الشيوعية في الميزان

محمد علي عبد السميع

الإنسان متدين بطبعه

الشيوعية في الميزان لفضيلة الشيخ/ محمد علي عبد السميع - كلية الدعوة وأصول الدين الإنسان متدين بطبعه: لقد خلق الله هذا الكون لغاية فاضلة وحكمة سامية؛ فلم يخلقه لهوا ولا عبثا، وإنما خلقه للدلالة على ذاته وعنوانا على قدرته وإحكامه، ثم اقتضت حكمته تعالى أن أرسل من لدنه رسلا لينقلوا الناس من دياجير الجهل والظلام ومهانة الإفك والضلال إلى نور العلم والعرفان؛ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . وإن الناظر في هذا الكون العجيب ليرى الأدلة ناطقة على حكمة خالقه، والبراهين ساطعة على قدرة موجده، ولقد درج الإنسان من مبدأ الخليقة على التديّن والإقرار بأن للوجود إلها هو مسيّر أمره ومدبّر شأنه، والجماعات الإنسانية على مدى العصور والدهور وإن لم تتفق على من هو ذلك الإله، إلا أن الشعور من قرارة نفس كل فرد يناديه بأن قوة قاهرة هي المسيطرة على الوجود، وبالتالي يسميها الإنسان بالإله. ومردّ ذلك الاختلاف بين الجماعة الإنسانية هو أن الديانات السماوية وإن أجمعت على أن إله الكون هو الله تعالى الذي لا إله إلا هو، إلا أن كثيرا ما كان ينحرف الناس عن تعاليم تلك الديانات؛ فيرمزون إليه بكوكب تارة، أو بحيوان تارة أخرى، أو غير ذلك من الأشياء التي يرون فيها القوة الخارقة والقدرة الفائقة؛ لاستشعارهم أن الإله لا بدّ أن يكون ذا جبروت لا يبارى واقتدار لا يجارى، وفي بعض الأوقات يرمزون إليه بشيء يجدون احتياجهم إليه شديدا، وأن حياتهم متوقفة عليه، وليس بلازم

أن يكون ذا بأس وقوة. كل هذه المعاني وتلك الاتجاهات من الإنسان تدل على اقتناعه في قرارة نفسه على أن للوجود إلها هو الذي إليه يرجع الوجود في كل أمر من أموره. استمر الأمر على ذلك قرونا وقرونا وأجيالا وأجيالا يسطع نور الحق، حاملا مشعله رسول يرسل أو نبي يبشر، ويخبو نوره تارة أخرى عندما تمتدّ الفترة بين الرسل؛ فتنتكس عقائد الناس ويركسون في الضلالة من جديد، حتى أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، ورسولا إلى الخلق كافة؛ فملأ هداه الخافقين وانتشر نبأ رسالته في المشرقين، وهناك في أوربا وآسيا كانت المسيحية ضارية شرسة في القرون الوسطى، وكان لرجالها سلطان قوي، وكان للقياصرة في روسيا بأس شديد؛ فتسلل أحد قساوسة اليهود إلى صفوف هؤلاء القياصرة، وكان داعرا منحلا؛ فأشاع الدّعر والعهر بين صفوف هؤلاء القياصرة من حكام روسيا، فشوّه بذلك صورتهم ولطّخ بهذا الصنيع سمعتهم، فظهروا في أعين الناس بمظهر منبوذ كريه كما ظهر بهذا المظهر ذلك القسيس، وهنا أصبح رجال الدين والحكم في نظر العامة عنوانا على الفساد الخلقي والانحلال السلوكي؛ فتبرّم الناس بالقياصرة رجال الحكم وبالقساوسة رجال الدين، وقد كان الناس يئنون من بشاعة حكم هؤلاء وتسلّط أولئك؛ فوجدوا الفرصة سانحة لأن ينفضوا عن أنفسهم غبارا طال ما تراكم عليهم، وكتم أنفاس التخلص تغلي في صدورهم؛ فقرّروا أنه لا بد من التخلص منهما معا؛ لأن كلا منهما ظهر بصورة حطّت من شأنه وهوّنت من احترامه في نفوس الناس.

