسلام والمسلم، إنّما عَرَفت منه إسلامَ الشيء ثُمَّ جاء فِي الشَّرع من أوصافه مَا جاء. وكذلك كَانَتْ لا تعرف من الكُفر إِلاَّ الغِطاء والسِّتْر. فأما المنافق فاسمٌ جاء بِهِ الإسلام لقوم أَبْطنوا غير مَا أظهروه، وَكَانَ الأصل من نافقاء اليَرْبوع2. وَلَمْ يعرفوا فِي الفِسْق إِلاَّ قولهم: "فَسَقَتِ الرُّطبة" إذَا خرجت من قِشرها، وجاء الشرع بأن الفِسق الأفحاش فِي الخروج عن طاعة الله جلّ ثناؤه. ومما جاء فِي الشرع الصلاة وأصله فِي لغتهم: الدُّعاء. وَقَدْ كانوا عَرفوا الركوعَ والسجودَ، وإن لَمْ يكن عَلَى هَذِهِ الهيئة، فقالوا3: أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيّةٍ غَوَّاصُها ... بَهِج متى يَرَها يُهِلَّ ويَسْجُدِ وقال الأعشى4: يُراوِحُ من صلوات المليك ... طَوْراً سجوداً وطوراً جُؤاراً والذي عرفوه منه أيضاً مَا أخبرنا بِهِ عليٌّ عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: قال أَبو عمروٍ: "اسْجدَ الرجلُ: طأطأ وانْحَنَى" قال حُمَيدُ بن

_ 1 المباهلة: الملاعنة. 2 النافقاء: إحدى جحرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها. 3 ديوان النابغة الذبياني: 146. 4 ديوانه: 76. والجؤار. رفع الصوت بالدعاء.

ثور1: فضول أزمَّتها أسْجَدَت ... سجودَ النصارى لأربابها2 وأنشد3: فقلن لَهُ أسْجِدْ لِلَيْلَى فأسجَدا ... يعني البعير إذَا طأطأ رأسه لتِرْكَبَهُ وهذا وإن كان كذا, فإن العرب لَمْ تعرِفه بمثل مَا أتَت بِهِ الشريعة من الأعداد والمَواقيت والتَّحريم للصلاة، والتَّحليل منها. وكذلك القيام أصله عندهم الإمساكُ ويقول شاعرهم4: خَيلٌ صِيامٌ وأُخرى غير صائمة ... تَحْتَ العَجاج وخيلٌ تعلُكُ اللُّجُما ثم زادت الشريعة النِّية، وحَظَرَت الأكلَ والمُباشَرَة وغير ذَلِكَ من شرائع الصوم. وكذلك الحَجُّ، لَمْ يكن عندهم فِيهِ غير القصد، وسَبْر الجِراح. من ذَلِكَ قولهم5: وأَشْهَدُ من عوفٍ حلُولاً كثيرةً ... يَحجُّون سِبَّ الزِّبرِقان المُزْعْفَرا ثم زادت الشريعة مَا زادته من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزِّكاة، لَمْ تكن العرب تعرفها إِلاَّ من ناحية النَّماءِ، وزاد الشرع مَا زاده فِيهَا مما لا وجه لإطالة الباب بذكره. وَعَلَى هَذَا سائر مَا تركنا ذِكرَه من العُمْرة والجهاد وسائر أبواب الفِقه. فالوجه فِي هَذَا إذَا سُئل الإنسان عنه أن يقول: فِي الصلاة اسمان لُغويٌّ وشرعيٌّ، ويذكر مَا كانت العرب تعرفه، ثُمَّ مَا جاءَ الإسلام بِهِ. وهو قياسُ مَا تركنا ذكرَه من سائر العلوم، كالنحو والعَروض والشِّعر, كل ذَلِكَ لَهُ اسمان لُغوي وصِناعيٌّ.

_ 1 ديوانه: 69. 2 في الديوان: سجود النصارى لأحبارها. 3 مجمل اللغة مادة "سجد" دون عزو. 4 البيت للنابغة الذبياني كما في ديوانه: 217. والعجاج: الغبار والدخان. 5 البيت للمخبل السعدي كما في المجمل مادة "حج".

باب القول في حقيقة الكلام

باب القول فِي حقيقة الكلام: زعم قوم أن "الكلام مَا سُمع وفُهم" وذلك قولنا: "قام زيد" و"ذهب عَمْرو". وقال قوم: "الكلام حروف مُؤلَّفة دالة عَلَى معنى". والقولان عندنا مُتقاربان، لأن المسموع المفهوم لا يكاد يكون إِلاَّ بحروف مؤلَّفة تدل عَلَى معنى. وقال لي بعض فقهاء بغداد: إن الكلام عَلَى ضربين مهمَل ومستعمَل. قال: فالمهمل: "هو الَّذِي لَمْ يوضع للفائدة" والمستعمل: "مَا وضع ليفيد" فأعلمته أن هَذَا كلام غيرُ صحيح، وذلك أن المهمَل عَلَى ضربين: ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه فِي كلام العرب بَتَّةً، وذلك كجيم تؤلَّف مع كاف أَوْ كاف تقدَّم عَلَى جيم، وكعين مع غين، أَوْ حاء مع هاء أَوْ غين، فهذا وَمَا أشبهه لا يأتلف. والضرب الآخر مَا يجوز تألُّف حروفه لكن العرب لَمْ تَقُل عَلَيْهِ، وذلك كإرادة مريد أن يقول: "عضخ" فهذا يجوز تألُّفه وَلَيْسَ بالنافر، ألا تراهم قَدْ قالوا فِي الأحرف الثلاثة: "خضع" لكن العرب لَمْ تقل عضخ، فهذان ضربا المهمل. وله ضرب ثالث وهو أن يريد مريد أن يتكلم بكلمة عَلَى خمسة أحرف لَيْسَ فِيهَا من حروف الذَّلَقِ أَوْ الأطباق1 حرف. وأي هَذِهِ الثلاثة كَانَ فإنه لا يجوز أن يسمى: "كلاماً" لما ذكرناه من أنه وإن كَانَ مسموعاً مؤلفاً فهو غير مفيد. وأهل اللغة لَمْ يذكروا المهمل فِي أقسام الكلام وإنما ذكروه فِي الأبنية المهملة الَّتِي لَمْ تَقل عَلَيْهَا العرب. فقد صح مَا قلناه من خطأِ من زعم أن المهمل كلام.

_ 1 يقال: ذلق اللسان، أي ذرب، فهو ذليق أي حديد بليغ، والحروف الذلق: حروف طرف اللسان، ثلاثة ذوليقة اللام والراء والنون، وثلاثة شفهية الباء والفاء والميم. وحروف الإطباق: الصاد والضاد والطاء والظاء.

باب أقسام الكلام

باب أقسام الكلام: أجمع أهل العلم أن الكلام ثلاثة: اسم وفعل وحرف. فأما الاسم فقال سيبويه1: "الاسم نحو رجل وفرس" وهذا عندنا تمثيل، وَمَا أراد سيبويهِ بِهِ التحديد، إِلاَّ أن ناساً حَكوْا عنه أن "الاسم هو المحدِّث عنه" وهذا شبيه بالقول الأول لأن "كيْفَ" اسم ولا يجوز أن يحدِّث عنه. وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن داود الفقيهَ يقول سمعت: أبا العباس محمد بن يزيد المُبَرِّدَ2 يقول: مذهب سيبويه أن "الاسم مَا صَلَحَ أن يكون فاعلاً" قال: وذلك أن سيبويه قال: "ألا ترى أنك لَوْ قلت: إن يضرب يأتينا وأشباهَ ذَلِكَ لَمْ يكن كلاماً، كما تقول إن ضاربك يأتينا" قال: فدل هَذَا عَلَى أن الاسم عنده مَا صَلَحَ لَهُ الفعل. قال: وعارضه بعضُ أصحابه فِي هَذَا بأن "كيْفَ" و"عندَ" و"حَيْثُ" و"أَيْنَ" أسماء وهي لا تصلح أن تكون فاعلة. والدليل عَلَى أن أَيْنَ وكيف أسماء قول سيبويه: "الفتح فِي الأسماء قولهم: كيْفَ وأين" فهذا قول سيبويه والبحث عنه. وقال الكسائي3: "الاسم مَا وُصِفَ" وهذا أيضاً مُعَارض بما قلناه من كيْفَ وأين أنهما اسمان ولا يُنعتان. وَكَانَ الفرّاء4 يقول: "الاسم مَا احتمل التنوين أَوْ الإضافة أَوْ الألف واللام" وهذا القول أيضاً مُعارَض بالذي ذكرناه أَوْ نذكره من الأسماء الَّتِي لا تنوَّن ولا تضاف ولا يُضاف إليها ولا يدخلها الألف واللام. وكان الأخفش5 يقول: "إذَا وجدت شيئاً يحسُنُ لَهُ الفعل والصفة نحو: زيد

_ 1 سيبويه: هو عمرو بن بشر بن قنبر، إمام اللغة والنحو، مات سنة 154هـ. 2 المبرد: من علماء البصرة في اللغة والنحو، مات سنة 286هـ. 3 الكسائي: علي بن حمزة، إمام في اللغة والنحو والقراءات من أهل الكوفة، مات سنة 189هـ. 4 الفراء: يحيى بن زياد الديلمي أعلم الكوفيين في النحو واللغة والأدب، مات سنة 217هـ. 5 هو سعيد بن مسعدة، النحوي اللغوي البصري، مات سنة 215هـ.

قام وزيد قائم ثُمَّ وجدته يثنى ويُجمع نحو قولك: الزيدان والزيدون ثُمَّ وجدته يمتنع من التصريف فاعلم أنه اسم". وقال أيضاً: مَا حَسُن فِيهِ "يَنْفعني" و"يَضُرُّني". وقال قوم: مَا دخل عَلَيْهِ حرف من حروف الخفض. وهذا قول هشام وغيره. وله قول آخر: ان الاسم مَا نودي. وكلّ ذَلِكَ مُعارَض بما ذكرناه من "كيْفَ وأين" ومن قولنا: "إذَا" وإذا اسم لحِينٍ. فحدثني علي بن إبراهيم القطان قال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد1 يقول حدّثني أبو عثمان المازني قال: سألت الأخفش عن "إذَا". مَا الدليل عَلَى أنها اسم لحين? فلم يأتِ بشيء. قال: وسُئِلَ الجَرْمِيُّ فَشَغَّبَ. وسُئِلَ الرّياشيُّ فَجَوَّد وقال: الدليل عَلَى أنها اسم للحين أنه يكون ضميراً، ألا ترى أنك تقول: "القتال إذَا يقوم زيد" كما تقول: "القتال يوم يقوم زيد"? وَقَدْ أومأ الفراء فِي معنى "إذَا" إِلَى هَذَا المعنى. وعاد القول بنا إِلَى تحديد الاسم. فقال المبرِّد فِي كتاب المُقْتَضَب: كل مَا دخل حرف من حروف الجر فهو اسم فإن امتنع من ذَلِكَ فليس باسم. وهذا معارض أيضاً "بكيف وإذا" وهما اسمان لا يدخل عليهما شيء من حروف الجرّ. وسمعت أبا بكر محمد بن أحمد البصير وأبا محمد سَلْمَ بن الحسن يقولان: سُئِل الزَّجاج1 عن حد الاسم فقال: صوت مُقَطَّع مفهوم دالٌ عَلَى معنى غيرُ دال عَلَى زمان ولا مكان. وهذا القول معارض بالحرف وذلك أنا نقول "هل" و"بل" وهو صوت مُقَطَّع مفهوم دال على معنى غيرُ دال عَلَى زمان ولا مكان. وقول من قال: "الاسم مَا صَلَح أم ينادى" خطأ أيضاً لأَن "كيْفَ" اسم و"أين وإذا"، ولا يَصْلُحُ أن يقع عَلَيْهَا نداء. قال أحمد بن فارس: هَذِهِ مقالات القوم فِي حدّ الاسم يُعارضها مَا قَدْ ذكرته. وَمَا أعلم شيئاً مما ذكرته سلم من معارضة. والله اعلم أيُّ ذَلِكَ أصحّ. وذُكر لي عن بعض أهل العربية أن "الاسم مَا كَانَ مُسْتَقِرّاً عَلَى المسمّى وقت ذكرك إيَّاه ولازماً لَهُ" وهذا قريب.

_ 1 الزجاج: إبراهيم بن السّري بن سهل، أبو إسحاق، عالم بالعربية، والنحو، مات ببغداد سنة 311هـ.

باب الفعل

باب الفعل: قال الكِسَائِيُّ: "الفعل مَا دَلَّ عَلَى زمان". وقال سيبويهِ: "أما الفعل فأمثلةٌ أُخِذت من لفظ أحْداثِ الأسماء وبُنيت لما مضى، وَمَا يكون وَلَمْ يقع، وَمَا هو كائن لَمْ ينقطع"1 فيقال لسيبويه: ذكرتَ هَذَا فِي أوَّل كتابك وزعمتَ بعدُ أنّ "لَيْسَ" و"عَسَى" و"نِعْمَ" و"بِئْسَ" أفعال، ومعلومٌ أنها لَمْ تُؤْخذ من مصادر. فإن قلت: إني حَدَدْتُ أكثر الفعل وتركت أقلَّه قيل لَكَ: إن الحد عند النُّظَّار مَا لَمْ يَزِد المحدود وَلَمْ يَنْقُصْهً مَا هو لَهُ. وقال قوم "الفعل مَا امتنع من التثنية والجمع". والرَّدُّ عَلَى أصحاب هَذِهِ المقالة أن يقال: إن الحروف كلها ممتنعة من التثنية والجمع وليست أفعالاً. وقال قوم: "الفعل مَا حَسُنَتْ فِيهِ التاء نحو قمتُ وذهبتُ"، وهذا عندنا غلط لأنا قَدْ نسميه فعلاً قبل دخول التاء عَلَيْهِ. وقال قوم "الفعل مَا حَسُنَ فِيهِ أمْسِ وغداً" وهذا عَلَى مذهب البصريين غيرُ مستقيم، لأنهم يقولون أنا قائم غداً، كما يقولون أنا قائم أمسِ. والذي نذهب إِلَيْهِ مَا حكيناه عن الكِسَائِيّ من أن "الفعل مَا دلّ عَلَى زمان كخرج ويخرج" دلَّنا بهما عَلَى ماضٍ ومستقبل.

_ 1 الكتاب: 1/ 12.

باب الحرف

باب الحرف: قال سِيبَوَيْهِ: وأما مَا جاء لمعنى، وَلَيْسَ باسم ولا فعل، فنحو"ثُمَّ" و"سَوْفَ" و"واو القسم" و"لام الإضافة". وكان الأخْفَشُ يقول: مَا لَمْ يحسُنْ لَهُ الفعل ولا الصفة ولا التثنية ولا الجمع وَلَمْ يَجُزْ أن يَتَصَرَّف فهو حرف. وقد أكثر أهلُ العربية فِي هَذَا، وأقربُ مَا فِيهِ مَا قاله سيبويهِ، إنه الَّذِي يفيد معنىً لَيْسَ فِي اسم ولا فعل. نحو قولنا "زيدٌ منطلقٌ" ثُمَّ نقول "هل زيدٌ منطلق?" فافدْنا بـ"هل" مَا لَمْ يكن فِي "زيد" ولا "منطلق".

باب أجناس الأسماء: قال بعض أهل العلم: الأسماء خمسة: "اسم فارق" و"اسم مفارق"، و"اسم مشتق" و"اسم مضاف"، "واسم مُقْتَضٍ". فالفارق: قولنا "رجل" و"فرس"، فرقنا بالاسمين بَيْنَ شخصين. والمفارق: قولنا "طفل"، يفارقه إذا كبر". والمشتق: قولنا "كاتب" وهو مشتق من "الكتابة" ويكون هَذَا عَلَى وجهين: أحدهما مَبْنِيَّاً عَلَى فَعَلَ, وذلك قولنا "كتب فهو كاتب"، والآخر يكون مشتقاً من الفعل غيرَ مبنيٍّ عَلَيْهِ كقولنا "الرحمن" فهذا مشتق من "الرحمة" وغير مبني من "رحم". وكلّ مَا كَانَ من الأوصاف أبعدَ من بنية الفعل فهو أبلغُ، لأن "الرحمن" أبلغُ من "الرحيم" لأنا نقول "رَحِمَ فهو راحم ورحيم" ونقول: "قَدَر فهو قادرٌ وقَدير" وإذا قلنا "الرحمن" فليس هو من "رَحِمَ" وإنَّما هو من الرَّحمة". وَعَلَى هَذَا تجري النعوت كلُّها فِي قولنا "كاتب" و"كَتَّاب" و"ضارب" و"ضَرُوب". والمضاف: قولنا "كلّ" و"بعض" لا بدَّ أن يكونا مضافَين. والمُقْتضي: قولنا "أَخ" و"شَريك" و"ابن" و"خَصْم" كلُّ واحد منها إذَا ذُكر اقتضى غيرَهُ، لأن الشريك مُقْتضٍ شريكاً والأخ مقتض آخر. وقال بعض الفقهاء: أسماءُ الأعيان خمسة: اسم لازمٌ واسم مُفارقٌ واسم مُشْتَقٌّ واسم مضاف واسم مُشَبِهٌ. فاللازم: "إنسان" و"سماء" و"أرض" لأن هَذِهِ الأسماء لا تنتقلُ من مُسَميَّاتها. قال: والمُفارِق: اللقب الَّذِي يُسمى نحو: "زيد" و"عمرو". وَقَدْ يقع أيضاً بأنْ يقال: المفارق "الطفل" لأنه اسم يزول عنه بِكبَره. والمشتق: كـ"دابَّة" و"كاتب".

والمضاف: قولنا "ثوبُ عمرو" و"جزءُ الشيءِ". والمشبَّه: قولنا "رَجُلٌ حَديدٌ وأسَدٌ" عَلَى وجه التشبيه. قال: وجِماعُها أنها وُضِعت للدَّلالة بِهَا. قلنا: وهذه قسمة ليست بالبعيدة.

باب النعت

باب النعت: النَّعْتُ: هو الوصف كقولنا: "هو عاقل" و"جاهل". وذُكر عن الخليل أن النعت لا يكون إِلاَّ فِي محمود، وأن الوصف قَدْ يكون فِيهِ وَفِي غيره. والنَّعتُ: يجري مَجرَيَيْن: أحدهما تخليص اسم من اسم كقولنا "زيد العطَّار" و"زيد التَّمِيميّ" خلصناه بنعته من الَّذِي شاركه فِي اسمه. والآخر عَلَى معنى المدح والذم نحو"العاقل" و"الجاهل". وَعَلَى هَذَا الوجه تجري أسماء الله جلَّ وعزَّ، لأنه المحمود المشكور المثنَّى عَلَيْهِ بكلّ لسان، ولا سَمِيَّ لَهُ جلّ اسمُهُ فيخلُصُ اسمه من غيره.

باب القول على الاسم من أي شيء أخذ

باب القول عَلَى الاسم من أي شيء أُخذ؟: قال قوم: الأسماء سِماتٌ دالَّة عَلَى المُسَميَّات، ليُعرَف بِهَا خطاب المخاطب. وهذا الكلام محتمِل وجهين: أحدهما أن يكون الاسم سِمَة كالعلامة والسِّيماء1. والآخر أن يقال: إنه مشتق من "السِّمَة". فإن أراد القائل أنها سِمات عَلَى الوجه الأول فصحيح, وإن كَانَ أراد الوجه الثاني فحدثني أبو محمد سَلْم بن الحسن البغدادي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن السّري الزَّجَّاج يقول: معنى قولنا "اسمٌ" مشتق من "السموّ" والسموّ الرفعة. فالأصل فِيهِ "سِمْوٌ" عَلَى وزن

_ 1 السمة والسيماء بمعنى العلامة.

حِمْل وجمعه "أسماء" مثل قولك: قِنو وأقناء1. وإنما جعل الاسم تنويهاً ودَلالة عَلَى المعنى لأن المعنى تَحْتَ الاسم. ومن قال: إن اسماً مأخوذ من "وَسَمْتُ" فهو غلط؛ لأنه لَوْ كَانَ كذا لكان تصغيره "وُسَيْمٌ" كما أن تصغير عِدَّة وصِلَة: وُعَيْدَة ووُصَيْلَة. قال أبو إسحاق: وَمَا قلناه فِي اشتقاق "اسم" ومعناه قول لا نعلم أحداً فسَّرَه قبلنا. قلت: وأبو إسحاق ثقة. غير أني سمعت أبا الحسين أحمد بن عليّ الأحول يقول: سمعت أبا الحسين عبد الله بن سفيان النحوي الخزاز يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرّد يقول: الاسم مُشتق من "سما" إذَا علا. قال: وَكَانَ أبو العباس رُبما اختصني بكثير من علمه فلا يُشركني فيه غيري.

_ 1 القنو: الكباسة وجمعه أقناء.

باب آخر في الأسماء

باب آخر فِي الأسماء: قد قلنا فيما مضى مَا جاء فِي الإسلام من ذكر المسلم والمؤمن وغيرهما. وقد كَانَتْ حدثت فِي صدر الإسلام أسماء، وذلك قولهم لمن أدرك الإسلام من أهل الجاهلية "مُخَضْرَم". فأخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم قال: حدثنا محمد بن عباس الخشكي عن إسماعيل بن أبي عبيد الله قال: المخضرمون من الشعراء: من قال الشعر فِي الجاهلية ثُمَّ أدرك الإسلام. فمنهم حسان بن ثابت ولَبيد بن ربيعة, ونابغة بني جعدة, وأبو زيد, وعمرو بن شاس والزَّبْرقان بن بدر, وعمرو بن معدي كرب وكعب بن زهير ومعن بن أوس. وتأويل المخضرم: من خَضْرَمَت الشيء أي قطعته، وخَضْرَم فلان عطيته أي قطعها، فسمّي هؤلاء "مخضرمين" كأنهم قطعوا من الكفر إِلَى الإسلام. وممكن أن يكون ذَلِكَ لأن رتبتهم فِي الشعر نقصت لأن حال الشعر تكامنت فِي الإسلام لمَا

أنزل الله جلّ ثناؤه من الكتاب العربي العزيز. وهذا عندنا هو الوجه، لأنه لو كَانَ من القطع لكان كلُّ من قُطع إِلَى الإسلام من الجاهلية مخضرماً، والأمر بخلاف هَذَا. ومن الأسماء الَّتِي كَانَتْ فزالت بزوال معانيها قولهم1: المِرباع، والنَّشِيطة، والفضول، وَلَمْ نذكر الصَّفِيّ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَدْ اصطفى فِي بعض غزواته وخُصَّ بذلك، وزال اسم الصَّفِي لما توفي رسول الله -صلى الله عَلَيْهِ وسلم. ومما تُرك أيضاً2: الأتاوة، والمَكْسَ، والحُلْوان. وكذلك قولهم: إِنْعَم صباحاً، وانْعم ظلاماً. وقولهم للملك: أبَيْتَ اللَّعن. وتُرك أيضاً قول المملوك لمالكه: ربّي. وَقَدْ كانوا يخاطبون ملوكهم بالأَرباب قال الشاعر3: وأَسْلَمْنَ فِيهَا رَ بَّ كِنْدَةَ وابنَهُ ... ورَبَّ معدٍّ بَيْنَ خَبْتٍ وعَرعَر وتُرك أيضاً تسميةُ من لَمْ يَحُجَّ "صَرورَةً". فحدثنا علي بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد فِي حديث الأعمش عن عمرو بن مُرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال: قال رسول الله -صلى الله عَلَيْهِ وسلم: $"لا صَرُورَة فِي الإسلام"4 ومعنى ذَلِكَ فيما يقال: هو الَّذِي يَدَعُ النكاح تَبَتُّلاً5. حدثني علي بن أحمد بن الصَّبَّاح قال: سمعت ابن دُريْد يقول: أصل الصَّرُورة أن الرجل فِي الجاهلية كَانَ إِذَا أحدث حدثاً فلجأ إِلَى الحرم لَمْ يُهَجْ وَكَانَ إِذَا لقيه وليّ الدم فِي الحرم قيل: هو صَرورَة فلا تهجه. ثُمَّ كثر ذَلِكَ فِي كلامهم حَتَّى جعلوا المتعبّد الَّذِي يجتنب النساء

_ 1 المرباع: الربعة: الرجل بين الطول والقصر. والمرباع: المكان ينبت نبته في أول الربيع. والنشيطة في الغنيمة: ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى بيضة القوم. والنشيطة من الإبل: التي تؤخذ فتساق من غير أن يعمد لها. وحلف الفضول: هو أن هاشمًا وزهرة وتيمًا دخلوا على عبد الله بن جدعان، فتحالفوا بينهم على دفع الظلم وأخذ الحق من الظالم، سمي بذلك لأنهم تحالفوا أن لا يتركوا عند أحد فضلا أحدًا، إلا أخذوه له منه. 2 الإتاوة: الخراج، والرشوة. والمكس في البيع: جباية المال. والمكس: النقص والظلم، ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية. والحلوان: أجرة الدلال والكاهن، ومهر المرأة، أو ما أعطي من نحو رشوة. 3 هو لبيد بن ربيعة، ديوانه: 71، وفيه: وأهلكن يومًا. والخبت: موضع سهل بالحرة، أو موضع بين مكة والمدينة، وعرعر: موضع في بلاد هذيل، أو واد قرب عرفة. 4 رواه أبو داود: مناسك 3، وأحمد: 1/ 312. 5 التبتل: الانقطاع إلى الله والإخلاص له، أو ترك النكاح والزهد فيه.

وطيبَ الطعام: صرورة وصرورياً، وذلك عَنَى النابغة بقوله1: صَرورَةٍ متعبّد................ أي منقبض عن النساء. فلما جاء الله جَل ثناؤه بالإسلام وأوجب إقامة الحدود بمكة وغيرها سمّي الَّذِي لَمْ يَحُجَّ "صَرورة" خلافاً لأمر الجاهلية، كَأَنَّهم جعلوا أن تركة الحجَّ فِي الإسلام كترك المُتَألِّه2 إِتيانَ النساء والتنعّم فِي الجاهلية. ومما تُرك أيضاً قولهم: الإبل تُساق فِي الصَّداق النَّوافِج. عَلَى أن من العرب من كَانَ يكره ذَلِكَ. قال شاعرهم4: وَلَيْسَ تِلادِي من وِراثة والدي ... ولا شانَ مالي مُستفادُ النوافِجِ وكانوا يقولون: "تَهْنِكَ النافِجةُ" مع الَّذِي ذكرنا من كراهة ذوي أقدارهم لَهَا وللعقول. قال جَنْدَلُ الطُّهَوِيّ5: وَمَا فَكَّ رِق ذاتُ خَلْق خَبَرْنَجِ6 ... ولا شانَ مالي صدقَةٌ وعقولُ ولكن نماني كلُّ أبيضَ صارِمٍ7 ... فأصبحتُ أدري اليومَ كَيْفَ أقولُ ومما كُره فِي الإسلام من الألفاظ قول القائل: "خَبُثَت نفسي" قال رسول الله -صلى الله عَلَيْهِ وسلم: "لا يقولَنَّ أحدُكم خَبُثتْ نفسي" 8. وكُرِه أيضاً أن يقال: استأثَر الله بفلان. ومما كرهه العلماء قول من قال: سُنة أبي بكر وعمر، إنما يقال: فَرْضُ الله

_ 1 ديوانه: 149. وتمام البيت -وهو في وصف المتجردة: أو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله ضرورة متعبد 2 المتأله: المتعبد. 3 النوافج: جمع النافجة: البنت لأنها تعظم مال أبيها بمهرها. 4 البيت في أساس البلاغة مادة "نفج" دون عزو، وفي الحيوان: 1/ 334 دون عزو. 5 هو ابن المثنى الطهوي، شاعر راجز من تميم مات سنة 90هـ. 6 الخلق الخبرنج: الخلق الحسن. 7 الأبيض الصارم، أي: السيف. 8 رواه البخاري: أدب10، ومسلم: ألفاظ 17، وأبو داود: أدب 76، وأحمد: 6/ 51، 66، 209، 231، 281.

جلّ وعزَّ وسُنَّتُه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما كَانَتْ العرب تستعمله ثُمَّ تُرك قولهم: حِجْراً محجوزاً. وَكَانَ هَذَا عندهم لمعنيين: أحدهما عند الحِرْمان إِذَا سُئِل الإنسان قال: حجراً محجوراً، فيعلم السائل أنه يريد أن يحرمه. ومنه قوله1: حَنَّتْ إِلَى النَّخلة القُصْوى فقلت لَهَا ... حِجْرٌ حرام ألا تِلْكَ الدَّهارِيسُ والوجه الآخر: الاستعاذة. كَانَ الإنسان إِذَا سافر فرأى من يخافه قال: حِجْراً محجوراً. أي حرام عَلَيْكَ التعرّض لي. وَعَلَى هَذَا فُسِّر قوله عزّ وجلّ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} 2 يقول المجرمون ذَلِكَ كما كانوا يقولونه فِي الدنيا.

_ 1 البيت للمتلمس كما في "ما اتفق لفظه واختلف معناه": 82 مادة "الحجر" وفي جمهرة أشعار العرب: 263. 2 سورة الفرقان، الآية: 22.

باب ما جرى مجرى الأسماء وإنما هي ألقاب

باب مَا جرى مجرى الأسماء وإنما هي ألقاب: ومما جرى مجرى الاسم وهو لقب قولهم: مُدْركة وطابخة. وذلك فِي العرب عَلَى ثلاثة أضرب: ضربٌ مدح، وضربٌ ذم، وضربُ تلقُّب الإنسان لفعل يفعله. فالمدح1: تلقيبهم البَحْر والحَبْرَ والباقر والصادق والدّيباج وغيرهم. والذم2: فكتلقيبهم بالوَزَغ ورَشْح الحَجَر وَمَا أشبه ذَلِكَ. وأما اللقب المأخوذ من فعل يُفعل فكطابخة ومدركة.

_ 1 يريدون بالبحر: الرجل الكريم، وبالحبر: الرجل العالم أو الصالح، وبالباقر: العالم المتبحر بالعلم لأن أصل البقر: الشق والتوسع، والديباج: من المعرب: الناقة الفتية الشابة. 2 الوزغ: جمع الوزغة وهي سام أبرص وسميت بها لخفت وسرعة حركتها، ويسمى الرجل الحارض الفشل بالوزع.

وقوله جلّ ثناؤه {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} 1 فقال قتادة: هو أن تقول للرجل: يَا فاسق يَا منافق. وروى الشَّعبِيّ عن أبي جُبَيْرة بن الضحاك وأبو جبيرة رجل من الأنصار من بني سلمة قال: فينا أنزلت هَذِهِ الآية, وذلك أن رسول الله -صلى الله عَلَيْهِ وسلم- قَدِم علينا، وَلَيْسَ منا رَجُلٌ إِلاَّ لَهُ لقبان أَوْ ثلاثة, فجعل بعضنا يدعو بعضاً بلقبه، فسمع ذَلِكَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل هو أحياناً يدعو الرجل ببعض تِلْكَ الألقاب، فقيل لَهُ" يَا رسول الله إنه يغضب من هذا، فأنزل الله جلّ ثناؤه {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . وأما تسمية العرب أولادها بكلب وقرد ونمر وأسد فذهب علماؤنا إِلَى أن العرب كَانَتْ إِذَا ولد لأحدهم ابن ذكر سمّاه بما يراه أَوْ يسمعه مما يُتَفَأَّلُ به، فإن رأى حَجَراً أَوْ سمعه تأوّل فِيهِ الشدة والصلابة والبقاء والصبر. وإن رأى ذئباً تأوّل فِيهِ الفطنة والنُّكر والكسب. وإن رأى حماراً تأوّل فِيهِ طول العُمر والوقاحة. وإن رأى كلباً تأوّل فِيهِ الحراسة وبُعدَ الصوت والإِلْفَ. وَعَلَى هَذَا يكون جميع مَا لَمْ نذكره من هذه الأسماء.

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 11.

باب الأسماء التي تسمى بها الأشخاص على المجاورة والسبب

باب الأسماء التي تسمى بِهَا الأشخاص عَلَى المُجاوَرَة والسَّبب: قال علماؤنا: العرب تسمّي الشيءَ باسم الشيءِ إِذَا كَانَ مجاوراً لَهُ أَوْ كَانَ منه بسبب. وذلك قولهم "التيمُّم" لَمَسْح الوجه من الصعيد1، وإنما التيمّم الطلب والقصد. يقال: تيمّمتك وتأممتك أي تعمّدتك. ومن ذَلِكَ تسميتهم السحاب "سماءً" والمطر "سماء" وتجاوزوا ذلك إِلَى أن سموا النبتَ سماءً. قال شاعرهم2: إِذَا نَزَل السماءُ بأرض قوم

_ 1 الصعيد: التراب، أو وجه الأرض. 2 لسان العرب مادة "سما" ونسبه إلى معود الحكماء معاوية بن مالك وهو جاهلي من الأزد. وفي تاج العروس مادة "سما" للفرزدق، وفي المقاييس، مادة "سمو" دون عزو. وعجزه: رعيناه وإن كانوا غضابا

وربما سموا الشحم "ندىً" لأن الشحم عن النبت، والنبت عن الندى قال ابن أَحْمَرَ1: كثور العداب2 الفَرْد يَضْرِبه النَّدى ... تَعَلَّى النَّدى فِي متنه وتَحَدَّرا ومن هَذَا الباب قول القائل: "قَدْ جعلتُ نفسي فِي أديمِ". أراد بالنفس الماء وذلك قِوامَ النفس بالماء. وذكر ناس أنّ من هذا الباب قوله جل ثناؤه: {أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 3 يعني خلق. وإنما جاز أن يقول أنزل لأن الأنعام لا تقوم إِلاَّ بالنبات والنبات لا يقوم إِلاَّ بالماء، والله جلّ ثناؤه ينزل الماء من السماء. قال: ومثله: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} 4 وهو جلّ ثناؤه إنما أنْزَلَ الماء، لكن اللباس من القطن، والقطن لا يكون إِلاَّ بالماء. قال: ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} 5 إنما أراد -والله أعلم- الشيء يُنْكَحُ بِهِ من مَهْر ونَفقة، ولا بد للمتزوج بِهِ منه.

_ 1 ديوانه: 84، وابن أحمر: هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر الباهلي، شاعر مخضرم مات سنة 65هـ. 2 العذاب: ما استرق من الرمل. 3 سورة الزمر، الآية: 6. 4 سورة الأعراف، الآية: 25. 5 سورة النور، الآية: 33.

باب القول في أصول أسماء قيس عليها وألحق بها غيرها

باب القول فِي أصول أسماء قِيسَ عَلَيْهَا وأُلحِقَ بِهَا غيرُها: كَانَ الأصمعي يقول: أصل "الورِد" إتيان الماء، ثُمَّ صار إتيانُ كلِّ شيء ورْداً. و"القرَبَ" طلبُ الماء. ثُمَّ صار يقال ذَلِكَ لكل طلب، فيقال: "هو يَقْرَب كذا" أي يطلبه و"لا تَقْرب كذا". ويقولون: "رَفَعَ عَقِيرَتَهُ" أي صوته، وأصل ذَلِكَ أن رَجُلاً عُقِرَتْ رجله فرفعها وجعل يَصيحُ بأعلى صوته فقيل بعد ذَلِكَ لكل من رفع صوته: رفع عقيرته. ويقولون: "بَيْنَهما مسافة" وأصله من "السَّوف" وهو الشم. ومثل هَذَا كثير.

قلنا: وهذا الَّذِي عن الأصمعي وسائر ما تركنا ذكره لشهرته فهو راجع إِلَى الأبواب الأُوَلِ، وكلّ ذَلِكَ عندنا توقيف عَلَى مَا احتججنا لَهُ. وقول هؤلاء: إنه كَثُرَ حَتَّى صار كذا، فعلى مَا فسرناه من أن الفرع مُوَقَّفٌ عليه، كما أن الأصل موقَّف عَلَيْهِ.

باب الأسماء كيف تقع على المسميات

باب الأسماء كَيْفَ تقع عَلَى المسميات: يُسمَّى الشيئان المختلفان بالاسمين المختلفين، وذلك أكثر الكلام كرَجُل وفرس. وتسمى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد، نحو: "عين الماء" و"عين المال" و"عين السحاب". ويسمى الشيء الواحد بالأَسماء المختلفة. نحو: "السيف والمهنّد والحسام"1. والذي نقوله فِي هَذَا: إن الاسم واحد وهو "السيف" وَمَا بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى. وَقَدْ خالف فِي ذَلِكَ قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها فإنها ترجع إِلَى معنى واحد. وذلك قولنا2: "سيف وعضب وحُسام". وقال آخرون: لَيْسَ منها اسم ولا صفة إِلاَّ ومعناه غيرُ معنى الآخر. قالوا: وكذلك الأفعال. نحو: مضى وذهب وانطلق. وقعد وجلس. ورقد ونام وهجع. قالوا: ففي "قعد" معنى لَيْسَ فِي "جلس" وكذلك القول فيما سواهُ. وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. واحتجُ أصحاب المقالة الأولى بأنه: لو كَانَ لكلّ لفظة معنىً غير معنى الأُخرى لما أمكن أن يعبّر عن شيء بغير عبارته. وذلك أنّا نقول فِي "لا ريب فِيهِ": "لا شك فِيهِ" فلو كَانَ "الرَّيْب" غير "الشَّكّ" لكانت العبارة عن معنى الرّيب بالشك

_ 1 المهند: السيف الهندي. والحسام: السيف القاطع أو طرفه الذي يضرب به. 2 الغضب: السيف القاطع.

خطأ. فلما عُبّرَ عن هَذَا بهذا علم أن المعنى واحد. قالوا: وإِنما يأتي الشعر بالاسمين المختلفين للمعنى الواحد فِي مكان واحد تأكيداً ومبالغة. كقولهم1: وهند أتى من دونها النأيُ والبُعدُ فقالوا: فالنأي هو البعد قالوا: وكذلك قول الآخر: إِن الحبس هو الأصْرُ. ونحن نقول: إِن فِي قعد معنىً ليس فِي جلس. ألا ترى أَنَّا نقول "قام ثُمَّ قعد" و"أخَذَهُ المقِيمُ والمقْعِدَ" و"قَعَدَتِ المرأة عن الحيض". ونقول لناس من الخوارج "قَعَدٌ" ثُمَّ نقول: "كَانَ مضطجعاً فجلس" فيكون القعود عن قيام والجلوس عن حالة هي دون الجلوس لأن "الجَلْسَ: المرتفع" فالجلوس ارتفاع عما هو دونه. وَعَلَى هَذَا يجري الباب كلُّه. وأما قولهم: إِن المعنيين لو اختلفا لما جاز أن يُعَبَّر عن الشيء بالشيء. فإنا نقول: إنّما عُبّر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول إِن اللفظتين مختلفتان، فيلزمنا مَا قالوه. وإنما نقول إِن فِي كلّ واحدة منهما معنىً لَيْسَ فِي الأخرى. ومن سُنَن العرب فِي الأَسماء أن يسمّوا المتضادَّين باسم واحد. نحو"الجَوْن" للأسود و"الجَوْن" للأبيض. وأنكر ناس هَذَا المذهب وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضدّه. وهذا لَيْسَ بشيء. وذلك أن الَّذِين رَوَوْا أن العرب تُسمي السيف مهنَّداً والفَرَسَ طِرْفاً هم الَّذِين رَوَوْا أن العرب تُسمِّي المتضادَّين باسم واحد. وَقَدْ جرَّدنا فِي هَذَا كتاباً ذكرنا فِيهِ مَا احتجوا به، وذكرنا ردَّ ذَلِكَ ونقصه، فلذلك لَمْ نكرره. من ذَلِكَ "المائدة" لا يقال لَهَا مائدة حَتَّى يكون عَلَيْهَا الطعام لأن المائدة من "مَادني يميدُني" إِذَا أعطاك. وإلاَّ فاسمها "خِوَان". وكذلك "الكأس" لا تكون كأساً حَتَّى يكون فِيهَا شراب. وإلا فهو "قدح" أَوْ "كوب".

_ 1 ديوان الحطيئة: 39 وصدره: ألا حبذا هند وأرض بها هند.

وكذلك "الحُلَّة" لا تكون إِلاَّ ثوبين: إزار ورداء من جنس واحد فإن اختلفا لَمْ تُدْعَ حُلَّة. ومن ذَلِكَ "الظعينة" لا تكون ظعينة حَتَّى تكون امرأة فِي هودج1 عَلَى راحلة. ومن ذَلِكَ "السَّجْل" لا يكون سجلاً إِلاَّ أن يكون دلواً فِيهِ ماء، و"اللِّحْيَة" لا تكون إِلاَّ شعراً عَلَى ذّقّن ولَحْيَيْن2. ومن ذَلِكَ "الأرِيكَة" وهي الحَجْلة3 عَلَى السرير لا تكون كذا. فسمعت عليَّ بن إبراهيم يقول سمعت ثعلباً يقول: الأرِيكة لا تكون إِلاَّ سريراً مُتَّخَذاً فِي قبة عليه شَوارُهُ ونجْدُهُ4. وكذلك "الذنوب" لا تكون ذنوباً إِلاَّ وهِي ملأى، ولا تسمّى خالية ذَنوباً. ومن ذَلِكَ "القلم" لا يكون قلماً إِلاَّ وَقَدْ بُرِيَ وأُصلح، وإلاَّ فهو أُنْبوبة. وسمعت أبي يقول: قيل لأعرابي "مَا القلم?" فقال: "لا أدري" فقيل لَهُ "تَوَهَّمْهُ" فقال: "هو عود قُلِمَ من جانبيه كتقليم الأُظفور5 فسُمِّيَ قلما". ومن ذَلِكَ "الكوب" لا يكون إِلاَّ بلا عروة, و"الكوز" لا يكون إلا بعروة.

_ 1 الهودج: مركب النساء يوضع على راحلة. 2 اللحيان: عظما الحنكين. 3 الحجلة: كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور للعروس. 4 الشوار: الهيئة واللباس والزينة. النجد: جمع النجد وهو ما ينجد به البيت من بسط وفرش ووسائد. 5 الأظفور: لغة في الظفر.

باب الاسمين المصطلحين

باب الاسمين المصطلحين: أخبرنا عليّ بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: قال الأصمعي: إِذَا كَانَ أَخَوان أَوْ صاحبان وَكَانَ أحدهما أشهر من الآخر سُمّيا جميعاً باسم الأشهر، قال الشاعر1:

_ 1 لسان العرب مادة "حرر" ونسبته إلى المنخل اليشكري، وأراد بالحرين: الحر وأخاه أبيا.

ألا مَنْ مُبْلِغُ الحُرَّيْنِ عني ... مُغَلْغَلَةً وخُصَّ بِهَا أُبيَّا وأحدهما هو "الحُرّ". وكذلك الزَّهدَمان والثعلبتان1. ويكون ذَلِكَ فِي الألقاب كقولهم لِقَيْسٍ ومُعاوية ابنَيْ مالك بن حَنْظَلة "الكُرْدوسان", ولِعَبْس وذُبْيان "الأَجربان". وذَكَر الأبواب بطولها. وإنما نذكر من كلّ شيء رسماً لشُهْرَته.

_ 1 الزهدمان: أخوان من عبس: زهدم وكردم أو قيس. والثعلبتان: ابن جدعاء، وابن رومان.

باب في زيادات الأسماء

باب فِي زيادات الأسماء: ومن سُنن العرب الزّيادة فِي حروف الاسم، ويكون ذَلِكَ إما للمبالغة وإما للتشويه والتقبيح. سَمعت مَن أثِقُ بِهِ قال: تفعل العَرب ذَلِكَ للتشويه، يقولون للبعيد مَا بَيْنَ الطرفين المفرط الطول "طِرِمّاح", وإنما أصله من "الطَّرَح" وهو البعيد، لكنه لما أفرط طوله سُمي طرمّاحاً، فشُوّه الاسم لما شوهت الصورة. وهذا كلام غير بعيد. ويجيء فِي قياسه قولهم "رَعَشْنٌ" للذي يرتعش, و"خَلْبَنٌ" و"زُرْقَمٌ" للشديد الزَّرق و"صِلْدِم" للناقة الصُّلْبة، والأصل صَلْد و"شَدْقَم" للواسع. ويكون من الباب قولهم للكثيرة التَّسَمُّع والتَّنظُّر: "سِمْعَنَّةٌ، نِظْرَنَّة". ومن الباب: كبير وكُبار وكُبَّار. وطُوَال وطُوَّال.

باب الحروف

باب الحروف: قال أحمد بن فارس: هَذَا باب يصلح فِي أبواب العربية، لكني رأيت فقهاءنا يذكرون بعض الحروف فِي كتب الأصول، فذكرنا منها مَا ذكرناه عَلَى اختصار. فأصل الحروف الثمانيةُ والعشرون الَّتِي منها تأليف الكلام كلِّه. وتتولَّد بعد ذَلِكَ حروف كقولنا1: "اصْطَبر" و"ادكر" تولدت الطاء لعلّة، وكذلك الدال. فأول الحروف الهمزة، والعرب تنفرد بِهَا فِي عُرْض الكلام مثل "قرأ" ولا يكون فِي شيء من اللغات إِلاَّ ابتداءً. وممّا اختصت بِهِ لغة العرب الحاء والظاء. وزعم ناس أن الضاد مقصورة عَلَى العرب دون سائر الأمم. قال أبو عبيدة: وَقَدْ انفردت العرب بالألف واللام اللتين للتعريف، كقولنا: "الرجل" و"الفرس" فليسا فِي شيء من لغات الأمم غير العرب. باب ذكر دخول ألف التعريف ولامه فِي الأسماء: تدخل ألف التعريف ولامهُ عَلَى اسمين: متمكن وغير متمكن فالذي هو غير متمكن "الَّذِي" و"الَّتِي". والمتمكن قولنا: "رجل" ثُمَّ يكون ذَلِكَ للجنس والتعريف. فالأول قولنا "رجل" لِمَنْكُورٍ، فإذا عُهد مرّة قيل "الرجل". والجنس قولنا "كثر الدينار والدِّرهم" وقوله والذئب أخشاه إن مررت بِهِ لا يريد بِهِ ذئباً بعينه، إنما يريد أنه يخشى هَذَا الجنس من الحيوان. ويكون الألف واللام بمعنى الَّذِي كقولنا "جاءني الضاربُ عمرًا" بمعنى:

_ 1 اصطبر: أصله اصتبر على وزن افتعل، وقلبت التاء طاء لتناسب الصاد. وادكر: أصله اذتكر على وزن افتعل، وقلبت التاء دالا ثم أدغمت الذال بالدال.

