الشورى في الشريعة الإسلامية

حسين بن محمد المهدي

الغلاف

بسم الله الرحمن الرحيم الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية تأليف: حسين بن محمد المهدي عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية حقوق الطبع محفوظة للمؤلف سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة بدار الكتاب برقم إيداع 363 في 4/ 7 / 2006م

_ مكتبة المحامي: أحمد بن محمد المهدي بريد: [email protected]

بين يدي الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم بين يدي الكتاب بقلم القاضي/ جمال قاسم المصباحي الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا رسول ولا نبي بعده وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فإن كتاب الشورى في الشريعة الإسلامية بدراسته المقارنة للديمقراطية والنظم القانونية, مما يثلج الصدر بعموم فكرته وخصوصيات درسه وملامح طرحه وسلاسة وبساطة عرضه, مع ما اشتمل من وفرة المطالعة وتأصيل الرأي وتنوع التصور عند أهل العلم والرؤى العلمية والشرعية والفكرية والقانونية, فهو بحق قد مدنا بالاغتراف من معين الأصالة الإسلامية وبالمصاحبة للحس والمعروف الطيب من مكارم الأخلاق الإنسانية ونتاج حضارة المجتمع الإنساني الغير معارض لمبادئ الشريعة, ولا غرو على مثل أخينا الأكبر فضيلة العلامة حسين بن محمد المهدي لمثل هذا التصدي العلمي الذي أجاد فيه وأفاد, وأتى بحظ طيب من الشيء الكثير والمواصل لجهود العلماء والفضلاء في مضمار كلمة التنوير والكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء, وذلك لاستمرارية التجديد في الخطاب الإسلامي والفكر الإصلاحي في جنبات الأمة, والذي يجعلني أحسب أن هذا الكتاب يبدوا واحداً من مسددات ومكملات المستلزمات والمراجع المكتبية الإسلامية عصراً ومستقبلاً, وليس بنائي من القول أن أذكر بصاحب الكتاب أنه من بقية امتداد مدرسة الدرس والتحقيق الفقهي والنظري في ساحة الفكر باليمن, وكذلك هو من المخضرمين في الاطلاع والمجالسة والمطالعة والمطارحة العلمية في عصر هذا الجيل الأكاديمي لما بعد الثورة اليمنية المباركة, ولهذا فهو يمثل حلقة وصل بين الجيلين بالفعل, ولا أبالغ إذا قلت وأنا في طرب وسرور عند استطلاعي في طيات الكتاب لأقول ما قاله شعراً ومبالغةً

أحد شعراء القرن التاسع الهجري وهو يشاهد ختم كتاب فتح الباري للحافظ العلامة ابن حجر العسقلاني, فقال: هذا المنار الذي للعلم منتصبٌ ... الله أكبر كل الفضل في العربِ ثم أقول في الختام حسبي وحسب المطالع والمستفيد من الكتاب ما يلمس من إخلاص الجهد والعمل وبذل النصح مع الخاص والعام باتساع عارضه وواسطه ضليعة من آلة اللغة بالتدبر لعلم الكتاب العزيز والسنة المطهرة وتصور وتوجهات أئمة الدين وأهل الفضل بما يجسد التفكر أنه محاولة للسير مع الآية الكريمة: (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَأهم اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (¬1) , صدق الله العظيم. ¬

_ (¬1) - الآيات 17و18 سورة الزمر.

تقديم د. عبدالعزيز المقالح

تقديم د. عبدالعزيز المقالح في عصر التشكيك في البديهيات, عصر خلخلة القيم والمعتقدات الراسخة, لا مناص من البحث عن مداخل علمية موضوعية للخروج من الدوامة وإقامة الجسور الوثيقة بين القيم الجوهرية الربانية وما لا يتعارض معها أو يتصادم بها من انجازات الحاضر الإنساني. وهذا ما تصدَى للقيام به عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين منذ بداية العصر الحديث وحتى اليوم. ولقد كان لجهودهم العظيمة أكبر الأثر في فتح أبواب الاجتهاد وتقنين أحكام الشريعة على ضوء المستجدات الضاغطة من ناحية, ولضرورة تطوير مؤسسات النظام السياسي الراهن من فاجعة قادمة, وليس الكتاب النفيس الذي بين أيدينا سوى واحد من هذه الجهود الفكرية والاجتهادات العلمية الهادفة إلى البحث بموضوعية عن المميزات الأساسية لنظام الشورى الإسلامي. ومن عنوان الكتاب يتبين مضمونه: (الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية) , وهو لصاحب الفضيلة القاضي العلامة حسين بن محمد المهدي, الذي أثرى المكتبة القضائية بكتبه وبأبحاثه وأرائه العلمية السديدة. وأعترف أنني أفدت من هذا الكتاب كثيراً وتجلت لي بوضوح قدرة عالمنا الجليل على أن يضعنا في إطار رؤية فكرية جادة تضاف إلى عدد من الرؤى التي تقف بإجلال إزاء ما استطاع العطاء الإسلامي الحضاري الإنساني أن يقدمه في النظر السياسي ليس إلى إصلاح أحوال المسلمين فحسب؛ بل وإلى إصلاح أحوال من يشاركهم الحياة على هذا الكوكب الأرضي من المخالفين لهم في الرأي وفي الاعتقاد. لقد كانت الإنسانية -في الشرق القديم والغرب القديم- قبل ظهور الإسلام تخضع على السواء لأنظمة قاهرة ومدمرة لروح الإنسان وأسلوب حياته, ولا تزال كثير من الشعوب -حتى اليوم- تخضع لأنظمة لا تقل قهراً وطغياناً رغم الشعارات واليافطات

البراقة وما تحمله من مضامين خاوية على عروشها, في حين كان الإسلام -وهو عقيدة وشريعة- قد نجح بوسطيته وعمق رؤيته في وضع جوهر ما تبحث عنه البشرية من تحقيق للعدل والحرية والكرامة, والخلاص من الاستبداد والقهر السياسي من خلال نظام الشورى الذي يضمن حق كل مواطن في أن يكون له رأيه في من يحكمه أو يتولى أمره (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) , والآية واضحة جلية المعنى, لا تحتاج إلى تفسيرات فضفاضة أو ضيقة, وهي تخص كل مسلم دون استثناء, وتجعل حق الشورى للجميع دون استثناء أيضاً, ونظامها يختلف عن النظم السياسية السائدة في بعض الشعوب التي توصف بالديمقراطية. إن استلهام الحل الجوهري الكامن في الآية الكريمة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) تحدد باختصار وبلا تفاصيل مملة الصورة المثلى لنظام الحكم. وإذا كانت الشورى بهذا المفهوم العام الشامل قد عانت من الإهمال في عصور, وتم تعسف مفهومها في عصور أخرى, فإن المجتمعات الإسلامية الجديدة بعد أن اصطدمت بالنظم السياسية المعاصرة قادرة على أن تستخلص ما يحقق لها أقصى معاني العدل والحرية دون أن تتجنب الإفادة من الإيجابيات المتوفرة في النظام السياسي الحديث أو أن تقع في سلبياته التي جعلت العالم كله يتحدث عما يفعله أكثر من أربعين مليون أمريكي أسود في بلد الديمقراطية الأول غير أن يتفرجوا على صراع المؤسسات المالية النافذة وهي لعلها تتاجر بأصواتهم وبأصوات غيرهم دون أن يكون لهم رأي أو موقف. لقد انشغل السياسيون في العالم الإسلامي على مدى قرن ويزيد في الحديث عن المفهومات المتعارضة بين مصطلحي الشورى والديموقراطية, وسال حبر كثير, وتم استهلاك ما لا يحصى من الورق للتعبير المكرور والممل عن ذلك التعارض, وغاب عن الجميع الاسترشاد بما وصل إليه علماؤنا المجتهدون المستنيرون وما وضعوه من حلول مستخلصة من جوهر المعاني لا من ظاهرها, ومن الغاية المؤدية إلى سعادة البشر وسلامة نهجهم الواقعي الحقيقي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم, بين نظام الحكم ومؤسساته والمجتمع الذي يعطيه ولاءه ويعترف بمشروعيته.

وهذا البحث الشامل الكامل (الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة) شاهد على ما بذله العلماء من جهود مخلصة في هذا السبيل لم توضع موضع التنفيذ ولم تجد طريقها إلى أصحاب الحل والعقد الذين وضعتهم الظروف العالمية الراهنة خارج القدرة على الحل والعقد والإفادة من كل ما توصل إليه المتخصصون من علماء الفقه الإسلامي وعلماء الفقه الدستوري, وهم والحمد لله على درجة عالية من الإخلاص والدراية, ومعرفة ما يصلح للأمة وما لا يصلح لها في حاضرها المضطرب والمصحوب بركام هائل من الحيرة. أخيراً, ليسمح لي القارئ بأن أتقدم بخالص التقدير والامتنان لصاحب الفضيلة القاضي العلامة حسين بن محمد المهدي, على حسن ظنه بي ومنحي فرصة السبق في الإطلاع على مؤلفه النفيس وتصديره بهذه الكلمات المتواضعة. سائلاً من المولى العزيز أن تكون أعمالنا كلها خالصةً لوجه الكريم. والله ولي التوفيق. كلية الآداب - جامعة صنعاء 7/ 4/2007م

تمهيد

تمهيد: الحمد لله المتفرد بالقدرة والكمال، وصلى الله وسلم على من ابتعثه الله بالحكمة ونعته بالرحمة وهي من أشرف الخلال، فقال جل شأنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (¬1). وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (¬2) وعلى آله وأصحابه والتابعين. وبعد: فإن للشورى أهمية كبيرة في حياة الأمم والشعوب، وإن أي نظام أو تنظيم ينشد الخير والفلاح ويبحث عن العدالة والمساواة ويتوق إلى العزة والكرامة، ويحب أن يسود الأمن والاستقرار والرخاء، ويرغب في منع الظلم والتسلط والاستبداد، لا بد أن تكون الشورى سمته ومنهجه، لأن بالشورى تكتشف الحقائق وينجلي العمى ويستنبط الصواب ويصح الرأي وتتضافر الجهود وتتوزع المسؤولية وتقوى شوكة الأمة، ما ذلك إلا لأنه بالشورى تنبعث عوامل الألفة والمودة والمحبة والتعاون والتناصح، وتتشابك الأيدي لحل المعضلات، وبالشورى يصل الإنسان إلى ما يصبو إليه من عزة وفلاح وسعادة ونجاح في أمور الدنيا والآخرة. وبالشورى تبنى المجتمعات الفاضلة والدول القوية، وبالشورى يحصل النصر وتستمال القلوب، ويتعاون أهل الشورى من أجل بناء الأوطان وعمارة الأرض وإرضاء الرب. والشورى هي من أهم خصائص الأمة الإسلامية والشرائع الربانية، فهي من صفات المؤمنين الموحدين الذين استجابوا لله رب العالمين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (¬3) ولأهمية الشورى جاء ذكرها في هذه الآية بين الصلاة والزكاة، فقد وصف الله المؤمنين بأنهم الذين استجابوا ¬

_ (¬1) - الآية 128 سورة التوبة. (¬2) - الآية 2 سورة الجمعة. (¬3) - الآية 38 سورة الشورى.

لربهم وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة وكان منهج الشورى هو منهجهم. وقد قال بعض الباحثين إن سياق النص قد نبه عليه بعض المؤصلين والبلاغيين من حيث أن لفظ وجملة (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) جاءت متوسطة بين الصلاة والزكاة لتدل بتنبيه عبارة النص وإشارته على ضرورة مداومتها بما يشبه الصلاة والزكاة , وعموم خطاب الآية الكريمة هو من الوجوب الشمولي في الأمة. فمفهوم الأمر جاء بطبيعة الخبر والمدح وهو أعظم من الأمر الصريح عند البيانيين من علماء اللغة الذين قرروا أن طرق الأمر الحتمي في اللغة تصل إلى ثمانية وعشرين وجهاً. ويتبين أيضاً من هذه الآية الكريمة أن الإسلام ليس حصراً على الصلاة والزكاة وإن كانا من أركانه، لأن من استجاب لله وجب عليه أن يتخذ الشورى منهجاً، فكما لا يجوز له إهمال الصلاة وتركها فإنه لا يجوز له إهمال الشورى وتركها، وبهذا يتضح أن الإسلام دين اجتماعي سمح، ليس فيه سلطة قاهرة تكبت الحريات وتمنع حق إبداء الرأي، وإنما هو دين يدعو إلى الشورى والنظر المشترك في الأمور الهامة وفي كل ما ينصلح به أحوال الإنسانية أفراداً وجماعات، وفي كل أمر تحصل به العزة للمسلمين والسعادة للموحدين، فالشورى قاعدة من قواعد الشريعة وخُلق من أخلاق المؤمنين، ونظام الشورى هو أفضل نظام يمنع من التسلط والاستبداد ويبعث على المحبة والتواد، ولهذا امتدح الله المؤمنين الذين جعلوا المشورة قانوناً لهم في أعمالهم كما هو صريح آية الشورى سالفة البيان، وفي الحديث: (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم) (¬1). ولما للشورى من أهمية كبيرة في حياة الأمة فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المؤمنين، وهو الذي يمتاز بكماله الروحي لاتصاله بالوحي الرباني، ومع ذلك فإن الله خاطبه بقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ) (¬2). فإذا كانت ¬

_ (¬1) - مصنف ابن أبي شيبة تأليف العلامة المحدث أبي بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي المتوفى سنة 235هـ ج5ص298 حديث (26275) الناشر: مكتبة الرشد الرياض الطبعة الأولى 1409هـ , والأدب المفرد تأليف العلامة الجليل والمحدث الكبير محمد بن اسماعيل, أبو عبدالله البخاري المتوفى سنة 256هـ ج1ص100 حديث (258) الناشر دار البشائر الإسلامية بيروت الطبعة الثانية 1409هـ1989م. (¬2) - الآية 159 سورة آل عمران.

الشورى في حقه صلى الله عليه وآله وسلم واجبة، فهي من باب أولى واجبة في حق غيره، فالله عليم حكيم بما يصلح أحوال الناس، وقد علم أن شواغل الحياة وأمور التعامل بين الناس واختلاف أحوالهم وتنوع المعارف، كل ذلك لا يخلو من مشكلة تفرزها طبيعة الحياة التي فطر الله الناس عليها، وحلها ضرورة لا بد منها. فإن كان ذلك لمصلحة فرد فربما استعصى الحل عليه بمفرده، فكان لا بد من إشراك غيره من أهل الخبرة والإختصاص في حلها وأن يشاركه في الرأي ليكون الحل قد جاء على الوجه المطلوب وتعرف على صوابه , وإن كان الأمر متعلقاً بمصلحة عامة، وجب أن لا تحل بالاستبداد في الرأي حتى لا تتعرض المصلحة العامة لأي خطءٍ ولا تضيع حقوق ومصالح الأمة، وكان من الضرورة أن يصار في ذلك إلى مشاركة ذوي العقول الراجحة من ذوي الخبرة والإختصاص ليتناولوها ببصيرة ويجال الرأي فيها عن علم ودراية، لتكون النتيجة سليمة وصائبة، ولذلك ندب الشارع إلى الشورى في تدبير الأمور وتوخي المصالح، لتكون إلى الصواب أقرب وعن الزلل أبعد، ويكون النجاح مضموناً في الغالب الأعم في تحقيق مصالح الأمة، وفي ذلك ما يكفي للتدليل على أهمية الشورى، مما يدعو إلى الأخذ بها ليكون الإنسان قد استجاب لله وأمن الوقوع في المهالك, وقد جاء في العقد الفريد: الرأي كالليل مسوداً جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح فاضمم مصابيح أراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح (¬1) فالشورى في حقيقة الأمر تعني توزيع المسؤولية حتى لا تقع على كاهل فرد واحد، فالجميع يتقاسمون المسؤولية، فلا يتلاوم الناس فيما بينهم ويتنافرون ويتشاجرون، ولا يرمي أحد بالنتيجة على الآخر , وإن كانت النتيجة سيئة، والشورى تعتبر مع ذلك خير وسيلة تدرب المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة وتشركه فيه، وبها الوصول للرأي المحمود الذي ينصلح به حال الأمة وتحل به مشاكلها. وقد جاء في العقد الفريد أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ذكر في المشورة سبع خصال: استنباط الصواب، ¬

_ (¬1) - أورد هذين البيتين العلامة والأديب الكبير أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي في العقد الفريد, ج1ص60 ,طبعة دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي, بيروت, لبنان, ووردت في الموسوعة الشعرية للكاتب والأديب والواعظ والخطيب بدر بن عبدالله بن عبدالكريم الناصر ص145 الناشر دار العاصمة الرياض المملكة العربية السعودية الطبعة الأولى 1427هـ2006م

واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والتحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وإلفة القلوب، واتباع الأثر (¬1). وجاء في جواهر الأدب أن بيهس الكلبي قال: عقل الفتى ليس يغني عن مشاورةٍ ... كحدة السيف لا تغني عن البطل إن المشاور إما صائبٌ غرضاً ... أو مخطئٌ غير منسوبٍ إلى الخطل (¬2) وقد أثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لا خير في أمر أبرم من غير مشورة. ولهذا يقال: الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الإنفراد والاستبداد. وقد نقل صاحب العقد الفريد - في الشورى - أقوالاً مشهورة، وحكماً مأثورة نلخصها فيما يأتي: 1) لا معين أقوى من المشورة ولا عون أنفع من العقل. فالمشورة تقوي العزم وتمنح النجاح وتوضح الحق وتبسط العذر وتزحزح عن مواقف الندامة، والعقل يهدي صاحبه إلى الأخذ بثمرة المشورة. 2) من استشار ذوي الرأي والمعرفة في فعل ما عناه فقبل المشورة منهم واقتدى بآرائهم فيها ولم يعدل عنها وعن قويم نهجها قل أن يخفق مسعاه ويفوت مطلوبه، فإن أعجزه القدر فهو معذور غير ملوم. 3) من ترك المشورة وعدل عنها، فلم يظفر بحاجته صار هدفاً لسهام الملام ومضغة في أفواه العاذلين. 4) من فضل المشورة أنها تكشف لك طباع الرجال. فمتى طلبت اختبار رجل فشاوره في أمرٍ من الأمور يظهر لك من رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشره مكانته. 5) من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحاً وعند الخطأ عاذراً (¬3) قال الراغب الأصفهاني: قيل إن الأحمق من قطعه العُجب عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، فالرأي الواحد كالسجيل، والرأيان كالخيطين، والثلاثة إصرار لا ينقض. (¬4) ¬

_ (¬1) - العقد الفريد للملك السعيد لأبي سالم محمد بن طلحة القرشي النصيبي المتوفى سنة652 - ص42. طبع في القاهرة بمطبعة الوطن 1306هـ. (¬2) - جواهر الادب للعلامة أحمد الهاشمي -بيروت لبنان , الطبعة الخامسة والثلاثين 1416هـ. (¬3) - العقد الفريد. ص 58. (¬4) - الذريعة إلى مكارم الشريعة 192 - للشيخ أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى - الطبعة الأولى 1400هـ - 1980م - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.

وصحيح ما ذهب إليه الراغب، فإن رأيين خير من واحد، وقديماً قيل: ورأيان خير من واحد، ورأي الثلاثة لا ينقض، ولذا يقال: من أُعِجبَ برأيه ضل، ونقل القرطبي عن الحسن البصري والضحاك أنهما قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته بعده، ولقد أحسن القائل: شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل فالله قد أوصى بذاك نبيه ... في قوله (شاورهم) و (توكل) (¬1) فالشاعر يدعو في هذين البيتين إلى المشاورة وحسن اختيار المستشار، وقد جاء لأحد الشعراء قوله: وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه (¬2) وقال القرطبي: الشورى بركة، وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي) (¬3) وفي الحديث (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) (¬4). قال العجلوني: رواه الطبراني في الصغير، والقضاعي عن أنس، وفي سنده ضعيف، وما أحسن ما قيل: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تلقى كفاحاً من نآى ودنى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآت وقال النجم: روى ابن أبي الدنيا في العقل عن زائدة. قال: إنما نعيش بعقل غيرنا - يعني المشاورة، ولبعضهم: الناس ثلاثة: فواحد كالغذاء لا يستغنى عنه، وواحد كالدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات، وواحد كالداء لا يحتاج إليه أبداً. ¬

_ (¬1) - الجامع لأحكام القرآن 4/ 250 لأبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي (المتوفى في 9شوال سنة671هـ). (¬2) - هذا البيت مما اشتهر في ذلك وقبله: إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه وإن باب .... ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه إذا المرء أضمر خوف الإله ... تبين ذلك في شخصه (¬3) - القرطبي 4/ 252 , وقد ورد الحديث في مسند الشهاب تأليف العلامة المحدث محمد بن سلامة بن جعفر, أبو عبدالله القضاعي المتوفى سنة 454هـ ج2ص6 حديث (773) الناشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1407هـ1986م. (¬4) - المعجم الصغير تأليف العلامة المحدث سليمان بن احمد بن أيوب, أبو القاسم الطبري, ج2ص175 حديث (980) , الناشر المكتب الاسلامي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ1985م. ومسند الشهاب للقضاعي ج2ص7 حديث (774).

وللخطيب في تلخيص المتشابه - عن قتادة - قال: الرجال ثلاثة: رجل ونصف رجل ولا شيء، فأما الذي هو رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو يشاور. وأما الذي هو نصف رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو لا يشاور. وأما الذي هو لا شيء: فرجل له عقل وليس له رأي يعمل به وهو لا يشاور. قال النجم: وقلت: ليس من عاش بعقله ... مثل من عاش بفضله إنما الفضل ما انضم ... حجى الناس بعقله وكذا الجاهل من لم ... يرفي الناس كمثله نفسه يبصرها كا ... ملة من فرط جهله (¬1) وصحيح ما ذكره النجم - فإنك إن شاورت مجرباً للأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما يقع عليه غالياً وأنت تأخذه مجاناً، فيكون من الحمق ترك المشاورة. أما الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس - فيقول عن الشورى أنها مدرسة تربوية للأمة تظهر من خلالها شخصيتها وتحقق ذاتها وهي سبب من أسباب النصر على أعدائها, حقق المسلمون بها انتصاراتهم على أعدائهم وأضحوا سادة الأمم بعد أن كانوا رعاة الشاء والغنم. (¬2) قلت: وليس ذلك فحسب وإنما حققوا بها العدالة وحصل لهم بها المودة والألفة وقد أحسن بشار بن برد في قوله: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو نصيحة حازم ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي تابع للقوادم (¬3) وقال أخر: خليلي ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا علي اليوم ما تراياني (¬4) ¬

_ (¬1) - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعجلوني: وهو المفسر المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي - 2/ 186 الطبعة الثالثة 1352هـ - دار إحياء التراث العربي. (¬2) - د. محمد عبدالقادر أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام ص76 دار الفرقان- عمان - الأردن 1986م. (¬3) - ولهذين البيتين رواية أخرى وردت في الموسوعة الشعرية وهي: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي حكيمٍ أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي قوة للقوادم. وهناك رواية ثالثة وردت في ديوان بشار المطبوع في لبنان سنة 1413هـ , جاء فيها: ... إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي لبيب أو مشورة حازم ... ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم. والجميع من حيث المعنى والوزن والروية صحيح. (¬4) - ورد هذا البيت مستشهد به في الامالي لأبي علي اسماعييل بن القاسم القالي, ج1ص44 , وفي الموسوعة الشعرية. للكاتب والاديب والواعظ والخطيب بدر بن عبدالله بن عبدالكريم الناصر ص145 , الطبعة الأولى 1426هـ2006م, دار العاصمة بالمملكة العربية السعودية الرياض ص9.

وفي الأثر: ما سعد أحد برأيه ولا شقي عن مشورة غيره. وإذا كانت الشورى من الأهمية بذاك المكان، فإنها ليست قصراً على شؤون الحكم والسياسة، وإنما تشمل كل ما لم يرد فيه نص قطعي من الأمور العامة والخاصة وكل ما فيه صلاح للأمة والأسرة. وكل ما فيه رعاية مصلحة أو دفع مفسدة، فقد أرشد القرآن الكريم إلى التشاور في ذلك حتى في فطام الرضيع وفصله عن ثدي أمه، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (¬1). وهكذا نجد الشورى مهمة في بناء الأسرة والمجتمع والدولة. ¬

_ (¬1) - سورة البقرة أية (233).

خطتنا في هذا البحث:

خطتنا في هذا البحث: لما كانت الشورى بهذا المكان من الأهمية فقد استجبنا لطلب الكتابة حول هذا الموضوع، وكانت خطتنا في ذلك على النحو التالي: تناولنا بحث هذا الموضوع (الشورى) في ثلاثة فصول: الفصل الأول: وفيه لمحة تاريخية عن الشورى في حياة الأمم. الفصل الثاني: اشتمل على مبحثين، خصصنا المبحث الأول للتعريف بالشورى لغة واصطلاحاً، وفي المبحث الثاني أتينا ببيان مشروعية الشورى. الفصل الثالث: وفيه أوردنا الشورى في الأمور العامة، وتناولنا ذلك في عدة مباحث: المبحث الأول: خصصناه لبيان الشورى في التشريع. المبحث الثاني: أوردنا فيه بيان الشورى في الوظائف العامة. المبحث الثالث: بينّا فيه الشورى في القضاء والحكم. المبحث الرابع: وفيه أوردنا الشورى في الحرب. المبحث الخامس: وفيه بيان من هم أهل الشورى في ذلك؟ المبحث السادس: أوضحنا فيه الكيفية التي تتم بها الشورى. المبحث السابع: بينّا فيه نتيجة الشورى ومدى إلزامية ذلك. الفصل الرابع: خصوصية الشورى وأهمية تعليمها. المبحث الأول: خصوصية الشورى ومنفعتها في الأسرة والمجتمع. المبحث الثاني: تعليم الشورى واتخاذها منهجاً تعليمياً.

الفصل الأول لمحة تاريخية عن الشورى

الفصل الأول لمحة تاريخية عن الشورى لمحة تاريخية وجيزة عن الشورى في حياة الأمم إنه من المعلوم لكل العقلاء أن تداول الرأي في كل أمر يترتب عليه إصلاح شؤون الأمة أفراداً وجماعات في شتى مجالات الحياة وعلى مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والصحية والاقتصادية والعسكرية ... إلخ. ضرورة لا بد منها, ذلك لأن الناس يعيشون في بيئات مختلفة ويكتسبون بمقتضى ذلك خبرات متنوعة ويحملون مواهب متعددة بأفهام متباينة فالإنسان لا يستغني بنفسه عن غيره خاصة في الأمور الهامة والعامة والتي لا بد فيها من الاستفادة من قرائح ومعارف ومهارات, ولكل عقل ميزة, ومن طبيعة الشورى أن تتعدد فيها الآراء وتجول فيها الأفكار ويستفاد من عقول الناس وتجربتهم وخبرتهم صواب الرأي وسداده, وتداول الرأي في الحوادث مارسته شعوب منذ أقدم العصور فمارسه العرب والفرس والمصريون والهنود والرومان، ومارسه الملوك الفراعنة ومارسها الصينيون كما يشير الحكيم الصيني (صون توزور) منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد إلى التشاور والتباحث فيقول: (فعندما يجري التجنيد العسكري لتأديب العابثين بحرمة البلد والأمة فإن أهل الحل والربط في ساعات البت العسكري لحاجة الدفاع أو حاجة الردع للعدو يجتمعون في المعبد الديني من أجل التشاور والبحث في صلاح الحكم القائم في البلد أو عدم صلاحه, ومدى ثقة الأمة بذلك العهد الحاكم, ثم يجري بحث أحوال الطقس وتقلباته في ذلك الفصل من مواسم السنة ثم يبحثون طبيعة الأرض وميادين القتال, وبعد مذاكرة هذه العوامل الثلاثة مذاكرة ودراسة وافية يجري اختيار القائد العسكري للحملة ومسؤولية الهجوم أو الردع. (¬1) وقد استعملت عبارة أهل الحل والربط وهو ما يترادف مع أهل الحل والعقد في الإسلام, ثم تعيين مكان الاجتماع, وإنه المعبد ثم وضع جدول العمل وموضوعات ¬

_ (¬1) - نقل ذلك الدكتور علي بن سعيد الغامدي عن فن الحرب ترجمة عمر حليق ص79 , وانظر فقه الشورى دراسة تأصيلية نقدية تأليف الدكتور علي بن سعيد الغامدي , الطبعة الأولى 1422هـ2001م, الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع, الرياض ص24.

البحث, ثم أول ما يجري فيه التشاور صلاح الحكم أو عدم صلاحه وهذا أساس في مواجهة الأعداء فإن الحكم الفاسد غير قادر على الصمود في الحرب, ثم بحث الزمان وجو المعركة وجو الطقس وتقلباته, ثم صلاح ميادين المعركة أي طبيعة الأرض وميادين القتال, ثم اختيار القائد المناسب الجدير بالقيادة بسبب كفاءته (¬1). وقد نقل القرآن الكريم بعض نماذج عن أخذ الرأي, من ذلك قصة ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان عليه السلام وما حكى الله عنها حينما ألقى الهدهد كتاب سليمان إليها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ*) (¬2) , وكتاب سليمان عليه السلام واضح الدلالة في الدعوة إلى عبادة الله والإذعان للحق سبحانه وتعالى بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة والإسلام, وأن بلقيس دعت الملأ من قومها, وهم أشراف الناس من قومها ووجوه القوم وأهل الرأي, ذكر ذلك ابن جرير وغيره من أئمة التفسير (¬3) , وهذه القصة تفيد وجود التشاور بين الحاكم والمحكومين في العصور القديمة فقد أبانت الآية أن ملكة سبأ كانت هي وقومها وثنيون يعبدون الشمس, ولكنها مع ذلك بادرت إلى الاستشارة ولم تستفرد بالرأي دونهم, دل على ذلك ما حكاه الله عنها حيث تقول: (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ونقل القرطبي عن قتادة قوله: ذُكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهم أهل مشاورتها كل رجل منهم على عشرة آلاف (¬4). كما نقل القرآن مشاورة ملك مصر في شأن رؤيا رآها فقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (¬5) , وقد طلب الملك الرأي من الملأ في تفسير هذه الرؤيا لكونها متعلقة بمصير الأمة. وهناك نموذج آخر حكاه القرآن الكريم عن فرعون حينما جاءه موسى يدعوه إلى توحيد الله (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (¬6) والآية واضحة الدلالة في طلب الرأي من قبل الملأ غير أن ما يلاحظ عليه هو أن فرعون كان لديه نزعة استبدادية إذ أنه أبدى لهم رأيه في شأن موسى وأنه ساحر وأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره فكأنه حرضهم عليه, ومع ذلك فقد كان في جواب قوم فرعون ما يدل على استجابتهم لطلب المشورة وأخذ فرعون بها دل على ذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) (¬7) والنص واضح الدلالة أن حث الناس على الاجتماع واتباع السحرة كان مشروطاً بفوزهم على موسى عليه السلام بخلاف الملأ من قوم بلقيس فإنهم (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (¬8). ولعل فرعون مع نزعته الاستبدادية أراد مشاركتهم الجادة في الوصول إلى ما يريده ليشاركوه في نتيجة ما تسفر عنه المناظرة التي ربما كان يخشى سلفاً انها قد لا تكون في صالحه تماماً, وكأن من طبيعة الجبابرة والمستبدين إملاء آرائهم والتحريض على الأخذ بها أو الاستعانة بالرأي على الأخذ بما ينزعون إليه، فطبيعة فرعون هي الاستعلاء والتجبر كما حكى الله عنه في أكثر من آية ففي سورة القصص حكى الله عنه إدعاء الألوهية بعد أن دعاه موسى إلى أن يتزكى ويدع إدعاء الألوهية (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (¬9) مع أن موسى عليه السلام دعاه إلى دين الحق وطالبه بأن يدين لإله يملك العالمين (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ ¬

_ (¬1) - انظر الشورى للأستاذ الدكتور عبدالله أحمد قادري ص17 - 18طبعة دار المجتمع 1406هـ، وفقه الشورى للدكتور علي سعيد الغامدي ص 24 - 25. (¬2) - سورة النمل: الآيات (29 - 31). (¬3) - انظر جامع البيان للإمام ابن جرير الطبري 19 - 152. (¬4) - انظر الجامع لأحكام القرآن ج 13 - ص 95. (¬5) - سورة يوسف: الآية 43. (¬6) - سورة الشعراء 29 - 35. (¬7) - سورة الشعراء 36 - 40. (¬8) - سورة النمل 33. (¬9) - سورة القصص 38.

إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) (¬1) وهكذا نجد فرعون قد ادعى الألوهية وتنكر لموسى عليه السلام وافتخر بعزة السلطان والملك الواسع فقال مباهياً مفتخراً (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) (¬2) فكان من عاقبة استبداده إغراقه وجنوده في البحر (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً) (¬3) وآل الملك العظيم لغيره (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (¬4). وهناك أمثلة كثيرة حكاها الله في أخذ المستبدين كقصة النمرود وغيره, ولقد جاء الإسلام فأراد هدم الاستبداد السياسي من أساسه, فها هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه وفقير فخور) (¬5) فالأول يمثل الاستبداد السياسي والثاني يمثل الطغيان المالي والثالث وهو الفقير الفخور يمثل خدم النظامين من الاتباع الذين يمشون في ركاب الكبراء والأغنياء المترفين إنهم صعاليك ولكنهم يفخرون بسادتهم الذين التحقوا بهم (¬6) , ولو ذهبنا نتتبع الشورى في العصور القديمة لاحتجنا إلى مجلدات ولكننا نكتفي بهذه اللمحة لندلل أن الشورى كانت موجودة في الأمم السابقة, وأما الشورى الإسلامية وإن لم تكن ابتكاراً إسلامياً فهي أمر يزكيه القرآن ويأمر به كي تكون الشورى سبيلاً إلى معالجة أمور الدنيا وسياستها في ما لا نص فيه, سواء في نطاق الأسرة أو المجتمع, بين الحاكم والمحكومين وبين الناس بعضهم مع بعض, ولقد عرض القرآن الكريم لمعنى الشورى محبذاً أسلوبها ومزكياً نمط الحكم الملتزم بها, فكانت الشورى هي المصطلح الذي أوجز أغلب مفكري الأمة الإسلامية تحته فلسفة الحكم كما رآها الإسلام وارتضاها المسلمون منذ ظهور الإسلام وقيام الدولة العربية الأولى ومنذ نشأة التيارات الفكرية السياسية الإسلامية, وإلى فلسفة الشورى انحازت كذلك السنة النبوية فعبرت الأحاديث النبوية عن تحبيذها وامتداحها كما سيأتي بيان ذلك. ¬

_ (¬1) - سورة الشعراء 23 - 28. (¬2) - سورة الزخرف 51. (¬3) - سورة الإسراء 103. (¬4) - سورة الدخان 25 - 29. (¬5) - صحيح ابن حبان تأليف العلامة المحدث محمد بن حبان احمد, أبو حاتم التميمي البستي المتوفى سنة 354هـ حديث (7481) الناشر مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1414هـ1993م , وابن خزيمة في صحيحيه عن أبي هريرة رضي الله عنه حديث (2249). (¬6) - انظر الإسلام والاستبداد السياسي للشيخ العلامة محمد الغزالي ص 63 الطبعة الأولى دار الكتاب العربي القاهر1998م, والأستاذ الدكتور العلامة وهبة الزحيلي في حق الحرية في العالم ص 177, الطبعة الأولى محرم 1421هـ نيسان إبريل2000م.

وأخيراً فإن الفكر الإسلامي عني بالشورى وتطبيقات المسلمين المحدودة لفلسفتها وذلك ما يفتح باب الاجتهاد واسعاً أمام الأساليب والأشكال المنظمة لعملية التشاور, والأمل معقود على الحاضر والمستقبل لتحقيق الازدهار, للشورى فلسفة وسلوكاً في الشؤون الخاصة والعامة في جميع البلدان الإسلامية بما يحقق للأمة مصلحتها ويكفل لها نهضتها وازدهارها حتى تأخذ مكانها بين الأمم وتؤدي الرسالة المناطة بها, وسيجد المتتبع لما سنأتي عليه في دراستنا عن الشورى ما يحث الأمة على العمل بالشورى وإحياء هذه الفريضة الربانية والسنة النبوية وأداء هذه الأمانة العظيمة ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

الفصل الثاني تعريف الشورى وبيان مشروعيتها

الفصل الثاني تعريف الشورى وبيان مشروعيتها المبحث الأول: تعريف الشورى ? أولاً تعريف الشورى لغة: الشورى هي الأمر الذي يُتشاور فيه، قال الراغب: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، وشرت العسل وأشرته: أخرجته (¬1) , وفي اللسان: عن ثعلب: أن شار الدابة يشورها شوراً وشِواراً وشوّرها وأشارها، كل ذلك: راضها أو ركبها عند العرض على مشتريها، وقيل: عرضها للبيع، وقيل: بلاها ينظر ما عندها، وقيل: قلبها، والتشوير: أن تشور الدابة تنظر كيف مشوارها أي كيف سيرتها، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه ركب فرساً يشوره أي يعرضه، ومنه حديث طلحة رضي الله عنه أنه كان يشور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي يعرضها على القتل، والقتل في سبيل الله، بيع النفس، وقيل: يشور نفسه أي يسعى ويخفف - يظهر بذلك قوته. (¬2) ويظهر من ذلك أن الشورى مشتقة من الفعل "شوَرَ" ولمشتقاته عدة معان فمنها ما سلف ذكره، ومنها: استخراج الرأي وتقليبه، قال ابن منظور: الشورى والمشورة - بضم الشين - مفعلة ولا تكون مفعولة، لأنها مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال - مفعولة - وإن جاءت على مثال - مفعول - وكذلك المشورة، وتقول منه: شاورته في الأمر واستشرته - بمعنى - وفلان خير شيِّر، أي يصلح للمشاورة، وشاوره مشاورة وشواراً واستشارة: طلب منه المشورة، وأشار الرجل يشير إشارة: إذا أومأ بيده، ويقال: شورت إليه بيدي وأشرت إليه، أي لوحت إليه وألحت - أيضاً، وأشار إليه باليد: أومأ، وأشار عليه بالرأي، وأشار يشير - إذا ماوجه الرأي، ويقال: فلان جيد المشورة. ¬

_ (¬1) - المفردات في غريب القرآن 273 للراغب: أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (502هـ) تحقيق وضبط: محمد خليل عيتاني - الطبعة الثالثة 1422هـ - 2001م - دار المعرفة. بيروت - لبنان. (¬2) - لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري، ج4/ص436 مادة شور طبعة دار صادر, بيروت, دار الفكر.

ثانيا: تعريف الشورى اصطلاحا:

والمشورة - لغتان - قال الفراء: المشورة أصلها مشْوَرة، ثم نقلت إلى مَشُورة لخفتها، وقال الليث: المشورة: مفعلة - اشتق من الإشارة، ويقال: مَشُورة، وقال أبو سعيد: يقال: فلان وزير فلان وشيِّره، أي مشاوره، وجمعه: شُوَرَاءُ. (¬1) ويستفاد من ذلك أن الشورى في اللغة تعني: تقليب الرأي وإظهاره، ومن خلال تلك المعاني يمكننا تعريف الشورى اصطلاحاً بالآتي: ? ثانياً: تعريف الشورى اصطلاحاً: الشورى: اصطلاحاً طلب الرأي من أهله، وإجالة النظر فيه، وصولاً إلى الرأي الموافق للصواب. وقد عرفها الباحثون بتعاريف عدة ومنها تعريف الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس، إذ يقول: الشورى: تعني تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا واختبارها من أصحاب العقول والأفهام حتى يتوصل إلى الصواب منها أو إلى أصوبها وأحسنها ليعمل به لكي تتحقق أحسن النتائج. (¬2) أما الشيخ أحمد محيي الدين العجوز - فعرفها بقوله: الشورى: هي تبادل الآراء في أمر من الأمور لمعرفة أصوبها وأصلحها لأجل اعتماده والعمل به. (¬3) وعرفت الشورى بأنها: استنباط المرء رأياً فيما يعرض له من الأمور والمشكلات, وهذا التعريف يدخل فيه التشاور في كل ما يعرض من المشاكل بين الأسرة، كما في حق فطام الطفل الرضيع إذ يقول الله تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (¬4) , ويستفاد من النص ضرورة التشاور (¬5). ¬

_ (¬1) - لسان العرب 4/ 437 مصدر سابق. (¬2) - د. محمد أبو فارس: النظام السياسي في الإسلام 79 مصدر سابق. (¬3) - الشيخ أحمد محيي الدين العجوز: مناهج الشريعة الإسلامية 2/ 128 مكتبة المعارف - بيروت 1401هـ 1981م. (¬4) - سورة البقرة , آية (233). (¬5) - ذكره المؤلف حسين بن محمد المهدي في مؤلفه الموسوم بحقوق الإنسان في السنة النبوية ص486 الطبعة الأولى 1425هـ.

وعرّف الشورى الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد بأنها: تبادل الرأي بين المتشاورين من أجل استخلاص الصواب من الرأي, والأنجع من الحلول, والسديد من القرارات (¬1) وعرفها الدكتور هاني الطعيمات قائلاً: الشورى استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في أمر من الأمور العامة المتعلقة بها بهدف التوصل فيها إلى الرأي الأقرب إلى الصواب الموافق لأحكام الشرع تمهيداً لاتخاذ القرار المناسب في موضوعه. (¬2) وهذا التعريف من أدق التعاريف فيما يتعلق بالشورى العامة، وهناك من الباحثين من أضفى على الشورى وصف الإيمانية ثم عرفها بناءً على ذلك فقال: الشورى الإيمانية: هي التعاون في تبادل الرأي ومداولته في أمر من أمور المؤمن أو الجماعة المؤمنة أو الأمة المؤمنة على نهج أو أسلوب وأسس وقواعدَ تحقق أهدافاً وغايات تجتمع كلها لتبحث عن الحق أو ما هو أقرب إليه طاعة وعبادة، ويكون النهج والأسلوب والقواعد والأهداف والغايات كلها ربانية يحددها منهاج الله. (¬3) وهذه التعاريف تدور كلها حول استنباط الرأي واستخراجه من أجل تحقيق هذه الغاية التي تحقق للأمة المؤمنة ما ينصلح به حالها ويستقيم به نظام الفرد والمجتمع والدولة، فالشورى ليست إلا جزءاً من منهاج الله الذي لا تستقيم أمور الناس بدونه، والذي جاء ليعالج واقع الإنسانية في شتى مجالات الحياة، وبممارسة الشورى يكون الإنسان قد أدى مسؤوليته وأمانته التي يحاسب عليها في الدنيا والآخرة، ومن العلماء من يرى أن الشورى تكون عامة في كل رأي والمشورة تكون خاصة في الرأي الملزم، وأن هناك فرقاً بين الشورى والمشورة، وفي ذلك يقول الدكتور محمود الخالدي: إذا ما نظرنا بدقة في ¬

_ (¬1) - انظر مقدمة (الشورى في الإسلام رؤية نيابية) للدكتور صالح بن حميد رئس مجلس الشورى السعودي وإمام وخطيب المسجد الحرام ص1 (¬2) - د. هاني سليمان الطعيمات: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية 225 الطبعة الأولى سنة 2001م- دار الشروق للنشر والتوزيع - بيروت. (¬3) - د. عدنان علي رضا النحوي: الشورى وممارستها الإيمانية 24 الطبعة الثالثة 1408هـ - 1988م - دار النحوي للنشر والتوزيع. الرياض - المملكة العربية السعودية.

النصوص التفصيلية الواردة في الشورى نجد أن مدلول كلمة الشورى يختلف عن مدلول كلمة المشورة إذ تعني الشورى أخذ الرأي مطلقاً، ما كان ملزماً لرئيس الدولة وما لم يكن ملزماً, سواءً الذي يرجح فيه قوة الدليل كالأمور التشريعية وما يرجح فيه جانب الصواب كالأمور الفنية والفكرية فجاء التعبير فيها عاماً في كل الأمور. أما المشورة فإنها وردت في النصوص على أنها أخذ الرأي الملزم لرئيس الدولة فقط، والدليل على أن المشورة أخص من الشورى وأنها أخذ الرأي الملزم فقط عدة أمور: أولاً: وردت كلمة المشورة في الحديث للدلالة على أخذ الرأي الملزم فقط وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً)، وفي لفظ: (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما) (¬1) فقد اقترنت كلمة المشورة بصفة الإلزام والصيغة تفيد ذلك، وهذا واضح في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (ما خالفتكما) (ما عصيتكما)، ومن مناسبة الحديث يتضح أن المشورة لا تكون إلا في أخذ الرأي على سبيل الإلزام لأنه رأي يرشد إلى عمل من الأعمال من أجل القيام به، وما كان كذلك كان ملزماً لأن الترجيح إنما يكون لرأي الأغلبية فتكون المشورة أخص من الشورى لأنها في الرأي الملزم فقط. ثانياً: إن كلمة المشورة الواردة في الحديث وإن كانت اسم جنس ولكنها لا تدل على العموم لأن اسم الجنس حتى يدل على العموم لا بد أن يقترن بأل أو يضاف، فإذا لم يقترن بأل ولم يضف فلا يدل على العموم، وهي وإن كانت نكرة ولكنها لا تدل على العموم لأن النكرة لا تدل على العموم إلا إذا اقترنت بنفي فالنكرة في سياق النفي تعم أما في الإثبات فليست من ألفاظ العموم، فلا يكون الدليل عاماً في كل شورى فيكون الحديث نصاً في موضوع من موضوعات الشورى العامة، وهو الرأي الملزم ويرجح فيه جانب الأكثرية فقط، وكذلك ما قاله الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد إتمام بيعة الانعقاد للصديق أبي بكر رضي الله عنه: فلا يغرن امرأ أن يقول أن بيعة أبي ¬

_ (¬1) - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني , مسند الشاميين , رقم الحديث (17990و17309) - طبعة بيت الأفكار الدولية 2004م.

بكر رضي الله عنه كانت فلتة فتمت، وأنها وإن كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو، ولا الذي بايعه. (¬1) وقد ظل هذا الفهم الشرعي لواقع المشورة وأنها أخذ الرأي الملزم فقط عند المسلمين بعد ذلك فإن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لما ولي الخلافة خطب في المسلمين قائلاً: (أيها الناس ... إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم) ومن يدقق في هذه النصوص يجد أن لفظ المشورة قد اقترن بالرأي الذي يرشد إلى عمل من أجل القيام به والذي لا بد أن يرجع فيه للمسلمين، وأن المرجح فيه إنما هو رأي الأغلبية، فانتخاب رئيس الدولة والقيام بعمل التاريخ الهجري، إنما ذلك من قبيل أخذ المشورة التي جرت يوم أحد, فهي أخذ الرأي على سبيل الإلزام، وقد درج العلماء في كتبهم على إطلاق لفظ المشورة على الشورى التي يكون الرأي من أجل القيام بعمل من الأعمال، أي على سبيل الإلزام, فقد وضع ابن هشام في السيرة عنواناً للشورى التي جرت يوم أحد (مشاورة الرسول القوم في الخروج أو البقاء (¬2) , ونفس الأمر يفهم من عبارة الإمام الشافعي في قوله: (في المشاورة رضا الخصم والحجة عليه) (¬3) , فقد جعل الحجة في المشورة ونص عليها ولم يقل في الشورى، وقد وضّح ذلك كثير من العلماء إذ أطلقوا لفظ المشورة على أخذ الرأي على سبيل الإلزام فقط فتكون الشورى عامة في كل رأي, والمشورة خاصة في الرأي الملزم الذي يجب على رئيس الدولة أن يلتزم به (¬4). أما الديمقراطية فهي ما نأتي على بيانه. ¬

_ (¬1) - السيرة النبوية لابن هشام - حققها وضبطها ووضع فهارسها مصطفى السقا وإبراهيم الأنباري وعبدالحفيظ شلبي - الناشر دار إحياء التراث- بيروت - ج4 - ص 308. (¬2) - السيرة النبوية لابن هشام ج3 - ص 67. (¬3) - الأم ج7 - ص 86. (¬4) - نظام الشورى في الإسلام - تأليف الدكتور عمر الخالدي - مكتبة الرسالة الحديثة - عمان الأردن - الطبعة الأولى سنة 1406هـ.

الديمقراطية: الديمقراطية كلمة معربة عن اللغة اليونانية وأصل الكلمة فيها مكونة من لفظين: الأول (ديمو) ويعني الشعب، والثاني (كراتوس) ويعني السلطة أي سلطة الشعب، وبمعنى آخر فإن الديمقراطية بمفهومها الأساسي تعني حكم الشعب لنفسه دون أن تستأثر طبقة أو جماعة أو فرد بهذا الحكم ومن دون أن يصبح كل أفراد الشعب حكاماً، فيصبحوا بحاجة عندئذ إلى شعوب يحكمونها. (¬1) وبهذا التعريف تأتي الديمقراطية رديفة للشورى في بعض الوجوه من حيث إعطاء حق المشاركة للشعوب في صناعة القرار وإدارة شؤون الحكم، عدا أن الشورى نظام تميزت به الشريعة الإسلامية باعتباره جزءاً من العقيدة، بينما الديمقراطية نظام وضعي أي من وضع الإنسان فهي نظام سياسي إجتماعي غربي النشأة عرفه الغرب من الحقبة اليونانية ودخل عليه تطوير في الحضارة المعاصرة كما أنها تنظم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة من منطلق مبدء المساواة بين المواطنين، ومنح حق المشاركة في صنع التشريعات، وسن القوانين التي تنظم الحياة العامة وفق مبدء أن الشعب مصدر السلطات، فالسلطة في النظام الديموقراطي، هي للشعب بواسطة الشعب أما الشورى الإسلامية فهي صورة من صور المشاركة في الحكم تستمد جذورها من أصول الدين وجذوره، وهي من أهم المبادئ الشرعية التي يقوم عليها النظام السياسي في الإسلام،بل إن بعض الباحثين يرى أن الشورى هي النظام السياسي ذاتة، وليس واحداً من مبادئه، أو قاعدة من قواعده، نظراً لما يترتب على الشورى في المنظور الإسلامي من بيان العلاقة بين الحاكم وأهل الشورى، والتزام الدولة بالقواعد المشروعة (¬2). ¬

_ (¬1) - د. هاني سليمان الطعيمات: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص249 الطبعة العربية الأولى 2001م. دار الشروق للنشر والتوزيع. (¬2) -الشورى في الإسلام - رؤية نيابية- تجربة المملكة العربية السعودية ص3.

المبحث الثاني: مشروعية الشورى في النظام الإسلامي

المبحث الثاني: مشروعية الشورى في النظام الإسلامي الشورى في النظام الإسلامي منهج رباني وليست من نافلة القول، فقد أعلمنا الحق تبارك وتعالى أن الشورى في النظام الإسلامي دين يجب الأخذ به، فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (¬1). 1 - ذكر القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية عن العلماء أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الأوامر التي هي تدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم فيما له في خاصته عليهم من تبعه، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة أيضاً، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور. ... ونقل عن ابن عطية أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (¬2). ... وقال: في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أنه يدل على جواز الاجتهاد في الأمور، قال: والشورى مبنية على اختلاف الآراء والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولاً إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه، وأنفذه متوكلاً عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله نبيه في هذه الآية. (¬3) ¬

_ (¬1) - سورة آل عمران: آية (159). (¬2) - سورة الشورى: آية (38). (¬3) - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله محمد أحمد الأنصاري القرطبي ج4 - ص50 - الطبعة الثانية.

2 - وذكر ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض). حديث غريب، قال: ولهذا قال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه كما شاورهم في بدر وأحد والحديبية، وكان يشاورهم في الحروب ونحوها قال: وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجباً عليه أو من باب الندب تطييباً لقلوبهم على قولين ... الخ (¬1). 3 - وقال الماوردي رحمه الله في معنى قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال: في أمره بالمشاورة أربعة أقاويل: ... أحدها: أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه، قال الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدوا لأرشد أمورهم. ... والثاني: أنه أمره بمشاورتهم تأليفاً لهم وتطييباً لأنفسهم، وهذا قول قتادة والربيع. والثالث: أنه أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل ولتتأسى أمته بذلك بعده صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا قول الضحاك. ... والرابع: أنه أمره بمشاورتهم ليستبين به المسلمون ويتبعه فيه المؤمنون، وإن كان عن مشاورتهم غنياً. (¬2) ¬

_ (¬1) - ابن كثير تفسير القرآن العظيم 1/ 421 الطبعة الأولى 1400هـ - 1980م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت. (¬2) - النكت والعيون تفسير الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري (364 - 450هـ) , ج1/ص433 مراجعة وتعليق السيد بن عبد المقصود بن عبدالرحيم، الناشر: دار الكتب العلمية ومؤسسة الكتب الثقافية - بيروت.

4 - وقال الزمخشري رحمه الله في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) يعني أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر برأيهم ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم، وعن الحسن رضي الله عنه قال: علمه الله سبحانه أنه ما به إليهم من حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده (¬1) , وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم) (¬2) , وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه). (¬3) وقيل: كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله رسوله بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم. (¬4) ... قلت: والظاهر من النص وجوب المشاورة فيما لم يرد فيه نص. 5 - وذكر الزمخشري أيضاً في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) (الشورى:38) أنها نزلت في الأنصار دعأهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه وأقاموا الصلاة وأتموا الصلوات الخمس، وكانوا قبل الإسلام وقبل مقدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة إذا كان بهم أمر اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم أي لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعوا عليه، وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. قال: والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، ومعنى قوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: من الآية38) أي ذو شورى. (¬5) 6 - وذكر أبو حيان في تفسير قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) أمره تعالى بالعفو عنهم وذلك فيما كان خاصاً به من تبعات له عليهم وبالاستغفار ¬

_ (¬1) - رواه البيهقي في السنن ج10ص109 حديث (20091). (¬2) - مصنف ابن أبي شيبة ج5ص298 حديث (26275) , والبخاري في الادب المفرد الأدب المفرد ج1ص100 حديث (258). (¬3) - أخرجه الترمذي في كتاب الجهاد باب ما جاء في المشورة ج 4، ص 214 حديث رقم 1714. وأحمد في المسند مسند الكوفيين حديث رقم (18166). (¬4) - الزمخشري جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (467 - 538هـ) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل 10/ 647 تحقيق الشيخ: عادل أحمد عبدالموجود والشيخ علي محمد معوض ط 1/ 1418هـ 1998م - مكتبة العبيكان - الرياض. (¬5) - الزمخشري: الكشاف 5/ 415 مصدر سابق.

لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشارتهم، وفيها فوائد: تطييب نفوسهم والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم حيث أهلهم للمشاورة وجعلهم خواص بعدما صدر منهم، وتشريع المشاورة لمن بعده والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي، فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به واختبار عقولهم فينزلهم منازلهم واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح (¬1). وقال صاحب المنار (¬2) في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) والذي يستفاد من نصوص القرآن الكريم أن الإسلام دين يحض على الشورى ويأمر بها، فقد جاءت إحدى سور القرآن الكريم باسم الشورى وعدت الشورى فيها من صفات المؤمنين. كما أن الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أصحابه جاء من عند الله من أجل تثبيت هذه القاعدة، لا لأنه محتاج لما يملونه عليه وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ولكن من أجل ترسيخ هذا المبدء العظيم وترسيخ هذه القاعدة الشرعية، والسنة النبوية حافلة بالتطبيقات العملية لمبدء المشاورة مما يدل على مشروعية الشورى وبيان ذلك فيما يلي: ... فقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشورى في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في بداية زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة، فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين معه ويخص منهم أهل الرأي والمكانة والوجاهة بالاستشارة في الأمور فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش، وجاء في السيرة أنه استشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر وقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد (¬3) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله خيراً ودعا له. ثم قال: أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار- وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوا بالعقبة قالوا: إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع به أنفسنا ونساءنا. فكان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصُبرٌ في الحرب صُدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. (¬4) وهذه الصورة من صور استشارته صلى الله عليه وآله وسلم وهو المسدد بالوحي الموعود بالنصر. وفي صلح الحديبية: حينما مَنع رسولَ الله المشركون، خاطب أصحابه قائلاً: (أشيروا أيها الناس علي، أترون أن نميل على عيال وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ أم تريدون أن نؤم البيت فمن صدنا قاتلناه؟) فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد ولا حرباً، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فامضوا على اسم الله تعالى) (¬5) .. الخ ما ورد في القصة التي انتهت بالمصالحة، وسنأتي على بقيتها عند بيان الشورى في الحرب، واكتفينا هنا بما سقناه لغرض بيان مشروعية الشورى، ومنه ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ¬

_ (¬1) - أبو حيان: أبو عبدالله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي الحياني (654 - 754هـ) رحمه الله: التفسير الكبير المسمى البحر المحيط وبهامشه تفسير النهر الماد من البحر لأبي حيان أيضاً، وكتاب الدر اللقيط من البحر المحيط لتلميذ أبي حيان الإمام تاج الدين أبي محمد أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم القيسي الحنفي النحوي (682 - 749هـ) الطبعة الثانية 1411هـ - 1990م دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان- ج 3 ص 99. (¬2) - السيد محمد رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار 4/ 199 الطبعة الثانية - دار المعرفة - بيروت - لبنان. (¬3) - موضع في اليمن. (¬4) - السيرة النبوية لابن هشام الأنصاري ج2ص272. (¬5) - صحيح البخاري: باب غزوة الحديبية ج4ص1531 حديث (3944).

قال: (ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). (¬1) أي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يسير على المنهج الرباني في العمل بالشورى فيما لم يرد فيه نص، وهذا نهجه ومذهبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فمن أراد التأسي به وجب عليه الإتباع، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (¬2) , بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل الشورى في الأمر دليلاً للخير والسعادة ففي صحيح الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاؤكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاؤكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظاهرها). (¬3) والظاهر أن نصوص القرآن والسنة يعضد بعضها بعضاً في الدلالة على مشروعية الشورى، وقد سبق حديث أنس بن مالك عند الطبراني (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) والحديث وإن كان في سنده ضعف إلا أن له شاهداً يقويه، وروى الطبراني أيضاً في الأوسط من حديث ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أراد أمراً فشاور فيه امرءاً مسلماً، وفقه الله لأرشد أموره) (¬4) وأورد الزمخشري في الكشاف (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم). وتعقبه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف فقال: غريب ولم أجده إلا من قول الحسن, وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف: أعاده في تفسير سورة الشورى عن الحسن وهو المحفوظ، ومن طريقه أخرجه البخاري. (¬5) ومجموع هذه الأحاديث دالة على مشروعية الشورى. ومما لا ريب فيه أنها أمانة يجب أن يرعاها المستشار والمستشير فهي من الأمانات التي يجب أن يرعاها المسلم, فقد ورد في السنة ما يدل على ذلك ومنه ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المستشار مؤتمن) (¬6) , وهذا يؤكد أن الشورى مسؤولية وأمانة فكما هي صفة للمؤمنين فهي أمانة في أعناقهم لا يجوز لهم التخلي عنها ولا ترك العمل بها. وفي الحديث (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه) (¬7) وما ذلك إلا لأن الشورى دين وأمانة، والعمل بها يدخل في عداد النصيحة الواجبة، ففي الحديث الذي رواه أحمد عن حكيم بن زيد عن أبيه عمن سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (دعوا الناس فليصب بعضهم من بعض، فإذا استنصح رجل أخاه فلينصح له .. ) (¬8) , وهذه النصوص واضحة في الدلالة على مشروعية الشورى كقاعدة أساسية في النظام الإسلامي، وأصل من أصول الشريعة الإسلامية ومن عزائم الأحكام فيها، وهي بهذا المعنى كما يقول الدكتور فؤاد محمد النادي لا تقتصر على كونها من القواعد الأساسية للنظام السياسي الإسلامي فحسب، وإنما تمثل الإطار العام والنطاق الذي يجب أن تعمل في حدوده كافة السلطات الحاكمة في الدولة الإسلامية التشريعية ¬

_ (¬1) - الترمذي في الجهاد - باب ما جاء في المشورة، حديث 1714 المكتبة الإسلامية. (¬2) - قرة العينين للإمام البخاري ج1ص38 حديث (45) الناشر دار الأرقم الكويت الطبعة الأولى 1404هـ1983م. (¬3) - الترمذي في الفتن. باب 78 حديث 2266 وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المري, وصالح المري في حديثه غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها وهو رجل صالح. (¬4) - رواه الطبراني في المعجم الاوسط ج8ص181 حديث (8333). (¬5) - تحقيق الكشاف للشيخ عادل أحمد عبدالموجود 1/ 647 بذيل الكشاف - مصدر سابق- , وقال الحافظ في الفتح ج 13 ص 345 (أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي حاتم بسند قوي). (¬6) - أبو داود في السنن - كتاب الأدب - باب في المشورة. حديث 5128، والترمذي في كتاب الأدب- باب: أن المستشار مؤتمن. حديث 2822، 2823، وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه في كتاب الأدب - باب المستشار مؤتمن حديث 3745، 3746. (¬7) - ابن ماجه في كتاب الأدب - باب المستشار مؤتمن حديث 3747. (¬8) - البناء: أحمد عبدالرحمن البنا الشهير بالساعاتي في الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ج19 / ص65 أبواب تعظيم حرمات المسلمين حديث 103.

والتنفيذية والقضائية، وهي بذلك تحول دون الاستبداد بالرأي أو الانفراد به، الأمر الذي يؤدي إلى الرأي الصواب وتحقيق وحدة الأمة وتأليف القلوب بين أفرادها. (¬1) وصحيح ما ذهب إليه الدكتور فؤاد النادي باعتبار أن الشورى تمثل أهم الضمانات التي تحول دون مخالفة النصوص أو الانحراف بها لأنها تعطي الأمة حق المشاركة في إدارة شؤونها العامة، وحق مشاركة المختصين ومشاورتهم في صياغة أي نظام أو قانون تدار به شؤون الأمة، فيما لم يرد فيه نص، فهي تمثل حجر الزاوية بين الحقوق والحريات الأساسية التي يتمتع بها المسلمون في الدولة الإسلامية، كما تمثل ضماناً يحول دون انتهاك المشروعية، ولهذا كان أساس مشروعية الشورى ولزومها مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما سلف بيان ذلك، وهي تعتبر ضمانة من ضمانات خضوع السلطات العامة لمبادئ الشريعة الإسلامية التي رسمت الحدود والنطاق الذي يتحتم أن تمارس في نطاقها هذه السلطات ضمن ضوابط وقيود تحول دون انحرافها وتعطي الأمة حق مراقبة تلك السلطات في ممارسة مهامها. أما الديمقراطية: فإنها ووفقاً للمفهوم الذي أشرنا إليه من أنها تعني حكم الشعب لنفسه، فإن الشعب يستطيع ممارسة حقه في الحكم عبر إحدى صور ثلاث: 1 - الديمقراطية المباشرة: وتعني أن يباشر الشعب حق سيادته بنفسه دون وساطة أي جهة، وهذه الصورة تبدو صعبة التحقيق لأنه يفترض فيها أن يباشر الشعب بنفسه جميع سلطات الدولة تشريعية وتنفيذية وقضائية، على أساس أن السيادة لا تقبل أن ينيبها الشعب أو يفوضها إلى من دونه، وقد مورست هذه الديمقراطية في العهد القديم في بعض مدن اليونان والرومان ولا تزال تطبق الآن في بعض المقاطعات السويسرية الجبلية ضئيلة السكان، ويبدو من الناحية العملية استحالة تطبيق هذه النظرية لتعذر جمع الشعب كله في صعيد واحد ولأن عملية التشريع والقضاء هي مما ¬

_ (¬1) - د. فؤاد محمد النادي: رئيس قسم القانون العام بجامعة صنعاء وأستاذ القانون العام المساعد بجامعة الأزهر- موسوعة الفقه السياسي ونظام الحكم في الإسلام - الكتاب الخامس: مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون في الفقه الإسلامي ص 220 الطبعة الثانية 1400هـ - 1980م - دار الكتاب الجامعي.

تتطلب معرفة فنية وتخصصاً علمياً ودراية لا تتوفر عند جميع أفراد الشعب ولهذا لجأت الدول الحديثة إلى نظام الديمقراطية النيابية. (¬1) 2 - الديمقراطية النيابية: وتعني أن يختار الشعب من يمثله، ويكون لهؤلاء الممثلين الحق في التعبير عن الإرادة الشعبية، وهذه الصورة هي البديل المناسب للديمقراطية المباشرة، لصعوبة تطبيقها في الواقع بشكلها الصحيح الكامل فينتخب الشعب من يمثله في ممارسة حق السيادة، ويشكل النواب المنتخبون ما يسمى بالبرلمان، وتكون التصرفات التي يقوم بها هؤلاء باسم الشعب كالتصرفات الصادرة عن الشعب نفسه من باب الوكالة أو النيابة القانونية. 3 - الديمقراطية غير المباشرة: وتقوم على أساس أن يختار الشعب مجلساً نيابياً يمثله، على أن يحتفظ الشعب لنفسه ببعض الحقوق التي يقررها بنفسه، ويباشرها بشكل مباشر، وعلى ذلك فالديمقراطية غير المباشرة هي نظام وسط بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية. (¬2) ومعلوم أن هذه الأنظمة الديمقراطية تقوم على أساس فكري واحد وهو أن السلطة في الدولة ترجع للشعب وأنه وحده هو صاحب السيادة، أي أن الديمقراطية في النهاية هي مبدء السيادة الشعبية ولكن الطريقة التي يمارس بها الشعب سلطته تأخذ واحداً من الأشكال الثلاثة المشار إليها آنفاً، بينما الشورى تستمد مشروعيتها من نصوص الكتاب والسنة وهي أكثر اتساعاً وشمولاً ونفعاً، وأكثر إلزامية باعتبارها من واجبات الشرع. وقد ذكر بعض العلماء انه لا ينبغي ان تأخذ العلاقة بين الشورى والديمقراطية على أنها علاقة توافق أو علاقة تضاد ذلك أن كل نظام منهما يمثل استقلالاً تاماً له أسسه ومبادئه وأليات تنفيذه, ووجود مواطن اتفاق أو مواطن اختلاف لا يعني ان ترسم العلاقة بينهما بتوافق, أو تضاد (¬3). قلت وهذا صحيح حتى وإن كانت مواطن الاتفاق أكثر من مواطن الاختلاف, كما سيجد المتتبع لذلك وأن نوعاً من الالتقاء في كثير من الصور والمبادئ والجزئيات والنظم ¬

_ (¬1) - د. عبدالوهاب الكيالي وآخرون- موسوعة السياسة 2/ 755 ط 1/ 1981م - المؤسسة العربية للدراسات والنشر وحقوق الإنسان في الوطن العربي. (¬2) - د. هاني الطعيمات: المصدر السابق 251. (¬3) - الشورى في الإسلام رؤية نيابية ص2 مصدر سابق.