تبديل وتغيير

تبديل وتغيير: فقام يتزعم الناس رجل يقال له ماركس، مناديا بسقوط القياصرة؛ فتهلل الناس لندائه واستجابوا له مندفعين ثائرين غير عابئين بما يترتب على ذلك من نتائج، وحتى لا يقوم معارض لتلك الجماعات الثائرة يقف في سبيلهم باسم الدين نادى ماركس وأتباعه بأن الدين خرافة، وأن كلّ منتم إليه مفتر كذّاب، ولكي يذيعوا الرعب في نفوس الناس أعملوا المناصل في رقاب رجال الدين؛ إسكاتا للمعارضين ودحرا للمحتجين على قتل من قتل من الحاكمين، وحتى لا يوجد بعد ذلك من يناصر هؤلاء أو هؤلاء غيّروا نظام البلاد السياسي إلى نظم أخرى سمّوها بأسماء خلابة، ووضعوا عليها لافتات براقة لتستهوي الناس وتستميل

البائسين والمحرومين. والحديث عنها يطول وليس هذا مجاله. أما الدين فلم يغيروه، بل أنكروه مدّعين أن الدين لن يصلح نفوسا ولن يربي أرواحا؛ إذ لو كان كذلك لظهر أثره في رجاله الآثمين الذين تحالفوا مع القياصرة وأباحوا لهم ولأنفسهم ضروبا من الفساد تقشعّر لذكرها الجلود وتتقزز لسماعها النفوس.

إنكار وافتراء

إنكار وافتراء: وحتى لا يحاول بعد ذلك إنسان ما أن يردّد صوت الدين أو نغمة التدين أنكروا وجود الله، وبفريتهم هذه اضطروا إلى القول بأن العالم الذي هو صنعة الله موجود بالصدفة تلقائيا أي: بدون حكمة أو تدبير، أو بالتفاعل أي: بتأثير جزئياته بعضها في البعض بمعنى أن الشيء مؤثر ومتأثر. وبذلك نخلص إلى أن مبادئ الشيوعية من حيث العقيدة تتلخص في شيئين اثنين: (1) إنكار وجود الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (2) أن وجود العالم بطريق الصدفة أو التفاعل.

تدليل باطل

تدليل باطل: ولقد سلك ماركس - عليه اللعنة - في التدليل على دعواه الباطلة مسلكا عجيبا، وتبعه في ذلك لينين ومن نحا نحوه؛ فيرى ماركس أن كل موجود لا بد وأن يُرى، وحيث إن الله لا تراه عيوننا في دار الدنيا فاستنتج من ذلك أنه غير موجود، وكأنه جعل الإقرار بوجود الله كالتسليم بنتيجة نظرية من النظريات الطبيعية المادية؛ لأن المادة عنده مكونه من عناصر، وكل عنصر مغاير للآخر فله خصائصه ومميزاته، وكل عنصر مركب من جزئيات، وكل جزئية لها خصائصها ومميزاتها، إذن كل هذه الأشياء متمايزة متغايرة ولا يمكن معرفة تمايزها وتغايرها إلا برؤيتها بالعين أو إحساسها بإحدى الحواس الأخرى التي بها تميّز الأشياء ويفرّق بينها عند الإدراك، وكأنه يريد بذلك أن يقول - لا بل قال -: إن الله فرد من أفراد المادة يخضع لقوانينها، ويقاس بمقاييسها ويوزن بموازينها، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) . ولو أنه لو تريّث هنيهة أو تعقل قليلا لوجد الفطرة من أعماقه تناديه إن للعالم إلها إليه تهرع في الملمات وتلجأ إلى رحمته عند النكبات، وهو مغاير لذلك العالم في ذاته وصفاته، وإلا ما كان للجوء إليه دون غيره معنى أو مدلول، وما صرخة ذلك المهندس الشيوعي مستغيثا بالله

