الشناعة على من رد أحاديث الشفاعة

عبد الكريم الحميد

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين. إطلعت على كتاب غير مَبْدوء ببسم الله ولا بالحمد لله لمصطفى محمود وهو كاتب مصري تكلم في كتابه عن مسألة هي من أعظم مسائل التوحيد وهي (الشفاعة) وقد أساء بليغ الإساءة وأخطأ فاحش الخطأ حيث تكلم فيما لايُحسن الكلام فيه. وقد تعوّدنا في هذا الزمان السوء على أجناس هذا الكاتب وأمثاله ممن يخوضون في مسائل الدين بلا معرفة ويقولون على الله وعلى رسوله بلا علم وهو من عظائم الذنوب. والحقيقة أن الشيء إذا جاء في أوَانه وَحينه أنه لايُسْتغرب. وكذلك ما ابْتليتْ بهم الأمة في آخر عمرها ونهاية أجلها ممن أخبرهم بهم النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤوس الجهال الذين يقيسون الأمور بآرائهم. إن شؤم هذا الكتاب متوفر فكما أنه لم يُبدأ بذكر الله فكذلك

فهو مُقَبَّحٌ أيضاً بصورة مؤلفة في الغلاف. وفي ثنايا الكتاب ثماني صور له وصور أخرى لنساء في الغلاف الثاني من الداخل. يقول في تقديمه: وأرى أن من حق كل قاريء أن يختلف معي وأن يفهم القضية على طريقته فقد أرادنا الله أحراراً وأرادنا أن نتدبر آياته ونتفهم قرآنه كل على قدر طاقته. (¬1) الجواب: هذا كلام جاهل ضال حيث يرى أن من حق كل قاريء أن يختلف معه وأن يفهم القضية على طريقته. ولو كان عالماً مهتدياً مُسْتيْقناً أن مايقوله حقاً لقال: وأرى أن مِنْ حق كل قاريء ألا يختلف معي بهذا الحق وأن يفهم القضايا الدينية كما أراد الله وأراد رسوله .. قال تعالى: {ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك} فهذا ذم للإختلاف في شأن الحق ومدح لأهل الرحمة وهم المتفقون في الحق بلا خلاف ولا اختلاف. وقال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}. والإجتماع سببه الإتفاق كما أن التفرق سببه الإختلاف لكن المراد بالإجتماع الذي سببه الإعتصام بالكتاب والسنة. أما قوله: فقد أردنا الله أحراراً بعد جعله الإختلاف معه من حق كل قارئ فهذا جهل أيضاً فإن هذه الحرية منوطة بالعبودية ¬

(¬1) ص 7.

للرب عز وجل مُقَيّدة باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وكلما كان الناس أقْوَم بهذين الأصلين كلما عظم اتفاقهم وقلّ اختلافهم. وأصْدق مثال لهذا حال الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم لما كانوا في الغاية من تحقيق ذلك كانوا أبْعد الأمة عن الإختلاف في الحق. وهم خير القرون. والخلاصة أن مسألة الشفاعة الحق فيها واحد وليست من المسائل القابلة للإختلاف. كما أن وظيفة العالم أن يقرر الحق ويبطل الباطل ليست وظيفته أن يفتح باب الإختلاف. وأيضاً ليست مسألة الشفاعة من المسائل الإجتهادية وليس هذا الكاتب وأمثاله أهل للتصدر والكلام في المسائل الإجتهادية. والسلف الصالح من أهل السنة والجماعة قَدْ أرَاحونا من العناء في مسألة الشفاعة وغيرها. وأكثر ضلال المتأخرين وتخبيطهم في مسائل الدين إنما جاء من اغترارهم بعقولهم وفهومهم واحتقارهم للسلف وظنهم أنهم سوف يأتون بمالم تستطعه الأوائل فاستقلوا بعقول سخيفة وفهوم قاصرة نتاجها البضائع الخاسرة.

زعم مصطفى محمود مخالفة الأحاديث الصحيحة للقرآن كالخوارج والمعتزلة

يقول هذا الكاتب: وما ترويه الأحاديث عن أن محمداً عليه الصلاة والسلام سوف يُخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله ولوْ زنا ولو سرق ولو زنا ولو سرق رغم أنف أبي ذر .. هكذا يقول الحديث وهو مايخالف صريح القرآن فالقرآن يقول في محكم آياته. {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} والمنافقون هم الذين يقولون لا إله إلا الله في كل مناسبة وتنطق ألسنتهم بما يخالف سرائرهم وهم في الدرك الأسفل من النار ولن يجدوا لهم نصيراً بصريح القرآن. (¬1) الجواب: الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الحديث يستحيل أن تكون مُخالفة لصريح القرآن لكن أُتِييَ هذا الكاتب من سوء فهمه وقلّة علمه .. نعم يأتي في الحديث ماليس في القرآن بلا مخالفة ولاتعارض. وهذا كثير. وقد وردتْ أحاديث صحيحة في أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا ¬

(¬1) ص 16،17.

الله خلاف مايعتقده الخوارج والمعتزلة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) (¬1). وأهل الكبائر يقولون: لا إله إلا الله وكثير منهم يدخلون النار فيخرجون بشفاعته صلى الله عليه وسلم ليسوا كالكفار الذين قال الله عنهم: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}. فأهل السنة يُقرون بهذه الشفاعة والخوارج والمعتزلة ينكرونها فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). (¬2) وتواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير مايزن شعيرة ومايزن خردلة ومايزن ذرة. وتواترت بأن كثيراً ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها وأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم. فهؤلاء يدخلون النار ويخرجون منها. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته ¬

(¬1) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم. (¬2) جزء من حديث أنس المتفق عليه.

وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لايشرك بالله شيئاً). أما المنافقون فكَوْنهم في الدرك الأسفل من النار وهم يقولون: لا إله إلا الله فليس مخالف للأحاديث الصحيحة. فهؤلاء يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم فهم كاذبون بقولها. قال تعالى عنهم: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا ومايخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} والقرآن مملوء من ذكر المنافقين وكذبهم بخلاف الموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله ويردون القيامة بذنوب لم يتوبوا منها فهؤلاء لو دخلوا النار بذنوبهم لابكفرهم فإنهم يعذبون فيها بقدر مااقترفوه من الذنوب ثم يخرجون. فَفَرْقٌ بين مُوَحّد يقول لا إله إلا الله وهو صاحب كبائر وبين من يقول الله عنهم: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} فكذبهم في قولهم لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وجعلهم في زمرة الكفار بل أخبثهم كفراً. فالموحّد في قلبه إيمان هو يعمل على مقتضاه بخلاف المنافق الكاذب الذي يقول بلسانه ماليس في قلبه.

كلمة الإخلاص مقيدة بالقيود الثقات

ثم قال مصطفى محمود: والمعنى المستخلص هو أن قول لا إله إلا الله باللسان مرة أوْمرات أوطول العمر لن يغني شيئاً ولن يحقق لصاحبه نجاة ولا فلاحاً إلا إذا صادق القلب وصادقت الجوارح وأكّدت الأفعال على هذا القول وهو مالم يرد له ذكر في الحديث. (¬1) الجواب: هذه الكلمة العظيمة جاءت مقيّدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها لا يعرف الصدق والإخلاص المراد منها. وأكثر من يقولها تقليداً وعادة ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يُفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) لكن لايعني هذا إنكار ماصَحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالذي في حديث أبي ذر رضي الله عنه ذكر الزنا والسرقة وهذه كبائر لاتُحبط الإيمان بالكلية لكنها تضعفه وليس معنى الحديث أن الإنسان يقول لا إله إلا الله ولا يصادق قلبه ¬

(¬1) ص 17.

وجوارحه وتؤكد أفعاله فهذا المنافق. أما الذي ذُكر في الحديث فمسلم مصدق قلبه وجوارحه ومؤكدة أفعاله يعني التوحيد لكنه يأتي بعض الكبائر فليس كالمنافق الكاذب في قول لا إله إلا الله. فقد تبيّن أن النطق بالشهادة من غير معرفة لمعناها ولايقين ولاعمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع. وهذا لا يوجب التكذيب بأحاديث الشفاعة الثابتة لأنها للموحدين الذين يعرفون معناها ويعملون بمقتضاها ولكن لهم ذنوب أوْجبت لهم دخول النار. ومما جاء في بيان كلمة لا إله إلا الله في (قرّة عيون الموحدين) قوله: وأنت تجد أكثر من يقول لا إله إلا الله ويَدَّعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته بدعوة من لايضر ولاينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم ويحبهم ويُوَاليهم ويخافهم ويرجوهم ويُنكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وتَرْك عبادة ماسِواه ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة ويُعادي من عمل به وأحَبّه وأنكر الشرك وأبغضه. وبعضهم لا يَعدّ التوحيد علماً ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته والله المستعان ..