والمظاهر والوسائل حاصل, وهذا أمر مقبول ومألوف في كل المصطلحات, وذلك لا يعني القضاء على خصوصية كل نظام أو استقلاليته أو دخول بعضها في بعض, أما عند مقارنة مبدأ مشروعية الشورى بالديمقراطية فإنك ستجد أن مشروعية الشورى مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأنها منهاج مرتبط بالشريعة والعقيدة, أما الديمقراطية فهي تستمد صلاحيتها ومشروعيتها من الشعب باعتباره مالك السلطة. فإن قلتَ أن قاعدة الشعب مالك السلطة ومصدرها قد نصت عليها بعض دساتير الدول الإسلامية فكيف يكون ذلك؟ والجواب على ذلك أن الدول الإسلامية تختلف في منهاج الحكم عن غيرها من الدول فهي مقرة لله بالحاكمية وأنه لا إله غيره ولا رب سواه وأنه مالك الملك وأن التشريع له وحده وأن ما نص عليه لا يجوز تحريفه ولا تبديله وأن مهام الأمة تقتصر على ما ملّكها الله إياه في إدارة شؤون الحياة وفي الاستنباط وضبط التقنين فيما لا نص فيه وأنها محكومة في كل أمورها بالشرع, وأن التنصيص على مثل هذه القواعد لا يقصد به الخروج على قواعد الشريعة ومبادئها قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (¬1) ولا تعدو تلك التسمية ونسبتها عند المؤمنين عن نسبة المال أو الحق الذي وهبه الله وتفضل به لهذا أو لذاك فالله وحده هو الواهب للنعم والحقوق للكافة من خلقه وهو الذي جعل للأمة حق اختيار ولاتها وتطبيق احكامه وادارة شؤون الحياة وفق منهجه العادل. فالشعوب الإسلامية تقر بألوهية الله وربوبيته وحده لا شريك له وأنه المالك لكل شيء والمتصرف في جميع الاحوال, وأن تصرفها فيما تملكه على مستوى الفرد والجماعة إنما هو في اطار منهج الله ومقتضى احكامه. أما ديمقراطية الشعوب التي لا تؤمن بشريعة الله ولا تذعن لاحكامه فإنه يقتصر نظرها في حدود صلاح دنيا الانسان وبالمقاييس الدنيوية المادية, وهي تجعل السلطة نظرياً في التشريع للشعب أو للأمة فقط, أما في الممارسة والواقع فإنها تجعل السلطة للمجالس البرلمانية دون مراعاة لما تنص عليه احكام الله وأوامره وقد تكون للحزب ذي الاغلبية النيابية دون حدود عدا ما سنبينه عند دراستنا للشورى في التشريع. ¬

_ (¬1) - الأحزاب الآية36.

أما الشورى الإسلامية وما تأخذ به البرلمانات في الدول الإسلامية فإنها في الأغلب العام تسير على منهج الشريعة ومن هذه الدول الجمهورية اليمنية فإن دستورها ينص في المادة (3) على: (أن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات) وصرح في المادة (2) على: (أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية).

الفصل الثالث الشورى في الأمور العامة

الفصل الثالث الشورى في الأمور العامة المبحث الأول: الشورى في التشريع المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لعبادته وتوحيده، ولذلك فقد استخلفه الله لعمارة الأرض، قال تعالى (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (¬1) أي جعلكم عمَّارها وأناط بكم إدارة شؤون الحياة فيها وفق منهج الله تعالى، وذلك مما يتطلب سن التشريعات والقوانين فيما لم يرد فيه نص، فكان لا بد من توفر العلم والفهم والدراية والتشاور والتناصح، ومقتضى ذلك أنه لا بد من رد الأمور إلى أهل العلم والمعرفة والدراية بها امتثالاً للتوجيهات الربانية بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (¬2) وقوله جل شأنه: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (¬3) وقوله تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (¬4). ومعلوم أن مفهوم التشريع في الفقه الإسلامي يعني قيام المجتهدين باستنباط الأحكام من المصدرين الأساسيين القرآن والسنة، ومما أرشد إليه من مصادر أخرى كالاجماع والقياس والعرف والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع. ومن المقرر في الفقه الإسلامي أن عمل المجتهدين في مجال النصوص القرآنية والنبوية مقيد بحدود التفسير والتوضيح والتطبيق، أي أن عملهم يكون في فهم النصوص استشرافاً للمقاصد التي شرعت النصوص من أجلها وفي تطبيق هذه النصوص تحقيقاً لمقاصد الشريعة التي توخاها المشرع غايات للنصوص. وأما عملهم فيما لا نص فيه، فيتمثل في استنباط الأحكام المحققة للمصلحة المعتبرة شرعاً معتمدين في ذلك على الأدلة التي أرشدهم وأحالهم إليها الشارع الحكيم، وإذاً لا بد في اختيار المجالس التشريعية ممن تتوفر فيهم الصلاحية والقدرة على القيام بالعمل التشريعي، وبدون ذلك لا يتحقق المطلوب من هذه المجالس إلا أن يختار لهم هيئات ¬

_ (¬1) - الآية (61) سورة هود. (¬2) - الآية (83) سورة النساء. (¬3) - الآية (43) سورة النحل. (¬4) - الآية (14) سورة فاطر.

استشارية متخصصة يستشيرونها ويقيمون التشريع على أساس ما تتوصل إليه تلك الهيئات. وإذا كان من المقرر في الفقه الإسلامي أن الاجتهاد يكون فردياً ويكون جماعياً، فإن الاجتهاد الفردي يعتبر حقاً لكل مسلم توفرت فيه شروط الاجتهاد. وقد مارس هذا الحق عدد كبير من الصحابة وكانت لهم اجتهادات فردية في كثير من المسائل التي جدت عليهم، كما مارسه عدد من الفقهاء الذين جاءوا بعد عصر الصحابة حيث كانت لهم اجتهادات فردية في كثير من المسائل، ولا زالت الاجتهادات تمارس من قبل المجتهدين حتى عصرنا هذا, إلا أن هذه الاجتهادات ليست ملزمة للكافة لأن المجتهدين لا يملكون فيها السلطة التي تملك حق وضع الاجتهاد موضع التنفيذ. (¬1) وذكر الإمام ابن القيم نماذج من اجتهادات الصحابة واستنباطهم الأحكام، وجعل ذلك في النوع الأول من الرأي المحمود. وأما النوع الثاني من الرأي المحمود فجعله الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها ويقررها ويوضح محاسنها ويسهل طريق الاستنباط منها. ونقل عن عبدان قوله: سمعت عبدالله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر, وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث، وهذا هو الفهم الذي يختص الله به من يشاء من عباده، ومثال هذا: رأي الصحابة رضي الله عنهم في القول في الفرائض عند تزاحم الفروض، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين، وامرأة وأبوين: أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين، ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت، ورأيهم في مسألة جر الولاء، ورأيهم في المحرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المضي فيه والقضاء والهدي من قابل. ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً، ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر، تصلي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر، ورأيهم في الكلالة وغير ذلك. (¬2) ¬

_ (¬1) - د. الطعيمات: مصدر سابق ص 244 بتصرف. (¬2) - ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 82 تأليف شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ - مراجعة وتعليق طه عبدالرؤوف سعد- طبعة دار الجيل - بيروت - لبنان.

قلت: وهذا الاستنباط والاجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم قد جعله بعض العلماء ملزماً لاعتباره في الاجتهاد الجماعي، والاجتهاد الجماعي قد يكون صادراً من جميع المجتهدين فإذا كان كذلك انطبقت عليه شروط الإجماع ويكون ملزماً. وقد يكون صادراً من أكثرية المجتهدين، فلا تتوفر له صفة الإجماع فيبقى في مثل هذه الحالة مجرد اجتهاد حتى تكون له صفة الإلزام وحتى تكون له هذه الصفة فلا بد من صدوره من سلطة تملك حق الإلزام، وهي في مثل هذه الحالة الدولة، ويكون من سداد الرأي وإصابته أن تكون الدولة ممثلة بمجلس تشريعي ليكون الأمر شورى بين أهله ولم يتفرد به واحد فتصدر الهيئة التشريعية به قانوناً، يصدر بها قرارٌ رئاسيٌ أو مرسومٌ ملكيٌ بحسب شكل نظام الحكم. وقد امتدح الله المؤمنين الذين يكون أمرهم شورى بينهم في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ومن ذلك أمر التشريع فيما لم يرد فيه نص أو فيما يحتاج إلى استنباط الحكم فيه كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم في المسائل التي سلف بيانها، وقد ذكر الإمام ابن القيم أن النازلة كانت إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نص عن الله أو عن رسوله، جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جعلها شورى بينهم. قلت وهذه سنة الخلفاء الراشدين في التشريع والقضاء, فقد ذكر شريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله، فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح. (¬1) وهذه الاستشارة هي في الواقع استشارة في التشريع والقضاء فيما لم يكن فيه نص أي في استنباط النص ثم القضاء به، وسيأتي مزيد بيان عند حديثنا عن الشورى في القضاء. ¬

_ (¬1) - ابن القيم: مصدر سابق 1/ 84.

وفي عصرنا هذا لا يوجد ما يمنع من اختيار مجالس تشريعية من قبل ولاة الأمر أو انتخابها لتقوم ببحث المسائل المتجددة في الحياة بقصد استنباط الحكم الشرعي لها سواءً أكانت هذه المسائل اقتصادية أم اجتماعية أم غير ذلك مما تعالج شؤون الحياة وتعنى بتنظيمها فيما ليس فيه نص, وإصدارها بشكل قوانين، إذ ليس هناك مانع شرعي من ذلك، حتى وإن كان اصطلاح السلطة التشريعية بشكلها المعروف اليوم في النظم المعاصرة غير موجود في العصر النبوي أو عصر الصحابة وإن كان العمل الذي يقوم به الصحابة في عصر الخلفاء الراشدين على نحو ما سلف الإشارة إليه يعطي نفس المدلول لكلمة السلطة التشريعية في المفهوم الحديث. (¬1) فاستنباط الأحكام في المستجدات وتقنينها هو ضرورة لا بد منها ولكن ضمن ضوابط وقواعد الشريعة بعد إجالة الرأي مع أهل العلم والخبرة كي تستقيم أمور البشرية وتسير على منهاج الله العادل. وقد ذكر الدكتور هاني سليمان الطعيمات أن فكرة السلطة التشريعية بالمفهوم الحديث ظهرت في الدولة الإسلامية منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم, ذلك أنه وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبدء حركة الفتوحات الإسلامية وما رافقها من تطورات كبيرة في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي جدّت على المجتمع أحداث كبيرة, وقد يكون الصحابة رضوان الله عليهم بحكم صحبتهم للرسول وبحكم متابعتهم ومشاهدتهم لمراحل التشريع وإدراكهم لمقاصد الشريعة أقدر الناس على مواجهة تلك المستجدات، فقاموا بمساعدة الخلفاء في وضع الحلول من خلال اجتهاداتهم الجماعية والفردية والتي اعتمدها الخلفاء ووضعوها موضع التنفيذ. (¬2) وصحيح ما ذهب إليه الدكتور هاني الطعيمات من أن فكرة السلطة التشريعية قد ظهرت في الدولة الإسلامية منذ عهد الصحابة، وإن كان هذا الاصطلاح أو المسمى غير موجود في ذلك الحين إلا أن العمل الذي كان الصحابة يقومون به يعطي نفس المدلول. ¬

_ (¬1) - نظام الحكم في الإسلام ص 416 - محمد فاروق النبهان - طبعة مطبوعات جامعة الكويت. (¬2) - حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص 244. مصدر سابق.

وأما فكرة أهل الحل والعقد التي اصطلح عليها الفقهاء فإنا نجد بينها وبين فكرة السلطة التشريعية تناسباً كبيراً سواءً كان في اختيارهم أو انتخابهم أو في المهام والصلاحيات التي كانت تسند إليهم، ولعل في اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين من شهد العقبة نقباء ما يومئ ويشير إلى ذلك، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لو اتفقتما على رأي لما خالفتكما) (¬1) لأن اتفاق أصحاب الرأي وأصحاب التخصص مما ينبغي الأخذ به وعدم مخالفته، وكذلك اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه لستة من كبار الصحابة وجعل فيهم الشورى في أمر الخلافة، وقد كان كل واحد منهم يمثل بطناً من بطون قريش وفخذاً كبيراً منها، وكذلك ما كان يصنعه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جمع الصحابة في أمر نازلة ليس فيها نص ويستشيرهم فيها، وكان يهتدي بالمشورة في كثير من الأمور خاصة منها ما كان يتعلق بالأمور الدنيوية. وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد تشددوا في شؤون العبادات والأمور الدينية الخالصة وسد الباب عن الابتداع في الدين، فإن موقفهم كما يقول الدكتور القرضاوي في المعاملات الدنيوية هو الابتداع والاختراع أي ابتكار الوسائل والأساليب والتقاليد والآليات التي تنهض بالدنيا وترقى بالعمران وتطور الحياة إلى التي هي أحسن وهذا يدخل تحت الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عائشة وأنس (أنتم أعلم بأمور دنياكم) (¬2) والحديث الآخر الذي رواه عن جرير بن عبدالله (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة .. ) (¬3) , وهذا ما جعل عمر يبتكر أموراً كثيرة سميت أولويات عمر، وكان يهتدي في أموره بمشورة الصحابة ولا سيما علي كرم الله وجهه، الذي قال فيه: لولا علي لهلك عمر. (¬4) ¬

_ (¬1) - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني, مسند الشاميين, حديث (17990و17309). (¬2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً حديث (2363). (¬3) - أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة حديث (1017). (¬4) - د. يوسف القرضاوي: السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها ص 126 الطبعة الأولى 1419هـ - 1998م - مكتبة وهبة - القاهرة - مصر.

فالسياسة التي يكون أساسها ومرتكزها الشورى هي السبيل الأمثل لمعالجة أمور الدنيا وإدارتها، سواء كان في نطاق اختيار الحاكم أو الأسرة أو المجتمع، أو في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكومين عن طريق إيجاد تشريع يتفق مع النصوص الشرعية وينسجم مع متطلبات الزمان. وقد ذكر الدكتور محمد عمارة: أن الشورى في القرآن فلسفة يزكيها (أي القرآن) كي تكون السبيل لمعالجة أمور الدنيا وسياستها. وإلى فلسفة الشورى انحازت السنة النبوية، فعبر الأحاديث الكثيرة التي تحبذها وتمتدحها من قبل حديث: (المستشير معان، والمستشار مؤتمن) (¬1) , نجد أن تراث دولة الرسول في الأمور السياسية في المدينة حافل بالنماذج التي تجسد الشورى كفلسفة في السياسة، فكل قراراته السياسية كانت خاضعة للتشاور وكثيراً ما عدل عن رأيه حينما كشفت المشاورة عن خطأه، وكثيراً ما سأله الصحابة عن رأيه أو موقفه: أوحي هو أم رأي؟ فإن قال لهم أنه رأي، قدّموا ما عندهم وكانت الشورى سبيلاً لتعديل الرأي أو الموقف، وانطلاقاً من ذلك التراث السياسي والعملي كان إجماع المسلمين بعد رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم على أن الشورى هي السبيل لقيام رأس الدولة ومن ثم جهاز الدولة في المجتمع الإسلامي، فهم قد اختلفوا على شخصية الخليفة ولكنهم اتفقوا على أسلوب اختياره وفلسفة تعيينه وطريق تمييزه، فالأنصار أرادوا اختيار سعد بن عبادة، وجمهرة المهاجرين أرادوا اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونفر من المهاجرين مال إلى اختيار علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم استقروا بعد ذلك على اختيار أبي بكر، وظلت هذه فلسفتهم وتلك سبيلهم إلى أن تحولت الخلافة إلى ملك عضوض على يد معاوية بن أبي سفيان بتأسيس الدولة الأموية. ولقد انتصر طوال دولة الخلافة الراشدة الرأيُ الذي جعل السلطة الحقيقية في الشورى بيد هيئة المهاجرين الأولين والتي كانت بمثابة حكومة الرسول في المدينة والتي تكونت من عشرة قرشيين والذين تميزوا بكونهم من ذوي النفوذ في قريش الممثلين لأهم بطونها السابقين إلى الإسلام والمهاجرين فيمن هاجر إلى المدينة, فهذه الهيئة كانت تحيط بيوت أعضائها بمسجد المدينة مقر الحكومة ولها أبواب تفضي إليه دون غيرهم من المسلمين، وفي الحرب ¬

_ (¬1) - أبو داود في السنن - كتاب الأدب - باب في المشورة. حديث 5128، والترمذي في كتاب الأدب- باب: أن المستشار مؤتمن. حديث 2822، 2823، وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجه في كتاب الأدب - باب المستشار مؤتمن حديث 3745، 3746.

كان مكانهم أمام الرسول، وفي الصلاة كان مكانهم خلفه، وبعد الرسول اختصت هذه الهيئة بمنصب الخلافة تتشاور لتحديد اسم الخليفة وتبايعه البيعة الخاصة التي ترشحه للبيعة العامة أي بيعة من عداها من رؤوس المسلمين فمنها كان ترشيح أبي بكر رضي الله عنه والبيعة الخاصة له، ومنها كان التشاور والإتفاق على أن يخلف عمر أبا بكر، ومن بقيتها كان مجلس الشورى الذي اختار عثمان، ومن بقية البقية بدأت البيعة لعلي بعد مقتل عثمان، تلك أولى المؤسسات التي مارست الشورى في السياسة الإسلامية والتي بقيت في التراث لها معالم واضحة، وأن تكون هناك إشارة في بعض المراجع على مجلس للشورى قام على عهد الرسول ضم سبعين عضواً. (¬1) ويمكن أن نتفق مع الأستاذ محمد عمارة في كثير مما طرحه عن الشورى وتعدد صور الاجتهاد فيما يمارسه أهل الشورى سواء كان في شكل هيئة ومجلس وجماعة أم في شكل أفراد، وأن الفكر الإسلامي قد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه وأتى بفلسفة الشورى لتجعل منها جوهراً لنظام الحكم، وإن اختلفت وتفاوتت اجتهادات المسلمين وفق ظروف المجتمعات التي كان يعيش فيها المجتهدون. ويتبين من ممارسات أهل الشورى في عصر الصحابة رضوان الله عليهم أن يكون من مهام مجالس الشورى وأهل الشورى التشريع واختيار الحاكم، غير أنه يشترط أن تتوافر في المشير شروطٌ يكون بموجبها أهلاً لأن يمثل الأمة فيما يسند إليه من مهام، فالأمة هي المعنية بوضع الضوابط والقيود والصلاحيات التي تخول لهذه المجالس بحيث لا تتجاوز النصوص الشرعية, أي أنها مقيدة بنصوص الشريعة وضوابطها. وإذا ما نظرنا إلى النظم المعاصرة الديمقراطية وما يوكل فيها من صلاحيات إلى البرلمانات فسنجد حينئذ أن أوجه التشابه بينها وبين تلك النظم الديمقراطية تتقارب إذا ما أردنا قيامها على أساس الشورى وفقاً للنظام الإسلامي والمنهاج الرباني الذي يقوم على أساس من القسط والعدل. ولنأت أولاً على بيان أساس هذه المجالس وبيان صلتها بأهل الحل والعقد في النظام الإسلامي. الأساس الذي يجب أن تبنى عليه مجالس الشورى إن كان النظام الإسلامي قد جعل الشورى قاعدة وأساساً من أسس نظام الحكم إذ يقول الحق سبحانه وتعالى مبيناً لذلك في سورة الشورى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (¬2) فكلمة وأمرهم شورى بينهم تشير إلى كل ما تحتاج البشرية إلى أن تتشاور فيه، وقد قال بعض العلماء المعاصرين أن كلمة أمرهم التي وردت في النص القرآني تشير إلى كل الأمور ذات الطابع العام ومنها بطبيعة الحال الأسلوب الذي تشكل به الحكومة ورئيسها وهو الخليفة، يضاف إلى ذلك أن آية (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) تعتبر الشورى جزءاً لا يتجزأ من أسلوب الحكم نفسه، وعلى ذلك فإن مهمة سن القوانين في الدولة كما يرى بعض العلماء لا بد وأن تستند إلى مجلس شورى تنتخبه الأمة. (¬3) قلت أو يختار فيه من قبل ولي الأمر, غير أن الاختيار أو الانتخاب لا بد وأن يكون ممن تتوافر فيهم الصلاحية باعتبار أن الشورى قاعدة أساسية ومبدء عام وركيزة أساسية يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي فيجب أن يمثل الجميع ويشتركوا فيه كما يفهم من قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) بصيغة الجمع والتقدير القاطع الذي هو في حقيقته أسلوب أمر تقديره (جعلوا) عطفاً على استجابوا وأقاموا فيكون المعنى: ويجعلون أمرهم شورى بينهم. (¬4) فالشورى فرض من فروض الكفاية وطبيعة هذا الفرض عامة إذ أن طلب الكفاية متوجه على الجميع كما يقول علماء الأصول (¬5)، ولكن إذا قام البعض بفعله سقط ¬

_ (¬1) - د. محمد عمارة: الإسلام وقضايا العصر 102 - الطبعة الأولى 1980م دار الوحدة بيروت - لبنان. بتصرف. (¬2) - الآية (38) من سورة الشورى. (¬3) - محمد أسد: منهاج الإسلام في الحكم - دار العلم للملايين - بيروت - الطبعة 1993 ص 89. (¬4) - دكتور داود الباز: الشورى والديمقراطية النيابية, دراسة تحليلية وتأصيلية لجوهر النظام النيأبي - دار الفكر الجامعي - الإسكندرية ص112. (¬5) - انظر الموافقات في أصول الأحكام لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى النجمي الغرناطي المعروف بالشاطبي ص 119 - دار إحياء الكتب العربية - الجزء الأول.

الإثم والحرج عن الباقين، أي أن الذي يقوم بالفعل إنما ينوب في تنفيذ الفرض عن المجموع, والكفاية هنا في مفهومها الصحيح هي كفاية لتحقيق الهدف وليست كفاية لتحقيق العدد، ولهذا فإنه لا بد من توافر الأهلية والصلاحية فيمن ينتخب أو يختار في هذه المجالس، وكذلك لا بد من توافر الصلاحية فيمن يعين في القضاء، ويكفي أن يكون هناك عدد من القضاة لأداء فرض القضاء وعدد من المحاربين لأداء فريضة الجهاد وهلم جرا. ومؤدى ذلك أن التمثيل والإنابة هي الصورة الطبيعية لتحقيق الفرض العام (الكفائي) في المجتمع الإسلامي. (¬1) ¬

_ (¬1) - الدكتور فؤاد النادي - مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون في الفقه الإسلامي - دار الكتاب الجامعي ص 58.

النظام النيابي وفكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها .. أساسه وسنده

النظام النيابي وفكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها .. أساسه وسنده إن فكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها فيما فيه صلاحها واستقامة أحوال الجماعة من أبنائها بواسطة أفراد ينوبون عنها مستقرة في الأذهان ولا يوجد في شرع الله ما يمنع من ذلك, بل إن ذلك مما يوجد له أساس وسند من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, فهو من الأمور التي لا تستقيم الحياة دونها لما في ذلك من التيسير والتعاون على البر الذي أمر الله به في قوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (¬1) فقيام البعض من الناس برعاية مصالح الأمة وتدبير شؤونها نيابة عنها له ما يدل على مشروعيته ففي سورة براءة يقول الحق جل وعلا: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (¬2) وفي تفسيرها يقول الإمام القرطبي: إن المقصود بقوله تعالى (إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) أنهم الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان المتولي للعقود وأصحابه رضوا ذلك فكأنهم عاقدوا وعاهدوا وانتسب العهد إليهم ... ولا يمكن غير ذلك فإن تحصيل الرضى من الجميع متعذر فإذا عقد الإمام لما يراه من المصلحة أمراً لزم جميع الرعايا. (¬3) وبهذه الآية تتأسس مشروعية التمثيل للأمة من القرآن الكريم (¬4) , بل أن جمع شعب بأكمله أو أمة بكل أفرادها في أمر التشريع والشورى وإدارة شؤونها العامة أمر لا يمكن دون نظام النيابة والتمثيل, إذ يستحيل من الناحية المادية جمع الأمة كلها في مكان واحد وحتى لو أننا افترضنا تحقق ذلك لاستحال الوصول إلى رأي واحد وقرار نهائي لسبب اختلاف الآراء وتباين الفهم في المسألة الواحدة. ¬

_ (¬1) - الآية (2) من سورة المائدة. (¬2) - الآية (1) من سورة التوبة. (¬3) - القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن. (¬4) - داود الباز في الشورى والديمقراطية النيابية ص 114.

أضف إلى ذلك أنه قد يتعلق موضوع الشورى في مجلس التشريع بأمر فني بحت أو بأمر يتطلب موضوعه خبرة خاصة لا يصلح لعامة الناس إبداء الرأي فيه وإنما يرجع فيه إلى أهل الإختصاص من العلماء فيكون الأخذ بنظام التمثيل النيأبي ضرورة لا مناص من الأخذ بها من أجل تحقيق المصلحة العامة وتمثيل الأمة عن طريق نوابها للمشاركة في اتخاذ القرار وإقامة فريضة الشورى التي أمر الله بها. وسيجد المتتبع للهدي النبوي أساساً ومستنداً لنظام التمثيل النيأبي من سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن ضرب على يده وبايعه سبعون رجلاً من الأنصار قال: (إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً, فلا يجدن منكم أحد في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل, فلما تخيرهم قال للنقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي. قالوا: نعم) (¬1) , والحديث واضح الدلالة في أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سن فكرة اثني عشر رجلاً ليكونوا (نواباً) عن قومهم وكفلاء عليهم. وسبق أن أوردنا قصة استشارته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في غزوة بدر فقام المقداد بن عمر البهراني فقال: والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك حتى تنتهي إليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -وإنما يريد الأنصار- (أشيروا عليّ أيها الناس، فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار كأنك يا رسول الله تريدنا. قال: أجل. قال: فامض يا نبي الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل واحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين) (¬2) , وفي ذلك تقرير لنيابة سعد وتمثيله للأنصار فقد ناب سعد بن معاذ رضي الله عنه عن الأنصار جميعاً. ¬

_ (¬1) - الطبقات الكبرى تأليف محمد بن سعد بن منيع الزهري (توفي 230هـ) دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان ج1 / ص107. (¬2) - ابن سعد في الطبقات الكبرى ج2 - ص 255.

وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقر نيابة سعد بن معاذ عن الأنصار وسمح له أن يعبر عن آرائهم وأن يمثلهم في إبداء الرأي نائباً عنهم في ذلك. وهذا ما يعبر عنه قول سعد: أنا أجيب عن الأنصار. ورضاء الأنصار بهذا التمثيل لهم أو النيابة عنهم ولو لم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشرع مبدء التمثيل النيأبي بسنته التقريرية لقال لسعد لا تحجبنا عنهم ولنسمع آراءهم منهم. (¬1) بل إن بعض العلماء المعاصرين يرى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق الفكر الحديث في إرسائه لنظام التمثيل النسبي حين جعل التمثيل النيأبي نسبياً إذ جعل النقباء بحسب عدد سكان كل قبيلة فكان النقباء أو النواب عن الخزرج تسعة وعن الأوس ثلاثة، (¬2) وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سبق إلى تقرير نظام التمثيل النسبي الذي يقره النظام الوضعي لتمثيل الأحزاب السياسية حسب قوتها العددية. (¬3) ¬

_ (¬1) - دكتور منير أحمد البياتي في النظام السياسي الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية - دار البشير للنشر والتوزيع - عمان - الطبعة الثانية 1414هـ ص 178. والدكتور محمد بن محمد إسماعيل فرحات في المبادئ العامة في النظام السياسي الإسلامي دار النهضة العربية ص 106. (¬2) - انظر في ذلك د. أحمد شوقي الفخري في كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية - الهيئة العامة للكتاب ص 204. والدكتور محمد سعيد البوطي في فقه السيرة - الطبعة الثانية ص 130. (¬3) - الدكتور داود الباز في كتابه النظم السياسية (الدولة والحكومة) في ضوء الشريعة الإسلامية دار النهضة العربية ص 372.

صلة المجالس التشريعية (نواب الشعب) بأهل الحل والعقد

صلة المجالس التشريعية (نواب الشعب) بأهل الحل والعقد إن النظام النيأبي من الممكن أن يجد له سنداً في الفقه الإسلامي وفي فعل الصحابة رضوان الله عليهم نجد أساساً لذلك فهذا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قد جعل اختيار الخليفة بعده إلى ستة فسمى علياً وعثمان وطلحة والزبير وعبدالرحمن وسعدا (¬1) عرفوا بأهل الشورى أو أهل الحل والعقد. قال ابن سعد: فلما اجتمعوا قال عبدالرحمن: اجعلوا أمركم في ثلاثة نفر منكم، فجعل الزبير أمره إلى علي وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبدالرحمن بن عوف فأتمر أولئك الثلاثة حين جعل الأمر إليهم، فقال عبدالرحمن: أيكم يبرأ من الأمر ويحمل الأمر إلي ولكم الله علي ألا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين فأسكت الشيخان علي وعثمان فقال عبدالرحمن تجعلانه إلي وأنا أخرج منها والله لا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين قالوا: نعم. فخلا بعلي فقال إن لك من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله عليك لئن استخلفت لتعدلن ولئن استخلف عثمان لتسمعن ولتطيعن، فقال: نعم. قال وخلا بعثمان فقال مثل ذلك، فقال عثمان: نعم. فقال ابسط يدك يا عثمان، فبسط يده فبايعه علي والناس، (¬2) ولم ينقل عن أحد من الصحابة اعتراض على ذلك فصار ذلك إجماعاً على جواز النيابة عن الأمة، وفي القصة ما يدل على جواز التمثيل النيأبي فقد حدث نيابة وتوكيل من ثلاثة منهم لثلاثة آخرين ثم نيابة وتوكيل من اثنين لواحد وصار في النهاية نائباً ووكيلاً عن أهل الحل والعقد ممثلي الأمة ليقوم بنفسه بالعقد نيابة عن الأمة (¬3)، وفيه أيضاً ما يدل على جواز اختيار ولي الأمر أعضاء المجالس التشريعية أو مجلس الشورى وأنه يجوز أن يكون من مهام المجلس اختيار الحاكم رئيساً كان أو ملكاً أو خليفة وقد ذكر الفقيه الدستوري الماوردي أنه يجوز للخليفة أن ينص على الاختيار كما يجوز أن ينص على أهل العهد. وقال الفقيه العالم أبو يعلى في أحكامه السلطانية: وهل للخليفة أن ينص على أهل الاختيار كما ينص على أهل العهد؟ قيل يجوز لأنها من حقوق خلافته (¬4) وعلى ضوء ذلك فإن صلة مجالس الشورى والتشريع بأهل العقد هي صلة وثيقة كما سنبين ذلك ولكننا نود قبل أن نوضح ما قد يطرأ من لبس بين المسميات التي وردت في الفقه الإسلامي في المصطلحات الخاصة بتعيين أهل الشورى, فتارة يطلق عليهم أهل الشورى، وتارة يطلق عليهم أهل الحل والعقد أو أهل الاختيار، والمتبادر من استخدام هذه المصطلحات أنهم يقصدون الأشخاص أولي المكانة في الأمة المُتَبَعين فيها الذين يدين لهم السواد الأعظم من الناس بالزعامة والطاعة، لما اتصفوا به من العدالة والإخلاص والمعرفة الصائبة للأمور، سواءً أكانوا من أهل العلم أم السياسة أم الوجاهة (¬5)، وقد ذكر الشيخ محمد عبده في توضيح أهل الحل والعقد أنهم علماء الأمة المجتهدون، وسائر الرؤساء والزعماء الذي يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح. (¬6) ويقول عنهم الشيخ محمود شلتوت: هم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الإختصاص في بحث الشؤون وإدراك المصالح والغيرة عليها، وكانت إطاعتهم هي الأخذ بما يتفقون عليه في المسألة ذات النظر والاجتهاد أو بما يترجح فيها عن طريق الأغلبية أو قوة البرهان (¬7). وبهذا تتضح الصلة بين مجالس الشورى وبين أهل الحل والعقد, فالظاهر أن أهل الحل والعقد هم ممثلوا الأمة وهم أهل الشورى فيها، فالذي يتبين من خلال بعض النماذج التطبيقية في عهد النبوة، إقرار فكرة نيابة أهل الرأي والوجاهة عن قومهم كما سلف بيان ذلك, وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار من لهم الطاعة في قومهم ومن عُرف عنهم سداد ¬

_ (¬1) - الطبقات الكبرى لابن سعد ج3/ 181. (¬2) - ابن سعد في الطبقات الكبرى ج3/ 181. (¬3) - النظام السياسي الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية ص 172. والشورى والديمقراطية ص 1118. (¬4) - انظر في ذلك الأحكام السلطانية في الولايات الدينية، تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي، دار الكتاب العربي - الطبعة الثانية 1415، ص 47. والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الحنبلي - طبعة دار الفكر ص 37 وما بعدها. (¬5) - انظر حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص 234، وسعيد أبو جيب في مناهج الإسلام السياسي ص 238 - 239. ومنير البياتي في النظام السياسي الإسلامي ص 176. (¬6) - تفسير المنار تأليف السيد محمد رشيد رضا منشئ محلة المنار - الطبعة الثانية - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان ج3 ص11. (¬7) - الإمام الأكبر محمود شلتوت - الإسلامية عقيدة وشريعة - الطبعة الثالثة عشر - دار الشروق ص 443.

الرأي، ولذلك اصطلح العلماء فيما بعد على تسميتهم بأهل الحل والعقد، والوقائع التي استشار فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل الرأي والطاعة من الصحابة رضوان الله عليهم كثيرة، وقد سبقت الإشارة إلى بعضها مثل استشارته أصحابه في غزوة بدر، واستشارته صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما سيدا الأوس والخزرج في مصالحة بني غطفان وأخذه بمشورتهما، وفي عهد الخلفاء الراشدين كان المستشارون هم رؤساء الناس المتبعون فيهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكر ابن القيم: كان إذا ورد عليه الخصوم أو عرضت عليه مسألة نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم يجد سنة سنها النبي جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك. (¬1) وبهذا يتضح أن رؤساء الناس من العلماء في شتى المجالات وأفاضل المسلمين وأهل الاجتهاد والعدالة والأشراف والأعيان وأصحاب الاعتبار والتدبير هم من أطلق عليهم أهل الحل والعقد ومنهم تم اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عرفوا بأهل الشورى, ولكن ليس باعتبارهم هيئة تشريعية وإنما هيئة ناخبين للخليفة, وفي القصة ما يستدل به على جواز التمثيل النيابي. أما إطلاق أهل الحل والعقد على أهل الاجتهاد فهو من قبيل إطلاق الكل على الجزء ولهذا فإن الفقهاء قد اشترطوا شروطاً يجب توافرها في أهل الحل والعقد, فمنطق الحال يقتضي أن يكون جميع أهل الحل والعقد أو أكثرهم ممن لهم إلمام تام بالشريعة الإسلامية إذ الشورى مقيدة بألا تخرج على نصوص الشريعة القطعية ولا روحها التشريعية, وإذا كانت الحياة المعاصرة تتطلب تخصصات فنية في مجالات معقدة يصعب على غير المتخصصين ارتيادها، فإن الواجب أن يكون أهل الحل والعقد من المحيطين بالشريعة الإسلامية وبالعلوم والفنون والصناعات التي تحتاجها الأمة (¬2)، كي تكون أهليتهم في تمثيل الأمة والنيابة عنها صحيحة. ويمكن تلخيص ما يشترطه الفقهاء في أهل الحل والعقد في النقاط التالية: 1 - البلوغ والرشد. 2 - الإسلام. 3 - العدالة. 4 - العلم والاجتهاد ولو في جزئية منه ما دام الاجتهاد يقبل التجزئة. 5 - الرأي والتدبير والأمانة. هذه هي أهم الشروط التي تناولها الفقهاء وهي ليست توقيفية بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هي اجتهادات شخصية لبعض أهل العلم بنيت على تصورات الفقهاء لوظيفة أهل الحل والعقد في زمانهم, غايتها توفر الأهلية في أهل الحل والعقد الذي يدخل في مهامهم تمثيل الأمة في اختيار الحاكم وتزكيته والتشريع فيما فيه مصلحة للأمة مما لم يرد فيه نص, وسبق أن أشرنا إلى ما نقله الشيخ محمد عبده عن الشيخ محمد رشيد رضا, ونأتي على ما أتى عليه في تفسيره المنار قال -رحمه الله (¬3) -: أنه فكر في هذه المسألة من زمن بعيد، فانتهى به الفكر إلى أن المراد بأولي الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذي يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة, فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه، بشرط أن يكونوا أمناء وأن لا يخالفوا أمر الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة، وهو ما لأولي الأمر سلطة فيه ووقوف عليه, وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد, بل هو مما يؤخذ عن الله ورسوله فقط ليس لأحد رأي فيه، إلا ما يكون من فهمه، فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص من الشارع مختارين في ذلك، غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة, ويصح أن يقال هم معصومون في هذا الإجماع ولذلك أطلق الأمر ¬

_ (¬1) - إعلام الموقعين 1/ 62. (¬2) - الإسلام وأوضاعنا السياسية للشهيد عبدالقادر عودة ص22. (¬3) - أي الأستاذ الإمام , والكلام للسيد محمد رشيد رضا.

بطاعتهم، بلا شرط مع اعتبار الوصف والاتباع المفهوم من الآية، وذلك كالديوان الذي أنشأه عمر باستشارة أهل الرأي من الصحابة ولم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعترض أحد من علمائهم على ذلك. فأمر الله في كتابه, وسنة رسوله الثابتة القطعية التي حرص عليها صلى الله عليه وآله وسلم بالعمل هما الأصل الذي لا يرد, وما لا يوجد فيه نص عنهما ينظر فيه أولو الأمر إذا كان من المصالح, لأنهم هم الذين يثق بهم الناس فيها ويتبعونهم فيجب أن يتشاور في تقرير العمل به (¬1) , ويقول السيد محمد رشيد رضا في موضع آخر من تفسيره: يجب أن يكون في الأمة رجال أهل بصيرة ورأي، في سياستها ومصالحها الاجتماعية وقدرة على الاستنباط, يرد إليهم أمر الأمن والخوف، وسائر الأمور الاجتماعية والسياسية وهؤلاء هم الذين يسمون في عرف الإسلام أهل الشورى، وأهل الحل والعقد، ومن أحكامهم أن بيعة الخليفة لا تكون صحيحة إلا إذا كانوا هم الذين يختارون الخليفة ويبايعونه برضأهم وهم الذين يسمون عند الأمم الأخرى بنواب الأمة (¬2) , وسيأتي مزيد بيان عن ذلك عند حديثنا عن أهل الشورى وما أوردناه هنا إنما كان لغرض بيان صلة المجالس التشريعية بأهل الحل والعقد وإذا كنا قد أوضحنا في هذه العجالة الأساس الذي ينبغي أن تبنى عليه المجالس التشريعية أو المجالس النيابية كما يسميها البعض أو مجالس الشورى وأن أساس اختيارهم يمكن أن يأتي عن طريق تعيين ولي الأمر ضمن ضوابط وشروط أو عن طريق انتخابهم من قبل الأمة التي هم في الواقع ممثلون لها ونواب عنها ليمارسوا الشورى في التشريع فيما لم يرد فيه نص ضمن ضوابط وقواعد لاستنباط الأحكام في كل أمر يستدعي ذلك مما فيه تحقيق لمصلحة معتبرة معتمدين في ذلك على الأدلة التي أرشدهم إليها الشارع الحكيم. ¬

_ (¬1) - انظر تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار طبعة دار الفكر، ج2. (¬2) - انظر المنار.

وظائف المجالس التشريعية في الأنظمة الحديثة

وظائف المجالس التشريعية في الأنظمة الحديثة للمجالس التشريعية (البرلمان) في الأنظمة القانونية الحديثة ثلاث وظائف رئيسية: 1 - الوظيفة التشريعية: المراد بها سن القوانين التي تحتاج إليها الدولة حيث تقوم السلطة التنفيذية باقتراح مشروع قانون ما، ثم تقدمه إلى البرلمان، الذي يحيله بدوره إلى لجانه المتخصصة لدراسته، وبعدها يعرض على الهيئة التشريعية مجتمعة لمناقشته، وفي حال إقراره ثم إصداره بقانون يوضع موضع التنفيذ بعد نشره في الجريدة الرسمية وسنأتي قريباً على بيان كيفية سن القوانين وما هي القوانين التي يجب أن يناط استنباطها بهذه المجالس سواءً كانت اقتصادية أم اجتماعية أم غير ذلك. 2 - الوظيفة السياسية: وهي من أهم وظائف الهيئة التشريعية وتتمثل باختيار الحاكم أو تزكية من يترشح, ومنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها، ثم مراقبة أعمال هذه السلطة، والتحقق من مدى تنفيذها للقوانين الصادرة عنها، ومسائلة الوزراء عن أعمالهم وتصرفاتهم في مجال وزاراتهم. 3 - الوظيفة المالية: وتتمثل في إقرار الميزانية العامة للدولة ومناقشتها قبل إقرارها، ثم الإشراف على إنفاقها وصرفها, وتشترط بعض الدساتير في بعض الدول موافقة الهيئة التشريعية على القروض العامة والارتباطات المالية التي تربط بها الدولة, هذا ومضمون هذه الوظيفة يرجع في الحقيقة إلى كل من الوظيفة التشريعية والوظيفة السياسية، ذلك إن إصدار الموازنة العامة للدولة يكون بقانون وهذا تشريع، والإشراف على إنفاق هذه الموازنة يعد رقابة وهذه وظيفة سياسية. إذاً فوظيفة وصلاحيات البرلمان أو ما يمكن تسميته بمجلس الشورى يمكن ردها إلى أمرين رئيسين كما يقول د. هاني الطعيمات: الأول: إصدار التشريعات في الدولة. والثاني: مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها على أعمالها (¬1). ¬

_ (¬1) - د. هاني سليمان الطعيمات 243 مرجع سابق.

يضاف إلى ذلك أمر ثالث هو اختيار رئيس الدولة بطريق الانتخاب غير المباشر أو تزكيته ثم انتخابه من قبل الشعب بطريق الانتخاب المباشر. وقد سبق أن بينا قصة أهل الشورى الذين اختارهم عمر رضي الله عنه ويستفاد من ذلك جواز تزكية الرئيس أو الخليفة من قبل أهل الشورى أو المجلس النيأبي ثم انتخابه من قبل الشعب واعتبار ذلك بمثابة البيعة أو انتخاب من قبل المجلس النيأبي بطريق الانتخاب غير المباشر. كما يجوز في النظام الملكي تزكية ولي العهد أو الملك أيضاً, أما الوظيفة التشريعية فسبق أن أوردنا من الأدلة ما يكفي لجواز قيام المجتهدين وأهل التخصص بإصدار تشريعات فيما لا نص فيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما يكفي لتحقيق الصالح العام ضمن ضوابط الاستنباط المعروفة في الفقه الإسلامي, كما سنأتي قريباً على ما نختاره من ضوابط التصويت, غير أننا قبل ذلك نشير إلى الفرق الذي يأتي في الأنظمة البرلمانية (مجالس الشورى) في الدول التي لا تتخذ الإسلام منهجاً لها, في التشريع والدول التي تتخذ الإسلام والتشريع الرباني أساساً حيث يكمن الفرق في أن البرلمانات المعاصرة التي لا تتخذ الإسلام منهجاً لها أن السلطة التشريعية تملك أن تصدر من القوانين ما تشاء دون أن تكون ملتزمة بأي ضوابط أو قيود سوى عدم معارضة ما تسنه من قوانين لأحكام الدستور، والهيئة المختارة لوضع الدستور تملك وضع ما تراه في الدستور عدا مراعاة الاعتبارات والظروف التي تم اختيارهم وتعيينهم فيها, وكثيراً ما تكون هذه الهيئة خاضعة لاعتبارات مفروضة عليها مادياً أو معنوياً (¬1) , أما الدول التي تأخذ بالإسلام منهجاً فإنها تكون مقيدة بضوابط الشريعة, فالشريعة هديها متكامل وهي صالحة لكل زمان ومكان وهي المصدر الوحيد للتشريع في الدولة الإسلامية وليس لمسلم أو مجلس تشريعي أو حكومة إسلامية أن تسن قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية, وإنما يجب على جميع أفراد أو جماعات البرلمانات والحكومات الالتزام في كل شؤون الحياة بكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية في أصولها وفروعها, ويوم تلتزم الأمة بذلك فإنه سيعود للأمة عزها ومجدها الذي فقد بإهمال الشريعة ونسيانها, والأدلة على وجوب اتباع شرع الله وتحكيمه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والعلماء كثيرة ونشير إلى بعض منها. ¬

_ (¬1) - نظام الحكم في الإسلام د. محمد فاروق النبهاني ص 427 وما بعدها وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص 246.

الأدلة على وجوب اتباع الشريعة الإسلامية وعدم جواز مخالفتها

الأدلة على وجوب اتباع الشريعة الإسلامية وعدم جواز مخالفتها ? الدليل الأول: من كتاب الله تعالى لقد وردت آيات في كتاب الله تعالى كثيرة تدل على وجوب اتباع الشريعة الإسلامية وتطبيقها في جميع شؤون البشرية منها قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (¬1) وقوله جل شأنه: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (¬2) وقوله عَلت كلمته: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا) (¬3). قال الإمام ابن كثير رحمه الله هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم, مما ذكر في أسباب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك. قال والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت. (¬4) ولقد ذكر هذه الأسباب ونحوها الكثير من المفسرين كالطبري والقرطبي والزمخشري والسيوطي وابن الجوزي وغيرهم. (¬5) ¬

_ (¬1) - الآية 49 من سورة المائدة. (¬2) - الآية 18 من سورة الجاثية. (¬3) - الآية 60 من سورة النساء. (¬4) - تفسير ابن كثير ج1 - ص 19. (¬5) - الطبري في تفسيره ج5 - ص 96، وتفسير القرطبي ج5 - 263، وتفسير ابن الجوزي ج2 - ص 218، والكشاف ج1، ص 36 والدر المنثور ج2/ 178.

وقال صاحب المنار كل من يتحاكم إلى الطاغوت من دون الله ورسوله ممن يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله فهو راغب عن الحق إلى الباطل, وذلك عين الطاغوت الذي هو بمعنى الطغيان الكثير, وقد قيل للإمام الشيخ محمد عبده: فما تقول في هذه المحاكم الأهلية والقوانين؟ قال: تلك عقوبة عوقب بها المسلمون. (¬1) وجاء في تفسير روح البيان في تفسير قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) الآية 59 من سورة النساء وما بعدها. إن هذه الآيات فيها دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو خارج من الإسلام سواءً رده من جهة الشك أو من جهة التمرد, ومن أجل هذا حكم الصحابة بردة الذين منعوا الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم. (¬2) ? ¬

_ (¬1) - تفسير المنار ج5 - ص 225. (¬2) - تفسير روح البيان لإسماعيل حقي البروسي - طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت - ج2 - ص 131.

ثانيا: ما ورد في السنة النبوية

ثانياً: ما ورد في السنة النبوية وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) (¬1) وهذا الحديث قد بين فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجوب العمل بالكتاب والسنة وأن ما خالفهما فهو باطل مردود, وهذا النص من السنة النبوية قد جاء ليقرر القاعدة العامة في البطلان كجزاء لكل تصرف غير شرعي سواءً كان قانوناً أو قراراً أو لائحة أو حكماً, فكل حكم أو قرار يخالف أحكام الشريعة الإسلامية والعدالة الإنسانية فهو باطل بقوة القانون الإسلامي, فالسلطات العامة في الدولة الإسلامية مقيدة في عملها بألا تخرج عن أحكام الشريعة الإسلامية والدستور الإسلامي المستمد منها، فهي ليست سلطات مطلقة بل إن السلطة التشريعية مقيدة فيما تسنه من قوانين بألا يتجاوز إطار الشريعة الإسلامية الغراء. وقد ورد في لفظ حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجة الوداع وقال: (يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه) (¬2) , وهذا الحديث صريح في وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ووجوب الأخذ بهما طريقاً ومرشداً وحكماً في كل شؤون الحياة السياسية والاجتماعية الثقافية والتشريعية وفي كل أمور العبادات والمعاملات وفي كل شؤون الدنيا والآخرة، وأن ما عدا ما ورد في الأدلة الشرعية فهو مردود مرفوض، ومما يؤكد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما بعث معاذ إلى اليمن قال له: (بما تقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله. قال: أقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله. قال: أجتهد رأيي ولا آلو جهداً. قال: فضرب بيده في صدري وقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) (¬3) , ووجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وافق على حصر مصادر الحكم في كتاب الله تعالى فإن لم يوجد فيه نص ففي سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم يوجد في ذلك نص فإن باب الاجتهاد في الاستنباط يكون مفتوحاً للعلماء ضمن الضوابط والشروط التي حررها علماء الأمة المحكوم به في الحديث على الأدلة الشرعية التي يستنبط القاضي حكم الواقعة منها شائع معروف عند الفقهاء, فإنهم يطلقون المحكوم به على الأدلة الشرعية. قال ابن رشد: المقضي به وهو الكتاب والسنة. وقال ابن فرحون: هو وميارة (¬4) المقضي به وهو حكم من الكتاب والسنة، وجاء في مراتب الإجماع لابن حزم، ولقد اتفق العلماء على وجوب الحكم بالقرآن والسنة بالإجماع (¬5) وقد أخرج الحاكم في المستدرك في باب الأحكام من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ألا أيها الناس لا يقبل الله صلاة إمام حكم بغير ما أنزل الله) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (¬6). وهذه الأحاديث الثابتة تفيد وجوب اتباع القرآن الكريم والسنة النبوية في كل شؤون الحياة، بل أن وجوب الأخذ بهما واستنباط الأحكام منهما هو ما تقتضيه الفطرة السليمة والعقل القويم والمنطق السديد، وتقيده أسباب ومبررات اجتماعية وفطرية منها أن الشريعة الإسلامية هي منهج الله ونظامه الذي وضعه للإنسانية وابتعث به رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهو منهج الله الصانع الخالق الذي يمتاز برقيه وكماله وخلوه من الجهل والوهن والضعف وبعده عن الميول والهوى فهو ليس كمنهج البشر الذي لا يخلو من ضعف أو نقص أو محاباة، فمنهج الله لا محاباة فيه لفرد ولا لطبقة ولا لشعب ولا ¬

_ (¬1) - البخاري في صحيحه كتاب الصلح حديث 2697، ومسلم في صحيحه كتاب الأقضية حديث 17178. (¬2) - السنن الكبرى للبيهقي ج/ 10 ص 114طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الهند الطبعة الأولى 1355هـ. (¬3) - انظر سنن أبي داود كتاب الأقضية باب اجتهاد الرأي في التضاد حديث 3592 ج/ 4 ص 80. والترمذي في كتاب الأحكام ج/3 ص 630. والدارمي في سننه ج/1 ص 60. والبيهقي في السنن الكبرى ج-1 ص -144. والفتح الرباني بترتيب سند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني مع مختصر شرحه بلوغ الأماني - للبناء - ج 15 - ص208. (¬4) - انظر ابن فرحون في تبصرة الحكام ص 44 - ج 1 وميارة في شرحه على تحفة ابن عاصم ص 16. (¬5) - انظر مراتب الإجماع لابن حزم الظاهري ج 2 - ص 189. (¬6) - انظر المستدرك على الصحيحين للحافظ أبي عبدالله الحاكم النيسابوري - طبعة دار الفكر ج 4 - ص 89.

لجنس, لأن الله جل وعلا متجرد متنزه بجلاله عن هذه الأخلاق والآفات الذميمة التي يتصف بها البشر, والخالق للبشر هو الذي يعلم ما جبلت عليه فطرة الإنسان الحقيقية وما تحتاج إليه في حياتها من وسائل وما تسعى إلى تحقيقه من أهداف وما يصلح به شؤونها، لذا فهو القادر سبحانه وتعالى على أن يضع لهم النظام الأمثل بدون عناء ومشقة وبدون خوض لتجارب ترهق المجتمع وتكلفه الثمن الباهظ، فالفكر البشري في مختلف العصور لا يخلو من تعارض وتناقض ما لم يكن متمسكاً بمنهاج الحق الذي جاء من عند الله, ما ذلك إلا لأن الأهواء والرغبات والشهوات البشرية تتحكم فيه في كثير من الحالات. ويكفي في العصور القريبة منا مشاهدة تعارض النظامين الشيوعي والرأسمالي وانهيار النظام الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما يعاني العالم الآن من متاعب النظام الرأسمالي من تعاسة وشقاء وحروب وبلاء وانهيار في الأخلاق وسيطرة رؤوس الأموال على مقدرات الشعوب دون خضوع لقوانين العدالة الربانية, فتطبيق الشريعة الإسلامية يحمي الشعوب في إطارها الداخلي ويحمي الإنسانية جمعاء على المستوى الخارجي, لأن صفة الالتزام تتوافر للشريعة ليس فقط بالنسبة للأفراد داخل الدولة كما هو الشأن في القانون الوضعي ولكنها ملزمة أيضاً للدولة ذاتها قبل أفراد الشعب وقبل غيرها من الدول في العلاقات الدولية باعتبارها قانوناً إلهياً يسمو فوق البشر جميعاً أفراداً وجماعات ودولاً. ففي الداخل يجعل سلطة المجالس التشريعية والتنفيذية والقضائية محدودة بإطار القواعد الكلية للشريعة الإسلامية, فالمجالس التشريعية لا تملك الخروج على النصوص الشرعية أو تعديلها بالزيادة أو النقصان أو تبديلها, وفي هذا ضمان كبير لعدم سيطرة الأهواء والميول والشهوات سواءً كان من الأحزاب أو الفئات المتغلبة والمتسلطة في المجالس التشريعية وغيرها, فالفئة الحاكمة التي بيدها مقاليد الأمور وتملك الأغلبية في هذه المجالس لا تستطيع أن تخالف الشريعة الإسلامية أو تلغي أو تعدل نصوصها, وفي ذلك حماية للناس من التعسف في استخدام سلطاتها أو الشطط في سن القوانين أو تنفيذها وهذا هو الفرق بين صلاحيات المجالس التشريعية في الدول الإسلامية عن غيرها.

فسلطة الأمة في ظل القوانين الوضعية في غير الدول الإسلامية سلطة لا تخلو من العسف والأهواء فيما تمارسه من صلاحيات، فسلطة الأمة في ظل القوانين الوضعية أنها ممثلة في أحزابها, وهذه الأحزاب بما لها من ميول وأهواء وضعف بشري تدخل في تشريعاتها ما يتفق مع تلك الميول والغايات, كما أنها تخضع لتيار الشهوات البشرية الجارف الذي ينخر عظام الأمة ويسارع في انهيار بنيانها، فالزنا والخمر والاحتكار والربا والمقامرة لا تجرّم غالباً في سلطة النظم الوضعية, إلى غير ذلك من الآفات الخطيرة التي تحمى بقوانين تصب في مصالح طبقة أو أشخاص وتضر بالصالح العام, لأنها تعصف بالأخلاق والمبادئ والمثل ولا تقيم للعدل أي وزن أو اعتبار غالباً, ولربما يجد المتتبع أن كثيراً ما تسن تشريعات وضعية في هذا البلد أو تلك من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية للشعوب الأخرى من مناجم ومنابع للنفط بل ولإيجاد سوق لتصريف بضائعها أو نحو ذلك من الأمور التي تسبب التظالم وتنذر بانهيار الحضارات وتوجد مهالك وتكون سبباً في سخط الرب، بل إن هذه الأمم في ظل النظم الوضعية تسن قوانين تعلن الحرب من أجل استعلاءها واستيلاءها على الشعوب الأخرى وتجيز التعذيب للمدنيين من الشيوخ والنساء بلا وازع من الرحمة ولا رادع من ضمير. أما سلطة الأمة في ظل أحكام الشريعة الإسلامية فهي مقيدة بإطار الشريعة الإسلامية ومحكومة بقوانين العدل التي لا تستطيع أن تتجاوزها لأن الله تعالى يأمر بالعدل، ولا تستطيع المجالس التشريعية أن تخرج عن هذا الإطار بل ولا الحكومة ولا الملك ولا رئيس الدولة، فالحاكم لا يستطيع أن يقول لشعبه أن الشريعة معطلة أو أنها في إجازة وراحة أو أن يحكم بغيرها أو أن يسن هذا المجلس أو ذاك قوانين لا تتأطر في إطار الشريعة الإسلامية، ولذلك فإن الدولة الإسلامية بحق دولة قانون لا دولة رجال، وأن مجالسها التشريعية مجالس تسن ما يلبي احتياجات الأمة من التشريع الذي يُستَنبط من الأدلة الشرعية.

فالقانون واجب الاتباع إنما هو القانون العادل الذي يتحقق به النفع وتعم به الفائدة ويسير وفق منهاج الحق على هدى من شريعة الله, ومن خصائص الأمة أن تجعل من الشورى مبدء للتشريع ومنهجاً وسلوكاً يسير عليه علمائها وذوو التخصص من أبنائها, ذلك أنه لما كانت النصوص متناهية والأحداث غير متناهية فمن الضروري أن يحال تفهمها على أولي العلم حتى يطبقوا النصوص ويوجهوا إليها أحداثهم الجديدة لتحكمها النصوص, وهذا هو مسلك القرآن قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (¬1) ولا اعتراض على القرآن حين اقتصر على كبريات الجرائم والعقوبات ومهمات الأمور وترك الباقي لأولي العلم يبينونه ويفسرونه بعد أن رسم لهم مبادئ كلية لا يجوز لهم الخروج عليها، فما وصلت إليه الديمقراطية في المجالس النيابية وعرف بالسلطة التشريعية ليس جديداً على القرآن إذ قد سيق في تقرير مبدء الشورى كما أوضح ذلك الدكتور محمد عبد المنعم الضبعي (¬2) وقال أنها إذا كانت دساتير العالم الحديث تفصل السلطات وتؤكد استقلالها فإن القرآن أكد هذه المبادئ وأقر سلطة تشريعية خولها في الحقوق أن تنظر في مصالح المسلمين، وأن ما تراه حجة عليهم يلتزمون به, على أن للسلطة التشريعية قواعد يجب أن نلتزم بها لخصها في أربع نقاط: 1. أن لا تخالف نصاً في كتاب أو سنة صحيحة. 2. أن يتمتع أفراد هذه السلطة بسداد الرأي. 3. أن تكون المناقشات في حرية تامة بعيدة عن الجدل, وأن يكون الغرض منها الوصول إلى الحق. 4. اتباع الحق ولو انفرد به واحد وألا يناقَش أمرٌ فرغ منه. قلت ويضاف إلى هذه النقاط ما يشير إليه العلماء في إعمال القياس وعدم مخالفة الإجماع وعمومية النص وتجريده وتوافقه مع المبادئ العامة للتشريع القائم على العدل ¬

_ (¬1) - النساء الآية (83). (¬2) - هو العلامة والأستاذ الجليل ورئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وقد ذكر ذلك في كتابه القيم نظرية القرآن إلى الجريمة والعقاب ص 86 المكتبة التجارية مكة المكرمة الناشر دار المنار للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة الطبعة الأولى- 1408هـ سنة 1988م.

الذي أمر الله به وإلى هذه القواعد يقول الله سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنفِقُونَ) (¬1) وبيان ذلك: أن الخروج على النص يتنافى مع استجابتهم لربهم, واستقامة السيرة عنوانها إقامتهم للصلاة حيث يعاونون بها على إقامة الدين كله وسداد الرأي والبعد عن المراء والجدال وابتغاء الحق, لأن ما يبحثون فيه هو في شؤونهم التي تستقيم به مصالحهم ولذلك قال الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) واتباع الحق من أمر الله الذي دعأهم أن يستجيبوا له, وما فرغ منه لا تعاد المناقشة فيه بعد تصفيته وإلا كان سفسطة لا يرجى من وراءه خير, وإذا الذي تراه السلطة التشريعية يلتزم الناس به وهو التشريع بأوسع معانيه في الأمم الحديثة, وإذا اصطلح الناس على تسمية الأشياء بأسماء يتعارفون عليها فلا مشاحة في الاصطلاح كأن يصطلح شراح القانون على تسمية ما يقدم به الممثل للشعب في السلطة التشريعية (اقتراحاً بقانون) وما يتقدم به رئيس الدولة (مشروعاً بقانون) , فمن البديهي أن القرآن ترك كثيراً من الأشياء للناس يكيفونها حسب ظروفهم ويبوبونها حسب مصالحهم فليس فيه ما يمنع من أن نعتبر المرحلة التي تزاولها السلطة التشريعية لها خطوتان: الخطوة الأولى ولها مراحل: أ- الاقتراح. ب- التعديل. ج- المناقشة. د- التصديق إن رضيت به الأكثرية. ¬

_ (¬1) - الشورى الآية (38).

الخطوة الثانية: التنفيذ ويبدأ بالإصدار للنص ويكفي في حجيته إمكان علم الناس به فقد جاء في كتاب الله عن تبليغ رسالة الله (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (¬1) , وقوله علت كلمته وعظمت حكمته (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (¬2) , ومعلوم أن التشريع يتدرج, فأعلاه ما وجد فيه نص صريح عليه من كتاب الله تعالى وتليه السنة ثم الإجماع المستند إلى دليل شرعي, وللإجماع شروطه المبسوطة في أصول الفقه, ثم تأتي بقية الأدلة من قياس واستحسان أو استصحاب أو مصالح مرسلة, ثم تأتي الأحكام القضائية التي قضى بها بعض الصحابة رضي الله عنهم أو الاستئناس بالعرف وأقوال المجتهدين وغير ذلك بشرط ألا تجافي أسس التشريع من الحرية والمساواة الذي أحاطهما القرآن بعناية وقررها بقوله (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (¬3) , ويقول (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى) (¬4) ولا بد أن تتفق كل التشريعات مع الدستور الأعلى وهو القرآن والدستور المستمد منه ويجب الطعن بعدم دستورية الأحكام المخالفة قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (¬5) , وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (¬6). وبيان ذلك أن الله أمرنا بوجوب الطاعة له ولرسوله وكرر الفعل فيها ليبين أن طاعتهما مستقلة متى ثبت نسبة الحكم إليهما، ثم أمرنا بطاعة أولي الأمر من غير تكرار الفعل (أَطِيعُوا) ليبين أن طاعتهم تقاس بمدى استمساكهم بحكم الله ورسوله أولاً ثم قدم ¬

_ (¬1) - النساء الآية (165). (¬2) - الإسراء الآية (15). (¬3) - البقرة الآية (256). (¬4) - الحجرات الآية (13). (¬5) - الجاثية الآية (18). (¬6) - النساء الآية (59).

لهم النصح حيث قال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) وهذا من صيغ العموم بدليل الشرط والنكرة فيشمل أي تنازع كان فيجب رده إلى الله ورسوله وذلك من شرط الإيمان، ثم بين علة الحكم بالرجوع إلى الله ورسوله فقال: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). وفي الحديث الذي أخرجه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ابتعث معاذ إلى اليمن قال له: بم تقضي؟ قال: بكتاب الله - قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد: قال أجتهد رأيي. قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله). كما يجب أن يراعي التشريع النظام العام والآداب العامة، ونعني بالنظام العام مجموعة المبادئ العامة الموضوعة لتنظيم سلوك الناس المتضمنة للعدالة التي يقرها الشرع والتي يجب ألا يغفلها أي تشريع, ومما لا شك فيه أن النظام العام هو ما تضمنه القرآن من أسس قال تعالى: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (¬1). وبيان ذلك أن الله أوجب علينا اتباع ما أنزل إلى الناس وهو القرآن الكريم وقد حوى المبادئ المشروعة التي تنظم سلوك الناس وتضمن أسمى مبادئ العدل ونهانا أن نتبع ما سواه, فهو أقل قيمة وتأثيراً, أما الآداب العامة فهي قواعد الأخلاق التي تتفق مع العقيدة الدينية وإن خالف تقاليد الناس وعاداتهم المرذولة, وهذا هو معنى عمومها ولا عبرة بعادات مرذولة اتفقت عليها بيئة معينة. وقد حوى القرآن مبادئ الآداب العامة وقررها في غير موضع, سواء تعلقت أحكامها بالأحوال الشخصية أو المدنية أو غير ذلك، ونشير إلى جمل مما أورده القرآن الكريم. قال تعالى في سورة النور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا ¬

_ (¬1) - الآية (3) سورة الأعراف.

تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو آبَائِهِنَّ أو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو أَبْنَائِهِنَّ أو أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أو إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أو نِسَائِهِنَّ أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أو التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْلأرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أو الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (¬1). وبيان ذلك بإيجاز أن للبيوت حرمة فيجب أن تصان وتحترم ولا يجوز ولوجها (¬2) دون إذن أهلها, فليس من حق أي زائر أن يخدش حرمتها فعليه أن يقف حتى يؤذن له, ثم ليسلم على من في الدار, وما أحسن التعبير بقوله (حتى تستأنسوا) وهو أدق من الاستئذان أما إن كان البيت غير مسكون وفيه متاع لنا فلا حرج من دخوله ثم أمر المؤمنين بالغض من البصر وليس معناه إغماض العين فتهدده الأخطار بل الوقوف بالبصر عند الشيء الذي أحل الله أن ينظر إليه فالنظرة مقدمة لما ورائها من فاحشة في الغالب ولذا أردف يقول سبحانه (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) والله رقيب عليه يرصد حركاته ويحاسب عليها، ثم أرشد المرأة إلى كل ما يصون كرامتها من وجوب غض البصر وحفظ الفرج كما أمر الرجل وأمرها ألا تظهر من الزينة ما تكون بها فتنة على الناس، ودعاها إلى الوقار والحشمة وكلفها ألا يطلع على زينتها إلا أناس يفهمون شأنها ويحافظون عليها ويغارون لكرامتها وهم ما بين زوج أحلت له أو أب لها أو لزوجها أو ابن لها أو لزوجها أو أخ أو ابن أخ أو ابن أخت أو امرأة مثلها أو خادمتها أو تابع انقطعت صلاته بالنساء أو طفل لا يميز، وكل هؤلاء لا يتجاوزون النظر إلى يسير من بدنها، ورتب على مراعاة هذه الآداب ¬

_ (¬1) - سورة النور: (27 - 31). (¬2) - ولوجها: أي دخولها , وفي المختار: ولج يلج ولوجاً أي دخل, انظر مختار الصحاح للرازي ص735 , وفي معجم المقاييس لابن فارس: ولج الواو واللام والجيم كلمة تدل على دخول شيء يقال ولج في منزله وولج البيت يلج ولوجاً ص1105.