عندما هوى ابنه من جانبه من أعلى الصرح إلا تعبيرا صادقا ودليلا قاطعا على أن الفطرة مهما طمسها الضلال وطغى عليها الكذب والبهتان لا بد وأن يشعّ وميضها بين تلك الجحافل الآثمة، ويلمع بريقها من خبايا تلك الافتراءات الملحدة معلنا أن للوجود إلها خلقه بقدرته وسيّر أمره بإرادته، ولو أن الملحدَيْن الخبيثين (ماركس ولينين) استجابا لنداء الفطرة لأيقنا بأن للعالم إلها، ولكن كيف يكون منهما ذلك وقد أغرقا في الكذب والافتراء والإلحاد والكفران. ولندع اعتقادهما؛ فذلك لا يعنينا، ونناقش الفكرة والدليل فهي التي في الأمر تهمنا وتعنينا. ففكرتهم أو مبدؤهم هو أنه لا وجود لله، ودليلهم أن الله لم تره أعيننا، وحيث إن الأمر كذلك فهو غير موجود.

نقاش وإبطال

نقاش وإبطال: إننا إذ نناقش هذا الدليل نجد أن بطلانه أهون من أن يوجه إليه طعن، وأن انهياره ليس بمحتاج لعناء. فنقول: إذا كان لا بدّ من رؤية كل موجود، وأن الشيء الذي لا يُرى لا يكون موجودا فماذا تقولون في الروح التي بها حياة الفرد هل هي موجودة مع كونها لم تُر، أم أنها ليست موجودة؟ إن قلتم بالأول فقد غايرتم بين الموجودات في صفة هي مردّ الحكم، وإن قلتم بالثاني فقد ادّعيتم إفكا وزورا؛ لأنها موجودة بالضرورة؛ إذ بها تكون حياة الفرد. والعقل الذي به نفكر وندرك هل موجود أو معدوم؟ إن قلتم إنه معدوم فقد افتريتم كذبا وقلتم بهتانا وإدا، وإن قلتم إنه موجود - ولا مناص لعاقل أن يقول غير ذلك - فهل ثبتت لديكم رؤيته، أم أنكم تقولون بوجوده والحال أنكم لم تروه؟ فإن قلتم بالأول فالواقع يصفع عقولكم ويبطل دليلكم، وإن قلتم بالثاني فقد أقررتم بوجود شيء لا نستطيع رؤيته، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تعترفون بحكم بالنسبة لأمر وتنكرونه بالنسبة لآخر؟ وهو أن بعض الموجودات لا يمكن رؤيتها، وبذلك يكون الله تعالى موجودا ومع ذلك لا تراه الأبصار {لا تُدْرِكُهُ الأََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأََبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .

تعصب ممقوت

تعصب ممقوت: إن ماركس وأتباعه الذين اتخذوا الشيوعية لهم عقيدة ومبدءا لا يواكبون مسار العلم والعقل، بل يشايعون التعصّب للباطل ومظاهرة الضلال والجهل؛ إذ من القواعد العامة والأمور الثابتة التي

لا تقبل نقاشا ولا جدلا أن الأشياء إذا كانت لها صفة توفرت فيها جميعها يكون الحكم عليها باعتبار تلك الصفة واحدا، وتخصيص فرد منها بحكم دون الآخر تعصّب ممقوت وتحيّز مردود. من هذا ننتهي إلى أن العقل والروح كل منهما موجود، ولم يثبت أن إنسانا ما في الوجود رآهما أو رأى واحدا منهما، ولا يوجد إنسان ما ينكر وجودهما، وحيث إن الأمر كذلك فإذاً تقرِّر البديهة أن الشيء يكون موجودا ومع ذلك لا يرى؛ إذ ان عدم رؤيته لا تطعن في وجوده، وقد ثبت ذلك بالنسبة للروح والعقل، إذاً عدم رؤية الله تعالى لا تطعن في وجوده، إذاً فالله موجود وإن لم تره العيون، وإن العقول السليمة تقرر في جلاء ووضوح ودون شك أو ريب أن الله تعالى موجود؛ لأنها تدرك البرهان على ذلك في كل شيء دالا على قدرته، شاهدا بعلمه وحكمته، ناطقا في كل وقت وحين، تبارك الله أحسن الخالقين، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .

زيادة إيضاح

زيادة إيضاح: إن الأدلة كثيرة ناطقة وعديدة واضحة، وجميعها تدل على وجود الله تعالى؛ فهذا النظام البديع الذي يسير عليه الكون، وهذا الإبداع المعجز الذي وجد عليه العالم يدل على أن للكون إلها، بقدرته خلق الوجود، وبحكمته أبدع كل مخلوق، ووجود تلك الأنواع المتعددة، وكثرة تلك الخصائص المتباينة أصدق دليل على وجوده تعالى. وقولهم إن العالم وجد بطريق الصدفة فهذا أمر لا يسلم به عاقل؛ إذ كيف تنتج الصدفة هذا النظام البديع، والمعلوم أن السمع لا يهبه لفرد إلا عالم بقانون السمع، وكذلك كل صفة من الصفات التي يسعد بها الإنسان والتي لا بدّ لوجودها من تدخل وقدرة عالمة حكيمة مدبّرة، ولا يمكن القول بأن تلك القدرة من جنس تلك الموجودات، وإلا لأمكن غيرها أن ينازعها أو يبطل عملها؛ إذ المفروض أن الجميع متساوون في كل شيء، وإن قانون التأثير والتأثر يحتم تقدم المؤثر على المتأثر، والمفروض أن كلا منهما يساوي الآخر تماما؛ فإذاً يكون الشيء على هذا موجودا ليوجد ومعدوما ليوجد، وهذا باطل، كما وأنه لا بدّ من كون تلك القوة المؤثرة مغايرة لما عداها في كل شيء في ذاتها وفي صفاتها حتى تكون قادرة على الخلق والإيجاد، ولا يصح أن تأخذ تلك الصفات عن غيرها

وإلا لكان غيرها مؤثرا فيها، وبذلك يكون شأنها شأن غيرها من المخلوقات، ومعنى هذا أنه لا بدّ وأن يكون وجودها من ذاتها حتى تتمّ المغايرة بينها وبين ما توجد وتخلق. أما قولهم (إن العالم وجد بطريق التفاعل) فنقول لهم مبطلين ما يدّعون: إن المادة التي سيتم التفاعل بين جزئياتها مَنْ الذي أوجدها؟ مَن الذي جعلها قابلة للتفاعل؟ ومَن الذي غاير بينها في الصفات والخصائص؟ لا بدّ من قوة مدبرة حكيمة عالمة بقوانين التفاعل والتغاير، حتى يمكنها أن تعطي ذلك العنصر من الصفات ما يجعله يتفاعل مع ذلك العنصر خاصة بكيفية خاصة؛ لينتج عن تفاعلها شيء خاص، وإلا لو كان التفاعل راجعا إلى عنصرية محضة دون تغاير أو تمايز بين العناصر لكانت نتيجة التفاعل واحدة، ولجاء العالم صورة واحدة متماثلة، كما ينادي بذلك قانون التفاعل في علم الكيمياء؛ لأننا لو وضعنا في مخبر مادتين فتفاعلتا، ثم أحضرنا بعد ذلك آلاف المخابر ووضعنا في كل منها مقدارا من المادتين اللتين وضعتا في المخبار الأول لكانت النتيجة واحدة، ونحن إذا نظرنا إلى العالم وجدنا التغاير بين أفراده وعناصره واضحا ملموسا؛ فلو كان موجودا بالتفاعل بين جزئياته لما وجد ذلك التغاير بين أفراده في خصائصه ومميزاته؛ فهذا معتم وهذا مضيء، وهذا حسّاس نام وذاك جامد لا ينمو، وهذا يعيش في الماء ويموت في اليابس وهذا على العكس من ذلك، إلى غير هذا مما تراه العين، ولا ينكر التغاير بينه وبين غيره إلا مكابر أفّاك ومدّع كذّاب، ولله درّ القائل ردا على منكري وجوده تعالى: رباه مالي في الكروب سواك ... فهرعت ربي أحتمي بحماك رباه إني قد نشدت سعادتي ... فوجدتها مقرونة بتقاك يا رب أنت الخالق الباري ومن ... ينكر وجودك يصبح الأفاك يا مؤمنا قل للذي زعم الطبيعة ... موجدا من ذا الذي سوّاك يا من تخبط في الضلالة سادرا ... من أبدع الإيجاد في دنياك إن كنت تسعى للحقيقة صادقا ... متطلعا للخير في أخراك من ذا الذي قد شق سمعك محكما ... ومن الذي بالنطق قد حلاك والعين من أعطاك فيها مقلة ... ومن الذي بالحسن قد أولاك