وشهادة أن لا إله إلا الله ذكر العلماء لها شروط لابد من وجودها فلابد من (العلم) بحقيقة معناها علماً ينافي الجهل بخلاف من يقولها وهو لايعرف معناها. ولابد من (اليقين) المنافي للشك فيما دَلّت عليه من التوحيد. ولابد من (الإخلاص) المنافي للشرك. فإن كثيراً من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة ويُنكر معناها ويُعادي مَن اعْتقده وعمل به. ولابد من (الصدق) المنافي للكذب بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق كما قال تعالى: {يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم}. ولابد من (القبول) المنافي للرّد بخلاف من يقولها ولايعمل بها. ولابد من (المحبة) لِما دَلّت عليه من التوحيد والإخلاص وغير ذلك والفرح بذلك المنافي لخلاف هذين الأمرين، ولابد من (الإنقياد) بالعمل بها ومادلّت عليه مطابقة وتضمناً والْتزاماً. وهذا هو دين الإسلام الذي لايقبل الله ديناً سواه. وكثير ممن يدّعي العلم قد عكس مدلولها.

عباد القبور

من عَلِمَ ماتقدم وفهمه تبين له ضلال من يقول لا إله إلا الله وهو يعتقد في البدوي أوالدسوقي أوزينب أوغيرهم من أهل القبور ينذرون لهم النذور ويذبحون لهم ويدعونهم ويغترون بقولهم لا إله إلا الله. أما علموا أن (لا إله) تنفي كل مايعتقدونه بأهل القبور. وهذا الإعتقاد الذي اعتقدوه بهم لا حقيقة له وإنما هو موجود في خيالاتهم فقط وبمقتضى هذا الخيال اعتقدوا الشرك والضلال. وظنوا أن الشرك اعتقاد الخلق أو الرزق أو التدبير فقط. أما مايفعلونه فأوْهمهم الشيطان أن هذا محبة للأولياء وتعلّقاً بجاهِهم وطمعاً في أن يقربوهم لربهم فأوْقعهم في الشرك حيث مالَت قلوبهم لهذه الأوثان وخافوهم ورجوْهم وأحبوهم فبهذا عكسوا مدلول (لا إله) إذْ أثبتوا مَأْلُوهَات تَأْلَهَهَا قلوبهم تعبّداً لأن أركان العبادة هي هذه الثلاث الخوف والرجاء والمحبة. ومَبْنى كلمة التوحيد على نفي كل معتقداتهم التي نشأ عنها تَأَلّه قلوبهم عن الرسل والملائكة فضلاً عن غيرهم وإثبات ذلك لله

وحده وهو المراد من (إلا الله) في كلمة التوحيد. إن هذا التّوَجّه بالقلوب والإعتقاد هو مراد الرب من خلقه ولايقبله إلا خالصاً بلا شركة مخلوق لانبي ولاغيره. إن مدلول كلمة لا إله إلا الله عظيم وكبير. وكم ممن يغرّه الشيطان بهذه الكلمة دون تحقيق.

إنكار مصطفى محود لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

ثم قال مصطفى: والنبي يشكو أمته في القرآن ولا يتوسط لمذنبيها فيقول لربه: (يارب إن قومي أتخذوا هذا القرآن مهجوراً) وهي شكوى صريحة وكلام مناقض لأيّ شفاعة. ولن ينجو من المذنبين إلا من تكرم عليه رب العزة وفتح له باباً للتوبة قبل الممات. (¬1) الجواب: هذه نزلت في المشركين كانوا لايُصغون للقرآن حين يتلى عليهم ولايستمعونه. ولا تُناقض الشفاعة لأهل الذنوب من الموحدين ولاتدل على نفي الشفاعة لهم بأيّ وجه. أما أنه لاينجو من المذنبين إلا من تاب قبل الممات فباطل مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة وهو إنكار لأحاديث الشفاعة الصحيحة بل وإنكار لما ثبت من أن الله يخرج من النار من شاء برحمته دون شفاعة شافع. ¬

(¬1) ص 17،18.

ثم قال: والملائكة في طَوَافهم حول العرش يسبحون لربهم ويستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم قائلين: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} الآيات. إذن الوسيلة الوحيدة للنجاة من العقاب هي أن يقي ربنا عباده من الوقوع في السيئات أصلاً أويفتح لهم باب التوبة في حياتهم إذا تَوَرّطوا فيها. وهذه أبواب الشفاعة الممكنة وهي دعاء النبي لِمسلمي هذه الأمة بأن يختم حياتهم بتوبة ونرجو أن نكون من الفائزين بهذا الدعاء. وهذا الدعاء المحمدي هو الشفاعة التي نفهمها بالمعنى القرآني. (¬1) الجواب: من أنكر ماصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة وقدْ صَحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه يشفع يوم القيامة بمن يأذن له الله بالشفاعة لهم من الموحدين. أما استغفار الملائكة للمؤمنين ودعاؤهم لهم. كذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته فلا يمنع ولايعارض ماثبت من أمر الشفاعة في القيامة ¬

(¬1) ص 18.

فأيّ فهم هذا؟. ثم قال: أما الشفاعة بمعنى هدم الناموس وإخراج المذنبين من النار وإدخالهم الجنة. فهي فَوْضى الوسايط التي نعرفها في الدنيا ولا وجود لها في الآخرة. وكل ماجاء بهذا المعنى في الأحاديث النبوية مشكوك في سنده ومصدره لأنه يخالف صريح القرآن. ولايعقل من نبي القرآن أن يطالب بهدم القرآن. (¬1) الجواب: يقال لهذا: ماهو الناموس الذي ينهدم إذا حصلت الشفاعة للمذنبين من الموحدين وأدخلوا الجنةبعد تعذيبهم بقدر ذنوبهم في النار؟ إن الله لايُساوي بين مختلفَيْن ولايفرّق بين متساوِيَيْن ولا يظلم مثقال ذرة. فالذي يأتي يوم القيامة بالتوحيد وله ذنوب فإما أن يغفرها الله أويعذب بقدر ذنوبه ثم يُؤذن بالشفاعة له فكيف يُساوَى هذا بالكافر؟ وانهدام الدين إنما هو بردّ ماثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكوْن أحاديث الشفاعة مشكوك في سندها ومصدرها هذه داهية. ولِكل أحد أن يقول مثل هذا فيما يخالف هواه فهل يستقيم أمر الدين مع هذا التلاعب. ¬

(¬1) ص 19.

أمّا أن أحاديث الشفاعة تخالف صريح القرآن فمن أبطل الباطل ويستحيل أن يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم مايخالف القرآن. ثم إن الله يقول: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} فلوْلا أن الشفاعة كائنة في القيامة لَمَا ذكر الله هذا الإسْتثناء. وقال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فلوْلا أن الشفاعة كائنة في القيامة لما ذكر سبحانه هذا الإستثناء. فهذه الآيات ونحوها في أهل التوحيد. أما الكفار فقد قال تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} مما يبين أن الشفاعة حاصلة لغيرهم. ويقول تعالى عن الكفار أيضاً: {فما لنا من شافعين} فأين المخالفة لصريح القرآن لوْلا سوء الفهم.؟

ليست شفاعة الآخرة كشفاعة الدنيا

أما فَوْضى الوسائط المعروفة في الدنيا فهذا مبني على أصل فاسد وفهم فاسد حيث أن الشفاعة المثبتة في الآخرة تختلف اختلافاً كلياً عن وسائط الدنيا. فالواسطة في الدنيا يتوسط ولوْ لم يأذن له المشفوع عنده كما أن المشفوع عنده في الدنيا يجيب شفاعة الواسطة لأنه يخافه ويرجوه ويستعين به ويستظهر وإن كان في صورة ملك ونحوه فهو يحتاج إلى الأعوان والأنصار ويتضرر بعدم إجابته شفاعتهم. والرب سبحانه وتعالى بخلاف هذا كله. وإنما هو يُكْرم الشافع بأن يجعله يشفع. ولا يشفع الشافع إلا بمن يريد الرب أن يرحمه فليست الشفاعة مُلكاً لأحد بل (لله الشفاعة جميعاً) وهو الذي يُعَيِّن المشفوع فيه للشافع. ليس الشافع يتقدم بين يدي الجليل سبحانه مهما كانت منزلته فَسَيّد الشفعاء وأكرمهم عند ربه وأعظمهم جاهاً وأقربهم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم يُحَدّ له حداً يشفع فيهم. وهذه كلها فروق بين شفاعة الدنيا وشفاعة الآخرة.