الَّذِي ضرب عمراً. وربما دَخلا عَلَى الاسم وضعاً، لا لجنس ولا لشيء من المعاني كقولنا: "الكوفة" و"البصرة" و"البشْرُ" و"الثَّرثارُ". وربما دخلا للتفخيم نحو"العبّاس" و"الفضل. وهذان هما اللذان يدخلان فِي أسماء الله -جلّ وعزّ- وصفاتِهِ. باب الألف المُبْتَدأ بِهَا: يقولون: ألِفُ أصْل، وألف وصل، وألف قَطْع، وألف استفهام، وألف المُخْبر عن نفسه. فالألف الَّتِي للأصل قولنا "أتى يأتي". وألف القطع مثل "أكرم". وألف الاستفهام نحو: "أخَرجَ زيد?". وألف المُخْبِر عن نفسه نحو: "أنا أخرجُ". وألف الوصل: تدخل عَلَى الأسماء والأفعال والأدوات. ففي الأسماء قولنا: "اسم" و"ابن" وَفِي الأفعال قولنا: "اضْربْ". والتي تدخل عَلَى الأدوات مختلف فِيهَا: قال قوم هي الألف فِي قولك: "أَيم الله". والألف الَّتِي تدخل عَلَى لام التعريف مثل "الرجُل"، وهذا فِي مذهب أهل البصرة. وكثيراً مَا سمعت أبا سعيد السيْرافيّ يقول فِي ألف الرجل ألف لام التعريف. والكوفيون يقولون ألف التعريف ولامه وهما مثل "هل" و"بل". بابُ وُجوه دُخول الألف فِي الأفعال: دخول الألف فِي الأفعال لوجوهٍ: أحدها: أن يكون الفعل بالألف وغير الألف بمعنىً واحد نحو قولهم "رَمَيْتُ عَلَى الخمسين" و"أَرْمَيْتُ" أي زدت و"عَنَدَ العِرْقُ" إذَا سال و"أَعْنَدَ". والوجه الآخر: أن يتغيَّر المعنَيَان، وإن كَانَ الفعلان فِي القياس راجعين إِلَى أصل واحد نحو: "وَعَيْتُ الحديث" و"أَوْعَيْتُ المتاعَ فِي الوعاء". ومن هَذَا الباب "أَسْقَيْتُه" إذَا جعلت لَهُ سُقْياً و"سَقَيْتُهُ" إذَا أنت سقيته. والوجه الثالث: أن يتضادَّ المعنيان بزيادة الألف نحو: "تَرِبَ" إذَا افْتَقرَ,

و"أَتْرَب" إذَا اسْتَغْنَى. والوجه الرابع: أن يكون الفعلان لشيئين مختلفين، فيكون بغير ألف لشيء وبالألف لشيء آخر. من ذَلِكَ "حَيّى القومُ بعدَ هُزال" إذَا حسنت أحوالهم و"أَحْيَوْا" إذَا حيَّت دَوابُّهم. والوجه الخامس: أن يكون بالألف بمعنى العَرْض وبغير ألف لإنفاذ الفعل نحو"بِعْتُ الفرس" إذَا أمضيت بيعه و"أَبَعْتُه" إذَا عرضته لبيع. والوجه السادس: أن يكون بالألف إخباراً عن مجيء وقت نحو: "أَحْصَدَ الزَّرعُ" حان لَهُ أن يُحْصَد. والوجه السابع: أن يكون دالاًّ عَلَى وجود شيء بصفة نحو"أَحْمَدتُ الرجُل" إذَا وجدته محموداً. والوجه الثامن: أن يدل عَلَى إتيان فعل نحو"أَخَسَّ الرجل" أتى بِخَسِيسِ. وتكون الألف للتعدية نحو"أذهبتُ زيداً". وربّما كَانَتْ هَذِهِ الألف للشيء نفسه، ويكون الفاعل ذلك بلا ألف نحو: "أَقْشَعَ الغيمُ" و"قَشَعْته الريحُ"، و"أًَتْرَفَتْ البئرُ" ذهب ماؤها و"تَرَفْناها نحنُ" و"أنْسَلَ رِيشُ الطائر" سقط و"نَسَلته أنا"، و"أكبَّ عَلَى وجهه" قال الله جل ثناؤه: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} 1 و"كَبَّهُ اللهُ" قال الله جل ثناؤه: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} 2. باب شرحُ جُملةٍ تقدَّمت فِي أَلِفات الوَصْل: ألفات الوصل تكون فِي صدور الأسماء والأفعال والأدوات, ويذكر أهلُ العربية أنها نَيّفٌ وأربعون ألفاً- عَلَى تكرير يقع فِي بعضها- لأن الَّذِي يذكر منها فِي المصادر مكرَّرٌ فِي الأفعال. فأما الَّتِي فِي الأسماء فَتِسْعَ عشرة ألفاً. وهي عَلَى ضربين: ألفٌ فِي اسم لَمْ

_ 1 سورة الملك، الآية: 22. 2 سورة النمل، الآية: 90.

يَصدُر عن فعل، فالألفات فِي الأسماء الَّتِي لَمْ تصدر عن الأفعال ثمان: ألف "ابن" و"ابنة" و"اثنين" و"اثنتين" و"امرئ" و"امرأة" و"اسم" وألف ثامنة. والألفات فِي الأسماء الصادرة عن الأفعال هي الَّتِي فِي "اقتطاع" و"استعطاف" و"ارتداد" و"احميرار" و"اسحنكاك"1 و"اقشعرار" و"اخرِوَّاط"2 و"اعْريراء"3 و"اطّواف" و"اثيقال". وهذه تكون فِي الإدراج ساكنةً وإذا ابتدئ بِهَا كَانَتْ مكسورة. وأما الَّتِي فِي الأفعال فثلاث: منها فِي الأمر بالفعل الثلاثي. مثل "اضْرِبَ، اعلمُ، اقْتُلُ". ومنها فِي الأفعال الماضية التي صدرت عنها الأسماء المتقدّم ذكرها إحدى عشرة ألفاً وهي: أَفْتَعلَ، وانْفعَلَ، واسْتفعَل، وافْعلّ، وافعال، وافعنلل، وافعوعل، وافعلل، وافعل، وافّاعِلْ. وقد ذكرنا ترجمة هذه الأمثلة ثم تقع هذه الألقاب بعينها في الأفعال المستقبلة المأمور بها وهي: افتعل، وانفعل، واستفعل، وافعلل، وافعالل، وافعنلل، وافعول، وافعوعل، وافعلل، وافعل، وافاعل. وقد أعلمتُ أن فِيهَا تكريراً ليكون الباب أبلغ شرحاً. وأما الَّتِي تقع فِي الأدوات فقليلة عَلَى اختلاف فِيهَا، وإنما هي فِي قولهم "أيمُ الله". والألف التي مع اللام فِي قولنا: "الرجلُ". وموضع الاختلاف أن الألف فِي "أَيمُ" مقطوعة صحيحة. وهي بالهمزة أشبه منها بألفات الوصل، إِلاَّ أن نقول "إِيمُ الله"4 بالكسر فيكون حينئذ أشبه بألف الوصل. والألف الَّتِي مع اللام قَدْ تقدم ذكرها. باب الباء: الباء من حروف الشفَّة. ولذلك لا تأتلف مع الفاء والميم: أما الفاء فلا تقارنها باء متقدمة ولا متأخرة. وأما الميم فلا تتقدم عَلَى الباء ملاصقةً لَهَا بوجه,

_ 1 اسحنكك الليل: أظلم، واسحنكك الكلام عليه: تعذر. 2 اخروط بهم الطريق: طال وامتد. واخروطت اللحية. طالت. 3 اعرورى: سار في الأرض وحده، واعرورى قبيحًا إذا أتاه. 4 أيم الله بمعنى أيمن الله، للحلف والقسم.

ومتأخّرةً كذلك إِلاَّ فِي قولنا "شَبمٌ". وَقَدْ يدخل بَيْنَهما دخيل فِي مثل "عَبَام" وهي عَلَى الأحوال يقل تألفها معها. وهي من الحروف الأصلية، وَمَا أعلمهم زادوها فِي شيء من أبنية كلامهم، إِلاَّ فِي حرف قاله الأغلب: فَلَّكَ ثدياها مع النتُوبِ ... أراد النُّتُوء فزاد الباء والباء تكون للإلصاق، وللاعتمال، وَفِي موضع "عن"، وَفِي موضع "من"، وتكون للمصاحبة، وتقع موقع "مع". وتقع موقع "فِي" و"عَلَى"، وتكون للبدل، ولتعدية الفعل، وللسبب، وتكون دالَّة عَلَى نفس المُخْبِر عنه وظاهرها يُوهِم أن الإخبارَ عن غيره، ومنها المُلْصَقة بالاسم والمعنى الطرح، ومنها باء الابتداء، ومنها باء الْقَسَم. فالإلصاق قولك: "مسحت يدي بالأرض". ومن أهل العربية من يقول: "مررت بزيد" إنها للإلصاق، كَأَنَّه ألصق المرورَ بِهِ. وكذا إذَا قال: "هَزَأت بِهِ". والإِعْتِمال قولنا "كتبت بالقلم" و"ضربت بالسيف". وذكر ناس أن هَذِهِ والتي قبلها سواء. والباء الواقعة موقع "عن" قولهم "سألت بِهِ" إنما أردت عنه ومنه {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} 1. ومنه2: وسائِلة بثعلبةَ بنِ سير والباء الواقعة موقع "من" فِي قوله جل ثناؤه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} 3 أراد منها. و4:

_ 1 سورة المعارج، الآية: 1. 2 الأصمعيات: 203 للمفضل النكري. وعجزه: وقد أودت بثعلبة العلوق 3 سورة الإنسان، الآية: 6. 4 ديوان عنترة: 163. وتمام اليبت: شَرِبَتْ بماء الدُّحْرَضَيْنِ فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم

شَرِبَتْ بماء الدُّحْرَضَيْنِ وباء المصاحبة: "دخل فلان بثيابه وسيفه" وقوله عزّ وجلّ: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} 1 ومنه "ذهبت بِهِ" لأنك تكون مصاحباً لَهُ. والباء الَّتِي فِي موضع "فِي" قوله2: مَا بُكتْ الكبير بالأَطلال والتي فِي موضع "عَلَى" قوله3: أربٌ يبول الثَّعْلُبانُ برأسه أراد "عَلَى". وباء البدل, قولهم: "هَذَا بذاك" أي عوض منه. ومنه: قالت بما قَدْ أراهُ بصيراً وباء تعدية الفعل "ذهبت بِهِ" بمعنى "أذهبته". وقوله جلّ ثناؤه: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} 4 لَيْسَ من ذا، لأن سرى وأسرى واحد. وباء السبب قوله جلّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 5 أي من أجله. فأما قوله جلّ وعزّ: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} 6 فمحتمل أن يكونوا كفروا بِهَا وتبرءوا منها. ويجوز أن تكون باء السبب، كَأَنَّه قال: "وكانوا من أجل شركائهم كافرين". والباء الدالّة عن نفس المُخبّر عنه والظاهر أنها لغيره قولك: "لقيت بفلان

_ 1 سورة المائدة، الآية: 61. 2 ديوان الأعشى: 204، وعجزه: وسؤال فهل ترد سؤالي 3 الحيوان: 6/ 304 بلا عزو، وفي ديوان العباس بن مرداس: 167. وعجزه: لقد هان من بالت عليه الثعالب وقيل: إن الثعلبان ذكر الثعالب، والأنثى ثعالة. 4 سورة الإسراء، الآية: 1. 5 سورة النحل، الآية: 100. 6 سورة الروم، الآية: 13.

كريماً" إنما أردته هو نفسه. ومنه قوله1: وَلَمْ يَشْهَدِ الْهَيْجَا بأَلْوَثَ مُعْصِم أراد نفسه. والزائدة, قولك "هززت برأسي" و"لا يَقْرَأْنَ بالسُّور". وباء الابتداء قولك: "باسم الله" المعنى: أبدأ باسم الله. وباء القسم: قولك "أُقْسِمُ بالله" ثُمَّ يحذف "أقسم" فيقال: "بالله". فإن أرادوا أن يُقسموا بمُضْمَر لَمْ يقولوه إِلاَّ بالباء يقولون: "والله" فإذا أضمروا قالوا: "بِهِ لا فعلت" قال2: ألا نادَتْ أُمامَةُ بارْتِحال لِتُحْزِنَني فلا بِكِ مَا أُبالي فأما قوله جلّ ثناؤه {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} 3، فقال قوم: الباء فِي موضعها وأن العرب تعرف ذَلِكَ وتفعله. قال امرؤ القيس4: فإن تَنْأَ عنها حقْبَةً لَمْ تُلاقِها ... فإنَّك مما أَحْدَثَتْ بالمُجرَّبِ وقال قوم: إنما هو"بالمُجَرِّبَ" بكسر الراء، ويكون معناه "كالمُجَرِّب" كما قال عديّ5: إِنني والله فاقبل حَلْفَتِي ... بِأَبِيلٍ كُلَّما صَلَّى جَأَرْ قالوا: معناه "كابيل" وهو الراهب وبمنزلته فِي الدين والتقوى. ومن روى بيت امرئ القيس بالفتح فالمعنى "بموضع التجريب" كما قال جلّ ثناؤه: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} 6 أي بحيث يفوزون. وكذلك "بالمجرَّب" أي بحيث جُرِّبت وبحيث التجريب، والمُجَرَّب والتجريب واحد.

_ 1 المقاييس مادة "عصم" بلا عزو. وصدره: إذا ما غدا لم يسقط الروع رمحه 2 لسان العرب مادة "با" ونسبته إلى غوية بن سلمى، وفي الخصائص: 2/ 19. 3 سورة الأحقاف، الآية: 33. 4 ديوانه: 42 ط. 5 ديوان عدي بن زيد: 61. 6 سورة آل عمران، الآية: 188.

كقولهم "مُمَزَّق" بموضع تمزيق فِي قوله جلَّ ثناؤه {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} 1. بابُ التاء: التاء: تزاد فِي الكلام أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة: فزيادتها فِي الأسماء أُولى فِي نحو"تَنْضُب"2 و"تَتْفُل"3. وَفِي الفعل "تَفْعَل" وَمَا أشبهه. والثانية نحو"اقتدر". والثالثة "استفعل". والرابعة "سَنْبَتةٌ من الدهر"4 لأن الأصل "سَنْبَة". والخامسة مثل "عفريت". والسادسة مثل "عنكبوت". ومن التاء: تاء القسم نحو: "تالله". قالوا: هي عِوَض من الواو كقولهم "تُجَاه" و"تُكْلان". وتقع فِي جمع المؤنث نحو: "قائمات". وتكون بدلاً من الهاء فِي لغة من يقول: "ليست عندنا عربيت". وتاء تدخل عَلَى "ثُمَّ" و"رُبَّ" و"لا"، كقولهم ثُمت ورُبَّتَ ولاتَ حِين. وناس يقولون: هي داخلة عَلَى "حين". وتاء المؤنث نحو: "هي تفعل". وتاء النفس نحو: "فعلتُ" و"فعلتَ" فِي المخاطبة. و"فعلتِ" و"فعَلَتْ" فِي الأخبار عن المؤنث5: يَا قبح الله بني السعْلاتِ ... عَمْرو بن مسعود شرارِ النات وأما الثَّاءُ: فلا أعرف لها عِلَّةً، ولا تقع زائدةً.

_ 1 سورة سبأ، الآية: 19. 2 التنضب: شجر حجازي شوكه كشوك العوسج. 3 التنفل: الثعلب أو جروه. 4 السنبة: الدهر أو الحقبة. 5 لسان العرب مادة "نوت"، وفي الإنصاف: 1/ 119، ونسبته إلى علباء بن أرقم.

وكذلك الجيم: إِلاَّ فِي الَّذِي ذكرناه من اللغات المستكرَهة. والحاء والخاء: فلا أعرف لهما علّةً. والدال: لا عِلَّة لَهَا إِلاَّ فِي لغة من يقلب التاءَ دالاً. فحدثنا عليّ عن محمد بن فرح عن سلمة عن الفَرَّاء قال: قوم من العرب يقولون: "أجدَبيكَ" فِي موضع "أَجتَبِيكَ" يجعلون تاء الافتعال بعد الجيم دالاً, ويقولون: "اجْدَمَعُوا" وأنشد1: فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واحدْزّ شِيحا والراء: لا أعرف لها علة. وكذلك الزاي. وأما السين: فإنها تزاد فِي "استفعل". ويختصرون "سَوْفَ أَفْعَلُ" فيقولون "سَأَفْعَلُ". ولا أعرف للشين علّة غير الَّذِي ذكرناه فِي الحروف المستكرهة وكذلك فِي الحروف الَّتِي بعدّها حَتَّى العين. وعِلة العين أنّها تقوم مقام الهمزة فِي لغة بني تميم يقولون: "علمت عَنَّ ذَاكَ" كأنما أراد "أَنَّ". وكذلك الحروف الَّتِي بعدها حَتَّى الفاء. باب الفاء: قال البصريون "مررت بزيد فعمرو: الفاء أشركت بَيْنَهما فِي المرور

_ 1 خزانة الأدب: 11/ 17، وفي شرح شواهد الشافية: 481، ونسبته إلى مضرس بن ربعي.

وجعلت الأول مبدوءاً بِهِ". وكان الأخفش يقول: "الفاء تأتي بمعنى الواو" وأنشد1: بسِقط اللَّوى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ وخالفه بعضهم فِي هَذَا فقال: لَيْسَ فِي جعل الشاعِر الفاء فِي معنى الواو فائدةٌ، ولا حاجة بِهِ إلى أن يجعل الفاءَ فِي موضع الواو ووزنُ الواو كوزن الفاء. قال: وأصل الفاء أن يكون الَّذِي قبلها علّةً لما بعدها. يقال: "قام زيد فقام الناس". وزعم الأخفش أن الفاء تُزاد، يقولون: "أخوك فَجَهدَ" يريد: أخوك جَهَد، واحتجَّ بقوله جلَّ ثناؤه: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} 2. وَكَانَ قُطْرُب يقول بِقَولِ الأخفش، يقول: إن الفاء مثلُ الواو فِي "بَيْنَ الدخول فَحَوْمَلِ" قال: ولولا أن الفاء بمعنى الواو لفسد المعنى، لأنه لا يريد أن يُصيِّره بَيْنَ الدَّخول أولاً ثُمَّ بَيْنَ حَوْمَل وهذا كثير فِي الشعر. وتكون الفاء جواباً للشرط. تقول: "إن تَأتني فحسَنٌ جميل" ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} 3 دخلتِ الفاء لأنه جعل الكفر شريطة كَأَنَّه قال: ومن كفر فتعساً لَهُ. وأمّا القاف: فلا أعلم لَهَا علّة إِلاَّ فِي جعلهم إيّاها عند التعريب مكان الهاء نحو "يَلْمَق". باب الكاف: تقع الكاف مخاطبة: للمذكر مفتوحة، وللمؤنث مكسورة. نحو: "لكَ" و"لكِ".

_ 1 ديوان امرئ القيس: 29، وصدره: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل 2 سورة الجن، الآية: 23. 3 سورة محمد، الآية: 8.

وتدخل فِي أول الاسم للتشبيه فتخفض الاسم. نحو: "زيد كالأسد" وأهل العربية يقيمونها مقام الاسم ويجعلون لَهَا محلاً من الإعراب، ولذلك يقولون: "مررت بِكالأسد" أرادوا بمثل الأسد. وانشدوا1: عَلَى كالخنيف السَّحق يدعو بِهِ الصدى ... لَهُ قلُبٌ عادِيَّةٌ وصُحونُ فأما الكاف فِي قوله جل ثناؤه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} 2 فقال البصريون: هَذِهِ الكاف زائدة، زيدت لمعنى المخاطَبة. قال محمد بن زيد: وكذلك رُوَيْدكَ زيداً. قال: والدليل عَلَى ذَلِكَ أنّك إذَا قلت أرأيتَكَ زيداً? فإنما هي أرأيت زيداً? لأن الكاف لَوْ كَانَتْ اسماً لاستحال أن تُعدى "أرأيت" إِلَى مفعولين إِلاَّ والثاني هو الأول. يريد قولهم "أرأيتَ زيداً قائماً?" لا يتعدى "رأيتَ" إلى مفعولين إِلاَّ إِلَى مفعول هو "زيد" ومفعول آخر هو "قائم" فالأول هو الثاني. قال: و"أرأيتَك زيداً?" الثاني غير الكاف، قال: وإن أردت رؤية العين لَمْ يتعدّ إِلاَّ إِلَى مفعول واحد. قال: ومع ذَلِكَ إن فعل الرجل لا يتعدى إِلَى نفسه فيتصل ضميراً إِلاَّ فِي باب "ظَنَنْت" و"عَلِمْت". فأمّا ضربتُني وضَرَبْتَك فلا يكون. وكذلك إذَا قلت: "رُوَيْدَكَ زيداً" إنما يُراد "أَروِدْ زيداً" قال الزجّاج: الكاف فِي هَذَا المكان لا موضع لَهَا لأنها ذكرت فِي المخاطبة توكيداً. وموضع هَذَا نصب بـ"أرأيتَك?". وقال الكوفيون: إن محلّ هَذِهِ الكاف الرفع إذَا قلنا "لولاك" فهي فِي موضع رفع. ثُمَّ نقول: "لولا أنتَ" وإنما صَلَح هَذَا لأن الصورة فِي مثل هَذَا صورة واحدة فِي الرفع والنصب والخفض. وتكون الكاف دالة عَلَى البعد. تقول: "ذا" فإذا بُعد قلت "ذَاكَ". وتكون الكاف زائدة كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 3. وتكون للعجب نحو: "مَا رأيت كاليوم ولا جِلْدَ مخبأة".

_ 1 لسان العرب مادة "خنف". الخنيف: أراد الكتان، والطريق. السحق: الثوب البالي. 2 سورة الإسراء، الأية: 62. 3 سورة الشورى، الآية: 11.

باب اللام: اللام: تقع زائدة فِي موضعين: فِي قولهم "عبدل" وَفِي قولهم "ذَلِكَ". واللام تكون مفتوحة ومكسورة: ففي المفتوحات لام التوكيد وربما قيل: لام الابتداء نحو قوله جل ثناؤه: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} 1. وقال: لَلُبْسُ عَبَاءة وتَقرَّ عيني ... أحْبُّ إليَّ من لبس الشُّفُوف2 وتكون خبراً لـ"إن": إنَّ زيداً لقائمٌ. ولام التوكيد: إن هَذَا لأنت. وتكون فِي خبر الابتداء نحو: أم الحليس لعجوز". وزعم ناس أنها تقع صِلةً لا اعتبار بِهَا. ويزعم أنه اعتبر ذَلِكَ من قراءة بعض القراء "إِلاَّ أنّهم لَيأكلون" ففتح "أن" وألغى اللامَ. وأنشد بعضُ أهل العربية3: وأعلمُ علماً لَيْسَ بالظَّنّ أنّهُ ... متى ذَلَّ مولى المرء فهو ذليلُ وأن لِسان المرء مَا لَمْ تكن لَهُ ... حصاة عَلَى عوراته لدليل واللام تكون جوابَ قَسَم "والله لأَقومَنَّ" وتلزمها النونُ فإن كَانَتْ للماضي لَمْ يُحْتَجْ إِلَى النون "والله لَقَامَ". ولام الاستغاثة نحو قولهم: "يَا للنَّاس" فإن عَطَفْتَ عَلَيْهَا أُخرى كَسَرْتَ. يُنشِدون: يُبْكيك ناءٍ بعيدُ الدّارِ مُغْتَرِبٌ ... يَا للكهولِ وللشُّبَّانِ والشّيبِ4 قال بعض أهل العلم: إِن لام الإضافة تجيء لمعان مختلفة: منها أن تصَيّرَ المُضاف للمُضَافِ إِلَيْهِ. نحو {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} 5.

_ 1 سورة الحشر، الآية: 13. 2 خزانة الأدب: 8/ 503، ونسبته إلى ميسون بنت بحدل الكلابية. والمقتضب: 2/ 27. والشفوف جمع الشف: الثوب الرقيق. 3 ديوان طرفة: 112. والمراد بالبيت الثاني أن الإنسان العاقل يتحلى بالروية فيتحكم بلسانه كي لا يبوح بما يجب أن يكتمه. 4 المقتضب: 4/ 256 بلا عزو. وللشبان للعجب. وفي الخزانة: 2/ 154. 5 سورة آل عمران، الآية: 129.

ومنها أن تكون سبباً لشيء, وعِلةً لَهُ. مثل {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 1. ومنها أن تكون إرادة. نحو: "قُمتُ لأَضرب زيداً" بمعنى قمت أريد ضَرْبَهُ. ومنها أن تكون بمعنى "عند" مثل قوله جل ثناؤه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} 2 و {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي عنده. ومنها أن تكون بمنزلة "فِي". مثل قوله جلّ وعزّ: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} 3 أي فِي أول الحشر. ومنها أن تكون لمرور وقت. نحو قول النابغة4: تَوَهَّمْت آياتٍ لَهَا فعرفتها ... لِسِتَّةِ أعوام وذا العامُ سابعُ ومنه قولهم: "غلام لَهُ سنة" أي أتتْ عَلَيْهِ سنة. وتكون بمعنى "بعد" مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "صوموا لِرُؤْيته" 5 أي بعد رؤيته. وتكون للتخصيص. نحو "الحمد لله", وَفِي الكلام "الفصاحة لقريش والصباحة لبني هاشم"6. وتكون للتعجب. نحو: "لله دَرُّه! " ويُنشدون7: لله يبقى عَلَى الأيَّام ذو حِيَدٍ ... بمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ ويقولون: "يَا لِلْعَجَب! " معناه: يَا قوم تعالوا إِلَى العجب ولِلْعجب أدعو.

_ 1 سورة الإنسان، الآية: 9. 2 سورة طه، الآية: 14. 3 سورة الحشر، الآية: 12. 4 ديوان النابغة الذبياني: 796. 5 تمام الحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، رواه النسائي: صيام8، وأحمد: 4/ 321. 6 الصباحة: الجمال. 7 المقتضب: 2/ 324، بلا عزو. وفي شرح شواهد الإيضاح ص544، لأبي ذؤيب الهذلي. والحيد: جمع الحيد: ما شخص من نواحي الشيء، وكل نتوء في قرن أو جبل. والمشمخر: الجبل العالي. الآس: ضرب في الشجر الواحدة: آسة. والظيان: ياسمين البر وهو نبت يشبه النسرين. والبيت في لسان العرب: مادة "شمخر" و"ظين"، وفيه: تالله يبقى ... وقوله: يبقى. يريد: لا يبقى.

وَقَدْ تجتمع الَّتِي للنداء والتي للعجب فيقولون1: ألا يا لقوم لِطَيْف الخيال ... يُؤَرّقُ من نازِحٍ ذي دلاَل وتكون للأمر. نحو: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} 2 وربما حُذفت هَذِهِ فيقولون3: محمد تَفْدِ نَفسكَ كلُّ نَفْسٍ وقالوا فِي لام الأمر: كَانَ الأصل "اذهب" فلما سقطت الألف لَمْ يوصل إِلَى الفعل إِلاَّ بلام، لأن الساكن لا يُبْدأ بِهِ. وقوله جل ثناؤه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} 4 فقال قائل: لِمَ جاز أن تكون المَغْفِرة جزاءً لِما امُتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ وهو قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} ? فالجواب من وجهين: أحدهما أن الفتح وإن كَانَ من الله جلَّ ثناؤه فكل فعل يفعله العبد من خير فالله الموفق لَهُ والمُيَسّر، ثُمَّ يجازي عَلَيْهِ، فتكون الحسنة من العبد مِنةً من الله جلّ وعزّ عَلَيْهِ. وكَذلك جزاؤه لَهُ عنها منه. والوجه الآخر أن يكون قوله جلّ ثناؤه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} 5 فأمَرَهُ بالاستغفار إِذَا جاء الفتح، فكأنه أعلمه أنه إِذَا جاء الفتح واستغفر غفر لَهُ مَا تقدم من ذنبه وَمَا تأخر، فكأن المعنى عَلَى هَذَا الوجه: إنا فتحنا لَكَ فتحاً مبيناً، فإذا جاء الفتح فاستغفر ربك ليغفر لَكَ الله مَا تقدم من ذنبك وَمَا تأخر. وقال قوم: فتحنا لَكَ فِي الدّين فتحاً مبيناً لتهتدي بِهِ أنت والمسلمون فيكون ذَلِكَ سبباً للغفران. ومن اللامات لام العاقبة. قوله جل ثناؤه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 6 وَفِي أشعار العرب ذَلِكَ كثير: جاءت لتُطعمَه لحما ويَفْجَعَها ... بابنٍ فقد أطعمت لحماً وَقَدْ فجعا

_ 1 شرح أشعار الهذليين: 2/ 494، وفي خزانة الأدب، 2/ 420. 2 سورة الحج، الآية: 29. 3 شرح شذور الذهب: 275، وفي المقتضب 2/ 132 بلا نسبة. وعجزه: إذا ما خفت من شيء تبالا 4 سورة الفتح، الآية: 1. 5 سورة النصر، الآية: 1. 6 سورة القصص، الآية: 8.

وهي لم تجئ لذلك، كما أنهم لَمْ يلتقطوه لذلك، لكن صارت العاقبة ذَلِكَ. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} 1 أي: أتيتَهم زينةَ الحياة فأصارهم ذَلِكَ أن ضلُّوا. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا} 2 هي لام العاقبة. وتكون زائدة. {هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} 3 و {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} 4. باب زيادة الميم: والميم تزاد أولى فِي مثل: مُفْعل ومِفْعل ومَفْعل وغير ذَلِكَ. وتزاد فِي أواخر الأسماء. نحو: زُرْقُم وشَدْقم. باب زيادة النون: تُزاد أولى وثانيةً وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة. فالأولى: "نَفْعَل". وقالوا: "نَرْجِس" وَلَيْسَ نرجس من كلام العرب، والنون لا تكون بعدّها راء. والثانية: نحو: "ناقةٌ عَنْسَلٌ", والثالثة: فِي "قَلَنْسُوَة", والرابعة: فِي "رَعْشن"، والخامسة: فِي "صَلتَان"، والسادسة: فِي "زَعْفَرَان". وتكون فِي أول الفعل للجمع. نحو: "نخرج". وعلامة للرفع فِي: "يخرجان" فإذا قلنا: الرجلان فقال قوم: هي عوض من الحركة والتنوين. وقال آخرون: هي فرق بَيْنَ الواحد المنصوب والاثنين المرفوعين. وتقع فِي الجمع نحو: "مسلمون" وربما سقطت فقالوا5:

_ 1 سورة يونس، الآية: 88. 2 سورة الأنعام، الآية: 53. 3 سورة الأعراف، الآية: 154. 4 سورة يوسف، الآية: 43. 5 لسان العرب: مادة "وكف"، ونسبته إلى عمرو بن امرئ القيس, وقيل لقيس بن الخطيم، وتمام البيت: =

الحافظو عورة العشيرة وتكون ثانية فعل المطاوعة نحو "انكسر" و"بَغيْتهُ فانْبغى". وتكون للتأكد مُخَفَّفة ومُثقَّلَة. نحو: "اضْرِبْنَ" و"اضْرِبنَّ" إِلاَّ أنها تقلب عند التخفيف فِي الكتاب ألفاً. نحو: "لَنَسْفعاً". وتكون للمؤنثة, نحو: "تفعلين" وللجماعة "تفعلن". وتُلحق آخر الاسم فِي "زيدٌ خرج", فَرْق بَيْنَ المفرد والمضاف. ويقولون: فرقاً بَيْنَ مَا يجري وَمَا لا يجري. وقالت الجماعة: إنما اختيرت النون لأنها أشبه بحروف الإعراب من جهة الغُنَّة. وَمَما تختص بِهِ النون من بين سائر الحروف انقلابُها فِي اللفظ إِلَى غير صورتها ضرورة، وذلك إِذَا كَانَتْ ساكنة وجاءت بعدها باء تنقلب ميماً "عنْبر" و"شَنْباء". والهاء: تُزَاد فِي "يَا زَيْداه" وَفِي "سُلْطَانيهُ" وهم يسمونها استراحة وبيان حركة. وللوقف عَلَى الكلمة نحو "عِهْ" و"شِهْ" و"اقْتدِه". باب الواو: لا تكون الواو زائدةً أولى. وَقَدْ تزاد ثانيةً وثالثة ورابعة وخامسة. فالثانية نحو "كوثر" والثالثة نحو "جدول". والرابعة نحو "قَرنُوة"1. والخامسة نحو "قَمَحْدُوة"2. وتكون للنَّسَق، وهو العطف، نحو: "زيد وعمرو". وتكون علامةَ رفع نحو: "أخوك والمسلمون".

_ والحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف 1 القرنوة: الهرنوة أو عشبة أخرى، ولا نظير لهما سوى عرقوه وعنصوة، وترقوة وثندوة. 2 القمحدوة: الهنة الناشزة فوق القفا وأعلى القذال خلف الأذنين.

فإذا قالوا: "يُعجبني ضَربُ زيدٍ وتَغْضَبَ" فقال قوم: نُصِبَ "تَغْضبَ" عَلَى إِضمار "أنْ" معناه وأن تغضب فيصيرُ فِي معنى المصدر. كأنك قلتَ "يعجبني ضَرْبُ زيد وغضَبُك" فتخرج بذلك من أن تكون ناسِقَةً فعلاً عَلَى اسم. ويقولون1: للُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني بمعنى وأن تقرّ عيني. فإن نَسَقْت فعلاً عَلَى فعل مجموعين فإعرابهما واحد هو "يقوم ويضرب زيداً" فإن لَمْ تُرِد الجمعَ بَيْنَهما نصبتَ الثاني فيقال نَصبَ بإضمار "أنْ" يقولون: "لا تأكلِ السمك وتشربَ اللبنَ" و2: لا تَنْهَ عن خُلُق وتَأتيَ مِثْلَهُ وتكون بمعنى الباء فِي القَسَم نحو "والله". وتكون الواو مُضْمَرَة في مثل قوله جل ثناؤه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} 3 التأويل: ولا على الذين إذا ما أَتوك لتحملهم وقلت: لا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ تولوا. فجواب الكلام الأول تولّوا. وتكون بمعنى "رُبّ". نحو "وَقَاتِم الأعْماقِ". وتكون بمعنى "مَعَ" كقولهم "اسْتَوى الماءُ والْخشَبة" أي مع الخشبة وأهل البصرة يقولون فِي قوله جلّ ثناؤه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 4 معناها مع شركائكم. كما يقال: "لو تُركت الناقة وفَصيلها" أي مع فصيلها. وقال آخرون: أجْمِعوا أمركم وادعوا شركاءكم، اعتباراً بقوله جلّ وعزّ: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} 5.

_ 1 البيت لميسون بنت بحدل الكلابية كما في خزانة الأدب: 8/ 503، والمقتضب: 2/ 27. وشطره: أحْبُّ إليَّ من لبس الشُّفُوف 2 لأبي الأسود الدؤلي، ديوانه: 404، وبلا عزو في المقتضب: 2/ 26. وعجزه: عار عليك إذا فعلت عظيم 3 سورة التوبة، الآية: 92. 4 سورة يونس، الآية: 71. 5 سورة هود، الآية: 13.

وتكون صِلةً زائدةً كقوله جلّ وعزّ: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 1 المعنى إِلاَّ لَهَا. وتكون بمعنى "إِذ" كقوله جلّ وعزَ: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} 2 يريد إذ طائفة. وتقول: "جئت وزيدٌ راكب" أي إذ زيد. وقال قوم: للواو معنيان: معنى اجتماع ومعنى تفرُّق نحو "قام زيد وعمرو". وإن كَانَتْ الواو فِي معنى اجتماع لَمْ تُبَل بأيّهما بَدأتَ. وإن كَانَتْ فِي معنى تَفَرُّق فعمرو قائم بعد زيد. وذهب آخرون إِلَى أن الواو لا تكون إِلاَّ للجمع. قالوا: إِذَا قلت: "قام زيد وعمرو" جاز أن يكون الأمر وقع منهما جميعاً معاً فِي وقت واحد وجاز أن يكون الأول تقدم الثاني، ونكتة بابِها أنَّها للجمع. وتكون الواو عَطْفاُ بالبناء عَلَى كلام يُتَوَهَّم، وذلك قولك إِذَا قال القائل: "رأيتُ زيدا عند عمرو", قلتَ أنتَ "أَوْ هو ممن يُجالسه?"، قال البصريون: معناهُ كَأَنَّ قائلاً قال: "هو ممن يجالسه" فقلتَ أنت "أوَ هو كذاك?"، وَفِي القرآن "أوَ أمِنَ أهلُ القُرى?" , وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} 4, فليس بأو إنما هي واو عطف دخل عَلَيْهَا ألف الاستفهام كأنه لما قيل لهم: {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} 5 استفهموا عنهم. وتكون الواو مُقحَمةً كقوله جلَّ ثناؤه: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} 6 أراد -والله أعلم- فاضرب بِهِ لا تحنث، جزماً عَلَى جواب الأمر، وَقَدْ تكون نهياً والأول أجود. وكذلك {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} 7 أراد "لنعلمه" وَقَدْ قيل: "ولنعلمه فعلنا ذَلِكَ". وكذلك: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ} 8 أي

_ 1 سورة الحجر، الآية: 4. 2 سورة آل عمران، الآية: 154. 3 سورة الأعراف، الآية: 98. 4 سورة الصافات، الآية: 16، 17. 5 سورة هود، الآية: 7. 6 صورة ص، الآية: 44. 7 سورة يوسف، الآية: 21. 8 سورة الصافات، الأية: 7.

"وحفظاً فعلنا ذَلِكَ". وقوله1: فَلمَّا أجَزْنا ساحة الحيِّ وانْتَحى قيل: هي مُقْحَمة. وقيل: معناه أجزنا وانتحى. باب الياء: الياء: تُزاد أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة. فالأولى "يَرْمعٌ"2 و"يرْبوعٌ"3. والثانية "حَيْدَرٌ"4. والثالثة "خَفَيدَدٌ"5. والرابعة "إِصلِيتٌ"6. والخامسة "ذَفاري"7. وتكون أولى فِي الأفعال نحو: "يضرب". وللإضافة نحو: "عِبَادي". وللتثنية والجمع نحو: "الزَّيْدَين" و"الزَّيْدِينَ". وتكون علامة للخَفْض نحو: "أخيك". وللتَّأنيث نحو: "استَغْفرِي". وللتَّصْغير نحو: "بُيَيْتٌ". وللنَّسَب نحو: "كُوفِّي".

_ 1 ديوان امرئ القيس: 41، وعجزه. بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل اليرمع: الخذروف يلعب به الصبيان، وحجارة رخوة إذا فتتت انفتت. 3 اليربوع: دابة، ولحمة المتن. 4 الحيدر: الأسد، والغلام السمين، أو الحسن الجميل. 5 الخفيدد: السريع، والظليم. 6 الإصليت: الرجل الماضي في الحوائج، والسيف الصقيل الماضي. 7 الذفاري: جمع الذفرى، من جميع الحيوان: العظم الشاخص خلف الأذن.

باب القول على الحروف المفردة الدالة على المعنى

باب القول عَلَى الحروف المفردة الدَّالَّةِ عَلَى المعنى: وللعرب الحروف المفردة الَّتِي تدلُّ عَلَى المعنى. نحو التاء فِي "خَرَجْتُ" و"خَرَجْتَ", ونحو الياء و"ثَوْبي" و"فَرَسي". ومنها حروف تدلّ عَلَى الأفعال نحو "إ زيدًا" أي عِدْهُ. و"ح" من وحَيتُ. و"دِ" من وَدَيْتُ, و"ش" من وَشيْتُ, و"عِ" من وَعَيْتُ, و"فِ" من وَفَيْتُ و"قِ" من وَقَيْتُ و"لِ" من وَلِيْتُ و"نِ" من وَنَيْتُ و"هِـ" من وهيت. إلا أنَّ حذّاق النحويين يقولون فِي الوقف عَلَيْهَا "شِهْ" و"دِهْ" فيقفون عَلَى الهاء. ومن الحروف مَا يكون كناية ولَهُ مواضع من الإعراب نحو قولك: "ثوبه" فالهاء كنايةٌ لَهَا محلٌ من الإعراب. ومنه مَا يكون دلالة لَهُ مثل "رأيتها" فالهاء اسم لَهُ محل والميم والألف علامتان لا محلّ لهما، فعلى هَذَا يجيء الباب. فأمّا الحروف الَّتِي فِي كتاب الله جل ثناؤه فواتحَ سور فقال قوم: كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسماء الله، فالألف من اسمه "الله" واللام من "لطيف" والميم من "مجيد". فالألف من آلائه واللام من لطفه والميم من مجده. يُروَى ذا عن ابن عباس وهو وجه جيِّد، وَلَهُ فِي كلام العرب شاهد، وهو: قلنا لَهَا قفي فقالت قاف وقال آخرون: إن الله جلّ ثناؤه أقسم بهذه الحروف أن هَذَا الكتاب الَّذِي يقرأه محمد -صلى الله عَلَيْهِ وسلم- هو الكتاب الَّذِي أنزله الله جل ثناؤه لا شك فِيهِ. وهذا وجه جيد، لأن الله جلّ وعز دل عَلَى جلالة قدر هَذِهِ الحروف، إذ كَانَتْ مادَّة

البيان ومباني كتب الله عزّ وجلّ المنزلة باللغات المختلفة، وهي أصول كلام الأمم، بِهَا يتعارفون، وبها يذكرون الله جلّ ثناؤه. وَقَدْ أقسم الله جل ثناؤه فِي كتابه بالفجر والطور وغير ذلك، فكذلك شأنُ هَذِهِ الحروف فِي القسم بِهَا. وقال قوم: هَذِهِ الأحرف من التسعة وعشرين حرفاً دارَتْ بِهَا الألْسِنة، فليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه جلّ وعزّ، وَلَيْسَ منها حرف إلا هو فِي آلائه وبلائه، وَلَيْسَ منها حرف إلا وهو فِي مدة أقوام وآجالهم: فالألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون. رواه عبد الله بن جعفر الرازي عن أبيه عن الرّبيع بن أنس وهو قول حَسَنٌ لطيف، لأنّ الله جلّ ثناؤه أنزل عَلَى نبيه محمد -صلى الله عَلَيْهِ وسلم- الفرقان فلم يدع نظماً عجيباً ولا علماً نافعاً إلا أودعه إيَّاهُ، عَلِم ذَلِكَ من عَلمَهُ وَجهِلهُ مَن جَهِلهُ. فليس مُنْكراً أن ينزل الله جلّ ثناؤه هَذِهِ الحروف مشتملة -مع إيجازها- عَلَى مَا قاله هؤلاء. وقولٌ رُوِي عن ابن عباس فِي {ألم} 1: "أنا الله أعلم". وَفِي {ألمص} 2: "أنا الله أعلم وأفصل". وهذا وجه يقرب مما مضى ذكره من دَلالة الحرف الواحد عَلَى الاسم التامّ والصفة التامّة. وقال قوم: هي أسماء للسُّور فـ {ألم} اسم لهذه و {حم} 3 اسم لغيرها. وهذا يُؤثَرُ عن جماعة من أهل العلم، وذلك أن الأسماء وضِعَت للتمييز، فكذلك هَذِهِ الحروف فِي أوائل السُّوَر موضوعة لتمييز تِلْكَ السُّور من غيرها. فإن قال قائل: فقد رأينا {ألم} افتتح بِهَا غير سورة، فأين التمييز? قلنا: قَدْ يقع الوفاق بَيْنَ اسمين لشخصين، ثُمَّ يميز مَا يجيء بعد ذَلِكَ من صفة ونعت كما قيل "زيد وزيد" ثُمَّ يميزان بأن يقال: "زيد الفقيهُ" و"زيد العربيُّ" فكذلك إذا

_ 1 سورة البقرة، الآية: 1, سورة آل عمران الآية: 1، سورة العنكبوت، الآية: 1، سورة الروم، الآية: 1، سورة لقمان، الآية: 1، سورة السجدة، الآية: 1. 2 سورة الأعراف، الآية: 1. 3 سورة غافر، الآية: 1، سورة الشورى، الآية: 1، سورة الزخرف، الآية: 1، سورة الدخان، الآية: 1، سورة الجاثية، الآية: 1، سورة الأحقاف، الآية: 1، سورة فصلت، الآية: 1.

قرأ القارئ {ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} 1 فقد مّيزها عن الَّتِي أولها {ألم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 2. وقال آخرون: لكل كتاب سرٌّ وسرّ القرآن فواتح السور. وأظنّ قائل هذا أراد أن ذَلِكَ من السرّ لا يعلمه إلا الخاص من أهل العلم والراسخون فِيهِ. وقال قوم: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فِيهِ وقال بعضهم لبعض {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} 3 فأنزل الله تبارك وتعالى هَذَا النظم ليتعجبوا منه، ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم، وأسماعهم لَهُ سبباً لاستماع مَا بعده، فترق حينئذ القلوب وتلين الأفئدة. وقول آخر: إن هَذِهِ الحروف ذكرت لتدل عَلَى أن القرآن مؤلف من الحروف الَّتِي هي أب ت ث فجاء بعضها مقطعاً وجاء تمامها مؤلفا ليدل القوم الذين نزل القرآن فيما بَيْنَ ظهريهم أنه بالحروف الَّتِي يعقلونها فيكون ذَلِكَ تقريعاً لهم ودلالة عَلَى عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد أن أعلموا أنه منزل بالحروف الَّتِي يعرفونها ويبنون كلامها منها. قال أحمد بن فارس: وأقرب القول فِي ذَلِكَ وأجمعه قول بعض علمائنا: إن أولى الأمور أن تُجعل هَذِهِ التأويلات كلّها تأويلاً فيقال: إن الله جلّ وعزّ افتتح السور بهذه الحروف إرادةً منه الدلالة بكل حرف منها عَلَى معان كثيرة لا عَلَى معنىً واحد. فتكون الحروف جامعة لأن تكون افتتاحا للسور، وأن يكون كلُّ واحد منها مأخوذاً من اسم من أسماء الله جلّ ثناؤه، وأن يكون الله جل ثناؤه قَدْ وضعها هَذَا الموضع قَسَماً بها، وأن كل حرف منها فِي آجال قوم وأرزاق آخرين، وهي مع ذَلِكَ مأخوذة من صفات الله جلّ وعزّ فِي أنعامه وأفضاله ومجده، وأن الافتتاح بِهَا سبب لأن يستمع إلى القرآن من لَمْ يكن يستمع، وأن فِيهَا أعلاماً للعرب أن القرآن الدال عَلَى صحة نبوّة محمد صلى الله عَلَيْهِ وسلم هو بهذه الحروف، وأن عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة بينهم دليل عَلَى كذبهم وعنادهم وجحودهم، وأن كلّ عدد منها إذا وقع فِي أول سورة فهو اسم لتلك السورة.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 1. 2 سورة آل عمرن، الآية: 2. 3 سورة فصلت، الآية: 26.

وهذا هو القول الجامع للتأويلات كلّها من غير اطراح لواحد منها، وإنما قلنا هَذَا لأن المعنى فِيهَا لا يمكن استخراجه عقلاً من حَيْثُ يزول بِهِ العذر، لأن المرجع إلى أقاويل العلماء، ولن يجوز لأحد أن يعترض عليهم بالطعن وهم من العلم بالمكان الَّذِي هم بِهِ ولهم مع ذَلِكَ فضيلة التقدم ومزية السبق. والله أعلم بما أراد من ذَلِكَ.