ومن الذي يعل الجبال رواسيا ... وأقام في شتى السهول رباك ومن الذي رفع السموات العلا ... من غير أعمدة ترى عيناك مزدانة بكواكب تجري على ... طول المدى لا تخطئ الأفلاك هو خالق الأكوان جل جلاله ... بالخير والإنعام قد ربّاك يا منكر الله إنك مغرق ... في الإفك بل والله ما أشقاك إن العجائب في الوجود كثيرة ... وإلى المهيمن ترشد الإدراك فالسم في الأفعى يصون حياتها ... وإذا أصابك بعضه أرداك والنحل في زهر الرياض غذاؤه ... والشهد من عاني السقام شفاك بالماء نحيا والحياة رغيدة ... وإذا طغى يوما يصير هلاكا والحوت يسبح في الخضم موحدا ... واليبس يفني الحوت والأسماك في الصخر يحيا الدود غير منغص ... والطير في كبد السما أشجاك والشمس ترسل في النهار شعاعها ... ينمي الزروع ويقتل الفتاك والليل يمسح بالنعاس عناءنا ... وبدونه لن نستطيع حراكا والنجم للسفن المواخر مرشد ... والبدر يؤنس في الدجى مسراك والعقل ينتج للأنام حضارة ... وبدونه لن تستبين خطاك والروح سرّ في الجسوم وعلمه ... عند الذي من فضله أحياك والقلب ينبض في المنام ونبضه ... للحق والإيمان قد ناداك تلك العجائب لا تنظم صدفة ... لكنها صنع الذي يرعاك وجميعها فيها الدليل مؤيّدا ... قولي فماذا يا عنيد دهاك والعقل يدمغ ما تقول بداهة ... وعن الغواية يا شقي نهاك والكون يلهج بالثناء جميعه ... لله تقديسا وما جاراك لكنك الغاوي الأثيم ومن غوى ... نبذ الورود وفضّل الأشواك عطلت عقلك يا غوي حماقة ... وتجنّبت صوت الهدى أذناك وركبت من بحر الضلالة لجة ... وتسابقت نحو الردى قدماك أما التفاعل إن نقل هو موجد ... أو مبدع شيئا فما أغواك إن التفاعل في النتائج واحد ... والكون فاض تغاير أخزاك

