الشفا بتعريف حقوق المصطفى - وحاشية الشمني

القاضي عياض

مقدمات

كلمة الناشر: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم وَالْحَمْد لله رَبّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فلما كان نشر العلم فضيلة وكانت السنة الشريفة من أجل علوم الشريعة وأرفعها قدرا) وكان على المسلم أن يتخذ من أقوال وأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نورا وضياء ينير له الطريق لفهم دينه وأحكامه، ومحركا لسلوكه في عاجلته وذخرا لآخرته، فقد اهتمت دار الفكر منذ تأسيسها بطبع كتب السنة المحمدية والحديث الشريف، مثل: صحيح البخاري وشرحه فتح الباري وصحيح مسلم وشروحاته وتصنيفاته، والموطأ وكافة كتب الصحاح وشروحا إلى جانب أعظم تفاسير القرآن الكريم وأنفعها مثل: الدر المنثور في التفسير بالمأثور ومعالم التنزيل في التفسير والتأويل للبغوي، والتفسير الكبير للفخر الرازي، وجامع اليبان عن تأويل آي القرآن للطبري وغير ذلك من أمهات الكتب في التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه على مختلف المذاهب والتاريخ واللغة وسائر العلوم والفنون الاسلامية. وتقدم اليوم احياء للسنة المحمدية كتاب: شفاء القاضي عياض المسمى: الشفا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى في طبعة جديدة ومصححة ومتقنة، واتماما للفائدة أضفنا للكتاب كحاشية له. درة مفيدة هي: حاشية العلامة الشمنى المسماة: مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء التي لم تطبع قبل الآن. وفيما يلي نبذة يسيرة للتعريف بمؤلفي الكتاب والحاشية:

ترجمة القاضى عياض

ترجمة القاضى عياض (1) هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عِيَاضِ بن عمرون بن موسى بن عِيَاضِ بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي، الإمام العلامة، يكنى أبا الفضل، ستى الدار والميلاد: أندلسى الأصل. قال ولده محمد: كان أجدادنا في القديم بالأندلس، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس وكان لهم استقرار بالقيروان لا أدرى قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك. وانتقل عمرون إلى سبتة بعد سكنى فاس. وَكَان الْقَاضِي أَبُو الفضل إمام وقته في الحديث وعلومه، عالما بالتفسير وجميع علومه، فقيها أصوليا عالما بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، بصيرا بالأحكام، عاقدا للشروط، بصيرا حافظ لمذهب مَالِك رَحِمَه اللَّه تعالى، شاعرا مجيدا ويا نا من علم الأدب، خطيبا بليغا صبورا حليما جميل العشرة، جوادا سمحا كثير الصدقة، دؤوبا على العمل، صلبا في الحق. رحل إلى الأندلس سنة تسع وخمسمائة طالبا العلم، فأخذ بقرطبة عَنِ الْقَاضِي أَبِي عبد الله محمد بن علي بن حمدين، وأبى الحسين بن سراج، وَعَن أَبِي مُحَمَّد بن عتاب وغيرهم وأجاز له أبو علي الغساني، وأخذ بالمشرق عَنِ الْقَاضِي أَبِي على حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصدفى وغيره، وعنى بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم، وأخذ عن أَبِي عَبْد اللَّه المازينى: كتب إليه يستجيزه، وأجاز له الشَّيْخ أَبُو بَكْر الطرطوشى. ومن شيوخه. القاضي أبو الوليد بن رشد. قال صاحب الصلة البشكوالية: وأظنه سمع عن أبى زيد، وقد إجتمع له من الشيوخ بين من سمع منه وبين من أجاز له مائة شيخ وذكر ولده محمد منهم: أَحْمَدُ بن بَقِيٍّ، وأحمد بن محمد بن محمد ابن مكحول، وأبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي، والحسن بن محمد بن سكره، والقاضى أبو بكر بن العربي، والحسن بن علي بن طريف، وخلف بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ النحاس، ومحمد بن أحمد بن الحاج القرطبى، وعبد الله بن محمد الخشنى وغيرهم ممن يطول ذكرهم.

_ (1) نقلت هذه الترجمة من كتاب الديباج الذهب في معرفة أعيان علماء المذهب للعلامة برهان الدين ابن فرحون المالكى. (*)

قال صاحب الصلة: وجمع من الحديث كثيرا وله عناية كبيرة به واهتمام بجمعه وتقييده وهو من أهل التفنن في العلم واليقظة والفهم، وبعد عودته من الأندلس أجله أهل سبتة للناظرة عليه في المدونة وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عنها، ثم أجلس للشورى ثم ولى قضاء بلده مدة طويلة حمدت سيرته فيها، ثم نقل إلى قضاء غرناطة في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ولم يطل أمره بها، ثم ولى قضاء سبتة ثانيا. قال صاحب الصلة: وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه بعض ما عنده. قال الخطيب: وبنى الزيادة الغربية في الجامع الأعظم وبنى في جانب المينا الراتبة الشهيرة وعظم صيته. ولما ظهر أمر الموحدين بادر إلى المسابقة بالدخول في طاعتهم ورحل إلى لقاء أميرهم بمدينة سلا، فأجزل صلته، وأوجب بره، إلى أن اضطربت أمور الموحدين عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة فتلاشت حاله، ولحق بمراكش مشردا به عن وطنه فكانت بها وفاته. وله التصانيف المفيدة البديعة منها كمال المعلم: في شرح صحيح مسلم، ومنها كتاب الشفا: بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم أبدع فيه كل الإبداع، وسلم له أكفاؤه كفاءته فيه ولم ينازعه أحد في الانفراد به ولا أنكروا مزية السبق إليه بل تشوفوا للوقوف عليه، وأنصفوا في الاستفادة منه، وحمله الناس عنه، وطارت نسخه شرقا وغربا، وكتاب مشارق الأنوار فِي تَفْسِيرِ غَرِيبِ حديث الموطأ والبخاري ومسلم وضبط الألفاظ والتنبيه على مواضع الأوهام والتصحيفات وضبط أسماء الرجال وهو كتاب لو كتب بالذهب أو وزن بالجوهر لكان قليلا في حقه، وفيه أنشد بعضهم: مشارق أنوار تبدت بسبتة * ومن عجب كون المشارق بالغرب وكتاب التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة: جمع فيه غرائب من ضبط الألفاظ وتحرير المسائل، وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك وكتاب الإعلام بحدود قواعد الإسلام، وكتاب الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع، وكتاب بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد، وكتاب الغنيمة في شيوخه، وكتاب المعجم في شيوخ ابن سكره، وكتاب نظم البرهان على حجة جزم الأذان، وكتاب مسألة الأهل المشروط بينهم التزاور، ومما لم يكمله: المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان، وكتاب العيون الستة في أخبار سبتة، وكتاب غنية الكاتب وبغية الطالب في الصدور

والترسل، وكتاب الأجوبة المحبرة على الأسئلة المتخيرة، وكتاب أجوبة القرطبيين، وكتاب أجوبته عما نزلت في أيام قضائه من نوازل الأحكام في سفر، وكتاب سر السراة في أدب القضاة، وكتاب خطبه وكان لا يخطب إلا بإنشائه، وله شعر كثير حسن رائق فمنه قوله: يا من تحمل عنى غير مكترث * لكنه للضنى والسقم أوصى بى تركتني مسهام القلب ذا حرق * أخا جوى وتباريح وأوصاب أراقب النجم في جنح الدجى سمرا * كأننى راصد للنجم أو صابى وله رحمه الله تعالى: الله يعلم أنى منذ لم أركم * كطائر خانه ريش الجناحين ولو قدرت ركبت الريح نحوكم * فإن بعدكم عنى جنى حينى وله من أبيات: إن البخيل بلحظه أو لفظه * أو عطفه أو رفقه لبخيل وله في خامات الزرع بينها شقائق النعمان هبت عليها أرياح: انظر إلى الزرع وخاماته * تحكى وقد ماست أمام الرياح كتيبة خضراء مهزومة * شقائق النعمان فيها جراح وله غير ذلك. كان مولد القاضى عياض بسبتة في شهر شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة، وتوفى بمراكش في شهر جمادى الأخيرة وقيل فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقيل إنه مات مسموما سمه يهودى. ودفن رحمه الله تعالى بباب إيلان داخل المدينة. و (عياض) بكسر العين المهملة وفتح الياء المثناة التحتية وبعد الألف ضاد معجمة و (اليحصبى) بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الحاء المهملة وضم الصاد المهملة وفتحها وكسرها وبعدها ياء موحدة نسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير، وسبتة مدينة مشهورة، وغرناطة: مدينة بالأندلس وهى بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة ثم نون مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف طاء مهملة ثم هاء ويقال فيها أغرناطة بألف قبل الغين.

ترجمة العلامة الشمني صاحب الحاشية

ترجمة العلامة الشمني (1) صاحب الحاشية هو أحمد بن محمد بن محمد حسن بن علي بن يحيى بن محمد التقى السكندرى المولد القاهرى المنشأ الحنفي ويعرف بالشمنى بضم المعجمة والميم ثم نون مشددة نسبة لمزرعة ببلاد المغرب أو لقرية بها ولد في العشر الأخير من رمضان سنة إحدى وثمانمائة واشتغل أولا مالكيا ثم تحول حنفيا لكون البساطى فيما قيل قدم عليه بعض من هو دونه من رفقائه وبرع في الفقه والأصلين والعربية والمعاني والبيان والمنطق والصرف والهندسة والهيئة والحساب وسمع الحديث على جماعة وبحث على شيخنا دروسا من شرح ألفية العراقى ولازمه بعد والده فأحسن إليه وساعده في استخلاص مبلغ ممن وثب عليه في بعض وظائف أبيه وزاد إقبالا عليه حين وقع السؤال عن حكمة الترقي من الذرة إلى الحبة إلى الشعيرة في حديث ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلق فليخلقوا ذرة الحديث. وأجاب التقى بديهة بأن صنع الأشياء الدقيقة فيه صعبوة والأمر بمعنى التعجيز فناسب التدلى من الأعلى إلى الأدنى فاستحسنه شيخنا فزاد في إكرامه والتعريف بفضيلة وتصدى للإقراء، وصنف حاشية على المغنى لخصها من حاشية الدماميني وزاد عليها أشياء نفيسة سماها المنصف من الكلام على مغنى ابن هشام، وتعليقا لطيفا في ضبط ألفاظ الشفاء لخصه من شرح البرهان الحلبي وأتى بتتمات يسيرة فيها تحقيقات دقيقة سماه (مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء) وغير ذلك وأقراء في العقليات بدون ملاحظة كراس ولا حاشية وقد اتفق دخول اثنين من فضلاء العجم الجمالية فوجداه يقرئ في المطول بدون كراس فجلسا عنده وبحثا معه واستشكلا عليه فلم ينقطع منهما بل أفحمهما بحيث امتلأت أعينهما من جلالته وصرحا بعد انفصالهما عنه لبعض أخصائه بأنهما لم يظنا أن في أبناء العرب من ينهض فحكاه للشيخ فتبسم وقال بذلك قد أقرأته اثنى عشر مرة بغير مطالعة وكان إماما علامة سنيا متين الديانة ممن ينسب إلى التصوف لم يتدنس بما يحط مقداره وقد عم النفع به حتى بقى جل الفضلاء من سائر المذاهب من اهل مصر بل وغيرها من تلامذته

_ من البدر الطالع المنتخب من الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. (*)

واشتدت رغبتهم في الأخذ عنه وتزاحموا عليه وهرعوا صباحا ومساء إليه، وامتدحه من الشعراء: الشهاب المنصوري وغيره كل ذلك من الشهامة وحسن الشكالة والأبهة وبشاشة الوجه ومحبة الحديث وأهله وقد حضرت كثيرا من دروسه وتقنعه بخلوة في الجمالية يسكنها وأمة سوداء لقضاء وطره وغير ذلك وقد استقر به قانباى الجركسى في خطابة تربته ومشيخة الصوفية بها وتحول إليها ولم يكن يحابى في الدين أحدا بحيث التمس منه بعض الشبان من ذوى البيوت إذنه له في التدريس بعد أن أهدى إليه شيئا فبادر لرد الهدية وامتنع من الإذن وربما كتب فيما لا يرتضيه لقصد جميل ككتابته على كراس من تفسير البقاعي الذى سماه المناسبات فإنه قال لى حين عاتبتة على ذلك إنما كتبت لصونه عما رام تمريغا أن يوقعه به ووالله ما طالعته وليس هو عندي في زمرة العلماء ولم تَكُن لَه رغبة في الكتابة على الفتوى مع سؤالهم له ولا في حضور عقود المجالس وقد خطبه الشهاب ابن العينى أيام ضخامته للحضور عنده وأح عليه وكان قرره متصدرا فيما جده بمدرسة جده فلم يجد بدا من إجابته وجاء العبادي ليجلس فوقه بينه وبين الحنفي فما مكنه الشهاب وحول العبادي إلى جهة يمينه، بل خطب لقضاء الحنفية فأبى بعد مجئ كاتب السر إليه وإخباره بأنه إن لم يجب نزل إليه السلطان فصمم وقال الاختفاء ممكن فقال له كاتب السر فبماذا تجيب إذا سألك الله تعالى عن امتناعك بعد تعينه عليك فقال يفتح الله تعالى حينئذ بالجواب ولم يزل على وجاهته إلى أن تعلل ومات في ليلة الأحد سابع عشر ذى الحجة سنة اثنين وسبعين وثمانمائة بمنزل سكنه من التربة المشار إليها وصلى عليه عند بابها ودفن بها وخلف ذكرين وأنثى من جارية وألف دينار وحفظت جهاته لولديه رحمه الله تعالى وإيانا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم اللهم صلى على محمد وآله وسلم. قال الفقيه القاضي الإمام الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبى رحمة الله عليه: الْحَمْدُ لِلَّهِ المُنْفَرِدِ بِاسْمِهِ الأَسْمَى، المُخْتَصِّ بِالْعِزِّ الأَحْمَى، الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ مُنْتَهًى وَلَا وَرَاءَهُ مَرْمًى، الظَّاهِرِ لَا تَخَيُّلا وَلَا وَهْمًا، الْبَاطِنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم أما بعد حمد الله على إفضاله. وصلواته عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد وآله، فيقول الفقير إلى الله تعالى: أحمد بن محمد بن محمد بن حسن الشمنى، ختم الله بالسعادة أغماله، وجعل الجنة منقلبه ومآله: قد يسر اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ إقرائي للشفاء شيئا من تفسير مفرداته، ونبذا من فتح مغلقاته، وحل مشكلاته، فجمعت ذلك نفعا لطالبيه، وإعانة لمحصليه وقارئيه، وسميته بمزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء ومن الله أطلب التوفيق، والهداية إلى سواء الطريق. (قوله المختص) أي المنفرد والممتاز (قوله لَيْسَ دُونَهُ مُنْتَهًى) في الصحاح دون نقيض فوق وهو تقصير عن الغاية، ويقال هذا دون ذاك أي أقرب منه انتهى. والمعنى هنا أنه تعالى ليس في جهة وحيز، ولا على مسافة وامتداد لأن كل ذى جهة ومسافة للقرب منه نهاية، وليس للقرب منه تعالى نهاية، فليس في جهة، فهو من باب نفى الشئ بنفى لازمه (قوله ولا ورائه مرمى) قال ابن الأثير في النهاية: أي ليس بعد الله لطالب مطلب، فإليه انتهت العقول فليس وراء معرفته والإيمان به غاية تقصد. والمرمى في الأصل: الغرض الذى ينتهى إليه سهم الرامى (قوله الظاهر) أي بالدلالة الدالة على وجوده قطعا ويقينا لا تخيلا ووهما (قوله الباطن) أي بحقيقته فلا تدرك كنهه العقول. (*)

تَقَدُّسًا لا عُدْمًا، وسع كل شئ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَسْبَغَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ نِعَمًا عُمًّا، وَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْفُسِهِمْ عَرَبًا وَعَجَمًا، وَأَزْكَاهُمْ مَحْتِدًا وَمَنْمًى، وَأَرْجَحِهِمْ عَقْلا وَحِلْمًا، وَأَوْفَرِهِمْ عِلْمًا وَفَهْمًا، وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا وَعَزْمًا، وَأَشَدِّهِمْ بِهِمْ رَأْفَةً وَرُحْمًا، زَكَّاهُ رُوحًا وَجِسْمًا، وَحَاشَاهُ عَيْبًا وَوَصْمًا وَآتَاهُ حِكْمَةً وَحُكْمًا، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَقُلُوبًا غُلْفًا وآذَانًا صُمًّا، فَآمَنَ بِهِ وَعَزَّرَهُ وَنَصَرَهُ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فِي مَغْنَمِ السَّعَادَةِ قَسْمًا، وَكَذَّبَ بِهِ وَصَدَفَ عَنْ آيَاتِهِ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشقاء حتما،

_ (قوله تقدسا) أي تنزها وتعاليا (قوله عما) بضم المهملة وتشديد الميم جمع عميمة أي تامة يقال نخلة عميمة ونخل عم إذا كانت طوالا وامرأة عميمة تامة القوام والخلقة (قوله من أنفسهم أنفسهم) الأول بضم الفاء جمع نفس بسكون الفاء، والثانى بفتحها من النفاسة أي أعلاهم وأشرفهم (قوله عربا وعجما) العرب بضم المهملة وسكون الراء وبفتحهما جيل من الناس وهم أهل الأمصار، والأعراب منهم سكان البادية خاصة والعجم بضم المهملة وسكون الجيم وبفتحهما خلاف العرب (قوله وأزكاهم) أي أطهرهم (قوله محتدا) هو بميم مفتوحة فمهملة ساكنة فمثناة فوقية مكسورة فدال مهملة: الأصل والطبع كذا في القاموس (قوله ومنمى) هو بميم مفتوحة فنون ساكنة مصدر ميمى بمعنى النمو (قوله وأوفرهم) أي أزيدهم (قوله رأفة) هي أشد الرحمة (قوله ورحما) هو بضم الراء فسكون المهملة الرحمة قال الله تعالى (وأقرب رحما) (قوله وحاشاه عيبا ووصما) يقال حاشيته بمعنى استثنيته والمعنى أنه تعالى استثناه وأخرجه من العيب والوصم أي العار (قوله وآتاه) بمد الهمزة أي أعطاه (قوله حكمة وحكما) الحكمة علم الشرائع وقيل كل كلام وافق الحق والحكم بضم المهلة القضاء (قوله وعزره) بمهملة مفتوحة فزاى مشددة فراء أي وقره وعظمه (قوله وصدف) بمهلتين مفتوحتين ففاء: أي أعرض (قوله حتما) أي لازما (*)

(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صَلاةً تَنْمُو وَتُنْمَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. (أَمَّا بَعْدُ) أَشْرَقَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلْبَكَ بِأَنْوَارِ الْيَقِينِ، وَلَطَفَ لي وَلَكَ بِما لَطَفَ بأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ: الَّذِينَ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِنُزُلِ قُدْسِهِ، وَأَوْحَشَهُمْ من الخليفة بِأُنْسِهِ، وَخَصَّهُمْ مِنْ مَعْرفَتِهِ، وَمُشَاهَدَةِ عَجَائِبِ

_ (قوله وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى) أي مَنْ كَانَ فِي الدنيا لا يبصر رشده كَانَ فِي الآخِرَةِ لا يرى طريق النجاة، وقيل أعمى الثاني للتفصيل ولذلك عطف عليه أضل وأمال الأول ولم يمله أبو عمر ويعقوب لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالهم (قوله تنمو) كذا في غالب النسخ. وفى بعضها تنمى بفتح المثناة الفوقية وكسر الميم (قوله تنمى) بضم المثناة الفوقية وفتح الميم في الصحاح: نمى المال وغيره ينمى نماء وربما. قالوا ينمو نموا وأنماه الله قال الكسائي ولم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بنى سليم ثم سألت عنه بنى سليم فلم يعرفوه بالواو والمعنى أنها تزيد عددا ويزيدها الله نوابا. (قوله أما لعد) ذكر النووي في باب الجمعة من شرح مسلم أنه اختلف العلماء في أول من تكلم بأما بعد: فقيل داود عليه السلام وقيل يعرب بن قحطان وقيل قيس ابن ساعدة وقيل بعض المفسرين أو كثير منهم إنه فصل الخطاب الذى أوتيه داود وقال المحققون فصل الخطاب: الفصل بين الحق والباطل انتهى، وفي الكشاف ويدخل فيه يعنى في فصل الخطاب أما بعد فإن المتكلم إذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله أما بعد انتهى. وفي غريب مالك لدار قطني بسند ضعيف أن يعقوب عليه السلام لما جاءه ملك الموت قال كان من جملة كلامه أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء وهذا يدل على أن أول من تكلم به يعقوب عليه السلام (قوله أشرق) بالمعجمة والقاف أي أضاء (قوله ولطف لى) في الصحاح اللطف من الله التوفيق والعصمة وفي المجمل: اللطف من الله الرأفة والرفق (قوله بنزل قدسه) النزل بضم النون والزاى الطعام الذى يهيأ للضيف. (*)

مَلَكُوتِهِ وَآثَارِ قُدْرَتِهِ: بِمَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ حَبْرَةً، وَوَلَّهَ عُقُولَهُمْ فِي عَظَمَتِهِ حَيْرَةً، فَجَعَلُوا هَمَّهُمْ بِهِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَرَوْا فِي الدَّارَيْنِ غَيْرَهُ مُشَاهَدًا، فَهُمْ بِمُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَتَنَعَّمُونَ، وَبَيْنَ آثاري قُدْرَتِهِ وَعَجَائِبِ عَظَمَتِهِ يَتَرَدَّدُونَ، وَبالانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ يَتَعَزَّزُونَ، لَهِجِينَ بِصَادِقِ قَوْلِهِ قل اللهم ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خوضهم يلعبون، فَإِنَّكَ كَرَّرْتَ عَلَيَّ السُّؤَالَ فِي مَجْمُوعٍ يَتَضَمَّنُ التَّعْرِيفَ بِقَدْرِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَوْقِيرٍ وَإكْرَامٍ، وَمَا حُكْمُ مَنْ لَمْ يُوَفِّ وَاجِبَ عَظِيمِ ذَلِكَ الْقَدْرِ، أوْ قَصَّرَ فِي حَقِّ مَنْصِبِهِ الْجَلِيلِ قُلَامَةَ ظُفْرٍ، وَأنْ أَجْمَعَ لَكَ مَا لأَسْلافِنَا وَأَئِمَّتِنَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ، وَأُبَيِّنَهُ بِتَنْزِيلِ صُوَرٍ وَأَمْثَالٍ، فَاعْلَمْ أكْرَمَكَ اللَّهُ أَنَّكَ حَمَّلْتَنِي مِنْ ذَلِكَ أمْرًا إِمْرًا، وَأَرْهَقْتَنِي فِيمَا نَدَبْتَنِي إِلَيْهِ عُسْرًا، وَأَرْقَيْتَنِي بِمَا كلفتني مر تقى صعبا، ملأ قلى رُعْبًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيرَ

_ قوله ملكوته) الملكوت فعلوت من الملك (قوله مَلَأَ قُلُوبَهُمْ حَبْرَةً) الحبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة السرور، قال الله تعالى (فهم في روضة يحبرون) أي ينعمون ويسرون (قوله فِي عَظَمَتِهِ حَيْرَةً) الحيرة بالمهملة والمثناة التحتية والراء: مصدر حار يحار (قوله قلامة ظفر) القلامة بضم القاف: ما سقط من الظفر والعرب تكفى به عن الشئ الحقير. قال أبو البقاء: الجمهور على ضم الظاء والفاء من ظفر ويقرأ بإسكان الفاء، ويقرأ بكسر الظاء وإسكان الفاء (قوله أمرا إمرا) الأول بفتح الهمزة بمعنى شئ والثانى بكسرها بمعنى شديد وقوله تعالى (لقد جئت شيئا إمرا) أي منكرا ويقال عجبا كذا في الصحاح (قوله وأرهقتني) في الصحاح أرهقه عسرا أي كلفه إياه (قوله وأرقيتني) أي أصعدتني. (*)

أُصُولٍ، وَتَحْرِيرَ فُصُولٍ، وَالْكَشْفَ عَنْ غَوَامِضَ وَدَقَائَقَ، مِنْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ، مِمَّا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ وَيُضَافُ إِلَيْهِ، أوْ يَمْتَنِعُ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ النَّبِيِّ والرَّسُولِ وَالرّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْخِلَّةِ وَخَصَائِصِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَلِيَّةِ، وَهَهُنَا مَهَامِهُ فِيحٌ تَحَارُ فِيهَا الْقَطَا، وَتَقْصُرُ بِهَا الخطا، وَمَجَاهِلُ تَضِلُّ فِيهَا الأَحْلَامُ إنْ لَمْ تَهْتَدِ بِعَلَمِ عِلْمٍ وَنَظَرٍ سَدِيدٍ) وَمَداحِضُ تَزِلُّ بِهَا الْأَقْدَامُ إنْ لَمْ تَعْتَمِدْ عَلَى تَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ وَتَأْيِيدٍ، لَكِنِّي لِمَا رَجَوْتُهُ لِي وَلَكَ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، مِنْ نَوَالٍ وثَوَابٍ، بِتَعْرِيفِ قَدْرِهِ الْجَسِيمِ، وَخُلُقِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَانِ خَصَائِصِهِ الَّتِي لَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلُ فِي مَخْلُوقٍ، وَمَا يُدَانُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حَقَّهِ الَّذِي هُوَ أرْفَعُ الْحُقُوقِ (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا)

_ (قوله مهامه) جمع مهمه بميمين مفتوحتين بينهما هاء ساكنة وفى آخره هاء وهى المفازة (قوله فيح) بكسر الفاء فالمثناة التحتية الساكنة فالمهملة جمع فيحاء بفتح الفاء والمد بمعنى واسعة (قوله القطا) بالقاف والهملة والقصر جمع قطاة: طائر يضرب به المثل في الهداية قال ابن ظفر القطا يترك فراخه ثم يطلب الماء من مسيرة عشرة أيام وأكثر فيرده فيما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ثم يرجع فلا يخطئ لا صادرا ولا واردا (قوله ومجاهل) بفتح الميم جمع مجهل وهو المفازة لا علامة فيها (قوله تضل) بفتح الأول وكسر الثاني أي تضيع (قوله بعلم) بفتحتين العلامة والجبل (قوله ومداحض) جمع مدحض اسم مكان من الدحض وهو الزلق (قوله لما رجوته) بكسر اللام وتخفيف الميم وكذلك ما عطف عليه من قوله وَلِمَا أَخَذَ اللَّهُ، وقوله لما حدثنا، وكل من اللامات الثلاث متعلق بمحذوف مؤخر أي لهذه الأمور الثلاثة عزمت على ما ذكرت على السؤال فيه فبادرت (قوله الجسيم) يقال جسم الرجل إذا عظم. (*)

وَلِمَا أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، وَلِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ حَدَّثَنَا أبو محمد بن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر محمد بن بَكْرٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابن الأَشْعَثِ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَبَادَرْتُ إِلَى نُكَتٍ سَافِرَةٍ عَنْ وَجْهِ الْغَرَضِ، مُؤَدِّيًا مِنْ ذَلِكَ الْحَقَّ الْمُفْتَرَضَ، اخْتَلَسْتُهَا عَلَى اسْتِعْجَالٍ، لِمَا الْمَرْءُ بِصَدَدِهِ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ وَالْبَالِ، بِمَا قُلَّدَهُ مِنْ مَقَالِيدِ الْمِحْنَةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا

_ (قوله النمري) بفتح النون والميم نسبة إنى نمر بفتح النون كسر الميم أي قبيلة، فتحوا ميمه في النسبة كراهية توالى الكسرات كذا في الصحاح (قوله أبو بكر) هو ابن داسة بمهملتين أحد رواة أبى داود (قوله سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ) هو الحافظ أبو داود صاحب السنن كانت وفاته يوم الجمعة سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين ومائتين وكان مولده فيما حكاه أبو بيدة الأجرى سنة ثنتين ومائتين (قوله حدثنا حماد) هو أَبُو سَلَمَةَ بْنُ دينار أحد الأعلام (قوله مَنْ سُئِلَ عَنْ علم) المراد علم يلزم ويتعين تعليمه (قوله فبادرت) عطف على ما قدرناه آنفا متعلقا للامات الثلاث (قوله والنكت) بضم النون وفتح الكاف وبالمثناة الفوقية جمع نكتة بضم النون وسكون الكاف وهي كل نقطة من بياض في سواد وعكسه، ونكت الكلام: لطائفه ودقائقه الى تفتقر إلى تفكر ونكت في الأرض (قوله اختلستها) الاختلاس بالخاء المعجمة: اختطاف الشئ بسرعة (قوله والبال) بالموحدة القلب والحال، والمراد الأول. (*)

فَكَادَتْ تَشْغَلُ عَنْ كُلِّ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَتَرُدُّ بَعْدَ حُسْنِ التَّقْوِيمِ إِلَى أسْفَلِ سَفْلٍ، وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِالْإِنْسَانِ خَيْرًا لَجَعَلَ شُغْلَهُ وَهَمَّهُ كُلَّهُ، فِيمَا يُحْمَدُ غَدًا وَلَا يُذَمُّ مَحَلُّهُ، فَلَيْسَ ثَمَّ سِوَى نَضْرَةِ النَّعِيمِ أوْ عَذَابِ الْجَحِيمِ، وَلَكَانَ عَلَيْهِ بِخُوَيْصَتِهِ، وَاسْتِنْقَاذِ مُهْجَتِهِ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ يَسْتَزِيدُهُ، وَعِلْمٍ نَافِعٍ يُفِيدُهُ أوْ يستفيد، جَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى صَدْعَ قُلُوبِنَا، وَغَفَرَ عَظِيمَ ذُنُوبِنَا، وَجَعَلَ جَمِيعَ اسْتِعْدَادِنَا لِمَعَادِنَا، وَتَوَفُّرِ دَوَاعِينَا فِيمَا يُنْجِينَا وَيُقَرِّبُنَا إِلَيْهِ زُلْفَى، وَيُحْظِينَا بِمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَمَّا نَوَيْتُ تقريبه، ودجت تَبْوِيبَهُ، وَمَهَّدْتُ تَأْصِيلَهُ وَخَلَّصْتُ تَفْصِيلَهُ، وَانْتَحَيْتُ حَصْرَهُ

_ (قوله سفل) هو بضم المهملة وكسرها وسكون الفاء (قوله لَجَعَلَ شُغْلَهُ وَهَمَّهُ كُلَّهُ فِيمَا يُحْمَدُ غَدًا وَلَا يُذَمُّ محله) بمعنى فيما يحمد بفعله واجبا كان أو نفلا أو فيما يذم بتركه وهو الواجب وكل من يحمد ويذم مبنى للفاعل وفاعله مستتر فيه عائد على العبد في قوله ولو أراد بعبد خيرا والظاهر أن المراد بما يذم محله الحرام. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يكون شغل العبد الذى يريد به خيرا في الحرام، أجيب بأن الشغل أعم من الشغل بالفعل والشغل بالترك فشغل العبد الذى يريد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا فيما يحمد محله بفعله وشغله فيما يذم محله بتركه (قوله بخوبصة) بضم المعجمة وتشديد الصاد المهملة تصغير خاصة والمراد هنا نفسه أو الأمر الذى يختص به (قوله واستنقاذ) بالقاف والذال المعجمة أي تخليص، والمهجة الروح والدم (قوله ويحظينا) بضم المثناة التحتية وسكون المهملة وكسر المعجمة أي يفضلنا (قوله ولما نويت) لما هذه بفتح اللام وتشديد الميم (قوله ودرجت) بفتح الدال المهملة وتشديد الراء، وفى الصحاح: درجه إلى كذا واستدرجه. أي أدناه منه على التدريج (قوله وانتحيت) بالحاء المهملة بعدها مثناة تحتية بمعنى قصدت. (*)

وَتَحْصِيلَهُ. تَرْجَمْتُهُ (بِالشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى) وَحَصَرْتُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي أرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: (الْقِسْمُ الأَوَّلُ) فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الأَعْلَى، لِقَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَوَجَّهَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي أرْبَعَةِ أبْوَابٍ: الْبَابُ الأَوَّلُ: فِي ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإظْهَارِهِ عَظِيمَ قَدْرِهِ لَدَيْهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي تَكْمِيلِهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وقرانه جميع الفضائل الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا، وَفيهِ سَبْعَةٌ وعشرين فَصْلًا. الْبَابُ الثَّالِثُ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ صَحِيحِ الأخبار ومشهورها بِعَظِيمِ قَدْرِهِ عِنْدَ ربه ومنزلته وَمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كرامته، وَفِيهِ اثْنَا عَشَرَ فَصْلًا. الْبَابُ الرَّابعُ: فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ وَشَرَّفَهُ بِهِ منَ الْخَصَائِصِ وَالْكَرَامَاتِ، وَفِيهِ ثَلاثُونَ فَصْلًا. (الْقِسْمُ الثَّانِي) فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْأَنَامِ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَتَرَتَّبُ الْقَوْلُ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: الْبَابُ الأَوَّلُ: في فرض الإيمان به ووجوب طاعته وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَفِيهِ خَمْسَةُ فَصُولٍ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي لُزُومِ مَحَبَّتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَفِيهِ سِتَّةُ فُصُولٍ. الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَلُزُومِ تَوْقِيرِهِ وَبِرِّهِ، وَفِيهِ سَبْعَةُ فَصُولٍ

الباب الرابع: في حكم الصلاة عليه والتسليم وَفَرْضِ ذَلِكَ وَفَضِيلَتِهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ. (الْقِسْمُ الثَّالِثُ) فِيمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَمْتَنِعُ وَيَصِحُّ مِنَ الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ أنْ يُضَافَ إِلَيْهِ وَهَذَا القِسْمُ - أَكْرَمَكَ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ سِرُّ الْكِتَابِ، وَلُبَابُ ثَمَرَةِ هَذِهِ الْأَبْوَابِ، وَمَا قَبْلَهُ لَهُ كَالْقَوَاعِدِ وَالتَّمْهِيدَاتِ، وَالدَّلَائِلِ عَلَى مَا نُورِدُهُ فِيهِ مِنَ النُّكَتِ البَيِّنَاتِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَالْمُنْجِزُ مِنْ غَرَضِ هَذَا التَّأْلِيفِ وَعْدَهُ، وَعِنْدَ التقصى لموهدته، وَالتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَتِهِ، يَشْرَقُ صَدْرُ العَدُوِّ اللَّعِينِ، وَيُشْرِقُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بِالْيَقِينِ، وَتَمْلأُ أنواره جوانح صَدْرِهِ، وَيَقْدُرُ الْعَاقِلُ النَّبِيَّ حَقَّ قَدْرِهِ، وَيَتحَرَّرُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ: الْبَابُ الأَوَّلُ: فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَيَتشَبَّثُ بِهِ الْقَوْلُ فِي الْعِصْمَةِ وَفِيهِ سِتَّةَ عشر فصلا.

_ (قوله وَعِنْدَ التَّقَصِّي لِمَوْعِدَتِهِ وَالتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَتِهِ) كلاهما بالصاد المهملة والأول بالقاف يقال استقصى فلان في المسألة وتقصى بمعنى والثانى بالفاء يقال تفصى عن كذا أي تخلص عنه (قوله يشرق) بفتح أوله وثالثه يقال شرق صدره بكذا بكسر الراء أي ضاق به حسدا (قوله ويشرق) بضم أوله وكسر ثالثه أي يضئ (قوله جوانح صدره) الجوانح جمه جانحة وهى الأضلاع التى تحت الترائب مما يلى الصدر كالضلوع مما يلى الظهر، والترائب عظام الصدر ما بين الترقوة إلى السرة، كذا في الصحاح (قوله ويقدر) بفتح أوله وضم ثالثه. (*)

الْبَابُ الثَّانِي: فِي أَحْوَالِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ، وَفِيهِ تِسْعَةُ فُصُولٍ. (الْقِسْمُ الرَّابِعُ) فِي تَصَرُّفِ وُجُوهِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَنْ تَنَقَّصَهُ أَوْ سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي بَابَيْنِ: الْبَابُ الأول: في بيان ما هو في حقه سب وَنَقْصٌ مِنْ تَعْرِيضٍ أوْ نَصٍّ وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ. الْبَابُ الثَّانِي: فِي حُكْمِ شَانِئِهِ وَمُؤْذِيهِ وَمُنْتَقِصِهِ وَعُقُوبَتِهِ وَذِكْرِ اسْتِتَابَتِهِ وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ ووِرَاثَتِهِ، وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ وَخَتَمْنَاهُ بِبَابٍ ثَالِثٍ جَعَلْنَاهُ تكْمِلَةً لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوُصْلَةً لِلْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فِي حُكْمِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرسُلَهُ وَمَلائِكَتَهُ وَكُتُبَهُ وَآلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحْبَهُ، وَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ وَبِتَمَامِهَا يَنْتَجِزُ الْكِتَابُ، وَتَتِمُّ الْأَقْسَامُ وَالْأَبْوَابُ، وَيَلُوحُ فِي غُرَّةِ الإيمان لمعة

_ (قوله وَمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ) قال ابن القطاع طرأ على القوم طروا قدم وطرا طروا بلا هنز كذلك (قوله وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ ووِرَاثَتِهِ وَفِيهِ عَشَرَةُ فُصُولٍ) كذا في الأصل وصوابه خمسة فصول لأنا لم نر فيما يأتي إلا خمسة فصول (قوله وَاخْتُصِرَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي خَمْسَةِ فُصُولٍ) كذا في الأصل وصوابه عشرة فصول لأنه فيما يأتي ذكر عشرة (قوله ينتجز) بالجيم والزاى مطاوع نجزت الحاجة قضيتها (قوله فِي غُرَّةِ الإِيمَانِ) الغرة في الأصل بياض في وجه الفرس فوق الدرهم والفرجة في وجه الفرس دون الدرهم ثم استعيرت الغرة للشرف والاشتهار حتى صار ذلك عند العرب على الحقيقة ويقال أيضا الأغر للأبيض. (*)

القسم الأول (في تعظيم العلى الأعلى لقدر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا)

منيرة أو في تَاجِ التَّرَاجِمِ دُرَّةٌ خَطِيرَةٌ، تُزِيحُ كُلَّ لَبْسٍ، وَتُوَضِّحُ كُلَّ تَخْمِينٍ وَحَدْسٍ: وَتَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَتَصْدَعُ بِالْحَقِّ وَتُعْرِضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى - لَا إِلَهَ سِوَاهُ - أَسْتَعِينُ. الْقِسْمُ الأَوَّلُ (فِي تَعْظِيمِ الْعَلِيِّ الأَعْلَى لِقَدْرِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا) قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى وسَدَّدَهُ: لاخفاء عَلَى مَنْ مَارَسَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، أوْ خُصَّ بِأَدْنَى لَمْحَةٍ مِنَ الْفَهْمِ: بِتَعْظِيمِ اللَّهِ قَدْرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخُصُوصِهِ إيَّاهُ بِفَضَائِلَ وَمَحَاسِنَ وَمَنَاقِبَ لَا تَنْضَبِطُ لِزِمَامٍ: وَتَنويِهِهِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ بِمَا تَكِلُّ عَنْهُ الْأَلْسِنَةُ وَالْأَقْلَامُ، فَمِنْهَا مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى في كتاب: وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى جليل

_ (قوله خطيرة) بمعجمة مفتوحة بعدها مهملة مكسورة أي ذات خطر وقدر (قوله تزيح) بالزاى والحاء المهملة أي تذهب واللبس الاختلاط (قوله تخمين وحدس) التخمين بالمعجمة القول بالحدس والحدس مصدر حدس بفتح الدال المهملة يحدث بكسرها: قال شيئا برأيه. (القسم الأول) (قوله لمحة) بفتح اللام هي النظرة الخفيفة (قوله لزمام) أي لضابط استعير من زمام النعل وهو ما يشد به شسع النعل أو استعير من زمام الناقة وَهُوَ الخِيطُ الَّذِي يشد في البرة بضم الموحدة وفتح الراء الخفيفة وهى حلقة من نحاس تجعل في أنف البعير أو يشد في الخشاش بكسر الخاء المعجمة وبشينين معجمتين بينهما ألف حلقة من حديد تجعل في أنف البعير. (*)

نِصَابِهِ، وَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآَدَابِهِ، وَحَضَّ الْعِبَادَ عَلَى الْتِزَامِهِ وَتَقَلُّدِ إِيجَابِهِ: فَكَانَ جَلَّ جَلالُهُ هُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ وَأَوْلَى. ثُمَّ طَهَّرَ وَزَكَّى، ثُمَّ مَدَحَ بِذَلِكَ وَأَثْنَى، ثُمَّ أَثَابَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، فَلَهُ الفضل بدأ وَعَوْدًا، وَالْحَمْدُ أُولَى وأُخْرَى، وَمِنْهَا مَا أَبْرَزَهُ لِلْعَيَانِ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَتَخْصِيصِهِ بِالْمَحَاسِنِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَخلَاقِ الْحمِيدَةِ وَالْمَذَاهِبِ الْكَرِيمَةِ وَالْفَضَائِلِ الْعَدِيدَةِ وَتَأْيِيدِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ وَالْكَرَامَاتِ البَيِّنَةِ: الَّتِي شَاهَدَهَا مَنْ عَاصَرَهُ، وَرَآهَا مَنْ أَدْرَكَهُ، وَعَلِمَهَا عِلْمَ يَقِينٍ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ، حَتَى انْتَهَى عِلْمُ حَقِيقَةِ ذَلِكَ إِلَيْنَا، وَفَاضَتْ أَنْوَارُهُ عَلَيْنَا: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا * حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ، قَالَ حَدَّثَنَا أبُو الْحُسَيْنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ خَيْرُونَ، قَالا حَدَّثَنَا أبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أبُو عِيسَى بْنُ سَوْرَةَ الْحَافِظُ. قَالَ حَدَّثَنَا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ،

_ (قوله نصابه) بكسر أوله أي منصبه (قوله من خلقه) هو بفتح المعجمة وسكون اللام (قوله الباهرة) أي العالية (قوله القاضى الشهيد) هو ابن سكرة الأندلسى (قوله أبو يعلى البغدادي) هو المعروف بزوج الحرة (قوله أبو علي السنجي) هو بكسر المهملة وسكون النون وبالجيم نسبة إلى سنج مرو (قوله ابن سورة) بفتح المهملة وسكون الواو وفتح الراء الترمذي الضرير صاحب الجامع: قيل ولد أكمه توفى بترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين قاله ابن ماكولا في الإكمان وترمذ بفتح = (*)

الباب الأول في ثناء الله تعالى عليه وإظهاره عظيم قدره لديه

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ. أَنْبَأنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أتى بانبراق لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جبرئيل: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذا، فَمَا رَكِبَكَ أحَدٌ أَكْرَمُ على الله منه؟ قال فافرض عَرَقًا. الْبَابُ الأَوَّلُ فِي ثَنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِظْهَارِهِ عَظِيمَ قَدْرِهِ لَدَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ فِي كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصخة بجميل ذكر

_ = المثناة من فوق وكسر الميم وبكسرهما وبضمهما قاله النووي في التهذيب في الكنى في أبى جعفر الترمذي (قوله عبد الرزاق) هو الحافظ ابن همام بن نافع للصغانى أحد الأعلام (قوله معمر) بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح الميم وبالراء (قوله بالبراق) هو دابة فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ البغل: وَرَد فِي الصَّحِيح: سمى براقا لسرعته وقيل لشدة صفائه وقيل لكونه أبيض وقال المصنف لكونه ذا لونين من قولهم شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود وفى كتاب الاحتفال لابن أبى خالد في أسماء خيل النبي صلى الله عليه وسلم أن البراق دون البغل وفوق الحمار ووجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى (قوله فاستصعب عليه) قيل استصعابه لبعد عهده بالأنبياء لطول الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل لأنه لم يذلل قبل ذلك ولم يركبه أحد والقول الأول مبنى على أن الأنبياء عليهم السلام ركبوه قبل النبي صلى الله عليه وسلم والقول الثاني مبنى على أنه لم يركبه أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وفى ذلك خلاف وقيل استصعابه تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم عليه (قوله فارفض) بفاءين بينهما راء ساكنة وبضاد معجمة مشددة أي جرى وسال وفاعله مستتر عائد على البراق وعرقا تمييز. (*)

الفصل الأول فيما جاء من ذلك مجئ المدح والثناء وتعداد المحاسن

الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدِّ مَحَاسِنِهِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَتَنْوِيهِ قَدْرِهِ، اعْتَمَدْنَا مِنْهَا عَلَى مَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ وَبَانَ فَحْوَاهُ، وَجَمَعْنَا ذَلِكَ فِي عَشَرَةِ فُصُولٍ: (الْفَصْلُ الأَوَّلُ) فِيمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مجئ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَتَعْدَادِ الْمَحَاسِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ من أنفسكم) الآية. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (مِنْ أَنْفَسِكُمْ) بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَقِراءَةُ الْجُمْهُورِ بِالضَّمِّ، قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَوِ الْعَرَبَ أَوْ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلافِ الْمُفَسِّرينَ مَنِ الْمُوَاجَهُ بِهَذَا الْخِطَابِ: أَنَّهُ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَتَحَقَّقُونَ مَكَانَهُ وَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ فَلَا يَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَتَرْكِ النَّصِيحَةِ لَهُمْ: لِكَوْنِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ إِلا وَلَهَا على رسول اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَادَةٌ أَوْ قَرَابَةٌ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى (إِلا الْمَوَدَّةَ في القربى) وَكَوْنِهِ مِنْ أَشْرَفِهِمْ وَأَرْفَعِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ هَذِهِ نِهَايَةُ الْمَدْحِ، ثُمَّ وَصَفَهُ بَعْدُ بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ، وَأثْنَى عَلَيْهِ بمحامد كثيرة:

_ (الفصل الأول) (قوله السمرقندى) هو الامام الجليل الحنفي أبو الليث المعروف بإمام الهدى: تفقه على أبى جعفر الهندوانى وتوفى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ولهم أبو الليث السمرقندي متقدم يلقب بالحافظ وهو الفرق بينهما، ذكره السمعاني. (*)

مِنْ حِرْصِهِ عَلَى هِدَايَتِهمْ وَرُشْدِهِمْ وَإسْلَامِهِمْ وَشِدَّةِ مَا يُعْنِتُهُمْ وَيَضُرُّ بِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَعِزَّتِهِ عَلَيْهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمتِهِ بِمُؤْمِنِيهِمْ، قَالَ بَعْضُهُمْ أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أسمائه رؤف رَحِيمٌ وَمِثْلُهُ فِي الآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ تَعَالى (لفد مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أنفسهم) الآية وَفِي الآيَةِ الْأُخْرَى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا منهم) الآية وَقَوْلُهُ تَعَالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ) الآية، وَرُوي عَن عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله تعالى (من أنفسكم) قَالَ نَسَبًا وَصِهْرًا وَحَسَبًا لَيْسَ فِي آبَائِي مِنْ لَدُنْ آدَمَ سِفَاحٌ كُلُّهَا نِكَاحٌ قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خمسمائة أُمٍّ فَمَا وَجَدْتُ فيهم سِفَاحًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِليَّةُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين) قَالَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى

_ (قوله وشده) هو بالجر والتأنيث عطف على حرصه، وعزته عطف على شدة والضمير لما والجار والمجرور أعنى عليه متعلق بالشدة أو بالعزة على طريق التنازع، والضمير المجرور فيه وفى رأفته وفى رحمته للنبي صلى الله عليه وسلم كالضمير في حرصه (قوله يعنتهم) بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه مخففا وبضم أوله وفتح ثانيه وكسر ثالثه مشددا. في القاموس: أعنته غيره وعنته شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه أداؤه (قوله وحسبا) الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه (قوله سفاح) السفاح بكسر السين المهملة الزنا. (*)

أَخْرَجْتُكَ نَبِيًّا، وَقَالَ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ طَاعَتِهِ فَعَرَّفَهُمْ ذَلِكَ لِكَيْ يَعْلَمُوا أنَّهُمْ لَا يَنَالُونَ الصَّفْوَ مِنْ خِدْمَتِهِ، فأَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَخْلُوقًا مِنْ جلسهم فِي الصُّورَةِ، أَلْبَسَهُ مِنْ نَعْتِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَأَخْرَجَهُ إِلَى الْخَلْقِ سَفِيرًا صَادِقًا، وَجَعَلَ طَاعَتَهُ طَاعَتَهُ، ومَوَافَقَتَهُ مَوَافَقَتَهُ فَقَالَ تَعَالَى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وَقَالَ اللَّه تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ: زَيَّنَ اللَّه تَعَالَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ فَكَانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً وَجَمِيعُ شَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ رَحْمَةً عَلَى الْخَلْقِ، فمن أصابه شئ مَنْ رَحْمَتِهِ فَهُوَ النَّاجِي فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كُلَّ مَكْرُوهٍ وَالْوَاصِلُ فِيهِمَا إِلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً للعالمين) فَكَانَتْ حَيَاتُهُ رَحْمَةً وَممَاتُهُ رَحْمَةً كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ) وَكَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (إِذَا أرَادَ اللَّهُ رَحْمَةً بِأُمَّةٍ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا) وقَالَ

_ (قوله جعفر بن محمد) هو جعفر الصادق بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ علي بن أبى طالب (قوله سفيرا) في الصحاح السفير الرسول والمصلح بين الخلق (قوله قال أبو بكر بن طاهر) هو ابن مفوز بن أحمد بن مغور المعافرى الشاطبي (قوله فكان كونه) أي وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مصدر كان التامة اسم لكان الناقصة ورحمة خبر لها (قوله شمائله) الشمائل جمع شمال بكسر المعجمة وهو الخلق بضم الخاء وسكون اللام (قوله فرطا) بفتح الفاء والراء وهو الذى يتقدم الواردين فيهئ لهم ما يحتاجون إليه. (*)

السَّمَرْقَنْدِيُّ (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) يَعْنِي لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قِيلَ لِجَميعِ الْخَلْقِ: لِلْمُؤْمِنِ رَحْمَةً بِالْهِدَايَةِ، وَرَحْمَةً لِلْمُنَافِقِ بِالْأَمَانِ مِنَ الْقَتْلِ، وَرَحَمةً لِلْكَافِرِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، إذْ عُوفُوا مِمَّا أصَابَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَحُكِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (هَلْ أَصَابَكَ مِنْ هَذِهِ الرحمة شئ) قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَخْشَى الْعَاقِبَةَ فَأَمِنْتُ لِثَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ بِقَوْلِهِ (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) أَيْ بِكَ إِنَّما وَقَعَتْ سَلَامَتُهُمْ مِنْ أَجْلِ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ الله تَعَالَى (اللَّهُ نُورُ السماوات والأرض) - الآية قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الْمُرادُ بِالنُّورِ الثَّانِي هُنَا: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى (مَثَلُ نُورِهِ) أَيْ نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ سَهْلُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْمَعْنَى اللَّهُ هَادِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَ قَالَ مَثَلُ نور

_ (قوله كعب الأحبار) هو كعب بن ماتع - بالمثناة من فوق - ابن هينوع أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبى بكر وقيل في خلافة عمر رضي الله عنهما وكان قبل إسلامه على دين اليهود وسكن الين، توفى بحمص سنة اثنين وثلاثين (قوله وقال سهل بن عبد الله) يعنى التسترى، وتسر قال ابن خلكان: بلد من كورة الأهواز ويقول الناس لها (شستر) وبها قبر البراء بن مالك، وقال النووي - هو بمثناتين من فوق الأولى مضمومة والثانية مفتوحة بينهما سين مهملة - مدينة بخوزستان. (2 - 1) (*)

مُحَمَّدٍ إذْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا فِي الأَصْلابِ كَمِشْكَاةٍ صِفَتُهَا كَذَا، وَأَرَادَ بِالْمِصْبَاحِ قَلْبَهُ، وَالزُّجَاجَةِ صَدْرَهُ: أيْ كَأنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ، يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ: أَيْ مِنْ نُورِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، وَضُرِبَ الْمَثَلُ بِالشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَقَوْلُهُ: يَكَادُ زَيْتُهَا يضئ: أَيْ تَكَادُ نُبُوَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِينُ لِلنَّاسِ قَبْلَ كَلامِهِ كَهَذا الزَّيْتِ، وَقَد قِيل فِي هَذِه الآيَة غَيْر هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ نُورًا وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَقَالَ تَعَالَى (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) وَقَالَ تَعَالَى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا منيرا) وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، شَرَحَ: وَسَّعَ، وَالمُرَادُ بِالصَّدْرِ هُنَا: الْقَلْبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَرَحَهُ بِنُورِ الْإِسلَامِ، وَقَالَ سَهْلٌ: بِنُورِ الرِّسَالَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَلأَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَلَمْ يُطَهِّرْ قَلْبَكَ حَتَّى لَا يَقْبَلَ الْوَسْوَاسَ؟ (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الذى أنقض

_ (قوله كمشكاة) المشكاة الكوة في الحائط التى ليست بنافذة وقيل المراد بها في الآية القنديل وبالمصباح الفتيلة وقيل المراد بها معلاق القنديل وبالمصباح القنديل وقيل المراد بها موضع الفتيلة وبالمصباح الفتيلة الموقودة (قوله تبين) بفتح المثناة الفوقية وكسر الموحدة أي تظهر (قوله وقال الحسن) هو ابن أبى الحسن البصري مات سنة عشر ومائة. (*)

ظهرك) : قِيلَ مَا سَلَفَ مِنْ ذَنْبِكَ يَعْنِي قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ أَرَادَ ثِقَلَ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ أَرَادَ مَا أثْقَلَ ظَهْرَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ حَتَى بَلَّغَهَا. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالسُّلَمِيُّ، وَقِيلَ عَصَمْنَاكَ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأثْقَلَتِ الذُّنُوبُ ظَهْرَكَ. حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك) : قالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: بِالنُّبُوَّةِ، وَقِيلَ إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي فِي قَوْلِ لَا إِلهَ إِلا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَقِيلَ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: هَذَا تَقْرِيرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ لَدَيْهِ وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ وَكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ شَرَحَ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ وَوَسَّعَهُ لِوَعْيِ الْعِلْمِ وَحَمْلِ الْحِكْمَةِ وَرَفَعَ عَنْهُ ثِقَلَ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ وَبَغَّضَهُ لِسَيْرِهَا وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِظُهُورِ دِينِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَحَطَّ عَنْهُ عُهْدَةَ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَتَنْوِيهِهِ بِعَظِيمِ مَكَانِهِ وَجَليلِ رُتْبَتِهِ وَرِفْعَةِ ذِكْرِهِ وَقِرَانِهِ مَعَ اسْمِهِ اسْمَهُ، قَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ الله تعالى ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلا يَقُولُ أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدا رَسُولُ اللَّهِ: وَرَوَى أبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ الله عنه أن النبي صلى

_ (قوله ثقل) هو بكسر المثلثة وفتح القاف ضد الخفة، وبكسر المثلثة وسكون القاف واحد الأثقال، وبفتحهما متاع المسافر وحشمه (قوله السلمى) هو بضم المهملة وفتح اللام أبو عبد الرحمن النيسابوري شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم (قوله أعباء الرسالة) جمع عبء بكسر العين المهملة وسكون الموحدة بعدها همزة، في القاموس هو الحمل والثقل من أي شئ كان والعدل. (*)

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ إنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: تَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي) قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: جَعَلْتُ تَمَامَ الْإِيمَانِ بِذِكْرِكَ مَعِي، وَقَالَ أَيْضًا: جَعَلْتُكَ ذِكْرًا مِنْ ذِكْرِي فَمَنْ ذَكَرَكَ ذَكَرَنِي. وَقَالَ جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: لَا يَذْكُرُكَ أحَدٌ بِالرِّسَالَةِ إِلا ذَكَرَنِي بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَأشَارَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى مَقَامِ الشَّفَاعَةِ، وَمِنْ ذِكْرِهِ مَعَهَ تَعَالَى أَنْ قَرَنَ طَاعَتَهُ بطَاعَتِهِ وَاسْمَهُ بِاسْمِهِ فَقَالَ تَعَالَى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) ، (وآمنوا بالله ورسوله) فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ الْمُشْرِكَةِ، وَلَا يَجُوزُ جَمْعُ هَذَا الْكَلَامِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَيَّانِيُّ الْحَافِظُ فِيمَا أَجَازَنِيهِ وَقَرَأْتُهُ عَلَى الثِّقَةِ عَنْهُ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجْزِيُّ حَدَّثَنَا أبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ الله ابن يَسَارٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال

_ (قوله قال ابن عطاء) هو أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمى الزاهد البغدادي أحد مشايخ الصوفية (قوله الجيانى) بالجيم المفتوحة والمثناة التحتية المشددة والنون: نسبة إلى بلد بالأندلس (قوله السجزى) بكسر المهملة وسكون الجيم وكسر الزاى. قال ابن ما كولا هي نسبة إلى سجستان على غير قياس وهو إقليم ذو مدائن بين خراسان والسند وكرمان. (*)

لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكنْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرْشَدَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الأَدَبِ فِي تَقْدِيمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَشِيئَةِ مَنْ سِوَاهُ، وَاخْتَارَهَا بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلنَّسَقِ وَالتَّرَاخِي بِخِلافِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لِلاشْتِرَاكِ، وَمِثلُهُ الْحَدِيثُ الآخَرُ: أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رشد ومن يعصمها، فقال له النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ (بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُمْ - أَوْ قَالَ - اذْهَبْ) قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَرِهَ مِنْهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الاسْمَيْنِ بِحَرْفِ الْكِنَايَةِ لِمَا فِيهِ منَ التَّسْوِيَةِ، وَذَهبَ غَيْرُهُ إِلَى أنَّهُ إِنَّمَا كَرِهَ لَهُ الْوُقُوفَ عَلَى يَعْصِهِمَا. وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ أَصَحُّ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الوُقُوفَ عَلَى يَعْصِهِمَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَصْحَابُ الْمَعَانِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ

_ (قوله الخطابى) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة هو حمد بفتح المهملة وسكون الميم بعدها دال مهملة ابن إبراهيم بن خطاب الإمام الحافظ البستى والخطابى نسبة إلى جده ويقال إنه من نسل زيد بن الخطاب (قوله أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هو ثابت بن قيس بن شماس (قوله وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ أصح) قال النووي: الصواب أن سبب النهى أن الخطب شأنها الإيضاح واجتناب الرمز وَلِهَذَا كَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم لا كراهة الْجَمْعَ بَيْنَ الاسْمَيْنِ بالكتاب لأنه ورد في مواضع منها قَوْله عَلَيْه السَّلَام أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سواهما. (*)

يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) هَلْ يُصَلُّونَ رَاجِعَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ لِعِلَّةِ التَّشْرِيكِ وَخَصُّوا الضَّمِيرَ بَالمَلَائِكَةِ وَقَدَّرُوا الآيَةَ: إِنَّ اللَّهَ يُصَلِّي ومَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقد قال تَعَالَى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يحببكم الله) الآيَتَيْنِ، وَرُوِيَ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالُوا إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أنْ نتخذه حنابا كما اتخذت النصارى عِيسَى، فَأنْزَل اللَّهُ تعالى (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرسول) فَقَرَنَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِهِ رَغْمًا لَهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُمِّ الكِتَابِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم) قفال أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيَارُ أهْلِ بَيْتِهِ وَأصْحَابِهِ، حَكَاهُ عَنْهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَحَكَى مَكِّيٌّ عَنْهُمَا نَحْوَهُ وَقَالَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَحَكَى أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِثْلَهُ عَنْ أبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تعالى

_ (قوله حنانا) في الصحاح: الحنان الرحمة: وقال ابن الأثير: الحنان العطف ومنه قول ورقة ابن نوفل حين كان يمر ببلال وهو يعذب لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا (قوله رغما) بفتح الراء وسكون الغين المعجمة أي غيظا (قوله فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ) هما اثنان تابعيان من أهل البصرة أحدهما الرياحي بكسر الراء والآخر البراء بفتح الموحدة وتشديد الراء. (*)

الفصل الثاني (في وصفه تعالى له بالشهادة وما يتعلق بها من الثناء والكرامة)

(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم) قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ فَقَالَ صَدَقَ وَاللَّهِ وَنَصَحَ. وَحكَى الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ في تَفْسِيرِ (صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمت عليهم) عن عبد الرحمان بْنِ زَيْدٍ. وَحَكى أبو عبد الرحمان السُّلَمِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعروة الوثقى) أنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ شَهَادَةُ التَّوْحِيدِ، وَقَالَ سَهْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَإِنْ تَعُدُّوا نعمت اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) قَالَ نِعَمَتُهُ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ تَعَالَى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون) الآيتين: أَكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ، وَقُرِئَ صَدَقَ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ الَّذِي صَدَقَ بِهِ المُؤمِنُونَ، وَقِيلَ أَبُو بكر، وقيل على، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَقْوَالِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) قال بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. الْفَصْلُ الثَّانِي (فِي وَصْفِهِ تَعَالَى لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الثَّنَاءِ وَالْكَرَامَةِ) قَالَ اللَّهُ تعالى (يا أيها النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) الآية، جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ ضُرُوبًا مِنْ رُتَبِ

الأُثَرَةِ، وَجُمْلَةَ أَوْصَافٍ مِنَ الْمِدْحَةِ، فَجَعَلَهَ شَاهِدًا عَلَى أُمَّتِهِ لِنَفْسِهِ بِإِبْلاغِهِمُ الرِّسَالَةَ، وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُبَشِّرًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَنَذِيرًا لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، وَدَاعِيًا إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَسِرَاجًا مُنِيرًا يُهْتَدَى بِهِ لِلْحَقِّ * حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ في القرآن: يا أيها النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ

_ (قوله الأثرة) بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما: الاستبداد بالشئ والانفراد به. اسم، من استأثر بالشئ: استبد به (قوله المدحة) هو بكسر الميم الثنا والذكر الحسن (قوله ابن عتاب) بالمهملة والمثناة المشددة والباء الموحدة هو مسند الأندلس في زمانه عبد الرحمن القرطبى الأندلسى (قوله أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ) هو المعروف بالأطرابلسى (قول القابسى) هو الحافظ علي بن محمد بن خلف المعافرى القروى وإنما قيل له القابسى لأن عمه كان يشد عمامته شدة أهل قابس (قوله فليح) بضم الفاء وفتح اللام بعدها ياء ساكنة فحاء مهملة. هو ابن سليمان العدوى مولاهم (قوله وحرزا) بالمهملة المكسورة فالراء الساكنة فالزاي: أي حفظا (قوله للأميين) أي للعرب لأن الكتابة عندهم قليلة والأمى من لا يحسن الكتابة، نسبة إلى أمة العرب حين كانوا لا يحسنون الكتابة، أو لأم بمعنى أنه كما ولدته أمه. (*)

الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ: بأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهِ أعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا) وَذُكِرَ مِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَلَا صَخِبٍ فِي الْأَسْوَاقِ ولا متزيل بِالْفُحْشِ: وَلَا قَوَّالٍ لِلْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ، وَأهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيَعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، والْهُدَى إمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أُهْدِيَ بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ، وَأُعْلِمَ به

_ (قوله ليس بفظ) أي بسئ الخلق (ولا غليظ) أي شديد القول (قوله ولا سخاب) بالسين المهملة والخاء المعجمة المشددة من السخب وهى لغة ربيعة في الصخب وهو رفع الصوت (قوله الملة العوجاء) يعنى ملة إبراهيم لأن العرب غيرتها عن استقامتها فصارت كالعوجاء (قوله غلفا) بضم المعجمة وسكون اللام جمع أغلف وهو الشئ في غلاف وغشاء بحيث لا يوصل إليه (قوله ابن سلام) بتخفيف اللام لا غير هو الأنصاري الخزرجي كان اسمه في الجاهلية حصينا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله (قوله ولا صخب) هو بالصاد المهملة والخاء المعجمة المكسورة من الصخب وهو رفع الصوت في السوق في لغة غير ربيعة (قوله للخنا) بفتح المعجمة والقصر: الفحش (قوله إمامه) بكسر الهمزة (قوله أهدى) بفتح الهمزة أي أرشد (قوله وأعلم) بضم الهمزة وتشديد اللام. (*)

بعد الجهالة، ورفع بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُسْمِيَ بِهِ بَعْدَ النُّكْرَةِ، وَأُكْثِرَ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وأُغْنِيَ بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ قُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتِّتَةٍ وأُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَأَجْعلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ: (عَبْدِي أَحْمَدُ الْمُخْتَارُ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِالْمَدينَةِ - أَوْ قَالَ طَيْبَةُ - أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَقَالَ تَعَالَى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي) الآيتين، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية، قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: ذَكَّرَهُمِ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّتَهُ أنَّهُ جعل رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا بالمؤمنين، رئوفا، لين الجانت، وَلَوْ كَانَ فَظًّا خَشِنًا فِي الْقَوْلِ: لَتفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سَمْحًا، سَهْلًا، طَلْقًا، بَرًّا، لَطِيفًا: هَكَذَا قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ تَعَالَى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) قال

_ (قوله بعد الخمالة) في الصحاح: الخامل الساقط الذى لا نباهة له وقد خمل يخمل خمولا وفى أفعال ابن القطاع خمل خمولا: خفى ذكره (قوله وأسمى) بضم الهمزة وتشديد الميم (قوله وأغنى) بضم الهمزة وسكون المعجمة (قوله بعد العيلة هي بفتح المهملة الفقر (قوله سمحا) بفتح السين المهملة وسكون الميم أي جوادا (قوله طلقا) بسكون اللام أي منبسط الوجه متهلله، يقال طلق الرجل بالضم فهو طلق (قوله الظحاك) هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني يروى عن أبي هريرة وَابْنُ عَبَّاس وَابْنُ عمر وأنس. (*)

أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: أبَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَ نَبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلَ أُمَّتِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وفِي قَوْلِهِ فِي الآيَةِ الْأَخْرَى (وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ على الناس) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بشهيد) الآية، وقوله تعالى (وسطا) أَيْ عَدُولًا خِيَارًا، وَمَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ: وكَمَا هَدَيْنَاكُمْ فَكَذَلِكَ خصَّصْنَاكُمْ وَفَضَّلْنَاكُمْ بِأَنْ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً خِيَارًا عُدُولًا لِتَشْهَدُوا لِلأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ عَلَى أُمَمِهِمْ وَيَشْهَدَ لَكُمُ الرَّسُولُ بِالصِّدْقِ، قِيلَ إنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ إِذَا سَأَلَ الْأَنْبِيَاءَ: هَلْ بَلَّغْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَتَقُولُ أُمَمُهُمْ: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَتَشْهَدُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَنْبِيَاءِ، وَيُزَكِّيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ مَعنَى الآيَةِ: إِنَّكُمْ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَكُمْ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قَالَ قَتَادَةُ والْحَسَنُ وَزَيْدُ بنُ أسْلَمَ: قَدَمَ صِدْقٍ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَعَنِ الْحَسَنِ أيْضًا: هِيَ مُصِيبَتُهُمْ بِنَبِيِّهِمْ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ شَفَاعَةُ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ شَفِيعُ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: هِيَ سَابِقَةُ رَحْمَةٍ أَوْدَعَهَا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ

الفصل الثالث فيما ورد من خطابه إياه مورد الملاطفة والمبرة

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ وَالصِّدِّيقِينَ: الشَّفِيعُ الْمُطَاعُ، وَالسَّائِلُ المُجَابُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَكَاهُ عَنْهُ السُّلَمِيُّ الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلاطَفَةِ وَالْمَبَرَّةِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لهم) قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ قِيلَ هَذَا افْتِتَاحُ كَلَامٍ بِمَنْزِلَةٍ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَأَعَزَّكَ اللَّهُ. وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ، حَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: عافاك الله با سَلِيمَ الْقَلْبِ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، قَالَ وَلَوْ بَدَأَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: لِمَ أذنت لهم، لَخِيفَ عَلَيْهِ أنْ يَنْشَقَّ قَلْبُهُ مِنْ هَيْبَةِ هَذَا الْكَلَامِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ حَتَّى سَكَنَ قَلْبُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بِالتَّخَلُّفِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الْكَاذِبِ؟ وفِي هَذَا مِنْ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، وَمِنْ إِكْرَامِهِ إيَّاهُ وَبِرِّهِ بِهِ ما يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ الْقَلْبِ، قَالَ

_ (قوله محمد بن علي الترمذي) هو الإمام الحافظ الزاهد المؤذن صاحب التصانيف الحكيم الترمذي (قوله عون) هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلى الكوفى الزاهد الفقيه يروى عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما (قوله قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ) بضم المثناة التحتية وسكون المعجمة وكسر الموحدة الخفيفة أو بفتح المعجمة وتشديد الموحدة، في الصحاح: أخبرته وخبرته بمعنى (قوله ولو بدأ) هو مهموز من الابتداء (قوله عَلَى ذِي لُبٍّ) اللب العقل (قوله نياط القلب) بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية: عرق يعلق به القلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه. (*)

نِفْطُوَيْهِ: ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتَبٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا لِنِفَاقِهِمْ، وَأنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الإِذْنِ لَهُمْ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نفسه ارائض بِزَمامِ الشَّرِيعَةِ خُلُقَهُ أنْ يَتَأدَّبَ بِآدَابِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَمُعَاطَاتِهِ وَمُحَاوَرَاتِهِ، فَهُوَ عُنْصُرُ الْمَعَارِفِ الحقيقة وَرَوْضَةُ الآدَابِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلْيَتَأَمَّلْ هَذِهِ المُلاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ: الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الجميع ويستشير مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتَبِ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ. وَقَالَ تَعَالَى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ

_ (قوله نفطويه) النحوي الواسطي قال ابن الصلاح أهل العربية يقولونه، ونظائره بواو مفتوحة مفتوح ما قبلها ساكن ما بعدها، ومن ينحوها نحو الفارسية يقولها بواو ساكنة مضموم ما قبلها مفتوح ما بعدها وبعدها هاء والتاء خطأ، سمعت الحافظ أبا العلاء يقول: أهل الحديث لا يحبون ويه أي يقولون نفطويه مثلا بوابو ساكنة تأدبا من أن يقع في آخر الكلام ويه انتهى (قوله الرائض بزمام الشرعية) رضت المهر إذا ذللته وجعلته طوع إرادتك، والزمام هنا مستعار للأحكام أي أحكام الشريعة (قوله ومحاوراته) هو بالحاء المهملة جمع محاورة وهى المجاوبة (قوله هو عنصر) العنصر بضم الصاد المهملة وفتحها: الأصل (قوله الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ) في الصحاح وكل لفظه واحد ومعناه جمع، فعلى هذا تقول كل حضرت وكل حضروا على اللفظ مرة وعلى المعنى أخرى. وكل وبعض معرفتان ولم يجئ عن العرب بالألف واللام، وهو جائز لأن فيها معنى الإضافة أضيفت أم لم تضف انتهى. (*)

شيئا قليلا) قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: عاتل اللَّهُ الأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللهم عَلَيْهمْ بَعْدَ الزَّلاتِ، وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً وَمُحَافَظَةً لِشَرَائِطِ المَحَبَّةِ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْعِنَايَةِ، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ وَخِيفَ أنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ. فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ، وَفِي طَيّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) الآية. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مِمَّا جِئْتَ بِهِ، فأنزل الله تعالى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) الآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما كَذَّبَهُ قَوْمُهُ: حَزِنَ، فجاءه جبرئيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟ قَالَ: كَذَّبَنِي قَوْمِي، فَقَالَ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الآيَةَ، فَفِي هَذِهِ الآيَةِ مَنْزَعٌ لَطِيفُ المَأْخَذِ مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْطَافِهِ فِي الْقَوْلِ: بأَنْ قَرَّرَ عِنْدَهُ أنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ، مُعْتَرِفُونَ بِصِدْقِهِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا، وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ الْأَمِينَ، فَدَفَعَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ ارْتِمَاضَ نَفْسِهِ بِسِمَةِ الْكَذِبِ، ثُمَّ جَعَلَ

_ (قوله ما يحزنك) يقال حزنه وأحزنه (قوله منزع) بفتح الميم والزاى وهو ما يرجع إليه الرجل من أمره (قوله وإلطافه) بكسر الهمزة مصدر ألطفه بكذا: بره به (قوله ارتماص) هو بالراء الساكنة والمثناة المكسورة والضاد المعجمة مصدر ارتمض الرجل من كذا: اشتد عليه وأقلقه. (*)

الفصل الرابع في قسمه تعالى بعظيم قدره

الذَّمَّ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ جَاحِدِينَ ظَالِمِينَ فَقَالَ تَعَالَى (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) وَحَاشَاهُ مِنَ الْوَصْمِ، وَطَرَّقَهُمْ بِالْمُعَانَدَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ حَقِيقَةَ الظُّلْمِ، إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشئ ثُمَّ أَنْكَرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعلوا) ثُمَّ عَزَّاهُ وَآنَسَهُ بِمَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ قَبْلَهُ وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قبلك) الآيَةُ، فَمَنْ قَرَأَ لَا يَكْذِبُونَكَ بِالتَّخْفِيفِ فمعاه لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ، وَقِيلَ لَا يَحْتَجُّونَ عَلَى كَذِبِكَ وَلَا يُثْبِتُونَهُ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاهُ لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ لَا يتعقدون كَذِبَكَ. وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَبِرِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ بِأَسْمَائِهمْ، فَقَالَ: يَا آدَمُ يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ يَا مُوسَى يَا دَاوُدُ يَا عِيسَى يَا زَكَرِيِّا يَا يَحْيَى، وَلَمْ يُخَاطَبْ هُوَ إلا: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي قَسَمِهِ تَعَالَى بِعَظِيمِ قَدْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) اتَّفَقَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي هَذَا أنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِمُدَّةِ حَيَاةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْه

_ (قَوْله من الوصم) أي من العيب (قوله عزاه) بتشديد الزاى: أي صبره. (*)

وَسَلَّمَ، وَأَصْلُهُ ضَمُّ الْعَيْنِ مِنَ الْعُمُرِ وَلَكِنَّهَا فُتِحَتْ لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ، وَمَعْنَاهُ: وَبَقَائُكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقِيلَ وعيشك، وقيل: وحياتك، وَهَذِهِ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَغَايَةُ الْبِّرِ وَالتَّشْرِيفِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرَهُ، وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ أَكْرَمُ الْبَرِيَّةِ عِنْدَهُ، وقال تعالى (يس والقرآن الحكيم) الآيَاتُ، اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى (يس) عَلَى أَقْوَالٍ، فَحَكَى أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ أنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ لِي عِنْدَ رَبِّي عَشْرَةُ أَسْمَاءٍ ذكر منها منها أن طَه وَيس اسْمَانِ لَهُ، وَحَكَى أَبُو عَبْدِ الرحمان السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أنَّهُ أرَادَ يَا سَيَّدُ مُخَاطَبَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ (يس) يَا إِنْسَانُ أرَادَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ هُوَ قَسَمٌ وَهُوَ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ الزَّجَّاجُ قِيلَ مَعْنَاهُ يَا مُحَمَّدُ وَقِيلَ يَا رَجُلُ وَقِيلَ يَا إِنْسَانُ، وَعَنِ ابْنِ الحنفية يس يَا مُحَمَّدُ وَعَنْ كَعْبٍ يس قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لمن المرسلين،

_ (قوله أبو الجوزاء) هو بفتح الجيم فواو ساكنة فزاى فهمزة ممدودة: أوس بن عبد الله الربعي البصري يروى عن عائشة وغيرها، وأما أبو الحوراء بالحاء المهملة والراء فراوي حديث القنوت (قوله الزجاج) هو أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ النحوي، إليه ينسب عبد الرحمن الزجاجي صاحب الجمل. (*)

ثم قال (والقرآن الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين) فَإِنْ قُدِّرَ أنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّ فِيهِ أنَّهُ قَسَمٌ كَانَ فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا تَقَدَّمَ وَيُؤَكِّدُ فِيهِ الْقَسَمَ عَطْفُ الْقَسَمِ الآخَرِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنى النِّدَاءِ فَقَدْ جَاءَ قَسَمٌ آخَرُ بَعْدَهُ لِتَحْقِيقِ رِسَالَتِهِ وَالشَّهَادَةِ بِهِدَايَتِهِ أقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى باسْمِهِ وَكِتَابِهِ أنَّهُ لَمِنَ المُرْسِلِينَ بِوَحْيِهِ إِلَى عِبَادِهِ وَعَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ مِنْ إِيمَانِهِ أَيْ طَرِيقٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ ولا عُدُولَ عَنِ الْحَقَّ، قَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ تَعَالَى لأَحَدٍ مِنَ أَنْبِيَائِهِ بِالرِّسَالَةِ فِي كِتَابِهِ إلَّا لَهُ. وفِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَمْجِيدِهِ عَلَى تَأْوِيلِ مِنْ قَالَ أنَّهُ يَا سَيِّدُ مَا فِيهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنَا سيد وَلَدِ آدَمَ وَلَا فخر) وَقَالَ تَعَالَى (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البلد) قِيلَ لَا أُقْسِمُ بِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْهُ حكَاهُ مَكِّيٌّ، وَقِيلَ لَا زَائِدَةٌ أَيْ أُقْسِمُ بِهِ وَأَنْتَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ حَلالٌ أَوْ حِلٌّ لَكَ مَا فَعَلْتَ فِيهِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَكَّةُ، وَقَالَ الواسى أي يحلف لَكَ بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي شَرَّفْتَهُ بِمَكَانِكَ فِيهِ حَيًّا وَبِبَرَكَتِكَ مَيِّتًا يَعْنِي الْمَدِينَةَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لأَنَّ السُّورَةَ مَكِيَّةٌ وَمَا بَعْدَهُ يُصَحِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (حِلٌّ بِهَذَا البلد) وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءٍ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) قَالَ أَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَقَامِهِ فِيهَا وَكَوْنِهِ بِهَا فَإِنَّ كَوْنُهُ أَمَانٌ حَيْثُ كان

_ (قوله قال النقاش) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن مُحَمَّدُ بن زِيَادٍ الموصلي البغدادي المقرى المفسر. (3 - 1) (*)

ثم قال تعالى (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) مَنْ قَالَ أَرَادَ آدَمَ فَهُوَ عَامٌّ وَمَنْ قَالَ هُوَ إبْرَاهِيمُ وَمَا وَلَدَ فَهِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِشَارَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَضَمَّنُ السُّورَةُ الْقَسَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعَيْنِ * وَقَالَ تَعَالَى (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) قال ابن عباس هذه الحروف أقسام أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، وَعَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: الْأَلِفُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللامُ جبرئيل وَالْمِيمُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى سَهْلٍ وَجَعَلَ مَعْنَاهُ اللَّهُ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَى مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْقُرْآنِ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَعَلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ يَحْتَمِلُ الْقَسَمَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ ثُمَّ فِيهِ مِنْ فَضِيلَةِ قِرَانِ اسْمِهِ بِاسْمِهِ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ ابن عطاء في قوله تعالى (ق والقرآن المجيد) أَقْسَمَ بِقُوَّةِ قَلْبِ حَبِيبِه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ حَمَلَ الْخِطَابَ وَالمُشَاهَدَةَ وَلَمْ يُؤْثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لِعُلُوِّ حَالِهِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي تَفْسِيرِ (وَالنَّجْمِ إذا هوى) أنه محمد صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: النَّجْمُ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَوَى انْشَرَحَ مِنَ الْأَنْوَارِ وَقَالَ انْقَطَعَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ) الْفَجْرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ مِنْهُ تَفَجَّرَ الْإِيمَانُ.

الفصل الخامس في قسمه تعالى جده له لتحقق مكانته عنده

الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي قَسَمِهِ تَعَالَى جَدُّهُ لَهُ لِتَحْقُقِّ مَكَانَتِهِ عِنْدَهُ قَالَ جلَّ اسْمُهُ (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إذا سجى) السورة، اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فَقِيلَ كَانَ تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ نَزَلَ بِهِ فَتَكَلَّمَتِ امْرَأةٌ فِي ذَلِكَ بِكَلَامٍ وَقِيلَ بَلْ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عِنْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَنَزَلَتِ السُّورَةُ. قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَتَنْوِيههِ بِهِ وَتَعظِيمِهِ إيَّاهُ سِتَّةَ وُجُوهٍ: الأَوَّلُ الْقَسَمُ لَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ حَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إذا سجى) أَيْ وَرَبِّ الضُّحَى وَهَذَا مِنْ أعْظَمِ دَرَجَاتِ المَبَرَّةِ، الثَّانِي بَيَانُ مَكَانَتِهِ عِنْدَهُ وَحُظْوَتِهِ لَدَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أَيْ مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ وَقِيلَ مَا أَهْمَلَكَ بَعْدَ أَنِ اصْطَفَاكَ، الثَّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى) قال ابن إسحق أَيْ مَالَكَ فِي مَرْجِعِكَ عِنْدَ اللَّهِ أعْظَمُ مِمَّا أعْطَاكَ مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا، وَقَالَ سَهْلٌ: أَيْ مَا ادَّخَرْتُ لَكَ مِنَ الشَّفَاعَةِ وَالْمَقَامِ المَحْمُودِ خَيْرٌ لَكَ

_ (قوله فتكلمت امرأة) روى الحاكم في المستدرك في تفسير سورة الضحى أنها امرأة أبى لهب أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان بن حرب واسمها العوراء (قوله وحظوته بالحاء المهملة المضمومة والظاء المعجمة الساكنة من حظيت المرأة عند زوجها. واعلم أن كل اسم على فعلة لامه واو بعدها هاء التأنيس فإنه مثلث الفاء (*)

مِمَّا أعْطَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا، الرَّابِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ربك فترضى) وَهَذِهِ آيَةٌ جَامِعَةٌ لِوُجُوهِ الْكَرَامَةِ وَأنْوَاعِ السَّعَادَةِ وَشَتَاتِ الْإِنْعَامِ فِي الدَّارَيْنِ وَالزِّيَادَةِ، قَالَ ابْنُ إسحق يُرْضِيهِ بِالْفُلْجِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الآخِرَةِ وَقِيلَ يُعْطِيهِ الْحَوْضَ وَالشَّفَاعَةَ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: لَيْسَ آيَةٌ فِي الْقُرْآنِ أرْجَى مِنْهَا، وَلَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النَّارَ، الْخَامِسُ مَا عَدَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ وَقَرَّرَهُ مِنْ آلائِهِ قِبَلَهُ فِي بَقِيَّةِ السُّورَةِ منه دايته إلى ما هداه له أو هداية النَّاسَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّفَاسِيرِ وَلَا مَالَ لَهُ فَأغْنَاهُ بما آناه أَوْ بِمَا جَعَلَهُ في قلبه

_ (قوله بالفلج) هو بضم الفاء وسكون اللام، بعدها جيم: الفوز والظفر كالإفلاج (قوله عن بعض آله عليه السلام) هو علي بن أبي طالب ذكره الثعلبي في تفسيره (قوله وَلَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النَّارَ) قيل ظاهر الآية مع هذه المقدمة يدل على أن أحدا من أمته صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار، والجواب أنه إنما يدل على ذلك لو كان حصول الإعطاء الموعود به في الآية قبل أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ النَّارَ ولم يقم دَلِيل عَلَى ذَلِك بل جاز أن يكون بعده فإنه مستقبل في القيامة ولو سلم فتلك الدلالة متروكة الظاهر بالأدلة القائمة على أن بعض العصاة من أمته يدخلون النار ثم يخرجون منها لشفاعته صلى الله عليه وسلم (قوله من آلائه) أي نعمه جمع ألا - بفتح الهمزة والتنوين - كرحى، وقيل بكسرها وبالتنوين كمعى، وقيل بفتحها. وسكون اللام وبالواو كدلو، وقيل بكسرها وسكون اللام وبالياء كنحى (قوله قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة أي عنده. (*)

مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْغِنَى وَيَتِيمًا فَحَدَبَ عَلَيْهِ عَمُّهُ وَآوَاهُ إِلَيْهِ وَقِيلَ آوَاهُ إِلَى اللَّهِ وَقِيلَ يَتِيمًا لَا مِثَالَ لَكَ فآوَاكَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى أَلَمْ يَجِدْكَ فَهَدَى بِكَ ضَالًّا وأَغْنَى بِكَ عَائِلًا وآوَى بِكَ يَتِيمًا؟ ذَكَّرَهُ بِهَذِهِ الْمِنَنِ وَأنَّهُ عَلَى الْمَعْلُومِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَمْ يُهْمِلْهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَعَيْلَتِهِ وَيُتْمِهِ وَقَبْلَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَلَا وَدَّعَهُ وَلَا قَلَاهُ فَكَيْفَ بَعْدَ اخْتِصَاصِهِ وَاصْطِفَائِهِ؟ السَّادِسُ أَمَرَهُ بإِظْهَارِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَشُكْرِ مَا شَرَّفَهُ بِهِ بِنَشْرِهِ وَإشَادَةِ ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فَإِنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ التَّحَدُّثَ بِهَا وَهَذَا خَاصٌّ لَهُ عَامٌّ لِأُمَّتِهِ * وَقَالَ تَعَالَى (وَالنَّجْمِ إِذَا هوى) إلى قوله تعالى (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيات ربه الكبرى) اختلف المفسرون في قَوْلِهِ تَعَالَى (وَالنَّجْمِ) بِأَقَاوِيلَ مَعْرُوفَةٍ مِنْهَا النَّجْمُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمِنْهَا الْقُرْآنُ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ هُوَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) إنَّ النَّجْمَ هُنَا أَيْضًا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ السُّلَمِيُّ، تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَاتُ مِنْ فضله وشرفه العد مَا يَقِفُ دُونَهُ الْعَدُّ وَأَقْسَمَ جَلَّ اسْمُهُ على

_ (قوله فحدب) بحاء مهملة مفتوحة فدال مهملة مكسورة فموحدة، في الصحاح حدب عليه ويحدب أي يعطف (قوله عمه) هو أبو طالب واسمه عبد مناف على الصحيح وقيل اسمه كنيته (قوله وإشادة ذكره) هو مصدر أشاد بذكره - بالدال - أي رفع من قدره (قوله وشرفه العد) بكسر العين المهملة أي الذى لا ينقطع مادته يقال ماء عد أي دائم لا انقطاع له كماء العين والبئر. (*)

هِدَايَةِ الْمُصْطَفَى وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْهَوَى وَصِدْقِهِ فِيمَا تَلَا وأنَّهُ وَحْيٌ يُوحَى أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ جبرئيل وَهُوَ الشَّدِيدُ الْقُوَى ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قضيلته بِقِصَّةِ الْإِسْرَاءِ وَانْتِهَائِهِ إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى وَتَصْدِيقِ بَصَرِهِ فِيمَا رَأَى وَأنَّهُ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِه الْكُبْرَى وَقَدْ نبَّهَ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أوَّلِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَلَمَّا كَانَ مَا كَاشَفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَرُوتِ وَشَاهَدَهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَاتُ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِحَمْلِ سَمَاعِ أدْنَاهُ العُقُولُ رَمَزَ عَنْهُ تَعَالَى بِالإِيمَاءِ وَالْكِنَايَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ فَقَالَ تَعَالَى (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ما أوحى) وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكَلَامِ يُسَمِّيهِ أَهْلُ النَّقْدِ وَالْبَلَاغَةِ بِالْوَحْيِ وَالإِشَارَةِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ أبْلَغُ أَبْوَابِ الْإِيجَازِ وَقَالَ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى انْحَسَرَتِ الأَفْهَامُ عَنْ تَفْصِيلِ مَا أَوْحَى وَتَاهَتِ الْأَحلَامُ فِي تَعْيِينِ تِلْكَ الآيَاتِ الْكُبْرَى، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ اشتَمَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ عَلَى إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَزْكِيَةِ جُمْلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِصْمَتِهَا مِنَ الآفَاتِ فِي هَذَا الْمَسْرَى فَزَكَّى فُؤَادَهُ وَلِسَانَهُ وجوارحه، فقلبه بقوه تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) وَلِسَانَهُ بِقَوْلِهِ (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) وبَصَرَهُ بِقَوْلِهِ (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * وَقَالَ تَعَالَى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) إِلَى قَوْلِهِ (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ)

_ (قوله الجبروت) هو فعلوت من الجبر وهو القهر كالملكوت من الملك، والرهبوت من الرهبة، والرحموت من الرحمة (قوله رمز عنه) الرمز الإشارة. (*)

لَا أُقْسِمُ أَيْ أُقْسِمُ إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَيْ كَرِيمٍ عِنْدَ مُرْسِلهِ ذِي قُوَّةٍ عَلَى تَبْلِيغِ مَا حُمِّلَهُ مِنَ الْوَحْيِ مَكِينٍ أَيْ مُتَمَكِّنِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ رَبِّهِ رَفِيعِ المَحَلِّ عِنْدَهُ مُطَاعٍ ثَمَّ أَيْ فِي السَّمَاءِ أَمِينٍ عَلَى الْوَحْيِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَغَيْرُهُ: الرَّسُولُ الْكَرِيمُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمِيعُ الْأَوْصَافِ بَعْدُ عَلَى هَذَا لَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ جِبْرِيلُ فَتَرْجِعُ الْأَوْصَافُ إلَيْهِ وَلَقَدْ رَآهُ يَعْنِي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ رَأَى رَبَّهُ وَقِيلَ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ أَيْ بِمُتَّهَمٍ وَمَنْ قَرَأَهَا بِالضَّادِ فَمَعْنَاهُ مَا هُوَ بِبَخيلٍ بِالدُّعِاءِ بِهِ وَالتَذْكِيرِ بِحُكْمِهِ وَبِعلْمِهِ وهَذِهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقٍ * وَقَالَ تَعَالَى (ن وَالْقَلَمِ) الآيَاتِ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَقْسَمَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ قَسَمِهِ عَلَى تَنْزِيهِ المُصْطَفَى مِمَّا غَمَصَتْهُ الْكَفَرةُ بِهِ وَتَكْذِيبِهِمْ لَهُ وَآنَسَهُ وَبَسَطَ أَمَلَهُ بِقَوْلِهِ مُحْسِنًا خِطَابَهُ (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وَهَذِهِ نِهَايَةُ الْمَبَرَّةِ فِي المُخَاطَبَةِ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الآدَابِ فِي المُحَاوَرَةِ ثُمَّ أَعْلَمَهُ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ وَثَوَابٍ غَيْرِ مُنْقَطِعٍ لَا يَأْخُذُهُ عَدٌّ وَلَا يَمُنُّ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ ممنون ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا مَنَحَهُ مِنْ

_ (قوله علي بن عيسى) الظاهر أنه الرماني النحوي، توفى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة له تفسير القرآن أخذ الأدب عن أبى دريد وغيره قال ابن خلكان يَجُوز أن يَكُون نسبته إلى الرمان وبيعه وأن يكون إلى قصر الرمان وهو قصر بواسط معروف (قوله غمصته) بفتح المعجمة والميم وبعدهما صاد مهملة، قال ابن القطاع: غمص الناس احتقارهم والطعن عليهم. (*)

هِبَاتِهِ وَهَدَاهُ إِلَيْهِ وأكد ذلك تتميما للتمجيد بحرفى التأكيد فَقَالَ تَعَالَى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قِيلَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ الْإِسْلَامُ وَقِيلَ الطَبْعُ الْكَرِيمُ وقَيلَ لَيْسَ لَكَ هِمَّةٌ إِلَّا اللَّهَ، قَالَ الوَاسِطِيُّ أَثْنَى عَلَيْهِ بِحُسْنِ قَبْولِهِ لِمَا أَسْدَاهُ إلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ وَفَضَّلَهُ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ لأنَّهُ جَبَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْخُلُقِ فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْكَرِيمِ الْمُحْسِنِ الْجَوَادِ الْحَمِيدِ الَّذِي يَسَّرَ لِلْخَيْرِ وَهَدَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أَثْنَى عَلَى فَاعِلِهِ وَجَازَاهُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَا أَغْمَرَ نَوَالَهُ وَأَوْسَعَ إِفْضَالَهُ ثُمَّ سَلاهُ عَنْ قَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا بِمَا وَعَدَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ (فَسَتُبْصِرُ ويبصرون) الثَّلَاثَ الْآيَاتِ ثُمَّ عَطَفَ بَعْدَ مَدْحِهِ عَلَى ذَمِّ عَدُوِّهِ وَذِكْرِ سُوءِ خُلُقِهِ وَعَدَّ مَعَايِبَهُ مُتَولِّيًا ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَمُنْتَصِرًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الذَّمِّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) إِلَى قَوْلِهِ (أَسَاطِيرُ الأولين) ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ الصَّادِقِ بِتَمَامِ شَقَائِهِ وَخَاتِمَةِ بَوَارِهِ بقَوْلِهِ تَعَالَى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) فَكَانَتْ نُصْرَةُ اللَّهِ تعالى لم أَتَمَّ مِنْ نُصْرَتِهِ لِنَفْسِهِ وَرَدُّهُ تَعَالَى عَلَى عَدُوِّهِ أَبْلَغُ مِنْ رَدِّهِ وَأَثْبَتُ فِي دِيوَانِ مَجْدِهِ.

_ (قوله مَا أَغْمَرَ نَوَالَهُ) هو بالغين المعجمة أي ما أكثره، والنوال: العطاء. (قوله بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً) البضع في العدد بكسر الموحدة وفتحها من ثلاث إلى تسعة وقيل ما بين الواحد إلى العشرة لأنه قطعة من العدد، والخصلة بفتح الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة. (*)

الفصل السادس فيما ورد من قوله تعالى في جهته صلى الله عليه وسلم مورد الشفقة والإكرام

الْفَصْلُ السَّادِسُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْرِدَ الشَّفَقَةِ وَالإِكْرَامِ قَالَ تَعَالَى (طه مَا أَنْزَلْنَا عليك القرآن لتشقى) قِيلَ طَهَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ وَقِيلَ يَا إِنْسَانُ وَقِيلَ هِيَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ لِمَعَانٍ، قَالَ الوَاسِطِيُّ أَرَادَ يَا طَاهِرُ يَا هَادِي وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ مِنَ الْوَطْءِ وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرْضِ أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى الْأَرْضِ بِقَدَمَيْكَ وَلَا تُتْعِبْ نَفْسَكَ بِالاعْتِمَادِ عَلَى قَدَمٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى) نَزَلَتِ الآيَةُ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفَهُ مِنَ السَّهَرِ وَالتَّعَبِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْقَاضِي أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ إِجَازَةً وَمِنْ أَصْلِهِ نَقَلْتُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الحافظ

_ (قوله من الوطء) هو بفتح الواو وسكون المهملة وبهمزة: الاعتماد على القدم (قوله أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن) هو الفقيه القاضى ابن عبد الرحمن بن على بن سيرين أحد العلماء الصلحاء من رجال الأندلس، صحب القاضى أبا الوليد الباجى واختص به (قوله الباجى) هو الإمام صاحب التصانيف أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بن خلف بن سعد ابن أيوب، أصله من مدينة بطليوس وانتقل جده إلى مدينة باجة التى بقرب أشبيلية ونسب إليها، وقيل هو من باجة القيروان التى ينسب إليها أبو محمد الباجى الحافظ، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين وأربعمائة.

حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَمَوِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ حدثنا عبد ابن حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (طه) يَعْنِي طَإِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ (مَا أنزلنا عليك القرآن لتشقى) الآية، وَلَا خَفَاءَ بِمَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِكْرَامِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا طه مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ أَوْ جُعِلَتْ قَسَمًا لحق الفصل بِمَا قَبْلَهُ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ نَمَطِ الشَّفَقَةِ وَالْمَبَرَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِذَلِكَ غَضَبًا أَوْ غَيْظًا أو جَزَعًا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أيْضًا (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مؤمنين) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) * وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقَوْلُهُ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الآيَةَ قَالَ مَكِّيٌّ سَلَّاهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرَ وَهَوَّنَ عَلَيْهِ

_ (قوله الحموى) بفتح المهملة وضم الميم المشددة وكسر الواو وياء: للنسبة إلى جده حمويه وحموبه بلسان المصامدة عبارة عن محمد. (قوله ابن خزيم) بالمعجمة المضمومة والزاى المفتوحة. (قوله عن الربيع عن أنس) هو بفتح الراء: بصرى نزل خراسان يروى عن أنس. (قوله نمط الشفقة) أي نوعها والنمط في الأصل نوع من أنواع البسط ولا يستعمل في غيره في الأكثر إلا مقيدا. (*)

الفصل السابع فيما أخبر الله تعالى به في كتابه العزيز من عظيم قدره وشريف منزلته على الأنبياء وحظوة رتبته عليهم

مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ يَحُلُّ بِهِ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُ وَمِثِلُ هَذِهِ التَّسْلِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أو مجنون) عَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ وَمَقَالَتِهَا لأَنْبِيَائِهِمْ قَبْلَهُ وَمِحْنَتِهمْ بِهِمْ وَسلَّاهُ بِذَلِكَ عَنْ مِحْنَتِهِ بِمِثْلِهِ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَأَنَّهُ لَيْسَ أوَّلَ مَنْ لَقِيَ ذَلِكَ ثُمَّ طَيَّبَ نَفْسَهُ وَأَبَانَ عُذْرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَتَوَلَّ عنهم) أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) أَيْ فِي أَدَاءِ مَا بَلَّغْتَ وَإِبْلاغِ مَا حُمِّلْتَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأعيننا) أَيِ اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ فَإِنَّكَ بِحَيْثُ نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ، سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. الْفَصْلُ السَّابِعُ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَحَظْوَةِ رتبته عَلَيْهِم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) إِلَى قَوْلِهِ (مِنَ الشَّاهِدِينَ) قال أبو الحسن القابسى استخص

_ (قوله يحل به) في الصحاح حل العذاب يحل بالكسر أي وجب ويحل بالضم أي نزل، وقرئ (فيحل عليكم غضبى) وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى (أو يحل قريبا) فبالضم أي ينزل. (*)

اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسقلم بِفَضْلٍ لَمْ يُؤْتِهِ غَيْرَهَ أَبَانَهُ بِهِ وَهُوَ ما ذكره فِي هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ المُفَسِّرُونَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ بِالْوَحْيِ فَلَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلا ذَكَرَ لَهُ مُحَمَّدًا وَنَعَتَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُ إِنْ أدركه لا يؤمنن بِهِ وَقِيلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِقَوْمِهِ وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أنْ يُبَيِّنُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْلُهُ ثُمَّ جَاءَكُمُ: الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ إِلا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَيَأْخُذَنَّ الْعَهْدَ بِذَلِكَ عَلَى قَوْمِهِ. وَنَحْوُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ فِي آيٍ تَضَمَّنَتْ فَضْلَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وحد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ ومن نوح) الآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ - إِلَى قَوْلِهِ -

_ (قوله ولينصرنه ويأخذن) بفتح الذال عطف على ما قبله ونون التوكيد مراده نحو لا تهينن الفقير. (قوله ونحوه عن السدي) هو بضم السين وتشديد الدال المهملتين نسبة إلى السدة وهى الباب وهما اثنان كوفيان تابعي كبير وهو إسمعيل بن عبد الرحمن يروى عن ابن عباس وأنس وهو المراد هنا، قال أبو الفتح اليعمرى في السيرة في تحويل القبلة كان يجلس في المدينة في مكان يقال له اللسدة فنسب إليه انتهى، وقال الحافظ عبد الغنى في الكمال كان يقعد في سدة باب الجامع بالكوفة فسمى السدى انتهى، وفى الصحاح للجوهري والسدة باب الدار تقول رأيته قاعدا بسدة باب داره، وسمى اسمعيل السدى لأنه كان يبيع الحمر وللقانع في سدة مسجد الكوفة، وهى ما يبقى من الطاق المسدودة انتهى. وتابعي صغير وهو محمد بن مروان يروى عن هشام بن عروة والأعمش منزول منهم. (*)

شهيدا) روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عَنْهُ أنَّهُ قَالَ فِي كَلامٍ بَكَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَكَ فِي أَوَّلِهِمْ فَقَالَ (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) الآيَةَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يُعَذَّبُونَ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا: قَالَ قَتَادَةُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُنْتُ أوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْرُهُ مُقَدَّمًا هُنَا قَبْلَ نُوحٍ وَغَيْرِهِ قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي هَذَا تَفْضِيلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ قَبْلَهُمْ وَهُوَ آخِرُهُمْ بَعْثًا، الْمَعْنَى أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ وَقَالَ تَعَالَى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بعض) الآيَةَ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ وَظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْمُعْجِزَاتُ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ فَضِيلَةً أَوْ كَرَامَةً إِلا وَقَدْ أعطى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهَا قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الأَنْبِيَاءَ بأسمائهم وخاطبه

_ (قوله بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ والأسود) أي العرب والعجم لأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى ألوان العجم الحمرة والبياض وعلى ألوان العرب الأدمة والسمرة، وقيل الجن والإنس، وقيل الأحمر: الأبيض مطلقا فإن العرب تقول امرأة حمراء أي بيضاء. (*)

الفصل الثامن في إعلال الله تعالى خلقه بصلاته عليه وولايته له ورفعه العذاب بسببه

بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فِي كتابه فقال يا أيها النبي ويا أيها الرَّسُولُ وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ تعالى (وإن مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ) أَنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ إِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لإِبْرَاهِيمَ أَيْ عَلَى دِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ، وَأَجَازَهُ الْفَرَّاءُ وَحَكَاهُ عَنْهُ مَكِّيٌّ، وَقِيلَ الْمُرَادُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْفَصْلُ الثامن في إعلال اللَّهِ تَعَالَى خَلْقَهُ بِصَلاتِهِ عَلَيْهِ وَوِلايَتِهِ لَهُ وَرَفْعِهِ الْعَذَابَ بسببه قال الله تَعَالَى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أَيْ مَا كُنْتَ بِمَكَّةَ فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ وَبَقِيَ فِيهَا مَنْ بَقِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ نَزَلَ (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وهم يستغفرون) وهذا مثل قوله (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) الآية وقوله تعالى (وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ) الآيَةَ فَلَمَّا هَاجَرَ المُؤْمِنُونَ نَزَلَتْ (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ الله) وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يُظْهِرُ مَكَانَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَرْأَتُهُ الْعَذَابَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِسَبَبِ كَوْنِهِ ثُمَّ كَوْنِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَمَّا خَلَتْ مَكَّةُ مِنْهُمْ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمُ وَغَلَبَتِهِمْ إيَّاهُمْ وَحَكَّمَ فِيهِمْ سُيُوفَهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَفِي الآيَةِ أَيْضًا تَأْوِيلٌ آخَرُ * حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أبو علي رحمه الله بقراءتي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أبو الفضل

_ (قوله منهاجه) المنهاج الطريق الواضح. (*)

ابن خيرون وأبو الحسين الصَّيْرَفِيُّ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى بْنُ زَوْجِ الْحُرَّةِ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السنجي حدثنا محمد بن محبوب المروزي حدثنا أَبُو عِيسَى الْحَافِظُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ نمير عن إسمعيل بن إبراهيم ابن مُهَاجِرٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله علي أمانين لأمتى: ما كان الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيكُمُ الاسْتِغْفَارَ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي. قِيلَ مِنَ الْبِدَعِ وَقِيلَ مِنَ الاخْتِلافِ وَالْفِتَنِ قَالَ بَعْضُهُمْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَمَانُ الْأَعْظَمُ مَا عَاشَ وَمَا دَامَتْ سُنَّتُهُ بَاقِيَةً فَهُوَ بَاقٍ فَإِذَا أُمِيتَتْ سُنَّتُهُ فَانْتَظِرُوا الْبَلَاءَ وَالْفِتَنَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إن الله وملائكته يلون على النبي) الآيَةَ، أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَضْلَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ بِصَلَاةِ مَلَائِكَتِهِ وَأَمَرَ عِبَادَهُ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَقَدْ حَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ عَلَى هَذَا أَيْ فِي صَلَاةِ الله تعالى على

_ (قوله وأبو الحسين الصيرفي) هو تصغير حسن وهو الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبار وفى بعض النسخ حسن وليس بحسين. (قوله عَنْ عَبَّادِ بْنِ يوسف) قال المزني في أطرافه عبادة بن يوسف ويقال ابن سعيد والصحيح عباد. (قوله عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى) قيل اسمه الحارث وقيل عامر، قال النووي وهو الصحيح المشهور. (*)

الفصل التاسع فيما تضمنته سورة الفتح من كراماته صلى الله عليه وسلم

وَمَلَائِكَتِهِ وَأَمْرِهِ الْأُمَّةَ بِذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنَّا لَهُ دُعَاءٌ وَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةٌ وَقِيلَ يُصَلُّونَ يُبَارِكُونَ وقد فرق النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ حِينَ عَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بَيْنَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْبَرَكَةِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَفْسَيرِ حروف (كهيعص) أَنَّ الْكَافَ مِنْ كَافٍ أَيْ كِفَايَةُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ قَالَ تَعَالَى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وَالْهَاءَ هَدَايَتُهُ لَهُ قَالَ (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وَالْيَاءَ تَأْيِيدُهُ قَالَ (وأيدك بنصره) وَالْعَيْنَ عِصْمَتُهُ لَهُ قَالَ: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الناس) وَالصَّادَ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ قَالَ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي) وَقَالَ تَعَالَى (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ) الآيَةَ مَوْلَاهُ أَيْ وَلِيُّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ الْأَنْبِيَاءُ وَقِيلَ المَلَائِكَةُ وَقِيلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقِيلَ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقِيلَ المؤمنون عَلَى ظَاهِرِهِ. الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مبينا) إلى قوله تعالى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيديهم) تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَاتُ مِنْ فَضْلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعْمَتِهِ لَدَيْهِ مَا يَقْصُرُ الْوَصْفُ عَنِ الانْتِهَاءِ إِلَيْهِ فَابْتَدَأَ جَلَّ جَلالَهُ بِإِعْلَامِهِ بِمَا قَضَاهُ لَهُ مِنَ الْقَضَاءِ الْبَيِّنِ بظهور

وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَأنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ قَالَ بَعْضُهُمْ أرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ وَمَا لَمْ يَقَعْ أَيْ أَنَّكَ مَغْفُورٌ لَكَ وَقَالَ مَكِّيٌّ جَعَلَ اللَّهُ الْمِنَّةَ سببا للمغفرة وَكُلٌّ مِنْ عِنْدِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مِنَّةً بعد مِنَّةً وَفَضْلًا بَعْدَ فَضْلٍ ثُمَّ قَالَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ قِيلَ بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ لَكَ وَقِيلَ بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَائِفِ وَقِيلَ يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَينْصُرُكَ وَيَغْفِرُ لَكَ فَأَعْلَمَهُ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِخُضُوعِ مُتَكَبِّرِي عَدُوِّهِ لَهُ وَفَتْحِ أهَمِّ الْبِلادِ عَلَيْهِ وَأَحَبِّهَا لَهُ وَرَفْعِ ذِكْرِهِ وَهِدايَتِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الْمُبَلِّغَ الْجَنَّةَ وَالسَّعَادَةَ وَنَصْرِهِ النَّصْرَ الْعَزِيزَ وَمِنَّتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَبِشَارَتِهِمْ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بَعْدُ وَفَوْزِهِمُ الْعَظيمِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالسَّتْرِ لذُنُوبِهِمْ وَهَلاكِ عَدُوَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَعْنِهِمْ وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَسُوءِ مُنْقَلَبِهِمْ ثُمَّ قَالَ (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) الآيَةَ فَعَدَّ مَحَاسِنَهُ وَخَصائِصَهُ مِنْ شَهَادَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ لِنَفْسِهِ بِتَبْلِيغِهِ الرِّسَالَةَ لَهُمْ وَقِيلَ شَاهِدًا لَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَمُبَشِّرًا لِأُمَّتِهِ بِالثَّوَابِ وَقِيلَ بِالْمَغْفِرَةِ وَمُنْذِرًا عَدُوَّهُ بِالْعَذَابِ وقيل مخدرا مِنَ الضَّلالاتِ لِيُؤْمِنَ بالله تم بِهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى وَيُعَزِّرُوهُ أَيْ يُجِلُّونَهُ وَقِيلَ يَنْصُرُونَهُ وَقِيلَ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ وَيُوَقِّرُوهُ أَيْ يعظمونه وقرأه

_ (قوله بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ لك) الجار والمجرور متعلق بخضوع (قوله وسوء منقلبهم) أي انقلابهم (قوله يعزروه) بمهملة وزاى وراء أي يوقروه. (4 - 1) (*)

بَعْضُهُمْ (وَيُعَزِّزُوهُ) بِزَاءَيْنِ مِنَ الْعِزِّ وَالْأَكْثَرُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ (وَيُسَبِّحُوهُ) فَهَذَا رَاجعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ جُمِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الْفَتْحِ الْمُبِينِ وَهِيَ مِنْ أَعْلامِ الإِجَابَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَهِيَ مِنْ أعْلَامِ الْمَحَبَّةِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ وَهِيَ مِنْ أعْلَامِ الاخْتِصَاصِ وَالْهِدَايَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْوِلَايَةِ فَالْمَغْفِرَةُ تَبْرِئَهٌ مِنَ الْعُيُوبِ وَتَمَامُ النِّعْمَةِ إِبْلَاغُ الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ وَالْهِدَايَةُ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ: وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ أَنْ جَعَلَهُ حَبِيبَهُ وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ وَنَسَخَ بِهِ شَرَائِعَ غَيْرِهِ وَعَرَجَ بِهِ إِلَى المَحَلِّ الأَعْلَى وَحَفَظَهُ فِي الْمِعْرَاجِ حَتَّى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى وَبَعَثَهُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَأَحَلَّ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الْغَنَائِمَ وجعله شفعا مُشَفَّعًا وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَقَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِهِ وَرِضَاهُ بِرِضَاهُ وَجَعَلَهُ أحَدَ رُكْنَيِ التَّوْحِيدِ ثُمَّ قَالَ (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّاكَ (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيديهم) يُرِيدُ عِنْدَ الْبَيْعَةِ قِيلَ قُوَّةُ اللَّهِ وَقِيلَ ثوابه وقيل مِنَّتُهُ وَقِيلَ عَقْدُهُ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَاتٌ وَتَجْنِيسٌ فِي الْكَلَامِ وَتأْكِيدٌ لِعَقْدِ بَيْعَتِهمْ إِيَّاهُ وَعِظَمِ شَأْنِ الْمُبَايَعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى) وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ

_ (قوله تبرئة) بالموحدة بعد المثناة الفوقية وبالراء، أو بالنون بعد المثناة الفوقية وبالزاى. (*)

الفصل العاشر فيما أظهره الله تعالى في كتابه العزيز من كرامته عليه ومكانته عنده وما خصه به من ذلك سوى ما انتظم فيما ذكرناه قبل

فِي بَابِ الْمَجَازِ وَهَذَا فِي بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ خَالِقُ فِعْلِهِ وَرَمْيِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلأَنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ حَيْثُ وَصَلَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَمْلأْ عَيْنَيْهِ وَكَذَلِكَ قَتْلُ المَلَائِكَةِ لَهُمْ حَقِيقَةٌ وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْأُخْرَى إِنَّهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَرَبِيِّ وَمُقَابَلَةِ اللَّفْظِ وَمُنَاسَبَتِهِ أَيْ مَا قَتَلْتُمُوهُمْ وَمَا رميتهم أنت إذا رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ وَالتُّرَابِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ أَيْ أَنَّ مَنْفَعةَ الرَّمْيِ كَانَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ فَهُوَ الْقَاتِلُ وَالرَّامِي بِالْمَعْنَى وَأنْتَ بِالاسْمِ. الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِيمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَكَانَتِهِ عِنْدَهُ وَمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ سِوَى مَا انْتَظَمَ فيما ذكرناه قبل: مِنْ ذَلِكَ مَا قَصَّهُ تَعَالَى مِنْ قِصَّةِ الإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَالنَّجْمِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ مِنْ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَقُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ ما شاهد من العجائب، ومن ذلك عِصْمَتِهِ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وَقَوْلِهِ تَعَالَى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيَةَ وَقَوْلِهِ (إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) وَمَا دَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ أَذَاهُمْ بَعْدَ تَحَرِّيهِمْ لِهُلْكِهِ وَخُلُوصِهِمْ بحيا في أمر

_ (قوله لهلكه) الهلك بضم الهاء وإسكان اللام: الاسم من هلك. (*)

وَالْأَخْذِ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِمُ وذُهُولِهِمْ عَنْ طَلَبِهِ في الاغر وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ وَنُزُولِ السَّكِينَةِ عَلَيْهِ وَقِصَّةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ فِي قِصَّةِ الْغَارِ وَحَدِيثِ الْهِجْرَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَعْطَاهُ، وَالْكَوْثَرُ حَوْضُهُ وَقِيلَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَقِيلَ الخبر الْكَثِيرُ وَقِيلَ الشَّفَاعَةُ وَقِيلَ الْمُعْجِزَاتُ الْكَثِيرَةُ وَقِيلَ النُّبُوَّةُ وَقِيلَ الْمَعْرِفَةُ، ثُمَّ أَجَابَ عنه عدووه وَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَقَالَ تَعَالَى (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) أَيْ عَدُوَّكَ وَمُبْغِضَكَ، وَالْأَبْتَرُ الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ أَوِ الْمُفْرَدُ الْوَحِيدُ أَوِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَقَالَ تَعَالَى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي والقرآن العظيم) قيل السَّبْعُ المَثَانِي السُّوَرُ الطِّوَالُ الْأُوَلُ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أُمُّ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ السَّبْعُ الْمَثَانِي أُمُّ الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ سَائِرُهُ وَقِيلَ السَّبْعُ الْمَثَانِي مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَبُشْرَى وَإِنْذَارٍ وَضَرْبِ مَثَلٍ

_ (قوله حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الحديث) هو بفتح السين وقد يسكن أي على قدره وعدده (قوله الطوال) بكسر الطاء جمع طويلة وأما بضم الطاء فمفرد يقال رجل طوال أي زائد في الطول، واختلف في سابعة هذا الطوال فقيل الأنفال والتوبة لأنهما في حكم سورة واحدة ولهذا لم يفصل بينهما بالبسملة وقيل التوبة وقيل يونس (قوله سائره) هو بمهملة في أوله وهمزة مكسور ثالثه، قال صاحب الصحاح سائر الناس جميعهم واعترض بأنه انفرد بهذا فلا يقبل منه وأجيب بأنه لم ينفرد بل شاركه في نقله التبريزي والجواليقي وغيرهما وفى القاموس السائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات وقد تستعمل له بعد ذكره أشياء عن العرب مما استعمل له. (*)

وَإِعْدَادِ نِعَمٍ وَآتَيْنَاكَ نَبَأَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَقِيلَ سُمِّيَتْ أُمُّ الْقُرْآنِ مَثَانِي لأَنَّهَا نثى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَقِيلَ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَاهَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَخَرَهَا لَهُ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وسُمِّيَ الْقُرْآنُ مَثَانِي لأَنَّ القصص نثى فِيهِ وَقِيلَ السَّبْعُ الْمَثَانِي أَكْرَمْنَاكَ بِسَبْعِ كَرَامَاتٍ: الْهُدَى وَالنُّبُوَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْوِلَايَةِ والتعظيم والكسينة وَقَالَ (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر) الآيَةَ وَقَالَ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بشيرا ونذيرا) وقال تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) الآية قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ فَهَذِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ وَقَالَ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بلسنان قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فَخَصَّهُمْ بِقَوْمِهِمْ وَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ) وَقَالَ تَعَالَى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهمْ أَيْ مَا أَنْفَذَهُ فِيهِمْ مِنْ أمْرٍ فَهُوَ مَاضٍ عليه كَمَا يَمْضِي حُكْمُ السَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ وَقِيلَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَوْلَى مِن اتِّبَاعِ رَأْيِ النَّفْسِ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ أَيْ هُنَّ فِي الْحُرْمَةِ كَالْأُمَّهَاتِ حَرُمَ نِكَاحُهُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ تَكْرِمَةً لَهُ وَخُصُوصِيَّةً وَلِأَنهُنَّ لَهُ أَزْوَاجٌ فِي الْجَنَّةِ وَقَدْ قُرِئَ وَهُوَ أبٌ لَهُمْ وَلَا يُقْرَأُ بِهِ الآنَ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُصْحَفَ وَقَالَ الله تعالى

_ (قوله لأنها تثنى) بفتح المثلثة وتشديد النون المفتوحة وبتسكين المثلثة وفتح النون (قوله فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) أي كل صلاة من باب تسمية الشئ باسم جزئه (قوله لأن القصص هو بكسر القاف جمع قصة وبفتحها الخبر (قوله وَقَدْ قُرِئَ وَهُوَ أب لهم) هذه قراءة مجاهد وقيل أبي بن كعب. (*)

الباب الثاني في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقا وخلقا وقرانه جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا

(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكتاب والحكمة) الآيَةَ قِيلَ فَضْلُهُ الْعَظِيمُ بِالنُّبُوَّةِ وَقِيلَ بِمَا سَبَقَ لَهُ فِي الْأَزَلِ وَأَشَارَ الْوَاسِطِيُّ إِلَى أنَّهَا إشارَةٌ إِلَى احْتِمَالِ الرُّؤْيَةِ الَّتِي لَمْ يَحْتَمِلْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الْبَابُ الثَّانِي فِي تَكْمِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْمَحَاسِنَ خَلْقًا وَخُلُقًا وَقِرَانِهِ جميع الفضائل الدينية وَالدُّنْيَوِيَّةِ فِيهِ نَسَقًا اعْلَمْ أيُّهَا الْمُحِبُّ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْبَاحِثِ عَنْ تَفْاصِيلِ جُمَلِ قَدْرِهِ الْعَظِيمِ أَنَّ خِصَالَ الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ فِي البَشَرِ نَوْعَانِ: ضَرُورِيٌّ دُنْيَوِيٌّ اقْتَضَتْهُ الجِبِلَّةُ وَضَرُورَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمُكْتَسَبٌ دِينيٌّ وَهُوَ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ وَيُقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زُلْفَى، ثُمَّ هِيَ عَلَى فَنَّيْنِ أيْضًا مِنْهَا مَا يَتَخَلَّصُ لِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ ومِنْهَا مَا يَتَمَازجُ ويَتَدَاخَلُ فَأَمَّا الضَّرُورِيُّ الْمَحْضُ فَمَا لَيْسَ لِلْمَرْءِ فِيهِ اخْتِيَارٌ وَلَا اكْتِسَابٌ مِثْلُ مَا كان في حملته مِنْ كَمَالِ خِلْقَتِهِ وَجَمَالِ صُورَتِهِ وَقُوَّةِ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ فَهْمِهِ وَفَصَاحَةِ لِسَانِهِ وَقُوَّةِ حواسه وأعظائه وَاعْتِدَالِ حَرَكَاتِهِ وَشَرَفِ نَسَبِهِ وَعِزَّةِ قَوْمِهِ وَكَرَمِ أرْضِهِ وَيِلْحَقْ بِهِ مَا تَدْعُوهُ ضَرُورَةُ حَيَاتِهِ إِلَيْهِ مِنْ غِذَائِهِ وَنَوْمِهِ

_ (قوله خلقا وخلقا) الأول بفتح المعجمة وسكون اللام والثانى بضمها أو بضم المعجمة وسكون اللام (قوله الجبلة) بكسر الجيم والموحدة وتشديد اللام المفتوحة: الخلقة، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى والجبلة الأولين (قوله من غذائه) بكسر المخعجمة وبالذال المعجمة: ما يغتذى به من الطعام. (*)

(فصل)

وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ وَمَنْكَحِهِ وَمَالِهِ وَجَاهِهِ، وَقَدْ تَلْحَقْ هَذِهِ الْخِصَالُ الآخِرَةُ بِالْأُخْرَوِيَّةِ إذَا قُصِدَ بِهَا التَّقْوَى وَمَعُونَةُ الْبَدنِ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقِهَا وَكَانَتْ عَلَى حُدُودِ الضَّرُورَةِ وَقَواعِدِ الشَّريعَةِ، وَأمَّا المُكْتَسَبَةُ الْأخْرَوِيَّةُ فَسَائِرُ الأخلاق العلمية وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ والشكر والعدل وَالزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْعَفْوِ وَالْعِفَّةِ والْجُودِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْحَيَاءِ وَالمُرُوَءَةِ وَالصَّمْتِ وَالتُّؤَدَةِ وَالْوَقَارِ وَالرَّحْمَةِ وحُسْنِ الْأَدَبِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَأَخَواتِهَا وَهِيَ الَّتِي جِمَاعُهَا: حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ مَا هُوَ فِي الْغَرِيزَةِ وَأصْلِ الْجِبِلَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضُهُمْ لَا نكون فِيهِ فَيَكْتَسِبُهَا وَلَكِنَّهُ لَا بُدَّ أنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ أصُولِهَا فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ شُعْبَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَكُونُ هَذِهِ الْأَخلَاقُ دُنْيَوِيَّةً إذَا لَمْ يُرَدْ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ وَلَكِنَّهَا كُلَّهَا مَحَاسِنُ وَفَضَائِلُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِ حُسْنِهَا وَتَفْضِيلِهَا. (فَصْلٌ) قَالَ الْقَاضِي إذَا كَانَتْ خِصَالُ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَرَأَيْنَا الْوَاحِدَ مِنَّا يَتَشَرَّفُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا أَوِ اثْنَتَيْنِ إِنِ اتَّفَقَتْ لَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ إِمَّا مِنْ نَسَبٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ قُوَّةٍ أوْ عِلْمِ أَوْ حِلْمٍ أو شجاعة

_ (قوله جماعها) في الصحاح جماع الشئ بالكسر جمعه يقال جماع الخبا الأخبية (قوله في الغريزة) بفتح الغين المعجمة وكسر الراء بعدها مثناة تحتية فزاى: أي الطبيعة (قوله شعبة) بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة: أي فرقة وقطعة. (*)

أَوْ سَمَاحَةٍ حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُهُ وَيُضْرَبَ بِاسْمِهِ الْأَمثَالُ وَيَتَقَرَّرَ لَهُ بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ فِي الْقُلُوبِ أَثَرَةٌ وَعَظَمَةٌ وَهُوَ مُنْذُ عُصُورٍ خَوَالٍ رِمَمٌ بَوَالٍ فَمَا ظَنُّكَ بِعَظِيمِ قَدْرِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كُلُّ هَذِهِ الْخِصَالِ إِلَى مَا لَا يَأَخُذُهُ عَدٌّ وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ مَقَالٌ وَلَا يُنَالُ بِكَسْبٍ وَلَا حِيلَةٍ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ مِنْ فَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخُلَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالاصْطِفَاءِ وَالْإِسْرَاءِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْقُرْبِ وَالدُّنُوِّ وَالْوَحْيِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالْبُرَاقِ وَالْمِعْرَاجِ وَالْبَعْثِ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالصَّلَاةِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ وَلِوَاءِ الْحَمْدِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ وَالْأَمَانَةِ وَالْهِدَايَةِ وَرَحْمةٍ للْعَالَمِينَ وَإعْطَاءِ الرِّضَى والسُّؤْلِ وَالْكَوْثَرِ وَسَمَاعِ الْقَوْلِ وَإِتمَامِ النِّعْمَةِ وَالْعَفْوِ عَمَّا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ وَشَرْحِ الصَّدْرِ وَوَضْعِ الإِصْرِ وَرَفْعِ الذِّكْرِ وَعِزَّةِ النَّصْرِ وَنُزُولِ السَّكِينَةِ وَالتَّأْيِيدِ بِالْمَلَائِكَةِ وإيناء الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ والسَّبْعِ

_ (قوله رمم) الرمم: جمع رمة وهى العظام البالية (قوله والوسيلة) هي في الأصل ما يُتَوصّل بِه إلى الشئ، قيل هي هنا الشفاعة وقيل منزلة من منازل الجنة (قوله والمقام المحمود) قيل الشفاعة العظمى في إراحة النَّاسِ مِنَ الْمَوْقِفِ إلى الحساب، وقيل إعطاؤه لواء الحمد، وقيل إخراجه طائفة مِن النَّار، وَقِيل أن يكون أقرب من جبريل (قوله ووضع الإصر) في الصحاح: الإصر: العهد والذنب والثقل، والأغلال أي المواثيق اللازمة لزوم الغل للعنق (قوله ونزول السكينة هي فعيلة من السكون قِيلَ فِي قَوْلِهِ عليه السلام ونزلت عليهم السكينة وهى الرحمة وقيل الطمأنينة والوقار وقيل ما يسكن به = (*)

الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَتَزْكِيَهِ الْأُمَّةِ والدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ وَصَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ وَوَضْع الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ عَنْهُمْ وَالْقَسَمِ بِاسْمِهِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَتَكْلِيمِ الجَمَادَاتِ وَالْعُجْمِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِسْمَاعِ الصُّمِّ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَرَدِّ الشَّمْسِ وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ وَالنَّصْرِ بِالرُّعْبِ وَالاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ وَظِلِّ الْغَمَامِ وَتَسْبِيحِ الْحَصَى وَإبْرَاءِ الآلامِ وَالعِصْمَةِ مِنَ النَّاسِ إلى مالا بحويه مُحْتَفِلٌ وَلَا يُحِيطُ بعلمه إلا ما نحه ذَلِكَ وَمُفُضِّلُهُ بِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ مِنْ مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَدَرَجَاتِ الْقُدْسِ وَمَرَاتِبِ السَّعَادَةِ وَالْحُسْنَى وَالزّيادَةِ التي تَقِفُ دُونَهَا الْعُقُولُ وَيَحَارُ دُونَ إدْراكِهَا الْوَهْمُ. (فَصْلٌ) إِنْ قُلْتَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ لَا خَفَاءَ عَلَى القَطْعِ بِالْجُمْلَةِ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى النَّاسِ قَدْرًا وَأَعْظَمُهُمْ مَحَلًّا وَأَكْمَلُهُمْ محاسن

_ = الإنسان، وفى أنوار التنزيل في قوله تعالى (فيه سكينة من ربكم) أي ما تسكنون إليه وهو التوراة وقيل صورة من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان بأن تنزف الياقوت أي تسرع نحو العدو وهم يتبعونه فإذا ثبت ثبتوا وحصل النصر وقيل صور الأنبياء من آدم إلى محمد عليه السلام، وقيل التابوت القلب والسكينة ما فيه من العلوم والإخلاص، وإيتائه مصر قلبهم مقر العلم بعد إن لَم يَكُن، وفى الكشاف وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة (قوله الجمادات) جمع جماد وهو ما ليس بحيوان، واعجم بضم العين المهملة جمع أعجم وهو من لَا يَقْدِرُ عَلَى الكلام أصلا. (*)

وَفَضْلًا وَقَدْ ذَهَبْتَ فِي تَفَاصِيلِ خِصَالِ الْكَمَالِ مَذْهَبًا جَميلًا شَوَّقَنِي إِلَى أنْ أَقِفَ عَلَيْهَا مِنْ أَوْصَافِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْصِيلًا * فَاعْلَمْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبِي وَقَلْبَكَ وَضَاعَفَ فِي هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ حُبِّي وَحُبَّكَ أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى خِصَالِ الْكَمَالِ الَّتي هِيَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ وَفِي جِبِلَّةِ الخِلْقَةِ وَجَدْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِزًا لِجَمِيعِهَا مُحِيطًا بِشَتَاتِ مَحَاسِنِهَا دُونَ خِلافٍ بَيْنَ نَقَلَةِ الْأَخبَارِ لِذَلِكَ بَلْ قَدْ بَلَغَ بَعْضُهَا مَبْلَغَ الْقَطْعِ، أمَّا الصُّورَةُ وجمالها تناسب أَعْضَائِهِ فِي حُسْنِهَا فَقَدْ جَاءَتِ الْآثارُ الصَّحِيحَةُ وَالْمَشْهُورَةُ الْكَثِيرَةُ بِذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنينَ وَابْنِ أَبِي هَالَةَ

_ (قوله وأبى هريرة) اسمه عبد الرحمن بن صخر على الأصح وفى اسمه نحو من ثلاثين قولا، فإن قيل هريرة في أبى هريرة العلم غير منصرف وليس فيه إلا التأنيث وهو مشروط بكون مدخوله علما وهريرة ليس بعلم وإنما العلم أبو هريرة: أجيب بأن الجزء الأخير من العلم الإضافى ينزل منزلة كلمة ويجرى عليه أحكام الأعلام فهريرة في أبى هريرة العلم غير منصرف وإن كان في غيره منصرفا (قوله وَابْنِ أَبِي هَالَةَ) هو هند ولد أم المؤمنين خديجة، قال السهيلي: كانت خديجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبى هالة وهو هند بن زرارة وكانت قبل أبى هالة عند عتيق بن عائد ولدت له عبد مناف بن عتيق كذا قال ابن أبي خيثمة وقال الزبير ولدت لعتيق جارية اسمها هند، وولدت لأبى هالة ابنا اسمه هند أيضا مات بالطاعون - طاعون البصرة - وقد مات في ذلك اليوم نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ ألفا فشغل الناس جنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها فصاحت نادبته واهند بن هنداه واربيب رسول الله فلم يبق جنازة إلا تركت وحملت جنازته على أطراف الأصابع، ذكره الدولابى. ولخديجة من أبى هالة ابنان آخران أحدهما الطاهر والآخر هالة. (*)

وَأَبِي جُحَيْفَةَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَأُمِّ مَعْبَدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَرِّضِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَالْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ وَخُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَزْهَرَ اللَّوْنِ أدعج أبحل أشْكَلَ أهْدَبَ الْأَشْفَارِ أَبْلَجَ أَزَجَّ أَقْنَى أَفْلَجَ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ واسع

_ (قوله وأبى جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة (قوله وأم معبد) اسمها عاتكة وهى التى نزل عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هاجر إلى المدينة (قوله وَمُعَرِّضِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ) معرض بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد الراء المكسورة وبالضاد المعجمة، ومعيقيب بباء موحدة في آخره كذا بخط الذهبي (قوله وأبى الطفيل) اسمه عامر بن واثلة آخر من مات من الصحابة في الدنيا (قوله والعداء) بفتح العين وتشديد الدال المهملتين وبالمد (قوله وخريم بن فاتك) خريم بضم المعجمة ثم براء مفتوحة ثم مثناة تحتية ساكنة، وفانك بالفاء والمثناة الفوقية المكسورة والكاف (قوله وحكيم بن حزام) حكيم بفتح المهملة وكسر الكاف وحزام بكسر المهملة وبالزاى، ولدا في الكعبة على الأشهر، وفى مستدرك الحاكم أن على بن أبى طالب ولد أيضا في داخل الكعبة (قوله أزهر اللون) قيل نيره وقيل حسنه ومنه (زهرة الحياة الدنيا) وهو زينتها وهذا كما جاء في الحديث الآخر ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم والأمهق: الناصع البياض، والآدم الأسمر (قوله أدعج) الدعج شدة سواد الحدقة (قوله أنجل) بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم أي ذو نجل بفتحتين وهو سعة شق العين (قوله أشكل) بفتح الهمزة وسكون المعجمة من الشكلة بضم المعجمة وسكون الكاف وهى حمرة في بياض العين كالشهلة في سوادها (قوله أهدب الأشفار) في الصحاح الأهدب الرجل الكبير أشفار العين وهى حروف الأجفان التى ينبت عليها الشعر وهو الهدب (قوله أبلج) بالهمزة المفتوحة والموحدة الساكنة واللام المفتوحة والجيم أي مشرق وفى الصحاح عن أبى عبيدة في حديث أم سعيد أبلج الوجه أي مشرقه ولم ترد بلج الحاجب لأنها وصفته بالقرن (قوله أزج) أي مقوس الحاجب مع طول وامتداد (قوله أقى) أي محدوب الأنف (قوله أفلج) من الفلج بفتحتين وهو تباعد ما بين الثنايا. (*)

الْجَبِينِ كَثَّ اللِّحْيَةِ تَمْلَأُ صَدْرَهُ سَوَاءَ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ وَاسِعَ الصَّدْرِ عَظِيمَ الْمِنْكَبَيْنِ ضَخْمَ الْعِظَامِ عَبْلَ العَضُدَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالْأَسَافِلِ رَحْبَ الكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ سَائِلَ الْأَطْرَافِ أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدِ دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ رَبْعَةَ الْقَدِّ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ يُمَاشِيهِ أحَدٌ يُنْسَبُ إلى الطُّولِ إِلَّا طاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجِلَ الشَّعْرِ إِذَا افْتَرَّ ضَاحِكًا افْتَرَّ عَنْ مِثْلِ سَنَا الْبَرْقِ وَعَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ، إذا تكلم رئ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ ثَنَايَاهُ، أَحْسَنَ النَّاسِ عُنُقًا لَيْسَ بِمُطَهَّمٍ وَلَا مُكَلْثَمٍ مُتَمَاسِكَ الْبَدَنِ ضَرْبَ اللَّحْمِ، قَالَ البَرَاءُ مَا رأيت

_ (قوله سواء البطن) السواء بفتح المهملة والمد: المستوى (قوله عبل العضدين) العبل بفتح المهملة وسكون الموحدة: الضخم (قوله والأسافل) أي الفخذين والساقين (قوله رحب الكفين) بفتح الراء وسكون المهملة أي واسعها (قوله سائل الْأَطْرَافِ) أَيْ طَوِيلُ الأصابع (قوله أنور المتجرد) بالجيم والراء المشددة المتفوحتين أي ما تجرد عند الثياب من البدن (قوله المسربة) بفتح الميم وسكون المهملة وضم الراء وفتح الموحدة: خَيْطُ الشَّعَرِ الَّذِي بَيْنَ الصَّدْرِ وَالسُّرَّةِ (قوله رجل الشعر) بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها، في الصحاح شعر رجل إذَا لَم يَكُن شديد الجعود ولا سبطا (قوله إِذَا افْتَرَّ ضَاحِكًا) أي إذا بدا أسنانه حالة أنه ضاحك (قوله حب الغمام) هو البرد (قوله ليس بمطهم) هو بضم الميم وبالظاء المهملة والهاء المشددة المفتوحتين المنتفخ الوجه وقيل الفاحش السمن (قوله ولا بمكلثم) هو بالمثلثة المفتوحة: القصير الحنك الدائى الجبهة المستدبر الوجه، أراد أنه كان أسيل الوجه ولم يكن مستديره قاله ابن الأثير (قوله متماسك البدن) أي يمسك بعضه بعضا (قوله ضرب اللحم) بفتح الضاد المعجمة وسكون الراء، قال الخليل الضرب من الرجال: القليل اللحم. (*)

(فصل) وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد

مِنْ ذِي لِمَّةٍ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة رضي الله عنه ما رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ وَإِذَا ضَحِكَ يَتَلأْلأُ فِي الْجُدُرِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَانَ وَجْهُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ؟ فَقَالَ لَا بَلْ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَكَانَ مُسْتَدِيرًا وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ فِي بَعْضِ مَا وَصَفَتْهُ بِهِ: أَجْمَلُ النَّاسِ مِنْ بَعِيدٍ وَأَحْلَاهُ وَأحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنُ أَبِي هَالَةَ يَتَلألأ وَجْهُهُ تَلألُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي آخِرِ وَصْفِهِ لَهُ: مَنْ رَآهُ بِدِيهَةً هَابَهُ ومَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأحَادِيثُ فِي بَسْطِ صِفَتِهِ مَشْهُورَةٌ كَثِيرَةٌ فَلَا نُطَوِّلُ بِسَرْدِهَا وَقَدِ اخْتَصَرْنَا فِي وَصْفِهِ نُكَتَ مَا جَاءَ فِيهَا وَجُمْلَةً مِمَّا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الْقَصْدِ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَخَتَمْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ بِحدِيثٍ جَامعٍ لِذَلِكَ نَقِفُ عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى. (فصل) وَأَمَّا نَظَافَةُ جِسْمِهِ وَطِيبُ رِيحِهِ وَعَرَقِهِ وَنَزَاهَتُهُ عَنِ الْأَقْذَارِ وَعَوْرَاتِ الْجَسَدِ فَكَانَ قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِخَصَائِصٍ لَمْ تُوجَدْ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ تَمَّمَهَا بِنَظَافَةِ الشَّرْعِ وَخِصَالِ الْفِطْرَةِ الْعَشْرِ وقال

_ (قوله مِنْ ذِي لِمَّةٍ) اللمة بكسر واللام: هي شعر الرأس دون الجمة وسميت به لأنها تلم بالمنكبين (قوله فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ) الحلة ثوبان غير لفيفين إزار ورداء (قوله في الجدر) بضم الجيم والدال: جمع جدار وهو الحائط، (*)

بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النَّظَافَةِ * حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أحْمَدَ الْجُلُودِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ خَدَّهُ قَالَ فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا وَرِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ قَالَ غَيْرُهُ مَسَّهَا بِطِيبٍ أَمْ لَمْ يَمَسَّهَا يُصَافِحُ الْمُصَافِحَ فَيَظَلُّ يَوْمَهُ يَجِدُ رِيحَهَا وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ الصَّبِيِّ فَيُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ الصِّبْيَانِ بِرِيحِهَا وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه

_ (قوله بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النظافة) قال الحافظ زين الدين العراقى لم أجده هكذا بل في الضعفاء لابن حبان من حديث عائشة تنظفوا فإن الإسلام نظيف، وللطبراني في الأوسط بسند ضعيف من حديث ابن مسعود: النظافة تدعو إلى الإسلام (قوله سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي) بن أحمد بن العاصى بن سُفْيَانُ بن عيسى الأسدى أبو بحر أصله من بلنسية ثم سكن تلمسان ثُمّ رَجَع إِلَى قرطبة فرأس بها (قوله الجلودى) هو بضم الجيم بِلَا خِلَاف قَال أبو سعيد السمعائى منسوب إلى الجلود جمع جلد وقال أبو عمرو بن الصلاح إلى سكة الجلود من نيسابور (قوله ما شممت) هو بكسر الميم في الماضي على الأفصح وفتحها في المضارع، لا بفتحها في الماضي وضمها في المضارع (قوله مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ) الجؤنة بضم الجيم وسكون الهمزة وقد تسهل سقط مغشى بجلد يجعل فيه العطار طيبه (قوله فيظل) ظللت أفعل كذا بكسر اللام أظل بفتحها، ونقل حركتها إلى الظاء إذا فعلته نهارا وقد تكون ظل بمعنى دام.

وَسَلَّمَ فِي دَارِ أَنَسٍ فَعَرِقَ فَجَاءَتْ أُمُّهُ بِقَارُورَةٍ تَجْمَعُ فِيهَا عَرَقَهُ فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ عَنْ جَابِرٍ لَمْ يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمر في طريق فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ سَلَكَهُ مِنْ طِيبِهِ وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ رَائِحَتَهُ بِلَا طِيبٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى الْمُزَنِيُّ وَالْحَرْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ فَالْتَقَمْتُ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بِفَمِي فَكَانَ ينم عَلَيَّ مِسْكًا وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْمُعْتَنِينَ بِأَخْبَارِهِ وَشَمَائَلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَغَوَّطَ انْشَقَّتِ الْأَرْضُ فَابْتَلَعَتْ غَائِطَهُ وَبَوْلَهُ وَفَاحَتْ لِذَلِكَ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ فِي هَذَا خَبَرًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ تَأْتِي الْخَلَاءَ فَلَا نَرَى مِنْكَ شَيْئًا مِنَ الْأَذَى فَقَالَ يَا عَائِشَةُ أَوَ مَا عَلِمْتِ أَنَّ الْأَرْضَ تَبْتَلِعُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يُرَى مِنْهُ شئ؟ وهذا

_ (قوله فجاءت أمه) أي أم أنس وهى أم سليم واسمها سهلة وقيل رميلة وقيل أنيسة وقيل بليلة وقيل الرميصا وقيل الغميصا وأم سليم هذه وأخنها أم ملحان خالتا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع (قوله بقارورة) إناء من زجاج (قوله عَنْ جَابِرٍ أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عُدْ بعضهم من أردفه النبي صلى الله عليه وسلم على فرس أو غيره فبلغ بهم نيفا وأربعين (قوله فكان ينم) هو بكسر النون يقال نمت الريح إذا جلبت الرائحة، وفى بعض النسخ يثج بالمثلثة المكسورة والجيم أي يسيل. (*)

الْخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ هَذَيْنِ الْحَدَثَيْنِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي شَامِلِهِ وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ عَنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَابِقٍ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَدِيعِ فِي فُرُوعِ الْمَالِكِيَّةِ وَتَخْرِيجِ مَا لَمْ يَقَعْ لَهُمْ مِنْهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ تَفَارِيعِ الشَّافِعِيَّةِ وَشَاهِدُ هَذَا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منه شئ يُكْرَهُ وَلَا غَيْرُ طَيِّبٍ * وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَسَّلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَجَدْ شَيْئًا فَقُلْتُ طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا قَالَ وَسَطَعَتْ مِنْهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لَمْ نَجِدْ مِثْلَهَا قِطُّ ومثله قال أبو بكر رضي اللَّه عنه حين قبل النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد موته * ومنه شُرْبُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ دَمَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَصُّهُ إِيَّاهُ وَتَسْوِيغُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ وَقَوْلُهُ لَهُ لَنْ تُصِيبَهُ النَّارُ، وَمِثْلُهُ شُرْبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ دَمَ حِجَامَتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكَ

_ (قوله وسطعت) أي ارتفعت (قوله قط) هو توكيد لنفى الماضي وفيه لغات فتح القاف وضمها مع تشديد الطاء المضمومة، وفتح القاف وتشديد الطاء المكسورة، وفتح القاف وإسكان الطاء وفتح القاف وكسر الطاء المخففة (قوله ومنه شُرْبُ مَالِكِ بن سنان) هو أبو سعيد الخدري وَمِثْلُهُ شُرْبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ دَمَ حجامته رواه الحاكم والبزاز والبيهقي والطبراني والدارقطني وقد شرب أيضا دمه عليه السلام أبو طيبة واسمه دينار وقيل نافع عاش مائة وأربعين سنة وسالم بن الحجاج فقال له عليه السلام لا تعده فإن الدم كله حرام وسفينة مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه البيهقى وعلى ابْنِ أَبِي طَالِبٍ ذكره الرافعى في الشرح الكبير قال ابن الملقن ولم أجده في كتب الحديث. (*)

وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ شَرِبَتْ بَوْلَهُ فَقَالَ لها لَنْ تَشْتكِي وَجَعَ بَطْنِكِ أَبَدًا، وَلَمْ يَأْمُرْ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِغَسْلِ فَمٍ وَلَا نَهَاهُ عَنْ عَوْدَةٍ. وَحَدِيثُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي شَرِبَتْ بَوْلَهُ صَحِيحٌ أَلْزَمَ الدَّارَقُطْنِيُّ مسلما وَالْبُخَارِيُّ إِخْرَاجَهُ فِي الصَّحِيحِ، وَاسْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بَرَكَةُ وَاخْتُلِفَ فِي نَسَبِهَا وَقِيلَ هِيَ أُمُّ أَيْمَنَ وَكَانَتَ تَخْدُمٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ يُوضَعُ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ فَبَالَ فِيهِ لَيْلَةً ثُمَّ افْتَقَدَهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَسَأَلَ بَرَكَةَ عَنْهُ فَقَالَتْ قُمْتُ وَأَنَا عَطْشَانَةٌ فَشَرِبْتُهُ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، رَوَى حَدِيثَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قد ولد مختونا

_ (قوله فِي امْرَأَةٍ شَرِبَتْ بوله) هَذِهِ الْمَرْأَةِ بَرَكَةُ حاضنته صلى الله عليه وسلم وهى حبشية أعتقها عليه السلام حين تزوج خديجة وزوجها عبيد الحبشى فولدت له أيمن وكتبت به ثم بعد النبوة تزوجها زيد بن حارثة فأولدها أسامة قال الواقدي كانت أم أيمن عسرة اللسان فكانت إذا دخلت قالت (سلام لا عليكم) فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليكم والسلام عليكم (قوله وأنا عطشانة) كذا وقع وصوابه عطشى لأنه مؤنث عطشان (قوله قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ) العيدان بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية وبالدال المهملة جمع عيدانة وهى النخلة الطويلة قال الأصمعى إذا صار للنخلة جذع يتناول منه فتلك العظيد، فإذا أنابت الأيدى فهى الجنازة فإذا ارتفعت فهى الرفلة وعند أهل نجد عيدانة (قوله قَدْ وُلِدَ مَخْتُونًا) وقيل ختن يوم شق قلبه الملائكة عند ظئره حليمة وقيل ختنه جده يوم سابعه وصنع له مأدبة وسماه محمدا وقد ذكر الحاكم في المستدرك ما لفظه: وقد تواترت الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مسرورا مختونا وتعقبه الذهبي فقال ما أعلم صحة ذلك فكيف يكون متواترا؟ وذكر ابن الجوزى عن كعب الأحبار أن ثلاثة عشر من الأنبياء خلقوا مختونين آدم وشيث وإدريس ونوح = (*)

(فصل) وأما وفور عقله وذكاء لبه وقوة حواسه وفصاحة لسانه واعتدال حركاته وحسن شمائله

مَقْطُوعَ السُّرَّةِ وَرُوِيَ عَنْ أُمِّهِ آمِنَةَ أَنَّهَا قَالَتْ وَلَدْتُهُ نَظِيفًا مَا بِهِ قَذَرٌ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ما رأيت فرج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُغَسِّلُهُ غَيْرِي فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ عَوْرَتِي إِلَّا طُمِسَتْ عَيْنَاهُ، وَفِي حَدِيثِ عِكْرمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سُمِعَ لَهُ غَطِيطٌ فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يتوظأ قال عكرمة لأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَحْفُوظًا. (فصل) وَأَمَّا وُفُورُ عَقْلِهِ وَذَكَاءُ لُبِّهِ وَقُوَّةُ حَوَاسِّهِ وَفَصَاحَةُ لِسَانِهِ وَاعْتِدَالُ حَرَكَاتِهِ وَحُسْنُ شَمَائِلِهِ فَلَا مِرْيَةَ أنَّهُ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ وَأَذْكَاهُمْ، وَمَنْ تَأَمَّلَ تَدْبِيرَهُ أَمْرَ بَوَاطِنِ الْخَلْقِ وَظَوَاهِرِهِمْ وَسِيَاسَةَ العامة والخاصة

_ = وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حبيب الهاشمي هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان نبى أصحاب الرأس ومحمد صلى الله عليه وسلم (قوله وَرُوِيَ عَنْ أُمِّهِ آمنة) توفيت أمه وهو عليه السلام ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة وهى راجعة من المدينة وكان معها أم أيمن فرجعت به عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مكة ولما مر بالأبواء في عمرة الحديبية زار قبرها وقيل ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وقيل ابن ثمان سنين وقيل ابن تسع وقيل ابن ثنتى عشرة سنة (قوله غطيط) هو بالعين المعجمة المفتوحة والطاء المهملة المكسورة وبالمثناة التحتية الساكنة فالطاء المهملة، صوت يخرج من نفس النائم (قوله فلا مرية) المرية بكسر الميم وقد تضم: الشك وقرئ بهما في قوله تعالى (فَلا تَكُ فِي مرية) . (5 - 1) (*)

مع عجب شَمَائِلِهِ وَبَدِيعِ سِيَرِهِ فَضْلًا عَمَّا أَفَاضَهُ مِنَ الْعِلمِ وَقَرَّرَهُ مِنَ الشَّرْعِ دُونَ تعلم سَبْقٍ وَلَا مُمَارَسَةٍ تَقَدَّمَتْ وَلَا مُطَالَعَةٍ لِلِْكُتُبِ مِنْهُ: لَمْ يَمْتَرِ فِي رُجْحَانِ عَقْلِهِ وَثُقُوبِ فَهْمِهِ لِأَوَّلِ بَدِيهَةٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيرِهِ لِتَحَقُّقِهِ وَقَدْ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَرَأْتُ فِي أَحَدٍ وَسَبْعِينَ كِتَابًا فَوَجَدْتُ فِي جَمِيعِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْجَحُ النَّاسِ عَقْلًا وأَفْضَلُهُمْ رَأْيًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَوَجَدْتُ فِي جَميعِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ بَدْءِ الدُّنْيَا إِلَى انْقِضَائِهَا مِنَ الْعَقْلِ فِي جَنْبِ عَقْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَا كَحَبَّةِ رَمْلٍ مِنْ بَيْنِ رِمَالِ الدُّنْيَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ كان رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ كَمَا يَرَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَبِهِ فُسِّرَ قوله تعالى (وتقلبك في الساجدين) وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إِنَّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي) وَنَحْوُهُ عَنْ أَنسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِثْلُهُ قَالَتْ زِيَادَةٌ زَادَهُ الله

_ (قوله ابن منبه) بضم الميم وفتح النون وتشديد الموحدة: ابن سيج بمهملة مفتوحة وقيل مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فجيم: تابعي جليل مشهور بمعرفة الكتب الماضية (قوله يَرَى مِنْ خَلْفِهِ) ذكر مختار بن محمود الحنفي شارح القدورى ومصنف القبية في رسالته الناصرية أنه عليه السلام كان بين كتفيه عينان مثل سم الخياط يبصر منهما ولا تحجبهما الثياب وذكر النووي شرح مسلم في قَوْله عَلَيْه السَّلَام إنى والله لأبصر مِنْ وَرَائِي كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يدى، قال العلماء إن الله خلق له صلى الله عليه وسلم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأكْثَر من هَذَا، وقال القاضى عياض قَالَ أَحْمَد بْنُ حنبل وجمهور العلماء إن هذه الرؤية رؤية عين حقيقة (*)

إِيَّاهَا فِي حُجَّتِهِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِنِّي لأَنْظُرُ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَفِي أُخْرَى إِنِّي لأُبْصِرُ مِنْ قَفَايَ كَمَا أُبْصِرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَحَكَى بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى فِي الظُّلْمَةِ كَمَا يَرَى فِي الضَّوْءِ. وَالْأَخْبَارُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ، ورفع النجاشي له حتى صلى عليه وبيت المقدس حين وصفه لقريش والكعبة حين بنى مسجده. وقد حكي عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يرى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نَجْمًا وَهَذِهِ كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى رَدِّهَا إِلَى الْعِلْمِ، وَالظَّوَاهِرِ تُخَالِفُهُ وَلَا إِحَالَةَ فِي ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ وَخِصَالِهِمْ كَمَا أَخْبَرَنَا أبو محمد عبد الله ابن أَحْمَدَ الْعَدْلُ مِنْ كِتَابِهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِي الْفَرْغَانِيُّ حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ عن أبها حَدَّثَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَسَنِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ حدثنا محمد بن أحمد بن

_ (قوله النجاشي) بفتح النون وكسرها وفى آخره ياء: الصواب تخفيفها، قال الطبري لقب لمن ملك الحبشة وكان اسم هذا الملك أصحمة كما في صحيح الْبُخَارِيّ (قوله أنه كان يرى فِي الثُّرَيَّا أَحَدَ عَشَرَ نجما) قال السهيلي في كتابه التعريف والأعلام: الثريا اثنا عشر كوكبا وكان صلى الله عليه وسلم يراها كلها، جاء ذلك في حديث ثابت من طريق العباس، وقال القرطبى في كتاب أسماء النبي وصفاته: إنها لا تزيد على تسعة فيما تذكرونه في كثير من النسخ. (*)

مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنْ أبى هرير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَمَّا تَجَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يُبْصِرُ النَّمْلَةَ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ مَسِيرَةَ عَشْرَةِ فَرَاسِخَ) وَلَا يَبْعُدُ عَلَى هَذَا أنْ يَخْتَصَّ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَعْدَ الْإِسْرَاءِ وَالْحُظْوَةِ بِمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * وَقَدْ جَاءَتِ الأَخْبَارُ بِأنَّهُ صَرَعَ رُكَانَهَ أَشَدُّ أَهْلِ وَقْتِهِ وكَانَ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَصَارَعَ أبَا رُكَانَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وكَانَ شَدِيدًا وَعَاوَدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَصْرَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وقال أبو هريرة رضي الله عَنْهُ مَا رَأيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ مِنْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْيِهِ كَأنَّمَا الْأَرْضَ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَهُوَ غَيْرُ مكترث.

_ (قوله حدثنا همام) كذا في كثير من النسخ وصوابه هانئ وهو هانئ بن يحيى السلمى أخذ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أبى جعفر الجعفري أحد الضعفاء قال الطبراني لم يروه عن قتادة إلا الحسن بن أبي جعفر تفرد به هانئ بن يحيى (قوله عشرة فراسخ) في الصحاح الفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال والميل منتهى مد البصر عن ابن السكيت انتهى، وقيل الميل أربعة آلاف خطوة والخطوة ثلاثة أقدام بوضع قدم أمام قدم ويلصق به والبريد أربعة فراسخ (قوله بِأنَّهُ صَرَعَ رُكَانَهَ) هو بضم الراء وتخفيف الكاف، أسلم يوم الفتح وتوفى بالمدينة سنة أربعين (قوله وَصَارَعَ أبَا رُكَانَةَ) قيل إنه صارعه عليه السلام جماعة: ركانة وهو أمثلها وأبو ركانة كما ذكر القاضى هنا وأبو جهل ولا يصح وأبو الأسد الجمحى قاله السهيلي ويزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد على الشك رواه البيهقى وأبو داود في مراسيله (قوله غير مكترث) أي غير مبال. (*)

(فصل) وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول

وَفِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ضَحِكَهُ كَانَ تَبَسُّمًا إذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا وإذا مَشِي مَشِيَ تَقَلُّعًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ. (فصل) وَأَمَّا فَصَاحَةُ اللِّسَانِ وَبَلاغَةُ الْقَوْلِ فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْمَحَلِّ الْأَفْضَلِ وَالْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يحهل سَلَاسَةَ طَبْعٍ وَبَرَاعَةَ مَنْزِعٍ وَإيجَازَ مَقْطَعٍ وَنَصَاعَةَ لَفْظٍ وَجَزَالَةَ قَوْلٍ وَصِحَّةَ مَعَانٍ وَقِلَّةَ تَكَلُّفٍ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخُصَّ بِبَدَائِعِ الْحِكَمِ وَعُلِّمَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ فَكَانَ يُخَاطِبُ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهَا بِلِسَانِهَا وَيُحاوِرُهَا بِلُغَتِهَا وَيُبَارِيهَا فِي مَنْزَعِ بَلَاغَتِهَا حَتَّى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَسْأَلُونَهُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ عَنْ شَرْحِ كَلَامِهِ وَتَفْسِيِرِ قَوْلِهِ. مَنْ تَأَمَّلَ حَدِيثَهُ وَسِيَرَهُ عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ وَلَيْسَ كَلَامُهُ مَعَ قُرَيْشٍ وَالْأنْصَارِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ كَكَلَامِهِ مَعَ ذى المشعار

_ (قوله تقلعا) التقلع رَفْعُ الرِّجْلِ بِقُوَّةٍ (قوله من صبب) بفتح المهملة وبالوحدتين الأولى مفتوحة: هو الموضع المرتفع (قوله سلاسة) بفتح السين المهملة أي سهولة (قوله وبراعة منزع) البراعة مصدر برع الرجل بضم الراء وفتحها أي فاق أقرائه في العلم وغيره، والمنزع المأخذ (قوله مقطع) أي تمام كلام (قوله ونصاعة) النصاعة بفتح النون والصاد والعين المهملتين بينهما ألف: الخلوص (قوله وجزالة) بفتح الجيم والزاى خلاف الركانة (قوله جوامع الكلم) هو جمع جامعة (قوله وتحاورها) بالحاء المهملة أي تجاوبها (قوله ويباريها) يقال فلان يبارى فلانا أي يعارضه (قوله وسير) بكسر السين المهملة وفتح المثناة التحتية جمع سيرة بسكون المثناة (قوله المشعار) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة ثم عين مهملة وقيل معجمة بعدها ألف وراء، والهمداني بسكون الميم وبالدال نسبة إلى همدان قبيلة من اليمن. (*)

الهَمْدَانِيِّ وَطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ، وَقَطَنِ بْنِ حَارِثَةَ الْعُلَيْمِيِّ وَالْأَشْعَثِ بْن قَيْسٍ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ وَمُلُوكِ الْيَمَنِ، وَانْظُرْ كِتَابَهُ إِلَى هَمْدَانَ: (إنَّ لَكُمْ فرَاعَهَا وَوَهَاطَهَا وَعَزَازَهَا. تَأْكُلُونَ عِلافَهَا، وَتَرْعُونَ عَفَاءَهَا، لَنَا مِنْ دِفْئِهمْ وَصِرَامِهِمْ مَا سَلَّمُوا بِالْمِيثَاقِ وَالْأَمَانَةِ. وَلَهُمْ مِنَ الصَّدَقَةِ الثّلْبُ

_ (قوله وطهفه) بكسر المهملة وسكون الهاء، والنهدى بفتح النون (قوله قطن) بالقاف والمهملة المفتوحتين بعدهما نون، وحارثة بالحاء المهملة والمثلثة، والعليمي بضم العين المهملة وفتح اللام من بنى عليم (قوله من حجر) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم (قوله مِنْ أَقْيَالِ حَضْرَمَوْتَ) الأقيال بفتح الهمزة وفتح المثناة من تحت ثم ألف ولام: جمع قيل بفتح القاف وسكون المثناة، وهو الملك من ملوك حمير، وحضرموت اسم لبلد باليمن ولقبيلة (قوله فراعها) هو بفاء مكسورة وراء وعين مهملة: ما علا من الأرض (قوله ووهاطها) بكسر الواو بالطاء المهملة جمع وهط بفتح الواو وسكون الهاء وهو المطمئن من الأرض (قوله عزازها) بفتح العين المهملة وبزائين مخففتين قال الهروي هو ما اشتد من الأرض وصلب وخشن (قوله علافها) بكسر العين المهملة وتخفيف اللام والفاء قال الهروي هو جمع علف يقال علف وعلاف كجمل وجمال (قوله عفاءها) بفتح العين المهملة وتخفيف الفاء والمد قال الهروي هو ما ليس فيه ملك (قوله من دفئهم وصرامهم) الدفء بكسر المهملة وبالفاء الساكنة وبالهمز، والصرام بكسر المهملة وتخفيف الراء قال الهروي معناه من إبلهم وغنمهم وقيل سماها دفئا لأنها يتخذ من أوبارها وأصوافها ما يتدفؤن به (قوله الثلب) بكسر المثلثة وسكون اللام بعدها موحدة قال الهروي هو من الذكور الذى هرم وتكسرت أسنانه. (*)

وَالنَّابُ وَالْفَصيلُ وَالْفَارِضُ الدَّاجِنُ وَالْكَبْشُ الْحَوارِيُّ وَعَلَيْهِمُ فِيهَا الصَّالِغُ وَالْقَارِحُ وَقَوْلُهُ لِنَهْدٍ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مَحْضِهَا وَمَخْضِهَا وَمَذْقِهَا وَابْعَثْ رَاعِيَهَا فِي الدَّثْرِ وَافْجُرْ لَهُ الثَّمَدَ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ، مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَنْ آتَى الزَّكَاةَ كَانَ مُحْسِنًا، وَمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ مُخْلِصًا، لَكُمْ يَا بَنِي نَهْدٍ ودائع

_ (قوله والناب) بالنون والموحدة في آخره. قال الهروي قال أبو بكر هي الناقة الهرمة التى طال نابها وذلك من أمارات هرمها، والفارض الداجن فالفارض بالفاء والراء والضاد المعجمة المسن من الإبل، والداجن بالدال المهملة والجيم المكسورة: الدابة التى تألف البيت (قوله الحوارى) بحاء مهملة وواو مفتوحتين وراء مكسورة وياء نسبة، قال ابن الأثير منسوب إلى الحور وهى جلود تتخذ من جلود الضأن وقيل هو ما دبغ من الجلود بغير قرظ وَهُو أَحَد مَا جاء على أصله ولم يعل، كتاب، قال الكاشغرى في كتابه مجمع الغريب: الحورى المكوى منسوب إلى الحورا وهى كية يقال حوره إذا كواه هذا الكية (قوله الصالغ) بالصاد المهملة واللام المكسورة والغين المعجمة قال ابن الأثير هو من البقر والغنم الذى كمن وانتهى سنه في السنة السادسة ويقال بالسين انتهى (قوله والقارح) بالقاف والراء والحاء المهملة قال ابن الأثير: الفرس القارح وفى القاموس: القارح من ذوى الحافر بمنزلة البازل من الإبل (قوله لنهد) بفتح النون وسكون الهاء وبالدال المهملة: قبيلة من اليمن (قوله في محضها ومخضها) الأول بالحاء المهملة والضاد المعجمة: اللبن الخالص، والثانى بالمعجمتين وهو ما مخض من اللبن وأخذ زبده (قوله مذقها) هو بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وبالقاف: المزج والخلط والمراد هنا اللبن المخلوط بالماء (قوله في الدثر) بفتح الدال المهملة وسكون المثلثة وبالراء: المال الكثير يقع على الواحد والاثنين والجماعة، قاله ابن الأثير (قوله الثمد) بفتح المثلثة والميم وبالدال المهملة المال القليل (قوله ودائع الشرك) أي عهوده ومواثيقه أعطيته وديعا أي عهدا وقيل ما كانوا استودعوه (*)

الشِّرْكِ وَوَضَائِعُ الْمُلْكِ، لا نلطط فِي الزَّكَاةِ وَلَا تُلْحِدْ فِي الْحَيَاةِ وَلَا تَتَثاقَلْ عَنِ الصَّلَاةِ، وَكَتَبَ لَهُمْ، فِي الْوَظِيفَةِ الْفَرِيضَةَ ولكم الفارض والقريش وَذُو الْعِنَانِ الرُّكُوبُ وَالْفَلُوُّ الضَّبِيسُ، لَا يُمَنَعُ سرحكم

_ من أموال الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، أراد أنها حلال لهم لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط وَيَدُلّ عَلَيْه قَوْله في الحديث: ما لم يكن عهد (قوله ووضائع) بفتح الواو والضاد المعجمة وفى آخره عين مهملة جمع وضيعة وهى الوضيفة على الملك وما يلزم الناس في أموالهم من الصدقة والزكاة يعنى لا يتجاوزها معكم ولا يزيد فيها وقيل معناه لا يأخذ منكم ما كان ملوككم وضعوه عليكم بل هو لكم والأول يناسبه الملك بكسر الميم والثانى بضمها (قوله تلطط) بضم المثناة الفوقية وسكون اللام وكسر الطاء المهملة بعدها أخرى يقال لط الغريم وألط إذا منع الحق (قوله ولا تلحد) بضم المثناة الفوقية وسكون اللام وكسر الحاء وبالدال المهملتين قال ابن الأثير أي لا يحصل منكم ميل عن الحق ما دمتم أحياء (قوله الفريضة) قال ابن الأثير: الفريضة المسنة الهرمة يعنى هي لكم لا يؤخذ منكم في الزكاة ويروى عليكم في الوظيفة الفريضة أي في كل نصاب ما فرض فيه انتهى (قوله الفارض) بالفاء وهى المسنة، وفى بعض النسخ بالعين المهملة وهى الناقة التى يصيبها كسر أو مرض فتخر، والقريش بالفاء والراء المكسورة والمثناة التحتية الساكنة والشين المعجمة قال الهروي قال العتيبى هي التى وضعت حديثا كالنفساء من النساء وقال الأصمعى فرس قريش إذا حمل عليها النتاج لسبع (قوله وذو العنان الركون) العنان بكسر العين المهملة سير اللجام قال ابن الأثير يريد الفرس الذلول لأنه يلجم ويركب (قوله والفلو) بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو: المهر، قال أبو بريد إذا فتحت الفاء شددت الواو وإذا كسرتها خففت فقلت فهو مثل جرو، والضبيس بفتح الضاد المعجمة وكسر الموحدة بعدها مثناة تحتية ثم سين مهملة قال الهروي هو العسر الصعب (قوله سرحكم) بفتح السين المهملة وإسكان الراء وبالحاء المهملة أي ماشيتكم. (*)

وَلَا يُعْضَدُ طَلْحُكُمْ وَلَا يُحْبَسُ دَرُّكُمْ مَا لَمْ تُضْمِرُوا الرَّمَاقَ وَتأْكُلُوا الرَّبَاقَ، مَنْ أَقَرَّ فَلَهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الربوة) * ومن كتابه لوائل بْنِ حُجْرٍ: (إِلَى الأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ وَالْأَوْرَاعِ الْمَشَابِيبِ،

_ (قوله يعضد) بضم المثناة التحتية وسكون العين المهملة وفتح الضاد المعجمة بعدها دال مهملة أي يقطع، والطلح شجر عظام من شجر العظاه وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى (وطلح منضود) فقال المفسرون هو شجر الموز وقيل الطلع (قوله وَلَا يُحْبَسُ دَرُّكُمْ) أي ذوات الدر أراد أن الماشية لا تحشر إلى المصدق وهو الذى يأخذ صدقات الماشية ولا يحبس عن المرعى إلى أن يجتمع ثم بعد لما في ذلك من الإضرار بها قاله ابن الأثير (قوله ما لم تضمروا الرماق) بكسر الراء بعدها ميم مخففة فقاف بعد الألف أي النفاق يقال رامقه رماقا وهو أن ينظر إليه شزرا نظر العداوة يعنى ما لم تضق قلوبكم عن الحق يقال عيشه رماق أي ضيق وعيش رمق أي يمسك الرمق وهو بقية الروح وآخر النفس قاله ابن الأثير (قوله وتأكلون الرباق) بكسر الراء وبالموحدة وألف فقاف جمع ربق بكسر الراء وهو الحبل فيه عدة عرى يشد به البهم، الواحدة من العرى ربقة وفى الحديث خلع ربقة الإسلام من عنقه كذا في الصحاح، قال ابن الأثير شبه ما يلزم الأعناق من العهد بالرباق واستعار الأكل لبقض العهد فإن البهيمة إذا أكلت الربق خلصت من الشدة (قوله والذمة) هي بمعنى العهد (قوله فعليه الربوة) بكسر الراء وفتحها أي من تقاعد عن أداء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة الواجبة عقوبة عليه (قوله العباهلة) بفتح العين المهملة فالوحدة بعدها ألف فهاء مكسورة فلام، في المصباح عباهلة اليمن ملوكهم الذين أقروا على ملكهم لا يزولون عنه (قوله والأرواع) بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الواو بعدها ألف فعين مهملة قال الهروي هي الحسان الوجوه يقال رائع وأرواع (قوله المشابيب) بفتح الميم والشين المعجمة الخفيفة بعدها ألف فموحدة فمثناة تحتية فموحدة قال الهروي أراد الرؤس السادة الزهر الألوان، زاد ابن الأثير: واحدهم مشبوب كأنما أوقدت ألوانهم بالنار. (*)

وَفِيهِ: فِي التَّيْعَةِ شَاةٌ لَا مُقَوِّرَةُ الْألْيَاطِ وَلَا ضِنَاكَ وأنطوا الشبجة وَفِي السُّيُوبِ الْخُمُسُ ومن زنى مم بِكْرٍ فَاصْقَعُوهُ مِائَةً

_ (قوله في التيعة) بكسر المثناة الفوقية فسكون المثناة التحتية فعين مهملة قال الهروي قال أبو عبيدة هي الأربعون من الغنم وقال أبو سعيد أدنى ما تجب من الصدقة كالأربعين من الغنم فيها شاة وخمس الإبل فيها شاة وأصله من التيع وهو الفئ يقال أتاع فيه فتاع (قوله لا مقورة الألياط) المقورة بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو بعدها راء: والألياط بفتح الهمزة وسكون اللام وتخفيف المثناة التحتية وفى آخره طاء مهملة قال الهروي يعنى لا مسترخية الجلود لهزالها من الانوار وهو الاسترخاء في الجلود والهزال، والألياط جمع ليط وهو الشعر اللائط بالعود يعنى اللازق به (قوله ولا ضناك) بكسر المعجمة وبالنون المخففة والكاف، قال الهروي: الضناك الكثير اللحم (قوله وأنطوا) بفتح الهمزة وسكون النون لغة يمانية في أعطوا، والثبجة: بالمثلثة فالموحدة فالجيم المفتوحات قال الهروي يعنى أعطوا الوسط في الصدقة ولا تعطوا من خيار المال ولا من رذالته وحشوه انتهى (قوله وفى السيوب) بالسين المهملة والمثناة التحتية المضمومتين والوحدة بعد الواو قال الهروي قال أبو عبيد: السيوب الركاز ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطية قال ابن الأثير وقيل السيوب عروق من الذهب والفضة تسيب في المعادن أي يتلون فيها ويظهر (قوله مم بكر) قال ابن الأثير لغة أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميما فعلى هذا تكون راء بكر مكسورة من غير تنوين لأن أصله (من البكر) فلما أبدل اللام ميما بقيت الحركة بحالها كقولهم بالحرث في بنى الحرث ويكون استعمل البكر موضع الأبكار والأشبه أن يكون نكرة منونة وقد أبدلت نون (من) ميما لأن النون الساكنة إذا كان بعدها باء قلبت في اللفظ ميما نحو منبر وعنبر فيكون التقدير من زنا من بكر انتهى ملخصا. فإن قيل ما ذكره من الأشبه لا يتأتى في قوله بعد ذلك مم ثيب؟ أجيب بأن القلب في مم ثيب على هذه المناسبة مم بكر لوقوع الباء الموحدة بعد النون والعرب كثيرا ما يخرجون الكلام عن الأصل إلى غيره للمناسبة كقولهم ما قدم وحدث بضم الدال من حدث لمناسبة قدم والأصل حدث بفتح الدال (قوله فاصقعوه) بهمزة وصل وصاد مهملة وقاف مفتوحة وعين مهملة مضمومة. (*)

واستوفضون عَامًا وَمَنْ زَنَى مم ثِيِّبٍ فَضَرِّجُوهُ بِالأَضَامِيمِ وَلَا تَوْصِيمَ فِي الدِّينِ ولا عمه فِي فَرَائِضِ اللَّهِ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ يَتَرَفَّلُ عَلَى الْأَقَيَالِ. أيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ لِأَنَسٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمَشْهُورِ لَمَّا كَانَ كَلَامُ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَبَلاغَتُهُمْ عَلَى هَذَا النَّمَطِ وَأَكْثَرُ اسْتِعَمَالِهِمْ هَذِهِ الْأَلفَاظُ؟ استَعْمَلَهَا مَعَهُمْ لِيُبَيِّن لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلِيُحَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَكَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ: (فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْطِيَةُ

_ قال ابن الأثير أي اضربوه وأصل الصقع الضرب على الرأس وقيل الضرب ببطن الكف (قوله واستوفضون) بهمزة وصل وسين مهملة ومثناة فوقية مفتوحة وواو ساكنة وفاء مكسورة وضاد معجمة قال الهروي أي غربوه وانفواه واطردوه وأصله من استوفضت الإبل إذا تفرقت في رعيها (قوله فضرجوه) بالضاد المعجمة المفتوحة والراء المشددة المكسورة والجيم قال الهروي التضريج التدمية وقال ابن الأثير ضرجوه بالأضاجيم أي دموه بالضرب (قوله بالأضاميم) بفتح الهمزة وتخفيف الضاد المعجمة وميمين بينهما مثناة من تحت قال الهروي يعنى جماهير الحجاز يرد الرجم واحدتهما إضمامة لأن بعضها ضم إلى بعض وكذلك في جماعات الناس الكتب (قوله ولا توصيم) بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو وكسر الصاد المهملة قال الهروي يقول لا تفتروا في إقامة الحد ولا تحابوا فيه والوصم الكسل والتوانى (قوله ولا غمة) بضم الغين المعجمة وتشديد الميم قال ابن الأثير لا تستر ولا تخفى فرائصه (قوله يترفل) بتشديد الفاء المفتوحة قال ابن الأثير أي يتسود ويترأس استعارة من ترفيل الثوب وهو إسباغه وإسباله (قوله أين هذا من كتابه لأنس) قيل لم يكتب صلى الله عليه وسلم إلى أنس وإنما أبو بكر هو الذى كتب إليه وأجيب بأن الدارقطني ذكر بإسناد صحيح رواية أنس لهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة ولم يخرجه فعمل به أبو بكر وعمر (قوله فإن اليد العليا هي المنطية) في الصحيحين عن (*)

وَالْيَدَ السُّفْلَى هِيَ الْمُنْطَاةُ قَالَ فَكَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَتِنَا. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعَامِرِيِّ حِينَ سَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَلْ عَنْكَ) أَيْ سَلْ عَمَّا شِئْتَ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ وَأَمَّا كَلَامُهُ الْمُعْتَادُ وَفَصَاحَتُهُ الْمَعْلُومَةُ وَجَوَامِعُ كَلِمِهِ وَحِكَمِهِ الْمَأْثُورَةِ فَقَدْ ألَّفَ النَّاسُ فِيهَا الدَّوَاوِينَ وَجُمِعَتْ فِي ألْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا الْكُتُبُ، ومِنْهَا مالا يُوَازَى فَصَاحَةً وَلَا يُبَارَى بَلاغَةً كَقْوِلِهِ: (الْمُسْلِمُونَ تتكافؤ دماؤهم ويسعى

_ ابن عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة (اليد العليا خير من اليد السفلى) والعليا هي المنفقة والسفلى هي السائلة ورواه مالك وأبو داود والنسائي قال أبو داود وقد اختلف على أيوب عن نافع في هذا الحديث فقال عبد الوارث، اليد العليا المتعففة وقال أكثرهم عن حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عن أيوب: المنفقة، وقال واقد عن حماد المتعففة قال الخطابى رواية المتعففة أشبه وأصح في المعنى لأن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف عنها، فعطف الكلام على سببه الذى خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى وقد يتوهم كثير من الناس أن معنى العليا أن يد المعطى مستعلية فوق يد الآخذ يجعلونه من علو الشئ إلى فوق وليس ذلك عندي بالوجه وإنما هو من علا المجد والكرم يريد التعفف عن المسألة والرفع عنها انتهى كلامه (قوله الدواوين) هو جمع ديوان بكسر الدال المهملة وقد تفتح فارسي معرب وفى الصحاح أصله دووان فعوض عن إحدى الواوين ياء، وسبب تسميته ديوانا وجهان أحدهما أن كسرى اطلع يوما على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم فقال دوانت أي مجانين ثم حذفت التاء لكثرة الاستعمال والثانى أن الديوان بالفارسية اسم للشياطين فسمى الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجلى والخفى (قوله يوازى) بضم المثناة التحتية وبالراء المفتوحة أي يماثل ويقابل (قوله تكافؤ) أي تتكافؤ فحذف إحدى التائين والمعنى يتساوى ويتماثل في القصاص والديات. (*)

بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) * وَقَوْلهُ (النَّاسُ كأسنان المشط والمرء مَعَ مَنْ أَحَبَّ ولا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مَا تَرَى له والناس معادن وما هَلَكَ امْرُؤٌ عَرَفَ قدره والمستشار مؤتمن وهو بالخيار مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ ورحم اللَّهِ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ أوْ سَكَتَ فَسَلِمَ) * وَقَوْلُهُ (أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجَالِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أحاسنكم أخلاقا الموطؤن أكنافا الذين يَأَلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ) وَقَوْلُهُ (لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بمالا يَعْنيهِ وَيَبْخَلُ بِمَا لَا يُغْنِيهِ) وَقَوْلُهُ (ذُو الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وجيها ونهيه عن قبل وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَنْعٍ وَهَاتِ وَعُقُوقِ الْأُمَّهَاتِ

_ (قوله وهم يد) أي جماعة (قوله كأسنان المشط) هو بضم الميم وكسرها وسكون الشين المعجمة (قوله أحاسنكم) جمع حسن (قوله الموطؤن) بضم الميم وفتح الواو والطاء المشددة المهملة وبالهمزة المضمومة اسم مفعول من التوطئة والتمهيد (قوله والأكناف) بالنون بعد الكاف الجوانب، أراد الذين جوانبهم وطيئة يتمكن من صاحبها ولا يتأذى (قوله نَهْيُهُ عَنْ قِيلَ وقال) أي ما يتحدث به المتجالسون من قولهم قيل كذا وقال كذا، ويجوز بناؤهما على أنهما فعلان ما ضيان مستتر في كل منهما ضمير، وإعرابهما على إجرائهما مجرى الأسماء ولا ضمير فيهما، وقال أبو عبيد هما مصدران يقال قلت قولا وقالا وقيلا وقيل المراد النهى عن كثرة الكلام ابتداء وجوابا، وقيل المراد حكاية أقوال الناس والتحدث عما لا يجدى، قال ذلك كله ابن الأثير (قوله وكثرة السؤال) قيل أراد مسألة الناس أموالهم وقيل كثرة البحث عن أخبار الناس ومالا يعنى وقيل كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما لم ينزل ولم يؤذن به (قوله وإضاعة المال) هو إنفاقه فيما حرم الله وقيل ترك القيام عليه وإهماله وقيل دفع مال السفيه إليه (قوله ومتع وهات) أي منع ما عليه إعطاؤه وطلب ما ليس له (قوله وعقوق الأمهات) يقال عق والده يعقه عقوقا إذا آداه (*)

وَوَأْدِ الْبَنَاتِ وَقَوْلُهُ (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ وَخَيْرٌ الأُمُورِ أَوْسَاطُهَا) وَقَوْلُهُ (أَحْبِبْ حبِيبَكَ هِوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا) وَقَوْلُهُ (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ دُعَائِهِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي وَتَلُمَّ بِهَا شَعَثِي وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ عِنْدَ الْقَضَاءِ وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ وعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ) إِلَى مَا رَوَتْهُ الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ مِنْ مَقَامَاتِهِ ومُحَاضَرَاتِهِ وَخُطَبِهِ وَأَدْعِيِتَهِ وَمُخَاطَبَاتِهِ وَعُهُودِهِ مِمَّا لَا خِلَافَ أنَّهُ نَزَلَ مِنْ ذَلِكَ مَرْتَبَةً لَا يُقَاسُ بِهَا غَيْرُهُ وحاز فِيهَا سَبْقًا لَا يُقْدَرُ قَدَرُهُ وَقَدْ جُمِعَتْ مِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ

_ وعصاه وأصله الشق والقطع وإنما خص الأمهات لأن عقوقهن أقبح من عقوق الآباء (قوله ووأد البنات) هو بهمزة ساكنة بعد واو مفتوحة دفنهن حيات غيرة وأنقة وتخفيفا لمؤنتهن (قوله هونا ما) أي حبا قليلا، والهون في الأصل السكينة ومصدر هان بمعنى خف (قوله أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عندك) قيل الأشياء كلها من عِنْد اللَّه فما معنى التقييد بقوله من عندك؟ وأجيب بأن معناه رحمة لا في مقابلة عمل عملته (قوله تلم) بفتح المثناة الفوقية وضم اللام، وشعثى بفتح الشين المعجمة والعين المهملة وكسر المثلثة أي تجمع ما تفرق من أمرى (قوله نزل الشهداء) النزل بضم النون والزى ما يهيأ للضيف (قوله الكافة عن الكافة) في الصحاح الكافة جمع من الناس، يقال لقيتهم كافة أي جميعهم انتهى، وعن سيبوبه إن التعريف في كافة لا يجوز وإنما استعمل منكرا منصوبا على الحال كقاطبة (قوله سبقا) بفتح السين المهملة (*)

إِلَيْهَا وَلَا قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يُفْرَغَ فِي قَالَبِهِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ، حَمِيَ الْوَطِيسُ، ومات حتف أنفه، لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ والسعيد مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ) فِي أَخَوَاتِهَا مَا يُدْرِكُ النَّاظِرُ الْعَجَبَ في مُضَمَّنِهَا وَيَذْهَبُ بِهِ الْفِكْرُ فِي أَدَانيِ حِكَمِهَا وَقَدْ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ مَا رَأَيْنَا الَّذِي هُوَ أفْصَحُ مِنْكَ فَقَالَ، وَمَا يَمْنَعُنِي وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِي لِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى) أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ وَنَشَأْتُ فِي بني سعد، فَجُمِعَ لَهُ بِذَلِكَ صلى الله عليه وسلم قُوَّةُ عَارِضَةِ الْبَاديَةِ وَجَزَالَتُهَا وَنَصَاعَةُ ألْفَاظِ الْحَاضِرَةِ وَرَوْنَقُ كَلَامِهَا إِلَى التَّأْيِيدِ الْإِلهِيِّ الذى مدده الْوَحْيُ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِعلْمِهِ بَشَرِيٌّ. وَقَالَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ فِي وَصْفِهَا لَهُ

_ وسكون الموحدة مصدر سبق يسبق وبفتحها المال الذى يؤخذ رهنا على المسابقة (قوله في قالبه) بفتح اللام وكسرها والفتح أكثر (قوله الوطيس) بواو مفتوحة وطاء مهملة مكسورة ومثناة تحتية ساكنة وسين مهملة اسم لشئ يشبه التنور وقيل الضراب في الحرب، وقيل الوطوس الذى يطس الناس أي يدقهم وقال الأصمعى حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطؤها (قوله ومات حتف أنفه) أي من غير قتل ولا ضرب قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ هذا من الألفاظ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ بِهَا صَلَّى اللَّه عليه وسلم وقد قال السموءل من قصيدة لامية اختارها أبو تمام في حماسته. وما مات منا سيد حتف أنفه * ولا طل منا حيث كان قتيل وأجيب بأن القصيدة المذكورة اختلف في قائلها فقيل السموءل وقيل عبد الملك الحارثى وهو إسلامى (قوله بيد) بالموحدة والمثناة التحتية الساكنة والدال المهملة قال ابن مالك وغيره بمعنى غير على حد قوله. ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (*)

(فصل) وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشئه فما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ولا بيان مشكل ولا خفى منه

حُلْوُ الْمَنْطِقِ فَصْلٌ لَا نَزْرٌ وَلَا هَذْرٌ كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتٌ نُظِمْنَ وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ حَسَنَ النَّغَمَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فصل) وَأَمَّا شَرَفُ نَسَبِهِ وَكَرَمُ بَلَدِهِ وَمَنْشَئِهِ فَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَلَا بَيَانِ مُشْكِلٍ وَلَا خَفِيٍّ مِنْهُ فَإِنَّهُ نُخْبَةُ بَنِي هَاشِمٍ وَسُلَالَةُ قُرَيْشٍ وَصَمِيمُهَا وَأَشْرَفُ الْعَرَبِ وَأَعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَمِنْ أَهْلِ مكة من أَكْرَمِ بِلادِ اللَّهِ على اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِهِ، حَدَّثَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أبو محمد السرخسى وأبو إسحق وَأَبُو الْهَيْثَمِ قَالُوا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عن

_ وقال ابن هشام في المغنى هي هنا بمعنى من أجل (قوله فصل) بالفاء المفتوحة والصاد الساكنة المهملة (قوله لا نزر) بفتح النون وسكون الزاى بعدها راء أي لا قليل، فيدل على عَدَمَ القُدْرَةِ عَلَى الكلام (قوله ولا هذر) باسكان الذال المعجمة وبعدها راء مصدر هذر إذا كثر كلامه (قوله نخبة) النخبة بضم النون وسكون الخاء المعجمة بعدها موحدة: الخيار (قوله حلالة قريش) سلالة الشئ ما استل منه (قوله السرخسى) هو الحموى وقد تقدم (قوله وأبو إسحق) هو إبراهيم بن أحمد المستملى (قوله وأبو الهيثم) هُو مُحَمَّد بن مكى من زارع (قوله عن عمرو وهو ابن أبى عمرو مولى المطلب يروى عن أنس وعكرمة (قوله عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ) هو سعيد ابن أبى سعيد المقبرى واسم أبى سعيد كيسان وكنية (6 - 1) (*)

أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ مِنْهُ) وَعَنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ مِنْ خَيْرِ قَرْنِهِمْ ثُمَّ تَخَيَّرَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ قَبِيِلَةٍ ثُمَّ تَخَيَّرَ الْبُيُوتَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ فَأَنَا خَيْرُهُمْ نفسا وخيرهما بَيْتًا، وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اخْتَارَ خلْقَهُ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي آدَمَ ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي آدَمَ فاخْتَارَ مِنْهُمُ العْرَبَ ثُمَّ اخْتَارَ الْعَرَبَ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ قُرَيْشًا ثُمَّ اخْتَارَ قُرَيْشًا فَاخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ اخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ فَاخْتَارنِي مِنْهُمْ فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا مِنْ خِيَارٍ أَلَا مَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ) وَعَنِ ابْنِ

_ سعيد أبو سعيد، روي عن أبي هريرة وعائشة وخلق، وروى عنه الليث ومالك وخلق (قوله مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بنى آدم) القرن أهل كل زمان وقيل أربعون سنة وقيل ستون وقيل سبعون وقيل ثمانون وقيل مائة وقيل مائة وعشرون (قوله وعن واثلة) بمثلثة مكسورة (ابن الأسقع) بسين مهملة وقاف مفتوحة وعين مهملة (قوله رواه الطبري (هو الحافظ محمد بن جرير: أحد الأعلام توفى سنة عشر وثلاثمائة. (*)

(فصل) وأما ما تدعو ضرورة الحياة إليه مما فصلناه فعلى ثلاثة أضرب

عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ رَوْحُهُ نُورًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ وَتُسَبّحُ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِهِ فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَأَهْبَطَنِي اللَّهُ إِلَى الْأَرْضِ فِي صُلْب آدَمَ وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ وَقَذَفَ بِي فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُنِي مِنَ الأَصْلَابِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَرْحَام الطَّاهِرَةِ حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنَ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ، وَيَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا الخير شِعْرُ الْعَبَّاسِ الْمَشْهُورُ في مديح النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فصل) وَأَمَّا مَا تَدْعُو ضَرُورَةُ الْحَيَاةِ إليْهِ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فَعَلَى ثُلاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ الْفَضْلُ فِي قِلَّتِهِ وَضَرْبٌ الْفَضْلُِ فِي كَثْرَتِهِ وَضَرْبٌ تَخْتَلِفُ الْأَحوَالُ فِيهِ، فَأَمَّا مَا التَّمَدُّحُ وَالْكَمَالُ بِقِلَّتِهِ اتِّفَاقًا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ عَادَةً وَشَرِيعَةً كَالْغِذَاءِ وَالنَّوْمِ، وَلَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ وَالحُكَمَاءُ تَتَمَادَحُ بِقِلَّتِهِمَا وَتَذُمُّ بِكثْرَتِهِمَا لأنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهَمِ وَالْحِرْصِ وَالشَّرَهِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ، مُسَبِّبٌ لِمَضَارِّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ جَالِبٌ لأدواء

_ (قوله شعر العباس) هو: مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظَّلالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الورق، وسيأتى تمامه في كلام المصنف إن شاء الله تعالى (قوله كالغذاء) بكسر الغين وبالذال المعجمتين: ما يتغذى به من الطعام والشراب، وأما الغداء بفتح الغين المعجمة وبالدال المهملة هو الطعام بعينه وهو خلاف العشاء (قوله النهم بفتح النون والهاء: هو إفراط الشهوة في الطعام (قوله والشره) بفتح الشين المعجمة والراء. هو غلبة الحرس (قوله مسبب) بكسر الموحدة الأولى. (*)

الْجَسَدِ وَخُثَارَةِ النَّفْسِ وَامْتِلَاءِ الدِّمَاغِ، وَقِلَّتُهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقَنَاعَةِ وَمِلْكُ النَّفْسِ، وَقَمْعُ الشَّهْوَةِ مُسَبِّبٌ للِصِّحَّةِ وَصَفَاءِ الْخَاطِرِ وَحِدَّةِ الذِّهْنِ، كَمَا أَنَّ كثْرَةَ النَّوْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ وَالضَّعْفِ، وَعَدَمِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ مُسَبِّبٌ لِلْكَسَلِ وَعَادَةِ الْعَجْزِ وَتَضْيِيعِ الْعُمْرِ فِي غَيْرِ نَفْعٍ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَغَفْلَتِهِ وَمَوْتِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً وَيُوجَدُ مُشَاهَدَةً وَيُنْقَلُ مُتَوَاتِرًا مِنْ كَلَامِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْحُكَمَاءِ السَّالِفِينَ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَخْبَارِهَا وَصَحِيحِ الْحَدِيثِ وَآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَخَلَفَ مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَى الاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ هُنَا اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا عَلَى اشْتِهَارِ الْعِلْمِ بِهِ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذَ مِنْ هَذَيْنِ الفَنَّيْنِ بِالْأَقَلِّ، هَذَا مَا لَا يُدْفَعُ مِنْ سِيرَتِهِ وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا بِارْتَبَاطِ أحَدِهِمَا بِالآخَرِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ الْحَافِظُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الأَصْفَهَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا

_ (قوله وخثارة النفس) بخاء معجمة وثاء مثلثة مخففة وراء، في الصحاح خثرت نفسه بالفتح أي اختلطت وقوم خثرى الأنفس خثراء الأنفس أي مختلطون وقال ابن الأثير في حديث (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خائر النفس) أي ثقيل النفس غير طيب ولا نشط (قوله وملك النفس) بكسر الميم (قوله على الفسولة) بضم الفاء والسين المهملة يقال فسل بالضم فسالة وفسولة فهو فسل أي رزل (قوله أبو الفضل الأصبهاني) هو ابن حبرون وقد تقدم قال القاضى عياض قَال أَبُو عُبَيْد: إصبهان بكسر الهمزة وقال بعضهم بفتحها وأهل خراسان يقولون بالفاء مكان الباء وقال الكاشغرى في كتاب (مجمع الغرائب) كسر الهمزة هو الصحيح بالباء كان أو بالفاء، قال المزى. المعروف فتح الهمزة والباء مفتوحة لا غير وقد تبدل بالفاء. (*)

سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ جَابِرٍ حَدَّثَهُ عن المقدام ابن معد يكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنُ آدَمَ أَكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) ، ولأنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ من كَثْرَةِ الْأكْلٍ وَالشرْبِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ بِقِلَّةِ الطَّعَامِ يُمْلَكُ سَهَرُ اللَّيْلِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَأْكُلُوا كَثِيرًا فَتَشْرَبُوا كَثيِرًا فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا فَتَخْسَرُوا كَثِيرًا، وَقَدَ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إليْهِ مَا كَانَ عَلَى ضَفَفٍ (أَيْ كَثْرَةِ الْأَيْدِي) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمْ يَمْتَلِئْ جَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَعًا قَطُّ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أهْلِهِ لَا يَسْأَلُهُمْ طعَامًا وَلَا يَتَشَهَّاهُ إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبْلُ وَمَا سَقَوْهُ شَرِبَ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بحَدِيثِ بَرِيرَةَ وَقَوْلِهِ (أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ فِيهَا لَحْمٌ) إِذْ لَعَلَّ سَبَبَ سِؤَالِهِ ظَنُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ فَأَرَادَ بَيَانَ سُنَّتِهِ، إِذْ رآهم لم يقدموه إليه

_ (قوله أكلات) بضم الهمزة والكاف وفتح اللام جمع أكلة بضم الهمزة وسكون الكاف وهى اللقمة، وأما الأكلة بفتح الهمزة وسكون الكاف فالمرة من الأكل (قوله على ضفف) بضاد معجمة وفاء مفتوحتين بعدهما فاء أخرى فسره القاضى بكثرة الأيدى وهو قول الخليل وفسره أبو يزيد بالضيق والشدة قال الأسمعي أن تكون الأكلة أكثر من الطعام (قوله بريرة) بفتح الموحدة وكسر الراء الأولى هي مولاة عائشة وهى بنت صفوان، كذا نسبها النووي، قال بعضهم قبطية وقال الذهى حبشية. (*)

مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لا يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْهِ بِهِ فَصَدَّقَ عَلَيْهِمُ ظَنَّهُ وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أمْرِهِ بِقَوْلِهِ (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَديَّةٌ) وَفِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ: يَا بُنِيَّ إِذَا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَتِ الْفِكْرَةُ وَخَرِسَتِ الحِكْمَةُ وَقَعَدَتِ الْأعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ سُحْنُونُ: لَا يَصْلُحُ الْعِلْمُ لِمَنْ يَأْكُلُ حَتَّى يَشَبَعَ، وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا) وَالاتِّكَاءُ هُوَ التَّمَكُّنُ لِلأَكْلِ وَالتَّقَعْدُدُ فِي الْجُلُوسِ لَهُ كَالمُتَرَبِّعِ وَشِبْهِهِ مِنْ تَمَكُّنِ الْجِلْسَاتِ الَّتِي يَعْتَمِدُ فِيهَا الْجَالِسُ عَلَى مَا تَحْتَهُ وَالْجَالِسُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَسْتَدْعِي الْأكْلَ وَيَسْتَكْثِرُ مِنْهُ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ جُلُوسُهُ لِلأَكْلِ جُلُوسَ الْمُسْتَوْفِزِ مُقْعِيًا وَيَقُولُ (إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وأجلس كما يجلس الْعَبْدُ) وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي الاتِّكَاءِ الْمَيْلَ عَلَى شِقٍّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَكَذَلِكَ نَوْمِه صَلَّى اللَّه عليه وسلم كان قليلا شهدت بِذَلِكَ الآثَارُ الصَّحِيحَةُ، ومع ذلك فَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَى جَانِبِهِ الأَيْمَنِ اسْتِظْهَارًا عَلَى قِلَّةِ النَّوْمِ لِأَنَّهُ عَلَى الْجَانِبِ الأيْسَرِ أَهْنَأُ لِهُدوِّ الْقَلْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ الباطنة

_ (قوله لقمان) قال الثعلبي في تفسيره كان لقمان مملوكا وكان أهون مملوكي سيده عليه، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عبدا حبشيا نجارا واسم أبيه أنعم وقيل ما ثان وقيل مكشورا (قوله المعدة) بكسر العين المهملة مع فتح الميم وبإسكان العين المهملة مع فتح الميم وكسرها وبكسرهما (قوله مقعيا) قال الهروي قال ابن شميل الإقعاء أن يجلس على وركيه وهو الاحتفاز والاستنضار. (*)