ولذلك من تعلّق بغير الله طالباً منه الشفاعة حُرِمها لأنها ملك لله سبحانه ولأن هذا شرك. ومِنْ عدم التفريق بين الشفاعة عند المخلوقين من الملوك ونحوهم وبين الشفاعة عند الخالق سبحانه حصل الضلال والشرك حيث تعلقت القلوب بغير الإله الحق سبحانه. ومما يُهوّن معرفة ماتقدم أن الرب سبحانه هو الخالق لأفعال العباد فلا أحد يملك أن يتحرك قلبه بإرادة شفاعة لأحد إلا أن يكون الله يخلق ذلك فيه. وكذلك جوارحه. فالأمر كله له سبحانه. إن تأمل هذا ومعرفته بالقلب يعطي العبد فرقاناً عظيماً بين الشرك والتوحيد بِقِسْمَيْه ويعرّفه معنى الكلمة العظيمة (لاحول ولاقوة إلا بالله) فهو المحرك للمتحرك والمسكّن للساكن في السموات والأرض. فهذا من توحيد الربوبية الذي يسْتلزم توحيد الإلهية. وتأمل ماورد في حديث الشفاعة وهو في الصحيحين (آتي تحت العرش فأخِرّ ساجداً فيدعني ماشاء الله أن يدعني ثم يقال: إرفع رأسك وقل تسمع واشْفع تشفّع قال: فيحدّ لي حَدّاً فأدْخلهم الجنة؟) إذا كان يُحَدّ له صلى الله عليه وسلم فرجع الأمر كله لله

وطلب الشفاعة من غيره شرك وضلال. والأحاديث متواترة في شفاعته صلى الله عليه وسلم في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبَدَّعُوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادَوْا عليه بالضلال.

إتكال الفساق على الشفاعة لا يوجب نفيها

ثم قال: ولكن المسلمين الذين عُرفوا بالإتِّكاليه قدْ باتوا يفعلون كل منكر ويرتكبون عظائم الذنوب أتكالاً على نبيهم الذي سوف يخرجهم في حفْنة واحدة من النار ويلقي بهم في الجنة بفضله وكرمهِ وهم الذين شكاهم إلى ربه في صريح قرآنه وجَأَرَ بشكواه قائلاً: {يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} (¬1). الجواب: أما أن يرتكب العبد عظائم الذنوب اتكالاً على الشفاعة فهذا إنما يفعله من هو مِن أجهل الناس لكن لايُرَدّ الباطل بباطل فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثابته للمذنبين من أهل التوحيد من أمته وإنكار ذلك رَدّ على الله أمره وعلى رسوله مابلّغه. إن هذا هو مَشْرب الخوراج حيث عظّموا الرب سبحانه بما اخترعوه من عند نفوسهم ليس لهم فيه برهان حيث ضاقت ¬

(¬1) ص 19.

صدورهم ولم تَتّسع لأن يرحم الله أهل التوحيد الذين اسْتَوْجبوا النار بذنوبهم فيخرجهم منها بالشفاعة. وقد وقعوا بأعظم مما فرّوا منه ولذلك ورد في ذمهم ماهو معلوم. والدين ليس بالرأي. وحَسْبُ العقل من الكمال أن يلْتزم ماورد به الكتاب والسنة وبفهم الصحابة. وآية: {يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً}. تقدم أنها في المشركين لكن هجران القرآن أنواع متفاوته فأعظم هجرانه عدم الإيمان به ثم لمن هجره بالتقصير في حقه نصيب من الذم ولو كان مُوَحِّداً ولا يُلْحقه ذلك بالكفار ولاتدل الآية على نفي الشفاعة بأي وجه.

شفاعة الشافعين لا تعارض ملكية الله تعالى للشفاعة

ثم قال: والقرآن يقول: {لله الشفاعة جميعاً} وهو بذلك يجمع سلطة الشفاعة جمعيّة واحدة ويجعلها لله وحده ويقول: {مامن شفيع إلا من بعد إذنه} والسبب طبيعي فهو وحده الذي يعلم استحقاقات كل فرد ومافعل في دنياه من خير وشر وماهي أعْذاره إن كانت له أعذار. وهو الوحيد الذي يعلم قلبه وضميره ويعلم سّره ويعلم ماهو أخفى من ذلك السرّ. فماذا تضيف شفاعة أيّ شفيع لعلم الله؟ {أتنبئون الله بمالا يعلم في السموات ولافي الأرض} (¬1). الجواب: شفاعة الشافعين لاتُعارض مُلْكيته سبحانه للشفاعة فإنه يُكرمهم بالشفاعة ولايشفعون إلا بعد أن يأذن لهم ولايشفعون أيضاً إلا لمن ارْتضى. فعاد الأمر كله له سبحانه بخلاف المخلوق الذي يُشفع عنده بغير إذنه ويستجيب لشفاعة الشافع ولوْ لم يرض ¬

(¬1) ص 20.

عن المشفوع له وتقدم بيان ذلك. ويلاحظ ركاكة عبارات هذا الكاتب في كلامه عن الله وعن الدين. مثل وصْفه الله بالوحيد. كذلك فإن إثبات الشفاعة لاينافي علم الله سبحانه المحيط بكل شيء فالشفاعة تكريم للشافع ورحمة للمشفوع له وهي سبب من جملة الأسباب كما أن أعمال العبد المؤمن سبب لدخول الجنة ليست قيمة وثمناً لها.

نفي مصطفى محمود للشفاعة يوم القيامة

ثم قال: القرآن يقول في قطعية واضحة: أن الله لايشرك في حكمه أحداً. ويقول في قرآنه: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع}. وكل هذا نفي صريح للشفاعة يوم الحساب. ثم يتكرر نفس المعنى في آية أخرى في سورة السجدة: {الله الذي خلق السموات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولاشفيع أفلا تتذكرون} فأضاف في هذه الآية حرف (من) {مالكم من دونه من ولي ولاشفيع}. وهو نفي قطعي لأي نوع من ولي أوْ شفيع هذه الآيات المحكمات في نفي الشفاعة تجعلنا نعيد النظر بتفهّم لأي آية تتكلم عن الشفاعة ونفهمها في حدود (المتشابه) فلا ننساق وراء هذه الأحاديث التي تملأ كتب السيرة وتدّعي بأن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يُخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله.

وما أسهل أن نقول وما أهْون أن ننطق بالكلام ونحن أكثر الأمم كلاماً وأقلها التزاماً. (¬1) الجواب: تقدم أن الشافع غير شريك لله سبحانه وإنما هو مُكْرم بالشفاعة. وقوله تعالى: {وأنذر به الذي يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع}. لاتدل على نفي الشفاعة مطلقاً. وإنما دلالتها القطعية على نفي الشفاعة من دونه وهي التي لم يأذن بها ولم يرض عن صاحبها. فهذه لا وجود لها في القيامة. أما في الدنيا فقد اتّخِذَتْ الشفعاء وتولاّهم المشركون ولن يُغنوا عنهم شيئاً حيث طلبوها ممن لايملكها. ولذلك يقول الموحّد: اللهم شفّع فيِّ نبيي لايقول: يارسول الله إشفع لي: فالرسول لايملكها ولايقدر عليها اسْتقلالاً. أما جعل الأحاديث الثابتة عن الصادق المصدوق الذي لاينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم في حدود المتشابه فهذا زيغ وضلال ورَدّ على الرسول أمره. قال ابن تيمية رحمه الله: ومقصود القرآن بنفي الشفاعة نفي الشرك وهو أن أحداً لايعبد إلا الله ولايدعو غيره ولايسأل غيره ولايتوكل على أحد في أن يرزقه وإن كان الله يأتيه برزقه بأسباب. ¬

(¬1) ص 21، 22.

كذلك ليس له أن يتوكل على غير الله في أن يغفر له ويرحمه في الآخرة وإن كان الله يغفر له ويرحمه بأسباب من شفاعة وغيرها. فالشفاعة التي نفاها القرآن مطلقاً ماكان فيها شرك وتلك مُنْتفية مطلقاً. ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مَوَاضع. وتلك قدْ بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لاتكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. فهي في التوحيد ومُسْتحقيها أهل التوحيد. إنتهى. (¬1) تأمله فإنه فرقان في هذه المسئلة وأعلم أن نفي الشفاعة المراد منه. أن الشفاعة بغير إذنه غير حاصلة في القيامة. فنفاها سبحانه باعتبار أنها غير موجودة وكالشيء المعدوم في الآخرة. ¬

(¬1) الفتاوى 7/ 78.