هذا التغاير في الخصائص مثبت ... فعل الإله ومبطل دعواك فارجع عن الإنكار إنك مفتر ... والجهل بالبهتان قد أغراك وانهض لربك بالقداسة هاتفا ... سبحانك اللهم جل علاك ذات الإله عن المثيل تقدست ... لا يشبه القدوس ذا أو ذاك ودع المآتم تائبا مستغفرا ... فالله في جنح الظلام يراك خطرات نفسك في الظلام أو الضحى ... ليست بخافية على مولاك لك خالقي كل الكمال منزها ... عما يفيد النقص والإشراك تعطي وتمنع من تشاء بحكمة ... والكون يا رحمان في يمناك فاحفظ إلهي القلب من زلاته ... وجعله ربي مشرقا بسناك هذا بيان مجمل عن الشيوعية وما تنادي به، والمؤسف المؤلم أن بعض دول العالم العربي - وهم يدينون بدين الإسلام - ينادون بالاشتراكية، بل اتخذوها لهم شعارا ومبدأ، ونحن نتساءل من أي لون هذه الاشتراكية؟ هل هي اشتراكية علمية أم اشتراكية ديمقراطية؟ بمعنى هل هي عقيدة أم مذهب؟ إن كانت عقيدة فهي تساوي الماركسية تماما في أهدافها وغاياتها، ولا تختلف عنها إلا في الاسم فقط، وهذا الذي نقوله بناء على تعريفها وبيان كنهها عند الماركسيين أنفسهم حتى ولو سموا الماركسية بالاشتراكية؛ لأنهم جعلوا من ضمن مبادئهم الشيوعية أنه لا مانع من التضليل والكذب والبهتان ووضع أسماء على غير مسمياتها ما دام يؤدي ذلك الخداع والكذب إلى الهدف المنشود، أما إن كانت اشتراكية ديمقراطية - أي أنها مذهب اقتصادي فقط لا شأن له بالعقيدة والخلق - فما أغنانا عنه بما عندنا من تراث إسلامي عريق نهض بالعرب من الحضيض إلى أوج السعادة والرقي البشري، يوم أن قاد جماعة المسلمين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التراث الإسلامي العظيم ممثل في الفقه الإسلامي، وإن أولئك الذين ينادون بالاشتراكية مذهبا اقتصاديا، ويرهقون أنفسهم في الدعوة له والدعاية إليه لو أنهم اطلعوا على الفقه الإسلامي لأغناهم ذلك عن كل هذا العناء، يا قومنا أجيبوا داعي الله واحكموا بما أنزل على نبيه، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . إن الإسلام دستور كامل أسعد البشرية يوم أن استظلت بظلاله، ويسعدها اليوم إن هي التزمت أحكامه وارتضت

قضاءه؛ ففيه السياسة والاقتصاد والحرب والسِّلم والسلوك والاجتماع والروح والمادة وجميع ما يحتاج إليه بنو الإنسان في حياتهم، إن الإسلام من وضع خالق البشر، العليم بما يصلح شأنهم ويقوّم معوجهم ويسعد جماعتهم، وينهض بهم إلى أسمى درجات السعادة والرقي؛ لذلك أودعه كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ولله درّ القائل: بالمصطفى الهادي تألق صبحنا ... وتبددت بجيوشها الظلماء قد جاء والإلحاد في طغيانه ... وعلى الأمور يسيطر الجهلاء فأقام بالتوحيد أعظم ملة ... فيها لمن يبغي العلاج شفاء وهي للحياة سدادا ورشادها ... هي للوجود الكوكب الوضاء هي للشعوب بلا سم لجراحها ... هي في الهجير الروضة الغناء دستورها القرآن فاض هداية ... وبغيثه جدب الحياة رخاء في هرم الزمان ولم يزل في هديه ... للمسلمين العزة الشماء يا قومنا اضربوا على أيدي المتطرفين الملحدين الذين يدينون بالشيوعية؛ فإنهم في جسم الأمة الإسلامية كالسرطان، يهدمون كيانها ويقوضون كل مقوماتها، ولا تربطهم بفرد فيها رابطة من خلق أو دين؛ إذ الرابطة بينهم هي مبادئ الشيوعية فقط دون غيرها من روابط اجتماعية أو أسرية أو روحية أو قومية أو وطنية، بمعنى أن الشيوعي في مشرق الأرض أولى بالشيوعي في مغربها من أمه وأبيه أو ابنه وأخيه؛ فكل القيم منهارة في نظر الشيوعي أمام عقيدته التي يبذل في سبيلها كل شيء، فهل يصح ونحن نؤمن بالله وبرسوله أن ندع الخطر يستشري ونحن سكوت زاعمين أننا لن نمكنهم من الوصول إلى مركز القيادة والسلطة، فهذا لا يعفينا من المسئولية، وإلا كان مثلُنا كمثل من أرادوا خرق السفينة ليصلوا إلى الماء دون عناء فإن تركهم من هم في أعلاها غرقوا جميعا وإن منعوهم سلموا جميعا، فنحن إن وقفنا عند هذا الوضع السلبي كان ذلك أخذا للأمور الخطرة بسهولة لا توائم بعض ما يجب أن تؤخذ به من الاهتمام والجدّ. يا قومنا إن الأمر جدّ خطير؛ فالشيوعية بلاء ومحنة، وهي - كما سبق أن قلت -كالسرطان يعايش الإنسان زمنا طويلا، ولا يظهر له خطر ولا يبدو منه أذى، حتى إذا