الفوز بالجنة فكل ما خالف النظام العام والآداب العامة فباطل , قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (¬1). ولأن إقرار القوانين في المجالس النيابية لا يتم إلا بعد تمحيصها ودراستها والتصويت عليها, لهذا فإننا سنأتي قريباً على ضوابط التصويت وبيان جواز التشريع والتقنين استنباطاً من الأدلة الشرعية. وأنه ليس في ذلك ابتداع أو خروج عن الشرع لما لبيان ذلك من الأثر الطيب, ولأن المبدء الذي يقوم عليه هذا الأمر هو إلزام الكافة بالقواعد التي يتم استنباطها في مختلف سلطات الدولة، ولأن ذلك لا يخرج الأمة عن الجادة، ولا يمنعها من العمل بكتاب الله وسنة رسوله بل يلزمها به، ولكون مسألة التقنين في المجالس التشريعية إنما ظهرت حديثاً في الشكل والقالب الجديد للدولة العصرية، وإن كان الاستنباط للأحكام والعمل بذلك معروفاً منذ فجر الدولة الإسلامية, غير أن ظهور ذلك في الشكل الحديث قد أظهر انقساماً بين بعض العلماء واختُلف حتى في جواز إطلاق كلمة قانون على ما يستنبط من الأدلة الشرعية من القوانين الإسلامية وتهيبها البعض وأطلق مسمى نظام على القواعد المنتقاة من أحكام الشريعة، وانتقد البعض إطلاق كلمة المُشرّع على من يقوم باستنباط الأحكام وتقنينها، وكل ذلك مما يستدعي الإيضاح والبيان، وذلك لإزاحة ما قد يطرأ على الأمر من لبس وغموض يفت في عضد الأمة ويجعل مجال تطبيق القانون العادل محل تظنن وتردد، لهذا رأينا إيراد بيان ذلك في هذه العجالة وإن كان ذلك على سبيل الإيجاز وبما يفي بالغرض المطلوب بإذن الله. ¬

_ (¬1) - الآية (114) سورة النور.

القانون المناط سنه بالمجالس التشريعية

القانون المناط سنّهُ بالمجالس التشريعية وبيان جواز إطلاق كلمة القانون على ما تصدره المجالس التشريعية أولاً: التعريف القانون في اللغة: مقياس كل شيء وطريقه كما ورد في القاموس المحيط (¬1)، وفي لسان العرب قانون كل شيء طريقه ومقياسه (¬2) وقال الجوهري في الصحاح: القوانين الأصول الواحد قانون وليس بعربي (¬3). ثانياً: في الاصطلاح القانون يعني القاعدة والنظام الثابت. وقال الجرجاني أن القانون في الاصطلاح هو أمر كلي منطبق على جميع جزيئاته التي يتعرف أحكامه منه كقول النحاة: الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب والمضاف إليه مجرور (¬4). وقال الدكتور محمد عبدالجواد محمد أن القانون يعني النظام الثابت وعلى ذلك فالنظام تعريف القانون، قال: وكلمة قانون يونانية الأصل وانتقلت إلى اللاتينية ثم إلى الفرنسية ومعناها القاعدة (¬5). وإذاً فإن القانون المطلوب سنّهُ أو استنباطه من قبل المجالس التشريعية هو القانون العادل الذي لا غنى للأمة من الأخذ به وحسن تطبيقه في نص واضح بعد صياغته وإصداره في صيغة قوانين ضمن الضوابط والشروط التي سنأتي على بيانها سواءً كان في المسائل المتجددة والتي بها تنتظم الحياة أو فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية ¬

_ (¬1) - القاموس المحيط - مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي - طبعة عالم الكتاب - بيروت. (¬2) - انظر لسان العرب لمحمد بن أبكر بن منظور المصري - الدار المصرية للتأليف والترجمة. ج 17 - ص 229. (¬3) - انظر تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهري, دار العلم للملايين ,الطبعة الثانية , ج6 / ص2185 ,باب النون/فصل القاف. (¬4) - انظر كتاب التعريفات لعلي بن محمد بن علي المعروف بالسيد الشريف الجرجاني - مكتبة لبنان - بيروت - ص 177. (¬5) - التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية - الطبعة الأولى - ص 14 وما بعدها.

وغيرها مما لا نص فيه أو فيما يتعلق بحسن تطبيق الأحكام الشرعية فيما فيه نص واضح بعد صياغته في شكل قانون. ومع ذلك فإن المجالس التشريعية فيما تصدره من قوانين مقيدة بالشريعة غاية ووسيلة، فهي لا تملك وضع قوانين تخالف الدستور الإسلامي المتمثل بالكتاب والسنة أو المستمد منهما فإن فعلت كانت متعدية لقوله تعالى: (ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (¬1). فصلاحية السلطة التشريعية في المفهوم الإسلامي مقيدة بالنصوص الشرعية, فهي لا تملك أن تلغي نصاً من النصوص الشرعية أو تبدله بغيره، ولكنها تملك حق تفسير النصوص عن طريق الاجتهاد فيما يتناسب مع الظروف الزمانية والمكانية, وسواءً كانت هذه الاجتهادات موافقة للاجتهادات الصادرة عن المجتهدين السابقين أو مخالفة لها كما سبق أن أشرنا إلى ذلك, وليس هناك في شريعة الله ما يمنع من وضع المسائل الشرعية في شكل نصوص قانونية، ولا ما يمنع من استنباط الأحكام الشرعية في المسائل المستجدة والذي تنتظم به شؤون الحياة وصياغة هذه المواد على شكل نصوص قانونية ويصدر بها قرارٌ بقانون من رئيس الدولة إذا كان النظام جمهورياً أو مرسوم ملكي إذا كان شكل النظام ملكياً بحسب شكل نظام الدولة الإسلامية الذي تختاره الأمة في أحد أشكال الدولة القانونية الحديثة, ولا يوجد ما يمنع من استعمال كلمة قانون في التشريعات الإسلامية. فالكثير من علماء هذه الأمة المشهود لهم بالفضل والدين وعُرِفوا بتحكيم شرع الله واستنباط الأحكام من كتاب الله ومن السنة النبوية قد أطلقوا كلمة القانون على كثير من القواعد الشرعية فقالوا: القوانين الشرعية والقوانين السياسية، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه يقول: فتلك القواعد الفاسدة التي جعلوها قوانين ثم إن هذه القوانين فيها ما هو صحيح لا ريب فيه (¬2). ¬

_ (¬1) - الآية (1) سورة الطلاق. (¬2) - انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع وترتيب عبدالرحمن محمد قاسم العاصمي النجدي الحنبلي - الطبعة الأولى سنة 1381هـ - المجلد الخامس ص 341.

وقد جعل الفقيه المالكي ابن حزم عنوان كتابه في الفقه قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية, وابن رشد يقول في بداية المجتهد لتكون كالقانون بالمجتهد (¬1) والقرافي يقول: وعلى هذا القول تراعى القوانين وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام، (¬2) والماوردي في الأحكام السلطانية يقول بأنه مندوب لحفظ القوانين واستيفاء الحقوق، (¬3) وبهذا يتضح أن الكثير من العلماء قد استعمل هذه الكلمة (القانون) دونما حرج. ونكتفي بهذه الإشارة التي تزيح الشك وتذهب اللبس وتبين أن علماء كبار قد استعملوا كلمة قانون دونما حرج، (¬4) أما كلمة التقنين المصطلحة فمأخوذة من القانون والقانون معناه العام يقابل الشريعة فهو مجموع القواعد العامة الملزمة التي تحكم سلوك الأفراد. (¬5) فالتقنين على هذا الأساس هو وضع هذه القوانين المتعلقة بفرع من فروع القانون في مجموعة على شكل مواد مرتبة ومبوبة يرجع إليها عند التطبيق, فيقال مثلاً قانون الأحوال الشخصية أو قانون العقوبات أو قانون المرافعات المدنية أو الجزائية أو قانون الخدمة المدنية ... الخ. فكل من القوانين يعالج مسائل مختلفة عن الأخرى ولا يهم التسمية بالقانون أو التقنين وإنما المهم المبدء الذي يقوم عليه هذا الأمر وهو إلزام هذه الجهة أو تلك أو هؤلاء الجماعة بالعمل بمقتضى هذه القوانين دون خروج عنها، وإن كانت بعض الدول تسمي القانون نظاماً كما هو الحال في المملكة العربية السعودية فإنه لا ضير في ذلك، وقد سبق وأن بيّنا في تعريف المصطلحات أن القانون يعني القاعدة والنظام الثابت. وإذا كان هناك من اختلاف في مصطلح البحث من حيث الترتيب طبقاً لمنهج البحث القانوني فإن الترتيب المعهود للتشريعات الوضعية هو أنه يأتي الدستور أولاً ثم القانون ثم ¬

_ (¬1) - انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن أحمد بن رشد - مطبعة الكليات الأزهرية بمصر 1386هـ ج2 - ص 31. (¬2) - انظر نهذيب الفروق مطبوع على هامش الفروق للقرافي - مطبعة ج1 - ص 177. والماوردي في الأحكام السلطانية. (¬3) - انظر الأحكام السلطانية لأبي الحسن علي محمد حبيب الماوردي - دار الكتب العلمية- بيروت - ص 114. (¬4) - انظر مؤلفنا عمدة المسير في بيان سلطة القاضي في تقدير الدليل وبيانه - ج 4 - ص33. (¬5) - المدخل لدراسة القانون - لعبد الباقي البكري - الطبعة الأولى ص 17.

النظام ثم اللائحة فالتشريعات حينما تصدر قانوناً يشترط أن لا تخالف القانون الأعلى فيها كالدستور والقانون الأصلي الذي انبثقت عنه تلك التشريعات. وإذا كان من المعلوم أن الحياة متجددة ومتطورة فإن القوانين تتطور بتطورها، فالقانون الموضوع لمجتمع إنساني معين يجب أن يساير هذا المجتمع في تطوره الحضاري ولهذا فإنه يفترض ويشترط فيه عند وضعه العمومية والتجريد وأن يحقق مصالح راجحة وأن لا تخالف قواعده أحكام الشرع وأن تكون قواعده وأحكامه مناسبة للمجتمع الذي وضع فيه، فالأحكام قد تتبدل بتبدل الأعصار, فمثلاً إذا كانت العادة أن تكون عمارة البيوت كلها على نسق واحد وكان العرف أن من رأى بيتاً واحداً واشترى عدة بيوت فإن رؤية ذلك البيت تكفي, ثم إذا تبدل العرف وجرت العادة أنها لا تكفي رؤية بيت واحد لمن يريد شراء مجموعة بيوت لأن العادة قد تغيرت وصار الناس يعمرون البيوت بأشكال مختلفة إذا فإنه لا بد من رؤية كل بيت على حدة، ووفقاً للعادة الحالية لا القديمة, وكذلك تقدير الأجرة للمساكن وتقدير أجر المسافات للركوب على وسائل النقل فإنه لا يمكن تقرير أحكام ذلك العرف والعادة القديمة بالقانون القديم الذي بني على العرف والعادات القديمة , نظراً لتبدل الوسائل وتطور الزمن, ولهذا فإن الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين وضع عنواناً قال فيه: فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأمكنة والأزمنة والأحوال والعوامل, وخير مثال على ذلك ما حصل من تغيير في آراء الإمام الشافعي رضوان الله عليه لمجرد انتقاله من الحجاز إلى العراق إلى مصر, ولما كان ذلك فإن استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية ومعالجة أوضاع الناس وأحوالهم في هذا العصر يعتبر من أكبر الواجبات, فيتعين على المجالس التشريعية أخذ القواعد والضوابط التشريعية التي تعالج شؤون الحياة من منهج الله ونظامه وسننه وأحكامه, فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان. وبهذا العرض الوجيز نكون قد أتينا على بيان أهم الضوابط التي يجب أن تراعى في المجالس التشريعية عند إصدار القوانين وأوضحنا جواز إطلاق كلمة القانون على ما يصدر من هذه المجالس.

وما أحوج الأمة اليوم إلى أن تدفع بمجموعة من علمائها إلى المجالس التشريعية لتستخرج من الأدلة الشرعية تشريعاً فيه شفاء لعلل الأمة وأدوائها في شتى مجالات الحياة وفي جميع أبواب المعاملات لتكون قوانينها هي مرجع الناس جميعاً حكاماً ومحكومين ومنهل ورودهم ومحل تطبيقهم لشرع الله, فهذه هي الدعوة الصادقة لتحكيم شرع الله والاعتصام به (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (¬1). ومسألة التقنين وإن كانت لم تظهر في شكلها المعاصر في العالم الإسلامي إلا في أواخر الدولة العثمانية (1255هـ الموافق 1839م) كما يقول الدكتور عبد الناصر موسى (¬2) , أما أبي الأعلى المودودي فهو يرى أن الهند هي أول من أدخل القوانين الوضعية في البلدان الإسلامية حيث يقول: وكان أول بلد استبدلت فيه القوانين الإسلامية بالقوانين الوضعية هو الهند في عام 1791م كأثر للاستعمار البريطاني (¬3) , وتأتي الجزائر بعد ذلك سنة 1830م (¬4) , فتكون الدولة العثمانية بعد ذلك أي في عام 1839م , وما بعد قد أوجدت ازدواجاً تشريعياً وقضائياً كنتيجة لأثر من آثار الضعف الذي أصاب الدولة الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية، ولا شك أن الاعتقاد الذي ساد بأن الاقتباس من النظم الأوربية ومن الدول المتقدمة يؤدي إلى تقدم الدول الإسلامية الضعيفة قد زاد من وهن الدولة الإسلامية لحصول الازدواجية في التشريع وعدم إحياء الحضارة العربية الإسلامية بما يجعلها تواكب الحضارة الغربية, وكل ذلك أدى إلى العزوف عن أحكام الشريعة وعدم العودة إلى الفقه الإسلامي لاستنباط الأحكام وتقنينها في شتى مناحي الحياة تعويلاً على ما يأتي من الغرب فعمت ازدواجية التشريع الكثير في البلدان الإسلامية إن لم نقل أنه تم الاستبدال في بعض الأحوال للقانون الإسلامي بالقوانين الغربية دون مراعاة لحاجيات المجتمع العربي وخصوصياته الإسلامية (¬5). ¬

_ (¬1) - الآية (101) سورة آل عمران. (¬2) - انظر الحكم القضائي في الشريعة الإسلامية والقانون لعبدالناصر موسى- الطبعة الأولى ص 388. (¬3) - انظر أبي الأعلى المودودي في نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون - ترجمة محمد عاصم من سنن الرسالة - بيروت 1389هـ - ص 138. (¬4) - انظر الدكتور محمد عبدالجواد في بحثه تشريعات البلاد العربية بين القوانين الغربية والشريعة الإسلامية ص 35. (¬5) - انظر مؤلفنا عمدة المسير - ج4 - ص38.

وإذا ما استثنينا بعض الأقطار الإسلامية كاليمن ونجد وأفغانستان فإن ازدواجية التشريع كما يقول الدكتور محمد عبدالحميد عمت مختلف الأقطار الإسلامية وقد رأى كثير من العلماء ضرورة تقنين أحكام الشريعة، ومن هؤلاء العلماء الشيخ محمد عبده (¬1) والأستاذ العلامة محمد رشيد رضا (¬2) والشيخ محمد عبدالعزيز حفيظ والعلامة أحمد شاكر والعلامة أبو العلاء المودودي وكذلك الشيخ علي الخفيف والشيخ حسن مخلوف والأستاذ العلامة مصطفى الزرقا وغيرهم ممن يرون وجوب التقنين, وممن يرى أن ذلك نافعاً العلامة علي الطنطاوي من علماء الشام (¬3)، والعلامة الدكتور وهبه الزحيلي (¬4) والأستاذ الدكتور محمد فتحي الدريني, وممن يرى جواز التقنين العلامة محمد المرمر والشيخ أحمد فهمي أبو سنه والشيخ عبدالعزيز عبدالله آل الشيخ والشيخ عبدالوهاب الحافظ (¬5) وغيرهم الكثير. والخلاصة أن التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية في المجالس التشريعية من قبل متخصصين علماء تحويهم هذه المجالس هي ضرورة لا بد منها حتى تكون هناك قواعد عامة ملزمة تحكم سلوك الأفراد في شتى مناحي الحياة، فالتقنين على هذا الأساس هو وضع هذه القواعد المتعلقة بفرع من فروع القانون في مجموعها على شكل مواد مرتبة ومبوبة، ويشترط فيها ألا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية والدستور المنبثق منها، وسنأتي على ضوابط التصويت وإطاره الأخلاقي في المجالس التشريعية, ولكننا قبل ذلك نشير بإيجاز إلى أهم عوامل نجاح المجلس التشريعية وماذا يجب عليها أن تعمل في هذه المجالس حتى تصوت على مشاريع القوانين. ¬

_ (¬1) - انظر مجلة المنار ج 4 - مجلة 16 - ص 270. (¬2) - انظر فتاوى الإمام الأستاذ محمد رشيد رضا ج 1 - ص 168. (¬3) - انظر فتاوى علي الطنطاوي ص 125 - جمع مجاهد درانيه. (¬4) - انظر الفقه الإسلامي وأدلته ج 6 للدكتور وهبه الزحيلي ص 747 - الطبعة الأولى. (¬5) - انظر الإسلام وتقنين الأحكام - ص 38.

عوامل نجاح المجالس التشريعية

عوامل نجاح المجالس التشريعية إن من أهم عوامل نجاح المجالس التشريعية هو احترام أعضاء المجالس التشريعية لهذه المؤسسة والعمل على مد روابط الثقة فيما بين أعضاء هذه المؤسسة أولاً ثم ما بين الناس وممثليهم في هذه المجالس, وتطوير الثقافة المعرفية التي تمكن الأعضاء من فهم القواعد الأساسية لعمل هذه المجالس وتجعلهم على دراية وفهم بما يمارسونه ويسعون إلى تحقيقه طاعة لله وخدمة لأوطانهم ومجتمعاتهم حتى يشعر الجميع في هذه المؤسسة بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم, وأنهم يتقاسمون جميعاً المسؤولية ويتحملونها, وذلك ما يتطلب العمل على إيجاد قواسم يتم الألتقاء عليها ويتأكد الصلة بها في تعميق الروابط الثقافية ومد جسور الاخاء بين الاعضاء, والنظر إلى المصلحة العليا لجميع الأمة في مختلف أقطارها أساس للنجاح فليس ثم مصالح شخصية ولا عداوات تنشأ لأمور شخصية وإنما هي مصالح أمة, وقد قال بعض المثقفين من رجال الفكر والسياسة: لا تحرقوا الجسور في السياسة, إذ لا يوجد أعداء دائمون, كما لا يوجد أصدقاء دائمون, ففي الوقت الذي تكون فيه كارهاً أو حتى نافراً من بعض الزملاء تذكّر أن خصم اليوم قد يكون حليف الغد. (¬1) ومعلوم أنه قد جاء سابقاً لهذه المقولة المشتملة على الحكمة ما ورد في الهدي النبوي (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما, وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) (¬2) , وجاء في بعض كلام الشعراء: فهون في حبٍ وبغضٍ فربما ... بدا صاحبٌ من جانبٍ بعد جانبِ وقال الإمام علي رضي الله عنه: وأحبب إذا أحببت حباً مقارباً ... فإنك لا تدري متى الخير نازع وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً ... فإنك لا تدري متى الحب راجع (¬3) ¬

_ (¬1) - انظر المعهد الوطني الديمقراطي للشؤون الدولية (قراءات برلمانية مختارة) ص15. (¬2) - أخرجه الترمذي في سنده حديث (2065) , ورواه البخاري في الآدب المفرد, والبيهقي عن علي رضي الله عنه موقوفاً , وقال عنه الترمذي حديث صحيح. (¬3) - ديوان الامام علي رضي الله عنه ص40.

والمجالس التشريعية إنما تُعمّر بأخلاق الأعضاء الاكفاء, وإذا كانت وظائف المجالس التشريعية تتمحور في نقاط ثلاث وهي: - المهام الدستورية: فهو يصادق على المعاهدات والاتفاقات الاقتصادية والسياسية الدولية ذات الطابع العام, وله حق توجيه التوصيات للحكومة, وحق مباشرة سحب الثقة, وحق تقصي الحقائق في أي موضوع يتعارض مع المصلحة العامة, وفحص نشاط الوزارت والهيئات والمؤسسات وفقاً لأحكام الدستور. (¬1) - المهام المالية: وتتمثل في إقرار الميزانية العامة للدولة, ومناقشتها قبل اقرارها ثم الاشراف على انفاقها وصرفها, كما سبق الاشارة إلى ذلك. (¬2) - المهام التشريعية: وتمثل الوضيفة التشريعية الإختصاص الأصلي لهذه المجالس وسبق التوضيح بأن هذه التشريعات التي غالباً ما تقترحها السلطة التنفيذة تمر بعدة مراحل, فتحال أولاً إلى لجان متخصصة للدراسة قبل أن تعرض على الهيئة التشريعية مجتمعةً للمناقشة. فإن من أهم عوامل النجاح في القضايا السياسية تعرّف الأعضاء واللجان المتخصصة في المجلس على غرض التشريع ونطاقه وعلى ما ينص التشريع ومن يستهدف مشروع القانون, بحيث يعرف من ينتفع من مشروع القانون ومن يضره؟ وما هي الحقوق والواجبات والمسؤوليات التي يحددها هذا القانون أو ذاك؟ وهل يتفق مع قوانين العدالة ونواميس الفطرة واحكام الشرع؟ ومن الذي سينفذ هذا القانون أو سيدير النتاج أو البرنامج أو النشاط الذي ينتج عن مشروع القانون؟ كما يجب التعرف على حقوق ومسؤوليات الموظفين السياسيين والإداريين في هذه الوزارة أو تلك , وهل يمكلك الوزير أو الموظفون الحكوميون السلطة الكافية لتنفيذ هذا القانون بمقتضى أحكامه؟ كما يجب أن يتم التعرف على التأثير السياسي أو الاقتصادي ¬

_ (¬1) - انظر المواد (92 إلى 95) من دستور الجمهورية اليمنية الصادر عام 2001م. (¬2) - انظر المواد (88 إلى 91) من دستور الجمهورية اليمنية الصادر عام 2001م.

والاجتماعي لهذا المشروع, وهل تملك الحكومة الوسيلة المالية والادارية للسيطرة على هذا التشريع؟ وما هي العوامل والوسائل لتنفيذه؟ وما هي الجزاءات والعقوبات المدنية والجنائية التي يجب أن يتضمنها هذا القانون؟ وكيف سيتم الحصول على الموارد المالية لتغطية النشاطات التي تستلزم تنفيذ مشروع هذا القانون؟ وما المشورة التي يجب أن يأخذ بها من ذوي الإختصاص في الوزارات أو المنظمات أو النقابات أو المؤسسات أو الجامعات أو المساجد أو الشركات؟ وما الذي يمكن فعله للتأكد من أن القانون سيحقق المصلحة العامة بما يعود بالخير والسعادة والصلاح للمجتمع والأمة كافة؟ وأن ذلك سيحقق مصلحة راجحة في الحاضر وللأجيال في المستقبل, وأنه لا يتعارض مع أحكام الشريعة أو مع قوانين العدالة ونواميسها أو مع تشريعات أخرى قائمة ولا تزال موجودة أو مع معاهدات أو اتفاقات دولية لا تزال سارية المفعول بمقتضى قانون عادل, وبحيث لا يتعارض أيضاً مع السلطات القانونية والثقافية المحلية (¬1) التي لا تختلف مع شرع الله تعالى. فمن عوامل النجاح تفحص عضو المجالس التشريعية مثل هذه الأمور في مشاريع القوانين واللوائح كي لا تتسبب في الوقوع في حرج عند التصويت إما بالوقوف مع أو ضد هذه المشاريع, فالكلام عند التصويت على مثل هذه الأمور يعتبر حاسماً والتحضير المسبق يمثل صمام أمان, فحق التحدث والمشاركة في النقاش وقول ما يفكر به العضو ويقتنع به عن قانون مقترح أو ميزانية مقترحة مكفول بمقتضى اللوائح والقوانين, وكذلك حق توجيه أي استفسار أو سؤال, وحق التصويت مكفول لكل عضو من أعضاء الهيئات التشريعية باعتباره ممثل للجمهور ومن حقه ومسؤوليته أن يصوت على المواضيع أمام الهيئة التشريعية. (¬2) ¬

_ (¬1) - انظر تفصيل أوسع في اصدار المعهد الوطني الديمقراطي للشؤون الدولية (تحليل التشريع) ص10و11. (¬2) - انظر المواد (75و97و98و100) من دستور الجمهورية اليمنية الصادر عام 2001م, والمادة (106 إلى 112) من اللائحة الداخلية لمجلس النواب اليمني, والمواد (16 إلى 20) من نظام مجلس الشورى السعودي.

ضوابط النقاش والتصويت وإطاره الأخلاقي

ضوابط النقاش والتصويت وإطاره الأخلاقي مما لا شك فيه أن الحق تبارك وتعالى حينما شرع لعباده نظام الشورى فإنه شرع ذلك لحكم بالغة ومقاصد عظيمة نظراً لما تفرزه الآراء من فوائد جليلة ومصالح عظيمة تعود على الأمة بالنفع العظيم وعلى الدولة والمجتمع بالخير العميم في كثير من الحالات, ولو لم يكن في ذلك إلا امتثال أمر الله والاقتداء بهدي رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكفى, فضلاً عن كون الشورى والتصويت في مجالس التشريع نوع من أنواع الحوار المفتوح مع أهل الإختصاص الذي يمزج الأفكار ويطلعها على سداد الرأي المتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية ودستور الدولة المستمد منها ويحسم الخلاف عند الاقتراع والتصويت، وذلك ما يحث على الابتكار ويشجع على الاجتهاد، ويؤتي ثماراً طيبة تسعد به الأمة وتنتظم به شؤونها. وذلك ما يتطلب من عضو المجلس عند التصويت والاقتراع التزام الأمور التالية: 1 - ألا يكون متعجلاً عند التصويت, بمعنى أنه لا يجوز له أن يصوت على أمر حتى يعرف حقيقة ما يصوت عليه, فالإلمام بالواقع يمثل أمراً شديد الأهمية, فكل قرار في أي مجال من مجالات الحياة السياسية أو المدنية أو الاقتصادية أو غير ذلك يصوّت عليه من قبل هذه المجالس لا بد وأن يكون قد استظهر المجلس فيه وجه الحق, فمهما بلغت كفاءة مصدر هذا القانون المصوت عليه ومكانته فإنه سيكون حتماً قراراً صائباً إذا كان قد عرف فيه وجه الحق وألم به، وقراراً خاطئاً إن هو أخطأ في معرفة الواقع الذي يعالجه، والقرآن الكريم يرشد إلى هذه الحقيقة وذلك في عداد توكيد ضرورة التأني والتثبت والتبين والبعد عن الإستعجال والإرتجال في اتخاذ القرارات, ومن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: من الآية6) , وهذا النص يفيد ضرورة الإلمام بالحقيقة والواقع إلماماً كاملاً قبل إصدار القرار في أي مجال من مجالات الحياة.

وذكر الثعالبي في تحفة الوزراء أن المشورة يستعان بها في تدابير السياسة، والسياسة نظام الدولة التي بها بقاء الدولة واستمرارها, فإذا ضعفت الآلة أو فسدت أدى ذلك إلى ضعف الدولة وفسادها (¬1). وهذه القاعدة تنطبق على كل القرارات في شتى مجالات الحياة، فضعف المجالس التشريعية والتعجل في إصدار القوانين دون إدراك عدم ملاءمتها للحياة يضعف الدولة ويؤدي إلى تهالكها وفسادها. فالتأنّي والتثبت ودراسة الأمور من جميع جوانبها عند التصويت ووضع مواد القانون هو مما يرشد إليه العقل وتقتضيه فطنة الرجل الذكي، وقد جاء في الحديث: (استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا) (¬2) وجاء في منثور الحكم "كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب" (¬3) ومعلوم أن الشورى لا تكون إلا مع أهل الخبرة والعلم بحقائق الأمور ولا يكون الإنسان من أهل الخبرة والعلم إلا إذا كان ملمّاً بواقع ذلك الأمر ومطّلعاً عليه وعلى حقيقته قبل إصداره، وقد أحسن الشاعر حيث يقول: ... إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصهِ وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه إذا المرء أضمر خوف الإله ... تبين ذلك في شخصه وإن ناصح منك يوماً دنا ... فلا تنأى عنه ولا تعصه ورحم الله المأمون فإنه أوصى ولده وعلمه بقوله: استشر ذوي التجريب والحيلة، فإنهم أعلم بمصادر الأمور وتقلبات الدهور، وأطيعوهم وتحملوهم فيما يغلظونه من قول أو يكشفونه من عيب لما ترجونه من حالة تصلح وفتق يرتق (¬4). ¬

_ (¬1) - انظر الثعالبي في تحفة الوزراء - الطبعة الأولى ص 86. (¬2) - رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وانظر الماوردي في أدب الدنيا والدين ص 272 - الطبعة الأولى. (¬3) - الماوردي في أدب الدنيا والدين ص 275. (¬4) - تحفة الوزراء ص 89.

ولا شك أن هناك أهل اختصاص وخبرة يجب أن تُرجع إليهم لأن أمور التشريع مما تحتاج إلى إلمام ومعرفة, ولذلك فإنه ينبغي أن تعتمد مجالس التشريع في الشورى على أصحاب الإختصاص فلا يتعجل التصويت قبل أخذ رأيهم في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفة والخبرة, ففي شؤون الدين والأحكام يستشار علماء الدين, وفي شؤون العمران والهندسة والتخطيط يستشار المهندسون، وفي شؤون الصناعة والتجارة يستشار خبراء التجارة والصناعة، وفي شؤون الزراعة والأمن يستشار خبراء الزراعة ورجال الأمن, وهلم جراً، غير أنه في كل الأحوال لا بد من توجيه الأنظار إلى أنه من الضرورة بمكان أن يكون علماء الشريعة الإسلامية قاسماً مشتركاً في كل هذه الشؤون حتى لا يخرج المستشارون في تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة. 2 - الاستقلال في إبداء الرأي والتجرد من الهوى: معلوم أن الكلمة مسؤولية في كل الأحوال فكيف إذا تعلق بإبدائها شأن عام من شؤون الأمة, فإنه يجب حينئذ أن تكون مستقلة متوازنة مجردة للمصلحة العامة خالية من نزعات الهوى والتعصب، فقد عني الإسلام عناية فائقة بمنزلة الكلمة وأثرها سواءً كانت طيبة أم خبيثة. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ * وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (¬1). فالكلمة الطيبة ثابتة عميقة الجذور في تربة صالحة ومنبت طيب, ولهذا فهي تنمو وترتفع حتى تبلغ السماء، وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أما الكلمة الخبيثة فهي مبتورة عن العقيدة والإيمان قليلة مضطربة لا قرار لها فهي سرعان ما تسقط، وهي لا تثمر إلا الشر والفرقة والقطيعة ولهذا كان الإنسان مسؤولاً عن رأيه في كل الأحوال فما بالك في الرأي الذي يتعلق بشؤون ¬

_ (¬1) - سورة إبراهيم من 24 - 27.

الأمة وإعطاء الرأي, وليس الرأي من أقل الأعمال جهداً وأدناها مشقة؛ لأنه لا ينبع عن عفوية في الأمور العامة وإنما ينبع عن علم وإيمان ومعرفة وهو مسؤولية عظيمة وأمانة جسيمة يُسأل عنها الإنسان ديناً ودنيا. قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (¬1) وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (¬2). إذاً فإنه لا بد لسداد الرأي من سلامة القلب وصدق الإيمان والإخلاص في النية والتجرد من الهوى، فالاستقلال في الرأي سبيل إلى تحري الوجه السديد الخالي من المزاجية والعصبية والهوى، فالرأي إذا انبعث من الهوى صار ضاراً لأنه يُضيّق النظرة في الأمور ويفسدها وينحرف عن الطريق والمنهاج السوي، ولهذا أرشد الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل إلى الإبتعاد عن الهوى فقال جل شأنه: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (¬3) وقال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (¬4) وقال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (¬5) وقال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (¬6) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على ذم الهوى ومتابعته لأنه يفسد الرأي وقد جاء في كلام بعض الشعراء: ضلال العقول في اتباع الهوى ... ولا حيلة في ضلال العقول ... وقال الدكتور عز الدين التميمي أنه لا ينبغي أن يكون المستشار صاحب هوى لأن الرأي إذا نبع من الهوى وانبعث من المزاجية أصبح ضاراً (¬7). ¬

_ (¬1) - سورة الإسراء 36. (¬2) - الآية 18 من سورة (ق). (¬3) - الآية 135 من سورة النساء. (¬4) - الآية 28 من سورة الكهف. (¬5) - الآية 26 من سورة ص. (¬6) - الآية 43 من سورة الشورى. (¬7) - عز الدين التميمي في الشورى بين الأصالة والمعاصرة, ص38 , الطبعة الأولى سنة 1405هـ الناشر: دار البشير للنشر والتوزيع - عمان.

قلت وهذا محط اتفاق, فمما لا شك فيه أن الهوى يفسد الرأي, ولأن الابتعاد عنه يقرب الإنسان من الصواب ويحرره من حب الشهوة والشهرة والمداهنة والمزاودة في الكلام، ويبعده عن كثرة المنازعة والمجادلة، وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على مدح الاستقلال في الرأي وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) (¬1). 3 - الشجاعة في إبداء الرأي: تعتبر الشجاعة في إبداء الرأي والتصريح به عند التصويت من الأمور المهمة, فقد جاء في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كُنّا لا نخاف في الله لومة لائم) (¬2) , وجاء في حديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصال من الخير أن لا أخاف في الله لومة لائم وأوصاني أن أقول الحق ولو كان مراً) (¬3) , ومن هذين الحديثين نعلم وجوب قول الحق والجهر به في أدب واتزان لأن الله جل وعلا يقول: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (¬4) (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (¬5). ومما لا شك فيه أن الجبن مع معرفة الحق والسكوت عليه يؤدي إلى ضياع الأمة وفقد مصالحها وتجرؤ أصحاب الباطل، وما يحدث في بعض المجالس النيابية خير ¬

_ (¬1) - رواه الترمذي في البر باب ما جاء في الإحسان والعفو حديث (2007). (¬2) - رواه البخاري في الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس. حديث رقم7056و7200 ومسلم في الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية. حديث 1709 (4768) , واللفظ للبخاري. (¬3) - رواه أحمد في مسند أبي ذر الغفاري. حديث رقم 21849 (21517) و 21745 (21415) وصححه ابن حبان (249) وقال شعيب صحيح وهذا إسناد حسن. (¬4) - الآية (83) سورة البقرة. (¬5) - الآية (53) سورة الإسراء.

شاهد, وقد أُثر عن عمر أنه قال: اللهم إني أشكو إليك ضعف المؤمن وجلد الفاجر. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) (¬1) , فالشجاعة في إبداء الرأي في قوة وصرامة التماساً لرضوان الله هو مما يقرب الإنسان من الله سبحانه وتعالى وينفع الله به ويبعده عن المداهنة في قول الحق, لأن في المداهنة والتماس رضا الناس بسخط الله خطر دأهم على الأمة, ولهذا جاء في الحديث: (من التمس محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده من الناس له ذامّاً) رواه ابن بلال عن عائشة مرفوعاً ورواه ابن العسكري عن عائشة وأورده القضاعي بلفظ (من طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده من الناس ذاماً) وفي لفظ (من التمس رضا الناس بمعاصي الله وكله الله إليهم) وفي رواية للعسكري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ومن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس) (¬2) 4 - لا يتحدث العضو إلا فيما يناقَش وألا يصوت بالموافقة أو الرفض إلا فيما يعلمه حقاً. ومما لا شك فيه أن التصويت أمانة فلا يتحدث الإنسان ويصوت إلا بعد أن يعلم القضية المطروحة للتصويت وملابستها بحيث يقوم بدراستها والحالة القائمة فيها فيكون على علم بالقضية وبظروفها وبواقعها لأنه سيسأل الإنسان عن ذلك ديناً ودنيا، لأن الإنسان مؤتمن على ما يقول, وقد جاء في الحديث (المستشار مؤتمن) فهو أمين في دينه وأخلاقه، وأمين على الأمة وعلى المجتمع، وأمين على المرافق العامة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) (¬3) وفي حديث أبي سفيان المشهور أن مما كان يأمرهم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (أد الأمانة) (¬4) , وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) (¬5) وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الأمانة نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال) (¬6) ويكفي المؤمن أن يضع نصب عينيه قول الحق تبارك وتعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (¬7) وقوله تعالى: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) (¬8) وقوله تعالى:) ِإنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا) (¬9) وقوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (¬10). فالالتزام بالمحافظة على الأمانة من قبل أعضاء مجلس النواب فيما يطرحه الإنسان من كلام وآراء وفي عدم إفشاء الأسرار التي تؤدي إلى ضياع الأمر وإيجاد الأحقاد والتهيب من الصدع بالحق واجب شرعي، وقد جاء في كلام العباس بن عبد المطلب لابنه عبدالله رضي الله عنهما (يا بني إني أرى أمير المؤمنين يستخليك ويستشيرك ويقدمك على الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني أوصيك بخلال أربع: لا تفشين له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطو عنه نصيحة) (¬11) , بل أنه يجب على أعضاء المجالس النيابية عند التصويت على ¬

_ (¬1) - رواه أحمد في مسند أبي هريرة. حديث 8764. وفي لفظ (خير وأفضل) حديث 8726. (¬2) - انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. للعلامة إسماعيل محمد العجلوني - ج 2 - ص 235. (¬3) - رواه الترمذي في البيوع - حديث 1264 - وذكره العلامة الألباني في صحيح الترمذي برقم 1015. (¬4) - أخرجه البخاري في الجهاد - باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة. حديث 2941. (¬5) - رواه البخاري في العلم - باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه - حديث 59. (¬6) - أخرجه البخاري في الاعتصام - باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- حديث 276. (¬7) - الآية 72 من سورة الأحزاب. (¬8) - الآية 283 من سورة البقرة. (¬9) - الآية 58 من سورة النساء. (¬10) - الآية 27 من سورة الأنفال. (¬11) - رواه ابن ماجه في سننه وأورده الألباني في صحيح ابن ماجه في المقدمة باب من بلغ علماً - حديث 187.

أمر أن يلتزموا فيه بمفهوم النصيحة فذلك واجب شرعي وأخلاقي، وقد وردت في ذلك أحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) , وفي رواية عن جرير قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة فَلَقَّنَني فيما استطعت، والنصح لكل مسلم) وفي لفظ عن جرير أيضاً (بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) (¬1) فالنصيحة مرتبة عالية ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اشترطها على بعض الصحابة عند البيعة على الإسلام، وقد أخرج البخاري في باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وقوله تعالى: (إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ) (¬2) بسنده عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبدالله يقول يوم مات المغيرة بن شعبه، قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم بإتقاء الله وحده لا شريك له والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير فإنما يأتيكم الآن ثم قال: استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلت أبايعك على الإسلام فشرط على النصح لكل مسلم فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر ونزل. (¬3) وقد قال الإمام ابن الأثير الجزري أن النصيحة إرادة الخير للمنصوح له .. وأصل النصيحة في اللغة الخلوص، ومعنى النصيحة لله عز وجل صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته, والنصيحة لكتاب الله تعالى التصديق به والعمل بما فيه والنصيحة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم التصديق بنبوته وبذل الطاعة فيما أمر به ونهى عنه والنصيحة لأئمة المؤمنين أن يطيعهم في الحق ولا يرى الخروج عليهم بالسيف إن جاروا, والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم. (¬4) ويمكن القول هنا بأن عضو مجلس الشورى في التشريع يجب عليه مناصحة الأمة في سن القانون الذي يتفق مع شريعة الله ويحفظ للأمة مصالحها. 5 - أن يلتزم آداب الحديث وحسن البيان فيه، فالإنسان الذي يتكلم بكلام بيّن لا لغو فيه ولا لغط يكون محل تقدير، وقد ورد في كتاب الله (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) و (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تُفهم وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم ثلاثاً) (¬5) , وجاء في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفهمه كل من يسمعه) (¬6) , كما أن للبلاغة والفصاحة أثر تجذب الأنظار وتشد الناس إلى تفهم الكلام, فحسن اختيار الكلمات يدل على رجحان العقل ومحاولة إفادة الآخرين بما ينفع الله به، وقد ورد في الذكر الحكيم على لسان موسى عليه السلام (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي) (¬7) , أما التقعر في الكلام وإظهار الاستهزاء بالآخرين فإنه يبعد الناس عن الصواب ويسبب كثيراً من المشاكل، وربما نزع الشيطان بين بني الإنسان بسبب كلمة، وإلى ذلك أرشد القرآن في قول الحق تبارك وتعالى (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (¬8) , وفي السنة النبوية (هلك المتنطعون) (¬9) , قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً، فاختيار الكلمات ووضوحها واتباع الأسلوب الذي يتناسب مع فهم أعضاء المجالس التشريعية هو السبيل الأمثل لأن كثيراً من الناس يؤولون الكلام أو يحملونه على غير محمله إذا شعروا أن في ذلك حطًاً من قدرهم أو ¬

_ (¬1) - انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان - باب أن الدين النصيحة. حديث 55، 56. والبخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب بطانة الإمام وأهل مشورته. حديث 7204. (¬2) - الآية (91) سورة التوبة. (¬3) - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب الدين النصيحة. حديث 58. (¬4) - انظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري. 11 - 855 بتصرف. (¬5) - رواه البخاري في الاستئذان - باب التسليم - الأحاديث 6244و94و95. (¬6) - رواه أبو داود في الأدب - باب في الهدي في الكلام. حديث 4105. انظر في صحيح أبي داود حديث 4051. (¬7) - الآية 27، 28 من سورة طه. (¬8) - من الآية 53 سورة الإسراء. (¬9) - رواه مسلم في العلم باب هلك المتنطعون - حديث 2670.

من مكانتهم أو اشتمّوا منه تحقيراً لآرائهم حتى ولو لم يكن الأمر كلام كذلك، ولكن لأن عبارته نابية ولذلك يقول الشاعر: ... ... فكم من عائب قولاً سليماً ... وآفته من الفهم السقيم ... فمنشأ الفهم السقيم أحياناً العبارات غير السليمة والتي تعطي أكثر من مفهوم يتأولها أصحاب هذا الفهم أو ذاك فيحملونها على غير محملها, كما أن حسن الإنصات والإستماع لمن يتحدث هو أمر يدل على أدب وخلق وذوق سليم، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع أمر جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن يستنصت الناس (¬1) , كما يجب أن يكون الكلام منضبطاً بضوابط الشرع وآدابه فيجتنب كل ما يخالف ذلك. 6 - وجوب رد الرأي عند التنازع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى أهل الإختصاص ضمن الضوابط التي نأتي على بيانها لوجود الأدلة الشرعية التي توجب الأخذ بهذه المبادئ والقواعد، فقد ورد في كتاب الله تعالى:) َفإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (¬2) , والرد إلى الله يعني الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله يعني الرد إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وإلى صحيح سنته بعد وفاته، فلا يجوز ولا يحل لأحد من المسلمين سواءً كان عضواً في مجلس الشورى أو مجلس النواب أو غيرهما أن يقدم رأيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (¬3). ومن المعلوم أن الإنسان حينما يتقيد في فكره وحديثه وآداب تصويته وفي نقاشه بالقرآن وبالسنة النبوية يصير كل ما يصدر عنه موافقاً لمنهج الله، لكن لا بد في مثل هذه الحالة من العلم والفقه حتى يستطيع الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله, ثم ¬

_ (¬1) - الحديث أخرجه البخاري في العلم. حديث 121. (¬2) - الآية 59 من سورة النساء. (¬3) - الآية 1 من سورة الحجرات.

يستشير المتخصصين في ذلك وفي جميع الفنون والعلوم أهل الثقة والفقه والعلم امتثالاً لقوله تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (¬1) , وفي الأثر (استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا) (¬2) , وقال عليه الصلاة والسلام (لا حكيم إلا ذو تجربة) (¬3) , فذلك كله مما يجعل عملية الشورى في مجالس التشريع تنجح وتؤدي الكلمة ثمارها الطيبة حين الإدلاء بها موزونة بميزان الشرع, لأن ميزان الشرع يبعد الإنسان عن التعصب في الرأي, فالتعصب في الرأي آفة ذميمة وخصلة رذيلة تعمي وتصم، فمن ظهر له الصواب على لسان غيره أو وجد كلام غيره هو الذي يتفق مع شرع الله وجب عليه أن يعود إليه فلا يغتر بآرائه، ولا يعجب بأقواله فإن الغرور كما قيل طيش يورث عمى البصيرة وهو يورث العجب, وإذا كان الإنسان معجباً برأيه لم يصغ إلى آراء الآخرين، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب العجب) (¬4) , وما علاج ذلك إلا أن يكون الإنسان متهماً رأيه بالقصور أبداً إلا أن يشهد برأيه دليل من كتاب الله أو سنة رسوله أو دليل عقلي جامع لشروط الأدلة وأن لا يكون ذلك لصاحب عجب أو غرور، والعجب بطبيعته يولد الكبر وحب الشهرة، والكبر داء يعصف بصاحبه ويقذف به في النار إن أصر واستمر عليه، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله على وجهه في النار) (¬5). ¬

_ (¬1) - الآية (43) سورة النحل. (¬2) - رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة - انظر الماوردي في أدب الدنيا والدين - الطبعة الأولى- ص 272. (¬3) - أخرجه الترمذي في البر وحسن الصلة - حديث رقم 2134, وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير بلفظ (لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة) وعزا إخرجه إلى أحمد في المسند والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك, ورمز له بالصحة, حديث (9876) ص584 - طبعة دار الكتب الدولية بيروت لبنان 1423هـ2002م. (¬4) - أخرجه القضاعي في مسند الشهاب ج2ص320 حديث (1447) , والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس رضي الله عنه والبزار بإسناد جيد. (¬5) - رواه الإمام أحمد في المسند حديث (7015) والحديث سنده صحيح.

ناهيك عن كون العجب والكبر مما يولد في الإنسان الحسد ويدفعه إلى الرياء الذي هو الشرك الأصغر, أما الحسد فهو داء لا دواء له، ولهذا ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا) (¬1) , وقال: (دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء) (¬2) وهو مما يولد في الإنسان مساوئ الأخلاق ويجعله يتشدق بالكلام ويتطاول به، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة مساوئكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون, قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون, قال: المتكبرون) (¬3). أما الرجل الذي يزن كلامه بميزان الشرع فهو لا بد أن يزن آراءه وأقواله بميزان الشرع وأن يبحث سداد الرأي فيما يطرحه من كلام, خاصة فيما يتعلق بالتشريع وإصلاح شؤون الأمة امتثالاً لقول الحق تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (¬4). ومعلوم أن الرد إلى الكتاب والسنة فيما يختلف فيه يجب أن يكون من القواعد المسلم بها, لأن ذلك محكوم بنصوص قطعية ولأن الشورى في المجالس النيابية محصورة في الأمور الاجتهادية والدنيوية, فإنه يجب أن يتثبت أولاً من صحة الاستنباط وسلوك ¬

_ (¬1) - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج8ص309 حديث (8157). (¬2) - أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي في سننه والضياء المقدسي في المختارة وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. (¬3) - سنن الترمذي, أبواب البر والصلة, باب ما جاء في معاني الأخلاق, حديث (2018). (¬4) - الآيات من 70 - 73 سورة الأحزاب.

نتائج التصويت وحكمه في المجالس التشريعية

طريق الاجتهاد وعدم مخالفة ذلك لنص شرعي قاطع في كتاب الله وسنة رسوله لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (¬1) وامتثالاً لقول الحق جل وعلا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬2) وقوله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (¬3). هذه هي أهم الضوابط التي يجب أن يراعيها ويتمسك بها أعضاء المجالس التشريعية إذا ما أرادوا السير على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. نتائج التصويت وحكمه في المجالس التشريعية لقد أقرت الشريعة الإسلامية مبدء الشورى كأصل من أصول الحكم وقد وصف الله خصائص الجماعة الإسلامية بقوله: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (¬4) , وقد جاء في النص من بين هذه الصفات أن أمرهم هو نتاج الشورى، وقد جاء التعبير عن هذه الصفة بصيغة الجملة الاسمية لتحمل معاني الثبات والرسوخ والاستقرار, كما جاءت الصفة مطلقة لتؤكد أن الشورى منهج عمل عند المسلمين ليشمل السياسة والتشريع فيما لا نص فيه وغير ذلك (¬5)، والشورى بين المؤمنين لا يكون العمل بها إلا بالأغلبية أي أننا إذا ما أردنا إعمال مبدء الشورى فلا بد حينئذ من الأخذ برأي الأغلبية وهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بدر وأحد وغيرها كما سيتبين ذلك, فإذا استوفى التصويت الضوابط والشروط التي سلف بيانها وجب الأخذ به، وقد روى الترمذي والإمام أحمد عن جابر بن سمرة قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كقيامي فيكم فقال: عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) (¬6) , والمراد بالجماعة هنا التي تلتزم بشريعة الله وتسير وفق منهجه العادل وتلتزم الضوابط عند استنباط الحكم فيما لا نص فيه، فالجماعة هي التي تلتزم الحق بميزان منهج الله ولا ضير من الاختلاف في الرأي في المسائل الاجتهادية، وقد قال بعض العلماء المعاصرين أن الاختلاف في الرأي لا يعد خروجاً على الجماعة ولا مخالفة للدين إلا إذا استغل الخلاف ليتحول إلى فرقة وفتنة (¬7)، ¬

_ (¬1) - الآية 36 من سورة الأحزاب. (¬2) - الآية 51 من سورة النور. (¬3) - الآية 7 من سورة الحشر. (¬4) - الآية 38 من سورة الشورى. (¬5) - حقوق الإنسان وحرياته الأساسية - مصدر سابق ص 227. (¬6) - الترمذي كتاب الفتن - باب 7 - حديث 2165. (¬7) - انظر الدكتور عدنان علي النحوي في الشورى لا الديمقراطية-الطبعة الرابعة 1413هـ - 1992م دار النحوي للنشر والتوزيع ص 101.

وسنأتي على مزيد بيان في المبحث السابع من هذا الفصل عند حديثنا عن نتيجة الشورى ومدى إلزامية ذلك. فإن قلت: ما دمنا قد قررنا إلزامية الشورى وجواز إصدار قانون بما يصدر عن هذه المجالس باعتبار إلزامية رأي الأكثرية في هذه المجالس والأخذ بهذه الآراء والنتائج هو في أمور اجتهادية ظنية واحتمال الخطأ وارد, فإنه على افتراض صحة ذلك وورود الخطأ فإن معالجة ذلك ليس بالأمر البعيد ما دامت الشورى قائمة فيمكن لولي الأمر (رئيس الدولة، الإمام، الملك) تبيين وجه الخطأ وإعادة النص برأي مسبب يكشف الحقيقة ويبينها ومن ثم إصلاح ذلك الخطأ إن افترض وجوده, وأما إذا كان الخطأ قد تجاوز الأمر إلى الخروج على نص قطعي فإنه قد سبق وأن أشرنا إلى وجوب الطعن على ذلك أمام القضاء, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (¬1) أي فهو باطل مردود، وهذا الحديث يقرر القاعدة العامة في البطلان كجزاء لكل تصرف غير شرعي سواءً كان قانوناً أو لائحة أو حكماً فالسلطة التشريعية مقيدة فيما تسنه من قوانين بأن لا يتجاوز أحكام الشريعة الإسلامية الغراء والدستور المستمد منها. وتبقى إلزامية الشورى فيما لا نص فيه والأخذ برأي الأكثرية في المجالس التشريعية هو الأساس، أما النظم القانونية فإنها لا تكاد تختلف على لزوم الأخذ برأي الأغلبية، وقد صرح دستور الجمهورية اليمنية بأنه يجري التصويت على مشاريع القوانين مادة مادة, ويتم التصويت النهائي على كل مشروع قانون جملة, وتوضح اللائحة الداخلية للمجلس الإجراءات المتعلقة بذلك (¬2) , وقد بينت اللائحة كيفية إجراءات التصويت وأبانت الأغلبية التي يجب الأخذ بها. أما نظام مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية فإنه مصرح في المادة (16) بأنه لا يكون اجتماع مجلس الشورى نظامياً (قانونياً) إلا إذا حضر الاجتماع ثلثا أعضائه على ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب نقض الاحكام الباطلة حديث (1718). (¬2) - انظر المادة 100 من الدستور اليمني.

الأقل بمن فيهم الرئيس أو من ينوب عنه ولا تكون القرارات نظامية (قانونية) إلا إذا وافقت عليه أغلبية المجلس. وقد أعطت بعض الدساتير لرئيس الدولة الحق في الاعتراض على القانون الذي يصدر عن مجلس النواب خلال فترة معينة إذا اشتمل هذا القانون على خطأ بشرط أن يكون هذا الاعتراض قائماً على سبب كما هو صريح الدستور اليمني بالمادة (102) التي جاء فيها (لرئيس الجمهورية حق طلب إعادة النظر في أي مشروع قانون أقره مجلس النواب ويجب عليه حينئذ أن يعيده إلى مجلس النواب خلال ثلاثين يوماً من تاريخ رفعه إليه بقرار مسبب فإذا لم يرده إلى المجلس خلال هذه المدة أو رد إليه وأقره ثانية بأغلبية مجموع أعضائه اعتبر قانوناً وعلى رئيس الجمهورية إصداره خلال أسبوعين فإذا لم يصدره اعتبر صادراً بقوة الدستور دون حاجة إلى إصداره وينشر في الجريدة الرسمية فوراً ويعمل به بعد أسبوعين من تاريخ النشر). وهل يعود ما تصدره المجالس التشريعية من القوانين بأثر رجعي؟ الأصل في أن ما تصدره سلطات التشريع من قوانين لا يعود بأثر رجعي إن أصل عدم رجوع القوانين بأثر رجعي إلا في حالات معينة مبدء جاء به القرآن الكريم, كما هو معلوم أن القرآن الكريم أكد عدم رجعية التشريع إلا في حالات معينة فقد جاء في الآية (95) من سورة المائدة قوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أو كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ). فقد صرحت هذه الآية بالعفو عما سلف وهذا نص قاطع في عدم رجعية التشريع. أما الأحوال التي تستثنى من عدم رجعية التشريع فإن هناك أحوالاً متفق عليها ومواطن مختلف عليها بين الفقهاء, ومن هذه الأحوال حديث الإفك الوارد في سورة النور, فمن يرى منهم أن آية القذف نزلت بعد حادثة الإفك وطبقها الرسول صلى الله عليه وعلى آله

وسلم على من نشروا الفرية فجلد مسطحاً وحسان وحمنة بنت جحش تطبيقاً للنص، ومن يرى أن نزول آية القذف كان بعد تبرئة عائشة فإنه يقول برجعية التشريع وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفذ التشريع بأثر رجعي للمصلحة, وفي هذا يقول الدكتور محمد عبدالمنعم الضبعي: إن كانت آية القذف بعد الإفك وثبت جلد الثلاثة فهناك رجعية للتشريع من أجل المصلحة, وإن كانت آية القذف قد نزلت قبل الإفك فلا رجعية إن كان جلد مسطحاً ورفاقه غير صحيح, على أن الجلد ثابت عند أصحاب السنن والله أعلم. وقد استشهد البعض على الرجعية المدنية دون الجنائية بقوله تعالى (وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً) (النساء:22) , فلم ينقل أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عاقب بمن تزوج بزوجة أبيه في الجاهلية ولكن فرق بينهما، أما من تزوج بامرأة أبيه وهو مسلم فإنه يقتل (¬1). أما الأحوال التي يكون للتشريع فيها أثر رجعي ويكاد يتفق عليها فهي تتلخص في الآتي: 1 - أن يكون التشريع الجديد في صالح المتهم ولم يكن قد حكم عليه فالثلاثة الذين خلفوا اعتزلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بمقاطعتهم ثم نزل تشريع جديد بتوبة الله عليهم وانتفعوا بهذا التشريع الجديد وأصبح له أثر يعمل به في الماضي قال تعالى (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (¬2). فالتشريع القديم كان يقضي بمقاطعة من تخلف عن الغزو كلياً فجاءت الآية بالعفو عن هؤلاء حين شعروا بالندم, وكذلك الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فألغاه التشريع الجديد واعتبره حالة أصلح للمتهم من أن يعده عليه طلاقاً, ولا ريب أن عدم اعتبار الظهار طلاقاً فيه سعة على الإنسان ففي عد الظهار طلاقاً تضييق لا مبرر له (¬3) ¬

_ (¬1) - نظرة القرآن إلى الجريمة والعقاب ص 93 وما بعدها. (¬2) - سورة التوبة 118. (¬3) - زاد المعاد ج 4، ص 117.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) (¬1) ... إلى آخر الآيات. فإذا لم يكن التشريع جديداً فلا يطبق عليه. 2 - أن يبرأ التشريع الجديد كرجلين تبايعا خمراً ثم أسلما وعلى أحدهما دين للآخر فيسقط الدين بإسلام المدين لأنه ليس دين الخمر وثمنها حق عليه والإسلام يجب ما قبله, وقد كان في الجاهلية أن من يتزوج زوجة ابن تبناه يلام لوماً شديداً في الجاهلية فجاء التشريع يبرأ المتهم بهذه التهمة, وتزوج الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمن كانت زوجة لمن كان يتبناه وهو زيد بن حارثة ونزل قول الحق معللاً ذلك بقوله سبحانه وتعالى (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (¬2). 3 - استرداد حق ظلم فيه إنسان باغتصاب منه بطريق غير مشروع كما في المتعاملين بالربا في الجاهلية فوضعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: (كل ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) (¬3). 4 - وجود تفسير يفسر النص القديم كما في المجاهدين كانوا يأخذون أربعة أخماس الغنيمة وجاء عمر بتفسير جديد (¬4) أخذ من المجاهدين نصيبهم وأوقفه على المسلمين ومن يجيء بعدهم وفسر آية الغنيمة بآية الفيء قال تعالى: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (¬5) ,-وسنأتي على القصة بطولها عند حديثنا عن الشورى في القضاء-. ¬

_ (¬1) - الآية 4 من سورة المجادلة. (¬2) - الآية 37 من سورة الأحزاب. (¬3) - أخرجه ابن ماجه في سننه حديث (3074). (¬4) - انظر الدكتور محمد عبدالمنعم الضبعي في نظرة القرآن في الجريمة والعقاب نقلاً عن تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص94 - 95. (¬5) - سورة الحشر: 7 - 10.

أما إذا ورد تشريع جديد وخالف تشريعاً سابقاً وكانت هناك عقود قد أُبرِمت في ظل التشريع القديم فإن التشريع الجديد لا يصب أثره التشريع البدء, ومما يشير إلى ذلك أنه لما اتجه المسلمون في صلاتهم إلى بيت المقدس بتشريع من الحق سبحانه وتعالى ثم أمرهم الله أن يحولوا وجوههم إلى المسجد الحرام، تساءل الناس عن الأجر الذي اكتسبوه من صلاتهم السابقة أهو لهم أم قد ضاع منهم, فقال الحق سبحانه وتعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (¬1). أما العقود التي لم تزل قائمة تنتج أثرها بناء على التشريع القديم وبقيت تنتج أثرها في ظل تشريع جديد لا يقرها فهذه تلغى منذ صدور التشريع الجديد ولا عقوبة على ما مضى، قال تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا) (¬2) فمن كان متزوجاً بامرأة أبيه فليفارقها منذ نزول الآية لأن هذا العقد يتناقض مع أسس النظام العام في جوهره, أما حين يتعارض تعارضاً غير جوهري مع التشريع فلا مانع من إبقائه كإسلام الكتأبي الذي تزوج وهو كتأبي من غير شهود (¬3). وقد درجت أغلب الدساتير على التنصيص على أنه لا تسري أحكام القانون إلا على ما يقع عند تاريخ العمل بها, ولا يترتب أثر على ما يقع قبل إصدارها, ومع ذلك يجوز في غير المواد الضريبية والجزائية النص في القانون على خلاف ذلك وبموافقة ثلثي أعضاء المجلس, هذا هو ما صرح به الدستور اليمني في المادة (104). فالدستور قرر قاعدة العمل بالقوانين من تاريخ نشرها والعمل بها وعدم جواز رجعيتها في المواد الضريبية والجزائية, أما ما عدا ذلك فإن الدستور أرجع الأمر إلى مجلس النواب ممثلاً بثلثي أعضاءه في تقرير ما يراه ملائماً في ذلك وتكون القاعدة هو ¬

_ (¬1) - البقرة 143. (¬2) - سورة النساء 22. (¬3) - نظرة القرآن في الجريمة والعقاب ص96.

أن كل إجراء تم صحيحاً في ظل قانون معمول به فإنه يبقى صحيحاً إلا إذا نص القانون على خلاف ذلك, أما في الأحوال الجنائية فإنه يطبق القانون الأصلح للمتهم فيطبق القانون النافذ وقت ارتكاب الجريمة. وإذا صدر قانون بعد وقوع الجريمة وقبل الحكم فيها طبق أصلحهما للمتهم وإذا صدر القانون بعد الحكم البات وجعل الفعل الذي حكم فيه على مجرم غير معاقب بتلك الجريمة فإنه يوقف تنفيذ الحكم وتنتهي آثاره الجزائية وفقاً لأحكام المادة (4) من قانون الإجراءات الجزائية اليمني. وإذا كانت القاعدة أن القوانين يعمل بها من تاريخ نشرها فالمشرع اليمني يرى أنه يعمل بها بعد ثلاثين يوم من تاريخ نشرها كما هو صريح المادة (103) من الدستور اليمني فهناك اختلاف بين المشرعين في تحديد المدة بعد النشر, ويجوز مد هذا الميعاد أو قصره بنص خاص في القانون, فإذا تبين أن القانون بعد نشره قد اشتمل على عيوب تضر بمصلحة الأمة أو تخالف الشريعة أو الدستور ولم يستخدم الرئيس حقه الدستوري في الاعتراض على القانون وإعادته إلى مجلس النواب بمذكرة مسببة فإن القضاء يبسط رقابته على هذا القانون. ويوجد في العالم نوعان من الرقابة على دستورية القوانين رقابة سياسية ورقابة قضائية نأتي على بيانها.

رقابة القضاء على دستورية القوانين

رقابة القضاء على دستورية القوانين ما من شك في أن رقابة القضاء على دستورية القوانين توحي بالثقة وتوطد العلاقات الدولية, فغياب الرقابة القضائية يؤدي إلى نتيجة غريبة وبعيدة عن منطق الحق والعدل وهي تكريس سيادة القانون على الدستور في حين أن السلطة التشريعية مؤلفة من عدة هيئات أوجدها الدستور مع غيرها من السلطات الأخرى فيجب أن تكون خاضعة لهذا الميثاق, بل أن مبدء الرقابة القضائية على دستورية القوانين قد صار محط اتفاق بين الفقه الوضعي والفقه الإسلامي ما لم تكن هذه الرقابة قد امتدت إلى ما هو مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية التي كانت سابقة في وضع قواعد العدالة وتأسيسها, فإنه فيما يتعلق بالرقابة على دستورية القوانين التي تأخذ بالنظام السياسي الإسلامي كاليمن والمملكة العربية السعودية وغيرها من دول العالم الإسلامي فإن ذلك موكل بموجب الشريعة إلى القضاء نفسه, فمنهم من نظم ذلك في دستوره وصرح باختصاص الهيئة القضائية كما هو الحال في دستور الجمهورية اليمنية الذي جعل الإختصاص في ذلك للمحكمة العليا وكذلك صرحت الكثير من الدساتير بهذه الرقابة, ومنهم من ترك ذلك وهذا لا يعني بطبيعة الحال عدم وجود مرجعية, فالقضاء على اختلاف درجاته هو المعني بإبطال كل نظام أو قانون أو تصرف يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية في الدول التي لم تصرح باختصاص هيئة معينة للرقابة على دستورية القوانين باعتبار أن ولاية القضاء في تحقيق العدل أصلية, فالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة هي إحدى وجوه العدالة باعتبار شمولية الوظيفة القضائية من ناحية تتعلق بتطبيق القوانين ومراعاة القانون الأعلى ضرورة قائمة بذاتها لأن ذلك يؤدي إلى حسن تطبيق القوانين, الموافقة للقاعدة الأعلى تطبيقاً سليماً. وقد ذهبت الكثير من البلدان إلى إعطاء الحق للمحكمة العليا, والبعض منها أنشأت محاكم دستورية, والمراد هنا بالرقابة القضائية التحقق من مطابقة القوانين العادية لنصوص الدستور, وتتمثل بالرقابة في إعطاء محكمة واحدة خاصة أو جميع المحاكم باختلاف درجاتها سلطة الرقابة على دستورية القوانين وتوصف الرقابة القضائية بالرقابة

اللاحقة لأنها تتم بعد صدور القانون, ولم تتفق الدول التي تأخذ بالرقابة القضائية على منهاج واحد أو تتخذ طريقة واحدة بل إنها اتخذت طرقاً متعددة. (¬1) ويمكننا البيان لأسلوبين رئيسيين هما الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية والرقابة عن طريق الدفع الفرعي. 1 - الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية: تتمثل الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية في قيام أحد الأشخاص المتضررين من قانون معين للطعن فيه مباشرة أمام المحكمة المختصة ودون حاجة إلى الانتظار حتى يتم تطبيق القانون عليه, فإذا تبين للمحكمة صاحبة الإختصاص أن القانون محل النزاع مخالف لنصوص الدستور فإن لها الحق أن تصدر حكماً قضائياً بإلغائه وعند ذلك يصبح هذا القانون باطلاً, ويطلق بعض الفقهاء على هذا النوع من الرقابة رقابة الإلغاء, وتقوم الدولة التي تأخذ بهذه الطريقة بتخصيص هيئة قضائية واحدة يقوم الدستور بتحديدها بمعنى أنها تأخذ بمركزية الرقابة على دستورية القوانين, ويختلف اختصاص هذه الهيئة من دولة إلى أخرى, فمنهم من جعل هذا الإختصاص من حق المحكمة العليا ومن هذه البلدان الجمهورية اليمنية (¬2) الذي نص دستورها بالمادة (153) أن المحكمة العليا للجمهورية اليمنية هي أعلى هيئة قضائية ويحدد القانون كيفية تشكيلها ويبين اختصاصها والإجراءات التي تتبع أمامها وتمارس على وجه الخصوص في مجال القضاء ما يلي: الفصل في الدعاوي والدفوع بعدم دستورية القوانين واللوائح والأنظمة والقرارات, وصرح قانون السلطة القضائية اليمني بالمادة (12) الفقرة (أ) بأنها تمارس المحكمة العليا الرقابة على دستورية القوانين واللوائح والأنظمة والقرارات وهذه النصوص تبين أن حق المحكمة العليا في الرقابة على دستورية القوانين هو حق أصيل. ¬

_ (¬1) - انظر الدكتور فؤاد محمد النادي في مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون في الفقه الإسلامي ص 351 وما بعدها، والدكتور أحمد عبدالله بن باز في النظام السياسي والدستوري في المملكة العربية السعودية ص 52 وما بعدها، والدكتور علي السيد البار في الرقابة على دستورية القوانين في مصر ص 44 - 47. (¬2) - انظر تفسير أوسع في كتابنا عمدة المسير في بيان سلطة القاضي في تقدير الدليل ج 4، ص 112 وما بعدها.