كلام جاهل

ثم قال: وللأسف الشديد نحن نقرأ كتب السيرة والأحاديث بتسليم مطلق وكأنها قرآن منزل ومحفوظ. والله لم يقل لنا أنه تولى حفظ هذه الكتب. وهو لم يحفظ إلا القرآن وكل ماعدا القرآن من كتب يجب أن تخضع للنقد والفحص مهما عظم شأن أصحابها. (¬1) الجواب: كتب السيرة والأحاديث لايقرؤها بتسليم مطلق وكأنها قرآن منزل محفوظ إلا من لايعرف كلام أهل العلم في ذلك وأنه لابد من تمييز الصحيح من غيره كما أن هذه الكتب يختلف بعضها عن بعض فليس الصحيحان كغيرهما. وأنت بكلامك هذا لاتقصد ماقصده الأئمة والعلماء من النصح لله ولرسوله بتمييز ماصَحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره فقد شكّكت في أحاديث الشفاعة الصحيحة ونفيتها. وسيأتي إن شاء الله طعنه حتى على الصحيحين. ¬

(¬1) ص 22، 23.

أما النقد والتمحيص فليس لك ولا لأمثالك. فجهلك طافح به كتابك وردّك أحاديث الرسول الثابتة لمخالفتها لبدعتك يوجب نقدك وتمحيصك أولاً ليظهر ضلالك وأنك غير ثقة ولا مؤتمن على هذه البضاعة. وإنما تكلمتَ في زمان قُبِضَ فيه العلم فأنت من رؤوس أهله الجهال. ثم قال: والإسرائيليات تملأ كتب السيرة وقدْ دَسّوا علينا أن الرسول سُحِرَ وأن جبريل استخرج لفافة السحر من البئر وهو كذب صراح بشهادة القرآن نفسه بما روى على لسان الكفار أتّهاماً للنبي عليه الصلاة والسلام: {إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} فالقرآن ينسب أمثال هذا الإتهام للظالمين من الكفار الذين يُريدون تشويه صورة النبي بمالا يليق وبماليس فيه. والآية تكذيب ضمني لهذه الحكايات التي ذكرها كتاب السيرة والتي رَوَتْ أن النبي عليه الصلاة والسلام بِفِعْل هذا السحر كان يأتي بأفعال ولايُدرك بأنه فعلها ويأتي بأقوال ولايدري بأنه قالها حتى أخرج له جبريل السحر وتمّ شفاؤه. وهو كلام خطير يطعن في دَوْر النبي عليه الصلاة والسلام كمبلّغ عن الله وكرسول. والقرآن

صريح في التأكيد على عصمة النبي عليه الصلاة والسلام (والله يعصمك من الناس). فهذه المرويات كلها أكاذيب. (¬1) الجواب: حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في صحيح البخاري رحمه الله وتكذيبك به دليل على زَيْغك وضلالك. ولا معارضة ولا منافاة في ذلك للقرآن. فالله سبحانه ذكر عن الكفار قولهم: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} إنكاراً عليهم نسبة رسوله للسحر فيما أتاهم به من ربه تَبْرئة لرسوله أن يأتي بالسحر وينسبه إلى الله. أما ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من سحر لبيد بن الأعصم اليهودي فهذا شيء آخر لم يؤثّر فيه أي أثر من جهة تبليغه رسالة ربه فهو في عصمة من هذا الوجه لكن صارت له آثاراً خفيفة في بعض أحواله الطبيعية. وقدْ وَضَحَتْ له ولم تَخْفَ عليه حيث أخبر أنه يُخَيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله. فهذا التخييل لم يخف عليه صلى الله عليه وسلم ولم يلتبس وقد شفاه الله منه. فهو عارض تتبيّن منه بشريّته صلى الله عليه وسلم كما يُصاب بالأمراض والأوجاع ونحو ذلك ولايُنافي هذا عصمته في تبليغ رسالة ربه والعمل بذلك فهذا التخييل في أشياء طبيعية ثم هو قدْ علم به حيث ¬

(¬1) ص 23، 24.

أخبر أنه يُخّيل إليه. وهذا خلاف السحر المؤثر بتغيّر حالة الشخص بحيث يعرف ذلك الناس منه. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسْتنكر منه أصحابه ولا زوجاته شيئاً غَيّره إطلاقاً. وإنما هو أحَسّ بذلك التخييل. وقد أنكر هذا الحديث الصحيح غير مصطفى محمود لشبهاتهم التي يُوردونها عليه يتقوّوْن بذلك بزعمهم على رَدّ غيره من الأحاديث المخالفة لِنحلهم. والحقائق لاتبطلها الشقاشق. فيجعلون إنكار مثل هذا الحديث سلماً لأغراضهم. ولذلك قال بعد الكلام السابق: وليس غريباً أن تمتلئ هذه الكتب بالمدسوس من أحاديث الشفاعة فنقرأ في أحدها أن النبي عليه الصلاة والسلام يُدخل بشفاعته إلى الجنة رجلاً لم يفعل في حياته خيراً قط ويكون هذا الرجل هو آخر الداخلين إلى الجنة. وما الهدف من أمثال هذه الأحاديث المدسوسة سوى إفساد الدين والتحريض على التسيّب والإنحلال وفتح باب الجنة سَبَهْلَلَة للكل لأن الشفيع سجد عند قدم العرش وقال متوسّلاً: لا أبرح حتى تدخل كل أمتي الجنة يارب. (¬1) ¬

(¬1) ص 24.

الجواب: الحذر من هذا الضال فإنه يُقرر مذهب الخوارج والمعتزلة في منع الشفاعة للمذنبين وهي ثابته عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر وأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وإذا كان هذا يطعن في كتب الحديث عامة وفي صحيح البخاري خاصة فيكفي أن يقال له: هذه أحاديث صحيحة في صحيح البخاري ومسلم رحمهما الله وكتب الحديث الأخرى. وإنكارك لذلك ضلال عظيم. وليس في إثبات ماصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفساد للدين وإنما الإفساد بإنكار ما أثبته كما فعلتَ أنت فأنت الذي تفسد الدين. ويلزم من كلامك أن أئمة أهل السنة والجماعة وعلماؤهم مفسدون وأنت الذي جئت بالإصلاح بتقريرك مذهب الخوراج والمعتزلة الفاسد. كذلك فليس في إثبات ماصح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم مايجعل الجنة سَبَهْلَلة كما عَبَّر وقد تقدم أن كلمة التوحيد مقيدة بقيود ثقال وأنها لاتنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها والعمل بمقتضاها وأنها لاتنفعه إلا بعد الصدق والإخلاص واليقين لأن كثيراً ممن يقولها في الدرك الأسفل من النار فلابد في شهادة ألا إله إلا

الله من اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان فإن اختل نوع من هذا الأنواع لم يكن قائلها مسلماً .. هكذا قرر أهل السنة. أما قوله: قدم العرش فمن جنس عباراته الركيكة. والذي ورد أن للعرش قوائم لا أقدام. ثم قال بعد أن ذكر شيئاً من أهوال القيامة: هل هذه لحظة يُسَاوِم فيها النبي ربه لإخراج رجل من النار وإدخاله الجنة وهو لم يفعل خيراً قط في حياته؟ إن لم يكن هذا هو الهزل فماذا يكون؟ (¬1) الجواب: هذا فهمك الساقط وتعبيرك الفاسد حيث جعلت مقام النبي صلى الله عليه وسلم الشريف السامي الذي يُكرمه الله به مقام مُساومة وهزل. ولماذا يضيق عطنك أن يرحم الله عباده فتعارض الحق هذه المعارضة؟ إنك لوْ عرفت حكمة الحكيم في تقديره ما قدره على عباده وحكمة أمره ونهيه وثوابه وعقابه بل وحكمته في خلق إبليس الداعي إلى كل كفر وفسق بل وحكمته في خلق عذاب الآخرة لعرفتَ قدر نفسك وعلمت أن كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حق وصدق وأنه صادر عن مقتضى حكمة أحكم ¬

(¬1) ص 25.

الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين .. ولكنك تُهْرف بما لاتعرف ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. ثم ذكر أعداء الإسلام وأنهم هم الذين يكيدون له وأن هذا من دسائسهم. ثم ذكر حسن فهم القرآن وقراءة السيرة من خلال القرآن لِتفهم الدين وقال: ولا تستخفكم الروايات والأحاديث التي تدخلكم الجنة بغير حساب لمجرد أنكم تلفظتم بكلمة التوحيد. فالتوحيد ليس مجرد كلمة وإنما حقيقة تملأ القلب ويترجمها العمل ويؤكدها السعي في الأرض وفي مصالح الناس وتعبّر عنها حركة الحياة بأسرها. (¬1) الجواب: تقدم أن ما أنكره ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما تهجينه لِلْمغترين بمجرد التلفظ بكلمة التوحيد فنعم إنه لايَعتمد على مجرد التلفظ بذلك مع مخالفة عمله لقوله إلا مغرور. لكن هذا لا يوجب التكذيب بالأحاديث الصحيحة لأنه فَهِم منها هو وهؤلاء الذين وصفهم غير المراد فهو وَقَع بعظيم ولم يُشعر. قال: القرآن ينفي إمكانية خروج من يدخل النار في الكثير والعديد من آياته من الكفار ومن المسلمين أيضاً {يريدون أن يخرجوا من النار وماهم بخارجين منها ولهم عذب مقيم} وذكر ¬

(¬1) ص 26.