باب الكلام في حروف المعاني

باب الكلام فِي حروف المعاني: رأيتُ أصحابنا الفقهاء يضمّنون كتبهم فِي أصول الفقه حروفاً من حروف المعاني، وَمَا أدري مَا الوجه فِي اختصاصهم إيّاها دون غيرها. فذكرت عامّة حروف المعاني رسماً واختصاراً، فأوّل ذَلِكَ مَا كَانَ أوله ألف: باب أم: "أم" حرف عطف نائب عن تكرير الاسم أو الفعل نحو "أزيد عندك أم عمرو?". ويقولون: ربمّا جاءت لقطع الكلام الأوّل واستئناف غيره، ولا يكون حينئذ من باب الاستفهام. يقولون: "إنّها الإبِلٌ أم شاء". ويكون ههنا -فِي قول بعضهم- بمعنى "بل" كقوله جل ثناؤه: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} 1 وينشدون2: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرّباب خيالا وقال أهل العربية: أمررت برجل أم امرأة "أم" تُشرك بينهما كما أشركت بينهما "أو". وقال آخرون: فِي "أم" معنى العطف، وهي استفهام كالألف إلاّ أنها لا تكون فِي أول الكلام لأن فِيهَا معنى العطف. وقال قوم: هي "أو" أبدلت الميم من الواو لتحول إلى معنى، يريد إلى معنى "أو" وهو قولك فِي الإستفهام "أزيد قام أم عمرو?" فالسؤال عن أحدهما بعينه. ولو جئت بـ"أو" لسألت عن الفعل. وجواب أو "لا" أو "نعم", وجواب أم "فلان" أم "فلان". وقال أبو زيد: العرب تزيد "أم". وقال قوله جلّ ثناؤه {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ

_ 1 سورة الطور، الآية: 30. 2 ديوان الأخطل: 245، الرباب: السحاب الأبيض. الغلس: ظلمة آخر الليل.

هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} 1: معناه "أنا خير". وَكَانَ سيبويهِ يقول: "أفلا تبصرون": أم أنتم بصراء. وَكَانَ أبو عُبَيْدة يقول: "أم" يأتي المعنى ألف الاستفهام كقوله جلّ ثناؤه {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} 2 بمعنى "أتريدون"? وقال أبو زكريا الفرّاء: العرب تجعل "بل" مكان "أم" وأم مكان بل. إذا كَانَ فِي أول الكلمة استفهام. فقال3: فوالله مَا أدري أسلمى تغوّلتْ ... أم النومُ أم كلٌّ إليَّ حبيب معناه: "بل". فأما قوله جلّ ثناؤه: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا} 4 فقيل: أظننت يَا محمد هَذَا، ومن عجائب ربك جل وعزّ مَا هو أعجب من قصة أصحاب الكهف? وقال آخرون: "أم" بمعنى ألف الاستفهام كأنه قال: "أحَسِبْت"? و"حسبت" بمعنى "علمت" ويكون الاستفهام فِي "حسبت" بمعنى الأمر كما تقول لمن تخاطبه "أعلمت أن زيداً خرج"? بمعنى أمر, أي اعلم أن زيداً خرج. قال: فعلى هَذَا التدريج يكون تأويل الآية: إعلم يَا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً. باب أَوْ: أو: حرف عطف يأتي بعد الاستفهام للشكّ: "أزيد عندك أو بكر?" تريد "أحدهما عندك?" فالجواب "لا" أو "نعم". وإذا جعلت مكانها "أم" فأنت مثبت أحدهما غير أنّك شاكٌ فِيهِ بعينه فتقول: "أزيد عندك أم عمرو؟ " فالجواب "زيد" أم "عمرو".

_ 1 سورة الزخرف، الآية: 52. 2 سورة البقرة، الآية: 108. 3 لسان العرب: مادة "درك" بلا عزو. 4 سورة الكهف، الآية: 9.

وتكون "أو" للتخير كقوله جل ثناؤه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1. وتكون للإباحة تقول: "خذ ثوباً أو فرَساً". وأما قوله جلّ ثناؤه: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} 2 فقال قوم: هَذَا يُعارَض ويُقابَلُ بِضدّه فيصح المعنى ويبين المراد، وذلك أنّا نقول: "أطِعْ زيداً أو عمراً" فإنما نريد أطع واحداً منهما، فكذا إذا نَهَيْناه وقلنا: "لا تطع زيداً أو عمراً" فقد قلنا لا تُطع واحداً منهما. وقوله جلّ ثناؤه: {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} 3 فقال قوم: هي بمعنى الواو "ويزيدون". وقال آخرون: بمعنى "بل". وقال قوم: هي بمعنى الإباحة كأنه قال: إذا قال قائل: "هم مائة ألف" فقد صدق. وقول القائل: "مررت برجل أو امرأة" فقد أشركَتْ "أو" بينهما فِي الخفض وأثبتت المرور بأحدهما دون الآخر. وتكون "أو" بمعنى "إلاّ أنْ" تقول "لألومنَّك أو تُعطيني حقي" بمعنى إلاّ أن تعطيني. قال امرؤ القيس4: فقلتُ لَهُ لا تبك عينُكَ إنَّما ... نُحاول مُلكاً أو نموتُ فنُعذرا وزعم قوم أن "أو" تكون بمعنى الواو ويقولون: كل حق لَهَا داخل فِيهَا أو خارج منها، وكل حق سميّناه فِي هَذَا الكتاب أو لَمْ نسمه وإن شئتَ قلت بالواو وأنشدوا5: فذلكما شهرين أو نصفَ ثالث ... إلى ذاكما مَا غَيَّبتني غيابيا وَكَانَ الفرّاء يقولون: فِي "مائة ألف أو يزيدون": بل يزيدون وقال بعض البصريين منكراً لَهَا: لو وقعت "أو فِي هَذَا الموضوع موقع "بل" لجاز أن تقع فِي غير هَذَا الموضع وكنا نقول "ضربت زيداً أو عمراً" عَلَى غير الشك لكن بمعنى

_ 1 سورة المائدة، الآية: 89. 2 سورة الإنسان، الآية: 22. 3 سورة الصافات، الآية: 147. 4 ديوانه: 95. 5 الخصائص: 2/ 460 بلا عزو، وبهامشه لابن أحمر، وفيه: ألا فالبثا شهرين.

"بل"، وهذا غير جائز قالوا: ووجه آخر أنَّ بل تأتي للإضراب بعد غلط أو نسيان وهذا منفي عن الله جل ثناؤه فإن أتي ثناؤه بها بعد كلام قد سبق من، وهذا غير القائل فالخطأ إنما لحِقَ كلام الأول نحو قَوله جل ثناؤه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} 1 فهم أخطئوا فِي هَذَا وكفروا بِهِ فقال جلّ وعزّ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} . وزعم قوم أن معناها "أو يزيدون عَلَى ذَلِكَ". قلنا: والذي قاله الفراء فقول قَدْ تقدمه فِيهِ ناس. وقول من قال: أن "بل" لا يكون إلاّ إضراباً بعد غلط أو نسيان فخطأ، لأن العرب تُنشد2: بل مَا هاج أحزاناً وشجواً قَدْ شجا وهذا لَيْسَ من المعنيين فِي شيء. فأما قوله: "أو أشدُّ قَسْوةً" وَمَا أشبهه من قوله عزّ وجل: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} 3 أن المخاطب يعلمه، لكنه أبهمه عَلَى المخاطَب وطواه عنه. وقال آخرون: بعضها كالحجارة وبعضها أشدَّ قسوة. أي هي ضربان: ضرب كذا أو ضرب كذا. باب إي وأي: إي: فِي زعم أهل اللغة يكون بمعنى "نعم" تقول "إي وربّي". أي: "نعمْ وربّي" قال الله جل ثناؤه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} 4. وأي: معناها "يقول" ومثال ذَلِكَ أن تقول فِي تفسير "لا ريب فِيهِ": "أي لا شك فِيهِ"، المعنى: يقول لا شك فِيهِ. وسمعتُ أبا بكر أحمد بن عليّ بن إسماعيل الناقد يقول: سمعت أبا إسحاق الحربيّ يقول سمعت عمر بن أبي عمرو الشَّيْبانِيّ يقول: سألت أبي عن قولهم "أي" فقال: كلمةٌ للعرب تُشيِرُ بِهَا إلى المعنى.

_ 1 سورة الأنبياء، الآية: 26. 2 مغني اللبيب: 2/ 412، وبهامشه للعجاج. وقد زيدت "بل" في أول الشطر. 3 سورة النحل، الآية: 77. 4 سورة يونس، الآية: 53.

باب إنَّ وأنَّ وإنْ وأنْ: قال "الفَرّاء": "إنَّ" مقدرة لقسم متروك استُغْنيَ بِهَا التقدير: "والله إنّ زيداً عالمٌ". وَكَانَ ثعلب يقول: "إن زيداً لقائم" هو جواب مَا زيد بقائم فـ"إنّ" جواب "مَا" و"اللام" جواب "الباء". وَكَانَ بعض النحويين يقولون: "إنّ" مُضارِعَة للفعل لفظاً ومعنىً: أما اللفظ فللفتحة فِيهَا كما تقول "قامَ". والمعنى فِي "أن زيداً قائم": ثبت عندي هَذَا الحديث. وقال سيبويه: سألت الخليل عن رجل سميناه بـ"إن" كَيْفَ إعرابه? قال: بفتح الألف لأنه يكون كالاسم، وإذا كَانَ بكسر الألف لكان كالفعل والأداة، ولذلك نُصب فِي ذاته لأنه كالفعل ومعناه التثبيت للخبر الَّذِي بعده، ولذلك نصب بِهِ الاسم الَّذِي يليه. ومما يدل على أن "إن" للتثبيت قول القائل1: إن مَحَلاًّ وإنَّ مُرتَحَلا ... وإنَّ فِي السَّفْرِ مَا مضوا مهلا وتكون "إن": بمعنى "لَعَلّ" فِي قوله عزّ وجلّ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ} 2 بمعنى "لعلَّها إذا جاءت". وحكى الخليل: "إئتِ السوقَ أنْكَ تشتري لَنَا شيئاً" بمعنى "لعلَّك". و"أنّ" إذا كَانَتْ اسماً كَانَتْ فِي قولك "ظننت أن زيداً قائم" فيكون "أن" والذي بعدها قصةً وشأناً، نحو "ظننت ذَاكَ" فيكون محلّه نصباً، وإذا قلْت "بلغني أن زيداً عالمٌ" فهذا فِي موضع رفع. وإذا قلنا "عجبت من أنّ زيداً كلّمكَ" فمحله خفض عَلَى مَا رتبناه من أنه اسم. وأما "إن": فإنها تكون شرطاً، تقول: "إن خرجتَ خرجتُ". وتكون نفياً كقوله جلّ وعزّ: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} 3. وكقول الشاعر4: وَمَا إنْ طبنا جبنا

_ 1 الأعشى، ديوانه: 154. وفيه: مضى مهلا. 2 سورة الأنعام، الآية: 109. 3 سورة الملك، الآية: 20. 4 خزانة الأدب 4/ 112، ونسبته إلى فروة بن مسيك، وفيه: وَمَا إنْ طبُّنا جبن.

وتكون بمعنى "إذْ" قال الله جلّ وعزّ: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 بمعنى "إذ" لأنه جلّ وعزّ لَمْ يخبرهم بعلوّهم إلا بعدما كانوا مؤمنين. وزعم ناس أنها تكون بمعنى "لقد" فِي قوله جلّ ثناؤه: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 2 بمعنى "والصوم خير لكم"3. وتكون بمعنى "إذ" تقول: "أعجبني أن خرجتَ", وفرحتُ أن دخلتَ الدار". وَقَدْ تُضْمَر فِي قوله4: ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى وتكون بمعنى "أي" قال الله جلّ ثناؤه: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} 5 بمعنى: أي امشوا. باب إلى: تكون "إلى" بمعنى الانتهاء، تقول: "خرجتُ من بَغْدادَ إلى الكوفة". وتكون بمعنى "مع". قالوا في قوله جل ثناؤه: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} 6: بمعنى "مع الله" وقال قوم: معناها مَن يُضيف نُصرتَه إلى نصرة الله جلّ وعزّ لي? فيكون بمعنى الانتهاء، وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} 7. وربما قامت "إلى" مقام "اللام" قال "الشماخ8:

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 139. 2 سورة البقرة، الآية: 184. 3 سورة يونس، الآية: 29. 4 ديوان طرفة بن العبد: 46، وعجزه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي 5 سورة ص، الآية: 6. 6 سورة آل عمران، الآية: 52. 7 سورة النساء، الآية: 2. 8 ديوان الشماخ: 122، والشماخ هو ابن ضرار الغطفاني، شاعر مخضرم، مات سنة 22هـ. وبجلة: اسم قبيلة وهي بجيلة أيضًا. وخفافٌ ورعل ومطرود: أسماء.

فالْحق بَبجلَةَ ناسِبْهُم وَكن مَعَهُمْ ... حَتَّى يُعيرُوك مجداً غيرَ مَوْطُودِ واتركْ تُراثَ خُفافٍ إنهم هَلكوا ... وأنت حَيٌّ إلى رِعْلٍ ومَطرُودِ يقول: اتركْ تُراث خفاف لرعل ومطرود. وخفافٌ ورعل ومطرود بنو أبٍ واحد. وأخبرنا عليّ ابن ابراهيم القطان عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: ألقى عليَّ أعربيٌ هَذَا البيت فقل لي: مَا معناه? فأجبته بجواب، فقال لي: لَيْسَ هو كذا. وأجابني بهذا الجواب. وَكَانَ الَّذِي أجابهُ بهِ ابنُ الأعرابي أن خفافاً من غير رعِل ومطرود. باب أَلاَ: "ألاَ" افتتاح كلام، وَقَدْ قيل: إن "الهمزة" للتنبيه و"لا" نفي لدعوى فِي قوله جلّ ثناؤه {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} 1 فالهمزة تنبيهٌ لمخاطب و"لا" نفي للإصلاح عنهم. وَفِي كلام العرب كلمة أخرى تُشبهها لَمْ تجئ فِي القرآن وهي "أما" وهي كلمة تحقيق إذا قلت "أما إنّه قائمٌ" فمعناه "حقاً إنّه قائمٌ". باب إنما: سمعت عليَّ بن إبراهيم القطّان يقول: سمعت ثعلباً يقول: سمعت سلمة يقول: سمعت الفرَّاء يقول: إذا قلتَ: "إنما قمت" فقد نفيتَ عن نفسكَ كلَّ فعل إلا القيام، وإذا قلت: "إنما قامَ أنا" فإنك نفيتَ القيامَ عن كلّ أحد وأثبتَّهُ لنفسك. قال الفرَّاء: يقولون: "مَا أنت إلاَ أخي" فيدخل فِي هَذَا الكلام الأفراد. كأنه ادعى أنه أخٌ ومولىَّ وغير الأخوّة، فنفى بذلك مَا سواها. قال: وكذلك إذا قال: "إنما أنت أخي". قال الفرّاء: لا يكونان أبداً إلا ردّاً، يعني أن قولك "مَا أنت إلاّ أخي" و"إنّما قام أنا" لا يكون هَذَا ابتداء أبداً وإنما يكون ردّاً عَلَى آخر، كأنّه ادّعى أنه أخٌ ومولىَّ وأشياء أخر، فنفاه وأقرّ لَهُ بالأخوة، أو زعم أنه كَانَتْ منكَ أشياء سوى القيام فنفيتها كلها مَا خلال القيام. وقال قوم: "إنما" معناه التحقير. تقول: "إنما أنا بشر" محقراً لنفسك. وهذا

_ 1 سورة البقرة، الآية: 11.

لَيْسَ بشيء: قال الله جلّ ثناؤه: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1 فأين التحقير ها هنا؟ والذي قاله الفرّاء صحيح، وحجته قوله -صلى الله عَلَيْهِ وسلم: "إنّما الولاء لمن أعتق". باب إلاّ: أصل الاستثناء أن تَستثني شيئاً من جملة اشتملت عَلَيْهِ فِي أول مَا لفظ به، وهو قولهم: "مَا خرج الناسُ إلا زيداً" فقد كَانَ "زيد" فِي جملة الناس ثُمَّ أُخرج منهم، ولذلك سمي "استثناءً لأنه ثُنِّيَ ذكره مرةً فِي الجملة ومرّة فِي التفصيل. ولذلك قال بعض النحويين: المستثنى خرج مما دخل فيه، وهذا مأخوذ من "الثِّنَا" والثِّنا الأمر يثَّنى مرّتين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ثِنا فِي الصدقة" 2 يعني لا تؤخذ فِي السنة مرتين. قال أوس3: أفي جَنْب بَكْرٍ قطَّعَتْني ملامةً ... لَعَمري لقد كَانَتْ ملامتها ثِنَا يقول: لَيْسَ هَذَا بأولّ لومها، فقد فعلَتْه قبل هذا، وهذا ثِنًا بعده. وقال بعض أهل العلم: "إلا" تكون استثناء لقليل من كثير، نحو "قام الناسُ إلا زيداً". وتكون محققة لفعلٍ مَنفيّ عن اسم قبلها، نحو "مَا قام أحد إلا زيد". وتكون بمعنى "واو العطف" كقوله4: وأرى لَهَا داراً بأغدرة السيِّـ ... ـدَانِ لَمْ يَدْرُس لَهَا رسمُ إلا رَماداً هامداً دفعت ... عنه الرِّياحَ خوالِدٌ سُحْمُ أراد "ورماداً". وتكون بمعنى "بل" كقوله جلّ ثناؤه: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً} 5 بمعنى "بل تذكرة". ومنه قوله عزّ وجلّ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ

_ 1 سورة النساء، الآية: 170. 2 رواه مسلم: هبة 24، وبيوع 85. 3 ديوانه: 141. ولعله أراد أوس بن مغراء وهو شاعر تميمي مخضرم، مات سنة 55هـ. والبيت في ديوان كعب بن زهير: 9 برواية: قطعتني قلامة. 4 هو المخبل السعدي، ربيع بن مالك شاعر مخضرم جاهلي إسلامي، انظر ديوانه: 312، وفي لسان العرب: مادة "إلا" سحم: جمع أسحم: أسود. 5 سورة طه، الآية: 3.

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 1 معناه: والذين آمنوا {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} . وتكون "إلا" بمعنى "لكن" وتكون من الَّذِي يسمونها الاستثناء المنقطع كقوله جل ثناؤه: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى} 2 -معناه لكن من تولى- {وَكَفَرَ} . ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ} 3 كَانَ الفرّاء يقول: استثنى الشيء من الشيء لَيْسَ منه على الاختصار، ومن ذَلِكَ هَذِهِ الآية. ثُمَّ قال: وَفِي كتاب الله جل ثناؤه: {وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} 4 قال: هو مختصر، معناه "إلا أن يصيب الرجلُ اللمم" واللمم الذنوب. والله جلّ ثناؤه لا يأذن فِي قليل الذنب ولا كثيره. قال: ومما جاء فِي شعر العرب قول أبي خراش5: نجا سالم والنفس منه بشدقه ... وَلَمْ ينجُ إلا جفنَ سيفٍ ومِئْزَرا فاستثنى الجفن والمئزر وليسا من سالم، وإنما هَذَا عَلَى الاختصار. وأنشد6: وبلدة لَيْسَ بِهَا أنيسُ ... إلا اليعافير وإلا العيسُ معناه "لكن فِيهَا" ومثله قوله جلّ ثناؤه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 7 وأما قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} 8 فقال قوم أراد: "إلا عَلَى الذين ظلموا فإن عليهم الحجة" ويكون حينئذ "الذين" فِي موضع خفض ويكون أيضاً عَلَى "لكن الذين ظلموا فلا تخشوهم" تبتدئه. وقال

_ 1 سورة السجدة، الآية: 8. 2 سورة الغاشية، الآية: 22. 3 سورة الشعراء: الآية: 75. 4 سورة النجم، الآية: 32. 5 شرح أشعار الهذليين: 2/ 558 ونسبته إلى حذيفة بن أنس الهذلي وفي اللسان مادة "نفس" لأبي خراش، وهو خويلد بن مرة، شاعر مخضرم، مات سنة 15هـ. 6 هو جران العود، عامر بن الحارث النميري مخضرم، انظر ديوانه ص52. 7 سورة الشعراء، الآية: 77. 8 سورة البقرة، الآية: 150.

جل وعز: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1 فهذا قَدْ انقطع من الأوّل ويجوز أن يكون عَلَى الاستثناء من أوله كأنه قال: "إلا الذين ظلموا فجادلوهم بالتي هي أسوأ من لسان أو يدٍ" أي أغلظ، يريد مشركي العرب. وقوله جلّ ثناؤه: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} 2 قال قوم: إنما يريد المُكْرَه لأنه مظلوم فذلك عنه موضوع وإن نطق بالكفر. والاستثناء باب يطول. وَقَدْ يُستثنى من الشيء الموحَّد لفظاً وهو فِي المعنى جمع، نحو: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 3. واستثناء الشيء من غير جنسه لا معنى لَهُ مع الَّذِي ذكرناه من حقيقة الاستثناء. وإذا جَمع الكلام ضروباً من المذكورات وَفِي آخره استثناء، فالأمر إلى الدليل فإن جاز رجعه عَلَى جميع الكلام كَانَ عَلَى جميعه كقوله جلّ ثناؤه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4 ثُمَّ قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} والاستثناء جائز فِي كلّ ذَلِكَ والذي يمنع منه الدليل قوله جلّ ثناؤه: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} 5 فالاستثناء ها هنا عَلَى مَا كَانَ من حق الله جلّ ثناؤه دون الجلد. باب من الاستثناء آخر: قال قوم: لا يُستثنى من الشيء إلا مَا كَانَ دون نصفه: لا يجوز أن يقال عشرة إلا خمسة. وقال قوم: يُستثنى القليل من الكثير ويستثنى الكثير مما هو أكثر منه. وهذه العبارة هي الصحيحة. فأما من يقول: يُستثنى الكثير من القليل فليست بالعبارة الجيدة، قالوا: "عشرة إلا خمسة" حَتَّى يبلغ التسعة. قالوا: ومن الدليل عَلَى أن نصف الشيء قَدْ يستثنى من الشيء قوله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ

_ 1 سورة الأنعام، الآية: 152. 2 سورة النساء، الآية: 147. 3 سورة العصر، الآية: 2، 3. 4 سورة المائدة، الآية: 33. 5 سورة النور، الآية: 4.

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} 1 ثُمَّ قال: {نِصْفَهُ} أفلا تراه سمّى النصف قليلاً واستثناه من الأصل? قال أحمد بن فارس: واعترض قوم بهذا الَّذِي ذكرناه عَلَى أبي عبد الله مالك بن أنس فِي قوله فِي الجائحة؛ لأن مالكاً يذهب إلى أن الجائحة2 إذا كَانَتْ دون الثلث لَمْ يوضع لأنها قليل بمنزلة مَا تناله العوافي3 من الطير وغيرها وَمَا تلقيه الريح، فإذا بلغت الجائحة الثلث وَمَا زاد فهي كثيرة ولزم وضعها للحديث المرويّ فِيهَا. قال المعترض عَلَى أبي عبد الله مالك رضي الله تعالى عنه: فقد دفع هَذَا الفصل المعنى الَّذِي ذهب إليه مالك، لأن قوله جلّ ثناؤه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} 4 قَدْ جعل النصف قليلاً، فإذا كَانَ نصف الشيء قليلاً منه وجب أن يكون كثيرة مَا فَوْقَ النصف. فالجواب عن هَذَا أن مالكاً إنما ذهب فِي جعله الثلث كثيراً إلى حديث حدثناه عليّ بن إبراهيم عن محمد بن يزيد عن هشام بن عمار عن ابن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: "مرضت عامَ الفتح حَتَّى أشرفت، فعادَني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أي رسول الله إن لي مالاً وَلَيْسَ يرثني إلا ابنتي أفأتصدّق بثلثي مالي? قال: "لا". قلت: فالشطر? قال: "لا" قلت: فالثلث? قال: "الثلث كثير، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالَةً يتكففون الناس" , فبقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ مالك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بتأويل كتاب الله جلّ ثناؤه. باب إِيَّا: "إيَّا" كلمة تخصيص. إذا قلت: "إياك أردتُ" وَكَانَ الأصل "أردتك" فلما قدمت الكاف كما تقدم المفعول بِهِ فِي "ضربت زيداً" لَمْ تستقم كاف وحدها مقدمة عَلَى فعل فوصل بها "إيا".

_ 1 سورة المزمل، الآية: 1. 2 الجائحة: الشدة المجتاحة للمال. 3 العوافي: من قولك: عافت الطير أي استدارت على الشيء أو الماء أو الجيف. 4 سورة المزمل، الآية: 2.

وَقَدْ تكون "إيَّا" للتحذير كقوله: فإياكم وحية بطن واد ... هموز الناب ليس لكم بسي1 باب إذا: تكون "إذا" شرطاً فِي وقت موقت. تقول: "إذا خرجتَ خرجتُ". وزعم قوم أن "إذا" تكون لغواً وفضلاً وذكروا قوله جلّ ثناؤه: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} 2 قالوا: تأويله: "انشقت السماء" كما قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} 3 و {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} 4. قالوا: وَفِي شعر العرب قوله5: حَتَّى إذا أسلكوهم فِي قتائدَةٍ ... شلاًّ كما تطرد الجمَّالةُ الشردا المعنى: حَتَّى أسلكوهم. وأنكر ناس هَذَا وقالوا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} لَهَا جواب مضمر. وقول القائل: "حَتَّى إذا أسلكوهم" فجوابه قوله: "مثلاً"، يقول: "أسلكوهم شَلّوهم شلاًّ" واحتج أصحاب القول الأول بقول الشاعر6: فإذا وذلك لا مَهاةَ لذكره ... والدهرُ يُعْقِب صالحاً بفساد قالوا: المعنى "وذلك". وقال أصحاب القول الثاني: الواو مقحمة، المعنى "فإذا ذَلِكَ". وقولهم: "إذا فعلت كذا" يكون عَلَى ثلاثة أضرب: ضربٌ يكون المأمور بِهِ قبل الفعل: "إذا أتيتَ الباب فالبس أحسنَ لباس" ومنه قوله جلّ ثناؤه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 7. وضربٌ يكون مع الفعل كقولك: "إذا قرأت فترسَّلْ". وضرب

_ 1 ديوان الحطيئة: 139. 2 سورة الانشقاق، الآية: 1. 3 سورة القمر، الآية: 1. 4 سورة النحل، الآية: 1. 5 الإنصاف: 2/ 461، ونسبته إلى عبد مناف بن ربع الهذلي؟ 6 الأسود بن يعفر، جاهلي، انظر ديوانه: 31. 7 سورة المائدة، الآية: 6.

يكون بعد الفعل نحو {إِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} 1 و {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} 2. باب إذ: إذ تكون للماضي تقول: "أتذكر إذ فعلتَ كذا?" فأما قوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا} 3 فـ"ترى" مستقبل و"إذ" للماضي، وإنما كَانَ كذا لأن الشيء كائن وإن لَمْ يكن بعد، وذلك عند الله جلّ ثناؤه، قَدْ كَانَ، لأن علمه بِهِ سابق وقضاءه بِهِ نافذ فهو كائن لا محالة، والعرب تقول مثل ذا وإن لَمْ تعرف العواقب. قال4: ستندم إذ يأتي عَلَيْكَ رعيلنا ... بأرعن جرار كثير صواهله وقوله جل ثناؤه: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} 5 فقال قوم: قال لَهُ ذَلِكَ لمّا رفعه إليه. وقال آخرون: "إذ" و"إذا" بمعنىً. كقوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} 6 بمعنى: "إذا". قال أبو النجم7: ثُمَّ جزاهُ اللَّهُ عنّا إذ جَزَى ... جنات عدن فِي العلالي العُلَى المعنى: "إذا جزى" لأنه لَمْ يقع. ومثله قوله الأسود8: الحافظ الناس فِي تَحُوط إذا ... لَمْ يرسلوا تَحْتَ عائذ رُبَعَا وهبّت الشمأل البليل وإذ ... بات كَميعُ الفتاة مُلتَفِعا قالوا: فـ"إذا" و"إذ" بمعنىً. قال: وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت إذا تغورت النجوم

_ 1 سورة المائدة، الآية: 2. 2 سورة الجمعة، الآية: 9، وتمام الآية: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . 3 سورة الأنعام، الآية: 27. 4 مقاييس اللغة: مادة "جر" بلا عزو. والرعيل: القطعة من الخيل. أرعن جرار يعني جيشًا له فضول. 5 سورة آل عمران، الآية: 55. 6 سورة سبأ، الآية: 51. 7 تاج العروس: مادة "إذا". وأبو النجم من رجال العصر الأموي. 8 ديوان أوس بن حجر: 54.

و"إذ" تكون بمعنى "حين" كقوله جلّ ثناؤه: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} 1 أي "حين تفيضون". باب إِذًا: "إذاً" مجازاة عَلَى فعل، يقول: "أنا أقوم" فتقول: "إذاً أقوم معك". هَذَا هو الأصل. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني إذاً صائم" أي إذا لَمْ يحضر الطعام فإني صائم. وقال الشاعر2: أُزْجُر حِمارِي لا يرتعْ بروضَتِنا ... إذاً يرد وقيد العير مكروبُ باب أيٍّ: "أيٌّ" تكون استفهاماً. تقول: "أيُّ الرجلين عندك?". وتكون للترجيح بَيْنَ أمرين تقول: "أيَّا مّا فعلت فلي كذا" أي إن فعلت هَذَا وإن فعلت هَذَا. وتكون للتعجب نحو: "أيُّ رجل زيدٌ! ". باب أَنَّى: "أنَّى" بمعنى "كَيْفَ" كقوله جلّ ثناؤه: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} 3. وتكون بمعنى: "مِنْ أينَ" كقوله: "أنَّى يكون لَهُ ولد?" أي من أين. والأجْودُ أن يقال فِي هَذَا أيضاً كَيْفَ. قال الكميت4: أنَّى ومن أَيْنَ آبَكَ الطربُ ... من حَيْثُ لا صَبْوةٌ ولا رِيَبُ فجاء بالمعنيين جميعًا.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 61. 2 الأصمعيات: 228، خزانة الأدب: 1/ 462، ديوان الحماسة لأبي تمام: 165، ونسبته إلى عبد الله بن عنمة الضبي وفي لسان العرب: مادة "كرب" و"سوا" ونسبته إلى سلام بن عوية الضبي, وفي جمهرة اللغة "برك" إلى عبد الله بن عنمة وهو شاعر مخضرم، مات بعد سنة 15هـ, وقوله: ازجر حمارك، يريد: كف أذاك. 3 سورة البقرة، الآية: 259. 4 الروضة المختارة: 49.

باب أَيْنَ وأينما: "أَيْنَ" تكون استفهاماً عن مكان. نحو "اين زيدٌ?". وتكون شرطا لمكان. نحو "أَيْنَ لقيت زيداً فكلِّمْهُ" بمعنى فِي أي مكان. فأمّا "أَيْنَما" فإنّما يكون شرطاً لمكان. نحو "أَيْنَما تَجْلِسْ أجْلِسْ" ولا يكون استفهاماً. باب أيّان: "أيّانَ" بمعنى "متى" و"أي حين". قال بعض العلماء: نُرى أصلها "أيَّ أوان" فحذفت الهمزة وجعلت الكلمتان واحدة. قال الله جلّ ثناؤه: {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 1 أي متى و {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} 2 أي متى. باب الآنَ: يقولون: "الآن" حدُّ الزمانين، حدّ الماضي من آخره وحدُّ المستقبل من أوّله. وَكَانَ الفرّاء يقول: بُني عَلَى الألف واللام لَمْ يُخلَعا منه وتُرى عَلَى مذهبِ الصِّفة لأنه صفة فِي المعنى واللفظ، كما فعلوا فِي "الَّذِي" و"الَّذِينَ" فتركوهما عَلَى مذهبِ الأداة، والألف واللام غير مفارِقين. ومثله قوله3: فإنَّ الأُولاءِ يَعلَمونكَ مِنهُم ... كعلميَ مُطَّنُّوكَ مَا دُمتَ أَشعَرا فأدخل الألف واللام عَلَى "أُولاء" ثُمَّ تركها مخفوضة فِي موضع نصب كما كَانَتْ قبل أن يَدخلها الألف واللام ومثله4: وإنّي حُبِسْتُ اليومَ والأمسِ قبله ... ببابكَ حَتَّى كادَتِ الشمسُ تغرُبُ فأدخل الألف واللام عَلَى "أمس" ثُمَّ تركه مخفوضاً عَلَى جهته الأُولى. ومثله5:

_ 1 سورة النحل، الآية: 65. 2 سورة الذاريات، الآية: 12. 3 لسان العرب: مادة "أين" بلا عزو. 4 الإنصاف: 1/ 320. 5 الإنصاف: 1/ 313. ونسبته إلى ابن أحمر، وهو في ديوانه: 159. والخازباز: ذباب يكون في =

تَفَقَّأَ فَوْقَه الْقَلَعُ السَّوَارِي ... وجُنَّ الْخَازِبازِ بِهِ جُنُونا وأصل "الآن" إنما كَانَ "أوَان" حذفت منها الألف وغُيّرت واوها إِلَى الألف، كما قالوا فِي الراح "الرياح" أنشد الفَرَّاء أنشدني أبو القَمْقَام الأَسَدي1: كأنّ مَكَاكِيَّ الجِوَاءِ غُدَيَّةً ... نشاوَى تَسَاقَوا بالرِّيَاح المُفلْفَلِ فجعل "الرياح" و"الأوان" مرةً عَلَى جهة "فَعَل" ومرة عَلَى جهة "فَعَال" كما قالوا: "زَمَن" و"زَمَان" وإِن شئتَ جعلتَ "الآن" من قولك: "آن لَكَ أن تَفْعَل" أدخلتَ عَلَيْهَا الألف واللام ثُمَّ تركتها عَلَى مذهب فِعْل فأتى النصب من نصب "فَعَلَ" وهو وجه جيد. كما قالوا2: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال", و"الآن" فِي كتاب الله جلّ ثناؤه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} 3، {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} 4 أي فِي هَذَا الوقت وهذا الأوان تتوب وَقَدْ عصيت قبل. قال الزجاج: "الآن" عند الخليل وسيبويه مبنيٌّ عَلَى الفتح تقول: "نحن من الآنَ نَصِيرُ إِلَيْكَ" فتفتح. لأن الألف واللام إنما تدخل لعهد، و"الآن" تُعْهَد قبلَ هَذَا الوقت، فدخلت الألف واللام للإشارة إِلَى الوقت. المعنى: "نحن من هَذَا الوقت نفعل" فلما تَضَمَّنَتْ معنى هَذَا وجب أن تكون موقوفة ففتحت لالتقاء الساكنين. باب إمَّا لا: هما كلمتانِ "إِمّا" و"لا" تقول: "أُخرج" فإذا امتنع قلت: "إِمَّا لا فتكلَّمْ" أي "إِن لَمْ يكن منكَ خروج فليكن منك تكلّم". فـ"إِمَّا" شرط و"لا" جَحْدٌ. كَأَنَّك قلت: "إِن لا".

_ 1 ديوان امرئ القيس: 63. والمكاكي: جمع المكاء: طائر. الجواء: البطن من الأرض والواسع من الأدوية. 2 غريب الحديث: 2/ 271. 3 سورة يونس، الآية: 91. 4 سورة يونس، الآية: 51.

باب أمَّا وإمَّا: "أمَّا" كلمة إخبار لا بدّ فِي جوابها من "فاء". تقول: "أمّا زيد فكريم". "وإمَّا" تكون تَخْييراً وإباحة. نحو: إِشربْ إما ماءً وإمّا لَبناً. وَقَدْ تكون بمعنى الشرط، والأكثر فِي جوابها نون التوكيد. نحو: {إِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} 1 و {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} 2 وَقَدْ يكون بلا "نون" نحو قوله3: إمّا تَرَى رأسي عَلانِي أغْثَمُهْ ومما أوله باء بَلَى: "بَلَى" تكون إثباتاً لمنفيّ قبلها. يقال: "أما خرج زيدٌ?" فنقول: "بَلَى" والمعنى أنّها "بل" وُصِلَتْ بِهَا ألفٌ تكون دليلاً عَلَى كلام. يقول القائل: "أما خرج زيد?" فتقول: "بَلَى" فـ"بل" رُجُوع عن جَحْد، و"الألف" دلالةُ كلام، كَأَنَّك قلت: "بل خرج زيد". وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 4 المعنى والله أعلم: "بل أنت ربُّنا". بَلْ: "بَلْ" إِضرابٌ عن الأوّل وإثباتٌ للثاني. واختلف فِيهِ أهل العربيّة. فقال قوم: جائز "مررت برجل بل حمار" وَقَدْ يكون فِيهِ الرفع أي: "بل هو حمارٌ". والكوفيون لا يَنْسُقُون بـ"بَلْ" إِلاَّ بعد نفيٍ. قال هشام: محالٌ: "ضَرَبتُ

_ 1 سورة مريم، الآية: 26. 2 سورة "المؤمنون"، الآية: 93. 3 لسان العرب: مادة "لهز"، وفي مادة "غثم" لرجل من بني فزارة وشطره: لهزم خدي به ملهزمه الأغثم: الشعر غلب بياضه سواده. 4 سورة الأعراف، الآية: 172.

أخاكَ بَلْ أباك" لأن الأوّل قَدْ ثبَّتَّ لَهُ الضرب. والبصريون يقولون: لمَّا كَانَ "بل" تقع للإضراب، وكنَّا نُضرِب عن النفي وقعت بعد الإيجاب كوقوعها بعد النفي. و"لا بل" مثلها. وقال قوم: يكون "بَلْ" بمعنى "إِنَّ" فِي قوله جلّ ثناؤه: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 معناه: "إنَّ الذينَ كفروا" {فِي عِزَّةٍ} قالوا: وذلك أنَّ القَسَم لا بُدّ لَهُ من جواب. ويزعُم ناسٌ أنها إِذَا جاءت فِي الإثبات كَانَتْ استدراكاً. تقول: "لقيتُ زيداً بل عمراً" وهذا عند الغلط. بَلْهَ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يقول الله جلّ ثناؤه: أَعدَدْتُ لعبادِيَ الصَّالحينَ مَا لا عَينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خَطَر عَلَى قلبِ بَشَر، بَله مَا أطلَعْتُهُم عَلَيْهِ" 2. قالوا: معناه "سِوى" و"دَعْ" كَأَنَّه قال: "سوى مَا أطلعتهم عَلَيْهِ" و"دَعْ مَا أطلعتهم" قال أبو زُبَيْد3: تَمْشي القَطُوف إِذَا غَنَّى الحداة لها4 ... مشي النَّجِيبَة بَلْهَ الْجِلَّةَ النُّجَبَا بَيْدَ: قالوا: "بيد" بمعنى "غَيْرَ". قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخِرُونَ السابِقُون يومَ القيامة، بَيْدَ أنَّهم أُوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناهُ من بعدهم" 5, أي "غيرَ أنهم" قال الشاعر6:

_ 1 سورة ص، الآية: 1. 2 غريب الحديث: 1/ 286، "إن الجنة لا خطر لها" أي لا مثل لها. 3 أبو زبيد: هو المنذر بن حرملة الطائي، أدرك الإسلام ولم يسلم، مات سنة 62هـ، والبيت في لسان العرب مادة "بله" لابن هرمة. 4 دابة قطوف: الدابة إذا ضاق مشيها. والنجيبة: صفة الناقة الكريمة. الجلة: المسن من الإبل. 5 رواه مسلم: جمعة: 19-20, وضوء: 68، أنبياء: 54، أيمان: 1، ديات: 15، تعبير: 40، توحيد: 35، والنسائي: جمعة، وأبو داود مقدمة1. 6 مغني اللبيب: 1/ 122 بلا عزو، وتاج العروس مادة "رتن" ونسبه إلى منظور بن مرثد. وفيه: أخاف إن هلكت.

عَمْداً فَعَلْتِ ذَاكَ بَيْدَ أنّي ... إِخالُ لو هَلَكْتُ لَمْ تُرِنِّي بينا وبينما: هما لزمان غير محدود. واشتِقاقهما من قولنا: "بيني وبينه قِيدُ كذا" فإذا قلنا: "بَيْنَا نحنُ عِنْدَ زَيْدٍ أتانا فلان" فالمعنى "بَيْنَ أن حَصَلْنا عند زيد وبين زمان آخر أتانا فلان" قال1: فَبَيْنَا نحنُ نَرْقُبُه أتانا ... مُعَلِّقَ شَكْوَةٍ وزِنَادَ رَاع بَعْدُ: يَدُلُّ عَلَى أن يَعقُبَ شَيْءٌ شيئاً. تقول: "جاء زيدٌ بعد عمرو" ويقولون: إنها تكون بمعنى "مع" يقال: "هو كريم وهو بعد هَذَا فقيه" أي: "مَعَ هَذَا" ويتأولون قول الله جلّ ثناؤه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 2 عَلَى هذا، بمعنى "مع ذَلِكَ". ومما أوله تاء تَعَالَ: يقال: إنها أمرٌ أي "تَفاعلْ" من "عَلَوْتُ. تَعَالَى. يَتَعَالَى" فإذا أمرتَ قلت: "تَعالَ" كما تقول: "تَقاضَ". قالوا: وكثرت فِي الكلام حَتَّى صارت بمنزلة "هلَّم" حَتَّى يقال لمن هو فِي عُلوّ: "تَعالَ" وأنتّ تُرِيدُ: "اهبطْ". ولا يجوز أن تَنْهَى بِهَا. وَقَدْ تُصَرَّف فيقال: "تعالَيتُ" و"إِلَى أيّ شيءٍ أتَعالى?". ومما أوله ثاء ثُمَّ: "ثُمَّ" يكون لِتَراخي الثاني عن الأول: "جاء زيد ثم عمرو".

_ 1 الكتاب: 1/ 171 لرجل من قيس عيلان، وفيه: نحن نطلبه، وفضة وزناد. 2 سورة النازعات، الآية: 30.

وتكوم "ثُمَّ" بمعنى "واو عطف" قال الله جلّ ذِكرهُ: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} 1 أي وهو شهيد. وتكون بمعنى التعجّب كقوله جلّ ثناؤه: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} 2 و {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 3 وأنشد قطرب أن "ثُمَّ" بمعنى "الواو": سألت ربيعةَ مَن خَيرُها ... أباً ثُمَّ أمّاً فقالت لِمَهْ ومنه قوله جلّ ثناؤه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} 4 فأمّا قوله جلّ وعزّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} 5 فقال قوم معناها: "وصوّرناكم" وقال آخرون: المعنى "ابتدأنا خلقكم" لأنه جلّ ثناؤه ابتدأ خلق آدم عَلَيْهِ السلام من تُراب، ثُمَّ صَوَّره. وابتدأ خلق الإنسان من نُطْفَة ثُمَّ صَوَّره. قالوا: فـ"ثُمَّ" علي بابها. قال الله جلّ ثناؤه: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 6. وزعم ناس أن "ثُمَّ" تكون زائدة. قال الله جلّ ثناؤه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} 7 إِلَى قوله جلّ ثناؤه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} معناه: "حَتَّى إذا ضاقت عليهم الأرض تاب عليهم" وقوله جل ثناؤه: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} 8 وَقَدْ كَانَ قضى الأجل، فمعناه: "أُخْبِرُكم أني خلقته من طين، ثُمَّ أخبركم أنّي قضَيتُ الأجَل" كما تقول: "كلمتك اليومَ ثُمَّ قَدْ كلمتُك أمسِ" أي إني أخبرك بذاك ثُمَّ أُخبركَ بهذا. وهذا يكونُ فِي الجُملِ، فأما فِي عطف الاسم عَلَى الاسم، والفعل عَلَى الفعل فلا يكون إِلاَّ مرتّباً أحدُهما بعد الآخر.

_ 1 سورة يونس، الآية: 46. 2 سورة المدثر، الآية: 15. 3 سورة الأنعام، الآية: 1. 4 سورة القيامة، الآية: 15. 5 سورة الأعراف، الآية: 11. 6 سورة آل عمران، الآية: 111. 7 سورة التوبة، الآية: 25. 8 سورة الأنعام، الآية: 20.

وثَمَّ: بمعنى: "هُنالك" قال الله جلّ ثناؤه: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا} 1. وقرئت: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} 2 أي: هنالك الله شهيد. ومما أوله جيم جَيْرِ: يقولون: "جَيْرِ" بمعنى "حَقّاً" قال المُفَضَّل: هي خَفْضٌ أبداً، ورُبَّما نوّنوها. وأنشد المفضَّل3: ألا يَا طالَ بالغَرَباتِ لَيْلي ... وَمَا تلْقَى بَنو أسَدٍ بِهِنَّهْ وقائِلةٍ أسِيتَ فقلت جَيْرٍ ... أسِيٌّ إنّه من ذَاكَ إنَّهْ أصابَهُمُ الْحِمَا وهمُ عَوافٍ ... وكُنَّ عَلَيْهِمِ نَجْساً لعنه فجئت قبورَهم بَدْأَ ولمَا ... فَنَادَيتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ وكيف تجيبُ أصْداءٌ وَهامٌ ... وأجْسَادٌ بُدِرْنَ وَمَا نُحِرْنَهْ4 الحما: أراد الحِمَام. وبُدِرْنَ: طعِنَّ فِي البوادِر. لا جَرَمَ: قال: "جَرَمَ" بمعنى "حُقّ" قال5: ولقد طعنتُ أبا عُيَيْنَة طَعنةً ... جَرمَتْ فَزَارَةُ بَعدَها أن يَغْضِبُوا وذكر ناس أنها بمعنى "لا بُدّ" و"لا مَحَالةَ". وأصلح مَا قيل فِي ذَلِكَ أن "لا" نفي لما ظَنُّوا أنه ينفعهم فِي قوله جل ثناؤه: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} 6 والمعنى "لا" أي "لا ينفعهم ظنهم"

_ 1 سورة الدهر، الآية: 20. 2 سورة يونس، الآية: 46. 3 خزانة الأدب: 10/ 111، 113، 117، والغربات: جمع الغربة: النزوح عن الوطن. 4 أصداء: جمع صدى، وهو طائر يطير بالليل، أو ماء يخرج من رأس المقتول إذا بلي، وقد أراد ههنا جسد الآدمي بعد موته. الهام: جمع الهامة: رأس كل شيء، وهي بمعنى الصدى. 5 المقتضب: 2/ 352، وقيل: البيت لأبي أسماء بن الضريبة. 6 سورة هود، الآية: 22.