الرقابة عن طريق الدفع الفرعي:

2 - الرقابة عن طريق الدفع الفرعي: أسلوب الرقابة عن طريق الدفع الفرعي تعني قيام الشخص المتضرر من القانون المخالف للدستور بالتوجه إلى المحكمة صاحبة الإختصاص للطعن مباشرة في عدم دستورية ذلك القانون كما هو الحال في الرقابة بواسطة الدعوى الأصلية ولكنه ينتظر حتى يتم تطبيق القانون عليه في قضية معينة ثم يقوم بالطعن عن طريق الدفع بعدم دستوريته والفرق بين الرقابة القضائية بطريق الدعوى الأصلية عن تلك التي تتم بطريق الدفع الفرعي ويمكننا تلخيصه في التالي: أ) الرقابة القضائية التي تتم عن طريق الدعوى الأصلية يتخذ صاحب الدعوى فيها صفة هجومية حيث أنه يلجأ مباشرة إلى القضاء مطالباً بإلغاء القانون, أما في حالة الدفع الفرعي فإن صاحب الحق ينتظر حتى يطبق القانون عليه وعند ذلك يجادل في حجية القانون عن طريق الدفع بعدم دستوريته. ب) في الدعوى الأصلية يصدر القضاء حكماً بإلغاء القانون إذا اتضح عدم دستوريته وبالتالي لا يجوز إعادة تطبيقه في المستقبل, أما في الدعوى الفرعية فإن القاضي يمتنع عن تطبيق القانون في النزاع المعروض عليه ولكن القانون يظل ساري المفعول وبالتالي يجوز تطبيقه في حالة أخرى. ج) يحوز الحكم عن طريق الدعوى الأصلية حجة عامة ومطلقة كما هو صريح المادة (234) مرافعات يمني أي أن أثره ينطبق على الكافة في حين يحوز الحكم عن طريق الدفع الفرعي حجة نسبية, أي أن أثره يقتصر على النزاع المعروض أمام القضاء (¬1). أما الرقابة السياسية فإنها تقوم بهذا الدور هيئة ذات صبغة سياسية تنشأ بموجب الدستور, ترتكز مهمتها في التحقق من مطابقة أعمال السلطة التشريعية لنصوص الدستور ويتم هذا التحقق قبل صدور القانون وسريان مفعوله, فإذا اتضح أن ¬

_ (¬1) - انظر عمدة المسير - مرجع سابق ج 4، ص 414 - 417 للمؤلف.

القانون مخالف للدستور فإن للهيئة الحق في إيقافه, ويطلق على هذه الطريقة الرقابة الوقائية, لأنها تتم قبل صدور القانون (¬1) , والاختلاف بين النظامين يبدو في تحديد الجهة صاحبة الحق في الإختصاص في الفصل, فمن الدول من طبق نظام الرقابة السياسية ومنهم من طبق نظام الرقابة القضائية, والأقرب إلى مقاصد الشريعة الإسلامية هو تطبيق الرقابة اللاحقة وهي الرقابة القضائية عملاً بالحديث الشريف (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) أي مردود عليه ويجب على القضاء إبطاله, فلا يجوز للقاضي أن يقضي بقانون يخالف شرع الله فالنظام السياسي الإسلامي يقوم على قاعدة أن كل قانون مخالف لشريعة الله فهو باطل, ولم يبعد نظام الرقابة السياسية إذا ما انضبط بضوابط الشريعة عن روح الشريعة ومقاصدها, إذ لا يجوز للمجالس التشريعية أن تسن قوانين تختلف مع شريعة الله, ولكن إذا ما حدث خطأ فإن معالجته لن تكون صعبة في ظل الشورى, فالنظام الإسلامي يوجب الطعن في أي قانون يختلف مع شرع الله أمام الجهة التي يتفق عليها. ¬

_ (¬1) - انظر الدكتور أحمد عبدالله بن باز في النظام السياسي والدستوري للمملكة العربية السعودية ص 52، والدكتور عادل الحياني في القانون الدستوري والنظام الدستوري الأردني - الطبعة الأولى صن 55 - 75.

المبحث الثاني الشورى في الوظائف العامة

المبحث الثاني الشورى في الوظائف العامة مما لا شك فيه شمولية الشورى للوظائف العامة لأنها من جملة الأمر الذي أرشد الله سبحانه وتعالى إلى التشاور فيه بقوله جل شأنه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (¬1) وقد امتدح الله المؤمنين الذين يتحلّون بالشورى في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (¬2). فاستطلاع رأي الأمة فيمن ينوب عنها في أمر من الأمور العامة المتعلق بها بهدف التوصل إلى إدارة شؤون الأمة على الوجه الحسن هو من أهم الواجبات، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم) (¬3) , وقد كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم ألا يعطي الإمارة من سأله وحرص عليه، وإنما كان يأخذ بشورى المسلمين. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد) (¬4) ما ذلك إلا لأن التشاور يوصل إلى اختيار أفضل الأشخاص, ولأن بعض الناس بطبيعته يحرص على الإمارة والولاية ولا يقدّر ذلك بقدره، ولذلك ورد الترهيب في قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة) (¬5) وجاء في حديث آخر (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) (¬6) , ما ذلك إلا لأن تولي الوظائف العامة لا تخلو من مخاطر ولأنها أمانة ¬

_ (¬1) - الآية 159 من سورة آل عمران. (¬2) - الآية 38 من سورة الشورى. (¬3) - سبق تخريجه. (¬4) - أخرجه أحمد في المسند مسند علي بن أبي طالب- حديث 543. وابن ماجه في سننه - المقدمة - باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - حديث 137 وأورده السيوطي في الجامع الصحيح ورمز له بالصحة وهو من رواية أحمد والترمذي وابن ماجه ومالك عن علي حديث 7487. (¬5) - صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب ما يكره من الحرص على الإمارة حديث 7148. (¬6) - صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب كراهية الإمارة بغير ضرورة حديث 1825.

قد يصعب على البعض حملها وأداؤها، فمن ولي شيئاً من أمور هذه الأمة وجب عليه أن يحفظهم وينصح لهم, وأن لا يحأبي في أمر من الأمور, فهي أمانة يجب أن تؤدى إلى أهلها، ولهذا جاء في الحديث النبوي (من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) (¬1) , ولا يمكن الوصول إلى من هو الأفضل والأصلح دون استشارة ووضع شروط وضوابط خشية تحمل الأمة من لا تطيق حمله، ولهذا ورد النهي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وورد في بعض الأحاديث بلفظ (لا تسل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أُعنِتَ عليها) (¬2) , والنهي هنا عن سؤال الإمارة إنما هو للكراهة لأن الحرص عليها فيه مظنة طلب الظهور وحبه وفي ذلك تزكية للنفس، وقد ورد النهي عن ذلك في قوله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) (¬3) , إلا إذا عرف الإنسان من نفسه القدرة وأن غيره لا يحل محله فإنه لا مانع من الطلب والتعريف بالنفس أخذاً من قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (¬4) , هذا بالنسبة للإمارة ذات الخطر العام والتي فيها معنى الإمارة والولاية وترتبط بمصالح الناس. ولهذا فإن المناصحة للأمة تقتضي المشاورة فيمن يُختار في الوظائف العامة ذات الخطر العام، ونعني بالوظائف العامة هنا التي نرى ضرورة التشاور فيها ذات الولايات العامة وتتمثل في الآتي: الوزراء وكبار ضباط القوات المسلحة والأمن، وقيادات الألوية والكتائب وأمراء الجند والمحافظون ومدراء أمن المحافظات والولايات، ورؤساء المحاكم سواءً كانت ابتدائية أو استئنافية والمحاكم العليا، وما يقابل هذه الوظائف في الدولة الحديثة وما هو دونها من المناصب الإدارية والقيادية في الدولة المعاصرة بما في ذلك رؤساء وأعضاء مجالس النواب والشورى والحكومة، وما يأتي على رأس هذه الوظائف مثل منصب الخليفة أو الملك أو رئيس الدولة أو الإمام. ¬

_ (¬1) - رواه الحاكم في المستدرك من طريق حسين بن قيس عن ابن عباس وقال صحيح الإسناد - كتاب الأحكام - حديث 7105. (¬2) - صحيح البخاري - كتاب الإيمان والنذر - باب لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم - حديث 6622. (¬3) - سورة النجم من الآية 32. (¬4) - سورة يوسف الآية 55.

وقد استعرض فقهاء السياسة الشرعية في الإسلام كالإمامين الماوردي وأبي يعلى الفراء في كتابيهما عن الأحكام السلطانية الولايات المتعددة في الدولة وعددوا اختصاص كل منها، والشروط اللازمة لشغلها ولم يمنعوا أحداً يستجمع شروط وظيفة عامة عن شغلها لمانع عرقي أو طبقي, وكذلك فعل الإمام ابن تيمية عندما عرض للولايات في كتابه السياسة الشرعية، وبمعنى آخر فإنه قد يحقق في الإسلام مبدء المساواة أمام وظائف الدولة، وهو أحد المبادئ التي يسعى فقهاء القانون إلى تحقيقها في الدولة المعاصرة، وهو لا يعني المساواة الفعلية بإلحاق كل مواطن في الوظيفة العامة، وإنما يعني أن يعامل جميع المواطنين نفس المعاملة في فرصة الإلتحاق بالوظائف من حيث شروط الوظيفة والمؤهلات التي يتطلبها القانون ومن حيث المزايا والحقوق والواجبات والمرتبات والمكافئات المحددة لها دون تمييز طبقي أو اجتماعي. فمبدء المساواة في الدولة الإسلامية في الحقوق والواجبات هو مبدء أصيل ويتمثل هذا المبدء في أن جميع الناس سواسية في طبيعتهم البشرية, وأن ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني أو انحدارها من سلالة خاصة، وأن التفاضل بين الناس إنما يقوم عن طريقة أخرى خارجة عن طبيعتهم وعناصرهم وسلالتهم, فيقوم مثلاً على أساس تفاوتهم في الكفاءة والعلم والأخلاق والتقوى وغير ذلك من الأعمال التي يقدمها كل منهم لربه ولنفسه ولمجتمعه ولإنسانيته (¬1). ولما لمبدء المساواة من الأهمية فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعلنه في خطبة أيام التشريق, فقرر أنه لا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا المبدء وجاء في خطبته صلى الله عليه وآله وسلم (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأباكم واحد, ألا لا فضل لعجمي على عربي ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى) (¬2). ¬

_ (¬1) - انظر المساواة في الإسلام للدكتور علي عبدالوافي - الناشر: شركة مكتبة عكاظ للنشر 1403هـ - 1983م - ص 9. (¬2) - انظر مسند الأنصار الثاني عشر - مسند الإمام أحمد - حديث 23489 - طبعة بيت الأفكار الدولية - والحديث سنده صحيح.

وهذا الحديث ذكر مبدء المساواة في الحقوق والواجبات والتكاليف في التعامل والمساواة في الفرص المتاحة لأفراد الأمة؛ فلا تمايز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو النسب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (¬1). وهذا الحق من منظور إنساني وإسلامي يعني مساهمة الفرد في إدارة شؤون الدولة أو في حكمها, ويستطيع بواسطته المشاركة في الحياة العامة لبناء المجتمع الإنساني وإدارة شؤونه (¬2)، وإذا كان الأمر كذلك فإن الوظائف العامة في الدولة تشتمل على مختلف المناصب الإدارية والتشريعية والقضائية والحكم في طلبها وطرق توليتها يختلف باختلاف الأحوال. والشورى فيها كلها قائمة, فطريقة تولية رئيس الدولة أو الخليفة أو الملك أو الإمام أو السلطان تختلف عن طريق تولية وظائف الدولة المهمة كالوزارات وقيادة الجيش ورئاسة الوحدات الإدارية، وهذه تختلف أيضاً عن طريق إختيار أعضاء مجالس الشورى أو النواب أو الشيوخ أو الأعيان، والإختلاف في الطريقة يرجع إلى اختلاف طبيعة تلك الوظائف فمنصب الرئيس أو الخليفة أو السلطان هو نيابة عن الأمة في إدارة شؤونها وتنفيذ ما هي مكلفة به شرعاً, فكانت الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الرئيس أو الملك ليزاول ما تملكه من سلطة نيابة عنها. وللعلماء خلاف هل السلطان أو الخليفة أو الرئيس ينوب عن الله أو عن الأمة والظاهر أن بني الإنسان مستخلفون في الأرض وأن من تختاره الأمة ليكون رئيساً أو خليفة ينوب عنها في إدارة شؤونها العامة وفقاً لمنهج الله وهدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. قال الماوردي الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (¬3). وقد عرَّف العلماء منصب الخليفة أنه رئاسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوق يده يد إلا يد الله سبحانه، والسلطان الذي يؤتاه صاحب الإمامة (الرياسة العامة) مستمد من الأمة لا سلطان عليه إلا منها (¬4) , فهو ينوب عن الأمة في إدارة شؤون الحكم وحفظ بيضة الإسلام ودفع من أرادها بمكروه والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وتأمين السبل وأخذ الحقوق الواجبة على مقتضى الشرع ووضعها في مواضعها، وحفظ الشعائر والمقدسات الدينية إلى غير ذلك من الأعباء التي لا يمكن أن يقوم بها شخص بمفرده، ولهذا وجب على الأمة أن يتشاوروا وأن يختاروا رئيساً لهم أو إماماً أو خليفة, فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم) (¬5) وفي حديث آخر (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّر عليهم أحدهم) قال الشوكاني: وفي ذلك دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الإختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم ودرء التخاصم أولى وأحرى وفي ذلك دليل لقول من قال أنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام (¬6). قلت والظاهر أنه من باب أولى يجب على المسلمين اختيار من يدير شؤونهم ولكن عن طريق الشورى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لو كنت مؤمّراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمّرتُ ابن أم عبد) (¬7) وقد روى الضياء المقدسي في المختارة عن سعيد بن زيد أن النبي ¬

_ (¬1) - الآية (13) سورة الحجرات. (¬2) - انظر تفصيل أوسع مؤلفنا حقوق الإنسان في السنة النبوية- ص 455 وما بعدها. (¬3) - انظر الماوردي في الأحكام السلطانية. (¬4) - انظر التاج المذهب في أحكام المذهب للعلامة المحقق المجتهد أحمد بن قاسم العنسي اليماني الصنعاني ج 4 - ص405 مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البأبي الحلبي وشركاه 1366هـ1947م. (¬5) - انظر أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في القوم مسافرون يؤمرون أحدهم - حديث 2608 - حديث 2609. (¬6) - الشوكاني - نيل الأوطار - 8 - 282. (¬7) - سبق تخريجه.

صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من تولى قوماً بغير إذنهم فعليه لعنة الله) (¬1) فالشريعة الإسلامية توجب على المسلم أن يكون مواطناً في دولة إسلامية تحت إمرة من يرأس تلك الدولة, دل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) (¬2) , ولقد كانت سيرة الصحابة تطبيقاً حياً لهذا النص وأمثاله، ولهذا فإن الصحابة انصرفوا عن تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أسلم الروح إلى الرفيق الأعلى إلى سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة الأول حتى إذا تمت البيعة للصديق أقبلوا على جهاز المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وما حملهم على ذلك إلا خشية الفتنة أو أنهم يبقون دون دولة أو رئيس. (¬3) قال الشوكاني ثم إن الصحابة لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدَّموا أمر الإمامة ومبايعة أبي بكر رضي الله عنه على كل شيء حتى أنهم اشتغلوا بذلك عن تجهيزه صلى الله عليه وآله وسلم ثم لما مات أبو بكر رضي الله عنه عهد إلى عمر رضي الله عنه ثم عهد عمر إلى النفر المعروفين ثم لما قتل عثمان رضي الله عنه بايعوا علياًكرم الله وجهه وبعده الحسن ثم استمر المسلمون على هذه الطريقة حيث كان السلطان يأخذ أمر الأمة مجتمعاً، ثم لما اتسعت أقطار الإسلام ووقع الخلاف بين أهله واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه، وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد, بل إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الغاية. (¬4) ومن الواضح في النصوص الشرعية أن طريقة اختيار الخليفة أو الرئيس أو الملك لم تحدده النصوص الشرعية وإنما ترك الأمر شورى بين الأمة حيث أوجبت النصوص تنصيب رئيس أو ملك أو إمام يدير شؤون الدولة وإسناد السلطة إلى الحاكم من قبل الأمة المسلمة التي هي صاحبة الحق، وهي ملزمة بالنصوص بأن تختار وتتشاور فيمن يتولى إدارة شؤون الأمة وقد قال الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ايها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقوأهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه) , قال ابن أبي الحديد ما معناه أحق الناس بالإمامة (أي الرئاسة العامة) , أقوأهم عليها وأعلمهم بحكم الله فيها أي أحسنهم سياسةً وأكثرهم علماً وأحرى بالتدبير, وتجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل ولكن الفاضل أحق. (¬5) وقد عرفنا أن الصحابة ذهبوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة، وأن عمر رضي الله عنه عهد إلى ستة تشاوروا واختير من بينهم عثمان رضوان الله عليه ثم إن الإمام علي كرم الله وجهه وهو رابع الخلفاء الراشدين بويع من قبل الأمة مباشرة. إذاً فأي طريق ترى الأمة بعد التشاور أنه الأسلم لاختيار الخليفة أو الملك أو الرئيس أو الأمير فلتسلكه، والنص القرآني (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) يفيد بظاهره وجوب التشاور سواءً كان عن طريق الاستفتاء والانتخاب المباشر أو عن طريق البيعة أو عن طريق اختيار مجالس الشورى, فكل هذه الطرق لمنصب الرئاسة أو الخلافة العامة ليس هناك مانع شرعي منه بشرط أن تتوفر الأمانة والكفاءة فيمن يُختار، وحق الأمة في اختيار ولاتها ثابت ولا تنعقد الرئاسة العامة إلا بالبيعة أو الانتخاب أو الاستفتاء فقد أخرج الضياء المقدسي عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من تولى قوماً بغير إذنهم فعليه لعنة الله) (¬6) , والحديث يعم الولاية ذات الخطر العام. فإن قلت فما هو القول في شرط القرشية الذي قال به جمهور الفقهاء ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأئمة من قريش) (¬7) , قلنا ينصرف ذلك إلى أتمهم وأصلحهم. لأن ما ورد فيه ¬

_ (¬1) - الأحاديث المختارة للضياء المقدسي الحنبلي ج 3 ص 1113 وإسناد الحديث صحيح ورواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون بنحوه حديث (1640). (¬2) - صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب أربعة- حديث 1825. (¬3) - حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص 132. (¬4) - السيل الجرار 4/ 504. (¬5) - نهج البلاغة مع شرح الشيخ / محمد عبده وإيضاحات من شرح العلامة ابن أبي الحديد , ص354, طبعة محمد كمال بكداش. (¬6) - الأحاديث المختارة للضياء المقدسي الحنبلي - ج 3 - حديث رقم 1113. وإسناد الحديث صحيح وأخرجه أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون بنحوه- حديث 1640. وروى أبو يعلي الموصلي والهيثم بن كليب كلاهما من طريق يزيد بن هارون بنحو لفظ أحمد. (¬7) - أخرجه الضياء المقدسي في المختارة - حديث 450 - 449 - ج2 - ص 73 و 74 من حديث علي وسنده صحيح - وحديث أنس ج 4 المختارة ص 403 وإسناده حسن وحديث 2138 - ج 6 - ص 142 - المختارة أيضاً وأورده أبي يعلى في مسنده حديث 443 وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه ويعقوب بن سفيان وأبو يعلي والطبراني من حديث ابن برزة الأسلمي وأخرجه الطيالسي والبزار.

عبارة عن إخبار عن أتمهم وأصلحهم وليس فيه ما يدل على وجوب اختيار الأئمة من قريش فهو كحديث (القضاء في الأنصار والأذان في الحبشة والأمانة في الأزد) (¬1) , وهو حديث صحيح ولم يقل أحد أن هذا الحديث يدل على وجوب اختيار المؤذنين من الحبشة أو القضاة من الأنصار أو الأمناء من الأزد، غاية ما يؤخذ منه أن يقال أن أفضل المؤذنين من الحبشة وأفضل القضاة من الأنصار أو أصلحهم, قال المقبلي: إن حديث الأئمة من قريش خبر محض عن الواقع. وقال: إن الحاصل أن الصحابة فعلوا فعلاً وجدوه أقرب شيء في تلك الحادثة إلى تحصيل المقصود فأخذ الناس الواقعات شروطاً ولا يلزم من الوقوع الوجوب (¬2). فالأمة هي المعهود إليها في اختيار من يحكمها سواءً كان ذلك عن طريق البيعة أو الانتخاب أو الاستفتاء، أما ولاية العهد فإنها أخذاً مما فعله الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في عهده لعمر رضي الله عنه فإنها لا تزيد عن كونها ترشيحاً وتزكية، وقد قال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة: وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماماً لمّا بايعوه وأطاعوه ولو قدر أنهم ينفذون عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماماً (¬3) ثم يكرر ابن تيمية هذا المعنى في موضع آخر فيقول: وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم (¬4). وعلى ذلك فإن ولاية العهد بتكييفها الشرعي لا تنافي حق الأمة في الاختيار مطلقاً فمن رُشِّح لولاية العهد احتاج إلى بيعة الأمة الصريحة ليكون خليفة، إذاً فالشورى هي التي تحسم الأمر إما بيعة وإما انتخاباً مباشراً عن طريق الاقتراع والاستفتاء أو توكل هذه المهمة الكبرى إلى من يمثلون الأمة في مجالس النواب فالأمر شورى في ذلك كله، وسنأتي على مزيد بيان عند ذكرنا لأهل الشورى وإلزامية الشورى. وبهذا العرض البسيط يتبين لنا كيفية إسناد أعلى وظيفة في الدولة من مدرسة الشورى الإسلامية. ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة حديث 9235. (¬2) - انظر المنار في المختار من جواهر البحر الزخار - حاشية العلامة المجتهد صالح بن مهدي المقبلي على البحر الزخار - ج 2 - ص 464. (¬3) - منهاج السنة النبوية ج 1 - ص 141 الطبعة الأولى. (¬4) - منهاج السنة 1/ 146.

أما إسناد وظائف الدولة الأخرى فهي تختلف باختلاف هذه الوظائف، فطريق تولي وظائف الدولة المهمة كالوزارات وقيادة الجيوش ورئاسة الوحدات الإدارية تختلف عن طريق تولية رئيس الدولة وأعضاء المجالس النيابية، والاختلاف في الطريقة يرجع إلى اختلاف طبيعة تلك الوظائف فمنصب رئيس الدولة قلنا أنه يختار من قبل الأمة لأنه ينوب عنها أو أنه وكيلها في إدارة شؤونها لتنفيذ ما هي مكلفة به شرعاً فكانت الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الرئيس أو الإمام أو الحاكم أو الملك أو السلطان ليزاول ما تملكه من سلطة نيابة عنها. أما منصب الوزارة ورئاسة الوحدات الإدارية فهي وظائف معاونة لرئيس الدولة ومساعدة له في مسؤوليات الحكم وحمل تبعاتها, فكان من يعيّن من يشغل هذا المنصب من حق من ينوب عن الأمة (الحاكم، الرئيس، السلطان) أو من ينيبه في ذلك، ونستعرض هنا ما قاله الماوردي في الأحكام السلطانية فهو يقول: (إنما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده به ليستظهر بها على نفسه وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل) (¬1). قلت والوزارة مشروعة فذو الولاية العامة لا يستطيع أن يدير شؤون الدولة بمفرده، وقد جاء في كتاب الله عز وجل على لسان موسى (واجعل لي وزيراً من أهلي) (¬2) , وأخرج أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه) (¬3) , ما ذلك إلا لأن مسؤولية ولي أمر الأمة جسيمة فهو يتعين عليه رعاية مصالح الأمة وإدارة شؤون الحكم وهو مسؤول عن سلامة أحوال الناس وعن حفظ الأمن وعن نشر العلم وعن إقامة العدل وعن حفظ ثغور البلدان وسلامتها وعن إقامة الشعائر الدينية، فقد جاء ¬

_ (¬1) - الأحكام السلطانية للماوردي، ص 35. (¬2) - الآية (29) من سورة طه. (¬3) - رواه أبو داود في سننه كتاب الفيء والإمارة - باب اتخاذ الوزير, حديث (2932).

في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول رعيته) (¬1). كما أن ولي الأمر يناط به اختيار كبار مسؤولي الدولة ووزرائهم ووكلائهم ورؤساء المصالح والقضاة والمفتين وقادة الجيوش وكبار الضباط, وحقه في كل ذلك مشروط بتحري الصلاحية فيمن يعينهم في تلك المناصب، ويوكل إليهم من مهامها لتكون الأعمال بالكفاءات مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة، والحقوق مضمونة، والحريات والأعراض بالصلحاء مكفولة ومحروسة، (¬2) إذ لا يجوز له أن يولي أحداً محاباةً لأي مبرر لعصبية أو حزبية أو غير ذلك فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأقام عليهم أحداً محاباةً فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم) (¬3) وفي رواية (من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين) (¬4). ويصعب على ولي الأمر اختيار الرجال دون استشارة أهل التقوى والصلاح، وقد كان هديه صلى الله عليه وآله وسلم الاستشارة في اختيار الولاة كما جاء في الحديث (لو كنت مؤمراً أحداً دون مشورة المؤمنين لأمرت ابن أم عبد) (¬5) وقد درج على ذلك المنوال الخلفاء الراشدون, وقد أخرج البخاري في صحيحه تعليقاً: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وأخرج أيضاً تعليقاً في صحيحه أنه كان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً (¬6) , وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه استشار في من يوليه على الكوفة حيث أعياه أمرها إن استعمل عليها ليناً استضعفوه، وإن استعمل عليها شديداً شكوه، فقال: وددت لو أني وجدت قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنا أدلك على الرّجل القوي الأمين المسلم، فأثنى عليه، قال: من هو؟ قال: عبدالله بن عمر. قال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بها). وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً أنه كان يقول: لا خير في أمر أبرم من غير مشورة. ومما يذكر عنه أنه قال يوماً لأصحابه: أشيروا علي ودلوني على رجل أستعمله في أمر قد أهمني فإني أريد رجلاً إذا كان من القوم وليس أميراً كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحداً منهم) (¬7) وتتم القصة في أخبار عمر رضي الله عنه لابن الجوزي قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارث. قال: صدقتم. فولاه. (¬8) وفي قصة استشارة عمر رضي الله عنه في حبس أرض العراق والشام وأنه بعد أن استقر الرأي استشارهم فيمن يوليها وأشاروا عليه بتولية عثمان بن حنيف فولاه وفي ذلك ما يفيد الاستشارة في الأمور الإدارية من قبل ولي الأمر وأن الاستشارة في التعيين لمن يصلح في الوظائف العامة ضرورة لا بد منها. وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من أحرص الخلفاء الراشدين على التزام مبدء الشورى في تصرفاته وأعماله، وكان مستقراً في دينه وضميره أن وحدة الرئاسة في الدولة ومشاركة الآخرين في الرأي أمران ضروريان لتسيير دفة الحكم بصورة سليمة ناجحة، وقد عبر عن ذلك بقوله: أمران جليلان لا يصلح أحدهما إلا بالتفرد ولا يصلح الآخر إلا بالمشاركة وهما الملك والرأي فكما لا يستقيم الملك بالشركة لا يستقيم الرأي بالتفرد (¬9). وعلي رضي الله عنه كان يعلم أنه إذا لم يكن لولي الأمر في أي بلد مستشارون فإنه لا يعلم محاسن وزرائه ولا عيوبهم، وقد أرشد الاشتر النخعي عندما ولاه مصر إلى أمور عماله ووزرائه فقال: (انظر في أمور عمالك الذين تستعملهم فليكن ¬

_ (¬1) - رواه أحمد والترمذي وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة - حديث (6370). (¬2) - انظر مؤلفنا حقوق الإنسان في السنة النبوية - ص (460) إلى (491). (¬3) - رواه الحاكم في المستدرك - كتاب الأحكام - حديث (7106). (¬4) - رواه الحاكم في المستدرك، من طريق حسين بن قيس عن ابن عباس وقال صحيح الإسناد،كتاب الأحكام، حديث (7105). (¬5) - سبق تخريجه. (¬6) - انظر صحيح البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم) ص 1466. (¬7) - أورد ذلك د. عبدالحميد متولي في مبدأ الشورى في الإسلام - ص 21. نقلاً عن الإدارة في عز الإسلام - ص 34. للأستاذ محمد كردعلي. (¬8) - انظر أخبار عمر رضي الله عنه لابن الجوزي ص 140. (¬9) - انظر د. عزالدين التميمي في الشورى بين الأصالة والمعاصرة. الناشر: دار البشير - الطبعة الأولى - 1405 - 1985م - ص 101.

استعمالك إيأهم اختياراً (¬1). ولا يكن محاباة ولا ايثاراً، فإن الأثرة في الأعمال - أي الاستبداد بلا مشورة - والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله وإدخال الضرر على الناس, وليست تصلح أمور الناس ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم، فاصدف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم والسياسة، والصق بذوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة وأهل الدين والورع فإنهم أكرم أخلاقاً وأشد لأنفسهم صوناً وإصلاحاً وأقل في المطامع إسرافاً وأحسن في عواقب الأمور نظراً من غيرهم فليكونوا عمالك وأعوانك). ويقول في موضع آخر: (ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ثم ليكن آثرهم عندك أقوأهم بأمر الحق لك) ويقول أيضاً: (خول في جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله وأنقأهم جيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبوا على الأقوياء ممن لا يثيره عنف ولا يقعد به الضعف). (¬2) وكل ذلك اقتباس من الهدي النبوي ففي الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار) (¬3). بل إن الحاكم القوي العادل يتقبل النصيحة ويعمل بالشورى ويقرب أهل التقوى والصلاح، كل ذلك من أجل إرساء دعائم العدل وتحقيق المساواة بين الناس؛ لأن العدل والمساواة لا تتحقق من تلقاء نفسها وإنما تتحقق بقيام ولاة الأمر بهما وبحسن اختيارهم لوزرائهم وكبار الموظفين الذي يدير بهم ولاة الأمور شؤون الدولة. والقاعدة الأساسية في السياسة الشرعية هي إقامة العدل والمساواة فالعدل والمساواة من مبادئ النظام السياسي في الدولة الإسلامية الذي يقيد السلطة العامة في كافة أنشطتها السياسية, لأن الإسلام نظر إلى الناس نظرة واحدة، وفي ذلك يقول المولى جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (¬4) ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءاً) (¬5). وروى الإمام أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا أيها الناس إن ربكم واحد لا فضل لعجمي على عربي ولا لعربي على عجمي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (¬6) , وفي رواية (كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان) (¬7). والخلاصة التي تستفاد من هذه الأدلة أن المساواة تكون في جميع مجالات الحياة، فالمساواة يجب أن تتحقق في الوظائف العامة وفي التكاليف العامة وأمام القضاء وفي غير ذلك من مجالات الحياة المختلفة، والمساواة بلا شك أنها أساس العدل وأساس الحكم وأساس الملك، وإقامة العدل في الوظائف العامة وفي المجتمعات لهي من أهم الواجبات المناطة بولاة الأمور، وإذا كان الفقه الإسلامي قد أناط بولاة الأمر إدارة شؤون الدولة ووضع السياسة الشرعية التي تجعل الحاكمية لله والحكم شورى بين المسلمين وتعطى الطاعة لولي الأمر على أساس إقامته للعدل والقسط بين الناس على أساس من شرع الله ومنهجه الذي يسلكه على أساس الاجتهاد في الوصول إلى الحكم الشرعي فيما لم يرد فيه نص من كتاب الله وسنة رسوله فإن تقيد الحاكم بهذه الأمور لا تعني بأي حال من ¬

_ (¬1) - وورد في نص أخر لرسالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (إختباراً). (¬2) - انظر عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى الأشتر في نهج البلاغة- ص 300 إلى 348. الطبعة الأولى - القاهرة - دار الكتاب المصري - وبيروت - دار الكتاب اللبناني 1410هـ - 1989م. (¬3) - أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو حديث حسن أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالحسن حديث 7895. (¬4) - الآية 13 من سورة الحجرات. (¬5) - الآية 1 من سورة النساء. (¬6) - انظر مسند الإمام أحمد - مسند الأنصار - حديث 23550. (¬7) - انظر الألباني في صحيح سنن أبي داود - كتاب الآداب - حديث 4269.

الأحوال مصادرة حقه في الاختيار للوزراء وكبار موظفي الدولة بعد الاستشارة أو في إصدار القرارات والأنظمة والقوانين الذي تكون السياسة الشرعية فيها منهجاً، وتعطيه حق تعيين كبار مسؤولي الدولة في إطار مبدء الشورى الذي أشرنا إليه، واقتفاءً لأثر الراشدين من الخلفاء الذين كانوا يشركون معهم في الحكم الذي كانوا يجدونه مؤهلاً لممارسة وحمل تبعاته، وقد عرف هؤلاء بمعاوني الخليفة وكانت لهم ألقاب مختلفة كالوزير والوالي والأمير والنائب وقائد الجند، وقد نقل الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة قصة في استشارة أبي بكر الصديق رضوان الله عليه لبعض ولاته. قال: قال محمد بن عبدالله الأنصاري: حدثنا ابن عوف عن موسى بن أنس أن أبا بكر لما استخلف بعث إلى أنس ليوجهه إلى البحرين على السعاية فدخل عليه عمر فاستشاره فقال: ابعثه فإنه لبيب وكاتب فبعثه. ومناقب أنس وفضائله كثيرة جداً. (¬1) وقد حصر الإمام الماوردي وأبو يعلى الفراء معاوني الخليفة في أربعة أنواع: 1) من تكون ولايته عامة في الأعمال العامة وهم الوزراء لأنهم يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص. 2) من تكون ولايته عامة في أعمال خاصة وهم أمراء الأقاليم والبلدان لأن النظر فيما خصوا به من البلدان عام في جميع الأمور. 3) من تكون ولايته خاصة في جميع الأعمال العامة وهم كقاضي القضاة ونقيب الجيوش ومستوفي الخراج وجأبي الصدقات لأن كل واحد منهم مقصور على عمل خاص في جميع الأعمال. 4) من تكون ولايته خاصة في الأعمال الخاصة كقاضي بلد أو إقليم أو مستوفي خراجه أو جأبي صدقاته أو نقيب جند لأن كل واحد خاص النظر مخصوص العمل. (¬2) وهؤلاء الذين ذكرهم الماوردي وأبو يعلى الفراء يشكلون في جملتهم أعضاء الحكومة وصلاحية اختيارهم وتوليتهم في أعمالهم تكون لرئيس الدولة (الخليفة أو الإمام) وهكذا الحال بالنسبة لوظائف الدولة الأخرى المهمة تكون صلاحية من يتولاها لرئيس الدولة أو من ينيبه، وفي ذلك يقول الماوردي أنه إذا فوض الخليفة تدبير الأقاليم إلى ولاتها وأوكل النظر فيها للمتولين عليها فالذي عليه أهل زماننا جاز لمالك كل إقليم أن يستوزر وكان حكم وزيره معه كحكم وزير الخليفة مع الخليفة. (¬3) وإذا كان إسناد وظائف الدولة المهمة من صلاحية رئيس الدولة فإن من واجبه أن يتحرى وأن يستشير فيمن يكون الأصلح لكل عمل من أعمال الدولة ولا يجوز أن يعدل عن الأصلح إلى غيره لنحو قرابة أو صداقة أو حزبية أو أي معنى من المعاني التي لا علاقة لها بصلاح الشخص لما يراد توليته من أعمال فعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر حين بعثني إلى الشام لتوليتي: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤاثرهم بالإمارة ذلك أكثر ما أخاف عليك فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم) (¬4). فإذا كان الرجل حسن السيرة ولكنه ضعيف لا يستطيع أن يجهر بالحق أو لا يستطيع أن يقوم بإدارة ما يوكل إليه ولا يستطيع أن يحفظ ما يوكل إليه ويحيطه بالرعاية العامة لم يكن من الجائز توليته لأنه ربما فرط أو كان غير منتج إن لم يفرط، فهذا نبي الله يوسف عليه السلام حينما رشح نفسه لإدارة شؤون المال يقول: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم) (¬5) , وهذا أبو ذر الغفاري لما طلب الولاية لم يره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جلداً فحذره منها قائلاً له: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها ¬

_ (¬1) - الإصابة في تمييز الصحابة للعلامة الحافظ أحمد بن علي بن حجر - طبعة مصطفى محمد بمصر ص 89. (¬2) - انظر الماوردي في الأحكام السلطانية - الطبعة الأولى ص 25. وأبو يعلي الفراء في الأحكام السلطانية ص 34 - 35 - طبعة دار الفكر 1414هـ. (¬3) - الأحكام السلطانية للماوردي ص 35. (¬4) - انظر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 628 - طبع دار الكتاب العربي بمصر. (¬5) - الآية 55 من سورة يوسف.

يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها) (¬1) وفي لفظ لمسلم أيضاً: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وأني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم) (¬2) , فإذا تقاعس ولي الأمر (رئيس الدولة أو الخليفة أو الملك) عن الشورى فإنه قد لا يجد من يدير له الدولة بأمانة ونزاهة وإخلاص، أما مع استشارة الناس فإنه لا بد أن يتخير الأمثل والأصلح لكل وظيفة من وظائف الدولة وبعد بذل أقصى الجهد والاستشارة فإنه يكون قد أبرى ذمته ديناً ودنيا, لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم) (¬3) هذا بالنسبة للوظائف الهامة ذات الخطر العام. أما بالنسبة لغيرها فإنه يصعب على (رئيس الدولة أو الملك أو الإمام) أن يتحرى بنفسه تحرياً كافياً أو مباشر عن الأكفاء، ويكفي هنا أن تقوم المجالس التشريعية بوضع قانون أو نظام يجمع فيه أهل الشورى على نظام التوظيف والحد الأدنى من الكفاءة ويكون من حق الكافة التقدم بطلباتهم إلى الجهات المختصة التي يجب أن تعنى بفحص هذه الطلبات وجمع ما يستدل به على الكفاءة والأمانة بروح متجردة غير متحيزة لا متأثرة بحزب ولا بوساطة ولا بقرابة فذلك هو الطريق الأمثل ولم يكن إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر (رئيس الدولة أو السلطان أو الخليفة أو الملك أو الإمام) -كما أسلفنا - بتعيين كبار موظفي الدولة مقصور على الفقه الإسلامي وإنما درجت الدساتير وهي أعلى القواعد القانونية على إعطاء هذا الحق لملوك ورؤساء الدول وهو ما أفصح عنه دستور الجمهورية اليمنية في الفصل الثامن بالمواد (105 وما بعدها).وقد أناط الدستور ذلك برئيس الجمهورية، أما بالنسبة لبقية الوظائف فإنها لا تكاد الدساتير في مختلف البلدان تختلف على أن حقوق وواجبات المواطنين الأساسية متساوية، وصريح المادة (41) من دستور الجمهورية اليمنية ((المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة)). ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب كراهية الإمارة بغير ضرورة حديث 1825 وأخرج الإمام أحمد نحوه في المسند حديث 12845 (21513). (¬2) - مسلم في الصحيح (1826). (¬3) - الآية 16 من سورة التغابن.

كما صرح دستور الجمهورية اليمنية بأن لكل مواطن الحق في الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكفل الدولة حرية الفكر والإعراب عن الرأي كما تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتصدر القوانين لتحقيق ذلك, ويقوم المجتمع اليمني على أساس التضامن الاجتماعي القائم على العدل والحرية والمساواة وفقاً للقانون. (¬1) ¬

_ (¬1) - انظر المواد من 24 إلى 61 من دستور الجمهورية اليمنية.

الوظائف العامة مبدء تقره الدساتير والقوانين في مختلف البلدان

الوظائف العامة مبدء تقره الدساتير والقوانين في مختلف البلدان لقد تأكد حق المساواة بين الأفراد في تولي الوظيفة العامة وفي جميع الحقوق والواجبات العامة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من الفقه الإسلامي، وهو مبدء تقره مختلف الأنظمة والقوانين في مختلف بلدان العالم، وكذلك الاتفاقات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، فقد سجل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة في 10/ 12 / 1948م هذه المبادئ والحقوق، فنصت المادة (21) منه على الآتي: ? لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً وأن لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة، وسجل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بالمادة (25) على أنه يكون لكل مواطن دون أي وجه من وجوه التمييز الحقوق التالية التي يجب أن تتاح له في سلطة التمتع بها دون قيود غير معقولة: أ) أن يشارك في الشؤون العامة مباشرة وإما بواسطة ممثلين يُختارون في حرية. ب) أن يَنتخِب ويُنتخَب في انتخابات نزيهة. ج) أن تتاح له على قيد المساواة عموماً مع سواه فرصة تَقلُّد الوظائف العامة في بلده. كما سجلت وثيقة منظمة المؤتمر الإسلامي لحقوق الإنسان بالمادة (21) على أن (لكل إنسان الحق في أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وفق ما أمر الله تعالى، ولكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما له الحق في تقلد الوظائف العامة وفق الشروط المرعية). وسبق أن أشرنا إلى ما نص عليه دستور الجمهورية اليمنية في أن لكل مواطن الحق في المشاركة في الأمور العامة. ونص القانون رقم (19) لسنة 1991م اليمني بشأن الخدمة المدنية بالمادة (12) أن الوظيفة العامة تكليف, وأنها أساس في تنفيذ التنمية, وأنه يقوم شغل الوظيفة العامة على مبدء تكافؤ الفرص والحقوق المتساوية لجميع المواطنين دون أي تمييز، وتكفل الدولة وسائل الرقابة على تطبيق هذا المبدء.

وفي المملكة العربية السعودية نجد أن نظام الموظفين العام الصادر بالمرسوم الملكي رقم (49) بتاريخ 10/ 7/1397هـ بالموافقة على نظام الخدمة المدنية ينص في مادته الأولى (أن الجدارة هي الأساس في اختيار الموظفين لشغل الوظيفة العامة) أي أن الكفاءة وحسن السلوك هي الأساس في اختيار الموظفين, وأن الكل متساوون, وأن الكفاءة والجدارة بما يحمله الإنسان من مثل وأخلاق ومؤهلات هو الأساس, ونص في الفقرة الثانية على أن تصنيف الوظائف بتجميعها فئات تتضمن كل فئة الممثلة في طبيعة العمل ومستوى الواجبات والمسؤوليات والمؤهلات المطلوبة لشغلها، وتوصيف الفئات طبقاً لما ورد في المادة الثالثة من ذات النظام, وصرحت المادة (3) من النظام الأساسي للحكم بالاتي: (يقوم الحكم بالمملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الاسلامية) وفي المملكة الأردنية الهاشمية نجد أن الدستور قد نص بالمادة (22) على أن لكل أردني حقاً في تولي الوظائف العامة بالشروط المعينة بالقوانين والأنظمة، وأن التعيين للوظائف العامة من دائمة ومؤقتة في الدولة والإدارات الملحقة بها والبلديات يكون على أساس الكفاءة والمؤهلات. وفي جمهورية مصر العربية نجد أن الدستور بالمادة الرابعة عشرة قد نص على أن الوظائف العامة حق للمواطنين، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم بأداء واجبهم في رعاية مصالح الشعب. وفي العراق نجد أن الدستور بالمادة (30) قد نص على أن المساواة في الوظائف العامة يكفلها القانون. (¬1) ولا تكاد تختلف الدساتير والقوانين على هذا المبدء, وهو مبدء إسلامي قبل أن يكون مبدءاً إنسانياً، فالقرآن يقرر وحدة الجنس البشري كما يقول جل شأنه: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ ¬

_ (¬1) - انظر حقوق الإنسان وحرياته الأساسية للدكتور هاني سليمان الطعيمات. ص 223.

مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (¬1) , ويقول: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) (¬2) , ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) (¬3). وإذا كانت البشرية أبناء أب وأم واحدة فإنه يكون المساواة في الوظائف العامة أمراً بديهياً، فهذا ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى يعاتب الله رسوله فيه فيقول جل شأنه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (¬4) , وهذه السورة دليل من دلائل صدق النبوة ومظهر من مظاهر الإخاء في المجتمع، وتواضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقبله للعتاب وتلاوته لهذا القرآن دليل على حسن سياسته. وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى هذا الرجل -ابن أم مكتوم- بعد هذا العتاب الرباني بسط له رداءه، نقل القرطبي في تفسيره عن الثوري قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي. ويقول له: هل من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما، قال أنس رأيته يوم القادسية راكباً عليه درع وعليه راية سوداء. (¬5) وبهذا يتضح سماحة الإسلام وتكريمه للإنسان وها هو ابن أم مكتوم يشارك في الحياة العامة ويستخلفه الرسول على المدينة ولم يمنع العمى من القيام بدوره. والشورى هي نهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودربه الذي يسير عليه وليس شكل الشورى الذي جاءت به الشريعة الإسلامية مصبوباً في قالب حديد, وإنما هو متروك للصورة الملائمة لكل زمان ومكان لتحديد ذلك الطابع في حياة الجماعة البشرية كلها وليست أشكال جامدة وليست نصوص حَرْفية وإنما هي روح ينشأ عنها استقرار الحقيقة وقيامها وسعادة البشرية وازدهارها. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (¬6). ¬

_ (¬1) - الآية 98 من سورة الأنعام. (¬2) - الآية 189 من سورة الأعراف. (¬3) - الآية 1 من سورة النساء. (¬4) - الآيات 1 - 10 من سورة عبس. (¬5) - انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن - 19 - ص213. (¬6) - الآية 52 من سورة الشورى.

المبحث الثالث الشورى في القضاء والحكم

المبحث الثالث الشورى في القضاء والحكم من المسلم به ومن المعلوم أن إقامة العدل من أغلى وأسمى مقومات الحياة، وأن الحكم به من أقوى الوسائل التي يرتفع بها الظلم ويسود في ظلها المحبة والإخاء بين الناس، ولهذا قيل بالعدل وحده تُصان القيم وتستقر المبادئ ويتضاعف شعور الإنسان بالإنتماء لوطنه, ويعلو بناء الإنسان، وتلك غاية الغايات وقمة الأهداف لأي مجتمع متحضر ينشد حاضراً أكثر أمناً واستقراراً، ويستهدي مستقبلاً أكثر رفعة وازدهاراً، وللعدل معنى جليل تطمئن إليه النفوس وترتاح إليه الأفئدة وتنطلق به ملكات الإنسان فيأمن به على نفسه وماله فيبدع وينتج ويسهم في حل المشكلات التي تعوق مسيرة أمته (¬1) , وتحقيق العدل كان مهمة الرسل والأنبياء وهو رسالة السماء إلى الأرض وهو وظيفة الحكم الصالح ودعامته المكينة وعزته المشرقة. ولما كان العدل بهذه المكانة فقد ابتعث الله به رسله إلى الكافة من خلقه وخاطب الله تعالى خاتم رسله بقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (¬2) , والشعور بالرغبة في إقامة العدل مستقر في النفس البشرية التي تؤمن بأن العدل هو أمر الله وصفته واسم من أسماء شريعته، قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) (¬3) وقال: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (¬4) وقال: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (¬5) وهكذا يتوفر العدل في المصدر والتشريع والقضاء والتنفيذ وذلك ليس خطاباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو خطاب للأمة المؤمنة كلها. ¬

_ (¬1) - انظر استقلال القضاء - دراسة مقارنة للأستاذ الدكتور/ محمد كامل عبيد - كلية الحقوق - جامعة القاهرة - ص 7. (¬2) - الآية 105 من سورة النساء. (¬3) - الآية 115 من سورة الأنعام. (¬4) - الآية 58 من سورة النساء. (¬5) - الآية 42 من سورة المائدة.

والآيات التي تتحدث عن العدل كثيرة، فهو بلا شك أساس لعمران البلاد وأساس لبناء الحضارات في كل زمان ومكان، فربنا جل وعلا يقول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) (¬1) , ويقول جل شأنه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (¬2) , ويقول جل شأنه: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (¬3) , ويحذر سبحانه وتعالى من المحاباة والظلم لأن ميزان العدل لا يميل مع الهوى ولا يتزحزح مع العصبية ولا يحيف مع الشنئان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (¬4). ولهذا قيل إن للعدل قيمة لا تنطوي بمجرد عدم إيقاع الضرر على الغير وإعطاء كُلٍ ماله، وإنما هي شيء أعمق من ذلك وأكثر، هي تحقيق التوازن اللازم بين المصالح المتعارضة بغية كفالة نظام مأمون لسكينة المجتمع الإنساني وسلامته وسعياً به صوب الاستقرار والتقدم، ومن ثم كان العدل عنصراً حركياً، ويقتضي السعي الدائب والدائم والحثيث نحو معرفة ما يستحقه كُلٌ وكيف يعطى له. (¬5) وإذا كان العدل لا يجيء ولا يتحقق من تلقاء نفسه، وليس للإنسان أن يبتغيه لنفسه فإنها تكون الغلبة للفرد دون الحق، وحينئذ تعم الفوضى التي لا تبقي ولا تذر، وإنما تحقيق العدل هو واجب الدولة ورسالتها التي يجب أن تتجرد له سلطة من سلطاتها وهي القضاء في نظام شامل متكامل مستقل محايد ينهض بأعباء هذه الرسالة التي لا تستقيم أحوال ¬

_ (¬1) - الآية 152 من سورة الأنعام. (¬2) - الآية 90 من سورة النحل. (¬3) - الآية 9 من سورة الحجرات. (¬4) - الآية 135 من سورة النساء. (¬5) - انظر تفصيلاً أوسع في السعي إلى العدل وأهم النظريات التي قيل بها لتعريفه والمحاولات العملية لتحقيقه للدكتور محمد سلام زناتي - محاضرات في فلسفة القانون لطلبة دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص بكلية الحقوق - جامعة أسيوط - العام الجامعي 1987/ 1988م - مكتبة الآلات الحديثة بأسيوط ص 19 - 64.

البشرية دونها، ولهذا كان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة كما يقول الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه. (¬1) وقد حمل القضاء أمانة تحقيق العدل منذ فجر التاريخ, فإلى ساحة القضاء يهرع الناس جميعاً يلتمسون العدل والنصفة وهم عنده سواء لا قوي لديه ولا ضعيف ولا شريف أمامه ولا مشروف, لا يرهب أحداً لقوته ولا يستخف بحق أحد لهوانه وضعف قدرته, فهو حصن الأمان لكل من داهمه الخوف، وهو النظام الذي يصل به العدل إلى كل من اجترأ على الحق، وإذا كان القضاة هم ضمير الأمة ومعقد رجائها في إعلاء كلمة الحق والعدل التي أودعها خالقهم أمانة مقدسة بينهم لينطقوا في أمرها بعد بحث وكد ونصب وعناء فإنه حري بهم أن يسلكوا مسلك الشورى التي أمر الله بها؛ لأن القضاء من جملة الأمور التي أمر الله أن يُتشاور فيها, بل هو أهمها فيما التبس من الأمور وفيما لا يوجد فيه نص واضح وقاطع وما أكثر الملتبسات والمشتبهات، فالواجب على القاضي أن يبذل الجهد في فهم النص وفهم الواقعة وأن يشاور أيضاً أهل العلم والصلاح والفطنة لما لذلك من أثر في استجلاء الحقيقة والتثبت في فهم النص وفهم الواقعة (¬2) , ولقد اعتبر بعض العلماء المشاورة في القضاء مندوب إليها, ونقل عن جماعة من العلماء القول بالوجوب (¬3) , ونقل القرطبي أن ابن عطية قال: من لم يستشر أهل العلم والدين فعزله واجب. (¬4) قلت: الظاهر أن الشرع قد حث على المشاورة في جميع الأمور التي نص فيها فما بالك في القضاء، ففي سورة آل عمران يقول تعالى مخاطباً نبيه: (وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (¬5) , وفي سورة الشورى يقول سبحانه: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). ¬

_ (¬1) - راجع الرسالة العمرية لأبي موسى الأشعري في إعلام الموقعين وغيره من المراجع. (¬2) - انظر مؤلفنا الجرائم الماسة بالوظيفة العامة - الطبعة الأولى 2003م - ص 114. (¬3) - انظر في ذلك تفصيل أوسع مواهب الجليل شرح مختصر خليل لمحمد بن محمد المعروف بالحطاب- ج 6 - ص 117. المتوفى سنة 954هـ. الطبعة الأولى. وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للإمام العلامة برهان الدين اليعمري المالكي المتوفى 799هـ. خرج أحاديثه وعلق عليه الشيخ جمال مرعشلي - الطبعة الأولى 1416هـ - 1995م. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. (¬4) - انظر تفسير القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ج 4 - 249، وانظر أيضاً المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي ج 3 - ص 280. (¬5) - الآية 159 من سورة آل عمران.

ولهذا فإنه ينبغي للقاضي أن يشاور أهل العلم والصلاح وأن يستعين برأيهم، فالقاضي إنسان يصيب ويخطىء وقد يتأثر ببعض عواطفه وأهوائه فيميل في قضائه إلى بعض أطراف الخصوم بما يقوض أركان العدل، ولقد بلغ من حرص الدولة الإسلامية أن أوجدت في بعض المحاكم ما يسمى بشهود القضاء أو العدول، وكانت مهمتهم هي الشهادة على بعض الأحكام، وسيجد المتتبع في كتب الفقه (¬1) والتراجم (¬2) الكثير من ذلك فإن القضاة كانوا يتخذون شهوداً منهم, وعلى سبيل المثال لا الحصر عتيق الصباغ وأبو الطاهر الذهلي وعبدالله بن ثوبان وغيرهم، ويقول الدكتور محمد عبدالرحمن البكر أنه وصل الأمر إلى حد أن أصبحت الشورى في بعض العصور وظيفة يتخصص لها بعض العلماء كيحيى بن وافد اللخمي وأبي الأصبغ فيما يشبه أن يكون جهازاً لمراقبة القضاة (¬3). أما الشهود الذين كانوا يؤلفون جزءاً من المحكمة بحيث لا تنعقد إلا بهم حيث كانوا يجلسون على يمين القاضي ويساره ليشهدوا على ما يجري من الدعاوي والأحكام فقد أوجب بعض الفقهاء حضور الشهود، قال ابن فرحون (ومنها إحضاره الشهود العدول في مجلس قضاءه) قال المازري: يؤمر القاضي بذلك ويتأكد الأمر به على القول بأن القاضي لا يقضي بعلمه فيما أمر به الخصم في مجلسه (¬4) , وجاء في مواهب الجليل: وإذا كان المشهور أن القاضي إذا سمع إقرار الخصم لا يحكم عليه حتى يشهد عنده بإقراره شاهدان فيكون إحضار الشهود واجباً وإلا لا فائدة (¬5). قلت: وليست تلك الغاية التي تتوخى فحسب بل إن وجود الشهود العدول من العلماء ليكونوا مستشارين قد يكون في بعض الحالات ضرورة, فإن القاضي العادل لا يستغني عن وجود مثل هؤلاء قط، فالمتتبع للآثار الفقهية والقضائية التي درج عليها الخلفاء الراشدون سيجد أنهم كانوا يحضون على التشاور مع وجهاء الصحابة وأهل الرأي, وذلك من أجل التحري في إقامة العدل والوصول إلى الحق، وهذا هدف من أهداف علانية الجلسات أيضاً عند التقاضي، وفي أخبار القضاة لوكيع (¬6) كانت القضاة لا تستغني أن يجلس إليهم بعض العلماء, وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد ما يقضي به بينهم قضى به وإن لم يجد وعلم في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة قضى بها فإن أُعيي خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكرون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضاء فيقول أبو بكر الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة جمع خيار الناس ورؤوسهم فاستشارهم فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين فإن اجتمعوا على أمر قضى به (¬7)، ولفظ الدارمي (فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) (¬8) وقد أورد هذا الحديث الحافظ ابن حجر في فتح الباري مختصراً وعزاه للبيهقي وصحح إسناده وقال (وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك كما تقدم أن القراء كانوا أصحاب مجلس عمر ومشاورته) (¬9) وعن شريح القاضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في ¬

_ (¬1) - انظر أدب القاضي للماوردي أبو الحسن علي من محمد- تحقيق يحيى هلال السرحان - وزارة الأوقاف بالعراق - ج2 - ص 345 وما بعدها، وتبصرة الحاكم لابن فرحون ص 37، ومواهب الجليل ج 6 - ص118. (¬2) - انظر في ذلك إحياء القضاة - ج 2 - ص 125 - والولاة والقضاء للكندي ص 389 وما بعدها. (¬3) - السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي للدكتور محمد عبدالرحمن البكر ص 253. (¬4) - تبصرة الحكام ج 1 - ص 37. (¬5) - انظر مواهب الجليل للحطاب - ج6 - ص 118. (¬6) - أخبار القضاة لوكيع ج 2 - ص 150. (¬7) - انظر تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 - ص 37. وإعلام الموقعين لابن القيم ج1 - ص 62. وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 40، وأخبار القضاة لوكيع ج 2 - ص 415. والجرائم الماسة بالوظيفة العامة للمؤلف ص 116. (¬8) - أخرجه الدارمي في باب الفتيا وما فيه من الشدة. (¬9) - انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر ج 13 ص 342.

كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله وسنة رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به. (¬1) وقد استشار عمر رضي الله عنه في حد الخمرة لأنه ليس مقداره سنة نبوية وإنما كان المرء إذا سكر أتي به فيضربونه بأيديهم ونعالهم نحواً من أربعين، فلما تولى عمر استشار الصحابة رضوان الله عليهم لكثرة وقوع الناس فيه فأشاروا عليه أن يحده حد المفتري لأنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فكان يحد ثمانين جلدة في عهد عمر, ثم لما تولى علي رضي الله عنه أمر بالسكران أن يضرب فلما بلغ الأربعين قال للجلاد أمسك جلد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وجلد عمر رضي الله عنه في صدر خلافته أربعين ثم أمضى عليه ثمانين وكل سنه وهذا (أي الأربعين) أحب إلي (¬2). كما أن عمر رضي الله عنه استشار في الجناية على الجنين في بطن أمه ويسمى بالإملاص والسقط, فعرض الأمر مستشيراً فيه حيث قال: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شيئاً قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (فقلت أنا, فقال: ما هو فقلت سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (فيه غرة عبدٌ أو أمة) فقال له عمر رضي الله عنه: لا تبرح حتى تأتيني بالمخرج فيما قلت, فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد معي أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (فيه غرة عبد أو أمة). (¬3) وروى الإمام مالك في موطأه عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأل ميراثها فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها السدس فقال مثلما قال المغيرة أي محمد بن مسلمة الأنصاري فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذه الجدة هي أم الأم ثم جاءت الجدة الأخرى وهي أم الأب ¬

_ (¬1) - أخرجه الدارمي في باب الفتوى وما فيه من الشدة ج 1 - ص 60. (¬2) - أخرجه مالك في الموطأ في الأشربة - باب الحد في الخمر ج 2 - ص 842. والدارقطني في الحدود والديات ج 3 - ص 157. (¬3) - أخرجه البخاري في الاعتصام- باب ما جاء في من اجتهاد القاضي حديث 7317و7318و6905و6906و6907و6908.

فلم يرد أن يعطيها أبو بكر شيئاً فقال له رجل من الأنصار: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث فجعل أبو بكر السدس بينهما. (¬1) وأخرج البيهقي في السنن الكبرى استشارة عمر رضي الله عنه في امرأة استقت راعياً فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، وكان رأي عمر رضي الله عنه إقامة الحد عليها فاستشار في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يدرأ عنها الحد لأنها كالمستكرهة. (¬2) كما أن عمر رضي الله عنه قد استشار الصحابة في جلد قدامة بن مظعون لما شرب الخمر وتأول الآية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (¬3) , وإنما استشارهم لكونه كان مريضاً فأشاروا عليه بالتأجيل حتى يشفى ليحتمل الضرب ثم تركه ثم استشارهم فأشاروا عليه بالتأخير ثم عزم على جلده بسوط وقال: إنه والله أن يلقى الله تحت السياط أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي. (¬4) ويستفاد من هذه الشواهد التي سقناها أنه يجب على القضاة وولاة الأمر أن يحرصوا على إكثار العلماء في مجالسهم لما في ذلك من إمكان استحضار بعضهم الدليل الذي يقطع الخلاف، فالقضاة مهما كانت ثقافتهم قد يغيب عنهم الدليل على المسألة من الكتاب أو السنة أو النصوص القانونية، ولأن النصوص الشرعية والقانونية قد تعطي أكثر من مدلول، ولهذا فإن الإمام الجليل عبدالحق بن عطيه المالكي اعتبرها من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، وأن من تركها من الولاة فقد وجب عزله. قال ابن عطية (والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه. ووجوب الشورى هو مذهب الجصاص من أئمة المذهب الحنفي -كما سيأتي تفصيله قريباً-. وقد رجح الدكتور قحطان الدوري أن الشورى تكون واجبة في مواضع ومندوبة في مواضع, فالمواضع الواجبة فيها هي الأمور ذات الطابع العام والتي لها من الأهمية والخطورة الشيء الكثير كإعلان الحرب وسن القوانين, والأمور التي يندب للإمام الاستشارة فيها هي الأمور الخاصة والتي يرى أن مصلحة الأمة البت فيها بسرعة (¬5). وقد استشار عمر رضي الله عنه في قسمة الأراضي -أي أرض الخراج التي فتحت عنوة- ومن المعلوم أن الأرض إذا فتحت عنوة أنها تقسم أخماساً فخمس لبيت المال يصرف في وجوهه المعروفة, وأربعة أخماس توزع بين الغانمين لوجود نص في ذلك وهو قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (¬6) غير أن عمر رضي الله عنه فهم من سورة الحشر من آية الفيء وما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (¬7) أن لكل هؤلاء نصيباً, فلو قسمت الأراضي على الغانمين لم يكن لهم نصيب وقد رأى عامة الصحابة أن يقسمها وكان أشدهم في ذلك ¬

_ (¬1) - أخرجه مالك في الموطأ - باب ميراث الجدة ج 2 - ص 513 - الطبعة الأولى. (¬2) - انظر السنن الكبرى للبيهقي ج 8 - ص 236. (¬3) - الآية 93 من سورة المائدة. (¬4) - انظر أخبار عمر لابن الجوزي ص 60. مصدر سابق. (¬5) - انظر الشورى بين النظرية والتطبيق للدكتور عبدالرحمن الدوري - بغداد - مطبعة الأمة - الطبعة الأولى 1394هـ - 1974م - ص 55. (¬6) - الآية 41 من سورة الأنفال. (¬7) - الآيات 7 - 10 من سورة الحشر.

بلال بن رباح رضي الله عنه وتلا قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله) ... الآية، قال هذه عامة في القرى كلها ثم قال: (للفقراء المهاجرين) ... الآية، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: (والذين جاءوا من بعدهم .. إلى قوله: إنك غفور رحيم) فكانت هذه عامة للمقاتلين وغيرهم إلى يوم القيامة فيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا بالرأي, فقال عبدالرحمن بن عوف: فما الرأي ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم فقال عمر: ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد يكون كثير نبل بل عسى أن يكون كلاً من المسلمين فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وغيره من أهل الشام والعراق, فأكثروا على عمر فقالوا أتنفق ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولا أبناء القوم ولا أبناء أبنائهم ولم يحضروا, فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأي, قالوا فاستشر فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا, فأما عبدالرحمن بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رأي عمر فصرفهم, وأرسل إلى عشرة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم وعرض رأيه وحجته وقال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملته من أموركم فإني واحد منكم وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق فوالله لأن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق, قالوا نسمع يا أمير المؤمنين، قال: إني أعوذ بالله أن أركب ظالماً لأن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرض بعلوجها وأضع عليهم الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم, أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها, أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لا بد من شحنها بالجند وإدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمتم الأراضي والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعما ما قلت ورأيت إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رحل أهل الكفر إلى مدنهم. فقال قد بان لي الأمر فمن رجل له جزالة عقل يضع الأرض مواضعها، ويضع العلوج ما يحتملون فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا تبعثه إلى أهم من ذلك فإن له بصراً وعقلاً وتجربة فأسرع إليه عمر فولاه ساحات أرض السواد. (¬1) لقد أوردنا هذا النموذج من الشورى في عصر الصحابة لندلك على أن الشورى لا غنى عنها في شتى مناحي الحياة, وأنه قد يحصل الخلاف حتى في فهم النصوص وأن التزام الجميع بالمنهج الرباني لا يتأتى دون التشاور وأن ولي الأمر والقاضي المجتهد لا بد له من إعمال النظر. ويقول الدكتور عدنان النحوي في هذه الممارسة (وهكذا في الموقف الدقيق دارت الشورى بأوسع ميادينها وأزكى ممارساتها وأطهر نتائجها، ولقد مارس المسلمون في هذه القضية إيمانهم كله وعلمهم كله ولم يمارسوا جزئية واحدة فحسب بل مارسوا إيمانهم وعملهم على تناسق وتكامل على حب وصفاء على قوة ومضاء، وبقوا صفاً وأمة واحدة وحزباً واحداً فرضي الله عنهم أجمعين. (¬2) وقد روى وكيع عن عمر بن عبدالعزيز قولاً جاء فيه (إن القاضي ينبغي أن يكون فيه خمس خصال فإن نقصت واحدة كانت وصمة, العلم بما قبله، والحكم عند الخصم، والنزاهة عند المطمع، والاحتمال للأئمة، ومشاورة ذوي العلم) (¬3) وفي وكيع أيضاً عن المغيرة بن محمد بن عبدالعزيز (لا ينبغي أن يكون الرجل قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال ¬

_ (¬1) - انظر الخراج لأبي يوسف - ص 14. وأخبار عمر للشيخ علي الطنطاوي ص 87 - 88. (¬2) - الشورى وممارستها الإيمانية للدكتور عدنان النحوي - ص 147. (¬3) - أخبار القضاة لوكيع ج 1 - ص 138.

يكون عالماً قبل أن يستعمل مشيراً لأهل العلم ملقياً للرفع (¬1) منصفاً للخصم محتملاً للأمة) (¬2). وفي تذكرة ابن حمدون أن الرشيد أحضر رجلاً ليوليه القضاء فقال إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه، فقال الرشيد: فيك ثلاث خلال لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة ولك حلم يمنعك من العجلة ومن لم يعجل قل خطؤه وأنت رجل تشاور في أمرك ومن تشاور كثر صوابه، وأما الفقه فسيضم لك من تتفقه به. (¬3) وفي أخبار القضاة لوكيع نص كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطأة جاء فيه: أما بعد فإن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله ثم ما في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم حكم الأئمة الهداة ثم استشارة ذوي الرأي والعلم، وفي تاريخ ابن عساكر في وصية عمر رضي الله عنه إلى شريح قال الشعبي: رزقه عمر مائة درهم على القضاء وقال له: اقض بما استبان لك من كتاب الله فإن لم تعلم كتاب الله كله فاقض بما استبان لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقض بما استبان لك من أمر الأئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به الأئمة المجتهدون فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم. (¬4) وروى وكيع أيضاً أن رجلاً جرح فأعطته امرأته جارية لها تخدمه فقال له ناس من أصحابه أتبيعها فقال: إني لا أملكها إنها لامرأتي فقالوا: إنك جائز الأمر فيها فأقامها فزاد على ما أعطاه رجل من القوم وأشهد لامرأته بثمانين من ماله فوقع عليها فرفعته المرأة إلى عمر بن الخطاب فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قال أصحأبي أتبيعها. قلت: إنها لإمرأتي فقالوا إنك جائز الأمر فيها فأقمتها فزدت على ما أعطى رجل منهم فأشهدت لها في مالي ¬

_ (¬1) - قال ابن قتيبة الرفع الدناءة. (¬2) - أخبار القضاة لوكيع ج 1 - ص 80. (¬3) - انظر ابن حمدون في التذكرة ص 103. (¬4) - انظر التهذيب لابن عساكر ج6 - ص306.