آيات مثل هذه في الكفار وجعل المسلمين معهم يدوم عذابهم بدوام النار. وهذا خلاف مايعتقده أهل السنة والجماعة من التفريق بين المذنبين من المسليمن وبين الكفار وهو الذي يدور عليه موضوع كتابه.

الفهم السيء لدى مصطفى محمود للقرآن الكريم كالخوارج والمعتزلة

ثم قال: ويقول عن قاتل النفس ويدخل فيه المسلم وغير المسلم {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}. (¬1) والجواب عن هذا أن قاتل النفس المسلم لايدوم عذابه بدوام النار كالكفار. أما ذِكر الخلود في جهنم فالخلود في لغة القرآن هو المكث الطويل ليس معناه عدم النهاية وقطعاً ليس مصير قاتل النفس المسلم كمصير الكفار وإن كان مُتَوَعَّداً بالخلود. كذلك آكل الربا المسلم وآكل مال اليتيم. لأن مساواة المذنبين من الموحدين بالكفار من أبطل الباطل وهو مذهب الخوارج والمعتزلة. ثم قال: فكل من يدخل النار تتأبّد إقامته فيها. ولايوجد في القرآن حكاية التعذيب لأجَل محدود في جهنم ولافكرة المطهِّر التي نقرأها في كتب إخواننا المسيحيين. ¬

(¬1) ص 32.

يقول ربنا: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (وهو كلام عن المسلمين). الجواب: حكاية التعذيب لأَجَلٍ محدود جاءت صريحة في السنة الصحيحة في أحاديث الشفاعة كما تقدم. والأصول الفاسدة تقود إلى عقائد من جنسها لأنها فروعها وثمارها فهو قدْ أصّل الرّدّ للأحاديث التي تخالف نحلته وقد تقدم بعض ذلك ويأتي إن شاء الله قوله: ولم يقل لنا رب العالمين أنه حفظ كتاب البخاري أوغيره من كتب السيرة. ومايقوله البخاري مناقضاً للقرآن يُسأل عنه البخاري يوم الحساب ولانُسأل نحن فيه .. ويأتي غيره من ضلالاته.

هل المسيحيون إخوانا لنا؟!

أما قوله: إخواننا المسيحيين فنعم له ما اختار لنفسه. أما المسلم فيبرأ إلى الله منهم وإنما إخوانه المؤمنين. وليس هذا وحده الذي يقول هذه الكلمة العظيمة بل إن أمثاله كثير من علماء تلك الديار يقولونها. والله سبحانه قطع الأخوة بين المسلم والكافر. وقد قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) الحديث. أما قوله عن آية سورة البقرة: (وهو كلام عن المسلمين فباطل لأن المراد بها اليهود وسياق الآيات يدل على ذلك. وقد نقل ابن كثير في تفسيره أن الآية في اليهود. ذكر ذلك عن ابن عباس وقتادة وعكرمة. ثم قال ابن كثير في قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} الآية قال: يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنّيتم ولا كما تشتهون بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به

خطيئته وهو مَنْ وَافى يوم القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله له سيئات فهذا من أهل النار. (¬1) فهذا يقول بالقرآن برأيه في قوله عن الآية: (وهو كلام عن المسلمين) والوعيد على من فسّر القرآن برأيه معلوم. وانظر قول ابن كثير: وهو مَنْ وَافى يوم القيام وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا يجعل حكم المسلم في الآخرة الذي له حسنات وسيئات كالكافر الذي ليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات. ثم حكم أيضاً على أحاديث إخراج الرسول من النار أحد بأنها موضوعة. (¬2) ¬

(¬1) التفسير 1/ 118. (¬2) ص 34.

الخلط بين المسلمين والكفار

ثم قال: والذين يأكلون الربا من المسلمين وغير المسلمين تتحدث عنهم الآية من سورة البقرة: {الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} الآية. قال: كيف يشفع الرسول في هؤلاء وكيف يسبق ربنا بالقول في قضايا حسمها الله في القرآن من الأزل. الجواب: جعل هذا الضال وَعيد المسلم الذي يأكل الربا كالكافر حيث قال: من المسلمين وغير المسلمين. والمسلم الذي يأكل الربا ولايستحله كيف يُساوى بالكافر في العذاب؟ هذا ضلال مبين. وكتب أهل السنة من الحديث والفقه والتفسير والأحكام ليس فيها هذا الهَوَس بل فيها الفرق بين المسلم المذنب والكافر في أمور الدنيا والآخرة لكن هذا يجري مع أفكاره ومايُوَأفق نِحْلته المعتزلية الخارجية ولا يُراجع كلام أهل السنة بل يُكَذِّبُ بها ويُشكّك. ثم ذكر أنه لاشفاعة تجدي ولاشفاعة تقبل يوم القيامة ويستدل بقوله تعالى: {يوم لاتملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}

وقوله تعالى: {قل لله الشفاعة جميعاً}. ثم قال: وهو وحده أرحم الراحمين ولايستطيع مخلوق أن يدّعي أنه أكثر رحمة بعباد الله من الله أو أعلم بهم منه ... (¬1) يظن بجهله أن إثبات الشفاعة ينافي كوْن الشفاعة لله جميعاً وقد تقدم مايبين عدم منافاة ذلك لملكية الرب سبحانه للشفاعة جميعاً إذْ أنها لاتكون إلا بإذنه وتعيينه المشفوع فيه وخلقه. وأنها كرامة للشافع ورحمة من الله للمشفوع فيه. فأما إثبات شافع بغير إذن الله سبحانه للشافع. وتحديده وتعْيينه للمشفوع فيه. ودون أن يخلق الله إرادة وطلب الشفاعة في قلب الشافع ويخلق دعاءه الذي يدعو به ربه لذلك المشفوع فيه فإثبات هذا النوع من الشفاعة إثبات شريك لله. وهذا هو الذي نفاه الله في القرآن. أما الشفاعة على الصفة التي قد بَيّنتُ فلا تخرجها عن كوْنها ملك لله لاتطلب إلا منه. ¬

(¬1) ص 37.

فالرب سبحانه هو خالق أفعال العباد ولذلك لايقدر أحد على نفع أحد أوضره لابشفاعة ولاغيرها إلا بأن يخلق الله ذلك فيه. ومعلوم أن العبد إذا التفت للشفيع يسأله فقد أعرض بوجهه وقلبه عن الله تعالى وذلك ينافي الإخلاص.

طعن مصطفى محمود ما في صحيح البخاري

ثم قال: والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أي تحريف وقال في كتابه المحكم: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ولم يقل لنا رب العالمين أنه حفظ كتاب البخاري أوغيره من كتب السيرة. ومايقوله البخاري مناقضاً للقرآن يُسأل عنه البخاري يوم الحساب ولا نُسأل نحن فيه. (¬1) الجواب: ليعلم هذا الضال وأمثاله أن الآية وإن كان المراد بالذكر فيها القرآن فإنه يدخل فيه حفظ الوحي الثاني الذي تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم بالجملة ولذلك قَيّض الله له من يحفظه كهذا الإمام العظيم البخاري رحمه الله الذي استهان به هذا حيث أن كتابه الصحيح أصح كتاب بعد القرآن. كذلك صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله. وقد تلقّت الأمة هذه الصحاح بالقبول. ¬

(¬1) ص 41.

والوقيعة بأهل الأثر من علامات أهل البدع. فالبخاري ومسلم تميزا رحمهما الله بهذين الصحيحين اللذين حفظ الله بهما دينه عن عبث العابثين وزيغ الزائغين. كذلك غيرهما من علماء السنة وماحفظوه ودوّنوه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ماهو أشهر من أن يذكر وأجلّ من أن يطعن به هذا الضال ويُهَوِّن من شأنه. ولو كان الحفظ للقرآن فقط يعني كما فهم هذا من الآية لما علمت الأمة معظم دينها مثل كيفية الصلاة والزكاة وغير ذلك كثير جاء تفصيله وبيانه في أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما لأن السنة تفسر القرآن وتوضحه وتكشف معانيه وهي الوحي الثاني فهل يُضيّعها الله؟ هذا ظن سوء برب العالمين وهو اعتقاد في غاية السوء. ولِطَعْنه بالأحاديث يقول: والعمدة المعتمد في جميع أمور الملة هو القرآن المجيد نتمسك به ونحتكم إليه في كل صغيرة وكبيرة. وما تناقض في كتب السيرة مع القرآن لا نأخذ به. (¬1) فيقال له: التمسك بما ثبت عن رسول الله تمسك بالقرآن وليس في ذلك مايعارضه لكن في الأحاديث مايزيد ¬

(¬1) ص 42.