ثُمَّ يقول مبتدئاً: {جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي "كَسَبَهم ذَلِكَ" "حُقّ أنهم فِي الآخرة هم الأخسرون". قال ابن قتيبة: وَلَيْسَ قول من قال: "حُقَّ لفَزارة الغضب" بشيء، والأمر بخلاف مَا قاله، لأن الَّذِي يحصل من الكلمة مَا قلناه أنه بمعنى "حُقّ" فيكون عَلَى هَذَا "جَرَمت فَزَارة بعدَها أن يغضبوا" المعنى: "أحَقَّتْ الطَّعنة لفزارة الغضبَ". ومنه قوله جل ثناؤه: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} 1 ثُمَّ قال: {لا} وهو ردّ عَلَيْهِم، وقال بعدها: {جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّار} أي حُقَّ وكسب. ومما أوله حاء حَتَّى: تكون للغاية. قال الله جلّ ذكره: {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} 2 بمعنى "إِلَى" وقال تبارك اسمه: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} . وتكون بمعنى "كَيْ" تقول: "أكلمه حَتَّى يرضى" أي "كي يرضى". ويقولون: إنها تكون بمعنى العطف، تقول: "قَدِمَ الجيشُ حَتَّى الأتباعُ". ومذهب أهل البصرة أنه لا يجوز أن يُعْطَف بِهَا حَتَّى يكون الثاني من الأول, قالوا: لو قلت: "كلَّمت العربَ حَتَّى العجم" لَمْ يجز. وقال الفرّاء لا يجوز "كلّمت أخاك حَتَّى أباك" وهو مثل الاستثناء، كما لا يجوز "كلمت أخاك إِلاَّ أباك". وأجاز الفرّاء: "إنه ليقاتل الرَّجَّاَلة حَتَّى الفرسانَ", و"إِن كلبي ليصيد الأرانبَ حَتَّى الظِّباء" خفضاً ونصباً، قال الفراء: لأن الظباء وإن كَانَتْ مخالفة للأرانب فإنها من الصيد وهي أرفع منها. وقال البصريون: هَذَا خطأ وفيه بطلان الباب. قالوا: لأن "حَتَّى" إنما جعلت لما تتناهى إِلَيْهِ الأشياء من أعلاها وأسفلها مما يكون منتهى فِي الغاية، فإذا قلت "ضربتُ القوم" جاز أن يتوهم السامع أن زيداً لَمْ يدخل فِي الضرب، إما لأنه

_ 1 سورة النحل، الآية: 62. 2 سورة القدر، الآية: 5.

أعلاهم أو لأنه أدونهم، فمعنى "إِلَى" فِيهَا قائم إِذَا كَانَتْ "إِلَى" منتهى الغاية. والكوفيون لا يجعلون "حَتَّى" حرف عطف، إنما يعربون مَا بعدها بإضمار. حاشا: معناها الاستثناء، واشتقاقها من "الحشا" وهي "الناحية" تقول: "خرجوا حاشا زيدٍ" أي: إني أجعله فِي ناحية من لَمْ يخرج ولا أجعله فِي جملة مَن خرج. قال الشاعر1: بأيِّ الْحَشَا أمْسَى الخليطُ المُباينُ ومن ذَلِكَ قولهم: "لا أحاشي بك أحداً" أي: لا أجعلك وإيّاه فِي حَشاً واحد، أي فِي ناحية واحدة بل أميّزك عنه. ومما أوله خاء خَلا وَمَا خَلا: أصلهما من قولنا: "خلا البيت" و"خلا الإناء" إِذَا لَمْ يكن فِيهِ شيء. كذلك إِذَا قلنا: "خرج النّاسُ خلا زيدٍ" فإنّما نُريد: أنه خلا من الخروج، أَوْ خلا الخروجُ منه. وَعَلَى هَذَا التأويل فالنصب فِيهِ أحسن. ومنه قول العرب: "افعَلْ كذا وخلاك ذمّ" يريدون "عَدَاك الذَّمُّ" و"خلوت من الذمّ". ومما أوله راء رُبّ: يقولون: للتقليل، وهي مُناقِضة لـ"كَمْ" الَّتِي للتكثير، تقول: "رُبّ رجلٍ لَقِيتُه". وقال قوم: وُضِعَت لتذكُّر شيء ماضٍ من خيرٍ أَوْ شرٍّ. قال2:

_ 1 لسان العرب: مادة "حشا" ونسبته إلى المعطل الهذلي. وصدره: يقول الذي أمسى إلى الحزن أهله 2 الأغاني: 2/ 95 لعدي بن زيد.

رُبّ ركبٍ قَدْ أناخُوا حَوْلَنا ... يَشربونَ الخمرَ بالماء الزُّلال قالوا: وَعَلَى هَذَا التأويل قوله جلّ ثناؤه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 1. رُوَيْدٌ: قالوا: هو تصغيرُ "رُود" وهو المهل. قال2: كَأَنَّها مثل من يمشي عَلَى رُودِ وقال بعضهم: فِي قوله جلّ ثناؤه: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} 3 أي قليلا. ذو وذات: "ذو" يدل على الملك. تقول: "هو ذو الثوب". وقد يكون في غير الملك أيضا، بل يكون صفة من صفات نحو قولك: "هو ذو كلام" و"ذو عارضة". فمن الملك قوله جل ثناؤه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ} 4. وأما "ذات" فيكون في المؤنث كـ"ذا". وتكون لها معان أخر. تكون كناية عن ساعة من يوم أو ليلة أو غير ذلك، كقولك: "ذات يوم"، و"ذات عشية". وتكون كناية عن الحال كقوله5: وأهل خباء صلح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله ومن هذا قوله جل ثناؤه: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} 6 أي الحال بينكم

_ 1 سورة الحجر، الآية: 2. 2 المقاييس مادة "رود" بلا عزو وصدره: تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها 3 سورة الطارق، الآية: 17. 4 سورة البروج، الآية: 15. 5 المقاييس: مادة "أجل" ونسبته لخوات بن جبير. 6 سورة الأنفال، الآية: 1.

وأزيلوا المشاجرة. ومن الزمان قوله1: لما رأت أرقى وطول تقلبي ... ذات العشاء وليلى الموصولا وتكون للبنية تقول: "هو في ذاته صالح" أي: في بنيته وخلقته. وتكون للإرادة والنية كقوله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2 أراد السرائر. ومنه فيما ذكروا قوله3: محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب فقوله: "ذات الإله" أي إرادتهم الله تبارك اسمه. سَوْفَ: تكون للتأخير والتنفيس والأناةَ. سِوَى: تكون بمعنى "غير" وهما جميعاً فِي معنى "بَدَل" وهي مقصورةٌ مكسورة فإذا مُدّتْ فُتح أوّلها. قال4: تَجَانفُ عن جَوِّ الْيَمَامَةِ ناقَتِي ... وَمَا عدَلتْ عن أَهلِها لِسَوائِكا أي: لغيرك. و"سَوَاء الجحيم" وسطها، فِي غير معنى الأول. وَقَدْ جاء "سِوَى" أيضاً. قال الله جلّ ثناؤه: {مَكَانًا سُوًى} 5. سِيَّما: أصلُها "السّيُّ" وهو"المِثْلُ". تقول: "ولا سِيَّما كذا" أي "ولا سواءَ" قال: امرؤ القيس6:

_ 1 ديوان الراعي النميري: 215. 2 سورة آل عمران، الآية: 154. 3 ديوان النابغة الذبياني: 52، وفيه: وجلتهم ذات ... 4 ديوان الأعشي: 128، وفيه: عن جل, و: ما قصدت من أهلها. 5 سورة طه، الآية: 58. 6 ديوانه: 32.

ألا رُبَّ يومٍ لكَ منّ صالحٍ ... ولا سِيَّما يوماً بِدَارَةِ جُلْجلِ وأصلُه راجع إِلَى "السّي" وهو المثل. يقولون: "هما سيان" قال "الحُطَيْئَة1: فإيّاكم وحيّة بَطن واد هموز الناب ليس لكم بِسِيِّ وسمعت أبا الحسن المعروف بابن التركية يقول، سمعت ثعلباً يقول: من قاله بغير اللفظ الَّذِي قاله امرؤ القيس فقد أخطأ. شَتَّانَ: أصلها من "شتَّ" ومن "التَّشتُّت" وهو التَّفرقُ والتباعد، تقول: "شَتَّانَ مَا هُما" أي: بَعُدَ مَا بَيْنَهما، ويقال: هَذَا هو الأفصح، وينشدون2: شَتَّانَ مَا يومي علي كُورِها ... ويوم حَيَّانَ أخي جابِرِ وربما قالوا: "شتان مَا بَيْنَهما" وليس بالفصيح. عَنْ: يدلّ عَلَى الانحطاط والنزول، تقول: "نَزَلَ عن الجبل" و"عن ظهر الدّابة" و"أخذ العِلْمَ عن زيد" لأن المأخوذَ عنه أعلى رُتبةً من الآخذ. وتكون بمعنى "بَعْد" فِي قوله: "لَمْ تنتطق عن تفضّل".ولها وجوه والأصلُ مَا ذكرناهُ. عَلَى: تكون للعلوّ، تقول: "هو عَلَى السطح". وتكون للعزيمة، كما تقول: "أنا عَلَى الحجّ العامَ". وتكون للثبات عَلَى الأمر تقول: "أنا عَلَى مَا عَرَفْتَني بِهِ". وتكون للخلاف، مثل "زيدٌ عَلَى عمرو" أي: مُخالِفُه.

_ 1 ديوانه: 139. 2 ديوان الأعشى: 95. والكور: الرحل.

وهِي -وإن انْشَعَبَتْ- راجعة إِلَى أصل واحد. عَوْض: "عوض" لزمان غير محدود ولا معلوم كنههُ، كما قلناه فِي "الحِين" و"الدهر". قال الأعشى1: رضيعَيْ لبانِ ثديِ أُمٍّ تقاسما بأسحَمَ داج عَوض لا نتفرق ويقولون: "لآتيك عوض العائضين". عَسَى: للقرب والدُّنوّ، قال الله جل ثناؤه: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} 2. والأفصح أن يكون بعدها "أَنْ" ورُبّما لَمْ يكن. قال3: عسى فَرَجٌ يأْتي بِهِ الله إنَّهْ ... لَهُ كلَّ يوم فِي خليقته أمرُ قال "الكِسَائي": كل مَا فِي القرآن من "عسى" عَلَى وجه الخبر فهو مُوَحَّد: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} 4 و {عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} 4 و {عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} 5 وَوُحِّدَ عَلَى "عسى الأمر أن يكون كذا". وَمَا كَانَ عَلَى الاستفهام فإنه يُجْمَع كقوله جلّ وعزّ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} 6 قال أبو عبيدة في قوله جل ثناؤه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} 7: هل عدوتم ذَاكَ، هل جُزتموه. غَيْر: "غَيْر" تكون استثناء، وتقوم مقامها "إلا"، تقول: "خرج الناسُ غير زيد" تريد "إلاّ زيداً".

_ 1 ديوانه: 121. وفيه: ثدي أم تحالفًا. 2 سورة النمل، الآية: 72. 3 شرح شذور الذهب: 351 بلا عزو. 4 سورة الحجرات، الآية: 11. 5 سورة النساء، الآية: 19. 6 سورة محمد، الآية: 22. 7 سورة البقرة، الآية: 146.

أو تكون حالاً، وتقوم مقامها لا تقول: "فعلت ذلك غير خائف منك أي لا خائفاً منك". في: زعموا أن "في" للتضمُّن، تقول: "المال في الكِيس" و"الماء في الجَرَّة". ويقولون: إنها تكون بمعنى على في قوله جلّ ثناؤه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 1. وإنها تكون بمعنى مع في قوله جلّ ثناؤه: {فِي تِسْعِ آَيَاتٍ} 2. وكان بعضهم يقول: إنما قال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} , لأن الجذع للمصلوب بمنزلة القبر للمقبور فلذلك جاز أن يقال فيه هذا. وأنشدوا3: هُمُ صلبوا العَبْديَّ في جِذْع نخلة ... فلا عَطسَتْ شيبَانُ إلاَّ بأجدعا قَدْ: "قَدْ" جواب لمتوقَّع، وهي نقيضُ "ما" التي للنفي، وليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جواباً للمتوقع، وقوله عزّ وجلّ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} على هذا المعنى، لأن القوم توقعوا علمَ حالهم عندَ الله تبارك اسمه فقيل لهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} 4 والحقيقةُ ما ذكرناه. كم: موضوعة للكثير في مقابلة "رُبَّ" تقول: "كم رجل لقيت". وتكون استفهاماً، تقول: "كم مالُكَ?". وقال الفَرَّاء: نُرى أن قول العرب "كم مالك?" أنها "ما" وُصِلتْ من أولها بكاف، ثم إن الكلام كثر بِـ"كم" حتى حُذِفَت الألف من آخرها وسكّنت ميمها,

_ 1 سورة طه، الآية: 71. 2 سورة النمل، الآية: 12. 3 المقتضب: 2/ 319، بلا عزو، وينسب إلى سويد بن أبي كاهل كما في ملحق ديوانه: 54. والأجدع: السجين أو الأقطع أو الشيطان. 4 سورة المؤمنون: الآية: 1.

كما قالوا: "لِمْ قلتَ ذاك?" ومعناهُ: "لم" و"لما قلت" قال1: فأنا الأسْوَدُ لِمْ أسْلَمْتَنِي ... لِهُمُوم طارِقَاتِ وَذِكَرْ وقيل لبعض العرب: "مذ كم قعد فلان؟ " فقال: "كَمْذ أخذتَ في حديثك", فزيادةُ الكاف في "مُذْ" دليل على أن الكاف في "كم" زائدة. وعابّ الزَّجَّاجُ على الفَرَّاء قوله في "كم"، وقال: لو كان في الأصل "كما" وأسقطت ألف الاستفهام لُتِركتْ على فتحها، كما تقول: "بمَ" و"عم" و"فيم أنت". والجوابُ عمّا قاله ما ذكره أبو زكريّاء وهو كثرة الاستعمال وحجته ما ذكره في "لم". كيف: سأل عن حال، تقول: "كيف أنت?" أي: بأيّ حال أنتَ? وقال بعض أهل اللغة: لها ثلاثة أوجُه: أحدها سؤال محض عن حال، تقول: "كَيْفَ زيدُ?". والوجه الآخر حالٌ لا سؤال معه، كقولك: "لأكْرِمَنّك كيف كنتَ" أي: على أيّ حال كنت. والوجه الثالث "كيف" بمعنى التعجب، وعلى هذين الوجهين يُفَسَّر قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} 2 قالوا: معناها "على أيّ حال قَدَّر" وتعجيب أيضاً. ومن التعجيب قوله جلّ ثناؤه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} 3. وقد يكون "كيف" بمعنى النفي. قال4: كيف يَرْجونَ سِقاطِي بعدما ... لاحَ في الرَّأس مَشِيبٌ وَصَلَعْ ومنه قوله جلّ ثناؤه: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} 5 و {كَيْفَ

_ 1 الإنصاف: 1/ 211 بلا عزو، وفيه: يا أبا الأسْوَدُ. 2 سورة المدثر، الآية: 19. 3 سورة البقرة، الآية: 28. 4 ديوان سويد بن أبي كاهل: 32. 5 سورة التوبة، الآية: 8.

يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} 1. وتكون توبيخاً، كقوله جلّ ثناؤه: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} 2. فأمّا قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} 3 فهو توكيد لِمَا تقَدَّم من خبر وتحقيق لِمَا بعده، على تأويل: إن الله لا يظلم مثقالَ ذَرَّة في الدنيا فكيف في الآخرة. كادَ: قال أبو عبيدة: "كاد" للمقاربة في قوله جلّ ثناؤه: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 4 أي: لَمْ يَرَ. ولَمْ يُقارب. ومن المقاربة قول جرير5: حيُّوا المقام وحيّوا ساكن الدارِ ... ما كدتَ تعرف إلا بعدَ إنكارِ ويقولون: "كاد النَّعامُ يَطير". فهذه المقاربة للشبه ولا يكون وبيت جرير يكون. كَانَ: يدلُّ على المُضِيّ، تقول: "كانَ له مالٌ". وتكون بمعنى القدرة, كقوله جلّ ثناؤه: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} 6 أي ما قدرتم. وتكون بمعنى "صار" كقولك: "إن كنتَ أبي فَصِلْني" أي: إذا صِرتَ أبي. وأنشد7:

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 86. 2 سورة آل عمران، الآية: 101. 3 سورة النساء، الآية: 41. 4 سورة النور، الآية: 40. 5 ديوانه: 240. 6 سورة النمل، الآية: 60. 7 تذكرة النحاة: 569. الأرحبية: صفة الناقة الكريمة، نسبة إلى أرحب وهي قبيلة. الأرندج: جلد أسود.

أجَزت إليه حُرَّة أرْحَبِيَّة ... وقد كانَ لونُ الليل مثلَ الأرنْدَج أي: صار. وتكون بمعنى الرهون، كقوله جلّ ثناؤه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا} 1 أي: هل أنا إلا بشر. وتكون بمعنى ينبغي قال الله جل ثناؤه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} 2 أي ما ينبغي لنا. وكان تكون زائدة كقوله3: وجيران لنا كانوا كرام وفي كتاب الله جل ثناؤه: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4 أي: بما يعملون, لأنه قد كان عالماً بما عملوه وهو إيمانهم به. كأين: "كأين" تكون بمعنى "كم" قال الله جل ثناؤه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} 5. وفيها لغتان: "كأين" بالهمز والتشديد. و"كأين". وقد قرئ بهما, قال الشاعر: وكأين أرينا الموت من ذي تحية ... إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم وسمعت بعض أهل العربية يقول: ما أعلم كلمة يثبت فيها التنوين خطأ غير هذه. كأنَّ: كلمة تشبيه, قال قوم: هي "إن" دخلت عليها كاف التشبيه ففتحت, وقد

_ 1 سورة الإسراء، الآية: 93. 2 سورة النور، الآية: 16. 3 ديوان الفرزدق: 597. وصدره: فكيف إذا مررت بدار قوم 4 سورة الشعراء، الآية: 112. 5 سورة الطلاق، الآية: 8.

تخفف قال الله جل ذكره: {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 1 إلا أنها إذا ثقلت في مثل هذا الموضع قرنت بها الهاء فقيل: "كأنّه لم يَدْعُنا". وقالت الخنساء في التخفيف2: كَأَن لم يكونوا حِمىً يُتّقى ... إذ الناسُ إذ ذاكَ من عزّ بَزّا أرادت: كأنّهم لم يكونوا. كلاَّ: تكون ردّاً ورَدْعاً ونفياً لدعوى مدع إذا قال: "لقيتُ زيداً" قلتَ: "كلاَّ". وربما كان صِلةً ليمين، كقوله جلّ ثناؤه: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} 3. وهي -وإن كانت صِلةً ليمين- راجعةٌ إلى ما ذكرناهُ. قال الله جلّ ثناؤه: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ} 4 فهي رَدْعٌ عن طاعةِ من نَهاهُ عن عبادة الله جلّ ثناؤه. ونكتة بابها النفي والنهي. وزعم ناس أن أصل "كَلاَّ": "كَلاَ" و"لا". قال5: أصابَ خَصَاصَةً فَبَدَا كَلِيلاً ... كَلاَ وانْغَلَّ سائرُه انغِلاَلا وهذا ليس بشيء. و"كلا" كلمة موضوعة لما ذكرناه على صورتها في التثقيل، وقد ذكرنا وجوهّ "كَلاَّ" في كتاب أفردناه. فأما نقيض "كَلاَّ" فقال بعض أهل العلم: إن "ذلك" و"هذا" نقيضان لـ"لا". و"أن" كذلك نقيض لِـ"كَلاَّ". قال: وقوله جلّ ثناؤه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} 6 على معنى: ذلك كما قلنا وكما فعلنا. ومثله. {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآب} 7 بمعنى: هذا كما قلنا وإن للطاغين لشر مآب.

_ 1 سورة يونس، الآية: 12. 2 ديوانها: 81. وقولها: من عز بز مثل، انظر جمهرة الأمثال: 2/ 229. 3 سورة المدثر، الآية. 32. 4 سورة العلق، الآية: 19. 5 ديوان ذي الرمة: 198، الخصاصة. الفقر. انغل: دخل. 6 سورة محمد، الآية: 4. 7 سورة ص، الآية: 55.

قال: ويدل على هذا المعنى دخول "الواو" بعد قوله: "ذلك" و"هذا" لأن ما بعد الواو يكون مَنْسوقاً على ما قبله بها وإن كان مُضْمَراً. وقال جلّ ثناؤه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 1، ثم قال: {كَذَلِكَ} أي كذلك فعلناه ونفعله من التنزيل. ومثله في القرآن كثير. لَوْ ولَوْلا: "لَوْ" تدل على امِتناع الشيء لامتناع غيره، تقول: لو حَضَر زيدٌ لحضرت فامتنع هذا لامتناع هذا. وكان الفرّاء يقول: "لو" يقوم مقام "إنْ"، قال جلّ ذكره: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 2 بمعنى: وإن كره، ولولا أنها بمعنى "أن" لاقتضت جواباً. لأنّ لولا بدّ لها من جواب ظاهر أو مُضْمَر كقوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ} 3 وإنّما وُضِعت مقامَ "أنْ" لأنَّ في كل واحد منهما معنى الشرط، كما يقال في الكلام: "لأكْرِمَنَّكَ وإنْ جَفَوْتَني ولو جفوتني" و"لاعطينك وإن منعتني, ولو منعتني". وأمّا "لَولا" فإنها تدل على امتناع الشيء لوجود غيره. تقول: "لولا زيدٌ لضربتك" فإنما امتنعت من ضربه لأجل زيد. وقد يكون "لولا" بمعنى "هَلاَّ" كقوله جلّ ثناؤه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} 4 أي "فَهلاَّ" قال الشاعر5: تَعدُّونَ عقرَ النيب أفضلَ مجدكم ... بَني ضَوْطَرَى لولا الكميَّ المقَنَّعا أي: "هَلاَّ". وكذلك "لَوْمَا"، كقوله جل ثناؤه: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} 6 أي "هَلاَّ تأْتينا". وأما "لولا" الأول فكقوله جلّ ثناؤه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ

_ 1 سورة الفرقان، الآية: 32. 2 سورة التوبة، الآية: 32. 3 سورة الأنعام، الآية: 7. 4 سورة الأنعام، الآية: 43. 5 ديوان جرير: 265. والنيب: جمع الناب. الناقة المسنة. 6 سورة الحجر، الآية: 7.

فِي بَطْنِهِ} 1 وقوله جلّ وعزّ: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} 2 فلها وجهان: أحدهما أن يكون بمعنى "هَلاَّ" والوجه الآخر أن يكون بمعنى "لَمْ" يقول: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قومَ يُونُسَ. ومثله: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} 3 بمعنى لم يكن. لمْ ولمّا: "لَمْ" تنفي الفعلَ المستقبل وتنقلُ معناهُ إلى الماضي. نحو: "لم يقم زيد" تريد: ما قام زيد. فإن دخل عليها حرفُ جزاء لم تنقل معنى الاستقبال، تقول: إنْ لَمْ تَقُمْ ولا يحسنُ السكوت عليها إلا إذا كانت جواباً لمثَبت كأنَّ قائلاً قال: "قد خرج زيد" فتقول: "لما". و"لما" لا تدخل إلاّ على مستقبل، تقول: "جئت ولما يجئ زيدٌ بعدُ" فيكون بمعنى "لمْ" كقوله جلّ ثناؤه: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابَ} 4. فأمّا "لمّا" التي للزمان فتكون للماضي، تقول: "قصدتُكَ لَمّا وَرَدَ فلان". لَنْ: "لن" تكون جواباً للمثبِت أمراً في الاستقبال، يقول: "سيقوم زيد" فتقول أنت: "لن يقومَ". وحكي عن الخليل أنّ معناها: "لا أنْ" بمعنى "ما هذا وقت أن يكون كذا". لا: "لا" حرف نَسَقٍ يَنفي الفعلَ المستقبلَ، نحو: "لا يخرجُ زيدٌ". ويُنهى به نحو: "لا تفعلْ". ويكون بمعنى "لمْ" إذا دخلتْ على ماض كقوله جلّ ثناؤه: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} 5 أي: لم يُصِّدقْ ولم يُصلّ. وقال الشاعر6:

_ 1 سورة الصافات، الآية: 144. 2 سورة يونس، الآية: 98. 3 سورة هود، الآية: 116. 4 سورة ص، الآية: 8. 5 سورة القيامة، الآية: 31. 6 الأزهية: 158.

وأي خميس لا أفأنا نِهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دماً وأنشدني أبي1: إن تَغْفِرِ اللهمَّ تغفِرْ جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لَكَ لا أَلَمّا أي: أيُّ عبد لك لم يُلِمَّ بالذنب. وكان قُطرُب يقول: إن العرب تُدخل "لا" توكيداً في الكلام كما يُدخلون ما في مثل قوله جلّ ثناؤه: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} 2 و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} 3 وكذلك {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} 4 أي: ما منعك أن تسجد. وكذلك {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 5 المعنى: أُقْسم. وقد يجوز في {لَا أُقْسِمُ} أن يكون نَفَى بها كلاماً تقدَّم منهم، كأن قال: ليس الأمرُ كذا؛ ثم قال: أُقسم. وقال زُهَير في "لا"6: مُوَرَّثُ المَجْد لا يَغْتالُ هِمَّتهُ ... عن الرِيّاسة لا عَجْزٌ ولا سَأمُ أي: لا يغتالها عجز. وقال7: بيوم جَدودا لا فَضَحتُم أباكمُ ... وسالمتُمُ والخيلُ تَدْمَى نُحورُها يريد: فضحتم أباكم. وحَكى قطرب: "ضربتُ لا زيداً". وقال آخر: وقد حداهن بلا غير خُرُقْ وقال الهُذلي8: أفعنك لا برق كأنّ وميضه ... غاب تسنّمه ضرام مُثقب ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} 9.

_ 1 مغني اللبيب: 1/ 269، ونسبته إلى أبي خراش الهذلي. 2 سورة البقرة، الآية: 88. 3 سورة النساء، الآية: 155. 4 سورة الأعراف، الآية: 12. 5 سورة القيامة، الآية: 1. 6 ديوان زهير: 95. 7 الزهرة: 2/ 681 ونسبه لأبي سفيان بن الحارث. 8 هو ساعدة بن جؤية كما في شرح أشعار الهذليين: 1103، وفيه: غاب تشيمه. 9 سورة الحديد، الآية: 29.

قال أبو عبيدة في قوله جلّ ثناؤه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 قال: "لا" من حروف الزوائد لتتميم الكلام، والمعنى إلغاؤها. قال العجاجُ2: في بئر لا حُورٍ سرى وما شعرْ أي: بئر حُور، أي هَلَكة. وقال أبو النجم3: فما ألوم الْبِيضَ أن لا تَسْخَرا يقول: فما ألومُهنَّ أن يَسْخَرْنَ. قال الشَّمّاخ4: أعائشَ ما لأهلكِ لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المضيع يريد: أراهم يضيعون السوام، و"لا" إنما هي لغة. وقال5: ويلحينني في اللهو أن لا أُحبَّه ... ولِلَّهو داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ المعنى: يلحينني في اللهو أن أحبه. وفي القرآن: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} 6 أي: أن تسجد. قال أحمد بن فارس: أما قوله إنّ "لا" في {وَلا الضَّالِّينَ} زائدة فقد قيل فيه: إن "لا" إنما دخلت ها هنا مُزِيلةً لتوهُم متوهم أن الضّالين هم المغضوب عليهم، والعرب تنعت بالواو، يقولون: مررت بالظريف والعاقل فدخلت "لا" مُزِيلةً لهذا التوهم ومُعلمة أن الضّالين هم غير المغضوب عليه. وأما قوله في شعر الشمّاخ: إن لا زائدة في قوله: ما لأهلك لا أراهم, فغلطٌ من أبي عبيدة لأنه ظنّ أنه أنكر عليهم فساد المال، وليسَ الأمر كما ظنِّ، وذلك أن "الشمّاخ" احتجّ على امرأته بصنيع أهلها أنهم لا يُضيعون المالَ. وذلك أن امرأة الشمّاخ وهي عائشة قالت للشمّاخ: لِمَ تشدّد على نفسك في العيش حتى تلزَم الإبلَ وتعزبَ

_ 1 سورة الفاتحة، الآية: 7. 2 ديوانه: 20، ومجمل اللغة: مادة "هور"، وشطره. بإفكه حتى رأى الصبح جشره 3 الأزهية: 154، والمقتضب: 1/ 47، وعجزه: لما رأين الشمط القفندرا 4 ديوانه: 219، الهجان: الخيار، ومن الإبل، الهجان: البيض. والرجل الحسيب. 5 ديوان الأحوص الأنصاري: 132. 6 سورة الأعراف، الآية: 12.

فيها؟ فهِوّن عليك. فردّ على امرأته فقال: ما لي أرى أهلك يتعهدون أموالهم ولا يضيعونها، بل يصلحونها، وأنت تأمرينني بإضاعة المال? فقال1: أعايشَ ما لأهلك لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المُضيعِ وَكيف يُضيع صاحبُ مُذْفَآت ... على أثباجِهنّ من الصقيعِ2 لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعف من القنوع و"لا" تنفي الاسمَ المنكور، نحو: "لا رجلٌ عندكَ". لات: اختلف الناس فِيهَا: فمنهم من زعم أن التاء متصلة بـ"لا" وأنها بمنزله "ليس" على تأويل: "وليس حينَ مناصٍ", نصب "حين" خبر "ليس". وقال الأفوه وجعل "لاتَ" بمعنى "حِين"3: ترك الناسُ لنا أكتافَهم ... وتولوا لاتَ لم يُغنِ الفرار لدُن: "لدْنْ" بمعنى "عِنْدَ". قال الله جلّ ثناؤه: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} 4 وقال: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} 5 أي: من عندنا. وقد تحذف النون من لدن قال الشاعر6: من لدُ لحييه إلى منخوره لدى: بمعنى "لدن" قال الله جل ثناؤه: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 7.

_ 1 ديوان الشماخ: 219. 2 الأثباج: جمع الثبج: وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. 3 الطرائف الأدبية: 13، للأفوه الأودي. 4 سورة الكهف، الآية: 77. 5 سورة الأنبياء، الآية: 17. 6 الكتاب: 4/ 334، ونسبته إلى غيلان بن حريث، وصدره: يستوعب البوعين من جرير والبوع: إبعاد خطو الفرس في جريه، وبسط اليد بالمال، والجرير: جبل للبعير. 7 سورة يوسف، الآية: 25.

لَيْسَ: "ليس" نفيٌ لفعل مستقبَل تقول: "ليس يقوم". وزعم ناس أنها من حروف النَّسَق نحو: "ضربتُ عبد الله ليس زيداً" و"قام عبد الله ليس زيد" و"مررت بعبد الله ليس بزيد"، لا يجوز حذف الباء لأنك لا تضمر المرور والباءَ. ولو قلتَ: "ظننت زيداً ليس عمراً قائماً" جاز. قال لبيد: وإذا جوزيت فرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل1 والبصريون يقولون: لا يجوز العطف بـ"ليس"، وهي لا تُشبه من حروف العطف شيئاً. ألا ترى أنه يبتدَأ بها ويضمَر فيها وروى سيبويه هذا البيت: إنما يجزي الفتى غيرَ الجمل قالوا: وخطأ "رأيت زيداً ليس عمراً" لأنه لا يكون على تقديرهم فعل بلا فاعل، وكان الكسائي يقول: أجريتْ "ليس" في النسق مجرى "لا". لَعَلّ: "لَعَلَّ" تكون استفهاماً وَشَكّاً. وتكون بمعنى "خليق". وحكي عن الكسائي أنّ "لعلّما" تأتي بمعنى "كأنما" و"أنما" وأنكر الفرّاء هذا، قال: لأن "أنما" معبرة عن "أنْ" ولا يجوز أن تُسقط ما منها أبداً. وأهل البصرة يقولون: "لعلّ" ترجٍّ. وبعضهم يقول: توقُّع. وتكون "لعلّ" بمعنى "عسى". وتكون بمعنى كي. قال الله جلّ ثناؤه: {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2 يريد: لكي تهتدوا. لَكِن: قال قوم: هي كلمة استدراك تتضمن ثلاثة معانٍ: منها "لا" وهي نفي و"الكاف" بعدها مخاطبة و"النون" بعد الكاف بمنزل "إن" الخفيفة أو الثقيلة، إلا أن الهمزة حذفت منها استثقالاً لاجتماع ثلاثة معان في كلمة واحدة، فـ"لا"

_ 1 ديوان لبيد: 141. 2 سورة النحل، الآية: 15.

تنفي خبراً متقدماً و"إن" تُثبت خبراً متأخراً، ولذلك لا تكاد تجيء إلا بعد نفي وجحد، مثل قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. ومما يدلّ على أن النون في "لكن" بمنزلة إن خفيفةً أو ثقيلة، أنك إذا ثقّلت النون نصبتَ بها وإذا خففتها رفعتَ بها. مذْ ومنذُ: هما ابتداءُ غايةٍ في زمان. نحو "مُذُ اليومِ" و"منذ الساعةِ". مَا: أصلُ "مَا" أنها تكون لغير الناس. تقول "ما مرَّ بك من الإبل?". فأمّا قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 2 فقال أبو عبيدة: معناه ومَن خَلقَ الذكر والأنثى. وكذلك {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} 3 أي "من بناها" وكذلك {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} 4. قال: وأهل مكَّةَ يقولون إذا سمعوا صوتَ الرعد "سُبحانَ ما سبَحتَ له" وبعضهم يقرأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 5 أي: وخلقِهِ الذكر والأنثى. و"ما" تكون صِلةً، كقوله جلّ ثناؤه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 6 المعنى: قليلاً تذكّرون. ولو كانت اسماً لارتفع فقلت: "قليلٌ ما تذكرون" أي: قليلٌ تذكركم. و"ما" تكون للتفخيم، كقوله جلّ ثناؤه: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ} 7 ومنه: بَانَتْ لتَحزُننا عَفَارَهْ ... يا جارتا ما أنت جاره8

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 17. 2 سورة الليل، الآية: 3. 3 سورة الشمس، الآية: 5. 4 سورة الشمس، الآية: 7. 5 سورة الليل، الآية: 3. 6 سورة الأعراف، الآية: 2. 7 سورة الحاقة، الآية: 1، 2. 8 ديوان الأعشى: 83.

وذكر بعضهم أن "ما" هذه هي التي تذكر في التعجب إذا قلنا "ما أحسنَ زيداً". وقد تكون "ما" مضمرة، كقوله جلّ ثناؤه: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} 1 أراد: ما ثَمّ. وكما قال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} 2 أي: ما بيني. و {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} 3 أي ما بينَكم. فإذا قلت: "بينُكم" فمعناه: وصلُكم. وتكون للنفي، نحو: "ما فعلتُ". وتكون لاستفهام، نحو: "ما عندك?". وزعم ناس في قولهم: "قَبْلَ عَيْرٍ وَمَا جرى" أن "ما" للنفي وأنشدوا قول الشمّاخ4: أعَدْوَ الْقِمصَّى قَبْلَ عَيْرٍ وما جَرَىَ ... ولم تدْرِ ما خُبرِي ولم أدرِ مالَها يقول: نفرتْ هذه المرأة منّي مثل ما نفرت أتان من عَيْر من قبل أن يبلوَها ويعدوَها إليها. وما جرى، أي: لم يجرِ إليها. من: يُسميها أهل العربية "ابتداءَ غاية". وتكون للجنس، نحو "خاتمٌ من حديد". وتكون للتبعيض، نحو: "أكلت من الرَّغيف". وتكون رفعاً للجنس نحو: "ما جاءني من رجل". وتكون صِلةً، نحو قوله جلّ ثناؤه: {مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 5، و {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 6. وتكون تعجّباً، نحو: "ما أنت من رجل" و"حسبك من رجل".

_ 1 سورة الإنسان، الآية: 20. 2 سورة الكهف، الآية: 78. 3 سورة الأنعام، الآية: 94. 4 ديوانه: 288. والقمصى: العدو الشديد. 5 سورة البقرة، الآية: 105. 6 سورة النساء، الآية: 31.

وتكون بمعنى "على"، قال الله جلّ ثناؤه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} 1. وكان أبو عبيدة يقول في قوله جلّ ثناؤه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} 2: إن مِن صلة. قال أبو ذُؤَيب3: جَزَيْتُكِ ضِعفَ الوْدَ لَمّا أردتِه ... وما إن جزاك الضِعْفَ مِن أحد قبلي وقال غيره: لا تزد من أمرٍ واجب، يقال: "ما عندي من شيء" و"ما عنده من خير" و"هل عندك من طعام?". فإذا كان واجباً لم يحسُن شيء من هذا: لا تقول "عندك من خير". مَنْ: اسم لِمَن يعْقل. تقول: "لَقِيتُ مَن لقيتَ" و"من مَرّ بِك?" في الاستفهام. وهو يكون في الواحد والاثنين والجميع. ويخرج الفعل منه على لفظ الواحد والمعنى تثنيه أو جمع. قال4: تعالَ فإن عاهدتَني لا تخونني ... نكن مثلَ مَن يا ذِئبُ يَصطحبانِ وكذلك يَكون في المؤنث. قال الله جلّ ثناؤه: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} 5". و"من" تضمَر. قال الله جلّ ثناؤه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} 6 المعنى: إلاَّ مَنْ. ومثله "وما منا إلا له مقامٌ" أي إلا من. مه ومهما: "مَهْ" زجرٌ وإسكات وأمرٌ بالتوقّف عما يريده المريد، كأنّ قائلاً يريد الكلامَ بشيء أو فاعلاً يريد فعلاً فيُقال لهما "مَهْ" أي: قِف ولا تفعل. هذا مشهور في كلام العرب. قال: مه ما لي الليلة مَهْ ما لِيهْ ... يا راعيَ ذودي وأجماليه

_ 1 سورة الأنبياء، الآية: 77. 2 سورة النساء، الآية: 123. 3 شرح أشعار الهذليين: 1/ 88، وفيه: لما اشتكيته. 4 ديوان الفرزدق: 628، وفيه: تعش فإن واثقتني لا تخونني. 5 سورة الأحزاب، الآية: 31. 6 سورة النساء، الآية: 157.

ويكون هذا على أنّ أمراً تقدّم، فردّ عليه القائل فقال: "مَهْ" ثم مرّ كلام نفسه. "ومَهْمَا" بمنزلة ما في الشرط. قال الله جلّ ثناؤه: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} 1. وقال: إنّها "ما" أدخلت عليها "ما" قالوا: ما تكون إحداهما كالصلة كقوله جل ثناؤه: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} 2 فغُيّر اللفظ. مَتَى: "مَتَى" سؤالٌ عن وقت, تقول: "متى يخرجُ زيد?". و"متى" يكون شرطاً يقتضي التكرار. تقول: "متى كلمتُ زيداً فعلى كذا" سمعت علّياً يقول: سمعت ثعلباً يقول ذلك. فأما "متى" التي في لغة هُذَيْل فليست من هذا، لأنهم يقولون: "وضعتُه متى كُمِّي" يريدون: الوسَط وينشدون3: شَرِبْنَ بماء البحر ثُم تصعّدت ... متى لُججٍ خضرٍ لهن نَئيجُ قالوا: معناه من لجج. وقالوا: بمعنى وَسط. نَعَمْ ونِعْمَ: "نَعَمْ" عدَة تصديق. و"نِعْمَ " كلمة تنبئ عن المحاسِنِ كلّها. هَلمَّ: قالوا: معناها "تعَالَ". وكان الفرّاء يقول: أصلها "هل" ضُمّ إليها "أمَّ" وتأويل ذلك أن يقال: "هَلْ لكَ في كذا، أُمَّ" أي: اقصُد وتَعالَ. وكان الفرّاء يقول: معنى "اللهم" يا الله أُمَّنا بخير. فكثرت في الكلام واختلطت وتُركت الهمزة.

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 132. 2 سورة الإسراء، الآية: 110. 3 شرح أشعار الهذليين، لأبي ذؤيب: 1/ 129، وفي مغني اللبيب: 1/ 111 بلا عزو، ويقال: نأجت الريح، أي: تحركت. واللجج: جمع اللج: معظم الماء.

ها: قالوا: معناها "خذْ. تَنَاوَل" تقول: "ها يا رجُل". ويُؤمر بها ولا يُنهى بها. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} 1. هَاتِ: بمعنى "أعْطِ" على لفظ "رام" و"عاط". قال الله جل ثناؤه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} 2 قال الفرّاء: ولم يُسمع في الاثنين، إنّما يقال للواحد والجميع. ويقولون: أنا أُهاتِيك، وليس من كلامهم هاتَيْتُ، ولا يُنهى بها. وبلغني أن رجلاً قال لآخر: هات فقال: لا أُهاتِيكَ ولا أؤاتيك. وَيْكأَنَّ: اختلف أهل العلم فيها. قال أبو زَيْد: معنى و"يكأنه" ألَمْ تَرَ. وأنشد: ألا وَيْكَ المسرّةُ لا تدومُ ... ولا يبقى على الدّهر النعيمُ وأنشد أبو عبيدة3: سَأْلَتاني الطِّلاقَ أن رأتانِي ... قَلَّ مالي قد جئتماني بِنكرِ وَيْكَانْ مَن يكُنْ له نَشَبٌ يُحْـ ... ـببْ ومَنْ يفتِقر يَعِشْ عيشَ ضرِّ وحدثني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرج عن سلمة عن الفراء قال: هو في كلام العرب تقرير كما يقول القائل: "أما ترى إلى صنع الله". وحكى الفراء عن شيخ من البصريين قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنُك? فقال زوجها: ويكأَنَّه وراء الباب. معناه: أما تَرَيْنَه وراء البَاب?. قال الفرّاء: ويذهب بها بعض النحويين إلى أنهما كلمتان، يردي "وَيْكَ" إنما أراد "ويلَكَ" فحذف اللام ويجعل "أنّ" مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال: ويلك أعلم أن. وقال: إنما حذفوا اللام من وَيْلَكَ حتى صارت وَيْكَ، فقد تقول العرب

_ 1 سورة الحاقة، الآية: 19. 2 سورة البقرة، الآية: 111. 3 الكتاب: 2/ 155، ونسبته إلى زيد بن عمرو بن نفيل.

ذلك لكثرتها في الكلام واستعمال العرب إياها. قال عنترة1: ولقدْ شفى نفسي وأبرأ سقُمَها ... قِيلُ الفوارس وَيكَ عَنْتَرَ أَقْدِمٍ وقال آخرون: ويكَ "وَيْ" منفصلة مِن كأنّ كقولك للرجل: أما ترى بين يديك. فقال: "وَيْ" ثم استأنف كأن الله و"كأن" في معنى الظن والعلم. وفيها معنى تعجب. قال: وهذا وجه مستقيم، ولم تكتبها العرب منفصلة. ويجوز أنّ يكون كثر بها الكلام فُوصلت بما ليس منه، كما اجتمعت العربُ على كتاب "يا بْنَؤُمَّ" فوصلوها لكثرتها. أوْلَى: سمعت أبا القاسم عليَّ بن أبي خالد يقول: سمعت ثعلباً يقول "أولى له" أي: داناه الهلاك. وأصحابنا يقولون: "أوْلَى" تَهَدُّدٌ ووعيدٌ. وهو قريب من ذلك. وأنشدوا2: ألْفِيَتَا عيناكَ عند الْقَفَا ... أوْلَى فأوْلَى لك ذا واقيَهْ وقال قوم -وأنا أبرأ مِن عهدته-: إن "أوْلَى" مأخوذ من "الوَيْل". وكان للويلِ فِعْل وتصريف دَرَجَ ولم يبق منه إلا "الويل" قطُّ. قال جرير3: يَعَمَلنَ بالأكبادِ وَيْلاً وآئِلا فقوله: "أَوْلَى": "أَفْعَلُ" من الويل، إلاَّ أن فيه القلبَ. وقال قوم "أَوْلَى": داناهُ الهلاك فليَحْذَرْ. قال: أولى لكم ثم أولى أن تصيبَكُمُ ... مِنِّي نَواقِرُ لا تبقى ولا تَذَرُ4 يا: تكون للنداء، نحو: "يا زيدُ". وللدعاء نحو: "يا لله". وتكون للتعجّب، كقوله: "يا لَهُ فارساً". وفي التعجب من المذموم: "يا له جاهلاً". قال في المدح

_ 1 ديوانه: 184. 2 مغني اللبيب: 1/ 410. وخزانة الأدب 9/ 21، ونسبته إلى عمرو بن ملقط. 3 لسان العرب: مادة "وبل" وليس في ديوانه. 4 النواقر: أي الكلام الذي يسوء، أو الحجج.

أنشد فيه القطّان عن ثعلب: يا فارساً ما أبو أَوْفى إذا شُغِلتْ ... كلتا اليدين كَروراً غَير فَرَّارِ وفي الذمّ قول الآخر: أبو حازم جارٌ لها وابنُ بُرْثٌنٍ ... فيا لَكَ جارَيْ ذلة وصغار و"يا" للتلهف والتأسف نحو قوله جلّ ثناؤه: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} 1. ويكون تنبيهاً كقوله: يا شاعراً لا شاعرَ اليوم مثلُه ... جرير ولكنْ في كُليب تواضُعُ وعلى هذا يتأوّلُ قوله جلّ ثناؤه: {أَلَّا يَسْجُدُوا} 2 وقد ذكرناه. و"يا" تكون للتلذُّذ نحو قوله: يا بَرْدَها على الفؤاد لو يَقِفْ

_ 1 سورة يس، الآية: 30. 2 سورة النمل، الآية: 25.

باب معاني الكلام

باب معاني الكلام: وهي عند بعض أهل العلم عشرة: خبرٌ. واستخبار. وأمر. ونهي. ودُعاء. وطَلَب. وعَرْض. وتحْضيض. وتَمنّ. وتعجّبٌ. فهذا: بابُ الخَبَرِ: أما أهل اللغة فلا يقولون في الخبر أكثرَ من أنّه إعلامٌ. تقول: "أخبرتُه. أخُبِرْه" والخبر هو العلم. وأهل النظر يقولون: الخبر ما جاز تصديق قائله أو تكذيبه. وهو إفادة المخاطَب أمراً في ماضٍ من زمان أو مستَقبل أو دائم. نحو "قام زيد" و"يقوم زيد" و"قائم زيد". ثم يكون واجباً وجائزاً وممتنعاً. فالواجب قولنا: "النار مُحرقة". والجائز وقولنا: "لقي زيد عمراً". والممتنع قولنا: "حملت الجَبَل". والمعاني التي يحتملها لفظ "الخبر" كثيرة: فمنها التعجب نحو "ما احسنَ زيداً". والمنّي نحو: "ودِدتُكَ عندنا" والإنكار: "ما له عليَّ حق". والنفي: "لا بَأسَ عليك". والأمر نحو قوله جلّ ثناؤه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَّ} 1. والنهي نحو قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 2. والتعظيم نحو "سبحان اللهِ". والدُّعاء نحو "عفا الله عنه". والوعد نحو قوله جلّ وعزّ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} 3. والوعيد نحو قوله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 4 والإنكار والتبكيت نحو قوله جلّ ثناؤه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 5.

_ 1 سورة البقرة، الآية: 228. 2 سورة الواقعة، الآية: 79. 3 سورة السجدة، الآية: 53. 4 سورة الشعراء، الآية: 227. 5 سورة الدخان، الآية: 49.