ما اكتملت قدرته على الهجوم وشرست استطاعته على الفتك انقضّ عاتيا لا يرحم، جبارا لا يتفاهم، كل همه الوصول إلى غايته والحصول على مأربه مهما شرّد أو قتل أو هدم أو دمّر؛ لأن الغاية عنده تبرر الوسيلة، وهل يوجد أحطّ مستوى ممن يبيح لنفسه الخداع والكذب والتضليل والتمويه، بل يجعلها من مبادئه وأخلاقه ما دامت تصل به إلى مقاصده وأهدافه. يا قوم إن الشيوعية في تقديرها لبعض الأمور وخاصة المعنوية منها أخطر من بعض فصائل الحيوان، وإن ادّعى معتنقوها سموّ إحساسهم ورِقَّة وجدانهم، وإن تباكوا على الإنسانية المعذّبة التي يدعون أنهم يريدون إسعادها، وتخليصها من نير الذل والاستعباد، وتحكم الإقطاع والاستغلال، وجموح رأس المال المستبد الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة في نظرهم، إلى غير ذلك من العبارات الخادعة الخلابة التي يخدعون بها الشعوب، ويغشون بها الجماعات، حتى إذا ما وقعت في الفخ الذي نصبوه واحتواها الشرك الذي حاكوه ذاقت من الذل ألوانا يشيب لها الولدان وتضطرب لذكرها الأبدان. أي سعادة في نظام يجعل إنكار الإله عقيدة، والتناحر بين الطبقات مبدأ، وإشاعة الهلع بين الأفراد طابعا، وخيانة الابن لأبيه والزوجة لزوجها بالتلصص عليهما سلوكا ومنهجا، ثم أي سعادة في هذا النظام الذي يسلب الفرد قسرا ما امتلك بحجة التأميم لصالح الدولة؛ لأنها هي التي يجب أن تملك وسائل الإنتاج ورأس المال، أليس ذلك قتلا لغريزة حب الاقتناء التي هي جزء من مقومات الإنسان التي تدفعه إلى العمل راضيا بما يجد من مشقة وعناء؟ ثم هذا الإنتاج الذي هو ثمار شقاء الطبقات الكادحة المحرومة إلى أين يذهب؟ ومن الذي في خيره ونعيمه يتقلب؟ أليست تلك الفئة الباغية الحاكمة التي تقبض على نواصي الأمور بقبضة من حديد، ولا ترى الشعوب إلا سوط الإرهاب تلوح به في الفضاء بدا ليفي والاستعباد لابسة قفازا من الحرير تخدع الشعوب بملمسه، وهي لا تعرف ما بداخله من ظلم وفساد وعتو واستبداد.

لا تصح المقارنة

لا تصح المقارنة: إنه لا تصح المقارنة بين نظام هذا طابعه وتلك المذكورة آنفا أهدافه وغاياته، وبين الإسلام الذي هو في أسمى درجات الرقي بين النظم الاجتماعية التي سعد بها بنو الإنسان؛ فلا استغلال فيه ولا عسر في العمل والإنتاج، إنما عن اقتناع وإيمان يعمل الإنسان في