على القرآن ولوْلا ذلك لما عُلم الكثير من القرآن ولا عُمِل به. وهل عمل خير قرون الأمة بالقرآن وحده؟ أم أن هذا يدعو إلى خير مما عملته قرون الأمة المفضلة؟ إن ضلاله وجهله بيّن.

إنكار مصطفى محمود ما صح من الأحاديث

ثم قال: وامتلأت كتب السيرة بالموضوع والمدسوس من الأحاديث والعجيب والمنكر من الإسرائيليات وقرأنا في أكثر من كتاب من كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي وهو كذب وافتراء لايُعقل. فقد مات سيدنا رسول الله والغنائم وخيرات البلاد المفتوحة تجبى من كل مكان. وللرسول ولفقراء المسلمين نصيب فيها وله الخمس بحكم القرآن. وعثمان بن عفان الذين مَوَّل غزوة تبوك من ماله إلى جواره فما حاجته إلى رهن درعه عند يهودي إلا أن تكون فِرْية نكراء من افتراءات اليهود دَسّوها على كُتّاب الحديث. والقرآن يقول لرسوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى. ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى}. الله يقول بأنه أغنى رسوله. فما حكاية هذه الدرع المرهونة عند يهودي إلا أن تكون من الإسرائيليات مدسوسة. وغيرها الكثير. فلا أقلّ من أن نحتكم إلى العمدة في أمور ديننا حتى

لاتنفرط وِحدتنا وحتى لانتفرق بددا والعمدة المعتمد في جميع أمور الملة هو القرآن المجيد نتمسك به ونحتكم إليه في كل صغيرة وكبيرة. وما تناقض في كتب السيرة مع القرآن لا نأخذ به. فالذين كتبوا السيرة بشر مثلنا يخطئون ويصيبون. أما القرآن فهو الكتاب المحفوظ من رب العالمين وهو الكتاب الموثق بين كل ما تبقى من كتب مقدسة بين أيدينا وهو المهيمن عليها جميعها بلا استثناء. (¬1) الجواب: يقول عن حديث درع النبي صلى الله عليه وسلم المرهونة عند يهودي أنه كذب وافتراء لايعقل وأنه مدسوس مع أن الحديث صحيح وهو في صحيح البخاري رحمه الله في مواضع منه وكذلك رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وغيرهم. والحديث لاينافي قوله تعالى: {ووجدك عائلاً فأغنى} قال ابن حجر في الفتح: وفيه ماكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها والكرم الذي أفضى به إلى عدم الإدّخار حتى احتاج إلى رهن درعه ¬

(¬1) ص 41، 42، 43.

والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير وفضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك. وفيه غير ذلك مما مضى ويأتي. قال العلماء: الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مَيَاسير الصحابة إلى معاملة اليهود إما لبيان الجواز أولأنهم لم يكن عندهم إذْ ذَاك طعام فاضِل عن حاجة غيرهم. أوخشي أنهم لايأخذون منه ثمناً أوعوضاً فلم يرد التضييق عليهم فإنه لايَبْعُدْ أن يكون فيهم إذْ ذَاك من يقدر على ذلك وأكثر منه فلعله لم يُطْلعهم على ذلك. وإنما اطّلع عليه مَن لم يكن مُوسراً به ممن نَقَلَ ذلك. والله أعلم. (¬1) فقد تبين أن الحديث صحيح وأن مصطفى محمود جريء على ردّ الأحاديث الصحيحة والتكذيب بها. كذلك فقد تبين سوء فهمه لمعنى الحديث أيضاً. وهو ينطبق عليه ماذكره النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه. ألا يوشك رجل شبعان متكئاً على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وماوجدتم فيه من حرام فحرموه) قال الترمذي: حيث حسن. ¬

(¬1) فتح الباري 5/ 141.

وقال الأوزاعي عن حسان بن عطية: كان جبريل ينزل بالقرآن والسنة على الني صلى الله عليه وسلم ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن .. أما قوله: وما تناقض في كتب السيرة مع القرآن لا نأخذ به فمثل قول محمد الغزالي الذي يطلب محاكمة الصحاح إلى نصوص القرآن. (¬1) وقال مصطفى: والآن وقدْ تراخى بنا الزمن وأصحبنا نقرأ عن وعن وعن إلى آخر العنْعنات التي لايعلم بها إلا الله. واختلف أهل هذه العنعنات. والقرآن بين أيدينا لا اختلاف فيه وآياته المحكمة كالسيف تقطعنا عن أي شك. (¬2) لينظر الموفق مايفعل الجهل والضّلال بأهله إن هذا لو سُئل: كيف يُصلي المسملون كيف يزكون كيف يحجون كيف يصومون وآلاف الآلاف من كيف؟. ماذا يكون جوابه؟ وهل يُعلم التشريع إلا بهذا؟ هذا لايدري مايقول وإلا فالسنة تفسر القرآن وتبيّنه وتوضحه وتكشفه وتدل عليه وتعبّر عنه وتفصّل مجمله وتقيّد مطلقه ¬

(¬1) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص17 والرد على الغزالي في كتاب (إعانة المتعالى لردّ كَيْد الغزالي). (¬2) ص 68.

وتخصص عمومه. وحكمها حكم القرآن في ثبوت العلم واليقين والإعتقاد والعمل. وهذه العنعنات التي يسخر بها هذا اعتقدها الصحابة رضي الله عنهم وعملوا على مقتضاها قبل وجود البخاري رحمه الله وغيره من أهل النقل وذلك أن الصحابة ليس كلهم يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم كل مايقول بل يتناقلون كلامه بذلك ونقله التابعون عنهم كذلك وهكذا. فالبخاري رحمه الله سلك مسلك الصحابة. كذلك فإنه لاتستقيم للناس معايشهم والمعرفة بأمورهم وشئونهم إلا بالعنعنات. وهذا الكاتب لو أتى إليه إنسان أوكتب له أنه سمع شخصاً أوخاطبه مَنْ سمع شخصاً يقول كذا وكذا أورآه يفعل كذا هل يُكذّب بذلك ولايبالي به أو أنه يحزم به إنْ كان مَن حَدّثه ممن يعرف صدقه. مع أن أهل الحديث يُقيدون هذه العنعنات بقيود معروفة في شروطهم شهد لهم بالبراعة فيها والصدق والإتقان أعداؤهم لاسيما البخاري ومسلم رحمهما الله. وقد مَيّز علماء الحديث الصحيح من الأحاديث والضعيف والموضوع ودَوّنوا ذلك كله فلا يطعن بهم إلا أهل البدع. وهم العدول بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك.

ثم زعم أن عدم قبول ماناقض القرآن من الأحاديث ليس إنكاراً للسنة ولكن غَيْرة عليها. (¬1) وليس في الأحاديث الثابتة مايناقض القرآن وإنما فيها زيادة على مافي القرآن مع تفصيله وبيانه وقد تقدم بيان ذلك. وهذه غيْرة شيطانيه. ¬

(¬1) ص 92.

مشهد من مشاهد الزيغ والجهل والضلال لدى مصطفى محمود!!

ثم ذكر أن جَمْع الأحاديث وتدوينها كان بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بأكثر من مائتي سنة. ونقل عن محمد البشير قوله: ماذا كان حال الإسلام في المائتي سنة قبل البخاري حينما لم يكن هناك سوى القرآن للمسليمن مرجعاً محفوظاً ومدوّناً؟ قال: والجواب واضح ومؤكد فقد كانت هذه المرحلة هي أزهى عصور الإسلام بلا جدال وكانت الفتوحات الإسلامية قد اقْتحمت التاريخ طولاً وعرضاً وبدّلت الخريطة الجغرافية للكرة الأرضية وسجّلت الفروسية العربية أعظم البطولات. كل هذا قبل البخاري وقبل الأحاديث المدونة وبالقرآن وحده. وكان المسلمون يصلون ويحجون ويؤدون الشعائر كاملة من قبل البخاري ومن قبل كتّاب الأحاديث. وكانوا يأخذون صلاتهم وحجهم وأداء شعائرهم من الرسول مباشرة وقد انتقل إلينا كل هذا بالتواتر وكانت السنة حَيّه نابضة في أسلافنا من قبل أن تكتب ومن قبل أن تدوّن ومن قبل

أن يرويها البخاري وكتّاب الأحاديث. فأين نحن الآن من ذلك العصر البطولي وبين أيدينا مكتبة هائلة بل مكتبات من السيرة والأحاديث والمراجع والدراسات لم تصنع جميعها ماصنع القرآن وحده في فجر الإسلام. ثم قال: ولم يستطع البخاري وصحْبه بأحاديثهم ومدّوناتهم أن يصنعوا من المسلمين ماصنع القرآن. (¬1) الجواب: قبل البخاري رحمه الله كان العمل بالقرآن والسنة معاً. والأحاديث مدوّنة قبل أن يولد البخاري. ومع هذا فقد كان الصحابة والتابعون يتناقلون الأحاديث حفظاً من صدورهم. ولو عملت الأمة بالقرآن وحده لضلّت. وهذا الجاهل يرى أن ضرر الإسلام جاء من البخاري وعلماء الحديث الذين دَوّنوه. بل الصحابة كتبوا الحديث كما تقدم فيرى أن العلماء لوْ أهملوا تدوين الأحاديث لدامت عصور الإسلام الزاهية التي قامت بالقرآن وحده. ثم إن قوله: وكانوا يأخذون صلاتهم وحجهم وأداء شعائرهم من الرسول مباشرة وقد انتقل إلينا كل هذا بالتواتر. كلامه هذا ¬

(¬1) ص 101، 102، 103.