وربّما كان اللفظُ خبراً والمعنى شرطٌ وجزاء، نحو قوله: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} 1 فظاهره خبر، والمعنى: إنّا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومثله {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} 2 المعنى: مَن طلّق امرأته مرتين فليُمْسِكها بعدهما بمعروف أو يسرّحها بإحسان. والذي ذكرناه في قوله جل ثناؤه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 3 فهو تبكيت وقد جاء في الشعر مثله. قال شاعر يهجو جريراً: أبلغْ جريراً وأبلغ مَن يُبَلّغُه ... أني الأغرُّ وأني زهرةُ اليَمَنِ فقال جريرٌ مبكّتاً له4: ألم تكن في وُسُوم قد وَسَمْتُ بها ... من حَانَ موعظةٌ يا زهرةَ اليَمَنِ ويكون اللفظ خَبَراً، والمعنى دعاء وطلب مَرّ في الجملة. ونحوه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5 معناه فأعِنّا على عبادتك. ويقول القائل: "أستغفر الله" والمعنى: اغْفِرْ. قال الله جلّ ثناؤه: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} 6 ويقول الشاعر7: استغفرُ اللهَ ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوَجهُ والعملُ باب الاستخبار: الاستخبارُ طلب خُبْر ما ليس عن المستخبر، وهو الاستفهام. وذكر ناس أن بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق. قالوا: وذلك أن أولى الحالين الاستخبار لأنك تستخبر فتجابُ بشيء، فربّما فهمته وربّما لم تفهمه، فإذا سألت ثانيةً فأنت مستفهم تقول: أفهمْني ما قتله لي. قالوا: والدليل على ذلك أن

_ 1 سورة الدخان، الآية: 15. 2 سورة البقرة، الآية: 229. 3 سورة الدخان، الآية: 49. 4 ديوانه: 467. 5 سورة الفاتحة، الآية: 4. 6 سورة يوسف، الآية: 92. 7 المقتضب: 2/ 321 بلا عزو.

الباري جل ثناؤه يوصَف بالخُبْر ولا يوصف بالفهم. وجملة باب الاستخبار أن يكون ظاهره موافقاً لباطنه كسؤالك عنّا لا تعلمه، فتقول: "ما عندك?" و"من رأيتَ?". ويكون استخباراً، في اللفظ، والمعنى تعجب. نحو: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} 1. وقد يسمى هذا تفخيماً. ومنه وقوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} 2 تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه. ويكون استخباراً والمعنى توبيخ. نحو {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} 3. ومنه قوله: أغَرَرْتني وزَعمت أنـ ... ـنك لاَبِنٌ بالصيف تَامرْ ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى تفجع. نحو: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} 4. ويكون استخباراً، والمعنى تبكيت نحو: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} 5 تبكيتُ للنصارى فيما ادعوه. ويكون استخباراً، والمعنى تقرير. نحو قوله جلّ ثناؤه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} 6. ويكون استخباراً، والمعنى تسوية. نحو: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} 7. ويكون استخباراً، والمعنى استرشاد. نحو: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 8. ويكون استخباراً، والمعنى إنكار نحو: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا

_ 1 سورة الواقعة، الآية: 8. 2 سورة يونس، الآية: 50. 3 سورة الأحقاف، الآية: 20. 4 سورة الكهف، الآية: 55. 5 سورة المائدة، الآية: 116. 6 سورة الأعراف، الآية: 172. 7 سورة البقرة، الآية: 6. 8 سورة البقرة، الآية: 28.

تَعْلَمُونَ} 1. ومنه قول القائل: وتقولُ عَزَّةُ قد مَلِلتَ فقل لها ... أيَمَلُّ شيءٌ نفسَه فأمَلَّها ويكون اللفظ استخباراً، والمعنى عَرْض. كقولك: "ألا تنزل". ويكون استخباراً، والمعنى تحْضيضِ. نحو قولك: "هَلاَّ خيراً من ذلك" و: بني ضَوْطَرَى لولا الكمي المقنَّعا2 ويكون استخباراً والمراد به الإفهام. نحو قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} 3 قد علم أن لها أمراً قد خفي على موسى عليه السلام، فأعلمه مِن حالها ما لم يعلمه. ويكون استخباراً، والمعنى تكثير، نحو قوله جلّ ثناؤه: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} 4 {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} 5. ومثله: كَم مِن دَنِيٍّ لها قد صِرتُ أتْبَعُه ... ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا وقال آخر6: وكم مِن غائط من دونِ سلْمى ... قليلِ الأُنس ليس به كتيعُ ويَكون استخباراً، والمعنى نفي. قال الله جلّ ثناؤه: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} 7 فظاهره استخبار والمعنى: لا هاديَ لمن أضلَّ اللهُ. والدليل على ذلك قوله في العطف عليه: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 8. ومما جاء في الشعر منه قولُ

_ 1 سورة البقرة، الآية: 80. 2 البيت لجرير، ديوانه: 265، وصدره: تَعدُّونَ عقرَ النيب أفضل سعيكم 3 سورة طه، الآية 17. 4 سورة الأعراف، الآية: 3. 5 سورة الحج، الآية: 48، وسورة محمد، الآية: 13، وسورة الطلاق، الآية: 8. 6 ديوان عمرو بن معد يكرب: 146. ويقال: ما به كتيع أي ما به أحد. والغائط: المطمئن من الأرض. 7 سورة الروم، الآية: 29. 8 سورة آل عمران، الآية: 22.

الفرزدق1: أينَ الذين بهم تُسامِي دارِماً ... أمْ منْ إلى سلفيْ طهيَّة تَجْعلُ ومنه قوله جلّ ثناؤه: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 2 أي لستَ منقذَهم. وقد يكونُ اللفظ استخبارًا، والمعنى إخبار وتحقيق. نحو قوله جلّ ثناؤه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} 3 قالوا معناه: قد أتى. ويكون بلفظ الاستخبار، والمعنى تعجّب. كقوله جلّ ثناؤه: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} 4 و {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} 5 ومِن دقيق باب الاستفهام أن يوضَع في الشرط وهو في الحقيقة للجزاء. وذلك قول القائل: "إن أكرمتُكَ تُكرِمني" المعنى: أتكرمني إن أكرمتُك? قال الله جلّ ثناؤه: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 6 تأويل الكلام: أفهم الخالدون إن متّ? ومثله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 7 تأويله: أفتنقلبون على أعقابكم إنّ مات? وربّما حَذفت العربُ ألف الاستفهام. ومن ذلك قول الهُذْلِيّ8: رَفوْنِي وقالوا يا خويلدُ لم ترَعْ ... فقلت وأنكرتُ الوجوهَ همُ همُ أراد: أهم? وقال آخر9: لَعمرُكَ ما أدري وإن كنتُ دارياً ... شُعَيْث بنَ سَهْم أم شُعيث بنَ مِنْقرِ وقال آخر10: لعمركَ ما أدري وإن كنتُ دارياً ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان

_ 1 ديوانه: 490. وطهية: قبيلة. 2 سورة البقرة، الآية: 30. 3 سورة الدهر، الآية: 1. 4 سورة عم، الآية: 1. 5 سورة المرسلات، الآية: 12. 6 سورة الأنبياء، الآية: 34. 7 سورة آل عمران، الآية: 144. 8 شرح أشعار الهذليين: 3/ 337 لأبي خراش. ورفوني: سكنوا رعبي. 9 ديوان الأسود بن يعفر: 37. والمقتضب: 3/ 294 بلا عزو. 10 ديوان عمر بن أبي ربيعة: 2/ 338، وفيه: فوالله مَا أدري وإني لحاسب.

وعلى هذا حمل بعض المفسرين قوله جل ثناؤه في قصة إبراهيم عليه السلام: {هَذَا رَبِّي} 1: أي: أهذا ربي?. باب الأمر: الأمر عند العرب ما إذا لم يفعله المأمور به سمي المأمور به عاصياً. ويكن بلفظ "افْعلْ" و"ليفعل" نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} 2 ونحو قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ} 3. فأما المعاني التي يحتملها لفظ الأمر فأن يَكون أمراً، المعنى مسألة. نحو قولك: "اللهم اغفر لي". قال: ما مَسَّها من نَقبٍ ولا دَبَرْ ... اغْفِرْ له اللهمَّ إن كان فَجَر ويكون أمراً، والمعنى وعيد. نحو قوله جلّ ثناؤه: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 4. ومثله قوله جلّ ثناؤه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 5. ومنه قول عَبِيد6: حَتّى سَقيناهم بكأسٍ مُرَّةٍ ... فيها المُثمَّلُ ناقعاً فليشْرَبوا ومن الوعيد قوله: ارْوُوْا عليَّ وأرْضُوا بي رِحالَكُمُ ... واسُتَسْمِعوا يا بني مَيْثاءَ إنشادي ما ظنُّكم ببني مَيْثاءَ إن رَقدوا ... ليلاً وشَدَّ عليهم حَيّةُ الوادي وقد جاء في الحديث7: "إذا لم تَسْتَحْيِ فاصنَعْ ما شئت" أي: إن الله جل ثناؤه مجازيك، قال الشاعر8:

_ 1 سورة الأنعام، الآية: 77. 2 سورة الأنعام، الآية: 72. 3 سورة المائدة، الآية: 50. 4 سورة النحل، الآية: 55. 5 سورة فصلت، الآية: 40. 6 هو عبيد بن الأبرص، والبيت ليس في ديوانه. 7 رواه البخاري: أنبياء: 54، أدب: 78، وأبو داود: أدب: 6، وابن ماجه: زهد 17، والموطأ: سفر 46، وأحمد: 4/ 131. 8 ديوان أبي تمام: 497.

ذا لم تَخْشَ عاقِبةَ الليالي ... ولم تَسْتَحي فاصنع ما تشاءُ ويكون اللفظ أمراً، والمعنى تسليم. نحو قوله جلّ ثناؤه: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضِ} 1. ويكون أمراً، والمعنى تكوين. نحو قوله جلّ ثناؤه: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2. وهذا لا يجوز أن يكون إلا مِن الله جلّ ثناؤه. ويكون أمراً، وهو نَدْب نحو قوله جلّ ثناؤه: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضَ} 3. مثله: فقلتُ لراعيها انْتَشِرْ وتَبَقَّلِ ويكون أمراً، وهو تعجيز. نحو قوله جلّ ثناؤه: {فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} 4. ومثله5: خَلِّ الطريقَ لمن يَبْني المَنَارَ بها ... وابرُز بِبَرْزَة حيثُ اضْطَرَّكَ الْقَدَرُ ويكون أمراً، وهو تعجب. نحو قوله جلّ ثناؤه: {أَسْمِعْ بِهِمْ} 6. قال7: أحْسِنْ بها خُلَةً لو أنها صدقتْ ... موعودَها ولو انَّ النُّصحَ مقبولُ ويكون أمراً، وهو تمنٍّ. تقول لِشَخص تراه: "كُنْ فلاناً". ويكون أمراً، وهو واجب. في أمر الله جلّ ثناؤه: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} 8. ويكون اللفظ أمراً، والمعنى تلهيفٌ وتحسير. كقول القائل: "متْ بِغَيْظِكَ" ومُتْ بِدائِكَ" وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} 9 ثم قال

_ 1 سورة طه، الآية: 72. 2 سورة البقرة، الآية: 65. 3 سورة الجمعة، الآية: 10. 4 سورة الرحمن، الآية: 33. 5 ديوان جرير: 219. 6 سورة مريم، الآية: 38. 7 ديوان كعب بن زهير: 61. والخلة: الصاحبة. 8 سورة الأنعام، الآية: 72. 9 سورة آل عمران، الآية: 119.

جرير1: موتوا من الغَيْظ غَمّاً في جَزِيرَتِكم ... لَنْ تقطعوا بطنَ وادٍ دونَهُ مُضَرُ ويكون أمراً، والمعنى خَبَر. كقوله جلّ ثناؤه: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} 2 المعنى: انهم سيضحكون قليلاً ويبكون كثيراً. فإن قال قائل: فما حال الأمر في وجوبه وغير وجوبه? قيل له: أمّا العرب فليس يُحفظُ عنهم في ذلك شيء، غير أن العادة بأنَّ من أمر خادمه بسقيه ماءً فلم يفعل، أنّ خادمه عاصٍ: وان الآمر مَعْصِيّ. وكذلك إذا نهى خادَمه عن الكلام فتكلّم، لا فرق عندهم في ذلك بين الأمر والنهي. فأما "النهي" فقولك: "لا تَفْعَلْ" ومنه قوله3: لا تَنِكحي إن فَرَّق الدهر بيننا ... أغمَّ القفا والوَجهِ ليس بأنْزعا وأمّا "الدعاء، والطَّلب" فيكون لمن فوقَ الداعي والطالب. نحو: "اللهم اغُفرْ" ويقال للخليفة: "انظُرْ في أمري". قال الشاعر4: إليك أشكو فتقبَّلْ مَلَقي ... واغفِرْ خطاياي وثمِّرْ وَرقي و"العرض. والتحضيض" متقاربان. إلا أن العَرْضَ أرفَقُ. والتحضيض أعْزَمُ. وذلك قولك في العَرض "ألا تنزِل. ألا تأكلُ" والإغراء والحثُّ قولك: "ألَمْ يأنِ لك أن تطيعَني". وفي كتاب الله جل ثناؤه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} 5. والحثّ والتحضيض كالأمر ومنه قوله عزّ وجلّ: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} 6 فهذا من الحثّ والتخصيص، معناه: ائْتِهم ومُرْهُم بالاتقاء. و"لولا" يكون لهذا المعنى، وقد مضى ذكرها. وربما كان تأويلها النفي،

_ 1 ديوانه: 200. 2 سورة التوبة، الآية: 83. 3 ديوان هدبة بن الخشرم: 105، والأنزع، الذي انحسر الشعر من جانبي جبهته. 4 ديوان العجاج: 1/ 178. 5 سورة الحديد، الآية: 16. 6 سورة الشعراء, الآية: 10.

كقوله جلّ ثناؤه: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} 1 المعنى: اتخذوا من دونه آلهة لا يأتونَ عليهم بسلطان بين. و"التمني" قولك: "وَدِدتكَ عندنا" وقوله2: وَدِدتُ وما تُغني الوَدَادَةُ أنني ... بما في ضمير الحاجِبيَّة عالِمُ قال قوم: مِن الأخبار، لأن معناه "ليس" إذا قال القائل: "لَيْتَ لي مالاً" فمعناه: ليس لي مالٌ. وآخرون يقولون: لو كان خبراً لجاز تصديق قائله أو تكذيبه، وأهل العربية مختلفون فيه على هذين الوجهين. أما "التعجب" فتفضيل شخص من الأشخاص أو غيره على أضرابه بوصف. كقولك: ما أحسَنَ زيداً. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 3 وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} 4 وقد قيل: إنّ معنى هذا: "ما الذي صَبَّرهم". وآخرون يقولون: "ما أصبرَهم: ما أجرأهم". قال وسمعت أعرابيّاً يقول لآخر: ما أصبرك على الله، أي ما أجرأك عليه. باب الخطاب بلفظ المذكر أو لجماعة الذُّكران: إذا جاء الخطاب بلفظ مذكّر ولم يُنَصَّ فيه على ذِكر الرجال فإنّ ذلك الخطاب شامل للذُكران والإناث. كقوله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 5. كذا تَعْرف العرب هذا. فإن قال القائل: "هذا لقوم من بني فلان" فقد ذهب أكثرُ أهل اللغة إلى أن "القوم" للرجال دون النساء، فسمعت عليَّ بن إبراهيم يقول، سمعت ثعلباً يقول: يقال: "امُرُؤُ, وامْرَءان, وقوم" و"امرأة. وامْرأتان. ونِسْوَة". وسمعت عليّاً يقول: سمعت المفسّر يقول: سمعت عبد الله بن مُسْلم يقول: القوم للرجال دون النساء، ثم يخالطهم النساء فيقال:

_ 1 سورة الكهف، الآية: 15. 2 ديوان كثير عزة: 199. 3 سورة عبس، الآية: 17. 4 سورة البقرة، الآية: 175. 5 سورة البقرة، الآية: 43.

"هؤلاء القومُ قومُ فلان" ولا يجوز للنساء ليس فيهن رجل: هؤلاء قوم فلان، ولكن يقال: هؤلاء من قوم فلان، لأن قومه رجال والنساء منهم. قال: وإنّما سمّي الرِّجالَ دون النساء قوماً، لأنهم يقومون في الأمور وعند الشدائد يقال قائم وقَوْم، كما يقال: زائر وزَوْر. وصائم وصَوْم. ونائم ونَوْم. ومثله "النَّفَر" لأنهم ينفِرُون مع الرجال إذا استنفَرَهم. قال امرؤ القيس1: فهو لا تَنمِي رَمِيَّتُهُ ... ما لَهُ لا عُدَّ من نَفَرِهِ ومما يدلّ على أن القوم للرجال قول زهير2: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقول آل حصن أم نساءُ باب أقلِّ العدد الجمعِ: الرُّتَبُ في الأعداد ثلاث: رتبةُ الواحد. ورتبة الاثنين. ورتبة الجماعة، فهي للتوحيد والتثنية والجمع، لا يزاحم في الحقيقة بعضُها بعضاً. فإن عُبِّر عن واحد بلفظ جماعة وعن اثنين بلفظ جماعة فذلك كله مجاز والتحقيق ما ذكرناه. فإذا قال القائل: "عندي دراهمُ, أو أفراسٌ, أو رجال" فذلك كله عبارة عن أكثر من اثنين. وإلى ذلك ذهب عبد الله بن عباس -ومكانُه من العلم باللغة مكانُه- في قوله جلّ ثناؤه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} 3 إلى أن الحَجْبَ في هذا الموضع عن الثلث إلى السدس لا يكون إلا بأكثر من اثنين، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "الاثنان فما فوقَهما جماعة" 4 فإنما أراد أنهما إذا صَلَّيا فقد حازا فضلَ الجماعة، لا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سمَّي الشخصين جماعة. وقول القائل: إن أقلّ ذلك أن يُجْمع واحد إلى واحد فهذا مجاز، وإنما الحقيقة أن يُقال: كان واحد فثنّي ثم جمع. ولو كان الأمر على ما قالوه لما كان للتثنية ولا للاثنين معنى بوجه، ونحن نقول: خرجا. ويخرجان فلو كان الاثنان جمعاً لَمَا كان لقولنا يخرجان معنىً، وهذا لا يقوله أحد.

_ 1 ديوانه: 103. 2 ديوانه: 12. 3 سورة النساء، الآية: 10. 4 رواه البخاري: أذان: 35، والنسائي: إمامة 43-45, وابن ماجه: إقامة 44، وأحمد: 5/ 354-369.

باب الخطاب الذي يقع به الإفهام من القائل والفَهم من السامع: يقع ذلك بين المتخاطبيْن من وجهين: أحدهما الإعراب، والآخر التصّريف. هذا فيمن يعرف الوجهين، فأمّا من لا يعرفهما فقد يمكن القائل إفهامُ السامع بوجوه يطول ذِكرها من إشارة وغير ذلك, وإنّما المُعَوَّل على ما يقع في كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو غيرهما من الكلام المشترك في اللفظ. فأمّا الإعراب فبه تُميَّز المعاني ويُوقَف على أغراض المتكلمين. وذلك أنّ قائلاً لو قال: "ما أحسنْ زيدْ" غيرَ معرب أو "ضربَ عمرْ زيد" غير معرب لم يوقَف على مراده. فإن قال: "ما أحسنَ زيداً" أو "ما أحسنُ زيدِ" أو "ما أحسنَ زيدٌ" أبانَ بالإعراب عن المعنى الذي أراده. وللعرب في ذلك ما ليس لغيرها: فهم يفْرُقون بالحركات وغيرها بين المعاني. يقولون "مِفْتَح" للآلة التي يُفتح بها. و"مفتح" لموضع الفتح و"مقص" لآلة القص. و"مقص" للموضع الذي يكون فيه القصّ. و"محلب" للقدَح يُحلب فيه و"محلب" للمكان يُحتلب فيه ذواتُ اللبن. ويقولون: "امرأة طاهر" من الحيض لان الرجل لا يَشْرَكها في الحيض. وطاهرة من العيوب لأن الرجل يَشْرَكها في هذه الطّهارة. وكذلك "قاعد" من الحبل و"قاعدة" من القعود. ثم يقولون: "هذا غلاماً أحسن منه رجلاً" يريدون الحالَ في شخص واحد. ويقولون: "هذا غلام أحسنُ منه رجل" فهما إذاً شخصان. وتقول: "كم رجلاً رأيتَ?" في الاستخبار و"كم رجلٍ رأيتَ" في الخبر يراد به التكثير. و"هن حَوَاجُّ بيتِ الله" إذا كنّ قد حججن. و"حَوَاجُّ بيتِ الله" إذا أردْن الحجَّ. ومن ذلك "جاء الشتاءُ والحَطَبَ" لم يُرِدْ أنَّ الحطب جاء، إنما أراد الحاجة إليه، فإن أراد مجيئَهما قال: "والحطبُ". وهذا دليل يدل على ما وراءه. وأما التصريف فإنَّ من فاته علمه فاته المُعظَم، لأنا نقول: "وَجَدَ" وهي كلمة مبهمة فإذا صرفنا أفصحتْ فقلنا في المال "وُجْداً", وفي الضالة "وِجْداناً", وفي الغضب "مَوْجِدَةً" وفي الحزن "وَجْداً". وقال الله جلّ ثناؤه: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ

فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} 1 وقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2 كيف تحول المعنى بالتصريف من العدل إلى الجَوْر. ويكون ذلك في الأسماء والأفعال فيقولون للطريقة في الرمل "خِبَّة" وللأرض المخصبة والمجدبة "خُبَّة". وتقول في الأرض السهلة الخوَّارة "خارت، تخورُ، خَوْراً، وخؤورًا"، وفي الإنسان إذا ضعُف "خارَ، خَوَراً"، وفي الثور "خار، خُواراً". ويقولون للمرأة الضخمة "ضِنَاك" وللزُّكمة "ضُنَاك" ويقولون للإبل التي ذهبت ألبانها "شَوْل" وهي جمع "شائلة". والتي شالت أذنابها لِلَّقح "شُوَّل" وهي جمع "شائل". ويقولون لبقية الماء في الحوض "شَوْل" ويقولون للعاشق "عميد" وللبعير المتأكل السَّنام "عَمِد" إلى غير ذلك من الكلام الذي لا يُحصى. باب معاني ألفاظ العبارات التي يعبّر بها عن الأشياء: ومرجعها إلى ثلاثة وهي: المعنى، والتفسير، والتأويل. وهي وإن اختلفت فإن المقاصد بها متقاربة. فأما المعنى فهو القصد والمراد. يقال: "عَنَيْتُ بالكلام كذا" أي: قَصَدْتُ وعَمَدْت. أنشدني القطان عن ثعلب عن ابن الأعرابي3: مثلُ البُرام غدا في أُصْدَةٍ خلَقِ ... لم يستَعِن وحوامي الموتِ تَغشاهُ فَرَّجْتُ عنه بِصِرْعَيْنا لأرمَلة ... وبائس جاء معناه كمعناهُ يقول في رجل قُدِّم لِيُقتل، وأنه فرج عنه بِصِرْعين، أي فِرْقين من غنم: قد كنتُ أعددتُها لأَرملة تأتيني تسألني أو لبائس مثل هذا المقدَّم ليقتل معنا، أي إن مقصدهما في السؤال والبؤس ومقصد واحد ويجوز أن يكون المعنى "الحال" أي حالهما واحدة. وقال قوم اشتقاق "المعنى" من "الإظهار" يقال: "عَنتِ القِرْبة" إذا لم تحفظ

_ 1 سورة الجن، الآية: 15. 2 سورة المائدة، الآية: 45. 3 لسان العرب: مادة "صرع"، والبيت الثاني في المقاييس مادة "صرع". البرام: القراد. الأصدة. قميص صغير للصغيرة.

الماء بل أظهرته، و"عنوان الكتاب" من هذا. وقال آخرون: "المعنى" مشتق من قول العرب "عَنتِ الأرض بنبات حسن" إذا أنبتت نباتاً حسناً. قال الفراء: "لم تَعْنُ بلادنا بشيء" إذا لم تُنبت وحكى ابن السّكِّيت: "لم تَعْنِ" من "عَنَتْ. تعني" فإن كان هذا فإنَّ المراد بالمعنى الشيء الذي يفيده اللفظ كما يقال: "لم تَعْنِ هذه الأرض" أي لم تُفِدْ. وأما "التفسير" فإنه "التفصيل" كذا قال ابن عباس في قوله جلّ ثناؤه: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 1 أي: تفصيلاً. وأما اشتقاقه فمن "الفَسر". أخبرني القطّان عن المَعْدَانّي عن أبيه عن معروف عن الليث عن الخليل قال: الفسر البيان، واشتقاقه من فَسرِ الطبيب للماء إذا نظر إليه، ويقال لذلك: "التَّفْسِرَة" أيضاً. وأما "التَّأْويل" فآخِرُ الأمر وعاقبته. يقال: "إلى أي شيء مآل هذا الأمر?" أي مَصيرُهُ وآخِره وعقباه. وكذا قالوا في قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهِ} 2 أي: لا يعلم الآجال والمُدَدَ إلاَّ الله جلّ ثناؤه، لأن القوم قالوا في مدّة هذه الملة ما قالوه، فأُعلموا أن مآل الأمر وعقباه لا يعمله إلا الله جل ثناؤه. واشتقاق الكلمة من "المآل" وهو العاقبة والمصير، قال عَبْدَةُ بن الطبيب3: ولِلأَحِبَّة أيام تَذَكَّرُها ... ولِلنّوى قبل يوم البين تأويلُ وقال الأعشى4: على أنًّها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّها ... تَأّوُّلَ رِبِعِيِّ السِّقاب فأَصْحَبَا يقول: إن حبّها كان صغيراً في قلبه فآلَ إلى العِظَم ولم يزل يَنْبُت حتى أصْحَبَ، فصار كالسَّقب الذي لم يزل يَشِبُّ حتى أصحب، يعني أنه إذا استصحبَتْه أمّه صَحِبَها.

_ 1 سورة الفرقان، الآية: 33. 2 سورة آل عمران، الآية: 7. 3 المفضليات: 136، والبين: الفراق. 4 ديوانه: 20. السقاب: جمع السقب: ولد الناقة. الربعي: نسبة إلى الربيع.

باب الخطاب المطلق والمقيّد: أمّا الإطلاق فأن يّذكَر الشيء باسمه لا يُقرَن به صفة ولا شرط ولا زمان ولا عدد ولا شيء يشبه ذلك. والتقيد أن يذكَر بِقَرِينٍ من بعض ما ذكرناه، فيكون ذلك القرين زائداً في المعنى. من ذلك أن يقول القائل: "زيدٌ لَيْثٌ"، فهذا إنما شبَّهه بليث في شجاعته، فإذا قال: "هو كالليثِ الحَرِبِ" فقد زاد "الحَرِبَ" وهو الغضبان الذي حُرِبَ فريسَتَه، أي: سُلِبَها. فإذا كان كذا كان أدهى له. ومن المطلَق قوله1: ترائِبُها مَصْقولة كالسَّجَنْجلِ فشبَّهَ صدرها بالمرآة، لم يزد على هذا. وذكر ذو الرّمة أخرى فزاد في المعنى حتى قيّد فقال2: ووجهٌ كمرآة الغريبة أسْجَحُ فذكر المرآة كما ذكر امرؤ القيس السَّجنجل، وزاد الثاني ذِكْرَ الغريبة فزاد في المعنى، وذلك أن الغريبة ليس لها من يُعْلِمها محاسنها من مساويها فهي تحتاج أن تكون مرآتها أصفى وأنقى لتُرِيَها ما تحتاج إلى رؤيته من سُنَنِ وجهها. ومنه قول الأعشى3: تَرُوحُ على آل المُحَلَّق جَفنةٌ ... كجابِيَة الشيخ العِراقيِّ تَفْهَقُ فشبَّه الجفنة بالجابية، وهي الحوض، وقيدها بذكر الشيخ العراقي، لأن العراقي إذا كان بالبدو لم يعرف مواضعَ الماء ومواقع الغيث، فهو على جمع الماء الكثير أحرص من البدوي العارف بالمناقِع والأحساء. وفي هذا الباب قول حُمَيد بن ثَوْر يصف بعيراً4:

_ 1 ديوان امرئ القيس: 42. 2 ديوانه: 47، وصدره: لها أذن حشر وذفرى أسيلة. وفيه: "وخذ كمرآة ... " والأسجح: اللين الحسن. الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن. الأسيل: الأملس والطويل. 3 ديوانه: 121، وفيه: "نفى الذم عن آل ... " والجفنة: القصعة. الجابية: الحوض الضخم. 4 ديوانه: 111، وفيه: "راعي الضأن لو يتقوف". الثلة: جماعة الغنم.

مُحَلّى بأطواقٍ عِتاقٍ يُبينُها ... على الضُّرِّ راعى الثَّلَّة المُتَعيّفُ فقال "راعي ثَلَّة" ولم يطلق اسم الراعي، وذلك أنهم يقولون: إنّ راعي الغنم أجهلُ الرُّعاة، فيقول: إنّ هذا البعيرَ محلّىً بأطواق عتاق، أي كريمة، يُبينُها راعي الثلَّة على جهله فكيف بغيره ممن يعرف. باب الشيء يكون ذا وصفين فيُعلَّق بحُكْم من الأحكام على أحد وصفَيْه: أمّا الفقهاء فمختلفون في هذا. فأمّا مذهب العرب فإنّ العربي قد يذكر الشيء بإحدى صفتيه فيؤَثّر ذلك، وقد يذكره فلا يؤثّر بل يكون الأمر في ذلك وفي غيره سواءً. ألاَ ترى القائل يقول1: مِنْ أُناس ليسَ من أخلاقِهم ... عاجِلُ الفُحش ولا سوء الطَّمَعْ فلو كان الأمر على ما يذهب إليه مَن يُخالِف مذهبَ العرب لاستجيز عاجلُ الفُحش إذا كان الشاعرُ إنما ذكر العاجل، وقد قال الله جلّ ثناؤه: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} 2 والكفر لا يجوز في حال من الأحوال. وحكى ناس عن أبي عُبيدْ إنما سَلك فيما قاله من هذا مَسْلك التَّأوُّل ذاهباً إلى مذهب من يقول بهذه المقالة، ولم يَحْكِ ما قاله عن العرب، ولو حكاه عنهم للزم القولُ به، لأنّ أبا عبيدْ ثِقة أمين فيما يحكيه عن العرب، فأما في الذي تأوَّله فإنّا نحن نُخالفه فيه كما نخالفه في مسألة مُتعة الحج وفي ذوي الأرحام وغير ذلك من المسائل المختلف فيها.

_ 1 المفضليات: 194. 2 سورة البقرة، الآية: 41.

باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز

باب سنن العرب في حقائق الكلام والمجاز: نقول في معنى الحقيقة والمجاز: إن "الحقيقة" من قولنا: "حَقَّ الشيء" إذا وجب. واشتقاقه من الشيء المحقَّق وهو المُحْكَم، تقول: ثوب محقَّق النَّسْج أي مُحْكَمُه. قال الشاعر: تَسرْبلْ جِلدَ وجهِ أبيك إنّا ... كَفيناكَ المحقَّقَةَ الرِّقاقا1 وهذا جنس من الكلام يُصدِّق بعضُه بعضاً من قولنا: "حَقٌّ وحقيقة. ونصُّ الحِقاق". فالحقيقة: الكلام الموضوع موضِعَه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل، ولا تقديم فيه ولا تأخير، كقول القائل: "أحمدُ اللهَ على نِعَمِهِ وإحسانه". وهذا أكثر الكلام. قال الله جلّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 2 وأكثر ما يأتي من الآي على هذا. ومثله في شعر العرب3: لَمالُ المرءِ يُصْلحِهُ فيَغْنى ... مفاقِرَه أعَفُ من القُنوعِ وقول الآخر: وفي الشرِّ نَجَاةٌ حِـ ... ـينَ لا يُنْجيكَ إحْسانُ وأمّا "المجاز" فمأخوذ من "جازَ، يَجُوزُ" إذا استنَّ ماضياً تقول: "جاز بنا فلان. وجازَ علينا فارِس" هذا هو الأصل. ثم تقول: "يجوز أن تفعلَ كذا" أي: يَنْفُذ ولا يُرَدُّ ولا يُمْنَع. وتقول: "عندنا دراهم وَضَح وازِنَة وأخرى تَجُوزُ جَوَازَ الوازِنَة" أي: إن هذه وإن لم تكن وازِنة فهي تجوز "مجازَها" وجوازها لِقْربِها منها. فهذا تأويل قولنا: "مجاز" أي: إن الكلام الحقيقيّ يَمْضي لِسَنَنَهِ لا يُعْتَرض عليه،

_ 1 لسان العرب: مادة "حقق" بلا عزو. والمقاييس: مادة "حق". 2 سورة البقرة، الآية: 4. 3 ديوان الشماخ: 221.

وقد يكون غيره يجوز جوازه لقُربه منه، إلاِّ أنّ فيه من تشبيهٍ واستعارَة وكفٍّ ما ليس في الأول، وذلك كقولك: "عطاءُ فلان مُزْنٌ واكفٌ" فهذا تشبيه وقد جاز مجاز قوله: "عطاؤه كثير وافٍ" ومن هذا في كتاب الله جل ثناؤه: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} 1 فهذا استعارة. وقال: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} 2 فهذا تشبيه ومنه قول الشاعر3: ألَمْ ترَ أنّ الله أعطاكَ سورَةً ... تَرَى كلَّ مَلك دُونها يَتَذَبذَبُ فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طَلَعَتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ فالمجاز هنا عند ذِكر "السُّورَة" وإنما هي من البناء. ثم قال: "يتذبذب". والتذبذب يكون لِذَباذِب الثوب وهو ما يتدلّى منه فيضطرب, ثم شبهه بالشمس وشبههم بالكواكب. وجاء هذان البابان في نُظوم كتاب الله جلّ ثناؤه، وكذلك يجيء بعدهما ما نذكره في سُنَن العرب لتكون حجَّة الله جلّ اسمه عليهم أكَدَ، ولِئَلاَّ يقولوا: إنما عجزنا عن الإتيان بمثله لأنه بغير لغتنا وبغير السُّنن التي نَسْتَنُّها. لا، بل أنزله جل ثناؤه بالحروف التي يعرفونها وبالسُّنن التي يسلكونها في أشعارهم ومخاطباتهم ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أظهرَ وأشهر. ثم جعله تبارك اسمه أحد دلائل نُبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ثم أعلمهم ألاَّ سبيل لهم إلى معارَضته، وقَطَع العُذر بقوله جلّ ثناؤه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 4. فمن سنن العرب مخالفة ظاهرِ اللفظ معناه، كقولهم عند المدح: "قاتله الله ما أشعره" فهم يقولون هذا ولا يريدون وقوعه. ومن قول امرئ القيس يصف رامياً5: فهو لا تَنمِي رَمِيَّتُهُ ... ما لَهُ لا عُدَّ من نفره

_ 1 سورة ن، الآية: 16. 2 سورة الرحمن، الآية: 24. 3 ديوان النابغة الذبياني: 46. 4 سورة الإسراء، الآية: 88. 5 ديوانه: 103.

يقول: إذا عدَّ نفره لم يعدَّ معهم، كأنه قال: قتله الله، أماته الله، حتى لا يعدَّ. ومنه قولهم: "هوَتْ أمُّه. وهَبِلَتْهُ، وثكلَته" قال: كعب بن سعد يرثي أخاه1: هَوَتْ أمُّهُ ما يَبْعَثُ الصبحُ غادياً ... وماذا يؤَدّى الليلُ حينَ يؤوبُ وهذا يكون عند التعجب من إصابة الرجُل في رميْه أو في فعل يفعله وكان عبد الله بن مسلم بن قتيبة يقول في هذا الباب: من ذلك الدعاءُ على جهة الذم لا يراد به الوقوعُ كقوله الله جل ثناؤه: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 2، و {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} 3. و {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4" وأشباه ذلك. قال أحمد بن فارس: وهذا وإن أشبه ما تقدم ذكره فإنه لا يجوز لأحد أن يُطلق فيما ذكره الله جلّ ثناؤه أنه دعاء لا يراد به الوقوع، بل هو دعاء عليهم أراد الله وقوعه بهم فكان كما أراد، لأنهم قُتلوا وأهلكوا وقوتلوا ولُعنوا، وما كان الله جلّ ثناؤه ليدعوَ على أحد فتَحِيدَ الدعوة عنه: قال الله جلّ ثناؤه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 5 فدعا عليه ثم قال: {وَتَبَّ} أيّ وقد تبّ وحاق به التبَّاب. وابن قتيبة يُطِلق إطلاقات منكرةً ويروي أشياءَ شنعة، كالذي رواه عن الشَّعْبِيّ أنَّ أبا بكر وعمر وعليّاً توُفوا ولم يجمعوا القرآن. قال: وروى شَريك عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت الشَّعبي يقول ويحلف بالله: لقد دخل علي حُفرته وما حِفظ القرآن. وهذا كلام شنع جدّاً في من يقول "سَلُوني قبل أن تَفقِدوني، سلوني فما من آية إلاَّ أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل". وروى السُّدّيّ عن عبدِ خيرٍ عن عليَّ رضي الله تعالى عنه أنه رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقسَمَ ألاَّ يضع على ظهره رداءً حتى يجمع القرآن قال: فجلس في بيته حتّى جمع القرآن، فهو أول مصحف جُمع فيه القرآن، جَمعه

_ 1 الأصمعيات: 95. وقوله: هوت أمه يعني فقدته، ومثله هبلته وثكلته. يؤوب: يرجع. 2 سورة الذاريات، الآية: 10. 3 سورة عبس، الآية: 17. 4 سورة التوبة، الآية: 30. 5 سورة المسد، الآية: 1.

في قلبه، وكان ند آل جعفر. وحدّثنا علي بن إبراهيم عن علي بن عبد العزيز قال: قال أبو عبيد حدّثني نصر بن بابٍ عن الحجاج عن الحكم عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي أنه قال: ما رأيتُ أحداً أقرى من عليّ صلوات الله عليه، صلّينا خلفه فأسْوأ بَرْزخاً ثم رجَع فقرأه ثم عاد إلى مكانه قال أبو عبيد البرزخ: ما بينَ كل شيئين، ومنه قيل للميت: هو في البرزخ، لأنه بين الدنيا والآخرة، فأراد أبو عبد الرحمن بالبرزخ ما بين الموضع الذي أسقط علي صلوات الله عليه منه ذلك الحرفَ إلى الموضع الذي كان انتهى إليه. باب أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق: يكون ذلك على وجوه: فمنه اختلاف اللفظ والمعنى، وهو الأكثر الأشهر، مثل "رجل، وفرس" و"سيف، ورمح" ومنه اختلاف اللفظ واتفاق المعنى، كقولنا: "سيف, وعَضب" و"ليث، وأسَد" على مذهبنا في أن كل واحد منهما فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة ومنه اتفاق اللفظ واختلاف المعنى، كقولنا عين الماء وعين المال وعين الرّكبة وعين الميزان ومنه في كتاب الله جل ثناؤه: {قَضَى} بمعنى: حَتَم كقوله جلّ ثناؤه {قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} 1 وقضى بمعنى: أمرَ كقوله جلّ ثناؤه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 2 أي أمر. ويكون قضى بمعنى: أعَلَم كقوله جلّ ثناؤه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} 3 أي أعلمناهم. وقضى بمعنى: صَنَع كقوله جلّ ثناؤه: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 4 وكقوله جلّ ثناؤه: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} 5 أي اعملوا ما أنتم عاملون. وقضى: فَرَغ. ويقال للميت:

_ 1 سورة الزمر، الآية: 42. 2 سورة الإسراء، الآية: 23. 3 سورة الإسراء، الآية: 4. 4 سورة طه، الآية: 7. 5 سورة يونس، الآية: 71.

قَضَى أي فرغ. وهذه وإن اختلفت ألفاظها فالأصل واحد. ومنه اتفاق اللفظ وتضادُّ المعنى كـ"الظنّ" وقد مضى الكلام عليه. ومنه تقارب اللفظين والمعنيين كـ"الحَزْم" و"الحَزن". فالحَزمُ من الأرض أرفع من الحزن. وكـ"الخَضْم" وهو بالفم كله. و"القضم" وهو بأطراف الأسنان. ومنه اختلاف اللفظين وتقارب المعنيين كقولهم مدحه إذا كان حيًّا و"أبنه" إذا كان ميتاً. ومنه تقارب اللفظين واختلاف المعنيين وذلك قولنا "حَرِجَ" إذا وقع في الحَرج و"تحرج" إذا تباعد عن الحرج. وكذلك "أثِمَ، وتأثم"، و"فزع" إذا أتاه الفَزَع و"فزع عن قلبه" إذا نحِّي عنه الفزع قال الله جلّ ثناؤه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 1 أراد والله أعلم: أخرِج منها الفزعُ. باب القلب: ومن سنن العرب القلبُ. وذلك يَكون في الكلمة، ويكون في القِصَّة: فأمّا الكلمة فقولهم: "جَذَبَ، وجبَذَ" و"بكل، ولبَكَ" وهو كثير وقد صنّفه علماء اللغة، وليس من هذا فيما أظن من كتاب الله جلّ ثناؤه شيءٌ. وأما الذي في غير الكلمات فقولهم: كما عُصِبَ العِلْباءُ بالعودِ2 و: كما كان الزِّناءُ فريضة الرَّجْمِ3 و: كأنّ لونَ أرضه سماؤُهُ4 و: كأنّ الصفا أوْراكُها إنما أراد: كان أوراكَها الصَّفا، ويقولون: "أدخلتُ الخاتَمَ في إصبعي" و:

_ 1 سورة سبأ، الآية: 23. 2 ديوان الشماخ: 120. وصدره: منه نجلت ولم يوشب به حسبي 3 ديوان النابغة الجعدي: 235. وصدره: كانت فريضة ما أتيت كما 4 ديوان رؤبة: 3. وصدره: وبلد عامية أعماؤه

تشقى الرِّماحُ بالضَّياطِرَةِ الحُمرِ1 و: كما بَطنْتَ بالفَدَنِ السيَّاعا2 و: حَسَرْتُ كَفِّي عن السِّرْبالِ وإنما حَسَرَ السِّربالَ عن كفه. ومثله في كتاب الله جل ثناؤه: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} 3 ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} 4 ومعلوم أن التحريم لا يقع إلا على مَن يلزَمُه الأمر والنّهي، وإذا كان كذا فالمعنى: وحرَّمنا على المراضع أن يرضِعْنَه. ووجه تحريم إرضاعه عليهن أن لا يقبَل إرضاعهن حتى يُرَد إلى أمّه. قال بعض علمائنا: ومنه قوله جل ثناؤه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 5 والأصنام لا تعادي أحداً، فكأَنَّهُ قال: فإني عدوٌّ لهم. وعداوته لها بغضه إيّاها وبراءته منها. باب الإبدال: ومن سنن العرب إبدالُ الحروف وإقامة بعضها مقام بعض، ويقولون "مَدَحَه، ومدهه" و"فرس رِفلٌّ. ورِفنٌّ" وهو كثير مشهور قد ألَّف فيه العلماء. فأمّا ما جاء في كتاب الله جل ثناؤه فقوله جل ثناؤه: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} 6 فاللام والراء يتعاقبان كما تقول العرب: "فلقُ الصبح. وفَرَقه". وذُكر عن الخليل ولم أسمعه سماعاً أنه قال في قوله جلّ ثناؤه: {فَجَاسُوا} : إنما أراد فحاسوا فقامت الجيم مقام الحاء، وما أحسب الخليل قال هذا ولا أحقُّه عنه. باب الاستعارة: ومن سنن العرب الاستعارة، وهو أن يضعوا الكلمة للشيء مستعارة من

_ 1 الأضداد: 153 ونسبته إلى خداش بن زهير. 2 ديوان القطامي: 40، وصدره: "فلما أن جرى سمن عليها". والسياع: الشحم تطلى به المزادة، والطين بالتبن يطين به. وفي القاموس المحيط يروى عجز البيت: كما ظنت ... والمراد: كما طينت بالسياع الفدن. والفدن: صباغ أحمر. 3 سورة الأنبياء، الآية: 37. 4 سورة القصص، الآية: 12. 5 سورة الشعراء، الآية: 77. 6 سورة الشعراء، الآية: 63.

موضع آخر فيقولون: "انشقت عصاهم" إذا تفرقوا. وذلك يكون للعصا ولا يكون للقوم. ويقولون: "كشَفَتْ عن ساقها الحروبُ". وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} 1 يقولون للرجل المذموم: إنما هو حمار. وقال الشاعر: دُفِعتُ إلى شيخ بجنَبِ فِنائِهِ ... هو العِيرُ إلا أنّه يتكلَّمُ ومنه قوله جلّ ثناؤه: {الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} 2 و {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} 3 أي في الخلق الجديد. و {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 4 وتقول العرب: "رانَ به النُّعاس" أي غلب عليه. و {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 5 أي ضيق وشدة. و {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} 6. و {امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 7 وقوله جلّ ثناؤه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} 8 وتقول العرب "ناقة تاجِرَة" يريدون أنها تُنْفِّقُ نفسَها بحسنها. وقوله جلّ ثناؤه: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 9 و {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} 10 و {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 11 ويُراد حظُّهم وما يحصل لهم. والعرب تقول12: فإني لستُ منكَ ولستَ مني ... إذا ما طارَ من مالي الثمينُ أي حصل. ومنه قوله جل ثناؤه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} 13 أي ائْتِ بها كما أمرتَ به و {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} 14 أي عَصَمَكَ منهم. رواه شعْبَة عن أبي رَجاء عن

_ 1 سورة المدثر، الآية: 50. 2 سورة القيامة، الآية: 29. 3 سورة النازعات، الآية: 10. 4 سورة المطففين، الآية: 14. 5 سورة البلد، الآية: 4. 6 سورة العلق، الآية: 15. 7 سورة تبت، الآية: 4. 8 سورة الدخان، الآية: 29. 9 سورة العنكبوت، الآية: 67. 10 سورة الشعراء، الآية: 225. 11 سورة الأعراف، الآية: 131. 12 المقاييس: مادة "ثمن" بلا عزو. 13 سورة الإسراء، الآية: 78. 14 سورة الإسراء، الآية: 60.

الحَسَن ومن الاستعارة قولهم: "زالَتْ رحالةُ سابح" كناية عن المرأة تستعصي على زوجها. قال الشمّاخ1: وكنتُ إذا زالت رِحالَةُ سابحٍ ... شَمِتُّ به حتَّى لقيتُ مِثالَها وكانت امرأته نَشَزَتْ عليه، وذلك قوله2: ألا أصبحتْ عِرْسي من البيت جامحاً ... بغيرِ بَلاءٍ سَيِّئٍ ما بَدا لَها باب الحذف والاختصار: ومن سنُن العرب الحذف والاختصار، يقولون: "والله أفعلُ ذاك" يريد لا أفعل. و"أتانا عند مَغيب الشمس. أو حين أرادَ. أو حينَ كادت تغرب" قال ذو الرّمة3: فلمّا لَبِسْنَ الليلَ أو حين نَصَّبتْ ... له مِن خذا آذانها وهو جانِحُ ومنه في كتاب الله جل ثناؤه: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 4 أراد أهلّها. و {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 5. و"بنو فلان يَطَؤُهم الطريق" أي أهله. و"نحن نَطأُ السماء" أي مَطرها. و {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} 6 أي من آل فرعون. و {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} 7 أي ضِعفَ عذابِها. و {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} 8. ومثله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} 9 أي فضرب فانفلق. ومنه {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} 10 أراد الثناءَ الحسن. ومنه {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} 11 معناه: فإذا عزم الأمر كَذبُوه.