فقال: اذهب فاستشار أصحابه فلم يقل له يومه شيئاً فركب عمر ذات يوم فرأى ذلك الرجل فجلده مائة جلدة. (¬1) قال ظافر القاسمي بعد أن أورد هذه القصة وهذا يعني أن عمر رضي الله عنه استشار وأجمع الرأي على أن بيع المرء لنفسه مال غيره غير صحيح وأن وقوع الرجل على الجارية يستلزم الحد فأقامه عليه (¬2). ونقل وكيع برواية عبدالرحمن بن سعيد قال: رأيت عثمان بن عفان في المسجد إذا جاءه الخصمان قال لهذا اذهب فادع علياً وللآخر اذهب فادع طلحة بن عبيدالله والزبير وعبدالرحمن فجاءوا فجلسوا فقال لهما تكلما ثم يقبل عليهم (أي المستشارين) فيقول أشيروا علي فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه عليهما وإلا نظر فيقومون مسلمين) , وعلى هذا النحو نشأت شورى القضاء منذ فجر الإسلام أيام الراشدين فلم نجد أحداً منهم يستحيي من الاستشارة لا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان (رضي الله عنهم) (¬3) وفي ترجمة شريح عند وكيع عن الشعبي قال: كان شريح يشاور مسروقاً وقد علمت أن شريحاً كان قاضياً لعمر بن الخطاب وروت كتب التراجم أن مسروقاً كان أعلم بالفتيا من شريح وأن شريحاً أبصر منه بالقضاء (¬4) وكانت القضاة لا تستغني أن يجلس إليهم بعض العلماء, وفي سنة 192هـ ولّى الرشيد عبدالله بن سوار على البصرة وما يحسن شيئاً كما يقول وكيع ولكنه كان ذا عقل وفهم فكان يشاور فلم يُر في القضاء أحد هو أصح سجلات منه لأنه لم يكن ينفذ شيئاً إلا بمشورة (¬5). ¬

_ (¬1) - انظر وكيع في أخبار القضاة ج 2 - ص 336. (¬2) - انظر نظام الحكم في الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي - الكتاب الثاني ص228، الطبعة الثالثة 1407هـ/1987م وكذلك السلطة القضائية وشخصية القاضي، ص 329. (¬3) - انظر نظام الحكم في الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي - ص329. (¬4) - انظر الأعلام للزركلي - ج8 - ص 108 - الطبعة الأولى. (¬5) - انظر وكيع في أخبار القضاة ص 155.

وفي طبقات ابن سعد عن مالك بن أنس قال كان عمر بن عبدالعزيز لا يقضي بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب فأرسل إليه إنساناً يسأله فدعاه فجاء حتى دخل فقال عمر أخطأ الرسول إنما أرسلناه يسألك في مجلسك (¬1). وفي ترجمة عبدالله بن أبي مليكه عند ابن سعد أيضاً قال: بعثني عبدالله بن الزبير على قضاء الطائف فقلت لابن عباس: إن هذا قد بعثني على قضاء الطائف ولا غنى بي عنك أن أسالك فقال لي: نعم. قال فاكتب إلي فيما بدا لك أو اسأل عما بدا لك. وفي رفع الأسرار لابن حجر في ترجمة أبي العباس بن أبي العوام السعدي ذكر لرجل مكفوف اسمه أبو الفضل جعفر وأنه (احكم له الأمر مع الحاكم فأمر بكتب سجله وشرط عليه فيه أنه إذا جلس في مجلس الحكم يكون معه أربعة من فقهاء الحاكم لئلا يقع الحكم بغير ما يذهب إليه الخليفة) (¬2) , قال ظافر القاسمي وهذا النص يدل فيما أظن على أن الفقهاء الأربعة رقباء وليس لهم أن يشتركوا في الحكم ولكن إذا رأوا أن القاضي أراد الخروج عن مذهب الخليفة ردوه إليه. (¬3) قلت وفي حضور الفقهاء والعلماء مجلس قضاء القاضي فوائد جمة, ولو لم يكن إلا الاستشارة, ولا شك أن من شاور كثر صوابه, فما تشاور قوم إلا هُدُوا لأرشد أمرهم كما في السنة النبوية, وإذا كان التشاور في الأمور العامة هو ضرورة من الضرورات فإنه مما لا شك فيه أن القضاء من الأمور الهامة التي ينبغي ألا تغيب فيها الشورى, ولو لم يكن في ذلك إلا الاتباع لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء بسيرة الخلفاء الراشدين وأهل الفضل والعلم من أهل التقوى في هذه الأمة، إلا أن المشير في أمور القضاء يجب أن يكون من أهل العلم بأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المنظمة وأهل الفطنة والتقى فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المعني بالتبليغ والبيان والمثبَّت بالوحي كثير التشاور حتى قال أبو هريرة ¬

_ (¬1) - انظر الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد بن منيع الزهري المتوفى عام 230هـ ج 4 - ص 122, طبعة دار إحياء التراث العربي 1407هـ1996م. (¬2) - انظر رفع الأسرار لابن حجر - ج1 - ص102. (¬3) - انظر نظام الحكم 331.

رضي الله عنه ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (¬1). وبهذا العرض نكون قد أتينا على بيان أن الشورى قاعدة من قواعد نظام الحكم والقضاء في الدولة الإسلامية وغني عن البيان القول بأن الشورى تشمل جميع الشؤون العامة, إلا أنه مما ينبغي التفطن له هو أنه لا تشاور فيما فيه نص صحيح صريح في أحكام الشريعة الإسلامية ولا إشكال في منطوقه ولا مفهومه ولا اختلاف في فهمه لأن ذلك مما لا يحتاج إلى تشاور, وكذلك ما لا لبس فيه في أي واقعة تطرح على القضاء ولا لبس فيها لا في الأدلة المثبتة لها ولا في حكم الشرع والقانون العادل فيها, إلا أن المشتبهات وتباين الفهم في كثير من الحالات مما يتطلب الاستشارة وعدم الاستبداد بالرأي بل إن ذلك ضرورة لا بد منها لمن أراد أن يقتدي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، ولا عيب في ذلك ولا نقيصة, ولو لم يكن في ذلك إلا دفع التهمة عن القاضي بأنه يجامل أو يحأبي أو يرتشي أو يحكم بغير الحق وهذا نظام المحلفين في إنجلترا وأمريكا يشكل معلماً من معالم النظام القانوني هناك، ولم يعتبروه عيباً, وقد رسم هذا النظام طابعه على التقاضي في إنجلترا وأمريكا وصار جزءاً من نظام القانون العام منذ حوالي سنة 1172م وأثناء حكم هنري الثاني الذي اعترف به كما اعترف به (ماجلانا كارتا) سنة 1215م، ومنذ ذلك التاريخ استقر معيار الاثني عشر محلفاً, وجوهر فكرة المحلفين وتحديد التهمة على أيديهم هي وسيلة إدخال الجمهور في العملية القضائية. (¬2) ¬

_ (¬1) - سبق تخريجه. (¬2) - انظر كيف تحكم أمريكا لماركس ومارشال ترجمة نظمي لوقا- ص 250.

فكرة نظام المحلفين في القوانين الوضعية

فكرة نظام المحلفين في القوانين الوضعية من المعروف لدى المختصين والمتابعين أنه بعد أن استقر نظام المحلفين في إنجلترا منذ وقت طويل انتقل منها إلى الولايات المتحدة حيث أقر دستورها الصادر عام 1787م حق المتهم في المحاكمة بواسطة محلفين كما هو منصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة (3) على أن المحاكمة في جميع الجرائم فيما عدا المحاكمات البرلمانية تتم بواسطة المحلفين. (¬1) أما وظيفة المحلفين فيقول الدكتور محمد كامل عبيد: لعل تسمية المحلفين بقضاة الواقع تكشف بوضوح عن وظيفتهم التي يراد بها التفرقة بينهم وبين قضاة القانون، وقد عبر عن تلك القاعدة بمسائل الواقع للمحلفين ومسائل القانون للقاضي. (¬2) ويمكن القول بأنه ومن خلال هذه القاعدة أن وظيفة المحلفين هي تحديد وقائع القضية وفقاً لقواعد التفكير المنطقية والقانونية، وتتكون هيئة المحلفين من اثني عشر محلفاً، ولا يجوز أن يقل عدد الهيئة أو يزيد عن ذلك ويعتبر هذا عنصراً أساسياً من عناصر تكوين هيئة المحلفين في النظام الأنجلوأمريكي وتختار هذه الهيئة بالاقتراع السري من جماعة المحلفين الواردة أسماؤهم بجدول المحكمة, وعادة ما يتم اختيار أكثر من اثني عشر محلفاً حتى إذا طعن في أحدهم أو بعضهم بقي العدد القانوني متوفراً. (¬3) أما واجبات المحلفين وحقوقهم كما ذكرها الدكتور عبيد نقلاً عن الدكتور محمد شادي عبدالحميد والدكتور عبدالرحمن عزوز أن المحلف يجب أن يؤدي يميناً قبل ممارسة عمله بأن يكون قراره مطابقاً لضميره كما يجب عليه الحضور في الزمان والمكان المحددين لجلسة تحليفه وعليه الإمتناع عن أي عمل يتنافى مع مهمته كالاتصال بالخصوم أو الجمهور أثناء المحاكمة ويتمتع المحلف بالحصانات التي يتمتع بها القضاة، كما أن له الحق في توجيه الأسئلة والحق في تدوين ملاحظاته أثناء الترافع وعادة ما يتم اختيار المحلفين من بين المواطنين العاديين الذين ليس لهم صفة عامة والمدرجين في قوائم خاصة لهذا الغرض تحت ¬

_ (¬1) - انظر كيف تحكم أمريكا ص 438. (¬2) - انظر استقلال القضاء للدكتور محمد كامل عبيد - ص 464. مصدر سابق. (¬3) - انظر تفسير أوسع في مؤلفنا الجرائم الماسة بالوظيفة العامة - الطبعة الأولى- ص 117.

إشراف السلطة التنفيذية وفقاً لقانون المحلفين في إنجلترا الصادر في عام 1922م والمعدل بالقانون الصادر عام 1945م وعام 1949م إلا أن تعديلاً جذرياً في بريطانيا صدر عام 1971م قد حدث, وبمقتضاه أصبح اختيار المحلفين أمام محكمة التاج أو المحكمة العليا أو محاكم الإقليم يتم تحت إشراف رئيس القضاة. (¬1) وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتم إعداد قوائم المحلفين بمعرفة موظفين معينين أو منتدبين لهذا الغرض وقد ترك قانون المحلفين الإتحادي الصادر عام 1968م للقاضي وضع الخطة التي يرى اتباعها بشأن وضع أسماء المحلفين. (¬2) أما الشروط التي ينبغي توافرها في المحلف فإن القانون الإتحادي قد نص على أن أي مواطن في الولايات المتحدة الأمريكية يعد صالحاً للخدمة كمحلف بشرطين هما أن يكون قد بلغ الحادية والعشرين من عمره وأن يكون قد أقام لمدة عامين في الدائرة على الأقل ويستثنى من هؤلاء الأشخاص التالية: 1) كل من أدين من محكمة في محاكم الولاية .. 2) من لا يستطيع القراءة والكتابة والتحدث والفهم باللغة الإنجليزية. 3) من كان غير قادر بسبب مرض جسماني أو عقلي على الخدمة كمحلف بطريقة فاعلة. (¬3) ويرى المؤيدون لنظام المحلفين أن في هذا النظام تحقيقاً لمبدء ديمقراطي في تمثيل الشعب في كافة سلطات الدولة, فليس أقرب للعدالة في رأيهم من أن يحاكم الإنسان من بين نظرائه وبمعرفتهم من سائر المواطنين الذين لا يضمرون له أي كراهية أو تحيز، ويرون أن هذا الإحساس يعطي الفرد قناعة بأنه سوف يعامل بنزاهة وعدالة, كما يرى أنصار هذا ¬

_ (¬1) - انظر دكتور ياسين عمر يوسف في النظامين الوضعي والإسلامي ص 72، 73 - الطبعة الأولى، والدكتور عبيد في استقلال القضاء. مصدر سابق ص 467. (¬2) - انظر تفصيلاً أوسع للدكتور محمد أبو شادي عبدالحليم في التشريع الجنائي المقارن- رسالة دكتوراه عين شمس عام 1979م - طبعة منشأة المعارف - الإسكندرية عام 1980م - ص 216 وما بعدها. (¬3) - انظر المادة (1861) من مجموع المرافعات الاتحادية رقم 28 وانظر في ذلك تفصيلات أوسع في نظام المحلفين في الولايات المتحدة الأمريكية ص 343. للدكتور فتحي والي.

المذهب أو النظام أن تجدد المحلفين باستمرار وتنوعهم يجعلهم لا يتسمون بطابع الجمود المهني الذي كثيراً ما يؤدي بالقضاء إلى الوقوع في الأخطاء؛ لأن أعظم أهداف المجتمع هو إقامة العدالة والإخاء والمساواة, ولا يتم ذلك إلا بكفالة قضاء محايد يحمي الحرية والملكية، وإذا وضعت هذه السلطة بأيدي قضاة متخصصين ومنتقين من الصفوة ويمثلون الأقلية في المجتمع فإن قراراتهم على الرغم من سلامتها الفنية ستكون منحازة بصورة غير إرادية نحو مصالح طبقتهم، ومن ثم فإن قضاء المحلفين الذين يمثلون كل طبقات المجتمع يكون أقدر على تحقيق العدالة وحماية الحرية وصيانة الملكية (¬1). والحال أن نظام المحلفين وإن كان في الواقع يشكل درعاً وسياجاً منيعاً يحمي أعراض القضاة ووظائفهم من الطعن فيهم بالتعصب أو الجهل أو الانحياز لطائفة من الناس أو الطعن بالرشوة أو غير ذلك, إلا أنه يؤدي أيضاً إلى البطء في التقاضي وإلى الالتواء على أدلة الإثبات التي حددتها الشريعة الإسلامية والقوانين المستمدة منها، ومن ثم التأثير على قناعة القاضي التي يجب أن تبنى من خلال ما يعرض عليه في مجلس قضائه من أدلة ومن ثم الحكم على خلاف مقاصد الشريعة الإسلامية أو بغير الأدلة التي يجب على القاضي العمل بها، ولئن كان من أهداف نظام المحلفين هو تمثيل الشعب على الصفة القانونية الذي اختارها ذلك النظام؛ إلا أننا نجد نظام الشورى في القضاء الإسلامي الذي يستمد من قول الحق تبارك وتعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (¬2) وقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (¬3) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تشاور قوم إلا هُدُوا لأرشد أمرهم) يؤدي نفس ذلك الغرض من المشاركة الشعبية لأهل الخير والصلاح والفضل والتقوى دونما تأثير على القاضي في إعمال الأدلة إذ الكل ملزمون بها ديانة وعقيدة وشريعة سواءً كان المشير في وزن الأدلة التي ترد إلى مجلس القضاء أو في فهم النص الواجب التطبيق, لأن الرأي الواجب الأخذ به والذي ينبغي للقاضي أن يحتاط لنفسه ولغيره ممن وضعت قضايأهم بين ¬

_ (¬1) - انظر الأستاذ أحمد صفوة في النظام القضائي في انجلترا - ص 54. والدكتور محمد كامل عبيد استقلال القضاء ص 475. (¬2) - الآية 159 من سورة آل عمران. (¬3) - الآية 38 من سورة الشورى.

يديه إنما هو الرأي الذي يؤخذ من الشريعة الإسلامية ويتوافق مع جزئياتها وجزئيات وكليات القانون المستمد منها لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (¬1) كما أن الاستشارة تثري الموضوع الذي يستشار فيه بالآراء السليمة والصحيحة وتطلع في غالب الأحوال المستشير على ما قد يغيب عن ذهنه وتوصله إلى القناعة التامة التي يكون بها قد أرضى الحق سبحانه وتعالى وأرضى الخلق وأقام الحق وتدفع عنه أيضاً تهمة المحاباة والعصبية والجهل، كما أنها تدفع إلى تتبع وجه الحق وتتبع الأحكام والآثار التي تقربه إلى الصواب والحق وتضيف إلى معلومات القاضي وفقهه معلومات فقهية ومعرفية لم يكن يعلمها لولا التشاور فتكون له قوة في رأيه وسبيلاً إلى نيل الظفر في الحكم بالحق. ¬

_ (¬1) - الآية 45 من سورة المائدة.

المبحث الرابع الشورى في الحرب

المبحث الرابع الشورى في الحرب إن من أهم القواعد الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي هو احترام مبدء الشورى في الشؤون العامة ومن ذلك الشورى في الحرب فهي ضرورة لاستجماع الرأي، فإشراك الأمة في أمور الحرب أدعى إلى اجتماعها ووحدة الكلمة, ففي غزوة بدر الكبرى بعد أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر قريش ومسيرهم إليه ليمنعوا عيرهم استشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: وأحسن, ثم قام عمر بن الخطاب فقال: وأحسن, ثم قام المقداد بن عمر فقال: يا رسول الله امضِ إلى ما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له، ثم قال: (أشيروا علي أيها الناس) -وإنما يريد الأنصار- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه بذلك، ثم قال: (سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين). وحكى ابن هشام في السيرة ما رواه ابن إسحاق في مشاورة الحباب بن المنذر في بدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ الرسول بذلك. قال إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا

نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء بالقوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون, فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أشرت بالرأي). فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل فملأه ماءً ثم قذفوا فيه الآنية. ومن ذلك ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في إشارة سعد بن معاذ قال يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عنك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك, فأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا لهم بخير ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشُ فكان فيه. (¬1) ثم لما انتهت غزوة بدر الكبرى بانتصار المسلمين على المشركين وقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين آخرين, ولم يكن الحكم الشرعي في الأسرى قد نزل استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بدر في الأسرى فظهرت ثلاثة آراء: الرأي الأول أن تؤخذ الفدية من الأسرى وبه قال معظم أهل بدر وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن أسرى بدر فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة أرى أن نأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فيكونوا لنا عضداً، وفي لفظ أرى أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا ¬

_ (¬1) - انظر في ذلك السيرة النبوية لابن هشام - حققها وضبطها ووضع فهارسها مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي - الناشر دار إحياء التراث العربي - بيروت، وهذا النص هو الذي ساقه ابن هشام في السيرة ج2ص272و273، وأصل القصة في صحيح البخاري في كتاب المغازي في باب قول الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم) وفي صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير باب غزوة بدر حديث 1779.

قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب: (ما ترى يا ابن الخطاب؟) فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكنّي من فلان نسيباً له فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. (¬1) , أما الرأي الثاني فهو رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ورد في الحديث السالف ذكره وهو عدم قبول الفدية وضرب أعناق الأسرى، ولم يوافقه أحد من أهل بدر على هذا الرأي, أما الرأي الثالث فهو رأي عبدالله بن رواحة الذي رأى أن يقتلوا الأسارى حرقاً وهذا الرأي لم يشاركه أحد من أهل بدر فيه، وقد قال رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه. (¬2) وبعد أن استمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما قال أبو بكر وعمر وعبدالله بن رواحة ورأى أن أكثرية الناس مالت إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه قال: (إن الله ليلينن قلوب الرجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة)، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأغلبية أخذ الفداء مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه مال إليه وقال: (أنتم عالة ولم يبقين أحد إلا بفداء أو بضربة عنق). (¬3) وقد نزل القرآن في هذه الآية موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه وهو قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) (¬4) , والذي يستفاد من الشورى في غزوة بدر هو الأمور التالية: 1) ¬

_ (¬1) - انظر مسلم في الصحيح كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإتاحة الغنائم - حديث رقم 1763، وشرح الإمام النووي لصحيح مسلم 12 - ص 86 الطبعة الأولى. (¬2) - انظر عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي ج 11 - ص 217. والسيرة النبوية لابن كثير ج 2 - ص 459. وتفسير القرآن الكريم للإمام ابن كثير ج 3 - ص 346. (¬3) - انظر السيرة النبوية لابن كثير ج2، ص 462. (¬4) - الآية 67 من سورة الأنفال.

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاور الحضور جميعاً خاصة الأنصار لأنهم خرجوا مع الرسول من ديارهم في تلك الغزوة ولم يكن بين النبي وبين الأنصار عهداً على الخروج للقتال معه, وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخشى أن تكون الأنصار لا ترى وجوب نصرته عليها إلا مما داهمه من العدو بالمدينة فقط، ويضاف إلى ذلك أن استطلاع رأي الجمهور ووحدة كلمتهم ومعرفة آرائهم والأخذ برأي الأكثرية ضرورة لا بد منها. 2) استجابة المهاجرين والأنصار ومشاركتهم في القتال يداً واحدة وقوة وكتلة واحدة مما يدل على عمق الإيمان، وهذا ما يرشد إلى وجوب التوحد في الرأي عند حصول أمر يكون القتال فيه ضرورة. 3) أن الشورى وإن كانت في ميدان المعركة والقتال إلا أنها ضرورة لا بد منها، والمسائل التي دار فيها التشاور أفراداً وجماعات هي أمور ليس فيها نص شرعي لا سبيل للاجتهاد وإعمال الرأي فيه وستبقى كل هذه الأمور اجتهادية عدا الحكم في الأسرى فإن الحكم الشرعي فيه استقر على أن يخير (الإمام) رئيس الدولة أو ملكها بين القتل أو المن أو الاسترقاق ويكون بحسب الأحوال والظروف بعد الاستشارة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 4) أن رأي الأغلبية هو الذي ينبغي أن يؤخذ به اقتداءً بالهدي النبوي. 5) أن رأي الجند أو رأي المتخصصين في العلوم العسكرية يجب أن يؤخذ به، ولا غضاضة في ذلك أخذاً من هديه صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخذ برأي الحباب بن المنذر في الموقع الذي اختاره في بدر وأشار بالرحيل منه وفي هذا إشارة لقواد الجند في أن يسمعوا ويصغوا لكل الآراء حتى يستفيدوا منها. 6) أن رأي الأغلبية يؤخذ به في الحرب والأمور العامة تجنباً للخلاف والتنازع الذي يعرض الجند والدول للفشل، فها هو رأي الأغلبية في فداء أسرى بدر لا يوافقه القرآن ووافق رأي عمر رضي الله عنه, ولكنه مع ذلك بقي رأي الأغلبية هو الرأي الملزم، والحكمة في الأخذ برأي الأغلبية هو منع التنازع والاختلاف وفيه أيضاً سد ذريعة

الاستبداد وحرمان الأمة من الشورى, ولهذا فإن القرآن أجاز للمقاتلين في هذه الغزوة الانتفاع بما أخذوه من فداء حتى وإن كان اجتهاداً غير مستساغ أو غير راجح أو غير موافق للرأي السديد فأنت ترى في هذه الغزوة أن القرآن رغم معاتبتهم إلا أنه أتاح لهم الأكل والانتفاع بما أخذوه من فداء الأسرى إذا يقول الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (¬1). 7) أن التصويت مع الاختلاف في الرأي في أمر الشورى جائز، فللإنسان أن يبدي رأيه وإن خالف رأي الأكثرية, غير أن الأكثرية إذا اتخذت موقفاً سواءً في القتال أو غيرها وصوتوا عليه وجب على الجميع أن يأخذوا به وأن لا يجعلوا من ذلك ذريعة للتنازع بل يجب عليهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً. غير أنه يجوز في موضوع الشورى أنه إذا قام بها البعض سقطت عن البعض الآخر إذا كانوا في حكم الموافقين عليها، أي أنه يجوز النيابة في ذلك. والذي يستفاد من القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجه الخطاب العام للذين خرجوا ليعترضوا طريق القافلة يستشيرهم جميعاً, وأن الذين أشاروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم زعماء المهاجرين والأنصار, وأن أغلبية القوم الذين خرجوا للقتال قد سكتوا, وأن البعض لربما كان كارهاً للقتال. وكتب السيرة النبوية لم تنقل لنا غير أقوال رؤوس المهاجرين والأنصار ونفر من المجادلين ذكرهم القرآن وقد دخلوا المعركة مع رسول الله وانضموا إليه وقاتلوا معه فرضي الله عنهم أجمعين. وإن كان ليس بالضرورة أن يتكلم الثلاثمائة والثلاثة عشر مقاتلاً وهم الذين كانوا برفقته صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلا أنه وبلا شك أن هناك من كان يكره القتال ولكنه آثر حب الله ورسوله فكانت يده مع يد الجماعة يقاتل راضياً مختاراً بمعنوية مرتفعة، وقد دل على ما أشرنا إليه قول الحق (وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون)، ودخل النفر القليل فيما دخل فيه الأغلبية، قال تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (¬2) ¬

_ (¬1) - الآية 69 من سورة الأنفال. (¬2) - الآيات 6 - 8 من سورة الأنفال.

الشورى في غزوة أحد

وهذه الشواهد التي سقناها تؤيد بوضوح رأي من قال بأن الشورى ملزمة وليست بمعلمة وسنأتي على مزيد بيان عند حديثنا عن إلزامية الشورى في الأمور العامة. الشورى في غزوة أحد لقد ذكرت كتب السنة والسيرة النبوية في أخبار هذه الغزوة أخباراً متقاربة في المعاني والألفاظ، وأن زعماء اليهود والمشركين قد بذلوا جهوداً في إثارة الحمية الجاهلية لدى القرشيين للانتقام لقتلأهم يوم بدر من الرسول والمسلمين، ولتستعيد قريش مكانتها التي تزعزعت بسبب الهزيمة التي منيت بها في غزوة بدر، أضف إلى ذلك أن القرشيين كانوا يرغبون في تأمين طرق تجارتهم إلى الشام, بالإضافة إلى أنهم كانوا يحرصون على القضاء على جماعة المسلمين قبل أن تتعاظم قوتهم. هذه أهم الأسباب والدوافع التي جعلت قريشاً تجيش جيشاً قوياً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل من قريش وممن تابعها من قبائل كنانة وأهل تهامة ومعهم مئتا فرس, ولما كانت سياسة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تقوم على الشورى وكانت قريش قد وجهت هؤلاء الجند في العام الثالث الهجري إلى المدينة فقد استشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة رضوان الله عليهم, وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرى البقاء في المدينة وقتال المشركين فيها وقد تحصن المسلمون فيها وهي نظرة حصيفة؛ لأنه إن دخل العدو قاتله الرجال في الشوارع والأزقة ورمأهم النساء والصبيان من سطوح الحصون والمنازل ومنافذها فيكون ذلك أدعى لهزيمة العدو، وهو ما يسمى في هذا العصر بحرب الشوارع أو حرب المدن. قال ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن رأيتم أن تقيموا في المدينة وتدَعُوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوها علينا قاتلنأهم فيها. وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى رأيه في ذلك وأن لا يخرج إليهم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكره

الخروج فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيته فلبس لأمته (درعه) وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمر أحد بني النجار فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لنا ذلك فلما خرج عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل) فخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ألف من الصحابة. قال ابن هشام واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة. قال: ابن إسحاق حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال أطاعهم وعصاني ما ندري على ما نقتل أنفسنا هنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب. قال ابن إسحاق: ومضى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي من الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: (لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال) , وقد سرّحت قريش الظهر والكراع (¬1) بزروع كانت بالصمغة من قناة المسلمين (¬2). فقال رجل من الأنصار حين نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة (¬3) ولمَّا نضارب وتعبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وهو في سبعمائة رجل وأمّر على الرماة عبدالله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف وهو مُعلمٌ يومئذ بثياب بيض والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال: (انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتون من خلفنا إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك) (¬4). وجاء في رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (انضحوا الخيل عنا لا يأتون من ورائنا إن كانت لنا اثبتوا مكانكم لا نؤتين من قبلكم الزموا مكانكم لا تبرحوا عنه وإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في معسكرهم فلا تبارحوا مكانكم وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم اللهم إني أشهدك عليهم) , ومما يجدر ذكره أن الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرى البقاء للقتال في المدينة ليقاتلوا فيها أنه رأى الرؤيا التي رآها وحدث بها المسلمين فقال: (إني قد رأيت والله خيراً رأيت بقراً تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة فأولتها المدينة). (¬5) وقد جاء في تفسير هذه الرؤيا أن البقر التي تذبح أنه يستشهد نفر من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم وأن سيفه يثلم أي أنه يقتل رجل من أهل بيته فكان عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله، وحصل ما حصل من القتل في أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعض أصحابه منهم نعيم بن مالك بن ثعلبة وهو من بني سالم يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فوالذي نفسي بيده لأدخلنها. (¬6) وقال أبو سعد خيثمة وكان ابنه خيثمة قد استشهد في غزوة بدر لقد أخطأتني غزوة بدر وكنت والله حريصاً عليها حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول إلحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقتل شهيداً (¬7). وقال عبدالله بن جحش يا رسول الله إن هؤلاء القوم قد نزلوا حيث ترى وقد سألت الله فقلت اللهم إني أقسم عليك ان نلقى العدو غداً فيقتلونني ويمثلون بي فألقاك مقتولاً قد صنع بي فتقول فيما صنع بك هذا؟ فأقول: فيك. ¬

_ (¬1) - الظهر: الإبل , والكراع: الخيل. (¬2) - أرض كانت بالقرب من أحد. (¬3) - بنو قيلة هم الأوس والخزرج, وقيل أم من أمهات الأنصار. (¬4) - من 68 إلى 70 السيرة النبوية لابن هشام ج 3. (¬5) - انظر الفتح الرباني وترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ج 21 - ص 52. (¬6) - السيرة النبوية لابن كثير ج 3 - ص 90. (¬7) - انظر زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم ج 3 - ص 280.

وأسألك أخرى أن تلي تركتي من بعدي فقال: نعم (¬1). وقال حمزة بن عبدالمطلب: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة. (¬2) وقال إياس بن أوس بن عتك نحن بني الأشهل وإنا نرجو أن نكون البقر التي تذبح. (¬3) وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فوالذي نفسي بيده لأدخلنها والبقر المذبح من أصحابك وأنا منهم (¬4). قال الإمام البخاري في صحيحه: (وشاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه يوم أحد في المقام أو الخروج فرأوا له بالخروج، فلما لبس لأمته وعزم قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله). (¬5) والذي يستفاد من قوله (فرأوا له الخروج) بصيغة الجمع هو أن الذين رأوا الخروج عامة الصحابة أو أكثرهم عبر عنهم جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاتهم الخروج يوم بدر فلا يحمل ذلك إلا عليه فلم يبق مجال للتظنن أو الاستشكال الذي أورده بعض العلماء المعاصرين (¬6) , والذي يستفاد من هذه القصة الأمور التالية: 1) أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينفرد برأيه في الحرب وهو المسدد بالوحي والمعونة من الله بل كان يستشير. 2) ¬

_ (¬1) - انظر إمتاع الأسماع - تحقيق محمود محمد شاكر - طبع على نفقة الشئوون الدينية بدولة قطر - الدوحة - الطبعة الثانية ج 1 - ص 155. (¬2) - انظر شرح الزرقاني على المواهب اللدنية - الطبعة الأولى 1326هـ - المطبعة الأزهرية المصرية - القاهرة. (¬3) - انظر أنساب الأشراف ج 1 - ص 315. (¬4) - إمتاع الأسماع - ج1 - ص 116 - مصدر سابق. (¬5) - انظر تفاصيل ما ورد من أحداث في السيرة النبوية لابن هشام من 63 إلى 90 - ج 3. والبخاري في كتاب المغازي باب غزوة أحد وباب فضل من شهد بدر وباب (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) وفي الجهاد باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب في تفسير قوله تعالى: (والرسول يدعوكم في أخراكم) آل عمران وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قوله تعالى (وشاورهم في الأمر). وما رواه أبو داود في الجهاد باب في الكمناء حديث 2662، وما رواه ابن كثير في البداية والنهاية ج 4 - ص 10 وما بعدها. وما أورده السهيلي في الروض الانن ج 2 - ص 58 وما بعدها. وما أورده أحمد زيني دحلان في السيرة النبوية ج 2 - ص 400 وما بعدها، وما أورده محمد الصالحي الشامي في سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد. (¬6) - انظر الشورى لا الديمقراطية ص 71 - 87 مرجع سابق والشورى المفترى عليها الأمين الحاج محمد أحمد طبعة دار المطبوعات الحديثة - جدة ص 44 - 55.

أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من الاستماع لرأي أصحابه في الشورى ومداولتهم ومناقشتهم المستفيضة دون كلل أو ملل. 3) أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نزل عن رأيه وأخذ برأي الأكثرية التي خالفت رأيه ولم يتعصب لرأيه أو يحمل الأمة عليه. 4) أن جمهور الصحابة لما رجعوا عن رأيهم إلى رأيه لم يوافقهم صلى الله عليه وآله وسلم في رجوعهم إلى رأيه, وهذا يعني أن الحاكم لا يجوز له أن يتبع هواه فإذا خرج الأكثرية برأي كان على ولي الأمة أن يتبناه ولا يناور في محاولة تغيير رأي الآخرين إلى رأيه، يؤيد هذا قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) والعزم هنا مشاورة الناس واتباع رأي الأغلبية، روى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم في قوله تعإلى: (َإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) قال: (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) (¬1). ويستفاد من القصة أيضاً أن رأي الرسول في البقاء في المدينة لم يكن خطأ ولا باطلاً وأن رأي الصحابة أيضاً لم يكن فيه مجانبة للصواب, يدل على ذلك أنهم أحرزوا نصراً في أول المعركة وبدايتها وكادوا يكسبون الجولة التامة وأن قوى الشرك بدأت تتدهور وتتقهقر ولكن مخالفة الرماة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أنهم لم يبقوا في الجبل واجتهادهم الخاطئ بالنزول لإمساك الغنائم قبل فواتها هو الذي أدى إلى قلب المعركة رأساً على عقب لأنه اجتهاد في مقابلة نص، ولأن فيه مخالفة لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمرهم بالبقاء وعدم التحرك والخروج عن طاعة ولي الأمر وعن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان سبباً رئيساً في حصول تقهقر المسلمين والقرآن على ذلك شاهد. وفي ذلك يقول الحق (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ ¬

_ (¬1) - تفسير ابن كثير ج 2 - ص 140.

صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (¬1). وهذه النصوص تكشف بجلاء أسباب ما وقع فيه المسلمون من خطأ ولكن الحق سبحانه وتعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عن المؤمنين وأن يستغفر لهم وأن يشاورهم في الأمر إذ يقول جل وعلا: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (¬2) فلم يجعل القرآن المجيد حصول بعض المخالفات أو نزول فاجعة أليمة مسوغاً لاعتزال الشورى مستقبلاً بل جاءت هذه الآيات من عند الله لتثبت العمل الشوروي وترسخه بصفة الأمر الذي تفيد الوجوب في معظم أحواله، فالرسول وهو النبي المعصوم يؤمر بالتشاور وهذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليل قوي على أن الشورى للحاكم والأمير ملزمة في مثل هذه الأحوال وأنه لا مناص من الأخذ بها إذا ما أراد الحاكم أن يقتدي بهدي النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ففي ذلك الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) - الآيات 152 - 155 من سورة آل عمران. (¬2) - الآية 159 من سورة آل عمران.

الشورى في غزوة الأحزاب وحفر الخندق

الشورى في غزوة الأحزاب وحفر الخندق لقد حكت كتب السير أن اليهود لما رأوا انتصار المسلمين يوم أحد خرج بعض أشرافهم إلى قريش يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, قال ابن هشام أنها كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس وأنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب النضري وكنانة بن أبي الحقيق النضري وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عمار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش مكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَأهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَأهم مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (¬1) قال ابن هشام: فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمعوا لذلك واتحدوا له, ثم خرج ذلك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك فاجتمعوا معهم فيه. ¬

_ (¬1) - الآيات 51 - 55 من سورة النساء.

فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ومسعر بن رخيله بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة فيمن تابعه من قومه من أشجع. قال ابن هشام فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة (¬1) , وقال ابن هشام أن سلمان الفارسي كان قد أشار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم به قال حدثني أهل العلم أن المهاجرين يوم الخندق قالوا سلمان منا وقالت الأنصار سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سلمان منا أهل البيت) (¬2)، وجاء في بعض كتب السير أنه: لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزحفهم إلى المدينة وتحزب الأحزاب لقتال المسلمين استشار أصحابه أيقيمون في المدينة أم يخرجوا للقاء العدو، وهناك أشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بضرب الخندق وكانت خطة حربية متبعة عند الفرس، قال سلمان يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأي سلمان فأخذ برأيه, فجعل جبل السلع خلف ظهره وخط لهم مكان الخندق وعمل معه المسلمون فدأب فيه ودأبوا وكان البرد شديداً ولا يجدون من القوت إلا ما يسد الرمق وقد لا يجدونه، ويقول أبو طلحة شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه حجرين، ويقول أنس رضي الله عنه خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون لهم ذلك فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبون له نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبدا. (¬3) ¬

_ (¬1) - السيرة النبوية لابن هشام ص 226 - 235. (¬2) - المستدرك على الصحيحين ج3ص691 حديث (5639). (¬3) - انظر السيرة النبوية للعلامة أبي الحسن الندوي طبعة دار القلم - 1422هـ - 2001م ص 250 - 251. وسيرة ابن هشام ج3 - ص 226وما بعدها. وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية ج3 - ص 271. والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة ج2 - ص 276. وفتح الباري شرح صحيح البخاري ج 8 - ص 395.

الشورى في تفريق الأحزاب

الشورى في تفريق الأحزاب بعد أن اشتدت الأمور على المسلمين في غزوة الأحزاب واستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه في تخذيل المسلمين وتفكيك جموع الأحزاب المهاجمين للمدينة فبعث إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان وساومهما على أن يأخذا ثلث ثمار المدينة ويرجعا بمن معهما، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كان ليبرم الأمر في أمر لم ينزل فيه وحي حتى يستشير فيه فأرسل إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما سيدا الأوس والخزرج فقالا: يا رسول الله أمر تحبه فنصنعه أم شيئ أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئ تصنعه لنا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بل شيئٌ أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة كالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما) فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قِراً أوبيعاً, أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وعزنا بك نعطيهم أموالاً ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فأنت وذاك) , فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب (¬1). ويظهر هنا أن الشورى زادت المؤمنين صلابة وقوة وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يحمل أصحابه على رأيه بل نزل صلوات الله وسلامه عليه إلى رأي الصحابيين الجليلين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وفي ذلك عظة وعبرة لقادة المسلمين في كل زمان ومكان، ويستفاد من قصة غزوة الأحزاب وثبات المسلمين فيها وإنزال النصر عليهم وإرسال الله جنوداً لم يروها وجَعْلِ كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا الأمور التالية: 1) أن المسلمين اعتصموا بحبل الله جميعاً. 2) أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينفرد برأيه دون مشاورة أصحابه فقد استشارهم في مكان القتال فاتفقوا على البقاء في المدينة والدفاع عنها أمام جموع الكفر وأحزابه من عرب ويهود. 3) ¬

_ (¬1) - السيرة النبوية لابن هشام ص 234.

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ هو وأصحابه بما أشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه وحفر الخندق في الجهة الشمالية للمدينة كونها جهة مفتوحة وقد فطن سلمان إلى أمر عسكري فأشار به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ الرسول به, وقسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخندق بين أصحابه لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً حيث بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة والعرض من تسعة إلى ما فوقها وقد كان حفره من شمال المدينة الشرقي إلى غربها، وكان حده الشرقي طرف حرة واقم، وحده الغربي غربي وادي بطحان حيث طرف الحرة الغربية. (¬1) 4) يستفاد من القصة أيضاً ضرورة الأخذ بآراء أهل الإختصاص من أهل الخبرة فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برأي أهل الخبرة العسكرية الدفاعية والهجومية لغير المسلمين التي أخبره بها سلمان الفارسي وذلك مما ينبغي أن يستفيد منه القادة فليس الأمر مقصوراً على تلك الواقعة فلكل زمن واقعه وآليته التي يجب أن تراعى. 5) الاستشارة في الأسباب التي من شأنها أن تمزق جبهة العدو وتحدث تصدعاً فيها فهو أمر مستحسن عند الضرورة والقتال، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن (الحرب خدعة) (¬2). 6) يستفاد من قصة وسؤال السعدين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن موضوع الشورى إنما هو أمر اجتهادي (أمر تحبه فنصنعه أم شيئ أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئ تصنعه لنا)، ويستفاد من ذلك أن السعدين قد فهما من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أن موضوع الشورى إنما يكون في أمر اجتهادي وإلا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالأمور الإجتهادية احتمال الخطأ فيها وارد, وأن الشورى لا تقع ¬

_ (¬1) - أبو الأعلى المودودي في السيرة النبوية ص 250. نقلاً عن آثار المدينة المنورة للأستاذ عبدالقدوس الأنصاري. (¬2) - الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له السيوطي بالصحة. حديث 3812.

فيما فيه نص, أي أنه لا بد أن يقع محل الشورى خارج إطار النص الشرعي وليس مضاداً له ولا معاكساً، فإنه لو كان أمراً من عند الله لما كان هناك من موجب للتشاور, لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (¬1). 7) أن مخالفة ولي الأمر في الأمور الإجتهادية عند الاستشارة في الرأي لا ضير منه, لأن المستشار يجب أن يقول رأيه بكل أمانة وصدق, فالمستشار مؤتمن وقد أشار السعدان بما رأيا فيه مصلحة فأخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به. 8) أن تنازل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن رأيه وأخذه برأي السعدين ومحو الصحيفة يدل دلالة واضحة أن الشورى في الأمور الاجتهادية ملزمة وليست معلمة. 9) أن محو ما في الصحيفة من قبل سعد بن معاذ رضي الله عنه وإقراره صلوات الله وسلامه عليه على ذلك يدل على أن رئيس الدولة أو الخليفة أو الملك ليس له أن ينفرد برأيه ويصدر قرارات في أمور تتعلق بمصير الأمة وأموالها ومستقبلها دون مشاورة، وقد قال الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: وهذه الحادثة تضع تقليداً دستورياً هاماً, وهو أن الحاكم ولو كان رسولاً معصوماً يجب عليه أن لا يستبد بأمر المسلمين وأن لا يقطع دون رأيهم في شيء هام وأن لا يعقد معاهدة تلزم المسلمين بأي التزام دون مشاورتهم وأخذ آرائهم فإن فعل كان للأمة حق إلغاء كل ما استبد به من دونهم وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم فيها رأي. (¬2) قلت والحكمة في ذلك أن المعاهدات ربما اشتملت على أمر فيه ضرر يلحق بالأفراد فكان لا بد لإبرامها من موافقة نواب الشعب وأهل الشورى والاختصاص، ولا مشاحة في أن المصادقة على الاتفاقات والمعاهدات وعقد الإتفاقيات مناط بولي الأمر كما هو الحال في السيرة النبوية غير أن تفرد ولي الأمر دون مشاورة في ذلك هو محط الإشكال. ¬

_ (¬1) - الآية 36 من سورة الأحزاب. (¬2) - انظر في توجيهات الإسلام للشيخ محمود شلتوت - الناشر دار الشرق - القاهرة - طبع مؤسسة دار الشعب. والشورى في غزوات الرسول للدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس - الناشر المكتبة الوطنية ص 39.

وفي النظم الحديثة لا تكاد الدساتير تختلف على أداء هذه الصلاحية ولي الأمر (رئيس الدولة أو الملك) وقد صرح دستور الجمهورية اليمنية بالمادة (119) فقرة 12 (بأن لرئيس الجمهورية إصدار قرار المصادقة على المعاهدات والإتفاقيات التي يوافق عليها مجلس النواب) وأفصحت الفقرة (13) من ذات المادة سالفة البيان بأن من مهام رئيس الدولة المصادقة على الإتفاقيات التي لا تحتاج إلى تصديق مجلس النواب بعد موافقة مجلس الوزراء. وقد أنشئ في الجمهورية اليمنية مجلس للشورى نص الدستور اليمني بأنه يجب أن ينشأ بقرار من رئيس الجمهورية مجلس شورى من ذوي الخبرات والكفاءات وذوي الرأي والشخصيات الاجتماعية لتوسيع قاعدة المشاركة في الرأي وقد أسند إليه الدستور بمقتضى المادة (125) تقديم الدراسات والمقترحات التي تساعد الدولة على رسم إستراتيجيتها التنموية وإبداء الرأي والمشورة في المواضيع الأساسية التي يرى رئيس الجمهورية عرضها على المجلس وتقديم الرأي والمشورة بما يسهم في رسم الإستراتيجية الوطنية والقومية للدولة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية لتحقيق أهدافها على المستويين الوطني والقومي كما هو صريح الفقرة (ج) من المادة (25) من الدستور اليمني, وهذا يعني أنه لا بد من التشاور في الأمور العسكرية والأمنية, كما أناط الدستور به أيضاً إبداء الرأي والمشورة في السياسات والخطط والبرامج المتعلقة بالإصلاح الإداري لتحديث أجهزة الدولة وتحسين الأداء, والاشتراك مع مجلس النواب لتزكية المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية والمصادقة على خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بالدفاع والتحالف والصلح والسلم والحدود والتشاور فيما يرى رئيس الجمهورية عرضه من قضايا عند الاجتماع المشترك، وهذا يعني أن الاتفاقات الهامة موقوف نفاذها على موافقة مجلس الشورى والنواب. ويدرك الإنسان المتتبع للسيرة النبوية بأن التشريعات الوضعية قد كانت مسبوقة بالهدي النبوي الذي استفاد منه المشرعون في مختلف البلدان, وذلك ليس حصراً على نظام دون نظام سواء كان شكل النظام جمهورياً أو ملكياً, فنحن نجد أن مجالس الشورى والنواب والبرلمانات موجودة في الدولة الحديثة في شكلها وقالبها

الحديث سواءً كان شكل النظام جمهورياً أو ملكياً في البلدان العربية والإسلامية, فتجد تلك المجالس موجودة في المملكة العربية السعودية وفي دولة الإمارات وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي جمهورية مصر العربية وفي مختلف بلدان العالم وإن اختلفت مسميات هذه المجالس فإن مؤداها واحد، ومن هذا يتضح أنه لا يوجد في الأنظمة المعاصرة دولة تترك لرأس الدولة العنان يتصرف دونما ضوابط أو شروط ودونما مشاركة في الرأي, إذ يستحيل إدارة الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والقضائية والتشريعية من شخص واحد أو دونما مشاركة في الرأي من قبل آخرين، وبهذا ندرك أن مبدء المشاركة والشورى الذي جاءت به الشريعة الإسلامية هو مبدؤ أصيل تأخذ به جل دول العالم بنسب متفاوتة، وأن المسلمين كانوا سباقين إليها، وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي: لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ولا يستحق ذرة من التأييد إلا إذا كان معبراً عن روح الجماعة ومستقيماً مع أهدافها، ومن ثم فالأمة وحدها هي مصدر السلطات, والنزول عند إرادتها فريضة والخروج على رأيها تمرد، ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك. (¬1) أما الأستاذ العالم الفاضل الشهيد عبدالقادر عودة فإنه يقول: أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون والتجرد في مرحلة الاستشارة وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ. (¬2) ¬

_ (¬1) - انظر الإسلام والاستبداد السياسي للشيخ محمد الغزالي ص 53 - الطبعة الأولى. (¬2) - انظر الإسلام وأوضاعنا السياسية للأستاذ عبدالقادر عودة ص 154.

الشورى في غزوة الحديبية

الشورى في غزوة الحديبية لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على مشاورة أصحابه حرباً وسلماً, وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل قول الله (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن شاور منهم لم يعدم رشداً ومن ترك المشورة منهم لم يعدم عناءً) (¬1) فقد كانت ديدن الرسول ومبدؤه، والقاعدة التي يسير عليها فيما لم يكن فيه وحيٌ من عند الله فقد خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يريد العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة وقد استعمل غيلة بن عبدالله الليثي على المدينة وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له وفي السيرة النبوية لابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتال وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبدالله فيما بلغنا يقول كنا أصحاب الحديبية أربعة عشر مائة حتى إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك قد خرجوا معهم العوذ المطافيل (¬2) قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى (¬3) يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم (¬4). ¬

_ (¬1) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ج 6 - ص 77. وروي بنحوه في عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ لأحمد بن يوسف الحلبي المعروف بابن السمين مادة غني برقم 407 سنة 1407هـ. وأورده صاحب صفة البيان لمعاني القرآن الأستاذ حسين محمد مخلوف ص 394 طبعة وزارة الأوقاف بالكويت 1407هـ. وأورده الأستاذ الدكتور السيد حسن ضياء الدين محمد عنتر في الشورى في ضوء القرآن والسنة ص 94 - الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م. (¬2) - العوذ المطافيل: جمع عائذ وهي من الإبل الحديثة النتاج والمطافيل التي معها أولادها. يريد أنهم خرجوا معهم النساء والصبيان. (¬3) - ذي طوى: موضع قريب من مكة. (¬4) - كراع الغميم: موضع بين مكة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال كما ورد في معجم البلدان- وانظر السيرة لابن هشام ج3 - ص 323.

وجاء في صحيح البخاري أنه خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية في بضع عشر مائة من أصحابه فلما أتى ذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه وقال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت وما نعوك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين وإلا تركنأهم محروبين. قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله). (¬1). وقد أورد أصحاب السير وكتب الحديث قصة مسير عثمان رضي الله عنه إلى مكة بعد أن أشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك عمر رضي الله عنه عند اعتذاره بالذهاب إلى مكة وحدوث إشاعة مقتل عثمان رضي الله عنه وحصول بيعة الرضوان والصلح الذي تم في الحديبية وما كتب فيه (¬2)، ونقل الإمام ابن القيم في زاد المعاد أنه لما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات. فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدَنَكَ وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك فنحر بُدْنَه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. (¬3) ¬

_ (¬1) - انظر صحيح البخاري - باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة). حديث (4178) (4179). (¬2) - السيرة النبوية لابن هشام ج3 - ص329 وما بعدها. (¬3) - انظر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية - حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط - الناشر مؤسسة الرسالة - مكتبة المنار الإسلامية - الطبعة الرابعة عشرة 1407هـ - 1986م - ص 259.

ويستفاد مما روت كتب الحديث والسيرة النبوية في هذه القصة: 1) أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار أصحابه, وأنه أخذ برأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن بعث عثمان رضي الله عنه إلى مكة وحصلت بيعة الرضوان مال إلى الصلح. 2) وأن عثمان رضي الله عنه ذهب إلى مكة بناءً على مشورة عمر رضي الله عنه حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يبتعثه إلى قريش فاعتذر فعذره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بمشورته في بعثه لعثمان. 3) يستفاد من اعتذار عمر رضي الله عنه في الذهاب إلى مكة عدم رفضه لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أبدى وجهة نظر مشفوعة بأدلة مقنعة هو جواز إبداء الرأي في مثل هذه الحال بحرية تامة، وأنه لا ضرر من الإختلاف في وجهات النظر، وأنه لا عيب في أخذ ولي الأمر برأي من خالفه إذا كان في ذلك مصلحة بل هو مشروع غير مذموم. 4) استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة وأخذه برأيها, ويستفاد من هذا أن المرأة إذا كانت ذات رأي حسن فإنه يأخذ برأيها, فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أم سلمة رضي الله عنها لصواب رأيها في أمر عام. 5) أن أمر الهدنة والمصالحة التي تمت لم يكن اجتهادياً وإنما هي تطبيق لأمر جاء من عند الله، فقد حاور عمر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الصلح وكان معارضاً, ولكن الأمر لما كان متعلقاً بالوحي وليس أمراً اجتهادياً فقد مضى الرسول فيه وهو يقول: يا ابن الخطاب إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه. وفي رواية مسلم فانطلق عمر ولم يصبر متغيظاً فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على باطل. قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلأهم في النار. قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم. فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً. قال: فنزل

القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله أو فتح هو. قال: نعم. فطابت نفسه ورجع. (¬1) وقد خصص الإمام ابن القيم في زاد المعاد فصل في بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية نلخص منها ونختار الأمور التالية: أ- أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو. ب- أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة لأن العين الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخزاعي كان كافراً إذ ذاك وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم. ج- استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجاً لوجه الرأي واستطابة لنفوسهم وأمناً لعتبهم وتعرفاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض وامتثالاً لأمر الرب في قوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). د- جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى مصلحة للمسلمين فيه ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداءً الطلب منهم. هـ- أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناها. و أن الأصل مشاركة أمته له في الأحكام، إلا ما خصه الدليل ولذلك قالت أم سلمة: اخرج ولا تكلم أحداً حتى تنحر هديك وتحلق رأسك، وعلمت أن الناس سيتابعونه، فإن قيل كيف فعلوا ذلك اقتداءً بفعله ولم يتمثلوه حين أمرهم به قيل هذا هو السبب الذي لأجله ظن من ظن أنهم أخروا الإمتثال طمعاً في النسخ فلما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك علموا حينئذ أنه حكم مستقر غير منسوخ, وقد تقدم فساد هذا الظن، ولكن لما تغيظ عليهم وخرج ولم يكلمهم ¬

_ (¬1) - انظر صحيح مسلم - كتاب الجهاد - باب صلح الحديبية في الحديبية - حديث 1785.

وأرأهم أنه بادر إلى امتثال ما أُمر به وأنه لم يؤخر كتأخيرهم وأن اتباعهم له وطاعتهم له يوجب اقتدائهم به بادروا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثال أمره. ز- جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وأن لا يرد من ذهب من المسلمين إليهم من غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن ولا سبيل إلى دعوى النسخ من غيره بغير موجب. ح- أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلماً إلى غير بلد الإمام وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أبا بصير حين جاءه ولا أكرهه على الرجوع ولكن لما جاءوا في طلبه مكنهم من أخذه ولم يكرهه على الرجوع. ط- أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحداً منهم لم يُضَمّنه بدية ولا قود ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة وهي من حكم المدينة ولكن كانوا قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه. ي- أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم سواءً دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا, والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين، وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين. (¬1) ¬

_ (¬1) - انظر زاد المعاد في هدي خير العباد - مصدر سابق. ج3 - 300 إلى 309.

الشورى في الفتح الأعظم

الشورى في الفتح الأعظم إن فتح مكة يعتبر من أعظم الفتوحات بركة, فقد أعز الله به دينه ورسوله ودخل الناس به في دين الله أفواجاً وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً, وقد هيأ الله لذلك أسباباً حيث كان قد تقرر في صلح الحديبية أنه من أراد أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل, فدخلت بنو بكر في عهد قريش وعقدهم، ودخلت خزاعة في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهده (¬1) , وكان بين خزاعة وبكر ترة قديمة وعداوة متوارثة ولما كانت الهدنة قد أدخلت القبيلتين في عسكرين متحاربين أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصة ليصيبوا من خزاعة الثأر القديم فبيت نفر من بني بكر لخزاعة وهم على ماء لهم فأصابوا منهم رجلاً وتناوشوا واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم أشراف من قريش مستخفين ليلاً حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر لبعض رجالهم إنا قد دخلنا الحرم الهك الهك فقال: كلمة عظيمة لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري أنكم تسرقون في الحرم فلا تجدون هذه الفرصة بعد ذلك (¬2) , وخرج عمرو بن سالم الخزاعي وقدم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فوقف عليه وهو واقف في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولداً وكنا والداً ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصراً أبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا إن سيم خسفاً وجهه تربّدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعوا أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا ¬

_ (¬1) - انظرالسيرة النبوية لابن هشام ج 3 - ص 332، والسيرة النبوية لأبي الحسن علي الحسني الندوي ص 330، وزاد المعاد في هدي خير العباد ج 3 - ص298. (¬2) - انظر زاد المعاد ج 3 - ص 396. والسيرة النبوية لأبي الحسن علي الحسني الندوي ص 336.

يقول قتلنا وقد أسلمنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم (¬1)، وقد أورد أصحاب السير مجيء أبي سفيان إلى المدينة وتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وإعداد عدته لغزو قريش وأنه استكتم الناس. وقد نقل قصة تشاوره صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح مع أصحابه كما ذكر الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس نقلاً عن المصنّف لابن أبي شيبة حيث قال: أنها قد غدرت قريش وبنو بكر بحلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خزاعة وجاء أبو سفيان بعد ذلك ليجدد العقد والعهد والتقى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الموقف من قريش ليجدد العقد والعهد، واستشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الموقف من قريش وقد نقضوا العهد فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله هم رأس الكفر هم الذين زعموا أنك ساحر وأنك كاهن وأنك كاذب وأنك مفتر ولم يدع شيئاً مما كان أهل مكة يقولونه إلا ذكره، وأيم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة. (¬2) ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ديدنه المشاورة خاصة في الأمور التي لا نص فيها وقد كان الفتح الأعظم لمكة المكرمة صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة (¬3) وكان بعد غزوة أحد وقد نزل قول الحق سبحانه وتعالى (وشاورهم في الأمر) وقد أعد العدة صلوات الله عليه وأخذ الجيش طريقه بصمت والتقى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس وقد كان في طريقه للهجرة واستبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس معه وأرسل أهله إلى المدينة ولم يخبر الناس صلى الله عليه وآله وسلم بتوجهه إلى مكة إلا بعد أن تجاوز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حرتي المدينة وفي الطريق أيضاً التقى بأبي سفيان بالقرب من مكة. ¬

_ (¬1) - انظر الهدي النبوي ص 396. واستنصار خزاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء في حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة وأخرجه ابن إسحاق في المغازي كما في دلائل النبوة للبيهقي وسنده صحيح ورجاله ثقات. وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث كما في الإصابة لابن حجر. وانظر ترجمة عمرو بن سالم الخزاعي برقم 5837. (¬2) - انظر الشورى في غزوات الرسول - تأليف الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس ص 61 نقلاً عن المصنف لابن أبي شيبة ج4 - ص506. (¬3) - السيرة النبوية لأبي الحسن علي الحسني الندوي ص343.

أما قصة حاطب بن أبي بلتعة فقد كانت والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في المدينة والقصة مشهورة فلا حاجة إلى إيرادها هنا ويكفي الإشارة إليها بما يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أعلم أهل بدر من المهاجرين والأنصار على خطته في الذهاب إلى مكة وما أجمع عليه الرأي من المسير إلى مكة، ولهذا نزل الوحي من السماء ينهى عن خيانة الله ورسوله وابتعث الرسول علياً والمقداد رضي الله عنهما لتفتيش المرأة التي ابتعثها حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش برسالة فيها إفشاء لسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما عزم عليه وأصحابه من غزو مكة عنوة، وقد كان من كرمه صلى الله عليه وآله وسلم أن عفى عن أهل مكة بعد أن أسلم أبو سفيان وهو على مقربة من مكة، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مزية وهو أن من دخل دار أبي سفيان كان آمن ومن أغلق داره فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن. ويستفاد من فتح مكة العظيم أمور كثيرة ومنها: الشورى على ما ذكره الدكتور أبو فارس نقلاً عن المصنّف لابن أبي شيبة وهو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استشار أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الموقف وذلك لأنهما كانا وزيريه، ولأن سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو عدم الانفراد بالقرارات العسكرية المصيرية, بل دأبه أن يستشير أصحابه وأن يستمع إلى أقوالهم وأن يستفيد منها إلتزاماً بقول الله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) , ومما لا شك فيه أن فتح مكة كان مما وعد الله به رسوله، ويستفاد من هذه الغزوة وهذا الفتح العظيم الأمور التالية: 1) وجوب الاحتفاظ بالأسرار العسكرية خاصة في الأمور الهامة والاستعانة بالكتمان واتخاذ أسلوب الهجوم والمباغتة في الحرب بعد الاستشارة إذا لم يكن العدو معاهداً إلا إذا نقض العهد. 2) استشارة أهل الفضل والصلاح والتخصص والاستقامة والرأي. 3) العفو عند حصول القدرة لما ثبت في القصة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش بعد أن دخل الكعبة وهدم الأصنام فخطب الناس وذكر الله وقال: (يا معشر

قريش ما ترون أني فاعل بكم, قالوا: خيراً, أخٌ كريم وابن أخ كريم. قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ) اذهبوا فأنتم الطلقاء. (¬1) 4) أن من مكنه الله في الأرض بالنصر وجب عليه إقامة التوحيد ونشر الدعوة الإسلامية وإزالة المنكرات لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين طاف بالبيت كان يطعن الأصنام بالقوس، ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (¬2) (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) (¬3). 5) رد الأمانات إلى أهلها وذلك اقتداءً بهديه صلى الله عليه وآله وسلم فقد جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام فقام إليه علي رضي الله عنه وكرم وجهه ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين عثمان بن طلحة, فدعي له فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان اليومُ يومُ بر ووفاء (¬4). 6) الشكر عند حصول النصر والنعمة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن هدم الأصنام وطهر البيت وطاف به سبعاً ثم اتجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى دار أم هانئ بنت أبي طالب وصلى ثمان ركعات في بيتها، قال ابن القيم وكانت ضحى فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصناً أو بلداً صلوا عقب الفتح هذه الصلاة اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكراً لله عليه فإنها قالت ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها. (¬5) 7) ¬

_ (¬1) - انظر زاد المعاد في هدي خير العباد ج 3 - ص 408. (¬2) - الآية 81 من سورة الإسراء. (¬3) - الآية 49 من سورة سبأ. (¬4) - السيرة النبوية لأبي الحسن علي الحسني الندوي ص345. نقلاً عن السيرة لابن هشام. (¬5) - زاد المعاد ج 3 - ص 410.

نصب القضاة والولاة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين في مكة عَتّاب بن أسيد أميراً عند ذهابه إلى حنين. 8) جواز إجراء التفتيش الإداري والعسكري على الرجال والنساء عند الضرورة لدرء الخطر دل على ذلك ما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة, فإن علياً والمقداد رضي الله عنهما قالا للضعينة لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك. قال ابن القيم: وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى. (¬1) 9) جواز دخول مكة للحرب المباحة من غير إحرام إلى غير ذلك من الأحكام والحكم التي لو ذهبنا نجمعها من مصادرها ونتقصاها لاحتجنا إلى مجلدات وأسفار. ¬

_ (¬1) - زاد المعاد ج 3 - ص 324.

الشورى في غزوة حنين وأوطاس

الشورى في غزوة حنين وأوطاس وهما موضعان بين مكة والطائف وقد سميت الغزوة باسم مكانها كما يقول الإمام ابن القيم، وتسمى غزوة هوازن لأن قبيلة هوازن هم الذين أتوا لقتال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن إسحاق: لما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فتح الله عليه في مكة جمعها مالك بن عوف النصري واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ومضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس غيلان إلا هؤلاء ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم, وفي الأحلاف قارب بن الأسود وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري فلما أجمع السير إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ساق مع الناس نسائهم وأموالهم وأبنائهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حَزْن ضرس ولا سهل دهس (¬1) ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء. قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك. ودعي له قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء. قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فقال راعي ضأنٍ (¬2): والله وهل يرد المنهزم شيء, إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب. قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحد (¬3) والجد, لو كان يوم علاء ورفعة لم تغبه كعب ولا كلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر قال: ذلك الجذعان (¬4) من عامر لا ينفعان ولا يضران يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم ألق الصباة (¬5) على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال والله لا أفعل, إنك قد كبرت وكبر عقلك لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي، فقالوا أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صدع ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد، وبعث أعيناً من رجاله فأتوه وقد تفرق أوصالهم. قال: ويلكم ما شأنكم. قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيول بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى, فوالله ما رده ذلك عن وجهه إن مضى على ما يريد. (¬6) وقد حكى أصحاب السير أنه لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم فدخل فيهم وعرف ما أجمعوا عليه من حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأتى بالخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على السير وأمر المسلمين أن ينفروا نفرة رجل واحد إلى هوازن, فوافأهم عند وادي حنين وقد جمعوا نحواً من ثلاثين ألف مقاتل من ثقيف وجشم ونضر وقيس بن غيلان ورئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمة من عباقرة الحرب ¬

_ (¬1) - الحَزْن بفتح الحاء وسكون الزاي, ما ارتفع من الأرض، والضرس الذي فيه حجارة محددة، والدهس ما سهل ولان من الأرض ولم يبلغ أن يكون رملاً. (¬2) - يجهله بذلك كما قال الشاعر: أصبحت هزاءً لراعي الضان أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان. (¬3) - أراد بالحد النشاط والسرعة والمضاء في الأمور. (¬4) - يريد أنهما ضعيفان في الحرب بمنزلة الجذع في سنه. (¬5) - الصباة جمع صابئ كقضاة وقاضي وهم المسلمون عندهم كانوا يسمونهم بهذا الإسم لأنهم صبئوا عن دينهم أي خرجوا من دين الجاهلية إلى دين الإسلام. (¬6) - انظر زاد المعاد ج 3 - ص 468.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ من صفوان بن أمية أدرعاً وسلاحاً فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ فقال: (بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك) (¬1) , وقد خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ومعه ألفان من أهلها وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، وقد كان المسلمون في بداية المعركة قبل أن يتمكنوا في الوادي انقضّت عليهم كتائب المقاتلين من هوازن ففر من فر من المسلمين وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أصحابه, وكانت المعركة كما أخبرنا الله بقوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (¬2) , وقد كانت غنائم المؤمنين عظيمة وكبيرة, فيها سبي ومال وكان سبب ذلك أنهم أخرجوا نساءهم وأموالهم معهم حتى لا يجبنوا في القتال، وقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك الغنائم بلا قسمة رجاء أن يسلم أصحابها أو يساومهم بها على عقد حسن جوار، وبقيت الغنائم مجموعة في الجعرانة إلى حين فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة الطائف، (¬3) وقد نصر الله تبارك وتعالى في هذه الغزوة محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على قبيلة هوازن فقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك الغنائم والنساء وبعد قسمة النبي الغنائم جاء وفد هوازن مسلماً يطلب المن, وجاء في قصة استشارته صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشأن هوازن ما يؤكد حق الشورى في أمور كهذه, فقد ذكر ابن هشام في السيرة أن وفد هوازن أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أسلم فقالوا يا رسول الله إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن علينا مَنَّ الله عليك. قال فقام رجل من هوازن فقال: يا رسول الله إنما من في الحضائر عماتك وخالاتك وحواضنك التي كن يكفلنك لو أنا ملحنا (¬4) للحارث بن أبي ¬

_ (¬1) - هذا حديث حسن أخرجه أبو داود في سننه حديث 3562. وقد أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما. (¬2) - الآيات 25، 26 من سورة التوبة. (¬3) - انظر صفوة السير- إعداد الدكتور محمد الحبش - الطبعة السادسة ص 266. (¬4) - ملحنا: أرضعنا.

شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل بنا مثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته (¬1) علينا وأنت خير المكفولين. قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم, فقالوا: خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا. فقال لهم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم, وإذا ما صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم, فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبني تميم فلا, وقال عيين بن حصن: أما أنا وبني فزارة فلا, وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا, فقال بنو سليم: بلا ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني, فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما من تمسك بحقه في هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم (¬2). وذكر ابن كثير الشامي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هؤلاء قد جاءوا مسلمين وإنا قد خيرنأهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً, فمن كان عنده شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا: يا نبي الله قد رضينا وسلمنا. قال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم يرفعوا ذلك إلينا. فرفع إليه العرفاء أن رضوا وسلموا. (¬3) ¬

_ (¬1) - عائدته: فضله. (¬2) - ابن هشام في السيرة ج4 - ص 131 - 132. (¬3) - انظر ابن كثير في السيرة ج2 - ص 243. وذكر نحوه الإمام ابن القيم في زاد المعاد ج3 - ص 476.

ويستفاد من هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أدار المعركة بحنكة واقتدار ويتلخص منها ما يلي: 1) أن ولي الأمر (السلطان أو الملك أو الرئيس) عليه أن يبعث العيون والمخابرات بحسب تسمية اليوم في جيش عدوه. 2) أن من حق ولي الأمر وقائد الأمة أن يستعير سلاحاً عند الحاجة يستعين به في المعركة حتى وإن كان من مشرك أو كافر كما استعار النبي من صفوان بن أمية. 3) يستفاد أيضاً من هذه القصة أن العارية يدخلها الضمان فيجب ردها بعينها. 4) أن المسلمين قد غنموا غنائم كبيرة وكثيرة وكأن الله عوضهم عن فتح مكة فلم يغنم المسلمون منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً. 5) أن الاغترار بالكثرة وعدم الاعتماد على الله سبحانه وتعالى يكون سبباً في الهزيمة وإن كانت العدة والعدد مطلوبة مع الإيمان والعزيمة. 6) أن النصر إنما هو من عند الله فمن ينصره الله فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره، ومع ذلك لا بد من الأخذ بالأسباب وإعداد العدة. 7) إعطاء الغانمين حظهم من الغنيمة وجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من خمس الخمس، فإعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفوان بن أمية عطاءً كبيراً يدل على استحباب استمالة أهل الوجاهة من أهل الكفر الذين ينصلح بهم أمر الإسلام؛ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. 8) الإرشاد إلى مشاورة أصحاب الحقوق إذا ما أراد الإمام أن يتصرف بشيء من الغنيمة بعد قسمتها ففي هذه القصة نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار فاختلف بعض رؤساء القبائل مع مقاتليها، وهم أصحاب الحقوق فمنهم من بذلها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من لم يتنازل عن حقه, لأنه لما اختلط الأمر والتبس طلب من الأمراء أن يأخذوا رأي أصحاب الحقوق فالمستشار هنا هم أصحاب الحقوق وعرفاءهم، ويستفاد من ذلك أنه ليس لولي الأمر مصادرة حقوق المقاتلين إلا إذا طابت نفس الغانمين بذلك.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم تطب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا)، وفي هذا دليل على جواز بيع الرقيق بالحيوان بعضه ببعض نسيئة متفاضلاً. (¬1) ومن خلال هذه النماذج الذي أتينا عليها في الشورى في الحرب من عصر النبوة يتبين لنا أن الشورى بأي صورة اتخذت وعلى أي طريقة طبقت فإن الشريعة الإسلامية تقره وترتضيه إذا كان محققاً لمقاصدها التي جاءت بها الشريعة وهو مثبتٌ لحق الأمة في المشاركة في صنع القرار بحسب ما تقتضيه مصالح الأمة ويقوم به العدل فيها بشرط ألا يعارض نصاً في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ¬

_ (¬1) - زاد المعاد ج4 - ص 486.

الشورى في أيام الخلفاء الراشدين

الشورى في أيام الخلفاء الراشدين لم تكن الشورى في الحرب والسلم مقصورة على أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان الخلفاء يستشيرون في ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينصح أمراءه وقادته بأن لا يبرموا أمراً حتى يتشاوروا، فقد ورد في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد حين وجهه لحرب المرتدين قوله: واستشر من معك من أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله تبارك وتعالى موفقك بمشورتهم. (¬1) ولما عزل أبو بكر رضي الله عنه خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة وكان أحد الأمراء قال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثلما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج, والياً فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي تقيّ ناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل, وليكن الثالث خالد بن سعيد فإنك واجد عندهم نصحاً وخبرة, وإياك واستبداد الرأي عليهم أو تطوي عنهم بعض الخبر. (¬2) ¬

_ (¬1) - انظر فجر الإسلام لأحمد أمين - الطبعة الأولى ص 239، والدكتور محمود عبدالمجيد الخالدي في قواعد نظام الحكم في الإسلام ص 140 نقلاً عن فتح الباري ج17 ص 105، وعز الدين التميمي في الشورى بين الأصالة والمعاصرة ص 80. (¬2) - انظر حياة الصحابة للداعي إلى الله محمد يوسف - الطبعة الأولى ج2 - ص 107.

الشورى في الحرب بشأن المرتدين في أيام أبي بكر رضي الله عنه

الشورى في الحرب بشأن المرتدين في أيام أبي بكر رضي الله عنه قال في تاريخ الخميس وقدم على أبي بكر رضي الله عنه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب فدخلوا على المهاجرين والأنصار وقالوا: إنه قد ارتد عامة من وراءنا وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن تجعلوا لنا جعلاً نرجع فنكفيكم من وراءنا فدخل المهاجرون والأنصار على أبي بكر فعرضوا عليه الذي عرضوا عليهم وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك مَن وراءهما حتى يرجع إليك أسامة وجيشه ويشتد أمرك, فإننا اليوم قليل في كثير ولا طاقة لنا بقتال العرب. قال أبو بكر هل ترون غير ذلك؟ قالوا: لا. قال: إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم بالمشورة فيما لم يمضِ فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم وإن الله لم يجمعكم على ضلالة وإني سأشير عليكم وإنما أنا رجل منكم, تنظرون فيما أشرته عليكم وفيما أشرتم به فتجتمعون على أرشد ذلك فإن الله يوفقكم, أما أنا فأرى أن نشد إلى عدونا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وألا ترضوا على الإسلام أحداً وأن تتأسوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعوني عقالاً لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه من أهله وأدفعه إلى مستحقه، فأتمروا يرشدكم الله فهذا رأيي. فقالوا لأبي بكر لما سمعوا رأيه أنت أفضلنا رأياً ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر الناس بالتجهز وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردة. (¬1) وفي البداية والنهاية لابن كثير أنه بعد أن أنفذ الصديق رضي الله عنه جيش أسامة قلَّ الجند فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وأن الصديق رضي الله عنه جعل على أنقاب المدينة حراساً، وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يُقِرّون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، وفيهم من امتنع من دفعها إلى الصديق رضي الله عنه، وذكر أن منهم من احتج بقوله ¬

_ (¬1) - انظر محمد أحمد باشميل في حروب الردة. ص 22 - الطبعة الأولى 1399هـ - 1979م دار الفكر - نقلاً عن تاريخ الخميس.

تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) (¬1) قالوا فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا وأنشد بعضهم: أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فواعجباً ما بالُ ملك أبي بكر ثم ساق ابن كثير ما دار بين أصحاب رسول الله مع أبي بكر حول تركهم وتألفهم وامتناع الصديق رضي الله عنه وما قاله عمر رضي الله عنه وما رد به الصديق على نحو مما سلف بيانه. (¬2) وجاء في صحيح البخاري قال: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثنا عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه (¬3) وكفر من كفر من العرب فقال عمر رضي الله عنه: فكيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه, وحسابه على الله. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعلمت أنه الحق. (¬4) وهذا الحديث نص في الشورى وأنها كانت ديدن الخلفاء الراشدين ومعتمدهم, وأنه لم يعارض أحد إلا عمر رضي الله عنه ثم تابع أبا بكر الصديق رضي الله عنه وقد كان رأي أبي بكر رضي الله عنه في حرب المرتدين ومانعي الزكاة رأياً موفقاً. ¬

_ (¬1) - سورة التوبة (103). (¬2) - أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 770 في البداية والنهاية ج6 - ص 311 الناشر: مكتبة المعارف - بيروت - لبنان. (¬3) - كان أبو بكر: أي تولى أبو بكر. (¬4) - انظر صحيح البخاري كتاب الزكاة - باب وجوب الزكاة - حديث (1399و1400و1456و1457و6924و7284)، وأخرج أبو داود في سننه بنحوه في كتاب الزكاة حديث 1556.

الشورى في الحرب في أيام عمر رضي الله عنه

الشورى في الحرب في أيام عمر رضي الله عنه لما تكاثفت جيوش الفرس على الجيش الإسلامي وخشي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المسلمين أراد أن يخرج بنفسه لقتالهم فاستشار كبار الصحابة رضوان الله عليهم فقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة, وهو دين الله الذي أظهره الله وجند الله الذي أعده وأمده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث ما طلع, ونحن على موعد من الله والله منجز وعده وناصر جنده ومكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويلمه فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً, والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً هم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع, فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب, وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك, إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لِكَلبِهم عليك وطمعهم فيك, فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره, وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصرة والمعونة. (¬1) ¬

_ (¬1) - انظر نهج البلاغة جمع السيد الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب وعليه شرح يحل غريبه وموجز جمله للأستاذ للشيخ محمد عبده وبعض إيضاحات من شرح العلامة ابن أبي الحديد بقلم محيي الدين الخياط -يقع الجزء الأول الجميع في 512 صفحة من القطع الصغير - طبعة محمد كمال بكداش -بيروت, لبنان -ص 288، 289.

عمر رضي الله عنه يستشير في الذهاب إلى العراق

عمر رضي الله عنه يستشير في الذهاب إلى العراق جاء في البداية والنهاية لابن كثير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اليوم الأول من المحرم سنة 14هـ ركب في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صرار فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب واستصحب معه عثمان بن عفان وسائر الصحابة ثم عقد مجلساً واستشار أصحابه فيما عزم عليه ونودي أن الصلاة جامعة وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة ثم استشارهم فكل وافقه على الذهاب إلى العراق إلا عبد الرحمن بن عوف فقال له إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمون في سائر الأرض, وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة فأتى عمر رضي الله عنه الناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف فقال عمر: من ترى أن نبعث إلى العراق؟ قال: قد وجدته قال: ومن هو قال الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل إلى سعد فأمره على العراق وأوصاه فقال: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه, فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيئ بالحسن وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته, فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء, الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة, فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فألزمه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين. (¬1) ¬

_ (¬1) - البداية والنهاية لابن كثير ج7 - ص (35) وما بعدها.

عمر رضي الله عنه يستشير في الخروج لقتال الروم

عمر رضي الله عنه يستشير في الخروج لقتال الروم لقد شاور عمر رضي الله عنه كبار الصحابة في غزو الروم بنفسه فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة (¬1) وستر العورة والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون حي لا يموت. إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة فإن أظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين. (¬2) ويستفاد من هذا أن عمر رضي الله عنه كان يستشير في أمور الحرب شيوخ صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من السابقين الأولين في الإسلام من المهاجرين والأنصار. عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة في ذهابه لاستلام بيت المقدس لما حاصرت جيوش المسلمين مدينة القدس فقد ذكر المؤرخون أن سكان المدينة خرجوا إلى أبي عبيدة بن الجراح مستأمنين يتقدمهم قائدهم صفرونيوس فطلبوا الصلح فتلقأهم بالترحيب وخاطبهم بدعة ولين قائلاً لهم: إن التسليم أكثر نفعاً لكم فانصاعوا: ولكنهم اشترطوا أن لا يسلموا المدينة إلا إلى الخليفة فوافقهم وأمر الجند أن يكفوا عن القتال فصارت هدنة ثم كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعرض عليه الموقف العسكري وعرض عليه القدوم إلى بيت المقدس وأنه اتخذ كل الاحتياطات لسلامته من الغدر وختم كتابه بالعبارة التالية: وإن رأيت أن تقدم فافعل فإن مسيرك أجر وصلاح آتاك الله رشدك ويسر أمرك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ¬

_ (¬1) - الحوزة: ما يحوزه الملك ويتولا حفظه. (¬2) - نهج البلاغة ص 274، 275 مصدر سابق.

ولما وصل الكتاب إلى عمر رضي الله عنه جمع أهل العقد والحل واستشارهم في الأمر, فكان رأي عثمان أن لا يذهب الخليفة بنفسه إذ أن العدو لا بد أن يضطر للتسليم ما دام أصيب بالضعف والرعب، وكان رأي علي أن يصير الخليفة إلى فلسطين عملاً برأي قائده المحنك خشية أن ييأس العدو إذا رفضت شروطه المعقولة فيتمسك بحصنه أو يأتيه مدد من عدو آخر فيتغير الموقف وتنعكس الآية ويصيب المسلمين ضرر عظيم. وفي النهاية أخذ الخليفة برأي علي وسار إلى بيت المقدس بعد أن استخلفه على البلاد. (¬1) وهذه النماذج تؤكد في عهد الخلفاء الراشدين والنبوة ضرورة الشورى وإلزاميتها, وأنه لا رشد ولا صلاح للأمة دون التمسك بهذا المنهاج. أما القوانين الوضعية في الدول العصرية فإن الدساتير تقرر حق القائد في اتخاذ القرار بإعلان حالة الطوارئ والحرب والتعبئة العامة, ولكنها تقيد حق اتخاذ القرار والمصادقة على ما يصدر بدعوة مجلس النواب أو الشورى أو الاستشاري فإذا لم يتم العرض على هذه المجالس تتم المصادقة خلال المدد التي يحددها الدستور. والقانون اليمني يحددها بسبعة أيام وإلا فإن حالة الطوارئ تزول ولا يجوز تمديد هذه الفترة إلا بموافقة مجلس النواب، ولا تكاد القوانين الوضعية تختلف على تقرير هذه المبادئ التي كانت الشريعة الإسلامية سابقة النظم الوضعية في ذلك. ¬

_ (¬1) - الشورى بين الأصالة والمعاصرة لعز الدين التميمي ص 96. نقلاً عن عارف العارف من المفصل في تاريخ القدس 88، 89.

المبحث الخامس

المبحث الخامس بيان من هم أهل الشورى وما هي الصفات التي ينبغي أن تتوافر فيهم إذا كانت الشورى لها مكانة كبيرة في حياة الأمم فإنه من الضرورة البحث عن الصفات التي ينبغي أن تتوافر في أهل الشورى, لأن المهام التي تلقى على عاتقهم كبيرة, فهم ينوبون تارة عن الشعب في التشريع فيما لم يرد فيه نص، وتارة في الرقابة على أعمال الحكومة, وأخرى يشيرون فيها على ولي الأمر بمن يتولى الوظائف العامة والهامة, إلى غير ذلك من المهام الجسيمة, فكان لا بد لنا أن نبحث عن صفات أهل الشورى وملامحهم في الكتاب والسنة وفي أقوال أئمة التفسير والعلماء وفي النظم القانونية لكي نخرج بحصيلة توضح ما التبس على كثير من الناس من أحوال المرشحين للمجالس النيابية أو الشورى وذلك لغرض الوصول بالقارئ لدراستنا هذه إلى ما أفصح عنه القرآن والسنة والعلماء وليكون على بصيرة من الأمر, فقد تظافرت أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإفادة من صفات أهل الشورى بعبارة النص أو بإشارة النص, وأورد ذلك العلماء في أكثر من موضع ونلخص من ذلك ما يأتي: صفات أهل الشورى: أولاً: ما ورد في القرآن الكريم جاء في سورة الشورى تعدد صفات أهل الإيمان والصدق والإخلاص والتسامح وكرم الأخلاق وأهل الشورى والرأي. قال تعالى: (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (¬1). فإذاً لا بد من أخذ هذه الآيات كمنظومة متكاملة, أي أنه ينبغي أن يكون أهل الشورى من أهل الإيمان بالله والتوكل عليه وأن يكونوا ممن يجتنب إتيان كبائر الإثم والفواحش, أي ¬

_ (¬1) - الآيات 36 - 39 من سورة الشورى.

أنه لا بد أن يكون حسن السيرة والسلوك مجتنباً لما نهى الله ورسوله عنه من الكبائر، صفته التسامح والاستجابة لله عز وجل والمحافظة على الشعائر الدينية, ويلاحظ أنه قد ورد في النص القرآني (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) أي كانوا سريعين في الاستجابة لأوامره ونواهيه, وأنها قد جاءت الصيغة في الاستجابة وإقامة الصلاة والإنفاق فِعْليَّه, ثم أتى في ثناياها بصفة الشورى بجملة إسميّة مما يفيد ثبوت هذه الصفة لهم في كل أحوالهم, وهذا إشعار رباني لطيف يشير إلى أهمية وجلالة شأن أمر الشورى. أما سورة آل عمران التي نزلت بعد غزوة أحد فإن النص القرآني جاء ليخاطب الله المؤمنين فيه خطاباً مباشراً حيث يقول الله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أو كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أو قُتِلْتُمْ لَإلى اللَّهِ تُحْشَرُونَ* فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (¬1) , والنص يخاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المؤمنين بعد أن أمره بالعفو عنهم والاستغفار لهم، ونقل أبو حيان والقرطبي عن ابن عطية أنه أُمر بالعفو عنهم فيما يخصه, فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستغفار في مالله, فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور, قال أبو حيان ولا يظهر هذا التدريج في اللفظ ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض, أمر أولاً بالعفو عنهم إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ودليل على رضاه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم وعدم مؤاخذته، ولمّا سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وآله وسلم ورضا الله تعالى. ولما زالت عنهم التبعات في ¬

_ (¬1) - الآيات 156 - 160 من سورة آل عمران.

الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة, إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة. (¬1) قلت ويستفاد من الآية أنه ينبغي أن يكون من صفات المستشار أن يكون أميناً محباً صادقاً مؤمناً, إذ العدو لا يستشار, ومخالفة المشير لولي الأمر اجتهاداً أو ظناً للصواب في تلك المخالفة لا يقتضي حصول عداوة مانعة من الاستشارة ولا يقتضي الحقد على المخالف أو العزيمة على عدم مشاورته أو عدم مشاركته بالرأي في أمور الأمة إذا كان من أهل الرأي، ولهذا أمر الله رسوله بالعفو عن الصحابة فيما أخطؤوا فيه من مخالفته لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ومسارعتهم إلى الغنيمة واختلافهم في الرأي مع أمرهم بالبقاء في جبل الرماة وأمره أن يستغفر لهم, لأن مخالفة النبي ومخالفة الأمير معصية لله لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (¬2). وقد حذر الله المؤمنين من مخالفة الله ورسوله كما أن أصحاب الرأي يجب عليهم ألا يشيروا إلا بما فيه طاعة لله ورسوله وصلاح لشؤون الأمة, ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (¬3) , وهي عامة في الرأي وغيره من الأمانات، وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أبا لبابة لما استشاره يهود قريظة فأشار عليهم بما فيه مصلحتهم شعر فوراً بهذه الفلتة الخاطئة ثم تاب منها وقبلت توبته (¬4). ففي ذلك ما يفيد أن الشورى أمانة, وإنما شرعت لجلب المصالح المشروعة للمسلمين وصرف الأضرار والمحرمات عنهم لا أن تستخدم آراء المسلمين في إعانة عدوهم عليهم أو في إباحة ¬

_ (¬1) - انظر التفسير الكبير المسمى البحر المبسط. تأليف أثير الدين أبي عبدالله محمد يوسف علي بن حيان الأندلسي القرطبي الحياني الشهير بأبي حيان. وبهامشه النهر الماد من البحر، وكتابه الدرر اللقيط من البحر المحيط ج3 - ص99. الطبعة الثانية - الناشر دار إحياء التراث العربي 1411هـ - 1999م. (¬2) - الآية 59 من سورة النساء. (¬3) - الآية 27 من سورة الأنفال. (¬4) - انظر الإمام ابن جرير الطبري في تفسير الآية في جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج7 - ص481، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج7 - ص394.

المحرمات وانتهاك الحرمات, كما أنه يجب على ولاة الأمور أن يكونوا أصحاب عفو وصفح فيما قد يحصل من خطءٍ عليهم وأن لا يقاطعوا أصحاب الرأي من أهل الإيمان حتى وإن أخطؤوا, بل يجب التجاوز عنهم باعتبار أن أهل الشورى هم أهل أمانات, وقد أمر الله في سورة النساء بأداء الأمانات إلى أهلها فقال جل شأنه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا) (¬1) وإذا ما عدنا إلى سورة آل عمران نجد أن الحق سبحانه بعد أن أمر رسوله بالمشاورة قال: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فقد أمر الله جل وعلا رسوله وولي الأمر من بعده أن يتوكل على الله وأزجى إثر ذلك دعوة حارة للجميع في الدخول في محبة الله فقال: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). قال الإمام الفخر الرازي أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتغليظ والتشديد, وإنما خاطبهم بالكلام اللين, ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أرشدهم إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم كان من جملة ذاك أن عفا عنهم وذكر عدة فوائد في مشاورتهم فقال إن مشاورة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفضاضة. (¬2) قلت وهكذا ينبغي أن يكون ولاة الأمر حينما يشاورون أهل الرأي من المؤمنين حتى وإن أخطؤوا فإن ذلك يكون سبباً لمحبتهم، وقد دل الأمر لرسول الله صلى الله عليه وآلع وسلم بمشاورتهم أن للمؤمنين عند الله قدراً وقيمة ومكانة حتى وإن أخطؤوا وكذلك عند الناس, وفيه دلالة أيضاً على أن من يحصل منه الخطأ مرة لا يمكن أن تكون القاعدة أن كل آرائه تكون خطأ. ¬

_ (¬1) - الآية 58 من سورة النساء. (¬2) - انظر مفاتيح الغيب للإمام الكبير محمد عمر حسين التميمي البكري الشافعي الرازي ج9 - ص56 - المكتبة التوفيقية - القاهرة.

ومع ذلك فإن الإستشارة إنما تكون بقصد تحري الصواب والوصول إليه, فقد شرعت لجلب المصالح ودفع الضرر, أما الاعتماد فإنما هو على الله وحده فهو الموفق والهادي، وقد قال الفخر الرازي في قوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد من المشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على أعانه الله وتسديده وعصمته, وقد دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه كما يقول بعض الجهال وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل التوكل أن يرعى الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق. (¬1) وذكر العلامة الألوسي أن الله تعالى أمر نبيه وكذا ولي الأمر من بعده وكل مستشير بالتوكل عليه والإنقطاع إليه, لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاجات إلا عند بابه. (¬2) والذي يستفاد من القرآن الكريم ومن خلال ما أشرنا إليه نقلاً عن العلماء في تفسير الآيات القرآنية أنه ينبغي أن تتوافر في المشير أو أهل الشورى الصفات الآتية: 1) أن يكون بالغاً راشداً حسن السيرة والسلوك. 2) أن يكون المشير من أهل الإيمان بالله والتوكل على الله سبحانه وتعالى وتلك سجية المؤمن. 3) أن يكون من أهل الأمانة والنصيحة والرأي والخبرة في الأمر المستشار فيه. 4) أن يكون من أهل الصدق والحلم والشجاعة في الحق والأناة, وبهذا التطبيق نكون قد علمنا أن أهل الشورى هم نخبة من العلماء وأهل التقوى والصلاح، ولا يعني ذلك المفاضلة بين الناس إلا على أساس من التقوى والعلم والمعرفة. ¬

_ (¬1) - الفخر الرازي ج9 - ص59. (¬2) - انظر روح المعاني في تفسير القرآن للعلامة الألوسي ج4 - ص107.

وفي ذلك رد الأمور إلى أصحاب الخبرة والصلاح والصدق ورد إلى أهل الذكر, فالله سبحانه وتعالى يقول: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (¬1) , ويقول: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (¬2) , إذاً فهي مسألة تكاملية فلربما تتوافر صفات أهل الشورى فيمن تختارهم الأمة مجتمعين ولا تتوافر الصفات كلها في كل فرد من أفرادهم, فالبحث عن هؤلاء من بين أفراد الأمة ليكونوا أعضاء في مجلس النواب أو مجلس شورى أو هيئة استشارية لمن ينوب عن الأمة هي ضرورة لا بد منها لأن الله يقول: (وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (¬3) ولا يعني ذلك حجب الشورى عن بقية الأمة, فالنص القرآني عام في مشاورة الأمة مجتمعة ومنفردة فيمن تتوافر فيهم الأهلية والصلاحية، فالواجب الشرعي يقتضي تشكيل مجلس شورى يضم ممثلين عن الأمة يتشاورون في شؤونها العامة وأمورها الهامة عملاً بالنص القرآني (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وسواءً كان ذلك عن طريق الانتخاب كما هو جوهر النظام الشوروي أو عن طريق الاختيار وصدور القرار بتعيين هؤلاء, لأنه ينبغي في كل الأحوال أن تعتمد الأمة وولاة الأمر فيها على الشورى في تسيير أمور شؤون الحكم وغيرها إذا ما أرادوا السير على منهج الله, وأن يعتمدوا أخذ الرأي من أصحاب العلم والخبرة في شؤون الدولة كلها ويتشاور معهم في المسائل المعروضة, وهي بلا شك تحتاج إلى أنواع من المعرفة كما سبق أن أشرنا إلى أنه يستشار علماء الدين في شؤون الدين والأحكام والحلال والحرام والمهندسون في شؤون العمران والهندسة، وعلماء الصناعة وخبراؤها في شؤون الصناعة، وعلماء التجارة وخبراؤها في شؤون التجارة، وعلماء الزراعة وخبراؤها في شؤون الزراعة، ولكن ينبغي أن يكون علماء الدين القاسم المشترك في كل هذه الفنون حتى لا يخرج المستشارون في تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة وآدابها. ¬

_ (¬1) - الآية 43 من سورة النحل. (¬2) - الآية 59 من سورة الفرقان. (¬3) - الآية 83 من سورة النساء.

ثانيا: ما ورد في السنن النبوية وما يستفاد منها عن صفة أهل الشورى

ثانياً: ما ورد في السنن النبوية وما يستفاد منها عن صفة أهل الشورى إن المتتبع للهدي النبوي سيجد أن الأحاديث النبوية لا تخرج دلالتها في مجملها عن تفصيل وبيان ما أورده القرآن من الإشارة إلى صفات أهل الشورى، ولمزيد إيضاح وبيان نورد بعضاً مما ورد في السنة النبوية فنقول أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما أورده أبو داود في سننه عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المستشار مؤتمن) (¬1) , فهذا الحديث يشير إلى صفة الأمانة، والأمانة ملازمة للإيمان والصدق والأخلاق الفاضلة فهو مؤتمن على ما يشير فيه أمين فيه صفته الأمانة، وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) (¬2) وهذا الحديث يشير إلى صفة العلم, وجاء في صحيح البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرون العلماء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وكان القراء أصحاب مشورة عمر رضي الله عنه كهولاً كانوا أو شباناً، وكان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل. (¬3) وقال الحافظ ابن حجر: وأما تقييده بالأمناء فهي صفة موضحة لأن غير المؤتمن لا يستشار ولا يلتفت لقوله، وأما قوله بأسهلها فلعموم الأمر، وللأخذ بالتيسير والتسهيل والنهي عن التشديد الذي يدخل المشقة على المسلم. (¬4) وسبق أن أوردنا ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن النصيحة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (الدين النصيحة, قلنا: لمن؟ يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (¬5). ¬

_ (¬1) - أبو داود في السنن - كتاب الآداب - باب في المشورة - حديث 5121. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الآداب - باب المستشار مؤتمن - حديث 3745، 3746 والترمذي في كتاب الآداب - باب المستشار مؤتمن - حديث 2822، 2823. (¬2) - أبو داؤود - باب التوقي من الفتيا - حديث 3649. (¬3) - صحيح البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 28 باب قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم). (¬4) - فتح الباري شرح صحيح البخاري للعلامة الحافظ أحمد بن علي بن حجر ج12 - ص342. (¬5) - انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان - باب أن الدين النصيحة. حديث 55، 56. والبخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب بطانة الإمام وأهل مشورته. حديث 7204.

وهذه الأحاديث تدل على وجوب توافر صفة الأمانة والعلم والنصيحة وإرشاد الأمة إلى مصالحهم, وهي مؤكدة ومبينة لما ورد في كتاب الله عز وجل وفي ذلك إشارة إلى صفات أهل الشورى التي ينبغي أن تتوافر فيهم, ويكفي المتتبع للهدي النبوي ما أوردنا من استشارته صلى الله عليه وآله وسلم حرباً وسلماً في المباحث السابقة فلا نعيده هنا, وسيتعرف من خلال ذلك على صفة مشيريه صلوات الله وسلامه عليه وأنه طبق الشورى التي جاء بها القرآن، وسيدرك الإنسان صفات أهل الشورى وأن الحق والخير كان في اتباع منهج الله، ولا ضير من الإشارة هنا إلى صفات أهل الشورى التي ذكرها بعض علماء الأمة لأن في ذلك مزيد إيضاح وبيان وفائدة لمن يحب الاستزادة والاقتداء.

صفة أهل الشورى عند العلماء

صفة أهل الشورى عند العلماء لقد حرص العلماء والمحققون من الفقهاء والمفسرين استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله على بيان صفة المستشار، جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المستشار مؤتمن) , قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالماً ديناً وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرء ما لم يكمُل عقله فإذا استشير مَنْ هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه. قال الخطأبي وغيره: أما صفة المستشار في أمور الدنيا عند القرطبي فهو كما يقول وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير. قال الشاعر: شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل وقال آخر: وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه وقال البخاري: كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وقال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام, من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب وهذا مما لا خلاف فيه. (¬1) وقال أبو حيان في معرض تفسيره لقوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْلهم) ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وآله وسلم ورضا الله تعالى, ولما زالت التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة. (¬2) ¬

_ (¬1) - انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن - ج4 - ص249، 250. بتصرف. (¬2) - البحر المحيط ج2 - ص99.

وقال الماوردي: أنه إذا عزم على المشاورة ارتاد لها من أهلها من قد استكملت فيه خمس خصال: إحداهن عقل كامل مع تجربة سالفة؛ فإنه بكثرة التجارب تصح الروية، والخصلة الثانية: أن يكون ذا دين وتقى فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح؛ ومن غلب عليه الدين فهو مؤمن السريرة موفق العزيمة، والخصلة الثالثة: أن يكون ناصحاً ودوداً فالنصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحضان الرأي؛ وقد قال بعض العلماء لا تشاور إلا الحازم غير الحسود واللبيب غير الحقود، والخصلة الرابعة: أن يكون سليم الفكر من هِمٍّ قاطع وغمٍّ شاغل فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر وقد قيل في منثور الحكم كل شيء يحتاج إلى العقل والعقل يحتاج إلى التجارب، والخصلة الخامسة: أن لا يكون له في الأمر المستشار فيه غرض يتابعه ولا هوى يساعده فإن الأغراض جاذبة والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد، فإذا استكملت هذه الخصال الخمس في رجل كان أهلاً للمشورة ومعدناً للرأي فلا تعدل عن استشارته اعتماداً على ما تتوهمه من فضل رأيك وثقة بما تستشعره من صحة رؤيتك، فإن رأي غير ذي الحاجة أسلم وهو من الصواب أقرب لخلوص الفكر وخلو الخاطر وارتفاع الشهوة (¬1). وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية: أن الشروط المعتبرة فيمن يصلح جعله من أهل الإختيار أحدها: العدالة الجامعة لشروطها. الثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيه، والثالث: الرأي والحكمة والمؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف. (¬2) وقد ذكر الدكتور حسن ضياء الدين محمد: أنه لعل أوفى وأقدم المباحث في صفة أهل الشورى ما دبَّجة العلامة الماوردي, فإنه تحدث عن الشورى فأشاد بعظيم أهميتها لكل ذي عقل وإيمان، ثم أورد مقتبساً من كلامه في الصفات التي أوردها الماوردي في أدب الدنيا والدين، وهي إشادة في محلها. ¬

_ (¬1) - أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد بن حبيب الماوردي ص 260، 263 بتصرف. طبعة دار الكتب العلمية - بيروت. (¬2) - الأحكام السلطانية - مصدر سابق ص 4.

وقد ذكر الدكتور حسن ضياء الدين: أن أصحاب الشورى دائماً هم نخبة من خيار المسلمين في كل عصر وقطر, لذا فإن من البديهي أن تتوفر فيهم صفات المؤمنين التي ذكرها القرآن العظيم والحديث الشريف, لكن العلماء الأجلاء لم يتصدوا لسرد جميع صفات المؤمنين لدى حديثهم عن صفات أهل الشورى وإنما ذكروا الصفات الأساسية الضرورية التي يلزم التنبّه إلى الأهمية العظمى لضرورتها فيهم. (¬1) قلت: وهي كافية لتقرير صفة من يصلح أن يكون موضع ثقة ومشاورة من ولي الأمر أو من خواص المسلمين وعامتهم. وذكر الدكتور عز الدين التميمي: صفات لأهل الشورى فقال: ينبغي أن يختار لأهل المشورة أناس يتحلون بخصال وأوصاف معينة حتى تؤتي أكلها وتعطي ثمارها نلخصها بإيجاز: أولاً: مرتبة العقل الكامل والفطنة والذكاء مع طول التجربة مستدلاً بقوله عليه الصلاة والسلام (استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه تندموا) (¬2) وبقوله عليه الصلاة والسلام (ولا حكيم إلا ذو تجربة) (¬3). ثانياً: الاستقلال في الرأي, فمن المفضل أن يكون المستشار من ذوي الاستقلال في الرأي وقد استدل على ذلك بما ورد في السنة النبوية (لا يكون أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت) (¬4). ثالثاً: الشجاعة في إبداء الرأي, فالشجاعة في إبداء الرأي والتصريح به من الأمور المهمة مستدلاً على ذلك بما جاء في حديث عبادة بن الصامت الذي يقول فيه (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول الحق أينما كان لا نخاف في الله لومة لائم). (¬5) ¬

_ (¬1) - الشورى في ضوء القرآن والسنة - تأليف الأستاذ الدكتور محمد ضياء الدين عز الناشر دار البحوث الإسلامية للدراسات وإحياء التراث دبي- الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م. (¬2) - رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وأورده الماوردي في أدب الدنيا والدين ص 272. (¬3) - أخرجه الترمذي برقم 2031 في البر وحسن الصلة، وانظر ابن الأثير في جامع الأصول ج11 - ص699. (¬4) - رواه الترمذي في البر باب ما جاء في الإحسان والعفو حديث (2007). (¬5) - الحديث أخرجه البخاري ومسلم, تجريج سابق.

رابعاً: الدين والاستقامة قال وهذه من الصفات الرئيسية في المستشار لئلا يغش فيما يستنصح فيه مستدلاً على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المستشار مؤتمن). (¬1) ويرى فريق من العلماء أن من صفات المستشارين أن يكونوا شيوخاً كباراً في السن ولا يستشار الأحداث من الشباب، والصحيح أن لكل من الشيوخ والشباب مزايا فالشيوخ قد حنكتهم التجارب وعركتهم الأيام وصقلتهم الأحداث والسنون وشهدوا من الأحداث ما يسعف عقولهم باقتناص الآراء الصائبة, وقد كانت العرب تقول المشائخ أشجار الوقار ومنابع الأخبار لا يطيش بهم فهم ولا يسقط بهم وهم. وقال بعض العلماء الآراء هي قياس أمور مستقبلة على أمور ماضية ولها أمثال وأشباه، ومادة الرأي التجارب مباشرة أو سماعاً فلكثرة التجارب ندب إلى استشارة المشائخ, أما الشباب فإنهم إذا تمتعوا بأمزجة صحيحة وقرائح سليمة وعلوم غزيرة فربما فاقوا في إدراك الصواب الكهول والشيوخ، وكان يقال عليكم بآراء الأحداث ومشاورة الشباب فإن لهم أذهاناً تغل الفواصل وتحطم الذوابل, وكان مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه يغص بالقراء والعلماء شيوخاً كانوا أو شباناً وربما استشارهم، وكان يقول: لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأي فإن الرأي ليس على حداثة السن ولا على قدمه ولكن على أمر يضعه الله حيث يشاء. (¬2) أما أبو الفتح البوستي فهو يقول: خصائص من تشاوره ثلاثٌ فخذ منها جميعاً بالوثيقة ودادٌ خالصٌ ووفور عقلٍ ومعرفة بحالك بالحقيقة فمن حصلت له هذي المعاني فتابع رأيه والزم طريقه (¬3) ولصلاح بن عبدالقدوس: ولا مشير كذي نصحٍ ومقدرةٍ في مشكل الأمر فختر ذاك منتصحا (¬4) ولا مانع من أخذ رأي المرأة ومشاورتها في الأمور العامة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة مشاورته لأم سلمة رضي الله عنها في الحديبية, وذهب البعض من العلماء إلى القول بجواز عضوية المرأة لمجلس الشورى، وفي ذلك يقول الدكتور محمود الخالدي: إنه كما كان مجلس الشورى وكيلاً عن الناس في الرأي والمرأة يجوز لها شرعاً أن تبدي رأيها للخليفة، لذلك يجوز للمرأة أن تكون عضواً في مجلس الشورى والدليل على ذلك ما يلي: أولاً: لم يرد في الشرع أي دليل على تحريم انتخاب المرأة عضواً في مجلس الشورى، فدل على أنه مباح، أما ما ورد في السنة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (¬5) فإنه لا علاقة له بمجلس الشورى لأن الحديث وارد في الحكم ومجلس الشورى ليس من قبيل الحكم، فلا يكون دليلاً على ذلك. ثانياً: في السنة الثالثة عشر للبعثة أي السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم عليه خمسة وسبعون مسلماً من المدينة منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان وبايعوه جميعاً بيعة العقبة الثانية وهي بيعة حرب وقتال وبيعة سياسة، وبعد أن فرغوا من بيعته قال لهم جميعاً: (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم كفلاء) (¬6) وهذا أمر فيه توجيه للجميع بأن ينتخبوا من الجميع ولم يخصص الرجال ولم يستثن النساء، لا فيمن يُنتخب ولا فيمن يَنتخب، والمطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل للتخصيص والتقييد فيدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر المرأتين أن تنتخبا النقباء، وجعل للمرأتين حق انتخابهما من المسلمين نقيبتين. ¬

_ (¬1) - سبق تخريجه. (¬2) - انظر الشورى بين الأصالة والمعاصرة - مصدر سابق ص 39 - 41 بتصرف. (¬3) - ديوان أبو الفتح البوستي ص375. (¬4) - ادب الدنيا والدين للماوردي ص220. (¬5) - الترمذي في كتاب الفتن باب 75 حديث 2262، وقد رواه أحمد في المسند والبخاري والنسائي. (¬6) -السيرة النبوية لابن هشام ج2 - ص 64.

ثالثاً: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلح الحديبية ولقي مقاومة عنيفة من المسلمين لشروطها أمرهم أن ينحروا ويحلقوا فرفض المسلمون جميعاً ذلك، فدخل على زوجته أم سلمة رضي الله عنها، وأخبرها بما صنعه المسلمون فأشارت عليه أن يخرج وينحر ويحلق فأخذ برأيها وفعل كما قالت له، فهبَّ المسلمون ينحرون ويحلقون حتى كادوا يتذابحون لسرعتهم في التقيد بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يدل على حق المرأة في الشورى وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يشاور النساء ويأخذ برأيهن فيجوز للمرأة أن تكون عضواً في مجلس الشورى لتعطي رأيها كما فعلت أم سلمة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (¬1) وورد في الشورى في الإسلام الإصدار المقدم له من الدكتور/ صالح بن عبدالله بن حميد امام وخطيب المسجد الحرام رئيس مجلس الشورى السعودي عرضاَ مفصلاً عن شروط عضوية مجلس الشورى السعودي, وبعد ذلك وتحت عنوان عضوية المرأة , هناك أمراً في غاية الأهمية كثيراً ما تطرح حوله الأسئلة ويثار في مناسبات عدة ولا سيما عند الحديث عن قضايا المرأة في المملكة العربية السعودية هذا الأمر لم يرد له ذكر في شروط العضوية ألا وهو: (عضوية المرأة في مجلس الشورى). ففي ديننا الحنيف ليس هناك ما يمنع من اسهام المرأة في شؤون المجتمع, إذا ما كانت وفق الضوابط الشرعية التي تحافظ عليها. وقد أسهمت المرأة السعودية بجهد وافر في العملية التنموية للبلاد, من خلال ما تحمل من مؤهلات عالية, وتخصصات متنوعة. ومجلس الشورى كثيراً ما يستعين بالنساء ويستشيرهن في الأمور التي تخصهن, وليس هناك ما يمنع حضورهن للمجلس سواءً لتقديم استشارة أو لحضور جلسة من جلسات المجلس (¬2). أما النظم القانونية والدساتير فإنها لا تشترط الذكورة فيمن يعين عضواً في مجلس الشورى، وبالنسبة للأعمار فاشترطت فيمن ينتخب في عضوية مجلس النواب أن لا يقل ¬

_ (¬1) - نظام الشورى في الإسلام مصدر سابق 137 - 140. (¬2) - الشورى في الإسلام رؤية نيابية تجربة المملكة العربية السعودية , ص12, مصدر سابق.

سنه عن خمسة وعشرين عاماً، وهذه مرحلة النضج، وقد نص على ذلك في دستور الجمهورية اليمنية بالمادة (64) , كما يشترط فيمن يُنتخب أن يكون مستقيم الخلق والسلوك مؤدياً للفرائض الدينية وأن لا يكون قد صدر ضده حكم قضائي بات في قضية مخلة بالشرف والأمانة ما لم يكن قد رد إليه اعتباره، أما نظام مجلس الشورى السعودي الصادر سنة 1412هـ فإنه يشترط فيمن يقوم الملك باختياره لعضوية مجلس الشورى أن يكون سعودي الجنسية وأن يكون من المشهود لهم بالصلاح والكفاءة وأن لا يقل عمره عن ثلاثين سنة (¬1). أما الناخب فإن الدستور اليمني لا يشترط فيه إلا أن يكون يمنياً وأن لا يقل سنه عن ثمانية عشر عاماً وهو حسن لأن في ذلك إعطاء كل مواطن بالغ عاقل حق المشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومن ذلك حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي. إن اعتبار تكافؤ الفرص لجميع المواطنين على السواء ميزة ينبغي أن يحافظ عليها الكافة فهي لا تختلف مع أحكام الشريعة في شيء ولكن شرط العلم والأمانة أُغفِل في بعض التشريعات وربما عولج موضوعه عن طريق اختيار هيئة استشارية من بين كبار العلماء في مختلف التخصصات لأنها ضرورة لا بد منها, فإشراك الأمة في مزاولة السلطة والتفكير بقضاياها العامة وتوسيع دائرة المسؤولية بقصد تجنب الخطأ في اتخاذ القرارات لا يتأتى إلا عن طريق استشارة أهل الاختصاص, ومما لا شك فيه أن محاربة اعتقال الإرادة الإنسانية التي تمارسها الأنظمة الدكتاتورية وتحقيق ذاتية الأمة يقتضي إشراك الناس كافة ووضعهم في دائرة المسؤولية لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة) (¬2)، فالشورى هي يسيرة المنال عظيمة الفائدة ويتحقق بها النفع العظيم للأمة ولهذا جاءت بصورة مختلفة في العهد النبوي, فالخير ممارستها في أي صورة من الصور التي لا تختلف مع منهج الله وشرعه، كما سنزيد الأمر بياناً عند الحديث عن ¬

_ (¬1) - النظام السياسي والدستوري للمملكة العربية السعودية تأليف الدكتور أحمد بن عبدالله بن باز ص 244 - الطبعة الثانية. (¬2) - انظر سنن ابن ماجه - كتاب الفتن - باب السواد الأعظم - حديث 3950.

نتائج الشورى والكيفية التي كانت تمارس بها، والذي يهمنا هنا هو القول بأن الدعوة لمشاركة الكافة لا يعني عدم التركيز على ذوي الإختصاص ولا يجيز تهميشهم لأن الله سبحانه يقول: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (¬1). ولا تكاد النظم القانونية في مختلف البلدان تختلف على وجوب إشراك الأمة في معظم شؤونها وعلى إعطاء الإنسان كافة حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مختلف المجالات كما هو مصرح بذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/ 12/1994م المادة (21) من الإعلان العالمي تقول: لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشئوون العامة لبلاده إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً, وكذلك ما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية بالمادة (25) التي جاء فيها أن لكل مواطن أن يشارك في سير الحياة في بلاده مباشرة أو عن طريق ممثل له وأن ينتخب ويُنتخب وأن جميع الأفراد متساوون أمام القانون بدون تمييز. وفي الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر الدستور أعلى قاعدة قانونية ويتألف من مقدمة وسبع مواد وستة وعشرين تعديلاً ويقيم نظاماً فدرالياً تتوزع فيه السلطات بين حكومات الولايات المتحدة والحكومة القومية, كما ينشأ حكومة قومية متوازنة كذلك تتوزع السلطة على ثلاثة فروع مستقلة هي الفرع التنفيذي والفرع التشريعي والفرع القضائي, ويتولى الفرع التنفيذي تنفيذ القوانين بينما يقوم الفرع التشريعي بسن القوانين ويقوم الفرع القضائي بتفسير القوانين, ويمثل رئيس الجمهورية الفرع التنفيذي بينما يمثل الكونجرس الفرع التشريعي وتمثل المحكمة العليا الفرع القضائي, ويتم اختيار الرئيس مباشرة عن طريق الانتخابات المباشرة. أما السلطة التشريعية فإنها تناط بالكونجرس كما هو مقر في دستور الولايات المتحدة, إلا أن السلطة التشريعية بالكونجرس تتألف من مجلس الشيوخ ومجلس النواب, ويتألف مجلس النواب من أعضاء يختارون كل سنتين من قبل الشعب في مختلف الولايات، ويجب أن يتوفر من الناخبين في كل ولاية نفس المؤهلات التي يتوجب توافرها في ناخبي ¬

_ (¬1) - سورة النحل الآية (43).

مجلس الهيئة التشريعية في تلك الولاية، وينتخب أعضاء مجلس النواب لدورات مدة الواحدة منها سنتان وإذا كان شخصاً مؤهلاً لانتخاب أعضاء الكونجرس والفرع الأكثر عدداً هو المجلس الذي يضم العدد الأكبر من الأعضاء ولدى جميع الولايات باستثناء (نبراساكا) هيئات تشريعية مكونة من مجلسين. ومسألة أهلية انتخاب أعضاء الهيئة التشريعية لولاية ما متروكة كلياً لتلك الولاية وإنما خاضعة لقيود الدستور والقانون الفدرالي كقانون حقوق الاقتراع لعام 1965م ويمنع الدستور الأمريكي في تعديلاته رقم 15، 19، 24، 26 الولايات من حرمان المواطن من حق الاقتراع أو تقييد هذا الحق بسبب العرق أو الجنس أو التقصير عن دفع ضريبة ما أو السن إذا كان سنه ثمان عشر سنة على الأقل, ولا يصبح أي شخص نائباً ما لم يكن قد بلغ سن الخامسة والعشرين ولم تكن مضت عليه سبع سنوات وهو من مواطني الولايات المتحدة. أما مجلس الشيوخ فإنه يتألف من شيخين عن كل ولاية تختارها الهيئة التشريعية في كل ولاية لمدة ست سنوات ويكون لكل شيخ صوت واحد ولا يصبح أي شخص عضواً في مجلس الشيوخ ما لم يكن قد بلغ الثلاثين من العمر وما لم تكن مضت عليه تسع سنوات وهو من مواطني الولايات المتحدة وما لم يكن لدى انتخابه من سكان الولاية التي يتم اختياره عنها، وتحدد في كل ولاية مواعيد وأماكن وطريق انتخاب الشيوخ والنواب, تحددها هيئاتها التشريعية، ولكن يمكن للكونجرس في أي وقت أن يسن قانوناً يحدد فيه مثل هذه الأنظمة أو يعدلها إلا فيما يتعلق بدوائر اختيار الشيوخ, وعلى كل حال فإن الدستور الأمريكي الفدرالي هو الذي يحدد القوانين الأساسية للبلاد ويرسم شكل نظام الحكم القومي, كما يحدد حقوق الشعب الأمريكي وحرياته, ويحدد الدستور أيضاً أهداف الحكومة وسبل تحقيقها, وقد جاء في التعديل السادس والعشرين لدستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تم المصادقة عليه في 1 يوليو 1971م أنه لا يجوز للولايات المتحدة ولا

المبحث السادس بيان الكيفية التي كانت تتم بها الشورى في صدر الدولة الإسلامية وما يستفاد من ذلك

لأي ولاية فيها أن تحرم مواطني الولايات المتحدة ممن بلغوا سن الثامنة عشرة وما فوق من حق الانتخاب أو تنتقص لهم منه بسبب السن. (¬1) ونجد أن هذه القوانين الوضعية لا تبعد كثيراً عن المنهاج الإسلامي إلا في جزئيات يسيرة سبق الإشارة إليها عند حديثنا عن الشورى في التشريع فلا نعيد هنا تحاشياً للتطويل والتكرار، ونخلص مما سلف أن اختيار ممثلي الأمة في مجلس الشورى أو المجلس النيأبي أو الاستشاري لا بد من توافر شروط يضعها العلماء للدولة, ويصدرون النظام والقانون المستجمع للشروط على ضوء ما ذكره العلماء, وأن كل طريق يمكن به تبيين من يحوز ثقة جمهور الأمة ويرجى منه ضبط شؤونها فهو جائز شرعاً إذ الأصل في الأشياء الإباحة سواءً كان ذلك عن طريق الانتخاب وهو الأمثل أو عن طريق إصدار قرار بالتعيين من قبل ولي الأمر. المبحث السادس بيان الكيفية التي كانت تتم بها الشورى في صدر الدولة الإسلامية وما يستفاد من ذلك لقد عرضنا في المباحث السابقة أن الشورى في الشكل الإسلامي لم تتخذ شكلاً معيناً محدداً بحيث لا يجوز مخالفته وإنما اكتفت الشريعة الإسلامية بإيجاد مبدء الشورى الثابت وتركت أمر تنظيمها وتحديد وسائلها وأساليبها لاجتهاد الأمة بحسب ما تقتضيه مصلحة الأمة، وفي ذلك يقول الإمام محمد عبده: ومعلوم أن الشرع لم يجيء ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام ولا طريقة معروفة للشورى عليهم, كما لم يمنع كيفية من كيفياتها الموجبة لبلوغ المراد منها, فالشورى واجب شرعي وكيفية إجرائها غير محصورة في طريق معين, فاختيار الطريق المعين باق على الأصل من الإباحة والجواز كما هو القاعدة في كل ما لم يرد نص بنفيه أو إثباته, غير أننا إذا نظرنا إلى الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه وهو (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب موافقة أهل الكتاب في كل ما لم يُؤمَر فيه .. ) ندب لنا أن نوافق في كيفية الشورى ومناصحة أولياء الأمر الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلاً عنا وأنشأت له نظاماً مخصوصاً متى رأينا في الموافقة نفعاً ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين، فتألف من مجموع هذا أن الشورى واجبة وأن طريقها مناط بما يكون أقرب إلى غاية الصواب وأدنا إلى ضمان المنافع ومجالبها على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوباً شرعياً. (¬2) وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورههم) (¬3). ¬

_ (¬1) - دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر عن وكالة الإعلام الأمريكية مع الملاحظات التوضيحية التي أعدها رئيس المجلس الأمريكي للتربية ومؤلف كتاب فهم الدستور ص 1 - 20. (¬2) - انظر تفصيل أوسع في تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده - لرشيد رضا- ص207 وما بعدها - ونظام الحكم في الشريعة والتأريخ الإسلامي ص 74 وما بعدها. (¬3) - سبق تخريجه.

ويقول طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى: كان الإسلام وما زال ديناً قبل كل شيء وبعد كل شيء يوجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا والآخرة بما يبين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولاً وبتصديق النبي ثانياً، ويتوخى الخير من السيرة بعد ذلك ولكنه لم يسلبهم حريتهم ولم يملك عليهم أمرهم كله وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها لهم ولم يحص عليهم كل ما ينبغي عليهم أن يفعلوا وكل ما ينبغي أن يتركوا وإنما ترك لهم عقولاً تستبصر وقلوباً تستذكر وأذن لهم أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة ما وجدوا لذلك سبيلا، وقد أمر الله نبيه أن يشاور المسلمين في الأمر, ولو قد كان الحكم متنزلاً من السماء لأمضى النبي كل شيء بأمر ربه لم يشاور أحداً ولم يآمر فيه ولياً من أوليائه وقد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشورة أصحابه في غزوة بدر. وعن المشورة للاعتماد على رأي أصحابه صدر النبي حين أمر بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، ولو أردنا أن نستقصي المواطن التي شاور فيها النبي أصحابه لطال بنا الحديث ولكن في هذه الأحاديث اليسيرة التي روينا فيها ما يكفي لإثبات أن الحكم في أيام النبي لم يكن ينزل من السماء في جملته وتفصيله، وإنما الوحي كان يوجه النبي وأصحابه إلى مصالحهم العامة والخاصة دون أن يحول بينهم وبين هذه الحرية التي تتيح لهم أن يدبروا أمرهم على ما يحبون في حدود الحق والخير والعدل. (¬1) أما الأستاذ ظافر القاسمي في نظام الحكم في الإسلام فإنه عن كيفية تطبيق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للشورى أيام حياته يقول: نستطيع أن نقسم الشورى أيام الرسول إلى قسمين: أولهما: شورى وقعت بناءً على طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, أي أن الرسول هو الذي سأل الناس أن يشيروا عليه, وإن شئت سميتها بلغة العصر شورى إيجابية, ومن ذلك ما رواه الطبري من استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه قبل غزوة أحد حيث قال إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع بنزول ¬

_ (¬1) - طه حسين في الفتنة الكبرى ج1 ص 22 وما بعدها.

المشركين من قريش واتباعها أحداً قال لأصحابه: أشيروا علي ما أصنع؟ فقالوا يا رسول الله اخرج بنا إلى هذا الأكلب فقالت الأنصار يا رسول الله ما غلبنا عدو قط أتانا في ديارنا فكيف وأنت فينا, فدعا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبدالله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فقال يا رسول الله لا تخرج بنا إلى هذا الأكلب. وهكذا فإن الرسول استشار المهاجرين ثم الأنصار حتى رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول لم يهمل استشارته، ولقد رأيت اختلافهم بين الخروج من المدينة والبقاء فيها. يقول الطبري ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا بدرعه فلبسها فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا وقالوا بئس ما صنعنا فقاموا فاعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا اصنع ما رأيت فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل) , وهكذا لم تكن المشورة إلا درساً في السلوك لقنها النبي لأصحابه حتى حُفظ عنه أنه كان يردد في أكثر المناسبات قوله المشهور: (أشيروا عليَّ أيها الناس). ثانيهما: شورى جاءته من بعض الصحابة ابتداءً من غير طلب وإن شئت سميتها بلغة اليوم شورى سلبية, وأورد ما حدث في غزوة بدر وما أشار عليه الحباب بن المنذر وقد سبق أن أوردناه فلا نعيده هنا وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ برأي الحباب ابن المنذر وقال: (قد أشرت بالرأي). وربما كان هناك نوع ثالث من الشورى ليس سلبياً وليس إيجابياً وإنما هو أمر بين بين كأن يعزم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أمر من الأمور ويبدأ بالمفاوضة فيه حتى إذا حان إبرامه رأى أن يستشير فيشار عليه وبعد ذلك إما أبرمه وإما نقضه كالذي وقع خلال غزوة الخندق. (¬1) أي من استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للسعدين بقصد مصالحة المشركين وتخذيلهم على شيء من ثمار المدينة، والمتتبع للهدي النبوي يجد أن الشورى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إما أن تكون لعامة الناس وإما أن تكون لخاصتهم أو لوجهائهم الذين ينوبون عنهم في الغالب كما حدث في قصة استشارة ¬

_ (¬1) - نظام الحكم في الإسلام ج1 - ص 67، 68.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسعدين، وكما ورد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما (لو اجتمعتما على رأي لما خالفتكما) (¬1)، وقد تكون الاستشارة خاصة في أمر عام كما في قصة استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة في الهدي بعد عقد صلح الحديبية، وقد سبق بيان ذلك وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ برأيها, وقد تكون الاستشارة عامة في أمر خاص إذا تعلق ذلك بأمر هام وخطير يترتب عليه براءة أو إدانة، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في قصتها قالت: دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي فقال: يا رسول الله لن يضيق الله عليك والنساء كثير وسل الجارية تصدقك. قال فدعا الرسول بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمضه غير أنها جارية تنام عند عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً, وذكر براءة عائشة. (¬2) وجاء في رواية أخرى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس وحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس أشيروا علي في أناس آذوا أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء قط، ولقد ذكروا رجلاً والله ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي, فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا في الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. وساق البخاري القصة إلى أن ذكر نزول القرآن ببراءة عائشة رضوان الله عليها. (¬3) وهذه الأحاديث تدل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار استشارة خاصة وذلك كما ورد في استشارته لعلي وأسامة رضي الله عنهما واستشار الصحابة في عقاب من يعمل على إشاعة مثل هذا الإفك بين الناس ولكن القرآن حكم ببراءة عائشة وبتحديد العقوبة فلم يبق للإجتهاد محل. وهكذا نجد الاستشارة العامة والاستشارة الخاصة في عهد النبوة وفي عهد الخلفاء الراشدين, ففي قصة خروج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام سنة 17هـ ذكر الطبري وغيره: أنه كان قد خرج غازياً حتى إذا كان بسر لقيه أمراء الأجناد فأخبروه أن الأرض سقيمة فرجع بالناس إلى المدينة، ونقل الطبري عن ابن عباس: خروج عمر رضي الله عنه ومعه المهاجرين والأنصار حتى إذا نزل بسر لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة فأخبروه أن الأرض سقيمة فقال عمر: اجمع لي المهاجرين الأولين, قال: فجمعتهم له, فاستشارهم, فاختلفوا عليه, فمنهم القائل: خرجت لوجه تريد الله وما عنده ولا نرى أن يصدك بلاء عرض لك, ومنهم القائل: أنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه, فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني ثم قال اجمع لي مهاجرة الأنصار, فجمعتهم, فاستشارهم, فسلكوا طريق المهاجرين, فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني, ثم قال اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش, فجمعتهم له فلم يختلف عليه منهم اثنان وقالوا: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء. فقال لي عمر: يابن عباس اصرخ في الناس فقل: إن أمير المؤمنين يقول لكم إني مصبح على ظهر, فأصبحوا عليه, قال: فأصبح عمر على ظهر وأصبح الناس عليه, فلما اجتمعوا عليه قال: أيها الناس إني راجع فارجعوا, فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قدر الله, قال نعم فرار من قدر الله إلى قدر الله, أرأيت لو أن رجلاً هبط وادياً له عدوتان إحداهما خصبة ¬

_ (¬1) - سبق تخريجه. (¬2) - أخرجه البخاري في كتاب المغازي - باب حديث الإفك - حديث 4141 ومسلم في صحيحه كتاب التوبة - باب حديث الإفك حديث 2777. (¬3) - صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. حديث رقم 4750.

والأخرى جدبة أليس يرعى من رعا الجدبة بقدر الله ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله ثم لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة, ثم خلا به بناحية دون الناس, فبينما الناس على ذلك إذ أتى عبدالرحمن بن عوف وكان متخلفاً عن الناس لم يشهدهم بالأمس, فقال: ما شأن الناس؟ فأُخبر الخبر فقال: عندي من هذا علم, فقال: عمر فأنت عندنا الأمين الصدوق فماذا عندك, فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا سمعتم بهذا الوباء في بلد فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم في بلد فلا تخرجوا فراراً منه ولا يخرجنكم إلا ذلك) فقال عمر: فلله الحمد انصرفوا أيها الناس, فانصرف بهم. (¬1) واستشارة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هنا جاءت للمهاجرين والأنصار ولمهاجري الفتح وهي استشارة لوجهاء الناس وخيارهم وأهل الرأي فيهم ويستفاد منها عدة فوائد منها: ? الفائدة الأولى: حرص ولي الأمر على مصالح المسلمين العامة وعدم إقدامه على اتخاذ قرار لم يتبين له فيه وجه الصواب لما في ذلك من المخاطرة بالمسلمين. ? الفائدة الثانية: هي مشاورة كل من حضره من أهل الحل والعقد أو من أهل الشورى لما في ذلك من تمحيص الآراء والوصول إلى رأي مفيد عن طريق قدح عقول كثيرة. ? الفائدة الثالثة: جواز اجتماع ولي الأمر برعيته على فئات متجانسة كما فعل عمر رضي الله عنه هنا حيث قسمهم إلى ثلاث فئات فئة الأنصار وفئة المهاجرين وفئة مشيخة قريش من مهاجرة الفتح, لأنه كلما كان العدد المتشاور أقل كان النقاش أوسع لسعة الوقت. ? الفائدة الرابعة: الاستئناس برأي كبار السن ذوي الرأي والتجربة. ? الفائدة الخامسة: الاستئناس بالرأي الموحد كما استأنس عمر رضي الله عنه برأي مشيخة الفتح لعدم اختلافهم. ? ¬

_ (¬1) - انظر تاريخ الطبري ج 2 ص 566، 567، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها حديث 2218، 2219، والبخاري في صحيحه كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون حديث 5728، 5729.

الفائدة السادسة: فتح الباب لمن أراد أن يستفسر لإزالة الشبهة عنده ولو كان ولي الأمر قد انتهى بالأخذ بأحد الآراء لأن إزالة الشبهة من قلوب الرعية تأليفاً لقلوبهم واطمئناناً يجعلهم يشاركون إخوانهم في الرأي, كما أنه ينبغي أن يكون عند ولي الأمر القدرة على إيراد الحجج المقنعة, ولكن ذلك لا يبيح للرعية أو بعضهم أن يقفوا موقف المعارضين لما تم التوصل إليه من الشورى بعد عزم ولي الأمر على إنفاذه لقوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أما أبو عبيدة فإنه لم يقف معارضاً وإنما مستفسراً. ? الفائدة السابعة: أن الله يوفق ولي الأمر ورعيته للصواب إذا أخلصوا في مشاورتهم وقصدوا المصلحة العامة. ? الفائدة الثامنة: أن أهل الشورى مهما كثروا فإنه قد يغيب عنهم الدليل على المسألة من الكتاب أو السنة ولو كانوا علماء مجتهدين مع وجوده عند من غاب عن مجلسهم كما دل على ذلك تلك المناقشات الطويلة، ولو كان عند أحدهم دليل لذكره، ولما كان هناك حاجة لمناقشته حتى جاء عبدالرحمن بن عوف فذكر الدليل فحمد الله عمر رضي الله عنه على موافقته. (¬1) قلت وهذه الفوائد جليلة وجميلة ولا تخلو الشورى في كل الأحوال من فوائد جمة وهي تدل على ضرورة استحضار العلماء في مجالس الشورى للأمراء والرؤساء والمجالس النيابية والبرلمانية, وقد درج على ذلك الخلفاء الراشدون كما حدث في شورى الصحابة في تعيين الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في سقيفة بني ساعدة وشورى عمر رضي الله عنه حينما جعل الأمر شورى في ستة من بعده واستشارته في دخول مصر بعد فتح بلاد الشام واستشارة علي رضي الله عنه أصحابه في مسألة التحكيم وقد لاح النصر وتبين أنها خدعة فلما أشاروا عليه وغلبوه رضخ لأمرهم, وقد قيل أن أهل الشورى كان فيهم ضعف وتناقض في تلك الحادثة أما هو فهو أهل للشورى وما كان يقطع بأمر حتى يستشير وقد أثر عنه أنه قال: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه، وأما ¬

_ (¬1) - انظر فقه الشورى - دراسة تأصيلية نقدية - تأليف الدكتور علي بن سعيد الغامدي - الطبعة الأولى 1422هـ - نقلاً عن الدكتور عبدالله قادري في كتابه الشورى ص 64، 65.

عثمان فإنه لما استأذنه عبدالله بن أبي السرح في التوغل في أرض افريقيا وطلب منه النجدة استشار عثمان الصحابة فأشاروا به. (¬1) وهذا كله يكشف بجلاء أن الشورى الإسلامية لم تتخذ نمطاً واحداً في شكل محدد, فمنها ما يمكن طرحه للناس كافة في استفتاء عام, ومنها ما يمكن بحثه بين مجموعة من أهل الرأي والخبرة, ومنها ما لا يمكن أن يكون محل بحث إلا في نطاق محدود فبأي صورة طرحت الشورى وتحقق الغاية منها فإن الإسلام يقره ويرتضيه. ومن هنا يمكن القول أن أساليب الشورى ووسائلها تتغير بحسب ما تقتضيه مصلحة الأمة ويوافق متطلبات العصر ولا يختلف مع شرع الله في شيء، وإن قيام مجالس للشورى لا يصادر حق ولي الأمر في إصدار القرار بعد المشاورة وبيان الصواب وإنما يحد من التسلط أو الوقوع في الخطأ, وليس بمهم تسميات هذه المجالس سواء سميت مجالس شورى أو مجالس نواب أو غير ذلك. أما أسلوب الاختيار الأمثل فإن فقهاء السياسة والعلماء يختلفون في العصر الحاضر فمنهم من ذهب إلى أن الطريق الأمثل هو الانتخاب مباشرة من الشعب بشرط أن تضع الدولة الإسلامية نظاماً لإجراء هذا الانتخاب وضمان سلامته على أن يتضمن هذا النظام أو القانون تعيين الشروط على ضوء ما ذكره الفقهاء وحجة أصحاب هذا الاتجاه يتمثل في أمرين: الأول: أن اختيار ممثل الأمة بطريق الانتخاب يجد مستنده في القرآن الكريم وذلك في آيتي الشورى وهما قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وقوله (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وانتخاب ممثل الأمة منهم أهم الأمور التي تجري فيها الشورى، وإجراء الشورى فيها يكون باستشارة أفراد الأمة فيمن يكونون ممثلين عنها, والوسيلة لمعرفة رأي أفراد الأمة هو الانتخاب ويقولون أن سند ذلك كما هو موجود في كتاب الله العزيز فإن القارئ يجد سنده في السيرة النبوية وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام لأهل بيعة العقبة: أخرجوا منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم, فاخرجوا عليهم اثنى عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس, قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم وأنا كفيل على قومي. قالوا: نعم. (¬2) الأمر الثاني: قالوا أن كل طريق يمكن به تبين من يحوز ثقة جمهور الأمة هو جائزٌ شرعاً إذ الأصل في الأشياء الإباحة، ولا شك أن طريق الانتخاب في هذا الزمان هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تظهر رأي الأمة فيمن يمثلها بشرط أن لا يستعمل فيها التزوير والغش والخداع وما إلى ذلك مما يحرمه الشرع. (¬3) ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الانتخاب ليس بمحظور شرعاً ولا يتعارض مع أهداف النظام الإسلامي وما تقتضيه المصلحة ولكن بشرط أن يجري الانتخاب بحرية تامة بعيداً عن الهوى والتزييف أو التزوير. (¬4) وقد قال الإمام أبو الأعلى المودودي أنه يجوز أن تستخدم اليوم على حسب أحوالنا وحاجاتنا كل طريق مباح يمكن به تبين من يحوز ثقة جمهور الأمة, ولا شك أن طرق الانتخاب في هذا الزمان هي أيضاً من الطرق المباحة التي يجوز لنا استخدامها بشرط أن لا يستعمل فيها ما يستعمل من الحيل والوسائل المرذولة. (¬5) وقد نقل الدكتور الباز عن الإمام حسن البناء قوله لقد رتب النظام الحديث ¬

_ (¬1) - انظر ابن خلدون - المجلد الثاني ج1 - ص128. (¬2) - ابن كثير في السيرة ج1 - ص346 - 347. (¬3) - نقل هذا الرأي هاني سليمان الطعيمات عن الأستاذ راشد الغنوشي عن خالد محمد خالد في كتابه الدولة في الإسلام، ومحمد أسد في كتابه منهاج الإسلام في الحكم، والمودودي في كتابه تدوين الدستور الإسلامي - راجع كتابه الحريات في الدولة الإسلامية ص 125، 124 - كما ذهب إلى هذا الرأي الدكتور عبدالكريم زيدان في مجموعة بحوث فقهية ص 98 - والدكتور منير البياتي في كتابه النظام السياسي الإسلامي ص 177. وراجع أيضاً الدكتور هاني سعيد الطعيمات في حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ص 127، 128. (¬4) - انظر الدكتور عبدالكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة - الناشر مؤسسة الرسالة مكتبة القدس الطبعة الثانية 1407 - 1989. ص255. والشورى والديمقراطية - دراسة تحليلية وتأصيلية لجوهر النظام البرلماني مقارنة بالشريعة الإسلامية ص 146 للدكتور داود الباز - الناشر دار الفكر الجامعي ص 146. (¬5) - انظر أبو الأعلى المودودي في تدوين الدستور الإسلامي ص 48.