ينقض ماقبله إذْ أنه لابد من النقل. وهو بكل هذه المحاولات يريد أن يطعن بالبخاري لأجل مادَوّنه في صحيحه من أحاديث الشفاعة وغيرها التي تخالف نِحْلته. ومن جهله الكثيف وضلاله يقول: ولم يستطع البخاري وصحبه بأحاديثهم ومدوّناتهم أن يصنعوا من المسلمين ماصنع القرآن. فيقال لهذا الضال: أتظن أن البخاري وصحبه أتوْا بهذه الأحاديث من عندهم؟ فهذا من أعظم البُهت والإفتراء على الأئمة. ويقال أيضاً: أتظن أنه قبل البخاري كان العمل بالقرآن وحده وأن أحاديث البخاري وصحبه لم تكن تعرف ولايُعمل بها؟ إن هذا وأمثاله ماعرفوا قدْر نفوسهم ولذلك يتصدّرون للأمة فيقولون ويكتبون وهم جهال مُتَمعلمون ولذلك يحتقرون السلف ويروْن أنهم أعلم منهم وأعرف بالدين وقد هَزِلَتْ وقلّ مُخّها وسامَها كل مفلس. وما الثرى كالثريّا.

إنكار مصطفى محمود لتدوين الأحاديث!!

ثم قال: القرآن هو خزينة العلم الإلهي القديم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه وهو العمدة في كل حقائق الدين والمرجع الوحيد في أمور الغيب والحساب والقيامة والآخرة. أنزله الله الذي ليس كمثله شيء فكان على مثاله كتاباً ليس كمثله كتاب. لايرتفع إلى ذرْوة مصداقيته كتاب. ولايبلغ مدى حِجّتيه مقال. فهو منفرد في صدقه وإحاطته وإعجازه. أما السنة القولية التي جمعها رواة الأحاديث عن الرسول الكريم فقد جمعها ودوّنها بشر مثلنا غير معصومين في سلسلة من العنعنات عبر عشرات السنين. لم تدوّن الأحاديث إلا من بعد زمن الخلفاء الراشدين على أيام سلاطين القصور. وقدْ أجمع رواة الأحاديث على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد نهى عن تدوين الأحاديث وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لأبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وغيرهم.

وفي كلمات أبي هريرة في قطعية لاتقبل اللبس خرج علينا الرسول ونحن نكتب أحاديثه فقال: ماهذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث نمسعها منك يارسول الله. قال: أكتاب غير كتاب الله. يقول أبو هريرة: فجمعنا ماكتبناه وأحرقناه بالنار. (¬1) الجواب: إن هذا الضال يطعن ويُشكك في أحاديث الرسول جملة ويدعو إلى الإكتفاء بالقرآن وحده. وهذا مع أنه غاية الضلال إلا أنه غاية الجهل. وقد تبين ويأتي مايوضح ضلاله. أما نهْي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابه الأحاديث فهو منسوخ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدْ نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن وقال: (من كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه ثم نُسخ ذلك عند جمهور العلماء حيث أذِنَ في الكتابة لعبد الله بن عمرو. وقال: (أكتبوا لأبي شاه) وكتب لِعَمرو بن حزم كتاباً. قالوا: وكان النهي أولاً خوفاً من اشتباه القرآن بغيره. ثم أذِنَ لَمّا أمِنَ ذلك. فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله ¬

(¬1) ص 89، 90.

عليه وسلم مايكتبون. وكتبوا أيضاً غيره. (¬1) من هذا يتبين أيضاً أن تدوين الأحاديث قبل البخاري الذي نَقِمَ عليه هذا. فالصحابة رضي الله عنهم كتبوا الحديث ومن بعدهم قبل البخاري. وقد أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري بجمع الحديث. وكتب مالك الموطأ وغير مالك كتبوا الحديث قبل البخاري رحمهم الله أجمعين. ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 20/ 322 وذكر مثله في الفتاوى 21/ 318.

تكرار طعن مصطفى محمود على الإمام البخاري وصحيحه

ثم قال: إن ماصنعه البخاري بإخراجه مُذْنبي المسلمين من النار بشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام كما رَوى في أحاديثه لم تأت بالمسلم الأفضل بل جاءت بالمسلم الأضعف المتواكِل الذي يحلم بدخول الجنة بلا عمل. (¬1) الجواب: البخاري رحمه الله ليس هو الذي يُخرج مُذْنبي المسلمين من النار بشفاعة الرسول وإنما ينقل ماصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. كذلك غيره من المحدّثين. والمسلم الضعيف المتواكل الذي يحلم بدخول الجنة بلا عمل ليست آفته من أحاديث البخاري وإنما آفته من الفهم الفاسد لتلك الأحاديث حيث يظن أن مجرّد التلفظ بالشهادة يُغنيه عن العمل بمقتضاها حيث الشفاعة أمامه. وإذا كان هذا يُحيل الضلال للأحاديث الصحيحة فالقرآن ضَلّت به الخوراج لفهمهم الفاسد فكيف المخرج إذاً؟ ¬

(¬1) ص 103.

بل إنه هو ضَلّ بالقرآن حيث زعم أن أحاديث الشفاعة وغيرها تناقضه وطلب الإكتفاء به وهو الذي فيه {وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا} {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وغير ذلك. ثم قال: ونقف معاً أمام الحديث الذي رواه البخاري عن سيدنا موسى حينما قضى ربنا عليه الموت وأرسل له ملَك الموت ليقبض روحه. ماذا قال لنا البخاري؟ قال إن موسى رفض أن يموت وضرب ملك الموت على عينه ففقأها فرجع ملك الموت إلى ربه فَرَدّ له بصره. كيف يجوز هذا الكلام والقرآن يقول في قطع لا لَبْسَ فيه: {إن أجل الله إذا جاء لايؤخر لوكنتم تعلمون} {ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها} {فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون} فأين موسى من كل هذا وكيف يضرب ملك الموت على عينه ويرفض أن يموت وأين كلام البخاري من كلام الله؟ إن الحديث واضح الزيْف ومثله كثير في البخاري (¬1). الجواب: الواضح الزيف فَهْمك. وإلا فالحديث ثابت عن ¬

(¬1) ص: 106 - 107.

النبي صلى الله عليه وسلم وليس البخاري الذي قال: إن موسى رفض أن يموت وضرب ملك الموت ففقأ عينه وإنما النبي هو الذي أخبر بهذا الخبر. والبخاري رحمه الله ناقل ومُبَلّغ عن نبيه الذي أمر أمته بتبليغ رسالته ومَنْ قال لهذا الضال أن ملك الموت أُرسل إلى موسى ليقبض روحه في الحال حتى يكون هذا التأخر لموت موسى مناقض للقرآن. وإنما هذه بعض فضائح من اسْتهان بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة. فبما أن هذا الحديث صحيح فقطعاً لايعارض القرآن فليس في الحديث أن ملك الموت مأمور بقبض روح موسى بنفس الوقت. ثم إنه في عِلم الله أن موسى سوف يقول لملك الموت ماقال ويفعل مافعل ومع هذا أرسله إليه وفي علمه أنه بقي من عُمر موسى مابَقّي فأيّ معارضة في هذا؟ أما قوله: وكيف يضرب ملك الموت على عينه فجوابه ما قال ابن خزيمة رحمه الله قال: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وقالوا: إن كان موسى عَرَفَه فقد اسْتخف به وإن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه؟ والجواب: أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ وإنما بعثه إليه اختباراً. وإنما لَطَمَ موسى ملك

الموت لأنه رأى آدمياً دخل داره بغير إذنه ولم يعلم أنه ملك الموت وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في درا المسلم بغير إذن. وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدَمِييِّن فلم يعرفا هم ابتداء. ولوْ عرفهم إبراهيم لما قدّم لهم المأكول. ولوْ عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه إلى آخره. (¬1) وقد رَدّ محمد الغزالي هذا الحديث قبل مصطفى محمود. قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله في (لمعة الإعتقاد) تحت عنوان: (الإيمان بكل ما أخبر به الرسول). قال: ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أوْغاب عنا نعلم أنه حق وصدق. وسواء في ذلك ماعقلناه أوْجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج وكان يقظة لا مناما فإن قريشاً أنكرته ولم تُنكر المنامات. ومِن ذلك أن ملَك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فردّ عليه عينه. إلى آخره. ¬

(¬1) فتح الباري 6/ 443.