_ 1 ديوانه: 289، وفيه: "رحالة صاحب شتمت به". 2 ديوان الشماخ: 287. وفيه: على غير شيء أي أمر بدا لها. 3 ديوان ذي الرمة: 55. 4 سورة يوسف، الآية: 82. 5 سورة البقرة، الآية: 197. 6 سورة يونس، الآية: 83. 7 سورة الإسراء، الآية: 75. 8 سورة النعكبوت، الآية: 5. 9 سورة الشعراء، الآية: 63. 10 سورة يس، الآية: 26. 11 سورة محمد، الآية: 21.

باب الزيادة: قال بعض أهل العلم: إنّ العرب تَزيد في كلامها أسماءً وأفعالاً. أما الأسماء فالاسم والوَجه والمِثْلِ. قالوا: فالاسم في قولنا: "بسم الله" إنما أردنا "بالله" لكنه لمّا أشّبه القسم زِيدَ فيه الاسم. وأما الوجه فقول القائل: "وَجْهي إليك" وفي كتاب الله جل ثناؤه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 1 ثم قال: الشاعر2: استغفر الله ذنبا لستُ مُحْصِيَهُ ... رب العباد إليه الوجهُ والعملُ وأما المِثْل ففي قوله جلّ ثناؤه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} 3 ويقول قائلهم: "مثلي لا يَخضع لمثلك" أي: أنا لا أخضعُ لك. قال الشاعر4: يا عاذِلي دعْني مِن عَذْلكا ... مِثليَ لا يَقبَل من مثلكا وقوله جلّ ثناؤه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} 5 أي عليه. وأما الأفعال فقولهم "كاد" في قول الشاعر6: حتّى تناول كَلْباً في دِيارهِم ... وكادَ يسمو إلى الجُرفَيْنِ فارتَفعا أراد "وسما"، ألا ترى أنه قال: "فارتفعَ". وما يُزاد أيضاً من الأفعال قول القائل: "لا أعلم في ذلك اختلافاً" وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} 7 أراد والله أعلم: بما ليس في الأرض. وقد تزاد حروف من حروف المعاني, كزيادة "لا" و"من" وغير ذلك. وقد مضى ذكره بشواهده.

_ 1 سورة الرحمن، الآية: 21. 2 المقتضب: 2/ 321، بلا عزو. 3 سورة البقرة، الآية: 23. 4 الإنصاف: 1/ 301 بلا عزو. 5 سورة الأحقاف، الآية: 10. 6 ديوان الأعشى: 108. 7 سورة الرعد، الآية: 33.

باب التكرار: وسُنن العرب التكرير والإعادة إرادةَ الإبلاغ بحسب العناية بالأمر كما قال الحارث بن عُبَاد1: قَرّبا مرْبِط النَّعامةِ مِنّي ... لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عن حِيالِ فكرَّرَ قوله: "قَرِبا مربِط النّعامة مني" في رءوس أبيات كثيرة عناية بالأمر وأراد الإبلاغ في التنبيه والتحذير. وكذلك قول الأشعر2: وَكَتِيبَةٍ لبَّسْتها بكتيبة ... حتى يقول نساؤهم هذا فتى فكرر هذه الكلمة في رءوس أبيات على ذلك المذهب. وكتكرير مَن كرَّر3: مَهْلاً بني عَمِّنا مهلاً موالينا وكقول الآخر: كم نعمة كانت لَهُ ... كَمْ كَمْ وَكَمْ فكرّر لفظ "كم" لفرط العناية بقصد تكثير العدد. قال علماؤنا: فعلى هذه السنة ما جاء في كتاب الله جل ثناؤه من قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 4. فأما تكرير الأنباء والقِصَص في كتاب الله جل ثناؤه فقد قيلت فيه وجوه. واصح ما يقال فيه أن الله جل ثناؤه جعل هذا القرآن وعجْزَ القوم عن الإتيان بمثله أيةً لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بيَّن وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القِصَّة في مَواضِعَ إعلاماً أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء وبأي عبارة عَبَّرَ. فهذا أولى ما قيل في هذا الباب.

_ 1 الحيوان: 1/ 22، 3/ 284، والأزهية: 280، وفيهما: لقحت: حرب. والحارث حكيم وشاعر جاهلي، والنعامة: فرسه. 2 الأصمعيات: 142، ونسبته إلى الأسعر الجعفي، وهو مرثد بن أبي حمران الحارث بن معاوية، جاهلي، ورواية البيت في الأصمعيات: وكتيبة وجهتها لكتيبة ... حتى تقول سراتهم هذا الفتى 3 أساس البلاغة: "نبش"، بلا عزو وعجزه: لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا. 4 سورة الرحمن، الآية: 25، 28، وفي أماكن أخرى من السورة ذاتها.

باب العموم والخصوص: العامُّ الذي يأتي على الجملة لا يغادر منها شيئاً. وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} 1 وقال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2. والخاصُّ الذي يتحلّل فيقع على شيء دون أشياء. وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} 3 وكذلك قوله {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} 4 فخاطب أهلَ العقلِ. وقد يكون الكلامان متّصلين، ويكون أحدهما خاصاً والآخر عامّاً. وذلك قولك لمن أعطى زيداً درهماً: "أعْط عمراً، فإن لم تفْعل فما أعطيتَ" تريد: إن لم تُعطِ عمراً فأنت لم تعطِ زيداً أيضاً، وذلك غير محسوب لك. ومثله في كتاب الله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 5 فهذا خاص، يريد: هذا الأمر المجدَّد بَلِّغْه، فإن لم تفعل ولم تبلغ هذا فما بلغت رسالته. يريد: جميع ما أرسلتَ به. وأمّا العامُّ الذي يراد به الخاصُّ فكقوله جل ثناؤه حكاية عن موسى عليه السلام: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 6 ولم يرد كلَّ المؤمنين؛ لأن الأنبياء قبله قد كانوا مؤمنين. ومثله كثير. ومنه {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} 7, وإنّما قاله فريق منهم. و {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} 8, إنما قاله نُعَيْم بن مسعود إن الناس أبو سفيان وعيينة بن حِصْن. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} 9 أراد: الآيات التي إذا كذّب بها نزل العذاب على المكذِّبين وكذلك

_ 1 سورة النور، الآية: 45. 2 سورة الأنعام، الآية: 102، وسورة الرعد، الآية: 16، وسورة الزمر، الآية: 66. 3 سورة الأحزاب، الآية: 50. 4 سورة البقرة، الآية: 197. 5 سورة المائدة، الآية: 67. 6 سورة الأعراف، الآية، 143. 7 سورة الحجرات، الآية: 14. 8 سورة آل عمران، الآية: 173. 9 سورة الإسراء، الآية: 59.

قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} 1 أراد به من المؤمنين لقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2. وأما الخاصُّ الذي يُرادُ به العامّ فكقوله جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 3 الخطاب له -صلى الله عليه وسلم- والمراد الناسُ جميعاً. باب إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل في الحقيقة: ومن سُنن العرب إضافة الفعل إلى ما ليس فاعلاً في الحقيقة، يقولون: "أراد الحائطُ أن يقعَ" وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} 4 وهو في شعر العرب كثير. قال الشمّاخ5: أقامتْ على رَبعَيْهما جارتا صفاً ... كْمَيتا الأعالي جَوْنَتَا مُصْطلاهُما فجَعل الأثافِيَّ مُقيمةً. وقال6: وأشعثَ وَرَّادِ العِدادِ كأنّهُ ... إذا انشقَّ في جَوز الفلاة فَليقُ يصف طريقاً يَرِدُ ماء وهو لا وِرْدَ له. ومنه قوله7: كأني كَسوْتُ الرَّحُل أحقَبَ سَهْوقاً ... أطاعَ لهُ من رامَتَيْن حَدِيقُ فجعل الحديثَ مطيعاً لهذا الحمارِ لمَا تمكّن من رَعيه، والحديق لا طاعة ولا معصية له.

_ 1 سورة الشورى، الآية: 5. 2 سورة غافر، الآية: 7. 3 سورة الأحزاب، الآية: 1. 4 سورة الكهف، الآية: 77. 5 ديوانه: 308. أقامتْ على رَبعَيْهما: أي بعد ارتحال أهلهما. والربع: المنزل. والضمير في ربيعهما للدمنتين، والصفا: ويعني بجارتي الصفا: الأثفيتين. كميتا الأعالي: يعني أن أعلى كل من الأثفيتين في لونه كمته أي صفرة. والجون الأسود، والأبيض من الأضداد مصطلاهما: موضع الوقود، وأراد أن أسفل الأثفيتين قد اسود. 6 ديوان الشماخ: 243، وفيه: وأغبر وراد الثنايا ... إذا استشق في ... وجوز الفلاة: وسطها، فليتق داهية. 7 ديوان الشماخ: 245. الأحقب: الحمار الوحشي. السهوق: كل ما يروي ريا من سوق الشجر. ورامتين: موضع بالبادية.

باب الواحد يَرادُ به الجمع: ومن سُنن العرب ذكر الواحد والمراد الجميع، كقوله للجماعة "ضَيْفٌ" و"عدو" قال الله جلّ ثناؤه: {هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} 1 وقال: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} 2 وقال: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} 3 والتفريق لا يكون إلا بين اثنين. ويقولون: "قد كَثُرَ الدِّرهَم والدِّينار" ويقولون4: فقلنا أسْلِموا إنّا أخُوكُم ويقولون5: كُلُوا في نِصف بطنكمُ تعيشوا و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} 6 و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} 7. باب الجمع يراد به واحدٌ واثنان: ومن سُنن العرب الإتيان بلفظ الجميع والمراد واحد واثنان كقوله جلّ ثناؤه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} 8 يُراد به واحد واثنان وما فوق. وقال قَتَادةُ في قوله جلّ ثناؤه: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} 9: كان رجلاً من القوم لا يمالِئُهم على أقاويلهم في النبي صلى الله عليه وسلم ويَسير مُجانِباً لهم فسمّاهُ الله جلّ ثناؤه طائفة وهو واحد. ومنه: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} 10, كان رجلاً نادى "يا محمَّد! إنّ مدحي زَيْنٌ وإنّ ستمي شيْن" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلك! ذاك الله جل

_ 1 سورة الحجر، الآية: 68. 2 سورة الحج، الآية: 5. 3 سورة البقرة، الآية: 136. 4 ديوان العباس بن مرادس: 52، وعجزه: فقد برئت من الإحن الصدور. 5 المقتضب: 2/ 172. وعجزه: فإن زمانكم زمن خميص. 6 سورة الانشقاق، الآية: 6. 7 سورة الانفطار، الآية: 6. 8 سورة النور, الآية: 2. 9 سورة التوبة، الآية: 66. 10 سورة الحجرات، الآية: 4.

ثناؤه". وقال: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1 وهما قلبان، وقال: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 2 وهو واحد يدلّ عليه قوله جلّ ثناؤه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} 3. باب آخر: العرب تصف الجميعَ بصفة الواحد كقوله جلّ ثناؤه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} 4 فقال جنباً وهم جماعة. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 5. ويقولون: قوم عَدْل ورِضىً" قال زُهَيْر6: وإن يَشْتَجرْ قوم يَقُلْ سَرَواتهمْ ... هُمُ بيننا فَهُمُ رِضىً وهم عَدْلُ وربما وصفوا الواحدَ بلفظ الجميع فيقولون: "بُرْمةٌ أشعارٌ" و"ثوب أهدام" و"حبل أحْذاقٌ" قال7: جاء الشتاء وقميصي أخْلاَقْ ... شَراذِمٌ يضحك منه التَّوَّاقْ فأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرح عن سلمة عن الفرّاء قال: التَّوّاق ابنه. ومن الباب {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} 8, إنما أراد المسجد الحرام. ويقولون: "أرض سَبَاسب" يسمّون كل بقعة منها "سَبْسَباً" لاتِّساعها. ومن الجمع الذي يُراد به الاثنان قولهم: "امرأة ذات أوْراكٍ ومآكِمَ". باب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع: ومن سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع، فيقال للرجل العظيم "انظروا في أمري". وكان بعض أصحابنا يقول: إنما يقال هذا لأنّ الرّجل العظيم يقول:

_ 1 سورة التحريم، الآية: 4. 2 سورة النمل، الآية: 35. 3 سورة النمل، الآية: 37. 4 سورة المائدة، الآية: 37. 5 سورة التحريم، الآية: 6. 6 ديوان زهير بن أبي سلمى: 61. 7 الأزهية: 30 بلا عزو. وخزانة الأدب: 1/ 234. 8 سورة التوبة، الآية: 17.

"نحن فعَلْنا" فعلى هذا الابتداء خُوطبوا في الجواب. قال الله جلّ ثناؤه: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 1. باب آخر: العرب تذكر جماعة وجماعة، أو جماعة وواحداً، ثم تخبر عنهما بلفظ الاثنين. يقول الأسْوَدُ2: إن المنيِّةَ والحُتوفَ كِلاهما ... يوفي المَخارِمَ يَرْقُبانِ سوادي وقال آخر: ألم يَحْزُنكَ أنّ حبالَ قَيسْ ... وتَغْلِبَ قد تَبَايَنَتا انقطاعا وقد جاء مثله في القرآن: قال الله تبارك اسمه: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} 3. باب مخاطبة الواحد خطاب الجمع إذا أريد بالخطاب هو ومَنْ معه: قال الله جلَّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} 4 فخوطب -صلى الله عليه وسلم- بلفظ الجميع لأنه أريد هو وأمّته. وكان ابن مسعود يقرأ: "ارجعوا إليهم" مِدْرَهَهُم. باب تحويل الخطاب من الشاهد إلى الغائب: العربُ تخاطِب الشاهدَ، ثم تحول الخِطابَ إلى الغائب. وذلك كقول النَّابغة5: يا دارَ مَيَّةَ بالعَلياءِ فالسَّنَدِ ... أقْوت وطالَ عليها سالِفُ الأبد

_ 1سورة المؤمنون، الآية: 99. 2 هو الأسود بن يعفر النهشلي كما في المفضليات: 216. 3 سورة الأنبياء، الآية: 30. 4 سورة الطلاق، الآية: 1. 5 ديوان النابغة الذبياني: 19.

فخاطب ثم قالَ: "أقوتْ". وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} 1 وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 2. قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} 3 وقال في آخر الآية: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 4. ومنه قوله5: أسِيئي بنا أوْ أحسنِي لا ملومةٌ ... لديْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنّ تقلّتِ باب تحويل الخطاب من الغائب إلى الشاهد: وقد يجعلون خطابَ الغائب للشاهد، قال الهُذَلِيّ: يا ويحَ نفسي كان جدَّهُ خالدٍ ... وبياضُ وجهك للتراب الأعْفَرِ فخبَّرَ عن خالد ثم واجَهَ فقال: "وبياض وجهك". ومنه6: شَطتْ مزَار العاشقِينَ فأصْبَحَتْ ... عسراً عليَّ طِلابُك ابنةَ مخرَمِ باب مخاطبة المخاطب ثم جعل الخطاب لغيره أو يُخْبر عن شيء ثم يُجعل الخبر المتصِل به لغيره: قال الله جلّ ثناؤه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} 7 الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال للكفار: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} 7 يدلّ على ذلك قوله جلّ ثناؤه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 8. وقال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} 9. وقال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 10 وقريب من هذا الباب أن يبتدأ الشيء ثم يخبر عن غيره كقول

_ 1 سورة يونس، الآية: 22. 2 سورة الروم، الآية: 39. 3 سورة الحجرات، الآية: 7. 4 سورة الحجرات، الآية: 7. 5 ديوان كثير عزة: 57. 6 ديوان عنترة: 151. 7 سورة هود، الآية: 14. 8 سورة هود، الآية: 14. 9 سورة طه، الآية: 49. 10 سورة طه، الآية: 117.

شدَّاد بن مُعاوِية1: ومَن يَكُ سائلاً عنّي فإني ... وجِرْوَةَ لا تَرودُ ولا تعار و"جروة" فرسه، فالمسألة عنه والخبر عن غيره. وقال الأعشى2: وإن امْرأُ أسرَى إليك ودونَه ... من الأرض موتاة ويَهْماءُ سَمْلقُ لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَستجيبي لصوته ... وأنْ تعلمي أنّ المُعان موَفَّقُ وقد جاء في كتاب الله جلّ ثناؤه ما يشبه هذا وهو قوله جلّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} 3 فبدأ بهم ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} بدأ بهم ثم حوَّل الخطاب. ومنه قول القائل4: لَعَلّيَ إنْ مالَتْ بي الريحُ مَيلةً ... على ابنِ أبي ذِبّان أن يتَندَّما فذكر نفسه وترك وأقبل على غيره، كأنه أراد: لعل ابن أبي ذِبّانَ أن يتندم إن مالَتْ بي الريحُ عليه. ومثله في كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} 5 فخبَّر عن الأزواج وترك الذين. ومثله: بَني أسَدٍ إنْ ابنَ قيْس وقتلَه ... بغير دَمٍ دارُ المذلَّة حُلَّتِ فترك ابن قيس وخبَّر عن القتل، كأنه قال: قتلُ ابن قيس ذُلّ. باب الشيئين ينسب الفعل إليهما وهو لأحدهما: وينسبون الفعل إلى اثنين وهو لأحدهما. وفي كتاب الله جل ثناؤه: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} 6 وكان النسيان من أحدهما لأنه قال: {إِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} 7. وقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} 8 ثم قال: {يَخْرُجُ

_ 1 ديوان عنترة: 77، وديوان زيد الخيل: 104. وفي الأغاني ونسبته إلى شداد: 17/ 207. 2 ديوان الأعشى: 121. 3 سورة الحج، الآية: 17. 4 هو ثابت بن كعب العتكي كما في المخصص: 13/ 175. وفي اللسان بلا نسبة: مادة "ذبب". 5 سورة البقرة، الآية: 234. 6 سورة الكهف، الآية: 62. 7 سورة الكهف، الآية: 63. 8 سورة الرحمن، الآية: 19.

مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 1، وإنما يُخرَجان من المِلحِ لا العذب. وينسبون الفعل إلى الجماعة وهو لواحد مهم. قال الله جلّ ثناؤه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} 2 وإنما كان القاتل واحداً. باب نسبة الفعل إلى أَحد اثنين وهو لهما: قال الله جلّ ثناؤه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} 3 وإنما انفضوا إليهما. وقال الله جلّ ثناؤه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 4. وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا} 5. ثم قال: الشاعر6: إنَّ شَرْخَ الشباب والشَّعرَ الأسـ ... ـودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا وقال آخر7: نحنُ بما عندَنا وأنت بما عنـ ... ـدكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ باب أمر الواحد بلفظ أمر الاثنين: تقول العربُ: "افعلا ذاك" ويكون المخاطب واحداً. أنشد الفرّاء8: فقلتُ لِصاحِبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجدزَّ شِيحا وقال9: فإنْ تزجُراني يابن عَفَّانَ أنْزَجرْ ... وإنْ تَدَعاني أحْمِ عِرْضاً ممنعا

_ 1 سورة الرحمن، الآية: 22. 2 سورة البقرة، الآية: 72. 3 سورة الجمعة، الآية: 11. 4 سورة التوبة، الآية: 62. 5 سورة البقرة، الآية: 45. 6 هو حسان بن ثابت، ديوانه: 473. 7 هو قيس بن الخطيم، ديوانه: 239. 8 هو لمضرس بن ربعي وهو شاعر جاهلي. أو ليزيد بن الطثرية ووفاته سنة 126هـ. كما في اللسان: مادة "جزز" وفي الخزانة: 11/ 17 بلا عزو. 9 هو سويد بن كراع العكلي المتوفى سنة 105هـ، اللسان: مادة "جزز".

وقال الله جلّ ثناؤه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} 1 وهو خطاب لخَزَنَة النّار والزَّبانِيَة. قال: ونُرى أن أصل ذلك أنَّ الرُّفْقة أدنى ما يكون ثلاثةُ نفرَ فجرى كلام الواحد على صاحبيْه، ألا ترى أن الشعراء أكثر الناس قولاً "يا صاحبي" و"يا خليليّ". باب الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو راهنٌ أو مستقبل وبلفظ المستقبل وهو ماضٍ: قال الله جلّ ثناؤه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} 2 أي: أنتم. وقال جلّ ثناؤه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} 3 أي: يأتي ويجيء بلفظ المستقبل وهو في المعنى ماضٍ. قال الشاعر4: ولقد أمُرُّ على اللئيم يَسبُّني ... فَمَضيْتُ عنه وقلتُ لا يعنيني فقال: "أمُرُّ" ثم قال: "مضيت". وقال5: وما أضْحِي ولا أمسَيْتُ إلا ... رأوْني منهمُ في كرفان وفي كتاب الله جل ثناؤه: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} 6 وقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} 7 أي ما تَلَتْ. وقال آخر8: وندمان يزيد الكأس طيباً ... سقيت إذا تغوَّرت النجوم ومثله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ} 9 المعنى: فلم عذَّب آباءكم بالمسخ والقتل? لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَؤْمَر بأن يحتجّ عليهم بشيء لم يكن، لأن الجاحد يقول: إني لا أعذَّب, لكن احتج عليهم بما قد كان.

_ 1 سورة ق، الآية: 24. 2 سورة آل عمران، الآية: 110. 3 سورة النحل، الآية: 1. 4 هو شمير بن عمرو الحنفي، جاهلي، كما في الأصمعيات: 126، وفيه: وقد مررت على ... فمضيت ثمت قلت ... 5 لسان العرب: مادة "كوف"، بلا عزو. وفيه: وإني منكم في كوفان. 6 سورة البقرة، الآية: 91. 7 سورة البقرة، الآية: 102. 8 هو البرج بن الجلاس الطائي، جاهلي، الأغاني: 14/ 10، مغني اللبيب: 1/ 100. 9 سورة المائدة، الآية: 18.

باب المفعول يأتي بلفظ الفاعل: تقول: "سِرُّ كاتم" أي مكتوم. وفي كتاب الله جل ثناؤه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 1 أي لا معصوم و {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} 2 و {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 3 أي مَرْضِيٍ بها. و {جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} 4 أي مأموناً فيه ويقول الشاعر5: إنَّ البَغيضَ لَمَنْ يُمَلُ حديثُه ... فانقَعْ فؤادَكَ من حديث الوامِقِ أي المَوْمُوق. ومنه6: أناشر لا زالَتْ يمينُك أشِرَة أي: مأشورة. وزعم ناس أنّ الفاعل يأتي بلفظ المفعول به. ويذكرون قوله جلّ ثناؤه: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} 7 أي: آتياً. قال ابنُ السِّكيت: ومنه "عيْشٌ مغبون" يريد أنه غابِن غيرَ صاحبه. باب آخر: من سُنن العرب وصفُ الشيء بما يقع فيه أو يكون منه، كقولهم: "يومٌ عاصِف" المعنى: عاصفُ الرّيح. قال الله جلّ ثناؤه: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} 8 فقيل: عاصف لأنَّ عُصُوفَ ريحه يكون فيه. ومثله: "ليلٌ نائم" و"ليل ساهر" لأنه يُنام فيه ويُسَهرْ

_ 1 سورة هود، الآية: 43. 2 سورة الطارق، الآية: 6. 3 سورة الحاقة، الآية: 21. 4 سورة القصص، الآية: 57. 5 ديوان جرير: 314. وفيه: إن البلية من ... فانشح فؤادك ... 6 مجمل اللغة مادة: "أشر" بلا عزو. وفي لسان العرب: مادة "أشر", وصدره: لقد عيل الأيتام طعنة ناشرة والأشر: البطر. 7 سورة مريم، الآية: 61. 8 سورة إبراهيم، الآية: 18.

قال أوس1: خُذِلْتُ على ليلةٍ ساهِرَهْ ... بصحْراء شرْجٍ إلى ناظِرَهْ وقال ابنُ بَرّاق2: تقولُ سُلَيْمى لا تَعَرَّضْ لِتَلفَةٍ ... وليلُك مِن ليل الصعالِيك نائِمُ ومثله3: لقد لُمْتِنا يا أمّ غيلان في السُّرى ... ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيّ بنائمِ ويقولون: "لا يَرْقُد وِسادُه" وإنما يريدون متوسِّد الوِساد. باب معاني أبنية الأفعال في الأغلب الأكثر: أول ذلك فعَّلتُ يكون بمعنى التكثير. نحو {غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} 4. وبمعنى "أقْفَلْتُ" نحو "خبَّرْتُ. وأخبَرْتُ". ويكون مضادّاً لأفْعَلتُ نحو "أفْرَطتُ": جُزْتُ الحَدَّ. و"فرطت": قَصَّرتُ. ويكون بِنيْةً لا لمعنى نحو: "كلَّمت". ويكون فَعلتُ: نَسبْتُ كقولك: "شَجَّعْتَه. وظَلَّمْتُه": نسبتُه إلى الشجاعة والظلم. وأما أفْعَلَ فيكون بمعنى "فعلْتُ" تقول: "أسْقيْته وسقَّيْته": قلت له "سَقياً لك". ويكون بمعنى: "فعَلْتُ" نحو "مَحْضْتُه الوُدَّ. وأمْحَضْته". وقد يختلفان نحو: "أجْبَرته على الشيء" و"جبرت العَظمَ". وقد يَتَضادّان نحو: "نَشَطْتُ العقْدَة": عقدتها. و"أنشطتها" إذا حَللْتها. وفاعَلَ يكون من اثنين. نحو "ضاربَ"، ويكون فاعَلَ بمعنى "فَعَل" نحو: "قاتلهم الله" و"سافر"، ويكن بمعنى "فَعَّلَ" نحو "ضاعفَ. وضعَّفَ". وتَفاعل يكون من اثنين، نحو "تخاصما". ويكون من واحد، نحو "ترآءى له" ويكون إظهاراً لغير ما هو عليه، نحو "تغافَلَ": أظهَرَ غفلةً وليس بغافل. وتَفَعَّلَ يكون لِتَكلُّف الشيء وليس به، نحو "تَشَجَّع. وتَعَقَّل". ويكون بمعنى

_ 1 ديوان أوس بن حجر: 34. 2 هو عمرو بن الحارث الهمداني، شاعر مخضرم. والبيت في الأمالي: 5/ 122. فقه اللغة: 221. 3 المقتضب: 3/ 150. ديوان جرير: 454. خزانة الأدب: 1/ 465. وأم غيلان: كنية بنت جرير. 4 سورة يوسف، الآية: 23.

"تفاعلَ" نحو "تعطّى. وتعاطا". ويكون لأخذ الشيء نحو: "تفقّهَ وتعلَّم". ويكون مبنيًا نحو "تَكلَّم". ويكون "تفعَّل" بمعنى "أفْعلْ" نحو تعلَّم بمعنى أعلَمْ. قال1: تعلَّمْ أنَّ بعد الشرّ خيراً ... وأنّ لهذه الغُمَرِ انقشاعاً وأما اسْتفعلَ فيكون بمعنى التكلف، نحو "تعظَّمَ. واستعظم" و"تكبر. واستَكْبَر" ويكون استفعل بمعنى الاستدعاء والطلب نحو: "استَوْهبَ" ويكون بمعنى "فَعلَ": "قرَّ. واستَقرَّ". وأمّا افْتَعلَ فيكون بمعنى فَعلَ، نحو: "شَوَى. واشْتَوى". ويكون بمعنى حدوثِ صفةٍ فيه نحو: "افْتَقَرَ". وأمّا انْفَعلَ فهو فعل المطاوعة. نحو: "كَسَرْتُه. فانْكَسَرَ" و"شويت اللحمَ. فانْشوَى". قال2: قد انْشَوى شِوَاؤُنا المُرَعْبَلُ ... فاقْتَرِبوا من الغَدَاءِ فَكلُوا باب الفعل اللازم والمتعدي بلفظ واحد: تقول: "كسبَ زيدٌ المالَ. وكسبه غيره". و"هبط. وهبط غيره". و"جبرت اليد. وجبرتها". ويكون فَعلَ بمعنيين متضادَّين نحو: "بِعْتُ الشيءَ" و"بعته": اشتريته. و"ارتوت الشيءَ" أرخيتُه وشدَدْته. و"شعبت الشيء" جمعته وفرَّقْتُه. باب البناء الدال على الكثرة: البناءُ الدالّ على الكثرة "فَعُول, وفَعَّال" نحو: "ضَرْوب. وضَرَّاب" وكذلك "مِفْعال" إذا كان عادةً نحو: "مِعْطار" و"امرأة مِذْكارِ" إذا كانت تلِدُ الذُّكور وكذلك "مِينَاث" في الإناث.

_ 1 ديوان القطامي: 35. ولسان العرب: مادة "مصع". 2 لسان العرب: مادة "شوى". والمرعبل: من قولك: رعبل اللحم إذا قطعه.

باب الأبنية الدالة في الأغلب الأكثر على معان وقد تختلف: يقولون: ما كان علي فَعَلان دلّ على الحركة والاضطراب نحو: "النَّزَوان. والغَلَبَان". وفَعْلان يجيء في صفات تقع من جُوع وعَطَش نحو: "عَطْشان. وغَرْثان" أو ما يضادّ ذلك نحو: "رَيّان. وسكران". وفَعِلَ يكون في الوَجَع نحو "وَجِعَ. وحَبِطَ" أو ما أشبهه من فَزَعٍ. ويجيء من هذا فعِيل نحو: "سَقِيم" ويكون من الباب "بَطرٌ. وفَرِحٌ" وهذا على مُضادّة وَجِع وسَقِم. قالوا: الصفات بالألوان تأتي على أفْعلَ نحو "أحْمَر. وأسْوَد". والأفعال منها على "فَعُلَ" مثل "صَهُبَ". وعلى "فَعِلَ" نحو "صدئ". وعلى "أفْعالَّ" مثل "احْمَارٌ". وكذلك العيوب والأدواء تكون على "أفْعَلَ" نحو: "أزْرَق. وأعْوَر". وأفعالها على "فَعِلَ" نحو "عَوِر. وشَتِرَ". ويكون الأدْواء على فُعال نحو: "القُلاب. والخُمار". والأصوات أكثرها على هذا نحو: "الدُّعاء. والصُّراخ". وللأصوات باب آخر على فَعيل نحو "الهَدِير. والضَّجيج". وفُعالَة يأتي أكثره على ما يفضُل عن الشيء ويَسقُط منه نحو "النُّحاتة". وفِعالَة في الصناعات "كالتجارة والنِّجارة". ويكون الفِعالُ في الأشياء كالعيوب: "كالنِّفار والشِّماس". وفي السِّمات: نحو "العِلاط والخِباط"، وفي بلوغ الأشياء نهايتها: نحو "الصّرام والجِزَاز". وتكون الصفات اللازمة للنفوس على فَعيل نحو: "شريف وخفيف"، وعلى أضدادها: نحو "وَضِيع وكبير وصغير". هذا هو الأغلب وقد يختلف في اليسير. باب الفرق بين ضدّين بحرف أو حركة: الفرق بين ضدَّين بحرف قولهم: "يُدْوِي" من الداء و"يداوي" من الدواء. و"يخفر" إذا أجار و"يخفر" إذا نقص: من خَفَرَ وأخْفَرَ، وهو كثير. وما كان فرقه بحركة فقولهم: "لُعَنَه" إذا أكثر اللعن و"لعنة" إذا كان يُلْعَن و"هزأة" و"سُخَرة. وسُخْرة".

باب التوهم والإيهام: ومن سنن العرب التوهم والإيهام وهو أن يَتوهم أحدهم شيئاً ثم يجعل ذلك كالحق. ومنه قولهم: "وقفتُ بالربْع أسأله" وهو أكمل عقلاً من أن يسأل رسماً يعلم أنه لا يَسمع ولا يَعقل لكنه تفجع لما رأى السِّكْنَ رحلوا وتوهَّم أنه يسأل الربع أن انْتَووْا. وذلك كثير في أشعارهم، قال1: وقفتُ على رَبع لميَّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبهُ وأسألُ حتى كادَ مما أبِثُّهُ ... تكلّمني أحجارهُ ومَلاعبُهْ وتوهُم وأوَهم أنّ ثَمَّ كلاماً ومُكَلِّما. وبيَّن ذلك لّبِيدٌ بقوله2: فوقفتُ أسألها وكيف سؤالنا ... صُمّاً خوالِدَ ما يَبِين كلاَمُها ومن الباب قوله: لا تُفزِعُ الأرنبَ أهوالُها إنما أراد: ليس بها أرنب يُفْزَع. وكذلك3: على لا حِبٍ لا يُهتدى لِمنَاره إنما أراد: لا مَار به. وأظهرُ ذلك قول الجَعْدي4: سبقتُ صِياحَ فراريجها ... وصَوتُ نواقِيسَ لم تُضْرَبِ وقال أبو ذؤيب5: مُتَفَلّقٌ أنْساؤُها عن قانئ ... كالقرطِ صاوٍ غُبْرْه لا يُرضَعُ أو همَ أنّ ثَمَّ غَبْراً، وإنما أراد: لا غبر به فيرضع.

_ 1 ديوان ذي الرمة: 23. وفيه: وأسقيه حتى كاد ... 2 ديوان: 165. 3 ديوان امرئ القيس: 95. وعجزه: إذا صافه العود النباطي جرجرا 4 ديوان النابغة الجعدي: 14. 5 شرح أشعار الهذليين: 35، والمفضليات: 428. والأنساء: جمع نسا وهو عرق في الفخذ. والصاوي: اليابس. الغبر: بقية اللبن. والمراد أن موضع النسا انشق فيه اللحم فلقتين، وأن الضرع كان أبيض فاحمر.

باب البسط في الأسماء: العرب تبسط الاسمَ والفعل فتزيد في عدد حروفهما، ولعل أكثر ذلك لإقامة وزنِ الشعرِ وتسوية قوافيه، وذلك قول القائل1: وليلةٍ خامدة خمودا ... طَخياءَ تُغْشي الجَدْيَ والفُرْقودا فزاد في "الفَرْقَد" الواوَ وضم الفاء لأنه ليس في كلامهم "فَعْلولاً" ولذلك ضم الفاء. وقال في الزيادة في الفعل2: لو أنّ عَمْراً همَّ أنْ يَرْقودا ومنه: أقولُ إذ خرّتْ على الكَلْكَالِ3 أرادَ "الكلكل" وفي بعض الشعر "فانْظور" أراد: "فانْظُر" وهذا قريبٌ من الذي ذكرناه في الخزم والزيادة التي لا معنى لَهَا. باب القبض: ومن سنن العرب القَبْضُ محاذاةً للبسط الذي ذكرناه، وهو النقصان من عدد الحروف كقول القائل4: غَرْثَى الوِشاحَيْن صَموتُ الخَلْخَلِ أراد الخلخالَ. وكذلك قول الآخر: "وسُرُحٌ حُرْجُج" أراد "حُرجوجاً" وهي الضامِر. ويقولون: "دَرَسَ المنا" يريدون "المنازل" و: كأنما تُذْكى سنابكُها الحبا5

_ 1 لسان العرب: مادة "فرقد" بلا عزو. وطخياء: ليلة مظلمة. 2 لسان العرب: مادة "فرقد" بلا عزو، وفيه: إذا عمير هم ... 3 الإنصاف: 1/ 25 بلا عزو، واللسان: مادة "كلل"، والكلكل والكلكال: الصدر. وعجز البيت: يا ناقتا ما جلت من مجال 4 لسان العرب: مادة "خلل" بلا عزو، وفيه: براقة الجيد، صموت الخلخل. 5 لسان العرب: مادة "حبحب"، وصدره، يذرين جندل جائر لجنوبها.

أراد نار الحباحِب. وقال أبو النجم1: "أمْسِكْ فلانُ عن فلِ". أراد عن فلان. و: ليس شيء على المَنونِ بِخالِ أي: بخالد. ويقولون2: أسَعْدَ بنَ مالٍ ألمْ تعجبوا وإنما أراد مالكاً. وقال آخر3: وكادت فَزَارة تشقى بنا ... فأولى فَزَارَةُ أولى فزارا وقال أوس وهو الذي يسميه النحويون "الترخِيم"4: تَنكَّرْتِ منَّا بعد معرفة لَمِي أراد: لَميسَ. وهذا كثير في أشعارهم، وما أحسب في كتاب الله جل ثناؤه منه، إلا أنه رُوي عن بعض القَرَأَةِ أنه قرأ: "ونادوْا يا مالِ" أراد "يا مالكُ" والله أعلم بصحة ذلك. وربما وقع الحذف في الأول نحو قوله5: بسمِ الذي في كل سُورة سمه أراد "اسمه". و"لاه ابنُ عمك" أراد: لله ابنُ عمّك. باب المحاذاة: معنى المحاذاة: أن يُجعل كلامٌ بحذاء كلام، فيؤْتى به على وزنه لفظاً وإن كان مختلفَين فيقولون: "الغدايا والعشايا" فقالوا: "الغدايا" لانضمامها إلى "العشايا". ومثله قولهم: "أعوذ بك من السَّامَّة واللامَّة" فالسّامّة من قولك:

_ 1 المقتضب: 4/ 238، والخزانة: 2/ 389، والمقاييس: مادة "فلن". وتمام الشطر: "أمْسِكْ فلانُ عن فل في لجة أمسك". 2 الكتاب: 2/ 255 ونسبته إلى بعض العباديين، وإلى طرفة في شرح أبيات سيبويه: 2/ 28 وعجزه: وذو الرأي مهما يقل يصد 3 الكتاب: 2/ 243، ونسبته إلى عوف بن عطية الخرع. 4 البيت لأوس بن حجر، ديوانه: 117، وعجزه: وبعد التصابي والشباب المكرم 5 لسان العرب: مادة "سماط، والمقتضب: 1/ 229، والإنصاف: 1/ 16.

"سَمَّتْ" إذا خَصَّتْ و"اللامة" أصلها "ألمت" لكل لما قُرنت بالسّامّةِ جُعلت في وزنها. وذكر بعض أهل العلم أن من هذا الباب كتابةَ المصحف، كتبوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1 بالياء وهو من ذوات الواو لمّا قُرن بغيره مما يَكتب بالياء. قال: ومِن هذا الباب في كتاب الله جل ثناؤه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} 2 فاللام التي في "لسلّطهم" جواب "لو" ثم قال: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فهذه حُوِّذيَت بتلك اللام، وإلاّ فالمعنى: لسلّطهم عليكم فقاتلوكم. ومثله: "لأعَذِّبنَّه عذاباً شديداً" أو "لأذبحنّه" فهما لاما قَسَم ثم قال: "أو لَيَأتِينّي" فليس ذا موضعّ قسم, لأنه عُذْر للهُدْهد, فلم يكن ليُقسِم على الهدهد أن يأتي بعُذر، لكنَّه لمّا جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه، فكذا باب المحاذاة. قال: ومن الباب "وَزَنْتُه فاتزَن. وكِلْتُه فاكْتال" أي استوفاه كَيْلاً ووزناً. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 3 تستوفونها لأنها حق للأزواج على النساء. ومن هذا الباب الجزاء على الفعل بمثل لفظه، نحو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 4 أي يجازيهم جزاءَ الاستهزاء. و {مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} و {يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} 5 و {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} 6 و {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 7. ومثل هذا في شعر العرب قول القائل8: ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ... فنجهَلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا

_ 1 سورة الضحى، الآية: 2. 2 سورة النساء، الآية: 90. 3 سورة الأحزاب، الآية: 49. 4 سورة آل عمران، الآية: 54. 5 سورة التوبة، الآية: 79. 6 سورة التوبة، الآية: 67. 7 سورة الشورى، الآية: 40. 8 هو عمرو بن كلثوم، ديوانه: 78.

باب الإضمار: من سُنن العرب الإضمار. ويكون على ثلاثة أضرُب: إضمارُ الأسماء، وإضمارُ الأفعال، وإضمارُ الحروف. فمن إضمار الأسماء قولهم: "ألا يَسْلَمِي" يريدون "ألا يا هذه اسلمي". وفي كتاب الله جلّ ثناؤه {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} 1 بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا. فلما لم يذكر "هؤلاء" بل أضمرهم اتصلت "يا" بقوله: "اسجدوا" فصار كأنه فعل مستقبل. ومثله قول ذي الرّمّة2: ألا يسْلَمِي يا دار مَيٍّ على البِلَى ... ولا زال مُنهلا بِجَرْعائِك القَطْرُ وأخبرني علي بن إبراهيم عن محمد بن فرج عن سلمة عن الفرّاء سمع بعض العرب يقول: "ألا يَرْحَمْنا" يعني: ألا يا ربنا ارحمنا. ويقولون: يا هل أتاها على ما كان من حَدَثٍ و: يقولون لي يَحْلِفْ ولست بحالفٍ بمعنى: يا هذا احلِفْ. ويُضْمِرُونَ مِن الأسماء "مَنْ" فيقولون: "ما في حَيِّنا إلا له إبلُ" أي: مَنْ له إبل. و"كذبتم بني شابَ قَرْناها" أي: مَن شاب. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ} 3 أي: من له. ويضمرون "هذا" كقول حُميْد4: أنت الهلالي الذي كانت مَرَّةً ... سمِعنا به والأرْحَبِيُّ المُعَلفُ أي: وهذا الأرحبيّ, يعني بعيره.

_ 1 سورة النمل، الآية: 25. 2 ديوانه: 102. 3 سورة الصافات، الآية: 164. 4 الدرر: 1/ 283، بلا عزو، وهمع الهوامع: 1/ 87، ورصف المباني: 26؛ وروايته: أأنت الهلالي الذي كنت مَرَّةً ... سمِعنا به والأريحي الملقب

باب إضمار الحروف: ويضمرون الحروفَ فيقول قائلهم1: ألا أي هذا الزّاجري أشهدَ الوَغى بمعنى أن أشهد. ويقولون: "والله لَكانَ كذا" بمعنى لقد. ويقول النابغة2: لكلفتنِي ذنب امرئ وفي كتاب الله جل ثناؤه: {ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 3 قالوا: معناها لقد غلبت. إلا أنه لما أضمر "قد" أضمر اللام. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} 4 فقالوا: إلى سيرتها. و {اخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} 5 أي من قومه. ويقولون: "اشْتَقْتك" أي إليك. و"هل يسمعونَكم" بمعنى لكم. و"أو جاءوكم حًصرت" أي قد حصرت. ويقول قائلهم: "حلفتُ بالله لناموا" أي لقد. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 6 أي فعليكم. وقيل في قوله جلّ ثناؤه: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} 7 معناها عن وقوم يقولون: في أن تنكحوهن. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} 8 أي أن يريكم. وكقوله جلّ ثناؤه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ} 9. باب إضمار الأفعال: من ذلك: "قيل, ويقال". قال الله جلّ ثناؤه: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ

_ 1 هو طرفة بن العبد: ديوانه: 46، وعجز البيت: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي 2 ديوان النابغة الذبياني: 83، وتمامه: لكلفني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع 3 سورة الروم، الآية: 2. 4 سورة طه، الآية: 21. 5 سورة الأعراف، الآية: 155. 6 سورة البقرة، الآية: 196. 7 سورة النساء، الآية: 127. 8 سورة الروم، الآية: 24. 9 سورة الروم، الآية: 21.

أَكَفَرْتُمْ} 1 معناه: فيقال لهم، لأن أمّا لا بد لها في الخبر من فاء، فلما أضمر القول أضمر الفاء. ومثله2: فلا تدفِنُوني إن دَفْني محرّمٌ ... عليكم ولكن خامِري أمَّ عامر أي اتركوني للتي يقال لها "خامري". ومنه {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} 3 أي: يعمّركم لتبلغوا أشدّكم. ومن باب الإضمار: "أثَعْلَباً وتَفِرُّ" أي: أترى ثعلباً. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ} 4 أي يقولون: و"أسر رجلٌ أسيراً ليلاً فلما أصبح رآه أسوَدَ فقال: أعبداً سائرَ الليلة" كأنه قال: أراني أسرت عبداً. ومن الإضمار: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} 5 فهذا مضمَر كأنه لما سألهم عادوا بالسؤال عليه فقيل له: {قُلْ لِلَّهِ} . ومن الإضمار {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ} 6 معناه: فضربوه فحَيَّ كذلك "يُحيى اللهُ الموتى" ومثله في كتاب الله كثير. باب من الإضمار الآخر: العرب تضمر الفعل فيشتبه المعنى حتى يُعْتَبَر فُيوقَفَ على المراد. وذلك كقول الخنساء7: يا صَخْرُ وَرّادَ قد تَنَاذَرَهُ ... أهلُ المواردِ ما في وِرْدِه عارُ ظاهر هذا أن معناه: ما على ما وردَه عار، وليس في ورد الماء عار فيُبْجَحَ به. ولكن معناه: ما في ترك ورْدِهِ مخافةً عارٌ. وإنما عَنَتْ أنه ورد ماءً مخوفاً يتحاماه الناس فيُنذِرُ بعضهم بعضاً، تقول: فهو يرد هذا الماء لجُرْأته. ومثله قول

_ 1 سورة آل عمران، الآية: 106. 2 ديوان الشنفرى: 48، والشنفرى هو ثابت بن جابر، شاعر صعلوك جاهلي. ورواية الديوان: لا تقبروني إن قبري محرّمٌ ... عليكم ولكن أبشري أم عامر 3 سورة غافر، الآية: 67. 4 سورة الأنبياء، الآية: 103. 5 سورة الأنعام، الآية: 12. 6 سورة البقرة، الآية: 73. 7 ديوانها: 48. والخنساء هي تماضر بنت الشريد شاعرة مخضرمة، ماتت سنة 24هـ.

النابغة1: فإني لا أُلامُ على دخول ... ولكن ما وراءَكَ يا عِصَامُ يقول: لا ألام على ترك الدخول، لأنّ النُّعمان قد كان نذر دمَه متى رآه، فخاطب بهذا الكلام حاجبه. وقال الأعشى2: اأزمَعْتَ من آل ليلى ابتِكاراً ... وشَطَّتْ على ذي هوىً أن تُزارا ظاهِرُ هذا: أازمعتَ أن تبتكر منهم. وإنّما المعنى: أأزمعت من أجل آل ليلى وشوقك إليهم أن تبتكر من أهلك? لأنه عزم الرحلة إليها لا عنها، ألا تراه يقول3: وبانَتْ بها غَرَبات النَّوى ... وبُدّلتُ شوقاً بها وادِّكارا وفي كتاب الله جل ثناؤه: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} 4 التأويل: لا يستأْذنك الذي يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يقعدوا عن الجهاد. باب التعويض: من سُنن العرب التَّعْوِيض وهو إقامة الكلمة مقامَ الكلمة. فيقيمون الفعلَ الماضي مقامَ الراهن، كقوله جلّ ثناؤه: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 5 المعنى: أم أنت من الكاذبين. ومنه {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} 6 بمعنى: أنتَ عليها. ومن ذلك إقامة المصدر مقامَ الأمر، كقوله جلّ ثناؤه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} 7 والسُّبْحة: الصلاة. يقولون: "سَبّحْ سبحة الضحى".

_ 1 ديوان النابغة الذبياني: 235. 2 ديوان الأعشى: 72. 3 ديوان الأعشى: 72. 4 سورة التوبة، الآية: 44. 5 سورة النمل، الآية: 27. 6 سورة النمل، الآية: 143. 7 سورة الروم، الآية: 17.