(فصل) والضرب الثاني ما يتفق التمدح بكثرته والفخر بوفوره كالنكاح والجاه

حِينَئِذٍ لِمَيْلِهَا إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ الاسْتِثْقَالَ فِيهِ وَالطَّوْلَ، وَإِذَا نَامَ النَّائِمُ عَلَى الأَيْمَنِ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ وَقَلِقَ فأسرع الافافة وَلَمْ يَغْمرْهُ الاسْتِغْرَاقُ. (فصل) وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَتَّفِقُ التَّمَدُّحُ بِكَثْرَتِهِ وَالْفَخْرُ بِوُفُورِهِ كَالنِّكَاحِ وَالْجَاهِ. أَمَّا النِّكَاحُ فَمُتَّفَقٌ فِيهِ شرعا وعادة فإنه دَلِيلُ الْكَمَالِ وَصِحَّةُ الذُّكُورِيَّةِ وَلَمْ يَزَلِ التَّفَاخُرُ بِكَثْرَتِهِ عَادَةً مَعْرُوفَةً وَالتَّمَادُحُ بِهِ سِيرَةً مَاضِيةً، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَسُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً، مُشِيرًا إلَيْهِ صلى الله عليه وَسَلَّم وَقَد قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الأُمَمَ) وَنَهَى عَنِ التَّبَتُّلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَمْعِ الشَّهْوَةِ وَغَضِّ الْبَصَرِ اللَّذَيْنِ نَبَّهَ عَلَيْهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ (مَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصنُ لِلْفَرْجِ) حَتَّى لَمْ يَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِمَّا يَقْدَحُ فِي الزُّهْدِ، قَالَ سَهْلُ ابن عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ حببن إِلَى سَيَّدِ الْمُرْسَلِينَ فَكَيْفَ يُزْهَدُ فِيهِنَّ؟ وَنَحْوهُ

_ (قوله لم يغمره) بالغين المعجمة وسكون الراء من غمره الماء إذا علاه (قوله فإنى مباه) الذى في سنن أبى داود والنسائي وابن ماجه (فإنى مكاثر بكم الأمم) (قوله عن التبتل) هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح، وامرأة بتول منقطعة عن الرجال، وبه سميت أم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وسميت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لانقطاعها عن النساء، فضلا ودينا وحسبا وقيل لانقطاعها عن الدنيا (قوله مَنْ كَانَ ذَا طول) الطول بفتح الطاء المهملة وإسكان الواو: الفضل والمقدرة. (*)

لابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ كَانَ زُهَّادُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَثِيرِي الزَّوْجَاتِ وَالسَّرَارِي كَثِيرِي النِّكَاحِ، وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ غَيْرُ شئ، وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَزْبًا. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ النِّكَاحُ وَكَثْرَتُهُ مِنَ الفَضَائِلِ وَهَذَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى الله تعالى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ حَصُورًا، فَكَيْفَ يُثْنِي اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ عَمَّا تَعُدُّهُ فَضِيلَةً وَهَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبَتَّل مِنَ النّسَاءِ وَلَوْ كان كما قررته لَنَكَحَ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ هَيُوبًا أَوْ لَا ذَكَرَ لَهُ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا حُذَّاقُ الْمُفَسِّرِينَ وَنُقَّادُ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا هَذِهِ نَقِيصَةٌ وَعَيْبٌ وَلَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الذُّنُوبِ أَيْ لَا يَأتِيهَا كَأَنَّهُ حُصِرَ عَنْهَا، وَقِيلَ مَانِعًا نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ لَيْسَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فِي النِّسَاءِ. فَقَدْ بَانَ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ عَدَمَ القُدْرَةِ عَلَى النِّكَاحِ نَقْصٌ وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً ثُمَّ قَمْعُهَا إِمَّا بِمُجَاهَدَةٍ كَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ بِكفَايَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَيَحْيَى

_ (قوله عزبا) بفتح المهملة والزاى: من لا أهل له، كذا في القاموس (قوله يحيى بن زكريا) هو من ذرية سليمان بن داود صلوات الله عليهم أجمعين (قوله أَنَّهُ كَانَ هَيُوبًا) الهيوب بفتح الهاء وضم المثناة التحتية الذى يهاب الفعل المعروف، في الصحاح وفى الحديث (الإيمان هيوب) أي صاحبه يهاب المعاصي (قوله حصور) الحصور الذى يحبس نفسه عما يكون من الرجال مع النساء، وقيل شهوات الدنيا كلها (فعول) بمعنى مفعول كما يقال ناقة حلوب. (*)

عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضِيلَةٌ زَائِدَةٌ لِكَوْنِهَا مُشْغِلَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ حَاطَّةً إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ هِيَ فِي حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْهَا وَمُلِّكَهَا وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِيهَا وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ رَبَّهِ دَرَجَةٌ عَلْيَاءُ وَهِيَ دَرَجَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ تَشْغَلْهُ كَثْرَتُهُنَّ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عِبَادَةً لِتَحْصِينِهِنَّ وَقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِنَّ وَاكْتِسَابِهِ لَهُنَّ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُنَّ بَلْ صَرَّحَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَاهُ هُوَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُظُوظِ دُنْيَا غَيْرِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ) فَدَلَّ أَنَّ حُبَّهُ لِمَا ذُكِرَ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ اللذين هما من أَمْرِ دُنْيَا غَيْرِهِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِذَلِكَ لَيْسَ لِدُنْيَاهُ بَلْ لآخِرَتِهِ، لِلْفَوَائِدِ التي ذَكَرْنَاهَا فِي التَّزْوِيجِ وَلِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي الطَّيبِ وَلِأَنَّهُ أيْضًا مِمَّا يَحُضُّ عَلَى الْجِمَاعِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ وَيُحَرِّكُ أَسْبَابَهُ، وَكَانَ حُبُّهُ لِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ وَقَمْعِ شَهْوَتِهِ وَكَانَ حُبُّهُ الْحَقِيقِيُّ الْمُخْتَصُّ بِذَاتِهِ فِي مُشَاهَدَةِ جَبَرُوتِ مَوْلَاهُ وَمُنَاجَاتِهِ وَلِذَلِكَ مَيَّزَ بَيْنَ الْحُبَّيْنِ وَفَصَلَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَقَالَ (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) فَقَدْ سَاوَى يَحْيَى وَعِيسَى فِي كِفَايَةِ فِتْنَتَهِنَّ وَزَادَ فَضِيلَةً بِالْقِيَامِ بِهِنَّ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُقْدِرَ عَلَى الْقُوَّةِ فِي هَذَا وَأعْطِيَ الْكَثِيرَ مِنْهُ وَلِهَذَا أُبِيِحَ لَهُ مِنْ عَدَدِ الْحَرَائِرِ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِينَا عَنْ أَنَسٍ أنَّهُ صلى الله عليه

_ (قوله حاطة) بالحاء والطاء المشددة المهملتين (قوله أقدر) بضم الهمزة وكسر الدال (قوله ولم يشغله) بفتح المثناة التحتية في أوله (قوله وقد روينا) قال المزى يقال روينا بفتح الراء والواو وروينا بضم الراء وكسر الواو المشددة. (*)

وسلم كان بدور عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إحْدَى عَشَرَةً، قَالَ أَنَسٌ وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ رَجُلا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ، وروي نحوه عن أَبِي رَافِعٍ، وَعَنْ طاووس أُعْطِيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِي الْجِمَاعِ، وَمِثْلُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، وَقَالَتْ سَلْمَى مَوْلاتُهُ: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً عَلَى نسائه التسع

_ (قوله وَهُنَّ إحْدَى عَشَرَةً) هكذا في صحيح الْبُخَارِيّ عن أنس وفيه أيضا عنه تسع نسوة وجمع بينهما بأن أزواجه كن تسعا في هذا الوقت وسريتاه مارية وريحانة على رِوَايَة من روى أن ريحانة كانت أمة وروى بعضهم أنها كانت زوجة وقال ابن حيان حكى أنس هذا الفعل منه في أول قدومه المدينة حيث كانت تحته تسع نسوة ولا نعلم أنه تزوج نساءه كلهن في وقت واحد ولا يستقيم هذا إلا في آخر أمره حيث اجتمع عنده تسع نسوة وجاريتان ولا نعلم أنه اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة بالتزويج فإنه تزوج بإحدى عشر أولهن خديجة ولم يتزوج عليها حتى ماتت (قوله قال أنس) وكنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين) في الحلية لأبى نعيم عن مجاهد أعطى قوة أربعين رجلا كل رجل من رجال أهل الجنة انتهى، وروى الترمذي أن رجال أهل الجنة قوة كل رجل منهم بقوة سبعين رجلا وصححه وروى بقوة مائة رجل وقال صحيح غريب (قوله وروى نحوه عن أبى رافع) هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل اسمه إبراهيم وقيل أسلم وقيل ثابت وقيل هرمز وقيل صالح كان قبطيا، والذى رواه أبو رافع أخرجه الترمذي في الطهارة والنسائي في عشرة النساء أنه عليه السلام طاف على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه: الحديث (قوله وعن طاووس) هو ابن كيسان اليماني، وقيل اسمه ذكوان فلقب بطاووس، قال ابن معين لأنه كان طاووس القراء (قوله صفوان ابن سليم (بضم السين المهملة وفتح اللام إمام جليل (قوله سلمى) بفتح السين المهملة بلا خلاف هي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل مولاة صفية وهى زوج أبى رافع وداية فاطمة الزهراء. (*)

وتَطَهَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْأُخْرَى وَقَالَ (هَذَا أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ) ، وَقَدْ قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي ظَهْرِ سُلَيْمَانَ مَاءُ مِائَةِ رَجُلٍ وَكَانَ له ثلاثمائة امرأة وثلاثمائة سَرِيَّةٍ، وَحَكَى النَّقَّاشُ وغيره سبعمائة امرأة وثلاثمائة سَرِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى زُهْدِهِ وَأَكْلِهِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وتمت بزوج أو رياء مائة، وقد نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) وَفي حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ) فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبعٍ: بالسَّخَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ وَقُوَّةِ البَطْشِ) * وَأَمَّا الْجَاهُ فَمَحْمُودٌ عِنْدَ الْعُقَلاءِ عَادَةً وَبِقَدْرِ جَاهِهِ عِظَمُهُ فِي الْقُلُوبِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا والآخرة) لَكِنْ آفاتُهُ كَثِيرَةٌ فَهُوَ مُضِرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ لِعُقْبَى الآخِرَةِ: فَلِذَلِكَ ذَمَّهُ مَنْ ذمه

_ (قوله سليمان) كان أبوه داود عليه السلام يشاوره في أمور مع صغر سنه، قال أهل التاريخ: كان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة وملك وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ عشر سنة وابتدأ بناء بيت المقدس بعد ابتداء ملكه بأربع سنين يعنى ابتدأ تجديده لأن يعقوب هو الذى بناه، وبهذا - أعنى بكون يعقوب هو الذى بناه - يتبين ما في الصحيحين من حديث أبي ذر قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال (المسجد الحرام) قلت ثم أي؟ قال (المسجد الأقصى) قلت كم بينهما؟ قال (أربعون عاما) (قوله وثلاثمائة سرية) في المستدرك للحاكم في ترجمة عيسى ابن مريم أن سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كان له تسعمائة سرية (قوله أو رياء) بهمزة مضمومة وواو ساكنة وراء مكسورة ومثناة تحتية ومدة. (*)

(فصل) وأما الضرب الثالث فهو ما تختلف الحالات في التمدح

وَمَدَحَ ضِدَّهُ وَوَرَدَ فِي الشَّرْعِ مَدْحُ الْخُمُولِ وَذَمُّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رُزِقَ مِنَ الْحِشْمَةِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْقُلُوبِ وَالْعَظَمَةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِنْدَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْدَهَا وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَهُ وَيَقْصِدُونَ أَذَاهُ فِي نَفْسِهِ خُفْيَةً حَتَّى إِذَا وَاجَهَهُمْ أَعْظَمُوا أَمْرَهُ وَقَضَوْا حَاجَتَهُ. وَأَخْبَارُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ سَيَأْتِي بَعْضُهَا، وَقَدْ كَانَ يَبْهَتُ وَيَفْرَقُ لِرُؤْيَتِهِ مَنْ لم يَرَهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ قَيْلَةَ أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ أُرْعِدَتْ مِنَ الْفَرْقِ فَقَالَ (يَا مِسْكِينَةُ عَلَيْكِ السَّكِينَةُ) ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأُرْعِدَ فَقَالَ لَهُ (هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ) الْحَدِيثَ * فَأَمَّا عَظِيمُ قَدْرِهِ * بِالنُّبُوَّةِ وَشَرِيفُ مَنْزِلَتِهِ بِالرِّسَالَةِ وَإِنَافَةُ رُتْبَتِهِ بِالاصْطِفَاءِ وَالْكَرَامَةِ فِي الدُّنْيَا فَأَمْرٌ هُوَ مَبْلَغُ النِّهَايَةِ، ثُمَّ هُوَ فِي الآخِرَةِ سَيِّدُ وَلَدِ آدم. وعلى معنى هَذَا الْفَصْلِ نَظَمْنَا هَذَا الْقِسْمَ بِأَسْرِهِ. (فصل) وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ فَهُوَ مَا تَخْتَلِفُ الحَالَاتُ فِي التمدح

_ (قوله عند الجاهلية) هي ما قبل مبعثه عليه السلام، سموا بذلك لكثرة جهالاتهم، كذا قال النووي (قوله يفرق) بفتح المثناة التحتية وسكون الفاء وفتح الراء أي يفزع (قوله قيلة) بفتح القاف وسكون المثناة التحتية وهى قيلة بنت محرمة العنبرية في الشمائل للترمذي أنها رأته عليه السلام وهو قاعد القرفصاء قالت فَلَمّا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أرعدت من الفرق وفى الصحابيات اثنتان آخرتان كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قيلة: الأولى قيلة أم بنى أنمار ويقال أخت بنى أنمار والثانية قيلة الخزاعية أم سباع (قوله فأرعد) بضم الهمزة وكسر العين أي أخذته الرعدة (قوله وإنافة رتبته) الإنافة بكسر الهمزة مصدر أناف على الشئ أشرف عليه وأنافت الدراهم على المائة زادت (*)

به والتفاخر بسببه وَالتَّفْضِيلِ لِأَجْلِهِ كَكَثْرَةِ الْمَالِ فَصَاحِبُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ مُعَظَّمٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ لاعْتِقَادِهَا تَوَصُّلَهُ بِهِ إِلَى حَاجَاتِهِ وَتَمَكُّنَ أعْرَاضِهِ بِسَبَبِهِ وَإلَّا فَلَيْسَ فَضِيلَةً فِي نَفْسِهِ، فَمَتَى كَانَ الْمَالُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ وَصَاحِبُهُ مُنْفِقًا لَهُ فِي مُهَمَّاتِهِ وَمُهِمَّاتِ مَنِ اعْتَرَاهُ وَأَمَّلَهُ وَتَصْرِيفِهِ فِي مَوَاضِعِهِ مُشْتَرِيًا بِهِ الْمَعَالِيَ وَالثَّنَاءَ الْحَسَنَ وَالْمَنْزِلَةَ مِنَ الْقُلُوبِ كَانَ فَضِيلَةً فِي صَاحِبِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِذَا صَرَفَهُ فِي وُجُوهِ البِرِّ وَأَنْفَقَهُ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ وَقَصَدَ بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ كَانَ فَضِيلَةً عِنْدَ الْكُلِّ بِكُلِّ حَالٍ، وَمَتَى كَانَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ غَيْرَ مُوَجِّهِهِ وُجُوهَهُ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِهِ عَادَ كُثْرُهُ كَالْعَدَمِ وَكَانَ مَنْقَصَةً فِي صَاحِبِهِ وَلَمْ يَقَفْ بِهِ عَلَى جُدَدِ السَّلَامَةِ بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ومذمة النذالة، فإذا التَّمَدُّحُ بِالْمَالِ وَفَضِيلَتِهِ عِنْدَ مفضله ليس لِنَفْسِهِ وَإنَّمَا هُوَ لِلتَّوَصُّلِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَتَصْرِيفهِ فِي مُتَصَرَّفَاتِهِ، فَجَامِعُهِ إذَا لَمْ يَضَعْهُ مَوَاضِعَهُ ولا وجه وجوهه غير ملئ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا غَنِيٍّ بِالْمَعْنَى وَلَا مُمْتَدَحٍ

_ (قوله توصله) بفتح أوله وثانيه وتشديد الضاد المهملة المضمومة (قوله من اعتراء يقال عراء هذا الأمر واعتراه أي عشيه (قوله عاد كثره) الكثر بضم الكاف: المال الكثير يقال ماله قل ولا كثر (قوله وكان منقصة) بفتح القاف وكسرها (قوله عَلَى جُدَدِ السَّلَامَةِ) الجدد بفتح الجيم وبدالين مهملتين أولهما مفتوحة: الأرض الصلبة، وفى البيان: الجدد المستوى من الأرض (قوله في هوة) الهوة بضم الهاء وتشديد الواو المفتوحة: الوهدة العميقة (قوله غير ملئ) بالهمزة في آخره، في الصحاح يقال ملؤ الرجل صار مليا أي ثقة فهو غنى ملى بين الملاء والملاءة ممدودان (*)

عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ أَبَدًا غَيْرُ وَاصِلٍ إِلَى غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ، إذْ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ الْمُوَصِّلِ لَهَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ خَازِنَ مَالِ غَيْرِهِ وَلَا مَالَ لَهُ فَكَأنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ منه شئ، وَالْمُنْفِقُ مَلِيٌّ غَنِيٌّ بِتَحْصِيلِهِ فَوَائِدَ الْمَالِ وإن لم يبق في يده من المال شئ. فانظر سيرة نبينا صلى اللَّه عليه وسلم وخلقه في المال تَجِدْهُ قَدْ أُوتِيَ خَزَائِنَ الْأَرْضِ وَمَفَاتِيحَ الْبِلَادِ وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ وَفُتِحَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَادُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَجَمِيعُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا دابى ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَجُلِبَتْ إليْهِ مِنْ أَخْمَاسِهَا وَجِزْيَتِهَا وصدقاتها مَا لَا يُجْبَى لِلْمُلُوكِ إِلَّا بَعْضُهُ، وَهَادَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الْأَقَالِيمِ فما استأثر بشئ مِنْهُ وَلَا أَمْسَكَ مِنْهُ دِرْهَمًا بَلْ صَرَفَهُ مَصَارِفَهُ وَأَغْنَى بِهِ غَيْرَهُ وَقَوَّى بِهِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ (مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لي أُحُدًا ذَهَبًا يَبِيتُ عِندِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا دِينَارٌ أرْصُدُهُ لِدَينٍ) وَأَتَتْهُ دَنَانِيرُ مَرَّةً فَقَسَمَهَا وبقيت

_ (قوله وَجَمِيعُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) قال الأصمعى هو ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام في العرض، وقال أبو عبيدة هو ما بين حفر أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ إلى أقصى اليمن في الطول وما بين رمل سر من رأى إلى منقطع السماوة في العرض (قوله من الشأم) بهمزة ساكنة وقد تخفف وتذكر وتؤنث ويقال أيضا شآم بفتح الأول والثانى على وزن فعال والمشهور أن حده من العريش إلى الفرات طولا وقيل إلى نابلس ومن جبل طيئ من نحو القبلة إلى نحو الروم وما يسامت ذلك من البلاد. قال ابن عساكر في تاريخه دخول الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم (قوله لو أن لى أحد) بضم همزة والمهملة جبل معروف بالمدينة. (*)

مِنْهَا سِتَّةٌ فَدَفَعَهَا لِبَعْضِ نِسَائِهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ نَوْمٌ حَتَّى قَامَ وَقَسَمَهَا وَقَالَ: (الآنَ اسْتَرَحْتُ) وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَاقْتَصَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ عَلَى مَا تَدْعُوهُ ضَرُورَتُهُ إليْهِ وزهد فيما سِوَاهُ، فَكَانَ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ فَيَلْبَسُ فِي الْغَالِبِ الشَّمْلَةَ وَالْكِسَاءَ الْخَشِنَ وَالْبُرْدَ الْغَلِيظَ وَيَقْسِمُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ أَقْبِيَةَ الديباج المخوصة بِالذَّهَبِ وَيَرْفَعُ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ، إذِ الْمُبَاهَاةُ فِي الْمَلابِسِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ خِصَالِ الشَّرَفِ وَالْجلَالَةِ وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ النِّسَاءِ، وَالْمَحْمُودُ مِنْهَا نَقَاوَةُ الثَّوْبِ وَالتَّوَسُّطُ فِي جِنْسِهِ وَكَوْنُهُ لُبْسَ مِثْلِهِ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِمُرُوءَةِ جِنْسِهِ مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَغَايَةُ الْفَخْرِ فِيهِ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى الفَخْرِ بِكَثْرَةِ الْمَوْجُودِ وَوُفُورِ الْحَالِ وَكَذَلِكَ التَّبَاهِي بِجَوْدَةِ الْمَسْكَنِ وَسَعَةِ الْمَنْزِلِ وَتكْثِيرِ آلاتِهِ وَخَدَمِهِ

_ (قوله ودرعه مرهونة) الدرع بكسر الدال المهملة وسكون الراء: الزردية، مؤنثة، والجمع القليل أدرع وأدراع، فإذا كثرت فهى الدروع وتصغيرها دريع على غير قياسه لأن قياسه بالهاء، وحكى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الدرع يذكر ويؤنث، وأما درع المرأة - وهو قميصها - فمذكر والجمع أدراع، وكان له صلى الله عليه وسلم سبع أدراع: ذات الفضول سميت بذلك لطولها أرسلها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وفى الهدى لابن قيم الجوزية إنها التى رهنها صلى الله عليه وسلم وذات الوشاح وذات الحواشى والسعدية والفضة أصابها من بنى قينقاع، ويقال السعدية كانت درع داود التى لبسها لقتال جالوت البتراء والجونق (قوله المخوصة) بضم الميم فمعجمة مفتوحة فواو مشددة مفتوحة: أي المنسوجة بالذهب كخوص النخل قاله ابن الأثير (قوله نقاوة الثوب) النقاوة - بفتح النون - النظافة، وبضمها. الخيار (قوله وسعة المنزل) بفتح السين المهملة (*)

(فصل) وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة والآداب الشريفة التى اتفق جميع العقلاء على تفضيل صاحبها

وَمَرْكُوبَاتِهِ، وَمَنْ مَلَكَ الْأَرْضَ وَجُبِيَ إِلَيْهِ مَا فِيهَا وَتَرَكَ ذَلِكَ زُهْدًا وَتَنَزُّهًا فهو حَائِزٌ لِفَضِيلَةِ الْمَالِيَّةِ ومالك للفخر بهذا الْخَصْلَةِ إنْ كَانَتْ فَضِيلَةً زَائِدٌ عَلَيْهَا فِي الْفَخْرِ وَمُعْرِقٌ فِي الْمَدْحِ بِإِضْرَابِهِ عَنْهَا وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا وَبَذْلِهَا فِي مَظَانِّهَا. (فصل) وَأَمَّا الْخِصَالُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالآدَابِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي اتَّفَقَ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ صَاحِبِهَا وَتَعْظِيمِ المتصف بِالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مِنْهَا فَضْلًا عَمَّا فَوْقَهُ وَأَثْنَى الشَّرْعُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَمَرَ بِهَا وَوَعَدَ السَّعَادَةَ الدَّائِمَةَ لِلْمُتَخَلَّقِ بِهَا وَوَصَفَ بَعْضَهَا بِأنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَهُوَ الاعْتِدَالُ فِي قُوَى النَّفْسِ وَأَوْصَافِهَا وَالتَّوَسُّطُ فِيهَا دُونَ الْمَيْلِ إِلَى مُنْحَرِفِ أَطْرَافِهَا، فَجَمِيعُهَا قَدْ كَانَتْ خُلُقَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الانْتِهَاءِ فِي كَمَالِهَا وَالاعْتِدَالَ إِلَى غَايَتِهَا حَتَّى أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خلق عظيم) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها: كان خُلُقُهُ الْقُرْآنَ يَرْضَى بِرِضَاهُ وَيَسْخَطُ بِسَخَطِهِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) ، قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَعَنْ عَلِيِّ بن

_ (قوله ومعرق بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر الراء، في الصحاح أعرق الرجل صار عريقا وهو الذى له عرق في الكرم (قوله بإضرابه) بكسر الهمزة مصدر اضرب أي أعرض (قوله يرضى برضاه) أي يرضى برضاء القرآن ويسخط بسخط القرآن، يعنى أن رضاه لم يكن إلا لأوامر الله، وسخطه لم يكن إلا لنواهيه، (*)

أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ، وَكَانَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مَجْبُولًا عَلَيْهَا فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ وَأوَّلِ فِطْرَتِهِ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ بِاكْتِسَابٍ وَلَا رِيَاضَةٍ إِلَّا بجود إلهى وَخُصُوصِيَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ، وَهَكَذَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ مُنْذُ صِبَاهُمْ إِلَى مَبْعَثِهِمْ حَقَّقَ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عِيسَى وَمُوسَى وَيَحْيَى وسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بَلْ غُرِزَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ فِي الْجِبِلَّةِ وَأُودِعُوا الْعِلْمَ وَالحِكْمَةَ فِي الْفِطْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صبيا) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَعْطَى اللَّهُ يَحْيَى الْعِلْمَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ صِبَاهُ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ ابْنُ سَنتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ فَقَالَ لَهُ الصِّبْيَانُ لِمَ لَا تَلْعَبُ؟ فَقَالَ (ألِلَّعِب خُلِقْتُ) ؟ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) صَدَّقَ يَحْيَى بِعِيسَى وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ سِنِينَ فَشَهِدَ لَهُ أَنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرَوْحُهُ، وَقِيلَ صَدَّقَهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَكَانَتْ أُمُّ يَحْيَى تَقُولُ لِمَرْيَمَ إِنِّي أَجِدُ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ تَحِيَّةً لَهُ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلَامِ عِيسَى لأُمِّهِ عِنْدَ وِلَادَتِهَا إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ لَهَا (لَا تَحْزَنِي) عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (مِنْ تَحِتَهَا) وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُنَادِي عِيسَى وَنَصَّ عَلَى كَلَامِهِ فِي مَهْدِهِ فَقَالَ (إِنِّي عبد الله

_ (قوله في الفطرة) أي الخلقة (قوله عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مِنْ تَحِتَهَا) بفتح الميم والتاء قال البغوي: قرأ أبو جعفر ونافع وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم والتاء، والمعنى نادى جبرئيل مريم من تحتها بأن كانت مريم على أكمة وكان جبريل تحت الأكمة، وقرأ الاخرون بفتح الميم والتاء والمراد جبريل عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ والسدى وقتادة والضحاك، وعند مجاهد والحسن: المراد عيسى لما خرج من بطن أمه (*)

آتَانِيَ الْكِتَابَ وجعلني نبيا) وقال تعالى (ففهمناها سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حكما وعلما) وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ يَلْعَبُ فِي قَضِيَّةِ الْمَرْجُومَةِ وَفِي قِصَّةِ الصَّبِيِّ مَا اقْتَدَى بِهِ دَاوُدُ أَبُوهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ إِنَّ عُمُرَهُ حِينَ أُوتِيَ الْمُلْكَ اثْنَا عَشَرَ عَامًا، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَأَخْذَهُ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ طِفْلٌ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ هَدَيْنَاهُ صَغِيرًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: اصْطَفَاهُ قَبْلَ إِبْدَاءِ خَلْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا وُلِدِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَلَكًا يَأمُرُهُ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَعْرِفَهُ بِقَلْبِهِ وَيَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ وَلَمْ يَقُلْ أَفْعَلُ

_ (قوله في قصة الْمَرْجُومَةِ وَفِي قِصَّةِ الصبى) أما قصة المرجومة فروى أن رجلا راود امرأة في زمن داود عليه السلام فامتنع فأقام أربعة شهود زور، وشهدوا بزناها، فهم داود برجمها، فبلغ ذلك سليمان فدعا الشهود متفرقين فاختلفوا، فبلغ ذلك داود فدعاهم متفرقين فاختلفوا، فدرأ الحد عنها. وأما قصة الصبى فهى ما روى البخاري وغيره أن امرأتين كبرى وصغرى لكل منهما ابن ذهب الذئب بابن إحداهما فاختصما في الابن الآخر إلى داود فقضى به للكبرى، فلما مر على سليمان فقال شقه بينهما فقالت الصغرى: هو ابنها فقضى به للصغرى، قال النووي: يحتمل أن داود قضى به للكبرى لشبه بينهما أو لأن في شريعته الترجيح بالكبرى أو باليد وكان في يدها، وأما سليمان فتوصل بملاطفته إلى باطل القضية، ولعله استقرر الكبرى فأقرت بعد ذلك به للصغرى، فحكم به لها بإقرار صاحبتها لا بمجرد الشفقة، فإن قيل المجتهد لا ينقض حكم المجتهد، فالجواب أن سليمان فعل ذلك توسلا إلى إظهار الحق فلما أقرت به الكبرى عمل بإقرارها، أو ليل في شرعهم ما يجوز للمجتهد نقض حكم المجتهد (قوله مع فرعون) هو عدو الله الوليد بن مصعب بن الريان، كان من القبط العماليق، وعمر أكثر من أربعمائة سنة (*)

فَذَلِكَ رُشْدُهُ، وَقِيلَ إِنَّ إِلْقَاءَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ وَمِحْنَتَهُ كَانَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَإِنَّ ابْتِلَاءَ إِسْحَاقَ بِالذَّبْحِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَإِنَّ اسْتِدْلَالَ إِبْرَاهِيمَ بِالْكوْكَبِ والقمر

_ (قوله وَإِنَّ ابْتِلَاءَ إِسْحَاقَ بالذبح) في أنوار التنزيل للبيضاوي: والأظهر بيا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك (اسمعيل) لأنه الذى ذهب به أثر الهجرة أي هجرته مع لوط وسارة إلى الشام، وقيل إلى حران: وهى بتشديد الراء ونون في الآخر، وللنسبة إليها حرنى بنون بعد الراء الساكنة على غير قياس، كما قالوا منائى في النسبة إلى منان والقياس ما نوى وجرانوى والعامة عليها، وهى في الإقليم الرابع، مدينة عظيمة بين الموصل الشام والروم بينها وبين الرها يوم وبين الرقة يومان، قال المفسرون في قوله تعالى (إنى مهاجر إلى ربى) إن التى هاجر إلهيا حران. وفى قوله تعالى (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها للعالمين) هي حران، فتحت في أيام عمر بن الخطاب على يد عياض بن غنم صلحا مثل ما صالحه عليه أهل الرها، ولأن البشارة بإسحاق معطوفة على البشارة بهذا الغلام، ولقوله عليه السلام (أنا ابن الذبيحين) فأحدهما جده إسمعيل، والآخر أبوه عبد الله فداه أبوه بمائة من الإبل ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة، احترقا معها في أيام ابن الزبير، ولم يكن اسحاق ثمة، ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا. وفى تفسير القرطبى وهو قول أبى هريرة وأبى الطفيل عامر بن واثلة، وروى عن ابن عمر وابن عباس وسعيد ابن المسيب والشعبى ويوسف بن مهران ومجاهد، وقيل المخاطب به إسحاق وهو قول الأكثرين، وممن قال بذلك: العباس وعمر وجابر في أربعة آخرين من اصحابة وجماعة من التابعين وهو قول أهل الكتابين، قال سعد بن جبير سار بن مسية شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح سار به مسيرة شهر في غداة واحدة. وفى الهدى لابن قيم الجوزية: واسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق فمردود بأكثر من عشرين وجها (*)

وَالشَّمْسِ كَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يُوسُفَ وَهُوَ صَبِيٌّ عند ما هَمَّ إِخْوَتُهُ بِإِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ يَقُولُ اللَّهُ تعالى (وأوحينا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) الآيَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ. وَقَدْ حَكَى أَهْلُ السِّيَرِ أكن آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدِ حِينَ وُلِدِ بَاسِطًا يَدَيْهِ إِلَى الْأَرْضِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمَّا نَشَأْتُ بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَوْثَانُ وَبُغِّضَ إِلَيَّ الشِّعْرُ وَلَمْ أَهِمُّ بشئ مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِليَّةُ تَفْعَلُهُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ فَعَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا ثُمَّ لَمْ أَعُدْ) ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الْأَمْرُ لَهُمْ وَتَتَرَادَفُ نَفَحَاتُ الله تعالى علهيم وَتُشرِقُ أنْوَارُ الْمَعَارِفِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الْغَايَةِ ويَبْلُغُوا بِاصْطَفَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بالنُّبُوَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْخِصَالِ الشَّرِيفَةِ النِّهَايَةَ دُونَ مُمَارَسَةٍ وَلَا رِيَاضَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَمَّا بَلَغَ أشده واستوى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وقد

_ (قوله إلى يوسف) قال الثعلبي: كان يُوسُف عَلَيْه السَّلَام أبيض اللون حسن الوجه جعد الشعر ضخم العين مستوى الخلق غليظ الساعدين والعضدين خميص البطن أقنى الأنف بخده الأيمن خال أسود وبين عينيه، توفى وَهُوَ ابن مِائَةِ وعشرين سنة ودفن بمصر بالنيل ثم حمله عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الشام حين خرجت بنو إسرائيل من مصر (قوله الأوثان) بالمثلثة جمع وثن وهو الجثة من أجزاء الأرض أو الخشب تعبد، وفى حديث عدى بن حاتم: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفى عنقي صليب من ذهب فقال (ألق عنك هذا الوثن) وفى الصحاح الوثن: الصنم. والصنم، واحد الأصنام ويقال إنه معرب (ممن) وهو الوثن (قوله أهم) بفتح الهمزة وضم الهاء (قوله ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الْأَمْرُ) عطف على قوله قبل هذا (وَهَكَذَا لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ) (*)

نَجِدُ غَيْرَهُمْ يُطْبَعُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ دُونَ جَمِيعِهَا وَيُولَدُ عَلَيْهَا فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ تَمَامِهَا عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نُشَاهِدُ مِنْ خَلْقِهِ بَعْضُ الصِّبْيَانِ عَلَى حُسْنِ السَّمْتِ أَوِ الشَّهَامَةِ أَوْ صِدْقِ اللِّسَانِ أَوِ السَّمَاحَةِ وَكَمَا نَجِدُ بَعْضُهُمْ عَلَى ضِدِّهَا، فَبِالاكْتِسَابِ يَكْمُلُ نَاقِصُهَا وَبِالرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ يُسْتَجْلَبُ مَعْدُومُهَا وَيَعْتدِلُ مُنْحرِفُهَا، وَبِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهَا، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، وَلِهَذَا مَا قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا: هَلْ هَذَا الْخُلُقُ جِبِلَّةٌ أَوْ مُكْتَسَبَةٌ؟ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ جِبِلَّةٌ وَغَرِيزَةٌ فِي الْعَبْدِ، وَحَكَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَبِهِ قَالَ هُوَ، وَالصَّحِيحُ مَا أصَّلْنَاهُ. وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كُلُّ الْخِلالِ يُطْبَعُ عَلَيْهَا المُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيانَةَ وَالْكَذِبَ) وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ: والْجُرْأَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ يَضَعُهُمَا اللَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ. وَهَذِهِ الْأَخْلَاقُ الْمَحْمُودَةُ وَالْخِصَالُ الْجَمِيلَةُ الشَّرِيفَةُ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّنَا نَذْكُرُ أُصُولَهَا وَنُشِيرُ إِلَى جَمِيعِهَا وَنُحَقِّقُ وَصْفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

_ (قوله عَلَى حُسْنِ السَّمْتِ) أي الطريقة وهيئة أهل الخير (قوله والشهامة) بفتح الشين المعجمة مصدر شهم الرجل بضم الهاء فهو شهم: أي جلد ذكى الفؤاد (قوله وَلِهَذَا مَا قَدِ اختلف) هكذا وقع في كثير من النسخ بزيادة (ما) للتأكيد (قوله والجرأة) هي الشجاعة على وزن الجرعة ويقال الجرة بفتح الراء وحذف الهمزة (*)

(فصل) أما أصل فروعها وعنصر ينابيعها ونقطة دائرتها فالعقل

(فصل) أَمَّا أَصْلُ فُرُوعِهَا وَعُنْصُرُ يَنَابِيعَهَا وَنُقْطَةُ دَائِرَتِهَا فَالْعَقْلُ الَّذِي مِنْهُ يَنْبِعثُ الْعِلْمُ وَالمَعْرِفَةُ وَيَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا ثُقُوبُ الرَّأْيِ وَجَوْدَةُ الْفِطْنَةِ وَالْإِصَابَةُ وَصِدْقُ الظَّنِّ وَالنَّظَرُ لِلْعَوَاقِبِ وَمَصَالِحِ النَّفْسِ وَمُجَاهَدَةُ الشَّهْوَةِ وَحُسْنُ السَّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَاقْتِنَاءُ الْفَضَائِلِ وَتجَنُّبُ الرَّذَائِلِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى مَكَانِهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُلُوغِهِ مِنْهُ وَمِنَ الْعِلِمِ الْغَايَةَ الْقُصْوَى الَّتِي لَمْ يَبْلُغْهَا بَشَرٌ سِوَاهُ وَإذْ جَلالَةُ مَحَلِّهِ مِنْ ذَلِكَ ومِمَّا تَفَرَّعَ مِنْهُ مُتَحَقِّقَةٌ عِنْدَ مَنْ تَتَبَّعَ مَجَارِي أَحْوَالِهِ وَاطِّرَادَ سِيَرِهِ وَطَالَعَ جَوَامِعَ كَلَامِهِ وَحُسْنَ شَمَائِلِهِ وَبَدَائِعَ سِيَرِهِ وَحُكْمَ حَدِيثِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَحُكْمَ الْحُكَمَاءِ وَسِيَرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَأَيَّامِهَا وَضَرْبَ الْأَمْثَالِ وَسِيَاسَاتِ الْأنَامِ وَتَقْرِيرَ الشَّرَائِعِ وَتَأْصِيلَ الْآدَابِ النَّفِيسَةِ وَالشِّيَمَ الْحَمِيدَةَ إِلَى فُنُونِ الْعُلُومِ الَّتِي اتَّخَذَ أَهْلُهَا كَلامَهُ صَلَّى الله عليه وسلم فِيهَا قُدْوَةً وَإِشَارَاتِهِ حُجَّةً كَالْعِبَارَةِ وَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ والْفَرَائِضِ وَالنَّسَبِ وغَيْرِ ذَلِكَ مما سَنُبَيِّنُهُ فِي مُعْجِزَاتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ تَعْلِيمٍ وَلَا مُدَارَسَةٍ وَلَا مُطَالَعَةِ كُتُبِ مَنْ تَقَدَّمَ وَلَا الْجُلُوسِ إِلَى عُلَمَائِهِمْ بَلْ نبى أمي

_ (قوله ونقطة دائرتها) أي مركز دائرتها وهى النقطة التى في وسط الدائرة يقوم فيها إحدى عشر قوائم البركار وجميع الخطوط الخارجة منها إلى الدائرة متساوية (قوله وحكم) بكسر الحاء المهملة (قوله كالعبارة) يقال عبرت الرؤيا أعبرها عبارة (قوله والطب) هو مثلث الطاء (*)

(فصل) وأما الحلم والاحتمال والعفو مع المقدرة والصبر على ما يكره

لم يعرف بشئ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ وَأَبَانَ أَمْرَهُ وَعَلَّمَهُ وَأَقْرَأَهُ، يُعْلَمُ ذَلِكَ بِالْمُطَالَعَةِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَالِهِ ضَرُورَةً وَبِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ نَظَرًا فَلا نُطَوِّلُ بِسَرْدِ الْأَقَاصِيصِ وَآحَادِ الْقَضَايَا، إِذْ مَجْمُوعُهَا مَا لَا يَأخُذُهُ حَصْرٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ حِفْظٌ جَامِعٌ، وَبِحَسَبِ عَقْلِهِ كَانَتْ مَعَارِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَائِرِ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ مَا يَكُونُ وَمَا كَانَ وَعَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ مَلَكُوتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) حَارَتِ الْعُقُولُ فِي تَقْدِيرِ فَضْلِهِ عَلَيْهِ وَخَرِسَتِ الْأَلْسُنُ دُونَ وَصْفٍ يُحِيطُ بِذَلِكَ أَوْ ينْتَهِي إليْهِ (فصل) وَأَمَّا الْحِلْمُ وَالاحْتِمَالُ وَالْعَفْوُ مَعَ المَقْدِرَةِ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكرَهُ وبَيْنَ هَذِهِ الْأَلْقَابِ فَرْقٌ فَإِنَّ الْحِلْمَ حَالَةُ تَوَقُّرٍ وَثَبَاتٍ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَاتِ، والاحْتِمَالَ حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الآلامِ وَالْمُؤْذِيَاتِ وَمِثْلُهَا الصَّبْرُ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَعَالَى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بالعرف)

_ (قوله خرست) بكسر الراء (قوله مع المقدرة) بضم الدال وفتحها أي القدرة (قوله جبريل) قيل جبريل وميكائيل اسمان أضيفا إلى إيل أو إلى إل، وإيل وإل اسمان لله تعالى، وجبروميك معناه بالسريانية عبد، ورده أبو على الفارسى بأن إيل وإل لا يعرفان من أسماء الله تعالى وبأنه لو كان كذلك لم ينصرف آخر الاسم في وجوه العربية ولكان آخره مجرورا أبدا كعبد الله، قال النووي: وهذا الذى قاله هو الصواب (*)

الآيَةَ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لم نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَأْوِيلِهَا فَقَالَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ ثُمَّ ذَهَبَ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَقَالَ لَهُ (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أصابك) الآية وقال تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْم مِن الرسل) وَقَالَ (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) الآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عزم الأمور) وَلَا خَفَاءَ بِمَا يُؤْثَرُ مِنْ حِلْمِهِ وَاحْتِمَالِهِ، وَأنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إِلَّا صَبْرًا وَعَلَى إِسْرَافِ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا * حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التَّغْلِبِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَتَّابٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ وَاقِدٍ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت

_ (قوله أولو العزم) أي الجد والثبات وفى أنوار التنزيل في قوله تَعَالَى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرسل) من للتبيين وقيل للتبعيض، وأولو العزم أصحاب الشرائع اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها وصبرا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاعنين فيها، ومشاهيرهم نوح وابراهيم وموسى وعيسى، وقيل الصابرون على بلاء الله كنوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وابراهيم صبر على النار وذبح ولده، والذبيح على الذبح، ويعقوب على فقد الولد والبصر، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى قال له قومه (إنا لمدركون قال كلا إن معى ربى سيهدين) وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة انتهى (*)

(مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسَهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أصْحَابِهِ شَقًّا شَدِيدًا وَقَالُوا لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمُ فَقَالَ (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بعض

_ (قوله ما خير بَيْنَ أَمْرَيْنَ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا) قَالَ النووي قال القاضى: يحتمل أن يكون تخييره من الله فيخيره فيما فيه عقوبتان أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة والاقتصاد فكان يختار الأيسر في هذا كله، قال وأما قولها: ما لم يكن إثما، فيتصور إذا خيره الكفار أو المنافقون، فأما إذا كان التخيير من الله أو من المسلمين فيكون الاستثناء منقطعا (قوله لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وشج وجهه) الرباعية السن التى بين الثنية والناب وهى بفتح الراء وتخفيف الموحدة وكسر العين المهملة وتخفيف المثناة التحتية، وفى سيرة ابن هشام: أن عُتْبَةَ بن أَبِي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم أحد فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في وجهه وأن ابن قميئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته، وقد اختلف في إسلام عتبة، والصحيح أنه لم يسلم، قال السهيلي ولم يولد من نسله ولد، فبلغ الحلم إلا وهو أبخر واهم، يعرف ذلك في عقبه، وأما عبد الله بن شهاب فأسلم، وهو جد شيخ مالك محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، وقد قيل لابن شهاب شيخ مالك: أكان جدك عبد الله بن شهاب ممن شهد بدرا؟ فقال نعم، ولكن من ذلك الجانب يعنى مع الكفار، وأما ابن قميئة واسمه عبد الله فنطحه تيس فتردى من شاهق، وفى مستدرك الحاكم: أنه لما فعل عتبة ما فعل جاء حاطب بن = = أبى بلتعة فقال يا رسول الله من فعل هذا بك؟ فأشار إلى عتبة، فتبعه حاطب حتى قتله وجاء بفرسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (*)

كَلَامِهِ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنا مِثْلَهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا فَلَقَدْ وطئ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وكسرت رباعيتك فأتبى أَنْ تَقُولَ إِلَّا خَيْرًا فَقُلْتَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: انْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ وَغَايَةِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ، إِذْ لَمْ يَقْتَصِرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ ثُمَّ أشْفَقَ عَلَيْهِمُ وَرَحِمَهُمْ وَدَعَا وَشَفَعَ لَهُمْ فَقَالَ اغْفِرْ أَوِ اهْدِ، ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ لِقَومِي، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ فَقَالَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، ولما قَالَ لَهُ الرَّجُلُ اعْدِلْ فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ: لَمْ يَزِدْهُ فِي جَوَابِهِ أن بَيَّنَ لَهُ مَا جَهِلَهُ وَوَعَظَ نَفْسَهُ وَذَكَّرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ فَقَالَ وَيْحَكَ (فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ) وَنَهَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَتْلَهُ، وَلَمَّا تصدى

_ (قوله بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أي بأبى أنت مفدى وبأمى أي بأبى فديتك أنت وبأمى (قوله ولما قَالَ لَهُ الرجل اعدل) هو ذو الخويصرة التميمي قتل في الخوارج يوم النهروان ويقال حرقوص، كذا في تجريد الذهبي (قوله خبت وخسرت) بضم التاء الفوقية فيهما، كذا عن المزى حال القراءة عليه لأنه معلق بعدم العدل الذى هو معصوم مِنْه صَلَّى الله عليه وسلم وليلائم قول القاضى وعظ نفسه وذكرها (قوله وَنَهَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَتْلَهُ) هو خالد بن الوليد، وقيل عمر (قوله وَلَمَّا تَصَدَّى لَهُ غورث) هو بغين معجمة = = مفتوحة وقد تضم فواو ساكنة فراء مفتوحة فثاء مثلثة: أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (*)

لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ لِيَفْتِكَ بِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَبِذٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَحْدَهُ قَائِلًا وَالنَّاسُ قَائِلُونَ فِي غَزَاةٍ فَلَمْ يَنْتَبِه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: اللَّهُ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ: فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، فَتَرَكَهُ وَعَفَا عَنْهُ، فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدَ خَيْرِ النَّاسِ * وَمِنْ عَظِيمِ خَبَرِهِ فِي الْعَفْوِ عَفْوُهُ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ فِي الشَّاةِ بَعْدَ اعْتِرَافِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ إِذْ سَحَرَهُ وَقَدْ أُعْلِمَ بِهِ وَأُوحِيَ إليه لشرح أَمْرِهِ، وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ مُعَاقَبَتِهِ

_ = مفتوحة وقد تضم فواو ساكنة مفتوحة فثاء مثلثة: أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك (قوله ليفتك به) الفتك أن يأتي الرجل إلى آخر ليقتله وهو غافل (قوله منتبذ) بضم الميم وسكون النون وفتح المثناة الفوقية وكسر الباء الموحدة بعدها ذال معجمة أي جالس في ناحية (قوله قائلا) من القيلولة (قوله في غزاة ذات الرقاع (قوله صلتا) بفتح الصاد المهملة وضمها وفى آخره مثناة فوقية أي مسلولا (قوله عَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سمته) في مغازى مُوسَى بن عُقْبَة والدلائل للبيهقي أن اسمها زينب بنت الحارث بن سلام، وقال ابن قيم الجوزية هي امرأة سلام بن مشكم، واختلف فيها فروى ابن اسحاق أنه صفح عنها، وروى أبو داود أنه قتلها وصلبها، وجمع بين هاتين الروايتين بأنه صفح عنها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور من الأكلة التى أكلها مع النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة قتلها به قصاصا، وذلك أن بشرا لم يزل معتلا من تلك الأكلة حتى مات منها بعد حول، ويقال إنه مات في الحال. وفى جامع معمر عن الأزهري أنه قال أسلمت فتركها، قال معمر والناس يقولون قتلها وأنها لم تسلم (قوله لبيد بن الأعصم) جاء التصريح بأنه يهودى في الصحيحين وقد هلك = = على يهوديته (*)

وَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَاخِذْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَشْبَاهَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِعَظِيمِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي جِهَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا بَلْ قَالَ لِمَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ (لَا، لِئَلَّا يُتَحَدَّثُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَجَبَذَهُ أَعْرَابِيٌّ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى أثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مَالِكَ وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ (الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَأَنَا عَبْدُهُ - ثُمَّ قَالَ وَيُقَادُ مِنْكَ يَا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْتَ بِي) قَالَ لَا، قَالَ (لِمَ؟) قَالَ لأَنَّكَ لَا نكافي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْمَلَ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرٌ وعَلَى الآخَرِ تَمْرٌ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةِ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تَكُنْ حُرْمَةً مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَمَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلًَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً، وجئ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ فَقِيلَ هَذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَكَ فَقَالَ لَهُ النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَنْ تُرَاعَ لَنْ تُرَاعَ وَلَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمْ تُسَلَّطْ عَلَيَّ) وجاءه

_ (قوله عبد الله بن أبى) هو عبد الله بن أبى ابن سلول بتنوين أبى وكتابة ألف بعدها لأن سلول أم عبد الله وزوجة أبى فلو لم يفعل ذلك لنوهم إن سلول أم أبى وليس كذلك (قوله وَأَشْبَاهَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ) قال ابن عباس كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء مائة وسبعين (قوله لا يكافئ) بهمزة في آخره (قوله لن تراع) أي لا خوف عليك (قوله وَجَاءَهُ زَيْدُ بْنُ سعنة هو بسين (*)

زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَتَقاضَاهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَجَبَذَ ثَوْبَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ وأخذ بمجامع نيابه وَأَغْلَظَ لَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مُطْلٌ فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ وَشدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبسم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنا وَهُوَ كُنَّا إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ أَحْوَجُ يَا عُمَرُ: تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْقَضَاءِ وَتَأْمُرُهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي، ثُمَّ قَالَ لَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثٌ، وَأَمَرَ عُمَرَ يَقْضِيهِ مَالَهُ وَيَزِيدُهُ عِشْرِينَ صَاعًا لِمَا رَوَّعَهُ فَكَانَ سَبَبَ إِسْلَامِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النبوة شئ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبِرْهُمَا: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلَّا حِلْمًا، فَأَخْبَرْتُهُ بِهَذَا فَوَجَدْتُهُ كَمَا وُصِفَ، وَالْحَدِيثُ عَنْ حِلْمِهِ صَلَّى الله عليه وسلم وصبر وَعَفْوِهِ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ أكثر من أن تأتى عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ مَا ذَكرْنَاهُ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ وَالْمُصَنَّفَاتِ الثَّابِتَةِ إِلَى مَا بَلَغَ مُتَوَاتِرًا مَبْلَغَ الْيَقِينِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ قُرَيْشٍ وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ الصَّعْبَةِ مَعَهُمْ إِلَى أَنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ

_ مفتوحة مهملة وعين ساكنة مهملة ونون مفتوحة: قال ابن ماكولا في إكماله: هو حبر يهودى له ذكر في حديث لعبد الله بن سلام وقال النووي في تهذيبه: هو من أحبار اليهود الذى أسلم وحسن إسلامه وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفى فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مقبلا إلى المدينة، وأما أسيد بن سعية: أسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة، وسعية والده بفتح السين وسكون العين المهملتين بعدهما مثناة تحتية، قال الذهبي في التجريد زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ بالنون أصح وأسيد بن سعية بالياء أصح (قوله مطل) بضم الميم والطاء المهملة جمع مطول على وزن فعول بمعنى فاعل كغفور (*)

وَهُمْ لَا يَشُكَّونَ فِي اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ وَإِبَادَةِ خَضْرَائِهِمْ فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ عنا وَصَفَحَ، وَقَالَ (مَا تَقُولُونَ إِنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفَ: لا تثريب عليكم الآيَةَ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ) وَقَالَ أَنَسٌ هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ التَّنْعِيمِ صَلَاةَ الصُّبْحِ لِيَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخِذُوا فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) الآيَةَ وَقَالَ لأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ سِيقَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ جلب إليه الْأَحْزَابَ وَقَتَلَ عَمَّهُ وَأَصْحَابَهُ وَمَثَّلَ بِهِمْ فَعَفَا عنه ولا طفه فِي الْقَوْلِ: (وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَئْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحْلَمَكَ وَأَوْصَلَكَ وَأَكَرَمَكَ) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدَ النَّاسِ غَضَبًا وَأَسْرَعَهُمْ رضى، صلى الله عليه وسلم.

_ وغفر من المطل وهى اللى بالدين (قوله شأفتهم) بشين معجمة وهمزة ساكنة وفاء مخففة وتاء فوقية، في الصحاح: الشأفة قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب يقال في المثل استأصل الله شأفته أي أذهبه الله كما أذهب تلك القرحة بالكى (قوله خضرائهم) بفتح الخاء وإسكان الضاد المعجمتين بعدها راء فهمزة ممدودة أي جماعتهم وأشخاصهم (قوله تثريب) قيل معناه لا تغيير وقيل لا تأنيب وقيل لا تبغيض وقيل لا أنا في قبول عذركم (قوله الطلقاء) بضم الطاء المهملة وفتح اللام جمع طليق وهو الأسير إذا أطلق وخلى سبيله (قوله من التنعيم) هو من مكة على ثلاثة أميال من جهة المدينة سمى بذلك لأن عن يمينه جبلا يقال له نعيم وعن شماله جبلا يقال له ناعم وبه واد يقال له نعمان (قوله الأحزاب) هم أهل الخندق وكانوا ثلاثة عساكر وعدتهم عشرة آلاف، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وكان في شوال سنة خمس (قوله ومثل بهم) (*)

(فصل) وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة

(فصل) وَأَمَّا الْجُودُ وَالْكَرَمُ وَالسَّخَاءُ وَالسَّمَاحَةُ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهَا بِفُرُوقٍ فَجَعَلُوا الْكَرَمَ الإِنْفَاقَ بِطِيبِ النَّفْسِ فِيمَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ وَنَفْعُهُ وَسَمَّوْهُ أَيْضًا جُرْأَةً وَهُوَ ضِدُّ النَّذَالَةِ، والسماحة التجا في عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْءُ عِنْدَ غَيْرِهِ بِطيبِ نَفْسٍ وَهُوَ ضِدُّ الشَّكَاسَةِ، وَالسَّخَاءُ سُهُولَةُ الْإِنْفَاقِ وَتَجنُّبُ اكْتِسَابِ مالا يُحْمَدُ وَهُوَ الْجُودُ وَهُوَ ضِدُّ التَّقْتِيرِ، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَازَى فِي هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمةِ وَلَا يُبَارَى بِهَذَا، وَصَفَهُ كُلُّ مَنْ عَرَفَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ السَّرْخَسِيُّ وأبو إسحاق البلخى قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن شئ فَقَالَ لا. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وسهل ابن سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ ما كان في شهر رمضان

_ يقال مثل يالعبد يمثل كقتل يقتل إذا قطع أطرافه أو أنفه أو أذنه أو مذاكيره، وأما مثل بالتشديد فللمبالغة (قوله خطره) بالخاء المعجمة والطاء أي قدره (قوله ضد الشكاسة) هو بفتح الشين المعجمة وتخفيف الكاف وبعدها ألف وسين مهملة، يقال رجل شكس بكسر أوله وسكون ثانيه أي صعب الخلق وقوم شكس بضمهما مثل رجل صدق وقوم صدق (قوله لا يوازى) قال ابن الأثير: الموازاة المقابلة والمواجهة: وفى الصحاح آزيته أي حاذيته ولا تقل وازيته (قوله ابن كثير) بفتح (*)

وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى فَاقَةً، وَأَعْطَى غَيْرَ وَاحِدٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى صَفْوَانَ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً، وَهَذِهِ كَانَتْ خُلُقَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِنَّكَ تَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ. وَرَدَّ عَلَى هَوَازِنَ سباياها

_ الكاف وكسر المثلثة بعدها مثناة تحتية (قوله أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ) هو صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ (قوله وَقَدْ قَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ) بن أسد بن عَبد الْعُزَّى قال الحافظ زين الدين العراقى: ينبغى أن يقال أول من أسلم من الرجال ورقة، لما في الصحيحين من حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قصة بدء الوحى، فإن فيه (أن الوحى تتابع في حياة ورقة وإنه آمن به) وقد ذكر ابن منده: ورقة في الصحابة واختلف في إسلامه انتهى، ونقل الذهبي كلام ابن منده ثم قال: والأظهر إنَّه مات قَبْل الرسالة وبعد نبوة (قوله نحمل الكل) الذى في الصحيحين أن خديجة هي التى قالت ذلك، والكل بفتح الكاف وتشديد اللام: الشئ الثقيل، والمراد هنا نحو اليتيم والضعيف ومن لا قدرة له (قوله وتكسب المعدوم) بفتح أوله قال ابن قرقور: هي أكثر الروايات وأصحها ومعناه تكسبه لنفسه وقيل تكسبه غيرك وتعطيه إياه يقال كسبت مالا وكسبته غيرى، لازم ومتعد، وروى بضم أوله ومعناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه فحذف أحد المفعولين، وقيل تعطى الناس مالا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق وقيل المعدوم الرجل العاجز سماه معدوما لكونه كالميت، وفى النهاية يقال كسبت مالا وكسبت زيدا وأكسبت زيدا مالا أي أعنته على كسبه أو جعلته يكسبه، فإن كان من الأول فتريد خديجة: إنك تصل إلى كل معدوم وتناله فلا يتعذر لبعده عليك وإن جعلته متعديا إلى اثنين فتريد أنك تعطى الناس الشئ المعدوم عندهم وتوصله إليهم وهذا أولى القولين لأنه أشبه بما قبله في باب التفضل والإنعام إذ لا إنعام في أن يكسب هو لنفسه ما كان معدوما عنده وإنما الإنعام أن يوليه غيره وباب الحظ والسعادة في الاكتساب غير باب التفضل والإنعام اه. (قوله ورد على هوازن سباياها) وكانت ستة آلاف من الآدميين، وأما الإبل فكانت نحو أربعة وعشرين ألفا، والغنم كانت فوق أربعين ألفا، والورق فأربعة آلاف أوقية من الفضة (*)

وَكَانَتْ سِتَّةَ آلافٍ وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ مِنَ الذَّهَبِ مَا لَمْ يُطِقْ حَمْلَهُ وَحُمِلَ إليه تِسعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوُضِعَتْ عَلَى حَصِيرٍ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَسَمَهَا فَمَا رَدَّ سَائِلًا حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَا عندي شئ ولكن ابتع عَلَيَّ فَإِذَا جَاءَنَا شئ قَضَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مالا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ وَلَا تخْشَ مِنْ ذِي العرش إِقْلالًا فَتَبَسَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِفَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ بِهَذَا أُمِرْتُ. ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَذُكِرَ عَنْ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَ أتيت النبي صلى اللَّه عَلَيْه

_ (قَوْله ولكن ابتع) هو بموحدة ثم تاء فوقية (قوله وَذُكِرَ عَنْ مُعَوِّذِ) قال المزى: هذا الحديث روى عن الربيع بنت معوذ بن عفراء، وأما معوذ فإنه استشهد يوم بدر، ولم يعرف له رواية. وقوله وذكر: يعنى الترمذي ذكر في كتاب الشمائل عن الربيع بنت معوذ، قالت: بعثنى معاذ بن عفراء بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ وعليه أجر من قثاء زغب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب القثاء فأتيته بها وعنده خلية قدمت إليه من البحرين فملأ يدى منها فأعطانيه. وفى رواية قالت: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ وعليه أجر زغب فأعطاني ملء كفه حليا أو قالت ذهبا، والربيع بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية المكسورة ومعوذ بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الواو المشددة. وحكى ابن قرقول فتحها وذال معجمة وعفراء بفتح العين المهملة وسكون الفاء، والمد، والقناع بكسر القاف وتخفيف النون بعدها ألف وعين مهملة، وأجر بضم الهمزة وسكون الجيم بعدها راء جمع جرو، وفى الصحاح والجرو والجروة الصغير من القثاء، وفى الحديث أتى النبي صلى الله [8 - 1] (*)

(فصل) وأما الشجاعة والنجدة

وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ يُرِيدُ طَبَقًا وَأُجْرٍ زُغْبٍ يُرِيدُ قثاء فأعطاني ملء كَفِّهِ حُلِيًّا وَذَهَبًا، قَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ. وَالْخَبَرُ بِجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كرمه كَثِيرٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَاسْتَلَفَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم نِصْفَ وَسْقٍ فَجَاءَ الرَّجُلُ يَتَقَاضَاهُ فَأَعْطاهُ وَسْقًا وَقَالَ (نِصْفُهُ قَضَاءٌ وَنِصْفُهُ نَائِلٌ) . (فصل) وَأَمَّا الشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ: فَالشَّجَاعَةُ فَضِيلَةُ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَانْقِيَادِهَا لِلْعَقْلِ، وَالنَّجْدَةُ ثِقَةُ النَّفْسِ عِنْدَ اسْتِرْسَالِهَا إِلَى الْمَوْتِ حَيْثُ يُحْمَدُ فِعْلُهَا دُونَ خَوْفٍ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا بِالْمَكَانِ الَّذِي لَا يُجْهَلُ قَدْ حَضَرَ الْمَوَاقِفَ الصَّعْبَةَ وَفَرَّ الْكُمَاةُ وَالْأَبْطَالُ عَنْهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَبْرَحُ وَمُقْبِلٌ لَا يُدْبِرُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ، وما شُجَاعٌ إِلَّا وَقَدْ أُحْصِيَتْ لَهُ فَرَّةٌ وَحُفِظَتْ عَنْهُ جَوْلةٌ سِوَاهُ. حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ

_ عليه وسلم بأجر زغب، وكذلك جرو الحنظل والرمان انتهى وقال ابن قرقول أجرا جمع أجر وأجر جمع جرو. والزغب بزاى مضمومة وغين معجمة ساكنة وباء موحدة التى عليها زغبها أي شئ يشبه الزغب وهو شعيرات صفر على ريش الفرخ، والقثاء بكسر القاف وضمها فالمثلثة فالمد (قوله نصف وسق) الوسق بكسر الواو وفتحها ستون صاعا (قوله ونصفه نائل) أي عطفا (قوله والنجدة) بفتح النون في اللغة الشجاعة وفى الحقيقة مَا ذَكَرَه الْقَاضِي رحمه الله تعالى (قوله الكماة) بضم الكاف جمع كمى بفتحها وكسر الميم وتشديد الياء وهو الشجاع المتكمى في سلاحه أي المستتر فيه كأنه جمع كام كقاض وقضاة. (*)

الْجَيَّانِيُّ فِيمَا كَتَبَ لِي حَدَّثَنَا الْقَاضِي سِرَاجٌ حَدَّثَنَا أَبُو محمد الأصيلي حدثنا أَبُو زَيْدٍ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدُرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ البَرَاءَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ ثُمَّ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُهُ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا والنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، وَزَادَ غَيْرُهُ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ، قيل فما روى يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الْعَبَّاسِ قَالَ فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِهَا أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بركابه

_ (قوله جولة) بفتح الجيم وسكون الواو أي نفور وزوال عن الموقف (قوله غندر) بغين معجمة مضمومة ونون ساكنة ودال مهملة بضم وبفتح (قوله عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ) في مسلم أنه عليه السلام كان على بغلته التى أهداها له فروة بن نغائة وفى شرح مسلم أن اسمها الدلدل وأن العلماء لا تعرف له بغلة سواها انتهى. وقال المحب الطبري الدلدل أهداها له المقوقس وذكر أنها كبرت وبقيت إلى زمان معاوية، وفى سيرة مغلطاى: كان له صلى الله عليه وسلم من البغال دلدل وفضة والتى أهداها له ابن العلماء والأبلية وبغلة أهداها له كسرى وأخرى من دومة الجندل وأخرى من عند النجاشي انتهى (قوله وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بلجامها) هو أبو سفيان بن الحرث بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ واسمه مغيرة وقيل اسمه كنيته كان رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آلف الناس بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أسلم يوم الفتح بطريق مكة بالأبواء، ومات بالمدينة سنة عشرين (*)

ثُمَّ نَادَى يَا لَلْمُسْلِمِينَ - الْحَدِيثَ - وَقِيلَ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا غَضِبَ وَلَا يَغْضَبُ إِلَّا لِلَّهِ - لَمْ يَقُمْ لِغضَبِهِ شئ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا رَأَيْتُ أَشْجَعَ وَلَا أَنْجَدَ وَلَا أَجْوَدَ وَلَا أرْضَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّا كُنَّا إِذَا حَمِي الْبَأْسُ وَيُرْوَى اشْتَدَّ الْبَأْسُ وَاحْمَرَّتِ الْحَدَقُ اتْقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إلى الْعَدُوِّ مِنْهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُنَا إلى العدو كان مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا وَقِيلَ كَانَ الشُّجَاعُ هُوَ الَّذِي يَقْرُبُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَنَا الْعَدُوُّ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَعَنْ أَنَسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ لَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقَ نَاسٌ قَبْلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٌ وَالسَّيْفُ فِي عُنُقِهِ وَهُوَ يَقُولُ لَنْ تُرَاعُوا، وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتِيبَةً إِلَّا كَانَ أَوَّلَ مَنْ يَضْرِبُ وَلَمَّا رَآهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفِ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ يَقُولُ أَيْنَ مُحَمَّدٌ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا وَقَدْ كان يقول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَدَى يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدِي فَرَسٌ أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا من

_ (قوله عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طلحة) هذا الفرس اسمه مندوب جاء ذلك في الصحيح (قوله حين افتدى) بالفاء أي أعطى الجزية (قوله عندي فرس) جاء فِي بَعْض الروايات أن اسمه العود بفتح العين المهملة وسكون الواو بعدها دال مهملة (قوله فرقا) (*)

ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا رَآهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَدَّ أُبَيٌ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَضَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا أَيْ خَلُّوا طَرِيقَةُ وَتَنَاوَلَ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصَّمَّةِ فَانْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً تَطَايَرُوا عَنْهُ تَطَايُرَ الشَّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَفَضَ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا وَقِيلَ بَلْ كَسَرَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلاعِهِ فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ يَقُولُ قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ فَقَالَ لَوْ كَانَ مَا بِي بِجَميعِ النَّاسِ لقتلهم

_ بفتح الفاء والراء ويجوز إسكانها قال ابن الأثير في النهاية: الفرق بالتحريك يسع ستة عشر رطلا وهى اثنا عشر مدا أو ثلاثة آصع عند أهل الحجار وأما الفرق بالسكون فمائة وعشرين رطلا (قوله تطائر الشعراء) بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة بعدها راء وهمزة ممدودة قال صاحب الصحاح والشعراء ذبابة يقال هي التى لها إبرة وقال الهروي وفى الحديث تطاير الناس عنه تطاير الشعر عن البعير قال الصبيبى الشعر جمع شعراء وهى ذباب حمر يقع على الإبل والحمير فتؤذيهما، وفى النهاية أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل أبى ابن خلف تطاير الناس عنه تطاير الشعر عن البعير: الشعر بضم الشين وسكون العين جمع شعراء وهو ذباب حمروقيل روق يقع على الإبل والحمير فتؤذيهما إيذاء شديدا وقيل هو ذباب كثير الشعر وفي رواية إن كَعْبُ بنُ مَالِكِ ناوله الحرية فلما أخذها انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنها تطاير الشعر يرى مثل الشعر وقياس واحده شعرور وقيل هي ما تجتمع على دبرة البعير من الذباب فإذا هيجت تطايرت عنها (قوله تدأدأ) بفتح المثناة الفوقية والدال المهملة بعدها همزة ساكنة ثم دال أخرى ثم همزة أي تدحرج (قوله ضلعا) بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام وقد تسكن (*)

(فصل) وأما الحياء والإغضاء

أَلَيْسَ قَدْ قَالَ أَنَا أَقْتُلُكَ وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي فَمَاتَ بِسَرِفَ في قولهم إِلَى مَكَّةَ. (فصل) وَأَمَّا الْحَيَاءُ وَالإِغْضَاءُ: فَالْحَيَاءُ رِقَةٌ تَعْتَرِي وَجْهَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ فِعْلِ مَا يُتَوَقَّعُ كَرَاهِيَتُهُ أَوْ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ خَيْرًا مِنْ فِعْلِهِ وَالْإِغْضَاءُ التَّغَافُلُ عَمَّا يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ بِطَبِيعَتِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً وَأَكْثَرَهُمْ عَنِ العَوْرَاتِ إِغْضَاءً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي منكم) الآيَةَ * حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ بِقَرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ المروزي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَنَسٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ في خذرها، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَطِيفَ الْبَشْرَةِ رَقِيقَ الظَّاهِرِ لَا يُشَافِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُهُ حَيَاءً وَكَرَمَ نَفْسٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ ما يَكْرَهُهُ لَمْ يَقُلْ ما بال

_ (قوله بسرف) بفتح المهملة وكسر الراء بعدها فاء: اسم لموضع على ستة أميال من مكة وقيل سبعة وقيل تسعة (قوله في قفولهم) أي رجوعهم: قفل يقفل إذا عاد من سفره وقد يقال للسفر قفول في الذهاب والمجئ وأكثر ما يستعمل في الرجوع، كذا في النهاية وقال بعضهم إنما قيل للذاهبين قافلة تفاؤلا برجوعهم (قوله العذراء) بالعين المهملة والذال المعجمة والمد: البكر، والخذر بالخاء المعجمة والذال المعجمة: الستر. (*)

(فصل) وأما حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلى الله عليه وسلم مع أصناف الخلق

فُلَانٍ يَقُولُ كَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَصْنَعُونَ أَوْ يَقُولُونَ كَذَا يَنْهَى عَنْهُ وَلَا يُسَمِّي فَاعِلَهُ. وَرُوِيَ أَنَسٌ أنَّهُ دَخَل عَلَيْهِ رَجُلٌ بِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا وَكَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَوْ قُلْتُمْ لَهُ يَغْسِلُ هَذَا، وَيُرْوَى يَنْزِعُهَا: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَّاشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا سَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَقَدْ حُكِيَ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ التَّوْرَاةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سَلامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ كَانَ مِنْ حَيَائِهِ لَا يُثْبِتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ وَأَنَّهُ كَانَ يُكَنِّي عَمَّا اضْطَرَّهُ الْكَلَامُ إِلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ما رأيت فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ. (فصل) وَأَمَّا حُسْنُ عِشْرَتِهِ وَأَدَبِهِ وَبَسْطُ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ فَبِحَيْثُ انْتَشَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصْفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كَانَ أوْسَعَ النَّاسِ صَدْرًا وَأَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً * حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُشَرَّفٍ الْأَنْمَاطِيُّ فِيمَا أَجَازَنِيهِ وَقَرَأْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْحَبَّالُ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ النَّحَّاسِ حدثنا ابن الأعرابي

_ (قوله فاحشا ولا متفحشا) قال الهروي وابن الأثير: الفاحش الذى في كلامه فحش والمتفحش الذى يتكلف ذلك ويتعمده (قوله لهجة) في الصحاح اللهجة: اللسان، وقد تحرك، يقال فلان فصيح اللهجة واللهجة (قوله عريكة) أي طبيعة. (*)

حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مَرْوَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ قِصَّةً فِي آخِرِهَا فَلَمَّا أَرَادَ الانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْ فَأَبَيْتُ فَقَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ فَانْصَرَفْتُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ارْكَبْ أَمَامِي فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ أَوْلَى بِمُقَدَّمِهَا، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ ويوليه عليهم وَيَحْذَرُ النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أنْ يَطْوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِشْرَهُ وَلَا خُلُقَهُ، يَتَعَهَّدُ أَصْحَابَهُ وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نَصِيبَهُ، لَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَارَبَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ عَنْهُ وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، بِهَذَا وَصَفَهُ ابْنُ أَبِي هَالَةَ، قَالَ وَكَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ سَهْلَ الْخُلُقِ لَيِّنَ الْجَانِبِ لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غليظ ولا سحاب وَلَا فَحَّاشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَدَّاحٍ يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُؤْيَسُ مِنْهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى (فَبِمَا رَحْمَةٍ

_ (قوله ابن المثنى) بضم الميم وفتح المثلثة بعدها نون مشددة. (*)

مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لا نفضوا من حولك) وَقَالَ تَعَالَى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآيَةَ، وَكَانَ يُجِيبُ مَنْ دَعَاهُ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كراعا ويكافئ عَلَيْهَا. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ وَمَا قال لشئ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ ولا لشئ تَرَكْتُهُ لَمْ تَرَكْتَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ما دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا أَهْلُ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ لَبَّيْكَ، وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الله مَا حَجَبَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ وَكَانَ يُمَازِحُ أَصْحَابَهُ وَيُخَالِطُهُمْ وَيُحَادِثُهُمْ وَيُدَاعِبُ صِبْيَانَهُمْ وَيُجْلِسُهُمْ فِي حِجْرِهِ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْمِسْكِينِ وَيَعودُ الْمَرْضَى فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَيَقْبَلُ عُذْرَ الْمُعْتَذِرِ، قَالَ أَنَسٌ مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي ينحى

_ (قوله وَلَوْ كَانَتْ كُرَاعًا) الكراع بضم الكاف وتخفيف الراء في الغنم والبقر بمنزلة الوطيف في الفرس والبعير، وهو مستدق الساق، يذكر ويؤنث، والجمع أكراع، ثم أكارع (قوله ويكافئ) بهمزة في آخره أي يجازى (قوله فَمَا قَالَ لِي أف قط) يقال: أف له أي قذرا له وقيل احتقارا له وقيل استقلالا وفيه ست لغات حكاهن الأخفش وهى ضم الهمزة مع تثليث الفاء بلا تنوين وضمها مع تثلثيث الفاء بالتنوين وحكى المصنف وغيره زيادة على ذلك ضم الهمزة وسكون الفاء وكسر الهمزة وفتح الفاء وأفى وأفه بضم همزتيهما (قوله مَا الْتَقَمَ أَحَدٌ أذن النبي) أي ما حدثه أحد عند أذنه، استعار وضع اللقمة في الفم لوضع الفم عند الأذن. (*)

(فصل) وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق

رَأْسَهُ وَمَا أَخَذَ أحَدٌ بِيَدِهِ فَيُرْسِلُ يَدَهُ حَتَّى يُرْسِلَهَا الآخِذُ وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ وَكَانَ يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ وَيَبْدَأُ أَصْحَابَهُ بِالْمُصَافَحَةِ لَمْ يُرَ قَطُّ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى يُضَيِّقَ بِهِمَا عَلَى أَحَدٍ، يُكْرِمُ مِنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا بَسَطَ لَهُ ثَوْبَهُ وَيُؤْثِرُهُ بِالْوِسَادَةِ الَّتِي تَحْتَهُ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهَا إِنْ أَبَى ويُكَنِّي أَصْحَابَهُ وَيَدْعُوهُمْ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِمْ تَكْرِمَةً لَهُمْ وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَتَجَوَّزَ فَيَقْطَعَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ وَيُرْوَى بِانْتِهَاءٍ أَوْ قِيَامٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْلِسُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَّا خَفَّفَ صَلاتَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجَتِهِ فَإِذَا فَرَغَ عَادَ إِلَى صَلاتِهِ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَطْيَبَهمْ نَفْسًا مَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ قُرْآنٌ أَوْ يَعِظْ أَوْ يَخْطُبْ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ أَنَسٍ كَانَ خَدَمُ الْمَدِينَةِ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ فَمَا يؤتى بآنية إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ يُرِيدُونَ بِهِ التَّبَرُّكَ. (فصل) وَأَمَّا الشَّفَقَةُ وَالرَّأَْفَةُ وَالرَّحْمَةُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم) وَقَالَ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ اسْمَيْنِ مِنْ أَسْمَائِهِ فقال (بالمؤمنين رؤف رحيم) وَحَكَى نَحْوَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ حَدَّثَنَا

الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُشَنِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنْبَأَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً وَذَكَرَ حُنَيْنًا قَالَ فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابن الْمُسَيِّبِ أَنَّ صَفْوَانَ قَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ. وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ ثُمَّ قَالَ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَا وَلا أَجْمَلْتَ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَقامُوا إِلَيْهِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا ثُمَّ قَامَ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَأرْسَلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَهُ شيئا

_ (قوله الخشنى) بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين (قوله وذكر حنينا بضم الحاء المهملة وفتح النون اسم موضع بين الطائف ومكة - كذا في القاموس - وقال صاحب الصحاح: يذكر ويؤنث فان قصدت به البلد والموضع ذكرته وصرفته كقوله تعالى (ويوم حنين) وإن قصدت به البقعة والبلدة أنثته ولم تصرفه كما قال الشاعر: نصروا نبيهم وشدوا أزره * بحنين يوم تواكل الأبطال وفى التعريف والأعلام: حنين اسم علم بموضع بأوطاس، سمى بحنين بن قانة بن مهلايل انتهى. وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان من الهجرة (قوله ابن المسيب) هو بفتح المثناة التحتية عن العراقيين وهو المشهور، وبكسرها عن المدنيين قال ابن قرقول قال الصيد في وذكر لنا أن سعيدا كان يكره الفتح لياء من اسم أبيه وأما غير والد سعيد فتفتح الياء بلا خلاف. (*)

ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ قَالَ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي نَفْسِ أَصْحَابِي مِنْ ذَلِكَ شئ فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي صُدُورِهمْ عَلَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ أَوِ الْعَشِيُّ جَاءَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ قَالَ مَا قَالَ فَزِدْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ رَضِيَ أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعِشِيرَةٍ خَيْرًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلِي وَمَثَلُ هَذَا مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ نَاقَةٌ شَرَدَتْ عَلَيْهِ فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا فَنَادَاهُمْ صَاحِبُهَا خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي فَإِنِّي أَرْفَقُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْلَمُ فَتَوَجَّهَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ فَرَدَّهَا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَنَاخَتْ وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا وَإِنِّي لَوْ تَرَكْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ الرَّجُلُ مَا قَالَ فَقَتَلْتُمُوهُ دَخَلَ النَّارَ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ) وَمِنْ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْفِيفُهُ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهِمْ. وَكَرَاهَتُهُ أَشْيَاءَ مَخَافَةَ أَنْ تُفَرَضَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ

_ (قوله مِنْ قُمَامِ الْأَرْضِ) بضم القاف وتخفيف الميم، في الصحاح: القمامة الكناسة والجمع قمام (قوله واستناخت) بنون قبل الألف وخاء معجمة بعدها، يقال أنخت الجمل فاستناخ: أي أبركته فبرك. (*)

مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ وَخَبَرُ صَلاةِ اللَّيْلِ وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْوِصَالِ، وَكَرَاهَتُهُ دُخُولَ الْكَعْبَةِ لِئَلَّا تَتَعَنَّتَ أُمَّتُهُ، وَرَغْبَتُهُ لِرَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَ سَبَّهُ وَلَعْنَهُ لَهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِهِ * وَمِنْ شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ دَعَا رَبَّهُ وَعَاهَدَهُ فَقَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لعَنْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً وَصَلَاةً وطَهُورًا وَقُربَةً تُقَرِّبَهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَذَّبَهُ قَوْمُهُ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ أَمَرَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَاهُ مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَرَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ أنْ تُطِيعَكَ فَقَالَ أُؤَخِّرُ عَنْ أُمَّتِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنَ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا،

_ (قوله الأخشبين) بهمزة مفتوحة وخاء وشين معجمتين: جبلا مكة (قوله يتخولنا) بالخاء المعجمة، قال ابن الأثير أي يتعهدنا، وقال ابن الصلاح الصواب بالحاء المهملة أي يطلب الحال التى يبسطون فيها للموعظة وكان الأصمعى يرويه يتخوننا بالنون (*)

(فصل) وأما خلقه صلى الله عليه وسلم في الوفاء وحسن العهد وصلة الرحم

وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَكِبَتْ بَعِيرًا وَفِيهِ صُعُوبَةٌ فَجَعَلْت تُرَدِّدُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ. (فصل) وَأَمَّا خلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَفَاءِ وَحُسْنِ الْعَهْدِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ فَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أبو بكر محمد بن محمد حدثنا أبو إسحق الْحَبَّالُ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ النَّحَّاسِ حَدَّثَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ بُدَيْلٍ عَنْ عَبْدِ الكريم ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عبد الله عن أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقَّيْتُ لَهُ بَقِيَّةً فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ فَنَسِيتُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ فَقَالَ يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ أَنَا هَهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ * وَعَنْ أَنَسٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِهَدِيَّةٍ قَالَ اذْهَبُوا بِهَا إِلَى بَيْتِ فُلَانَةٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ إِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاهَ فَيُهْدِيَهَا

_ والمعجمة أي يتعهدنا (قوله ابن طهمان) بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء (قوله بديل) بضم الموحدة وفتح الدال وتسكين المثناة من تحت (قوله الحمساء) بحاء مهملة مفتوحة وميم ساكنة وسين مهملة وهمزة ممدودة، وفى بعض النسخ بالخاء المعجمة والنون وهو تصحيف، وفى بعضها عن أبى الحمساء وأبو الحمساء لا إسلام له ولا روايه (*)

إِلَى خَلَائِلِهَا وَاسْتَأَذنَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهَا فَارْتَاحَ إِلَيْهَا، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَهَشَّ لَهَا وَأَحْسَنَ السُّؤَالَ عَنْهَا فَلَمَّا خَرَجَتْ قَالَ (إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ وَإِنَّ حُسْنَ الْعهْدِ مِنَ الإيمَانِ) ، وَوَصَفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ كَانَ يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْثِرَهُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ آلَ بَنِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْليَاءَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلالِهَا) * وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأُمَامَةَ ابْنَةِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ يَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَفَدَ وَفْدٌ لِلنَّجَاشِيِّ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْدُمُهُمْ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ نَكْفِيكَ فَقَالَ (إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ وإنى أحب

_ (قوله أختها) أي أخت خديجة، وهى هالة بنت خويلد، ذكرها في الصحابة ابن منده وأبو نعيم وهى أم أبى العاص بن الربيع بتشديد الراء المفتوحة وكسر الموحدة (قوله إِنَّ آلَ بَنِي فلان) قال ابن قرقول المشهور أن آل أبى ليسوا بأوليائى بفتح الهمزة يعنى من أبى قال وبعده بياض في الأصول، كأنهم تركوا الاسم تورعا عن الفتنة، وعند ابن السكن أن آل أبى فلان كنى عنه بفلان انتهى، والمراد الحكم بن أبي العاص (قوله بلالها) البلال بكسر الموحدة، وقد تفتح قال في الصحاح كل ما يبل به الحلق من الماء واللبن فهو بلال، ومنه قولهم انصحوا الرحم ببلالها، أي صلوها بصلتها وندوها. (قوله بأمامة) هي ابْنَةِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ من أبى العاص بن الربيع، تزوجها علي رضي الله عنه بعد موت فاطمة بوصية فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّه عنها بذلك، وتزوجها بعد على الْمُغيرَة بن نَوْفَل فماتت عنده، واسم أبى العاص بن الربيع لقيط وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة، أسر يوم بدر فمن عليه بلا فداء إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب زينب، وأسلم قبيل الفتح وحسن إسلامه، وأعاد له رسول الله صلى الله عليه وسلمن زينب بنكاح جديد، وقيل بالنكاح الأول. (*)

أَنْ أُكَافِئَهُمْ) * وَلَمَّا جئ بِأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ الشَّيْمَاءِ فِي سَبَايَا هَوَازِنَ وَتَعَرَّفَتْ لَهُ بَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَقَالَ لَهَا إنْ أَحْبَبْتِ أَقَمْتِ عِنْدِي مُكَرَّمَةً مُحَبَّبَةً أَوْ مَتَّعْتُكِ وَرَجَعْتِ إِلَى قَوْمِكِ، فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا فَمَتَّعَهَا، وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا غُلامٌ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأةٌ حَتَّى دَنَتْ مِنْهُ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ فَقُلْتُ مَنْ هَذِهِ قَالُوا أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ السَّائِبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَلَ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثوبه فقعد

_ (قوله أن أكافئهم) بهمزة بعد الفاء (قوله بِأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ الشيماء بشين معجمة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وميم ومد. قال المحب الطبري، ويقال لها الشماء بغير ياء، أبوها الحرث أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أدرك الإسلام وأسلم بمكة، والشيماء كانت تربى النبي صلى الله عليه وسلم مع أمها حليمة، أسلمت، وذكرها ابن الأثير في الصحابة واسمها جدامة بالجيم والدال المهملة بعدها ألف فميم، وقيل حذافة بالحاء المهملة والذال المعجمة بعدها ألف ففاء، وقيل خذامة بالخاء المعجمة المكسورة والذال المعجمة بعدها ألف وميم (قوله أبو الطفيل) بضم الطاء وفتح الفاء واسمه عامر بن واثلة بالمثلثة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم صغيرا وهو آخر من مات من الصحابة (قوله قَالُوا أُمُّهُ الَّتِي أرضعته) في الاستيعاب لابن عبد البر: روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار جاءت حليمة بنت عبد الله أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة يوم حنين فقام لها وبسط لها رداءه، وفى التجريد للذهبي يجوز أن يكون هذه ثويبة ورد بنقل مغلطاى عن ابن سعد أن ثويبة توفيت سنة سبع وبنقل السهيلي أنه عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة سئل عن ثويبة وعن ابنها مسروخ فأخبر أنهما ماتا، وقال الحافظ الدمياطي لا نعرف لها صحبة ولا إسلاما ثم ذكر حديث بسط الرداء وقال هذه أخته الشيماء لا أمها حليمة وفى سيرة مغلطاى وصحح ابن حبان وغيره حديثا دل على إسلامهما (قوله عمرو بن السائب) هو ابن السائب بن راشد البصري مولى بنى زهرة، تابعي ذكره الحافظ (*)

(فصل) وأما تواضعه صلى الله عليه وسلم على علو منصبه ورفعة

عَلَيْهِ ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَكَانَ يَبْعَثُ إِلَى ثُوَيْبَةَ مَوْلَاةِ أَبِي لَهَبٍ مُرْضِعَتِهِ بَصِلَةٍ وَكِسْوَةٍ، فَلَمَّا مَاتَتْ سَأَلَ: مَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهَا؟ فَقِيلَ لَا أَحَدَ، وَفِي حَدِيثِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرْ فو الله لَا يَحْزُنُكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. (فصل) وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِ وَرِفْعَةِ

_ عبد الغنى المقدسي في إكماله فيمن اسمه عمرو ووهمه المزى، وقال اسمه عمر (قوله ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ) من الرضاع، الظاهر أنها حليمة. قيل أرضعته صلى الله عليه وسلم ثمان نسوة: ثويبة وكان لها ابن فرضع يقال له مسروح وحليمة. وخولة بنت المنذر ذكرها أبو الفتح اليعمرى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وأم أيمن ذكرها أبو الفتح عن بعضهم والمعروف أنها من الحواضن. وامرأة صعدية غير حليمة ذكرها ابن القيم في الهدى، وثلاث نسوة اسم كل واحدة منهن عاتكة نقله السهيلي عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قوله صلى الله عليه وسلم (إنا ابن العواتك من سليم) (قوله وَكَانَ يَبْعَثُ إِلَى ثويبة) قال السهيلي: كان يبعث إليها من المدينة فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح فأخبر أنهما ماتا. وثويبة بضم المثلثة وفتح الواو بعدها مثناة تحتية ساكنة فموحدة مولاة لأبى لهب عبد العزى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ بن هاشم. (قوله لا يحزنك) قال ابن قرقول في الحاء والزاء لا يحزنك الله أبدا كذا رواه معمر عن الزهري، ورواه عنه معقل ويونس من الخزى والفضيحة وهو أصوب انتهى. وإذا روى بالحاء المهملة ففى المثناة التحتية الفتح والضم، لأنه يقال حزنه وأحزنه، وإذا روى بالمعجمة فليس فيها إلا الضم (قوله وتكسب المعدوم) تقدم بما فيه (قوله وتقري) بفتح المثناة وسكون القاف (9 - 1) (*)

رُتْبَتِهِ فَكَانَ أَشَدَّ الناس تواضعا وأعدمهم كِبْرًا، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فاختار أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، فَقَالَ لَهُ إِسْرَافِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ بِمَا تَوَاضَعْتَ لَهُ أَنَّكَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ * حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْعَوَّادِ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ بِقُرْطُبَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وخمسمائة قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا ابْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ عَنْ أَبِي الْعَدَبَّسِ عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

_ (قوله وأقلهم كبرا) القلة هنا مراد بها النفى، لأنها تستعمل بمعناه، نحو: أقل رجل يقول ذلك: أي ما رجل يقوله، ولذلك لا يدخل نواسخ الابتداء على أقل كما لا يدخل على ما النافية، ومن استعمال القلة بمعنى النفى الحديث الذى رواه النسائي عن عبد الله بن أبي أوفى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو، قال ابن الأثير في النهاية: أي لا يلغو شيئا، وهذه اللفظة قد تستعمل في نفى أصل الشئ كقوله تعالى (فقليلا ما يؤمنون) (قوله عن مسعر) بميم مكسورة وسين مهملة ساكنة وعين مهملة مفتوحة (قوله عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الموحدة وبعدها سين مهملة، اسمه الحرث بن عبيد بن كعب العدوى الكوفى (قوله العدبس) بفتح العين والذال المهملتين، وتشديد الموحدة، بعدها سين مهملة: هو تبيع، بضم المثناة الفوقية، وفتح الموحدة، وسكون المثناة التحتية بعدها عين مهملة، ذكره ابن ماكولا في الإكمال. (*)

مُتَوكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا لَهُ فَقَالَ (لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) وَقَالَ (إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يجْلِسُ الْعَبْدُ) وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ وَيَعُودُ الْمَسَاكِينَ وَيُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَيَجْلِسُ بَيْنَ أصْحَابِهِ مُخْتَلِطًا بِهِمْ حَيْثُمَا انْتَهَى بِهِ الْمَجِلِسُ جَلَسَ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُطْرُونِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شئ جَاءَتْهُ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: اجْلِسِي يَا أُمَّ فُلَانٍ فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسُ إِلَيْكِ حَتَّى أقْضِي حَاجَتَكِ، قَالَ فَجَلَسَتْ فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا. قَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ. قَالَ: وَكَانَ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالإِهَالَةِ السَّنِخَةِ فَيُجِيبُ قَالَ: وَحَجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ مَا تساوى

_ (قوله لا تطرونى) الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه (قوله أَنَّ امْرَأَةً كَانَ في عقلها شئ) قيل هي أم زفر ماشطة خديجة بنت خويلد (قوله عليه إكاف) هو بكسر الهمزة وضمها وبالواو بدلها: البرذعة، وقيل ما تشد فوق البرذعة من ورائها (قوله والإهالة السنخة) الإهالة بكسر الهمزة وتخفيف الهاء كل ما يؤدم به من الأدهان، والسنخة بفتح السين المهملة وكسر النون بعدها خاء معجمة المتغير الرائحة، يقال سنخ وزنخ (قوله وعليه قطيفة) القطيفة الكساء الذى له خمل (*)

أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ. هَذَا وَقَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ وَأَهْدَى في حجته ذَلِكَ مِائَةَ بَدَنَةٍ وَلَمَّا فُتِحَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ وَدَخَلَهَا بِجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ طَأْطَأَ عَلَى رَحْلِهِ رَأْسَهُ حَتَّى كَادَ يَمَسُّ قَادِمَتَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى * ومن تَوَاضُعُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قوله (لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ - بْنِ مَتَّى - وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَلوْ لَبِثْتُ مَا لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ) وَقَالَ لِلَّذِي قَالَ لَهُ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ (ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ) وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى * وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي صِفَتِهِ وبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ. كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي مِهْنَةِ أهْلِهِ يَفْلِي ثَوْبَهُ وَيَحْلِبُ شَاتَهُ وَيَرْقَعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ وَيَقُمُّ البَيْتَ وَيَعْقِلُ الْبَعِيِرَ ويَعْلِفُ

_ (قوله يُونُسَ بْنِ مَتَّى) قال ابن الأثير متى أمه ولم يشهر نبى بأمه غير عيسى ويونس، فإن قيل قَد وَرَد فِي الصحيح، لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه أجيب بأن متى مدرج فِي الْحَدِيثِ مِنْ كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به، لا من كلام النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمع هذه النسبة من النبي صلى الله عليه وسلم دفع الصحابي ذلك بقوله: ونسبه إلى أبيه، أي لا كما فعلت أنا من نسبته إلى أمه (قوله فِي مِهْنَةِ أهْلِهِ) في الصحاح المهنة بالفتح الخدمة، وحكى أبو زيد والكسائي المهنة بالكسر، وأنكره الأصمعى انتهى. وعن المزى: كسر الميم أحسن ليكون على وزن خدمة كما هو بمعناه (قوله يفلى ثوبه) قيل إنه عليه السلام، لم يقع عليه ذباب قط، ولم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما (قوله ويخصف نعله) بالخاء المعجمة والصاد المهملة: أي يخرزها (قوله ويقم) بضم القاف: أي كنس (*)

(فصل) وأما عدله صلى الله عليه وسلم وأمانته وعفته وصدق لهجته

نَاضِحَهُ وَيَأْكُلُ مَعَ الْخَادِمِ وَيَعْجِنُ مَعَهَا وَيَحْمِلُ بَضَاعَتَهُ مِنَ السُّوقِ * وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا. وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَأَصَابَتْهُ مِنْ هَيْبَتِهِ رِعْدَةٌ فَقَالَ لَهُ (هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لسته بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلْتُ السُّوقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَي سَرَاوِيلَ وَقَالَ لِلْوَزَّانِ (زِنْ وَأَرْجِحْ) وَذَكَرَ الْقِصَّةَ، قَالَ: فَوَثَبَ إِلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُهَا فَجَذَبَ يَدَهُ وَقَالَ (هَذَا تَفْعَلُهُ الأَعَاجِمُ بِمُلُوكِهَا وَلَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ) ثُمَّ أَخَذَ السَّرَاوِيلَ فَذَهَبْتُ لأَحْمِلَهُ فَقَالَ (صاحب الشئ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ) (فصل) وَأَمَّا عَدْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانَتُهُ وَعِفَّتُهُ وَصِدْقُ لَهْجَتِهِ، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ النَّاسِ وَأَعْدَلَ النَّاسِ وأعف الناس أصدقهم لَهْجَةً مُنْذُ كَانَ اعْتَرَفَ لَهُ بِذَلِكَ مُحَادُّوهُ وَعِدَاهُ وَكَانَ يسمى

_ (قوله ناضحه الناضح بالضاد المعجمة والحاء المهملة: الجمل الذى يستقى عليه الماء (قوله سراويل) قالوا لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبس السروايل، ولكنه اشتراها ولم يلبسها، وفى الهدى لابن قيم الجوزية أنه لبسها. قالوا وهو سبق قلم، واشتراها عليه السلام بأربعة دراهم، وفى الإحياء أنه اشتراها بثلاثة دراهم (قوله آمن) بمد الهمزة وفتح الميم (قوله محادوه) بالحاء والدال المشددة المهملتين. أي: مخالفوه، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (ومن يحادد الله ورسوله) (قوله وعداه) بكسر العين المهملة والقصر أي أعداؤه (*)

قَبْلَ نُبُوَّتِهِ: الأَمِينَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ يُسَمَّى الأَمِينَ بِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الصَّالِحَةِ. وَقَالَ تَعَالَى (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ قُرَيْشٌ وَتَحَازَبَتْ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِيمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ حَكَّمُوا أَوَّلَ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ فَإِذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ وَذَلِكَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ فَقَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ؟ هَذَا الأَمِينُ قَدْ رَضِينَا بِهِ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: كَانَ يُتَحَاكَمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاللَّهِ إِنِّي لأَمِينٌ فِي السَّمَاءَ أَمِينٌ فِي الْأَرْضِ) حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ الْحَافِظُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ ابن خَيْرُونَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى بْنُ زَوْجِ الْحُرَّةِ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ المروزي حدثنا أبو عيسى الحافظ حدثنا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِنَّهُمْ لا يكذبونك) الآية وَرَوَى غَيْرُهُ. لَا نُكَذِّبُكَ وَمَا أَنْتَ فِينَا بِمُكَذَّبٍ. وَقِيلَ إِنَّ الأَخْنَسَ بْنَ شريق

_ (قوله وتحازبت) بالحاء المهملة والزاى، أي صارت أحزابا (قوله وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خثيم) الربيع بفتح الراء وكسر الموحدة المخففة، وخثيم بضم الخاء المعجمة بعدها مثلثة مفتوحة (قوله أبو كريب) بضم الكاف وفتح الراء (قوله عن ناجية) بالنون والجيم المكسورة والمثناة التحتية المخففة (قوله إِنَّ الأَخْنَسَ بْنَ شريق) الأخنس بفتح الهمزة وسكون المعجمة، وشريق بفتح الشين المعجمة، وكسر الراء بعدها تحتية ساكنة فقاف (قوله يوم بدر) كان يوم الجمعة (*)

لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ لَيْسَ هُنَا غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلامَنَا، تُخْبِرُنِي عَنْ مُحَمَّدٍ صَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ. وَسَأَلَ هِرَقْلُ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا، وَقَالَ النَضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِقُرَيْشٍ: قَدْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلامًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا وَأَعْظَمُكُمْ أَمَانَةً حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صدغيه الشيب وجاءكم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ سَاحِرٌ، لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسَاحِرٍ. وَفِي الْحَدِيثَ عَنْهُ: مَا لَمَسَتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ لَا يَمْلِكُ رِقَّهَا. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ (وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أعْدِلْ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها: ما خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرَيْنِ إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما

_ صبيحة تسع عشرة من رمضان سنة اثنتين من الهجرة (قوله هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء، في الصحاح هرقل ملك الروم على وزن دمشق، ويقال أيضا هرقل، على وزن خندق انتهى، يعنى أن هرقل علم لملك من الروم مخصوص، وهو الَّذِي كَان فِي زمانه عليه السلام، وأما لقب من ملك الروم فقيصر (قوله وقال النضر بن الحارث) النضر بالضاد المعجمة قتل كافرا صبرا بالصفراء بعد أن انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من وقعة بدر، ورثته أخته أو ابنته قتيلة على اختلاف القولين بالأبيات التى أولها: يا راكبا إن الأثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق قال الذهبي لم يذكر ابن الأثير شيئا يدل على إسلامها، وفى الاستيعاب قال الزبير: وسمعت بَعْض أَهْل الْعِلْم يغمز أبياتها، ويذكر أنها مصنوعة (*)

فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ (قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: قَسَّمَ كِسْرَى أَيَّامَهُ فَقَالَ يَصْلُحُ يَوْمُ الرِّيحِ لِلنَّوْمِ وَيَوْمُ الْغَيْمِ لِلصَّيْدِ وَيَوْمُ الْمَطَرِ لِلشُّرْبِ وَاللَّهْوِ وَيَوْمُ الشَّمْسِ لِلْحَوَائِجِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ مَا كان أَعْرَفَهُمْ بِسِيَاسَةِ دُنْيَاهُمْ (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وهم عن الآخرة هم غافلون) وَلَكِنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَّأَ نَهَارَهُ ثَلاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ وَجُزْءًا لأَهْلِهِ وجزءا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جزأه بينه وبين النَّاسِ فَكَانَ يَسْتَعِينُ بِالْخَاصَّةٍ عَلَى الْعَامَّةِ ويَقُولُ (أَبْلِغُوا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغِي فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا آمَنَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكَبرِ) وَعَنِ الْحَسَنِ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَا يَأْخُذُ أَحَدًا بِقَرْفِ أَحَدٍ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ، وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ما هممت بشئ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ غَيْرَ مَرَّتَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ يَحُولُ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا هَمَمْتُ بِسُوءٍ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، قَلْتُ لَيْلَةً لِغُلَامٍ كَانَ يَرْعَى مَعِي: لَوْ أبْصَرْتَ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الشَّبَابُ، فَخَرَجْتُ لِذَلِكَ حَتَّى جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا بِالدُّفُوفِ وَالمَزَامِيرِ لِعُرْسِ

_ (قوله كسرى) بكسر الكاف وفتحها لقب لكل من ملك الفرس (قوله بقرف) بفتح القاف وسكون الراء يقال قرفت الرجل أي عبته وهو يقرف بكذا: أي يرمى به ويتهم (قوله عزفا) بفتح العين المهملة سكون الزاى، أي لعبا بالمعازف، وهى الدفوف وغيرها مما يضرب به، وقيل كل لعب عزف. (*)

(فصل) وأما وقاره صلى الله عليه وسلم وصمته وتؤدته ومروؤته وحسن هديه

بَعْضِهِمْ فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، فَضُرِبَ عَلَى أُذُنِي فَنِمْتُ فَمَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ عَرَانِي مَرَّةً أُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ أَهُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِسُوءٍ) (فصل) وَأَمَّا وَقَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَمْتُهُ وتؤدته ومروؤته وَحُسْنُ هَدْيِهِ فحَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ الْحَافِظُ إِجَازَةً وَعَارَضْتُ بِكِتَابِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّلائِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الوَرَّاقُ حدثنا اللؤلؤي حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عبد العزيز ابن وهب سَمِعْتُ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْقَرَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِهِ لَا يَكَادُ يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِهِ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ وَكَذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ جُلُوسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَبِيًا. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَنَّهُ تَرَبَّعَ وَرُبَّمَا جَلَسَ القُرْفُصَاءَ وَهُوَ

_ (قوله ثم عرانى) بفتح العين المهملة وتخفيف الراء، أي: غشيني (قوله لم أهم) . بضم الهاء (قوله هديه) أي سيرته (قوله الدلائى * بكسر الدال المهملة وتخفيف اللام الممدودة وبعدها همزة وياء مشددة (قوله عبد الرحمن) بن سلام بتشديد اللام وهو جد عبد الرحمن، نسب إليه والد عبد الرحمن اسمه محمد (قوله عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بْنِ وُهَيْبٍ الأنصاري، هو مولى زَيْد بن ثَابت (قوله خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ) ابن ثابت أحد الفقهاء السبعة، يروى عن أبيه وَأُسَامَةُ بن زَيْدٍ، وهذا الحديث في مراسيل أبى داود (قوله القرفصاء) بضم القاف والفاء، قال ابن قرقول: يمد ويقصر ويقال (*)

فِي حَدِيثِ قَيْلَةَ. وَكَانَ كَثِيرَ السُّكُوتِ لَا يَتَكَلَّمُ فِي غير حاجة، تعرض عمن نكلم بِغَيْرِ جَمِيلٍ، وَكَانَ ضَحِكُهُ تَبَسُّمًا وَكَلَامُهُ فَصْلًا لَا فَضُولَ وَلَا تَقْصِيرَ، وَكَانَ ضَحِكُ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ التَّبَسُّمَ تَوْقِيرًا لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ. مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَخَيْرٍ وَأَمَانَةٍ لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْواتُ وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرُمُ، إِذَا تَكَلَّمَ أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطَّيْرُ. وَفِي صِفَتِهِ: يَخْطُو تَكَفُّؤًا وَيَمْشِي هَوْنًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ: وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: إِذَا مَشَى مَشَى مُجْتَمِعًا يُعْرَفُ فِي مِشْيَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ غَرِضٍ وَلَا وَكِلٍ أَيْ

_ بكسر القاف والفاء، وقال الفراء إذا ضممت مددت وإذا كسرت قصرت وفي الصحاح وهو أن يجلس الرجل على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبى بيديه يضعهما على ساقيه كما يحتبى بالثوب تكون يداه مكان الثوب، عن أبى عبيد، وقال أبو المهدى هو أن يجلس على ركبتيه متكئا ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه وهى جلسة الأعراب انتهى (قوله قلية) بفتح القاف وسكون المثناة التحية، هي بنت محرمة العدوية وقيل العنبرية وهو الصحيح (قوله وتؤبن) بمثناة فوقية مضمومة وهمزة ساكنة وموحدة مفتوحة مخففة، وفي الصحاح فلان يؤبن بكذا أي يذكر بقبيح، وفى ذكر مجلسه صلى الله عليه وسلم لا تؤبن فيه الحرم أي لا يذكر بسوء انتهى (قوله كأنما على رؤوسهم الطير) قال الهروي يعنى ليس فيهم طيش ولا خفة، لأن الطير لا يكاد يقع إلى على ساكن (قوله يكفى) قال ابن الأثير: يتكفى تكفيا أي تمايل إلى قدام هكذا روى غير مهموز والأصل الهمز ويرويه بعضهم مهموزا لأن مصدر يفعل من الصحيح الفعل. كتقدم تقدما والهمز حرف صحيح، فأما إذا اعتل انكسرت عين المستقبل منه، نحو يحفى تحفيا فإذا خففت الهمزة التحق بالمعتل وصار تكفئا انتهى (قوله من صبب) أي منحدر (قوله غرض) بفتح الغين المعجمة وكسر الراء بعدها ضاد معجمة من الغرض بفتحتين وهو الضجر والملالة (قوله ولا وكل) بفتح الواو والكاف، أي: عاجز يكل أمره إلى غيره، ويتكل عليه. (*)

(فصل) وأما زهده في الدنيا

غَيْرُ ضَجِرٍ وَلَا كَسْلَانَ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ أَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَرْتِيلٌ أَوْ تَرْسِيلٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي هَالَةَ: كَانَ سُكُوتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ: عَلَى الْحِلْمِ وَالْحَذَرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّفَكُّرِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ أَحْصَاهُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الطِّيبَ وَالرَّائِحَةَ الْحَسَنَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُمَا كَثِيرًا وَيَحُضُّ عَلَيْهِمَا وَيَقُولُ (حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ مُرُوءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيُهُ عَنِ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِمَّا يَلِي، وَالْأَمْرُ بِالسِّوَاكِ وَإِنْقَاءُ البَرَاجِمِ وَالرَّوَاجِبِ وَاسْتِعْمَالُ خِصَالِ الْفِطْرَةِ. (فصل) وَأَمَّا زُهْدُهُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ أَثْنَاءَ هذه

_ (قوله حبب من دنياكم) في بعض النسخ زيادة ثلاث وهى ليست في الحديث والحديث في النسائي ومستدرك الحاكم وفى الكشاف بعد ما ذكر الحديث بزيادة كلمة ثلاث وطوى ذكر الثلاث قال التفتازانى (يعنى أنا وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصلاة) كلام مبتدا قصد به الإعراض عن ذكر الدنيا وما يجب فيها وليست عطفا على الطيب والنساء كما يسبق إلى الفهم لأنها ليست من الدنيا (قوله وإنقاء البراجم) الإنقاء بالنون والقاف التنظيف والبراجم بفتح الموحدة وتخفيف الراء بعدها ألف وجيم مكسورة وميم جمع برجمة بضم الموحدة والجيم وهى مفاصل الأصابع التى بين الأشاجع والرواجب، وهى رؤوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه نشرت وارتفعت، والرواجب: بكسر الجيم وبعدها موحدة جمع راجبة وهى مفاصل الأصابع التى تلى الأنامل، ثم تليها الأشاجع اللاتى تلين الكف، والسلاميات جمع سلامى وهى عظام الأصابع. (*)

السِّيرَةِ مَا يَكْفِي، وَحَسْبُكَ مِنْ تَقَلُّلِهِ مِنْهَا وَإِعْرَاضِهِ عَنْ زَهْرَتِهَا، وَقَدْ سِيقَتْ إلَيْهِ بِحَذَافِيرِهَا وَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِ فُتُوحُهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٌّ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) * حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِي وَالْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ والْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا أبو بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَفِي روَايَةٍ أُخْرَى مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ وَلَوْ شَاءَ لأعْطَاهُ اللَّهُ مَا لا يَخْطُرُ بِبَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مَا شَبِعَ آلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى لَقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ

_ (قوله بحذافيرها) حذافير الشئ أعاليه ونواحيه، ويقال أعطاه الدنيا بحذافيرها أي بأسرها جمع حذفار وحذفور (قوله رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قوتا) القوت بالضم ما يقوت بدن الإنسان من الطعام (قوله أبو معاوية) هُو مُحَمَّد بن خازم بالمعجمة والزاى الحافظ الضرير أحد الأعلام (قوله عن ابراهيم) هو ابن يزيد بن قَيْسِ بن الأسود بن عمرو ابن ربيعة النخعي الكوفى الفقيه الإمام (قوله تخصر) بكسر الصاد المهملة، أي يحدث، ويجوز ضمها أي تمر (*)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا سِلَاحَهُ وَبَغْلَتَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَقَدْ مَاتَ وَمَا فِي بيتى شئ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي وَقَالَ لِي (إِنَّي عُرِضَ عَلَيَّ أَنْ يُجْعَلَ لِي بَطْحَاءُ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ لَا يَا رَبِّ أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَأَمَّا الْيَوْمَ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ فَأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ وَأَدْعُوكَ وَأَمَّا الْيَوْمَ الَّذِي أَشْبَعُ فِيهِ فَأَحْمَدُكَ وَأُثْنِي عَلَيْكَ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ (أَتُحِبُّ أَنْ أَجْعَلَ هَذِهِ الْجِبَالَ ذَهَبًا وَتَكُونَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ؟) فَأَطْرَقَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ (يَا جِبْرِيلُ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ قَدْ يَجْمَعُهَا مَنْ لَا عقْلَ لَهُ) فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ثَبَّتَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كُنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَنَمْكُثُ شَهْرًا مَا نَسْتَوْقِدُ نَارًا إِنْ هُوَ إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ هَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ، وَعَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ (قوله وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بن الحارث) هو ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخو جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقى الخزاعى، له ولأبيه صحبة (قوله إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ) قال الترمذي أي شئ من شعير، وقال ابن الأثير قيل نصف مكوك، وقيل نصف وسق، ويقال شطر وشطير، مثل نصف ونصيف انتهى، وتمام الحديث فأكلت منه حتى طال على فكلته ففنى وهو متفق عليه (قوله في رف) بالراء المفتوحة والفاء، وفى الصحاح الرف شبه الطاق (قوله وأبى أمامة) هو صدى بن عجلان الباهلى (*)

يَبِيتُ هُوَ وَأَهْلُهُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا لَا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا أَكَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى خُوَانٍ وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا قَطُّ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ، وَعَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ مِسْحًا نَثْنِيهِ ثِنْتَيْنِ فينام عليه فَثَنَيْنَاهُ لَهُ لَيْلَةً بِأَرْبَعٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: ما فرشتموا لِي اللَّيْلَةَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رُدُّوهُ بِحَالِهِ فَإِنَّ وَطْأَتَهُ مَنَعَتْنِي اللَّيْلَةَ صَلَاتِي وَكَانَ يَنَامُ أَحْيَانًا عَلَى سَرِيرٍ مَزْمُولٍ بِشَريطٍ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِي جَنْبِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لم يمتلى جَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم شِبَعًا قَطُّ وَلَمْ يَبُثَّ شَكْوَى إِلَى أَحَدٍ وَكَانَتَ الْفَاقَةُ

_ (قوله على خوان) بكسر الخاء المعجمة وضمها قال ابن قرقول ويقال أيضا إخوان وهى المائدة (قوله وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ) قال ابن قرقول هي بضم السين والكاف والراء، وقال ابن مكى صوابه بفتح الراء وهى قصاع صغار يؤكل فيها وليست بعربية، ومعنى ذلك أن العجم كانت تستعملها في الكواميخ وما أشبهها من الجوارشات على الموائد حول الأطعمة للتشهي والهضم، فأخبر أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَم يأكل على هذه الصفة قط، وقال الداودى هي قصعة صغيرة مدهونة (قوله شاة سميطا) في الصحاح سمطت الجدى: أسمطه وأسمطه سمطا، إذا نظفته عن الشعر بالماء الحار لتشويه فهو سميط ومسموط (قوله مسحا) بكسر الميم وسكون السين وبالحاء المهملتين أي بلاسا (قوله مزمول بشريط) في الصحاح يقال زمل سريره وأزمله إذا زمل شريطا أو غيره فجعله ظهرا له، والشريط حبط يفتل منخوص (قوله شبعا) بكسر الشين المعجمة وفتح الموحدة نقيض الجوع والشبع، بسكون الموحدة اسم ما أشبعك من شئ (قوله ولم يبث) بفتح المثناة التحتية وضم الموحدة بعدها مثلثة. (*)

(فصل) وأما خوفه ربه وطاعته له وشدة عبادته

أَحَبَّ إليْهِ مِنَ الْغِنَى وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جائعا ليلتوى طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ فَلَا يَمْنَعُهُ صِيَامَ يَوْمِهِ وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جميع كنور الْأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغَدَ عَيْشِهَا وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أرَى بِهِ وَأَمْسَحُ بِيَدِي عَلَى بَطْنِهِ مِمَّا بِهِ مِنَ الْجُوعِ وَأَقُولُ نَفْسِي لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ فَيَقُولُ (يَا عَائِشَةُ مالى وَلِلدُّنْيَا؟ إِخْوَانِي مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا عَلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا فَمَضَوْا عَلَى حَالِهِمْ فَقَدِمُوا عَلَى رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ فَأَجِدُنِي أَسْتَحْيِي إِنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي أَنْ يُقَصَّرَ بِي غَدًا دُونَهُمْ وَمَا من شئ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بِإِخْوَانِي وَأَخِلَّائِي، قَالَتْ فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إِلَّا شَهْرًا حَتَّى تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فصل) وَأَمَّا خَوْفُهُ رَبَّهُ وَطاعَتُهُ لَهُ وشِدَّةُ عِبَادَتِهِ فَعَلى قَدْرِ عِلْمِهِ بِرَبَّهُ وَلِذَلِكَ قَالَ فيما حدثا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الطَرَابُلْسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل حدثنا يحيى ابن بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شهاب عن سعيد بن المسيب

_ (قوله عن الليث) هو ابن سعد، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ عبد الرحمن بن أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ في تاريخ مصر: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفقيه يكنى أبا الحارث يقال إنه مولى بنى فهم، ثم لآل خالد بن ناشر بن طاعن الفهمى، ثم مِنْ بَنِي كِنَانَةَ بن عمر بن القيس، وكان اسمه في ديوان مصر في موالى بنى كنانة من فهم وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أهل أصبهان، قال ابن يونس وليس لما قالوه من ذلك عندنا صحة وأخرج ابن يونس من طريق عمرو بن أبى الظاهر بن السرح، قال: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ بكير يقول سعد والد (*)

أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لو تعلمون ما أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) ، زَادَ في روايتنا

_ الليث كان من موالى قريش، ثم افترض في بنى فهم فنسب إليهم، وقال يعقوب ابن سفيان في تاريخه قال يحيى بن بكير سمعت شعيب بن الليث يقول: كان الليث يقول لنا قال لى بعض أهلى إنى ولدت سنة اثنين وتسعين، والذى أوقن أنى ولدت سنة أربع وتسعين، وقال أبو صالح كاتب الليث، سمعت الليث يقول: مات عمر بن عبد العزيز ولى سبع سنين، وكانت وفاة عمر سنة إحدى ومائة، وقال أبو نعيم في الحلية: أدرك الليث نيفا وخمسين رجلا من التابعين وأسند أبو نعيم عن محمد بن رمح قال: كان دخل الليث في كل سنة ثمانين ألف دينار ما أوجب الله عليه قط بزكاة ووصل ابن لهيعة لما احترقت داره بألف دينار وحج فأهدى إليه مالك طبقا فيه رطب فرد إليه على الطبق ألف دينار وأخرج أبو نعيم عن لؤلؤ خادم الرشيد قال جرى بين هارون الرشيد وبين بنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام فقال هارون أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا ثم كتب إلى البلدان فاستحضر علماءها إليه، فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم فاختلفوا وبقى شيخ لم يتكلم وكان في آخر المجلس، قال فسأله فقال إذا خلا أمير المؤمنين في مجلسه كلمته فصرفهم فقال: يدنينى أمير المؤمنين فأدناه فقال: أتكلم على الأمان فقال نعم، فأمر بإحضار مصحف، فأحضره، فقال: تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها ففعل، فلما انتهى إلى قوله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان، قال أمسك يا أمير المؤمنين، قل والله، قال فاشتد ذلك على هارون، فقال يا أمير المؤمنين الشرط أملك فقال والله حتى فرغا من اليمين، قال: قل إنى أخاف مقام ربى فقال ذلك، فقال يا أمير المؤمنين هي جنتان، وليس بجنة واحدة، قال فسمعت التصفيق والفرح من وراء الستر، فقال له الرشيد: أحسنت والله، وأمر له بالجوائز والخلع وأمر له بإقطاع ولا ينصرف أحد بمصر إلا بأمره وصرفه مكرما، قال خليفة بن حياط ومحمد بن سعد والبخاري وغير واحد، مات الليث سنة خمس وسبعين ومائة زاد ابن سعد يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من شعبان (قوله عن عقيل) بضم المهملة وفتح القاف: ابن خالد الأيلي (*)

عَنْ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذيِّ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي ذر رضي اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّي أرى مالا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ) لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرةٌ تُعْضَدُ، رُوِيَ هَذَا الْكَلَامُ: وَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ، مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ نَفْسِهِ وَهُوَ أَصَحُّ وَفِي حَدِيث المُغِيرَةِ: صلى رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. وَنَحْوَهُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ عَمَلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسم دِيَمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ. وَقَالَتْ: كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ * وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَأَنَسٍ وَقَالَ: كُنْتَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ فِي اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مصليا

_ (قوله أطت) بهمزة مفتوحة وطاء مهملة مشددة بعدها مثناة فوقية للتأنيث، قال ابن الأثير: الأطيط صوت الأقباب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي مَا فِيهَا مِنَ الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلامه للتقريب أريد به تعريف عظمة الله انتهى (قوله إلى الصعدات) أي الطرقات، جمع صعد بضمتين جمع صعيد، كطريق وطرق وطرقات، وقيل جمع صعدة كظلمة وهى فناء الباب وممر الناس بين يديه (قوله تجأرون) الجؤار: رفع الصوت (قوله أتكلف) أي أتتكلف فحذف إحدى التاءين (قوله وأم سلمة) اسمها هند على الصحيح، وقيل رملة بنت أبى أمية بن حذيفة. (*)

وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَاكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ مَعَهُ فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ، فَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، ثُمَّ سَجَدَ وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرانَ، ثُمَّ سُورَةً سُورَةً، يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ مِثْلُهُ وَقَالَ: سَجَدَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَجَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْهُ وَقَامَ حَتَّى قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ * وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ. قَالَ ابْنُ أَبِي هَالَةَ: كان رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) وَرُوِيَ (سَبْعِينَ مَرَّةً) * وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سُنَّتِهِ فَقَالَ (الْمَعْرِفَةُ رَأْسُ مَالِي وَالْعَقْلُ أَصْلُ دِينِي وَالْحُبُّ أَسَاسِي وَالشَّوْقُ مركبي

_ (قوله بآية من القرآن ليلة) هي قَوْلِه تَعَالَى (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم) (قوله ابن الشخير) بكسر الشين والخاء المعجمتين، صحابي نزل البصرة (قوله أزيز) بفتح الهمزة وبعدها زاى فمثناة تحتية ساكنة فزاى: أي صوت من البكاء، وقيل أن يجيش جوفه فيغلى بالبكاء كغليان المرجل، بكسر الميم وسكون الراء، وهو القدر. وفى الصحاح الأزيز: صوت الرعد وغليان القدر (*)

(فصل)

وَذِكْرُ اللَّهِ أَنِيسِي وَالثِّقَةُ كَنْزِي وَالحُزْنُ رَفِيقِي وَالْعِلْمُ سِلَاحِي وَالصَّبْرُ رِدَائِي وَالرِّضَاءُ غَنِيمَتِي وَالْعَجْزُ فَخْرِي وَالزُّهْدُ حِرْفَتِي وَالْيَقِينُ قُوَّتِي وَالصِّدْقُ شَفِيعِي وَالطَّاعَةُ حَسْبِي وَالْجِهَادُ خُلُقِي وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: وَثَمَرَةُ فُؤَادِي فِي ذِكْرِهِ وَغَمِّي لِأَجْلِ أُمَّتِي. وَشَوْقِي إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. (فصل) اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ صِفَاتِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم مِنْ كَمَالِ الْخَلْقِ حسن الصُّورَةِ وَشَرَفِ النَّسَبِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَجَمِيعُ الْمَحَاسِنِ هي هَذِهِ الصِّفَةُ لِأَنَّهَا صِفَاتُ الْكَمَالِ وَالْكَمَالُ وَالتَّمَامُ الْبَشَرِي وَالْفَضْلُ الْجَمِيعُ لهم صلوات اللهم عَلَيْهِمُ إِذْ رُتْبَتُهُمْ أَشْرَفُ الرُّتَبِ وَدَرَجَاتُهُمْ أَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَلَكِنْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعض) وَقَالَ (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) وقد قال صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَوَّلَ زُمَرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْحَدِيثَ عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَأَيْتُ مُوسَى فَإِذَا

_ (قوله والرضا غنيمتي) في الصحاح رضيت عنه رضى مقصور مصدر محض والاسم الرضاء ممدود عن الأخفش (قوله عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ واحد) روى بضم الخاء وفتحها (*)

هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ رَجْلٌ أَقْنَى كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَرَأَيْتُ عِيسَى فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ كَثِيرُ خَيْلَانِ الْوَجْهِ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ وَفِي حديث آخر مُبَطَّنٌ مِثْلُ السَّيْفِ قَالَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ * وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ * وَفِي حَدِيثِ أبي هريرة رضي الله عنه، عنه صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْدِ لُوطٍ نَبِيًّا إِلَّا فِي ذُرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَيُرْوَى فِي ثَرْوَةٍ أَيْ كَثْرَةٍ وَمَنَعَةٍ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ قَتَادَةَ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَكَانَ نَبِيُّكُمْ

_ (قوله ضرب) بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة هو الجسم بين جسمين ليس بناحل ولا مطهم. وقال الخليل هو القليل اللحم (قوله رجل) بفتح الراء وسكون الجيم أي منكسر الشعر قليلا ليس بسيطه ولا بجعده (قوله أقنى) بفتح الهمزة وسكون القاف القنا بفتح القاف والقصر طول الأنف ودقة أرنبته، ويقال رجل أقنى وامرأة قنواء (قوله مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) في الصحاح أزد شنوءة حى من اليمن والنسب إليهم شنائى قال ابن السكيت وربما قالوا شنوة بالتشديد غير مهموز (قوله ربعة) بفتح الراء وسكون الموحدة وفتحها قال ابن قرقول هو الرجل بين رجلين (قوله كَثِيرُ خَيْلَانِ الْوَجْهِ) الخيلان بكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية ساكنة الشامات (قوله من ديماس) قال الهروي: هو بفتح الدال وكسرها، وجاء في الحديث تفسيره بالحمام وقيل هو السرب وقيل الكن (قوله مبطن) بضم الميم وفتح الموحدة، قال الهروي المبطن الضامر البطن (قوله مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ) بضم الهمزة وسكون الدال المهملة أي سمر الرجال قال ابن الأثير الأدمة في الإبل البياض مع سواد المقلتين، وفى الناس السمرة الشديدة واستدل بعضهم على كون موسى اسمر بقوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) (*)

أحصنهم وَجْهًا وَأَحسَنَهُمْ صَوْتًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * وَفِي حَدِيثِ هِرقْلَ وَسَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أنْسَابِ قَوْمِهَا وَقَالَ تَعَالَى فِي أيُّوبَ (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) وَقَالَ تَعَالَى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) إِلَى قَوْلِهِ (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) وَقَالَ (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى - إِلَى - الصَّالِحِينَ) وَقَالَ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عمران) الآيتين وقال فِي نُوحٍ (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) وقال (أن اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ - إِلَى - الصالحين) وَقَالَ (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ - إِلَى - مادمت حيا) وقال (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى) الآيَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ مُوسَى رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا مَا يُرَى مِنْ جسده شئ اسْتِحْيَاءً الْحَدِيثَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) الآيَة وَقَالَ فِي وَصْفِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمين) وَقَالَ (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) وَقَالَ (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَر أُولُوا العَزْم من الرسل) وَقَالَ (وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ كُلَّا هَدَيْنَا) إِلَى قَوْلِهِ (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) فَوَصَفَهُمْ بِأَوَصَافٍ جَمَّةٍ مِنَ الصَّلَاحِ والْهُدَى وَالاجْتِبَاءِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ وقال (فبشرناه بغلام عليم - إلى - وحليم) وَقَالَ (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ

_ (قوله في أيوب) كان أيوب عليه السلام ببلاد حوران ققبره مشهور عندهم. (قوله ستيرا) بكسر المهملة وتشديد المثناة الفوقية أي كثير الستر (*)

رَسُولٌ كَرِيمٌ - إِلَى - أمين) وَقَالَ (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) وَقَالَ فِي إِسْمَاعِيلَ (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) الآيَتَيْنِ وَفِي مُوسَى (إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا) وَفِي سُلَيْمَانَ (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) وَقَالَ (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ - إلى - الأخيار) وفى داود (إنه أواب) ثُمَّ قَالَ (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخطاب) وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عليم) وَفِي مُوسَى (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) وَقَالَ تَعَالَى عَنْ شَعَيْبٍ (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله من الصحالين) وقال (ما أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا استطعت) وَقَالَ (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حكما وعلما) وَقَالَ (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) الآية قَالَ سُفْيَانُ هُوَ الْحُزْنُ الدَّائِمُ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَ فِيهَا مِنْ خِصَالِهِمْ وَمَحَاسِنِ أخْلَاقِهِمِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِمْ وَجَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الكريم: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بن اسحق بْنِ إِبْرَاهِيمَ نَبِيُّ ابْنُ نَبِيِّ ابْنِ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ. وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ مَعَ مَا أُعْطِيَ مِنَ الْمُلْكِ لَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءَ تَخَشُّعًا وَتَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ يُطْعِمُ النَّاسَ لَذَائِذَ الْأَطْعِمَةِ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ يَا رَأْسَ الْعَابِدِينَ وَابْنَ مَحَجَّةِ الزَّاهِدِينَ وَكَانَتِ الْعَجُوزُ تَعْتَرِضُهُ وَهُوَ عَلَى الرِّيحِ فِي جُنُودِهِ

فَيَأْمُرُ الرِّيحَ فَتَقِفُ فَيَنْظُرُ فِي حَاجَتِهَا وَيَمْضِي وَقِيلَ لِيُوسُفَ مالك تَجُوعُ وَأنْتَ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ قَالَ أَخَافُ أَنْ أشْبَعَ فَأَنْسَى الْجَائِعَ وَرَوَى أبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وَسَلَّمَ: خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ فَكَانَ يَأْمُرُ بدابته فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وَكَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يعنيه عَنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَكَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ ويَفتَرِشُ الشَّعَرَ وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالْمِلْحِ وَالرَّمَادِ وَيَمْزِجُ شَرَابَهُ بِالدُّمُوعِ وَلَمْ يُرَ ضَاحِكًا بَعْدَ الخَطِيئَةِ وَلَا شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يَزَلْ بَاكِيًا حَيَاتَهُ كُلَّهَا وَقِيلَ بكى حتى نبته الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ وَحَتَّى اتَّخَذَتِ الدُّمُوعُ فِي خده أخددا وَقِيلَ كَانَ يَخْرُجُ مُتَنَكِّرًا يَتَعَرَّفُ سِيرَتَهُ فَيَسْمَعُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ فَيَزْدَادُ تَوَاضُعًا، وَقِيلَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوِ اتَّخَذْتَ حِمَارًا قَالَ أَنَا أكْرَمُ على الله تعالى مِنْ أَنْ يَشْغَلَنِي بِحِمَارٍ وَكَانَ يَلْبَسُ الشَّعَرَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ أَيْنَمَا أَدْرَكَهُ النَّوْمُ نَامَ وَكَانَ أحب

_ (قوله خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ القرآن) أي الزبور لأنه مقروء (قوله أخدودا) هو في الأصل اسم للشق المستطيل في الأرض. (*)

(فصل)

الأَسَامِي إِلَيْهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ مِسْكِينٌ وَقِيلَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ كَانَتْ تُرَى خُضْرَةُ الْبَقْلِ فِي بَطْنِهِ مِنَ الْهُزَالِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يُبْتَلَى أحَدُهُمْ بِالْفَقْرِ وَالْقَمْلِ وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَطَاءِ إِلَيْكُمْ وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَنْزِيرٍ لَقِيَهُ (اذْهَبْ بِسَلَامٍ) فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْرَهُ أنْ أعود لساني المنطبق بِسُوءٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ طَعَامُ يَحْيَى الْعُشْبَ وَكَانَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى اتَّخَذَ الدَّمْعُ مَجْرًى فِي خَدِّهِ وَكَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ لِئَلَّا يُخَالِطَ النَّاسَ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ وَهْبٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْتَظِلُّ بِعَرِيشٍ وَكَانَ يَأْكُلُ فِي نُقْرَةٍ مِنْ حَجَرٍ وَيَكْرَعُ فِيهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ كَمَا تَكْرَعُ الدَّابَّةُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ بِمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ وَأَخْبَارُهُمْ فِي هَذَا كَلِّهِ مَسْطُورَةٌ وَصِفَاتُهُمْ فِي الْكَمَالِ وَجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّوَرِ وَالشَّمَائِلِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ فَلَا نُطَوِّلُ بِهَا وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى مَا تَجِدْهُ فِي كُتُبِ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسَّرِينَ مِمَّا يُخَالِفُ هَذَا. (فصل) قَدْ آتَيْنَاكَ أَكْرَمَكَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمَجِيدَةِ وَخِصَالِ الْكَمَالِ الْعَدِيدَةِ وَأَرَيْنَاكَ صِحَّتَهَا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَبْنَا مِنَ الآثَارِ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَالْأَمْرُ أَوْسَعُ فمجال هذا

_ (قوله بعريش) هو ما يستظل به (قوله كَمَا تَكْرَعُ الدَّابَّةُ) الكرع الشرب من الماء بالفم من غير أن يشرب بكف أو إناء وقال ابن دريد لا يكون الكرع إلا إذا خاض الماء بقدميه فشرب منه (قوله مقنع) بفتح الميم وسكون القاف وفتح النون في الصحاح المقنع بالفتح العدل من الشهود، ويقال فلان شاهد مقنع أي رضى يقنع به (*)

الْبَابِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَدَّ يَنْقَطِعُ دون نفاده الأدِلَّاءِ وَبَحْرُ عِلْمِ خَصَائِصِهِ زَاخِرٌ لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ وَلَكِنَّا أَتَيْنَا فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ مِمَّا أَكْثَرُهُ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ واقْتَصَرْنا فِي ذَلِكَ بِقُلَّ مِنْ كُلِّ وَغَيضٍ مِنْ فَيْضٍ وَرَأَيْنَا أَنْ نَخْتِمَ هَذِهِ الْفُصُولَ بِذِكْرِ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ أَبِي هَالَةَ لِجَمْعِهِ مِنْ شَمَائِلِهِ وَأَوْصَافِهِ كَثِيرًا وَإِدْمَاجِهِ جُمْلَةً كَافِيَةً مِنْ سِيَرِهِ وَفَضَائِلِهِ وَنَصِلُهُ بتَنِبيهٍ لَطِيفٍ عَلَى غَرِيبِهِ وَمُشْكِلِهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ رَحِمَهُ الله بقراءتي عليه سنة ثمان وخمسمائة قَالَ حَدَّثَنَا الإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ فِيمَا قَرَأْتُ عَلَيْهِ أَخْبَرَكُمُ الْفَقِيهُ الْأَدِيبُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ النَّيْسَابُورِيُّ وَالشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمُحمَّدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ الْوَخْشِيُّ قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ على ابن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْخُزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الهيثم بن كليب الشاشى

_ (قوله نفاده الأدلاء) النفاد بالنون المفتوحة والفاء والدال المهملة، يقال نفد الشئ بالكسر نفادا فنى والأدلاء بكسر الدال المهملة وتشديد اللام جمع أدلة وهى جمع دليل (قوله قل) بضم القاف وتشديد اللام، في الصحاح القل والمقلة مثل الذل والذلة، وفى الحديث الربا وإن كثر فهو إلى قل (قوله وَغَيضٍ مِنْ فَيْضٍ) الغيض بالغين والضاد المعجمتين، والفيض بالفاء والضاد المعجمة في الصحاح، ويقال غاض الكرام، أي قلوا وفاض اللئام أي كثروا، وقولهم أعطاه غيضا من فيض أي قليلا من كثير (قوله الوخشى) بواو مفتوحة وخاء ساكنة وشين معجمتين (قوله الشاشى) بمعجمتين (*)

أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا جُمَيْعُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ إِمْلَاءً مِنْ كِتَابِهِ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ زَوْجِ خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنٍ لأَبِي هَالَةَ عَنِ الحسن بن علي ابْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَرَأْتُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرٍ أحمد بن الحسن ابن أحمد بن خذادادا الْكَرْجِيِّ الْبَاقِلَّانِيِّ قَالَ وَأَجَازَ لَنَا الشَّيْخُ الْأَجَلُّ أَبُو الفَضْلِ أحمد بن الحسن ابن خَيْرُونَ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أحمد بن إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ ابن مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ مِهْرَانَ الْفَارِسِيُّ قِرَاءَةً عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَخِي طَاهِرٍ الْعَلَوِيُّ قَالَ حدثنا

_ (قوله جميع) بضم الجيم وفتح الميم وسكون المثناة التحتية بعدها عين مهملة (قوله خذاداد) الكرجى خذاداد بخاء فذال معجمتين فألف فمهملتين بينهما ألف أو معجمتين بينهما ألف ومعناه بالفارسية عطاء الله والكرجي بالكاف المتفوحة والجيم كذا ضبط في النسخ المعتبرة (قوله ابن شاذان) بشين وذال معجمتين (قوله ابن مهران) بكسر الميم (قوله وَاللَّفْظُ لِهَذَا السَّنَدِ) بالنون أي الإسناد (قوله فخما مفخما) الفخم بفتح الفاء وسكون الخاء المعجمة العظيم والمفخم بضم الميم وفتح الفاء والخاء المعجمة وتشديدها المعظم (قوله المشذب) بميم مضمومة وشين وذال مفتوحتين معجمتين وباء موحدة (*)

إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أخيه مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَاللَّفْظُ لِهَذَا السَّنَدِ سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ عَنْ حِلْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ وَصَّافًا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا أَتَعَلَّقُ بِهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَخْمًا مُفَخَّمًا يَتَلأْلأُ وجهه تلألء الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَطْوَلَ مِنَ الْمَرْبُوعِ وأنصر مِنَ الْمُشَذَّبِ عَظِيمَ الْهَامَةِ رَجِلَ الشَّعَرِ إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيقَتُهُ فَرَقَ وَإِلَّا فَلا يحاوز شَعْرُهُ شَحْمَةَ أُذْنَيْهِ إذا هو وفره أَزْهَرَ اللَّوْنِ وَاسِعَ الْجَبِينِ أَزَجَّ الْحَوَاجِبِ سَوَابِغَ مِنْ غَيْرِ قَرَنٍ بَيْنَهُمَا عِرْقٌ يُدِرُّهُ الْغَضَبُ أَقْنَى الْعِرْنَينِ لَهُ نُورٌ يَعْلُوهُ وَيَحْسَبُهُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْهُ أَشَمَّ كَثَّ اللِّحْيَةِ أَدْعَجَ سَهْلَ الْخَدَّيْنِ ضَلِيعَ الفم

_ (قوله وفر) قال المزى المعروف وفره بزيادة هاء مع تشديد الفاء، وفى الصحاح الوفرة الشعر إلى شحمة الأذن (قوله أزهر اللون) أخرج أَبُو حَاتِم عَن عَائِشَة رضي اللَّه عَنْهَا أنَّه صَلَّى الله عليه وسلم كان أبيض اللون وأخرج أيضا عن علي رضي الله عنه أنه كان أبيض مشربا بحمرة وفي حديث أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان أسمر قال المحب الطبري ويرد هذا الأخير ما فِي الصَّحِيح من حديث أنس أنه عليه السلام لم يكن بالأبيض ولا بالآدم (قوله ضليع الفم) الضليع بفتح الضاد الممعجمة وكسر (*)

أَشْنَبَ مُفَلَّجَ الْأَسْنَانِ دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ كَأَنَ عُنُقَهُ جِيدُ دُمْيَةٍ فِي صَفَاءِ الْفِضَّةِ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ بَادِنًا مُتَمَاسِكًا سَوَاءَ الْبَطْنِ والصدر مشيخ الصَّدْرِ بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ أَنْوَرَ الْمُتَجَرَّدِ مَوْصُولَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَالسُّرَّةِ بِشَعَرٍ يَجْرِي كَالْخَطِّ عَارِيَ الثَّدْيَيْنِ مَا سِوَى ذَلِكَ أشْعَرَ الذِّرَاعَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ وَأَعَالِي الصَّدْرِ طَوِيلَ الزَّنْدَيْنِ رَحْبَ الرَّاحَةِ شَثْنَ الكَفَّيْنِ والْقَدَمَيْنِ سَائِلَ الْأَطْرَافِ أَوْ قَالَ سَائِنَ الْأَطْرافِ وَسَائِرَ الْأَطْرَافِ سَبْطَ الْعَصَبِ خُمْصَانَ الْأَخْمَصَيْنِ مَسِيحَ الْقَدَمَيْنِ يَنْبُو

_ اللام بعدها مثناة تحتية وعين مهملة (قوله المسربة) بفتح الميم وسكون السين المهملة (قوله جيد دمية) الجيد بكسر الجيم وسكون المثناة التحتية بعدها دال مهملة العنق والدمية بضم الدال المهملة وسكون الميم بعدها مثناة تحتية الصورة من العاج (قوله مشيح) بضم الميم وكسر الشين المعجمة بعدها مثناة تحتية فحاء مهملة (قوله اللبه) بفتح اللام وتشديد الموحدة أي المنحر. والجمع اللبات وكذلك اللبب وهو موضع القلادة من الصدر من كل شئ (قوله الزندين) بفتح الزاى (قوله شئن) بفتح الشين المعجمة وسكون المثلثة، قال ابن الأثير شئن الكفين والقدمين أي يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل هو الذى في أنامله غلط بلا قصر ويحمد ذلك في الرجال (قوله سبط العصب) بالعين والصاد المهملتين، كذا في الأصول، قال ابن القطاع الجسم سبط بسكون الباء والشعر سبط بكسرها وللفاراني معناه وفى الصحاح العصب والأعصاب أطناب المفاصل وقال ابن الأثير في صفته عليه السلام سبط العصب والسبط بسكون الباء وكسرها المتد الذى ليس فيه تعقد ولا نتو، والعصب يريد بها ساعديه وساقيه، وقال الهروي في قصب بالقاف والصاد المهملة والباء الموحدة، وفى صفته عليه السلام سبط القصب، قال وكل عظم عريض لوح وكل أجوف فيه مخ قصب وجمعها قضب انتهى (قوله خمصان) بضم الخاء المعجمة (قوله مسيح بفتح) (*)

عَنْهُمَا الْمَاءُ إِذَا زَالَ زَالَ تَقَلُّعًا وَيَخْطُو تَكَفُّؤًا وَيَمْشِي هَوْنًا ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا خَافِضَ الطَّرْفِ نظره إلى الأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ جُلُّ نَظَرِهِ المُلَاحَظَةُ يَسُوقُ أَصْحَابَهُ وَيَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ قُلْتُ صِفْ لِي مَنْطِقَهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ طَوِيلَ السُّكُوتِ يَفْتَتِحُ الكلام ويختمه بأشداقه وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فضلا لَا فُضُولَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ دَمِثًا لَيْسَ بالجنا في ولا المهين يعضم النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ لا يذم شئيا لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ وَلَا يُقَامُ لِغَضَبِهِ إذا تعرض

_ الميم وكسر السين المهملة بعدها مثناة تحتية وحاء مهملة (قوله متواصل الأحزان) قال ابن قيم الجوزية حديث هِنْدَ بْنَ أَبِي هالة في صِفَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه كان متواصل الأحزان لا يثبت وفي أسناد من لا يعرف وكيف يكون متواصل الأحزان، وقد صانه الله تعالى عن الحزن في الدنيا وأسبابها ونهاه عن الحزن على الكفار وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فمن أين يأتيه الحزن بل كان عليه السلام دائم البشر ضحوك السن استعاذ من الهم والحزن. والفرق بينهما أن المكروه الذى يرد على القلب إن كان لما يستقبل فهوا لهم، وإن كان لما مضى فهو الحزن: وقال أبو العباس بن تيمية ليس المراد بالحزن، في حديث هِنْدَ بْنَ أَبِي هالة الألم على فوت مطلوب أو حصول مكره، فإن ذلك منهى عنه، ولم يكن من حاله وإنما المراد به الاهتمام والتيقظ، ولما يستقبله من الأمور (قوله فصلا) بفتح الفاء وسكون الصاد المهملة (قوله دمثا) بفتح الدال المهملة وكسر الميم وبالمثلثة من الدماثة وهى سهولة الخلق (قوله ولا المهين) بفتح الميم وضمها قال ابن الأثير، فالضم من الإهانة، أي لا يهين أحدا من الناس والفتح من (*)

للحق بشئ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ وَلا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَّبَهَا وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا فَضَرَبَ بِإبْهَامِهِ الْيُمْنَى رَاحَتَهُ الْيُسْرَى وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ وَإِذَا فَرِحَ غَضَّ طَرْفَهُ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ وَيَفْتَرُّ عَنْ مِثْلِ حَبِّ الْغَمَامِ قَالَ الْحَسَنُ فَكَتَمْتُهَا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ زَمَانًا ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَسَأَلَ أَبَاهُ عَنْ مَدْخَلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَخْرَجِهِ وَمَجْلِسِهِ وَشَكْلِهِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا قَالَ الْحُسَيْنُ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ دُخُولُهُ لِنَفْسِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ جزءا لله وجزئا لأهله وجزءا لنفسه ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بينه وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بِالْخَاصَّةِ وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا فَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ فِي جُزْءِ الأُمَّةِ إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ بِإِذْنِهِ وَقِسْمَتُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ مِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ ويشغلهم فيما

_ المهانة أي الحقارة (قوله وأشاح) بالشين المعجمة والحاء المهملة (قوله إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بكفه كلها) قال ابن الأثير أراد أن إشارته مختلفة فما كان منها في ذكر التوحيد والتشهد كان بالمسبحة وحدها وَمَا كَانَ فِي غير ذلك كان بكفه كلها ليكون بين الإشارتين فرق (قوله بفتر) في الصحاح افتر فلان ضاحكا أي أبدى أسنانه (قوله فَيَرُدُّ ذَلِكَ) عَلَى العامة بالخاصة قال ابن الأثير أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت فكانت الخاصة تخبر العامة بما سمعت منه، فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة وقيل إن الباء بمعنى عن أي يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة وبدلا منهم (*)

يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مسألته عنهم وأخبارهم بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ وَيقُولُ لِيُبْلِّغَ الشَّاهِدُ مِنكُمُ الْغَائِبَ وَأَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغِي حَاجَتَهُ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلاغَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُذْكَرُ عِنْدهُ إِلَّا ذَلِكَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ قَالَ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ: يَدْخُلُونَ رُوَّادًا وَلَا يَتَفَرَّقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ وَيَخْرُجُونَ أَدِلَّةً يَعْنِي فُقَهَاءَ قُلْتُ فَأَخْبِرْنِي عَنْ مَخْرَجِهِ كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْزُنُ لِسَانَهُ إِلا مِمَّا يُعْنِيهِمْ وَيُؤَلِّفُهُمْ وَلَا يُفَرِّقُهُمْ يُكْرِمُ كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ ويوليه عليهم ويحذر النَّاسَ وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ من غَيْرِ أَنْ يَطْوِي عَنْ أَحَدٍ بِشْرَهُ وَخُلُقَهُ وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ وَيَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي النَّاسِ ويُحَسِّنُ الْحَسَنَ وَيُصَوِّبُهُ وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ وَيُوَهِّنُهُ مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ لَا يَغْفُلُ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفَلُوا أَوْ يَمَلُّوا لِكُلِّ حَالٍ عِندَهُ عَتَادٌ لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْحَقِّ وَلَا يُجَاوِزُهُ إِلَى غَيْرِهِ الَّذِينَ يَلُونَهُ مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَحْسَنُهُمْ مواساة وموازرة فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ عَمَّا كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْلِسُ وَلَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ وَلَا يُوَطِّنُ الْأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ ويُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ نصيبه

_ (قوله يخزن) بسكون الخاء المعجمة وضم الزاى (قوله عتاد) بفتح العين المهملة وتخفيف المثناة الفوقية، وفى آخره دال مهملة. (*)

حَتَّى لَا يَحْسَبَ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ لِحَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفُ عَنْهُ مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ قَدْ وَسِعَ النَّاسَ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ فَصَارَ لَهُمْ أَبًا وَصَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ مُتَقَارِبِينَ مُتَفَاضِلِينَ فِيهِ بِالتَّقْوَى وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى صَارُوا عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأصْوَاتُ وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ، وَلَا تنشى فَلَتَاتُهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ غَيْرِ الرِّوَايَتَيْنِ يَتَعَاطَفُونَ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمُونَ الصَّغِيرَ ويُرْفِدُونَ ذَا الْحَاجَةِ وَيَرْحَمُونَ الْغَرِيبَ فَسأَلْتُهُ عَنْ سِيرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُلَسَائِهِ فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمَ الْبِشْرِ، سَهْلَ الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ وَلَا فَحَّاشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَدَّاحٍ يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُؤْيَسُ مِنْهُ قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ: الرِّيَاءِ، وَالْإِكْثَارِ، وَمَا لَا يُعْنِيهِ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلَاثٍ: كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا، وَلَا يُعَيِّرُهُ وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ، إِذَا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطَيْرُ وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ، حَدِيثُهُمْ حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ

_ (قوله تنثى) بضم المثناة الفوقية وسكون النون بعدها مثلثة أي لا نشاع يقال نثوت الحديث أنثوة نثوا أي أشعته (قوله وترفدت) يقال رفده يرفده بكسر الفاء في المستقبل إذ أعطاه وأرفده إرفادا إذا أعانه (*)

(فصل في تفسير غريب هذا الحديث ومشكله)

عَلَى الْجَفْوَةِ فِي الْمَنْطِقِ وَيَقُولُ إِذَا رَأَيْتُمْ صَاحِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ وَلَا يَطْلُبُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَتَجَوَّزَهُ فَيَقْطَعَهُ بِانْتِهَاءٍ أَوْ قِيَامٍ، هُنَا انْتَهَى حَدِيثُ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، وَزَادَ الآخَرُ قُلْتُ كَيْفَ كَانَ سُكُوتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: كَانَ سُكُوتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ: عَلَى الْحِلْمِ، وَالْحَذَرِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّفَكُّرِ * فَأَمَّا تَقْدِيرُهُ فَفِي تسوية النظير وَالاسْتِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ * وَأَمَّا تَفَكُّرُهُ فَفِيمَا يَبْقَى وَيَفْنَى وَجُمِعَ لَهُ الْحِلْمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فِي الصَّبْرِ فَكَانَ لا يغضبه شئ يسنفزه وجميع لَهُ فِي الْحَذَرِ أَرْبَعٌ: أَخْذُهُ بِالْحَسَنِ لِيُقْتَدَى بِهِ وَتَركُهُ الْقَبِيحَ لِيُنْتَهَى عَنْهُ وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ بِمَا أصْلَحَ أُمَّتَهُ وَالْقِيَامُ لَهُمْ بِمَا جَمَعَ لَهُمْ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. انْتَهَى الْوَصْفُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ. (فصل فِي تَفْسِيرِ غَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمُشْكِلِهِ) قَوْلَهُ المُشَذَّبُ أَيِ الْبَائِنُ الطُّولِ فِي نَحَافَةٍ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْمُمَغَّطِ، وَالشَّعَرُ الرَّجِلُ الَّذِي كَأَنَّهُ مُشِطَ فَتَكَسَّرَ قَلِيلًا لَيْسَ بِسَبْطٍ وَلَا جَعْدٍ، وَالْعَقِيقَةُ شَعَرُ الرَّأْسِ أَرَادَ إِنِ انفرقته مِنْ ذَاتِ نَفْسِهَا فَرَقَهَا وَإِلَّا تَرَكَهَا مَعْقُوصَةً وَيُرْوَى عَقِيصَتُهُ، وَأَزْهَرَ اللَّوْنِ نَيِّرُهُ وقيل أزهر حَسَنٌ وَمِنْهُ زَهْرَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْ زِينَتُهَا وَهَذَا كَمَا قال في الحديث

_ (قوله يستفزه) بالفاء والزاى (قوله الممغط) قال الهروي قال أبو زيد يقال أمغط النهار أي امتد، ومغطت الحبل فانمغط وامغط، وقال أبو تراب في كتاب الاعتقاب ممغط وممعط بالمعجمة والمهملة انتهى (11 - 1) (*)

الآخَرِ لَيْسَ بِالْأَبَيْضِ الْأَمْهَقِ وَلَا بِالآدَمِ، والأَمْهَقُ: هُوَ النَّاصِعُ الْبَيَاضِ وَالآدَمُ الأَسْمَرُ اللَّوْنِ، وَمِثْلُهُ فِي الحديث الآخر: أببض مُشْرَبٌ أَيْ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَالْحَاجِبُ الْأَزَجُّ الْمُقَوَّسُ الطَّوِيلُ الوَافِرُ الشَّعَرِ، وَالأقْنَى: السَّائِلُ الْأَنْفِ الْمُرْتَفِعُ وَسَطُهُ، وَالْأَشَمٌ: الطَّوِيلُ قَصَبَةِ الْأَنْفِ، وَالْقَرَنُ: اتِّصَالُ شَعَرِ الْحَاجِبَيْنِ، وَضِدُّهُ البَلَجُ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ وَصْفُهُ بِالْقَرَنِ، وَالْأَدْعَجُ: الشَّدِيدُ سَوَادِ الْحَدَقَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: أَشْكَلُ الْعَيْنِ، وأَسْجَرُ الْعَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي فِي بَيَاضِهَا حُمْرَةٌ، والضَّلِيعُ: الوَاسِعُ وَالشَّنَبُ: رَوْنَقُ الأسنان وماؤها، وقيل: رقتها وتحزيز فيها كما يوجد في أسنان الشباب، والفلج فرق بَيْنَ الثَّنَايَا، ودَقِيقُ الْمَسْرُبَةِ خَيْطُ الشَّعَرِ الَّذِي بَيْنَ الصَّدْرِ وَالسُّرَّةِ، بَادِنٌ ذُو لَحْمٍ وَمُتَمَاسِكٌ مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ يُمْسِكُ. بَعْضُهُ بَعْضًا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ لَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهَّمِ وَلَا بِالْمُكَلْثَمِ أي لَيْسَ بِمُسْتَرْخِي اللَّحْمِ. وَالْمُكَلْثَمُ الْقَصِيرُ الذَّقَنِ، وَسَوَاءُ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ أَيْ مُسْتَوِيهِمَا مُشِيحُ الصَّدْرِ إنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَتَكُونُ مِنَ الْإِقْبَالِ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي أَشَاحَ أَيْ أنَّهُ كَانَ بَادِيَ الصَّدْرِ وَلَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِهِ قَعَسٌ وَهُوَ تَطَامُنٌ فِيهِ وبه يتَّضِحُ قَوْلُهُ قَبْلَ سَوَاءِ الْبَطْنِ والصَّدْرِ أَيْ لَيْسَ بِمُتَقَاعِسِ الصَّدْرِ، وَلَا مفاض البطن، ولمل اللَّفْظَ مَسِيحُ: بِالسِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بِمَعْنَى عَرِيضٍ كَمَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخَرَى، وَحَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ والكراديس رؤس الْعِظَامِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ جَلِيلُ

الْمُشَاشِ وَالْكَتَدِ وَالْمُشَاشُ: رؤس الْمَنَاكِبِ، وَالْكَتَدُ: مُجْتَمَعُ الكنفين وَشَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ لَحِيمُهُمَا، وَالزَّنْدَانِ: عَظْمَا الذِّرَاعَيْنِ، وَسَائِلُ الْأَطْرَافِ أَيْ طَوِيلُ الْأَصَابِعِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ رُوِيَ سَائِلُ الْأَطْرَافِ أَوْ قَالَ سَائِنُ بِالنُّونِ قَالَ وَهُمَا بِمَعْنًى تُبْدَلُ اللَّامُ مِنَ النُّونِ إنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَا وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَسائِرُ الْأَطْرَافِ فَإِشَارَةٌ إِلَى فَخَامَةِ جَوَارِحِهِ كَمَا وَقَعَتْ مُفَصَّلَةً فِي الْحَدِيثِ وَرَحْبُ الرَّاحَةِ أَيْ وَاسِعُهَا وَقِيلَ كَنَّى بِهِ عَنْ سَعَةِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ، وخُمْصَانُ الْأَخْمَصَيْنِ أَيْ متجا في أَخْمَصِ الْقَدَمِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَنَالُهُ الْأَرْضُ مِنْ وَسَطِ الْقَدَمِ، وَمَسِيحُ الْقَدَمَيْنِ أَيْ أَمْلَسُهُمَا وَلِهَذَا قَالَ يَنْبُو عَنْهُمَا الْمَاءُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ خِلافُ هَذَا قَالَ فِيهِ إذا وطئ بقدمه وطئ بِكُلِّهَا لَيْسَ لَهُ أَخْمَصُ وَهَذَا يُوَافِقُ مَعْنَى قَوْلِهِ مَسِيحُ الْقَدَميْنِ وبه قَالُوا سُمِّي الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْمَصُ وَقِيلَ مَسِيحٌ لَا لَحْمَ عَلَيْهَمَا وَهَذَا أَيْضًا يُخَالفُ قوله شئن الْقَدَمَيْنِ وَالتَّقَلُّعُ رَفْعُ الرِّجْلِ بِقُوَّةٍ، وَالتَّكَفُّؤُ: الْمَيْلُ إِلَى سَنَنِ الْمَمْشَى وَقَصْدِهِ، وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ وَالْوَقَارُ، وَالذَّرِيعُ: الْوَاسِعُ الْخَطْوِ أَيْ أَنَّ مَشْيَهُ كَانَ يَرْفَعُ فِيهِ رِجْلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَيَمَدُّ خَطْوَهُ خِلافَ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ وَيَقْصِدُ سَمْتَهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتَثَبُّتٍ دُونَ عَجَلَةٍ كَمَا قَالَ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَقَوْلُهُ يَفْتَتِحُ الْكَلَامُ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ أَيْ لِسِعَةِ فَمِهِ، وَالْعَرَبُ تَتَمَادَحُ بِهَذَا، وَتَذُمُّ بِصِغَرِ الْفَمِ، وَأَشَاحَ: مَالَ وَانْقَبَضَ، وَحَبُّ الْغَمَامَ: الْبَرَدُ، وَقَوْلُهُ: فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ

_ (قوله والكتد) قَال أَبُو عَلِيّ: الفتح أفصح. (*)

أَيْ جَعَلَ مِنْ جُزْءِ نَفْسِهِ مَا يُوَصِّلُ الْخَاصَّةَ إليْهِ فَتُوَصَّلُ عَنْهُ لِلْعَامَّةِ، وَقِيلَ يَجْعَلُ مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ ثُمَّ يُبْدِلُهَا فِي جُزْءٍ آخَرَ بِالْعَامَّةِ: وَيَدْخُلُونَ رُوَّادًا أَيْ مُحْتَاجِينَ إليْهِ وَطَالِبِينَ لِمَا عِنْدَهُ وَلَا يَنْصَرِفُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَاقٍ، قِيلَ: عَنْ عِلْمٍ يَتَعَلَّمُونَهُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ فِي الْغَالِبِ وَالْأَكْثَرِ، وَالْعَتَادُ العدة والشئ الْحَاضِرُ الْمُعَدُّ، وَالْمُوَازَرَةُ الْمُعَاوَنَةُ وَقَوْلُهُ لَا يُوَطَّنُ الْأَمَاكِنَ أَيْ لَا يَتَّخِذُ لِمُصَلَّاهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا، وَقَدْ وَرَدَ نَهْيُهُ عَنْ هَذَا مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَصَابَرَهُ أَيْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يُرِيِدُ صَاحِبُهُ وَلَا نؤبن فِيهِ الْحُرَمُ أَيْ لَا يُذْكَرْنَ فِيهِ بِسُوءٍ وَلَا تُنْثَى فَلَتاتُهُ أَيْ لَا يُتَحَدَّثُ بِهَا أَيْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلْتَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ أَحَدٍ سُتِرَتُ، وَيُرْفِدُونَ: يُعِينُونَ، وَالسَّخَّابُ: الْكَثِيرُ الصِّيَاحِ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ، قِيلَ مُقْتَصِدٌ فِي ثَنَائِهِ وَمَدْحِهِ، وَقِيلَ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِلَّا مِنْ مُكَافِئٍ عَلَى يَدٍ سَبَقَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَيَسْتَفِزُّهُ: يَسْتَخِفُّهُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْهُوسُ الْعَقِبِ أَيْ قَلِيلُ لَحْمِهَا، وَأَهْدَبُ الْأَشْفَارِ: أَيْ طويل شعرها

_ (قوله وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ) بتقديم المثلثة على النون والمد يطلق في الخير ويقيد في الشر ومنه مروا بجنازة فأثنوا عليها شرا وأما النثا بتقديم النون على المثلثة فمقصور ويستعمل في الخير والشر جميعا (قوله وأهدب الأشفار) أهدب بسكون الهاء وفتح الدال المهملة بعدها موحدة، والأشفار بالشين المعجمة والفاء جمع شفر وهو حرف الجفن الذى ينبت عليه الشعر وهو الهدب. (*)

الباب الثالث فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها بعظيم قدره عند ربه ومنزلته وما خصه به في الدارين من كرامته صلى الله عليه وسلم

(الباب الثالث) فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها بعظيم قدره عند ربه ومنزلته وما خَصَّهُ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ مِنْ كَرَامَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * لَا خِلافَ أنَّهُ أَكْرَمُ الْبَشَرِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأْفَضَلُ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَأَعْلاهُمْ دَرَجَةً، وَأَقْرَبُهُمْ زُلْفَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَقَد اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى صَحِيحِهَا وَمُنْتَشِرِهَا وَحَصَرْنَا مَعَانِي مَا وَرَدَ مِنْهَا فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَصْلًا (الْفَصْلِ الأَوَّلُ) فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ مَكَانَتِهِ عِنْدَ رَبِّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالاصْطِفَاءِ وَرِفْعَةِ الذِّكْرِ وَالتَّفْضِيلِ، وَسِيَادَةِ وَلَدِ آدَمَ وَمَا خَصَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَزَايَا الرُّتَبِ وَبَرَكَةِ اسْمِهِ الطَّيِّبِ: أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الله ابن أحمد العدل إذ نا بِلَفْظِهِ حَدَّثَنَا أَبُو الحسن الْفَرْغَانِيُّ حَدَّثَتْنَا أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهَا حَدَّثَنَا حَاتِمٌ وَهُوَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يَحْيَى الْحِمَّانِيِّ حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبَايَةَ ابن ربعى عن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (أن الله تَعَالَى قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ قِسْمًا. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ

_ (قوله عَنْ يَحْيَى الْحِمَّانِيِّ) بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم بعدها ألف ونون وياء لنسبة إلى قبيلة (قوله عَنْ عَبَايَةَ بْنِ ربعى) عباية بفتح العين المهملة وتخفيف الوحدة وربعي بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها عين مهملة وياء مشددة. (*)

الْيَمِينِ ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلاثًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا ثُلُثًا وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ ثم جعل الأثلاث قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهَا قَبِيلَةً وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَجَعَلْنَاكُمْ شعوبا وقبائل) الآيَةَ فَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهَا بَيْتًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت) الآية، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ (وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ والْجَسَدِ) وَعَنْ واثلة ابن الأَسْقَعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) أَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَلا فَخْرَ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ قَلَّبْتُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أرَ رَجُلًا أَفَْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ أرَ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ) وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ بِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَارْفَضَّ عَرَقًا. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا

عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ أَهْبَطَنِي فِي صُلْبِهِ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَنِي فِي صُلْبِ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ وَقذَفَ بِي فِي النَّارِ فِي صُلْبِ إبْرَاهِيمُ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِي فِي الْأصْلابِ الْكَرِيمَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى أَخْرَجَنِي بَيْنَ أَبَوَيَّ لَمْ يَلْتَقِيَا عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ) وَإِلَى هَذَا أشَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظَّلالِ وَفِي * مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الورق ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلادَ لَا بَشَرٌ * أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ * أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ * إذَا مَضَى عَالِمٌ بَدَا طبق

_ (قوله من قبلها) أي قبل الدنيا، أو قبل النبوة، أو الولادة (قوله ولا مضغة) المضغة قطعة لحم بقدر ما يمضغ في الفم (قوله ولا علق) العلق جمع علقة وهى قطعة من دم غليظ (قوله يركب السفين) في الصحاح السفين جمع سفينة فعيلة بمعنى فاعلة كأنها تسفن الماء أي تقشه بالقاف والشين المعجمة (قوله نسوا) كان لآدم صلى الله عليه وسلم بنون يسمون نسرا وودا وسواعا ويغوث ويعوق، وكانوا عبادا فماتوا فحزن أهل عصرهم عليهم، فصور لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم، فجعلوها في مؤخر المسجد، فلما هلك أهل ذلك العصر، قال اللعين لأولادهم هذه آلهة آبائكم فاعبدوهم، ثم إن الطوفان دفنها فأخرجها اللعين للعرب فكانت ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل بساحل ويغوث لغطيف من مراد ويعوق لهمدان ونسر لذى الكلاع من حمير (قوله من صالب) قال الهروي أي من صلب يقال صلب وصلب وصالب ثلاث لغات، وقال ابن الأثير الصالب الصلب وهو قليل الاستعمال (قوله إذا مضى عالم بدا طبق) العالم بفتح اللام قال الهروي (*)

ثُمَّ احْتَوَى بَيْتُكَ المهيمن من * خندف عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضِ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءُ وَفِي النُّورِ * وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ يَا بَرْدَ نَارِ الْخَلِيلِ يَا سَبَبًا * لِعِصْمَةِ النَّارِ وَهِيَ تَحتَرِقُ وَرَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ (أُعْطِيتُ خَمْسًا - وَفِي بَعْضِهَا سِتًّا - لَمْ يُعْطَهُنَّ نسى قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وطهورا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيَّ قَبْلِي وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَأُعطِيتُ الشَّفَاعَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ بَدَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ: (وَقِيلَ لِي سَلْ تُعْطَهْ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (وَعُرِضَ عَلَيَّ أُمَّتِي فَلَمْ يَخْفَ عَلَيَّ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ) وَفِي رِوَايَةٍ بعثت

_ وقال ابن عرفة: يقال مضى طبق وجاء طبق أي مضى عالم وجاء عالم ومنه قول العباس إذَا مَضَى عَالِمٌ بدا طبق، يقول إذا مضى قرن بدا قرن، وقيل للقرن طبق لأنه طبق الأرض (قوله المهيمن) أي الشاهد (قوله خندف) بكسر الخاء المعجمة وسكون النون وكسر الدال المهملة بعدها فاء هو في الأصل مشية كالهرولة ثم سمى به ليلى امرأة الياس بن مصفر (قوله النطق) بضم النون والطاء، قال ابن الأثير جمع نطاق، وهى أعراض من جبال بعضها فوق بعض، أي نواح أوساط منها شبهت بالنطق الذى تشد بها أوساط الناس، ضربه مثلا له في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال انتهى، وفى الصحاح النطاق شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة، والأسفل ينجر على الأرض، وليس لها حجزة ونيفق، ولا ساقان والجمع نطق (قوله وأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أمتى) كذا في بعض النسخ والمشهور فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ أمتى بالفاء (قوله وأعطيت الشفاعة) أي العظمى (*)

إِلَى الأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ) قِيلَ السُّودُ الْعَرَبُ لأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَلْوَانِهِمُ الْأُدْمَةُ فَهُمْ مِنَ السُّودِ، وَالْحُمْرُ الْعَجَمُ، وَقِيلَ الْبِيضُ وَالسُّودُ مِنَ الْأُمَمِ، وَقِيلَ الحُمْرُ الْإِنْسُ وَالسُّودُ الْجِنُّ * وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَبَيْنَا أَنَا نائم إذ جئ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدَيَّ) * وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ) وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وَإِنَّي والله لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ وَإِنَّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَإِنَّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أن تَنَافَسُوا فِيهَا) وَعَنْ عبد الله ابن عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال (أنا

_ وله صلى الله عليه وسلم شفاعات هذه (أولاها) وهى في الفصل بين أهل الموقف حين يفزعون إليه بعد الأنبياء عليهم السلام (والثانية) في جماعة يدخلون الجنة بغير حساب وهذه والتى قبلها من خصائصه عليه السلام (والثالثة) في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها (والرابعة) في أناس دخلوا النار فيخرجون منها (والخامسة) في رفع درجات أناس في الجنة، قال النووي: ويجوز أن تكون الثالثة والخامسة أيضا من خصائصه (والسادسة) تخفيف العذاب عمن استحق الخلود فيها كما في حق أبى طالب (والسابعة) شفاعته لمن مات بالمدينة (والثامنة) شفاعته لمن صبر على لأواء المدينة (والتاسعة) شفاعته لفتح باب الجنة كما رواه مسلم (والعاشرة) شفاعته لمن زاره صلى الله عليه وسلم لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ له شفاعتي (والحادية عشر) شفاعته لمن أجاب المؤذن وصلى عَلَيْه صَلَّى اللَّه عليه وسلم لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي (قوله في يدى) بفتح الدال وتشديد الآخر. (*)

مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ لَا نَبِيَّ بَعْدِي أُوتِيتُ جَوامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَعُلِّمْتُ خَزَنَةَ النَّارِ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ * وَعَنِ ابْنُ عُمَرَ (بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ) وَمِنْ رِوَايَةِ ابن وَهْبٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سَلْ يَا مُحَمَّدُ فَقُلْتُ مَا أَسْأَلُ يَا رَبِّ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَاصْطَفَيْتَ نُوحًا، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَيْتُكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، أَعْطَيْتُكَ الْكَوْثَرَ وَجَعَلْتُ اسْمَكَ مَعَ اسْمِي يُنَادَى بِهِ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ وَجَعَلْتُ الْأَرْضَ طَهُورًا لَكَ وَلِأُمَّتِكَ وَغَفَرْتُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَأَنْتَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَغْفُورًا لَكَ، وَلَمْ أَصْنَعْ ذَلِكَ لأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَجَعْلَتُ قُلُوبَ أُمَّتِكَ مَصَاحِفَهَا، وَخَبَّأْتُ لَكَ شَفَاعَتَكَ وَلَمْ أَخْبَأْهَا لِنَبِيٍّ غَيْرِكَ) * وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، رَوَاهُ حُذَيْفَةُ (بَشَّرَنِي - يَعْنِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ - أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمُ حِسَابٌ، وَأَعْطَانِي أَنْ لَا تَجُوعَ أُمَّتِي وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطَانِي النَّصْرَ وَالْعِزَّةَ وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا، وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتِي الْمَغَانِمَ، وَأَحَلَّ لَنَا كَثِيرًا مِمَّا شَدَّدَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) * وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أعطى من

_ (قوله وعلمت) بضم المهملة وتشديد اللام المكسورة ويجوز فتح المهملة وتخفيف اللام (*)

الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّه إِلَيَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) مَعْنَى هَذَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَقَاءُ مُعْجِزَتِهِ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَسَائِرُ مَعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ذَهَبَتْ لِلْحِينِ وَلَمْ يُشَاهِدْهَا إِلَّا الْحَاضِرُ لَهَا وَمُعْجِزَةُ الْقُرْآنِ يَقِفُ عَلَيْهَا قَرْنٌ بعد قرن عَيَانًا لَا خَبَرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وفيه كلام يَطُولُ هَذَا نُخْبَتُهُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ، وَفِيمَا ذُكِرَ فِيهِ سِوَى هَذَا آخِرَ بَابِ الْمُعْجِزَاتِ * وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلُّ نَبِيٍّ أعطى سبعة بحباء وَزَرَاءَ رُفَقَاءَ مِنْ أُمَّتِهِ، وأُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم أربعة عشر بحيبا مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ، وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (إِنَّي عَبْدُ اللَّهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ) وَإِنَّ آدَمَ لِمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ وَعِدَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ قَالُوا فَمَا فَضْلُهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لأَهْلِ السَّمَاءِ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ من دونه) الآية - وقال

_ (قوله الفيل) كان اسم هذا الفيل محمودا (قوله لمنجدل) أي ساقط يقال جدله أي رماه بالجدالة، وهى الأرض فانجدل أي سقط (قوله وعدة) بكسر العين المهملة وتخفيف الدال المهملة (*)

لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مبينا) الآية، قَالُوا: فَمَا فَضْلهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بلسان قومه) الآيَةَ، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ) وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَشَدَّادِ ابن أَوْسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: نَعَمْ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ يَعْنِي قَوْلَهُ: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رسولا منهم) وَبَشَّرَ بِي عِيسَى ورَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بكير فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بَهْمًا لَنَا إِذْ جَاءَنِي رَجُلانِ عَلَيْهَمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ثَلاثَةُ رِجَالٍ بطت من ذهب مملوة ثَلْجًا فَأَخَذَانِي فَشَّقَا بَطْنِي قَالَ فِي غَيْرِ هذا الْحَدِيثِ مِنْ نَحْرِي إِلَى مَرَاقِّ بَطْنِي ثُمَّ استخرجا

_ (قوله ابن معدان) بفتح الميم وسكون العين وتخفيف الدال المهملتين (قوله حِينَ حَمَلَتْ بِي) كذا هنا وفى غيره حين وضعتني (قوله بصرى) بضم الموحدة مدينة حوران، وهى أول مدينة فتحت في الشام، وكان فتحها صلحا (قوله بهما) بفتح الموحدة وسكون الهاء جمع بهيمة وهى ولد الضأن ذكرا كان أو أنثى وجمع البهم البهائم ويقال لأولاد المعز سخال (قوله بطست) بالسين المهملة، ويقال أيضا طس وطسة وهو الآنية المعروفة، وفى الصحاح الطست الطس في لغة طيئ أبدل من إحدى السينين تاء للاستثقال فإذا جمعت أو صغرت رددت السين لأنك فصلت بينهما بألف أو ياء فقلت طساس أو طسيس (قوله مراق بطني) بتخفيف الراء وتشديد القاف أي ما سفل من البطن ورق من جلده (*)

مِنْهُ قَلْبِي فَشَقَّاهُ فَاسْتَخَرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا ثُمَّ غَسَلا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى أَنْقَيَاهُ، قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ثُمَّ تَنَاوَلَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا فَإِذَا بِخَاتَمٍ فِي يَدِهِ مِنْ نُورٍ يَحَارُ النَّاظِرُ دُونَهُ فَخَتَمَ بِهِ قَلْبِي فَامْتَلَأَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ وَأَمَرَّ الآخَرُ يَدَهُ عَلَى مَفْرِقِ صَدْرِي فَالْتَأَمَ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ قَلْبٌ وَكِيعٌ أَيْ شَدِيدٌ فِيهِ عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ سَمِعَتَانِ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ زِنْهُ بِعَشْرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ زِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بهم فوزننهم ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتُهُمْ ثُمَّ قَالَ: دَعْهُ عَنْكَ فَلَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ ثُمَّ ضَمُّونِي إِلَى صُدُورِهِمْ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ ثُمَّ قَالُوا يَا حَبِيبُ لَمْ تُرَعْ إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنَاكَ وَفِي بَقِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلائِكَتَهُ، قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَّ وَلَّيَا عَنِّي فَكَأَنَّمَا أَرَى الْأَمَرَ مُعَايَنَةً وَحَكَى أَبُو محمد المكى أبو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ آدَمَ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ قَالَ اللَّهُمَّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَيُرْوَى وَتَقَبَّلْ تَوْبَتِي فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا. قَالَ: رَأَيْتُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا الله محمد

_ (قوله يحار) بفتح المثناة التحتية والحاء المهملة أي يخير (قوله مفرق) بفتح الميم وبكسر الراء (قوله وَكِيعٌ) أَيْ شَدِيدٌ (قوله لم ترع) بضم المثناة الفوقية وفتح الراء أي لا تفزع. (*)

رَسُولُ اللَّهِ وَيُرْوَى مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي فَعَلِمْتُ أَنَّهُ أَكْرَمُ خَلْقِكَ عَلَيْكَ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَغَفَرَ لَهُ، وَهَذَا عِنْدَ قَائِلِهِ تَأْويِلُ قَوْلِهِ تَعَالَى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فَقَالَ آدَمُ: لَمَّا خَلَقْتَنِي رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى عَرْشِكَ فَإِذَا فِيهِ مَكْتُوبٌ: لَا إله إلا الله محمد رسول الله فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمَ قَدْرًا عِنْدَكَ مِمَّنْ جَعَلْتَ اسْمَهُ مَعَ اسْمِكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إليه (وعزتئ وَجَلالِي إِنَّهُ لآخِرُ النَّبِيِّيَنَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ وَلَوْلاهُ مَا خَلْقَتُكَ قَالَ: وَكَانَ آدَمُ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ بِأَبِي الْبَشَرِ وَرُوِيَ عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ عِبَادَتُهَا عَلَى كُلِّ دَارٍ فِيهَا أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ إِكْرَامًا مِنْهُمْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى ابْنُ قَانِعٍ الْقَاضِي عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ إِذَا عَلَى الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَيَّدْتُهُ بِعَلِيٍّ وَفِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَانَ تَحْتَهُ كنز لهما) قال

_ (قوله سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ) بن سريج: بضم السين المهملة وفتح الراء، وفي آخره جيم هو أبو الحارث البغدادي أحد أئمة الحديث (قوله عِبَادَتُهَا عَلَى كُلِّ دار) عبادة بالباء الموحدة مبتدإ خبره كل دار على حذف مضاف، أي حفظ كل دار أو إعانة أهل كل دار (قوله ابن قانع) بالقاف والنون المسكورة بعدها عين مهملة هو القاضى عبد الباقي بن مرزوق صاحب معجم الصحابة وكتاب اليوم والليلة (قوله عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ) بفتح المهملة وسكون الميم والمد، اسم لصحابين أحدهما مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرج هَذَا الْحَدِيث عَنْه ابن ماجه، والآخر مولى آل عفراء، ولا يعلم له رواية (*)

لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَكْتُوبٌ: (عَجَبًا لِمَنْ أيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ! عَجَبًا لِمَنْ أيْقَنَ بِالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ! عَجَبًا لَمِنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهِا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا! أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدِي وَرَسُولِي) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبٌ إِنِّي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا أُعَذِّبُ مَنْ قَالَهَا، وَذُكِرَ أَنَّهُ وُجِدَ عَلَى الْحِجَارَةِ الْقَدِيمَةِ مَكْتُوبٌ: مُحَمَّدٌ تَقِيٌّ مُصْلِحٌ، وَسَيِّدٌ أَمِينٌ، وَذَكَرَ السَّمَنْطَارِيُّ أَنَّهُ شَاهَدَ فِي بَعْضِ بِلادِ خُرَاسَانَ مَولُودًا وُلِدِ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ مَكْتُوبٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى الآخَرِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَذَكَرَ الأَخْبَارِيُّونَ أَنَّ بِبِلادِ الْهِنْدِ وردا

_ (قوله وذكر الأخباريون) بالخاء المعجمة قال الذهبي في ميزانه روى قريش بن أَنَسٍ عَنْ كليب بن وائل وكليب نكرة لا يعرف أنه رأى بالهند وردا في الوردة مكتوب محمد رسول الله وقال ابن العديم في تاريخه في ترجمة الحسين بن أحمد بن الحسين الوراق الخواص المصيصى مسندا عنه إلى عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله الهاشمي الرقى أنه قال دخلت في بلاد الهند إلى بعض قراها فرأيت وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض لا إله إلا الله محمد رسول اللَّه أَبُو بَكْر الصديق عمر الفاروق فشككت في ذلك، وقلت إنه معمول فعمدت إلى وردة لم تفتح ففتحتها فكان فيها مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي البلد منه شئ كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، ولا يعرفون الله عز وجل انتهى، وقال الشيخ عبد الله اليافعي في كتابه المسمى بروض الرياحين قَالَ بَعْضُ الشَّيُوخِ دخلت بلاد الهند فدخلت مدينة رأيت فيها شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران، فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية مكتوب فيها بالحمرة (لا إله إلا الله) كتابة جلية وهم يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا من الغيث، فحدثت بهذا أبا يعقوب الصياد، فقال لى ما أستعظم هذا كنت أصطاد على نهر الأبلة، فاصطدت سمكة مكتوب على جنبها الأيمن (لا إله إلا الله) وعلى جنبها الأيسر (محمد رسول الله) فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما لما عليها (*)

(فصل) في تفضيله بما تضمنته كرامة الإسراء

أَحْمَرَ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِالْأَبْيضِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ إلَّا لِيَقُمْ مَنِ اسْمُهُ. مُحَمَّدٌ فَلْيَدْخُل الْجَنَّةَ لِكَرَامَةِ اسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِهِ وَابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ مَالِكٍ سَمِعْتُ أَهْلَ مَكَّةَ يَقُولُونَ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ اسْمُ مُحَمَّدٍ إلَّا نَمَى وُرُزِقُوا وَرُزِقَ جِيرَانُهُمْ، وعنه صلى الله عليه وسلم (ماضر أحدكم أن يكون فِي بَيْتِهِ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدَانِ وَثَلاثَةٌ) وَعَنْ عَبْد اللَّه بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى نَظَرَ إِلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ مِنْهَا قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بعده أبدا) الآية. قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ (يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَنِي عَلَيْكُمْ تَفْضِيلًا وَفَضَّلَ نِسَائِي على نسائكم تَفْضِيلًا) الْحَدِيثَ (فصل) فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَّتَْهُ كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْمُنَاجَاةِ وَالرُّؤْيَةِ وَإِمَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُرُوجِ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهُ الْكُبْرَى: وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ وما انطوت عليه من درجات الرفعة ممَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَشَرَحَتْهُ صِحَاحُ الْأَخَبَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ

_ (قوله وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ) هو الفقيه الإمام أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك روى أنه قال: خرجت على مالك اثنى عشرة مرة أنفقت في كل مرة ألف دينار، (*)

المسجد الحرام) الآية وقال تعالى (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) إِلَى قَوْلِهِ (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى) فَلَا خِلافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْرَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ نَصُّ القرآن وجائت بِتَفْصِيلِهِ وَشَرْحِ عَجائِبِهِ وَخَوَاصِّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ رَأَيْنَا أن نقدم أكمالها وَنُشِيرَ إِلَى زِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ يَجِبُ ذِكْرُهَا حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ وَالْفَقِيهُ أَبُو بَحْرٍ بِسَمَاعِي عَلَيْهِمَا وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِنَا قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْعُذْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حدثنا مسلم ابن الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ البُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ ين مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جبرئيل بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جبرئيل: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فاستفتح جبرئيل فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ، قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ وَمَنْ معك

_ (قوله ابن فروخ) بفتح الفاء، وتشديد الراء وفى آخره خاء معجمة (قوله البنائى) بضم الموحدة وتخفيف النون (قوله بالحلقة) بإسكان اللام وفتحها (قوله اخترت الفطرة) أي الاستقامة (*)

قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحَّبَ بِي ودعا لي بخير ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فاستفتح جبرئيل، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قال: جبرئيل: قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الخالة عيسى ابن مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرِ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بخير ثم عرج بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السادسة فذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى فَرَحَّب بِي وَدَعَا لِي بخير ثم عرج بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يعوذون

_ (قوله بعث إليه) وفى بعض روايات الصحيح، أرسل إليه قالوا: وظاهره السؤال عن أصل الرسالة، ولا يصح لأن أمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لا يكاد يخفى على خزان السماوات وحراسها، فالمراد أرسل إليه للعروج والإسراء، وكان سؤالهم للاستعجاب بما أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أو الاستبشار بعروجه قال الطبري ويحتمل أن تكون البعثة والرسالة خفيف على السائلين لاشتغالهم بالعبادة (قوله إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) عن على أنه قال البيت المعمور فِي السَّمَاءِ السَّابعةِ، يقال له الضراح بضم المعجمة وتخفيف (*)

إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ، قَالَ فَلَمَّا غَشِيهَا مِنْ أمر الله ما غشى تعيرت فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلاةً قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلاةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتَبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنَّ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدةً قَالَ فنزلت حتى انتخيت إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ) قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ جَوَّدَ ثَابِتٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسٍ مَا شَاءَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ عَنْهُ بأصوب

_ الراء وفى آخره حاء مهملة، وقيل في السماء الأولى وقيل في الرابعة وقيل في السادسة (قوله إلى سدرة المنتهى) إن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الأشجار؟ أجيب بأن شجر السدر يختص بالظل المديد والطعم اللذيذ والرائحة الطيبة. (*)

مِنْ هَذَا وَقَدْ خَلَّطَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ أنس تخلطا كثير لاسيما مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي أوله مجئ الْمَلَكِ لَهُ وَشَقَّ بَطْنِهِ وَغَسْلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ وَقَبْلَ الْوَحْيِ وَقَدْ قَالَ شَرِيكٌ فِي حَدِيثِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَذَكَرَ قِصَّةَ الْإِسْرَاءِ وَلَا خِلافَ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْوَحْيِ وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَقِيلَ قَبْلَ هَذَا وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا مجئ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ عِنْدَ ظِئْرِهِ وَشَقَّهُ قَلْبَهُ تِلْكَ الْقِصَّةُ مُفْرَدَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ فَجَوَّدَ فِي الْقِصَّتَيْنِ وَفِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً وَاحِدةً وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ثُمَّ عرج مِنْ هُنَاكَ فَأَزَاحَ كل إشكال أو همه غَيْرُهُ وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رسول الله ثلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَرَوَى قَتَادَةُ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَفِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَزِيَادَةٌ وَنَقْصٌ وَخَلافٌ فِي تَرْتِيبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ وحَدِيثُ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَتْقَنُ وَأَجْوَدُ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ

_ (قوله عند ظئزه) بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة: المرضعة (*)

زيادان نَذْكُرُ مِنْهَا نُكَتًا مُفِيدَةً فِي غَرَضِنَا مِنْهَا فِي حَدِيث ابْنِ شِهَابٍ وَفِيهِ قَوْلُ كُلِّ نَبِيٍّ لَهُ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ إلَّا آدَمَ وَإبْرَاهِيمَ فَقَالَا لَهُ وَالْابْنِ الصَّالِحِ وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ عُرِجَ بي حتى ظهرت بمستوى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلامِ، وَعَنْ أَنَسٍ ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فَغَشِيهَا ألْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ قَالَ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ وَفِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صعصعة فلما جاوزته يَعْنِي مُوسَى بَكَى فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ قَالَ رَبِّ هَذَا غُلامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي وفي حديث أبي هريرة رضي الله عَنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَقَالَ قَائِلٌ يَا مُحَمَّدَ هَذَا مَالِكٌ خَازنُ النَّارِ فسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فنزل

_ (قوله بمستوى) بالتنوين، أي مكان عال من استوى على ظهر دابته، علا عليها (قوله صريف الأقلام) بفتح الصاد المهملة وكسر الراء أي حركتها وجريانها على المخطوط (قوله قَالَ رَبِّ هَذَا غلام) قيل لم أطلق موسى عليه السلام على نبينا عليه السلام غلاما، وكان صلى الله عليه وسلم في سن الكهولة إذ ذاك، وأجيب بأن الغلام يقال بمعنى المستحكم القوة، ويمكن أن يقال إنَّمَا قَال ذَلِك لتقدمه عليه بزمان طويل، وموسى اسم أعجمى لا ينصرف للعجمة والتعريف، قال القرطبى: قال بن إسحاق هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق بن إبراهيم قال السهيلي في التعريف وموسى بن عمران، وهو بالعبرانية عمر بن قاهث بن عازر ابن لاوى بن يعقوب وسمى بموسى لأن التابوت الذى كان فيه وجد في ماء وشجر ومو في لغة القبط هو الماء وسى هو السجر، وكان بين موسى وإبراهيم عليهما السلام سبعمائة سنة (*)

فَرَبَطَ فَرَسَهُ إِلَى صَخْرَةٍ فَصَلَّى مَعَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالُوا يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا مَعَكَ قَالَ هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَالُوا وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ قَالُوا حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَخَلِيفَةٍ فَنِعْمَ الْأَخُ وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ ثُمَّ لَقُوا أرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوا عَلَى رَبِّهِمْ وَذَكَرَ كَلامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُمْ إبْرَاهِيمُ ومُوسَى وعيسى ودَاوُد وسُلَيْمَان ثُمَّ ذَكَرَ كلام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَإنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثْنَى عَلَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ كُلُّكُمْ أثْنَى عَلَى رَبَّهُ وَأَنَا أُثْنِي عَلَى رَبّي الْحَمْدُ لله الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيِرًا وَأَنْزَلَ عَلِيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلّ شئ وجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ وَجَعَلَ أُمَّتِي أُمَّةً وَسَطًا وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الآخِرُونَ وَشَرَحَ لِي صَدْرِي وَوضَعَ عَنّي وِزْرِي وَرَفَعَ لِي ذِكْري وَجَعَلَنِي فَاتِحًا وَخَاتِمًا فَقَالَ إبْرَاهِيمُ بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا وَمِنْ سَمَاءٍ إلى سَمَاءٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَفِي حَدِيث ابْنُ مَسْعُودٍ وَانْتُهِيَ بي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءَ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا ينتهى ما يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وإليهخا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قَالَ فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هريرة من

_ (قوله وَهِيَ فِي السَّمَاءَ السادسة) وفي بعض الروايات أنها فِي السَّابِعَةِ، قَالَ المصنف وكونها في السابعة هو الأصح وقول الأكثرين والذى يقتضيه تسميتها بالمنتهى قال النووي: ويمكن الجمع بأن أصلها فِي السَّمَاءَ السَّادِسَةِ ومعظمها في السابعة (قوله فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ) الفراش بفتح الفاء وتخفيف الراء، وفى آخره شين معجمة: الطائر المعروف الذى يلقى نفسه في ضوء السراج (*)

طَرِيقٍ الرَّبِيعِ بْنُ أَنَسٍ فَقِيلَ لِي هَذِهِ السّدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلّ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِكَ خَلا عَلَى سَبيِلكَ وَهِيَ السّدْرَةُ الْمُنْتَهَى يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكبُ فِي ظلّهَا سَبْعِينَ عَامًا وَأنَّ وَرَقَةً مِنْهَا مُظِلَّةٌ الْخَلْقِ فَغَشِيَهَا نُورٌ وَغشِيتهَا الْمَلَائِكَةِ قَالَ فَهُوَ قَوْلِهِ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) فَقَالَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَهُ سَلْ فَقَالَ إنَّكَ اتَّخَذْتَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا عَظِيمًا وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَعْطَيْتَ دَاوُد مُلْكًا عَظِيمًا وَأَلَنْتَ لَهُ الْحَدِيدَ وَسَخرْتَ لَهُ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَان مُلْكًا عَظِيمًا وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْس وَالشَّيَاطِينَ وَالرّيَاحَ وَأَعْطَيْتهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَّمْتَ عِيسَى التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَجَعَلْتَهُ يُبْرِئُ الْأكَمَهَ وَالْأبْرَصَ وَأَعَذْتَهُ وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَمَا سَبِيلٌ فَقَالَ لَهُ رَبَّهُ تَعَالَى قَد اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا وَحَبِيبًا فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمنِ وَأَرْسَلْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَةَ وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الآخرُونَ وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي وَجَعَلْتُكَ أوَّلَ النَّبِيّينَ خَلْقًا وآخِرَهُمْ بَعْثًا وأَعْطَيْتُكَ سَبْعًا من المثانى

_ (قوله خَلا عَلَى سَبيِلكَ) هو بفتح الخاء المعجمة واللام بمعنى مضى وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نذير) أي مضى (قوله مظلة) بفتح الميم وكسر الظاء وتشديد اللام (قوله ملكا) بضم الميم (*)

وَلَمْ أعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ وَأَعْطَيْتُكَ خَواتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ عَرْشِي لَمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا وَخَاتِمًا وَفِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ فأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ثلاث: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ الْمُقْحِماتُ وَقَالَ (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى) الآيَتَيْنِ رَأَى جِبْرِيلُ في صورته له ستمائة جَنَاحٍ وَفِي حَدِيث شَرِيكٍ أنَّهُ رَأى مُوسَى فِي السَّابِعَةِ قَالَ بِتَفْضِيلِ كَلامَ اللَّه قَالَ ثُمَّ عُلِيَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّه فَقَالَ مُوسَى لَمْ أَظُنَّ أنْ يُرْفَعَ عَلِيَّ أَحَدٌ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْأَنْبِيَاءُ بيت الْمَقْدِسِ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمَ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَكَزَ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا مِثْلُ وَكْرَيِ الطائر

_ (قوله المقحمات) بسكون القاف وكسر الحاء المهملة: الذنوب العظام التى تقحم أصحابها في النار أي تلقيهم فيها (قوله له ستمائة جناح) قال السهيلي في قوله صلى الله عليه وسلم في حق جعفر قد أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء ومما ينبغى الوقوف عليه في معنى الجناحين أنهما ليسا كما يسبق إلى الوهم مثل جناح الطائر وريشه لأن الصورة الآدمية هي أشرف الصور وأكملها ولكنها عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر كما أعطيها الملائكة وَقَدْ قَالَ أَهْلُ العلم في أجنحة الملائكة إنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير وإنما هي صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة واحتجوا بقوله تعالى (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) فكيف بكون كأجنحة الطير ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل فدل على أنها صفات تنضبط كيفيتها للفكر (قوله وكرى الطائر) بفتح الواو وسكون الكاف وفتح الراء تثنية وكر وهو العش (*)

فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ وَقَعَدْتُ فِي الْأُخْرَى فَنِمْتُ حَتَّى سَدَّتِ الْخَافِقَيْنِ وَلَوْ شْئِتُ لَمَسِسْتُ السَّمَاءَ وَأَنَا أُقَلِّبُ طَرْفِي وَنَظَرْتُ جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ حَلْسٌ لاطِئٌ فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ عَلَيَّ وَفُتِحَ لِي بَابُ السَّمَاءِ وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ وَلَطَّ دُونِيَ الْحِجَابُ وَفَرَجَهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ) وَذَكَرَ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَذَانَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ فَذَهَبَ يَرْكَبُهَا فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا جبريل اسكني فو الله مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَهَا حَتَّى أَتَى بِهَا إِلَى الْحِجَابِ الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنِ تَعَالَى فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ فَقَالَ الْمَلَكُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أنا أكبر

_ (قوله فنمت) بالفاء والنون المفتوحتين والميم المخففة أي زادت، وفى بعض النسخ، فسمت، بتخفيف الميم أي ارتفعت (قوله الخافقين) أي المشرق والمغرب، قال ابن السكيت، لأن الليل والنهار يخفقان فيهما (قوله لمسست) بكسر المهملة الأولى، وحكى أبو عبيد فتحها، وفي بعض النسخ لمست (قوله كأنه حلس) بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وبعدها سين مهملة وهو كساء يلى ظهر البعير تحت القتب (قوله لاطئ) بهمزة في آخره أي لاصق (قوله ولط) بضم اللام وتشديد المهملة أي أرخى (قوله وذكر البزار) بالباء الموحدة والزاى المشددة، وفى آخره راء نسبة إلى عمر بزر الكتان (*)

أَنَا أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلاحِ وَقَالَ ثُمَّ أَخَذَ الْمُلْكَ بِيَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَهُ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ فِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ محمد بن علي بن الحسين رواية أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَفَ على أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ لَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ فَهُمُ الْمَحْجُوبُونَ وَالْبَارِي جَلَّ اسْمُهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَحْجُبُهُ إذِ الْحُجُبُ إنَّمَا تُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ وَلَكِنْ حُجُبُهُ عَلَى أَبْصَارِ خَلْقِهِ وَبصَائِرِهِمْ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ بِمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحِجَابُ وَإِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حِجَابٌ حُجِبَ بِهِ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ مَلائِكَتِهِ عَنِ الاطِّلاعِ عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ سُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِيثِ قوله جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَرَائِهِ إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِجَابَ لَمْ يَخْتَصَّ بِالذَّاتِ وَيَدلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ كَعْبٍ فِي تَفْسِيرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَالَ إِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ وَعِنْدَهَا يَجِدُونَ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُجَاوِزُهَا عِلْمُهُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ الَّذِي يَلِي الرَّحْمَنِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ أَوْ أَمْرًا مَا مِنْ عَظِيمِ آياته أو

(فصل) ثم اختلف السلف والعلماء هل كان إسراؤه بروحه أو جسده

مبادى حَقَائِقِ مَعَارِفِهِ مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ كَمَا قال تعالى (واسال القرية) أَيْ أَهْلَهَا وَقَوْلُهُ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ سَمِعَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أَيْ وَهُوَ لَا يَرَاهُ حَجَبَ بَصَرَهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ بَعْدَ هَذَا أَوْ قَبْلَهُ رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْ بَصَرِهِ حَتَّى رَآهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فصل) ثُمَّ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ إِسْرَاؤُهُ بِرُوحِهِ أَوْ جَسَدِهِ عَلَى ثَلاثِ مَقَالاتٍ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالرُّوحِ وَأَنَّهُ رُؤْيَا مَنَامٍ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَوَحْيٌ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُعَاوِيَةُ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْمشْهُورُ عَنْهُ خِلافُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فتنة للناس) وَمَا حَكَوْا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا فَقَدْتُ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قوله بينا أنا نائم وقوله أَنَسٍ وَهُوَ نَائِمٌ في المسجد

_ (قوله على ثلاثة أقوال) قال السهيلي وذهبت طائفة منهم شيخنا الْقَاضِي أَبُو بَكْر إلى تصحيح المحدثين أن الإسراء كان مرتين أحدهما في نومه توطئة وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية وكذلك الإسراء سهله عليه بالرؤيا، لأن هوله عظيم: ورأيت المهلب في شرح البخاري قد حكى هذا القول عن طائفة من العلماء وأنهم قالوا كان الإسراء مرتين مرة في نومه ومرة في يقظته ببدنه صلى الله عليه وسلم انتهى (*)

الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ وَالْمُسْلِمِينَ إِلَى أنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَفِي اليَقْظَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَحُذَيْفَةَ وَعُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَأَبِي حَبَّةَ الْبَدْرِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ شِهَابٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَإبْرَاهِيمِ وَمَسْرُوقٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرمَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِ عَائِشَةَ وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ وَابْنُ حَنَبْلٍ وَجَماعَةٍ عظيمة مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَانَ الْإِسْرَاءِ بِالْجَسَدِ يَقْظةً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى السَّمَاءِ بِالرُّوحِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصى) فَجَعَلَ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى غَايَةَ الْإِسْرَاءِ الَّذِي وَقَعَ التَّعَجُّبُ فِيهِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ والتَّمَدُّحِ بِتَشْرِيفِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَإِظْهَارِ الْكَرَامَةِ لَهُ بِالْإِسْرَاءِ إِلَيْهِ قَالَ هَؤْلَاءِ وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ إِلَى زَائِدٍ عَلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى لَذَكَرَهُ فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الْمَدْحِ، ثُمّ اخْتلَفَت هَذِه الْفِرْقَتَانِ هَلْ صَلَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَمْ لَا؟ فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلاتِهِ فيه وأنكر

_ (قوله أبو حبة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة هو الصحيح وقيل بتشديد النون وقيل بتشديد المثناة التحتية وقد اختلف هل أبو حبة الأنصاري وأبو حبة البدرى واحد أو اثنان وهل هما بالموحدة أو بالنون (*)

ذَلِكَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَقَالَ وَاللَّهِ مَا زَالَا عَنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ حَتَّى رَجَعَا قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ وَالْحَقُّ مِنْ هَذَا وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا وَعَلَيْهِ تَدُلٌّ الآيَةُ وَصَحِيحُ الْأَخْبَارِ وَالاعْتِبَارُ وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الظَّاهِرِ وَالْحَقِيقَةِ إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا عِنْدَ الاسْتِحَالَةِ وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَاءِ بِجَسَدِهِ وَحَالِ يَقْظَتِهِ اسْتِحَالَةٌ إِذْ لَوْ كَانَ مَنَامًا لَقَالَ بِرُوحِ عَبْدِهِ وَلَمْ يَقُلْ بِعَبْدِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طغى) وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ آيَةٌ وَلَا مُعْجِزَةٌ وَلَمَا اسْتَبْعَدَهُ الْكُفَّارُ وَلَا كَذَّبُوهُ فِيهِ وَلَا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد عَلِمُوا أَنَّ خَبَرَهُ إِنَّمَا كَانَ عَنْ جِسْمِهِ وَحَالِ يَقْظَتِهِ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ صَلاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَوْ فِي السَّمَاءِ عَلَى مَا رَوَى غَيْرُهُ وذكر مجئ جِبْرِيلَ لَهُ بِالبُرَاقِ وَخَبَرِ الْمِعْرَاجِ وَاسْتِفْتَاحِ السَّمَاءِ فَيُقَالُ وَمَنْ مَعَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَلِقَائِهِ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا وَخَبَرِهِمْ مَعَهُ وَتَرْحِيبِهِمْ بِهِ وَشأْنِهِ فِي فَرْضِ الصَّلَاةِ وَمُراجَعَتِهِ مَعَ مُوسَى فِي ذَلِكَ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ: فَأَخَذَ يَعْنِي جِبْرِيلَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ إِلَى قَوْلِهِ ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلامِ وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى سِدْرَةِ المنتهى وَأَنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ورأى فيها ما ذِكْرَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ رَآهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رُؤْيَا مَنَامٍ وَعَنِ الْحَسَنِ فِيهِ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِعَقِبِهِ فَقُمْتُ

فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي، ذَكَرَ ذَلِكَ ثَلاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ فَأَخَذَ بِعَضُدِي فَجَرَّنِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا بدَابَّةٍ وَذَكَرَ خَبَرَ البُرَاقِ. وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهُوَ فِي بَيْتِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةَ وَنَامَ بَيْنَنَا فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا قَالَ يَا أُمَّ هانئ لقد صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ بِهَذَا الْوَادِي ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ ثُمَّ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمُ الآنَ كَمَا تَرَوْنَ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ بِجِسْمِهِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رِوَايَةِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْهُ أَنَّهُ قال للنبي صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ طَلَبْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ

_ (قوله في الحجر) بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم، وقال النووي إنه رأى لبعض المصنفين على المهذب أنه يقال أيضا بفتح الحاء كحجر الاسنان (قوله أم هانئ) بهمزة في آخره (قوله أهبنا) أي أيقظنا يقال هب إذا استيقظ أهبه إذا أيقظه (قوله فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وصلينا) قبل إن إسلام أم هانئ كان عام الفتح وهى السنة الثامنة من الهجرة والإسراء قبله بكثير فكيف تقول وصلينا وأيضا كيف يقول صلى الصبح والصوات الخمس لَمْ تَكُنْ فِي الوقت الذى أخبرت عنه؟ والجواب أن قبل الإسراء كانت صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فيصح قولها فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ، هذا على أن المعراج من بيت المقدس وأنه مع الإسراء في ليلة واحدة، وأما على أنه من مَكَّةَ وَأَنَّهُ لَيْسَ مع الإسراء في ليلة واحدة فقولها صلى الصبح على حقيقته من غير تأويل لأن الصلوات الخمس كانت ليلة المعراج وهو على هذا القول كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا والإسراء كان في ربيع الأول قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وأما قولها وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة على تقدير أنها لم تكن بعد آمنت ولم تقل فرض الصبح حتى يقال أن الصلاة لم تكن بعد فرضت وإنما فرضت ليلة الإسراء (*)

(فصل) في إبطال حجج من قال إنها نوم

الْبَارِحَةَ فِي مَكَانِكَ فَلَمْ أَجِدْكَ فَأَجَابَهُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلِنِي إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلْتُ الصَّخْرَةَ فَإِذَا بِمَلَكٍ قَائِمٍ مَعَهُ آنِيَةٌ ثَلاثٌ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ التَّصْرِيحَاتُ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ فَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَشَرحَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بمَاءِ زَمْزَمَ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي. وَعَنْ أَنَسٍ (أُتِيتُ فَانْطَلَقَوا بِي إِلَى زَمْزَمَ فَشُرِحَ عَنْ صَدْرِي) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ أُثْبِتْهَا فكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ) وَنَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى خَدِيجَةَ وَمَا تَحوَّلَتْ عَنْ جَانِبِهَا) . (فصل) فِي إِبْطَالِ حُجَجِ مِنْ قَالَ إِنَّهَا نَوْمٌ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا التى أريناك) فَسَمَّاهَا رُؤْيَا قُلْنَا قَوْلُهُ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بعبده) يَرُدُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي النَّوْمِ أَسْرَى، وَقَوْلُهُ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ يُؤَيِّدُ أَنَّهَا رُؤْيَا عَيْنٍ وَإِسْرَاءٌ بِشَخْصٍ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُلْمِ فِتْنَةٌ وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ مِنَ الْكَوْنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَقْطَارٍ مُتَبَايِنَةٍ، عَلَى

_ (قوله فكربت) بضم الكاف وكسر الراء من الكرب بفتح الكاف وهو الغم الذى يأخذ النفس (*)

أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَا وَقَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ قَدْ سَمَّاهَا فِي الْحَدِيثَ مَنَامًا وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ وَقَوْلُهُ أَيْضًا وَهُوَ نَائِمٌ وَقَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ إِذْ قَدْ يَحتَمِلُ أَنَّ أول وُصُولَ الْمَلَكِ إِلَيْهِ كَانَ وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ أَوَّلَ حَمْلِهِ وَالْإِسْرَاءِ بِهِ وَهُوَ نَائِمٌ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي الْقِصَّةِ كُلِّهَا إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَعَلَّ قَوْلَهُ اسْتَيْقَظْتُ بِمَعْنَى أصْبَحْتُ أَوِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمٍ آخَرَ بَعْدَ وُصُولِهِ بَيْتَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَسْرَاهُ لَمْ يَكُنْ طُولَ لَيْلِهِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَعْضِهِ وَقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِمَا كَانَ غَمَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ مَا طالع من مَلَكُوت السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَخَامَرَ بَاطِنَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَلِأ الْأَعْلَى وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبَّهُ الْكُبْرَى فَلَمْ يَسْتَفِقْ وَيَرْجِعْ إلى حَالِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنْ يَكُونَ نَوْمُهُ وَاسْتِيقَاظُهُ حَقِيقَةً عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ وَقَدْ مَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الإشَارَاتِ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا قَالَ تَغْمِيضُ

_ (قوله الحديبية) بتخفيف المثناة التحتية قبل هاء التأنيث، كذا عن الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين وقال أكثر المحدثين بتشديدها وهى قرية بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة على نحو مرحلة من مكة (قوله خامر) بالخاء المعجمة: أي خالط (*)

عَيْنَيْهِ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ شئ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَصِحُّ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ صَلاتِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ ولعله كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الْإِسْرَاءِ حَالاتٌ * وَوَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ أَنْ يُعَبَّرَ بِالنَّوْمِ هَهُنَا عَنْ هَيْئَةِ النَّائِمِ مِنَ الاضْطِجَاعِ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ هَمَّامٍ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ وَرُبَّمَا قَالَ مُضَطجِعٌ وَفِي رِوَايَةِ هُدْبَةَ عَنْهُ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعٌ وَقَوْلُهُ فِي الرواية الأخرى بينا النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَيَكُونُ سَمَّى هَيْئَتَهُ بِالنَّوْمِ لِمَا كَانَتْ هَيْئَةُ النَّائِم غَالِبًا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ مِنَ النَّوْمِ وَذِكْرُ شَقِّ الْبَطْنِ وَدُنُوِّ الرِّبِّ عَزَّ وَجَلَّ الْوَاقِعَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا هي من رواية شريك عن أنس فيه منكرة من روايته إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كَانَ فِي صِغَرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي الحديث قيل أَنْ يُبْعَثَ. وَالْإِسْرَاءُ بِإِجْمَاعٍ كَانَ بَعْدَ المَبْعَثِ. فَهَذَا كُلُّهُ يُوهِنُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ مَعَ أَنَّ أَنَسًا قَدْ بَيَّنَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقَالَ مَرَّةً عن مالك ابن صَعْصَعَةَ وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ لَعَلَّهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى الشَّكِّ وَقَالَ

_ (قوله هو همام) بتشديد الميم وفتح الهاء (قوله هدبة) بضم الهاء وإسكان الدال المهملة بعدها موحدة هو ابن خالد القيسي (قوله إذ شق البطن إنما كَانَ فِي صِغَرِهِ) قال السهيلي: كان شق بطنه صلى الله عليه وسلم مرتين احداهما في الصغر لإزالة حظ الشيطان والأخرى لملء قلبه إيمانا وحكمة. (13 - 1) (*)

مَرَّةً كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ وَأَمَّا قَوْلُ عَائِشَةَ مَا فَقَدْتُ جَسَدَهُ فَعَائِشَةُ لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِينَئِذٍ زَوْجَهُ وَلَا فِي سِنِّ مَنْ يَضْبَطُ وَلَعَلَّهَا لَمْ تَكُنْ وُلِدَتْ بَعْدُ عَلَى الْخِلافِ فِي الْإِسْرَاءِ مَتَى كَانَ فَإِنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِعَامٍ وَنِصْفٍ وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْهِجْرَةِ بِنْتَ نَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ وَقَدْ قِيلَ كَانَ الْإِسْرَاءُ لِخَمْسٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لِخَمْسٍ وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ تَطُولُ لَيْسَتْ مِنْ غَرَضِنَا فَإِذَا لَمْ تُشَاهِدْ ذَلِكَ عَائِشَةُ دَلَّ أَنَّهَا حَدَّثَتْ بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهَا فَلَمْ يُرَجَّحْ خَبَرُهَا عَلَى خَبَرِ غَيْرِهَا وَغَيْرُهَا يَقُولُ خِلافَهُ مِمَّا وقع نضأ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ وَغَيْرِهِ وَأَيْضًا فَلَيْسَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالثَّابِتِ وَالْأَحَادِيثُ الْأُخَرُ أَثْبَتُ لَسْنَا نَعْنِي حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ وَمَا ذُكِرَتْ فِيهِ خَدِيجَةُ وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا فَقَدْتُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا بِالْمَدِينَةِ وَكُلُّ هَذَا يُوَهِّنُهُ بَلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صَحِيحُ قَوْلِهَا إِنَّهُ بِجَسَدِهِ لإِنْكَارِهَا أَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ لِرَبِّهِ رُؤْيَا عَيْنٍ وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهَا مَنَامًا لَمْ تُنْكِرْهُ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ من رأى) فَقَدْ جَعَلَ مَا رآه

_ (قوله بعد البعث) بعده بعام ونصف، واختلف في الشهر الذى أسرى صلى الله عليه وسلم فيه فقيل ربيع الأول، وجزم به النووي في فتاويه، وقيل في ربيع الآخر وجزم به النووي في مسلم تبعا للقاضى أبى الفضل المصنف، وقيل في رجب وجزم به النووي في الروضة وقال الواقدي في رمضان، وقال الماوردى في شوال (قوله يوهن) بسكون الواو كسر الهاء المخففة، ويجوز فتح الواو تشديد الهاء (*)

(فصل) وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه جل وعز

لِلْقَلْبِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُؤْيَا نَوْمٍ ووَحْيٌ لَا مُشَاهَدَةُ عَيْنٍ وَحِسٍّ قُلْنَا يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) فَقَدْ أَضَافَ الْأَمْرَ لِلْبَصَرِ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رأى) أَيْ لَمْ يُوهِمِ الْقَلْبُ الْعَيْنَ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ بَلْ صَدَقَ رُؤْيَتَهَا وَقِيلَ مَا أَنْكَرَ قَلَبُهُ مَا رَأَتْهُ عَيْنُهُ. (فصل) وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهُ جَلَّ وَعَزَّ فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا * حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ سِرَاجُ ابن عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَافِظُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ الْفَقِيهُ قَالَا حَدَّثَنَا الْقَاضِي يُونُسُ بْنُ مُغِيثٍ حَدَّثَنَا أبو الفضل الصقيلى حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ قَالا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنينَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتُ ثَلاثٌ مَنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ (لا تُدْرِكُهُ الأبصار) الآيَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ إنما

_ (قوله الصقلى) بفتح الصاد المهملة والقاف، كذا ضبطه ابن خلكان في ترجمة ابن الزلاق الشاعر نسبة إلى صقلية: جزيرة من جزائر بحر الغرب (قوله عن عامر) هو الصواب لا ما يقع في بعض النسخ وهو عن مجاهد. (*)

رَأَى جِبْرِيلَ وَاخْتُلِفَ عَنْهُ. وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْهُ أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيةِ عَنْهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ فَقَالَ نَعَمْ وَالْأشْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَصَّ مُوسَى بِالْكَلامِ وَإبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ وَمُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ كَلامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُوسَى ومُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ فَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ وكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ * وَحَكَى أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ وَأَبُو اللَّيْثِ السَّمْرَقَنْدِيُّ الْحِكَايَةَ عَنْ كَعْبٍ ورَوَى عَبْد اللَّه بْنُ الْحَارِثِ قَالَ اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاس وكَعْبٌ فقال ابن عباس أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِم فَنَقُولُ إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَأَى رَبَّهُ مرَّتَيْنِ فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبالُ وَقَالَ إنَّ اللَّه قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلامَهُ بَيْنَ مُحَمَّد ومُوسَى فَكَلَّمَهُ مُوسَى وَرآهُ مُحَمَّدٌ بِقَلْبِهِ وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ قَالَ رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رَبَّهُ * وَحَكَى السَّمْرَقَنْدِيُّ عن

_ (قوله وروى عطاء) هو ابن أبى رباح المكى الفقيه (قوله وَعَنْ أَبِي الْعَالِيةِ) هو رفيع بن مهران الرياحي (قوله عبد الله بن الحارث) هو زوج أخت محمد بن سيرين روى هذا الحديث مرسل (*)

مُحَمَّد بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ وَرَبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ سُئِلَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي وَلَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي وَرَوَى مالك ابن يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُ رَبِّي وَذَكَرَ كَلِمَةً فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الملأ الأعلى الحديث * وَحكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَحلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ * وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ * وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مَرْوَانَ سَألَ أَبَا هُرَيْرَةَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ فَقَالَ نَعَمْ * وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أنَّهُ قَالَ أَنَا أَقُولُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاس بِعَيْنِهِ: رَآهُ رَآهُ حَتَّى انْقَطَعَ نَفَسُهُ يَعْنِي نَفَسَ أَحْمَد وَقَالَ أَبُو عُمَرَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَآهُ بِقَلْبِهِ وجَبُنَ عَنِ الْقَوْلِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر لَا أَقُولُ رَآهُ وَلَا لَمْ يَرَهُ وَقَد اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاس وَعِكْرمَةَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَحُكى عَنِ ابْنِ عَبَّاس وَعِكْرِمَةَ رَآهُ بقلبه وعن

_ (قوله سئله هل رأيت) هذا الحديث مرسل لأن مُحَمَّد بْنِ كَعْبٍ والربيع تابعيان (قوله ابن يخامر) بضم المثناة التحتية وتخفيف الخاء المعجمة وكسر الميم بعدها راء، قال المزى حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ مبين فِي بَعْض الروايات أنه في النوم (قوله وَحكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ) هو ابن همام بن رافع الحافظ الصغانى صاحب التصانيف، مات سنة إحدى عشرة ومائتين أخرج له الأئمة الستة (قوله الطلمنكى) بفتح الطاء المهملة واللام والميم والنون والكاف الإمام الحافظ المقرى (قوله وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الظاهر أنه الطلمنكى المتقدم (*)

الْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَأى جِبْرِيلَ وَحَكَى عَبْد اللَّه بْنُ أَحْمَد بْن حَنْبَلٍ عَنِ أبيه أنَّهُ قَالَ رَآهُ وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ فِي قوله تعالى (ألم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) قَالَ شَرَحَ صَدْرَهُ لِلرُّؤْيَةِ وَشَرَحَ صَدْرَ مُوسَى لِلْكَلامِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيل الْأَشْعَرِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أنَّهُ رَأَى اللَّه تعالى ببصره وعيسى رَأسِهِ وَقَالَ كُلّ آيةٍ أُوتِيهَا نَبِيّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ أُوتِي مِثْلَهَا نَبِيُّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِتَفْضِيلِ الرُّؤْيَةِ وَوَقَفَ بَعْضُ مَشايِخِنَا فِي هَذَا وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّه وَالْحَقُّ الَّذِي لَا امْتِرَاءَ فِيهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عَقْلًا وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى جُوَازِهَا فِي الدُّنْيَا سُؤَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا وَمُحَالٌ أنْ يَجْهَلَ نَبِيّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه وما لا يجوز عليه بَلْ لَمْ يَسْألْ إلَّا جَائِزًا غَيْرِ مُسْتَحِيلٍ وَلَكِنْ وُقُوعُهُ ومشاهداته مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا مَنْ عَلَّمَهُ اللَّه فَقَالَ لَهُ اللَّه تَعَالَى (لَنْ تَرَانِي) أَيْ لَنْ تُطِيقَ وَلَا تَحْتَمِلُ رُؤْيَتِي ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ مَثَلًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَةِ مُوسَى وَأَثْبَتُ وَهُوَ الْجَبَلُ وَكُلّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُ رُؤْيَتُهُ فِي الدُّنْيَا بَلْ فِيهِ جَوَازُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى اسْتِحالَتِهَا وَلَا امْتِنَاعِهَا إذْ كُلّ مَوْجُودٍ فَرُؤْيَتُهُ جَائِزةٌ غَيْرِ مُسْتَحِيلَةٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لاخْتِلافِ التّأْوِيلاتِ فِي الآية وإذ لَيْسَ

يَقْتَضَي قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا الاسْتِحَالةَ وَقَد اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ نَفْسِهَا عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمِ اسْتِحَالَتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَقَدْ قِيلَ لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ وَقِيلَ (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لَا تُحِيطُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ قِيلَ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَإنَّمَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ وَكُلّ هَذِهِ التّأْوِيلاتِ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الرُّؤْيَةِ وَلَا اسْتِحَالَتِهَا وَكَذَلِكَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (لن تراني) وَقَوْلِهِ (تُبْتُ إِلَيْكَ) لما قدمناه ولأنها لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ ولأن من قال معناها لن تراني في الدنيا إنما هو تأويل وأيضا فليس فيه نص الامتناع وإنما جاءت في حق موسى وحيث تتطرق التأويلات تتسلط الاحتمالات فليس للقطع إليه سبيل وقوله (تبت إليك) أي مِنْ سُؤَالِي مَا لَمْ تُقَدِّرْهُ لِي وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذْلِيُّ فِي قَوْلِهِ (لَنْ تراني) أَيْ لَيْسَ لِبَشَرٍ أنْ يُطِيقَ أنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا وَأنَّهُ مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ مَاتَ وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مُمْتَنِعَةٌ لِضَعْفِ تَرْكِيبِ أَهْلِ الدُّنْيَا وقُوَاهُمْ وَكَوْنِهَا مُتَغَيِّرَةً عَرضًا لِلآفَاتِ وَالْفَنَاءِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ فَإذَا كَانَ فِي الآخِرَةِ وَرُكّبُوا تَرْكِيبًا آخَرَ وَرُزِقُوا قُوى ثَابِتَةً بَاقِيَةً وَأَتَمَّ أَنْوَارَ أَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ قَوُوا بِهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ وَقَدْ رَأَيْتُ نَحْوَ هَذَا لمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رحمه الله قال

_ (قوله أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مُمْتَنِعَةٌ لِضَعْفِ تَرْكِيبِ أَهْلِ الدنيا) قال المزى يؤيده ما في مُسْلِم فِي حَدِيث الدجال فاعلموا أنه أعور وأن الله ليس بأعور، وإن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت (*)

لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي فَإِذَا كَانَ فِي الآخِرَةِ ورزقوا أبصار بَاقِيَةً رُئي الْبَاقِي بِالْبَاقِي وَهَذَا كلامٌ حَسَنٌ مَلِيحٌ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الاسْتِحَالَةِ إلَّا مِنْ حَيْثُ ضعْفُ الْقُدْرَةِ فَإِذَا قَوَّى اللَّه تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الرُّؤْيَةِ لَمْ تَمْتَنعْ فِي حَقَّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ فِي قُوَّةِ بَصَرِ موسى ومحمد صلى الله عليهما وَسَلَّمَ وَنُفُوذِ إِدْرَاكِهِمَا بِقُوَّةٍ إِلهِيَةٍ مُنِحَاهَا لإدْرَاكِ مَا أَدْرَكَاهُ وَرُؤْيَةِ مَا رَأَيَاهُ والله أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر فِي أثْنَاءٍ أَجْوبَتِهِ عَنِ الآيتَيْنِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى اللَّه فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإدْرَاكٍ خَلَقَهُ اللَّه لَهُ واسْتَنْبَطَ ذَلِكَ والله أَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) ثُمَّ قَالَ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسى صعقا) وَتَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ هُوَ ظُهُورُهُ لَهُ حَتَّى رَآهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ شَغَلَهُ بِالْجَبَلِ حَتَّى تَجَلَّى وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَاتَ صعقا بلا إفافة وَقَوْلُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى رَآهُ وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُفَسّرِينَ فِي الْجَبلِ أنَّهُ رَآهُ وبِرُؤْيَةِ الجبل له استدل من قال برؤية محمد نبينا

_ (قوله وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أبو بكر) يعنى الباقلانى لأن الْقَاضِي أَبَا بَكْر ابن العربي معاصر للمصنف لأن مولده سنة ثمان وستين وأربعمائة ومماته سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومولد المصنف سنة ست وسبعين وأربعمائة، ومماته سنة أربع وأربعين وخمسمائة (قوله وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى ربه) قال الإمام الرازي في المعلم: فخلق الله تعالى في الجبل حياة وعقلا وفهما وخلق فيه الرؤية فرأى بها. (*)

لَهُ إذْ جَعَلهُ دَلِيلًا عَلَى الجَوَازِ وَلَا مِرْيَةَ فِي الْجَوَازِ إِذْ لَيْسَ فِي الآيَاتِ نَصُّ فِي الْمَنعِ. وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيَّنا صَلَّى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ أيْضًا وَلَا نَصٌّ إذِ المُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَتَي النَّجْمِ والتَّنازعُ فِيهمَا مَأثُورٌ وَالاحْتِمالُ لَهُمَا مُمْكِنٌ وَلَا أَثَرَ قَاطِعٌ مُتَواتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَحَدِيث ابْنِ عَبَّاس خَبَرٌ عَنِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يُسنْدهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِاعْتِقَادِ مُضمَّنِهِ وَمِثْلُهُ حَدِيث أَبِي ذَرّ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ وَحَدِيث مُعاذٍ مُحْتَمِلٌ لِلتَّاوِيلِ وَهُوَ مُضْطَرِب الإسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَحَدِيث أَبِي ذَرّ الآخر مختلف محتمل مُشْكِلٌ فَرُوِيَ: نُورٌ أَنِّي أَرَاهُ، وَحَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا أنَّهُ رُوِيَ: نَوْرَانِيَّ أرَاهُ، وَفِي حَدِيثِهِ الآخَرِ سَألْتُهُ فَقَالَ رَأيْتُ نُورًا وَلَيْسَ يُمْكِنُ الاحْتِجَاجُ بِوَاحدٍ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّ كَانَ الصَّحِيحُ رَأيْتُ نُورًا فَهُوَ قد أخْبَرَ أنَّهُ لَمْ يَرَ اللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا مَنَعَهُ وَحَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُ نُورٌ أنى أره أَيْ كَيْفَ أرَاهُ مَعَ حِجَابِ النُّورِ الْمُغَشَّي لِلْبَصَرِ وَهَذَا مِثْلُ مَا فِي الْحَدِيثَ الآخَرِ حِجَابُهُ النور وفى

_ (قَوْلُهُ نُورٌ أنَّي أره) بهمزة مفتوحة ونون مشددة مفتوحة بمعنى كيف: قال المازرى الضمير في أراه عائد على الله تعالى، ومعنى الكلام أن النور منعنى من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائى وبينه، وروى نوراني بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما سبق، وقال المزى هذا تصحيف، والصواب الأول يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ رأيت نورا وقوله حجابه النور. (*)

(فصل) وأما ما ورد في هذه القصة من مناجاته لله تعالى وكلامه معه

الْحَدِيثَ الآخَرِ لَمْ أرَهُ بِعَيْنِي وَلَكِنْ رَأَيْتُهُ بِقَلْبِي مَرَّتَيْنِ وَتلَا (ثُمَّ دَنَا فتدلى) والله تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الإدْرَاكِ الَّذِي فِي الْبَصَرِ فِي الْقَلْبِ أَوْ كَيْفَ شَاءَ لَا إله غَيْرُهُ فَإِنْ ورد حَدِيث نَصٍّ بَيِّنٌ فِي الْبَابِ اعْتُقِدَ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ قَطْعِيٌّ يرُدُّهُ والله الْمُوَفِّقُ لِلصَّوابِ. (فصل) وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مُنَاجَاتِهِ لله تعالى وكلامه معه بِقَوْلِهِ (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أوحى) إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ فَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُوحِيَ هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرِيلَ وجِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا شُذُوذًا مِنْهُمْ فَذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ قَالَ أَوْحَى إليْهِ بلا وَاسِطَةٍ وَنَحْوَهُ عَنِ الْوَاسِطِيّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلّمِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَلَّمَ رَبَّهُ فِي الْإِسْرَاءِ وَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَحَكَوْهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاس وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عَبَّاس فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ دَنَا فَتَدَلَّى قَالَ فَارَقَنِي جِبْرِيلُ فَانْقَطَعَتِ الْأَصْواتُ عَنّي فَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبّي وَهُوَ يَقُولُ: لِيَهْدَأْ رَوْعُكَ يَا مُحَمَّدُ ادْنُ ادْنُ. وَفِي حَدِيث أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ نَحْوٌ مِنْهُ وَقَد احتَجَّوا فِي هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ

_ (قوله ليهدأ) بدال مهملة بعدها همزة، والروع بفتح الراء: الفزع (*)

(فصل) وأما ما ورد في حديث الإسراء

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) فَقَالُوا هِيَ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَتَكْلِيمِ مُوسَى وَبِإرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ كَحَالِ جميع الْأَنْبِيَاءِ وأكثر أَحْوَالِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثُ قَوْلُهُ وَحْيًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تَقْسِيمِ صُورِ الْكَلَامِ إلَّا الْمُشَافَهَةُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ وَقَدْ قِيلَ الْوَحْيُ هُنَا هُوَ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ النبي دُونَ وَاسِطَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ فِي حَدِيث الْإِسْرَاءِ مَا هُوَ أَوْضَحُ فِي سَمَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَلَامِ اللَّه مِنَ الآيَةِ فَذَكَرَ فِيهِ: فَقَالَ الْمَلَكُ الله أكبر الله أَكْبَرُ فَقِيلَ لِي مِنْ وَراء الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ وَقَالَ فِي سَائِرِ كَلِمَاتِ الْآذَانِ مِثْلَ ذلك ويجئ الْكَلَامُ فِي مُشْكِلِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي الفضل بَعْدَ هَذَا مَعَ مَا يُشْبِهُهُ وَفِي أوَّلِ فَصْلٍ مِنَ الْبَابِ مِنْهُ وَكَلامُ اللَّه تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنِ اخْتَصَّهُ مِنْ أنْبِيَائِهِ جَائِزٌ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ قَاطِعٌ يَمْنَعُهُ فَإِنْ صَحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ وَكلامُهُ تَعَالَى لِمُوسَى كَائِنٌ حَقٌَ مَقْطوعٌ بِهِ نَصَّ ذَلِكَ فِي الْكتَابِ وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ دَلالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ وَرَفَعَ مَكَانَهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثَ فِي السَّمَاءِ السَّابعةِ بسبب كَلامَهِ وَرفَعَ مُحَمَّدًا فَوْقَ هَذَا كُلّهِ حَتَّى بَلغَ مُسْتَوى وَسَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلامِ فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ فِي حقَّ هَذَا أوْ يَبْعُدُ سَمَاعُ الْكَلَامِ؟ فَسُبْحَانَ منْ خَصَّ منْ شَاءَ بِمَا شَاءَ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ. (فصل) وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيث الْإِسْرَاءِ وَظَاهِرِ الآيَةِ مِنَ الدُّنُوّ

وَالْقُرْبِ مِنْ قَوْلِهِ (دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى) فَأكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ أَنَّ الدُّنُوّ وَالتَّدَلّي مُنْقَسِمٌ مَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَجِبْرِيلَ عَلَيْهَمَا السَّلَامُ أَوْ مُخْتَصّ بِأَحَدِهِمَا مِنَ الآخَرِ أَوْ مِنَ السّدْرَةِ الْمُنْتَهَى قَالَ الرَّازِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا فَتَدلَّى مِنْ رَبّه وَقِيلَ مَعْنَى دَنَا قَرُبَ وَتَدَلَّى زَادَ فِي الْقُرْبِ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنَى وَاحدٍ أَيْ قَرُبَ وَحَكَى مَكّيّ وَالْمَاوَردِي عَنِ ابْن عَبَّاس هُوَ الرَّبُّ دَنا مِنْ مُحَمَّدٍ فَتَدَلَّى إليْهِ أي أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ * وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ دَنَا مِنْ عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَدَلَّى فَقَرُبَ مِنْهُ فَأَرَاهُ مَا شَاءَ أَن يُريهُ مِنْ قُدْرَتِهِ وعَظَمَتِهِ قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس هُوَ مُقَدَّمٌ وَمُؤخَّرٌ تَدَلَّى الرَّفْرَفُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ فَدَنَا مِنْ رَبّه قَالَ فَارَقَنِي جِبْرِيلُ وَانْقَطَعَتْ عَنَّي الْأَصْوَاتُ وَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ (عَرَجَ بي جِبْرِيلُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إليْهِ بِمَا شَاءَ وَأَوْحَى إليْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً) وَذَكَرَ حَدِيث الْإِسْرَاءِ وَعَنْ محمد بن

_ (قوله قاب قوسين) في الكشاف أي مقدار قوسين عربيتين والقاب والقيب والقاد والقيد والقيس: المقدار والتقدير في الآية فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين، وفى أنوار التنزيل: والمقصود من الآية تمثيل تحقيق استماعه لما يوحى إليه بنفى البعد والملبس (قوله الرفرف) في البيان: الرفرف البساط) وقيل لما كان من الديباج وقيل الفراش وفى الصحاح الرفرف ثياب خضر يتخذ منها المحابس: الواحدة رفرفة والرفرف أيضا كسر الخبا وجوانب الدرع وما يدلى منه: الواحدة رفرفة (*)

كَعْبٍ هُوَ مُحَمَّدٌ دَنَا مِنْ رَبّه فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أدْنَاهُ رَبُّه مِنْهُ حَتَّى كَانَ مِنْهُ كقاب قوسين. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالدُّنُوّ مِنَ اللَّه لَا حَدَّ لَهُ وَمِنَ الْعِبَادِ بِالحُدُودِ. وَقَالَ أيْضًا انْقَطَعتِ الْكَيْفيّةُ عَنِ الدُّنُوّ: أَلَا تَرَى كَيْفَ حُجِبَ جِبْرِيلُ عَنْ دُنُوّهِ وَدَنَا مُحَمَّدٌ إِلَى مَا أُودِعَ قَلْبُهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَان فَتَدَلَّى بِسُكُونِ قَلْبِهِ إِلَى مَا أَدْنَاهُ وَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ الشَّكُّ والارْتِيَابُ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَقَّهُ اللَّه: اعْلَم أن مَا وَقَعَ مِنْ إِضَافَةِ الدُّنُوّ والْقُرْبِ هُنَا مِنَ اللَّه أَوْ إِلَى اللَّه فَلَيْسَ بِدُنُوّ مَكَانٍ وَلَا قُرْبِ مَدَى بَلْ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ لَيْسَ بِدُنُوّ حَدّ وَإِنَّمَا دُنُوُّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبّه. وَقُرْبُهُ منه إبانة عظيمه مَنْزِلَتهِ وَتَشْرِيفُ رتْبَتِهِ وَإشْراقُ أَنْوارِ مَعْرِفَتِهِ وَمُشَاهَدَةُ أَسْرَارِ غَيْبِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمِنَ اللَّه تَعَالَى لَهُ مَبَرَّةٌ وَتَأْنِيسٌ وَبَسْطٌ وَإِكْرامٌ وَيُتَأوَّلُ فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سماء الدُّنْيَا. عَلَى أحَدِ الْوُجُوهِ نُزُولَ إِفْضَالٍ وَإِجْمَالٍ وَقَبُولٍ وَإِحْسَانٍ قَالَ الوَاسِطيُّ منْ تَوَهَّمَ أنَّهُ بِنَفْسِهِ دنا جَعَلَ ثُمَّ مَسَافَةً بَلْ كُلّ مَا دَنَا بِنَفْسِهِ مِنَ الْحَقّ تَدَلَّى بُعْدًا يَعْنَي عَنْ دَرْكِ حَقِيقَتِهِ إذْ لَا دُنُوَّ للْحَقّ وَلَا بُعْدَ وَقَوْلُهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى جِبْرِيل عَلَى هَذَا كَانَ عِبَارَةً عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ وَلُطْفِ الْمَحَلّ وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ وَالِإشْرَافِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وعبارة عن إجابة لرغبة وقضاء

_ (قوله مدى) بفتح الميم وتخفيف المهملة والتنوين أي غاية (قوله مبرة) أي برا (*)

(فصل) في ذكر تفضيله صلى الله عليه وسلم في القيامة بخصوص الكرامة

الْمَطَالِبِ وَإظْهَارِ التَّحَفّي وَإنَافَةِ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ مِنَ اللَّه لَهُ وَيُتَأوَّلُ فِيهِ مَا يُتَأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ (منْ تَقَرَّبَ مِنّي شبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمِنْ أتَانِي يَمْشِي أَتَيتُهُ هَرْوَلَةً) قُرْبٌ بِالِإجَابَةِ وَالْقَبُولِ وإتْيَانٌ بِالِإحْسَانِ وَتَعْجِيلُ الْمَأْمُولِ. (فصل) فِي ذِكر تفضيله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القيامة بخصوص الكرامة حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ حدثنا الحسين ابن يَزِيدَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ لَيْثٍ عن الربيع ابن أنس عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، لِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي وأنا أكرم ولد آدم على ربي وَلَا فَخْرَ) * وَفِي رِوَايَةِ ابْن زُخْرٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْن أَنَسٍ فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيث

_ (قوله التحفى) بالمثناة الفوقية والحاء المهملة المفتوحة والفاء المشددة المكسورة أي المبالغة في الإلطاف والإكرام (قوله وإنافة) بكسر الهمزة وتخفيف النون أي زيادة (قوله وأبو الحسين) هو الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبار، وفى بعض النسخ الحسن غير مصغر وليس بالحسين (قوله عن ليث) هو ابن أبى سليم بضم السين وفتح اللام أبو بكر القرشى مولاهم الكوفى أحد العلماء، يروى عن مجاهد وطبقته (قوله ولا فخر) أي قلت ذلك امتثالا بأمر ربى لا افتخارا (قوله ابن زخر) الإفريقى العابد (*)

(أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا وَأَنَا قَائِدُهُمْ إذَا وَفدُوا وَأَنَا خَطيبُهُمْ إذَا أنْصَتُوا وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إذَا حُبِسُوا وَأَنَا مُبَشّرُهُمْ إذَا أبلسُوا لِوَاءُ الْكَرَمِ بِيَدِي وأنا أَكْرَمُ ولد آدم عَلَى رَبّي وَلَا فَخْرَ وَيَطُوفُ عَليَّ أَلْفُ خَادِم كَأنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (وَأُكْسَى حُلَّة مِنْ حُلَلِ الْجَّنةِ ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي قَالَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا سَيّدُ ولدِ آدمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِيَديِ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ وَمَا نَبِيٌ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إلا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أوّلُ من تنْشَق عَنْهُ الْأَرْض وَلَا فَخْرَ) وَعَنْ أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنا سَيّدُ ولدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوّلُ منْ ينْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِع وَأَوَّلُ مُشَفَّع) وَعَنِ ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا (أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وأول مشفع ولا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ من يُحَرّكُ حَلَقَ الْجَّنةِ فَيُفْتَحُ لِي فَأَدْخُلُهَا فَيَدْخُلُهَا مَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنينَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ) وَعَنْ أَنَسٍ (أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَّنةِ وَأَنَا أَكْثَرُ النَّاسِ تَبَعًا) وَعَنْ أَنَسٍ

_ (قوله أبلسوا) أي يئسوا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (فإذا هم مبلسون) (قوله حلق الجنة) الحلقة بالتسكين الدروع، وكذلك حلقة الباب وحلقة القوم، والجمع: الحلق على غير قياس، وقال الأصمعى: الجمع حلق مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، وحكى يونس عَنْ أَبِي عَمْرٍو بن العلاء حلقة في الواحد بالتحريك والجمع حلق وحلقات (*)

رضي الله عنه قال قال النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا سَيَّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّه الأوَّلِينَ والآخرِينَ. ) وَذَكَرَ حَدِيث الشفاعة وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَطْمَعُ أَنْ أَكُونَ أَعْظَمَ الْأَنْبِيَاء أَجْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِي حَدِيث آخَرَ (أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ إبْرَاهِيمُ وعِيسَى فِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا فِي أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَمَّا إبْرَاهِيمُ فيقول أنت دَعْوَتِي وَذُرَّيَّتِي فَاجْعَلْنِي من أُمَّتِكَ وَأَمَّا عِيسَى فَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ بَنُو عَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَإِنَّ عِيسَى أَخِي لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ) قَوْلُهُ أَنَا سَيّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ سَيّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَكِنْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لانفراده فيه بالسودد وَالشَّفَاعَةِ دُونَ غَيْرِهِ إذْ لَجَأَ النَّاسُ إليْهِ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا سِواهُ وَالسَّيّدُ هُوَ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ فَكَانَ حِينِئذٍ سَيّدًا مُنْفَردًا من بَيْنِ الْبَشَرِ لَمْ يُزَاحِمْهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ وَلَا ادَّعَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار) وَالْمُلْكُ لَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ لَكِنْ فِي الآخِرَةِ انْقَطَعَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ لَجَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ النَّاسِ فِي الشَّفَاعَةِ فَكَانَ

_ (قوله بنو علات) العلات بفتح العين المهملة جمع علة وهى الضرة سميت بذلك لأن الرجل تزوجها على أولى كانت قبلها، ثم عل من هذه والعلل الشرب الثاني فبنوا العلات أولاد الرجل من نسوة شئ، والمعنى أن الأنبياء متفقون في أصول الشريعة متباينون في فروعها. (*)

سَيّدَهُمْ فِي الْأُخْرَى دُونَ دَعْوَى وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (آتِي بَابَ الْجَّنةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ من أنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِكَ أُمْرِتُ أَنْ لَا أَفْتَحَ لأحَدٍ قَبْلَكَ) وَعَنْ عَبْد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا) وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَهُ وَقَالَ طُولُهُ مَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى أَيْلَةَ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ * وَعَنْ ثَوْبَانَ مِثْلُهُ وَقَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالآخَرُ من وَرِقٍ، وَفِي رِوَايَةِ حَارِثَةَ بن وَهْبٍ كَمَا بَيْنَ المدينة وصنعاء

_ (قوله وعن عبد الله بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم (قوله من الورق) بفتح الواو وكسر الراء وهى الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة بتعويض الهاء في آخره عن الواو في أوله (قوله عمان) قال ابن الأثير حديث الحوض من مقامي إلى عمان بفتح العين وتشديد الميم مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء فأما بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين وله ذكر في الحديث وقال السهيلي عمان بضم العين وتخفيف الميم قرية باليمن سميت بعمان بن سنان مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ فيما ذكروا، وأما بفتح العين وتشديد الميم فقرية بالشام قرب دمشق سميت بعمان بن لوط بن هاران كان يسكنها فيما ذكروا وقال المزى يتعين ضم العين والتخفيف لقوله في الحديث الآخر أيلة وصنعاء (قوله إلى أيلة) بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية بلدة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين المدينة الشريفة وبين دمشق، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل (قوله يشخب) بضم الخاء المعجمة وفتحها (قوله حارثة) بالحاء المهملة والمثلثة (قوله وصنعاء) بفتح الصاد المهملة وسكون النون بعدها عين مهملة وهمزة ممدودة: مدينة اليمن العظمى وهى صنعاء اليمن ويقال في النسب إليها صنعاني على غير قياس، وأما صنعاء الروم فقرية في الجانب الغربي من دمشق في ناحية الروم (14 - 1) (*)

(فصل) في تفضيله بالمحبة والخلة

وَقَالَ أَنَسٌ أيْلَةَ وَصَنْعَاءَ وَقَالَ ابن عُمَرَ كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَد، وَرَوَى حَدِيث الْحَوْضِ أيْضًا أَنَس وَجَابِرُ بن سَمُرَةَ وَابْنُ عمر وعقبة ابن عَامِرٍ وَحَارِثَةُ بن وَهْبٍ الْخُزَاعِيُّ وَالْمُسْتَورِدُ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأسْلمِيُّ وَحُذَيْفَةُ بن اليَمَانِ وَأَبُو أمامَةَ وَزَيْدُ بن أَرْقَمَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وعبد اللَّه ابن زَيْدٍ وَسَهْلُ بن سَعْدٍ وَسُوَيْدُ بن جَبَلَةَ وَأَبُو بَكْر وَعُمَر بن الْخَطَّابِ وَابْنُ بُرَيْدَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِي وعبد اللَّه الصُّنَابِحِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَالْبَرَاءُ وَجُنْدَبٌ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ بِنْتَا أَبِي بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرَةَ وَخَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ، وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ الله عنهم أجمعين. (فصل) في تفضيله بِالْمَحَبَّةِ وَالْخُلَّةِ: جَاءَتْ بِذَلِكَ الآثَارُ الصَّحِيحَةُ واخْتُصّ عَلَى ألْسنَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَبِيبِ اللَّه. أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ عَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ وَحَدَّثَنَا حُسَيْنُ

_ (قوله والمستورد) بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح المثناة الفوقية هو ابن شداد بالشين المعجمة (قوله وأبو برزة) بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها زاى (قوله وَسُوَيْدُ بن جَبَلَةَ) سويد بضم السين المهملة وفتح الواو وجبلة بفتح الجيم والباء الموحدة (قوله الصنابحى) بضم الصاد المهملة وتخفيف النون وكسر الباء الموحدة والحاء المهملة، قيل صحابي نسب إلى جده اسمه صنابح (قوله جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها، هو ابن عبد الله بن صعنان البجلى (قوله وَخَوْلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ) هي الأنصارية النجارية زوج حمزة بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ وقيل زوج حمزة خولة بنت تامر وقيل تامر لقب قيس (قوله عن كريمة) قال ابن ماكولا كريمة بفتح الكاف وكسر الراء ثم قال وكريمة بنت أحمد بن محمد المروزية سمعت جامع البخاري من الكشميهنى. (*)

ابن مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ سَمَاعًا عَلَيْهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يوسف حدثنا محمد ابْنُ إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ (لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْر رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ (وإنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود وفد اتَّخَذَ اللَّهَ صَاحَبُكُمْ خَلِيلا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ قَالَ فَخَرَجَ حَتَّى إذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَجَبًا إنَّ اللَّه اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ من خَلْقِهِ خَلِيلًا وَقَالَ آخر ماذا بِأَعْجَبَ من كَلَام مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّه تَكْلِيمًا وَقَالَ آخرُ فَعِيسَى كَلِمةُ اللَّه وَرُوحُهُ وَقَالَ آخرُ آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّه، فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ فَسَلَّمَ وَقَالَ (قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ إنَّ اللَّه تَعَالَى اتَّخَذَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّه وَهُوَ كَذَلِكَ وعسيى روح اللَّه وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّه وَهُوَ كَذَلِكَ وعيسى روح اللَّه وَهُوَ كَذَلِكَ وآدم اصطفاه اللَّه وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّه وَلَا فَخْرَ وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولا فخر

_ (قوله عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ) من غير إضافة عبد إلى ابن هو أبو ذر الهروي (قوله فريح) بضم الفاء وفتح اللام هو ابن سليمان العدوى المدنى (قوله أبو النضر) بالضاد المعجمة هو سالم بن أبي أمية المدنى (قوله عن بسر) بضم الموحدة وسكون السين المهملة. (*)

وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وأول مشفع ولا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ من يُحَرّكُ حَلَقَ الْجنةِ فَيَفْتَحُ اللَّه لى فيد خلنيها وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنينَ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَكْرَمُ الأولين والآخرين ولا فخر) فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ من قَوْلِ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنّيِ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا فَهُوَ مَكْتُوبٌ في التوراة اس حَبِيبُ الرَّحْمنِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّه: اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْخُلَّةِ وَأصْلِ اشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ الْخَلِيلُ الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّه الَّذِي لَيْسَ فِي انْقِطَاعِهِ إليه وَمَحَبَّتِهِ لَهُ اخْتِلَالٌ وَقِيلَ الْخَلِيلُ الْمُخْتَصُّ وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ وَاحدٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ الْخُلَّةِ الاسْتِصْفَاءُ وَسُمّيَ إبْرَاهِيمُ خليل اللَّه لِأَنَّهُ يُوَالِي فِيهِ ويُعَادِي فِيهِ وَخُلَّةُ اللَّه لَهُ نَصْرُه وَجَعْلُهُ إمَامًا لِمَنْ بَعْدَهُ وَقِيلَ الْخَلِيلُ أَصْلُهُ الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ الْمُنْقَطِعُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلَّةِ وَهِيَ الْحَاجَةُ فَسُمّي بِهَا إبْرَاهِيمُ لِأَنَّهُ قَصَر حَاجَتَهُ عَلَى رَبَّهُ وَانْقَطَعَ إِليْهِ بهمه ولم يهمه وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَبْلَ غَيْرهِ إذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي الْمُنْجَنِيقِ لِيُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ فَقَالَ ألك حاجة؟

_ (قوله فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التوراة اس) هكذا وقعت هَذِه اللّفْظَة فِي النسخ المعتمدة على هذه الصورة وهى ألف بعدها سين مهملة ثم جرة، وفى بعض النسخ مكتوب بازائها على الطرة ذكر ابن جبير بِخَطَّه فِي كِتابه أن هذه اللفظة وقعت في طرة (الأم) المبيضة بخط مؤلفه كما هي هنا مبهمة فحكيتها كما وقعت (قوله من الحلة بفتح الخاء المعجمة وهى الحاجة (قوله قبل غيره) بكسر القاف وفتح الموحدة (قوله وَهُوَ فِي الْمُنْجَنِيقِ) بفتح الميم والجيم وبكسر الميم ذكرهما أبو عبيد بن سلام في الغريب وفى الصحاح والمنجنيق التى يرمى بها الحجارة معربة وأصلها بالفارسية - من جى نيك - أي ما أجودنى، وهى مؤنثة. (*)

قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بن فُوركٍ: الْخُلَّةُ صَفَاءُ الْمَوَدَّةِ التي تُوجِبُ الاخْتِصَاصَ بِتَخَلُّلِ الْأَسْرَارِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ الْخُلَّةِ الْمَحَبَّةُ وَمَعْنَاهَا الْإِسْعَافُ وَالْإِلْطَافُ والتَّرْفِيعُ والتَّشْفِيعُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فَأَوْجَبَ لِلْمَحْبُوبِ أنْ لا يُؤَاخَذَ بِذُنُوبِهِ قَالَ هَذَا وَالْخُلَّةُ أقْوَى مِنَ البُنُوَّةِ لِأَنَّ البُنُوَّة قَدْ تَكُونُ فِيهَا الْعَدَاوَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) الآيَةَ وَلَا يَصِحُّ أَن تَكُونَ عَدَاوَةٌ مَعَ خُلَّةٍ فَإِذَا تَسْمِيَةُ إبْرَاهِيم وِمُحَمَّدٍ عَلَيْهَمَا السَّلَامُ بِالْخُلَّةِ إِمَّا بِانْقِطَاعِهِمَا إِلَى اللَّه وَوَقْفِ حَوَائِجِهِمَا عَلَيْهِ وَالانْقِطَاعِ عَمَّنْ دُونَهُ وَالْإضْرَابِ عَنِ الْوَسَائِطِ وَالْأسْبَابِ أَوْ لِزيَادَةِ الاخْتِصَاصِ مِنْهُ تَعَالَى لَهُمَا وَخَفَيّ إلطَافِهِ عِنْدَهُمَا وَمَا خَالَلَ بَوَاطِنهمَا من أسرار إلهيته وَمَكْنُونِ غُيُوبِهِ وَمَعْرِفَتِهِ أَوْ لاسْتِصْفَائِهِ لَهُمَا وَاسْتِصْفَاءِ قُلُوبِهِمَا عَمَّنْ سِواهُ حَتَّى لَمْ يُخَالِلْهُمَا حُبّ لِغَيْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْخَلِيلُ من لَا يَتَّسِعُ قَلْبُهُ لِسَواهُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) لكِنْ أُخوَّة الْإِسْلَام واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ أَيُّهُمَا أَرْفَعُ: دَرَجَةُ الْخُلَّةِ أَوْ دَرَجَةُ الْمَحَبَّةِ؟ فَجَعَلَهُمَا بَعْضُهُمْ سَوَاءً فَلَا يَكُونُ الْحَبِيبُ إلَّا خَلِيلًا وَلَا الْخَلِيلُ إلَّا حَبِيبًا لَكِنَّهُ خَصَّ إبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ ومحمدا

_ (قوله والأسرار) بفتح الهمزة جمع سر (قوله وخفى إلطافه) بالخاء المعجمة أو المهملة والإلطاف بكسر الهمزة مصدر، وبفتحها جمع لطف. (*)

بِالْمَحَبَّةِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ دَرَجَةُ الْخُلَّةِ أَرْفَعُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ كُنْتُ مُتَّخذًا خَلِيلًا غَيْرِ رَبّي عَزَّ وَجَلَّ) فَلَمْ يَتَّخِذْهُ وَقَدْ أطْلَقَ الْمَحَبَّةَ لِفَاطِمَةَ وابْنَيْهَا وَأُسَامَةَ وَغَيْرِهِمْ وَأَكْثَرُهُمْ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ أَرْفَعَ مِنَ الْخُلَّةِ لِأَنَّ دَرَجَة الْحَبِيبِ نَبِيَّنَا أرْفَعُ من دَرَجَة الْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ وَأصْلُ الْمَحَبَّةِ الْمَيْلُ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْمُحِبَّ وَلَكنْ هَذَا فِي حَقّ من يَصِحُّ الْمَيْلُ مِنْهُ وَالانْتِفَاعُ بِالْوَفْقِ وَهِيَ دَرَجَةُ الْمَخْلُوقِ فأَمَّا الْخَالِقُ فمنزه عن الأعراض فَمَحَبَّتُهُ لِعَبْدِه تَمْكِينُهُ من سَعَادَتِهِ وَعِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقُهُ وَتَهْيِئَةُ أَسْبَابِ الْقُرْبِ وَإفَاضَةُ رَحْمَتِهِ عَلَيْهِ وَقُصْوَاهَا كَشْفُ الْحُجُبِ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَرَاهُ بِقَلْبِهِ وَيَنْظُرَ إليْهِ بِبَصِيرَتِهِ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثَ (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ) وَلَا يَنْبَغِي أَن يُفْهَمَ من هَذَا سِوَى التّجَرُّد لله والانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّه وَصَفَاءِ الْقَلْبِ لله وَإخْلَاصِ الْحَرَكَاتِ لله كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ بِرِضَاهُ يَرْضَى وَبِسَخِطِهِ يَسْخَطُ، وَمِنْ هَذَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْخُلَّةِ بِقَوْلِهِ: قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنّي * وَبذَا سُمّي الْخَلِيلُ خَلِيلًا فَإِذَا مَا نَطَقْتُ كُنْتَ حَدِيثِي * وَإذَا مَا سَكَتُّ كُنْتَ الْغَلِيلَا فَإِذَا مَزِيةُ الْخُلَّةِ وَخُصُوصِيَّةُ الْمَحَبَّةَ حَاصِلَةٌ لِنَبِيّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْه

_ (قَوْله وقصواها) بضم القاف والقصر (قوله كنت الغليلا) في الصحاح الغلة حرارة العطش وكذلك الغليل يقول منه غل الرجل يغل غلا فهو مغلول على ما لم يسم فاعله (*)

وَسَلَّمَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ الصَّحِيحَة المنتشرة الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ مِنَ الْأُمَّةِ وَكَفَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) الآيَةَ، حكى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمّا نَزَلَتْ قَالَ الْكُفَّارُ إنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أنْ نتخذه حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مَرْيَمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ غَيْظًا لَهُمْ وَرَغْمًا عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ الآيَةَ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) فَزَادَهُ شَرَفًا بِأَمْرِهِمِ بِطَاعَتِهِ وَقَرَنَها بِطَاعَتِهِ ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى التوَلّي عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يحب الكافرين) * وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَام أَبُو بَكْرِ بن فُورَك عَنْ بَعْض الْمُتَكَلّمِينَ كَلامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحَبَّةَ وَالْخُلَّةِ يَطُولُ جُمْلَةُ إشاراته إِلَى تَفْضِيلِ مَقَامِ الْمَحَبَّةَ عَلَى الْخُلَّةِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهُ طَرَفًا يَهْدِي إِلَى مَا بَعْدَهُ، فَمْن ذَلِكَ قَوْلهُمُ: الْخَلِيلُ يَصِلُ بِالْوَاسِطَةِ من قَوْلِهِ (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وَالْحَبِيبُ يَصِلُ إليْهِ بِهِ من قَوْلِهِ (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى) وَقِيلَ الْخَلِيلُ الَّذِي تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ فِي حَدّ الطَّمَع من قَوْلِهِ (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خطيئتي وَالْحَبِيبُ الَّذِي مَغْفِرَتُهُ فِي حَد اليَقِينِ من قَوْلِهِ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخر) الآيَةَ وَالْخَلِيلُ قَالَ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النبي) فابتديئ بِالبِشَارَةِ قَبْلَ السُّؤالِ وَالْخَلِيلُ قَالَ فِي الْمِحْنَةِ حَسْبِيَ اللَّهَ والحبيب قيل له (يا أيها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ) وَالْخَلِيلُ قَالَ (وَاجْعَلْ لى لسانه صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) والحبيب قيل له (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) أُعْطِيَ بِلَا سُؤَالٍ، وَالْخَلِيلُ قَالَ

فصل في تفضيله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة والمقام المحمود

(واجنبني وبى أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) وَالْحَبِيبُ قِيلَ لَهُ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل البيت) وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَقْصِدِ أَصْحَابِ الْمَقَالِ من تَفْضِيلِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ و (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سبيلا) فصل فِي تفضيله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشفاعة والمقام المحمود قَالَ اللَّهَ تَعَالَى (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا محمودا) أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ الْجَيَّانِيُّ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إلى نحطه حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو أَحْمَدَ قَالا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جثى كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ يَا فُلَانُ اشْفَعْ لَنَا يَا فُلَانُ اشْفَعْ لَنَا حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

_ (قوله على شاكلته) أي عادته أو جبلته التى طبع عليها (قوله أبو الأحوص) بالحاء والصاد المهملتين (قوله جثى) بضم الجيم وفتح المثلثة المخففة قال ابن الأثير الجثا جمع جثوة بالضم وهو الشئ المجموع ومنه إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يوم القيامة جثى جمع جثوة بالضم وهو الشئ المجموع ومنه إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يوم القيامة جثى وتروى هذه اللفظة بتشديد المثلثة جمع جاث وهو الذى يجلس على ركبتيه وفى الصحاح الجثوة والجثوة والجثوة ثلاث لغات: الحجارة المجموعة وجثى الحرم بالضم وجثى الحرم بالكسر أيضا ما اجتمع فيه من حجارة الحمام وجثا على ركبتيه يجثو ويجثى جثوا وجثيا على فعول فيهما وقوم جثى أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (ونذر الظالمين فيها جثيا) وجثيا أيضا بكسر الجيم إتباعا لما بعدها من الكسر (*)

وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي قَوْلَهُ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاما محمودا) فقال هي الشَّفَاعَةُ * وَرَوَى كَعْبُ بنُ مَالِكِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُحْشَرُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ وَيَكْسُونِي رَبّي حُلَّةً خَضْرَاءَ ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّه أَنْ أَقُولَ فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ) * وَعَنِ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَذَكَرَ حَدِيث الشَّفَاعَة قَالَ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجَنةِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّه الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وُعِدَهُ * وَعَنِ ابن مَسْعُودٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قِيَامُهُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مَقَامًا لَا يَقُومُهُ غَيْرُهُ يَغْبِطُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، وَنَحْوُهُ عَنْ كَعْب وَالْحَسَن، وَفِي رِوَايَة هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ * وَعَنِ ابن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي لَقَائِمٌ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ قِيلَ وَمَا هُوَ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى كُرْسِيِّهِ) الْحَدِيثَ * وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ صَلَّى القله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ أَتَرْونَهَا لِلْمُتَّقِينَ، وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ) * وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتَ

_ (قوله أترونها) بضم المثناة الفوقية وفتح الراء أي أتظنونها (قوله للمتقين) بالمثناة الفوقية جمع متقى وفى بعض النسخ للمتقين بالنون والقاف قال الحافظ المزى روى ابن عرفة في جزئه هذا الحديث أَتَرْونَهَا لِلْمُتَّقِينَ وَلَكِنَّهَا للمذنبين الخاطئين المتلوثين، وأما إذَا لَم يَكُن ذكر المتلوثين فيضبط بالوجهين، والمتلوثين بميم مضمومة ومثناة فوقية مفتوحة ومثلثة مكسورة، ولوث الماء: كدره (*)

يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا وَرَدَ عَلَيْكَ فِي الشَّفَاعَةِ فَقَالَ (شَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا يُصَدِّقُ لِسَانَهُ قَلْبُهُ) * وَعَنْ أُمّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قال رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أُرِيتُ مَا تَلْقَى أُمَّتِي من بَعْدِي وسَفْكَ بَعْضُهُمْ دِماءَ بَعْضٍ وَسَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّه مَا سَبَقَ للأمم قَبْلَهُمْ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهِمْ فَفَعَلَ) * وَقَالَ حُذَيْفَةُ يَجْمَعُ اللَّه النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ حَيْثُ يُسْمِعُهُمُ الدّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا سُكُونًا لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلَّا بِإذْنِهِ فَيُنَادَى: مُحَمَّدُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ وَالْمُهْتَدي مَنْ هَدَيْتَ وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَلَكَ وَإِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إلا إليك تبارك وَتَعالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ قَالَ فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ) * وَقَالَ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا إذَا دَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَأَهْلُ الْجَّنةِ الْجَّنةَ فَيَبْقَى آخِرُ زُمْرَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ وآخِرُ زُمْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَتَقولُ زُمْرَةُ النَّارِ لِزُمْرَةِ الْجَّنةِ مَا نَفَعَكُمْ إيمَانُكُمْ فيدعون ربهم

_ (قوله وينفذهم البصر) قال ابن الأثير قال أبو حاتم: أصحاب الحديث يرونه بالذال المعجمة، وإنما هو بالمهملة أي يبلغ أولهم وآخرهم البصر حتى يراهم كلهم ويستوعبهم، من نفذ الشئ وأنفدته (قوله فينادى) بفتح الدال ومحمد بلا تنويل على أنه منادى محذوف الأداة أو بالتنوين، على أنه قائم مقام الفاعل لينادي (قوله وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) أي لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك إنما يصعد إليك الكلم الطيب أو لا يضاف إليك أدبا وإن كنت موجدا له بالحقيقة إذ ليس الشر شرا بالنسبة إلى حكمتك فإنك لا توجد شيئا عبثا (قوله لا ملجأ) بهمزة في آخره والأجود تخفيفها لتناسب (منجا) فإنه مقصور (*)

وَيَضِجُّونَ فَيَسْمَعُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَسْأَلُونَ آدَمَ وَغَيْرَهُ بَعْدَهُ فِي الشَّفَاعَة لَهُمْ فَكُل يَعْتَذِرُ حَتَّى يأتو محمد صلى الله عليه سلم فَيَشْفَعُ لَهُمْ فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ، وَنَحْوَهُ عَنِ بن مَسْعُودٍ أيضا وَمُجَاهِدِ وَذَكَرَهُ عَلِيّ بن الْحُسَيْن عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ جَابِر بن عَبْد اللَّه لِيَزِيدَ الْفَقِيرِ سَمِعْتُ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ، يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّه فِيهِ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّه بِهِ مَنْ يُخْرِجُ يَعْنِي مِنَ النَّارِ، وَذَكَرَ حَدِيث الشَّفَاعَة فِي إِخْرَاجِ الْجَهَنّمِيينَ) وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ وَقَالَ فَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضُهُمْ فِي حَدِيثِ بَعْض قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ - أَوْ قَالَ فَيُلْهَمُونَ - فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا) وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْهُ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسُ من الغم مالا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُونَ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شئ اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قبله

_ (قوله ليزيد الفقير) هو ابن صهيب: كان يشكو فقار ظهره فقيل له الفقير (*)

مِثلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا بَلَغَنَا أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يغضب قبله مثله وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ نَفْسِي نَفْسِي قَالَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي اذْهَبُوا إلى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ نَفْسِي نَفْسِي لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّهُ عَبْدٌ آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَيَذَكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ وَقْتَلَهُ النَّفْسَ نَفْسِي نَفْسِي وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبَهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَأُوتَى فَأَقُولُ أَنَا لها فأنطلق فأستادن على ربى فتؤذن لِي فَإِذَا رَأَيْتُهُ

_ (قوله عن الشجرة) قيل هي شجرة الكرم، وقيل السنبلة (قوله بلغنا) بفتح الغين المعجمة قال النووي وضبطه بعض المتأخرين بالفتح والإسكان ويدل للأول ألا ترون ما قد بلغكم، ولو كان بالإسكان لقال بلغتم. (*)

وَقَعْتُ سَاجِدًا وَفِي رِوَايَةٍ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُ يُلْهِمُنِيهَا اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي فَيَقُولُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ هَذَا الْفَصْلَ وَقَالَ مَكَانَهُ ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفع تشفع وسل تُعْطَهْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَذَكَرَ مِثْلَ الأَوَّلِ وَقَالَ فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قَالَ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَرْجِعُ وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ فِيهِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أدنى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَأَفْعَلُ وَذَكَرَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ فَيُقَالُ لِي ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفع تشفع وسل تُعْطَهْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْهُ قَالَ فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ

_ (قوله فأخر ساجدا) في مسند احمد أن كل سجدة: جمعة من جمع الدنيا (*)

الْخُلُودُ * وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَحُذَيْفَةَ مِثْلَهُ قَالَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيُؤْذَنُ لَهُ وَتَأْتِي الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنْبَتِي الصِّرَاطِ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَشْفَعُ فَيُضْرَبُ الصراط فيمرون أوَّلُهُمْ كَالْبَرْقِ ثُمَّ كالريح والطير شد الرِّجَالِ وَنَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ اللهم سلم سَلِّمْ حَتَّى يَجْتَازَ النَّاسُ وَذَكَرَ آخِرُهُمْ جَوَازًا الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَوضَعُ للْأَنْبِيَاءِ مَنَابِرُ يَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَيَبْقَى مِنْبَرِي لَا أَجْلِسُ عَلَيْهِ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي مُنْتَصِبًا فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ بِأُمَّتِكَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ عَجِّلْ حِسَابَهُمْ فَيُدْعَى بِهِمْ فَيُحَاسبُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحمَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يدخل الجنة بِشَفَاعَتِي وَلَا أَزَالُ أشْفَعُ حَتَّى أُعْطَى صِكَاكًا بِرِجَالٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ حَتَّى إِنَّ خَازِنَ النَّارِ لَيَقُولُ يَا مُحَمَّدُ مَا تَرَكْتَ لِغَضَبِ رَبِّكَ فِي أُمَّتِكَ مِنْ نِقْمَةٍ، وَمِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ النُّمْيَرِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال (أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْفَلِقُ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِهِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَمعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَوَّلَ مَنْ تُفْتَحُ لَهُ الْجَنَّةُ وَلَا فَخْرَ فَآتِي فَآخُذُ بِحَلَقَةِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لى فيستقبلى الجَبَّارُ تَعَالَى فَأَخِرُّ ساجدا) وذكر

_ (قوله وشد الرجال) بالجيم هو الصحيح المعروف أي: حزمهم (قوله صكاكا) بكسر الصاد المهملة وتخفيف الكاف جمع صك بفتح الصاد وتشديد الكاف وهو الكتاب (*)

نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ رِوَايَةِ أُنَيْسٍ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ (لأَشْفَعَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكْثَرَ مِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ حَجَرٍ وَشَجَرٍ) فَقَدِ اجْتَمَعَ مِنِ اخْتِلافِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الآثَارِ أَنَّ شَفَاعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَامَهُ الْمَحْمُودَ مِنْ أَوَّلِ الشَّفَاعَاتِ إِلَى آخِرِهَا مِنْ حِينِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ لِلْحَشْرِ وَتَضِيقُ بِهِمُ الحاجر ويَبْلغُ مِنْهُم الْعَرَقُ وَالشَّمْسُ وَالْوُقُوفُ مَبْلَغَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ الْحِسَابِ فَيَشْفَعُ حِينئذٍ لإراحَةِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْقِفِ ثُمَّ يُوضَعُ الصّرَاطُ وَيُحَاسَبُ النَّاسُ كَمَا جاءَ فِي الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَتْقَنُ فَيَشْفَعُ فِي تَعْجِيلِ من لَا حِسَابَ عَلَيْهِ من أُمَّتِهِ إِلَى الْجَنةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ ثُمَّ يَشْفَعُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَدَخَلَ النَّارَ مِنْهُمْ حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ثُمَّ فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ هَذَا لِسوَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْحَدِيثَ الْمُنْتَشِرِ الصَّحِيحِ (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بها واختبأت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ مَعْناهُ دَعْوَةٌ أُعْلِمَ أَنَّهَا تُسْتَجابُ لَهُمْ وَيُبْلَغُ فِيهَا مَرْغُوبُهُمْ وَإِلَّا فَكَمْ لِكُلٍّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ وَلنبيّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا لَا يُعَدُّ لَكِنْ حَالُهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ بِهَا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْف وضُمِنَتْ لَهُمْ إِجَابَةُ دعوة فيما شاؤه يَدْعُونَ بِهَا عَلَى يَقينٍ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بن زِيَادٍ وَأَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الحديث

_ (قوله وَمِنْ رِوَايَةِ أُنَيْسٍ) بالتصغير وهو أنصارى روى عنه شهر بن حوشب حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أشفع - الحديث - ولم يرو عنه غيره، ذكر ذلك ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (*)

فصل في تفضيله صلى الله عليه وسلم في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر والفضيلة

(لِكُلّ نَبِيّ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ فاستجيب لَهُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُؤَخِّرَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ اليامة) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّل كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ) وَنَحْوَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ أَنَسٍ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَتَكُونُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمَذْكُورَةُ مَخْصُوصَةً بِالْأُمَّةِ مَضْمُونَةَ الْإِجَابَةِ وَإِلَّا فَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَأَلَ لِأُمَّتِهِ أَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا أُعْطِيَ بَعْضَهَا وَمُنِعَ بَعْضَهَا وَادَّخَرَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةَ لِيَوْمِ الْفَاقَةِ وخَاتِمَةِ الْمِحَنِ وَعَظِيمِ السُّؤَالِ وَالرَّغْبَةِ: جَزَاهُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا. فصل فِي تفضيله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنةِ بالوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر والفضيلة حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّه مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التَّمِيمِيُّ وَالْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ حَدَّثَنَا النَّمَرِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمَّارُ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَحَيْوَةَ وسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا

_ (قوله حيوة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الواو (قوله عن كعب ابن علقمة) وفى بعض النسخ عن كعب عن علقمة وهو غير صواب. (*)

(فصل)

عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الجنة لا تنبغي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ) * وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْوَسِيلَةُ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ * وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ عَرَضَ لِي نَهْرٌ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ قُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَا هَذَا قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى طِينَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِسْكًا) وَعَنْ عائشة عبد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِثْلَهُ قَالَ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبَيْضُ مِنَ الثَّلْجِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ فَإِذَا هُوَ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا عَلَيْهِ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي وَذَكَرَ حَدِيثَ الْحَوْضِ وَنَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاس. وَعَنِ ابن عَبَّاس أيْضًا قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّه إيّاهُ وَقَالَ سَعِيدٍ بن جُبَيْر والنهر الَّذِي فِي الْجَّنةِ مِنَ الخير الَّذِي أعطاه اللَّه * وَعَنْ حُذَيْفَةَ فِيمَا ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبّه (وَأَعْطَانِي الكَوْثَرَ نَهَرًا مِنَ الْجَنَّةِ يَسِيلُ فِي حَوْضِي) وَعَنِ ابن عَبَّاس فِي قَوْلِهِ تعالى (ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) قَالَ أَلْفُ قَصْرٍ من لُؤلُؤٍ تُرَابُهُنَّ الْمِسْكُ وَفِيهِ مَا يُصْلِحُهُنَّ * وَفِي رِوَايَةِ أُخْرَى وَفِيهِ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْواجِ وَالْخَدَمِ. (فصل) فَإِنْ قُلْتَ إذَا تَقَرَّرَ من دَلِيلِ الْقُرْآنِ وَصَحِيح الْأَثَرِ

_ (قوله حلت عليه) بتشديد اللام أي نزلت (قوله حافتاه) بتخفيف الفاء (قوله إلى طينه) بكسر الطاء المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها نون وهاء للضمير (15 - 1) (*)

وَإِجْماعِ الْأُمَّةِ كَونُهُ أَكْرَمَ الْبَشَرِ وَأَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ فَمَا مَعْنى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِنَهْيِهِ عَنِ التَّفْضِيلِ كَقَوْلِهِ فِيمَا حَدَّثَنَاهُ الْأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا السَّمَرْقَنْدِيُّ حَدَّثَنَا الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) وَفِي غَيْرِ هَذَا الطَرِيقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ يَعْنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ - الْحَدِيثَ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْيَهُودِيِّ الَّذِي قَالَ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَلَطَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَقَالَ تَقُولُ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَذَكَرَ الحديث وفيه وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى * وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ من قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ * وَعَنِ ابن مَسْعُودٍ لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَفِي حَدِيثهِ الآخَرِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ ذَاكَ إبْرَاهِيمُ، فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَأْوِيلَاتٍ (أَحَدُهَا) أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فَنَهَى عَنِ التَّفْضيلِ إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ وَأَنَّ مَنْ فَضَّلَ بِلَا عِلْمٍ فَقَدْ كَذَبَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ لَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ هُوَ وَإِنَّمَا

هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَفَّ عَنِ التَّفْضِيلِ (الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَنَفْيِ التَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ وَهَذَا لَا يَسْلَمُ مِنَ الاعْتِراضِ (الْوَجْهُ الثالث) أَلَّا يُفَضَّلَ بَيْنَهُمْ تضيلا يُؤَدِّي إِلَى تَنَقُّصِ بَعْضِهِمْ أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ لَا سِيَّمَا فِي جِهَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَخْبَرَ لِئَلا يَقَعَ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ بِذَلِكَ غَضَاضَةٌ وَانْحِطَاطٌ مِنْ رُتْبَتِهِ الرَّفِيعَةِ إِذْ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ المشحون - إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه) فُرُبَّمَا يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ حَطِيطَتُهُ بِذَلِكَ (الْوَجْهُ رابع) مَنْعُ التَّفْضِيلِ فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ إِذْ هِيَ شئ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاضَلُ وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ وَالْكَرَامَاتِ وَالرُّتَبِ وَالْأَلْطَافِ وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفاضَلُ وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِأُمُورٍ أُخَرَ زَائِدَةٍ عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ وَمِنْهُمْ أُولُو عَزْمٍ مِنَ الرُّسُلِ وَمِنْهُمْ من رُفِعَ مَكَانًا عَليًّا وَمِنْهُمْ من أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا وأُوِتيَ بَعْضُهُمُ الزَّبُورَ وبَعْضُهُمُ البَيّنَاتِ وَمِنْهُمْ من كَلَّمَ اللَّه وَرَفَعَ بَعْضُهُمْ دَرَجَاتٍ قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) الآية وقال (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بعضهم على بعض) الآية قال بَعْض أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَّفْضِيلُ الْمُرَادُ لَهُمْ هُنَا فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِثَلاثَةِ أَحْوَالٍ أَنْ تَكُونَ آيَتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْهَرَ وَأَشْهَرَ أَوْ تَكُونَ أُمَّتُهُ أَزْكَى وَأَكْثَرَ أَوْ يَكُونَ فِي ذَاتِهِ أَفْضَلَ وَأَظْهَرَ وَفَضْلُهُ فِي ذَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّه بِهِ من كَرَامَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ

فصل في أسمائه صلى الله عليه وسلم وما تضمنته من فضيلته

من كَلَامٍ أَوْ خُلَّة أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ مَا شَاءَ اللَّه من أَلْطَافِهِ وَتُحَفِ ولايَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ للنُّبُوَّةِ أَثْقَالًا وَإِنَّ يُونُسَ تَفسَّخَ مِنْهَا تَفَسُّخَ الرُّبَعِ فَحَفِظَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ الْفِتْنَةِ من أَوْهَامٍ من يَسْبِقُ إليْهِ بِسَبَبهَا جَرْحٌ فِي نُبُوَّتِهِ أَوْ قَدْحٌ في اصطفائه وخط فِي رُتْبَتِهِ وَوَهْنٌ فِي عِصْمَتِهِ شَفَقَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ وَقَدْ يَتَوجَّهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَن يَكُونَ (أَنَا) رَاجِعًا إِلَى الْقائِلِ نَفْسِهِ أَيْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِصْمَةِ وَالطَّهَارَةِ مَا بَلَغَ أنَّهُ خَيْرٌ من يُونُسَ لِأَجْلِ مَا حَكَى اللَّه عَنْهُ فَإنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى وَإِنَّ تِلْكَ الْأَقْدَارَ لَمْ تَحُطَّهُ عَنْهَا حَبَّةَ خَردَلٍ وَلَا أَدْنَى، وَسَنَزِيدُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي هَذَا بَيَانًا إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ بَانَ لَكَ الْغَرَضُ وَسَقَطَ بِمَا حَرَّرْنَاهُ شُبْهَةُ الْمُعْتَرِضِ وَبِالله التَّوْفِيقُ وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ لَا إِلهَ إلَّا هُوَ. فصل فِي أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تضمنته من فضيلته حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ أَبِي تَلِيدٍ الْفَقِيهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن وضاح

_ (قوله تفسخ الربع) بضم الراء وفتح الموحدة، في الصحاح: الربع الفصيل ينتج في الربيع وهو أول النتاج والجمع رباع وأرباع مثل رطب ورطاب وأرطاب والأنثى ربعة والجمع ربعات فإذا نتج الفصيل آخر النتاج فهو هبع. (*)

حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ) وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ فَمِنْ خَصَائِصِهِ تَعَالَى لَهُ أَنْ ضَمَّنَ أَسْماءَهُ ثَنَاءَه فَطَوَى أَثْنَاء ذِكْرِهِ عَظِيمَ شُكْرِهِ فَأَمَّا اسْمُهُ أَحْمَدُ فَأَفْعَلُ مُبَالَغَةً من صِفَةِ الْحَمْدِ وَمُحَمَّدٌ مُفَعَّلٌ مُبالَغَةً من كَثْرَةِ الْحَمْدِ فهو صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ من حَمِدَ وَأَفْضَلُ من حُمِدَ وَأَكْثَرُ النَّاسِ حَمْدًا فَهُوَ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ وَأَحْمَدُ الْحَامِدِينَ وَمَعَهُ لواء الحمد يوم القيامة وليتم لَهُ كَمَالُ الْحَمْدِ وَيَتَشَهَّرَ في تِلْكَ الْعَرَصَاتِ بِصِفَةِ الْحَمْدِ، وَيَبْعَثهُ رَبَّهُ هُنَاكَ مَقَامًا مَحْمُودًا كَمَا وَعَدهُ يَحْمَدُهُ فِيهِ الأوَّلُونَ وَالآخرُونَ بِشَفَاعِتِهِ لَهُمْ وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ فِيهِ مِنَ الْمَحَامِدِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يُعْطَ غَيْرُهُ وَسَمَّى أُمَّتَهُ فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِ بِالْحَمَّادِينَ فَحَقِيقٌ أَنْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ ثُمَّ فِي هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ من عَجَائِبِ خَصَائِصِهِ وَبَدَائِعِ آيَاتِهِ فَنُّ آخَرُ هُوَ إن اللَّه جَلَّ اسْمُهُ حَمَى أَنْ يمسى بِهِمَا أَحَدٌ قَبْلَ زَمَانِهِ أَمَّا أَحْمَدُ الَّذِي أَتَى فِي

_ (قَوْلِهِ لِي خَمْسَةُ أسماء) في الأحوذى شرح الترمذي للقاضى أبي بكر بن العربي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لله ألف اسم، وللنبِيّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم ألف اسم (قوله والعاقب) في الصحاح: وفى الحديث السيد والعاقب، فالعاقب من يخلف السيد بعده وقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا العاقب، يعنى آخر الأنبياء، وكل من خلف بعد شئ فهو عاقبه انتهى (قوله أَجَلُّ من حَمِدَ) بفتح الخاء المهملة وكسر الميم (قوله وَأَفْضَلُ من حُمِدَ) بضم المهملة وكسر الميم. (*)

الْكُتُبِ وَبَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَمَنَع اللَّه تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحدٌ غَيْره وَلَا يُدْعَى بِهِ مَدْعُوّ قَبْلَهُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ لَبْسٌ عَلَى ضَعِيفِ الْقَلْبِ أَوْ شَكٌ وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ أيْضًا لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبَ وَلَا غَيْرِهِمْ إِلَى أَنْ شَاعَ قُبَيْلَ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِيلادِهِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَمَّى قَوْمٌ قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ أَحَدهُمْ هُوَ والله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه وَهُمْ مُحَمَّدُ بن أُحَيْحَة بن الْجُلاحِ الْأَوْسِيُّ وَمُحَمَّدُ بن مُسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ وَمُحَمَّدُ بن بَراءٍ البكري ومحمد ابن سُفْيَانُ بن مُجَاشِعٍ وَمُحَمَّدُ بن حُمْرَانَ الْجُعْفِيُّ وَمُحَمَّدُ بن خُزَاعِي السُّلَمِيُّ لَا سَابعَ لَهُمْ وَيُقَالُ أَوَّل من سُمّي مُحَمَّدًا مُحَمَّدُ بن سُفْيَانَ وَالْيَمَنُ تَقُولُ بَلْ مُحَمَّدُ بن الْيُحْمِدِ مِنَ الأزْدِ ثُمَّ حَمَى اللَّه كُلَّ من تَسَمَّى بِهِ أنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةِ أَوْ يَدَّعِيهَا أَحَدٌ لَهُ أَوْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ سَبَبٌ يُشَكّكُ أَحَدًا فِي

_ (قوله ابن أحيحة) بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية (قوله ابن الجلاح) بضم الجيم وتخفيف اللام. وفى آخره حاء مهملة، ذكره ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وأبو موسى في الصحابة، وأما محمد بن البراء فعده أبو موسى أيضا في الصحابة وَمُحَمَّدُ بن سُفْيَانُ قال أبو نعيم وأبو موسى مختلف في صحبته ومحمد بن مسلمة شهد بدرا وغيرها، ومات بالمدينة، وفى سيرة مغلطاى وأيضا سمى محمد بن عدى بن ربيعة المقرى ومحمد بن عثمان السعدى، قال وأظنهما واحدا، ومحمد الأسيدى ومحمد الغنيمى ومحمد بن عثوارة الليثى ومحمد بن حرمان العمرى ومحمد بن خول الهمذانى ومحمد بن يزيد بن ربيعة ومحمد بن أسَامَة بن مالك قال وفى محمد بن مسلمة الأنصاري نظر (قوله ابن اليحمد) هذا ليس قال المصنف لَا سَابعَ لَهُمْ، وقد ضبط ابن ماكولا وغيره نظير هذا الاسم وهو سعيد بن محمد بضم الياء وسكون المهملة وكسر الميم. (*)

أمْرِهِ حَتَّى تَحَقَّقَتِ السّمَتَانِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنَازَعْ فِيهِمَا وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّه بِيَ الْكُفْرَ فَفُسّرَ فِي الْحَدِيثَ وَيَكُونُ مَحْوُ الْكُفْرِ إِمَّا من مَكَّةَ وَبِلَادِ الْعَرَبِ وَمَا زُوِيَ لَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَوُعِدَ أنه يَبْلُغُهُ مُلْكُ أُمَّتِهِ أَوْ يَكُون الْمَحْوُ عَامًّا بِمَعْنَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لِيُظْهِرَهُ على الدين كله) وَقَدْ وَرَدَ تَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثَ أنَّهُ الَّذِي مُحِيَتْ بِهِ سَيّئَاتُ مِنَ اتْبَعَهُ وَقَوْلُهُ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي أَيْ عَلَى زَمَانِي وَعَهْدِي أَيْ لَيْسَ بَعْدِيَ نَبِيّ كَمَا قَالَ (وخاتم النبيين) وسمى عاقبا لأنه عَقَبَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الصَّحِيحِ أما الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِيَ نَبِيّ وَقِيلَ مَعْنَي عَلَى قَدَمِي أَيْ يُحْشَرُ النَّاسِ بِمُشَاهَدَتِي كَمَا قَالَ تَعَالَى (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وَقِيلَ عَلَى قَدَمِي عَلَى سَابِقَتِي قَالَ اللَّه تَعَالَى (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وَقِيلَ عَلَى قَدَمِي أَيْ قُدَّامِي وَحَوْلِي أَيْ يَجْتَمِعُونَ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ قَدَمِي عَلَى سُنَّتِي وَمَعْنَي قَوْلِهِ (لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ) قِيلَ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدّمَةِ وعَنْدَ أُولِي الْعِلْمِ مِنَ الْأُممِ السَّالِفَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِي عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا: طَهَ وَيَس، حَكَاهُ مَكّيّ وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْض تَفَاسِيرِ طه إنَّهُ يَا طَاهِرُ يَا هادِي، وَفِي يَس يَا سَيّدُ، حَكَاهُ السُّلَمِيُّ عَنِ الوَاسِطيّ وَجَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ، وَذَكَرَ غَيْرَه، لِي عَشَرَةُ أَسْمَاءٍ فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ التِي فِي الْحَدِيثِ الأَوَّلِ، قَالَ: وَأَنَا رَسُولُ الرحْمَةِ وَرَسُولُ

الرَّاحَةِ وَرَسُولُ الْمَلاحِمِ وَأَنَا المُقَفّي قَفَّيْتُ النَّبِيّينَ وَأَنَا قَيّمٌ وَالْقَيّمُ الْجَامِعُ الْكَامِلُ كَذَا وَجَدْتُهُ وَلَمْ أَرْوِهِ وَأُرَى أَنَّ صَوَابَهُ قُثَمُ بِالثَّاءِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدُ عَنِ الْحَرِبيّ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالتَّفْسِيرِ وَقَدْ وقع أيْضًا فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا مُحَمَّدًا مُقِيمَ السُّنَّةِ بَعْدَ الْفَتْرَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْقَيّمُ بِمَعْنَاهُ وَرَوَى النَّقَّاشُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِي فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَيَس وَطَهَ وَالْمُدَّثّرُ وَالْمُزَّمّلُ وَعَبُدُ اللَّه) وَفِي حَدِيث عَنْ جبير بن مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هِيَ سِتٌ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَخَاتِمٌ وَعَاقِبٌ وَحَاشِرٌ وَمَاحٍ، وَفِي حَدِيث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أنَّهُ كَانَ صَلَّى القله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَيَقُولُ (أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالمُقَفّي وَالْحَاشِرُ وَنَبِيّ التَّوْبَةِ وَنَبِيّ الْمَلْحَمَةِ) وَيُرْوَى الْمَرْحَمَة وَالرَّاحَة وَكُلّ صَحِيحٌ إنْ شَاءَ اللَّه وَمَعْنَي الْمُقَفّي مَعْنَي الْعَاقِبِ وَأَمَّا نَبِيّ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالْمَرْحَمَة وَالرَّاحَةِ فَقَدْ قَالَ الله تعالى (وأما أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً للعالمين) وَكَمَا وَصَفَهُ بِأنَّهُ يُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويهديهم إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم وَبِالْمُؤْمِنِينَ رؤف رَحِيمٌ وَقَدْ قَالَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ إنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وتواصر بالمرحمة) أَيْ يَرْحَم بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَبَعثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبُّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَرَحِيمًا بِهِمْ وَمُتَرَحّمًا وَمُسْتَغْفِرًا لَهُمْ وَجَعَلَ وأمته أمة مرحومة

_ (قوله وَأَنَا قَيّمٌ) وَالْقَيّمُ الجامع الكامل، قال ابن الأثير ومنه الحديث أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ أنت قيم وخلقك قيم) أي مستقيم حسن (قوله ونبى الملحمة) هي موضع القتال (*)

وَوَصَفَهَا بِالرَّحْمَةِ وَأَمَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّرَاحُم وَأَثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ إنَّ اللَّه يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ وَقَالَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَأَمَّا رِوَايَةُ نَبِيّ الْمَلْحَمَةِ فَإشَارَةٌ إِلَى مَا بُعثَ بِهِ مِنَ الْقِتَالِ وَالسَّيْفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَرَوَى حُذَيْفَةَ مِثْلَ حَدِيث أَبِي مُوسَى وَفِيهِ ونبى الرَّحْمَةِ ونَبِيّ التَّوْبَةِ ونَبِيّ الْمَلَاحِم وَرَوَى الْحَرْبِيُّ فِي حَدِيثهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ لِي أنْتَ قُثَمٌ أَيْ مَجْتَمِعٌ قَالَ وَالْقَثُومُ الْجَامِعُ لِلْخَيْرِ وَهَذَا اسْمٌ هُوَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومٌ وَقَدْ جَاءَتْ من أَلْقَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِمَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ عِدَّةٌ كَثيِرةٌ سوى مَا ذَكَرْنَاهُ كَالنُّورِ وَالسّرَاجِ الْمُنِيرِ وَالْمُنْذرِ وَالنَّذِيرِ والمُبَشّرِ وَالبَشِير وَالشَّاهِدِ وَالشَّهِيدِ وَالْحَقّ الْمُبِينِ وَخَاتمِ النبيين والرؤف الرَّحِيمِ وَالْأَمِينِ وَقَدمِ الصّدْقِ وَرَحْمَةٍ لِلْعَالَمِينَ وَنِعْمَةِ اللَّه والْعُرْوَةِ الْوُثْقَى والصّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالنَّجْمِ الثَّاقِبِ وَالْكَرِيمِ وَالنَّبِيّ الْأُمّيّ وَدَاعِي اللَّه فِي أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ وَسِمَاتٍ جَلِيلَةٍ وَجَرَى مِنْهَا فِي كُتُبِ اللَّه الْمُتُقَدّمَةِ وَكُتُبِ أَنْبِيَائِهِ وَأَحَادِيثَ رَسُولِهِ وَإِطْلَاقِ الْأُمَّةِ جُمْلةٌ شَافِيةٌ كَتَسْمِيَتِهِ بِالْمُصْطَفَى وَالْمُجْتَبَى وَأَبِي الْقَاسِمِ وَالْحَبِيبِ وَرَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالشَّفِيعِ الْمُشَفّعِ وَالْمُتَّقِي وَالْمُصْلِحِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُهَيْمِنِ وَالصَّادِقِ وَالْمَصْدُوقِ وَالْهَادِي وَسَيّدُ وَلَدِ آدَمَ وَسَيّدُ الْمُرْسَلِينَ وَإمَامُ الْمُتَّقِينَ وَقَائِدُ الْغُرّ الْمُحَجَّلِينَ وَحَبِيبِ اللَّه وَخَلِيل الرَّحْمنِ وَصَاحِبُ الْحَوضِ الْمَوْرُودِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَصَاحِبِ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالدّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ

وَصَاحِبِ التَّاجِ والْمِعْرَاجِ وَاللّوَاءِ وَالْقَضِيبِ وَرَاكِبِ البُرَاقِ وَالنَّاقَةِ وَالنّجِيبِ وَصَاحِبِ الْحُجَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْخَاتمِ وَالعلامَةِ والبراهان وَصَاحِبِ الْهِرَاوَةِ وَالنَّعْلَيْنِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَوَكّلُ وَالْمُخْتَارُ وَمُقِيمُ السُّنَّةِ وَالْمُقَدَّسُ وَرُوحُ الْقُدُسِ وَرُوحُ الْحَقّ وَهُوَ مَعْنَي (البار قليط فِي الْإِنْجِيلِ) وَقَالَ ثعلب البار قليط الَّذِي يُفَرّقَ بَيْنَ الْحَقّ وَالبَاطِلِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ مَاذٌ ماذٌ وَمَعْنَاهُ طَيّبٌ وطيب وجمطايا وَالْخَاتِمُ وَالْحَاتِمُ. حَكَاهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَقَالَ ثَعْلَبٌ فَالْخَاتِمُ الَّذِي خَتَمَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْحَاتِمُ أَحْسَنُ الْأَنْبِيَاءِ خَلْقًا وخُلقًا. وَيُسَمَّى بِالسُّرْيانِيَّةِ مشقح والمنحمنا وَاسْمُهُ أيْضًا فِي التَّوْرَاةِ أُحِيدُ رَوَى ذَلِكَ عَنِ ابن سيرين

_ (قوله وصاحب الهراوة) بكسر الهاء أي العصا قال ابن الأثير لأنه كان يمسك بيده القضيب كثيرا وكان يمشى بالعصا بين يديه وتغرز له فيصلى إليها (قوله البار قليط) بالموحدة والألف والراء المكسورة والقاف الساكنة واللام المكسورة والمثناة التحتية الساكنة بعدها طاء مهملة قيل معناه الحامد وقيل الحماد وقيل الحمد وأكثر النصارى على أن معناه المخلص (قوله ماذ ماذ) بميم فألف غير مهموزة فذال معجمة، وفى طرة بعض النسخ إنه بميم مضمومة وإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف (قوله قال جمطايا) بجيم مفتوحة وميم مشددة مفتوحة وطاء مهملة بعدها ألف فمثناة تحتية فألف قال أبو عمرو سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال معناه يحمى الحرم ويمنع من الحرام ويوطئ الحلال (قوله والخاتم والحاتم) الأول بالخاء المعجمة، والثانى بالمهملة (قوله مشقح) ضبط هذا الاسم بضم الميم وفتح الشين المعجمة والقاف المشددة، وفى آخره مهملة (قوله والمنحمنا) ضبط بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم وبعدها نون مشددة مفتوحة وألف قال أبو الفتح اليعمرى في سيرته هو محمد صلى الله عليه وسلم وكذا قال ابن إسحاق هو بالسريانية محمد صلى الله عليه وسلم (قوله أحيد) ضبط بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية وكسرها وفى آخره دال مهملة (*)

فصل في تشريف الله تعالى بما سماه به من أسمائه الحسنى ووصفه به من صفاته العلى

وَمَعْنَي صَاحِبِ الْقَضِيبِ أَي السَّيْفِ وَقَعَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْإِنْجِيلِ قَالَ مَعَهُ قَضِيبٌ من حَدِيدٍ يُقَاتِلُ بِهِ وَأمَّتَهُ كَذَلِكَ وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أنَّهُ الْقَضِيبُ الْمَمْشُوقُ الَّذِي كَانَ يُمْسِكُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الآنَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَأَمَّا الْهِرَاوَةُ التي وُصِفَ بِهَا فَهيِ فِي اللُّغَةِ الْعَصَا وَأُرَاهَا والله أَعْلَمُ الْعَصَا الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيث الْحَوْضِ أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ بِعَصَاي لِأَهْلِ الْيَمَنِ * وَأَمَّا التَّاجُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِمَامَةُ وَلَمْ تَكُنْ حِينَئذٍ إلَّا لِلْعَرَبِ وَالْعَمَائِمُ تيجَانُ الْعَرَبِ وأوصفاه وألقابه وسمانه فِي الْكُتُبِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا مُقْنَعٌ إنْ شَاءَ اللَّه وَكانَت كُنيتُهُ الْمَشْهُورَةُ أَبَا الْقَاسِمِ * وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أنَّهُ لَمّا وُلِدِ له إبْرَاهِيمُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أبا إبْرَاهِيمَ. فصل فِي تشريف اللَّه تَعَالَى بِمَا سَمَّاهُ بِهِ من أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَوَصَفَهُ بِهِ من صِفَاتِهِ الْعُلَى قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّه تَعَالَى مَا أَحْرَى هَذَا الْفَصْلَ بِفُصول الْبَابِ الأَوَّلِ لانْخِرَاطِهِ فِي سلك مضمونها وامتراجه بِعَذْبِ مَعِينِهَا لَكِنْ

_ (قوله وَأُرَاهَا والله أَعْلَمُ الْعَصَا الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيث الحوض) قال النووي هذا ضعيف لأن المراد تعريفه بصفة يراها الناس معه يستدلون بها عَلَى صَدْقِه وَأنَّه المبشر به المذكور فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الآخرة والصحيح أنه كان يمسك القضيب بيده كثيرا وقيل لأنه كان يمشى والعصا بين يديه وتغرز له فيصلى إليها (قوله لأهل اليمن) الذى في صحيح مسلم في المناقب لأهل اليمن وهى الجهة التى عن يمين الكعبة ومعناه أذود الناس لأجل أهل اليمن حتى يتقدموا (*)