ثم ختم كتابه بقوله: ويعلم الله أنه مادفعني إلى كتابة ماكتبت إلا محاولة استجلاء الحقيقة وابتغاء وجه الله فأنا مثلكم من الخطائين وكان أنفع لي أن آخذ كلام البخاري على علاته ولكن الله كان عندي أحق وأوْلى وأدعو لنفسي ولكم بالهداية. (¬1) الحقيقة ظهرت وبانت وردّك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وطعنك على هذا الإمام العظيم البخاري رحمه الله ليس بالهَيّن فلم يبق إلا التوبة والبيان برجوعك عن الذي خالفت به أهل السنة. والكلام على صحيح البخاري وما قاله العلماء في تعظيمه والثناء عليه ليس ولله الحمد بالخفي وليس بالذي يحتمله هذا الرّد. ¬

(¬1) ص 109.

عباد البدوي والدسوقي وزينب والحسين وغيرهم من أهل القبور مشركين

من عَلِمَ ماتقدم تبين له وظهر ضلال القبورية الذين يعتقدون بالموتى وأنهم من أخسر الناس يوم القيامة. لقد غَرَّهم الشيطان ومكر بهم فظنوا أنهم يحسنون صُنعاً إن عابد البدوي أو الدّسوقي أوغيرهم من الموتى يقول: أنا ما أعبدهم وإنما أعبد الله وأقول: لا إله إلا الله لكن هم أولياء ونتبرّك بهم ولهم جاه ومنزلة عند الله. فيقال له: هذا هو مطلب عباد الأصنام من أصنامهم فهم صَوّرها على صور الملائكة ومَنْ هو مقرّب عند الله وعبدوها باعتبار أن عبادتهم لها بمنزلة عبادتهم إياهم بَذَوَاتهم مع أنهم يقولون ربنا الله وهو الذي خلقنا ويرزقنا وإنما هؤلاء لهم وجاهة فهم يُقربوننا إليه فكفّرهم الله بذلك. يقول من ينذر للبدوي أوغير البدوي ويذبح له ويرجوه: أنا أقول: لا إله إلا الله وأصلي وأصوم وأعمل بالإسلام فكيف أُجْعل مثل عباد الأصنام الذين يمتنعون من قول لا إله إلا الله وليسوا

بمسلمين.؟ فيقال له: أنت لو عرفت الإسلام كما عرفه عباد الأصنام من العرب لامْتنعت من قول لا إله إلا الله. أوقلتها وامْتنعت من أن يتوجه قلبك بعبوديته للموتى وعرفت أنها مانعة قاطعة أن يكون في قلبك لمخلوق حي. أومّيت نصيب وشركة في الخوف والرجاء والمحبة وأن تعتقد فيه أنه يُقرّبك إلى الله أويشفع لك عنده لكنك تقولها وتعمل خلاف معناها فلا إله ليس معناها لارب أولا خالق أولا رازق إلا الله. هذا يعتقده عباد الأصنام وإنما معناها قطع تعلّق قلبك بالأنبياء والملائكة والصالحين فضلاً عن غيرهم بأدنى رجاء نرجوه منهم مما ترجو أن تقترب به من ربك لأن هذه الرّقة والخشية والتعظيم الذي يُحسّ به وتُشعر به في قلبك هو ملك ربك ولايرضى أن تجعل لأحد منه نصيب فهذا هو الشرك وهو أعظم الذنوب وهو الموجب للخلود في جهنم لمن مات عليه ولا تنفعه شافعة شافع. ومعنى لاتنفعه لأنه لا أحد يشفع فيه وتقرب إليه بدعاء أوذبح أونذر أوغيره من العبادة التي هي حق إلا له سبحانه ولايرضى بالشركة فيها. ثم ليعلم من يعتقد بالمقبورين أن هناك شُبَهٌ تغرّه وتخدعه وهي من مكر الشيطان وكيْده ليُضلّه عن معبوده الحق وذلك أنه قدْ يرى

عند الضريح خيالاً أويسمع صوتاً أو تُقضى له حاجة أويرى في المنام مايدعو للإعتقاد بالميت وكل هذا بلا ريب من الشيطان. والشياطين تقدر على أعظم من ذلك للفتنة. وما اغْترّ عباد الأصناح بحجر ولا بشجر وإنما يسمعون أصواتاً ويروْن أشياء وتقضى لهم بعض الحوائج ومِنْ هنا اغتروا وهذا معنى قوله تعالى عن خليله عليه السلام: {رب إنهن أضللْن كثيراً من الناس} إن مع كل صنم شيطان وظيفته الفتنة وزيادة تعلق القلب بغير الإله الحق. ولاشك أن السّدنة وما يرُوّجونه من الباطل عامل كبير لِرَواج بناء القباب على القبور وتعظيمها. وهم دجاجلهم يتأكّلون بالشرك. وكم يُرَوّجون الإعتقاد بمقبور لايملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولاضراً بأنه فعل كذا وحصل بسببه كذا. وكل ذلك ينقسم إلى قسمين: إما من الشيطان للفتنة ولزيادة التعلّق بالميت. أوكذب محض لا أصل له. إن التعلق بالموتى مهما كانت وجاهتهم ومنزلتهم أعظم صارف لقلب العبد عن ربه الذي خلقه ليكون هذا الذي في قلبه من التعلّق خالصاً له لايُزاحمه فيه مُزاحم لا محمد ولا جبريل ولاجميع الأنبياء والملائكة فضلاً عن غيرهم. وإنما هؤلاء يريد الرب منا أن

ننزلهم منازلهم التي أنزلهم إياها وأنهم عبيده فنحبهم بحبه ولانرفعهم فوق منازلهم بإخراجهم عن طوْر العبودية إلى الإلهية. هذا أعظم ذنب عُصِي الله به وهو الشرك. ثم إنهم أعداء لمن يشركهم مع ربهم {وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين}. إنهم يتبرأون ممن تعبّدهم بالخوف والرجاء وغير ذلك من أنواع العبودية. أما البدوي فمن يكون؟ لقد تُرْجِمَ له أقبح سيرة وإنما غلافية من لم يعرف التوحيد الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. وهو إخلاص تألّه القلوب لوليّها الحق ومالكها. ولايصلح شيء من ذلك إلا له. حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لايُفعل عنده عند زيارة المسجد إلا السلام عليه وعلى أبي بكر وعمر. ومن أراد الدعاء لايدعو عند القبر وإنما في المسجد مستقبلاً القبلة لا القبر .. ومسجد الرسول أُدْخل فيه القبر للتوسعة من قِبَل بني أمية وقد أنكر العلماء ذلك .. فما للمساجد والقبور وما للقبور وتوَجّه القلوب بخوف أو رجاء. هو والله كيد الشيطان ومكره ليضل عن سبيل الله من سبقت له الشقاوة. الميت إذا كان صالحاً يسلم عليه سلام السنة ويُدْعى له لايدعى ويُرّحم عليه. لأنه مُرْتهن بعمله

ومشغول بما هو فيه وليس له من أمور عباد الله شيء وليس رب العالمين كملوك الدنيا تنفع عندهم الوسايط. التي يخترعها العباد ويبدؤونها وينشئونها. من غير علمهم ويشفعون عندهم دون إذنهم. والملوك أنفسهم يخافون الشفعاء ويرجون لقيام ملكهم بالشفاعة ولارب هو الذي يخلق حركة الشافع ليشفع كرامة له ورحمة من الله للمشفوع فيه سابقة علم الشافع وسابقة رحمة الشافع للمشفوع فيه. فالأمر كله له سبحانه. والكلام في هذا من أجلّ وأعظم أمور التوحيد فمن تأمله ووفق لفهمه جعل الله له نوراً يمشي به في الناس وفرقاناً يفرق به بين الحق والباطل {ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور} {من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا}. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. كتبه عبد الكريم بن صالح الحميد ـ بريدة ـ 1420هـ

§1/1