الإسلام؛ لأن له ثمرة ما يعمل، وهو مع ذلك يؤدي ما عليه من واجبات يسهم بها في بناء المجتمع الإسلامي السعيد الذي هو حلية نافعة في جسمه الكبير، وبهذا يعلن الإسلام بين بنيه ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط؛ فهو بذلك يحقق الخير لنفسه ولغيره، فالإسلام بذلك نظام محكم؛ فليس أنانية محضة كما هي الرأسمالية المستقلة، وليس حرمانا محضا كما هي الشيوعية الملحدة، بل هو وسط بين نقيضين؛ فحرّم الرّبا وحثّ على الإنفاق والصدقة بعد تأدية فرض الزكاة "لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع"، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . فهل يداني هذا النظام قانون ما من القوانين التي تستنها الدول تخفيفا لآلام الفقراء والعاجزين؟ ثم هو لا يجرد الإنسان من الامتلاك بل جعل له ذلك الحق بشرط ألا يعتدي على حق غيره أو يسلبه ماله؛ فإن فعل ذلك فله في الدنيا خزي وعار وفضيحة ونكال، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} . إن الإسلام عالج مسألة الاقتصاد علاجا لم يسبق إليه، ولن تستطيع دولة ما أن تصل إلى ما وصل إليه من علاج يحقق الرفاهية لأهله والمساواة الصحيحة بين ذويه؛ فنظام الزكاة والكفارات والمغانم وغير ذلك من وجوه البذل يجعل من المسلمين أمة متكافلة بالمعنى الصحيح، وفي الوقت نفسه لا يعوق الإنسان عن الكسب الكريم الشريف، بل يشجعه ويحث عليه، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". فلا تواكل في الإسلام ولا تعطيل للطاقات ولا مصادرة للأموال والممتلكات؛ لأن كل نظام فيه أقيم على أساس سليم، فكل فرد في الدولة الإسلامية عضو من أعضائها تحسّ به ويحسّ بها وترعاه ويعمل من أجلها، بل يتفانى بحق في سبيلها مدفوعا لذلك بشعور صادق وإيمان عميق؛ لأنه يراها الأم الحانية والراعي الذي لا يدّخر وسعا في سبيل سعادته، بخلاف الشيوعي؛ فهو يعمل ولكن على مضض يعمل، وهو ينتج ولكنه من وجل ينتج، بل في وسط اللهيب وعلى القنا يسير؛ لأنه يرى أن يد البطش القاسية مسلطة عليه، والجاسوسية القذرة متربصة به؛ فهو لا يأمن على نفسه، وليس بمستريح

ضميره طول حياته؛ لأنه خدع بألفاظ لم يجد لها مدلولات، وبعبارات لم يلمس لها مفهوما، فهو على يأس يعيش متمنيا ساعة الخلاص، ولكن هيهات هيهات أن تمكنه مما يريد، تلك الشرذمة الطاغية المتسلطة عليه فهي لن تدع له فرصة يتمكن فيها من الفرار من ميدان الذل والاستعباد والتسخير والاستقلال؛ لأنهم يرون ذله عزا لهم، واستعباده سيادة لجماعتهم، ولذلك كثيرا ما نسمع أن أفرادا غافلوا الحراس وفرّوا من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي؛ لأن الحرمان استبدّ بهم واليأس قد سدّ كل طريق أمامهم؛ فوجدوا ألا خلاص إلا بركوب المخاطر والتعرض للهلاك باقتحامهم الأسوار. هذا من الناحية الاقتصادية التي هي الشغل الشاغل للعالم أجمع، أما ما عدا الناحية الاقتصادية فإن نظاما يقوم على مبدأ الروح والمادة اللذين هما العنصر المكوّن للإنسان لا شكّ أنه يسعد المرء في دنياه وفي أخراه، وهذا ما حقّقه الإسلام لمعتنقيه، بخلاف نظام يقوم على نكران الروح ويجعل الحياة مادة صرفة، وان الشيوعي ما هو إلا قطعة من آلة ما دام تسير فيها الوقود فهي تعمل ولا تفكر وتسير، وحذار أن تلتفت حولها أو تسأل عن شيء بدا لها. فنظام هذا طابعه لا شكّ يشقى معتنقيه ويجعلهم يرزحون طول حياتهم تحت عبء الهمجية الداعرة والفوضوية التي لا تقرّ نظاما مهذّبا أو دستورا كريما ساميا يرتقي ببني الإنسان عن مستوى الهوام والحيوان، وبذلك اتضح الأمر لذي عينين، وأميط اللثام عن نظامين ومنهجين، أحدهما في أسمى درجات الرفعة والعلو وهو الإسلام، والثاني من أحطّ دركات الحضيض والامتهان، وهو الشيوعية، وتلكم ما هي إلا نظام الإلحاد والكفران.

§1/1