لَمْ يَشْرَحِ اللَّه الصَّدْرِ لِلْهِدَايَة إِلَى اسْتِنْبَاطِهِ وَلَا أَنَارَ الْفِكْرَ لاسْتِخْرَاجِ جَوْهَرِهِ وَالْتِقَاطِهِ إلَّا عِنْدَ الْخَوْضِ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ فَرَأيْنَا أَنَّ نُضِيفَهُ إلَيْهِ وَنَجْمَعَ بِهِ شَمْلَهُ فَاعْلمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَرَامَةٍ خَلَعَهَا عَلَيْهِم من أسمائه كتسمية إسحق وَإِسْمَاعِيل بِعَلِيم وَحَلِيم وإِبْرَاهِيم بِحَلِيمٍ، وَنُوحٍ بِشَكُورٍ، وَعِيسَى ويَحْيَى بِبَرّ وَمُوسَى بِكَرِيمٍ وَقَوِيّ وَيُوسُفَ بِحَفِيظٍ عَلِيمٍ وَأَيُّوبَ بِصَابِرٍ وَإِسْمَاعِيل بِصَادِقِ الْوَعْدِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ من مَوَاضِعِ ذِكْرِهِمْ وَفَضَّلَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ حَلَّاهُ مِنْهَا فِي كِتابِهِ الْعَزِيزِ وعلى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ بِعِدَّةٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمعَ لَنَا مِنْهَا جُمْلَةٌ بَعْدَ إعْمَالِ الْفِكْرِ وَإحْضَارِ الذّكْرِ إِذْ لَمْ نَجِدْ من جَمَعَ مِنْهَا فَوْقَ اسْمَيْنِ وَلَا من تَفَرَّغَ فِيهَا لِتَأْلِيفِ فَصْلَيْنِ وَحَرَّرْنَا مِنْهَا فِي هَذَا الْفَصلِ نَحْو ثَلَاثِينَ اسْمًا وَلَعَلَّ اللَّه تَعَالَى كَمَا أَلْهَمَ إِلَى مَا عَلَّمَ مِنْهَا وَحَقَّقَهُ يُتِمُّ النّعْمَةِ بِإِبَانَةِ مَا لَمْ يُظهرهُ لَنَا الآنَ وَيَفْتَح غلقه. فَمن أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَمِيدُ وَمَعْنَاهُ الْمَحْمُودُ لِأَنَّهُ حمد نفسه وَحَمِدَهُ عِبَادُهُ وَيَكُونُ أيْضًا بِمَعْنَي الْحَامِدِ لِنَفْسِهِ وَلِأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَسَمَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَأَحْمَدَ فَمُحَمَّدٌ بِمَعْنَي مَحْمُودٍ وكذا وَقَعَ اسْمُهُ فِي زُبُرِ دَاوُد وأحمدُ بِمَعْنَي أَكبَرُ من حَمِدَ وَأَجِلُّ من حُمِدَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا حسان بقوله: (قوله وموسى بكريم) في سورة الدخان (وقد جاءهم رسول كريم) (قوله بأن حلاه) بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام (قوله غلقة) بفتح الغين المعجمة واللام ما ينغلق به (قوله حسان) هو ابن ثابت الأنصاري عاش هو والثلاثة فوقه من آبائه كل (*)

وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ * فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تعالى الرؤف الرَّحِيمُ وَهُمَا بِمَعْنَي مُتَقَارِبٍ وَسَمَّاهُ فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ فَقَالَ (بالمؤمنين رؤف رحيم) وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحَقّ الْمُبِينُ وَمَعْنَي الْحَقّ الْمَوْجُودُ وَالْمُتَحَقّقُ أَمْرُهُ وَكَذَلِكَ الْمُبِينُ أَي الْبَيّنُ أَمْرُهُ وَإِلهِيَّتُهُ بَانَ وَأَبَانَ بِمَعْنَي وَاحِدٍ وَيَكُونُ بِمَعْنَي الْمُبَيّنِ لِعِبَادِهِ أَمْرَ دِينْهِمْ وَمَعَادهِمْ وَسَمَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي كِتابِهِ فَقَالَ (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) . وَقَالَ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) وقال (قد جاءكم الحق من ربكم) وَقَالَ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) قِيلَ محمد وَقِيلَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ وَالْمُتَحَقَّقُ صِدْقُهُ وَأَمْرُهُ وَهُوَ بِمَعْنَى الأَوَّلِ وَالْمُبَيِّنُ الْبَيِّنُ أمْرُهُ وَرِسَالَتُهُ أَوِ الْمُبَيِّنُ عَنِ اللَّه تَعَالَى مَا بَعَثَهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نزل إليهم) . وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى النُّورُ وَمَعْنَاهُ ذُو النُّورِ أَيْ خالِقُهُ أَوْ مُنوّرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْأَنْوَارِ وَمُنَوّرُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنينَ بِالْهِدَايَةِ وَسَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) قِيلَ مُحَمَّدٌ وَقِيلَ الْقُرْآنُ وَقَالَ فِيهِ (وَسِرَاجًا منيرا) سُمّيَ بِذَلِكَ لِوُضُوحِ أمره

_ واحد مائة وعشرين سنة وعاش حسان ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام وقد شاركه في العيش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام حكيم بن حزام ولم يذكر ابن الصلاح غيرهما، وزيد عليه حويطب بن عَبد الْعُزَّى القرشى، وسعيد بن يربوع القرشى وحمنن - بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وفتح النون الأولى - بن عوف القرشى أخو عبد الرحمن بن عوف ومخرمة بن نوفل القرشى الزهري (قوله وشق له) بفتح الشين المعجمة. (*)

وَبَيَانِ نُبوَّتِهِ وَتَنْوِيرِ قُلُوبِ المؤمنين والعارفين بما جاء به * وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الشَّهِيدُ وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ وَقِيلَ الشَّاهِدُ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّاهُ شَهِيدًا وَشَاهِدًا فَقَالَ (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا) وَقَالَ (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عليكم شهيدا) وَهُوَ بِمَعْنَي الأَوَّلِ * وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْكَرِيمُ وَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ وَقِيلَ الْمُفْضِلُ وَقِيلَ الْعَفُوُّ قيل الْعَلِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْأَكْرَمُ وَسَمَّاهُ تَعَالَى كَرِيمًا بِقَوْلِهِ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رسول كريم) قِيلَ مُحَمَّدٌ وَقِيلَ جِبْرِيلُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ) وَمَعانِي الاسْمِ صَحِيحَةٌ فِي حَقّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَظيمُ وَمَعْنَاهُ الجليل الشأن الذي كل شئ دونه وقال في النبي صلى اللَّه عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ووقع في أول سفر من التوراة عن إسماعيل وسيلد عظيما لأمة عظيمة فهو عظيم وعلى خلق عظيم) ومن أسمائه تعالى الجبار ومعناه الْمُصْلِحُ وَقِيلَ الْقَاهِرُ وَقِيلَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ وَقِيلَ الْمُتَكَبّرُ وَسُمّيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ دَاوُد بِجبَّارٍ فَقَالَ: تَقَلَّدْ أيُّهَا الْجَبَّارُ سَيْفَكَ فَإِنَّ نَامُوسَكَ وَشَرائِعكَ مَقْرُونَةٌ بِهَيْبَةِ يَمِينِكَ وَمَعْنَاهُ فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَّا لِإصْلاحِهِ الْأُمَّةَ بِالْهِدَايَة والتَّعْلِيم أَوْ لِقَهْرِهِ أَعْدَاءهُ أَوْ لِعُلُوّ مَنْزِلِتِهِ عَلَى الْبَشَرِ وَعَظيمِ خَطَرِهِ وَنَفَى عَنْهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ جَبْرِيَّةَ التَّكَبُّرِ التي لَا تَلِيقُ بِهِ فَقَالَ (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بجبار) ومن أسمائه تعالى الْخَبِيرُ وَمَعْنَاهُ الْمُطَّلِعُ يكنه الشئ الْعَالِمُ بِحَقِيقَتِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْمُخْبِرُ وَقَالَ اللَّه تَعَالَى (الرَّحْمَنُ

فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) قَالَ الْقَاضِي بَكْرُ بن العلاء المأمور بِالسُّؤَالِ غَيْرُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسؤول الْخَبِيرُ هُوَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ بَلِ السَّائِلُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم والمسؤول هُوَ اللَّه تَعَالَى فَالنَّبِيّ خَبِيرٌ بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُوريْنِ قِيلَ لِأَنَّهُ عَالِمٌ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّه من مَكْنُونِ عِلْمِهِ وَعَظِيمِ مَعْرِفَتِهِ مُخْبِرٌ لِأُمَّتِهِ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي إِعْلامِهِمْ بِهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْفَتَّاحُ وَمَعْنَاهُ الْحَاكِمُ بَيْنَ عِبَادِهِ أَوْ فَاتِحُ أَبْوَابِ الرّزْقِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمُنْغَلِقِ من أُمُورِهِمْ عَلَيْهِمْ أَوْ يَفْتَحُ قُلُوبَهُمْ وَبَصَائِرَهُمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقّ وَيَكُونُ أيْضًا بِمَعْنَي النَّاصِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الفتح) أَيْ إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ مُبْتَدِئٌ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَسَمَّى اللَّه تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَاتِحِ في حديث الإسراء الطويل من رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بن أَنَسٍ عَنْ أَبِي العالية وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وفيه من قوله اللَّه تَعَالَى وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا وَخَاتِمًا وَفِيهِ من قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهُ وَتَعْدِيدِ مَراتِبهِ: وَرَفَعَ لِي ذكري وجعلني فاتحا وَخَاتمًا، فَيَكُونُ الْفَاتِحَ هنا بمعنى الحاكم أو الفاتح لأبواب الرحمة على أمته والفاتح لِبَصَائِرِهِمْ بِمَعْرفَةِ الْحَقّ وَالْإِيمَان بِالله أَوِ النَّاصِرَ لِلْحَقّ أَوِ المبتدى بهداية الْأُمَّةِ أَوِ الْمُبَدَّي الْمُقَدَّم فِي الْأَنْبِيَاء وَالْخَاتِم لَهُمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُنْتُ أول الأنبياء في الخلق

وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعثِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثَ الشَّكُورُ ومعناه المشيب عَلَى الْعَملِ الْقَلِيلِ وَقِيلَ الْمُثْنِي عَلَى الْمُطِيعِينَ وَوَصَفَ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا أَيْ مُعْتَرِفًا بِنَعَمِ رَبّي عَارِفًا بِقَدْرِ ذَلِكَ مُثنيًا عَلَيْهِ مُجْهِدًا نَفْسِي فِي الزّيَادَةِ من ذَلِكَ لِقَوْلِهِ (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) . وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَلِيمُ وَالْعَلَّامُ وَعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَوَصَفَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِلْمِ وَخصَّهُ بِمَزِيَّةٍ مِنْهُ فَقَالَ (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عظيما) وَقَالَ (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَمَعْنَاهُمَا السَّابِقُ لِلأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا وَالْبَاقِي بَعْدَ فَنَائِهَا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ وَلَا آخِرٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ وَفَسَّرَ بِهَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) فَقَدَّمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نحو منه عمر بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ (نَحْنُ الآخرُونَ السَّابقُون) وَقَوْلُهُ (أَنَا أَوَّلُ من تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ وَأَوَّلُ من يَدْخُلُ الجنة أول شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعِ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيّينَ وَآخِرُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْقَوِيُّ وَذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ وَمَعْنَاهُ الْقَادِرُ وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مكين) قِيلَ مُحَمَّد وَقِيلَ جِبْرِيلُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ

تَعَالَى الصَّادِقُ فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أيْضًا اسْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ * وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْوَلِيُّ وَالْمَوْلى وَمَعْنَاهُمَا النَّاصِرُ وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ورسوله) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا وليُّ كُلّ مُؤْمِنٍ) وَقَالَ اللَّه تَعَالَى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من كُنْتُ مَوْلاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَفُوُّ وَمَعْنَاهُ الصَّفُوحُ وَقَدْ وَصَفَ اللَّه تعالى بَهَذَا نَبِيَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ فَقَالَ (خُذِ الْعَفْوَ) وَقَالَ (فَاعْفُ عَنْهُمْ واصفح) وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ (خُذِ الْعَفْوَ) قال أن تعفوا عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَقَالَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ فِي صِفَتِهِ: لَيْسَ بِفَظّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الهادى وهو معنى تَوْفِيق اللَّه لِمَنْ أرَادَ من عِبَادِهِ وَبِمَعْنَي الدّلالَةِ وَالدُّعَاءِ قال الله تعالى (والله يدعوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صراط مستقيم) وَأصْلُ الجَمِيع مِنَ الميل وقيل من التقديم وَقِيلَ فِي تَفسير طه إنَّهُ يَا طَاهِرُ يَا هادي يَعْني النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال تَعَالَى لَهُ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وَقَالَ فِيهِ (وَدَاعِيًا إلى الله بإذنه) فَالله تَعَالَى مُخْتَصّ بِالْمَعْنَى الأَوَّلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) وبِمَعْنَي الدِّلالَةِ يُطْلِقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ قِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى الْمُصَدِّقُ وَعْدَهُ عِبَادَهُ وَالْمُصَدِّقُ قَوْلُهُ الْحَقَّ وَالْمُصَدِّقُ لِعبَادِهِ (16 - 1)

الْمُؤْمِنينَ وَرُسُلِهِ وَقِيلَ الْمُوَحِّدُ نَفْسَهُ وَقِيلَ الْمُؤْمِنُ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا من ظُلْمِهِ وَالْمُؤْمِنينَ فِي الآخِرَةِ من عَذَابِهِ وَقِيلَ الْمُهَيْمِنُ بِمَعْنَي الأَمِينِ مُصَغَّرٌ مِنْهُ فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدُّعَاءِ آمِينَ إِنَّهُ اسْمٌ من أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَقِيلَ الْمُهَيْمِنُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ وَالْحَافِظِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِينٌ وَمُهَيْمِنٌ وَمُؤْمِنٌ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمِينًا فَقَالَ (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ بِالْأَمِينِ وَشُهِرَ بِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَسَمَّاهُ الْعَبَّاسُ فِي شِعْرِهِ مُهَيْمنًا فِي قَوْلِهِ. ثُمَّ احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ من * خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ قِيلَ الْمُرَاد يَا أيُّهَا الْمُهَيْمِنُ، قَالَهُ الْقُتَيْبِيُّ وَالْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ وَقَالَ تَعَالَى (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ يُصَدِّقُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَا أَمَنَةٌ لِأصْحَابِي) فَهَذَا بِمَعْنَي الْمُؤْمِنِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْقُدُّوسُ وَمَعْنَاهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ الْمُطَهَّرُ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ وَسُمِّيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ يُتَطَهَّرُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَمِنْهُ الْوَادِي الْمَقَدَّسِ وَرُوحُ الْقُدُسِ وَوَقَعَ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَقْدِسُ أي

_ (قوله وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدُّعَاءِ آمِينَ إِنَّهُ اسْمٌ من أسماء الله تعالى) قال النووي في التهذيب هذا لا يصح لأنه ليس في أسماء الله تعالى اسم مبنى ولا غير معرب وأيضا أسماء الله لا تثبت إلا بالقرآن أو السنة المتواترة وقد عدم الطريقان (قوله من خندف) بكسر الخاء المعجمة وقد تقدم (*)

(فصل)

الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ كما قال تَعَالَى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أَوِ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَيُتَنَزَّهُ بِاتَّبَاعِهِ عَنْهَا كما قال تعالى (ويزكيهم) وقال (ويخرجهم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النور) أَوْ يكون مُقَدَّسًا بِمَعْنَي مُطَهّرًا مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَالْأَوْصَافِ الدَّنِيئَةِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَزِيزُ وَمَعْنَاهُ الْمُمْتَنِعُ الْغَالِبُ أَو الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ أَو الْمُعِزُّ لِغَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) أَي الامْتِنَاعُ وَجَلالَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْبِشَارَةِ وَالنّذَارَةِ فَقَالَ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ منه ورضوان) وقال (أن الله يبشرك بيحيى * وبكلمة منه) وَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُبَشَّرًا وَنَذِيرًا وَبشِيرًا أَيْ مُبَشَّرًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وَنَذِيرًا لِأَهْلِ مَعْصِيتَهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ طه ويس وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا أَنَّهُمَا من أسْمَاءِ مُحَمَّد صلى الله تعالى عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ. (فصل) قال القاضي أبو الفضل وفقه الله تَعَالَى وَهَا أَنَا أَذْكُرُ نُكْتَةً أُذَيِّلُ بِهَا هَذَا الْفَصْلِ وَأَخْتِمُ بِهَا هَذَا الْقِسْمَ وَأُزِيحُ الْإِشْكَالَ بها فِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ كُلِّ ضَعِيفِ الْوَهْمِ سَقِيمِ الْفَهْمِ تخلصه من مَهَاوِي التَّشْبِيهِ وَتُزَحزحُهُ عَنْ شُبَهِ التَّمْويهِ وَهُوَ أنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَلَّ اسْمُهُ

_ (قوله أذيل) بضم الهمزة وفتح الذال المعجمة وتشديد المثناة التحتية المكسورة (قوله وأزيح) بضم الهمزة وكسر الزاى وفى آخره حاء مهملة: أي أبعد (*)

فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَحُسْنَى أَسْمَائِهِ وَعَلَيّ صِفَاتِهِ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا من مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا يُشَبَّهُ بِهِ وَأنَّ مَا جَاءَ مِمَّا أَطْلَقَهُ الشَّرْعُ عَلَى الْخَالِقِ وَعَلَى الْمَخْلُوقِ فَلَا تَشَابُهَ بَيْنَهُمَا فِي المَعْنَي الْحَقِيقِيّ: إِذْ صِفَاتُ الْقَدِيم بِخِلافِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ فَكَمِا أَنَّ ذَاتَهُ تَعَالَى لَا تُشْبِهُ الذَّواتِ كَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ إِذْ صِفَاتُهُمْ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْأعْرَاض والأغراض وَهُوَ تَعَالَى مُنزَّه عَنْ ذَلِكَ بَلْ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَكَفَى فِي هَذَا قَوْلُهُ (ليس كمثله شئ) ولله دَرُّ من قَالَ مِنَ الْعُلَمَاء وَالْعَارفِينَ المحققين: التَّوْحِيدُ إثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشْبهةٍ لِلذَّواتِ وَلَا مُعَطَّلَة عَنِ الصّفَاتِ، وَزَادَ هَذِهِ النُّكْتَةَ الوَاسِطيُّ رَحِمَهُ اللَّه بَيَانًا وَهِيَ مَقْصُودُنا فَقَالَ لَيْسَ كَذَاتِهِ ذَاتٌ وَلَا كَاسْمِهِ اسمٌ ولا كفعله فعل وَلَا كَصِفَتِهِ صِفَةٌ إلا من جهَةِ مُوافَقَةِ اللفظ اللَّفْظِ وَجَلَّتِ الذَّاتُ الْقَدِيمَةُ أنْ تَكُونَ لَهَا صِفَةٌ حَدِيثَةٌ كَمَا اسْتَحَالَ أنْ تَكُونَ لِلذّاتِ الْمُحْدثَةِ صِفَةٌ قَديمَةٌ وَهَذَا كلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلُ الْحَقّ والسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَقَدْ فَسَّرَ الْإِمَام أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلَهُ هَذَا لِيَزِيدَهُ بَيَانًا فَقَالَ: هَذِهِ الْحِكَايَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَوامِعِ مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَكَيْفَ

_ (قوله وعلى صفاته) بضم العين المهملة وفتح اللام وفى بعض النسخ بفتح العين المهملة وكسر اللام وتشديد المثناة التحتية (قوله عَنِ الْأعْرَاض والأغراض) كلاهما بالضاد المعجمة وأحدهما بالغين المعجمة والآخر بالمهملة (قوله ولله در) في الصحاح الدر اللبن يقال في الذم لا در دره أي لا كثر خيره وفى المدح لله دره أي علمه (*)

تُشْبِهُ ذاتُهُ ذَاتَ الْمُحْدَثَاتِ وَهِيَ بِوُجُودِهَا مُسْتَغْنِيةٌ وكِيف يُشْبِهُ فِعْلُهُ فِعْلَ الْخَلْقِ وَهُوَ لِغَيْرِ جَلْبِ أُنْسٍ أَوْ دَفْعِ نَقْصٍ حَصَلَ وَلَا بِخَوَاطِر وَأَغْرَاضٍ وُجِدَ وَلَا بِمُبَاشرَةٍ وَمُعَالَجَةٍ ظَهَرَ وَفِعْلُ الْخَلْقِ لَا يَخُرُجُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَقَالَ آخرُ من مَشَايِخنَا: مَا تَوَهَّمْتُمُوهُ بِأَوْهَامِكِمْ أَوْ أَدْرَكْتُمُوهُ بِعُقُولِكِمْ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُكُمْ، وَقَالَ الْإِمَام أَبُو الْمَعَالِي: الْجُوَيْنيُّ: مَنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ انتَهَى إِليْهِ فِكْرُهُ فَهُوَ مُشَبّهٌ وَمن اطْمأَنَّ إِلَى النَّفْي الْمَحْضِ فَهُوَ مُعطّلٌ وَإنْ قَطَعَ بِمَوْجُودٍ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ حَقِيقَتِهِ فَهُوَ مَوحَّدٌ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ذي النُّونِ الْمِصْرِيّ: حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ أنْ تَعْلَم أَنَّ قَدْرَةَ اللَّه تَعَالَى فِي الأشْيَاءِ بِلَا عِلَاجٍ وَصُنْعُهُ لَهَا بِلَا مِزَاجٍ وَعِلَّةُ كل شئ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ وَمَا تُصُوِّرَ فِي وَهْمِكَ فالله بِخِلافِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ نَفِيسٌ مُحَقَّقٌ الفصل الآخَرُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ (ليس كمثله شئ) وَالثَّانِي تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وَالثَّالِثُ تفسير لِقَوْلِهِ (إنما قولنا لشئ إذا أردناه

_ (قوله وَلَا بِخَوَاطِر وَأَغْرَاضٍ) بالغين المعجمة (قوله وقال أبو المعالي الجويني) هو إمام الحرمين عبد الملك النيسابوري جاور مكة والمدينة أربع سنين فلذا قيل له إمام الحرمين ثم عاد إلى نيسابور، توفى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (قوله ذي النُّونِ الْمِصْرِيّ) هو الزاهد العارف اسمه يونان بن إبراهيم الإخميمى كان أبوه نونيا توفى سنة خمس وأربعين ومائتين (قوله والفصل الآخر) هو قوله وما يصور في وهمك والثانى قوله وعلة كل شئ صُنْعُهُ وَلَا عِلَّةَ والثالث قوله أن يعلم أن قدر الله فِي الأشْيَاءِ بِلَا علاج وصنعه بلا مزاج (*)

الباب الرابع ففيما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات وشرفه به من الخصائص والكرامات

أَنْ نَقُولَ لَهُ كن فيكون) ثَبَّتَنَا اللَّه وَإيَّاكَ عَلَى التَّوْحِيدِ والإثبات وَالتَّنْزِيهِ وَجَنَّبَنا طَرَفي الضَّلالَةِ وَالْغَوَايَةِ مِن التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ بمنه وَرَحْمِتِهِ. الْبَابِ الرابع ففيما أظهره اللَّه تَعَالَى عَلَى يديه مِنَ المعجزات وشرفه بِهِ مِنَ الخصائص والكرامات قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: حَسْبُ الْمُتَأَمّلِ أَنَّ يُحَقّقَ أَنَّ كِتَابَنَا هَذَا لَمْ نَجَْمعهُ لِمُنْكِرِ نُبُوَّةِ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِطَاعِنٍ فِي مُعْجزَاتِهِ فَنَحْتَاجُ إِلَى نَصْبِ الْبَرَاهِينِ عَلَيْهَا وَتَحْصِينِ حَوْزَتِهَا حَتَّى لَا يَتَوَصَّلَ الْمُطَاعِنُ إِلَيْهَا وتذكر شُرُوطَ الْمُعْجِزِ وَالتَّحَدّي وَحْدَهُ وَفسَادَ قَوْلِ من أَبْطَلَ نَسْخَ الشَّرَائِعِ وَرَدَّهُ، بَلْ أَلَّفْنَاهُ لِأَهْلِ مِلَّتِهِ الْمُلبّينَ لِدَعْوَتِهِ الْمُصَدّقِينَ لنُبُوَّتِهِ لِيَكُونَ تَأكِيدًا فِي مَحَبَّتِهِمْ لَهُ ومنماة لأعمالهم وليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ، وَنِيَّتُنَا أنْ نُثْبِتَ في هذا الباب أمهات معجزاته ومشاهير آياته لتدل على عظيم قدره عند ربه وأتينا مِنْهَا بِالْمُحَقَّقِ وَالصَّحِيحِ الْإِسْنَادِ وَأَكْثَرُهُ مِمَّا بَلَغَ الْقَطْعَ أَوْ كَادَ وَأَضَفْنَا إِلَيْهَا بَعْضُ مَا وَقَعَ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِ الأئِمّةِ، وَإذَا تَأمَّلَ الْمُتَأَمّلُ

_ (قوله حوزتها) بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها زاى (قوله والتحدى) يفتح المثناة الفوقية وفتح الحاء وتشديد الدال المهملتين هو طلب المعارضة. (*)

الْمُنْصِفُ مَا قَدَّمْنَاهُ من جَمِيلِ أَثَرهِ وَحَمِيدِ سِيَرِهِ وَبَرَاعَةِ عِلْمِهِ وَرَجَاحَةِ عَقْلِهِ وَحِلْمِهِ وَجُمْلَةِ كَمَالِهِ وَجَمِيع خِصَالِهِ وَشَاهِد حَالِهِ وَصَوابِ مَقَالِهِ لَمْ يَمْتَرِ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصدْقِ دَعْوَتِهِ وَقَدْ كَفَى هَذَا غَيْرَ وَاحِدٍ فِي إسْلامِهِ وَالْإِيمَان بِهِ فَرَوَيْنَا عَنِ التَرْمِذيّ وَابْنِ قَانِع وَغَيْرِهِمَا بِأَسَانِيدِهِمْ أَنَّ عَبُدَ اللَّه بن سَلَام قَالَ لَمّا قدم رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جِئْتُهُ لِأَنْظُرَ إليْهِ فَلَمّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّه قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْن الصَّيْرَفيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ عَنْ أَبِي يَعْلَى الْبَغْدَادِيِّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ عَنِ التَرْمِذِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبُدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ زُرَارَةَ ابن أَوْفَى عَنْ عَبُدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ الْحَدِيثَ، وَعَنْ أَبِي رَمْثَةَ التَّيْمِيِّ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي ابْنٌ لِي فَأُرِيتُهُ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قُلْتُ هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ ضِمَادًا لَمَّا وَفَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا

_ (قوله ابن أبى جميلة) بالجيم المفتوحة (قوله أبى رمثة) بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة، والرمث ضرب من النبات (قوله ضماد) بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الميم وفى آخره دال مهملة هو ابن ثعلبة الأزدي أزد شنوءة كان صديقا للنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، أسلم أول الإسلام وكان يتطيب ويرقى ويطلب العلم (قوله أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ) بفتح الهمزة وكسر النون المخففة لا لتقاء الساكنين. (*)

مُضِلَّ لَهُ وَمِنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ لَهُ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤْلَاءِ فَلَقَدْ بلغان قاموسي الْبَحْرِ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ) وَقَالَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ طَارِقٌ فَأخْبَرَ أنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ هل معكم شئ تييعونه قُلْنَا هَذَا الْبَعِيرُ قَالَ بِكَمْ قُلْنَا بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًَا مِنْ تَمْرٍ فَأخَذَ بِخِطَامِهِ وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقُلْنَا بِعْنَا مِنْ رَجُلٍ لَا نَدْرِي مَنْ هُوَ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ فَقَالَتْ أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ الْبَعِيرِ رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَخِيسُ بِكُمْ فَأَصْبَحْنَا فَجَاءَ رَجُلٌ بِتَمْرٍ فَقَالَ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا التَّمْرِ وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا فَفَعَلْنَا، وَفِي خَبَرِ الْجُلَنْدَى مَلِكُ عُمَانَ لَمّا بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ

_ (قوله قاموس البحر) بالقاف والميم قال ابن قرقول عند السجزى قاموس البحر وعند العذري قاعوس البحر وذكره الدمشقي قاموس البحر وهو الذى يعرفه أهل اللغة ورواه أبو داود قاموس أو قابوس على الشك في الميم والباء قال والمعول من هذا كله على قاموس أو قاعوس وقال أبو عبيدة قاموس البحر وسطه وقال أبو الحسين بن سراج: قاعوس البحر الصحيح كأنه من القصس وهو دخول الظهر وتعمقه أي إن كلماتك بلغت عمقه ولجته الداخلة (قوله هات) بكسر المثناة الفوقية (قوله ظعينة) أي امرأة وأصله الهودج الذى يكون فيه المرأة ثم سميت به المرأة قيل ولا يقال للمرأة ظعينة إلا إذا كانت راكبة (قوله لا يخيس) بالخاء المعجمة مضارع خاس أي غدر، ويقال أيضا يخوس (قوله الجلندى) بضم الجيم وفتح اللام وسكون النون بعدها دال مهملة، في الصحاح جلندا بضم الجيم مقصورا اسم ملك عمان بضم العين وتخفيف الميم، وفى القاموس وجلندى بضم أوله اسم ملك عمان ووهم الجوهرى فقصره. (*)

(فصل) اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَام قَالَ الْجُلَنْدَى وَاللَّهِ لَقَدْ دَلَّني عَلَى هَذَا النَّبِيّ الْأُمّيّ أنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ إلَّا كَانَ أَوَّلَ آخِذٍ بِهِ وَلَا ينهى عن شئ إلَّا كَانَ أَوَّلَ تَاركٍ لَهُ وَأنَّهُ يَغْلِبُ فَلَا يَبْطَرُ وَيُغْلَبُ فَلَا يَضْجَرُ وَيَفِي بِالْعَهْدِ وَيُنْجِزُ الْمَوْعُودَ وَأَشْهَدُ أنَّهُ نَبِيّ وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ في قوله تعالى (يكاد زيتها يضئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نار) هَذَا مَثْلٌ ضَرَبَهُ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَكَادُ مَنْظَرُهُ يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَإنْ لَمْ يَتْلُ قُرْآنًا كَمَا قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ * لَكَانَ مَنْظَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ وَقَدْ آنَ أنْ نَأْخُذَ فِي ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْي وَالرَّسَالَةِ وَبَعْدَهُ فِي مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ بُرْهَانٍ وَدلَالَةٍ. (فصل) اعْلَمْ أَنَّ اللَّه جَلَّ اسْمُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَالْعِلْمِ بِذَاتِهِ وَأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وجيمع تَكْلِيفَاتِهِ ابْتَدَاءً دُونَ وَاسِطَةٍ لَوْ شَاءَ كَمَا حُكِيَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي بَعْضُ الأنبياء وذكر بَعْضُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا) وَجَائِزٌ أنْ يُوصِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ تُبَلّغُهُمْ كَلَامَهُ وَتَكُونُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ إِمَّا من غرى الْبَشَرِ كَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ من جِنْسِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأُمَمِ وَلَا مَانِع لِهَذَا من دَلِيلِ الْعَقْلِ وَإذَا جَازَ هَذَا وَلَمْ يَسْتَحِلْ وَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ من مُعْجِزَاتِهِمْ وَجَبَ نصديقهم فِي جَمِيعِ مَا أَتَوْا بِهِ لِأَنَّ الْمُعْجِزَ مَعَ التَّحَدّي مِنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

قَائِمٌ مَقَام قَوْلِ اللَّه صَدَقَ عَبْدي فَأَطِيعُوهُ وَاتّبِعُوهُ وَشَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَقُولُهُ وَهَذَا كَافٍ وَالتَّطْوِيلُ فِيهِ خَارجٌ عَنِ الْغَرضِ فَمَنْ أرَادَ تَتبُّعَهُ وَجَدَهُ مُسْتَوْفَى فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّتِنَا رحمهم الله فالنبوة في لعة من همز مأخودة مِنَ النَّبإِ وَهُوَ الْخَبَرُ وَقَدْ لَا يُهْمَزُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَسْهِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تعالى أَطْلَعَهُ عَلَى غَيْبِهِ وأسلمه أنَّهُ نَبِيُّهُ فَيَكُونُ نَبِيّ مُنَبَّأ فَعِيلٌ بِمَعْنَي مَفْعُولٍ أَوْ يَكُونُ مُخْبِرًا عَمَّا بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ وَمُنَبّئًا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّه عَلَيْهِ فَعِيلٌ بِمَعْنَي فَاعِلٍ ويَكُونُ عِنْدَ من لَمْ يَهْمزْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ رُتْبَةً شَرِيفَةً وَمَكَانَةً نَبِيهَةً عِنْدَ مَوْلَاهُ منيفة قالو صفان فِي حَقَّهِ مُؤْتَلِفَانِ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَهُوَ الْمُرْسَلُ وَلَمْ يَأْتِ فَعُولٌ بِمَعْنَي مُفْعَلٍ فِي اللُّغَةِ إلَّا نَادِرًا وَإرْسَالُهُ أمْرُ اللَّه لَهُ بِالإِبْلاغِ إِلَى من أَرْسَلَهُ إليْهِ وَاشْتِقَاقهُ مِنَ التَّتَابعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ جاء النَّاسُ أَرْسَالًا إذَا تَبعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَأَنَّهُ أُلْزِمَ تَكرِيرَ التَّبْلِيغ أَوْ أُلْزِمتِ الْأُمَّةُ اتّبَاعَهُ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَل النَّبِيّ والرسول بِمَعْنَي أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ فَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْإِنْبَاءِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نبى) فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمَا الْإِرْسَالَ مَعًا، قَالَ وَلَا يَكُونُ النَّبِيُّ إِلَّا رَسُولًا وَلَا الرَّسُولُ إلَّا نَبِيًّا وَقِيلَ هُمَا مُفْتَرِّقَانِ من وَجْهٍ إِذْ قَد اجْتَمَعَا فِي النُّبُوَّةِ التي هِيَ الإطْلاعُ عَلَى الْغَيْبِ وَالْإِعْلَامُ بِخَوَاصّ النُّبُوَّةِ أَو الرّفْعَةِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَحَوْزِ دَرَجَتِهَا وَافْتَرَقَا فِي زِيادَةِ الرِّسَالَةِ لِلرَّسُولِ وَهُوَ الْأَمْر بِالْإِنْذَارِ وَالْإِعْلَامِ

كَمَا قُلْنَا وَحُجَّتُهُمْ مِنَ الآيَة نَفْسِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الاسْمَينِ وَلَوْ كَانَا شَيْئًا وَاحِدًا لَمّا حَسُنَ تَكْرَارُهُمَا فِي الْكَلَام الْبَلِيغِ قَالُوا وَالْمَعْنَى وَمَا أَرْسَلْنَا من رَسُولٍ إِلَى أُمَّةٍ أَوْ نَبِيّ وَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ إِلَى أَحَدٍ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ من جَاءَ بِشَرْع مُبْتَدإٍ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ غَيْر رَسُولٍ وإن أُمِرَ بِالْإِبْلَاغِ وَالْإِنْذَارِ وَالصَّحِيحِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ نَبِيّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيّ رَسُولًا وَأَوَّلُ الرُّسُلِ آدَمُ وآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاء مِائَة أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيّ وَذَكَرَ أَنَّ رسل منهم ثلثمائة وَثَلاثَةَ عَشَرَ أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ بَانَ لَكَ مَعْنَي النُّبُوَّةِ وَالرّسَالَةِ وَلَيْسَتَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ذَاتًا لِلنَّبِيِّ وَلَا وَصْفَ ذَاتٍ خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّة فِي تَطْوِيلٍ لَهُمْ وَتَهْوِيلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْوِيلٌ وَأَمَّا

_ (قوله الجماء الغفير) في الصحاح قولهم جاؤا جما غفيرا والجماء الغفير وجماء الغفير بالمد في الجماء أي جاؤا بجماعتهم الشريف والوضيع ولم يتخلف أحد منهم وكان فيهم كثرة (قوله الكرامية) نسبه إلى محمد بن كرام بفتح الكاف وتشديد الراء كذا قيده ابن ماكولا والسمعاني وغير واحد وهو الجارى على الألسنة وأنكره محمد بن الهيضم وغيره من الكرامية وحكى فيه ابن الهيضم وجهين أحدهما التخفيف وفتح الكاف وذكر أنه المعروف في ألسنة مشايخهم وزعم أنه بمعنى كريم أو بمعنى كرامة والثانى التخفيف وكسر الكاف على لفظ جمع كريم وحكى هذا عن أهل سجستان قال ابن الصلاح ولا يعول على الأول وهو ما رواه السمعاني في الأنساب قال وكان والده يحفظ الكرم فقيل له كرام قال الذهبي وفيما قاله السمعاني نظر فإن كلمة كرام علم على والد محد سواء (*)

(فصل) اعلم أن معنى تسميتنا ما جاءت به الأنبياء معجزة

الْوَحْي فَأَصْلُهُ الْإِسْرَاعُ فَلَمّا كَانَ النَّبِيّ يَتَلَقَّى مَا يَأْتِيِهِ من رَبّه بِعَجَلٍ سُمّيَ وَحْيًا وَسُمّيَتْ أَنْوَاعُ الْإلْهَامَاتِ وَحْيًا تَشْبِيهًا بِالْوَحْي إِلَى النَّبِيّ وَسُمّيَ الْخَطُّ وَحْيًا لِسُرْعَةِ حَركَةِ يَدِ كَاتِبِه وَوَحْيُ الْحَاجِبِ وَاللَّحْظُ سُرْعَةُ إشراتهما وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أَيْ أَوْمَأ وَرَمَزَ وَقِيلَ كَتَبَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ الْوَحَا الْوَحَا أي السرعة السُّرْعَةَ وَقِيلَ أَصْلُ الْوَحْي السّرُّ والْإِخْفَاءُ وَمِنْهُ سُمّي الْإِلْهَامُ وَحْيًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) أَيْ يُوَسْوِسُونَ فِي صُدُورِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ موسى) أي أُلْقِيَ فِي قَلْبِهَا وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا) أَيْ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ. (فصل) اعلم أَنَّ مَعْنَي تَسْمِيَتِنَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مُعْجِزَةً هُوَ أَنَّ الْخَلْقَ عَجَزُوا عَنِ الْإتْيَانِ بِمِثْلِهَا وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ هُوَ من نَوْعِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ فَعَجَزُوا عَنْهُ فَتَعْجِيزُهُمْ عَنْهُ فِعْلٌ لله دَلَّ عَلَى صِدْق نَبِيّه كَصَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنّي الْمَوتِ وَتَعْجِيزِهِمْ عَنِ الإتْيَانِ بِمِثْلِ القرآن

_ عمل في الكرم أو لم يعمل، وأقول هذا لا يضر السمعاني لجواز أن يكون صار علما عليه بالغلبة لعمله في الكرم وهو صبى وهجر ما وضع علما عليه بعيد الولادة وكان ابن كرام سجن بنيسابور ثمانية أعوام لأجل بدعته ثم أخرج فسار إلى بيت المقدس ومات بالشام في صفر سنة خمس وخمسين ومائتين (قوله الوحا) بفتح الواو والحاء المهملة في الصحاح والوحا السرعة تمد وتقصر، ويقال الوحا الوحا بمعنى البدار (*)

عَلَى رَأْي بَعْضِهِمْ وَنَحْوِهِ وَضَرْبٌ هُوَ خَارِجٌ عَنْ قُدْرِتِهْم فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الإتْيَانِ بِمْثِلِهِ كَإحْيَاءِ الْمَوتَى وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَإِخْرَاج نَاقَةٍ من صَخْرَةٍ وَكَلَامِ شَجَرَةٍ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَصَابعِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّه فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فِعْلِ اللَّه تَعَالَى وَتَحَدِّيِهِ من يُكَذِّبُهُ أنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ تَعْجِيزٌ لَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ التي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَائِلَ نُبُوَّتِهِ وَبَرَاهِينَ صِدْقِهِ من هَذَيْنِ النَّوْعَيْنَ مَعًا وَهُوَ أَكْثَرُ الرُّسُلِ مُعْجِزَةً وَأَبْهَرُهُمْ آيَةً وَأَظْهَرُهُمْ بُرْهَانًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَهِيَ فِي كَثْرَتِهَا لَا يُحِيطُ بِهَا ضَبْطٌ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهَا وَهُوَ الْقُرْآنُِ لَا يُحْصَى عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ وَلَا أَلْفَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعُجِزَ عَنْهَا، قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَقْصَرُ السُّوَرِ (إِنَّا أعطيناك الكوثر) فَكُلُّ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مِنْهُ بعددها وَقَدْرِهَا مُعْجِزَةٌ ثُمَّ فِيهَا نَفْسِهَا مُعْجِزَاتٌ عَلَى مَا سَنُفَصّلُهُ فِيمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ثُمَّ مُعْجِزاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ مِنْهَا عُلِمَ قَطْعًا وَنُقِلَ إِلَيْنَا متواتر كَالْقُرْآنِ فَلَا مِرْيَةَ ولا خلاف بمجئ النَّبِيّ بِهِ وَظُهُورِهِ من قِبَلِهِ وَاسْتِدَلَالِهِ بِحُجَّتِهِ وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا مُعَانِدٌ جَاحِدٌ فَهُوَ كَإِنْكَارِهِ وُجُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا جَاءَ اعْتِرَاضُ الْجَاحِدِين فِي الْحُجَّةِ بِهِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَجَمِيع ما تَضَمَّنَهُ من مُعْجِزٍ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَوَجْهُ إِعْجَازِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَنَظَرًا كَمَا سَنَشْرَحُهُ، قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا (*)

وَيَجَرِي هَذَا الْمَجْرَى عَلَى الْجُمْلَةِ أنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٌ وَخَوارِقُ عَادَاتٍ إنْ لم يبلغا وَاحِدٌ مِنْهَا مُعَيَّنًا الْقَطْعَ فَيَبْلُغُهَا جَمِيعُهَا فَلَا مِرْيَةَ فِي جَرَيانِ مَعَانِيهَا عَلَى يَدْيهِ وَلَا يَخْتَلِفُ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ أنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عَجَائِبُ وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعَانِدِ فِي كَوْنِهَا من قِبَلِ اللَّه وَقَدْ قَدَّمْنَا كَوْنَهَا من قِبَلِ اللَّه وَأَنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ صَدَقْتَ فَقَدْ عُلِمَ وَقُوعُ مِثْلِ هَذَا أيْضًا من نَبِيّنَا ضَرُورَةً لا نفاق مَعَانِيهَا كَمَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً جُودُ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةُ عَنْتَرَةَ وَحِلْمُ أحنف لاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى كَرَمِ هَذَا وَشَجَاعَةِ هَذَا وَحِلْمِ هَذَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ بِنَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَلَا يُقْطَعُ بَصِحَّتِهِ وَالْقِسْمُ الثاني مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الضَّرُورَةِ وَالْقَطْعِ وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ نَوْعٌ مُشْتَهِرٌ مُنْتَشِرٌ رَوَاهُ الْعَدَدُ وَشَاعَ الْخبَرُ بِهِ عِنْدَ الْمُحَدّثِينَ وَالرُّوَاةِ وَنَقَلَةِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ كَنَبْعِ الْمَاءِ من بَيْنَ الْأَصَابعِ وَتَكِثيرِ الطَّعَامِ وَنَوْعٌ مِنْهُ اخْتَصَّ بِهِ الْوَاحِدُ وَالاثْنَانِ وَرَوَاهُ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَلَمْ يَْشتَهِرِ اشْتِهَارَ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ إذَا جُمِعَ إِلَى مِثْلِهِ اتْفَقَا فِي الْمَعْنَى وَاجْتَمَعَا عَلَى الْإِتْيَانِ بالمعجز

_ (قوله حاتم) هو والد عدى بن حاتم هلك عن كفره وقدم ابنه عدى سنة تسع في شعبان وكان نصرانيا فأسلم (قوله عنترة) هو ابن معاوية بن شداد العبسى كان شديد السواد وأما زبيبة كانت أمه سوداء لأبيه، كان من أشهر فرسان العرب وأشدهم بأسا (قوله الأحنف) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح النون بعدها فاء هو ابن قيس أبو بحر التميمي اسمه الضحاك وقيل صخر، أسلم في زمنه عليه السلام ودعا له عليه السلام ولم تتفق له رواية (*)

كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَأَنَا أَقُولُ صَدْعًا بِالْحَقّ إنَّ كَثِيرًا من هَذِهِ الآيَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ أَمَّا انشقاق القمر قالقرآن نص بوقوعه وأحبر عَنْ وُجُودِهِ وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرٍ إلَّا بِدَلِيلٍ وَجَاءَ برَفْعِ احْتِمَالِهِ صَحِيحُ الْأَخْبَارِ من طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَا يُوهِنُ عزمنا خلاف أحرق مُنحَلَّ عُرَى الدّينِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سَخَافَةِ مُبْتَدِعٍ يُلْقِي الشَّكّ عَلَى قُلُوبِ ضعفاء للمؤمنين بَلْ نُرْغِمُ بَهَذَا أنفه ونئبذ بِالْعَراءِ سُخْفَهُ وَكَذَلِكَ قِصَّةُ نَبْعِ الماء ونكثير الطَّعَامِ رَوَاهَا الثَّقَاتُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ عَنِ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ ومنها مَا رَوَاهُ الْكَافّةُ عَنِ الْكَافَّةِ مُتَّصِلًا عَمَّنْ حَدَّثَ بِهَا من جُمِلَةِ الصَّحَابَةِ وَأَخْيَارِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَوْطِنِ اجْتَماعِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ فِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَفِي غَزْوَةِ بُوَاطٍ وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَغَزْوَةِ تَبُوكَ وأمثالها من

_ (قوله أخرق) بالخاء المعجمة ضد الرفيق (قوله سخافة) بفتح السين المهملة والخاء المعجمة المخففة، يقال سخف الرجال بالضم سخفا وسخافة أي رق عقله (قوله نرغم) بضم أوله يقال أرغم الله أنفه ألصقه بالرغام بفتح الراء وهو التراب (قوله العراء) بفتح العين المهمة وتخفيف الراء والمد هو الفضاء لاستر به (قوله سخفه) بضم السين المهملة (قوله فِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس وقال أبو سعيد في ذى القعدة وقال ابن عقبة سنة أربع (قوله بواط) بظم الموحدة وتخفيف الواو وفى آخره طاء مهملة جبل من جبال جهينة (قوله عمرة الحديبية) كانت في السنة السادسة سن الهجرة خرج لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذى القعدة وقال ابن سعد خرج إليها يوم الاثنين بهلال ذى القعدة (قوله وغزوة تبوك) كانت في السنة التاسعة (*)

مَحَافِلِ الْمُسْلِمِينَ وَمَجْمعِ الْعَسَاكِرِ وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَد مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةٌ لِلرَّاوِي فِيمَا حَكَاهُ وَلَا إِنْكَارٌ عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأوْهُ، كَمَا رَوَاهُ فَسُكُوتُ السَّاكِتِ مِنْهُمْ كَنُطْقِ، النَّاطِقِ، إِذْ هُمُ الْمُنَزَّهُونَ عَنِ السَّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ وَالمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَةٌ وَلَا رَهْبَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وغير مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ لأنْكَرُوهُ كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعَضٍ أَشْيَاءَ رَوَاهَا مِنَ السُّنَنِ وَالسّيَر وَحُرُوفِ الْقُرْآنِ وخطأ بعضهم بعضا وَوَهَّمَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا هو مَعْلُومٌ فهذا النَّوْعُ كَلُّهُ يُلْحَقُ بِالْقَطْعِيّ من مُعْجِزَاتِهِ لما بَيَّنَّاهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ التي لَا أَصْلَ لَهَا وَبُنِيَتْ على باطل لابد مَعَ مُرُورِ الْأَزْمَانِ وَتَداوُلِ النَّاسِ وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنَ انْكِشَافِ ضَعْفِهَا وَخُمُولِ ذِكْرِهَا كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الكَاذِبَةِ وَالْأَرَاجِيفِ الطَّارئة وَأَعْلَامُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْوَارِدَةُ من طَرِيقِ الآحَادِ لَا تَزْدَادُ مَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ إلَّا ظُهُورًا ومع تَدَاوُلِ الفِرقِ وَكَثْرَةِ طَعْنِ الْعَدُوّ وَحِرْصِهِ عَلَى تَوْهِينِهَا وَتَضْعِيفِ أَصْلِهَا وَإِجْهَادِ الْمُلْحِدِ عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهَا إلَّا قُوَّةً وَقَبُولًا وَلَا لِلطَّاعِنِ عَلَيْهَا إلَّا حَسْرَةً وَغَلِيلًا وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ وَإِنْبَاؤُهُ بِمَا يَكُونُ وَكَانَ، مَعْلُومٌ من آيَاتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِالضَّرُورَةِ وَهَذَا حَقٌّ لَا غِطَاءَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ بِهِ من أَئِمَتِنَا الْقَاضِي وَالأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا رَحِمَهُم اللَّه وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ القائل.

_ (قوله يلحق) بفتح أوله (قوله وإخباره عن العيوب) بكسر الهمزة (*)

إن هَذِهِ الْقِصَصَ الْمَشْهُورَةَ من بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدٍ إلَّا قِلَّةُ مُطَالَعَتِهِ للأَخْبَارِ وَرِوَايَتِهَا وَشُغْلُهُ بغير ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ وَإِلَّا فَمَنِ اعْتَنَى بِطُرُقِ النَّقْل وَطَالعَ الْأَحَادِيثَ وَالسّيرَ لَمْ يَرْتَبْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ وَاحِدٍ وَلَا يَحْصُلُ عِنْدَ آخَرَ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ بِالْخَبَرِ كَوْنَ بَغْدَادَ مَوْجُودَةً وَأنَّهَا مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ وَدارٌ الْإِمَامَةِ وَالْخِلافَةِ وآخاد مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْمَهَا فَضْلًا عَنْ وَصْفِهَا وَهَكَذَا يَعْلَمُ الْفُقَهَاءُ من أَصْحَابِ مَالِكٍ بِالضَّرُورَةِ وَتَواتُرِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ إِيجَابُ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُنْفَردِ وَالْإِمَام وإجزاء السية فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ من رَمَضَانَ عَمَّا سِوَاهُ وأن الشعافعى يَرَى تَجْدِيدَ النّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَالاقْتِصَارَ فِي الْمَسْحِ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَأَنَّ مَذْهَبَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالمُحَدَّدِ وَغَيْرِهِ وَإِيجَابُ النّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَاشْتِرَاطُ الْوَلِيّ فِي النّكَاحِ وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَا رَوَى أَقْوَالَهُمْ لَا يَعْرِفُ هَذَا من مَذَاهِبِهِمْ فضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ وَعِنْدَ ذِكْرِنَا آحَادَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ نَزِيدُ الْكَلَامَ فِيهَا ببانا إن شاء الله تعالى.

_ (قوله بغداد) يجوز في داليه الإعجام والإهمال، قال صاحب القاموس بغداد بمهلتين ومعجمتين وتقديم كل منهما وبغدان وبغدين ومغدان مدينة دار السلام وهى عمرت في زمن أبى جعفر المنصور العباسي أخى السفاح سنة خمس وأربعين ومائة وكانت قبل ذلك مبقلة وسبب تسميتها بغداد أن كسرى أقطعها لخصى له وكان ذلك الخصى يعبد صنما في الشرق يقال له بعد فسماها ذلك الخصى بغدادا أي عطية ذلك الصنم (*)

فصل في إعجاز القرآن

فصل فِي إعجاز الْقُرْآنِ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّه وَإيَّاكَ أَنَّ كِتَابَ اللَّه الْعَزِيزِ مُنْطَوٍ عَلَى وُجُوهٍ مِنَ الْإِعْجَازِ كَثِيرَةٍ وَتَحْصِيلُهَا من جِهَةِ ضبط أواعها فِي أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: أَوَّلُهَا حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالتِئَامُ كَلِمِهِ وَفَصَاحَتُهُ وَوُجُوهُ إِيجَازِهِ وَبَلاغَتُهُ لخارقة عَادَةُ الْعَرَبِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ هَذَا الشَّأْنِ وَفُرْسَانَ الْكَلَامِ قَدْ خُصُّوا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْحِكَمِ مَا لَمْ يُخَصَّ بِهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ وَأُوتُوا من ذَرَابَةِ اللّسَانِ مَا لَمْ يُؤْتَ إِنْسانٌ وَمِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ مَا يُقَيّد الْألبَابَ جَعَلَ اللَّه لَهُمْ ذَلِكَ طَبْعًا وَخِلْقَةً وفِيهِمْ غَرِيزَةً وَقُوَّةً يَأْتُونَ مِنْهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ بِالعَجَبِ وَيُدْلُونَ بِهِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ فَيَخْطُبُونَ بَدِيهًا فِي الْمَقَامَاتِ وَشَدِيدِ الْخَطْبِ وَيَرْتَجِزُونَ بِهِ بَيْنَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَيَمْدَحُونَ وَيَقْدَحُونَ وَيَتَوَسَّلُونَ وَيَتَوَصَّلُونَ وَيَرْفَعُونَ وَيَضَعُونَ فَيَأتُونَ من ذَلِكَ بِالسّحْرِ الْحَلَالِ وَيُطَوّقُونَ من أَوْصَافِهِمْ أَجْمَلَ من سِمْطِ اللّآل فَيَخْدَعُونَ الْألْبَابَ وَيُذَلّلُونَ الصّعَابَ وَيُذْهِبُونَ الْإِحَنَ ويهجون الدمن ويجرؤن الْجَبَانَ وَيَبْسُطُونَ يَدَ الجعد

_ (قوله ذرابة اللسان) بفتح الذال المعجمة والراء المخففة والباء الموحدة أي حذقه (قوله يقيد) بمثناة تحية مضمومة وقاف مفتوحة بعدها مثناة تحتية مشددة مكسورة (قوله ويدلون) بضم أوله وسكون ثانيه (قوله ويطوقون) بضم أوله وتشديد الواو المكسورة بعدها قاف (قوله من سمط) بكسر السين المهملة، في الصحاح: الخيط مادام فيه الخزف سمط وإلا فهو سلك (قوله الإحن) بكسر الهمزة وفتح المهملة جمع إحنة بكسر الهمزة وسكون المهملة وهى الحقد (قوله ويهيجون) بضم أوله وفتح ثانيه وكسر ثالثه مشدد ويجوز فتح أوله وكسر ثانيه وسكون ثالثه يقال هاج الشئ وهاجه غيره وهيجته وهاجه (قوله والدمن) بكسر المهملة وفتح الميم جمع دمنة بكسرها وسكون الميم وهى الحقد (قوله الجعد البنان) الجعد بفتح الجيم وسكون العين (*)

البنان ويصيورن النَّاقِصَ كَامِلًا وَيَتْرُكُونَ النَّبيهَ خَامِلًا مِنْهُمُ الْبَدَويُّ ذُو اللَّفْظِ الجزل والقول المصل وَالْكَلَامِ الْفَخْمِ وَالطَّبْعِ الجَوْهِرِيّ وَالمَنْزَعِ القَوِيّ وَمِنْهُمُ الحصرى ذُو الْبَلَاغَةِ الْبَارِعَةِ والألفاظ الناطعة وَالْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ وَالطّبْعِ السَّهْلِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْقَوْلِ الْقَلِيلِ الْكُلْفَةِ الْكَثِيرِ الرَّوْنَقِ الرَّقِيقِ الْحَاشِيَةِ وَكِلَا الْبَابَيْنِ فَلَهُمَا فِي الْبَلَاغَةِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَالْقُوَّةُ الدَّامِغَةُ وَالْقِدْحُ الْفَالِجُ وَالْمَهْيَعُ النَّاهِجُ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ الْكَلَامَ طَوْعُ مُرَادِهِمْ وَالْبَلَاغَةَ ملك فيادهم قَدْ حَوَوْا فُنُونَهَا واستنبطوا عيوبها وَدَخَلُوا من كُلِّ بَابٍ من أَبْوَابِهَا وَعَلَوْا صَرْحًا لِبُلُوغِ أَسْبَابِهَا فَقَالُوا فِي الْخَطِيرِ وَالْمَهِينِ وَتَفَنَّنُوا فِي الْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَتَقَاوَلُوا فِي الْقُلّ وَالْكُثْرِ وَتَسَاجَلُوا فِي النظم والنثر

_ المهملة، في الصحاح يقال الكريم من الرجال جعد، فأما إذا قيل فلان جعد اليدين أو جعد الأنامل فهو البخيل وربما لم يذكروا معه اليد، والبنان بفتح الموحدة وتخفيف النون أطراف الأصابع جمع بنانة (قوله النبيه) هو خلاف الخامل (قوله الجزل) بفتح الجيم وسكون الزاى خلاف الركيك (قوله والقول الفصل) بالصاد المهملة بمعنى المفصول أي الذى يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه أو بمعنى الفاصل أي الذى يفصل بَيْنَ الْحَقّ وَالبَاطِلِ والصواب والخطأ (قوله الناصعة) بالنون والصاد والعين المهملتين أي الخالصة (قوله والقدح الفالج) القدح بكسر القاف وسكون الدال بعدها حاء مهملة: السهم قبل أن يراش ويجعل فيه نصل والفالج بالفاء واللام المكسورة والجيم: الفائز - بالزاى (قوله المهيع) بفتح الميم وسكون الخاء وفتح المثناة التحتية: الطريق، والناهج - بالنون: السالك (قوله صرحا) الصرح القصر وكل بناء عال (قوله في الغث) بفتح الغين المعجمة بعدها مثلثة مشددة أي المهزول (قوله في القل والكثر بضم أول كل منهما (قوله وتسالجوا) بالسين المهملة والجيم أي تفاخروا والمساجلة المفاخرة بأن يصنع مثل صنيعه في جرى أو سقى وأصله من السجل وهو الدلو، ومنه قولهم الحرب سجال، كذا في الصحاح (*)

فَمَا رَاعَهُم إلَّا رَسُولٌ كَرِيمٌ بِكِتَابٍ عَزِيزٍ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حكيم حميد أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ وَفُصّلَتْ كَلِمَاتُهُ وَبَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ وَظَهَرَتْ فَصاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ وَتَظاهَرَتْ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ وَتَبَارَتْ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ وَحَوْت كُلَّ الْبيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ وَاعْتَدَل مَعَ إِيجَازِهِ حُسْنُ نَظْمِهِ وَانْطَبَقَ عَلَى كَثْرَةِ فَوَائِدهِ مُخْتَارُ لَفْظِهِ وهمْ أَفْسَحُ مَا كَانُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالًا وَأَشْهَرُ فِي الْخَطَابَةِ رِجَالًا وَأَكْثَرُ فِي السَّجْعِ وَالشّعْرِ سِجَالًا وَأَوَسعُ فِي الْغَرِيبِ وَاللُّغَةِ مَقَالًا بِلُغَتِهِم التي بِهَا يَتَحَاورُونَ وَمَنَازِعِهِمُ التى عنها يتناضلون صَارِخًا بِهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَمُقَرّعًا لَهُمْ بعضا وَعِشْرِينَ عَامًا عَلَى رؤس الْمَلأ أَجْمَعِينَ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) إِلَى قَوْلِهِ (وَلَنْ تفعلوا) و (قل لئن اجتمع الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن) الآية و (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرَى

_ (قوله راعهم) أي أفزعهم (قوله وتبارت) بمثناة فوقية فموحدة، في الصحاح فلان يبارى فلانا أي يعارضه (قوله في السجع) بالسين المهملة يَحْتَمِل أن تَكُون مصدرا وهو توافق الألفاظ الواقعة في أواخر الفقر وأن يكون جمع سجعة وهى الكلمة الأخيرة من الفقرة بإعتبار كونها موافقة للكلمة الأخيرة من الفقرة الأخرى وهى في الأصل هدير الحمام ونحوها (قوله بضعا) بكسر الموحدة وفتحها (قوله المفترى) بفتح الراء والمختلق بفتح اللام (*)

أَسْهَلُ وَوَضْعُ الْبَاطِلِ وَالمُخْتَلقِ عَلَى الاخْتِيَارِ أَقْرَبُ وَاللَّفْظُ إِذَا تَبِعَ الْمَعْنَى الصَّحِيحَ كَانَ أَصْعَبَ وَلِهَذَا قِيلَ فُلانٌ يَكْتُبُ كما يُقَالُ لَهُ وفُلانٌ يَكْتُبُ كَمَا يُرِيدُ وَلِلأوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَضْلٌ وَبَيْنَهُمَا شَأْوٌ بَعِيدٌ فَلَمْ يَزَلْ يُقرّعُهُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ وَيُوَبّخُهُمْ غَايَةَ التَّوْبِيخِ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَهُمْ وَيَحُطُّ أَعْلَامَهُمْ وَيُشَتّتُ نِظَامَهُمْ وَيَذُمُّ آلِهَتَهُمْ وَإيَّاهُمْ وَيَسْتَبِيحُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَهُمْ فِي كُلِّ هَذَا نَاكِصُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مُحْجِمُونَ عَنْ مُمَاثَلَتِهِ يُخَادِعُونَ أنْفُسَهُمْ بِالتَّشْغِيبِ بِالتَّكْذِيبِ وَالْإِغْرَاءِ بِالافْتِراءِ وَقَوْلِهِمْ: إنْ هَذَا إلَّا قَوْل الْبَشَرِ، إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤَثَرُ، وَسِحْرٌ مُسْتَمِرّ وَإِفْكٌ افْتَرَاهُ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. والمباهنة وَالرّضَى بِالدَّنِيئَةِ كَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وَفِي أكة مِمَّا تَدْعُونا إليْهِ وفى آداننا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْننَا وَبَيْنَكَ حِجَابٌ: وَلَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. وَالادّعَاءُ مَعَ الْعَجْزِ بِقَوْلِهِمْ (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا) وقد قال لهم اللَّه (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا وَمَنْ تَعاطَى ذَلِكَ من سُخَفَائِهِمْ كَمُسَيْلِمة كَشَفَ عُوَارَهُ لِجَمِيعِهِمْ وَسَلَبَهُمُ اللَّه مَا أَلِفُوهُ من فَصِيحِ كَلامِهِمْ وَإِلَّا فَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ المَيْزِ مِنْهُمْ أنَّهُ لَيْسَ من نَمَطِ فَصَاحَتِهِمْ وَلَا جِنْسِ بَلاغَتِهِمْ بَلْ وَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ وَأَتَوْا مُذْعنِينَ من بين مهتدى وبين مفتون

_ (قوله محجمون) بسكون المهملة وكسر الجيم أي متأخرون (قوله بالدنيئة) بالهمزة وقد تسهل أي الخصلة الخبيثة يقال دنأ دنوءا خبث فعله ولؤم قوله (قوله عواره) في الصحاح العوار العيب، يقال سلعة ذات عوار بفتح العين وقد تضم عند أبى زيد. انتهى وعن ديوان الأدب إن الضم أفصح (*)

وَلَهَذَا لَمّا سَمِعَ الْوَلِيدُ بن الْمُغيرَةِ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعدل والإحسان) الآيَةَ قَالَ والله إنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً وإن عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدقٌ وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ مَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) فَسَجَدَ وَقَالَ سَجَدْتُ لِفَصَاحَتِهِ، وَسَمِعَ آخَرُ رَجُلًا يَقْرأُ (فَلَمَّا استيئسوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مَخْلُوقًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ وَحُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَ يَوْمًا نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ بِقَائِم عَلَى رَأْسِهِ يَتَشَهَّدُ شَهَادَةَ الْحَقّ فاسْتخْبَرَهُ فَأَعْلَمَهُ أنَّهُ من بَطَارِقَةِ الرُّوم مِمَّنْ يُحْسِنُ كَلَامَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا وَأنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا من أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ يَقْرَأُ آيَةً من كِتَابِكُمْ فَتَأَمَّلْتُهَا فَإِذَا قَدْ جُمِعَ فِيهَا مَا أَنْزَلَ اللَّه على عيسى

_ (قوله الوليد بن المغيرة) وكذا رواه البيهقى في الشعب في حديث ابن عباس وذكره ابن إِسْحَاق فِي السيرة وذكر ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ في الاستيعاب من غير إسناد والغزالي في الإحياء في أدب تلاوة القرآن أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث (قوله لطلاوة) بضم الطاء المهملة وفتحها أي لحسنا وقبولا (قوله وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدقٌ) لفظ ابن اسحاق وإن أصله لعذق بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة، والعذق النخلة بحملها ولفظ ابن هشام: لغدق بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة من الغدق وهو الماء الكثير قال السهيلي ورواية ابن اسحاق أفصح لأن بها آخر الكلام يشبه أوله (قوله وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ) هو الإمام الحافظ الْقَاسِم بن سَلَام بتشديد اللام البغدادي أخذ عن الشافعي الفقيه كان أبوه سلام عبدا روميا لرجل من أهل هراة روى عنه ابن أبى الدنيا وغيره. توفى سنة أربع وعشرين ومائتين (قوله من بطارقة) بفتح الموحدة جمع بطريق بكسرها قال ابن الجواليقى هو بلغه الروم القائد أي مقدم الجيوش وأميرها (*)

ابن مَرْيَمَ من أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ (وَمَنْ يُطِعِ الله ورسوله ويحش الله ويتقه) الآية، وَحَكى الْأَصْمَعِيُّ أنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ جَارِيَةٍ فقام لَهَا: قَاتَلَكِ اللَّه مَا أَفْصَحَكِ؟ فَقَالَتْ أَوَ يُعَدُّ هَذَا فَصَاحَةً بَعْدَ قول اللَّه تَعَالَى (وأوحينا إِلَى أُمِّ مُوسَى أن أرضعيه) الآيَةَ فَجَمَع فِي الآية وَاحِدةٍ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَهْيَينِ وَخَبَرَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ فَهَذَا نَوْعٌ من إِعْجَازِهِ مُنْفَرِدٌ بَذَاتِهِ غَيْرِ مُضَافٍ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَكَونُ القرآن من قِبَلِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأنَّهُ أتى بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَحَدّيًا بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَعَجْزُ الْعَرَبِ عَن الإتْيَانِ بِهِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً وَكَوْنُهُ فِي فَصَاحِتِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً لِلْعَالمِينَ بِالْفَصَاحَةِ وَوُجُوهِ الْبَلَاغَةِ وَسَبِيلُ من لَيْسَ من أَهْلِهَا عِلْمُ ذَلِكَ بِعَجْزِ الْمُنْكرِينَ من أَهْلِهَا عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَاعْتِرَافِ الْمُقِرّينَ بِإِعْجَازِ بَلاغَتِهِ وَأَنْتَ إذَا تَأمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة) وَقَوْلُهُ (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مكان قريب) وَقَوْلُهُ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حميم) وَقَوْلُهُ: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) الآية، وَقَوْلُهُ (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا) الآيَةَ وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الآيِ بَلْ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ حَقَّقْتَ مَا بَيَّنْتُهُ من إِيجَازِ

_ (قوله وحكى الأصمعى) هو عبد الملك بن قريب - بضم القاف وفتح الراء - ابن أصمع ولد سَنَة ثَلَاث وَعِشْرِين ومائة وتوفى سنة ست وعشرة ومائتين (*)

(فصل) الوجه الثاني من إعجازه صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب

الْفَاظِهَا وَكَثْرَةِ مَعَانِيهَا وَدِيبَاجَةِ عِبَارَتِهَا وَحُسْنِ تَأْلِيفِ حُرُوفِهَا وَتَلاؤُمِ كَلِمهَا وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ لَفْظَةٍ مِنْهَا جُمَلًا كَثِيرةً وَفُصُولًا جَمَّةً وَعُلُومًا زَوَاخِرَ مُلِئَتِ الدَّوَاوينُ من بَعْضِ مَا اسْتُفِيدَ مِنْهَا وَكَثُرَتِ الْمَقَالاتُ فِي الْمُسْتَنْبَطَاتِ عَنْهَا ثُمَّ هُوَ فِي سَرْدِ الْقِصَصِ الطّوَالِ وَأَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّوَالِفِ التي يَضْعفُ فِي عَادَةِ الْفُصَحَاءِ عِنْدَهَا الْكَلَامُ وَيَذْهَبُ مَاءُ الْبَيَانِ آيَةٌ لِمُتَأمّلِهِ من رَبْطِ الْكَلَامُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَالْتِئَامِ سَرْدِهِ وَتَنَاصُفِ وُجُوهِهِ كَقِصَّةِ يُوسُفَ عَلَى طُولِهَا ثُمَّ إذَا تَرَدَّدَتْ قِصَصُهُ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ عَنْهَا عَلَى كَثْرَةِ تَرَدُّدِهَا حَتَّى تَكَادَ كُلّ وَاحِدَةٍ تُنَسّي فِي الْبَيَانِ صَاحِبَتَهَا وَتَناصِفُ فِي الْحَسَنِ وَجْهَ مُقَابلَتِهَا وَلَا نُفُورَ لِلنُّفُوسِ من تَرْدِيدِهَا وَلَا مُعَادَاةَ لِمُعَادِهَا. (فصل) الْوَجْهُ الثَّانِي من إِعْجَازِهِ صُورَةُ نَظْمِهِ العَجِيبِ وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَناهِج نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ وَوَقَفَتْ مَقَاطِعُ آيِهِ وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كلمات إليْهِ وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ وَلَا اسْتطَاعَ أَحَدٌ مُمَاثَلَةَ شئ مِنْهُ بَلْ حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ وَتَدلَّهَتْ دُونَهُ أَحْلامُهُمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مِثْلِهِ فِي جِنْسِ كَلامِهِمْ من نَثْرٍ أَوْ نَظْمٍ أَوْ سَجْعٍ أَوْ رَجْزٍ أَوْ شِعْرٍ وَلَمَّا سمع كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدُ بن الْمُغِيرَةِ وَقَرأ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَقَّ فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ مُنْكِرًا عَلَيْهِ قَالَ والله مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنّي والله مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا من هَذَا، وَفِي خَبَرِهِ الآخرِ حِينَ جَمَعَ قُرَيْشًا عند حضور

_ (قوله وتدلهت) بفتح الدال المهملة واللام المشددة من التدلى، وهو ذهاب العقل من الهوى (*)

الْمَوْسِمِ وَقَالَ إنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا لَا يُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَقَالُوا نقول كَاهِنٌ قَالَ والله مَا هُوَ بِكَاهِن مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا مَجْنُونٌ قَالَ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ وَلَا بِخَنْقِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا فَنَقُول شَاعِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ قَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلَّهُ رَجْزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَبْسُوطَهُ وَمَقْبُوضَهُ مَا هُوَ بِشَاعِرٍ قَالُوا فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرِ وَلَا نَفْثِهِ وَلَا عَقْدِهِ قالوا: فما نقول قَالَ مَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ من هَذَا شَيْئًا إلَّا وَأَنَا أَعْرِفُ أنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أنَّهُ سَاحِرٌ فَإنَّهُ سِحْرٌ يُفَرّق بَيْنَ الْمَرْءِ وابْنِهِ والمرء وأخيه وَالْمرْءِ وزَوْجِهِ وَالْمَرْءِ وعشيرته فتفرقوا وَجَلَسُوا عَلَى السُّبُل يُحَذّرُونَ النَّاسَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) الآيَاتِ وَقَالَ عُتَبَةُ بن رَبِيعَةَ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: يَا قَوْم قَدْ عَلِمْتُمْ أني لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وقرأته وَقُلْتُهُ والله لَقَدْ سَمْعتُ قَوْلًا والله مَا سَمِعْتُ مِثلَهُ قَطُّ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ، وَقَالَ النَضْرُ بن الْحَارِثِ نَحْوَهُ وَفِي حَديثِ إسْلَامِ أبى ذر

_ (قوله مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ) الزمزمة صوت خفى لا يكاد يفهم (قوله ولا بخنقه) في الصحاح الخنق بكسر النون مصدر خنقه يخنقه وفى مطالع ابن قرقول أنه بفتح النون وإسكانها (قوله وَلَا نَفْثِهِ وَلَا عقده) كان الساحر يعقد خيطا ثم ينفث عليه (قوله ولا بالكهانة) الكاهن الذى يخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعى معرفه الأسرار ويزعم أن له تابعا من الجن وراميا يلقى إليه الأخبار وأما من يزعم أنه يعرف الأمور بأسباب يستدل بها من كلم من سأله أو فعله أو حاله مثل أن يدعى معرفة الشئ المسروق ومكان الضالة فهذا يخصونه باسم العراف (*)

وَوَصَفَ أَخَاهُ أُنيسًا فَقَالَ والله مَا سَمِعْتُ بِأَشْعَرَ من أَخِي أُنَيْسٍ لَقَدْ نَاقَضَ اثْنَي عَشَرَ شَاعِرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أنا أحدهم وأنه انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ وَجَاءَ إِلَى أَبِي ذَرّ بِخَبَرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فما يَقُولُ النَّاسُ قَالَ يَقُولُون شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فما هُوَ بِقَوْلِهِمْ وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشّعْر فلم يَلْتَئِمْ وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانٍ أَحَدٍ بَعْدِي أنَّهُ شِعْرٌ وإنَّهُ لَصَادِقٌ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ وَالْإِعْجازُ بِكُلّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَينْ الْإِيجَازُ وَالْبَلَاغَةُ بِذَاتِهَا وَالْأُسْلُوبُ الغَرِيبُ بِذَاتِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ إعْجَازٍ عَلَى التَّحْقِيقِ لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارجٍ عَنْ قُدْرَتِهَا مُبَايِنٌ لِفَصَاحَتِهَا وَكَلَامِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ من أَئِمَّةِ الْمُحَقّقِينَ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُقتَدَى بهم إِلَى أَنَّ الإعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ البلاغَةِ وَالْأسْلُوبِ وَأتَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلٍ تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ وَالْعِلْمُ بِهَذَا كله ضرورة وقطعا وَمَنْ تَفَنَّنَ فِي عُلُومِ الْبَلَاغَةِ وَأرْهَفَ خَاطِرَهُ وَلِسَانَهُ أَدَبَ هَذِهِ الصّنَاعَةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا قُلْنَا وَقَد اخْتَلَفَ أئمة أَهْلُ السُّنَّةِ فِي وَجْهِ عَجْزِهِمْ عَنْهُ فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ إنَّهُ مِمَّا جُمِعَ فِي قُوَّةٍ جَزالتِهِ وَنَصَاعَةِ ألْفَاظِهِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ وإيجازه وبديع تأليفهم وَأُسْلُوبِهِ لَا يَصِحُّ أن يكون في

_ (قوله ناقض) بالضاد المعجمة على وزن فاعل من نقض البناء أي هدمه (قوله أقراء الشعر) بفتح الهمزة وسكون القاف والمد أي طرقه وأنواعه قاله الهروي (قوله وأرهف) أي رفق (*)

مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَأنَّهُ من باب الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ الْخَلْقِ عَلَيْهَا كَإحْيَاءِ الْمَوْتَى وَقَلْبِ الْعَصَا وَتَسبِيح الْحَصَا وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى أنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَيُقدرُهُمُ اللَّه عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا يَكُونُ فَمَنَعَهُمُ اللَّه هَذَا وعَجّزَهُمْ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ جَمَاعةٌ من أَصْحَابِهِ وَعَلَى الطّرِيقَيْنِ فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمُ بِمَا يَصِحُّ أَنْ يكون فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَتَحَدّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التّعْجِيزِ وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيع والاحتاج بمجئ بشر مثلهم بشئ لَيْسَ من قُدْرَةٍ الْبَشَرِ لازِمٌ وَهُوَ أَبْهَرُ آيةٍ وَأَقْمَعُ دَلالَةٍ وعلى كُلِّ حَالٍ فما أتَوْا فِي ذَلِكَ بِمَقَالٍ بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ وَالْقَتْلِ وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ وَالُّذّل وَكانُوا من شُمُوخِ الْأَنْفِ وَإبَاءَةِ الضَّيْمِ بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا وَلَا يَرْضَوْنَهُ إلَّا اضْطِرارًا وَإِلَّا فَالْمُعَارَضةُ لَوْ كَانَتْ من قُدَرِهِمْ وَالشُّغْلُ بِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهِمُ وَأَسْرَعُ بِالنَّجْحِ وَقَطْعِ الْعُذْرِ وَإفْحَام الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَلَامِ وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ وَمَا مِنْهُمْ إلَّا من جَهَدَ جَهْدَه وَاسْتَنْفَذَ مَا عِنْدَهُ فِي إخْفَاءِ ظُهُورِهِ وَإِطْفَاءِ نوره فما جلا في ذلك خبيثة من بَنَاتِ شِفَاهِهِمْ وَلَا أَتَوْا بِنُطْفَةٍ من مُعِينِ مِيَاهِهِمْ *

_ قوله على الجلاء) بفتح الجيم والمد: أي الخروج من البلد (قوله الأنف) بهمزة ونون مضمومتين جمع أنف بفتح الهمزة وسكون النون (قوله من قدرهم) بضم القاف وفتح الدال جمع قدرة (قوله بنطفة) بالطاء المهملة والفاء أي بشئ يسير (*)

(فصل) الوجه الثالث من الإعجاز ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات

مَعَ طُولِ الْأَمَدِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَتَظاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ بَلْ أَبْلَسُوا فما نَبَسُوا وَمُنِعُوا فَانْقَطَعُوا فَهَذانِ النَّوْعَانِ من إِعْجَازِهِ. (فصل) الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْإِعْجَازِ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ وَمَا لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَقَعْ فَوُجِدَ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخْبَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) وقوله (ليظهره عليه الدين كله) وَقَوْلُهُ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض) الآيَةَ وَقَوْلِهِ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إِلَى آخِرهَا فَكَان جَمِيعُ هَذَا كَمَا قَالَ فَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ فِي بِضْع سِنِينَ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَام أفْوَاجًا فما مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بِلادِ الْعَرَبِ كُلّهَا مَوْضِعٌ لَمْ يَدْخُلْهُ الْإِسْلَام واسْتَخْلَفَ اللَّه الْمُؤْمِنينَ فِي الْأَرْضِ وَمَكَّنَ فِيهَا دِينَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ إيّاهَا من أقصى المشار إِلَى أَقْصَى الْمَغَاربِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذويت لِيَ الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَسَيبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا روى لِي مِنْهَا وَقَوْلُهُ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون) لكان كَذَلِكَ لَا يَكَادُ يُعَدُّ من سَعَى فِي تَغْيِيرهِ وَتَبْدِيلِ مُحْكمِهِ مِنَ الْمُلْحِدَةِ وَالْمُعَطَّلَةِ لَا سِيَّمَا الْقَرَامِطَةُ فَأجْمَعُوا كَيْدَهُمْ وَحَوْلَهُمْ وَقُوَّتَهُمُ الْيَوْمَ نيفا

_ (قوله نبسوا) بنون وموحدة مخففة ومشددة مفتوحتين وسين مهملة في الصحاح يا نبس بكلمة أي ما تكلم (قوله زويت) بالزاى المضمومة أي جمعت (قوله لقرامطة) هم أتباع حمدان القرمطى (قوله نيفا) النيف بفتح النون وسكون المثناة التحتية أو كسرها وتشديدها: الزيادة (*)

(فصل) الوجه الرابع ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة

على خمسمائة عام فَمَا قَدَرُوا على إطفاء شئ من نُورِهِ وَلَا تَغْيِيرِ كَلِمَةٍ من كَلامِهِ ولا تشكبك الْمُسْلِمينَ فِي حَرْفٍ من حُرُوفِهِ وَالْحَمْدُ لله منه قَوْلُهُ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ، يولون الدبر) وَقَوْلُهُ (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بأيديكم) الآية وَقَوْلُهُ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى) الآية وَقَوْلُهُ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلا أذى إن يقاتلوكم) الآية فكان كُلُّ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ من كَشْفِ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَمَقالِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ وَتْقِريعِهِمْ بِذَلِكَ كَقَوْلِهِ (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يعذبا الله مما نقول) وَقَوْلُهُ (يُخْفُونَ فِي أنفسهم مالا يبدون لك) لآية وَقَوْلُهُ (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) الآية، وَقَوْلُهُ (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - إِلَى قَوْلِهِ - فِي الدِّينِ) وقد قال مبديا ما قدره اللَّه واعتقده المؤمنون يوم بدر (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) وَلَمَّا نَزَلَتْ بَشَّرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ بِأَنَّ اللَّه كفَاهُ إيّاهُمْ وَكَانَ المستهزؤن نَفَرًا بِمَكَّةَ يُنَفّرُونَ النَّاسَ عَنْهُ وَيُؤْذُونَهُ فَهَلَكُوا، وَقَوْلُهُ (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فكان كَذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ من رَامَ ضُرَّهُ وَقَصَدَ قَتْلَهُ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ صَحِيحَةٌ. (فصل) الْوَجْهُ الرَّابِعُ مَا أَنْبَأَ بِهِ من أَخْبَارِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَالْأُمَمِ البَائِدَةِ وَالشَّرَائِعِ الدَّاثِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ الْقِصَّةُ الْوَاحِدَةُ إِلَّا الْفَذُّ

_ (قوله إلا الفذ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة. أي الفرد (*)

من أخبار أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي قَطَعَ عُمُرَهُ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ فَيُوردُهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَأتِي بِهِ عَلَى نَصّهِ فَيَعْتَرِفُ الْعَالِمُ بِذَلِكَ بَصِحَّتِهِ وَصِدْقِهِ وَأنَّ مِثْلَهُ لَمْ يَنَلْهُ بِتَعْلِيمٍ وَقَدْ عَلِمُوا أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّيّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا اشْتَغَلَ بِمُدَارَسَةٍ وَلَا مُثَافَنَةٍ وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ وَلَا جَهِلَ حَالَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَثِيرًا مَا يَسْالُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَتْلُو عَلَيْهِمُ مِنْهُ ذِكْرًا كَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ قَوْمِهِمْ وَخَبَر مُوسَى وَالْخِضْرِ ويوسف وإخوته

_ (قوله ولا مثافنة) بالمثلثة والفاء والنون في الصحاح ثافنت فلانا جالسته ويقال اشتقاقه من الثفنة، واحدة ثقنات البعير وهو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ وغلظ كالركبتين كأنك ألصقت ثفنة ركبتك بثفنة ركبته (قوله الخضر) بفتح أوله وكسر ثانيه ويجوز كسر أوله وسكون ثانيه سمى خضرا لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز خلفه خضراء والفروة الحشيش اليابس وقيل لأنه إذا جلس اخضر ما حوله، واختلف هل كان وليا أو نبيا والقاتلون بأنه نبى اختلفوا هل كان رسولا أم لا قال الثعلبي نبى على جميع الأقوال معمر محجب عن الأبصار، قال ابن الصلاح وهو حى عند جماهير العلماء والصالحين والعامة وقال البخاري وطائفة منهم الْقَاضِي أَبُو بَكْر بن العربي إنَّه مات قَبْل انقضاء المائة لقوله صلى الله عليه وسلم أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد والجواب أن هذا الحديث عام فيمن يشاهده الناس ويخالطونه لا فيمن ليس كذلك كالخضر بدليل أن الدجال خارج عن هذا الحديث لما روى مسلم من حديث الجساسة الدالة على وجود الدجال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بقائه إلى زمن ظهوره مع أن مسلما روى عن ابن عمر أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد انخرام ذلك القرن (*)

وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَلُقْمَانَ وَابْنِهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ وَمَا فِي التَّوْرَاةِ والْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى مِمَّا صَدَّقَهُ فِيهِ الْعُلمَاءُ بِهَا وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى تَكْذِيب مَا ذُكِرَ مِنْهَا بَلْ أَذْعَنُوا لِذَلِكَ فَمِنْ مُوَفَّقٍ آمَنَ بِمَا سَبَقَ لَهُ من خَيْرٍ وَمِنْ شَقِيٍّ مُعَانِدٍ حَاسِدٍ ومع هَذَا لَمْ يُحْكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ عَلَى شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكذِيبهِ وَطُولِ احْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَتَقْريعِهِمْ بما انظوت عَلَيْهِ مَصَاحِفُهُمْ وَكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْنِيتِهِمْ إيَّاهُ عَنْ أَخْبَارِ أنْبِيَائِهمِ وَأسْرَارِ عُلُومِهِمْ وَمُسْتَودَعَاتِ سِيرِهِمْ وَإِعْلامِهِ لَهُمْ بِمَكْتُوم شَرَائِعِهمْ وَمُضَمَّنَاتِ كُتُبِهِمْ مِثْلُ سُؤالِهِمْ عَنَ الرُّوحِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعِيسَى وَحُكْمِ الرَّجْم وَمَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِم مِنَ الأنْعَامِ وَمِنْ طَيَّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِم بَبَغْيِهِمْ وَقَوْلُهُ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل وَغَيْرُ ذَلِكَ من أُمُورِهِمُ التي نَزَلَ فِيهَا القرآن

_ (قوله وذى القرنين) روى الحاكم في المستدرك أنه عليه السلام سأل عن ذى القرنين فَقَالَ لَا أدْرِي هو نبى أم لا وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى (وآتيناه من كل شئ سببا) أي علما ينفعه في قوله تعالى (فأتبع سببا) أي طريقة موصلة وقال ابن هشام في غير السيرة السبب حبل من نور كان ملك يمشى به بين يديه فيتبعه، وروي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة) قال سأل ابن الكوا علي بن أبي طالب فقال أرأيت ذا القرنين أنبيا كان أم ملكا فقال: لانبياء كان ولا ملكا ولكن كان عمدا صالحا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوه على قرنى رأسه ضربتين وفيكم مثله يعنى نفسه انتهى وقيل كانت له ضفيرتان من شعر العرب فسمى الضفيرة من الشعر قرنا (*)

(فصل) هذه الوجوه الأربعة من إعجازه

فَأَجَابَهُمْ وَعَرَّفَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إليْهِ من ذَلِكَ أنَّهُ أنْكَرَ ذَلِكَ أَوْ كَذَّبَهُ بَلْ أَكْثُرُهُمْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِ مقالته واعترف بعاده وَحَسَدِهِ إيَّاهُ كَأَهْلِ بحران وَابنِ صُورِيَا وَابْنَيْ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ بَاهَت فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُبَاهَتَةِ وَادَّعَى أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ من ذَلِكَ لِمَا حَكَاهُ مُخَالَفَةً دُعِيَ إِلَى إقَامَةِ حُجَّتِهِ وَكَشْفِ دَعْوَتِهِ فَقِيلَ لَهُ (قُلْ فَأْتُوا بالتوراة قاتلوها إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إِلَى قَوْلِهِ (الظَّالِمُونَ) فقرع وونخ ودعا إلى إحظار مُمْكِنٍ غَيْرِ مُمْتَنِعٍ فَمِنْ مُعْتَرِفٍ بِمَا جَحَدَهُ وَمُتَوَاقِحٍ يُلْقِي عَلَى فَضِيحَتِهِ من كِتَابِهِ يَدَهُ وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ أظْهَرَ خِلَافَ قَوْلِهِ من كُتُبِهِ وَلَا أَبْدَى صَحِيحًا وَلَا سَقِيمًا من صُحُفِهِ قَالَ اللَّه تعالى (يا أهل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ويعفوا عن كثير) الآيَتَيْنِ. (فصل) هَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ من إِعْجَازِهِ بَيِّنَهٌ لَا نِزَاعَ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ وَمِنَ الْوُجُوهِ البيّنَةِ فِي إِعْجَازِهِ من غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ آيٌ وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْمٍ فِي قَضَايَا وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَفَْعَلُونَهَا فَمَا فَعَلُوا وَلَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ لِلْيَهُودِ (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً) الآية قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجّاجُ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَعْظَمُ حَجَّةٍ وَأَظَهرُ دلالَةٍ عَلَى صِحَّةِ الرِّسالَةِ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فَتَمَنَّوُا الموت وَأَعلَمَهُمْ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا فَلَمْ يَتَمَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم

(فصل) ومنها الروعة التى تلحق قلوب سامعيه

والذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَّا غُصَّ بِرِيقِهِ يَعْنِي يَمُوتُ مَكَانهُ فَصَرَفَهُمُ اللَّه عَنْ تَمَنّيهِ وَجَزَّعَهُمْ لِيُظْهِرَ صِدْقَ رَسُولِهِ وَصِحَّةَ مَا أَوحِيَ إليْهِ إِذْ لَمْ يَتَمَنَّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكَانُوا عَلَى تَكْذِيبِهِ أحْرَصَ لَوْ قَدَرُوا وَلَكِنِ اللَّه يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فَظَهَرَتْ بذلك معجزته وَبَانَتْ حُجَّتُهُ: قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ من أَعْجَبِ أَمْرِهِمْ أنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا وَاحِدٌ من يَوْم أمر اللَّه بِذَلِكَ نَبِيَّهُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ ولا يجيب إليه وَهَذَا مَوْجُودٌ مُشَاهَدٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنَّ يَمْتَحِنَهُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْمُبَاهَلَةِ من هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ وَفَدَ عَلَيْهِ أَسَاقِفَةُ نَجْرَانَ وَأَبَوُا الْإِسْلَام فَأنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ بِقَوْلِهِ (فَمَنْ حَاجَّكَ فيه) الآية قامتنعوا مِنْهَا وَرَضُوا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَ عَظِيمَهُمْ قَالَ لهم قد علمتهم أنَّهُ نَبِيّ وَأنَّهُ مالا عن قَوْمًا نَبِيّ قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا صَغِيرُهُمْ وَمِثلُهُ قَوْلُهُ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) إِلَى قَوْلِهِ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فَأَخْبرَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَفَعْلُونَ كَمَا كَانَ وَهَذِهِ الآيَةُ أَدْخَلُ فِي بَابِ الإخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ وَلَكِنْ فِيهَا مِنَ التَّعْجِيزِ مَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. (فصل) وَمِنْهَا الرَّوْعَةُ الَّتِي تَلْحَقُ قُلُوبَ سَامِعِيهِ وَأَسْمَاعَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْهَيْبَةُ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ عِنْدَ تِلاوَتِهِ لِقُوَّةِ حَالِهِ وإنامة خطره وهى

_ (قوله إلا غص) بالغين المعجمة والصاد المهملة (قوله أساقفة نجران) الأساقفة جمع أسقف بضم الهمزة وتشديد الفاء وهو رئيس دين النصارى وقاضيهم (قوله ونجران) بفتح النون وسكون الجيم منزل للنصارى بين مكة واليمن على سبع مراحل من مكة (18 - 1) (*)

عَلَى المُكَذِّبِينَ بِهِ أَعْظَمُ حَتَّى كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَهُ وَيَزِيدُهُمْ نُفُورًا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَيَودُّونَ انْقِطَاعَهُ لِكَرَاهَتِهِمْ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْقُرْآنَ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَلَى من كَرِهَهُ وَهُوَ الْحَكَمُ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تَزَالُ رَوْعَتُهُ بِهِ وَهَيْبَتُهُ إِيّاهُ مَعَ تِلاوَتِهِ تُولِيهِ انْجِذَابًا وَتَكْسِبُهُ هَشاشَةً لِمَيْلِ قَلْبِهِ إليه وَتَصْدِيقِهِ بِهِ قَالَ اللَّه تَعَالَى (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله) وَقَالَ (لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القرآن على جبل) الآية وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هذا شئ خص يه أنَّهُ يَعْتَرِي من لَا يَفْهَمُ مَعَانِيه وَلَا يَعْلَمُ تَفَاسِيرَهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ نَصْرَانِيٍّ أنَّهُ مَرَّ بِقَارِئٍ فَوَقَفَ يَبْكِي فَقِيلَ لَهُ مِمَّ بَكَيْتَ قَالَ للشَّجَا وَالنَّظْمِ وَهَذِهِ الرَوْعَةُ قَد اعْتَرَتْ جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِسْلَام وَبَعْدَهُ فَمِنْهُمْ من أَسْلَمَ لَهَا لَأوّل وَهْلَةٍ وَآمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ من كَفَرَ، فَحُكِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِم قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شئ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) إلى قوله (المصيطرون) كَادَ قَلْبِي أنْ يطِيرَ لِلِإسْلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي، وَعَنْ عُتْبَةَ بن رَبِيعَة أنَّهُ كَلَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ من خِلَافَ قَوْمه فَتَلَا عَلَيْهِم (حم) فصلت إِلَى قوله (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عاد وثمود) فَأَمْسَكَ عُتْبَةَ بِيَدِهِ عَلَى فِي النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم وناشده

_ (قوله هشاشة) في الصحاح هي الارتياح والخفة للمعروف (قوله للشجا) يقال شجاه يشجوه إذا أحزنه، وفى المجمل شجاني أطر بنى (*)

(فصل) ومن وجوه إعجازه المعدودة كونه آية باقية

الرَّحِمَ أنْ يَكُفَّ وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَعُتْبَةُ مُصْغٍ مُلْقٍ يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدٌ عَلَيْهَمَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ عُتْبَةُ لَا يَدْرِي بم يُرَاجِعُهُ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى قَوْمِهِ حَتَّى أَتَوْهُ فَاعْتَذَرَ لَهُمْ وَقَالَ والله لقد كلمتي بِكَلَامٍ والله مَا سَمِعْتُ أذنايَ بِمِثْلِهِ قَطُّ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ لَهُ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ رَامَ مُعَارَضتَهُ أنَّهُ اعْتَرتْهُ رَوْعَةٌ وَهَيْبَةٌ كَفَّ بِهَا عَنْ ذَلِكَ فَحُكِيَ أَنَّ ابن المُقَفَّعِ طَلَبَ ذَلِكَ وَرَامَهُ وَشَرَعَ فِيهِ فَمَرَّ بِصَبِيٍّ يَقْرَأُ (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) فرجع فمحى مَا عَمِلَ وَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَارَضُ وَمَا هُوَ من كَلَامِ الْبَشَرِ وَكَانَ من أَفصْحِ أَهْلِ وَقْتِهِ وَكَانَ يَحْيَى بن حَكَم الْغَزَالُ بَلِيغَ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَنِهِ فَحُكِيَ أنَّهُ رَامَ شَيْئًا من هَذَا فَنَظَرَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ليَحْذُوَ عَلَى مِثَالِهَا وَيَنْسُجَ بِزَعْمِهِ عَلَى مِنْوَالِهَا قَالَ فَاعْتَرَتْنِي مِنْهُ خَشْيَةٌ ورفة حَمَلَتْنِي عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَة. (فصل) وَمِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ الْمَعْدُودَةِ كَوْنُهُ آيَةً باقِيَةً لَا تُعْدَمُ مَا بَقِيتِ الدُّنْيَا مَعَ تَكَفُّلِ اللَّه تَعَالَى بِحِفْظِهِ فَقَالَ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وَقَالَ (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خلفه) الآيَةَ وَسَائِرُ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ انْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ أوْقَاتِهَا فَلَمْ يَبْقَ إلا

_ (قوله ابن المقفع) ضبطه ابن ماكولا بضم الميم وفتح القاف وتشديد الفاء بعدها مهملة ولم يتعرض لحركة الفاء (قوله الغزال) بفتح الغين المعجمة والزاى مخففة (قوله الأندلس) المشهور فيه فتح الهمزة والدال ويقال أيضا بضمها (*)

(فصل) وقد عد جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوها كثيرة

خَبَرُهَا وَالْقُرْآنُ الْعَزِيزُ البَاهِرَةُ آيَاتُهُ الظَّاهِرَةُ مُعْجِزَاتُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ مدة خمسمائة عام وَخَمْسٍ وَثَلاثِينَ سنة لَأوّل نُزُولِهِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا حُجَّتُهُ قَاهِرَةٌ وَمُعَارَضَتُهُ ممتنعة الأعصار كُلّها طَافِحَةٌ بِأَهْلِ الْبَيَانِ وَحَملّةِ عِلْمِ اللّسَانِ وَأَئِمَّةِ الْبَلَاغَةِ وَفُرْسَانِ الْكَلَامِ وَجَهَابِذَةِ الْبَرَاعَةِ وَالْمُلْحِدُ فِيهِمْ كثير والمعادى للشرح عَتِيدٌ فَمَا مِنْهُمْ من أتى بشئ يوثر فِي مُعَارَضَتِهِ وَلَا أَلَّفَ كَلِمَتَيْنِ فِي مُنَاقَضَتِهِ وَلَا قَدَر فِيهِ عَلَى مَطْعَنٍ صَحِيحٍ وَلَا قَدَحَ الْمُتَكَلّفُ من ذِهْنِهِ فِي ذَلِكَ إلَّا بِزَنْدٍ شَحِيحٍ بَل الْمَأْثُورُ عَنْ كُلِّ من رَامَ ذلك إلْقَاؤُهُ فِي الْعَجْزِ بِيَدَيْهِ وَالنُّكُوصُ عَلَى عقيبه (فصل) وَقَدْ عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَمُقَلَّدِي الْأُمَّةِ فِي إِعْجَازِهِ وُجُوهًا كَثيرَةً مِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّهُ وَسَامِعَهُ لَا يَمُجُّهُ بَل الْإِكْبَابُ عَلَى تلَاوَتِهِ يَزِيدُهُ حَلاوَةٌ وتَرْدِيدُهُ يُوجب لَهُ مَحَبَّةً لَا يَزَالُ غَضًّا طَرِيًّا وَغَيْرُهُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَوْ بَلَغَ فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ مَبْلَغَهُ يُمَلُّ مَعَ التَّرْدِيدِ وَيُعَادَى إذَا أُعِيدَ وَكِتَابُنَا يُسْتَلَذُّ بِهِ فِي الْخَلَوَاتِ وَيُؤْنَسُ بِتِلَاوَتِهِ في الأزلمات وسواء مِنَ الْكُتُبِ لَا يُوجَدُ فِيهَا ذَلِكَ حَتَّى أَحْدَثَ أَصْحَابُهَا لَهَا لُحُونًا وَطُرُقًا