طريق الوصول إلى أهل العقد والحل بما وضع الفقهاء الدستوريون من نظم الانتخاب وطرائقه المختلفة ما دام يؤدي إلى اختيار أهل الحل والعقد. (¬1) قلت: وهذه المسألة من المسائل التي يحدد وسائلها العلماء وتتخذ الدولة بذلك نظاماً أو قانوناً, وإذا كان أصحاب هذا الاتجاه قد أوجدوا سنداً من الكتاب والسنة فإنه لا يعني الاختلاف في الوسيلة التي توصل الأمة إلى الشورى وجواز تغيرها إذ ليست الأدلة تدل بصفة قاطعة على طريق معينة كما سبق وأن بينا ذلك ولكنه بلا شك طريق مثالي إذا تجرد من الحيل ووسائل الغش المرذولة الذي أشار إليها الإمام أبو الأعلى المودودي. أما أصحاب الاتجاه الثاني فإنهم يرون أن الانتخاب ليس الطريق الأمثل في اختيار أعضاء مجلس الشورى وأن الاعتماد على الجمهور والشعب أو على الاستفتاءات العامة وسيلة قد يساء استعمالها من الحاكمين لأخذ المبادرة وجعل المفكرين والعلماء وأرباب الإختصاص وأولي النهي رقماً مهملاً أو رقماً يتساوى مع عامة الناس ممن ليس لهم رأي سديد ولا معرفة صحيحة أو خبرة أو دراية. نقل ذلك الأستاذ محمد المبارك في تقديمه لكتاب نظام الحكم في الإسلام وقال أنا لا أقول بإهمال الجمهور ففي نصوص الشريعة واتجاهات السلف ما يجعل لهم موقفاً ومكاناً كحق النقد والمجاهرة بالحق أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمبايعة العامة للإمام, لكن أستاذنا الكبير يميل إلى إعطاء القيمة الكبرى لجمهور الشعب حتى في التشريع وهي مسألة اختصاصية (¬2). ويقرب من هذا القول ما ذكره الدكتور أحمد العوضي في كتابه الحقوق السياسية حيث فرق بين نوعين من الشورى الأولى الشورى غير الملزمة ويقصد بها أخذ آراء أهل الإختصاص والتقيد بأصوبها وأطلق على مجلسها اسم مجلس الشورى والثاني الشورى الملزمة ويقصد بها أخذ رأي الأمة أو أهل الحل والعقد والتقيد برأي الأكثرية فيهم، وأطلق على مجلسها اسم مجلس الحل والعقد، وعن طريق العضوية في مجلس الشورى قال: لذلك فإن لطريقة ¬

_ (¬1) - انظر تفصيل أوسع في الشورى والديمقراطية للدكتور الباز ص 148 وما بعدها. (¬2) - انظر حقوق الإنسان وحرياته نقلاً عن مقدمة نظام الحكم في الإسلام ص 13 بتصرف، وقد نقل هذا القول الدكتور سعيد أبو جيب في كتابه دراسة في مناهج الإسلام السياسي ص 362.

الانتخاب عيوباً تجعلها غير مفضلة عقلاً فضلاً عن عدم وجود ما يستدل به شرعاً على مشروعيتها, فإن الأمة لا تدرك حاجة الخليفة من المستشارين حتى تزوده بهم، وإن أدركت ذلك إلا أن الخليفة قد لا يألف من انتُخِب مستشاراً له, لذلك فإن الأمثل أن يُترَك للخليفة حق اختيار أعضاء مجلس الشورى وفق الشروط الدستورية وقد يكون منها استفاضة أخبار فضلهم واشتهارهم بالعلم والخبرة والرأي السديد في اختصاصهم سواءً كان في الأحكام الشرعية أم في غيرها من التخصصات والعلوم في الاقتصاد والعلوم والسياسة وغير ذلك. (¬1) وهناك اتجاه ثالث ذكره الدكتور عبدالله الكيلاني في كتابه القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام وضمانتها يرى فيه أصحاب هذا الرأي أن طريقة اختيار أعضاء مجالس الشورى تتنوع بتنوع الوظائف التي يمارسها المجلس في الأنظمة البرلمانية الحديثة والتي يمكن حصرها في ثلاث وظائف: الأولى وظيفة سياسية وتتمثل باختيار الحاكم ومنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها مع ممارسة الرقابة عليها أثناء عملها. الثانية وظيفة مالية وتتمثل بالموافقة على الموازنة السنوية للدولة. الثالثة وظيفة تشريعية وتتمثل في سن القوانين. فبالنظر إلى الوظيفة الأولى والثانية فإن أصحاب هذا الرأي يرون أنه يتعين اختيار أعضاء المجلس بطريقة الإنتخاب الشعبي, لأن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الحاكم ومراقبة أعماله فيكون لها الحق في اختيار من ينوب عنها في هذه المهمة, والانتخاب هو الأسلوب العلمي الأمثل لهذا الاختيار, ولأن إقرار الموازنة العامة للدولة قد يرتب التزامات مالية معينة على أفراد الأمة الذي يقتضي استئمارها في ذلك أو استئمار ممثليها, ولا يخفى أن وسائل التمثيل مختلفة من عصر إلى عصر، وفي العصر الحديث تعد الانتخابات أحد أصدق سبل التمثيل. ¬

_ (¬1) - انظر الحقوق السياسية للرعية. رسالة دكتوراه للدكتور أحمد العوضي ص 177، 176.

وبالنظر إلى الوظيفة الثالثة للمجلس فإن الانتخاب وتحصيل الأصوات لا يعد أسلوباً مناسباً لتأهيل الشخص المنتخب لممارسة الدور التشريعي بسن القوانين ذلك أن مهمة التشريع المتمثلة بسن القوانين تحتاج إلى كفاءات علمية قد لا تكون كثرة الأصوات الانتخابية معبرة لعدم التلازم, ومن هنا كان لا بد من سد هذه الثغرة إما بإعطاء الحاكم حق تعيين ذوي الكفاءات والتخصصات الذين يحتاج إليهم المجلس لممارسة الدور التشريعي إذا أخطأهم الانتخاب الحر, على أن يكون عددهم والسلطة الممنوحة لهم تتناسب والغاية من منحهم عضوية المجلس حتى لا يكون وجودهم مفرغاً من غايته, وإما باشتراط شروط عملية دقيقة في المرشحين بحيث لا يصل إلى المجلس إلا كفوء قادر, وعلى الإختيار الأول يتم الدمج في مجلس واحد بين الأعضاء المنتخبين بطريق الانتخاب المباشر وبين الأعضاء المعينين وذلك حتى يؤدي المجلس دوره بتسديد خط الدولة في التشريع والتنظيم وإمدادها بالرأي القوي المدروس من أهل الإختصاص والبصر بشؤون الدين والدنيا توصلاً إلى تحقيق المصلحة العامة. (¬1) وهذه الاتجاهات الثلاثة على ما رأينا لا نراها تبتعد عن منهاج الشريعة الإسلامية, وقد أخذت بعض الدول بالاتجاه الأول وذلك كما هو الحال في الجمهورية اليمنية بالنسبة لمجلس النواب, أما مجلس الشورى فقد جاء بالتعيين وليس هناك ما يمنع من تشكيل مجلسين, أما الاتجاه الثاني فقد أخذت به بعض الدول كالمملكة العربية السعودية التي يصدر فيها مرسومٌ ملكيٌ بتعيين وتسمية أعضاء مجلس الشورى كما هو الحال في نظام مجلس الشورى السعودي الصادر عام 1412هـ 1992م , وأخذ بالاتجاه الثالث بعض الدول كما هو الحال في المملكة الأردنية الهاشمية فمجلس الأمة الأردني يتكون من مجلس النواب ويتألف من أعضاء منتخبين ومن مجلس الأعيان ويتألف من أعضاء يعينهم الملك, فوجود مجالس نيابية تعنى بالشورى في التشريع وسن القوانين وبمنح الثقة للسلطة التنفيذية أو حجبها عنها والموافقة على الموازنة السنوية وعلى المعاهدات والاتفاقات هي ضرورة لا بد منها وكذلك في تقديرنا وجود مستشارين لرئيس الدولة يتشاور معهم في المهام الموكلة إليه ومنها اختيار كبار موظفي الدولة وتحديد المعايير التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى الوظائف الهامة فذلك من الضرورة بمكان, فممارسة الأمة للشورى بهذه الكيفية أو بأي كيفية تؤدي إلى قيام الدولة بواجبها وأداء السلطة العامة لوظيفتها على النحو الذي يحبه الله ويرضاه هي فريضة إلهية وضرورة شرعية أرشد إليها القرآن والسنة النبوية وحرص على ممارستها أولو الفضل من الخلفاء الراشدين ومحبوا العدل من التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا, ولا غرابة إن وجد تقارب بين الفكر الإسلامي والفكر الديمقراطي لأن جوهر الفكر هو الأخذ بآراء الناس مجتمعين فيما يصلح شؤونهم, غير أن الفكر الإسلامي يتميز باتباعه لمنهج الله وتمسكه بالعدل, بينما الفكر الديمقراطي لا يتطابق مع الفكر الإسلامي في جزئيات كثيرة, لأن الشورى الإسلامية لم تأت استجابة لضغط جماهيري ولا هي منحة من الحاكم وإنما هي بأمر الله وإرشاده وتوجيهه الذي عالج شؤون البشرية بما يسدد حاجاتها ويصلح شؤونها على أساس من العدل, وهي تقوم على أساس جعل السيادة لتشريع الله عز وجل وللأمة ممارسة السلطة على أساس من العدل بينما الأنظمة الديمقراطية المعاصرة تقوم على جعل السيادة والسلطة معاً للأمة, ولذلك فإنها ترى أنه لا علاقة للدين بتنظيم سلوك الإنسان, ووجد مبدؤ سياسة فصل الدين عن الدولة والإرادة الشارعة في الديمقراطية الوضعية لا تحكمها إلا إرادة الأمة ممثلة بنوابها، وقد سبق بيان ذلك ولهذا نرى أن الشورى الإسلامية هي الشورى المنزهة عن الهوى والعصبية والجهل والاستبداد, فإذا ما ظهر سلوك لا يقره الشرع ولا يرضى به الحق وجب تغييره، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬2). ¬

_ (¬1) - انظر القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام وضماناتها للدكتور عبدالله الكيلاني ص83 - 88 الطبعة الأولى. (¬2) - الآية 104 من سورة آل عمران.

وبأي أسلوب تمت الشورى وتحقق بها إصلاح شؤون الأمة ويتفق مع منهج الله الذي جاءت به شريعته الإسلامية لا تمنعه ولا تختلف معه, ففي عدم تحديد أسلوب معين يلزم الأمة التقيد به حكمة عظيمة وفيه إفساح للإنسان كي يبدع ويجتهد ويبتكر الأسلوب الذي يناسب كل عصر وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله بن أحمد قادري: يبدو واضحاً من الأحداث التي ذكرت في دراسة ما سلكه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في أسلوب الشورى وطرق إجرائها - وهي في أحداث قليلة من كثير - أن الشارع الحكيم لم يضع أسلوباً معيناً يلزم المسلمين باتباعه في كل أمر يحدث لهم يحتاجون فيه إلى المشورة, بل ترك الباب مفتوحاً للمسلمين ليتخذوا لكل حدث ما يناسبه من الأسلوب الذي تجري به الشورى, فالأحداث مختلفة منها ما يحتاج إلى رأي شخصٍ واحدٍ ومنها ما لا يكفي فيه إلا شخصان أو أكثر، ومنها ما لا يكفي فيه إلا أهل الحل والعقد بأجمعهم، ومنها ما يقع في ظروف تتعين فيها السرعة والبت في الأمر ويصعب تأجيل ذلك حتى يجتمع أهل الحل والعقد كلهم فيكتفي بالحاضرين، ومنها ما لا ينبغي أن يطلع عليه إلا العدد القليل لأنه خطر يقتضي السرية وعدم النشر، ومنها ما يحتاج فيه إلى ذوي خبرة معينة، وقد يقتضي الأمر استقصاء أراء أهل الحل والعقد في اجتماع واحد, وقد يقتضي الأمر تقسيمهم إلى مجموعات بحيث يؤخذ رأي كل مجموعة على حده، وقد يقتضي أخذ رأي زعماء أهل الحل والعقد فقط, وهكذا تختلف موضوعات الشورى وزمانها ومكانها وأهلها، ولكل مقام مقال ولكل أمر رجال, وقد تحدث في بعض العصور وسائل يكون استعمالها أجدى وأنفع في أسلوب الشورى, وقد حدث في هذا العصر مثلاً سبل جديدة لسرعة المواصلات والاتصالات كما حدثت أنظمة إدارية دقيقة لا يصعب معها مشاورة أهل الحل والعقد كلهم في جميع بلاد المسلمين في الغالب سواءً كان ذلك عن طريق الاجتماعات العامة كالمساجد وقاعات الاجتماعات والمؤتمرات أو عن طريق التقسيمات الإدارية للبلدان، كالمقاطعات والمدن والحارات أو عن طريق المراكز الحكومية كالوزارات والمؤسسات، أو عن طريق التجمعات العمالية كالمصانع ونحوها, أو عن طريق أجهزة الاتصالات المباشرة السمعية والبصرية, كالهاتف والمذياع والتلفاز كل ذلك أصبح ميسراً لا صعوبة فيه ولقد كان حدث اختيار الخليفة يحتاج إلى استشارة أهل الحل والعقد في المدينة وخارجها من البلدان، ولكن ذلك يصعب في ذلك الزمان لصعوبة المواصلات والاتصالات، فاكتفى في ذلك بأهل الحل والعقد الحاضرين في المدينة وما جاورها لأن ذلك هو المستطاع في ذلك الوقت, لذلك حدد الشارع الهدف من الشورى، وهو الوصول إلى الحق والتعاون على تحقيقه بالوسائل الممكنة, كما حدد صفات أهل الشورى وعلاقتهم بولي الأمر، وترك الوسيلة إلى اتخاذ الشورى بدون تحديد معين بل اتخذ وسائل مختلفة لذلك تدل على سعة الأمر في ذلك ليتخذ المسلمون أنفع الوسائل وأنجحها لكل حدث وفي كل زمان ومكان (¬1). وقال عبد القادر عودة رحمهُ الله بعد أن ذكر الآيتين الواردتين في الشورى وهما قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (¬2) , وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (¬3) , وظاهر من النصين المقررين لمبدء الشورى أنهما عامَّان مرنان إلى آخر حدود العموم والمرونة بحيث لا يمكن أن يحتاج الأمر إلى تعديلهما أو تبديلهما في المستقبل, وفي هذا بيان لما قلناه من أن الشريعة تتميز بصفة الدوام وأنها لا تقبل التبديل والتعديل، ولهذه الاعتبارات اكتفت الشريعة بتقديم الشورى كمبدءٍ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعات أن يضعوا معظم القواعد لتنفيذه لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات, فلأولياء الأمور مثلاً أن يعرفوا رأي الشعب عن طريق رؤساء الأسر والعشائر أو عن طريق ممثلي الطوائف أو بأخذ رأي الأفراد الذين تتوفر فيهم صفات معينة إما بطريق التصويت المباشر وإما بطريق التصويت ¬

_ (¬1) - انظر الشورى للدكتور عبدالله أحمد قادري ص (220). (¬2) - سورة آل عمران: آية (159). (¬3) - سورة الشورى: آية رقم (38).

غير المباشر, ولأولياء الأمور أن يسلكوا أي سبيل آخر يرون أنه أفضل من غيره من تعرف رأي الجماعة بشرط أن لا يكون في ذلك كله ضرر ولا ضرار بمصالح الأفراد أو الجماعة أو النظام العام. (¬1) أما الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد فإنه يقول: ولقد دعا الإسلام إلى الشورى, وحث على الأخذ به, وطبقها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصور مختلفة, وطبقها خلافائه الراشدون من بعده, لكنه لم يضع لها صورة محددة, ولا إطاراً محدداً, بل لم يضع لها نظاماً تفصيليلاً ملزماً, غير أنه ترك ذلك ليجتهد فيه المسلمون تبعاً لاختلاف الظروف والأحوال, وتعدد الوسائل وتنوع الأساليب. (¬2) وبذلك يعرف أن الشورى نظاماً متطوراً يتماشى ومصالح الأمة ومتطلبات كل عصر باعتبار أن عدم تحديد آليةٍ معينةٍ للشورى تطبق به يعد من المميزات التي تتفق مع منهج الإسلام في التشريع من تقرير الكليات وإرساء الاصول العامة, والنص على المبادئ والأحكام الأساسية, تاركاً التفصيلات الفرعية والجزئية لمقتضيات الزمان والمكان, بحيث تتخذ الشكل الملائم لتحقيق المصلحة تبعاً للظروف, بما يوافق الشريعة الاسلامية, وبالتالي فقد تركت نظم الشورى واجراءاتها دون تحديد, رحمةً بالناس, وتوسعةً عليهم, وتمكيناً لهم من اختيار ما ترجحه العقول وتدركه الأذهان بضوابط وآليات متجددة. (¬3) ¬

_ (¬1) - انظر التشريع الجنائي الإسلامي ج 1 ص 37. (¬2) - مقدمة للشورى في المملكة لفضيلة الدكتور صالح بن حميد , ص1 , مصدر سابق. (¬3) - الشورى في الإسلام , ص2 , مصدر سابق.

المبحث السابع الشورى ومدى إلزاميتها

المبحث السابع الشورى ومدى إلزاميتها إنه مما لا شك فيه أن الشورى واحدة من المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم, أمر بها الشارع سبحانه وتعالى لتكون أداة لتقويم الفكر وتدعيم الرأي ووحدة الصف واحترام العقل الذي زود الله به الإنسان وفضله على كثير مما خلق من خلقه تفضيلاً، والشورى يمكن أن تتوحد بها الصفوف فتتوحد الأمة حتى تكون كالبنان أو كالبنيان يشد بعضه بعضاً, فهي التي تجسد مبدء الأخوة الإيمانية التي هي جزء من عقيدة الإنسان المسلم الذي جاءت من عند الله وليست أمراً يقره أحد أو يرفضه، وإنما جاءت الشورى من السماء بأمر من عند الله (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) فهي بلا شك تجسد مبدء الأخوة الإنسانية وتحافظ على رابطة الأخوة الإيمانية, وقد أمر الله بالأخوة عباده المؤمنين بقوله (إنما المؤمنون إخوة) (¬1) , وقوله جلت قدرته في سورة الأنبياء (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (¬2) , فالأخوة الإيمانية هي رابطة عقائدية يترتب عليها حقوق وواجبات؛ فلا يمكن أن تؤخذ الأخوة في الله معزولة عن سائر الوشائج والروابط والعلاقات وسائر الأحكام والقواعد والأسس في منهاج الله؛ ولكنها تؤخذ على تناسقها كاملة تامة، والله جل وعلا دعا المؤمنين إلى التعاون والتناصح والتآزر. قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (¬3) , وقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬4) , وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (¬5). ¬

_ (¬1) - الآية 10 من سورة الحجرات. (¬2) - الآية 92 من سورة الأنبياء. (¬3) - الآية 2 من سورة المائدة. (¬4) - الآية 104 من سورة آل عمران. (¬5) - الآية 71 من سورة التوبة.

والموالاة تقتضي الإعانة والنصرة والتناصح، والقرآن يدعو الأمة المؤمنة إلى الاعتصام بحبله ومنهجه وشريعته حيث يقول جل شأنه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (¬1). والشورى فيها تطييب للنفوس وجمع للكلمة واستخراج للرأي السديد, فالقرآن يأمر الرسول بالمشاورة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ برأي الأغلبية, وقد استدل القائلون بوجوب الشورى وإلزاميتها بعدة أدلة من الكتاب والسنة من ذلك قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (¬2) , وجه الاستدلال أن هذه الآية نزلت بعد غزوة أُحد والتي كان قرار الخروج فيها مبنياً على الشورى وأخذه صلى الله عليه وعلى آله وسلم برأي الأكثرية فنزلت هذه الآية بعد النتائج الأليمة التي حلت بالمسلمين تأمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالعفو عنهم والاستغفار والمشاورة حتى لا يظن ظان بضرورة استبعاد الشورى, فإذا أمر الله بها رسوله وهو أرجح الناس عقلاً فالأمر في حق غيره من قادة المسلمين أولى وأوجب, فصيغة الأمر عند علماء الأصول تفيد الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه عن ذلك, وهذه الصيغة (وَشَاوِرْهُمْ) صيغة أمر وهي تدل على وجوب الشورى ولم ترد نصوص أخرى تصرفها إلى الندب بل جاءت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة تؤكد هذا الوجوب وتؤيده، ويقول الفخر الرازي في التفسير الكبير ظاهر الأمر للوجوب فقوله (وَشَاوِرْهُمْ) يقتضي الوجوب (¬3). ويقول أبو حيان في البحر المحيط: في هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والفكر فيه وأن ذلك مطلوب شرعاً (¬4). ¬

_ (¬1) - الآية 103 من سورة آل عمران. (¬2) - الآية 159 من سورة آل عمران. (¬3) - التفسير الكبير للفخر الرازي الموسوم بمفاتيح الغيب ج5 - ص70. (¬4) - البحر المحيط ج3 - ص (410).

ويقول الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار عن الآية وشاورهم في الأمر العام أي الأمر الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية أي دُم على المشاورة وواظب عليها كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (غزوة أحد) وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صواباً لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر والخطر على الأمة من تفويض رأيها على الرجل الواحد أشد وأكبر (¬1). وقد اعترض على هذا الاستدلال بعدة اعتراضات أوردها الدكتور خالد أحمد أبو سمرة (¬2) وهي تتلخص في التالي: الاعتراض الأول: أن هذه الآية خاصة بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وليست عامة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فقد روى البيهقي في السنن الكبرى: عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) قال: (أبو بكر وعمر رضي الله عنهما) (¬3) , وللرد على هذا الاعتراض فقد نقل الفخر الرازي في تفسيره رد الواحدي (¬4) على ذلك حيث يقول: روى الواحدي في الوسيط عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الذي أُمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعندي فيه إشكال لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أُمر بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون, فهب أن عمر رضي الله عنه كان من المنهزمين فدخل تحت الآية إلا أن أبا بكر رضي الله عنه ما كان منهم ¬

_ (¬1) - المنار ج4/ 159. (¬2) - انظر تفاصيل أوسع في الشورى في الإسلام للدكتور خالد أحمد أبو سمرة ص146وما بعدها, الناشر دار ابن حزم, الطبعة الأولى 1424هـ. (¬3) - انظر السنن الكبرى. (¬4) - هو أبو الحسن الواحدي علي بن أحمد بن محمد - مفسر وعالم بالأدب نعته الذهبي بإمام علماء التأويل من كتبه: البسيط والوسيط والوجيز كلها في التفسير وأسباب النزول وغيرها - انظر الأعلام للزركلي ج - 4 - ص 255.

فكيف يدخل تحت هذه الآية (¬1) , ثم إن وقائع السيرة تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما قصر الشورى على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد غزوة أحد بل كان يستشير غيرهما من الصحابة رضي الله عنهم. الاعتراض الثاني: أن الأمر في الآية يدل على الندب وليس الوجوب وذلك لأن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمشاورة أصحابه لا لأجل أنه محتاج إليهم بل تطييباً لنفوسهم رضي الله عنهم فقد جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (فقالت طائفة ذلك في مكايد الحروب وعند لقاء العدو وتطييباً لأنفسهم فما أمر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم (¬2) , وجاء في التفسير الكبير للرازي (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) لا لتستفيد منهم رأياً وعلماً (¬3) , وللرد على ذلك نقول أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سيرته العملية كان يستفيد من آراء من يشيرون عليه, فقد أخذ برأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه في موقع نزول الجيش في غزوة بدر, وأخذ برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب, وغيرها كثير من الوقائع, ثم إن مجال الشورى كما أوضحنا هو في غير الأمور الموحى بها من مثل أمور الحرب والأمور الدنيوية والتي تخضع لتجارب البشر وخبراتهم والله سبحانه وتعالى لم يخبر أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم البشر في تلك الأمور، والفخر الرازي يقول في تفسيره فيما يرى من فوائد الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمشاورة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن كان (أكمل الناس عقلاً إلا أن علوم الخلق متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجه المصالح ما لا يخطر بباله) (¬4). ¬

_ (¬1) - انظر التفسير الكبير الفخر الرازي ج 5، ص 70. (¬2) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2، ص 235. (¬3) - التفسير الكبير للفخر الرازي ج 5، ص 69. (¬4) - التفسير الكبير للفخر الرازي ج5 - 69.

الاعتراض الثالث: أن معظم المفسرين قالوا إن الأمر في الآية ليس من نوع الأمر الواجب إنما مراده الندب, لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤيد بالوحي ليس بحاجة إلى الشورى, وقد أغناه الله عن ذلك بتسديد خطاه وتوفيقه للصواب وتعلل أسباب نزول هذه الآية بأنها للاستحباب واستجلاب قلوب المؤمنين وليقتدي المؤمنين بصنيعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بعده ويصير سنة متبعة, وللرد على هذا الاعتراض يقول الدكتور محمد أبو فارس في كتاب حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها أن القول بأن معظم المفسرين قالوا أن الأمر في قوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) ليس من نوع الأمر الواجب وإنما مرده إلى الندب ليس صواباً ولا دقيقاً فإن القارئ لكتب التفسير قلما يجد أن مفسراً يقول: أن الأمر للندب, وأن جماهير العلماء يقولون بوجوب الشورى اعتماداً على قوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ) إذ الأمر يدل على الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب بل جاءت القرائن والتطبيقات العملية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه تفيد الوجوب, ثم إن القول أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤيد بالوحي وليس في حاجة إلى الشورى ليس صحيحاً على إطلاقه ذلك لأن القضية لا تعدو أمرين: الأول: أن تكون القضية من أمور التشريع وهذا خارج عن موضوع المسألة .. (فأمور التشريع المنصوص عليه لا نقاش فيه, وما لم يرد فيه نص فإنه يجب الرجوع إلى طرق الإستنباط المعروفة بضوابطها وسبق وأن أشرنا إلى ذلك). الأمر الثاني: حين تكون القضية ليس موحى بها ولا نص ورد في الكتاب والسنة يتضمن الحكم بها فالرسول بحاجة إلى آراء الناس ومشورتهم, ولهذا كان يقول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم (أشيروا عليَّ أيها الناس) , وكان يستفيد من هذه الآراء فيأخذ بها ويذر رأيه, ثم أن تعليل الشورى بأنها تجلب قلوب المؤمنين ولكي يقتدي المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصنيعه ويصير سنة أن هذه الأمور وأشباهها تأتي في حكم الشورى وفوائدها وليست علة لها ولو سلمنا جدلاً أن هذه الحِكَم

علل فإنها تدل على وجوب الشورى لا على أنها مندوبة لأن استجلاب قلوب المؤمنين والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واجب وبخاصة في القرارات المتعلقة بمصير الأمة ولا تتحقق أيضاً إلا إذا كانت الشورى واجبة (¬1). أما الاستدلال بقوله جل وعلا (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) فقد قال الشيخ محمد رشيد رضا أن مجيء النص في الذكر بصيغة الخبر يؤكد كونه فرضاً حتماً (¬2) , وقد نوقش هذا الاستدلال واعتُرِض عليه بأن هذه الآية تتحدث عن صفة من صفات الأنصار التي كانوا يتحلون بها قبل الإسلام وبعده؛ وهي أنهم كانوا لا يبرمون أمراً إلا بعد الشورى، قال أبوحيان الأندلسي في البحر المحيط قيل نزلت في الأنصار دعأهم الله للإيمان به وطاعته فاستجابوا له وكانوا قبل الإسلام وقبل أن يقدم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة إذا نابهم أمر تشاوروا فأثنى الله عليهم لا ينفردون بأمر حتى يجتمعوا عليه (¬3) , وقد رد على هذا خالد أبو سمرة بقوله أن النص مطلق وليس مقيداً بالشورى الخاصة بالأنصار, مستدلاً على ذلك بما قاله الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير حيث يقول: والمقصود منها ابتداءً هم الأنصار ... ومعنى ذلك أنه من المؤمنين الذين تأصل فيهم خلق الشورى ... وإذ قد كانت الشورى مفضية إلى الرأي والصواب وكان من أفضل آثارها أن اهتدى بسببها الأنصار إلى الإسلام أثنى الله بها على الإطلاق دون تقييد بالشورى الخاصة التي تشاور بها الأنصار في الإيمان وأي أمر أعظم من أمر الإيمان (¬4). ويقول الأستاذ سيد قطب: التعبير يجعل أمرهم كله شورى ليصبغ الحياة بهذه الصبغة, وهو كما قلنا نص مكي كان قبل قيام الدولة الإسلامية فهذا الطابع أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين, إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد, ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً وكان مدلوله أوسع ¬

_ (¬1) - انظر حكم الشورى في الإسلام ونتيجتها للدكتور محمد أبو فارس ص 38 - 39. (¬2) - انظر المنار ج4، ص 46. (¬3) - انظر البحر المحيط ج9، ص 343. (¬4) - انظر الشورى في الإسلام لخالد أبو سمرة ص 51 , نقلاً عن التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ج 25، ص 111.

وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها أنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية وهي ألزم من صفات القيادة (¬1). إذاً فالشورى جزء من كيان الجماعة المسلمة وسلوكها ولا مجال لتقييدها بما كان من الأنصار، وبالشورى يحصل اجتماع الكلمة واجتماع الأمة, وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً كبيراً فعليكم بالسواد الأعظم) (¬2) , ويقول الشهيد عبدالقادر عودة في التشريع الجنائي: أن الشريعة قررت الشورى كمبدءٍ عام وتركت لأولياء الأمور في الجماعة أن يضعوا معظم القواعد اللازمة لتنفيذه, لأن هذه القواعد تختلف تبعاً لاختلاف الأمكنة والجماعات والأوقات, أما القواعد الأساسية الخاصة بتطبيق مبدء الشورى وتنفيذه وهي أقلية فقد بينت الشريعة أحكامها ولم تتركها لأولياء الأمور, وهذه القواعد حكمها حكم مبدء الشورى لا تقبل التعديل ولا التبديل لأنها قواعد جاءت بها نصوص خاصة, والقاعدة أن ما نص عليه لا يبدل ولا يعدل, ومن هذه القواعد الأساسية التي توجب الشريعة اتباعها في تطبيق مبدء الشورى وتنفيذه أن تكون الأقلية التي لا يؤخذ برأيها أول من يسارع إلى تنفيذ رأي الأغلبية وأن تنفذ بإخلاص باعتباره الرأي الواجب الإتباع، وأن تدافع عنه كما تدافع عنه الأغلبية, وليس للأقلية أن تناقش أمراً اجتاز دور المناقشة أو تشكك في أمر وضع موضع التنفيذ، وتلك هي سنة الرسول التي سنها للناس والتي يجب على الناس اتباعها طبقاً لقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (¬3) , والذي يتضح من عرض الأستاذ الشهيد عبدالقادر عودة: أن الشورى وسيلة للالتزام والتعاون ولا ضير من اختلاف الرأي فالثابت في هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأخذ برأي الأغلبية وأنه إذا تمت الإستشارة وجب الأخذ بها لقوله تعالى (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وقوله تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ). ¬

_ (¬1) - في ظلال القرآن - الأستاذ سيد قطب ج 5، ص 3165. (¬2) - انظر سنن ابن ماجه كتاب الفتن - باب السواد الأعظم- حديث 3950. (¬3) - الآية 7 من سورة الحشر. وانظر التشريع الجنائي الإسلامي للشهيد عبدالقادر عودة ج1، ص 37، 38.

ويقول الدكتور محمد العوى أن المقصود بالشورى هو تمكين الأمة من أن تقرر ما تراه صالحاً لها في شؤونها العامة بطريق تمنع الاستبداد وتحول دون نشوء دكتاتورية لحاكم عبقري أو لزعيم فذ مهما كان إنجاز هذا الحاكم أو الشخصية لذاك الزعيم مثيرة أو مؤثرة. (¬1) ويقول العوى أيضاً: إذا تبين هذا فإنه يصبح بيناً أن الحاكم وقد وجبت عليه الشورى يجب عليه أن يلتزم نتيجتها التي ينتهي إليها رأي أكثر المشيرين, وأنه لا دليل يصح الإستناد إليه في تأييد من ذهب إلى أن الشورى معلمة وليست ملزمة وإنما الذي تدل عليه الأدلة جميعاً من فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه أن الشورى متى انتهت إلى رأي وجب على الإمام أو الحاكم تنفيذه, ومن الجدير بالإشارة إليه أن فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أحد لقتال المشركين خارج المدينة واضح الدلالة على هذه القاعدة وعلى قاعدة التزام رأي الأكثرية ولو خالف رأي الحاكم أو رأي غيره من أولي الرأي. (¬2) وقد ذهب فريق من العلماء إلى القول بأن الشورى إنما هي للاستنارة والتوضيح فهي للإعلام لا للإلزام, وقد أورد الدكتور عبدالحميد إسماعيل الأنصاري في بحثه إلزام الشورى ومبدء الأكثرية في الإسلام (¬3) أدلة القائلين بأن الخليفة مخير في قبول رأي أهل الشورى أو رفض ذلك, ورأي من يقول بأن الإمام في الإسلام ملزم برأي أهل الشورى ويجب عليه تنفيذ ما اتفقوا عليه ورجح رأي من يقول بأن الشورى ملزمة لا معلمة, والحقيقة أن العمل بمبدء الشورى كمرجعية للحكم والسياسة, يتطلب أن تكون ملزمة وممارستها يكون قولاً وعملاً حتى تكون صفة لازمة امتثالاً لقوله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) , وقوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) , والمتبين من استعراض كيفية الشورى التي تمت في ¬

_ (¬1) - النظام السياسي للدولة الإسلامية - للدكتور محمد العوى ص 202. (¬2) - النظام السياسي في الإسلام - مصدر سابق ص 198، 199. (¬3) - إلزام الشورى ومبدأ الأكثرية في الإسلام بحث للدكتور إسماعيل الأنصاري يقع في 38 صفحة صادر عن دار ثابت كتاب غير دوري الكتاب الثالث ذي الحجة 1401هـ أكتوبر 1981م - الطبعة الأولى.

العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين أن الشورى أتت بصور مختلفة, وأنها لا تكون إلا في الأمور الاجتهادية, وأن من صورها ما يستشار فيه الكافة ويصلح الاستفتاء فيه ومنها ما لا يصلح إلا لجماعة متخصصين من العلماء وذلك في مسائل التشريع مما لا نص فيه ونحو ذلك من الأمور الهامة وهذا لا بد من الرجوع فيه إلى أهل الاختصاص, وإذا تباينت وجهات نظرهم لا بد من ترجيح رأي الأكثرية وهذا هو المنهاج النبوي كما عرفنا ذلك من نماذج الشورى التي نقلناها من الهدي النبوي وسير الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم, أما الآيات التي يستدل بها من لا يقول بإلزامية الشورى فهي تتحدث عن الكفار أو عن المشركين أو عن غير المؤمنين في الغالب أو عن رعاع الناس ممن يجهل حكم الله وأمره ونهيه ممن ليسوا محل استشارة ولا يمكن أن يكونوا أهل اختصاص وأغلبية في المجالس التشريعية, وقد سبق أن أشرنا إلى ضوابط التصويت في مجالس الشورى الإسلامية الذي يعتد به فليرجع إليه. وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن مبدؤ الأكثرية مبدؤ غير إسلامي؛ غير أن هذا قد رد عليه في موضوع الشورى, من ذلك ما ذكره الدكتور عبدالحميد الأنصاري حيث يقول بأن هذا المبدء معروف في التفكير السياسي الإسلامي منذ قرون بعيدة, فالإمام الغزالي في كتاب الرد على الباطنية يقول أنهم لو اختلفوا في مبدء الأمور وجب الترجيح بالكثرة, ولأن الكثرة أقوى مسلك من مسالك الترجيح (¬1) , وينقل عن ابن تيمية قوله في مبايعة أبي بكر رضي الله عنه قوله: وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة (¬2) , وعن الماوردي قوله في الأحكام السلطانية: وإذا اختلف أهل المسجد في اختيار إمام عمل على قول الأكثرين. (¬3) ولم يثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاور أصحابه وأعرض عن رأي الغالبية, فقد سبق من الأمثلة على ذلك, ففي بدر حيث شاورهم للخروج للعير ابتداءً وشاورهم عندما خرجت قريش لتدافع عن عيرها وشاورهم في الأسرى وفي كل ذلك نزل على حكم الأغلبية، وفي أحد شاورهم في الخروج ونزل على حكم الغالبية وهو كاره، وفي الخندق شاورهم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة ونزل على حكم السعدين في عدم المصالحة, وفي الحديبية عندما استشارهم في قتال من تحالفوا مع قريش وأخذ برأيهم في عدم القتال, وفي حصار الطائف عندما لم يرض المسلمون بالرجوع أمهلهم حتى طلبوا بأنفسهم الرجوع، وقد وردت أحاديث في شأن الأكثرية تحث على الالتزام برأي الجماعة أو بالسواد الأعظم أو بالأكثرية, ويفهم منها أن الجماعة أقرب إلى الحق والصواب من الفرد فمنها: - ما روي عن جابر بن سمرة خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كقيامي فيكم فقال: (من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) (¬4). وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار) (¬5) , والأخذ بالأكثرية معمول به عند علماء ومؤرخي المسلمين الأوائل, فالخبر الواحد بأمر لا يفيد العلم بل الظن بعكس خبر الجماعة المتواترة فإنه يفيد العلم فيكون الأمر في الاجتهاد الفقهي والإجماع كذلك وينعقد الإجماع برأي الأكثرية كما أن كثرة الرواة ترجح صدق الرواية وكذلك, كثرة المجتهدين في جانب واحد ترجح صحة رأيهم كذلك. فالإجماعات التي نقلت عن عهد الصحابة إنما هي اتفاق الأكثر, وأخيراً يقولون أن الكثرة ليست مناط الصواب أو حتى دليلاً قاطعاً أو راجحاً عليه, إذ أن صواب الرأي أو خطأه يستمدان من ذات الرأي لا من كثرة أو قلة القائلين, ويستدل أصحاب هذا الرأي ¬

_ (¬1) - انظر الإمام الغزالي في كتاب الرد على الباطنية ص 63 - طبعة دار الفكر- بيروت. (¬2) - منهاج السنة النبوية ج 1، ص 141. (¬3) - الأحكام السلطانية ص 98. (¬4) - أخرجه الترمذي من كتاب الفتن حديث 2165. (¬5) - أخرجه الترمذي والحاكم بسند صحيح وانظر سنن الترمذي في كتاب الفتن حديث 2167.

بآيات من القرآن تذهب حسب زعمهم إلى أن الكثرة جاهلة وأنها مذمومة فمنها قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) ومنها قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) ومنها قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) ومنها: (وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ومنها: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً) ومنها قوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) ومنها قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ومنها قوله تعالى: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) ومنها قوله تعالى: (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ). وقد ناقش الاستدلال بهذه الآيات الدكتور عبدالحميد الأنصاري وقال أن قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) وردت في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم منها الآية (21) من سورة يوسف وهي قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) فالسياق يعدد نعم الله على يوسف عليه السلام وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس يتجاهلون هذه الحقيقة ولا يقدر نعمة الله عليه بسبب انصرافهم إلى شؤون الدنيا, وواضح أنه لا علاقة للآية بموضوعنا (أي موضوع الشورى) أما الآية (40) من سورة يوسف فقد ورد فيها (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) وواضح أن الآية في شأن غير المسلمين، وقوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (¬1) , فالآية في شأن أمور الدين والآخرة وكذلك في قوله تعالى (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (¬2) وقوله تعالى (وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (¬3) ونصها (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ¬

_ (¬1) - سورة الروم الأية (7). (¬2) - سورة غافر 59. (¬3) - سورة يوسف 38.

آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإسحاق وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) وواضح أن الآية في فضل الشكر على الهداية وقوله تعالى (وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وهي الآية (103) من سورة يوسف والآيات بعدها (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) وواضح أن الآيات في شأن الإيمان بالله مع المشركين, أما قوله تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً) فهي جزء من الآية (36) من سورة يونس ونصها (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) وقبلها الآيات (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إلى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (¬1) فالآيات إذاً في شأن الكفار وكذلك الآية (وَإِن تُطِعْ أكثر مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) الآية (116) سورة الأنعام فهي من شأن أهل الكتاب والكفار بدليل السياق قبلها والآية التي بعدها (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، أما الآية (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) فهي جزء من الآية (111) من سورة الأنعام وهي (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) والآية في غنى عن الشرح, أما الآية (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) فهي جزء من الآية (24) من سورة ص ونصها (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) فشأن المؤمنين ألا يبغي بعضهم على بعض, ولا أدري ما علاقة هذه الآية بموضوعنا -أي موضوع الشورى- , والآية (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) وهي جزء من الآية (100) من سورة المائدة وبقيتها (فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فهو تحذير لأهل العقل أن يغتروا بكثرة الباطل وانتشاره, فالشيء إذا كان خبيثاً في أصله فكثرته وانتشاره لا تجعله طيباً بل يبقى على خبثه, وهل نحن ادعينا أن كثرة أي شيء مطلقاً يدل على صحته وطيبته أم دعوانا منحصرة في أكثرية المؤمنين على مسألة خلافية. فالآيات لا علاقة لها بموضوعنا لا من قريب ولا من بعيد فبعض الآيات في شأن الكفار وبعضها متعلقة بشأن العقيدة والدين والآخرة, فلا علاقة للآيات بمسألة ذم الكثرة في مسألة الإنتخابات وشؤون السياسة والحكم, إذاً فاستدلال البعض بالآيات السابق شرحها لإثبات أن الكثرة جاهلة وأنها مذمومة غير صحيح, وكما قال الأستاذ عبدالقادر عودة في الإسلام وأوضاعنا السياسية (وربما صح عقلاً أن يأتي رأي الأكثرين خطأ ورأي الأقلين صواباً ولكن هذا نادر والنادر لا حكم له, والمفروض شرعاً أن رأي الأكثرين هو الصواب ما دام كلهم يبدي رأيه مجرداً لله, وأساس ذلك قول الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة) (¬2) , وفي رواية (سألت الله أن لا تجتمع أمتي على ضلالة وأعطانيها) فالله يسدد دائماً خطى الجماعة ويوجهها إلى الرأي السديد, من هذا يتضح أن الشورى ملزمة وأن هذا ما عنته الآية الكريمة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وليس العكس كما صوروه أو هو دال على الأخذ برأي الأكثرية فقد روي عن علي رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن العزم قال: (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) (¬3) , فكأن الآية تقول دم على استشارة أصحابك ودم على أخذ رأيهم ولا تكونن هذه النتيجة الخاطئة (هزيمة المؤمنين في أحد) مانعة لك من الأخذ بالشورى ورأي الغالبية مستقبلاً, ¬

_ (¬1) - سورة يونس (34 - 35). (¬2) - لفظ الطبراني وغيره يد الله مع الجماعة ولفظ الترمذي يد الله على الجماعة اتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار وقد حسنه الترمذي وأورده العجلوني في كشف الخفاء حديث 3233. (¬3) - رواه ابن مردويه ونقله عن الحافظ ابن كثير في تفسيره ج1 - ص 430 والإمام السيوطي في الدر المنثور ج2، ص 90.

ونحن لو فرضنا جدلاً أنه ليس في الشريعة الإسلامية ما يقرر بأن الأخذ بحكم الأكثرية واجب فإنه ليس هناك أيضاً ما يحرم ذلك في الشريعة, لذا نرى أنه من باب المصالح المرسلة أن نأخذ بمبدء الأغلبية, وبيان ذلك أنه في إلزام الحاكم برأي الأغلبية منافع عظيمة للأمة, إذ أنه يحول بين الحاكم وبين الاستبداد, ويجعل للرأي مكانة ومنزلة ولجمهور الشورى منزلتهم ومكانتهم ويعصم من الآراء الفردية المرتجلة التي قد تدمر الأمة بأسرها, فإن وجوب الشورى على الأمة الإسلامية يقتضي التزام رأي الأكثرية, والواقع أن الشورى لن يكون لها معنى إذا لم يؤخذ برأي الأكثرية وأما أن يستمع ولي الأمر لآراء جميع أهل الشورى ثم يختار ما يراه هو بنفسه بحرية تامة فإن الشورى تفقد معناها وقيمتها, وإذا قيل أن الشورى للاستنارة وظهور الرأي والصواب واحترام أهل الرأي والعلم وتطييب النفوس وتأليف القلوب فإننا نجيب بأن هذه المعاني هي من نتائج الشورى الملزمة، أما الشورى غير الملزمة فلا تحقق هذه المعاني وذلك كما يقول الجصاص (لأنه كان معلوم عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم إلى استنباط ما شوروا فيه ثم لم يكن ذلك معمولاً عليه لم يكن في ذلك تطييباً لنفوسهم ولا رفعاً لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معول عليها ولكانت المشورة مدعاة للفتنة والانقسام) , وأما القول بأن الفائدة هي في ظهور الرأي الصواب والمظنون في الخليفة أن يأخذ به, فيرد بأن ما أدرانا أن الخليفة غير الملتزم بالأكثرية إذا أخذ بغير الأكثرية أنه قد أخذ بالصواب, والسؤال هنا من الذي يقرر أن هذا صواب أم خطأ؟ وهل الخليفة الفرد أم الجماعة؟ كما أن مبدء المساواة الذي أكده الإسلام يجعل الخليفة واحداً من قادة المسلمين لا يختلف في ميزان الحق عنهم ما دامت صفات العلم والإخلاص والتقوى متساوية وما دام الناس في مثل هذه الحالات لا يستطيعون الجزم بأن هذا أفضل عند الله من ذاك, ولو كان الأمير غير ملزم برأي الأغلبية لكان هذا مدعاة لإلغاء رأي الأمة وإتلافاً لإجماعها وهي (أي الأمة) معصومة من الخطأ كما تقرر في الأصول, والأمير غير معصوم من الخطأ فكيف يحكم غير المعصوم على المعصوم, وإذا كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم

وهو المعصوم قد سمح للصحابة رضي الله عنهم بإبداء آرائهم المخالفة لرأيه وأخذ برأيهم وترك رأيه لهم امتثالاً للأمر بالمشورة والالتزام بها, ومع ذلك لم يأت القرآن بتخطئته إذا أخذ بالأغلبية (¬1) , بل أكد دوام المشاورة ودوام الالتزام فكيف يطلب منا ألا نخالف رأياً لإمام أو حاكم وهو غير معصوم, فلكي نسلم بوجهة النظر هذه لا بد من افتراض العصمة في الأئمة والحكام وأنهم دائماً على صواب, ولكن مبدء العصمة لغير الأنبياء والرسل غير مسلم به ابتداءً لدينا, أما القول بأن الحكم في الإسلام للصفوة وأن العامة لا شأن لها بأمور الحكم وأن الشورى الإسلامية تبحث عن الحكمة والرشد عند أهل الذكر بدليل قوله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ) وقوله تعالى (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) فذلك مردود عليه بأنه لا شأن لتلك الآيات بالعامة فالسؤال لأهل الذكر فيما يخصهم لا يتعارض مع استشارة العامة في الأمور التي تخصهم, وأما أن العامة جاهلة فكيف تستشار؟ والرد أولاً أن هذه الكثرة لا بد أن تتعلم وهذه مسؤولية المتعلمين ووسائل الإعلام وثانياً أن العامة عندها العلم الضروري بأمور معيشتها فهي تفرق بين الخير والشر وتعرف ما فيه صلاحها, فاشتراك الشعب في أمور الحكم وتجاربه في الخطأ والصواب هو خير وسيلة لتعليم أي شعب جاهل كما هو المدعى (¬2). أما الدكتور عبدالله أحمد قادري وإن لم يكن من القائلين بإلزامية الشورى إلا أنه عند محاولته التوفيق بين الرأيين ناقش الموضوع وقرر رجحان من قال بإلزامية الشورى مقيداً ذلك بالعصور المتأخرة كما سنأتي على بيان ذلك, ورأى أن رأي الأكثرية يجب أن يكون ملزماً في اختيار خليفة المسلمين معللاً ذلك بعدة أمور: الأول: عدم وجود ولي أمر للمسلمين وقت الشورى حتى يقال له أن يأخذ بما ترجح له ويبت في الأمر فأهل الحل والعقد هم أولوا الأمر. الأمر الثاني: أن الإجماع في هذا الأمر قد يصعب لأن كثيراً من النفوس تتوق إلى الوصول إليه ولكل من يتوق إليه أعوان وأنصار, فإذا لم يكن للأكثرية هنا حق اتخاذ القرار لكان في ذلك فتنة وتأخير لأمر فيه ضرر على المسلمين. الأمر الثالث: أن تأخر العدد القليل عن البيعة لم يكن مؤثراً في انعقاد بيعة عامة الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كما تأخر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ستة أشهر ثم بايع بعد ذلك بعد أن اعتذر لأبي بكر رضي الله عنه فعذره ثم اجتمعا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقام أبو بكر رضي الله عنه على المنبر فتشهد وذكر شأن علي بن أبي طالب وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه, ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر رضي الله عنه وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر رضي الله عنه ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكننا كنا نرى لنا من الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا, فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت فكان المسلمون إلى علي قريب حين راجع الأمر بالمعروف (¬3) , وكذلك ما ذكر من تخلف بعض الصحابة وغيرهم عن بيعة علي رضي الله عنه بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ولم يؤثِّر تخلفهم في انعقاد الخلافة له. (¬4) الأمر الرابع: نص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأخذ برأي الأكثرية إذا اختلف الستة الذين جعل الشورى بينهم بعد وفاته وإن تساووا فُضِّل الجانب الذي يوافق رأيه رأي عبدالرحمن بن عوف, وكان ذلك إشارة من عمر رضي الله عنه أن عبدالرحمن بن عوف أمير القوم في هذه الشورى كما روى ابن سعد بسنده عن أبي جعفر قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأصحاب الشورى (تشاوروا في أمركم فإن كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى وإن كان أربعة واثنان فخذوا صنف الأكثر) وفي رواية (وإن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبدالرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا) (¬5) , غير ¬

_ (¬1) - المقصود بأخذ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم برأي الأغلبية في الخروج لملاقاة المشركين في غزوة أحد وقد نزل قول الحق بعد ذلك (وشاورهم في الأمر). (¬2) - انظر إلزام الشورى ومبدأ الأكثرية في الإسلام للدكتور عبدالحميد الأنصاري ص 32 - 38 بتصرف يسير. (¬3) - صحيح مسلم باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نوث ما تركنا فهو صدقة حديث (1759). (¬4) - البداية والنهاية لابن كثير ج 7، ص 225. (¬5) - انظر الطبقات الكبرى ابن سعد ج3، ص 61.

أن الدكتور قادري يرى أنه ليس لأحد أن يستدل بهذا النص على أن الشورى ملزمة للإمام الذي توافرت فيه شروط الإمامة, لأنه ورد في قضية اختيار الإمام في وقت لا يوجد فيه إمام وهي قضية عين لا عموم لها ويرد الاستدلال بذلك إصرار عمر رضي الله عنه على رأيه في القضايا التي وقعت في إمامته (¬1). قلت وهو يشير بهذا إلى أمثلة منها إصرار عمر رضي الله عنه على أرض أهل العراق والشام ومتابعة الصحابة له على الرغم من إصرار بعضهم على خلافه, وقد سبق الإشارة إلى ذلك , وإيراد الحجج القوية على من قال بإلزامية الشورى، أما رأيه في ترجيح رأي من قال بإلزامية الشورى وتقييد ذلك بالعصور المتأخرة فإنه علَّلَ ذلك بقوله أن الذي يتأمل في واقع السلف في الماضي وواقع المسلمين الآن سواء على مستوى بعض الحكومات أم على مستوى الجماعات يرى أن لكُتَّاب العصر الحاضر في إلزام ولي الأمر وجهاً من الصواب, وأنه لا بد أن توضع حدود لتدبير ولاة الأمر وقيادتهم لشعوبهم أو لجماعتهم حتى لا يستبدوا بالأمر دونهم وليسوا أهلاً لذلك, وأن الظروف المعاصرة تحتاج إلى رأي جماعي يكون الصواب فيه أكثر من الخطأ, ولقد نظر هؤلاء الكُتَّاب إلى أسلوب الأخذ برأي الأغلب في بعض البلدان الأجنبية وقارنوا بينه وبين الإستبداد الذي يُتَّبع في أغلب الشعوب الإسلامية فوجدوا أن أسلوب الأخذ بالرأي الأغلب أنفع وأقل ضرراً من الإستبداد, وعندما رجعوا إلى المصادر الإسلامية وجدوا ذلك القلب الرؤوف الرحيم وذلك العقل العظيم والخلق الفاضل الذي فسر به القرآن الكريم قدوة حسنة للناس، وجدوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكثر من مشاورة أصحابه ويستجيب لرأيهم في بعض الأحيان وفي بعض الأمور التي هي محل للاجتهاد ووجدوا بعض الألفاظ التي فيها نوع احتمال لما ذهبوا إليه فقرروا تلك القاعدة، أن الشورى إذا صدرت عن أغلب أهلها تكون ملزمة لولي الأمر, وهدفهم من ذلك تقييد سلطة ولي الأمر حتى لا يشتط ويخرج عن الحدود المقررة له, ولا شك في رجحان ما ذهبوا إليه في هذه العصور ¬

_ (¬1) - انظر الشورى للدكتور عبدالله قادري ص 92 وما بعدها.

المتأخرة التي اغتصبت فيها أمور المسلمين واستبدَ بها المستبدون حتى لم تبق ضرورة من ضرورات الحياة إلا تعرضت للاعتداء والانتهاك, ولو أن الكتَّاب المعاصرين قيدوا هذا الحكم وهو كون الشورى ملزمة بظروف المسلمين المعاصرة وما أشبهها حيث لا يكون معظم ولاة الأمور متصفين بالصفات التي كان يتصف بها ولاة الأمور في السابق؛ لو أنهم قيدوا الحكم بذلك لما كان للإعتراض, عليهم وجه, ولكنهم أطلقوا ذلك وجعلوه قاعدة فاقتضى التحقيق بيان الحق فيه ثم نقل ما ذكره عبد الكريم زيدان في كتابه مجموعة بحوث فقهية, وهو من الذين يرون أن نتيجة الشورى ليست ملزمة لولي الأمر في الأصل حيث يقول " الرأي الثالث هو الأخذ برأي رئيس الدولة (مطلقاً) قوي سديد من الناحية النظرية ولكن لضرورات الواقع وتغير النفوس ورقة الدين وضعف الإيمان وندرة الأكفاء الملهمين؛ كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني وهو الأخذ برأي الأكثرية فنلزم الرئيس برأي الأكثرية (¬1). أما الدكتور وهبه الزحيلي فإنه في كتابه حق الحرية في العالم عند حديثه عن مدى الالتزام بالشورى أو هل الشورى ملزمة قد أورد جملاً مفيدة نختار منها قوله " هناك رأيان للعلماء, يرى جماعة أن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحرب وعند لقاء العدو وغير ذلك من التنظيمات الإدارية والإجرائية مندوبة أو مستحبة واختيارية تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار وتألفاً على الدين لقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) (¬2) والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين, ولأن أبا بكر رضي الله عنه حينما استشار الناس في محاربة المرتدين لم ير غالبية المسلمين منهم عمر رضي الله عنه قتالهم وأخذ أبو بكر رضي الله عنه برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه, وذهب آخرون إلى أن الشورى واجبة, وهو الراجح المتفق مع الكرامة الإنسانية والحرية والمشاركة السياسية في مصائر الأمة فيكون الحاكم ملزم, برأي أغلب المستشارين من أهل الحل والعقد عملاً بالأوامر القرآنية بالشورى, ويصبح الأمر بها عديم الأثر إذا لم يلتزم الحاكم بنتيجتها وقد عمل بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته الراشدين من بعده, أما الأمر القرآني بالشورى فهو قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) والأصل في الأمر الوجوب ولأن القرآن الكريم وضعها بجانب ركنين مهمين هما الصلاة والزكاة في آية وصف المؤمنين (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) (¬3). وسئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم في آية (فإذا عزمت) فقال: (هو مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم). قال الشيخ محمد الغزالي أخطأ من المفسرين من وهم أن الشورى غير ملزمة, فما جدواها إذاً وما غناها في تقويم اعوجاج الفرد إذا كان من حقه أن لا يتقيد بها وأين في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة خلفائه ما يدل على أن الحاكم خرج على رأي مستشاريه ومضى في طريقه وحده, وبما استشهد بعضهم بموقف أبي بكر رضي الله عنه في حرب الردة واعتراض الصحابة له في قتاله من نطق بالشهادتين ومن بينهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإصرار أبي بكر رضي الله عنه على موقفه ويمينه التي أقسمها على قتالهم إلى النهاية وهذا استشهاد يرد في غير موضعه، فقصة أبي بكر رضي الله عنه مع المرتدين ومانعي الزكاة لا تعني إلا أنه عرف الحق قبل عمر رضي الله عنه ثم ما لبث أن أقنع به صاحبه فأيد وجهة نظره واتفقا جميعاً على تنفيذها, وخطأ عمر في موقفه ابتداءً مع المرتدين كخطئه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين أنكر موته وتوعد من يقول به ثم ثاب إلى الحقيقة التي قررها أبو بكر رضي الله عنه في يقين وتؤدة (¬4). ويقول الدكتور الزحيلي أن الاختلاف في الرأي أثناء التشاور أمر طبيعي لا بد منه, والمهم أن يتوصل أهل الشورى في النهاية إلى رأي معين ومخالفة عمر رضي الله عنه في هذا لا تضر لأنها في أثناء النقاش وكل نقاش تتضارب فيه الآراء ثم ¬

_ (¬1) - انظر تفصيل أوسع (الشورى) لعبد الله أحمد قادري من 101 - 105 - ومجموعة بحوث فقهية لعبد الكريم زيدان ص 106 - 108 (¬2) - الآية 159 من سورة آل عمران. (¬3) - الآية 38 من سورة الشورى. (¬4) - الإسلام والاستبداد السياسي ص 54.

ينتهي المتناقشون إلى رأي موحد، وهذا ما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما. ثم أورد الدكتور الزحيلي عدة ملاحظات نورد منها ما يلي: أولاً: أنه يكره في الإسلام كرهاً شديداً الاستبداد بالرأي لأنه يغمط حقوق الآخرين ويمس كرامتهم ووجودهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الكبر بطر الحق وغمط الناس). (¬1) ثانياً: لا يسمح الإسلام للحاكم أن يحكم عن هوى أو أن يحكم حكماً مطلقاً فذلك لا يأتي بخير. ثالثاً: الإسلام وإن أوجب على الحاكم الالتجاء إلى الشورى لكنه لم يوجب عليه اتباع الرأي المشور به لما يرى من تقدير المصلحة العليا ولما يطلع عليه من آفاق الأحداث، مع ذلك للحاكم وضع تشريع أو نظام خاص تفصيلي يلتزم الحاكم بمقتضاه الأخذ برأي معين في مسائل معينة. (¬2) رابعاً: أن الوضع السائد في عصرنا حيث تعقدت المعلومات والمعارف وازدحمت وبعد الناس عن الإسلام في هديه ودستوره وفقهه ولم تتوافر مقومات الإجتهاد بضوابطه الشرعية في الحاكم فلم يبق أمامهم إلا التشاور وتبادل الآراء والخبرات للاهتداء إلى أرشد الأمور وإلا وقعوا في هوة الانهيار والضياع. خامساً: أن الحس المعاصر للبشرية هو الالتزام بحقوق الإنسان يفرض على الحاكم والدولة العناية بالمجالس الاستشارية وبالمؤسسات المختلفة التي تسهم في تحمل أعباء الدولة وأضحى بناء دولة المؤسسات هو شعار الدولة الحديثة. قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء وما أشكل عليهم من أمور الدين, ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب, ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح, ووجوه الكُتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها, قال وهذا دليل واضح على أن المراد بالعلماء ليس فقط علماء ¬

_ (¬1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (91) , والترمذي باب ما جاء في الكبر حديث (1999) , عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, وغمط الناس هو ازدراؤهم واحتقارهم وكذلك غمسهم. (¬2) - أورد ذلك فضيلة الدكتور الزحيلي نقلاً عن مبدء الشورى في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي. ص80.

الشريعة وإنما المراد بهم أهل الإختصاص والخبرة بالأمور السياسية والتشريعية والاقتصادية والثقافية والحرفية. قال ومما سبق يتبين أن الإسلام في تقريره أصل الشورى في نظام الحكم أنه عدو للاستبداد السياسي والتحكم الفردي والطغيان الدكتاتوري فلا يقبل من مخلوق مهما كان معتزاً برأيه أن يفرض على مجتمعه آراءه الخاصة التي لا تنضجها الشورى ولا تصدر عن خبرة ووعي للماضي والحاضر والمستقبل فإن الشورى ترشد للخير حتى لصالح المستبد وشعبه وهي المجال المتعين لترجيح رأي على غيره. (¬1) قلت وهذا الكلام في غاية من الجودة, ففائدة الشورى تتمحور في إلزاميتها, فهي التعبير الحقيقي عن وحدة الأمة وحريتها, ولا مناص من العمل بالشورى إذا ما أرادت الأمة أن تسير على منهج الله. وقد قال الدكتور محمد أبو فارس أن القول بأن الشورى ملزمة تقتضيه المصلحة العامة وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله (¬2). وإلى ذلك انتهى خالد أبو سمرة في دراسته الشورى في الإسلام إلى ترجيح الرأي القائل بالشورى وإلزاميتها. (¬3) والأدلة من الكتاب والسنة تقتضي ذلك وأن الحكم هو إلزامية الشورى سواءً كان ذلك في الوظائف الهامة كما ورد في حديث: (لو كنت مؤمراً أحداً من غير مشورة لأمرت ابن أم أعبد) (¬4) , أو في غير ذلك. فقد ورد في حديث آخر النهي عن الانفراد بالرأي كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: قلت يا رسول الله إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا؟ قال صلوات الله وسلامه عليه: (شاوروا فيه العلماء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة) (¬5) , والحديث جاء بصيغة الأمر والأمر في صيغة افعل يدل على الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه إلى الندب كما هو ¬

_ (¬1) - انظر حق الحرية في العالم للدكتور وهبه الزحيلي - ص166 - 170 بتصرف - الطبعة الأولى 1421هـ - 2000م دار الفكر المعاصر - بيروت - لبنان - دمشق. (¬2) - انظر حكم الشورى في الإسلام لمحمد أبو فارس ص 189. (¬3) - الشورى في الإسلام ص 123. (¬4) - سبق تخريجه. (¬5) - انظر مجمع الزوايد ومنبع الفوائد - لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - كتاب العلم - باب في الإجماع - حديث رقم 834، وقال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثوقون من أهل الصحاح.

مقرر في الأصول كما أنه تضمن النهي عن أن يمضي فيه رأي خاصة أي برأي خاص دون شورى, والنهي أيضاً في صيغة لا تفعل تدل على التحريم ما لم ترد قرينة صارفة إلى الكراهية، فدل الحديث على أن الشورى واجبة وأن تركها محرم. وقال أبو الأعلى المودودي بعد أن نقل الحديث بلفظ يقارب ما ذكرناه أن المراد بالعابدين في هذا الحديث هم الذين يعبدون الله ولا يتخذون ما يروق لهم من طرق وتدابير في تحرر تام وليس صواباً أن نفهم من هذا المعنى أن التشاور مع من نرى فيهم صفة العبادة وحدها ونغفل الصفات الأخرى التي لا بد من توافرها فيهم ليكونوا أهل الرأي والمشورة. (¬1) أما أبو فارس فهو يرى أن الحديث فيه دلالة على أن الإسلام يرفض أن تسير الجماعة برأي فرد بل يقرر على أن الجماعة تسير برأي أهل الشورى الجماعي. (¬2) قلت والحديث صريح في إلزامية الشورى, والسيرة العملية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم دالة على ذلك, والدلالة على وجوب الشورى واضحة من الكتاب والسنة, فيكون حكم نتيجتها الإلزام. ¬

_ (¬1) - الخلافة والملك لأبو الأعلى المودودي ص 42. (¬2) - انظر حكم الشورى - لأبو فارس ص 57.