فتأويلُ الآية: سَبّحُوا للهِ جل ثناؤه، فصار في معنى الأمر والإغراء، كقوله جلّ ثناؤه: {فَضَرْبُ الرِّقَابِ} 1. ومن ذلك إقامةُ الفاعل مقامَ المصدر، يقولون: "قُمْ قائماً" قال2: قُمْ قائماً قُم قائما ... لَقِيتَ عبداً نائِماً وعُشَرَاء رائما ... وأمَةً مُرَاغِما وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {لَيْسَ لَوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} 3 أي تكذيب. ومن ذلك إقامة المفعول مقام المصدر، كقوله جلّ ثناؤه: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} 4 أي الفتنة. تقول العرب: "ما له معقول. وحَلفَ مَحْلوفَه بالله. وجَهَدَ مجهوده". ويقولون: "ما له معقول ولا مجلود" ويريدون العَقْلَ والجَلد ... قال الشمّاخ5: من اللواتي إذا لانت عريكتها ... يبقى لها بعدها آل ومجلودُ ويقول الآخر6: إن أخا المجلود من صَبَرا ومن ذلك إقامة المصدر مقام الفعل، ويقولون: "لقيت زيداً وقِيْلَهُ كذا" أيَ يقول كذا. قال كعب7: يسعى الوُشاةُ حوالَيْها وقيلهم ... إنك يابن أبي سُلْمي لمقتولُ تأويله: يقولون. ولذلك نُصب. ومن ذلك وضعهم "فَعِيلاً" في موضع "مفعل" نحو "أمرٌ حكيم" بمعنى

_ 1 سورة محمد، الآية: 4. 2 خزانة الأدب: 9/ 317 بلا عزو. 3 سورة الواقعة، الآية: 2. 4 سورة القلم، الآية: 6. 5 ديوانه: 436. 6 لسان العرب: مادة "جلد" وتمامه: واصبر فإن أخا المجلود من صبرا 7 ديوانه: 65. وفيه: يسعى الوشاة بجنبيها وقولهم ...

مُحكَم. ووضعهم "فَعِيلاً" في موضع "مَفْعِل" نحو: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 بمعنى مؤلم وتقول2: أمِنْ رَيحانَةَ الداعي السميعُ بمعنى: مسْمِع. ومن ذلك وضعُهم: "مفعولاً" بمعنى "فاعل" كقوله جل ثناؤه: {عَذَابٌ أَلِيم} 3 أي ساتراً، وقيل: مستوراً عن العيون كأنّه أُخْذَةٌ لا يُحِسُّ بها أحد. ومن ذلك إقامة الفعل مقام الحال كقوله جلّ ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} 4 أي مبتغياً. وقال5: الرِّيحُ تَبكي شَجْوَهُ ... والبرقُ يَلمعُ في غمامهْ أراد: لامعاً. باب من النظم الذي جاء في القرآن: من نظم كتاب الله جلّ ثناؤه الاقتصاص, وهو أن يكون كلام في سورة مقتصاً من كلام في سورة أخرى أو في السورة معها. كقوله جلّ ثناؤه: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} 6 والآخرة دار ثواب لا عمل، وهو مقْتَصُّ عن قوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} 7. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} 8 مأخوذ من قوله

_ 1 سورة التغابن، الآية: 5. وسورة المجادلة، الآية: 4. 2 ديوان عمرو بن معد يكرب: 140، وعجزه: يؤرقني وأصحابي هجوع 3 سورة الإسراء، الآية: 45. 4 سورة التحريم، الآية: 1. 5 هو ابن مفرغ الحميري، ديوانه: 218. وفيه: ... تبكي شجوها ... والبرق يضحك في الغمامه 6 سورة البقرة، الآية: 130. 7 سورة طه، الآية: 75. 8 سورة الصافات، الآية: 57.

جل ثناؤه: {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} 1 وقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} 2. فأما قوله جلّ ثناؤه: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} 3 فيقال: إنها مقتصة من أربع آيات لأن "الأشهاد" أربعة: الملائكة في قوله جلّ ثناؤه: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} 4, والأنبياءُ صلوات الله عليهم: {كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} 5 وأمّةُ محمد -صلى الله عليه وسلم- لقوله جلّ ثناؤه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 6 والأعضاءُ لقوله جلّ ثناؤه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 7. ومن الاقتصاص قوله جلّ ثناؤه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} 8 قرئت مخففةً ومشددة. فمن شدَّدَ فهو "نَدَّ" إذا نفر، وهو مُقتصّ من قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} 9 إلى آخر القصة، ومن خَفّفَ فهو تَفَاعلَ من النِّداء مقتصّ من قوله جلّ ثناؤه: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} 10. {ؤوَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} 11. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} 12، وما أشبه هذا من الآي الذي فيها ذكر النداء. باب الأمر المحتاج إلى بيان وبيانه متصل به: قال الله جل ثناؤه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 13, فبيان هذا السؤال متصل

_ 1 سورة الروم، الآية: 16. 2 سورة مريم، الآية: 68. 3 سورة غافر، الآية: 51. 4 سورة ق، الآية: 21. 5 سورة النساء، الآية: 41. 6 سورة البقرة، الآية: 143. 7 سورة النور، الآية: 24. 8 سورة غافر، الآية: 32. 9 سورة عبس، الآية: 34. 10 سورة الأعراف، الآية: 44. 11 سورة الأعراف، الآية: 85. 12 سورة الأعراف، الآية: 48. 13 سورة الأنفال، الآية: 1.

به وهو قوله جل ثناؤه: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} 1، ومثله {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 2 و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} 3 ومنه {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا} 4 فهذا وما أشبهه هو الابتداء الذي تمامه متصل بِهِ. باب ما يكون بيانه مضمراً فيه: وذلك مثل قوله جل ثناؤه: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} 5, فهذا محتاج إلى بيان لأن {حَتَّى إِذَا} لا بد لها من تمام فالبيان ها هنا مُضمرَ، قالوا: تأويله: حتى إذا جاءوها جاءوها وفتحت أبوابها. ومثله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} 6 فتمامه مضمر كأنه قال جلّ ثناؤه: "لكان هذا القرآن". وهذا هو الذي يسمّى في سنن العرب "بابَ الكَفّ" وقد ذُكر. باب ما يكون بيانه منفصلاً منه ويجيء في السورة معها أو في غيرها: قال الله جلّ ثناؤه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} 7 قال أهل العلم: بيانُ هذا العهد قوله جلّ ثناؤه: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} 8 الآية، فهذا عهده جل ثناؤه، وعهدُهم تمام الآية في قوله جلّ ثناؤه: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 9 فإذا وَفوا بالعهد الأول أعطوا ما وعدوه. وقال جلّ ثناؤه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} 10, فالردّ على هذا قوله جل ثناؤه: {يس

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 1. 2 سورة المائدة، الآية: 4. 3 سورة الأعراف، الآية: 187. 4 سورة الطورن الآية: 30. 5 سورة الزمر، الآية: 71. 6 سورة الرعد، الآية: 31. 7 سورة البقرة، الآية: 40. 8 سورة المائدة, الآية: 12. 9 سورة آل عمران، الآية: 195. 10 سورة الرعد، الآية: 43.

وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} 1 وهذا هو الذي يسميه أهل القرآن جواباً. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه في الإخبار عنهم: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} 2 فقيل لهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ} 3. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 4 فردّ عليهم حين قيل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 5. ومن الباب قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} 6 ومنه قوله: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} 7. ومنه قوله: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} 8 فقيل هلم: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} 9. ومنه {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} 10 فقيل لهم في الجواب11: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} ومنه {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} 12 فقيل لهم: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} 13. ومنه قوله جل ثناؤه في قصة من قال: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 14 فردَّ عليهم بقوله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 15.

_ 1 سورة يس، الآية: 3. 2 سورة الدخان, الآية: 12. 3 سورة المؤمنون، الآية: 75. 4 سورة الزخرف، الآية: 31. 5 سورة القصص، الآية: 68. 6 سورة الفرقان، الآية: 60. 7 سورة الرحمن، الآية: 2. 8 سورة الأنفال، الآية: 31. 9 سورة الإسراء، الآية: 88. 10 سورة ص، الآية: 6. 11 سورة فصل، الآية: 24. 12 سورة القمر، الآية: 44. 13 سورة الصافات، الآية: 25. 14 سورة آل عمران، الآية: 165. 15 سورة آل عمران، الآية: 154.

ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} 1 فردّ عليهم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} 2. ومنه قوله جل ثناؤه حكاية عنهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} 3. قيل لهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} 4. ومنه قوله جل ثناؤه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} 5 فقيل في سورة أخرى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} 6. ومنه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} 7 فتفسير هذا الاختصام ما قيل في سورة أخرى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} 8 إلى آخر القصّة. وقال في قصّة قوم: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 9 فالبشرى قوله جلّ ثناؤه في موضع آخر: {تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} 10. ومنه حكايةً عن فِرعون أنه قال: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} 11 فردّ الله عليه في قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} 12. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} 13 وذِكْرُ هذا الحَلِف في قوله جلّ ثناؤه: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} 14. ومنه قَوله جلّ وعزّ في قصة نوح عليه

_ 1 سورة الطور، الآية: 33. 2 سورة الحاقة، الآية: 44. 3 سورة الفرقان، الآية: 7. 4 سورة الفرقان، الآية: 20. 5 سورة الفرقان، الآية: 32. 6 سورة الإسراء، الآية: 106. 7 سورة النمل، الآية: 45. 8 سورة الأعراف، الآية: 75. 9 سورة يونس، الآية: 64. 10 سورة فصلت، الآية: 30. 11سورة غافر, الآية: 29. 12 سورة هود، الآية: 97. 13 سورة المجادلة، الآية: 18. 14 سورة الأنعام، الآية: 23.

السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} 1 فقيل في موضع آخر: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} 2. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} 3 أي أوْعِيةَ للعلم فقيل لهم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا} 4. وهذا في القرآن كثير أفْرَدْنا له كتاباً وهو الذي يسمّى "الجوابات". باب آخر من نظم القرآن: وذلك أن تجيءَ الكلمة إلى جنب الكلمة كأنها في الظاهر معها، وهي في الحقيقة غير متصلة بها: قال الله جلّ ثناؤه: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 5. فقوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} من قولِ الله جلّ اسمه لا قول المرأة ومنه: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} 6، انتهى قول المرأة ثم قال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} 7. ومنه {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 8، وتمَّ الكلام فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} ومنه قوله جل ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 9, فهذه صفة الأتقياء المؤمنين ثم قال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} 10 فهذا رَجّع على كفّار مكة يُمِدُّهم إخوانُهم من الشياطين في الغّيِّ. باب إضافة الشيء إلى من ليس له لكن أضِيفَ إليه لاتِّصاله به: وذلك قوله: "سَرْجُ الفرس" و"ثمرة الشجرة" و"غنم الرّاعي" قال الشاعر:

_ 1 سورة القمر، الآية: 10. 2 سورة الأنبياء، الآية: 77. 3 سورة البقرة، الآية: 81. 4 سورة الإسراء، الآية: 81. 5 سورة النمل, الآية: 34. 6 سورة يوسف، الآية: 51. 7 سورة يوسف، الآية: 52، وفي الأصل: ذلك ليعلم المَلِكُ، و"الملك" ليست من الآية. 8 سورة يس، الآية: 52. 9 سورة الأعراف، الآية: 201. 10 سورة الأعراف، الآية: 202.

فروحهن يحدوهن قصرا ... كما يَحْدُو قَلائِصَهُ الأجِيرُ1 باب آخر من الإضافة: ومن ذلك إضافَةُ الشيء إلى نفسه وإلى نعته. فالإضافة الأولى قول النَّمِر2: سقيَّةُ بين أنهارٍ ودُورٍ ... وزَرْعٍ نابٍ وكرُومِ جَفْنِ والجَفْن هو الكَرْم. فأمّا إضافته إلى نعته فقولهم: "بارِحةُ الأولى, ويومُ الخَميس, ويوم الجمعة". وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} 3 و {حَقُّ الْيَقِينِ} 4. باب جمع شيئين في الابتداء بهما وجمع خَبَريهما، ثم يُرَدَّ إلى كل مبْتَدَأ به خبرُهُ: من ذلك قول القائل: "إني وإيّاكَ على عَدْل أو على جَوْر" فجَمَعَ شيئين في الابتداء وجمع الخَبَرين. ومراده: إني على عدلٍ وإيَّاكَ على جَوْر, وهذا في كلامهم وأشعارهم كثير, قال امرؤ القيس5: كانّ قلوبَ الطَّيْر رَطْبَاً ويابساً ... لَدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي أراد: كأنّ قلوبَ الطير رَطباً العنَّاب ويابساً الحَشفُ. ومن هذا في القرآن: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 6, معناه: وإنَّا على هدى وإيَّاكم في ضلال, ومنه قوله جل ثناؤه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ

_ 1 القلائص: جمع القلوص: الناقة الفتية. يحدو: يسوق. 2 سورة يوسف، الآية: 109. 3 سورة الواقعة، الآية: 95. 4 ديوانه: 145. 5 سورة سبأ، الآية: 24.

شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} 1 إذا رد كل شيء إلى ما يصلح أن يتصل به كان التأويل: "قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن وكفرتم به واستكبرتم". ومثله {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 2 قَالوا: لَمّا لم يَصْلح أن يقول الرسول متى نصر الله كان التأويل: وزُلزلوا حتى قال المؤمنون: متى نصر الله؟ فقال الرسول: ألا إن نصر الله قريب, رُدَّ كلّ كلام إلى من صَلَح أن يكون له. ومن الباب قول ذي الرُّمّة3: ما بالُ عينِكَ منها الماءُ يَنٍسكِبُ ... كأنّه من كُلَى مَفرِيَّة سَرَبُ وَفْرَاءَ غَرْفِيَّه أثْأى خَوَارِزُها ... مُشَلْشِلٌ ضَيعتْه بينها الكُتبُ فمعنى البيتين: كأنه من كلى مَفرّيَةٍ وَفْراءَ غَرْفِيَّة أثأى خَوَارِزُها سَرَبٌ مُشَلشِلٌ ضَيَّعَتْه بينها الكتب. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 4 المعنى: جَعَلَ لكم الليلَ لتَسْكنوا فيه والنهارَ لتَبْتَغوا من فضله. ومن قوله عزّ وجلّ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} 5 تأويله والله أعلم: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم. قال ومن هذا الباب قول امرئ القيس6:

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: 10. 2 سورة البقرة، الآية: 214. 3 ديوانه: 10. الكلى جمع الكلية وهي من السحاب أسفله، ومن المزادة: رقعة مستديرة تخرز عليها تحت العروة. وفرى المزادة: صنعها. وسرب: من السرب وهو الماء يصب في القربة ليبتل سيرها، والماء السائل الغرفية نسبة إلى الغرف وهو شجر يدبغ به. ثأي: خرم خرز الأديم. ومشلشل: متفرق. 4 سورة القصص، الآية: 73. 5 سورة الأنعام, الآية: 52. 6 ديوانه: 109. تميم وكندة: قبيلتان.

فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ ... لا يدَّعي القومُ أنّي أفِرْ تَمِيمُ بنُ مُرٍّ وأشياعُها ... وكِنْدةُ حَوْلي جميعاً صُبُرْ معناه: لا يدَّعي القوم تميمٌ وأشياعها أنّي أفِرْ وكِندةُ حولي. باب التقديم والتأخير: من سُنن العرب تقديمُ الكلام وهو في المعنى مُؤخّر، وتَأخِيرُهُ وهو في المعنى مُقَدَّم. كقول ذي الرُّمّة1: ما بالُ عينِكَ منها الماءُ يَنْسكبُ أراد: ما بالك عينك ينسكب منها الماء. وقد جاء مثلُ ذلك في القرآن قال الله جلّ ثناؤه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} 2 تأويله والله أعلم: ولو ترى إذ فزعوا وأخِذوا من مكان قريب فلا فوتَ لأنّ لا فوت يكون بعد الأخذ. ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} 4 يعني القيامَة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} 4 وذلك يوم القيامَة ثم قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌُ} 5 والنَّصَبُ والعملُ يكونان في الدنيا، فكأنه إذاً على التقديم والتأخير معناه: وجوهٌ عاملة ناصبَةٌ في الدنيا، يومئذ -أي يومَ القيامة- خاشِعة. والدليل على هذا قوله جلّ اسمه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} 6. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 7 المعنى: لا تُعجبْك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا

_ 1 ديوان ذي الرمة: 10. 2 سورة سبأ، الآية: 51. 3 سورة الغاشية، الآية: 1. 4 سورة الغاشية، الآية: 2. 5 سورة الغاشية، الآية: 3. 6 سورة الغاشية، الآية: 8. 7 سورة التوبة، الآية: 55.

يَرْجِعُونَ} 1 معناه: فأَلقِهِ إليهم فانْظُرْ ماذا يرجعون ثم تَوَلَّ عنهم. ومن ذلك قوله جلّ ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 2 تأويله: لَمَقْتُ الله إياكم في الدنيا حينَ دُعيتم إلى الإيمان فكفرتم، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم إذا دعيتم إلى الحساب وعند ندمِكم على ما كان منكم. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} 3 فأجَلٌ معطوف على كلمةٌ، التأويل: ولولا كلمة سبقت من ربّك وأجَلٌ مسمّىً -أرادَ الأجَل المضروبَ لهم وهي الساعة- لكان العذاب لازماً لهم. باب الاعتراض: ومن سُنن العرب أن يعترِضَ بين الكلام وتمامِهِ كلامٌ، ولا يكون هذا المعترِضُ إلا مُفيداً. ومثال ذلك أن يقولَ القائِل: "اعْمَلْ -واللهُ ناصري- ما شيئتَ" إنما أراد: اعمَل ما شيئتَ. واعتَرَضَ بينَ الكلامين ما اعترضَ قال الشّمّاخ4: لولا ابنُ عفّانَ والسلطان مُرْتَقبٌ ... أوردتُ فجّاً من اللَّعْباءِ جُلْمُودي قوله: "والسلطان مرتقب" معتَرِض بين قوله: "لولا ابن عفان" وقوله: "أوردتُ". ومن ذلك في كتاب الله جلّ ثناؤه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} 5 -فعلى الله توكلتُ- {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 5 إنما أراد: إن كانَ كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فاجمِعوا أمركم. واعترَضَ بينهما قول: فعلى الله توكلت. ومثله قول الأعشى6: فإنْ يُمْسِ عندي الهَمُّ والشيب والعَشا ... فقد بِنَّ مِنّي والسِّلام تَفَلَّقُ

_ 1 سورة النمل، الآية: 28. 2 سورة غافر، الآية: 10. 3 سورة يونس، الآية: 19. 4 ديوانه: 122. اللعباء: موضع كثير الحجارة بحزم بني عوال. وسبخة بالبحرين. والجلمود: الصخر. والفج: الطريق الواسع بين جبلين. 5 سورة يونس، الآية: 71. 6 ديوانه: 118. والأشجع: الشجاع. الفرق: الخوف.

بأشجع أخاذ على الدَّهر حُكمَهُ ... فَمِنْ أيّ ما تَجْني الحوادثُ أفْرَقُ أرادَ: بِنَّ مني بأشجَعَ. والسِّلام تَفَلَّقُ اعتراض. ومثل هذا في كتاب الله جل ثناؤه وإشعارِ العرب كثير، وإنما نذكر من الباب رَسْماً. باب الإيماء: العرب تُشيرُ إلى المعنى إشارة وتومئ إيماءً دون التصريح، فيقول القائل: "لو انَّ لي مَن يَقبَل مَشْورتي لأشرْتُ" وإنما يَحثُّ السّامع على قبولِ المَشُورَة. وهو في أشعارهم كثير قال الشاعر1: إذا غَرَّدَ المُكَّاءُ في غيرِ رَوْضَةٍ ... فوَيْلٌ لأهل الشَّاءِ والحمُراتِ أومَأ إلى الجدْب، وذلك أن المُكَّاء يَأْلَفُ الريَاضَ، فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة. ومنه قول الأفْوَهِ2: إنّ بني أوْدٍ هُمُ ما هُمُ ... للحَرْب أو للجَدْب عامَ الشُّموسْ أومأ بقوله: "الشموس" إلى الجدب وقلة المطر والغيم، أي إنّ كلَّ أيّامهم شموس بلا غيم. ويقولون: "هو طويلُ نِجادِ السيّف" إنما يريدون طولَ الرَّجُل. و"غمر الرّداء" يومِئون إلى الجواد. و"فدًا له ثَوْبي" و "هو واسع جَيبِ الكُمّ" إيماءً إلى البَذْل. و"طرب العِنان" يومئون إلى الخِفَّة والرَّشاقة. وفي كتاب الله جل ثناؤه: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 3 هذا إيماء إلى "أن يُصيبوني بسوء" وذلك أن العرب تقول: "اللَّبَن محضور" أي: تُصيبه الآفات. باب إضافة الفعل إلى من وقع به ذلك الفعل: ومن سُنن العرب إضافةُ الفعل إلى من يقع به ذلك الفعل. يقولون: "ضربُ زيداً وأعطيتُه بعدَ -ضَرْبِهِ- كذا" فينسب الضربَ إلى زيد وهو واقع به. قال الله جل

_ 1 لسان العرب: مادة "مكا"، والمقاييس: مادة "حمر"، بلا عزو. والمكاء: طائر. 2 الطرائف الأدبية: 16. 3 سورة المؤمنون، الآية: 98.

ثناؤه: {ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 1 -فالغَلَبة واقعة بهم من غيرهم ثم قال- {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 2 فأضافَ الغَلبَ إليهم، وإنما كان كذا لأن الغَلبَ وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم لوقوعه بهم. ومثله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} 3. و {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} 4 فالحب في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال، وهو في الحقيقة لصاحب الطعام وصاحب المال. ومثله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} 5 و {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} 6 أي مَقامَه بين يدي. ومثله قول طَرَفَة7: وبَرْكٍ هُجودٍ قد أثارَتْ مُخَافتي فأضاف المخافة إلى نفسه وإنما المخافة للبَرْك. باب ما يجري من غير ابن آدم مجرى بني آدم في الإخبار عنه: من سنن العرب أن تُجْري المَواتَ وما لا يَعْقِل في بعض الكلام مجرى بني آدم. فيقولون في جمع أرض "أرضون" وفي جمع كره "كُرون" وفي جمع إرة "إرون" وفي جمع ظُبَةِ السيفِ "ظبُون" وينشدون8: يرى الراءون بالشَّفَرات منها ... كنارِ أبي حُباحبَ والظُّبينا ويقولون: "لِقِيتُ منه الأقْوَرِينَ" و"أصابتني منه الأمرون" و"مضت له سِنون" ويتعدَّون هذا إلى أكثر منه فيقول الجَعْدِي9:

_ 1 سورة الروم، الآية: 2. 2 سورة الروم، الآية: 3. 3 سورة البقرة، الآية: 177. 4 سورة الإنسان، الآية: 8. 5 سورة الرحمن، الآية: 46. 6 سورة إبراهيم، الآية: 14. 7 ديوانه: 53. وعجزه: نواديها أمشي بغض مجرد 8 للكميت بن زيد الأسدي، ديوانه: 2/ 126، وخزانة الأدب: 7/ 151. وأبو حباحب من قبيلة محارب كان لا يوقد ناره إلا بالحطب الشخت لئلا ترى. 9 ديوان النابغة الجعدي: 4. وقوله: تمززتها: شربتها.

تَمَزَّزْتُها والدّيكُ يدعو صَباحهُ ... إذا ما بنو نَعْشٍ دَنَوْا فتصوَّبوا وقال الله جل ذكره: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1 و {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} 2 و {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} 3 و {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} 4 و {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} 5 ويقولون في جمع بُرَة "بُرِين". وأكثر من قول النابغة قول القائل6: إذا أشرفَ الديكُ يدعو بعضَ أُسْرَتِهِ ... إلى الصَّباح وهم قوم معازيل وجعل له أسرة وسماهم قوماً. باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء وهم يريدونه كلُّه: من سنن العرب الاقتصارُ على ذكر بعض الشيء وهم يريدونه كلُّه, فيقولون: "قعد على صَدْر راحلته ومضى". ويقول قائلهم7: الواطِئينَ على صُدورِ نعالهم وذكر بعضُ أهل اللغة في هذا الباب قولَ لَبِيد8: أو يرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حمامُها وإنه أراد كلاُّ وذكروا في هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا

_ 1 سورة الأنبياء, الآية: 33. 2 سورة الأنبياء، الآية: 65. 3 سورة يوسف, الآية: 4. 4 سورة النمل، الآية: 18. 5 سورة الأنبياء، الآية: 99. 6 البيت لعبدة بن الطبيب، كما في ديوانه: 79. وفيه: إذا أشرف ... إلى الصياح وهم ... ومعازيل: جمع معزال: وهو الذي لا رمح معه، والضعيف الأحمق. 7 ديوان الأعشى: 57. ولسان العرب: مادة "دخن". 8 ديوانه: 175. وفيه: يتعلق بعض ... وصدره. تراك أمكنة إذا لم أرضها

مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 1، وقال آخرون "مِن" هذه للتبعيض لأنهم أمِروا بالغَضِّ عما يحرُم النَّظرُ إليه. ومن الباب {يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 2 إي إيّاه. ومنه {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} 3 ومنه قوله4: يوماً بِأجُوَدَ نائلاً منه إذا ... نَفْسُ البخيل تجَهَّمَتْ سُؤالَها ومنه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5. و"تواضَعَتْ سورُ المدينة" و6: رأت مَرّ السنين أخّذْنَ مِنّي و: طُولُ الليالي أسرعَتْ في نقضي7 و: صَرف المَنايا بالرّجال تقلَّبُ8 وقال الجَعْدي9: جَزِعتَ وقد نالَتْكَ حَدُّ رماحنا ... بِقوهاءَ يُثِني ذِكْرها في المحافِلِ باب الاثنين يعبر عنهما بهما مرّة وبأحدهما مرة: قال أبو زكريا الفراء: تقول العرب: "رأيته بعيني, وبعينَيَّ" و"الدار في يدِي, وفي يدَيَّ". وكل اثنين لا يكاد أحدُهما ينفرد فهو على هذا المثال مثل:

_ 1 سورة النور، الآية: 30. 2 سورة آل عمران، الآية: 28. 3 سورة المائدة، الآية: 116. 4 ديوان الأعشى: 145. والنائل: العطاء. 5 سورة الرحمن، الآية: 27. 6 ديوان جرير: 341، والمقتضب: 4/ 200، وعجزه: كما أخذ السرار من الهلال 7 المقتضب: 4/ 199 ونسبته إلى الأغلب العجلي، وفي شرح أبيات سيبويه: 1/ 366. 8 ديوان طفيل الغنوي40. ولسان العرب: مادة "سلف"، وصدره. مضوا سلفا قصد السبيل عليهم 9 ديوان النابغة الجعدي: 225، وفي الأصل: بقوهاء، ولا وجه له. ويقال: طعنة فوهاء، أي: واسعة.

"اليدين، والرِّجلين" قال الفرزدقِ1: فلو بَخِلَتْ يداي بها وضنت ... لكان عليَّ للقدَر الخِيارُ فقال: "ضَنْت" بعد قوله "يداي". وقال2: وكأنّ بالعينَيْن حَبّ قَرنْفُل ... أو سُنْبلاً كُحِلَتْ به فانْهلُّتِ وقال3: إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى ... بصحراءِ فَلْجٍ ظلَّتا تَكِفانِ باب الحمل: هذا باب يترك حكم ظاهر لفظه لأنه محمول على معناه. ويقولون: "ثلاثة أنْفُس" والنفس مؤنّثة لأنّهم حملوه على الإنسان. ويقولون: "ثلاث شخوص" لأنهم يحملون ذلك على أنهنّ نساء و4: إن كلاباً هذه عَشْرُ أبْطنٍ يذهبون إلى القبائل. وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ} 5 حُمِل على السَّقْف. وهذا يتَّسِع جداً. وقد ذُكر في هذا الباب ما تقدم ذكره من قوله جلّ ثناؤه: {مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 6, وهذا في باب المحاذاة أحسن, ومن الحَمْل قوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 7, قال أبو عبْيدَة أرادَ الرّسالة, ومن الباب قوله جلّ وعزّ: {سَعِيرًا} 8 -والسعير مذكّر- ثم قال: {إِذَا

_ 1 ديوانه: 258. وفيه: ولو رضيت يداي بها وخرت ... لكان لها على القدر الخيار 2 البيت لسلمى بن ربيعة في "ما اتفق لفظه واختلف معناه": 49، وله أيضًا في أمالي القالي: 4/ 39. 3 بلا عزو في "ما اتفق لفظه واختلف معناه": 50، وهمع الهوامع: 1/ 50، وفقه اللغة: 252. 4 البيت للنواح الكلابي في الدرر: 6/ 196، وعجزه: وأنت بريء من قبائلها العشر وفي المقتضب: 2/ 148 بلا عزو. 5 سورة الزمل، الآية: 18. 6 سورة البقرة، الآية: 15. 7 سورة الشعراء، الآية: 16. 8 سورة الفرقان، الآية: 11، وتمامها: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} .

رَأَتْهُمْ} 1 فحمله على النار. وقوله جلّ ثناؤه: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} حمله على المكان. ولهذا نظائِرُ كثيرة. باب من ألفاظ الجمع والواحد والاثنين من الجمع الذي لا واحدَ له من لفْظه "العالَمُ. والأنامُ. والرّهط. والنّفَر. والمَعْشر. والجنْد. والجْيش. والنّاس. الغَنَم. والنَّعَم. والإبل". وربّما كان للواحد لفظ ولا يجيء الجمع بذلك اللفظ نحو قولنا: "امُرُؤُ. وامْرَءان. وقوم" و"امرأة. وامْرَأتان. ونسوة". ومن الاثنين اللذِيْن لا واحد لهما لفظاً قولهم "كِلا وكِلْتا. واثنان. والْمِذْرَوان. وعَقَله بِثَنايَيْن, وجاء يضرب أصْدرَيْه, وازْدَرَيْه, ودَوالَيْه, مِن التَّداول ولَبَّيْكَ, وسَعْدَيْكَ, وحنَانَيْك" وقد قيل: إن واحدِ حنانيك "حَنانٌ" وينشد2: فقالت حَنانٌ ما أتى بِكَ ها هنا ... أذو نَسبٍ أمْ أنتَ بالحيِّ عارف باب ما يجري من كلامهم مجرى التهكم والهزء: يقولون الرجل يُسْتَجهَل "يا عاقل! " ويقول شاعرهم3: فقلتُ لِسَيِّدنا يا حَلِيـ ... ـمُ إنكَ لم تَأْسَ أسْواً رَفِيقا ومن الباب "أتاني فَقَرَيْته جفَاءً وأعْطَيتُهُ حرماناً" ومنه قوله: وَلَمْ يكونوا كأقوامٍ علمتهم ... يَقْرونَ ضيفَهمُ الْملويَّةَ الجُدُدا يعني: السِّياط. ويقول الفرزدق4:

_ 1 سورة الفرقان، الآية: 12. 2 خزانة الأدب: 2/ 112، ونسبته إلى منذر بن درهم الكلبي، وشرح أبيات سيبويه: 1/ 235، والمقتضب: 3/ 225 بلا عزو. 3 لسان العرب: مادة "خفق" ونسبته إلى شييم بن خويلد. 4 ديوانه: 389، وتهذيب اللغة: 12/ 214. وعجزه: يثج العروق الأزاني المثقف

#قريناهم المأثورة البيضا# وقال عمرو: قَرَيْناكمْ فعجَّلْنا قِراكمْ ... قبَيْلَ الصُّبح مِرْداةً طَحونا ومن الباب حكايةً عنهم: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 1. باب الكف: ومن سنن العرب الكفُّ. وهو أن يكفَّ عن ذِكْر الخَبر اكتفاءً بما يدلّ عليه الكلام. كقول القائل2: وَجدِّكَ لو شيءٌ أتانا رسوله ... سِواكَ ولكِن لم نَجِدْ لك مَدْفَعا المعنى: لو أتانا رسولُ سِواكَ لدفَعناه. وقال آخر3: إذا قلتُ سِيري نحوَ ليلى لعلَّها ... جرى دونَ ليلى مائلُ القَرْن أعضبُ وترك خبر "لعلّها". وقال: فمَن لَه في الطَّعْنِ والضِّرابِ ... يلمع في كفيَّ كالشِّهاب أي: مَن له في سيف. ومنه قوله جل وعز في قِصة فرعون: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ} 4 أراد: أم تبصرون. وما يقرب من هذا الباب قوله5: تضِيءُ الظلامَ بالعِشاءِ كأنها ... مَنارَةُ مُمْسَى رَاهبٍ متَبَتِّلِ أراد: سُرُج منارة. باب الإعارة: العرب تُعير الشيء ما ليس له. فيقولون: "مَرَّ بينَ سمعِ الأرض وبَصَرِها"

_ 1 سورة هود، الآية: 87. 2 ديوان امرئ القيس: 130. 3 تذكرة النحاة: 573 بلا عزو، ومغني اللبيب: 2/ 701. والأعضب: ولد البقرة إذا طلع قرنه. 4 سورة القصص، الآية: 72. 5 ديوان امرئ القيس: 46.

ويقول قائلهم: كذلك فعلهُ والناسُ طُرّاً ... بكفِّ الدهر تقتلُهم ضُروباً فجعل للدهر كفّاً. ويقولون1: ثأَرتُ المسمعين وقلت بوءا ... بقتلِ أخي فزَارةَ والخِيارِ قال الأصمعي: لم يكن واحد منهما مِسَمعاً وإنما كانا عامراً وعبدَ الملك ابني مالك بن مِسْمع فأعارهما اسمَ جدّهما. ومثله الشَّعْثمان لم يكن اسم أحدهما شَعْثما وإنما أعير اسم أبيهما "شعثم", ومثله المهَالِبَة و"الأشعرون". باب أفعل في الأوصاف لا يراد به التفضيل: يقولون: "جَرَى له طائرٌ أشأم" ويقول شاعرهم2: هي الهَمُّ لو أن النون أصْقبَتْ بها ... ولكنّ كَرّاً في رَكوبَةَ أعْسَرُ وقال الفرزدق3: إن الذي سمكَ السماءَ بني لنا ... عِزّاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ وقال أبو ذُؤَيْبِ4: ما لي أحِنّ إذا جِمالُك قرِّبَتْ ... وأصدُّ عنكِ وأنتِ مني أقرب وقال: بُثَيْنَةُ من آل النساء وإنما ... يكنّ لأدنى لا وِصالَ لغائب ويقولون: أن من هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 5.

_ 1 لسان العرب: مادة "سمع" بلا عزو. 2 ديوان بشر بن أبي خازم: 70. وفيه. هي العيش لو أن النوى أسعفت بها ... ولكنّ كَرّاً في رَكوبَةَ أعصر 3 ديوانه: 489. 4 الأغاني: 21/ 102، ونسبته إلى سليمان بن أبي دباكل. 5 سورة الروم، الآية: 297.

باب نفي الشيء جملة من أجل عدم كمال صفته: قال الله جلّ وعزّ في صفة أهل النار: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} 1 فنفى عنه الموتَ لأنه ليس بموت مُرِيح ونفى عنه الحياةَ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة. وهذا في كلام العرب كثير، قال أبو النَّجْم2: يُلْقِينَ بالخَبارِ والأجارعِ ... كلَّ جَهيضٍ لَيِن الأكارع بلهاء لم تحفظ ولم تضيع ... ليسَ بِمِحْفوظ ولا بضائع وقال3: وقد أجُوبُ البَلد الْبَرَاحا ... الْمَرْمَرِيسَ القَفْرةَ الصَحْصَاحا بالقوم لا مرْضَى ولا صِحاحا ومن هذا الباب أو قريبٌ منه قوله جلّ ثناؤه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ} 4، ومنه {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} 5 -فأثبت علماً- ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لما كان علماً لم يعملوا به كانوا كأنهم لا يعلمون. ومن الباب قول مسكين6: أعُمى إذا ما جارتي خرجَتْ ... حتى يواري جارتي السِّتْرُ وأصَمّ عما كان بينهما ... سمعي وما بالسمع من وقر

_ 1 سورة طه، الآية: 74. 2 الخبار: ما لان من الأرض. الأجارع: جمع الجرعاء: الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل. الجهيض: الولد السقط. 3 لسان العرب: مادة "معل" ونسبته إلى ابن العمياء، وبلا عزو في المخصص: 12/ 117، وروايته: "البلد القراحا" و"النائي الصحصاحا"، وقوله: البلد القراح: أي البلد لا ماء بها ولا شجر. الصحصاح: ما استوى من الأرض. والمرمريس: الأرض لا تنبت شيئًا. القفرة. الخلاء من الأرض. 4 سورة الأعراف، الآية: 179. 5 سورة البقرة، الآية: 102. 6 مسكين الدارمي، هو ربيعة بن عامر الدرامي، من شعراء العصر الأموي، مات سنة 89هـ.

جعل نفسَه أعمى أصَمَّ لمّا لم ينظر ولم يسمع. وقال آخر1: وكلامٌ بسيِّئ قد وُقِرَتْ ... أذنيَ عنه وما بي من صَمَمِ وقريب من هذا الباب قوله جلّ وعزّ: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} 2 أي ما هم بسُكارى مشروبٍ ولكن سُكارى فَزَع وَوَلهٍ. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {لَا يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} 3 وهم قد نطقوا بقولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} 4 لكنهم نطقوا بما لم يَنفع فكأنهم لم ينطِقوا. باب الشرط: الشرط على ضربين: شرطٌ واجبٌ إعماله كقول القائل: "إن خرج زيدٌ خرجتُ". وفي كتاب الله جلّ ثناؤه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} 5. والشرط الآخر مذكور إلا أنه غيرُ مَعْزوم عليه ولا محتوم، مثل قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 6 فقوله: {إِنْ ظَنَّا} شرط لإطلاق المراجعة. فلو كان محتوماً مفروضاً لما جاز لهما أن يتراجعا إلاّ بعد الظنّ أن يقيما حدود الله. فالشرط ها هنا كالمَجاز غير المعزوم. ومثله قوله جلّ ثناؤه: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} 7 لأن الأمر بالتذكير واقع في كلّ وقت. وللتذكير واجب نفع أو لم ينفع، فقد يكون بعض الشروط مَجازاً. باب الكناية: الكناية لها بابان: أحدهما أن يُكنى عن الشيء فيذكر بغير اسمه تحسيناً للفظ أو إكراماً للمذكور، وذلك كقوله جلّ ثناؤه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ

_ 1 يقال: وقع في سي رأسه أي حكمه من الخير أو في قدر ما يغمر به رأسه. 2 سورة الحج، الآية: 2. 3 سورة المرسلات, الآية: 27. 4 سورة الأنعام، الآية: 27. 5 سورة النساء, الآية: 4. 6 سورة البقرة، الآية: 230. 7 سورة الأعلى، الآية: 9.

عَلَيْنَا} 1 قالوا: إن الجلود في هذا الموضع كناية عن آراب الإنسان. وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} 2 إنه النكاح. كذلك: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 3 والغائط: مطمَئِن من الأرض. كل هذا تحسين اللفظ والله جلّ ثناؤه كريم يكُنِي كما قال في قصة عيسى وأمه عليهما السلام: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 4 كنايةٌ عما لا بدّ لآكل الطعام منه. والكناية التي للتبجيل قولهم: "أبو فلان" صيانة لاسمه عن الابتذال. والكُنى مما كان للعرب خصوصاً. ثم تشبَّه غيرهم بهم في ذَلِكَ. الباب الثاني من الكناية: الاسم يكون ظاهراً مثل: "زيد. وعمرْو". ويكون مَكْنّياً وبعض النحويين يسميه مضمَراً، وذلك مثل "هو، وهي، وهما، وهنَّ". وزعم بعضُ أهل العربية أن أول أحوال الاسم الكناية، ثم يكون ظاهراً. قال: وذلك أن أوّل حال المتكلم أن يخبر عن نفسه ومخاطَبِهِ فيقول: "أنا. وأنت" وهذان لا ظاهر لهما. وسائر الأسماء تظهر مرة ويكنْى عنها مرة. والكناية متصلة منفصلة ومسْتجِنَّة. فالمتصلة التاء في "حملتُ. وقمتُ" والمنفصلة قولنا: "إياهُ أردْتُ". والمستجنَّة قولنا: "قام زيدٌ" فإذا كَنَيْنا عنه قلنا "قام" فَتَسَتَّر الاسم في الفعل. وربما كني عن الشيء لم يجر له ذكر، في مثل قوله جلّ ثناؤه: {يُؤْفَكُ عَنْهُ} 5 أي يؤفك عن الدين أو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أهل العلم: وإنما جاز هذا لأنه قد جرى الذّكر في القرآن. قال حاتم6:

_ 1 سورة فصلت، الآية: 21. 2 سورة البقرة، الآية: 235. 3 سورة النساء، الآية: 43. 4 سورة المائدة، الآية: 75. 5 سورة الذاريات، الآية: 9. 6 هو حاتم بن عبد الله الطائي، الشاعر، الفارس، مضرب المثل في الجود في الجاهلية، والبيت في =

أمَاويَّ ما يُغني الثَّراءُ عن الفتى ... إذا حَشرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدْرُ فكنى عن النفس فقال "حشرجت" ويقولون1: إذا اغُبرَّ أُفْقٌ وهَبَّتْ شَمالاً أضمرَ الريح ولم يجرِ لها ذكر. ويكنى عن الشيئين والثالثة بكناية الواحد. فيقولون: "هو أنْتَنُ الناس وأخْبَثُه" وهذا لا يكون إلا فيما يقال هو أفعل، قال الشاعر2: شَرُّ يومَيها وأشقاهُ لها ... رَكِبتْ عَنزٌ بِحمْلٍ جَملا ولم يقل: "أشقاهما". وتكون الكناية متصلة باسم وهي لغيره، كقوله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} 3 -فهذا آدم عليه السلام- ثم قال: {جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} 4 فهذا لِوَلده لأن آدم لم يُخلق من نُطفة. ومن هذا الباب قوله جلّ ثناؤه: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 5 قيل: إنها نزلت في ابن حُذَافَة حين قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أبي? فقال: "حُذافة". وكان يَسبُّ به فساءه ذلك، فنزلت: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . وقيل: نزلت في الحج حين قال القائل: أفي كلّ عام مرةً? ثم قال: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} 6 يريد أن تسألوا عن أشياء أُخرَ من أمر دينكم ودنياكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ثم قال: {قَدْ سَأَلَهَا} 7 فهذه الهاء من غير الكنايتين لأن معناها: قد طلبها، والسؤال ها هنا طلب، وذلك كقول

_ 1 الأزهية: 62، ونسبته إلى كعب بن زهير، وليس في ديوانه. وفي الحماسة الشجرية: 1/ 309 ونسبته إلى جنوب بنت عجلان، وخزانة الأدب: 1/ 384 وصدره: لقد علم الضيف والمرملون 2 التنبيه والإيضاح: 2/ 246 وفيه أغواه لها، وبحدج جملا، والبيت في المستقصى: 2/ 130. ولعنز اليمامة في تاج العروس: مادة "عنز"، ولبعض شعراء جديس في التاج أيضًا: مادة "عنز". 3 سورة "المؤمنون"، الآية: 12. 4 سورة "المؤمنون"، الآية: 13. 5 سورة المائدة، الآية: 101. 6 سورة المائدة، الآية: 101. 7 سورة المائدة، الآية: 102.

عيسى عليه السلام حين سألوه المائدةَ، وكقول موسى عليه السلام حين قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} 1 فالسؤال ها هنا طلب والكناية مُبتدأةٌ. وربما كُني عن الجَماعة كناية والحد كقوله جلّ ثناؤه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} 2, أراد والله أعلم بهذا الذي تقدّم ذكره. باب الشيء يأتي مرة بلفظ المفعول ومرة بلفظ الفاعل والمعنى واحد: تقول العرب: "هو مُدَجِّج، ومدَجَّج". و"عبد مكاتِب، ومكاتَب" و"شأو مغرب3، ومغرب" و"سجن مخيس، ومخيس" و"مكان عامر. ومعمور". و"منزل آهل. ومأهول". و"نفست المرأة ونفست". و"لا يَنْبَغي لك, ولا يُنْبَغي لك". و"عنيت به, وعَنيتُ". قال4: عانٍ بأُخراها طويلُ الشغل و"رهصت الدابة،5 ورهصت". و"سعدوا، وسعدوا". و"زهي علينا، وزَهَى". باب الزيادة في حروف الفعل للمبالغة وقد مضى في الأسماء مثله: العرب تَزيد في حروف الفعل مبالغة، فيقولون: "حلا الشيء" فإذا انتهى قالوا: "احُلّوْلَى". ويقولون: "اقْلوْلَى على فراشه" وينشدون6:

_ 1 سورة النساء، الآية: 153. 2 سورة الأنعام، الآية: 46. 3 الشأو: السبق. 4 المجمل: مادة "عنى" بلا عزو. والمقاييس: مادة "عنى"، ولسان العرب: مادة "عنى"، وعجزه: له جفيران وأي نبل 5 قوله: أرهصت الدابة: أصابتها الرهصة، وهي وقرة تصيب باطن حافره. 6 لسان العرب: مادة "قلا" بلا عزو. وأساس البلاغة: مادة "قلو" وتاج العروس: مادة "قلا" وتمامه: سمعنا غناء بعدما نمن نومة ... من الليل فاقلولين فوق المضاجع

واقْلَوْلَيْنَ فوقَ المضاجِع وقرأ ابنُ عباس: "إلا أنه تَثْنَوْنِي صدورُهم" على هذا الذي قلناه من المبالغة. باب الخصائص: للعرب كلام بألفاظ تختص به مَعانٍ لا يجوز نقلها إلى غيرها، يكون في الخير والشرّ والحَسَن وغيره, وفي الليل والنهار, وغير ذلك. من ذَلِكَ قولهم: "مَكانَكَ" قال أهلُ العلم: هي كلمة وُضِعتْ على الوعيد، قال الله جل ثناؤه: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} 1 كأنّه قيل لهم: انتظِروا مكانَكم حتى يُفْصَل بينكم. ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم:2 "مَا حَمَلَكم على أن تَتابعوا في الكذِب كما يَتَتَابُع الفَراشُ في النار" , قال أبو عبيدة: هو التهافت، ولم نسمعه إلا في الشرّ. ومن ذلك "أولى له" وقد فسّرناه. ومن ذلك: "ظَلَّ فلان يفعل كذا" إذا فعله نهارًا. و"بات يفعل كذا" إذا فعله ليلاً. ومن ذلك ما أخبرني به أبو الحسن علي بن إبراهيم قال: سمعت أبا العباس المبرّد يقول: "التَّأويب" سيرُ النهار لا تعريج فيه و"الإسآد" سيرُ الليل لا تعريس فيه. ومن الباب "جُعلوا أحاديث" أي: مُثِلَ بهم، ولا يقال في الخير. ومنه: {لَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 3. ومن الخصائص في الأفعال قولهم: "ظننتني. وحسِبتُني. وخِلْتني" لا يقال إلا فيما فيه أدنى شك، ولا يقال: "ضَرَبتني". ولا يكون "التَّأْبين" إلا مدحَ الرجل ميتاً. ويقال: "غضبتُ به" إذا كان ميتًا. و"المساعاة" الزِّنا بالإماء خاصة. و"الراكب" راكب البعير خاصة. و"ألج الجمل" و"خلأت الناقة" و"حرن الفرس" و"نفشت الغنم" ليلا و"هملت" نهارًا.

_ 1 سورة يونس، الآية: 28. 2 رواه أحمد في مسنده: 6/ 454. 3 سورة البقرة، الآية: 193.