_ (قوله إلا بزند) بفتح الزاى وسكون النون، في الصحاح وهو موصل طرف الذراع في الكف وهما زندان الكوع والكرسوع، والزند أيضا العود الذى يقدح به النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهى الأنثى انتهى (قوله في الأزمات) الأزمة بفتح الهمزة وسكون الزاى: الشدة (*)

يَسْتَجْلِبُونَ بِتِلْكَ اللُّحُونِ تَنْشِيطَهُمْ عَلَى قِرَاءَتِهَا وِلِهَذَا وَصَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ بِأنَّهُ لَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدّ وَلَا تَنْقَضِي عِبَرُهُ وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلمَاءُ وَلَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ حين سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد) وَمِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومِ وَمَعَارِفَ لَمْ تَعْهَدِ الْعَرَبُ عَامّةً وَلَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ خَاصَّةً بِمَعْرِفَتِهَا وَلَا الْقِيَامِ بِهَا وَلَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ من عُلمَاءِ الْأُمَم وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا كِتَابٌ من كُتُبِهِمْ فَجُمِعَ فِيهِ من بَيَانِ عِلْمِ الشَّرَائِعِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طُرُق الْحُجَجِ الْعَقْليَّاتِ وَالرَّدّ عَلَى فِرقِ الْأُمَم بِبَرَاهِينَ قَويّةٍ وَأَدِلَّةٍ بَيّنَةٍ سَهْلَةِ الْأَلْفَاظِ مُوجَزَة الْمَقَاصِدِ رَامَ الْمُتَحَذْلِقُونَ بَعْدَ أَنْ يَنْصِبُوا أَدِلَّةً مِثْلَهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى (أَو لَيْس الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلَى) و (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) و (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) إِلَى مَا حَوَاهُ من عُلُومِ السّيَرِ وَأَنْبَاءِ الْأُمَم وَالْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَأَخْبَار الدَّار الآخِرَةِ وَمَحَاسِنِ الآدَابِ وَالشِّيَمِ قَالَ اللَّه جَلَّ اسْمُهُ (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ من شئ) (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تبيانا لكل شئ) ، (ولقد

_ (قوله لا يخلق) بفتح أوله وضم ثالثة أو بضم أوله وكسر ثالثه، في الصحاح خلق الثوب بالضم خلوقة أي بلى وأخلق الثوب مثله وأخلقته أنا يتعدى ولا يتعدى (قوله المتحذلقون) بالحاء المهملة يقال حذلق الرجل وتحذلق إذا أظهر الحذلق وادعى أكثر مما عنده. (*)

ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وقال صلى الله عليه وسلم: أن اللَّه أنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ آمِرًا وَزَاجِرًا وَسُنَّةً خَالِيَةً وَمَثَلًا مضروبة فِيهِ نَبَؤْكُمْ وَخَبَرُ ما كَانَ قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ لَا يُخْلِقُهُ طُولُ الرَّدّ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الْحَقُّ لَيْسَ بِالْهَزْلِ من قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ خَاصَمَ بِهِ فَلَجَ وَمَنْ قَسَمَ بِهِ أَقْسَطَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيمٍ وَمَنْ طَلَبَ الْهُدَى من غَيْرِهِ أضَلَّهُ اللَّه وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّه، هُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ وَالنُّورُ الْمُبِينُ وَالصّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَحَبْلُ اللَّه الْمَتِينُ وَالشّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَة لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةٌ لِمَن اتّبَعَهُ، لَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمَ وَلَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا يُخْلِقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدّ، وَنَحْوَهُ عَنِ ابن مَسْعُودٍ وَقَالَ فِيهِ وَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَشَانُّ، فيه نَبَأ الْأَوّلِينَ وَالآخرِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم (إنَّي مُنَزّلٌ عَلَيْكَ تَوْرَاةً حَدِيثَةً تَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عميا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا فِيهَا يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَفَهْمُ الْحِكْمَةِ وَرَبِيعُ القلوب)

_ (قوله فلج) بفتح الفاء واللام وبعدهما جيم، في الصحاح الفلج الظفر والفوز (قوله أقسط) أي عدل وأما قسط فمعناه جار وحكى يعقوب في كتاب الأضداد أنه يأتي أيضا بمعنى عدل (قوله وَحَبْلُ اللَّه الْمَتِينُ) من المتانة وهى القوة وقال ابن الأثير حبل الله نور هداه وقيل عهده وأمانه الذى يؤمن من العذاب والحبل العهد والميثاق انتهى (قوله ولا يتشان) بشين معجمة وفى آخره نون مخفف من الشنآن بفتحج النون وإسكانها مهموز وهو البغض: شنأه أبغضه، قال الهروي وابن الأثير وفي حديث ابن مسعود في صفة القرآن ولا يتشان معناه لا مخلق عَلَى كَثْرَةِ الرَّدّ، مأخوذ من الشن (*)

وعن كعب (عليكم بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ فَهْمُ الْعُقُولِ وَنُورُ الْحِكْمَةِ) وَقَالَ تعالى (إن هذا القرآن يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وَقَالَ (هَذَا بَيَانٌ للناس وهدى) الآية، فَجُمِعَ فِيهِ مَعَ وَجَازَةِ أَلْفَاظِهِ وَجَوَامِعِ كَلِمِهِ أَضْعَافُ مَا فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ الَّتِي أَلْفَاظُهَا عَلَى الضِّعْفِ مِنْهُ مَرَّاتٍ * وَمِنْهَا جَمْعُهُ فِيهِ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَمَدْلُولِهِ وَذَلِكَ أنَّهُ احْتَجَّ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ وَصْفِهِ وَإيجَازِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَأَثْنَاءَ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ فَالتَّالِي لَهُ يَفْهَمُ مَوْضِعَ الْحُجَّةِ وَالتَّكْلِيفِ مَعًا من كَلَامٍ وَاحِدٍ وَسُورَةٍ مُنْفَرِدَةٍ * وَمِنْهَا أَنْ جَعَلَهُ فِي حَيّزِ الْمَنْظُوم الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ وَلَمْ يَكُنْ فِي حَيِّزِ الْمَنْثُورِ لِأَنَّ الْمَنْظُومَ أسْهَلُ عَلَى النُّفُوسِ وَأَوْعَى لِلْقُلُوبِ وَأَسْمَعُ فِي الآذَانِ وَأَحْلَى عَلَى الْأفْهَامِ فَالنَّاسُ إليْهِ أَمْيَلُ وَالْأَهْوَاءُ إليْهِ أَسْرَعُ * وَمِنْهَا تَيْسِيرُهُ تَعَالَى حِفْظَهُ لِمُتَعَلّمِيهِ وَتَقْرِيبُهُ عَلَى مُتَحَفَّظِيهِ قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن للذكر) وَسَائِرُ الْأُمَم لَا يَحْفَظُ كُتُبَهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَكَيْفَ الْجَمَّاءُ عَلَى مُرُورِ السِّنِينَ عَلَيْهِمْ وَالْقُرْآنُ مُيَسَّرٌ حِفْظُهُ لِلْغِلْمَانِ فِي أَقْرَبِ مُدَّةٍ * وَمِنْهَا مُشَاكَلَةُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ بَعْضًا وَحُسْنُ ائتِلافِ أنْوَاعِهَا والتيئام أَقْسَامِهَا وَحُسْنُ التَّخَلُّصِ من قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى والْخُرُوجِ من بَابٍ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهِ وَانقِسَامِ السُّورَةِ الوَاحِدَةِ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ وَوَعْدٍ وَوعِيدٍ وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةٍ وَتْوحِيدٍ وَتَفريدٍ وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ من فَوَائِدِهِ دُونَ خَللٍ يَتَخَلَّلُ فسوله، وَالْكَلَامُ الفْصِيحُ إذَا اعْتَوَرَهُ مِثْلُ هَذَا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ

فصل انشقاق القمر وحبس الشمس

وَلانْتَ جَزَالتُهُ وَقَلَّ رَوْنَقُهُ وَتَقَلْقَلتْ أَلْفَاظُهُ: فَتَأمَّلْ أَوَّلَ (ص) وَمَا جُمِعَ فِيهَا من أَخْبَارِ الْكُفَّارِ وَشقاقِهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ بِإِهْلَاكِ الْقُرُونِ من قَبْلِهِمْ وَمَا ذُكِرَ من تَكْذِيبِهْم بِمُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَجُّبِهِمْ مِمَّا أَتى بِهِ وَالْخَبَرِ، عَنِ اجْتِمَاعِ مَلئِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْحَسَدِ فِي كَلامِهِمْ وَتَعْجِيزِهِمْ وَتَوْهِينِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِخِزْيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَتَكْذِيبِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ وَإهْلَاكِ اللَّهِ لَهُمْ وَوَعِيدِ هَؤْلَاءِ مِثْلَ مُصَابِهِمْ وَتَصْبِيرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَذَاهُمْ وَتَسْلِيَتهِ بِكُلّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكر دَاوُدَ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، كُلُّ هَذَا فِي أوْجَزِ كَلَامٍ وَأَحْسَنِ نِظَامٍ وَمِنْهُ الْجُمْلَةُ الْكَثِيرَةُ التي انْطَوتْ عَلَيْهَا الْكَلِمَاتُ الْقَلِيلَةُ وَهَذَا كُلُّهُ وَكَثِيرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أنَّهُ ذُكِرَ فِي إِعْجَاز الْقُرْآنِ إِلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الأثمة لم نَذْكُرْهَا إِذْ أَكْثَرُهَا دَاخِلٌ فِي بَابِ بَلاغَتِهِ فَلَا. نُحِبُّ أَنْ يُعَدَّ فَنًّا مُنْفَرِدًا فِي إِعْجَازهِ إلَّا فِي باب تَفْصِيلِ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكِرَهُ عَنْهُمْ يُعَدُّ فِي خَوَاصِّهِ وَفَضَائِلِهِ لَا فِي إِعْجَازِهِ، وَحَقِيقَةُ الْإِعْجَازِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ التي ذَكَرْنَا فَلْيُعْتَمَد عَلَيْهَا وَمَا بَعْدَهَا من خَوَاصّ الْقُرْآنِ وَعَجَائِبِهِ التي لَا تَنْقَضِي والله وَلَيُّ التَّوْفِيقِ فصل انشقاق القمر وحبس الشمس قَالَ اللَّه تَعَالَى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا

وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أَخْبَرَ تَعَالَى بِوُقُوعِ انْشِقَاقِهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَإِعْرَاضِ الْكَفَرَةِ عَنْ آيَاتِهِ وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ مِنْ كِتَابِهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي سِرَاجُ بْنُ عَبُدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْأَصِيلِيُّ حَدَّثَنَا المَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وسُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةٌ دُونَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْهَدُوا، وَفِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بَعْض طُرُقِ الْأَعْمَشِ بِمِنى وَرَوَاهُ أيْضًا عَنِ ابن مَسْعُودٍ الْأَسْوَدُ وَقَالَ حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَل بَيْنَ فُرْجَتَي الْقَمَرِ وَرَوَاهُ عَنْهُ مَسْرُوقٌ أَنّهُ كَانَ بِمَكَّةَ وَزَادَ فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ سَحَرَكُمُ ابن أَبِي كَبْشَةَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إنَّ مُحَمَّدًا إنْ كَانَ سَحَرَ الْقَمَرَ فَإنَّهُ لَا يَبْلُغُ من سِحْرِهِ أَن يَسْحَرَ الْأَرْضَ كُلَّهَا فَاسْألُوا من يَأتِيكمْ من بَلَدٍ آخَرَ هَلْ رَأَوْا هَذَا فَأتَوْا فَسَألُوهُمْ

_ (قوله مسدد) قال ابن الجوزى هو ابن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن ارندل ابن سرندل بن عرندل بن ماسك بن المستورة الأسدى (قوله عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ) بفتح الميم وسكون العين المهملة عبد الله بن سخبرة بفتح السين المهملة وسكون الخاء المعجمة (قوله فرجتى القمر) يقال بينهما فرجة بضم الفاء أي انفراج وأما بفتح الفاء فالتفصى عن الهم (قوله عَنِ ابْنِ أَبِي كبشة) قيل أبو كبشة رجل تأله قديما وفارق دين الجاهلية وعبد الشعرى فشبهت المشركون النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وقيل كانت له عليه السلام أخت من الرضاعة تسمى كبشة وكان أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ يكنى بها وقيل كان (*)

فَأَخْبَرُوهُم أَنَّهُمْ رَأَوْا مِثْلَ ذَلِكَ وَحَكَى السَّمْرَقَنْدِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ نَحْوَهُ وَقَالَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ هَذَا سِحْرٌ فَابْعَثُوا إِلَى أَهْلِ الآفَاقِ حَتَّى تَنْظُرُوا أَرَأَوْا ذَلِكَ أَمْ لَا فَأخْبَرَ أَهْلُ الآفَاقِ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مُنْشَقًّا فقالوا يعنى الكافر هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرّ وَرَوَاهُ أيْضًا عَنِ ابن مَسْعُودٍ عَلْقَمَةُ فَهُؤلَاءِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَبدِ اللَّه وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ ابن مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ ابن مَسْعُودٍ مِنْهُمْ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاس وَابْنُ عمر وَحُذَيْفَةُ وَعَلِيٌّ وجُبَيْر بن مُطْعِمٍ فَقَالَ عَلِيّ من رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ الْأَرْحبِيّ انْشَقّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * وَعَنْ أَنَسٍ سَألَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءَ بَيْنَهُمَا، وراه عَنْ أَنَسٍ قَتَادَةُ * وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَر وَغَيْرِهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْهُ أَرَاهُمُ الْقَمَرَ مَرَّتَيْنِ انْشِقَاقَهُ فَنَزَلَتْ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القمر) وَرَوَاهُ عَنْ جُبَيْر بن مُطْعِمٍ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَابْنُ ابْنِهِ جُبَيْر بن مُحَمَّدٍ وَرَوَاهُ عَنِ ابن عَبَّاسٍ عُبَيْد اللَّه بن عَبُدَ اللَّه بن عُتْبَةَ وَرَوَاهُ عَنِ ابن عُمَرَ مُجَاهِدٌ وَرَوَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَبُو عبد

_ في أجداده لأمه من يكنى بذلك (قوله الأرحبى) بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الحاء المهملة بعدها باء موحدة وباء للنسبة إلى قبيلة من همدان، وقيل إلى مكان (قوله حراء) بكسر المهملة تمد وتقصر وتذكر وتأنث جبل على ثلاثة أميال من مكة (قوله مرتين) قال ابن قيم الجوزية في كتابه إغائة اللهفان أن المرات مراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى وأكثر ما يستعمل في الأفعال، وأما الأعيان فكما جاء في الحديث انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مرتين أي فلقتين ولما خفى هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين ولم يقع (*)

الرَّحْمنِ السُّلَمِيُّ ومُسْلِم بن أَبِي عِمْرَانَ الْأَزْدِيّ وَأَكْثَرُ طُرُقِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ وَالآيَةُ مُصَرّحَةٌ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى اعْتِرَاضِ مَخْذُولٍ بِأنَّهُ لَوْ كان هذا لم يخف عل أَهْل الْأَرْضِ إِذْ هو شئ ظَاهِرٌ لِجَمِيعِهِمْ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ أَهْل الْأَرْضِ رَصَدُوهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَوْهُ انْشَقَّ وَلَوْ نُقِلَ إلينا عَمَّنْ لَا يَجُوزُ تَمالُؤُهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ لَمَا كَانَتْ عَلَيْنَا بِهِ حُجَّةٌ إِذْ لَيْسَ الْقَمَرُ فِي حَدِّ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ عَلَى الآخَرِينَ وَقَدْ يَكُونُ من قَوْمٍ بِضِدّ مَا هُوَ من مُقَابِلِهِمْ من أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَوْ يَحُولُ بَيْنَ قَوْمٍ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ أَوْ جِبَالٌ وَلِهَذَا نَجِدُ الْكُسُوفَاتِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ دُونَ بَعْضٍ وَفِي بَعْضِهَا جُزْئِيَّةٌ وَفِي بَعْضِهَا كُلّيّةٌ وَفِي بَعْضِهَا لَا يَعْرِفُهَا إلَّا المُدَّعُونَ لِعِلْمِهَا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَآيَةُ الْقَمَرِ كَانَتْ ليلا وَالْعَادَةُ مِنَ النَّاسِ بِاللَّيْلِ الْهُدُوُّ وَالسُّكُونُ وَإِيجَافُ الْأَبْوَابِ وَقَطْعُ التَّصَرُّفِ وَلَا يَكَادُ يَعْرِفُ من أُمُورِ السَّمَاءِ شَيْئًا إلَّا من رَصَدَ ذَلِكَ وَاهْتَبَلَ بِهِ وَلِذَلِكَ مَا يَكُونُ الْكُسُوفُ الْقَمَرِيُّ كَثِيرًا فِي الْبلَادِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُ بِهِ حَتَّى يُخْبَرَ وَكَثِيرًا مَا يُحَدّثُ الثَّقَاتُ بِعَجَائِبَ يُشَاهِدُونَهَا من أَنْوَارٍ وَنُجُومٍ طَوَالِعَ عِظَامٍ تَظْهَرُ فِي الأحْيَانِ بِاللّيْلِ فِي السَّمَاءِ وَلَا عِلْمَ عند أَحَدٍ مِنْهَا * وَخَرَّجَ الطحاوي في

_ الانشقاق إلا مرة واحدة (قوله وإيجاف) بكسر الهمزة وسكون المثناة التحتية وتخفيف الجيم مصدر أوجف أو أغلق (قوله واهتبل) بمثناة فوقية مفتوحة (*)

مُشْكِلِ الْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ من طَرِيقَيْنِ أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَلَّيْتَ يَا عَلِيُّ قَالَ لَا فَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَرَأَيْتُهَا غربت ثم رأيتها طَلَعت بَعْدَ مَا غَرَبَتْ وَوَقَفَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خيْبَرَ قَالَ وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ * وَحَكى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَحْمَد بن صَالِحٍ كَانَ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لمن سبله الْعِلْمُ التَّخَلُّفُ عَنْ حِفْظِ حَدِيث أَسْمَاءَ لِأَنَّهُ من عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ * وَرَوَى يُونُسُ بن بُكَيْرٍ فِي زيادَةِ المَغَازِي رِوَايَتَهُ عن ابن إسحق لَمّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِالرُّفْقَةِ وَالْعَلَامَةِ التي فِي العِيرِ قالوا متى تجئ قَالَ يَوْمَ الْأرْبِعَاءِ فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أشرفت

_ بعدها موحدة مفتوحة أي تخيل (قوله عن أسماء بنت عميس) بضم العين المهملة وفى آخره سين مهملة قال ابن الجوزى في الموضوعات حديث رد الشمس في قصة على موضوع بلا شك (قوله بالصهباء) ممدودة موضع على مرحلة من خير (قوله في العير) بكسر العين المهملة هي القافلة من الإبل والدواب تحمل الطعام وغيره من التجارات ولا يسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك (قوله يوم الأربعاء) بتثليث الموحدة والأجود كسرها كذا في المحكم وقد حبست الشمس ليوشع وللنبِيّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم في صبيحة ليلة الإسراء وفى يوم من أيام الخندق كما ذكره المصنف في غير الشفاء وفى قصة عَلِيٍّ فِي حَدِيث أسماء وحبست لداود كما ذكره الخطيب في كتاب النجوم، وضعف رواية ثقله عنه مغلطاى في سبرته وحبست لسلمان كما ذكره البغوي في سورة ص (*)

فصل في نبع الماء من بين أصابعه وتكثير ببركته

قُرَيْشُ يَنْظُرُونَ وَقَدْ وَلَّى النَّهَارُ وَلَمْ تجئ فَدَعَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِيدَ لَهُ فِي النَّهَارِ سَاعَةً وفحبست عَلَيْهِ الشَّمْسُ. فصل فِي نبع الماء من بين أصابعه وتكثير ببركته أَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا فَكَثِيرَةٌ جِدًّا رَوَى حَدِيث نَبْعِ الْمَاءِ من أَصَابعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ أَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي عِيسَى بْنُ سَهْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عمر ابن الفَخَّارِ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا مالك عن إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الله ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أن يتوضؤا مِنْهُ قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الناس حتى توضؤا مِنْ عِنْدَ آخِرِهِمْ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ قَتَادَةُ وَقَالَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ أَوْ لَا يَكَادُ يَغْمُرُ قَالَ كَمْ كُنْتُمْ قال زهاء ثلاثمائة وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وهم بالزوراء

_ (قوله ثنا أبو عيسى ثنا يحيى) الصواب حدثنا أبو عيسى ثنا أبو عبيد الله بن يحيى عن أبيه يحيى لأن أبا عيسى إنما يروى عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه (قوله بوضوء) بفتح الواو وقد تضم (قوله ينبع) بتثليث الموحدة (قوله زهاء) بضم الزاى والمد أي قدر (قوله بالزوراء) بالفتح والمد مكان قريب من المسجد قال الداودى مرتفع كالمنار (*)

عِنْدَ السُّوقِ وَرَوَاهُ أَيْضًا حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ وَالْحَسَنُ عَنْ أَنَسٍ وَفِي رِوَايَةِ حُمَيْدٍ قُلْتُ كَمْ كَانُوا قَالَ ثَمَانِينَ رَجُلًا وَنَحْوَهُ عَنْ ثَابِتٍ عَنْهُ وَعَنْهُ أيْضًا وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا * وَأَمَّا ابن مَسْعُودٍ فَفِي الصَّحِيحِ من رِوَايَةِ عَلْقَمَةَ عَنْهُ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ. مَعَنَا مَاءٌ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْلُبُوا من مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِي إنَاءٍ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ من بَيْنِ أَصَابعِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ سَالِمِ بن أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَطشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وَأَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ وَقَالُوا لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ إلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ فَوَضَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُور من بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ وَفِيهِ فَقُلْتُ كم كنتم قال لو كنا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا: كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ أنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ * وَفِي رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بن عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ عَنْهُ فِي حَدِيث مُسْلِمٍ الطّوِيلِ فِي ذِكْرِ غَزْوَةِ بُوَاطٍ قَالَ قَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا جَابرُ نَادِ الْوضُوءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَأنَّهُ لَمْ يَجِدْ إلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ

_ (قوله فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ) العزلاء بفتح العين المهملة وسكون الزاى والمد فم المزادة الأسفل والجمع عزاى بكسر اللام وفتحها، والشجب بفتح الشين المعجمة وسكون الجيم وفى آخره موحدة: ما قدم من القرب مثل الشن (*)

(فصل) ومما يشبه هذا من معجزاته تفجير الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته

فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَمَزَهُ وَتَكَلَّمَ بشئ لَا أَدْرِي مَا هُوَ وَقَالَ نَادِ بِجَفْنَةِ الرَّكْبِ فَأَتَيْتُ فوضعتها بَيْنَ يَدَيْهِ وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَسَطَ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ وَصَبَّ جَابِرٌ عَلَيْهِ وَقَالَ بِسْمِ اللَّه قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ من بَيْنِ أَصَابِعِهِ ثم فارته الْجَفْنَةُ وَاسْتَدَارَتْ حَتَّى امْتَلَأتْ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالاسْتِقَاءِ فَاسْتَقَوا حَتَّى رَوُوا فَقُلْتُ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ وَهِيَ مَلْأَى * وَعَنِ الشَّعْبِيّ أُتِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ بِإِدَاوَةِ مَاءٍ وَقِيلَ مَا مَعَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاءٌ غَيْرَهَا فَسَكَبَهَا فِي رَكْوَةٍ وَوَضَعَ إِصْبَعَهُ وَسَطَهَا وَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ وَجَعَلَ النَّاسُ يَجِيئُونَ ويتوضؤن ثُمَّ يَقُومُونَ، قَالَ الترْمِذيّ وَفِي الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ وَمِثْلُ هَذَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الْحَفِلَةِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ لَا تَتَطَرَّقُ التُّهْمَةُ إِلَى الْمُحَدَّثِ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ شئ إِلَى تَكْذِيبِهِ لِما جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ من ذَلِكَ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ، فَهَؤْلَاءِ قَدْ رَوَوْا هَذَا وَأَشَاعُوهُ وَنَسَبُوا حُضُورَ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ لَهُ وَلَمْ ينْكِرْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِم مَا حَدَّثُوا بِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَشَاهَدُوهُ فَصَارَ كَتَصْدِيقِ جَمِيعِهِمْ لَهُ (فصل) وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا من مُعْجِزَاتِه تَفْجِيرُ الْمَاءِ بِبَرَكَتِهِ وَابْتعاثِهِ بِمسّهِ وَدَعْوَتِهِ * فِيمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوطَّأ عَنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ فِي قِصَّةِ غَزْوةِ

_ (قوله ثُمَّ فَارَتِ الْجَفْنَةُ واستدارت) في صحيح مسلم ثم قارب الجفنة ودارت (قوله بإداوة) بكسر الهمزة وتخفيف الدال المهملة أي مطهرة (*)

تَبُوكَ وَأَنَّهُمْ وَرَدوا الْعَيْنَ وَهِيَ تَبِضُّ بشئ من مَاءٍ مِثْلِ الشراك فغرفوا مِنَ الْعَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شئ ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْههُ وَيَدَيْهِ وَأَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ فَاسْتَقَى النَّاسُ قَالَ فِي حَدِيث ابن إِسْحَاق فَانْخَرَقَ من الماء ماله حِسّ كَحِسّ الصَّوَاعِقِ ثُمَّ قَالَ: يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ ملئ جِنَانًا * وَفِي حَدِيث الْبَرَاءِ وَسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ وَحَدِيثُهُ أَتَمُّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَبِئْرُهَا لَا تَرْوِي خَمْسِينَ شَاةً فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَاهَا قَالَ البراء وأتى بدلوا مِنَّا فَبَصَقَ فَدَعَا وَقَالَ سَلَمَةُ فَإِمَّا دَعَا وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا فَجَاشَتْ فَأَرْوَوْا أنْفُسَهُمْ وَرِكَابَهُمْ وَفِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الرّوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ من طَرِيقِ ابن شِهَابٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَأَخْرَجَ سَهْمًا من كِنَانَتِهِ فَوضَعَهُ فِي قَعْرِ قَلِيبٍ لَيْسَ فِيهِ ماءٌ فَرَوِيَ النَّاسُ حَتَّى ضَرَبُوا بِعَطَنٍ * وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَذَكَرَ أَنَّ النَّاسَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

_ (قَوْله تبص) من البصيص بالصاد المهملة وهو البريق واللمعان وبالضاد المعجمة القطر والسيلان القليل (قوله خمسين شاة) قال المزى المعروف عند أهل الحديث خمسين أشاة والأشاة النخلة الصغيرة (قوله على جباها) بفتح الجيم وتخفيف الموحدة والقصر أي ما حول فمها (قوله فجاشت) بالجيم والشين المعجمة أي فارت وارتفعت (قوله حَتَّى ضَرَبُوا بِعَطَنٍ) أي رووا ورويت إبلهم حتى بركت لأن عطن الابل مباركها وذلك حول الماء حتى تعاد إلى الشرب (*)

وَسَلَّمَ الْعَطَشَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَدَعَا بِالْمِيضَأةِ فَجَعلَهَا فِي ضِبْنِهِ ثُمَّ الْتَقَمَ فَمَهَا فَالله أَعْلَمُ نَفَثَ فِيهَا أَمْ لَا فَشَرِبَ النَّاسُ حتى رووا وملوا كُلَّ إنَاءٍ مَعَهُمْ فَخُيّلَ إِلَيَّ أنَّهَا كَمَا أَخَذَهَا مِنّي وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسبْعِينَ رَجُلًا، وَرَوَى مِثْلَهُ عِمْرَانُ بن حُصَيْن وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم ممدا لأهل مؤتة عند ما بلغه قتل الأمراء وذكر حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ معجزات وآيات للنبي صلى اللَّه عليه وسلم وَفِيهِ إعْلَامُهُمْ أَنَّهُمْ يَفْقِدُونَ الْمَاءَ فِي غَدٍ وَذَكَرَ حَدِيث الْمِيضَأَةِ قَالَ وَالْقَوْمُ زُهَاءُ ثلثمائة وَفِي كِتَابِ مُسْلِم أنَّهُ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ احْفَظْ عَلَيَّ ميضأتك فإله سَيكُونُ لَهَا نَبَأ وَذَكَرَ نَحْوَهُ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ حِينَ أصَابَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَطَشٌ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِمْ فَوَجَّهَ رَجُلَيْنِ من أَصْحَابِهِ وأعلمها أَنَّهُمَا يَجِدَانِ امْرَأةً بمِكَانِ كَذَا مَعَهَا بغير عَلَيْهِ مَزَادَتَانِ الْحَدِيثَ فوجداها وأتيابها إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ فِي إنَاءٍ من مزادتيها

_ (قوله بالميضأة) بكسر الميم وسكون المثناة التحتية وفتح الضاد المعجمة وهمزة: هي آلة الوضوء (قوله ضبنه) بكسر الضاد المعجمة وسكون الموحدة بعدها نون فهاء للضمير، والضبن ما بين الكشح إلى الإبط قاله الخطابى في غريب الحديث (قوله نفث) أي نفخ لا ريق معه (قوله لأهل مؤتة) بضم الميم وسكون الهمزة وقد تبدل واوا (قوله والقوم زهاء) قال المزى: الوجه نصب زهاء ولكن أهل الحديث يرفعونه (قوله وجه رجلين) هما عمير بن حصين وَعَلِيُّ بن أَبِي طالب (قوله مزادتان) المزادة بفتح الميم وتخفيف الزاى أكبر من القربة قال ابن قرقول وقيل ما زيد فيه جلد ثالث بين جلدين لتبيع (19 - 1) (*)

وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّه أنْ يَقُولَ ثُمَّ أَعَادَ الْمَاءَ فِي الْمَزَادَتَيْنِ ثُمَّ فُتِحَتْ عَزَاليهِمَا وأمر الناس فملؤا أَسْقِيَتَهُمْ حَتَّى لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا إلَّا ملؤه قَالَ عِمْرَانُ وَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَمْ تزداد إلَّا امْتِلَاءً ثُمَّ أَمَرَ فَجُمِعَ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْأَزْوَادِ حَتَّى مَلَأ ثَوْبَهَا وَقَالَ الذهبي فَإنَّا لَمْ نَأْخُذْ من مَائِكِ شَيْئًا وَلَكِن الله سقايا - الْحَدِيثَ بِطُولِهِ - وَعَنْ سَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ: قَالَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ من وُضُوءٍ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَفِي حَدِيث عُمَرَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ وَذَكَرَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَطَشِ حَتَّى إنَّ الرَّجلَ لَينْحَرُ بَعِيرهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ فَرَغِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَت السَّمَاءُ فَانْسَكَبَتْ فملؤا مَا مَعَهُمْ من آنِيَةٍ وَلَمْ تُجَاوِزِ الْعَسْكَرَ وَعَنْ عَمْرو بن شُعَيْبٍ أَنَّ أبَا طَالِبٍ قَالَ للنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَدِيفُهُ بِذِي الْمَجَازِ عَطِشْتُ وَلَيْسَ عِنْدِي مَاءٌ فَنَزَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبَ بِقَدَمِهِ الْأَرْضَ فَخَرَجَ الْمَاءُ فَقَالَ اشْرَبْ وَالْحَدِيثُ في هذا الباب الكثير وَمِنْهُ الْإِجَابَةُ بِدُعَاءِ الاستسقاء وما جالسه.

_ (قوله فيها نطفة) أي شئ يسير (قوله ندغفقه) من الدغفقة بالدال المهملة فالغين المعجمة والفاء فالقاف وهى الصب الشديد (قوله فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ) يعنى غزوة تبوك (قوله بذى المجاز) بالميم المفتوحة والجيم المخففة والزاى سوق عند عرفة من أسواق الجاهلية (*)

فصل ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه

فصل وَمِنْ معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا العذري حدثنا الرازي حَدَّثَنَا الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا سلمة ابن شَبِيبٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَطْعِمُهُ فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيٍر فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُ حَتَّى كَالَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَوْ لم تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ وَلقَامَ بِكُمْ * وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث أَبِي طَلْحَةَ الْمَشْهُورُ وَإِطْعَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِينَ أَوْ سَبْعِينَ رَجُلًا من أقراص من شَعِيرٍ جَاءَ بِهَا أَنَسٌ تَحْتَ يَدِهِ أَيْ إِبْطِهِ فأمر بها فقتت وَقَالَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّه أَنْ يَقُولَ، وَحَدِيث جَابِرٍ فِي إِطْعَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَلْفَ رَجُلٍ من صَاعِ شَعِيرٍ وَعَنَاقٍ وَقَالَ جَابِرٌ فَأُقْسِمُ بِالله لأكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ فِي الْعَجِينِ وَالْبُرْمَةِ وَبَارَكَ، رَوَاهُ عَنْ جَابِر سَعِيدُ بن مِينَاءَ وَأَيْمَنُ وَعَنْ ثَابِتٍ مِثْلَهُ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتِهِ وَلَمْ يُسَمّهِمَا قَالَ وجئ بِمِثْلِ الْكَفّ فَجَعَلَ

_ (قوله ابن مينا) بكسر الميم والمد أو القصر (قوله وأيمن) هو أيمن الحبشى المكى والد عبد الواحد بن أمين مَوْلَى ابْنِ أَبِي عمرة المخزومى وَفِي كِتَاب ابن حيان إنه أيمن بن أُمّ أيْمَن مَوْلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد بأن أيمن بن أم أيمن قتل في حنين (*)

رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْسُطُهَا فِي الْإنَاءِ وَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَكَلَ مِنْهُ مَنْ فِي الْبَيْتِ وَالْحُجْرَةِ وَالدَّارِ وَكَانَ ذَلِكَ قَدِ امْتَلَأَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ وَبَقِيَ بَعْدَ مَا شَبِعُوا مِثْلُ مَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ، وَحَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ أنَّهُ صَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَلِأَبِي بَكْرٍ من الطغام زُهَاءَ مَا يَكْفَيهِمَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادْعُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَشْرَافِ الْأَنْصَارِ فَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا ثُمَّ قَالَ ادْعُ سِتِّينَ فَكَانَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ ادْعُ سَبْعِينَ فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَمَا خَرَجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى أَسْلَمَ وَبَايَعَ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَأَكَلَ من طَعَامِي مِائَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا، وَعَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ أُتِي النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقصْعَةٍ فيها لخم فَتَعَاقَبُوهَا من غُدْوةٍ حَتَّى اللَّيْلِ يَقُومُ قَوْمٌ ويَقْعُدُ آخَرُونَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث عَبْد الرَّحْمنِ بن أَبِي بَكْر كُنَّا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أنَّهُ عُجِنَ صَاعٌ من طَعَامٍ وَصُنِعَتْ شَاةٌ فَشُوِيَ سَوَادُ بَطْنِهَا قَالَ وَأيْمُ اللَّه مَا مِنَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ إلَّا وَقَدْ حَزَّ لَهُ حَزَّةً من سَوَادِ بَطْنِهَا ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا قَصْعَتَيْنِ فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ وَفَضلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ

_ (قوله بقصعة) بفتح القاف (قوله سواد بطنها) هو الكبد وقيل حشوا البطن كله (قوله حزة) بضم الحاء المهملة وتشديد الزاى: القطعة المحزوزة وبفتح الحاء المرة من الحز (قوله وفضل) قال الصنمرى فضل يفضل بفتح العين في المعاضى وضمها في المستقبل من الفضل وهو السؤدد وبالكسر في الماضي والفتح في المستقبل من الفضلة وهى بقية الشئ وفى الصحاح فضل منه شئ مثل دخل يدخل وفيه لغة أخرى فضل يفضل مثل حذر يحذر (*)

فَحَمَلْتُهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث عَبْدِ الرَّحْمنِ بن أَبِي عَمْرَة الْأَنْصَارِيّ عَنْ أَبِيهِ وَمِثْلُهُ لِسَلَمَةَ بن الْأَكْوَعِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بن الْخطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَذَكَرُوا مَخْمَصَةً أَصَابَتِ النَّاس مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض مَغَازِيهِ فَدَعَا بِبَقِيَّةِ الْأَزْوادِ فَجَاءَ الرَّجُلُ بِالْحَثْيةِ مِنَ الطَّعَامِ وَفَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْلَاهُمُ الَّذِي أَتَى بِالصَّاعِ مِنَ التَّمْرِ فَجَمَعَهُ عَلَى نِطْع قَالَ سَلَمَةُ فَحَزَرْتُهُ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ ثُمَّ دَعَا النَّاسَ بِأَوْعيتِهِمْ فَمَا بَقِيَ فِي الْجَيْشِ وِعَاء إلا ملؤوه وَبَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ مَا جُعِلَ وَأَكْثَرُ وَلَوْ وَردَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ لَكَفَاهُمْ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمَرَنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أدعوا لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَتَتَبَّعْتُهُمْ حَتَّى جَمَعْتُهُمْ فَوُضِعَتْ بَيْنَ أَيْدِينَا صَحْفَةٌ فَأَكَلْنَا مَا شِئْنَا وَفَرَغْنَا وَهِيَ مِثْلُهَا حِينَ وُضِعَتْ إلا أنا فِيهَا أَثَرَ الْأَصَابعِ، وَعَنْ عَلِيّ بن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ جَمَعَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبد المُطَّلِبْ وَكَانُوا أَرْبَعِينَ مِنْهُمْ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجَذَعَةَ وَيَشْرَبُونَ الْفَرْقَ فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا من طَعَامٍ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبعُوا وَبَقِيَ كَمَا هُوَ ثُمَّ دَعَا

_ (قوله مخمصة) أي مجاعة (قوله بالحثية) بفتح الحاء المهملة من حثى يحثا (قوله على نطع) يجوز فيه فتح النون وكسرها مع سكون الطاء وفتحها فهذه أربع لمات أفضحها كسر النون وفتح الطاء (قوله كربضة) بفتح الراء وسكون الموحدة قال ابن دريد بكسر الراء يقال ربضت الغنم تربض بالكسر وربوضا وهو من البقر والعم والفرس والكلب مثل البروك من الإبل والجثوم من الطير (قوله أهل الصفة) في صحيح الْبُخَارِيّ من حديث أبي هريرة لقد رأيت سبعين من أهل الصفة وعد أبوهم في الحليلة منهم مائة ونيفا وفى عوارف المعارف السهروردى إنهم كانوا نحو أربعمائة (*)

بعص فَشَرِبُوا حَتَّى رُوُوا وَبَقِيَ كَأنَّهُ لَمْ يُشْرَبْ مِنْهُ وَقَالَ أَنَسٌ إنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ابْتَنَى بِزيْنَب أَمَرَهُ أنْ يَدْعُو لَهُ قَوْمًا سَمَّاهُمْ وَكُلَّ من لَقِيتَ حَتَّى امْتَلأ الْبَيْتُ وَالْحُجْرَةُ وَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ تَوْرًا فِيهِ قَدْرُ مُدّ من تَمْرٍ جُعِلَ حَيْسًا فَوَضَعَهُ قُدَّامَهُ وَغَمَسَ ثَلَاثَ أَصَابِعِهِ وَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَغَدَّوْنَ وَيَخْرَجُونَ وَبَقِيَ التَّوْرُ نَحْوًا مِمَّا كَانَ وَكَانَ الْقَوْمُ أَحَدًا أَو اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَوْ مِثْلِهَا إنَّ الْقَوْمَ كانوا زهاء ثلثمائة وَإِنَّهُمْ أَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَقَالَ لِي ارْفَعْ فَلَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رُفِعَتْ وَفِي حَدِيثِ جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ طَبَخَتْ قِدْرًا لِغَدائِهِمَا وَوَجَّهَتْ عَلِيًّا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَغَدَّى مَعَهُمَا فَأَمَرَهَا فَغَرَفَتْ مِنْهَا لِجَمِيعِ نِسَائِهِ صَحْفَةً صَحْفَة ثُمَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعَلِيّ ثُمَّ لَهَا ثُمَّ رَفَعَتِ القِدْرَ وَإنَّهَا لَتَفِيضُ قَالَتْ فَأَكَلْنَا مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّه * وَأَمَرَ عُمَرَ بن الخطاب

_ (قوله بعس) بضم العين وتشديد السين المهملتين هو قدح ضخم (قوله ابتنى) ترتيب المعروف إن ذلك لما ابتنى بصفية وفى شرح مسلم للمصنف إن الراوى أدخل قصة في قصة (قوله تور) بالمثناة الفوقية وهو إناء شبه قدح من حجارة (قوله حيسا) بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها سين مهملة هو تمر وسمن وأقط وقال ابن الصلاح هو التمر ينزع نواه ويخلط بالسويق (قوله يتغدون) من الغداء بفتح الغين المعجمة والدال المهملة والمد هو الطعام نفسه خلاف العشاء لما في صحيح مسلم فدعا بعد ارتفاع النهار وأما الغذاء بكسر الغين وبالذال المعجمتين والمد هو ما يتغذى به من الطعام والشراب (*)

أن يزود أَرْبعمائَةِ رَاكِبٍ من أَحْمَسَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هِيَ إلَّا أَصوُعٌ قَالَ اذْهَبْ فَذَهَبَ فَزَوَّدَهُمْ مِنْهُ وَكَانَ قَدْرَ الْفَصِيلِ الرَّابِضِ مِنَ التَّمْرِ وَبَقِيَ بِحَالِهِ من رِوَايَةِ دُكَيْنٍ الْأَحْمَسِيّ وَمِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ وَمِثْلُهُ من رِوَايَةِ النُّعْمَانِ بن مُقَرّنٍ الْخَبَرُ بِعَيْنِهِ إلَّا أنَّهُ قَالَ أَرْبعمائَةِ رَاكِبٍ من مُزَيْنَةَ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث حابر فِي دَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ كَانَ بَذَلَ لِغُرَمَاءِ أَبِيهِ أَصْلَ مَالِهِ فَلَمْ يَقْبَلُوهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي ثَمَرِهَا سَنَتَينِ كَفَافُ دَيْنِهِمْ فجاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أنْ أمره بحدها وَجَعْلِهَا بيادر فِي أَصُولِهَا فَمَشَى فِيهَا وَدَعَا فَأوْفَى مِنْهُ جَابِرٌ غُرَمَاءَ أَبِيهِ وَفَضَلَ مِثْلُ مَا كَانُوا يَجِدُّونَ كُلَّ سَنَةٍ وَفِي رِوَايَة مِثْل مَا أَعْطَاهُمْ قَالَ وَكَانَ الْغُرَمَاءُ يَهُودَ فَعَجِبُوا من ذَلِكَ) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَصَابَ النَّاس مَخْمَصَةٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ من شئ قلت نعم شئ مِنَ التَّمْرِ فِي الْمِزْوَدِ قَالَ فَأْتِنِي بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ. فَأَخْرَجَ قَبْضَةً فَبَسَطَهَا وَدَعَا بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ ادْعُ عَشَرَةً فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ عَشَرَةً كَذَلِكَ حَتَّى أَطْعَمَ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ وَشَبِعُوا قَالَ خُذْ مَا جِئْتَ بِهِ وَأَدْخِل

_ (قوله أصوع) بضم الواو جمع صاع وفى الصحاح وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزة (قوله دكين) بضم الدال المهملة وفتح الكاف هو ابن سعيد بفتح السين ويقال بضمها ويقال ابن سعد له صحبة وحديث في أبى داود في الأدب (قوله يجدها) بالجيم والدال المهملة أي قطعها ومنه ثوب جديد بمعنى مجدود كأنه حين جده الجائد أي قطعه (قوله في المزود) بكسر الميم وسكون الزاى ما يجعل فيه الزاد (قوله بقبضة) بفتح القاف: المرة، وبضمها: الشئ المقبوض (*)

يَدَكَ وَاقْبِضْ مِنْهُ وَلَا تَكُبّهُ فَقَبَضْتُ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا جِئْتُ بِهِ فَأَكَلْتُ مِنْهُ وَأَطْعَمْتُ حَيَاةَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى أنْ قُتِلَ عُثْمَانُ فَانْتُهِبَ مِنّي فَذَهَبَ وَفِي رِوَايَة فَقَدْ حَمَلْتُ من ذَلِكَ التَّمْر كَذَا وَكَذَا من وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّه وَذُكِرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنَّ التَّمْرَ كَانَ بِضْعَ عَشْرَةَ تَمْرَةً وَمِنْهُ أيْضًا حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ أَصَابَهُ الْجُوعِ فَاسْتَتَبَعَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ قَدْ أُهْدِيَ إليْهِ وَأَمَرَهُ أنْ يَدْعُو أَهْل الصُّفّةِ قَالَ فَقُلْتُ مَا هَذَا اللَّبَنُ فِيهِمْ كُنْتُ أَحَقَّ أنْ أُصِيبَ مِنْهُ شَرْبَةً أَتَقوَّى بِهَا فَدَعَوْتُهُمْ وَذَكَرَ أَمْرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أنْ يَسْقِيهُمْ فَجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجْلَ فَيَشْرَبَ حَتَّى يَرْوى ثُمَّ يَأْخُذُهُ الآخَرُ حَتَّى رَوِيَ جَمِيعُهُمْ قَالَ فَأَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَدَحَ وَقَالَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ اقْعُدْ فَاشْرَبْ فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ اشْرَبْ وَمَا زَالَ يَقُولُهَا وَأَشْرَبُ حَتَّى قُلْتُ لَا وَالذِي بَعثَكَ بِالْحَقّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّه وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ وَفِي حَدِيث خَالِد بن عَبد الْعُزَّى أنَّهُ أَجْزَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً وَكَانَ عِيالُ خَالِدٍ كثيرا

_ (قوله إِلَى أنْ قُتِلَ عثمان) كان في سنة خمس وثلاثين (قوله أَجْزَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً) بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الزاى بعدها راء قال ابن السكيت يقال أجزرت القوم إذا أعطيتهم شاة يذبحونها نعجة أو كبشا أو عنزا قَالَ وَلَا يَكُونُ الجزوة إلا من الغنم ولا يقال أجزرتهم ناقة لأنها قد تصلح لغير الذبح (*)

يَذْبَحُ الشَّاةَ فَلَا تُبِدُّ عِيَالَهُ عَظْمًا وَإنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ من هَذِهِ الشَّاةِ وَجَعَلَ فَضْلَتَهَا فِي دَلْوِ خَالِدٍ وَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ فَنَثَرَ ذَلِكَ لِعِيَالِهِ فَأَكَلُوا وَأَفضَلُوا ذَكَرَ خَبَرَهُ الدُّولَابِي وَفِي حَدِيث الآجُرّيّ فِي إِنْكَاحِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ فَاطِمَةَ أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِقَصْعَةٍ من أَرْبَعَةِ أَمْدَادٍ أَوْ خمسة ويذبح جوزرا لوليتها قَالَ فَأَتَيْتُهُ بِذَلِكَ فَطَعَنَ فِي رَأْسِهَا ثُمَّ أَدْخَلَ النَّاسِ رُفْقَةً رُفْقَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا حَتَّى فَرغُوا وَبَقِيتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ فَبَرَّكَ فِيهَا وَأَمَرَ بِحَمْلِهَا إِلَى أَزْوَاجِهِ وَقَالَ كُلْنَ وَأَطْعمْنَ من غَشِيَكُنَّ وَفِي حَدِيث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَنَعَتْ أُمّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ضَعْهُ وَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا وَمِنْ لَقِيتَ فَدَعَوْتُهُمْ وَلَمْ أَدَعْ أَحَدًا لَقيتُهُ إلَّا دَعَوْتُهُ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا زُهَاءَ ثلثمائة حتى ملؤوا الصُّفَّةَ وَالْحُجْرَةَ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَلَّقُوا عَشْرَةً عَشْرةً وَوَضَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَدَعَا فِيهِ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّه أنْ يَقُول فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا كُلُّهُمْ فَقَالَ لِي ارْفَعْ فَمَا أَدْرِي حِينَ وُضِعَتْ كَانَتْ أَكْثَرَ أَم حِينَ رُفِعَتْ وَأَكْثَرُ أَحَادِيثِ هَذِهِ الْفُصُولِ الثَّلاثَةِ فِي الصَّحِيحِ وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى مَعْنَى حَدِيث هذا الفضل بِضْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصحابة رواه

_ (قوله تبد) بضم المثناة الفوقية وكسر الموحدة، في الصحاح والتبدة بالكسر النصيب يقول منه أتبدهم العطاء أي أعطى كل واحد منهم تبده أي نصيبه (*)

فصل (في كلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته)

عَنْهُمْ أَضْعَافُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ ثُمَّ من لَا يَنْعَدُّ بَعْدَهُمْ وَأَكْثَرُهَا فِي قِصَصٍ مَشْهُورَةٍ وَمَجَامِعَ مَشْهُودَةٍ وَلَا يَسْكُتُ الْحَاضِرُ لَهَا عَلَى مَا أُنْكِرَ مِنْهَا فصل (في كلام الشجر وشهادتها لَهُ بالنبوة وإجابتهَا دعوته) قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَلْبُونَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ فِيمَا أجازينه عَنْ أَبِي عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ المُهَنْدِسِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَويِّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن عمران الأخلمى حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ وَكَانَ صَدُوقًا عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ فَدَنَا مِنْهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ يَا أَعْرَابِيُّ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ إِلَى أَهْلِي قَالَ هَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى مَا تَقُولُ قَالَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ السَّمُرَةُ وَهِيَ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَاسْتَشْهَدَهَا

_ (قوله فيما أجازنيه) هذه لغة حكاها ابن فارس والمعروف أجازه لى (قوله عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ البغوي) هو الحافظ الكبى المسند، البغوي الأصل مولده سنة أربع عشرة وعاش مائة وثلاث سنين (قوله أبو حيان) بفتح الحاء المهملة بعدها مثناة تحتية مشددة وعن البزى إنه سقط بين أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ الأحنسى وبين أبى حيان التيمى رجل ولعله يكون مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ثم قال بل هُو مُحَمَّد بن فضيل فانه يرويه عنه وأما الأحنسى فلم يدرك أبا حيان (قوله السمرة) بضم الميم شجرة من شجر الطلح (قوله تخد) بضم الخاء المعجمة أي تشق (*)

ثَلَاثًا فَشَهِدَتْ أنَّهُ كَمَا قَالَ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، وَعَنْ بُرَيْدَةَ سَألَ أَعْرَابِيّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً فَقَالَ لَهُ قُلْ لِتِلْك الشَّجَرَةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يدعوك قال فمالت الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهِا وَشِمَالِهَا وَبَيْنَ يَدَيْهَا وَخَلْفَهَا فَتَقَطَّعَتْ عُرُوقُهَا ثُمَّ جَاءَتْ تَخُدُّ الْأَرْض تَجُرُّ عُرُوقَهَا مُغْبَرَّةً حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّه قَالَ الْأَعْرَابِيُّ مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَنْبَتِهَا فَرَجَعَتْ فَدَلَّتْ عُرُوقَها فَاسْتَوَتْ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ ائْذَنْ لِي أَسْجُدْ لَكَ قَالَ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا قَالَ فَأذن لِي أَنْ أُقَبّلَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ فَأذِنَ لَهُ، وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بن عَبدِ اللَّه الطَّوِيلِ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا بِشَجَرَتَيْنِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ من أَغْصَانِهَا فَقَالَ انْقَادِي عَليَّ بِإذْنِ اللَّه فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ وَذَكَرَ أنَّهُ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْل ذَلِكَ حَتَّى إذَا كَانَ بِالْمَنْصِفِ بَيْنَهُمَا قَالَ الْتَئِمَا عَليَّ بِإذْنِ اللَّه فَالْتَأمَتَا وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فَقَالَ يَا جَابِرُ قُلْ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ يَقُولُ لَكَ رَسُولُ الله

_ (قوله المخشوش) بخاء وشينين معجمات هو البعير يجعل في أنفه الخشاش بكسر الخاء المعجمة وهو عود يربط عليه حبل ويدخل في عظم أنف البعير لينقاد (قوله بالمنصف في الصحاح والمصنف بالفتح نصف الطريق والمنصف بالكسر: الخادم، هذا قول الأصمعى. (*)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحقِي بِصَاحِبتكِ حَتَّى أَجْلِسَ خَلْفَكُمَا فَزَحَفَتْ حَتَّى لَحِقَتْ بِصَاحِبَتِهَا فَجَلَسَ خلفها فَخَرَجْتُ أَحضِرُ وَجَلَسْتُ أُحَدّثُ نَفْسِي فَالْتَفتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا والشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْفَةً فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا يَمِينًا وَشِمَالًا وَرَوَى أُسَامَةُ بن زَيْدٍ نَحْوَهُ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ هَلْ يَعْنِي مَكَانًا لِحَاجَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنَّ الْوَادِي ما فيه مواضع بِالنَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَرَى من نَخْلٍ أَوْ حِجَارَةٍ قُلْتُ أَرَى نَخَلَاتٍ مُتَقَارِبَاتٍ قَالَ انْطَلِقْ وَقُلْ لَهُنَّ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَأْتِينَ لِمَخْرَجِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْ لِلْحجَارَةِ مِثْل ذَلِكَ فَقُلْتُ ذَلِكَ لهن فو الذى بَعَثَهُ بِالحَقّ لَقَدْ رَأيْتُ النَّخَلَاتِ يَتَقَارَبْنَ حَتَّى اجْتَمَعْنَ وَالْحِجَارَةَ يَتَعَاقَدْنَ حَتَّى صِرْنَ رُكَامًا خَلْفَهُنَّ فَلَمّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ لِي قُلْ لَهُنَّ يفترقن فو الذى نَفْسِي بِيَدِهِ لَرَأَيْتُهُنَّ وَالْحِجَارَة يَفْتَرقْنَ حَتَّى عُدْنَ إلى مواضعتهن * وَقَالَ يَعْلَى بن سباية كنت مع النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ وَذَكَرَ نَحْوًا من هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ وَذَكَرَ فأمر

_ (قوله أحضر) هو بضم الهمزة وكسر الضاد مضارع أحضر بفتحها إذا عدى قال في الصحاح يقال أحضر الفرس والغلام إحضارا واحتضر أي عدوا واستحضرته أي أعديته (قوله يَعْلَى بن سَيَّابَةَ) بفتح السين المهملة وتخفيف التحتية وهو ابن مرة أبو المرازم وسيابة أمه ولهم أيضا بعلى بن أمية التيمى وهو يعلى بن منية ومنية أمه وهو أيضا صحابي (*)

وَدِيَّتَينِ فَانْضَمَّتا وَفِي رِوَايَةِ أَشَاءَتَيْنِ وَعَنْ غَيْلَانَ بن سَلَمَةَ الثَّقَفِيّ مِثْلهُ فِي شَجَرَتَيْنِ وَعَنِ ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ مِثْلهُ فِي غَزَاةِ حُنَيْنٍ وَعَنْ يَعْلَى بن مُرَّةَ وَهُوَ ابن سَيَّابَةَ أيْضًا وَذَكَرَ أَشْيَاءَ رَآهَا من رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَنَّ طَلْحَة أوْ سَمُرَة جَاءَتْ فَأَطَافَتْ بِهِ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ إنَّهَا اسْتَأذَنَتْ أنْ تُسَلّمَ عَليَّ، وَفِي حَدِيث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آذَنَتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا لَهُ شَجَرَةٌ وَعَنْ مُجَاهِد عَنِ ابن مَسْعُودٍ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْجِنَّ قَالُوا من يَشْهَدُ لَكَ قَالَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ تَعَالَيْ يَا شَجَرَةُ فَجَاءَتْ تَجُرُّ عُرُوقَهَا لَهَا قَعَاقِعُ وَذَكَرَ مِثْلَ الْحَدِيثِ الأَوَّلِ أَوْ نَحْوَهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ فَهَذَا ابن عُمَرَ وَبُرَيْدَةُ وَجَابِرٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ ويَعْلَى بن مُرَّةَ وَأُسَامَةُ بن زَيْدٍ وَأَنَسُ بن مَالِكٍ وَعَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ نَفْسِهَا أو مَعْنَاهَا وَرَوَاهَا عَنْهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ أضافعهم فَصَارَتْ فِي انْتِشَارِهَا مِنَ الْقُوَّةِ حَيْثُ هِيَ، وَذَكَرَ ابن فُورَكٍ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سار

_ (قوله وديتين) الودية بفتح الواو وسكون الدال المهملة وفتح المثناة التحتية تثنية ودية وهى الصغيرة من الفسيل وهو صغار النخل (قوله أشاءتين) تثنية أشاءة بفتح الهمزة وفتح الشين المعجمة والمد وهى النخلة الصغيرة (قوله غيلان) بفتح المعجمة، توفى آخر خلافة عمر بن الخطاب قال المزى ليس في الرواة عيلان بالمهملة إنما هو بالمعجمة ولا يقال بالمهملة إلا في نسب مضر بن عيلان (قوله أن طلحه) هي واحدة الطلح وهو شجر عظم من شجر العضاء (قوله قعاقع) بقافين وعينين مهملتين حكاية صوت الصلاح (*)

فِي غَزوَةِ الطَّائِفِ لَيْلًا وَهُوَ وسِنٌ فَاعْتَرَضَتْهُ سِدْرَةٌ فَانْفَرَجَتْ لَهُ نِصْفَيْنِ حَتَّى جَازَ بَيْنَهُمَا وَبَقِيَتْ عَلَى سَاقَيْنَ إِلَى وقتنا هي هُنَاكَ مَعْرُوفَةٌ مُعَظَّمَةٌ * وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ حَزِينًا أَتُحِبُّ أنْ أُرِيكَ آيَةً قَالَ نَعَمْ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَجَرَةٍ من وَرَاءِ الْوَادِي فَقَالَ ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ فَعَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، وَعَنْ عَلِيّ نَحْو هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا جِبْرِيلَ قَالَ اللَّهُمَّ أَرِني آيَةً لَا أُبَالِي من كَذَّبَنِي بَعْدَهَا فَدَعَا شَجَرَةً مِثْلَهُ وَذَكَرَ، وحزنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ وطَلَبَهُ الآيَةَ لَهُمْ لَا لَهُ وَذَكَرَ ابن إِسْحَاق أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رَكَانَةَ مِثْلَ هَذِهِ الآيَةِ فِي شَجَرَةٍ دَعَاهَا فَأَتَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ارْجعِي فَرَجَعَتْ وَعَنِ الْحَسَنِ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم شكى إِلَى رَبّه من قَوْمِهِ وَأَنَّهُمْ يُخَوّفُونَهُ وَسَأَلَهُ آيَةً يَعْلَمُ بِهَا أَنْ لَا مَخَافَةَ عَلَيْهِ فَأُوحِيَ إليْهِ أَنِ ائْتَ وَادِي كَذَا فِيهِ شَجَرَةٌ فَادْعُ غُصْنًا

_ (قوله فِي غَزوَةِ الطَّائِفِ) كانت في السنة الثامنة بعد الفتح وبعد حنين (قوله وسن) بفتح الواو وكسر السين المهملة أي نعسان (قوله وحزنه صلى الله عليه وَسَلَّمَ لِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ) فَإِنّ قُلْت قَد سبق في حديث هِنْدَ بْنَ أَبِي هالة أن ابن القيم قال أنه صلى الله عليه وسلم لا يَجُوز أن يَكُون حزنه على الكفار لأن الله تعالى قد نهاه عنه قلت لعل الحزن الذى في الحديث المفسر هنا قبل النهى عن حزنه على الكفار على أن حزنه لتكذيب قومه لا يلزم أن يكون حزنا عليهم لجواز أن يكون لما نسبوه إليه مما هو معصوم منه وهو الكذب (*)

فصل في قصة حنين الجذع

منها يَأْتِكَ فَفَعَلَ فَجَاءَ يَخُطُّ الْأَرْض خَطًّا حَتَّى انْتَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَبَسَهُ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ قَالَ لَهُ ارْجِعْ كَمَا جِئْتَ فَرَجَعَ فَقَالَ يَا رَبّ عَلِمْتُ أَنْ لَا مَخَافَةَ عَليَّ * وَنَحْوٌ مِنْهُ عَنْ عُمَرَ وَقَالَ فِيهِ أَرنِي آيَةً لَا أُبَالِي من كَذَبَنِي بَعْدَهَا وَذَكَرَ نَحْوَهُ وَعَنِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَعْرَابِي أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ من هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللَّه قَالَ نَعَمْ فَدَعَاهُ فَجَعَلَ يَنْقُزُ حتى أَتَاهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَعَادَ إِلَى مَكَانِهِ وَخَرَّجَهُ الترْمِذيّ وَقَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيحٌ. فصل فِي قِصَّةِ حنين الجذع وَيَعْضُدُ هَذِهِ الْأَخْبَار حَدِيث أَنِينِ الجِذْعِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَشْهُورٌ مُنْتَشِرٌ والخَبَرُ بِهِ مُتَواتِرٌ قَدْ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَرَوَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعَةَ عَشَر مِنْهُمْ أُبَيُّ بن كَعْب وَجَابِرُ بن عَبُدَ اللَّه وَأَنَسُ بن مَالِكٍ وَعَبدُ اللَّه بن عُمَرَ وَعَبُدُ اللَّه بن عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بن سَعْدٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَبُرَيْدَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْمُطَّلِبُ بن أَبِي وَدَاعَةَ كُلُّهُمْ يُحَدّثُ بِمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث قَالَ الترْمِذيُّ وَحَدِيث أَنَسٍ صَحِيحٌ قَالَ جَابِرُ بن عَبدِ اللَّه كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعِ نَخْلٍ فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا

_ (قوله العذق) بكسر العين المهملة بعدها ذال معجمة: الكناسة وهو التمر بمنزلة العنقود من العنب كذا في الصحاح (قوله ينقز) بالقاف المضمومة والزاى أي ينبت صعدا (*)

خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا فَلَمّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ سَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ. وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ حَتَّى ارْتَجَّ الْمَسْجِدُ بِخُوَارِهِ وَفِي رِوَايَةِ سَهْلٍ وَكَثُرَ بُكَاءُ النَّاسِ لَمَّا رَأَوْا بِهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ وَأُبَيّ حَتَّى تَصَدَّعَ وَانْشَقَّ حَتَّى جَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَسَكَتَ، زَادَ غَيْرُهُ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا بَكَى لمَا فَقَدَ مِنَ الذّكْرِ وَزَادَ غَيْرُهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلتَزِمْهُ لَمْ يَزَلْ هَكَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ تَحَزُّنًا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُفِنَ تَحْتَ المِنْبَر كَذَا فِي حَدِيث المُطَّلِبِ وَسَهْلِ ابن سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ وَفِي بَعْض الرّوَايَاتِ عَنْ سَهْل فَدُفِنَتْ تَحْتَ منْبَرِهِ أو جُعِلَتْ فِي السَّقْفِ. وَفِي حَدِيث أُبَيّ فَكَانَ إذَا صَلَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى إليْهِ فَلَمّا هُدِمَ الْمَسْجِدُ أَخَذَهُ أُبيّ فَكَانَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ أَكَلَتْهُ الْأَرْضُ وَعَادَ رُفَاتًا. وَذَكَرَ الإسْفَرائِنيُّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إلى نفسه فجاءه يَخْرِقُ الْأَرْض فَالْتَزَمَهُ ثُمَّ أَمَرَهُ فَعَادَ إِلَى مَكَانِه. وَفِي حَدِيث بُرَيْدَةَ فَقَالَ يعني النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شِئْتَ أَرُدُّكَ إِلَى الْحَائِطِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ تَنْبُتُ لَكَ عُرُوقُكَ وَيَكْمُلُ خلقك

_ (قوله العشار) بكسر العين المهملة وتخفيف الشين المعجمة هي النوق الحوامل واحدها عشراء بضم العين وفتح الشين والمد، وقال ابن دريد هي التى أتى لحملها عشرة أشهر (قوله بخواره) هو بضم المعجمة وتخفيف الواو. الصوت للشاء والظى والبقر وبضم الجيم وفتح الهمزة صوت البقر والناس (*)

وَيُجَدَّدُ لَكَ خُوصٌ وَثَمَرَةٌ وَإِنْ شِئْتَ أَغْرِسكَ فِي الجَنَّةِ فَيَأْكُلُ أَوْلِيَاءُ اللَّه من ثَمَرِكَ، ثُمَّ أَصْغَى لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ فَقَالَ: بَلْ تَغْرِسُنِي فِي الجَنَّةِ فَيَأْكُلُ مِنّي أَوْلِيَاءُ اللَّه وَأَكُونُ فِي مَكانٍ لَا أَبْلَى فِيهِ فَسَمِعَهُ من يَلِيهِ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَعَلْتُ ثُمَّ قَالَ اخْتَارَ دَارَ الْبَقَاءِ عَلَى دَارِ الْفَنَاءِ فَكَانَ الحَسَنُ إذَا حَدَّثَ بِهَذَا بَكَى وَقَالَ يَا عِبَادَ اللَّه الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إليْهِ لِمَكَانِهِ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إِلَى لِقَائِهِ، رَوَاهُ عَنْ جَابِرٍ حَفْصُ بن عُبَيْد اللَّه وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّه بن حَفْصٍ وأيمن وأبو نضرة وابن المسيب وسعيد بن أبي كرب وكريب وأبو صالح ورواه عن أنس بن مالك الحسن وثابت وإسحاق بن أبي طلحة ورواه عن ابن عمر نافع وأبو حية ورواه أبو نضرة وَأَبُو الوَدَّاكِ عَن أَبِي سَعِيدٍ وَعَمَّارُ بن أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ وَأبُو حَازِمٍ وَعباسُ بن سَهْلٍ عَنْ سَهْل بن سَعْدٍ وَكَثِيرُ بن زَيْدٍ عَنِ المُطَّلِبْ وَعَبْدُ اللَّه بن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ والطُّفَيْلُ بن أبي عَنْ أَبِيهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الفضل وفقه الله فهذا

_ (قوله وأيمن) هو أيمن الحبشى مَوْلَى ابْنِ أَبِي عمرة المخزومى (قوله وأبو نضرة) بالنون والضاد المعجمة: اسمه المنذر بن مالك ولا نعلم أبو بصرة - بالموحدة والمهملة - إلا جميل الغفاري الصحابي وليس له شئ عن جابر (قوله وأبو حية) بفتح الحاء المهملة بعدها مثناة تحتية: الكلبى الكوفى (قوله وأبو حازم) بالحاء المهملة والزاى هو سلمة بن دينار الأعرج المدينى أحد الأعلام (قوله وعباس) بالموحدة والسين المهملة (قوله وكثير) بفتح الكاف وكسر المثلثة (قوله وعبد الله بن بريدة هو قاضى مرو وعاملها (قوله والطفيل) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء المخففة (20 - 1) (*)

فصل ومثل هذا في سائر الجمادات

حَدِيث كَمَا تَرَاهُ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصّحَّةِ من ذَكَرْنَا وَغَيْرهمْ مِنَ التَّابِعِينَ ضعْفهُمْ إِلَى من لَمْ نَذْكُرْهُ وَبِدُون هَذَا الْعَدَدِ يَقَعُ الْعِلْمُ لِمَنِ اعْتَنَى بِهَذَا الْبَابِ والله الْمُثَبّتُ عَلَى الصَّوَابِ. فصل ومثل هَذَا فِي سائر الجمادات حَدَّثَنَا القاضي أبو عبد الله محمد بن عِيسَى التَّيْمِيُّ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُرَابِطِ حَدَّثَنَا الْمُهَلَّبُ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ حَدَّثَنَا المَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا الفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنِ مَنْصُورٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَهُ، وَقَالَ أَنَسٌ أَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفًّا من حَصى فَسَبَّحْنَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حتى سمعت التَّسْبِيحَ ثُمَّ صَبَّهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَسَبَّحْنَ ثُمَّ فِي أيْدِينَا فَمَا سَبَّحْنَ * وَرَوَى مِثْلَهُ أَبُو ذَرّ وَذَكَرَ أَنَهُنَّ سَبَّحْنَ فِي كَفّ عُمَرَ وَعثمانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَالَ عَلِيٌّ كُنَّا بِمَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ نَوَاحِيهَا فما استقبله

_ (قوله أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) بضم الزاى وفتح الموحدة وهو محمد بن عبد الله بن الزبير نسب إلى جده (قوله إسرائيل) هو ابن يونس بن أَبِي إِسْحَاقَ السبيعى الكوفى (*)

شَجَرَةٌ وَلَا جَبَلٌ إلَّا قَالَ لَهُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه * وَعَنْ جابر بن سَمُرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنّي لِأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلّمُ عَلَيَّ، قِيلَ إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ * وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَمّا اسْتَقْبَلَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرّسَالَةِ جَعَلْتُ لَا أَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إلَّا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه. وَعَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ اللَّه لَمْ يَكُن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إلَّا سَجَدَ لَهُ. وَفِي حَدِيثِ الْعَبَّاسِ إذا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى بَنِيهِ بمُلَاءَةٍ وَدَعَا لهم بالسَّتْرِ مِنَ النَّارِ كَسَتْرِهِ إِيَّاهُمْ بمُلَاءَتِهِ فأمنت أسكفة الباب وَحوائط الْبَيْتِ آمِينَ آمِينَ. وَعَنْ جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيه مَرِض النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِطَبَقٍ فِيهِ رُمَّانٌ وَعِنَبٌ فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَّحَ. وَعَنْ أَنَسٍ صَعِدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعثمانُ أُحُدًا فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيّ وَصِدّيقٌ وَشَهِيدَانِ وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حرَاءٍ وَزَادَ مَعَهُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَقَالَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ أَوْ صدّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ وَالْخَبَرُ فِي حِرَاءٍ أيْضًا عَن عثمان قَالَ وَمَعَهُ عَشَرَةٌ مِن أصْحابِهِ أَنَا فِيهِمْ وَزَادَ عَبْدَ الرَّحْمنِ وسعدًا قَالَ ونَسِيتُ الاثْنَين. وَفِي حديث سعيد ابن زَيْد أيضا مِثْلُهُ وَذَكَرَ عَشَرَةً وَزَادَ نَفْسَهُ

_ (قوله قِيلَ إِنَّهُ الْحَجَرُ الأسود) قال السهيلي رُوِي فِي بَعْض المسندات إِنَّهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ (قوله بملاءة) بضم الميم والمد: الملحفة والجمع ملا (قوله أسكفة الباب) أي عتبته ويقال أسكوفة أيضا (*)

وقد روي أنه حين طلبته قريش قال له ثير اهبط يا رسول الله فإني أخاف أن يقتلوك عَلَى ظَهْرِي فيعذبين الله فمال حِرَاءٌ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّه. وَرَوَى ابن عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى المِنْبرِ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قدره) ثُمَّ قَالَ يُمَجّدُ الْجَبَّارُ نَفْسَهُ يَقُولُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ فَرَجَفَ الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا لَيَخرّنَّ عَنْهُ وَعَنِ ابن عَبَّاسٍ كَانَ حَوْلَ البيت ستون وثلثمائة ضم مُثْبَتَة الأرْجُلِ بِالرَّصَاصِ في الحجارة فأما دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَسْجِدَ عَامَ الْفَتْحٍ جَعَلَ يُشيرُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ إِلَيْهَا وَلَا يَمَسُّهَا وَيَقُولُ (جَاءَ الْحَقُّ وزهق الباطل) الآيَةَ فَمَا أَشَارَ إِلَى وَجْهِ صَنَم إلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ ولا لقفاه إلى وَقَعَ لِوَجْهِه حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ، وَمِثْلُهُ فِي حَدِيث ابن مَسْعُودٍ وَقَالَ فَجَعَلَ يَطْعَنُها وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُهُ مَعَ الرَّاهِبِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ إِذْ خَرَجَ تَاجِرًا مَعَ عَمّهِ وَكَانَ الرَّاهِبُ لَا يَخْرُجُ إِلَى أَحَدٍ فخرج وجعل

_ (قوله ثبير) بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة: جبل المزدلفة وللعرب جبال أربعة أخرى حجازية كل منها يسمى ثبيرا (قوله يطعنها) بضم العين المهملة وقد تفتح (قوله مع الراهب) هو بحيرى بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة والقصر قال الذهبي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم قبل المبعث وآمن به ذكره ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وقال السيهلى وقع في سيرة الزهري إنه كان حبرا من يهود تيما وفى المسعودي أنه كان من عبد القيس واسمه جرجس إِذْ خَرَجَ تَاجِرًا مع عمه، قيل لم يخرج عليه السلام في هذه المرة تاجرا وإنما خرج تاجرا بعد ذلك مع ميسرة غلام خديجة وفى هذه الخرجة لقى نسطور الراهب، ويمكن الجواب بأن (تاجرا) حال من عمه لا من الضمير المستتر في خرج (*)

فصل في الآيات في ضروب الحيوانات

بتخللهم حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذَا سَيّدُ العَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّه رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ من قُرَيْشٍ مَا عِلْمُكَ فَقَالَ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إلَّا خَرَّ سَاجِدًا لَهُ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا لِنَبِيّ وَذَكَرَ الْقِصَّة ثُمَّ قَالَ وَأَقْبَلَ صَلَّى اقله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه غَمَامَة تُظِلُّهُ فَلَمّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ سَبَقُوهُ إِلَى فئ الشَّجَرَةِ فَلَمّا جَلَسَ مال الفئ إليْهِ فصل فِي الآيات فِي ضروب الحيوانات حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ أَبُو الْحُسَيْنِ الحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا القاضى أبو يُونسَ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الصَّقَلِيُّ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أبِيهِ وَجَدِّهِ قالا حَدَّثَنَا أَبُو العَلَاءِ أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ حدثنا محمد ابن فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ عِنْدَنَا دَاجِنٌ فَإذَا كَانَ عِنْدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّ وَثَبَتَ مَكَانَهُ فلم يحئ وَلَمْ يَذْهَبْ وَإذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَذَهبَ، وَرُويَ عَنَ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَحْفَلٍ من أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ قَدْ صَادَ ضَبًّا فَقَالَ من هَذَا قَالُوا نَبِيُّ اللَّه فَقَالَ وَاللّاتِ وَالْعُزَّى لَا آمَنْتُ بِكَ أَوْ يُؤْمِن بِكَ هَذَا الضَّبُّ وَطَرَحَهُ بَيْنَ يَدَي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم

_ (قوله داجن) بالدال المهملة والجيم المكسورة: ما يألف البيت من الحيوان، يقال دجن فيه بيته إذا ألزمه (قوله في محفل) بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الفاء. أي مجتمع (*)

له ياضب، فَأَجَابَهُ بِلَسَانٍ مُبين يَسْمَعُهُ القَوْمُ جَمِيعًا لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا زَيْنَ من وَافَى الْقِيَامَة، قَالَ من تَعْبُدُ؟ قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ عَرْشُهُ وَفِي الْأَرْضِ سُلْطَانُهُ وَفِي الْبَحْرِ سَبِيلُهُ وَفِي الْجنةِ رَحْمَتُهُ وَفِي النَّارِ عِقَابُه: قَالَ فَمَنْ أَنَا؟ قَالَ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَقَدْ أَفْلَحَ من صَدَّقَكَ وَخَابَ من كَذَّبَكَ. فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ * وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ كَلَامِ الذَّئْبِ المَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: بَيْنَا رَاعٍ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ عَرَضَ الذَّئْبُ لِشَاةٍ مِنْهَا فَأَخَذَهَا مِنْهُ فَأَقْعَى الذَئبُ وَقَالَ لِلرَّاعِي أَلَا تَتَّقِي اللَّه حُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ رِزْقِي قَالَ الرَّاعِي الْعَجَبُ من ذِئْبٍ يَتَكَلَّمُ بِكَلَام الْإِنْسِ، فَقَالَ الذّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعَجَبَ من ذَلِكَ؟ رَسُولُ اللَّه بَيْنَ الحَرَّتَيْنِ يُحَدّثُ النَّاسَ بِأنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ، فَأَتَى الرَّاعِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قُمْ فَحَدّثْهُمْ، ثُمَّ قَالَ صَدَقَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ قِصَّة وَفِي بَعْضِهِ طُولٌ وَرُويَ حَدِيثُ الذّئْبِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ الذّئْبُ أَنْتَ أَعْجَبُ وَاقِفًا عَلَى غَنَمِكَ وَتَرَكْتَ نَبِيًّا لَمْ يَبْعَث اللَّه نَبِيًّا قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهُ عِنْدَهُ قَدْرًا قَدْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ وَأَشْرَفَ أَهْلُهَا عَلَى أَصْحَابِهِ يَنْظُرُونَ قِتَالَهُمْ وَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إلَّا هذا الشّعْبُ فَتَصِيرُ فِي جُنُودِ اللَّه، قَالَ الراعى من لى بِغَنَمِي؟ قَالَ الذّئْبُ أَنَا أَرْعَاهَا حَتَّى تَرْجِعَ فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ إليْهِ غَنَمَهُ وَمَضَى وذكر

_ (قوله بين الحرتين) تثنة حرة بفتح المهملة، وهى أرض ذات حجارة سود (قوله الشعب) بكسر الشين المعجمة ما يفرج بين الجبلين (*)

قِصَّتَهُ وَإِسْلَامَهُ وَوُجُودَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُدْ إِلَى غَنَمِكَ تَجِدْهَا بِوَفْرهَا فَوَجَدَهَا كَذَلِكَ وَذَبَحَ لذئب شَاةً مِنْهَا، وَعَنْ أُهْبَانَ بْن أَوْسٍ وَأنَّهُ كَانَ صَاحِبَ الْقِصَّةِ وَالْمُحَدّثَ بِهَا وَمُكَلّمَ الذّئْبِ وَعَنْ سَلَمَةَ بن عَمْرو بن الأَكْوَعِ وَأنَّهُ كَانَ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ أيْضًا وَسَبَبَ إِسْلَامِهِ بِمِثْلِ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ وَقَدْ رَوَى ابن وَهْبٍ مِثْلَ هَذَا أنَّهُ جَرَى لِأبي سُفْيَان بن حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ مَعَ ذِئْب وَجَدَاهُ أَخَذَ ظَبْيًا فَدَخَلَ الظَّبْيُ الْحَرَمَ فَانْصَرَفَ الذّئْبُ فَعَجبَا من ذَلِكَ فَقَالَ الذّئْبُ أَعْجَبُ من ذَلِكَ مُحَمَّدُ بن عَبْد اللَّه بِالْمَدِينَةِ يَدْعُوكُمْ إِلَى الْجَّنةِ وَتَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ ذَكَرْتَ هَذَا بِمَكَّةَ لَتَتْرُكَنّها خُلُوفًا، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ وَأنَّهُ جَرَى لَأبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ وَعَن عَباسِ بن مِرْدَاسٍ لَمّا تَعَجَّبَ من كَلَامِ ضِمَار صَنَمه وَإِنْشادِهِ الشّعْرَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا طَائِرٌ سَقَطَ فَقَالَ يَا عَبَّاسُ أَتَعْجَبُ من كَلَامَ ضِمَارٍ وَلَا تَعْجَبُ من نَفْسِكَ إنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَام وَأَنْتَ جَالِسٌ فَكَانَ سَبَبَ إِسْلَامِه، وَعَن جابر بن عبد الله رضي الله عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمَنَ بِهِ وَهُوَ عَلَى بَعْضِ حُصُون خَيْبَر وكان فِي غنم

_ (قوله خلوفا) بضم الخاء المعجمة واللام. من قولهم حى خلوف إذا غاب رجالهم وبقى نساؤهم أو من خلوف الفم تغيره (قوله ضمار) بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الميم وفى آخره راء (*)

يَرْعَاهَا لَهُمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ بِالْغَنَمِ قَالَ أَحْصِبْ وُجُوهَهَا فَإِنَّ اللَّه سَيُؤَدّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ وَيَرُدهَا إِلَى أَهْلِهَا فَفَعَلَ فَسَارَتْ كُلُّ شَاةٍ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى أَهْلِهَا، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِط أَنْصَارِي وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَفِي الْحَائِطِ غَنَمٌ فَسَجَدَتْ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ مِنْهَا - الْحَدِيثَ - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ دَخَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا فَجَاءَ بَعِيرٌ فَسَجَدَ لَهُ وَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْجَمَلِ عَنْ ثَعْلَبَةَ ابن مَالِكٍ وَجَابِرِ بن عَبْد اللَّه وَيَعْلَى بن مُرَّةَ وعَبْدِ اللَّه بن جَعْفَرٍ قَالَ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْحَائِطَ إلَّا شَدَّ عَلَيْهِ الْجَمَلُ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَوَضَعَ مِشْفَرَهُ عَلَى الْأَرْضِ وترك بَيْنَ يَدَيْهِ فَخَطَمَهُ وَقَالَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض شئ إلَّا يَعْلَمُ أَنَّي رَسُولُ اللَّه إلَّا عَاصِيَ الجن والإنس وَمِثْلُهُ عَنْ عَبْد اللَّه بن أَبِي أَوْفَى وَفِي خَبِرٍ آخَرَ فِي حَدِيثِ الْجَمَلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا ذَبْحَهُ وَفِي رِوَايَة أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ إنه شكى كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّة الْعَلَفِ، وَفِي رِوَايَة إنَّهُ شكى إلى أنكم

_ (قوله عن ثعلبة) قال المزى هو ثَعْلَبَةَ بن مَالِكٍ القرظى لا نعرف في الصحابة من إسمه ثَعْلَبَةَ بن مَالِكٍ غيره، قدم من اليمن على دين اليهود فنزل في بنى قريظة فنسب إليهم ولم يكن منهم (قوله مشفره) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة، في الصحاح المشفر من البعير كالجحفلة، من الفرس والجحفلة للحافر كالشفة للإنسان (*)

أَرَدْتُمْ ذَبْحَهُ بَعْدَ أنِ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ فِي شَاقّ الْعَمَلِ من صِغَرِهِ فَقَالُوا نَعَمْ وَقَدْ رُوِيَ فِي قصة العضباء وَكَلامِهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيفِهَا لَهُ بِنَفْسِهَا وَمُبَادَرَةِ الْعُشْبِ إِلَيْهَا فِي الرَّعْي وَتَجَنُّبِ الْوُحُوشِ عَنْهَا وَنِدَائِهِمْ لها إِنَّكَ لمُحَمَّد وَأنَّهَا لَمْ تَأْكُلْ وَلَمْ تَشْرَبْ بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى مَاتَتْ، ذَكَرَهُ الإسْفَرَائِنِيُّ، وَرَوَى ابن وَهْب أَنَّ حَمَامَ مَكَّةَ أَظَلَّتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِهَا فَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وزيدِ بن أَرْقَمَ وَالْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَرَ اللَّه لَيْلَةَ الغَارِ شَجَرَةً فنبتت تُجَاه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَتَرَتْهُ وَأَمَرَ حَمَامَتَيْنِ فَوَقَفَتَا بِفَمِ الْغَارِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ وَأَنَّ الْعَنْكَبُوتَ نَسَجَتْ عَلَى بَابِهِ فَلَمّا أَتَى الطَّالبُونَ لَهُ وَرَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لَمْ تَكُنِ الحَمَامَتَانِ بِبَابِهِ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَانْصَرَفُوا، وَعَنْ عَبْد اللَّه بن قُرْطٍ قُرّبَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ لِيَنْحَرَهَا يَوْمَ

_ (قوله وَقَدْ رُوِيَ فِي قصة العضبا) قيل العضبا والقصوى والجذعا ثلاثة أسماء والمسمى واحد وقيل إنهن ثلاث، وقيل الجذعا والقصوى واحد والعضبا أخرى (قوله أمر الله شجرة) قال قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ هي الراة، وَقَال أَبُو حَنِيفَة رحمه الله الراة من أعلا الشجر ويكون مثل قامة الإنسان ولها خيطان وهو أبيض يحشى منه المخاد ويكون كالريش لخفته ولينه لأنه كالقطن (قوله عبد الله بن قرط) بضم القاف قال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كان اسم عَبْد اللَّه فِي الجاهلية شيطانا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله (*)

عيد فاردلفن إليْهِ بِأَيّهِن يَبْدَأ وَعَن أُمّ سَلَمَةَ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحْرَاءَ فَنَادَتْهُ ظَبْيَةٌ يَا رَسُولَ اللَّه قَالَ مَا حَاجَتُك قَالَتْ صَادَنِي هَذَا الْأَعْرَابِيُّ وَلِي خِشْفَانِ فِي ذَلِكَ الجبل فَأَطْلقْنِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأرْضِعَهُمَا وَأَرْجِعَ قَالَ: أوَ تَفْعَلِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَأَطْلَقَهَا فَذَهَبَتْ وَرَجَعتْ فَأَوْثَقَهَا فَانْتَبَه الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ تُطْلِقُ هَذِهِ الظَّبْية، فَأطْلَقَهَا فَخَرَجَتْ تَعْدُو فِي الصَّحْرَاءِ وَتَقُولُ أَشْهَدُ أنْ لَا إِلهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّه، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ من تَسْخِيرِ الأسَدِ لِسَفِينَة مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ وَجَّهَهُ إِلَى مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فَلَقِيَ الأَسَدَ فَعَرَّفَهُ أنَّهُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ كِتَابُهُ فَهَمْهَمَ وَتَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ وَذَكَرَ فِي مُنْصَرفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ سَفِينَةً تَكَسَّرَتْ بِهِ فَخَرَج إِلَى جَزِيرَةٍ فَإِذَا الْأَسَدُ فَقُلْتُ أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَغْمِزُنِي بِمَنْكِبهِ حَتَّى أَقَامَنِي عَلَى الطَّرِيقِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بأُذُنِ شَاةٍ لِقَوْمٍ من عَبْدِ القَيْسِ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ ثُمَّ خَلَّاهَا فَصَارَ لَهَا ميسَمًا وَبَقِيَ ذَلِكَ الْأَثَرُ فِيهَا وَفِي نَسْلِهَا بَعْدُ وَمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بن حَمَّادٍ بسندِهِ من كَلَامِ الحِمَارِ الَّذِي أَصَابَهُ بخَيْبَر وَقَالَ لَهُ اسْمِي يَزِيدُ بن شهابٍ فَسَمَّاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعْفُورًا وَأنَّهُ كَانَ يُوَجّهُهُ إِلَى دُورِ اصحابه فيضرب

_ (قوله فازدلفن) بالزاى والفاء: أي تقربن (قوله من كَلَامِ الحِمَارِ) في سيرة مغلطاى كان له صلى الله عليه وسلم من الحمير يعفر وعفير ويقال هما واحد وآخر أعطاه سعد بن عبادة (*)

عَلَيْهِمُ الْبَابَ بِرَأْسِهِ وَيَسْتَدْعِيهِمْ وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا مَاتَ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ جَزَعًا وَحُزْنًا فَمَاتَ، وَحَدِيثُ النَّاقَةِ الَّتِي شَهدَتْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبهَا أنَّهُ مَا سَرَقَهَا وَأنَّهَا مِلْكُهُ، وَفِي حَدِيث الْعَنْزِ الَّتِي أَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَسْكَرِهِ وَقَدْ أَصَابَهُمْ عَطَشٌ وَنَزَلُوا على غير مَاءٍ وَهُمْ زُهَاء ثلثمائة فَحَلَبَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَرْوَى الْجُنْدَ ثُمَّ قَالَ لِرَافِعٍ أَمْلِكْهَا وَمَا أَرَاكَ فَرَبَطَهَا فَوَجَدَهَا قَد انْطَلَقَتْ، رَوَاهُ ابن قَانِعٍ وغيره، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ إنَّ الَّذِي جَاءَ بِهَا هُوَ الَّذِي ذَهَبَ بِهَا وَقَالَ لِفَرَسِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِه لَا تَبْرَحْ بَارَكَ اللَّه فِيكَ حَتَّى نَفْرُغَ من صَلَاتِنَا وَجَعَلَهُ قِبْلَتَهُ فَمَا حَرَّكَ عُضْوًا حَتَّى صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيلْتَحِقُ بِهَذَا مَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا وَجَّهَ رُسُلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فَخَرَجَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَأَصْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْقَوْمِ الذّينَ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا البابِ كَثِيرٌ وَقَدْ جِئْنَا مِنْهُ بِالْمَشْهُور وَمَا وَقَعَ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ.