الفصل الرابع خصوصية الشورى وأهمية تعليمها

الفصل الرابع خصوصية الشورى وأهمية تعليمها

المبحث الأول الشورى في الأسرة والمجتمع ومنهجيتها

المبحث الأول الشورى في الأسرة والمجتمع ومنهجيتها إذا كانت الشورى تعني عدم الانفراد بالتصرف قبل معرفة ما يقدم الإنسان عليه في أي أمر من الأمور وهي بطبيعتها تستلزم حصول المناقشة في الأمر والحوار فيه وتبادل وجهات النظر حوله والعناية به حتى تظهر المصلحة من خلال الحوار الذي يكون من نتائجه الاستفادة من مزايا القرائح لأن لكل عقل مزية إذ أن من طبيعة الشورى أن تتعدد الآراء وتجول فيه الخواطر والأفكار فيتذكر كل واحد من المستشارين نتاج خاطرته وفكره ثم يعرض على المستشير ما لديه من علم وتجربة وخبرة؛ فإن من خصوصية الشورى أنها نظام يشمل جميع مناحي الحياة وأن المستشير يستفيد من ثمرات العقول حسن التصرف وحسن التدبير وحسن التخطيط, فالشورى حوار ومناقشة, والشورى بحث عن الصواب؛ والشورى أمان من الضلال, والشورى بحث عن المصلحة, والشورى محاسبة وشكوى واستيضاح واقتراح والشورى تدعو إلى التأني في الأمور وإلى الحزم وإلى الدراسة وإلى العلم وإلى رد الأمور إلى نصابها, وتبعث الإنسان وتحثه على أداء الأمانات إلى أهلها، فأضعف الرأي كما قيل ما سمح للبديهة ابتداءً وأقربه إلى الصواب ما تكررت فيه الفكرة وأحكمت فيه الروية فالشورى مجالها فسيح وميدانها واسع, ولهذا جاء في الحديث (ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم) (¬1) , أي أن الشورى طريق هداية تعصم من الضلال وليست مقصورة ومحصورة على الأمور العامة والهامة فقط, إذ أننا نجد في الأمور الخاصة في كثير من الحاجات ضرباً من رد الأمور إلى أهل الاختصاص, فالذي يريد أن يتداوى لا بد أن يذهب إلى استشاري متخصص من الأطباء, والذي يريد أن يبني داراً أو نحو ذلك لا بد أن يذهب إلى استشاري من المهندسين والبنائين, والذي يريد أن يزرع حقلاً لا بد أن يستشير متخصصين في علوم الزراعة. وهكذا نجد أن للشورى خصوصية ولست تجد ذلك في أي منهج غير المنهج الرباني الذي جعلها صفة لازمة للمؤمنين حيث يقول جل شأنه (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) فالشورى هي منهج حياة. أما الشورى العامة في التشريع والوظائف والأمور السياسية فقد أتينا على بيان الشورى من ذلك بما لا مزيد عليه كونه قد كشف الحقيقة وأبانها لمن يبصر ويسمع ويدرك ويتدبر, وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تخضع الحاكم لرأي الأغلبية وتمنع السلطة التشريعية من التدخل في شؤون السلطة التنفيذية أو القضائية المحضة عملاً بمبدء فصل السلطات فصلاً نسبياً لا مطلقاً وتعتمد على كون الأمة أو الشعب هو مصدر السلطات فكذلك الشأن في نظام الحكم الشوروي الإسلامي من الوجهة السياسية العلمية فإن الأمة مصدر السلطات بمعنى أن لها حق الاشتراك في نصب الحاكم الذي تريده حاكماً عليها. (¬2) ولها حق تعيين شكل الحكم الذي يقوم فيها ولها حق تعيين القائمين على الحكم, وحقوق الأمة في الحقيقة ليست إلا حقوق أفرادها وأن كل ما يصدر عن الحاكم من سلطات أو ولايات فمرجعه الأول إرادة الأمة (¬3). ويتقيد الجميع بنظام الشريعة ولا يصح للسلطة التشريعية مصادمة أحكام الشريعة, وعلى كل حال فإنه إذا صح لنا أن نسمي الشورى الإسلامية بالديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الوضعية بالديمقراطية الغربية فإن هناك كما يقول الدكتور الزحيلي فوراق ثلاثة بين الديمقراطية الغربية والديمقراطية الإسلامية .. الأول: الديمقراطية الغربية مقترنة بفكرة القومية أو العنصرية وتسايرها نغمة التعصب أو العصبية أما في الإسلام فنظرته إنسانية وأفقه عالمي. ¬

_ (¬1) - سبق تخريجه. (¬2) - انظر وهبه الزحيلي - في حق الحرية ص 172. (¬3) - النظريات السياسية للدكتور - محمد ضياء الدين الريس.

الثاني: أهداف الديمقراطية الغربية الحديثة هي أغراض دنيوية أو مادية فقط أما في الإسلام فأغراضها دنيوية وأخروية والغاية هي الآخرة ورضوان الله والدين والأخلاق مقياس أعمال الدولة. الثالث: سلطة الدولة في الديمقراطية الغربية مطلقة فالأمة هي صاحبة السيادة وأما في الإسلام فليست سلطة الأمة مطلقة وإنما هي مقيدة بالشريعة -أي بدين الله-. (¬1) قلت وللشورى خصوصية لا توجد في أي فكر أو مذهب وضعي, ولهذا فإن منهاجها شامل على مستوى الأسرة وعلى مستوى الأمة, وهي تشمل الذكر والأنثى, فالمرأة يصلح أن تستشير وتستشار, وقد سبق أن أشرنا إلى شيء من خصوصية الشورى وهو وجوب الاعتماد على أصحاب الإختصاص والخبرة, ففي شؤون الدين يستشار علماء الدين وفي شؤون العمران والهندسة يستشار المهندسون وفي شؤون التجارة يستشار خبراء التجارة وعلمائها, وهكذا تصل الاستشارة إلى الأسرة والمتجر والبيت وتمتد حتى إلى الطفل الرضيع، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (¬2) أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك, ويؤخذ من هذا أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد برأيه دون الآخر, وفي هذا احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره, وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما لما يصلحه ويصلحهما. (¬3) والمتتبع سيجد جمهور المفسرين يتفقون على إيجاب الشورى على الوالدين فيما لو أرادا اختصار مدة إرضاعه عن حولين كاملين, أما الإمام الفخر الرازي فإنه يرى إيجاب ¬

_ (¬1) - وهبه الزحيلي - مصدر سابق ص 43. (¬2) - الآية 233 من سورة البقرة. (¬3) - انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ج3 - ص 171.

الشورى عليهما فيما بينهما ومع غيرهما أيضاً من أهل التجربة والخبرة أيضاً وهو كلام حسن. (¬1) والشورى مع ذلك تعم كل الأمور الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية في كل ما لم يرد فيه نص, فهي تُقوّي أواصر الأخوة والمودة والتعاون بين الأفراد والجماعات, وتجعل المسلم يتميز بالحس البليغ المرهف على مصالح أمته ودينه ووطنه, وتغلق أبواب النقد والطعن والتشهير وتوحد صفوف الأفراد والجماعات, وتقي الدول ومؤسساتها من التمرد والانقسام والاقتتال, وتكون وقاية وحماية من مخاطر التشرذم والذل والفشل وتعصم في كثير من الحالات الإنسان من الظلم والوقوع في الخطأ, وتعود الناس على الحلم وتلقي الرأي المخالف بسعة الصدر وحسن التفهم, وتمنع أيضاً من إثارة الفتن والحروب, وهي وسيلة واقية من التخلف والاستبداد, وهي مع ذلك طاعة وعبادة لله سبحانه وتعالى, وهي أهم عماد يرتكز عليه الحكم الإسلامي وأهم أسسه وقواعده ولهذا أمر الله بها, فالترك لها ترك لجزء من العقيدة والشريعة فهي ضرورة إنسانية وشريعة إسلامية لا بد من تعليمها وتفهيمها وتدريب النشء عليها وإدخالها في المناهج والبرامج والنشرات, ولما كانت الشورى بهذه المكانة وكان تعليمها ضرورة لا بد منها فإننا نخصص لبيان ضرورة تعليمها وبيانها المبحث التالي. ¬

_ (¬1) - انظر تفصيلاً أوسع في التفسير الكبير المعروف بمفاتيح الغيب ج 16 - ص 225.

المبحث الثاني تعليم الشورى واتخاذها منهجا تعليميا

المبحث الثاني تعليم الشورى واتخاذها منهجاً تعليمياً إذا كان العلم هو الوسيلة الوحيدة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن الظلم إلى العدل ومن القطيعة والجفاء إلى المحبة والإخاء ومن التقاطع والتدابر إلى التناصح والتشاور فإن التربية السياسية التي تعني إيجاد مواطنين صالحين يعرفون ربهم ويعرفون مجتمعهم ويعرفون واجباتهم فيؤدونها من تلقاء أنفسهم طاعة لله عز وجل ورجاء رضوانه والحصول على ثوابه في الآخرة من أهم الواجبات فإنه مما لا شك فيه أن المواطن الصالح هو الذي يسعى للحصول على حقوقه بالوسائل المشروعة, وبدون العلم والتعليم لمفهوم الشورى في الأسرة والمدرسة وتربية النشء على السياسة الشوروية الإسلامية لا يمكن أن تكتمل حلقة البناء الأخلاقي وتكون الفوضى هي التي تسود ويحل محل الاجتماع التفكك, وتستطيع حينئذ العصبية السياسية أو التسلط السياسي القضاء على أخلاقيات المجتمع ويتمكن من إذلالهم, أما إذا كان البيت والشارع والمسجد والمدرسة يقومون بتأدية دور التعليم للمفاهيم الإسلامية والإنسانية ولمفهوم الشورى التي جاءت به الشريعة الإسلامية وصارت صفة ملازمة لأهل الإيمان فإن الأسرة والمدرسة والمسجد في مثل هذه الحالة سيُخرِجون مواطنين صالحين رضعوا الشورى منذ الصغر وتدربوا على التعاون على البر والتقوى, فالبيت المسلم يشكل ركيزة التربية الإسلامية الأولى, وهو المسؤول الأول عن تكوين المواطن الصالح, فالمتأمل في البيت المعاصر يجده صورة مصغرة للمجتمع المعاصر, فكثيراً ما يسود القهر والاستبداد والظلم ويحصل الصراع بين الرجل والمرأة على القوامة, فالبيت هو المسؤول الأول عن التخلف الحضاري بلا شك, ولهذا نجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عنه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها

والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته) قال: فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والرجل في مال أبيه راع ومسؤول عن رعيته). (¬1) وإذا كانت الشورى مفروضة على الرئيس والأمير فهي أيضاً كذلك يجب أن يتعلمها الوزير والمدير في المدرسة والمدرس في الفصل والأب في البيت باعتباره راع والمرأة تشاور زوجها وأولادها في شؤون بيتها كما يشاور الموظف غيره ليؤدي واجبه على النحو المطلوب, فالشورى قد قرنها الله بالزكاة والصلاة فدل ذلك على أن حكمها كحكم الصلاة, فالشورى هي من كوابح حب الذات والأنانية, وهي تربط الفرد المسلم بإخوانه المسلمين فتصبح جماعة متماسكة, فالشورى إذاً خلق إسلامي والمسلم الذي لا يتصف بالشورى ناقص الإسلام وفي أخلاقه فجوة كبيرة ولا تظهر هذه الفجوة إلا إذا صار أميراً أو مسؤولاً فتراه يفرض عليهم أنانيته وحبه لذاته. (¬2) وعندما يتسع إطار الشورى ليشمل انتخاب الرئيس أو انتخاب المجالس النيابية أو المحلية أو البلدية ... إلخ, فإن الناس يلجؤون إلى الاقتراع السري في غالب الأحوال في عصرنا الحاضر وفي مثل هذه الحالة يكون الاقتراع والانتخاب في اختيار الشخص لتوليه أو الإشادة به أمانة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المستشار مؤتمن) (¬3) , والله جل وعلا يقول (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا) (¬4) , فيكون من الخيانة تزكية شخص من قبل المشير أو اختياره من قبل الأمير أو الرئيس إذا لم يكن أهلاً ويصادف محلاً، فهو بمثابة شهادة الزور، وإضاعة للأمانة التي حملها الإنسان، وقد ورد التحذير من الخيانة، وإضاعة الأمانة في أكثر من آية في كتاب الله من ذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (¬5) ¬

_ (¬1) - أخرجه أحمد في المسند وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر وهو حديث صحيح وأورده السيوطي في الجامع الصغير حديث رقم 6370. (¬2) - كيف نربي أولادنا على الشورى - لخالد أحمد الشنتوت - ص 27 - الطبعة الأولى 1418هـ - مطابع الرشيد بالمدينة المنورة. (¬3) - سبق تخريجه. (¬4) - الآية 58 من سورة النساء. (¬5) - الآية 27 من سورة الأنفال.

فلتحصين النشء من ضرر الاستبداد يجب علينا أن نتخذ الشورى منهجاً وأن نعلمها كما نعلم الصلاة والزكاة وأن تتبنى ذلك المدرسة والمسجد, فالمسؤولية هي مسؤولية الجميع, ولا يمكن تربية الفرد المسلم تربية سياسية إسلامية صحيحة ويكون مواطناً صالحاً ما لم يكن قد تعلم الشورى في بيته ومدرسته ومسجده, لأن الشورى من صفات المؤمنين الذين استجابوا لربهم, فالذي لا يتصف بها يكون بلا شك ناقص الإيمان, وإذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أكثر الناس مشاورة لأصحابه فكيف بأفراد الأمة, فالشورى ينبغي أن تكون صفة لكل فرد مسلم, فرب الأسرة وهو مسؤول أمام الله عن سياستها عليه أن يشاور أفرادها وأهل المعرفة والخبرة من أجل حسن سياستها وقيادتها, وكذلك الوزير في وزارته هو مسؤول أمام الله عن حسن سياسته ومدير المؤسسة والمدرسة, فلا يصح أن نجتزئ من القرآن صفات نتحلى بها وصفات نهملها فنكون ممن جعلوا القرآن عضين, فمن أخذ بالهدي النبوي والشريعة الإسلامية كمنظومة متكاملة فإنه سيكون قد غرس في نفسه الفضيلة وفي مجتمعه وابتعد عن الظلم والقهر والتسلط وفكرة الإرهاب غير المشروع, ولا يمكن أن يكون الإنسان قد أدى الأمانة ما لم يكن قد التزم في سلوكه بكل التكاليف التي أمر الله بها وتعلم كيف يَحترِم الناس وكيف يتعاون معهم وكيف يستفيد من آرائهم وكيف ينتمي إلى مجتمعهم الذي يعيش فيه, فعلماء الإجتماع يرون أن المجتمع سابق على الفرد, أي أن الفرد يوجد ضمن المجتمع ولا يوجد بدونه, وعندما يتفاعل الفرد مع مجتمعه يشاورهم ويتعاون معهم فإنه يكون قد نهج نهجاً سليماً, أما إذا انعزل عن المجتمع فإنه يكون قد عبر عن الشذوذ بفراره من المجتمع, فالمؤمن الحق هو الذي يألف الناس ويألفونه ويحبهم ويحبونه, ولا يمكن أن يكون الإنسان متجنباً للفتن ومتخلصاً من الشرور ما لم يكن عضواً فاعلاً في المجتمع, ولهذا فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬1). ولا شك أن التشاور والتناصح توأمان وأن كليهما يبعث على المحبة ويدعو إلى التآزر والتآخي, وقد جاء في الحديث (إن أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس وأحب ¬

_ (¬1) - الآية 104 من سورة آل عمران.

الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على قلب مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهراً ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام) (¬1) , ولو ذهبنا نتتبع النصوص التي تعزز الولاء بين المؤمنين لاحتجنا إلى وقت طويل حتى نفي ببعض ما تفيده في الدعوة إلى التناصر والتكافل والتراحم والتآخي والتعاون, مع أنه يكفي لبيان أهمية الشورى والحكمة من الأمر بها وكونها من صفات المؤمنين ما أتينا على بيانه في المباحث السابقة, وأن ثمرة الشورى الطيبة إنما تجنيها الأمة حينما تتعلمها وتعمل بها, فهي جزء من أخلاق المؤمنين ومبادئهم التي ينبغي أن لا يتخلوا عنها في أي حال من الأحوال وأن لا يتركوا العمل بها في أي ظرف من الظروف, فكما لا ينبغي للمؤمن أن يترك الصلاة أو الزكاة فكذلك لا ينبغي له أن يهمل الشورى أو يعرض عن تعلمها, فهي جزء من عقيدة الإيمان وجزء من حياة الإنسان العملية التي يعيشها كل يوم ويتنفس معها في كل صباح والله الهادي إلى سواء السبيل. ¬

_ (¬1) - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بسند ضعيف من حديث عبدالله بن عمر وأخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج بسند لا بأس به وأورده ابن عساكر من عدة طرق عن بكر بن خنيس عن عبدالله بن دينار عن بعض أصحاب النبي بإسناد حسن فهو حسن وانظر الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج2 - ص 608 برقم 9600.

الخاتمة

الخاتمة لقد حرصنا في دراستنا هذه أن نبين أهمية الشورى وأساس مشروعيتها والتطبيقات العملية لها في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي حياة الخلفاء الراشدين, وتطرقنا إلى إيجاد نماذج عملية عن الشورى في كافة مجالات الحياة مما يتبين معه أن أي عمل مشترك بين الجماعات إذا ما أردنا له النجاح فإنه لا بد وأن يقوم على مشاورة العقلاء وذوي الكفاءات والخبرات المتنوعة في الإدارة والسياسة والأمور الاجتماعية والعلمية والاقتصادية وكل ما يحتاج الإنسان في حياته في شتى المجالات, ففوائد الشورى أكثر من أن تحصر في وريقات لأنها هبة الله وأمره وهديه وشرعه, ولعل من أهم فوائد الشورى في مجراها الشرعي هو إصابة الحق في غالب أحوالها إذا عرضت بحرية تامة وأدلى كل مشير برأيه وحجته وكانت نيته صحيحة وهدفه الوصول إلى الحق, ومهما تجرد المستشارون عن الأهواء والغرائز والدوافع السيئة مع التوكل على الله فإنه لا شك بأن العواقب ستكون حميدة وسديدة بإذن الله لأن في تلاقح الأفكار وتكامل الثقة وتبادل الخبرة تتولد الكلمة الطيبة الصالحة, فضلاً عن كون ذلك فيه إشعار للمشاركين بالمسؤولية فيسعى الكل عند ذلك لتحقيق المصلحة ودرء المفسدة واستمرار الثقة بين المشير والمستشار والراعي والرعية وتقوي الصلة ويسود الاطمئنان وتتضيق هوة الخلاف ويحصل التلاحم والتعاون وتنحصر أسباب الخلاف عند وجوده مبكراً, وفي الشورى الاقتداء بنصوص الوحي وعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلف هذه الأمة, كما أن في تركها كل البلاء فضلاً عن فقد صفة من صفات المؤمنين. ولعل القارئ يلمس أن ترك الشورى يفضي إلى اعتساف الأمور والوقوع في الخطأ وعدم الاستفادة من آراء الآخرين وخبراتهم, ناهيك عن أن كل ذلك يفضي إلى الجفاء والتقاطع والتسلط والاستبداد, وقد حرصنا على أن نأتي بشيء من التحليل في دراستنا وأن نورد النصوص موثقة معزوة إلى مراجعها, وأن نورد النظام الديمقراطي ونصوص القوانين على سبيل المقارنة مع إظهار فضل الشورى ومكانتها الرفيعة وبيان خصوصيتها

وبيان أن تعليمها يعتبر أساساً للعمل بها واتخاذها مبدء ومنهجاً وتطبيقها وفق منهج الله العادل, وغني عن البيان القول أن الشورى وممارستها يعتبر من أسما آيات الحضارات وأجلها لما فيها من الخير والنفع للكافة أفراداً وجماعات, فهي في الأمور الخاصة تقرب من السداد وتظهر المصلحة وتقود إلى الصواب، ولهذا أمر الله بالتشاور حتى في فطام الطفل, وهي في الأمور العامة تمثل عملاً سياسياً ضرورياً لنجاح الدولة في تدبير شؤون الأمة, وقد رأينا كيف كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتشاور مع أصحابه فيما لا نص فيه, وكيف كان الخلفاء يتشاورون, فهي بحق تشكل منهجاً حيوياً يتوقف عليه انتصار الحق في المجتمع والتزام السداد في شؤونه, كما يتوقف عليها احترام العقل في الدولة واحترام الإنسان في ظلها, ويستفاد مما أتينا على بيانه من الشورى في التشريع وفي القضاء وفي الوظائف أن الشورى تعتبر من أهم الضمانات لصيانة حقوق الإنسان واحترام آدميته، وأن الشورى تمثل أهم ضمانة سياسية لاستقرار الدولة وحمايتها من عوامل الضعف والوهن, وهي سبيل رئيس لسلامة المجتمع من الفوضى وكبح جماح النفس عن الهوى, وفيها مصالح عظيمة أشرنا إليها وفصَّلها الكثير من العلماء, وهي تقي الكثير من المفاسد والمهالك المعطبة، وبذلك نأتي على ملخص لهذه المصالح زيادة في البيان مما يجعلها تستقر في الأذهان, ولتكون مسك ختام مع إيجاز للمفاسد المترتبة على تركها: المصلحة الأولى: ظهور الحق والصواب في الغالب, فمعلوم أنه إذا كان الغرض من الشورى هو طلب الحق, فإنه مع عرض الآراء بحرية تامة وتجرد المستشارين عن الهوى ستكون النتائج بعد ظهور الصواب سديدة والعواقب حميدة, وفي ذلك مصلحة تعود على الراعي والرعية وعلى الأمة كلها. المصلحة الثانية: استفادة المتشاورين فيما بينهم من بعضهم البعض, فقد سبق أن أشرنا إلى أنه من أعظم منافع الشورى وفوائدها تلاقح الأفكار والاطلاع على ما عند الآخرين والاستفادة من تنوع الخبرات, وفي ذلك مصلحة للجميع بل إن في ذلك حصول التكامل الاجتماعي.

المصلحة الثالثة: إشعار المشاركين بالمسؤولية وأنهم يسعون مع ولي الأمر إلى تحقيق المصلحة العامة ودرء المفاسد في عملية تكاملية (¬1). المصلحة الرابعة: استمرار الثقة بين ولي الأمر ورعيته, لأنه إذا أكثر من مشاورتهم قويت صلة بعضهم ببعض, وشعر هو بتأييد رعيته له في تصرفاته فيقوى بذلك جانبه ويشعرون هم أنه مهتم بمصالحهم وآرائهم, بخلاف ولي الأمر الذي يقدم على تنفيذ ما يرى بدون الرجوع إلى رعيته فإنه قد يشك في مواقفهم على تصرفه وتأييده؛ فلا يكون قوياً في إقدامه, كما أن رعيته قد تشك في صحة تصرفه وفي إرادته المصلحة, بل قد يظنون به الاستبداد بالأمر وتنفيذ مصالحه، وفي هذا ضرر على الراعي والرعية وفقد الثقة بينهم. (¬2) المصلحة الخامسة: توحد الكلمة الذي يرتب اتحاد الأمة واجتماعها ولم شملها بسد منافذ الخلاف الذي يؤدي إلى القطيعة بالشورى, فالخلاف إذا نشأ عن اجتهاد وإرادة حق لا ضرر فيه, وبالشورى تتقارب وجهات النظر ويتفق الناس أو يعذر بعضهم بعضا فيما يختلفون فيه ويتعاون الراعي والرعية على البر وعمل الخير ويكونون بذلك كالبنان أو كالبنيان يشدُ بعضهُ بعضاً, ويتحقق بذلك الاعتصام بحبل الله الذي دعأهم إليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً * وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬3) , وأي مصلحة أعظم من هذه المصلحة التي يتحقق بها طاعة الله ورسوله وإخلاص النصيحة لله ولرسوله ولولاة الأمور ولسائر أفراد الأمة وجماعتها. ¬

_ (¬1) - فقه الشورى ص 212. (¬2) - الشورى للدكتور عبدالله أحمد قادري ص 149 بتصرف يسير. (¬3) - آل عمران آية (102 - 103 - 104).

المصلحة السادسة: التحلي بصفة من صفات أهل الإيمان المنصوص عليها في قول الحق تبارك وتعالى (والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنفِقُونَ) (¬1) , والاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده وهم القدوة الحسنة. المصلحة السابعة: أداء الأمانة في مسؤولية المشاركة في الحكم؛ فالحكم أمانة ومسؤولية مشتركة بين الراعي والرعية, والمستشار مؤتمن كما ورد في الحديث النبوي الشريف, ومع هذا إن في إشعار الراعي لرعيته بالمشاركة في الأمر الذي يهمهم وتنصلح به أحوالهم وتدار به دولتهم وأنها إنما أسندت إليه الولاية لجلب مصالحها ودفع المفاسد عنها فوجب أن يشركها معه في تحمل أعباء المسؤولية وإعانته على أداء واجبه, وفي ذلك مصلحة تعود على ولي الأمر في تحميل الرعية أو نوابهم أعباء المسؤولية, وفي ذلك إعانة لولي الأمر ومصلحة له ولهم إلى غير ذلك من المصالح التي يتحقق به النفع للأمة والطاعة لله ولرسوله. ومعلوم أنه يترتب على ترك الشورى مضار كبيرة ومفاسد كثيرة تطال الراعي والرعية وتكون سبباً في عطب الأمة وهلاكها وتفرقها واختلافها وتمزقها وشتاتها وعصيانها لله ورسوله وو .... الخ. ونشير إلى بعض من تلك المفاسد المترتبة على ترك الشورى: المفسدة الأولى: أن الأمة التي تترك الشورى تكون قد فقدت صفة من صفات المؤمنين المنصوص عليها في قول الحق تبارك وتعالى (والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وقوله تعالى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (¬2) وفي ذلك عصيان لله وإعراض عن قوله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ ¬

_ (¬1) - الشورى الآية 38. (¬2) - آل عمران الآية 159.

وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (¬1). أما إذا كان ولي الأمر هو الذي يسعى إلى تعطيل الشورى فإنه يكون قد فقد صفة من صفات المؤمنين أيضاً وأفقد رعيته تلك الصفة, فهو كما يقول الدكتور عبد الله أحمد قادري آثم من جهتين من جهة فقده تلك الصفة متعمداً ومن جهة إفقاده رعيته ذلك ويكون عاصياً لله تعالى بترك تنفيذ أمره بالشورى في قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) وفاقداً للإقتداء برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تنفيذ الأمر؛ مع أن غير الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحوج إلى تنفيذه منه. قلت وينطبق على من يعطل الشورى قول الحق تبارك وتعالى (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) الأحزاب آية - 36. المفسدة الثانية: أن الذي لا يعمل بالشورى يعتسف الأمور اعتسافاً في الغالب ويتصرف خطأً لعدم اجتهاده في الوصول إلى الصواب عن طريق الذين هم مظنته وهم أهل الشورى, وقد أمر الله برد الأمور إلى أهل الخبرة والرأي وأهل العلم في أكثر من آية وذلك في مثل قوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (¬2) , وقوله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (¬3) , وقوله تعالى (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (¬4) , فهو يحرم نفسه من الخبرات التي اكتسبها أهلها لعدم لقائهم ومناقشتهم ذلك (¬5) , وهو في ذلك في حكم الخارج عن الجماعة لاستبداده برأيه واتباعه لهوى نفسه وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى مؤمناً ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه) (¬6) , وقد ذكر الدكتور علي سعيد الغامدي بأن ترك العمل بالشورى يفضي إلى اعتساف الأمور والوقوع في الخطأ وعدم الاستفادة من آراء الآخرين وخبراتهم. المفسدة الثالثة: شعور الرعية باستبداد الراعي وأنه لا يكترث بأمورهم وما يهمهم, وفي ذلك سوء ظن يترتب عليه عدم الأخذ بالقرارات وتطبيقها وعدم إخلاصهم وتعاونهم معه فلا يكون قوي الجانب في تصرفاته لعدم وقوفهم معه وعدم ثقتهم به. المفسدة الرابعة: أن ترك الشورى يفضي إلى الوحشة والجفاء بين الراعي والرعية ليوسع دائرة الجفاء ويوسع الجفاء دائرة الخلاف بينهم الذي ربما أفضى إلى التنازع المفضي إلى الفساد والفشل المنهي عنه بقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهبَ ريحكم). المفسدة الخامسة: هي في أن تارك الشورى يسن سنة سيئة لمن يأتي بعده؛ لأن من يأتي بعده إن وجد السبيل للتشاور سلك المسلك نفسه وإن وجده مقفلاً وميسراً للاستبداد فلا يصعبن عليه ركوبه وإنما يرضى لنفسه ويغضب لها وليس لله (¬7) وقد قال جل شأنه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ففي اتباع أمر الله والتشاور في كل ما من شأنه إصلاح شؤون البلاد والعباد فيه نفع عظيم, وإن من أعظم الكوارث أن يكون بين أمراء الأمة وقادتها من يرضى أو يغضب لنفسه في شؤون الحكم ولا يرضى ويغضب لله, وهذا ما حذر منه ذو عمرو اليمني جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عندما علم ذو عمرو بوفاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما روى جرير قال كنت في اليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن ذا كلاع وذا ¬

_ (¬1) - الأنفال الآيات: من 20 - 28. (¬2) - النساء الآية 83. (¬3) - النحل الآية 43. (¬4) - الفرقان الآية 59. (¬5) - الشورى للدكتور عبد الله قادري - مصدر سابق ص 152 بتصرف. (¬6) - صحيح مسلم كتاب الإمارة باب وجوب ملزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن حديث (1848). (¬7) - انظر فقه الشورى - مصدر سابق- ص 214.

عمرو فجعلت أحدثهما عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال ذو عمرو لئن كان الذي تذكر من أمر صاحبك لقد مر على أجله منذُ ثلاث وأقبلا معي حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة فسألنأهم فقالوا قبض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستخلف أبو بكر والناس صالحون, فقال أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا سنعود إن شاء الله, ورجعا إلى اليمن فأخبرت أبا بكر بحديثهم قال أفلا جئت بهم فلما كان بعد قال لي ذو عمرو يا جرير إن لك علي كرامة وإني مخبرك خبراً إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تآمرتم في آخر, فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكاً يغضبون غضب الملوك ويرضون رضى الملوك (¬1) , قال ابن حجر قوله تآمرتم بمد الهمزة وتخفيف الميم أي تشاورتم أو بالقصر وتشديد الميم أي أقمتم أميراً منكم عن رضى منكم أو عهد من الأول (¬2) , وقد علق الدكتور عبد الله أحمد قادري بعد أن أورد الحديث على ذلك بقوله لقد بدا ولاة أمر المسلمين كذلك في أغلب حقب التاريخ بعد الخلافة الراشدة حتى وصل المسلمون الآن إلى ما وصلوا إليه من الفرقة والتناحر وتنافس الأحزاب على السلطة وإطاحة كل حزب بالآخر عن طريق القوة والثورات والانقلابات المتتابعة وذلك من آثار ترك أمر الله تعالى وفقد الصفات الإيمانية وفروعها التي وصف الله بها المؤمنين (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (¬3) , وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ¬

_ (¬1) - انظر صحيح البخاري ج 5 ص. (¬2) - انظر فتح الباري ج 5 - ص 113. (¬3) - سورة الشورى الآيات (36 - 39).

وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (¬1) , وقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (¬2). قلت ومما لا شك فيه أن المشورة آلة يستعان بها في تدبير السياسة, والسياسة نظام الدولة التي بها بقاء الدولة واستمرارها, فإذا ضعفت الآلة أو فسدت أدى ذلك إلى ضعف الدولة وفسادها (¬3). ولو أن المسلمين رعاة ورعية تمسكوا بالشورى لانصلحت أحوالهم وازدهرت دولهم, ولانحسرت الفوضى والفساد وكانوا قادة العالم كله وأصحاب الريادة فيه. هذا ما انتهى عنده شوط القلم والله نسأل أن يجعل ذلك نافعاً لمن تعلمه وعمل به, ومن وجد خللاً فأصلحه فجزاه الله عنا خير الجزاء وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم , وصلى الله على محمد وآلهوصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) - آل عمران الآية (159). (¬2) - النور آية (63). (¬3) - تحفة الوزراء للثعالبي ص 86.

أهم المراجع:

أهم المراجع: 1) القرآن الكريم. 2) صحيح البخاري للإمام محمد إسماعيل إبراهيم المغيرة الناشر: مكتبة الإيمان 1423هـ , 2003م ,المنصورة. 3) صحيح مسلم للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري, الناشر: دار بن رجب 1422هـ. 4) سنن ابن ماجه للحافظ أبي عبد الله محمد يزيد القزويني , الناشر: دار إحياء التراث العربي, طبعة 1395هـ , 1975م , تحقيق محمد عبد الباقي. 5) سنن الترمذي لأبي عيسى بن سورة, تحقيق وتعليق, إبراهيم عطوة عوض, الناشر: المكتبة الإسلامية. 6) مسند الإمام أحمد بن حنبل للإمام الحافظ أبو عبد الله أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني, طبعة بيت الأفكار الدولية 2004م. 7) الجامع الصحيح في أحاديث البشير النذير - تأليف الإمام جلال الدين أبي بكر السيوطي , الناشر محمد علي بيروت , دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1423هـ. 8) تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار - تأليف السيد محمد رشيد رضى, منشئ مجلة المنار, الطبعة الثانية الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر, بيروت, لبنان. 9) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد أحمد الأنصاري القرطبي. 10) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للعلامة جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري, تحقيق وتعليق: عادل أحمد عبدالموجود، الشيخ عادل علي معوض, الطبعة الأولى 1418هـ , 1998م , الناشر: مكتبة العبيكان. 11)

التفسير الكبير المسمى البحر المحيط, تأليف أثير الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي الحياني الشهير بأبي حيان. الطبعة الثانية 1411هـ , 1990م دار إحياء التراث العربي, بيروت لبنان. 12) جامع البيان في تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ, الطبعة الأولى 1421هـ,2001م. 13) العقد الفريد للملك السعيد , تأليف أبي سالم محمد بن طلحة القرشي النصيبي المتوفى سنة 625هـ , الطبعة الأولى. 14) الذريعة إلى مكارم الشريعة للشيخ أبي القاسم الحسين محمد المفضل الراغب الأصفهاني. الطبعة الأولى سنة 1400هـ, 1980م , الناشر: دار الكتب العلمية. 15) البداية والنهاية لأبي الفداء الحافظ ابن كثير , الدمشقي , المتوفى سنة 774هـ , الناشر: دار ابن كثير , بيروت- لبنان. 16) تفسير القرآن الكريم للعلامة أبي الفداء الحافظ الحجة ابن كثير , طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع , بيروت, الطبعة الأولى 1400هـ, 1980م. 17) تفسير التحرير والتنوير للعلامة محمد الطاهر بن عاشور ,طبعة الدار التونسية للنشر. 18) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني وهو المفسر المحدث , الشيخ إسماعيل محمد العجلوني الجراحي. الطبعة الثالثة سنة 1352هـ. 19) حاشية العلامة محمد بن عرفة الدسوقي على الشرح الكبير للإمام أحمد الدردير , طبعة دار الكتب العلمية , بمصر. 20) النظام السياسي في الإسلام, للدكتور/محمد عبد القادر أبو فارس , طبعة دار الفرقان , عمان- الأردن سنة 1986م. 21) المفردات في غريب القرآن للراغب أبي القاسم محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ تحقيق وضبط محمد خليل عيتباني , الطبعة الثالثة 1422هـ. 22)

التفسير الكبير للأمام محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الرازي الشافعي المتوفى سنة 544هـ , طبعة المكتبة التوفيقية, القاهرة, مصر. 23) سنن أبي داود لسليمان الاشعث السجستاني الأزدي , الناشر دار بن حزم , الطبعة الاولى 1419هـ, 1998م. 24) لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد مكرم بن منظور الأفريقي المصري , طبعة دار صادر- بيروت- دار الأفكار. 25) أساس البلاغة للعلامة محمود بن عمر الزمخشري, طبعة دار الكتب القاهرة سنة1972م. 26) حقوق الإنسان وحرياته الأساسية للدكتور هاني سليمان الطعيمات- الإصدار الأول سنة 2001م دار الشروق للنشر والتوزيع. 27) الحقوق الأساسية للرعية في الشريعة الإسلامية للدكتور أحمد العوضي الطبعة الأولى. 28) كتاب شرح الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للعلامة ابن الحسن عبد الله بن مفتاح الناشر: مكتبة غمضان, صنعاء اليمن. 29) النكت والعيون تفسير القرآن العظيم للعلامة أبي الحسن علي محمد حبيب الماوردي البصري, الناشر: دار الكتب العلمية ومؤسسة الكتب الثقافية, بيروت. 30) كتاب النيل وشافي العليل للعلامة محمد يوسف اطفيش, طبعة وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان. 31) رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار للعلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين , منشورات محمد علي بيضون, دار الكتب العلمية بيروت, طبعة 1424هـ,2003م. 32) أعلام الموقعين عن رب العالمين للإمام ابن القيم, الطبعة الأولى, طبعة دار الجيل, بيروت لبنان. 33)

السيرة النبوية لابن هشام , حققها وضبطها ووضع فهارسها: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي, الناشر: دار إحياء التراث العربي, بيروت. 34) النظام السياسي والدستوري للمملكة العربية السعودية تأليف الدكتور أحمد بن عبدالله بن باز, الطبعة الثانية 1419هـ,1998م, الناشر: دار الخريجي للنشر والتوزيع. 35) تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب , تأليف القاضي المسوري, منشورات مكتبة الحياة, بيروت لبنان. 36) الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني, تأليف أحمد عبد الرحمن البناء الشهير بالساعاتي. 37) موسوعة الفقه السياسي ونظام الحكم في الإسلام للدكتور فؤاد محمد النادي , رئيس قسم القانون العام سابقاً بجامعة صنعاء وأستاذ القانون العام المساعد بجامعة الأزهر , الطبعة الثانية 1400هـ , 1980م. 38) موسوعة السياسة للأستاذ الدكتور عبد الوهاب الكيالي وآخرين. المؤسسة العربية للطباعة والنشر وحقوق الإنسان في الوطن العربي, الطبعة الأولى 1980م. 39) نظام الحكم في الإسلام لمحمد فاروق النبهاني. طبعة مطبوعات جامعة الكويت. 40) السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها للأستاذ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي, الطبعة الأولى 1419هـ,1998م, مكتبة وهبة, القاهرة مصر. 41) الإسلام وقضايا العصر للدكتور محمد عمارة, الطبعة الأولى1980م, دار الوحدة, بيروت لبنان. 42) الشورى في ضوء القرآن والسنة تأليف حسن ضياء الدين محمد عتر, الطبعة الأولى سنة 1422هـ الناشر: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث, دبي. 43) منهاج الإسلام في الحكم تأليف محمد أسد, دار العلم للملايين, بيروت, طبعة 1993م. 44)

الشورى والديمقراطية النيابية دراسة تحليلية وتأصيلية لجوهر النظام البرلماني مقارنةً بالشريعة الإسلامية للدكتور داود الباز, دار الفكر الجامعي, الإسكندرية. 45) الموافقات في أصول الأحكام لأبي إسحاق إبراهيم موسى اللخمي الغرناطي المعروف بالشاطبي, الناشر: دار إحياء الكتب العربية. 46) مناهج الشريعة الإسلامية للشيخ أحمد محيي الدين العجوز, الناشر: مكتبة المعارف, بيروت 1401هـ. 47) حقوق الإنسان في السنة النبوية للقاضي حسين بن محمد المهدي, مؤلف هذا الكتاب, الطبعة الأولى 1425هـ, صنعاء اليمن. 48) الشورى وممارستها الإيمانية للدكتور عدنان علي رضي النحوي, الطبعة الثالثة 1408هـ, 1988م, دار النحوي للنشر والتوزيع, الرياض المملكة العربية السعودية. 49) الطبقات الكبرى تأليف محمد سعد منيع الزهري , المتوفى سنة 230هـ الناشر: دار الإحياء التراث العربي. 50) النظام السياسي الإسلامي مقارناً بالدولة القانونية للدكتور منير أحمد البياتي, الناشر: دار البشير للنشر والتوزيع, عمان, الطبعة الثانية 1414هـ. 51) المبادئ العامة في النظام السياسي الإسلامي لمحمد محمد إسماعيل مزحات, دار النهضة العربية. 52) كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية تأليف د. أحمد شوقي الفخري, الناشر: الهيئة العامة للكتاب. 53) فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي , الطبعة الثامنة, دار الفكر بيروت. 54) الأحكام السلطانية في الولايات الدينية تأليف أبي الحسن علي محمد البصري الماوردي , الناشر: دار الكتاب العربي , الطبعة الثانية 1415هـ. 55)

الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى محمد حسين الفداء الحنبلي, طبعة دار الفكر, بيروت 1414هـ. 56) الدر المنثور في التفسير المأثور للإمام جلال الدين السيوطي, طبعة دار الفكر, بيروت 1421هـ,2000م. 57) تفسير روح البيان لإسماعيل حقي البروسي, طبعة دار إحياء التراث العربي, بيروت. 58) السنن الكبرى للبيهقي, طبعة دائرة المعارف العثمانية, حيدر أباد الهند, الطبعة الأولى سنة 1355هـ. 59) المستدرك على الصحيحين للحافظ ابن عبد الله الحاكم النيسابوري, طبعة دار احياء التراث العربي 1422هـ. 60) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للإمام العلامة برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن فرحون اليعمري المالكي المتوفى سنة 799هـ , خرج أحاديثه وعلق عليه وكتب حواشيه الشيخ جمال مرعش, الطبعة الأولى سنة 1416هـ, 1995م الناشر: دار الكتب العلمية, بيروت لبنان. 61) البيان الشافي المنتزع من البرهان الكافي للعلامة عماد الدين يحيى بن أحمد بن مظفر المتوفى سنة 875هـ الناشر: مجلس القضاء الأعلى بالجمهورية اليمنية سنة 1401هـ, 1981م. 62) زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم الجوزية , حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط , الناشر: مؤسسة الرسالة , بيروت , الطبعة الرابعة عشرة , 1407هـ, 1986م. 63) الشورى في غزوات الرسول , تأليف الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس , دار الفرقان للنشر والتوزيع , عمان , الأردن. 64)

السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار لشيخ الإسلام محمد علي الشوكاني, الطبعة الأولى 1405هـ,1985م, دار الكتب العلمية, بيروت. 65) نهج البلاغة, جمع السيد الشريف الرضي من كلام الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه شرح موجز للأستاذ الشيخ محمد عبده, طبع محمد كمال بكداش، ونسخة أخرى, طبعة دار الكتاب المهدي، بيروت ودار الكتاب اللبناني 1410هـ1989م. 66) كيف نربي أولادنا على الشورى لخالد أحمد السنتوت, مطابع الرشيد بالمدينة المنورة -الطبعة الاولى سنة 1418هـ. 67) الشرعية السياسية في الإسلام مصادرها وضوابطها إعداد وتحرير عزام التميمي, مادة محررة في الأوراق والمدخلات التي قدمت لندوة نظمتها ليبرتي للدفاع عن الحريات في العالم الإسلامي في لندن يوم الاثنين 8 / يوليو 96م وطبع في بريطانيا في مارس 1997م. 68) الشورى المفترى عليها - إعداد الأمين الحاج محمد أحمد , مدرس المواد الشرعية بمعهد اللغة العربية في جامعة أم القرى بمكة المكرمة , الناشر: مكتبة دار المطبوعات الحديثة , الطبعة الأولى 1410هـ, 1990م. 69) ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية , للدكتور عدنان علي رضي النحوي , الطبعة الثانية 1404هـ - 1984م- دار الإصلاح للطباعة والنشر والتوزيع. 70) خلاصة الكلام في تفسير آيات الأحكام للمؤلف القاضي حسين المهدي ,الجزء الأول , الطبعة الأولى 1425هـ 2004م, المعهد العالي للقضاء اليمني. 71) جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب تأليف السيد أحمد الهاشمي, الناشر: مكتبة المعارف, بيروت, طبعة جديدة محققة ومنقحة أشرف على تصحيحها لجنة من الجامعيين. 72)

تفسير سورة الشورى للعلامة سيد قطب-الناشر: دار الشروق, الطبعة الخامسة 1413هـ, 1993م. 73) حق الحرية في العالم للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي. الناشر: دار الفكر المعاصر بيروت، ودار الفكر , دمشق , الطبعة الأولى محرم 1421هـ, إبريل 2000م. 74) الشورى بين الأصالة والمعاصرة - تأليف عز الدين التميمي, الطبعة الأولى 1405هـ, 1985م الناشر: دار البشير , عمان الأردن. 75) الشورى لا الديمقراطية تأليف الدكتور عدنان علي رضي النحوي, الطبعة الرابعة 1413هـ, 1992م. الناشر: دار النحوي للنشر والتوزيع. 76) مراتب الإجماع لابن حزم الظاهري, الطبعة الأولى. 77) القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي, مؤسسة الرسالة 1423هـ2003 بيروت. 78) تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل حماد الجوهري, دار العلم للملايين الطبعة الثانية. 79) كتاب التعريفات للعلامة علي محمد الشريف الجرجاني المتوفى 816هـ , دار النفائس بيروت 2003م. 80) التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية, الطبعة الاولى. 81) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية, جمع وترتيب عبد الرحمن محمد قاسم العاصمي النجدي الحنبلي, الطبعة الأولى 1381هـ. 82) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن أحمد بن رشد, مطبعة الكليات الأزهرية بمصر سنة 1386هـ. 83) عمدة المسير في بيان سلطة القاضي في تقدير الدليل لمؤلف هذا الكتاب, أربعة مجلدات, الطبعة الأولى1424هـ,2003م, صنعاء اليمن. 84) المدخل لدراسة القانون لعبد الباقي البكري, الطبعة الأولى. 85) الحكم القضائي في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد الناصر موسى, الطبعة الاولى. 86)

نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون لأبي الأعلى المودودي, ترجمة محمد عاصم, طبعة 1389هـ الناشر: دار الفكر. 87) تشريعات البلاد العربية بين القوانين الغربية والشريعة الإسلامية - بحث للدكتور محمد عبد الجواد. 88) فتاوى علي الطنطاوي, جمع مجاهد درانه. 89) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي, الطبعة الأولى. 90) تحفة الوزراء للثعالبي, الطبعة الأولى. 91) أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, طبعة دار الكتب العلمية , بيروت , الطبعة الأولى1411هـ. 92) السياسة الشرعية عند الإمام ابن القيم الجوزية, تأليف الدكتورة جميلة عبد القادر, الناشر: دار الفرقان للنشر والتوزيع, الأردن. 93) الشورى في الإسلام, تأليف خالد أحمد أبو سمرة, الناشر: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع, بيروت لبنان. 94) جامع الأصول, لابن أثير الجزري, الطبعة الأولى. 95) الحريات العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة, الناشر: منشأة المعارف, الإسكندرية الطبعة الأولى 1988م. 96) المساواة في الإسلام للدكتور علي عبد الوافي الناشر: شركة مكتبة عكاظ للنشر 1403هـ, 1992م. ... 97) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني دار إحياء التراث العربي - بيروت لبنان 1422هـ, 2001م. 98) الجرائم الماسة بالوظيفة العامة, لمؤلف هذا الكتاب, الطبعة الأولى 2003م, الناشر: المعهد العالي للقضاء, صنعاء اليمن. 99)

نظام الشورى في الإسلام تأليف الدكتور محمد الخالدي, الطبعة الأولى 1406هـ, 1986م, الناشر: مكتبة الرسالة الحديثة, عَمّان الأردن. 100) حقوق الإنسان في الحرب والسلام بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام تأليف الدكتور علي عبد الرحمن الطيار, الطبعة الأولى 1422هـ, الناشر: مكتبة التوبة, الرياض. 101) حقوق الإنسان في الإسلام, تأليف: سيف الدين حسين شاهين, الطبعة الأولى. 102) الأحاديث المختارة للضياء المقدسي الحنبلي, الطبعة الأولى1410هـ,1990م, الناشر: مكتبة النهضة الحديثة. 103) البحر الزخار الجامع لمذهب علماء الأنصار للإمام المهدي يحيى أحمد المرتضى, الطبعة الثانية 1394هـ,1975م, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت. 104) المنار في المختار من جواهر البحر الزخار حاشية العلامة المجتهد صالح مهدي المقبلي على البحر الزخار , الطبعة الأولى1408هـ,1988م الناشر: مؤسسة الرسالة. 105) مبدء الشورى في الإسلام للدكتور عبد الحميد متولي, الطبعة الأولى. 106) كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية, طبعة دار الكتاب العربي بمصر. 107) استقلال القضاء دراسة مقارنة للأستاذ الدكتور محمد كامل عبيد, الطبعة الأولى. 108) السعي إلى العدل وأهم النظريات التي قيل بها لتعريفه وأهم المحاولات العلمية لتحقيقه للدكتور محمد سلام زناتي, محاضرات في فلسلة القانون لطلبة دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص بكلية الحقوق, جامعة أسيوط 1987م, مكتبة الآلآت الحديثة بأسيوط. 109) مواهب الجليل شرح مختصر خليل لمحمد محمد المعروف بالحطاب, المتوفى سنة 954هـ الطبعة الأولى. 110) أدب القاضي للماوردي, تحقيق هلال السرحان, وزارة الأوقاف بالعراق. 111)

السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي للدكتور محمد عبد الرحمن البكر , الطبعة الأولى1408هـ,1988م , الزهراء للاعلام العربية, القاهرة. 112) عيون الأخبار لابن قتيبة, وزارة الثقافة المصرية. 113) سنن النسائي للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب , مطبوع مع شرح السيوطي، وحاشية السندي, الطبعة الثانية, بيروت 1412هـ,1992م. 114) أخبار عمر لابن الجوزي, الطبعة الأولى. 115) الشورى بين النظرية والتطبيق للدكتور قحطان عبد الرحمن الدوري, بغداد, مطبعة الأمة, الطبعة الأولى 1394هـ, 1974م. 116) الخراج لأبي يوسف, الطبعة الأولى. 117) الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ أحمد علي بن حجر. 118) التشريع الجنائي المقارن لمحمد أبو شادي, رسالة دكتوراه, طبعة منشأة المعارف الإسكندرية عام 1980م. 119) نظام المحلفين في الولايات المتحدة الأمريكية للدكتور فتحي والي, الطبعة الأولى. 120) النظام القضائي في إنجلترا للأستاذ أحمد صفوة, الطبعة الأولى. 121) شرح الإمام النووي على صحيح الإمام مسلم للإمام النووي, الطبعة الأولى. 122) عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي, الطبعة الأولى. 123) إمتاع الأسماع بتحقيق محمود محمد شاكر. طبع على نفقة الشؤون الدينية في قطر , الطبعة الثانية. 124) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية, المطبعة الأزهرية المصرية , القاهرة, الطبعة الأولى1326هـ. 125) تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر الطبري , الطبعة الأولى , المكتبة التوفيقية , مصر. 126) السيرة النبوية للعلامة أبي الحسن الندوي , طبعة دار القلم 1422هـ, 2001م. 127) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة. 128)

الإسلام عقيدة وشريعة, من توجهات الإسلام للشيخ العلامة محمود شلتوت, الناشر: دار الشروق, القاهرة, طبعة مؤسسة دار الشعب. 129) غزوات الرسول للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس, الناشر: المكتبة الوطنية. 130) الإسلام والاستبداد السياسي للعلامة الشيخ محمد الغزالي, الطبعة الأولى, دار الكتاب العربي, القاهرة 1998م. 131) الإسلام وأوضاعنا السياسة للأستاذ عبد القادر عودة, الطبعة الأولى, دار الكتاب العربي 1991م. 132) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ لأحمد بن يوسف الحلبي المعروف بابن السمين, الطبعة الأولى. 133) صفة البيان لمعاني القرآن للأستاذ حسين مخلوف, طبعة وزارة الأوقاف والكويت1407هـ. 134) صفوة السير إعداد الدكتور محمد الحبشي, الطبعة السادسة. 135) فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين, الطبعة الأولى. 136) قواعد نظام الحكم في الإسلام للدكتور محمود عبد المجيد الخالدي, الطبعة الأولى. 137) حياة الصحابة للداعي إلى الله محمد يوسف, الطبعة الأولى. 138) حروب الردة لمحمد أحمد باشميل, الطبعة الأولى 1399هـ. 139) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم للعلامة الألوسي, الطبعة الأولى. 140) قضاء الحوائج للحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي الدنيا المتوفى سنة 281هـ, تحقيق محمد خير رمضان يوسف, الناشر: دار ابن حزم, الطبعة الأولى1422هـ,2002م. 141) الأدب النبوي للشيخ محمد عبد العزيز الخولي, الناشر: المكتبة العصرية, بيروت, الطبعة الأولى 1425هـ. 142)

نظام الحكم في الإسلام - تأليف الدكتور خالد عبيد , دار النفائس للنشر والتوزيع الأردن , الطبعة الأولى 1416هـ, 1996م. 143) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي, دار القلم, بيروت لبنان. 144) دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر عن وكالة الإعلام الأمريكية مع الملاحظات التي أعدها رئيس المجلس الأمريكي للتربية ومؤلف كتاب فهم الدستور في أمريكا. 145) الفتنة الكبرى تأليف الأستاذ طه حسين. 146) أصول الدعوة الإسلامية للدكتور عبد الكريم زيدان, الناشر: مؤسسة الرسالة, مؤسسة القدس, الطبعة الثانية 1407هـ. 147) تدوين الدستور الإسلامي تأليف أبي الأعلى المودودي. 148) دراسة في مناهج الإسلام السياسي للأستاذ الدكتور سعيد أبو جيب, الطبعة الأولى. 149) الحقوق السياسية للرعية في الشريعة الإسلامية, رسالة دكتوراة, للدكتور أحمد العوضي, طبعة مؤسسة رام للتكنولوجيا 1995م. 150) القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام وحمايتها للدكتور عبد الله الكيلاني , الطبعة الأولى. 151) النظام السياسي للدولة الإسلامية للدكتور محمد العوى, طبعة دار الشرق 1989م القاهرة. 152) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807هـ دار الفكر بيروت 1414هـ,1994م. 153) الخلافة والملك لأبي الأعلى المودودي , الطبعة الأولى1398هـ,1978م الكويت, تعريب أحمد إدريس دار القلم. 154) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها لمحمد ناصر الدين الألباني , مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1417هـ, 1996م. 155)

موسوعة الفقه الإسلامي الصادر عن وزارة الأوقاف بجمهورية مصر, المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية, القاهرة. 156) الشورى للدكتور عبد الله أحمد قادري, الناشر: دار المجتمع, سنة 1406هـ. 157) مجلة المجتمع الفقهي الإسلامي مجلة دورية محكمة يصدرها المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي 1425هـ, 2004م العدد الثاني عشر. 158) دستور الجمهورية اليمنية, طبعة 2006م. 159) فقه الشورى, دراسة تأصيلية نقدية, تأليف الدكتور علي بن سعيد الغامدي, الطبعة الأولى 1422هـ. 160) النظم السياسية (الدولة والحكومة) في ضوء الشريعة الإسلامية للدكتور داود الباز, الناشر: دار النهضة العربية. 161) شرح ميارة على تحفة ابن عاصم. 162) نظرية القرآن إلى الجريمة والعقاب, للعلامة الأستاذ الجليل محمد عبدالمنعم الضبعي رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر, المكتبة التجارية, مكة المكرمة, الناشر دار المنار للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة, الطبعة الأولى 1408هـ, 1988م. 163) الرقابة على دستورية القوانين في مصر للدكتور علي السيد البار. 164) القانون الدستوري والنظام الدستوري الأردني, للدكتور عادل الحياني, الطبعة الأولى. 165) منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية, الطبعة الأولى. 166) التهذيب لابن عساكر. 167) كيف تحكم أمريكا لماركس ومارشال ترجمة نظمي لوقا, الطبعة الثالثة, مطبوعات كتأبي, القاهرة. 168) النظامين الوضعي والإسلامي للدكتور ياسين عمر يوسف, الطبعة الأولى. 169)

مجموع المرافعات الاتحادية. 170) الدرر اللقيط من البحر المحيط تأليف أثير الدين أبي عبدالله محمد يوسف علي بن حيان الأندلسي القرطبي الحياني الشهير بأبي حيان, الطبعة الثانية, الناشر: دار إحياء التراث العربي 1411هـ - 1999م. 171) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب, الطبعة الشرعية التاسعة1400هـ 1980م, دار الشروق, مصر 0 172) إلزام الشورى ومبدء الأكثرية في الإسلام, بحث للدكتور إسماعيل الأنصاري, صادر عن دار ثابت, كتاب غير دوري الكتاب الثالث ذي الحجة 1401هـ أكتوبر 1981م, الطبعة الأولى. 173) الرد على الباطنية للإمام الغزالي, طبعة دار الفكر, بيروت لبنان. 174) السيرة النبوية لأبي الحسن علي الحسني الندوي , طبعة دار القلم الأولى 1422هـ,2001م. وهناك مراجع أخرى مشار إليها في هوامش الكتاب.

كلمة شكر وتنوية

كلمة شكر وتنوية لا يسعنا هنا إلا أن نشكر الاخوة العلماء الافاضل الذين بذلوا جهداً في المراجعة والتصحيح عند الطباعة ونخص منهم بالذكر: معالي الدكتور العلامة آديب اليمن الكبير الأستاذ عبدالعزيز المقالح , والأخ العلامة عباس بن علي مرغم عضو المحكمة العليا , والأخ العلامة الأستاذ عبدالحميد بن محمد المهدي والأخ القاضي العلامة جمال قاسم المصباحي , والولد المهندس محمد بن احمد المهدي , والولد الفاضل محمد بن حسين المهدي. سائلين من الله أن يثيب الجميع على ما بذلوه من جهد وأن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الله الكريم.

المحتويات

المحتويات الصفحة ... الموضوع 3 ... بين يدي الكتاب 5 ... تقديم 9 ... تمهيد بيان ما للشورى من أهمية الشورى نظام يمنع التسلط والاستبداد أقوال مشهورة وحكم مأثورة عن الشورى الشورى ليست قصراً على شؤون الحكم والسياسة 15 ... خطة البحث 17 ... الفصل الأول 19 ... لمحة تاريخية عن الشورى في حياة الأمم 25 ... الفصل الثاني 27 ... المبحث الأول: تعريف الشورى لغةً واصطلاحاً الفرق بين الشورى والمشاورة 32 ... تعريف الديمقراطية 33 ... المبحث الثاني: مشروعية الشورى في النظام الإسلامي ما ذكره القرطبي في تفسير الشورى 34 ... ما قاله ابن كثير والماوردي في تفسير الشورى 35 ... ما قاله الزمخشري في تفسير الشورى 36 ... ما أورده أبو حيان في تفسير (وشاورهم في الأمر) نماذج من الشورى في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصوص القرآن والسنة دالة على مشروعية الشورى

.. الشورى تؤدي إلى الرأي الصواب وحق الأمة في المشاركة في إدارة شؤونها العامة 40 ... صور الديمقراطية: الديمقراطية المباشرة 41 ... الديمقراطية النيابية والديمقراطية غير المباشرة 43 ... الفصل الثالث - الشورى من الأمور العامة 45 ... المبحث الأول: الشورى في التشريع الاجتهاد الفردي والجماعي ما ذكره ابن القيم في اجتهاد الصحابة لا يوجد ما يمنع من اختيار مجالس تشريعية السلطة التشريعية بشكلها المعروف اليوم التناسب بين فكرة السلطة التشريعية وبين فكرة أهل الحل والعقد أوليات عمر رضي الله عنه الذي كان يهتدي في أموره بمشاورة الصحابة تحول الخلافة إلى ملك عضوض على يد معاوية بن أبي سفيان تبيين ممارسة أهل الشورى في عهد الصحابة التشريع فيما لا نص فيه 51 ... الأساس الذي يجب أن تبنى عليه مجالس الشورى 54 ... النظام النيأبي وفكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها: أساسه وسنده 57 ... بيان صلة المجالس التشريعية (نواب الشعب) بأهل الحل والعقد القول بالإجماع على جواز النيابة عن الأمة 60 ... ما يشترطه الفقهاء في أهل الحل والعقد 62 ... وظائف المجالس التشريعية في الأنظمة الحديثة الوظيفة التشريعية لمجلس الشورى بيان الوظيفة السياسية والمالية لمجلس الشورى 64 ... الأدلة على وجوب اتباع الشريعة الإسلامية وعدم جواز مخالفتها

.. أولاً: الأدلة في كتاب الله تعالى 66 ... ثانياً: الأدلة في السنة النبوية 67 ... وجوب الحكم بالقرآن والسنة والإجماع تطبيق الشريعة الإسلامية يحمي الشعوب في إطارها الداخلي ويحمي الإنسانية كلها على المستوى الخارجي سلطة الأمة في المجالس التشريعية مقيدة باتباع منهج الله المجالس التشريعية هي مجالس تسن ما يلبي احتياج الأمة من التشريع 76 ... القانون المناط سنه بالمجالس التشريعية التعريف بالقانون لغة واصطلاحاً ليس هناك ما يمنع من استنباط الأحكام الشرعية في المسائل المستجدة بيان استعمال كلمة القانون عند العلماء أساس وضع القواعد المتعلقة بفرع من فروع القانون على شكل مواد مرتبة ومبوبة بيان أن الأحكام تتبدل بتبدل الأعصار استنباط الأحكام الشرعية التي تعالج أوضاع الناس وأحوالهم من أهم الواجبات مسألة التقنين وظهوره في العالم الإسلامي متى تم أقوال العلماء في وجوب التقنين وجوازه 82 ... عوامل نجاح المجالس التشريعية 85 ... ضوابط النقاش والتصويت وإطاره في المجالس التشريعية عدم جواز التعجل عند التصويت ماذا قال العلماء عن التبين والتثبت 87 ... الاستقلال في إبداء الرأي والتجرد من الهوى بيان آفات الهوى ودليل تحريمه

.. بيان ضلال العقول 89 ... الشجاعة في إبداء الرأي عند التصويت بيان القول الحسن 90 ... عدم جواز تحدث الأعضاء عند النقاش خارج نطاق النقاش 91 ... إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة وجوب أداء الأمانات إلى أهلها وجوب الالتزام بمفهوم النصيحة 93 ... وجوب التزام أعضاء المجالس التشريعية آداب الحديث وحسن البيان فيه اتباع الأسلوب الذي يتناسب مع منهج أعضاء المجالس التشريعية 94 ... وجوب رد الرأي عند التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله بيان أضرار التعصب في الرأي في المجالس التشريعية مسائل التشريع في مجالس النواب مقصورة على الأمور الاجتهادية 98 ... نتائج التصويت وحكمه وبيان إلزامية رأي الأغلبية 100 ... الأصل في أن ما تصدره سلطات التشريع من قوانين لا يعود بأثر رجعي 105 ... رقابة القضاء على دستورية القوانين الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية الرقابة عن طريق الدفع الفرعي 109 ... المبحث الثاني: الشورى في الوظائف العامة الأدلة على ذلك من الهدي النبوي التعريف بالنفس 110 ... المناصحة للأمة تقتضي المشاورة فيمن يُختار في الوظائف ذات الخطر العام التفاضل بين الناس يقوم على أساس تفاضلهم في الأخلاق والعلم والكفاءة والتقوى

.. بيان اختلاف مراتب الشورى باختلاف الوظائف 112 ... اختيار الخليفة أو الرئيس أو الملك بيان احتياج الملك أو الرئيس إلى الانتخاب أو البيعة 116 ... طرق تولي وظائف الدولة المهمة كالوزارات وقيادة الجيوش ورئاسة الوحدات الإدارية بيان صعوبة اختيار ولي الأمر للوزراء دون استشارة أهل التقوى والصلاح وخطر ذلك. 118 ... لا خير في أمر أبرم من غير مشورة لا يستقيم الرأي بالتفرد عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى الأشتر قيام ولاة الأمر بحسن اختيارهم لوزرائهم 120 ... المساواة أساس العدل وأساس الحكم وأساس الملك وأهمها إقامة العدل في الوظائف العامة من تكون ولايته خاصة ومن تكون ولايته عامة بيان ضرر المحاباة في تأمير من لا يستحق نظام التوظيف والحد الأدنى من الكفاءة 125 ... الحق في الوظائف العامة مبدء تقره الدساتير والقوانين في مختلف البلدان الكفاءة وحسن السلوك هي الأساس في اختيار الموظف تولية النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وماذا قال فيه 129 ... المبحث الثالث: الشورى في القضاء والحكم مشاورة أهل العلم والصلاح والفطنة أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتشاور في أمور القضاء استشارة الفاروق عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في أمور القضاء نماذج من الاستشارة في القضاء في عهد الراشدين الشورى في قواعد الشريعة وعزائم الأحكام

.. لا ينبغي للرجل أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال وصية عمر رضي الله عنه إلى شريح يجب أن يكون المشير في القضاء من أهل العلم بأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المنظمة 143 ... فكرة نظام المحلفين في القوانين الوضعية. أهداف نظام المحلفين ومقارنته بنظام الشورى فائدة الشورى في أمور القضاء وحكمتها. 147 ... المبحث الرابع: الشورى في الحرب الشورى في غزوة بدر التصويت مع الاختلاف في أمر الشورى جائز إلزامية الشورى في الأمور العامة 152 ... الشورى في غزوة أحد الأمور المستفادة من قصة الشورى في غزوة أحد 158 ... الشورى في غزوة الأحزاب وحفر الخندق 160 ... الشورى في تفريق الأحزاب الأمور المستفادة من الشورى في غزوة الأحزاب صلاحية ولي الأمر وفقاً للدساتير الحديثة التشاور في الأمور العسكرية في مجلس الشورى رأي الشيخ محمد الغزالي والأستاذ عبد القادر عودة في طغيان الفرد 165 ... الشورى في غزوة الحديبية ما نقله الإمام ابن القيم عن هذه الغزوة ما يستفاد من قصة الشورى والمصالحة والهدنة التي تمت في الحديبية بعث العيون من قبل أمير الجيش

170 ... الشورى في الفتح الأعظم أبو سفيان في المدينة بيان الأمور التي استفيدت في قصة الفتح الأعظم 175 ... الشورى في غزوة حنين وأوطاس دريد ابن الصمة ومخالفة قومه له في الرأي قصة استشارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه في شأن هوازن الأمور المستفادة في هذه القصة 181 ... الشورى في الحرب في أيام الخلفاء الراشدين شورى الصديق رضي الله عنه بشأن قتال المرتدين الشورى في الحرب أيام عمر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه يستشير في غزو العراق بنفسه استشارة عمر رضي الله عنه في الخروج لقتال الروم عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة في الذهاب لاستلام بيت المقدس 189 ... المبحث الخامس: بيان من هم أهل الشورى وما هي الصفات التي يجب أن تتوفر فيهم صفة أهل الشورى في القرآن 195 ... ما ورد في السنة النبوية عن صفة أهل الشورى 197 ... صفة أهل الشورى عند العلماء رأي بعض العلماء في جواز عضوية المرأة في مجلس الشورى ما يشترط في عضوية المجالس التشريعية وفي الناخب وفقاً للنظم الدستورية والقانونية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعطائه الحق لكل إنسان في أن يَنتَخِب ويُنتَخب ماذا ورد في الدستور الأمريكي بشأن من ينتخب ويُنتخب ضرورة إيجاد شروط وضوابط فيمن يُنتخب لعضوية المجالس التشريعية

207 ... المبحث السادس: بيان الكيفية التي كانت تتم بها الشورى في صدر الدولة الإسلامية وما يستفاد من ذلك آراء فقهاء السياسة في تحديد الطريق الأمثل للانتخاب أو التعيين وبيان حجج كل فريق وأدلتهم الشورى الإسلامية منزهة عن الهوى والعصبية 223 ... المبحث السابع: الشورى ومدى إلزاميتها وترجيح أدلة القائلين بإلزامية الشورى 245 ... الفصل الرابع - خصوصية الشورى وأهمية تعليمها 247 ... المبحث الأول: خصوصية الشورى ومنفعتها في الأسرة والمجتمع 251 ... المبحث الثاني: تعليم الشورى واتخاذها منهجاً تعليمياً 255 ... الخاتمة 263 ... المراجع 279 ... كلمة شكر وتنويه 281 ... المحتويات

§1/1