قال الخليل: "اليَعْمَلَه" من الإبل اسم اشتق من "العَمَل" ولا يقال إلا للإناث قال: و"النعت" وصف الشيء بما فيه من حَسَن إلاّ أن يتكلّف متكلف فيقول: "هذا نعتُ سوءٍ" فأما العرب العاربة فإنها تقول: للشيء "نعت" يريدون به التتمة. قال أبو حاتم: "ليلةٌ ذات أزِيز" أي قُرّ شديد. ولا يقال يومٌ ذو أزيز. قال ابنُ دُرَيْد: "أشَّ القوم وتأششوا" إذا قام بعضهم إلى بعض للشر لا للخير. ومن ذلك: "جَزَزْتُ الشاةُ" و"حلقت العَنزَ" لا يكون الحَلق في الضَّأن ولا الجّزّ في المِعزَى. و"خفضت الجارية" ولا يقال في الظلام و"حقب البعير" إذا لم يَستقم بولُه لقصد، ولا يَحْقب إلا الجمل. قال أبو زيد: "أبْلَمَتِ البَكْرة" إذا وَرِمَ حياؤُها لا يكون إلا للبَكرة. و"عدنت الإبل في الحمض" لا تَعْدُن إلا فيه. ويقال: "غَطَّ البعيرُ" هَدَرَ ولا يقال في الناقة. ويقال: "ما أطيبَ قداوةَ هذا الطعام"، أي: ريحَهُ ولا يقال ذلك إلا في الطبيخِ والشِّواء. و"لقعه بِبَعْرَة" ولا يقال بغيرها. و"فعلت ذاك قبل عَيْرٍ وما جَرَى" لا يتُكلَّم به إلا في الواجب، لا يقال: سأفعله قبلَ عير وما جرى. ومن الباب ما لا يقال إلا في النفي كقولهم: "ما بها أرِمٌ" أي ما بها أحد. وهذا كثير فيه أبواب قد صنّفها العلماء. باب نظم للعرب لا يقوله غيرهم: يقولون: "عاد فلانٌ شيخاً" وهو لم يكن شيخاً قط. و"عاد الماءُ آجناً" وهو لم يكن آجناً فيعود. ويقول الهُذّلِي1: قد عادَ رَهْباً رَذّياً طائِشّ القَدَمِ قال2:

_ 1 هو ساعدة بن جؤية الهذلي، شاعر مخضرم، والبيت في: شرح أشعار الهذليين: 1124، ولسان العرب: مادة "عود" وصدره: "فقام ترعد كفاه بميبله" 2 لسان العرب: مادة "عسف" ونسبته إلى نبيه بن الحجاج وهو شاعر من العقلاء الجاهليين من قريش قتل في بدر على الشرك. والبيت في أساس البلاغة: مادة "عسف". وفي اللسان. أطعت النفس في الشَّهَوات حتّى

قطعتُ الدَهرَ في الشَّهَوات حتّى ... أعادتني عَسِيفاً عبدَ عبدِ ومن هذا في كتاب الله جل ثناؤه: {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 1 وهم لم يكونوا في نور قط. ومثله: {يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} 2 وهو لم يَكن في ذلك قط. وقال الله جلّ ثناؤه: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 3 فقال: {عَادَ} ولم يكن عُرْجوناً قبلُ. باب إخراجهم الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك: يقولون: "فلانٌ كريم غير أنه شريف" و"كريم غير أن له حَسَباً" وهو شيء تنفَرِدُ فيه العرب. قال4: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سُيوفَهم ... بهن فُلُول من قِراع الكتائِبِ وقال5: فتىً كَمَلَتْ أخلاقُه غير أنُه ... جوادٌ فما يُبقيِ من المال باقيا وهو كثير. باب الإفراط: العرب تُفرِط في صفة الشيء مُجاوَزَةً للقَدْر اقتداراً على الكلام كقوله6: بِخَيْلٍ تَضِلّ البُلْقُ فِي حَجَراته ... ترى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحوافِرِ ويقولون7:

_ 1 سورة البقرة، الآية: 257. 2 سورة النحل، الآية: 70. وسورة الحج، الآية: 5. 3 سورة يس، الآية: 39. 4 النابغة الذبياني، ديوانه: 51. فلول السيف: ثلمه. 5 النابغة الجعدي، ديوانه: 173. 6 لسان العرب: مادة "سجد" بلا عزو. 7 ديوان جرير: 270، وخزانة الأدب: 4/ 218. وفي الديوان: سور المدينة والجبال الخشع

لما أتى خبَرَ الزُّبيْر تواضَعَتْ ... سور المدينة والجبال الخشع و1: بكى حارِثُ الجولان من هُلْكِ ربه [و] 2: لَوْ انَّك تُلْقِي حَنْظَلاًُ فَوْقَ بَيْضِنا ... تحدرج [عن ذي ساحه المتقارب] ويقولون3: ضَرَبتُه فِي الملتقى ضَرْبةً ... فزال عن مَنْكِبِهِ الكاهلُ فصار ما بَيْنَهما رَهْوةً ... يمشي بِهَا الرَّامِح والنّابِلُ باب نفي ضمنه إثبات: تقول العرب: "لَيْسَ بحُلو ولا حامضٍ" يريدون أنه جَمَعَ من ذا وذا. وَفِي كتاب الله جلّ ثناؤه: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} 4 قال أبو عبيدة: لا شرقيّة تضحى للشرق ولا غربية لا تضحى للشرق لكنها شرقية غربيّة يصيبها ذا وذا: الشرق والغرب. باب الاشتراك: معنى الاشتراك: أن تكون اللفظة محتملة لمعنين أَوْ أكثر، كقوله جلّ ثناؤه: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} 5 فقوله: {فَلْيُلْقِهِ} مشترك بَيْنَ الخبر وبين الأمر، كَأَنَّه قال: فاقذفيه فِي اليم يُلْقِهِ اليم. ومحتمل أن يكون اليمُّ أمر بإلقائه.

_ 1 للنابغة الذبياني، ديوانه: 213، وعجزه: وحوران منه موحش متضائل وحارث الجولان: جبل. 2 ديوان قيس بن الخطيم: 86، وتاج العروس: مادة "سوم"، وإتمامه من الديوان. والسام: عروق الذهب، الواحدة: سامة، وأرادوا بالسام: خطوط ذهب على البيض تموه بها. والبيضة: الحديد، أي الخوذة، والتي توضع على الرأس. تحدرج: أي تدحرج، والمراد أن القوم تراصوا في الحرب حتى لو ألقيت حنظلا فوق بيضهم لهم يصل إلى الأرض. 3 الحيوان للجاحظ: 6/ 413، ونسبته إلى ذي اليمينين. 4 سورة النور، الآية: 35. 5 سورة طه، الآية: 39.

ومنه قولهم: "أرأيت" فهو مرّةً للاستفتاء والسؤال كقولك: "أرأيت إن صلى الإمام قاعداً كيْفَ يُصَلّي مَن خلفه?". ويَكون مرّةً للتنبيه ولا يقتضي مفعولاً، قال الله جلّ ثناؤه: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} 1. ومن الباب قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} 2 فهذا مشترك محتمل أن يكون لله جلّ ثناؤه لأنه انفرد بخَلْقِهِ، ومحتمل أن يكون: خَلقتُه وحيداً فريداً من ماله وولَده. باب ما يسميه بعض المحدّثين الاستطراد: وذلك أن يشبّه شيء ثُمَّ يمرّ المتكلم فِي وصف المشبّه، كقول الشاعر حين شبّه ناقتَه فقال3: كَأَنِّي ورَحْلِيَ إذَا رُعْتُها ... عَلَى جَمْزَى جازِئٍ بالرِّمالِ فشبّه ناقته بثور ومضى فِي وصف الثّور، ثُمَّ نقل الشبه إِلَى الحمار فقال4: أَوْ أصْحَمٍ حامٍ جراميزه ... خزابية حَيدَى بالدِّحالِ ومر فِي صفة العَيْر إِلَى آخر كلمته. وَقَدْ قيل: فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من هَذَا النظم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} 5 وَلَمْ يجر للذِّكر خبر، ثُمَّ قال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 6 وجواب: {أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قوله جلّ ثناؤه: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 7.

_ 1 سورة العلق، الآية: 13. 2 سورة المدثر، الآية: 7. 3 شرح أشعار الهذليين: 2/ 498 لأمية بن أبي عائذ، وبلا نسبة في شرح المفصل: 5/ 108. ويقال: جمار جمزى أي: سريع، وأراد ثورًا. 4 شرح أشعار الهذليين: 2/ 499 لأمية بن أبي عائذ. وبلا عزو في العين: 6/ 203. وللهذلي في المقاييس: مادة "حيد" والأصحم من الصحمة: السواد إلى صفرة، وأراد الحمار، والحامي: الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود، ثم هو حام حمى ظهره فيترك الجراميز: قوائم الوحشي وجسده. الحزابية: الغليظ إلى القصر. وحمار حيدي: يحيد عن ظله نشاطًا. دحال: جمع دحل: وهو نقب ضيق فمه متسع أسفله. 5 سورة فصلت، الآية: 41. 6 سورة فصلت، الآية: 42. 7 سورة فصلت، الآية: 44.

باب الإتباع: للعرب الأتْباع وهو أن تتبع الكلمةُ الكلمةَ عَلَى وزنها أَوْ روِيّا إشباعاً وتأكيداً. ورُوي أن بعض العرب سُئِل عن ذَلِكَ فقال: هو شيءٌ نَتدبر بِهِ كلامنا. وذلك قولهم: "ساغِبٌ لاغِب"1, و"هو خَبٌّ ضَبّ"2, و"خَرابٌ يَباب". وَقَدْ شاركَتْ العَجَمُ العربَ فِي هَذَا الباب. باب الأوصاف الَّتِي لَمْ يسمع لَهَا بأفعال والأفعالِ الَّتِي لَمْ يُوصف بِهَا: قال الخليل: "ظَبيٌ عَنَبَانٌ" أي نشيط، قال: وَلَمْ نسمع للعنبان فعلاً، قال: "يَشُدُّ شد العَنَبان البارح" قال: و"الخَضِيعَةُ" صوت يخرج من قُنبِ3 الدّابّة ولا فعل لَهَا. ويقولون فِي التحقير: "هو دُونٌ" ولا فعل لَهُ. قال أبو زَيْد: يقال للجبان: "إنه لمفؤود" ولا فعل لَهُ. قال: و"الخَبِطة" مثل الرَّفَض من اللبن والماء ولا فعل لَهَا. وقال: "أمجَدْتُ الإِبلَ إمجاداً" إذَا أنت أشبعْتَها ولا فعل لَهَا فِي هذا. و"المَزِيّةُ" الفضل ولا فعل لَهَا. قال أبو زيد: يقال: "مَا ساءه وناءه" تأكيدٌ للأول ولم يعرفوا من "ناءه" فعلاً، لا يقولون: "ينوؤه" كما يقال: "يسوؤه". ومن الأفعال الَّتِي لَمْ يُوصَف بِهَا قولُنا: "ذَرأ الله الخَلْق" قال الله عزّ وجلّ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} 4 وَلَمْ يُسمع فِي صفاته جل ثناؤه: "الذارئ". باب النحت: العرب تَنْحَتُ من كلمتين كلمةً واحدة، وهو جنس من الاختصار، وذلك:

_ 1 ساغب: جائع. لاغب: من اللغب: الإعياء الشديد. ولا يكون -على قول- السغب إلا مع إعياء. 2 قولهم: هو خَبٌّ ضَبّ. للبخيل الذي يمنع ما عنده، وينزل المنهبط من الأرض ليجعل موضعه بخلا. 3 قنب الدابة: جراب قضيب الدابة. 4 سورة الشورى. الآية: 11. وذرأ: خلق.

"رجل عَبْشَميّ" منسوب إِلَى اسمين، وأنشد الخليل1: أقول لَهَا ودمعُ العين جارٍ ... ألَمْ تَحْزُنْكِ حَيْعَلةُ المنادي مكان قوله: "حَيَّ علي". وهذا مذهبنا فِي أنّ الأشياء الزائدة عَلَى ثلاثة أحرف فأكثرها منحوت، مثل قول العرب للرجل الشديد "ضَبَطرٌ" وَفِي "الصِّلِّدْم" إنه من "الصَّلد" و"الصَّدْم". وَقَدْ ذكرنا ذَلِكَ بوجوهه فِي كتاب "مقاييس اللغة". باب الإشباع والتأكيد: تقول العرب: "عَشَرةٌ وعَشَرة فتلك عشرون" وذلك زيادة فِي التأكيد ومنه قوله جلّ ثناؤه: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 2, وإنما قال هَذَا لنفي الاحتمال ان يكون أحدهما واجباً إما ثلاثة وإما سبعة فأُكّد وأزيل التوهّمِ بأن جُمِعَ بَيْنَهما. ومن الباب قوله جلّ ثناؤه: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} 3 إنما ذكر الجَناحين لأن العرب قَدْ تُسمّي الإِسراعَ طيرَاناً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كلَّما سَمعَ هَيْعة طار إليها أخرى" 4. وكذلك قوله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} 5 فذلك الألسنة لأن الناس يقولون: "قال فِي نفسه كذا" قال الله جلّ ثناؤه: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} 6 فاعلم أن ذَلِكَ باللسان دون كلام النفس. باب الفصل بَيْنَ الفعل والنعت: النعت يؤخذ عن الفعل نحو: "قامَ فهو قائم" وهذا الَّذِي يسمّيه بعض النحويين "الدائمَ" وبعض يسميه: "اسمَ الفاعل". وتكون لَهُ رتبة زائدة عَلَى الفاعل. قال الله جلّ ثناؤه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} 7 وَلَمْ يقل: لا

_ 1 لسان العرب: مادة "حعل", والعين: 1/ 60. 2 سورة البقرة، الآية: 196. 3 سورة الأنعام، الآية: 38. 4 رواه مسلم: إمارة 125، وابن ماجة: فتن 13، وأحمد: 2/ 443. 5 سورة الفتح، الآية: 11. 6 سورة المجادلة، الآية: 8. 7 سورة الإسراء، الآية: 29.

تغلَّ يدك، وذلك أن النعت ألزَمُ، ألا ترى أنا نقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 1 ولا نقول: آدمُ عاصٍ غاوٍ، لأن النعوت لازمة وآدم وإن كَانَ عصى فِي شيء فإنه لَكَ يكن شأنه العصيان فيُسمى بِهِ، فقوله جلّ ثناؤه: {لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} 2 أي لا تكونَنّ عادتك المنع فتكون يدك مغلولةً. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} 3 وَلَمْ يقل هَجَرُوا لأن شأنَ القوم كَانَ هجران القرآن وشأنُ القرآن عندَهم أن يُهجَر أبداً فلذلك قال والله أعلم: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} وهذا قياسُ الباب كله. باب الشعر: الشِّعرْ كلام مَوْزونٌ مُقفّى دَالٌّ عَلَى معنىً. ويكون أكثرَ من بيت. وإنما قلنا هَذَا لأنّ جائزاً اتِّفاقُ سَطرٍ واحد بوزن يُشبه وزنَ الشِّعر عن غير قصد، فقد قيل: إن بعض الناس كتب فِي عنوانه كتاب "للأمير المُسَيَّب بن زهير من عِقالِ بن شبَّةَ بن عِقالِ" فاستوى هَذَا فِي الوزن الَّذِي يُسمّى "الخفيف". ولعلّ الكاتب لَمْ يقصد بِهِ شِعْراً. وقد ذكر ناس فِي هَذَا كلمات من كتاب الله جلّ ثناؤه كَرِهْنا ذكرَها، وَقَدْ نزّه الله جلّ ثناؤه كتابه عن شَبه الشِّعر كما نزّه نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- عن قوله. فإن قال قائل: فما الحِكمةُ فِي تنزيه الله جل ثناؤه نبيه عن الشعر? قيل لَهُ: أوّل مَا فِي ذَلِكَ حكم الله جلّ ثناؤه بأنّ: {الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} 4 ثُمَّ قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 5 ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كَانَ أفضل المؤمنين إيماناً وأكثر الصالحين عَمَلاً للصالحات فلم يكن ينبغي لَهُ الشعر بحال، لأن للشعر شرائِط لا يُسمى الإنسان بغيرها شاعراً، وذلك أن إنساناً

_ 1 سورة طه، الآية: 121. 2 سورة الإسراء، الآية: 29. 3 سورة الفرقان، الآية: 30. 4 سورة الشعراء، الآية: 224-226. 5 سورة الشعراء، الآية: 227.

لَوْ عَمِلَ كلاماً مستقيماً موزوناً يتحرّى فِيهِ الصدق من غير أن يُفْرِط أَوْ يتعدَّى أَوْ يمين أَوْ يأتي فِيهِ بأشياء لا يمكن كونها بتَّةً لما سمّاهُ الناسُ شاعراً ولكان مَا يقوله مَخْسولاً ساقطاً. وَقَدْ قال بعض العقلاء وسُئِل عن الشعر فقال: "إن هَزَلَ أضحكَ، وإن جَدَّ كَذَبَ" فالشاعر بين كَذِب وإِضحاك، فإذا كَانَ كذا فقد نزّه الله جلّ ثناؤه نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- عن هاتين الخِصْلتين وعن كل أمر دنيء. وبعد فإنّا لا نكاد نرى شاعراً إِلاَّ مادِحاً ضارعاً أَوْ هاجياً ذا قذع، وهذه أوصاف لا تصلُح لنبي. فإن قال: فقد يكون من الشِّعر الحُكْمُ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم1: "إن من البيان لسِحْراً، وإن من الشِّعر لحِكمة" أَوْ قال: "حُكماً" قيل لَهُ: إنما نزّه الله جل ثناؤه نبيه عن قِيل الشعرِ لما ذكرناه، فأمّا الحِكمة فقد آتاه الله جلّ ثناؤه من ذَلِكَ القِسْم الأجزَلَ والنَّصيبَ الأوفى الأزكى: قال الله جلّ ثناؤه فِي صفة نبيّه -صلى الله عليه وسلم: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 2 وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} 3 فآيات الله القرآن، والحكمةُ سُنَّته -صلى الله عليه وسلم. ومعنىً آخر فِي تنزيه الله جلّ ثناؤه نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- عن قيل الشعر أن أهل العَروض مُجْمِعون عَلَى أنه لا فَرْقَ بَيْنَ صِناعة العروضِ وصناعَة الإيقاع. إِلاَّ أن صِناعة الإيقاع تَقسِم الزمانَ بالنَّغَم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة. فلما كَانَ الشعر ذا مِيزَان يناسبُ الإيقاعَ، والإيقاعُ ضربٌ من الملاهي لَمْ يصلُح ذَلِكَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ قال -صلى الله عليه وسلم: "مَا أنا من دَدٍ ولا دَدٌ مني" 4. والشِّعر ديوانُ العرب، وبه حُفِظت الأنساب، وعُرِفت المآثر، ومنه تُعلِّمت اللغة. وهو حُجَّةٌ فيما أشْكَلَ من غريب كتاب الله جلّ ثناؤه وغريب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحديث صحابته والتابعين. وَقَدْ يكون شاعرٌ أشْعَرَ، وشِعْرٌ أحلى أَوْ أظرف. فأمّا أن يتَفاوَتَ الأشعار

_ 1 رواه البخاري: 47، ومسلم: جمعة 47، وأبو داود: أدب 86. والترمذي: بر 79. والدارمي: صلاة 199. والموطأ: كلام 7. وأحمد: 1/ 369، 273، 302، 312. 2 سورة الجمعة، الآية: 2. 3 سورة الأحزاب، الآية: 34. 4 غريب الحديث: 1/ 329، والدد: اللعب واللهو.

القديمة حَتَّى يتباعد ما بينها فِي الجودة فلا. وبكل يُحْتَجّ وإلى كلٍّ يُحتاج. فأما الاختيار الَّذِي يراه الناسُ للناس فشَهَوات، كلٌّ مستحسِنٌ شيئاً. والشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ولا يمدُّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون، ويختلسون ويُعيرون ويستعيرون. فأما لحنٌ فِي إعراب أَوْ إزالةُ كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذَلِكَ. ولا معنى لقول من يقول: إن للشاعر عند الضرورة أن يأتيَ فِي شِعره بما لا يجوز. ولا معنى لقول من قال1: ألم يأتيكَ والأنباء تَنْمي وهذا وإن صحّ وَمَا أشبهه من قوله: لما جَفا إخوانُه مصْعَباً وقوله: قِفا عند مِمّا تعرِفان رُبوعُ فكلُّه غلط وخطأ، وَمَا جعل الله الشعراء معصومين يُوَقَّوْن الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وَمَا أبَتْهُ العربية وأصولها فَمَرْدُودُ. بَلَى للشاعر إذَا لَمْ يَطَّرِدْ لَهُ الَّذِي يُريده فِي وزن شعره أن يأتي بما يقوم مقامه بَسْطاً واختِصاراً وإبْدالاً بعد أن لا يكون فيما يأتيه مُخْطِئاً أَوْ لاحناً، فله أن يقول2: كالنَّحْلِ فِي ماءِ رُضابِ العَذْبِ وهو يُريد العسَل، وله أن يقول3: مثل الفَنِيق هَنَأتَهُ بعصيم

_ 1 خزانة الأدب: 8/ 359، والإنصاف: 1/ 30، وشرح أبيات سيبويه: 1/ 340، وعجزه: بما لاقت لبون بني زياد 2 ديوان رؤبة: 17. وروايته: وعدة عجت عليها صحبي ... كالنحل بالماء الرضاب العذب 3 ديوان لبيد بن ربيعة: 191، وفي المقاييس: مادة "شوف" بلا عزو. وصدره: "بحظيرة توفي الجديل سريحة"، وعجزه في الديوان: مثل المشوف هنأته بعصيم والفنيق: الفحل المكرم لا يؤذى لكرامته.

و"العصيم" أثر الهِناء. وإنما أراد هَنَأتَه بهِناء. وله أن يبسُط فيقول كما قال الأعشى1: إن تَرْكَبوا فركوب الخيل عادَتُنا ... أَوْ تَنْزِلونَ فإنَّا مَعْشَرٌ نُزُل معناه: إن تركبوا رَكِبنا وإن تنزلوا نزلنا، لكن لَمْ يستقم لَهُ إِلاَّ بالبسط وكذلك قوله2: وإن تسكُني نجدا فيا حَبَّذا نَجْدُ أراد: أن تسكني نجداً سكناه, فبَسط لما أراد إقامة الشِّعر، أنشدنيها أبي فارس بن زكريّاء قال أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعدان النحوي الهمذاني, قال أنشدني أبو نَصْر صاحب الأصمعي3: قَضَيْت الغواني غير أنَّ مَوَدَّةً ... لِذَلْفاءَ ما قضيت أخِرَها بعدُ فيا رَبْوَةَ الرَّبْعَيْن حُيّيتِ ربوةً ... عَلَى النأْي مني واسْتَهَلَّ بكِ الرَّغْدُ فإن تَدَعي نَجْداً نَدَعْهُ ومن بِهِ ... وإن تَسكُنِي نجداً فيا حَبَّذا نجْدُ وما سوى هَذَا مما ذَكِرَتِ الرُّواةُ أن الشُّعراء غلطوا فِيهِ فقد ذكرناه فِي "كتاب خُضارة" وهو "كتاب نعت الشِّعر". وهذا تمام الكتاب "الصاحبي" أتم الله عَلَى "الصاحب" الجليل النِّعَم، وأسْبغَ لَهُ المواهِبَ، وسَنَّى لَهُ المَزِيدَ من فضلِهِ، إنه وليُّ ذَلِكَ والقادِرُ عَلَيْهِ. وصلى الله تعالى عَلَى نبيه محمد وآله أجمعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_ 1 ديوانه: 135، وفيه: قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا.. 2 شعر يزيد بن الطثرية: 61. أمالي القالي: 1/ 54 بلا عزو. وصدره: فإن تَدَعي نَجْداً نَدَعْهُ ومن بِهِ 3 الغواني: جمع الغانية: الحسناء. الذلفاء: المرأة الصغيرة الأنف، وهو اسم علم مؤنث أيضًا.

رسالة أحمد بن فارس لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب

بسم الله الرحمن الرحيم رسالة أحمد بن فارس لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب: تناول ابن فارس في هذه الرسالة مسألة المفاضلة بين شعراء الجاهلية والمولدين قدم الثعالبي لهذه الرسالة بقوله: إنها في غاية الملاحة، وقد تضمنت نماذج من ملح شعراء الجبل وغيرهم من المعاصرين، وفيها ظرف أخبارهم ... وهذا نصها: "ألهمك الله الرشاد، وأصحبك السداد، وجنبك الخلاف، وحبب إليك الإنصاف. وسبب دعائي بهذا لك: إنكارك على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة، وإعظامك ذلك. ولعله ما فعل -حتى يصيب الغرض الذي يريده، ويرد المنهل الذي يؤمه- لاستدرك من جيد الشعر ونقيه، ومختاره ورضيه كثيرًا مما فات المؤلف الأول. فلماذا الإنكار، ولم هذا الاعتراض، ومن ذا حظر على المتأخر مضادة المتقدم؟ ولم تأخذ بقول من قال: "ما ترك الأول للآخر شيئًا" وتدع قول الآخر: "كم ترك الأول للآخر؟ ", وهل الدنيا إلا أزمان، ولكل زمن منها رجال؟ وهل العلوم بعد الأصول المحفوظة إلا خطرات الأفهام ونتائج العقول؟ ومن قصر الآداب على زمان معلوم، ووقفها على وقت محدود؟ ولم لا ينظر الآخر مثل ما نظر الأول -حتى يؤلف مثل تأليفه، ويجمع مثل جمعه، ويرى فِي كلّ ذَلِكَ مثل رأيه؟ وما تقول لفقهاء زماننا إذا نزلت بهم من نوازل الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أو ما علمت أن لكل قلب خاطرًا ولكل خاطر نتيجة؟ ولم جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره وَلَمْ يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟ ولم حجرت واسعًا وحظرت مباحًا، وحرمت حلالا، وسددت طريقًا مسلوكًا؟ وهل حبيب إلا واحد

من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولماذا جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنظار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يدرك ولا يدرى قدره؟ ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولكلت ألسن لسنة، ولما توشى أحد لخطابة، ولا سلك شعبًا من شعاب البلاغة، ولمجت الأسماع كر مردد مكرر، وللفظت القلوب كل مرجع ممضغ. وحتام لا يسأم. لو كنت من مازن لم تستبح إبلي وإلى متى: صفحنا عن بني ذهل ولم أنكرت على العجلي معروفًا، واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريرًا وتصحيفًا، وإبطاء وإقواء، ونقلا لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها، ولا تصلح لها، إلى ما سوى ذلك من رويات مدخولة وأمور عليلة؟ ولم رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حثثت على إثارة ما غيبته الدهور وتجديد ما أخلقته الأيام وتدوين ما نتجته خواطر هذا الدهر وأفكار هذا العصر؟ على أن ذلك لو رامه رائم لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة من قبله من جد يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاج يلهيك. وكان يقزوين رجل معروف بأبي محمد الضرير القزويني حضر طعامًا، وإلى جنبه رجل أكول فأحسن أبو حامد بجودة أكله، فقال: وصاحب لي بطنه كالهاويه ... كأن في أمعائه معاويه فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية. وهل ضر ذلك إن لم يقله حماد عجرد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عار على مثبته، أو في تدوينه وصمة على مدونه؟

وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني, نظر إلى حاكم من حكامها -من أهل طبرستان- مقبلا, عليه عمامة سوداء، وطيلسان أزرق، وقميص شديد البياض، وخفه أحمر, وهو مع ذلك كله قصير، على برذون أبلق هزيل الخلق، طويل الحلق، فقال حين نظره: وحاكم جاء على أبلق ... كعقعق جاء على لقلق فلو شاهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يقصر عن قول بشار بن برد: كأن مثار النقع فوق رءوسهم ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فما تقول لهذا، وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه وجحود تجويده؟ وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني، وهو اليوم حي يرزق، وقد عاب بعض كتابها على حضوره طعامًا مرض منه: وقيت الردى وصروف العلل ... ولا عرفت قدماك الزلل شكى المرض المجد لما مرضت ... فلما نهضت سليمًا أبل لك الذنب لا عتب عليك ... لماذا أكلت طعام السفل طعام يسوى ببيع النبيذ ... ويصلح من خدر ذاك العمل وأنشدني في شاعر، هو اليوم هناك، يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف: وأصفر اللون أزرق الحدقه ... في كل ما يدعيه غير ثقه كأنه مالك الحزين إذا ... هم بزرق وقد لوى عنقه إن قمت في هجوه بقافية ... فكل شعر أقوله صدقه وأنشدني عبد الله بن شاذان القاري ليوسف بن حمويه، من أهل قزوين، ويعرب بابن المنادي: إذا ما جئت أحمد مستميحا ... فلا يغررك منظره الأنيق له لطف وليس لديه عرف ... كبارقة تروق ولا تريق

فما يخشى العدو له وعيدا ... كما بالوعد لا يثق الصديق وليوسف محاسن كثيرة، وهو القائل، ولعلك سمعت به: حج مثلي زيارة الخمار ... واقتنائي العقار شرب العقار ووقاري إذا توقر ذو الشيـ ... ـبة وسط الندي ترك الوقار ما أبالي إذا المدامة دامت ... عذل ناه ولا شناعة جار رب ليل كأنه فرع ليلى ... ما به كوكب يلوح لساري قد طويناه فوق خشف كحيل ... أحور الطرف فاتن سحار وعكفناه على المدامة فيه ... فرأينا النهار في الظهر جاري وهي مليحة كما ترى، وفي ذكرها كلها تطويل والإيجاز أمثل، وما أحسبك ترى بتدوين هذا وما أشبهه بأسًا. ومدح رجل بعض أمراء البصرة، ثم قال بعد ذلك -وقد رأى توانيًا في أمره- قصيدة يقول فيها كأنه يجيب سائلا: جودت شعرك في الأمير ... فكيف أمرك قلت فاتر فكيف تقول لهذا ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظ وأوجز كلام، وأنت الذي أنشدتني: سد الطريق على الزمان ... وأقام في وجه القطوب كما أنشدني لبعض رجال الموصل: فديتك ما شئت عن كبرة ... وهذي سني وهذا الحساب ولكن هجرت فحل المشيب ... ولو قد وصلت لعاد الشباب فلم لم تخاصم هذين الرجلين في مزاحمتهما فحولة الشعراء وشياطين الإنس ومردة العالم في الشعر؟ وأنشدني أبو عبد الله المغلسي المراغي لنفسه: غداة تولت عيسهم فترحلوا ... بكيت على ترحالهم فعميت فلا مقلتي أدت حقوق ودادهم ... ولا أنا عن عيني بذاك رضيت وأنشدني أحمد بن بندار لهذا الذي قدمت ذكره، وهو اليوم حي يرزق:

زارني في الدجى فنم عليه ... طيب أردافه لدى الرقباء والثريا كأنها كف خود ... أبرزت من غلالة زرقاء وسمعت أبا الحسين السروجي يقول: كان عندنا طبيب يسمى النعمان ويكنى أبا المنذر، فقال فيه صديق لي: أقول لنعمان وقد ساق طبه ... نفوسًا نفيسات إلى باطن الأرض أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع: - الأزهية في علم الحروف: الهروي، مجمع اللغة العربية بدمشق ط1/ 1981. - أساس البلاغة: الزمخشري، دار المعرفة، بيروت 1979. - الأصمعيات: الأصمعي، دار المعرفة مصر، ط5. - الأعلام: الزركلي، دار العلم للملابين، بيروت ط 7/ 1986. - الأغاني: الأصفهاني، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية. - الأمالي، أبو علي القالي دار الآفاق الجديدة، بيروت لا ط. - الإنصاف في مسائل الخلاف: أبو البركات الأنباري، دار الجيل بيروت 1982. - أوضح المسالك: ابن هشام الأنصاري، دار الجيل بيروت ط 5/ 1979. - تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان، دار المعارف مصر ط4. - تاج العروس من جواهر القاموس: الزبيدي، دار الحياة "نسخة مصورة عن طبعة المطبعة الخيرية بمصر". - تذكرة النحاة: أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي، مؤسسة الرسالة بيروت ط 1/ 1986. - جمهرة الأمثال: أبو هلال العسكري، دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1988. - جمهرة أشعار العرب: أبو زيد القرشي، دار الكتب العلمية بيروت ط 2/ 1922. - جمهرة اللغة: أبو بكر بن دريد، دار صادر بيروت لا ط. - الحماسة الشجرية: ابن الشجري، دمشق 1970. - الحيوان: الجاحظ، دار إحياء التراث العربي بيروت لا ط. - خزانة الأدب: البغدادي، دار صادر بيرت لا ط. - الخصائص: ابن جني، دار الكتاب العربي بيروت لا ط. - ديوان أبي الأسود الدؤلي: تحقيق محمد حسن آل ياسين، لا ناشر ط 1/ 1982.

- ديوان الأحوص الأنصاري: دار الكتاب العربي بيروت ط 1/ 1994. - ديوان الأخطل: دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1986. - ديوان الأسود بن يعفر: صنعة نوري القيسي، وزارة الثقافة بغداد ط1. - ديوان الأعشى: دار الكتب العلمية، بيروت ط 1/ 1987. - ديوان الأغلب العجلي "ضمن شعراء أمويون": عالم الكتب، بيروت ط 1/ 1985. - ديوان امرئ القيس: دار صادر، بيروت لا ط. - ديوان أوس بن حجر: دار بيروت، بيروت ط 1/ 1986. - ديوان بشر بن أبي خازم: دار الكتاب العربي، بيروت ط 1/ 1994. - ديوان جران العود النميري: المكتبة الأزهرية، مصر 1992. - ديوان جرير: دار صادر، بيروت لا ط. - ديوان حاتم الطائي: دار صادر، بيروت. - ديوان الحادرة: درا بيروت، بيروت 1993. - ديون حسان بن ثابت: دار الأندلس، بيروت 1980. - ديوان الحطيئة: دار صادر، بيروت. - ديوان الحماسة: أبو تمام، دار الرشيد "سلسلة كتب التراث رقم 101" بغداد 1980. - ديوان الخنساء: دار صادر، بيروت لا ط. - ديوان ذي الرمة: شرح أحمد بسج، دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1995. - ديوان الراعي النميري: دار الآفاق الجديدة، بيروت ط 1/ 1979. - ديوان رؤبة بن العجاج: دار الآفاق الجديدة، بيروت 1/ 1979. - ديوان أبو زبيد الطائي = شعر أبي زبيد: مطبعة المعارف، بغداد ط 1/ 1967. - ديوان زهير بن أبي سلمة: دار صادر، بيروت لا ط. - ديوان زيد الخيل = شعر زيد الخيل، دار المأمون للتراث، دمشق لا ط. - ديوان الشماخ بن ضرار، دار المعارف، مصر. - ديوان الشنفرى: دار الكتاب العربي، بيروت ط 1/ 1991. - ديوان طرفة بن العبد: دار صادر، بيروت 1980. - ديوان طفيل الغنوي: دار الكتاب الجديد، بيروت ط 1/ 1968.

- ديوان العباس بن مرداس: مؤسسة الرسالة، بيروت ط 1/ 1991. - ديوان عَبْدَةُ بن الطبيب: دار التربية، بغداد ط 1/ 1971. - ديوان عبيد بن الأبرص: دار صادر، بيروت. - ديوان العجاج "عبد الله بن رؤبة" مكتبة أطلس، دمشق لا ط. - ديوان عدي بن زيد: منشورات وزارة الثقافة، بغداد سلسلة كتب التراث. - ديوان عمرو بن أبي ربيعة، دار صعب، بيروت 1980. - ديوان عمرو بن معد يكرب: مكتبة دار البيان، بيروت, دمشق ط 3/ 1994. - ديوان القطامي: دار الثقافة، بيروت. - ديوان قيس بن الخطيم: دار صادر، بيروت ط 3/ 1991. - ديوان قيس بن الملوح: دار الكتب العلمية، بيروت ط 1/ 1990. - ديوان كثير عزة: دار الكتاب العربي، بيروت ط 1/ 1993. - ديوان كعب بن زهير: دار الكتب العلمية، بيروت ط 1/ 1987. - ديوان لبيد بن ربيعة، دار صادر، بيروت لا ط. - ديوان المخبل السعدي "ضمن شعراء مقلون": عالم الكتب، بيروت ط 1/ 1987. - ديوان ابن مقبل: تميم بن مقبل، وزارة الثقافة دمشق 1962. - ديوان النابغة الجعدي: المكتب الإسلامي، بيروت. - ديوان النابغة الذبياني: دار صادر، بيروت. - ديوان يزيد بن الطثرية: دار الوثبة، دمشق. - ديوان يزيد بن مفرغ: مؤسسة الرسالة، بيروت ط 2/ 1982. - الزهرة: الأصفهاني، مكتبة المنار الأردن, الزرقاء ط 2/ 1985. - سر صناعة الإعراب: ابن جني، دار القلم دمشق ط 1/ 1985. - شرح أشعار الهذليين: مكتبة دار العروبة، القاهرة لا ط. - شرح ديوان عنترة: دار الكتاب العربي، بيروت ط 1/ 1992. - شرح شافية ابن الحاجب، عبد القادر البغدادي، دار الكتب العلمية بيروت لا ط 1982.

- شرح شذور الذهب: ابن هشام الأنصاري، الشركة المتحدة للتوزيع بيروت 1984. - شرح شواهد الإيضاح لأبي علي الفارسي، تأليف عبد الله بن بري: مجمع اللغة العربية، القاهرة لا ط 1985. - شرح المفصل: ابن يعيش، عالم الكتب بيروت لا ط. - شعر أبي زيد الطائي: مطبعة المعارف، بغداد ط 1 1967. - شعر عمرو بن أحمر: مجمع اللغة العربية، دمشق لا ط. - شعر الكميت: مكتبة الأندلس، بغداد لا ط 1969. - الطرائف الأدبية: عبد العزيز الميمني، دار الكتب العلمية بيروت لا ط. - العقد الفريد: ابن عبد ربه، لجنة التأليف والترجمة والنشر مصر ط 3/ 1965. - عيون الأخبار: ابن قتيبة، دار الكتب العلمية بيروت لا ط. - غريب الحديث: ابن الجوزي، دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1985. - فقه اللغة: الثعالبي، دار ومكتبة الحياة بيروت لا ط. - القاموس المحيط: الفيرزوآبادي، مؤسسة الرسالة بيروت. - الكتاب: سيبويه، عالم الكتاب بيروت ط 3/ 1983. - لسان العرب: ابن منظور، دار صادر بيروت. - ما اتفق لفظه واختلف معناه: ابن الشجري "تحقيق أحمد بسج"، دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1996. - مجمع الأمثال: أبو الفضل الميداني، دار القلم بيروت لا ط. - مجمل اللغة: أحمد بن فارس، مؤسسة الرسالة بيروت ط 2/ 1986. - المزهر في علوم اللغة: السيوطي، دار الفكر بيروت لا ط. - المعاني الكبير: ابن قتيبة، دار الكتب العلمية بيروت ط 1/ 1984. - معجم الأدباء: ياقوت الحموي، دار صادر بيروت لا ط. - معجم الشعراء: المرزباني, دار الكتاب العلمية بيروت ط 2/ 1982. - معجم العين: الخليل بن أحمد، دار الهلال بيروت. - معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس، الدار الإسلامية بيروت، 1990. - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: مكتبة بريل، ليدن.

- المفضليات: المفضل الضبي، تحقيق أحمد بن محمد شاكر وعبد السلام هارون، بيروت ط6. - النهاية في غريب الحديث: ابن الأثير، مؤسسة إسماعيليان قم بإيران ط1. - النوادر في اللغة: أبو زيد سعيد بن أوس، دار الكتاب العربي بيروت ط 2/ 1967. - وفيات الأعيان: ابن خلكان، دار صادر بيروت لا ط. - يتيمة الدهر: الثعالبي، دار الكتب العلمية بيروت.

الفهرس

الفهرس: 5 مقدمة المحقق: التعريف بـ"ابن فارس". 11 خطبة الكتاب أبواب الكتاب 13 باب القول على لغة العرب: أتوقيف أم اصطلاح 15 باب القول عَلَى الخط العربي 19 باب القول على أن لغة العرب أفضل اللغات 24 باب القول في لغة العرب وهل يجوز أن يحاط بها 25 باب القول فِي اختلاف لغات العرب 28 باب القول فِي أفصح العرب 29 باب اللغات المذمومة 32 باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن 32 باب القول فِي مأخذ اللغة 32 باب القول فِي الاحتجاج باللغة العربية 35 باب القول على لغة العرب: هل لها قياس 36 باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها 39 باب انتهاء الخلاف فِي اللغات 40 باب مراتب الكلام 41 باب ذكر مَا اختصت بِهِ العرب 44 باب الأسباب الإسلامية 47 باب القول فِي حقيقة الكلام

48 باب أقسام الكلام 50 باب الفعل 50 باب الحرف 51 باب أجناس الأسماء 52 باب النعت 52 باب القول عَلَى الاسم: من أي شيء أخذ؟ 53 باب آخر فِي الأسماء 56 باب مَا جرى مجرى الأسماء 57 باب الأسماء التي تسمى بِهَا الأشخاص 58 باب القول في أصول الأسماء 59 بال الأسماء كَيْفَ تقع عَلَى المسميات 61 باب الاسمين المصطلحين 62 باب فِي زيادات الأسماء 63 باب الحروف 63 باب ذكر دخول "ال" في الأسماء. 64 باب الألف المُبْتَدأ بها 64 بابُ وُجوه دُخول "الألف" فِي الأفعال 65 باب شرح جمل تقدَّمت فِي أَلِفات الوصل 66 باب "الباء" 70 باب التاء 70 باب الثاء 71 باب الجيم 71 باب الحاء 71 باب الخاء 71 باب الدال 71 باب الراء 71 باب السين 71 باب الفاء

72 باب القاف 72 باب الكاف 74 باب اللام 77 باب الميم 77 باب النون 78 باب الهاء 78 باب الواو 81 باب الياء 83 باب القول عَلَى الحروف المفردة 87 باب الكلام فِي حروف المعنى 87 باب أم 88 باب أو 90 باب إي وأي 91 باب إنَّ وأنَّ وإنْ وأنْ 92 باب إلى 93 باب ألا 93 باب إنما 94 باب إلا 96 باب من الاستثناء آخر 97 باب إيا 98 باب إذا 99 باب إذ 100 باب إذًا 100 باب أي 100 باب أنى 101 باب أين، أينما، أيان، الآن 102 باب إِما لا 103 باب أمَّا وإِمَّا

103 ومما أوله باء 103 باب بلى 103 باب بل 104 باب بله 104 باب بيد 105 باب بينا وبينما 105 باب بعد 105 ومما أوله تاء 105 باب تعال 105 ومما أوله ثاء 105 باب ثُمَّ 107 باب ثَمَّ 107 ومما أوله جيم 107 باب جير 107 باب لا جرم 108 ومما أوله حاء 108 باب حتى 109 باب حاشا 109 ومما أوله خاء 109 باب خَلا وَمَا خَلا 109 ومما أوله راء 109 باب رب 110 باب رويد 110 باب ذو وذوات 111 باب سوف 111 باب سوى 111 باب سيما 112 باب شتان

112 باب عن 112 باب على 113 باب عوض 113 باب عسى 113 باب غير 114 باب في 114 باب قد 114 باب كم 115 باب كيف 116 باب كاد 116 باب كان 117 باب كأين، كأن 118 باب كلا 119 باب لو، لولا 120 باب لم، لما 120 باب لن، لا 120 باب لات 123 باب لدن، لدى 124 باب ليس 124 باب لعل، لكن 125 باب مذ، منذ، ما 126 باب مِنْ 127 باب مَنْ 127 باب مه، مهما 128 باب متى، نَعَم، نِعْم، هلم 129 باب ها، هات، ويكأن 130 باب أولى 130 باب يا

133 باب معاني الكلام 133 باب الخير 138 باب الأمر 141 باب الخطاب 142 باب أقلِّ العدد الجمع 143 باب الإفهام، والفهم 144 باب معاني ألفاظ العبارات 146 باب الخطاب المطلق والمقيد 147 باب الشيء يكون ذو وصفين 149 باب سن العرب في حقائق الكلام والمجاز 152 باب أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق 153 باب القلب 154 باب الإبدال 154 باب الاستعارة 156 باب الحذف والاختصار 157 باب الزيادة 158 باب التكرار 159 باب العموم والخصوص 160 باب الفعل 161 باب الواحد يَرادُ به الجمع 161 باب الجمع يراد به واحدٌ واثنان 162 باب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع 163 باب تحويل الخطاب من الشاهد إلى الغائب 164 باب تحول الخطاب من الغائب إلى الشاهد 164 باب مخاطبة المخاطب ثم جعل الخطاب لغيره 165 باب الشيئين ينسب الفعل إليهما 166 باب نسبة الفعل إلى أَحد اثنين 166 باب أمر الواحد بلفظ أمر الاثنين

167 باب الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو راهنٌ أو مستقبل 167 باب المفعول يأتي بلفظ الفاعل 169 باب معاني أبنية الأفعال 170 باب الفعل اللازم والمتعدي 170 باب البناء الدال على الكثرة 171 باب الأبنية الدالة في الأغلب على معان وقد تختلف 171 باب الفرق بين ضدين 172 باب التوهم والإيهام 173 باب البسط في الأسماء 173 باب القبض 174 باب المحاذاة 176 باب الإضمار 177 باب إضمار الحروف 177 باب إضمار الأفعال 178 باب من الإضمار آخر 179 باب التعويض 181 باب من النظم الذي جاء في القرآن 182 باب الأمر المحتاج إلى بيان 183 باب ما يكون بيانه مضمراً فيه 183 باب ما يكون بيانه منفصلاً عنه 186 باب آخر من نظم القرآن 187 باب الإضافة 189 باب التقديم والتأخير 190 باب الاعتراض 191 باب الإيماء 191 باب إضافة الفعل إلى ما وقع به ذلك الفعل 192 باب ما يجري من غير ابن آدم مجرى بني آدم 193 باب اقتصارهم على ذكر بعض الشيء

195 باب الحمل 196 باب التهكم والهزء 197 باب الكف 197 باب الإعارة 198 باب أفعل في الأوصاف لا يراد له التفضيل 199 باب نفي الشيء 200 باب الشرط 200 باب الكناية 203 باب الشيء يأتي مرة بلفظ المفعول ومرة بلفظ الفاعل 203 باب الزيادة في حروف الفعل للمبالغة 204 باب الخصائص 205 باب نظم للعرب لا يقوله غيرهم 206 باب إخراجهم الشيء المحمود بلفظ يوهم غير ذلك 206 باب الإفراط 207 باب نفي ضمنه إثبات 207 باب الاشتراك 208 باب الاستطراد 209 باب الإتباع 209 باب النحت 210 باب الإشباع والتأكيد 210 باب الفصل بَيْنَ الفعل والنعت 211 باب الشعر 215 رسالة أحمد بن فارس لأبي عمرو محمد بن سعيد الكاتب 227 ثبت المصادر والمراجع 231 الفهرس

§1/1