_ (قوله لفرسه) الخيل المتفق عليها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ الدمياطي سبعة وقد نظمهما القاضى بدر الدين بن جماعة في بيت فقال والخيل سكب لجيف سبحة ظرب لزاز مرتجن ورد لها اسرار (*)

فصل في إحياء الموتى وكلامهم (وكلام الصبيان والمراضع وشهادتهم له بالنبوة صلى الله عليه وسلم)

فصل فِي إحياء الموتى وكلامهم (وكلام الصبيان والمراضع وشهادتهم لَهُ بالنبوة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بن أَحْمَد الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّد بن رُشْدٍ وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّه مُحَمَّدُ بن عِيسَى التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ سَمَاعًا وَإِذْنًا قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقْيَةَ عَنْ خَالِدٍ هُوَ الطَّحَّانُ عَنْ مُحَمَّدِ بن عمر وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً سَمَّتْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ فَقَالَ ارْفَعُوا أيْدِيَكُمْ فَإنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أنَّهَا مَسْمُومَةٌ فَمَات بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ وَقَالَ للهيودية مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لم بضرك الَّذِي صَنَعْتُ وَإنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ قَالَ فَأَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَنَسٌ وَفِيهِ قَالَتْ أرَدْتُ قَتْلَكَ فَقَالَ (مَا كَانَ اللَّه لِيُسَلّطك عَلَى ذَلِكَ) فقالوا: تقتلها قَالَ (لَا) وَكَذَلِكَ

_ (قوله عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عن أبي هريرة) قال المزى في الأطراف هكذا وقع هذا الحديث في رواية أبي سعيد ابن الأعرابي عن أبى داود وعندنا في الرواة عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّم، لَيْس فِيه عن أبي هريرة (قوله مصلية) بفتح الميم وسكون الصاد المهملة أي مشوبة (قوله بشر) بكسر الموحدة وسكون المعجمة هو ابن البراء ابن معرور. بفتح الميم وسكون العين المهملة (*)

رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ من رِوَايَةِ غَيْرِ وَهْبٍ قَالَ فَمَا عَرَضَ لَهَا، وَرَوَاهُ أيْضًا جَابِرُ بن عَبْد اللَّه وَفِيهِ أَخْبَرَتْنِي بِهِ هَذِهِ الذّرَاعُ قَالَ وَلَمْ يُعَاقِبْهَا وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ فَخْذَهَا تُكَلّمُنِي أنَّهَا مَسْمُومَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أبى سلمة ابن عَبْد الرَّحْمنِ قَالَتْ إِنّي مَسْمُومَةٌ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْخَبَرَ ابن إِسْحَاقَ وَقَالَ فِيهِ فَتَجَاوَزَ عَنْهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الآخرِ عَنْ أَنَسٍ أنَّهُ قَالَ فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيث أَبِي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ (مَا زَالَتْ أكلة خيبر تعادني فالآن أوانُ قَطَعتْ أَبْهَرِي) وَحَكَى ابن إِسْحَاق إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ شَهِيدًا مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّه بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ ابن سُحْنُونَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ الْيَهُودِيَّةَ الَّتِي سَمَّتْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنا اخْتِلَافَ الرّوَايَات فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَس وَجَابِر وَفِي روايةِ ابن عباس رضي الله عنهما

_ (قوله في لهوات) بثلاث فتحات جمع لهاة وهى في الأصل اسم اللحمة في أقصى الفم (قوله أكلة خيبر) بضم الهمزة (قوله تعادنى) بضم أوله ورابعه وتشديده أي يراجعني ويعاودني ألم سمها قال الداودى: الألم الذى حصل له صلى الله عليه وسلم من الأكلة هو نقص لذة ذوقه، قال ابن الأثير وليس مبين لأن نقص الذوق ليس بألم (قوله أبهرى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة عرق بكشف الصلب والقلب إذا انقطع مات صاحبه، فان قيل ما الجمع بين قوله تَعَالَى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ من الناس) وبين هذا الحديث المقتضى لعدم العصمة لأن موته عليه السلام بالسم لصادر من اليهودية والجواب أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ عام تبوك والسم كان بخيبر قبل ذلك (*)

أنَّهُ دَفَعَهَا لأوْلِيَاءِ بِشْرِ بْن الْبَرَاءِ فَقَتَلُوها، وَكَذَلِكَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ لِلَّذِي سَحَرَهُ، قَالَ الْوَاقِدِي وَعَفْوهُ عَنْهُ أَثْبَتُ عِنْدَنَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قَتَلَهُ وَرَوَى الْحَدِيثَ البَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فذكر مِثْلُهُ إلَّا أنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ كُلُوا بِسْمِ اللَّه فَأَكَلْنَا وَذَكَرَ اسْمَ اللَّه فَلَمْ تَضُرَّ مِنَّا أَحَدًا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَقَدْ خَرَّجَ حَدِيثَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَخَرَّجَهُ الْأَئِمَّة وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ واخْتَلَفَ أَئِمَّة أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذَا الْبَابِ فَمِنْ قَائِلٍ يقولُ هُوَ كَلَامٌ يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى فِي الشَّاةِ الْمَيّتَةِ أَو الْحَجَرِ أَوِ الشَّجَرِ وَحُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ يُحْدِثُهَا اللَّه فِيهَا وَيَسْمَعُهَا مِنْهَا دُونَ تَغْيِير أَشْكَالِهَا وَنَقْلِهَا عَنْ هَيْئَتِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ رحِمهما اللَّه وآخرونَ ذَهَبُوا إِلَى إيجَادِ الْحَيَاةِ بِهَا أَوَّلًا ثُمَّ الْكَلَامِ بَعْدَهُ، وَحُكِيَ هَذَا أيْضًا عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ والله

_ (قوله عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الحسن) أي الأشعري وهو على بن اسمعيل ابن أبى بشر بن سالم بن اسمعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أبى موسى عبد الله بن قيس الأشعري، أخذ فقه الشافعي عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ المروزى، كذا في طبقات السبكى، وبه رَدَّ عَلَى مَنْ قال أنه مالكى وكان في أول أمره بمعتزليا تلميذا للجبائي وكان صاحب نظر وإقدام على الخصوم وكان الجبائى صاحب تصنيف فكان الجبائى إذا عرضت له مناظرة يقول للأشعري نب عنى، وأقام الأشعري على الاعتزال أربعين سنة ثم إنه غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال أيها الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة لأنى نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي شئ على شئ فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ودفع الكتب التى ألفها على مذهب أهل السنة للناس، ولد سنة ستين ومائتين وتوفى سنة ست وثلاثين وقبل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة (*)

أَعْلَمُ إِذْ لَمْ يَجْعَل الْحَيَاةَ شَرْطًا لِوُجُودِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَات إِذْ لَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهَا مَعَ عَدَم الْحَيَاةِ بِمُجَرَّدِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عِبَارَةً عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسِيّ فَلَا بُدَّ من شَرْطِ الْحَيَاةِ لَهَا إِذْ لَا يُوجَدُ كَلَامُ النَّفْس إلَّا من حَيٍّ خِلَافًا للْجُبَّائِيّ من بَيْنَ سَائِرِ مُتَكَلّمِي الفِرَقِ فِي إحَالَةِ وُجُودِ الْكَلَامِ اللَّفْظِيّ وَالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ إلَّا من حَيّ مُرَكَّب عَلَى تَرْكِيبِ من يَصِحُّ مِنْهُ النُّطْقُ بِالْحُرُوفِ والأصوات والتزم ذلك في الخصا وَالْجِذْع وَالذّرَاعِ وَقَالَ إنَّ اللَّه خَلَقَ فِيهَا حياة وخرق لها فما ولسانه وَآلَةً أَمْكَنَهَا بِهَا مِنَ الْكَلَامِ وَهَذَا لَوْ كَانَ لَكَانَ نَقْلُهُ وَالتَّهَمُّمُ بِهِ آكَدَ مِنَ التَّهَمُّم بِنَقْلِ تَسْبِيحِهِ أَوْ حَنِينِهِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ من أَهْلِ السّيَرِ وَالرّوَايَةِ شَيْئًا من ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ دَعْوَاهُ مَعَ أنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إليْهِ فِي النَّظَرِ وَالْمُوَفّقُ اللَّه، وَرَوَى وَكِيعٌ رَفْعَهُ عَنْ فَهْدِ بْن عَطِيَّةَ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ أُتِيَ بِصَبِيٍّ قَدْ شَبَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ فَقَالَ من أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّه، وَرُويَ عَنْ مُعرّض بن مُعَيقيب رَأيْتُ مِنَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجَبًا جئ بِصَبِيّ يَوْمَ وُلِدَ فذكر مِثْلَهُ، وَهُوَ حَدِيث مُبَارَكِ اليَمَامَةِ ويعرف

_ (قوله للجبائي) هو أبو عَلَى مُحَمَّد بن عبد الوهاب رئيس المعتزلة في عصره بالبصرة، قال الذهبي وابن خلكان: وجبى: مدينة ورستاق عريض مشتبك العماير والنخيل وقصب السكر وغيرها، مات سنة ثلاث وثلاثمائة (*)

بحديث شاصوته اسْمِ رَاوِيهِ وَفِيهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَدَقْتَ بَارَكَ اللَّه فِيكَ) ثُمَّ إِنَّ الغُلَامَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَهَا حَتَّى شَبَّ فَكَانَ يُسَمَّى مُبَارَكَ الْيَمَامَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَنِ الْحَسَنِ أَتَى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ أنَّهُ طَرَحَ بُنَيَّةً لَهُ فِي وَادِي كَذَا فَانْطَلَقَ مَعَهُ إِلَى الْوَادِي. وَنَادَاهَا باسْمِهَا يَا فُلَانَةُ أَجِيبِي بِإذْنِ اللَّه فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ لَهَا إنَّ أَبَوَيك قَدْ أَسْلَمَا فَإن أَحببت أَن أردَّك عَلَيْهَمَا قَالَتْ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِمَا وَجَدْتُ اللَّه خَيْرًا لِي مِنْهُمَا، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ شَابًّا مِنَ الْأَنْصَارِ تُوُفيَ وله أُمّ عَجُوزٌ عَمْيَاءُ فَسَجَّيْنَاهُ وَعَزَّيْنَاهَا فَقَالَتْ مَاتَ ابْنِي قُلْنَا نَعَمْ قَالَتِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنّي هَاجَرْتُ إِلَيْكَ وَإِلَى رَسُولِكَ رَجَاءَ أَنْ تُعِينَنِي عَلَى كُل شِدَّةٍ فَلَا تَحْمِلَنَّ عَليَّ هَذِهِ المُصِيبَةَ فَمَا بَرِحْنَا أنْ كَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَطَعِمَ وَطَعِمْنَا وَرُويَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُبَيْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ كُنْتُ فِيمَنْ دَفَنَ ثَابِتَ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ وَكَانَ قُتِلَ بِالْيَمَامَةِ فَسَمِعْنَاهُ حِينَ أَدْخَلْنَاهُ القَبْرَ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه، أَبُو بَكْر الصّدّيقُ، عُمَرُ الشَّهِيدُ، عُثْمَانُ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ مَيّتٌ، وَذُكِرَ عَنِ النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ أَنَّ زَيْدَ بن خَارِجَةَ خَرَّ مَيّتًا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ المَدِينَةِ فَرُفِعَ وَسُجّيَ إذ سمعوه

_ (قوله أَنَّ زَيْدَ بن خَارِجَةَ) بْنَ زَيْدٍ بن أبى زهير، قال أبو نعيم الأصبهاني خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ تكلم بعد الموت ثم قال الصحيح أن الذى تكلم بعد الموت زيد بن خارجة، كذا قال أبو عمرو قال الذهبي زيد بن خارجة المتكلم بعد الموت أبوه، وذلك وهم لأنه قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ (*)

فصل في إبراء المرضى وذوى العاهات

بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَالنّسَاءُ يَصْرُخْنَ حَوْلَهُ يَقُولُ أنْصِتُوا أَنْصِتُوا فَحَسَر عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله النبي الْأُمّيُّ وَخَاتِمُ النَّبِيّينَ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ صَدَقَ، وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ وعمر وَعُثْمَانَ ثُمَّ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ عَادَ مَيّتًا كَمَا كَانَ فصل فِي إبراء المرضى وذوي العاهات أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُشَرَّفٍ فِيمَا أَجَازَنِيهِ وَقَرَأْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْحَبَّالُ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ النحاس حدثنا أبو الْوَرْدِ عَنِ الْبَرْقِيِّ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٌ ذَكَرَهُمْ بِقَضِيَّةِ أُحُدٍ بِطُولِهَا قَالَ وَقَالُوا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لا نَصْلَ لَهُ فَيَقُولُ ارْمِ بِهِ وَقَدْ رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ

_ (قوله عن هشام) هُو مُحَمَّد بن عبد الملك بن هشام بن أيوب أصله من البصرة وتوفى بمصر سنة ثلاث عشرة ومائتين (قوله عَنْ زِيَادٍ الْبَكَّائِيِّ) بفتح الموحدة وتشديد الكاف (قوله ابن هشاب) هُو مُحَمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله الزهري ممن يروى عنه ابن اسحاق وفى بعض النسخ ابن هشام وليس بصحيح (قوله لا نَصْلَ لَهُ) بالنون المفتوحة والصاد المهملة الساكنة (قوله وَقَدْ رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بقوسه) كَان لَه عَلَيْه السلام قسى الروحاء والصفراء - من نبع وهو بنون فموحدة فمهملة شجر من شجر الجبال تتخذ منه القسى ومن أغصانه السهام - والبيضاء وشوحط أصابها من بنى قينقاع والزوراء والكتوم - لا نخفاض من صوتها إذا رمى عليها - قيل والسداد قال صاحب الهدى والتى انكسرت في إحدى الغزوات الكتوم (21 - 1) (*)

عَيْنُ قَتَادَةَ يَعْنِي ابْنَ النُّعْمَانِ حَتَّى وَقَعَتْ على وجنته فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَرَوَى قِصَّةَ قَتَادَةَ عَاصِمُ بن عُمَرَ بن قَتَادَةَ وَيَزِيِدُ بن عِيَاضِ بن عُمَرَ بن قَتَادَةَ وَرَوَاهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِي عَنْ قَتَادَةَ وَبصَقَ عَلَى أثَرِ سَهْمِ فِي وَجْهِ أَبِي قَتَادَةَ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ قَالَ فَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ وَلَا قَاحَ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بن حُنَيْفٍ أَنَّ أَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّه ادْعُ اللَّه أن يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَري قَالَ فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأ ثُمَّ صَلّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بنبى مُحَمَّدٍ نَبيّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبّكَ أنْ يَكْشِفَ عَنْ بَصَرِي اللَّهُمَّ شَفّعْهُ فِيَّ قَالَ فَرَجَعُ وَقَدْ كَشَفَ اللَّه عَنْ بَصَرِهِ، وَرُويَ أَنَّ ابن مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ أَصَابَهُ اسْتسْقَاء فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَثْوَةً مِنَ الْأَرْضِ فَتَفَلَ عَلَيْهَا ثُمَّ أَعْطَاها رَسُولَهُ فَأَخَذَهَا مُتَعَجِّبًا يَرَى أَنْ قَدْ هُزِئَ بِهِ فَأَتَاهُ بِهَا وهو على الشفا فَشَرِبَهَا فَشَفَاهُ اللَّه،

_ (قوله فِي يَوْمِ ذِي قرد) بفتح القاف والراء ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر، قال ابن سعد كان يَوْمِ ذِي قَرَدٍ في ربيع الأول سنة ست وفى البخاري كان قبل خيبر بثلاثة أيام (قوله قاح) بالقاف والحاء المهملة يقال قاح الجرح وقيح إذا حصل فيه المدة التى لا يخالطها دم (قوله وروى النسائي) هو الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب صاحب السنن توفى سنة عشرين وثلاثمائة ولم يتأخر بعد الثلاثمائة من أصحاب الكتب الستة إلا هو (قوله عُثْمَانَ بن حُنَيْفٍ) بضم الحاء المهملة وفتح النون شهد أحدا وما بعدها وتولى مسح سواد العراق لعمر (قوله على شفا) بفتح الشين المعجمة والقصر يقال أشفى المريض على الموت وما بقى منه إلا شفا أي قليل (*)

وَذَكَرَ الْعَقِيلِيُّ عَنْ حَبِيبِ بن فُدَيْكٍ ويقالُ فُرَيْكٍ أَنَّ أَبَاهُ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ فَكَانَ لَا يُبْصِرُ بِهمَا شَيْئًا فَنَفَثَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَأَبْصَرَ فَرَأَيْتُهُ يُدْخِلُ الْخَيْطَ فِي الْإِبْرَةِ وَهُوَ ابن ثَمَانِينَ، وَرُمِيَ كُلْثُومُ بن الْحُصَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي نَحْرِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَبَرَأ وَتفل عَلَى شَجَّةِ عَبدِ اللَّه بن أُنَيْسٍ فَلَمْ تُمِدَّ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْ عَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ وَكَانَ رَمِدًا فَأَصْبَحَ بَارِئًا وَنَفَثَ عَلَى ضَرْبَةٍ بِسَاقِ سلمة ابن الأَكْوَعِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَبَرِئت وَفِي رِجْل زَيْدِ بن مُعَاذٍ حِينَ أَصَابَهَا السَّيْفُ، إِلَى الْكَعْبِ حِينَ قَتَلَ ابن الْأَشْرَفِ فَبَرئَتْ وعلى سَاقِ عَلِيِّ بن الْحَكَمِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إِذ انْكَسَرَتْ فَبَرِئَ مَكَانَهُ وَمَا نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَاشْتَكى عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ فَجَعَلَ يَدْعُو فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اشْفِهِ أَوْ عَافِهِ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ فَمَا اشْتَكَى ذَلِكَ الوجع بعد

_ (قوله وذكر العقيلى) بضم العين المهملة هو الإمام الحافظ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بن عمرو بن موسى بن حماد المكى صاحب كتاب الضعفاء (قوله كُلْثُومُ بن الْحُصَيْنِ) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين (قوله فبرأ) يقال برأ من المرض بفتح الراء وبرئ من الدين بكسرها (قوله فلم تمد) بضم أوله وكسر ثانيه من أمد الجرح صار فيه مدة (قوله وَفِي رِجْل زَيْدِ بن معاذ) قيل لم يحضر هذه الواقعة أحد يسمى زَيْدِ بن مُعَاذٍ بل ولا في الصحابة أحد يسمى زَيْدِ بن مُعَاذٍ إلا أن يكون نسب إلى جد له أو إلى خلاف الظاهر والذى خرج في رجله أو في رأسه على الشك من الراوى في قتل كعب بن الأشرف إنما هو الحرث بن أوْس بن معاذ بن النعمان وقيل الحرث ابن أوس بن النعمان وقيل هما واحد نسب في أحدهما إلى جده (*)

وَقَطَعَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ يَدَ مُعَوِّذِ بن عَفْرَاءَ فَجَاءَ يَحْمِلُ يَدَهُ فَبصَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْصَقَهَا فَلَصِقَتْ، رَوَاهُ ابن وَهْبٍ * وَمِنْ رِوايتِهِ أيْضًا أَنَّ خُبَيْبَ بن يَسَافَ أصيبَ يَوْمَ بَدْر مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِضَرْبَةٍ عَلَى عَاتِقِهِ حَتَّى مال شِقُّهُ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَثَ عَلَيْهِ حَتَّى صَحَّ، وَأَتَتْهُ امْرَأةٌ من خَثْعَمٍ مَعَهَا صَبِي بِهِ بَلَاء لَا يَتَكَلَّم فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ فَاهُ وَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَعْطَاهَا إِيَّاهُ وَأَمَرَهَا بِسَقْيهِ وَمَسّهِ بِهِ فَبَرَأَ الْغُلَامُ وَعَقَلَ عَقْلًا يَفْضُلُ عُقُولَ النَّاسِ * وَعَنِ ابن عَبَّاس جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا بِهِ جُنُونٌ فَمَسَحَ صَدْرَهُ فَثَعَّ ثَعَّةً فَخَرَجَ من جَوْفِهِ مِثْلُ الْجَرْوِ الْأَسْوَدِ فَسعى، وَانْكَفَأتِ الْقِدْرُ عَلَى ذِرَاعِ مُحَمَّدِ بن حَاطِب وَهُوَ طِفْلٌ فَمَسَحَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ وَتَفَلَ فِيهِ فَبَرَأَ لحِينِهِ وَكَانَتْ فِي كَفّ شرحبيل الجعفي سلمة تَمْنَعُهُ الْقَبْضَ عَلَى السيف وعنان

_ (قوله وَقَطَعَ أَبُو جَهْلٍ) قيل المعروف أن عكرمة بن أبى جهل فعل ذلك بمعاذ ابن عمرو بن الجموع حين ضرب أباه (قوله معوذ) بكسر الواو المشددة وفتحها. صحابي معروف قتل يوم بدر (قوله خبيب بن إساف) خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة المخففة وإساف بكسر الهمزة ويقال يساف بالمثناة التحتية شهد بدرا وأحدا وما بعدهما كان نازلا بالمدينة فتأخر إسلامه حتى سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فلحقه في الطريق فأسلم وشهد يدرا فضربه رجل على عاتقه يومئذ فمال شقه فتفل صلى الله عليه وسلم على شقه ولا يمه ورده فانطلق فقتل الذى ضربه ثم تزوج ابنه بعتد ذلك فكانت تقول لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح فيقول لا عدمت رجلا عجل أباك إلى النار (قوله فثع) بالمثلثة والعين المهملة المشددة أي قاء (قوله مثل الجرو) هو بتثليث الجيم ولد الكلب والسبع (قوله ابن حاطب) بالحاء والطاء المهملتين (قوله سلعة) بكسر السين المهملة زيادة تحدث في الجسد كالغدة تكون من قدر الحمصة إلى قدر البطيخة (*)

فصل في إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم

الدَّابَّةِ فَشَكَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يَطْحَنُهَا بِكَفّهِ حَتَّى رَفَعَهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ وَسَأَلَتْهُ جَارِيَةٌ طَعَامًا وَهُوَ يَأَكُلُ فَنَاوَلَهَا من بَيْنِ يَدَيْهِ وَكَانَتْ قَلِيلَةَ الْحَيَاءِ فَقَالَتْ إنَّمَا أُرِيدُ مِنَ الَّذِي فِي فِيكَ فَنَاوَلَهَا مَا فِي فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُسْألُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ فَلَمّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِهَا أُلْقِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْحَيَاءِ مَا لَمْ تَكُنِ امْرَأةٌ بِالمَدِينَةِ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْهَا. فصل فِي إجابة دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهَذَا باب واسع جدًا) وَإِجَابَةُ دَعْوَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمَاعَةٍ بِمَا دَعَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مُتَوَاتِرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً * وَقَدْ جاء فِي حَدِيث حُذَيْفَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَعَا لِرَجُلٍ أَدْرَكَتِ الدَّعْوَةُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ * حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ العَتَّابِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بن محمد حدثنا أبو الحسن القابسي حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ المروزي حدثنا محمد بن يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَتْ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللَّهَ لَهُ قَالَ اللَّهُمَّ أكثر ما له وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا آتَيْتَهُ، وَمِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ قَالَ أنس فو الله إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ وإن ولدى

_ (قوله يطحنها) بفتح الحاء المهملة مضارع طحن بفتحها أيضا (قوله العتابى) بفتح المهملة وتشديد الفوقية (قوله وَمِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ) هو ابن حمار الحنفي اليماني يروى عن الهرماس وعن طاوس وطائفة، والهرماس له صحبة (*)

وَوَلدَ وَلَدِي لَيُعَادُّونَ الْيَوْمَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَصَابَ مِنْ رَخَاءِ الْعَيْشِ مَا أَصَبْتُ وَلَقَدْ دَفَنْتُ بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ مِائَةً مِنْ وَلَدِي لَا أَقُولُ سِقْطًا وَلَا وَلَدَ وَلَدٍ * وَمِنْهُ دُعَاؤُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمنِ بن عَوْفٍ بِالْبَرَكَةِ قَالَ عَبْد الرَّحْمنِ فَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أنْ أُصِيبَ تَحْتَهُ ذَهَبًا وَفَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ وَمَاتَ فَحُفِرَ الذَّهَبُ من تَرِكَتِهِ بالفؤس حَتَّى مجَلَتْ فِيهِ الْأَيْدِي وَأَخَذَتْ كُلُّ زَوْجَةٍ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَكُنَّ أَرْبَعًا وَقِيلَ مِائَةَ أَلْفٍ وَقِيلَ بَلْ صُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ عَلَى نَيّفٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَأَوْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفًا بَعْدَ صَدَقَاتِهِ الْفَاشِيَةِ فِي حَيَاتِهِ وَعَوَارِفِهِ الْعَظِيمَةِ أعْتَقَ يَوْمًا ثَلَاثِينَ عَبْدًا وَتَصَدَّقَ مَرَّةّ بعير فيها سبعمائة بَعِيرٍ وَرَدَتْ عَلَيْهِ تحمل

_ (قوله ليعادون) بضم المثناة التحتية وتخفيف العين وتشديد الدال المهملتين (قوله سقط) بتثليث السين المهملة والقاف الجنين الذى يسقط قبل تمامه (قوله ما به) في صحيح الْبُخَارِيّ قال أنس وحدثتني ابنتى أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحاجاج البصرة عشرون ومائة انتهى، وكان مقدم الحجاج البصرة سنة خمس وسبعين وكانت وفاة أنس سنة ثلاث وتسعين وقد ولد له بعد مقدم الحجاج أولاد كثيرة ومن كثرة الأولاد ما قال ابن قتيبة وقع إلى الأرض من صلب المهلب بن أبى صفرة ثلاثمائة ولد وقال بن خلكان في ترجمة تميم بن المعز بن باديس إنه خلف مائة ذكر وستين أنثى (قوله بالفؤوس) بهمزة مضمومة بعد الفاء جمع فأس بسكون الهمزة كرأس ورؤس وكأس وكؤس (قوله مجلت) بكسر الجيم وفتحها أي نفطت من العمل وحصل بين الجلد واللحم ماء (قوله وَتَصَدَّقَ مَرَّةّ بعيرٍ) بكسر العين المهملة روى الترمذي أن عبد الرحمن بن عوف أوصى لأمهات المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف وَقَالَ عروة بن الزبير أوصى عبد الرحمن بن عوف بخمسين ألف دينار في سبيل الله وقال الزهري أوصى عبد الرحمن لمن بقى من أهل بدر لكل رجل بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها وأخذها عثمان فيمن أخذ وأوصى بألف فرس في سبيل الله (*)

من كل شئ فَتَصَدَّقَ بِهَا وَبِمَا عَلَيْهَا وَبِأقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَدَعَا لِمُعَاوِيَةَ بِالتَّمْكِينِ فَنَالَ الْخِلَافَةَ، وَلِسَعْد بن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنْ يُجِيبَ اللَّه دَعْوَتَهُ فَمَا دَعَا عَلَى أَحَدٍ إلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَدعا لعز الْإِسْلَام بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَوْ بِأَبِي جَهْل فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي عُمَرَ، وَقَالَ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه ما زلنا أعتزة مُنْذُ أَسَلَمَ عُمَرُ، وَأَصَابَ النَّاسَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ عَطَشٌ فَسَألَهُ عُمَرُ الدُّعَاءَ فَدَعَا فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَسَقَتْهُمْ حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أَقْلَعَتْ وَدَعَا فِي الاسْتِسْقَاءِ فَسُقُوا ثُمَّ شَكَوْا إِلَيْهِ الْمَطَرَ فَدَعَا فَصَحُّوا وَقَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ أَفْلَحَ وَجْهُكَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ فَمَاتَ وَهُوَ ابن سَبْعِينَ سنة وَكَأَنَّهُ ابن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَالَ لِلنَّابِغَةِ لَا يَفْضُضِ اللَّه فَاكَ فَمَا سَقَطَتْ لَهُ سِنٌّ وَفِي رِوَايَة فَكَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ ثَغْرًا إذَا سَقَطَتَ لَهُ سِنٌّ نَبَتَتْ لَهُ أُخْرَى وَعَاشَ عِشْرِينَ وَمِائَةً وَقِيلَ أَكْثَرَ من هَذَا، وَدَعَا لابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ فَقّهْهُ فِي الدّينِ وَعَلّمْهُ التَّأْوِيلَ فَسُمّيَ بَعْدُ الْحَبْرَ. وَتَرْجُمَانَ الْقُرْآنِ، وَدَعَا لِعَبْدِ اللَّه بن جَعْفَرٍ بِالْبَرَكَةِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ فَمَا اشْتَرَى شَيْئًا إلَّا رَبحَ فِيهِ، وَدَعَا لِلمِقْدَادِ بِالْبَرَكَةِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ غرائر مِنَ الْمَالِ وَدَعَا بِمِثْلِهِ لِعُرْوَةَ بن أَبِي الْجَعْدِ فَقَالَ فَلَقَدْ كُنْتُ أَقُومُ بالكناسة

_ (قوله وقال النابغة) هو الجعدى واسمه قيس بن عبد الله وقيل بالعكس، قال الشعر ثم بقى ثلاثين سنة لا يقوله ثم نبغ فيه فسمى النابغة (قوله الحبر) بكسر الحاء المهملة وفتحها أي العالم (قوله ترجمان) بفتح المثناة الفوقية وضمها وضم الجيم وحكى الجوهرى فتح التاء مع فتح الجيم وهو المعبر عن لغة ثانية (قوله فَلَقَدْ كُنْتُ أَقُومُ بالكناسة) بضم الكاف وتخفيف النون مكان بالكوفة وأيضا الكناسة القمامة الحاصلة من الكنس (*)

فَمَا أَرْجِعُ حَتَّى أَرْبَحَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِهِ فَكَانَ لَو اشْتَرَى التُّرَابَ رَبِحَ فِيهِ، وَرُويَ مِثْلُ هَذَا لِغَرْقَدَةَ أيْضًا وَنَدَّتْ لَهُ نَاقَةٌ فَدَعَا فَجَاءَهُ بِهَا إِعْصَارُ ريحٍ حَتَّى ردَّهَا عَلَيْهِ، وَدَعَا لِأُمّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَسْلَمَتْ، وَدَعَا لِعَلِيّ أَنْ يُكْفَى الْحَرَّ وَالْقُرَّ فَكَانَ يَلْبَسُ فِي الشّتَاءِ ثِيَابَ الصَّيْفِ وَفِي الصَّيْفِ ثِيَاب الشّتَاءِ وَلَا يُصِيبُهُ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ، وَدَعَا اللَّه لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ أَن لَا يُجِيعَهَا قَالَتْ فَمَا جُعْتُ بَعْدُ وَسَأَلَهُ الطُّفَيْل بن عَمْرو آيةً لِقَوْمِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ نَوّرْ له فسطع له نَوّرْ بَيْنَ عَيْنَيْه فَقَالَ يَا رَبّ أَخَافُ أَنْ يَقُولُوا مُثْلَةً فَتَحَوَّلَ إِلَى طَرَفِ سَوْطِهِ فَكَانَ يضئ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ فَسُمّي ذَا النُّورِ، وَدَعَا عَلَى مُضَرَ فَأُقْحِطُوا حَتَّى اسْتَعْطَفَتْهُ قُرَيْشٌ فَدَعَا لَهُمْ فَسُقُوا، وَدَعَا عَلَى كِسْرَى حِينَ مَزَّقَ كِتَابَهُ أَنْ يُمَزّق اللَّه مُلْكَهُ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ بَاقِيةٌ وَلَا بَقِيتْ لِفَارِسَ رِيَاسَةٌ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا وَدعا عَلَى صَبِيٍّ قَطَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاة أنْ يَقْطَع اللَّه أَثَرَهُ فَأُقْعِدَ، وَقَالَ لِرَجُلٍ رَآهُ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ كُلْ بيمينك

_ (قوله لغرقدة) بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح القاف والدال المهملة (قوله وندت) بفتح النون والدال المشددة المهملة أي نفرت (قوله وَدَعَا لِأُمّ أَبِي هريرة) قال ابن الأثير وتبعه الذهبي اسمها ميمنة وقيل ميمونة (قوله والقر) بالقاف المضمومة والراء المشددة البرد (قوله الطفيل) بضم الطاء المهملة وفتح الفاء هو ابن عمرو الدوسى يلقب ذا النور قتل يوم اليمامة، وأصحاب النور أسيد بضم الهمزة بن حضير بضم الحاء المهملة وعباد بن بشر وحمزة بن عمر الأسلمي وقتادة بن النعمان والطفيل بن عمر الدوسى (قوله وَدَعَا عَلَى كِسْرَى) هو أبرويز بن هرمز، كذا ذكره السهيلي وغيره (قوله وقال لرجل وآه يأكل بشماله) هو عبد الله بن بسر بضم الموحدة وسكون السين المهملة (*)

فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ فَلَمْ يَرْفَعْهَا إِلَى فِيهِ، وَقَالَ لِعُتْبَةَ ابن أَبِي لَهَب اللَّهُمَّ سَلّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا من كِلَابِكَ فَأكَلَهُ الْأسَدُ، وَقَالَ لامْرَأةٍ أَكَلَكِ الْأَسِدُ فَأَكَلَهَا، وَحَدِيثُهُ الْمَشْهُورُ من رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّه بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي دُعَائِهِ عَلَى قُرَيْشٍ حين وضعوا السلا عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ مَعَ الْفَرثِ وَالدَّمِ وَسَمَّاهُمْ وَقَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَدَعَا عَلَى الْحَكَم بن أَبِي العَاصِ وَكَانَ يَخْتَلِجُ بِوَجْهِهِ وَيَغْمزُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيْ لَا. فَرَآهُ فَقَالَ كَذَلِكَ كن فلم يزل يَخْتَلِجُ إِلَى أنْ مَاتَ، وَدَعَا عَلَى مُحَلَّم بْن جَثَّامَةَ فَمَاتَ لِسَبْعٍ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضِ ثُمَّ وُورِيَ فَلَفَظَتْهُ مَرَّاتٍ فَأَلْقَوهُ بين صدين ورضموا عَلَيْهِ بِالْحِجَارة - الصُّدُّ جانب الوادي

_ (قوله وقال لعتبة) المشهور أن عُتْبَةَ بن أَبِي لهب أسلم يوم الفتح وأخوه معتب ولم يهاجرا من مكة وأن عتيبة بن أبي لهب تصغير عتبة هو الذى دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسلط الله عليه كلبا فأكله الأسد وبعضهم قال إن عتيبة هو الذى أسلم وعتبة هو الذى دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا بنى القاضى كلامه (قوله السلا) بفتح المهملة والقصر هو في الهائم كالمثيمة لبنى آدم وهى الجلدة الرقيقة التى يكون فيها الولد من المواشى إن شقت عن وجه الفضيل ساعة ولادته يفتح وإلا قتلته وكذلك إذا انقطع السلا في البطن فإذا خرج السلا سلمت الناقد وسلم الولد وإن انقطع في بطنها هلكت وهلك الولد (قوله فلقد رأيتهم) أي معظمهم لأن عُتْبَةَ بن أَبِي معيط لم يقتل ببدر وإنما حمل منها أسيرا ثم قتل وعمارة بن الوليد هلك على كفره بأرض الحبشة زمن عمر (قوله مُحَلَّم بْن جَثَّامَةَ) محلم بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد اللام المكسورة وجثامة بفتح الجيم وتشديد المثلثة قال السهيلي مات في حمص أيام ابن الزبير (قوله بين صدين) بضم الصاد المهملة وبفتحها وتشديد الدال المهملة أي جبلين (*)

فصل في كرامته وبركاته وانقلاب الأعيان له فيما لمسه أو باشره صلى الله عليه وسلم

وجحده رجل بيع فَرسٍ وَهِيَ التي شَهِدَ فِيهَا خُزَيْمَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ الْفَرَسَ بَعْدُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّجُلِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَلَا تُبَارِكْ لَهُ فِيهَا فَأصْبَحَتْ شَاصِيَةً بِرِجْلِهَا - أَيْ رَافِعَةً - وَهَذَا الْبَابُ أَكْثَرُ من أنْ يُحَاطُ بِهِ. فصل في كرامته وبركاته وانقلاب الأعيان لَهُ فِيمَا لمسه أَوْ باشره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ إِجَازَةً وَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ سَمَاعًا وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ قَالُوا حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَزِعُوا مَرَّةً فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ أَوْ بِهِ قِطَافٌ وَقَالَ غَيْرُه يُبَطَّأُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ وَجَدْنَا فَرَسَكَ بَحْرًا فكان بعدلا يجارى

_ (قوله شاصية) بالشين المعجمة والصاد المهملة أي رافعة (قوله حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) كذا في كثير من النسخ وقد سقط واحد بين البخاري ويزيد لأن يزيد شيخ شيخ البخاري والسياقط هو عبد الأعلى بن حماد كذا ساقة البخاري في كتاب الجهاد ووقع في بعض النسخ (قوله يقطف) بسكون القاف وضم الطاء المهملة أي ينطو في السير وأما يقطف العنب وغيره فبكسر الطاء قاله الزمخشري في مقدمته (قوله يبطأ) بضم (*)

وَنَخَسَ جَمَلَ جَابِرٍ وَكَانَ قَدْ أَعْيَا فَنَشَطَ حَتَّى كَانَ مَا يَمْلِكُ زِمَامَهُ وَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ بِفَرَسٍ لَجُعَيْلٍ الْأَشْجَعِيِّ خَفَقَهَا بمِخْفَقَةٍ مَعَهُ وَبَرَكَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَمْلِكْ رَأْسَهَا نَشَاطًا وَبَاعَ مِنْ بَطْنِهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَرَكِبَ حِمَارًا قَطُوفًا لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَرَدَّهُ هِمْلاجًا لَا يُسَايَرُ وَكَانَتْ شَعَرَاتٌ من شعره فِي قَلَنْسُوةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَلَمْ يَشْهَدْ بِهَا قِتَالًا إلَّا رُزِقَ النَّصْرَ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْت أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّة طَيَالِسَةٍ وَقَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُها فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضى يُسْتَشفَى بِهَا وحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْقَاسِمِ بن الْمَأْمُونِ قَالَ كانت عندنا قصة من قِصَاعِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا نَجْعَلُ فِيهَا الْمَاءَ لِلْمَرْضَى فَيَسْتَشفُونَ بِهَا وَأَخَذَ جِهْجَاه الغْفَارِيُّ الْقَضِيبَ من يَدِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لِيَكْسِرَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَأَخَذَتْهُ فِيهَا الْآكِلَةُ فَقَطَعَهَا وَمَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَسَكَبَ من فَضَلِ وَضُوئِهِ فِي بِئْرِ قُبَاءٍ فَمَا نَزَفَتْ بَعْدُ وَبَزَقَ فِي بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِ أَنَسٍ فَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ أعذب

_ أوله وتشديد الطاء المهملة المفتوحة بعدها همزة (قوله فنشط) بكسر الشين المعجمة في الماضي وفتحها في المستقبل (قوله لجعيل) بضم الجيم وفتح العين المهملة قوله بمخففة) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء بعدها قاف هي الدرة التى يضرب بها (قوله هملاجا) بكسر الهاء وسكون الميم وفى آخره جيم، في الصحاح الهملاج من البراذين ومشيها الهملجة فارسي معرب (قوله حبة طيالسة) قال النووي هو بإضافة جبة إلى طيالسة جمع طيلسان بفتح اللام على الشهور (قوله جهجاه) بجيمين أولاهما مفتوحة قال الطبري: المحدثون يزيدون في آخره هاء والصواب جهجا بدون هاء في آخره (*)

منها ومر مَاءٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ اسْمُهُ بَيْسَانُ وماءه مِلْحٌ فَقَالَ بَلْ هو نعمان وماءه طَيّبٌ فَطَابَ وَأُتِيَ بِدَلْوٍ من مَاء زَمْزَمَ فَمَجَّ فِيهِ فَصَارَ أَطْيبَ مِنَ الْمِسْكِ وَأَعْطَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ لِسَانَهُ فَمَصَّاهُ وَكَانَا يَبْكِيَانِ عَطَشًا فَسَكَتَا وَكَانَ لِأُمّ مَالِكٍ عُكَّةٌ تُهْدِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمْنًا فَأَمَرَهَا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن لا نعصرها ثُمَّ دَفَعَهَا إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَةٌ سَمْنًا فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا يَسْأَلُونَهَا الْأَدْمَ وَلَيْسَ عندهم شئ فَتَعْمَدُ إِلَيْهَا فَتَجِدُ فِيهَا سَمْنًا فَكَانَتْ تقسيم أدْمَهَا حَتَّى عَصَرَتْهَا وَكَانَ يَتْفُل فِي أَفْواهِ الصّبْيَانِ الْمَرَاضِعِ فيجزههم رِيقُهُ إِلَى اللَّيْلِ وَمِنْ ذَلِكَ بَرَكَةُ يَدِهِ فِيمَا لَمَسَهُ وَغَرَسَهُ لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حين كَاتَبَهُ مَوَالِيهِ عَلَى ثلثمائة وَدِيَّةٍ يَغْرِسُهَا لَهُمْ كُلُّهَا تَعْلَقُ وَتُطْعِمُ وَعَلَى أربعين أو قية من ذَهَبٍ فَقَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا لَهُ بِيَدِهِ إلَّا وَاحِدةً غَرَسَهَا غَيْرُهُ فَأَخَذَتْ كُلُّهَا إلَّا تِلْكَ الواحدة فقلعها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهَا فَأَخَذَتْ وَفِي كِتَابِ الْبَزَّارِ فَأَطْعَمَ النَّخْلُ من عَامِهِ إلَّا الْوَاحِدَةَ فَقَلَعهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَرَسَهَا فاطمعت من عَامِهَا وَأَعْطَاهُ مِثْلَ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ

_ (قوله يتفل) بكسر الفاء وضمها (قوله أبو قية) بضم الهمزة على المشهور وبحذفها لغة وهى أربعون درهما والنش بفتح النون وسكون المعجمة عشرون درهما (قوله غرسها عمر) روى أبو عمر ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قصة سلمان وأن الذى غرس الواحدة عمر وروى البخاري في غير صحيحه أن الذى غبسها سلمان فإن قيل ما الجمع بين رواية ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ورواية البخاري؟ أجيب بأن عمر وسلمان اشتركا في غرس واحدة فأضاف الراوى مرة غرسها لعمر ومرة لسلمان (*)

من ذَهَبٍ بَعْدَ أن أدراها عَلَى لِسَانِهِ فَوَزَنَ مِنْهَا لِموَالِيهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْل مَا أَعْطَاهُمْ وَفِي حَدِيثِ حَنَش بن عُقَيْلٍ سَقَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْبَةً من سوِيقٍ شَربَ أَولَهَا وَشَرِبْتُ آخِرَهَا فَمَا بَرحْتُ أَجِدُ شَبَعَهَا إذَا جُعْتُ وَرِيَّهَا إذَا عَطِشْتُ وَبَرْدَهَا إذَا ظَمِئْتُ وَأَعْطَى قَتَادَةَ بن النُّعْمَانِ وَصَلَّى مَعَهُ الْعِشَاءَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مَطِيرَةٍ عُرْجُونًا وَقَالَ انْطَلِقْ به فإنه سيضئ لَكَ من بَيْنَ يَدَيْكَ عَشْرًا وَمِنْ خَلْفِكَ عَشْرًا فَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَتَرَى سَوَادًا فَاضْرِبْهُ حَتَّى يَخْرُجَ فَإنَّهُ الشَّيْطَانُ فَانْطَلَقَ فَأَضَاءَ لَهُ الْعُرْجُونَ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ وَوَجَدَ السَّوَادَ فَضَرَبَهُ حَتَّى خَرَجَ وَمِنْهَا دَفْعُهُ لِعُكَاشَةَ جِذْل حَطَبٍ وَقَالَ اضْرِبْ بِهِ حِينَ انْكَسَرَ سَيْفُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَادَ فِي يده سيفا صار ما طَوِيلَ الْقَامَةِ أَبْيضَ شَدِيدَ الْمَتْنِ فَقَاتَلَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَد بِهِ الْمَوَاقِفَ إِلَى أنِ اسْتُشْهِدَ فِي قِتَالِ أَهْل الرّدَّةِ وَكَانَ هَذَا السَيْفُ يُسَمَّى العَوْنَ وَدَفْعَهُ لِعَبْدِ اللَّه بْن جَحْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ ذَهَبَ سَيْفُهُ عَسِيبَ نَخْلٍ فَرَجَعَ فِي يَدِهِ سَيْفًا وَمِنْهُ بَرَكَتُهُ فِي دُورِ الشّياهِ الْحَوائِلِ بِاللَّبَن الْكَثِيرِ كِقِصَّةِ شَاةِ أُمّ مَعْبَدٍ وَأَعْنُزِ مُعَاويَةَ ابن ثَوْرٍ وَشَاةِ أَنَسٍ وَغَنَمِ حَلِيمَةَ مُرْضِعَتِهِ وَشَارفِهَا وَشَاة عَبْد الله بن مسعود

_ (قوله حنش) بحاء مهملة ونون مفتوحتين بعدهما شين معجمة (قوله عرجونا) هو أصل العذق الذى يقطع منه الشماريخ فيمقى على النخل يابسا (قوله لعكاشة) بتشديد الكاف وتخفيفها (قوله وشارفها) الشارف بالشين المعجمة والفاء المسنة من النوق وقيل من الإبل (*)

وَكَانَتْ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا فَحْلٌ وَشَاةِ الْمِقْدَادِ وَمِنْ ذَلِكَ تزيده أَصْحَابَهُ سِقَاءَ مَاءٍ بَعْدَ أَن أَوْكَاهُ وَدَعَا فِيهِ فَلَمّا حَضَرَتْهُمُ الصَّلَاةُ نَزَلُوا فَحلُّوهُ فَإِذَا بِهِ لَبَنٌ طَيّبٌ وَزُبْدَةٌ فِي فَمِهِ من رِوَايَةِ حَمادِ بن سَلَمَةَ وَمَسَحَ عَلَى رَأسِ عُمَيْرِ بن سَعْدٍ وَبَرَّكَ فَمَاتَ وَهُوَ ابن ثَمَانِينَ فَمَا شَابَ وَرُويَ مِثْلُ هَذِهِ القِصَصِ. عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمُ السَّائِبُ بن يَزِيدَ وَمَدْلُوكٌ وَكَانَ يُوجَدُ لِعُتْبَةَ بن فَرْقَدٍ طِيبٌ يَغْلِبُ طِيبَ نِسَائِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى الله عليه وسلم مسح بديه عَلَى بَطْنِهِ وَظَهْرِهِ وسَلَتَ الدَّمَ عَنْ وَجْه عَائِذ بن عَمْرو وَكَانَ جُرِحَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَدَعَا لَهُ فَكَانَتْ لَهُ غُرَّةٌ كَغُرَّةِ الْفَرَسِ وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِ قَيْس بن زَيْدٍ الْجُذَامِيّ وَدَعَا لَهُ فَهَلَكَ وَهُوَ ابن مِائَةِ سَنَةٍ وَرَأْسُهُ أَبْيَضُ وَمَوْضِعُ كَفّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَرَّتْ يَدُهُ عَلَيْهِ من شَعْرِهِ أَسْوَدُ فَكَانَ يُدْعَى الْأَغَرَّ وَرُويَ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ لِعَمْرو بن ثعلبة الجهى وَمَسَحَ وَجْهَ آخرَ فَمَا زَالَ عَلَى وَجْهِهِ نُورٌ وَمَسَحَ وَجْهَ قَتَادَةَ بن مِلْحَانَ فَكَانَ لِوَجْهِهِ بَرِيقٌ حَتَّى كَانَ يُنْظَرُ فِي وَجْهِه كَمَا يُنْظَرُ فِي الْمِرْآةِ وَوَضَعَ يدَهُ عَلَى رَأْسِ حَنْظَلَة بن حِذْيَمٍ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ فَكَانَ حَنْظَلَة يُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ وَرِمَ وَجْهُهُ وَالشَّاةِ قَدْ وَرِمَ ضَرْعُهَا فَيُوضَعُ عَلَى مَوْضِعِ كَفّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ وَنَضَحَ فِي وَجْهِ زَيْنَبَ بِنْت أُمّ سَلَمَةَ نَضْحَةً من مَاءٍ فَمَا يُعْرَفُ كَانَ فِي وَجْهِ امْرَأةٍ مِنَ الْجَمَال مَا بِهَا وَمَسَحَ عَلَى رأس

_ (قوله لم ينز) يقال في الحافر والظلفف والسباع نزا ينزو نزوا ونزوانا (قوله أوكاه) بألف بعد الكاف يقال أوكى يوكى كما يقال أعطى يعطى (*)

فصل (ومن ذلك ما أطلع عليه من الغيوب وما يكون)

صبي بِهِ عَاهَةٌ فَبَرَأ وَاسْتَوَى شَعَرُهُ وَمِثْلُهُ رُوِيَ فِي خَبَرِ الْمُهَلَّبِ بن قُبَالَةَ وعلى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصّبْيَانِ والمرضى والمجانين فبرؤا، وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِهِ أُدْرَةٌ فَأَمَرَهُ أنْ يَنْضَحَهَا بِمَاءٍ من عَيْنٍ مَجَّ فِيهِ فَفَعَلَ فَبَرَأَ * وَعَنْ طَاوُسٍ لَمْ يُؤْتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَدٍ بِهِ مَسٌّ فَصَكَّ فِي صَدْرِهِ إلَّا ذَهَبَ الْمَسُّ الْجُنُونُ، وَمَجَّ فِي دلْوٍ من بِئْرٍ ثُمَّ صَبَّ فِيهَا فَفَاحَ مِنْهَا رِيحُ الْمِسْك، وأخذا قَبْضَةً من تُرَابٍ يَوْمَ حُنَيْنِ وَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ وَقَالَ شَاهت الْوُجُوهُ فَانْصَرَفُوا يَمْسَحُونَ الْقَذى عَنْ أَعْيُنِهِمْ، وَشَكَا إليْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّسْيَانَ فَأَمَرَهُ بِبَسْطِ ثَوْبِهِ وَغَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ ثُمَّ أَمَرَهُ بِضَمِّهِ فَفَعَلَ فَمَا نَسِيَ شَيْئًا بَعْدُ، وَمَا يُرْوَى فِي هَذَا كَثِيرٌ وَضَرَبَ صَدْرَ جَرِيرِ بْنِ عبد الله وَدَعَا لَهُ وَكَانَ ذكر لَهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَصَارَ مِنْ أَفْرَسِ الْعَرَبِ وَأَثْبَتِهِمْ، وَمَسَحَ رَأْسَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ صَغِيرٌ وكَانَ دَمِيمًا وَدَعَا له بالبركة فَفَرَعَ الرَّجَالَ طُولًا وَتَمَامًا فصل (وَمِنْ ذَلِكَ مَا اطلع عَلَيْهِ مِنَ الغيوب وَمَا يكون) وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ بَحْرٌ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَلَا يُنْزَفُ غمره وهذه

_ (قوله أدرة) بضم الهمزة وسكون الدال المهملة هي نفخة في الخصية يقال رجل آدر بفتح الهمزة والدال (قوله فَصَكَّ فِي صَدْرِهِ) أي ضرب (قوله قبضة) بضم القاف تراب مقبوض (قوله القذا) بفتح القاف والذال المعجمة والقصر هو ما يسقط في العين (قوله دميما) بالدال المهملة أي قبيحا (قوله ففرع) بالفاء والراء والعين المهملة أي طال (*)

الْمُعْجِزَةُ من جُمْلَةِ مُعْجزَاتِهِ الْمَعْلُومَةِ عَلَى الْقَطْعِ الْوَاصِلِ إلينا خَبَرُهَا عَلَى التَّوَاتُرِ لِكثْرَةِ رُوَاتِهَا واتّفَاقِ مَعَانِيهَا عَلَى الاطّلاعِ عَلَى الْغَيْبِ * حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيُّ إِجَازَةً وَقَرَأتُهُ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ التُّسْتَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الهاشمي حدثنا اللؤلؤي حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامًا فَمَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَهُ حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤْلَاءِ وَإنَّهُ ليَكُونُ منه الشئ فَأَعْرِفُهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُل إذَا غَابَ عَنْهُ ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ ثُمَّ قَالَ حُذَيْفَةُ مَا أَدْرِي أَنَسيَ أَصْحَابِي أَمْ تَنَاسَوْهُ وَاللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَائِدِ فِتْنَةٍ إِلَى أَنْ تَنْقَضِي الدُّنْيَا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثلاثمائة فَصَاعِدًا إِلا قَدْ سَمَّاهُ لَنَا بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُحَرِّكُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا وَقَدْ خَرَّجَ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالْأَئِمَّةُ مَا أَعْلَمَ بِهِ أَصْحَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عليه مِمَّا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى أَعْدَائِهِ وَفَتْحِ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْيَمَنِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَظُهُورِ الْأَمْنِ حَتَّى تَظْعَنَ الْمَرْأَةُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى مَكَّةَ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّه

_ (قوله جرير) بفتح الجيم وكسر الراء (قوله من الحيرة) بكسر الحاء المهملة مدينة معروفة عند الكوفة وأخرى عند نيسابور (*)

وَأَنَّ الْمَدِينةَ سَتُغْزَى وَتُفْتَحُ خَيْبَرُ عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ فِي غَدِ يَوْمِهِ وَمَا يَفْتَحُ اللَّه عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الدُّنْيَا ومؤمنون مِنْ زهْرَتِهَا وَقِسْمَتِهِمْ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفُتُونِ وَالْاخْتِلَافِ وَالْأَهْوَاءِ وَسُلُوكِ سَبِيلِ من قبلهم افتراقهم عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فرْقَةً النَّاجِيَةُ مِنْهَا فِرْقَةٌ وَاحِدةٌ وَأنَّهَا سَتَكُونُ لَهُمْ أَنْمَاطٌ وَيَغْدُو أَحَدُهُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَتُرْفَعُ أُخْرَى وَيَسْتُرُونَ بُيُوتَهُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَة ثُمَّ قَالَ آخِرَ الْحَدِيثِ وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ وَأَنَّهُمْ إِذَا مَشَوُا الْمُطَيْطَاءَ وَخَدَمَتْهُمْ بَنَاتُ فَارِسَ وَالرُّومِ رَدَّ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَسَلَّطَ شِرَارَهُمْ عَلَى خِيَارِهِمْ وَقِتَالِهِمُ التُّرْكَ وَالْخَزَرَ والرُّومَ وَذَهَابِ كِسْرَى وَفَارِسَ حَتَّى لَا كِسْرَى وَلَا فَارِسَ بَعْدَهُ وَذَهَابِ قَيْصَرَ حَتَّى لا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَذَكَرَ أَنَّ الرُّومَ ذَاتُ القرون إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَبِذَهَابِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنَ النَّاسِ وَتَقَارُبِ الزَّمَانِ وَقَبْضِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ، وَقَالَ (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ) وَأنَّهُ زُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ فَأُرِيَ مشارفها ومغاربها وسيبلغ *

_ (قوله وَأَنَّ الْمَدِينةَ سَتُغْزَى) بالغين المعجمة والزاى، قال المزى إن الرواية في الحديث بضم الفوقية وبالعين المهملة والراء (قوله أنماط) بفتح الهمزة وسكون النون جمع نمط بفتح النون والميم وهو ضرب من البسط (قوله المطيطا) بضم الميم وفتح الطاء المهملة وبعدها مثناة تحتية ساكنة وطاء مهملة قال ابن الأثير يمد ويقصر: مشية فيها تبختر ومد اليدين (قوله والخزر) بفتح الخاء المعجمة والزاى وبعدها راء: جنس من الناس (قوله والهرج) بفتح الهاء وسكون الراء بعدها جيم: القتل (قوله زويت) أي ضمت وجمعت (22 - 1) (*)

مُلْكُ أُمَّتِهِ مَا زُوِيَ لَهُ مِنْهَا ولذلك كَانَ امْتدَّتْ فِي المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا بَيْنَ أَرْضِ الْهِنْدِ أَقْصَى الْمَشْرِقِ إِلَى نحر طَنْجَةَ حَيْثُ لَا عِمَارَةَ وَرَاءَهُ وَذَلِكَ مَا لَمْ تَمْلِكْهُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَم وَلَمْ تَمْتَدَّ فِي الْجَنُوبِ وَلَا فِي الشَّمَال مِثْلَ ذَلِكَ (وَقَوْلُهُ) لَا يَزَالُ أهل الغرب ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ذَهَبَ ابْنُ المَدِينِي إِلَى أَنَّهُمُ الْعَرَبُ لِأَنَّهُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِالسَّقْي بِالْغَرْبِ وَهِيَ الدَّلْوُ وَغَيْرُهُ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَقَدْ وَرَدَ الْمَغْرِبَ كَذَا فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ * وَفِي حَدِيث آخرَ من رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أمتى ظاهر بن عَلَى الْحَقِّ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ) وَأَخْبَرَ بِمُلْكِ بَنِي أُميَّةَ وَوِلايَةِ مُعَاوِيَةَ وَوَصَّاهُ، وَاتّخَاذِ بَنِي أُمَيَّةَ مَالَ اللَّه دُوَلًا، وَخُرُوج وَلَدِ الْعَبَّاسِ بِالرَّايَاتِ السُّودِ وَمُلْكُهمْ أَضْعَافَ مَا مَلَكُوا وَخُرُوجِ الْمَهْدِيّ وَمَا يَنَالُ أَهْلُ بَيْتِهِ وَتَقْتِيلِهِمْ وَتَشْرِيدِهِمْ وَقَتْل عَلِيٍّ وَأَنَّ أَشْقَاهَا الَّذِي يَخْضِبُ هَذِهِ من هَذِهِ أَيْ لِحْيتَهُ من رَأسِهِ وَأنَّهُ قَسِيمُ النَّارِ يَدْخُلُ أو لياؤه *

_ قوله طنجة) بفتح الطاء المهملة وسكون النون بعدها جيم (قوله ابن المدينى) قال ابن الأثير: المدينى نسبة إلى المدينة المشرفة وأصله منها ثم انتقل إلى البصرة وقال إن الأكثر فيما ينسب إلى المدينة مدنى، وفى الصحاح المدنى نسبة إلى مَدِينَة الرَّسُول صَلَّى الله عليه وسلم والمديني نسبة إلى المدينة التى بناها المنصور (قولا دولا) بضم الدال المهملة وفتح الواو جمع دولة بضم الدال وسكون الواو ما يتدأل من المال (قوله وأن أشقاها) هو ابن ملجم - بضم الميم وسكون اللام وكسر الجيم - كذا ضبطه النووي في التهذيب (*)

الْجَنةَ وَأَعْدَاؤُهُ النَّارَ فَكَانَ فِيمَنْ عَادَاهُ الْخَوَارِجُ وَالنَّاصِبَةُ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إليْهِ مِنَ الرَّوَافِضِ كَفَّرُوهُ وَقَالَ يُقْتَلُ عُثْمَانُ وَهُوَ يَقْرَأُ الْمُصْحَفَ وَأَنَّ اللَّه عَسَى أَنْ يُلْبِسَهُ قَمِيصًا وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ خَلْعَهُ وَأنَّهُ سَيَقْطُرُ دَمُهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (فسيكفيكهم الله) وَأَنَّ الْفِتَنَ لَا تظهر مادام عُمَرُ حَيًّا وَبِمُحَاربَة الزُّبَيْرِ لِعَلِيٍّ وَبِنُبَاحِ كِلَابِ الْحَوْأَبِ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ وَأنَّهُ يُقْتَلُ حَوْلَهَا قَتْلَى كَثِيرةٌ وَتَنْجُو بَعْدَ مَا كَادَتْ فَنَبَحَتْ عَلَى عَائِشَةَ عِنْدَ خُرُوجهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَنَّ عَمّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ وَقَالَ لِعَبْدِ اللَّه بن الزُّبَيْرِ وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ وَقَالَ فِي قُزْمَانَ وَقَدْ أَبْلَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ أنَّهُ من أَهْلِ النَّارِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَقَالَ فِي جَمَاعَةٍ فِيهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَمُرَةُ بن جُنْدَبٍ وَحُذَيْفَةُ آخِرُكُمْ مَوْتًا فِي النَّارِ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَسْألُ عَنْ بَعْضٍ فَكَانَ سَمُرَةُ آخِرَهُمْ مَوْتًا هَرِمَ وخرف فاصطفى بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ فِيهَا، وَقَالَ فِي حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ (سَلُوا زَوْجَتَهُ عنه فابى رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ) فَسَأَلُوهَا فَقَالَتْ إنَّهُ خَرَجَ جُنُبًا وَأَعْجَلَهُ الْحَالُ عَنِ الْغُسْلِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه ووجدنا رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَقَالَ (الخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ وَلَنْ يَزَالَ هذا الأمر

_ (قوله والناصبة) بالنون والصاد المهملة بعدها موحدة: طائفة يتعبدون ببغض علي رضي الله عنه (قوله ونباح) بضم النون صوت الكلب (قوله الحوأب) بفتح الحاء المهملة وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة فموحدة قال ابن الأثير منزل بين البصرة ومكة، وفى الصحاح ماء من مياه العرب على طريق البصرة (قوله قزمان) بالقاف المضمومة والزاى الساكنة: هو الذى قاتل في وقعة أحد قتالا شديدا ثم قتل نفسه (*)

فِي قُرَيْشٍ مَا أفاموا الدِّينَ (وَقَالَ) يَكُون فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ فَرَأَوْهُمَا الْحَجَّاجُ وَالْمُخْتَارُ، وَأَن مُسَيْلِمَةَ يَعْقِرُهُ اللَّه، وَأَنَّ فَاطِمَةَ أَوَّل أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، وَأَنْذَرَ بِالرّدَّةِ وَبِأَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا فَكَانَتْ كَذَلِكَ بِمُدَّةِ الْحَسَنِ بن عَلِيّ (وَقَالَ إنَّ هَذَا لأمْرٌ بَدَأ نُبُوَّةً وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ رَحْمَةً وَخِلَافَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا ثُمَّ يَكُونُ عُتُوًّا وَجَبرُوتًا وَفَسَادًا فِي الْأُمَّةِ) وَأَخْبَر بِشَأْنِ أُوَيْسٍ الْقُرَنِي وَبِأُمَرَاء يُؤَخّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَسَيَكُونُ فِي أمَّتَهُ ثَلَاثُونَ كَذَّابًا فِيهِمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ثَلَاثُونَ دَجَّالًا كَذَّابًا أَحَدُهُم الدَّجَّالُ الْكَذَّابُ كُلُّهُمْ يَكْذِبُ عَلَى اللَّه وَرَسُولِهِ، وَقَالَ (يُوشِكُ

_ (قوله كذاب ومبير) بضم الميم وكسر الموحدة وفى آخره راء: من أبار أي أهلك وفى جامع الترمذي ويقال الكذاب المختار بن أبى عبيد والمبير الحجاج ابن يوسف ثم أسند إلى هاشم بن حسان قال أحصوا من قتل الحجاج صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل، وشرح مسلم اتفق العلماء على المراد بالكذاب المختار بن أبى عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف انتهى، وكان المختار واليا على الكوفة وكان يلقب بكسيان وإليه نسب الكيسانية وكان خارجيا ثم صار زيديا ثم صار شيعيا وكان يدعو إلى محمد بن الحنفية ومحمد يبرأ منه وكان أرسل ابن الأشتر بعسكر إلى ابن زياد وقاتل الحسين وقتله وقتل كُلَّ من كَان في قتل الحسين ممن قدر عليه ولما ولى مصعب بن الزبير على البصرة من جهة عبد الله بن الزبير قاتل المختار بن عبيد وقتله (قوله ملكا عضوضا) الملك بضم الميم والعضوض بفتح العين المهملة وبالضاد المعجمة قال ابن الأثير أي يصيب الرعية منه عسف وظلم حتى كأنهم يعضون منه عضا (قوله عتوا) بضم العين المهملة وتشديد الواو (قوله جبروت) بفتح الجيم والموحدة (*)

أَنْ يَكْثُرَ فِيكُمُ الْعَجَمُ يَأْكُلُونَ فَيْئَكُمْ وَيَضْرِبُونَ رِقَابَكُمْ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَسُوقَ النَّاسَ بِعَصَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ (وَقَالَ) خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذى يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ يشهون وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَينْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السَّمَنُ (وَقَالَ) لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ (وَقَالَ) هَلَاكُ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَاوِيهِ لَوْ شِئْتُ سَمَّيْتُهُمْ لَكُمْ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فلان وأخبر بظهور القدرية والرافصة وَسَبِّ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا وَقِلَّةِ الْأَنْصَارِ حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ يَتَبَدَّدُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ بَعْدَهُ أَثَرَةً، وَأَخْبَرَ بِشَأْن الْخَوَارِجِ وَصِفَتِهِمْ وَالْمُخَدَّجِ الَّذِي فِيهِمْ وَأَنَّ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقَ وَتَرَى

_ (قوله يأكلون) بمثناة تحتية فهمزة ساكنة (قوله فيئكم) بفاء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فهمزة مفتوحة (قوله حَتَّى يَسُوقَ النَّاسَ بِعَصَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ) قال القرطبى في التذكرة لعله الجهجاه (قوله يشهدون) قيل معناه يشهدون الزور وقيل يحلفون، واليمين تسمى شهادة، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (فشهادة أحدهم) (قوله لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ منه) قيل للحسن ما بال زمان عمر بن عبد العزيز بعد زمان الحجاج: فقال لا بد للناس من تنفيس يعنى أن الله تعالى ينفس عن عباده وقتا ما ويكشف العلاء فيه عنهم (قوله لَوْ شِئْتُ سَمَّيْتُهُمْ) قال القرطبى: منهم والله أعلم يزيد بن معاوية وعبيد الله ابن زياد ومن جرى مجراهم من أحداث ملوك بنى أمية (قوله أثرة) بضم الهمزة وإسكان المثلثة وبفتحهما، قال اليعمرى في سيرته كانت هذه الأثرة زمن معاوية (قوله والمخدج) بضم الميم وسكون الخاء المعجمة بعدها دال مهملة وجيم أي الناقص وكان ناقص اليد (*)

رعاة الغنم رؤس الناس والعراة الحفاء يَتَبَارونَ فِي الْبُنْيَانِ وَأَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنَّ قُرَيْشًا وَالْأَحْزَابَ لَا يَغْزُونَهُ أَبَدًا وَأنَّهُ هُوَ يَغْزُوهُمْ، وَأَخْبَرَ بِالْموتَانِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ فَتْح بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا وَعَدَ من سُكْنَى الْبَصَرَةِ وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ فِي الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ وَأَنَّ الدّينَ لَوْ كَانَ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لنا له رِجَالٌ من أَبْنَاءِ فَارِسَ وَهَاجَت رِيحٌ فِي غَزَاتِهِ فَقَالَ هَاجَتْ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ فَلَمّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَجَدُوا ذَلِكَ، وَقَالَ لِقَوْمٍ من جُلَسَائِهِ ضِرْسُ أَحَدِكُمْ فِي النَّارِ أَعْظَمُ من أُحُدٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَهَبَ الْقَوْمُ يَعْنِي مَاتُوا وَبَقِيتُ أَنَا وَرَجُلٌ فَقُتِلَ مُرْتَدًّا يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَأَعْلَمَ بِالذِي غَلَّ خَرَزًا من خَرَزِ يَهُودَ فَوُجِدَتْ فِي رَحْلِهِ وَبالذِي غَلَّ الشَّمْلَةَ وَحَيْثُ هِيَ وَنَاقَتُهُ حِينَ ضَلَّتْ وَكَيْفَ تَعَلَّقَتْ بِالشَّجَرَةِ بِخِطَامِهَا وَبِشَأْنِ كِتاب حَاطِبٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَبِقَضِيَّةِ عُمَيْرٍ مَعَ صَفْوَانَ حِينَ سَارَّهُ وَشَارَطَهُ عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمّا جَاءَ عُمَيْرٌ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَاصِدًا لِقَتْلِهِ وَأَطْلَعَهُ

_ (قوله وَأَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ ربتها) أي سيتها، أراد به كثرة السرارى واتساع الأحوال، فإن ولد الأمة من سيدها كسيدها وقيل العقوق وأن الولد يغلظ على أمه ويستطيل كالسيد (قوله بالموتان) قال ابن الأثير هو على وزن بطلان، الموت الكثير: وقال المصنف ضم الميم لغة تميم وفتحها لغة غيرها (قوله البصرة) يجوز فيه تثليث الموحدة وفى النسب لا يجوز ضمها (قوله وَبالذِي غَلَّ الشَّمْلَةَ) هو كركرة قال النووي يقال بفتح الكافين وبكسرهما (قوله وَبِشَأْنِ كِتاب حَاطِبٍ) قيل كان فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو صار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده وقيل كان فيه إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ نصر إما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذير، ذكرهما السهيلي (*)

رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَمْرِ وَالسّرّ أَسْلَمَ: وَأَخْبَرَ بِالْمَالِ الَّذِي تَرَكَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عِنْدَ أُمّ الْفَضْلِ بَعْدَ أنْ كَتَمَهُ فَقَالَ مَا عَلِمَهُ غيرى وغيرهما فأسلم، وأعلمه بأنه سيقتل بأبى بن خَلَفٍ وَفِي عُتْبَةَ بن أَبِي لَهَبٍ أنَّهُ يَأْكُلُهُ كَلْبُ اللَّه وَعَنْ مَصَارعِ أَهْلِ بَدْرٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ فِي الْحَسَنِ (إنَّ ابْنِي هَذَا سَيّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّه بِهِ بَيْنَ فَئَتَيْنِ) وَلِسَعْدٍ لَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيَسْتَضِرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَأَخْبَرَ بِقَتْلِ أَهْلِ مُؤْتَةَ يَوْمَ قُتِلُوا وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ أَوْ أَزْيَدُ وَبِمَوْتِ النَّجَاشِي يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ بِأَرْضِهِ، وَأَخْبَرَ فَيْرُوزَ إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِ رَسُولًا من كِسْرَى بِمَوْتِ كِسْرَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمّا حَقَّقَ فَيْرُوزُ الْقِصَّةَ أَسْلَمَ وَأَخْبَرَ أَبَا ذَرّ رَضِيَ الله عنه بتطر يده كَمَا كَانَ وَوَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ نَائِمًا فَقَالَ لَهُ كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ قَالَ أَسْكُنُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ فَإِذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُ - الْحَدِيثَ - وَبِعَيْشِهِ وَحْدَهُ وَمَوْتِهِ وَحْدَه وَأَخْبَرَ أَنَّ أَسْرَعَ أَزْوَاجِهِ بِهِ لُحُوقًا أَطْوَلُهُنَّ يَدًا فَكَانَتْ زَيْنَبَ لِطُولِ يَدِهَا بِالصَّدَقَةِ وَأَخْبَرَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بِالطَّفّ، وَأَخْرَجَ بِيَدِهِ تُرْبَةً وَقَالَ فِيهَا مَضْجَعُهُ، وَقَالَ فِي زَيْدِ بن صُوحَانَ يَسْبِقُهُ عُضْوٌ مِنْهُ إِلَى الْجَنةِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ فِي الْجِهَادِ، وَقَالَ فِي الذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَلَى حِرَاءٍ: اثبت

_ (قوله عِنْدَ أُمّ الْفَضْلِ) هي لبابة بنت الحرث زوج العباس أول امرأة أسلمت بعد خديجة وقيل بل أول امرأة أسلمت بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب (قوله وبموت النجاشي) وذلك في السنة التاسعة (قوله فكانت زَيْنَب بِنت جَحْش) توفيت سنة عشرين أو إحدى وعشرين (قوله بالطف) بتفح الطاء المهملة وتشديد الفاء موضع بناحية الكوفة (قوله ابن صوحان) بصاد مضمومة وحاء مهملتين (*)

فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيّ وَصِدّيقٌ وَشَهِيدٌ) فَقُتِلَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَطُعِنَ سَعْدٌ رَضِيَ الله عنهم، وقال للسراقة كَيْفَ بِكَ إذَا لَبِسْت سُوَارَي كِسْرَى فَلَمّا أُتِيَ بِهِمَا عُمَرُ أَلْبَسَهُمَا إِيَّاهُ وَقَالَ الْحَمْدُ لله الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ وَقَالَ تُبْنَى مَدِينَةٌ بَيْنَ دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ وَقُطْرُبُل وَالصَّرَاةِ تُجْبَى إِلَيْهَا خَزَائِنُ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِهَا يَعْنِي بَغْدَاد، وَقَالَ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْوَلِيدُ هُوَ شَرٌّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ من فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ وَقَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ وَقَالَ لِعُمَر فِي سُهَيْلِ بن عَمْرو عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا يَسُرُّكَ يَا عُمَرُ) فَكَانَ كَذَلِكَ قَامَ بِمَكَّةَ مقام أَبِي بَكْرٍ يوم بلعهم مَوْتُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَ بِنَحْو خُطْبَتِهِ وَثَبَّتَهُمْ وَقَوَّى بَصَائِرَهُمْ، وَقَالَ لِخَالِد حِينَ وَجَّهَهُ لِأُكَيْدِرَ (إِنَّكَ تَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ) فَوُجِدَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ

_ (قوله قال لسراقة) بضم السين المهملة ابن مَالِكِ بن جُعْشَمٍ بضم الجيم والشين المعجمة وهو في الأصل اسم للرجل القصير الغليظ مع شدة (قوله سوارى كسرى) السوار بضم السين المهملة وكسرها (قوله دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ وَقُطْرُبُل والصراة) دجلة بكسر الدال نهر بالعراق ودجيل بضم الدال وفتح الجيم نهر بالأهواز حفره أزدشير بن بابك أول ملوك ساسان وهم ملوك الفرس بالمدائن وقطربل بضم القاف وسكون الطاء المهملة وضم الراء والباء الموحدة المشددة موضع بالعراق، والصراة بفتح الصاد المهملة نهر بالعراق، وفى بعض الأصول: والهراة وهى بلدة معروفة (قوله لأكيدر) بضم الهمزة وفتح الكاف، قال الخطيب كان نصرانيا ثم أسلم وَقِيل بَل مات نصرانيا، وقال ابن منده وأبو نعيم في كتابهما في معرفة الصحابة إن أكيدر هذا أسلم وأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سيراء فوهبا لعمر قال ابن الأثير: الهدية والمصالحة (*)

مَوْتِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا أحبر بِهِ جُلَسَاءَه من أَسْرَارِهِمْ وَبَوَاطِنِهمْ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ من أَسْرَار الْمُنَافِقِينَ وَكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِيهِ وَفِي الْمُؤْمِنينَ حَتَّى إنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَيَقُولُ لِصَاحِبهِ اسكت فو الله لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ من يُخْبِرُ لأخبرنه حِجَارَةُ الْبَطْحَاءِ، وَإِعْلَامُهُ بِصِفَةِ السّحْرِ الَّذِي سَحَرَهُ بِهِ لَبِيدُ بن الْأَعْصَمِ وَكَوْنُهُ فِي مُشْطٍ ومشافة فِي جُفّ طَلْع نحلة ذكر وَأنَّهُ أُلْقِيَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَكَانَ كَمَا قَالَ ووجد عَلَى تِلْك الصّفَةِ وَإِعْلامُهُ قُرَيْشًا بِأَكْلِ الْأَرَضَةِ مَا فِي صَحِيفَتِهِمُ التِي تَظَاهَرُوا بِهَا عَلَى بَنِي هَاشِم وَقَطَعُوا بِهَا رَحِمَهُمْ وَأنَّهَا أَبْقَتْ فِيهَا كُلَّ اسْمٍ لله فَوَجَدُوهَا كَمَا قَالَ وَوَصْفُهُ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ كَذَّبُوهُ فِي خَبَر الْإِسْرَاءِ وَنَعْتُهُ إِيَّاهُ نَعْتَ من عَرَفَهُ وَإِعْلامُهُمْ بِعيرِهِمُ التي مَرَّ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِ وَإِنْذَارُهُمْ بِوَقْتِ وُصُولِهَا فَكَانَ كُلُّهُ كَمَا قَالَ إِلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ التي تَكُونُ ولم

_ صحيحان أما الإسلام فغلطا فيه فإنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير ولما صالحه عليه السلام عاد إلى حصنه وبقى فيه، ثم إن خالدا حاصره زمن أبى بكر فقتله مشركا لنقضه العهد (قوله في مشط) بضم الميم وكسرها وسكون الشين المعجمة (قوله ومشاقة) بالقاف عند أبى زيد وهى ما يمشط من الكتان، وبالطاء المهملة عند غيره وهى ما يسقط من الشعر عند التسريح بالمشط، ويقوى هذا أن السحر يكون في شئ من أثر المسحور وذلك هنا ظاهر في المشاطة دون المشاقة وما أخرجه الدارقطني في السنن أن النبي (ص) كان عنده صبى يهودى يخدمه وأن لبيد بن الأعصم توصل به إلى شئ من أسنان مشط النبي صلى الله عليه وسلم ومشاطة شعره وسحر في ذلك (قوله في جف) بضم الجيم وتشديد: الفاء وعاء الطلع، ويروى في جب بالموحدة أي في داخل (قوله الأرضة) لفتح الهمزة دويبة تأكل الخشب (*)

فصل في عصمة الله تعالى له من الناس وكفايته من آذاه

تَأْتِ بَعْد مِنْهَا مظهرت مُقَدّمَاتُهَا كَقْولِهِ (عِمْرَانُ بيت المدس خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ) وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَآيَاتِ حُلُولِهَا وَذِكْرِ النَّشْرِ وَالْحَشْرِ وَأَخْبَارِ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْجَنةِ وَالنَّارِ وَعَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ. وَبِحَسْبِ هَذَا الْفَصْلِ أنْ يَكُونَ دِيوَانًا مُفْرَدًا يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْزَاءٍ وَحْدَهُ وَفِيمَا أَشَرْنَا إليْهِ من نُكَتِ الْأَحَادِيثِ التي ذَكَرْنَاهَا كِفَايةً وَأَكْثَرُهَا فِي الصَّحِيحِ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ. فصل فِي عصمة اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنَ النَّاسِ وكفايته من آذاه قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وَقَالَ تَعَالَى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) وَقَالَ (أَلَيْسَ اللَّهُ بكاف عبده) قِيلَ بِكافٍ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا وَقَالَ (إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين) وَقَالَ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيَةَ * أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيّ الصَّدَفِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ وَالْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعَافِريُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ المَرْوَزِيُّ حدثنا

_ (قوله القسطنطينية) قال ابن قرقول هي بضم الطاء الأولى كذا قيدناه عن أهل هذا الشأن (قوله وبحسب هذا) باسكان السين المهملة (قوله المعافرى) بفتح الميم وتخفيف العين المهملة وكسر الفاء حى من اليمن، قاله المصنف (قوله حدثنا أبو الحسين) تصغير حسن وهو الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الجبار (*)

أَبُو عِيسَى الْحَافِظُ حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بن إبراهيم حدثنا الحارث ابن عُبَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ الجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ) وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ شَجَرَةً يقيل تحتها فأناه أعرابي فاحترط سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَرُعِدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ سَيْفُهُ وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى سَالَ دِمَاغُهُ فَنَزَلَتِ الآيَةُ، وَقَدْ رُوِيَتُ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَأَنَّ غورَثَ بن الْحَارِثِ صَاحِبُ هَذِهِ القصة وإن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَفَا عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ جئكم من عِنْدَ خَيْرِ النَّاسِ وَقَدْ حُكيتْ مِثْلُ هَذِهِ الْحِكَايَةِ أنَّهَا جَرَتْ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَد انْفَرَدَ من أَصْحَابِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ مِثْلَهُ وَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ وَقَعَ لها مِثْلُهَا فِي غَزْوَةِ غَطْفَانَ بِذِي أَمَر مَعَ رَجُلٍ اسْمُهُ دعثور

_ (قوله الجريرى) بضم الجيم وفتح الراء نسبة إلى جرير بن عباد (قوله فرعدت) بضم الراء وكسر العين المهملة مبنى للمفعول لم يسمع إلا كذلك وفى بعض النسخ فأرعدت (قوله بذى أمر) بفتح الهمزة والميم بعدها راء موضع من ديار غطفان خرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمع محارب قاله ابن الأثير (قوله اسمه دعثور) قال اليعمرى في سيرته وقد تقدم في غزوة ذى أمر خبر لرجل يقال له دعْثُورُ بن الْحَارِثِ من بنى محارب نسبة هذا الخبر إلى أن قال والظاهر أن الخبرين واحد انتهى وقال الذهبي في تجريد الصحابة دعْثُورُ بن الْحَارِثِ الغطفانى في حديث عجيب الإسناد، والأشبه أن غورث (*)

ابن الْحَارِثِ وَأَنَّ الرَّجُلَ أَسْلَمَ فَلَمّا رَجَعَ إِلَى قومه الذى أَغْرَوْهُ وَكَانَ سَيّدَهُمْ وَأَشْجَعَهُمْ قَالُوا لَهُ أَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ وَقَدْ أَمْكَنَكَ فَقَالَ إِنَّي نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ أَبَيْضَ طَوِيلٍ دَفَعَ فِي صَدْرِي فَوَقَعْتُ لِظَهْرِي وَسَقَطَ السَّيْفُ فَعَرَفْتُ أنَّهُ مَلَكٌ وَأَسْلَمْتُ، قِيلَ وَفِيهِ نَزَلَتْ (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نعمة اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) الآيَةَ * وَفِي رِوَايَةِ الخَطَّابِيّ أَنَّ غَورَثَ بن الْحَارِثِ الْمُحَارِبيَّ أَرَادَ أَنْ يَفْتِكَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ مُنْتَضِيًا سَيْفَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِ بِمَا شِئْتَ فَانْكَبَّ مِنْ وَجْهِهِ مِنْ زلحة زُلِّخَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَنَدَرَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ (والزُّلَّخَةُ) وَجَعُ الظَّهْرِ وَقِيلَ فِي قِصَّتِهِ غَيْرُ هَذَا، وَذُكِرَ أَنَّ فِيهِ نزلت (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نعمة اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هم قوم) الآيَةَ وَقِيلَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخَافُ قُرَيْشًا فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ اسْتَلْقَى ثُمَّ قَالَ مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي * وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ كَانَتْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ تَضَعُ الْعِضَاه وَهِيَ جَمْرٌ عَلَى طَرِيق رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّمَا

_ (قوله أن غورث) المشهور أنه بالمعجمة المفتوحة غير مصغر ورواه الخطابى بالتصغير والشك في إعجام الغين وإهمالها (قوله أَرَادَ أَنْ يَفْتِكَ) بالفاء وضم المثناة الفوقية وكسرها أي يأخذ على غرة (قوله منتضبا) بالضاد المعجمة من نضا سيفه وأنضاه أي سله (قوله من زلخة) بضم الزاى وتشديد اللام المفتوحة بعدها خاء معجمة قال الخطابى وجع يأخذ في الظهر حتى لا يتحرك معه الإسان، وقال السهيلي وجع يأخذ الصلب (قوله زلخها) بضم الزاى وكسر اللام مبنى للمفعول (قوله العصاة) بكسر العين المهملة كل شجر يعظم وله شوك (*)

يَطَؤُهَا كَثِيبًا أَهْيلَ، وَذَكَرَ ابن إِسْحَاقَ عَنْهَا أنَّهَا لَمّا بَلَغَها نُزُولُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) وذكرهما بِمَا ذَكَرَهَا اللَّه مَعَ زَوْجهَا مِنَ اللم أَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ من حِجَارَةٍ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهَمَا لَمْ تَرَ إلَّا أَبَا بَكْر وَأَخَذَ اللَّه تَعَالَى بِبَصَرهَا عَنْ نَبِيَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْر أَيْنَ صَاحِبُكَ فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّهُ يَهْجُونِي والله لَوْ وَجَدْتُهُ لضَرَبْتُ بهذا الفهر فَاهُ، وَعَنِ الْحَكَمِ ابن أَبِي الْعَاصِي قَالَ تَوَاعَدْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا رَأَيْنَاهُ سَمِعْنَا صَوْتًا خَلْفَنَا مَا ظَنَنَّا أنَّهُ بَقِيَ بِتهَامَة أَحَدٌ فَوَقَعْنَا مَغْشِيًّا عَلَيْنَا فَمَا أَفَقْنَا حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ وَرَجَعَ إِلَى أهْلِهِ ثُمَّ تَوَاعَدْنَا لَيْلَةً أُخْرَى فَجِئْنَا حَتَّى إذا رَأَيْنَاهُ جَاءَتِ الصفا والمروة فحالت بيننا وبينه، وعن عمر رضي اللَّه عنه تواعدت أنا وأبو جهم ابن حذيفة لَيْلَةً قَتْلَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْنَا مَنْزِلَهُ فَسَمِعْنَا لَهُ فَافْتَتَح وَقَرَأ (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) إِلَى (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) فَضَرَبَ أَبُو جَهْمٍ عَلَى عَضُدِ عُمَرَ وَقَالَ انْج وَفرَّا هارِبَيْنِ فَكَانَتْ من مُقَدّمَاتِ إِسْلامِ عُمَرَ رضي الله عنه، ومنه العترة الْمَشْهُورَةُ وَالْكِفَايَةُ التَّامّةُ عند ما أَخَافَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ وَبَيَّتُوهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِم من بَيْتِهِ فَقَامَ عَلَى رؤسهم وَقَدْ ضَرَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَذَرّ التُّرَابَ عَلَى رؤسهم وخلص

_ (قوله أهيل) أي سائلا يقال أهيل الرمل وانهال إذا سال (قوله فهر) بكسر الفاء هو الحجر ملء الكف وقيل الحجر مطلقا (*)

مِنْهُمْ وَحِمَايَتُهُ عَنْ رُؤَيَتِهِمْ فِي الْغَارِ بِمَا هَيَّأ اللَّه لَهُ مِنَ الآيَاتِ وَمِنَ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي نَسَجَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أُمَّيَةُ بن خَلِفٍ حِينَ قَالُوا نَدْخُلُ الْغَارَ مَا أَرَبُكُمْ فِيهِ وَعَلَيْهِ من نَسْج الْعَنْكَبُوتِ مَا أَرَى أنَّهُ قَبْلَ أَنَّ يُولَدَ مُحَمَّدٌ وَوَقَفَتْ حَمَامَتانِ عَلَى فَمِ الْغَارِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لَوْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ لما كَانَتْ هُنَاك الْحَمَامُ، وَقِصَّتُهُ مَعَ سُرَاقَةَ بن مَالِكِ بن جُعْشَمٍ حِينَ الهِجْرَةِ وَقَدْ جَعَلَتْ قُرْيشٌ فِيهِ وَفِي أَبِي بَكْرٍ الْجَعَائِلَ فَأُنْذِرَ بِهِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَاتَّبَعَهُ حَتَّى إذَا قَرُبَ مِنْهُ دَعَا عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسهِ فَخَرَّ عَنْهَا وَاسْتَقْسَمَ بِالْأزْلامِ فَخَرَجَ لَهُ مَا يَكْرَهُ ثُمَّ رَكِبَ وَدَنَا حَتَّى سَمِعَ قِرَاءَةَ النبي صلى الله تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَلْتَفِتُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِينَا فَقَالَ لَا تَحْزَن إنَّ اللَّه معنا فَسَاخَتْ ثَانِيَةً إِلَى ركبتها وَخَرَّ عَنْهَا فَزَجَرَهَا فنهضت ولقواءمها مِثْلُ الدُّخَانِ فَنَادَاهُمْ بالأمام فَكَتَبَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانًا كَتَبَهُ ابن فُهَيْرَة وَقِيلَ أَبُو بَكْر وأحبرهم بالأخبار

_ (قوله مَا أَرَبُكُمْ فِيهِ) أي ما حاجتكم (قوله فركب فرسه) كان اسم هذا الفرس العود قيل وكانت أنثى لقوله فِي بَعْض طُرُق الصحيح فرفعتها تقرب بى (قوله فساخت) بالسين المهلمة والخاء المعجمة أي غاصت في الأرض (قوله بالأزلام) جمع زلم بفتح الزاى واللام وبضم الزاى وفتح اللام وهى القداح بكسر القاف جمع قدح بكسرها أيضا وهو عود السهم قبل أن يراش ويركب نصله فإذا فعل ذلك فهو سهم، كانوا يكتبون على زلم افعل وعلى آخر لا تفعل فما خرج لهم عملوا به (قوله ابن فهيرة) بضم الفاء وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية قيل كتابه صلى الله عليه وسلم نيف وأربعون = = وأكثرهم ملازمة له زَيْد بن ثَابت ومعاوية بن أبى سفيان بعد الفتح وقيل أبو بكر، وجمع بين القولين بأن ابن فهيرة كتب أولا وكتب الصديق آخرا (*)

وَأَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَلْحَقُ بِهِمْ فَانْصَرَفَ يَقُولُ لِلنَّاسِ كفيتم ماهها وَقِيلَ بَلْ قَالَ لهما أَرَاكُمَا دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَنَجَا وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ظُهُورُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ رَاعِيًا عَرَفَ خَبَرَهُمَا فَخَرَجَ يَشْتَدُّ يُعْلِمُ قُرَيْشًا فَلَمّا وَرَدَ مَكَّةَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ فَمَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ وَأُنْسِيَ مَا خَرَجَ لَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ وجاء، فيما ذكر ابن إِسْحَاق وَغَيْرُهُ أَبُو جَهْلِ بِصَخْرَةٍ وَهُوَ سَاجِدٌ وَقُرَيْشٌ يَنْظَرُونَ ليَطْرَحَهَا عَلَيْهِ فَلَزِقَتْ بيده ويبسته يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ وَأَقْبَلَ يَرْجِعُ القَهْقَرَى إِلَى خَلْفِهِ ثُمَّ سَأَلَهُ أنْ يَدْعُوَ لَهُ فَفَعَلَ فَانْطَلَقَتْ يَدَاهُ وَكَانَ قَدْ تَوَاعَدَ مَعَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ وَحَلَفَ لَئِنْ رآه ليدمغنه فَسَألُوهُ عَنْ شَأْنِهِ فَذَكَرَ أنَّهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ هَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذاك جِبْرِيلُ لَوْ دَنَا لأخَذَهُ، وَذَكَرَ السَّمْرَقَنْدِيُّ أَنَّ رَجُلًا من بَنِي الْمُغيرَةِ أَتى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ فَطَمَسَ اللَّه عَلَى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ قَوْلَهُ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرهُمْ حَتَّى نَادَوْهُ وَذَكَرَ أَنَّ فِي هَاتَيْنِ الفضتين نَزَلَتْ (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا) الآيَتَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابن إِسْحَاق فِي قِصَتِهِ إذ خرج لى بنى قريظة

_ (قوله يشتد) أي يعدو (قوله القهقرى) هو الرجوع إلى خلف (قوله إِذْ خَرَجَ إِلَى بنى قريظة) الذى ذَكَرَهُ ابن إِسْحَاق وابن عقبة وابن سعد وَغَيْرِهِم من أَهْل السير أن ذلك كان في بنى النضير وهو سبب غزوهم وأما غزوة بنى قريظة فسبها غزوة الخندق (*)

فِي أَصْحَابِهِ فَجَلَسَ إِلَى جِدَارِ بَعْضِ آطامِهِمْ فَانْبَعَثَ عَمْرُو بن جَحّاشٍ أَحَدُهُمْ لِيَطْرَحَ عَلَيْهِ وحى فَقَامَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمَهُمْ بِقَصَّتِهِمْ وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تعالى (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نعمة اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هم قوم) فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَزَلَتْ، وَحَكَى السَّمْرَقَنْدِيُّ أنَّهُ خَرَجَ إِلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي عَقْلِ الْكِلابَيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرو بن أُمَيّةَ فَقَالَ لَهُ حُيَيُّ بن أَخْطَبَ اجْلِسْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا فَجَلَسَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَتَوامَرَ حُيَيُّ مَعَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ فَأَعْلَمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَامَ كَأنَّهُ يُرِيدُ حَاجَتَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ مَعْنَي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَعَدَ قُرَيْشًا لَئِنْ رَأَى مُحَمَّدًا يُصَلّي لَيَطَأَنَّ رَقَبَتَهُ فَلَمّا صَلَّى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُوهُ فَأَقْبَلَ فَلَمّا قَرُبَ مِنْهُ وَلَّى هَاربًا نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ مُتَّقِيًا بَيَدَيْهِ فَسُئِلَ فَقَالَ لَمّا دَنَوْتُ مِنْهُ أَشْرَفْتُ عَلَى خَنْدَقٍ مَمْلُوءٍ نَارًا كِدْتُ أَهْوِي فِيهِ وأبصرت هولا عظما وَخَفْقَ أَجْنِحَةٍ قَدْ ملأت الأرض فقال صلى الله عليه وسلم

_ (قوله ابن جحاش) بجيم مفتوحة وحاء مهملة مشددة وفى آخره شين معجمة قتل كافرا (قوله حيى) بحاء مضمومة مهملة فمثناة تحتية مفتوحة فأخرى مشددة (*)

تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ لَوْ دَنَا لاخْتَطَفَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ ليطغى) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ شَيْبَةَ بن عُثْمَانَ الْحَجَبِيَّ أَدْرَكَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَكَانَ حَمْزَةُ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ وَعَمَّهُ فَقَالَ الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَارِي من مُحَمَّدٍ فلَمّا اخْتَلَطَ النَّاسُ أَتَاه من خَلْفِهِ وَرَفَعَ سَيْفَهُ لَيَصُبَّهُ عَلَيْهِ قَالَ فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ ارْتَفَعَ إِلَيَّ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ فَوَلَّيْتُ هَارِبًا وَأَحَسَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي وَهُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَيَّ فَمَا رَفَعَهَا إِلَّا وَهُوَ أَحَبُّ الخَلْقِ إِلَيَّ وَقَالَ لِي ادْنُ فَقَاتِلْ فَتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ أَضْرِبُ بِسَيْفَي وَأَقِيهِ بِنَفْسِي ولو لقيته أَبِي تِلْكَ السَّاعَةَ لأَوْقَعْتُ بِهِ دُونَهُ، وَعَنْ فَضَالَةَ بن عَمْرو قَالَ أَرَدْتُ قَتْلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح هو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَلَمّا دَنَوْتُ مِنْهُ قَالَ: أُفَضَالَةُ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ (مَا كُنْتَ تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟) قلت: لا شئ، فَضَحِكَ وَاسْتَغْفَرَ لِي وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي فَسَكَنَ قَلْبِي، فو الله مَا رَفَعَهَا حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَمِنْ مَشْهُورِ ذَلِكَ خَبَرُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بن قَيْسٍ حِينَ وَفَدا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عَامِرٌ قَالَ لَهُ أَنَا أَشْغَلُ عَنْكَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ فَاضْربه أَنْتَ فَلَمْ يَرَهُ فَعَلَ

_ (قوله الحجبى) بفتح الحاء المهملة والجيم بعدها موحدة وياء النسبة إلى حجب الكعبة ويقع في بعض النسخ جمحى وهو غلط (قوله ثارى) أصله بالهمزة وخفف (قوله وأربد) بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الموحدة بعدها دال مهملة، هو أخو لبيد بن ربيعة لأمه، بعث الله عليه صاعقة فأحرقته كافرا، ولبيد صحابي (23 - 1) (*)

فصل ومن معجزاته الباهرة ما جمعه الله له من المعارف والعلوم

شيئا فلما كله فِي ذَلِكَ قَالَ لَهُ والله مَا هَمَمْتُ أنْ أَضْرِبَهُ إلَّا وَجَدْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنهُ أَفَأَضْرِبُكَ؟ وَمِنْ عصْمَتِهِ لَهُ تَعَالَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ وَالْكَهَنَةِ أَنْذَرُوا بِهِ وَعَيَّنُوهُ لِقُرَيْشٍ وَأَخْبَرُوهُمْ بسوطته بِهِمْ وَحَضُّوهُمْ عَلَى قَتْلِهِ فَعَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى حَتَّى بَلَغَ فِيهِ أَمْرَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ نَصْرُهُ بِالرُّعْبِ أَمَامَهُ مَسِيرَةَ شهر كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصل وَمِنْ مُعْجِزاتِهِ الْبَاهِرَةِ مَا جَمَعَهُ اللَّه لَهُ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ وَخَصَّهُ بِهِ مِنَ الاطّلاعِ عَلَى جَمِيعِ مَصَالِح الدُّنْيَا وَالدّينِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأُمُورِ شَرَائعهِ وَقَوانِينِ دِينِهِ وَسِيَاسَةِ عِبَادِهِ وَمَصَالِحِ أُمَّتِهِ وَمَا كَانَ فِي الْأُمَم قَبْلَهُ وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْجَبَابرَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ من لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَنِهِ وَحِفْظِ شِرَائِعِهمْ وَكُتُبُهِمْ وَوَعْي سِيَرِهِمْ وَسَرْدِ أَنْبَائِهِمْ وَأَيَّامِ اللَّه فِيهِمْ وَصِفَاتِ أعْيَانِهِمْ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ وَالْمَعْرِفَةِ بِمُدَدِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ وَحِكَمِ حُكَمائِهِمْ وَمُحاجَّةِ كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْكَفَرَةِ وَمُعَارَضَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنَ الْكِتَابِيِّينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ وَإِعْلامِهِمْ بأسرار وَمُخَبَّآتِ عُلُومِهَا وَإِخْبَارِهِمْ بِمَا كَتَمُوهُ من ذَلِكَ وَغَيَّرُوهُ إِلَى الاحْتِوَاءِ عَلَى لُغَاتِ الْعَرَبِ وَغَرِيب أَلْفَاظِ فِرَقهَا وَالْإِحَاطَةِ بِضُرُوبِ فصاحتها والحقظ لأيَّامِهَا وَأَمْثَالِهَا وَحِكَمِهَا وَمَعَانِي أَشْعَارِهَا وَالتَّخْصِيص بِجَوَامِعِ كَلِمهَا إِلَى المَعْرِفَةِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ الصَّحِيحَةِ وَالحِكَمِ البَيّنَةِ

_ (قوله بمددهم) بضم الميم: جمع مدة (*)

لِتَقْرِيبِ التَّفْهِيمِ لِلْغَامِضِ وَالتَّبِيينِ لِلْمُشْكَلِ إلى تَمْهِيدِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَلَا تَخَاذُلَ مَعَ اشْتِمَالِ شَرِيعَتِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ محامد الآداب وكل شئ مُسْتَحْسَنٍ مُفَصَّلٍ لَمْ يُنْكِرْ مِنْهُ مُلْحِدٌ ذُو عَقْلٍ سَلِيمٍ شَيْئًا إلَّا من جهَةِ الْخُذْلانِ بَلْ كُلُّ جَاحِدٍ لَهُ وَكَافِرٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ بِهِ إذَا سَمِعَ ما يدعو إلى صَوَّبَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ دُونَ طَلَب إِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَلَيْهِ ثُمَّ مَا أَحَلَّ لَهُمْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَحَرّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَبَائِثِ وَصَانَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مِنَ الْمُعَاقَبَاتِ وَالْحُدُودِ عَاجِلًا وَالتَّخْوِيفِ بِالنَّارِ آجِلًا مِمَّا لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ وَلَا يَقُومُ بِهِ وَلَا بِبَعْضِهِ إلَّا من مارس الدرس والعكوف على الكتب ومثافنة بغض هَذَا إِلَى الاحْتِوَاءِ عَلَى ضُرَوبِ الْعِلْمِ وَفُنُونِ الْمَعَارِفِ كَالطّبّ وَالْعِبَارَةِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَالنَّسَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُوم مِمَّا اتَّخَذَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا قُدْوَةً وَأُصُولًا فِي عِلْمِهِمْ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الرُّؤْيَا لَأَوَّلِ عَابِرٍ وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ) وَقَوْله (الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ رُؤْيَا حَقٍّ وَرُؤْيَا يُحَدِّثُ بِهَا الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنَ الشَّيْطَانِ) وَقَوْله (إذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ لَمْ تكد رؤيا

_ (قوله والعبارة) بكسر العين هي تعبير الرؤيا (قوله وَهِيَ عَلَى رِجْلِ طائر رجل بكسر الراء وسكون الجيم، قال الهروي أي علاى قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر وقال ابن الأثير هو من قولهم اقتسموا دارا فطار سهم فلان إلى ناحية كذا يعنى أن الرؤيا وهى التى يعبرها المعبر الأول فكأنها سقطت ووقعت حيث عبرت كما يسقط الذى يكون على رجل الطائر بأدنى حركة وقال ابن قتيبة أراد أنها غير مستقرة يقال للشئ إذا لم يستقر هو عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ وبين مخالب طائر وعلى قرن ظبى (قوله إذَا تَقَارَبَ الزَّمَانُ) قيل هو اقتراب الساعة وقيل تقارب الليل والنهار من الاعتدال (*)

الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ) وَقَوْله (أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ) وَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ من قَوْلِهِ (المَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ) وَإِن كَانَ هَذَا حَدِيثًا لَا نصحهه لَضَعْفِهِ وَكَوْنِهِ مَوْضُوعًا تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَوْلُهُ (خَيرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ وَاللَّدُودُ وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشِيُّ وَخَيْرُ الْحِجَامَةِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَفِي الْعُودِ الْهِنْدي سَبْعَةُ أَشْفيةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ) وَقَوْلُهُ (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ - إِلَى قَوْلِهِ - فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ وَقَوْلُهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ سَبَإ أَرَجُلٌ هُوَ أَم امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ؟ فَقَالَ (رَجُلٌ ولد عشرة نيا من منهم ستة وثشأم أَرْبَعَةٌ) الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَكَذَلِكَ جَوَابُهُ فِي نَسَبِ قُضَاعَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اضْطَرَّتِ الْعَرَبَ عَلَى شَغْلِهَا بِالنَّسَبِ إِلَى سُؤَالِهِ عَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ من ذَلِكَ، وَقَوْله

_ (قوله البردة) بفتح الموحدة والراء وبالدال المهملة وهى التخمة وثقل الطعام على المعدة لأن ذلك يبرد المعدة (قوله السموط) بفتح السين المهملة ما يجعل في الأنف من الأدوية (قوله واللدود) بفتح اللام وبدالين مهملتين بينهما واو هو الدواء الذى يصب في أحد جانبى الفم، قاله الجوهرى (قوله والمشى) بفتح الميم وكسر الشين المعجمة بعدها ياء مشددة هو الدواء المسهل لأنه يحمل شاربه على المشى والتردد إلى الخلاء، قاله ابن الأثير (قوله وَفِي الْعُودِ الْهِنْدي) قيل هو القسط البحري وقيل العود الذى يتبخر به، قاله ابن الأثير (قوله حمير) بكسر المهملة وسكون الميم وفتح المثناة التحتية (*)

(حِمْيرٌ رَأْسُ الْعَرَبِ وَنَابُهَا وَمِذْحِجُ هَامَتُهَا وَغَلْصَمَتُهَا وَالْأَزْدُ كَاهِلُهَا وَجُمْجُمَتُهَا وَهَمْدَانُ غَارِبُهَا وَذُرْوَتُهَا) وَقَوْله (إِنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ) وَقَوْله (فِي الْحَوْضِ زَوَايَاهُ سَوَاءٌ) وَقَوْلُهُ فِي حَدِيث الذّكْرِ (وَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَتِلْكَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ عَلَى اللسان وألف وخمسمائة في الميزان وقوله وَهُوَ بِمَوْضِع (نِعْمَ مَوْضِعُ الْحَمَّامِ هَذَا) وَقَوْلُهُ (مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ) وَقَوْلُهُ لِعُيَيْنَة أَو الأقرع أَنَا أَفْرَسُ بِالْخَيْلِ مِنْكَ) وَقَوْلُهُ لِكَاتِبِهِ (ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ فَإِنَّهُ أَذْكَرُ للممل) هَذَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْتُبُ وَلَكِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شئ حَتَّى قَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ بِمَعْرفَتِهِ حُرُوفَ الْخَطِّ وَحُسْنَ تَصْوِيرِهَا كَقَوْلِهِ (لَا تَمُدُّوا باسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) رواه أن شعْبَانَ من طَرِيقِ ابن عَبَّاس، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثَ الْآخَرِ الَّذِي يُرْوَى عَنْ مُعَاوِيَةَ أنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال له

_ (قوله مذحج) بسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة، في الصحاح مذحج على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن وهو مذحج بن يحاص بن مَالِكِ بن زيد بن كهلان بن سبأ، قال سيبويه: الميم من نفس الكلمة، وفى القاموس كمجلس: أكمه، ولدت مالكا وطيبا أم هما عندها فسموا مذحجا (قوله وغلصمتها) الغلصمة بفتح الغين المعجمة وسكون اللام رأس الحلقوم وهو الموضع الثاني في الحلق (قوله كاهلها) الكاهل من الإنسان ما بين كتفيه (قوله وهمدان) بسكون الميم (قوله غاربها) الغارب ما بين السنام والعنق (قوله وذروتها) بضم الذال المعجمة وكسرها. أي أعلاه (*)

(أَلقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَأَقِمِ الْبَاءَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تُعَوِّرِ الْمِيمَ وَحَسِّنِ اللَّهَ وَمُدَّ الرَّحْمَنَ وَجَوِّدِ الرَّحِيمَ) وَهَذَا وَإِنَّ لَمْ تَصِحَّ الرَّوَايَةُ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أنْ يُرْزَقَ عِلْمَ هَذَا وَيُمْنَعَ الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةَ * وَأَمَّا عِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَحِفْظُهُ مَعَانِي أَشْعَارِهَا فَأمْرٌ مَشْهُورٌ قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ أَوَّلَ الْكِتَابِ وَكَذَلِكَ حِفظُهُ لِكَثِيرٍ من لُغَاتِ الْأُمَم كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ (سَنَةْ سَنَةْ) وَهِيَ حَسَنَةٌ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَقَوْلُهُ (وَيَكْثُرُ الهَرْجُ) وَهُوَ الْقَتْلُ بِهَا، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ (أَشْكَنْبَ دَرْدَ) أي وَجَعُ الْبَطْنِ بِالْفَارِسيَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُ بَعْضَ هَذَا وَلَا يَقُومُ بِهِ وَلَا بِبَعْضِهِ إلَّا من مارس الدرس والعكوف على الكتاب وَمُثَافَنَةِ أَهْلِهَا عُمْرَهُ وَهُوَ رَجُل كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى أُمّيّ لَمْ يَكَتُبْ وَلَمْ يَقْرَأْ وَلَا عُرِفَ بِصُحْبَةِ من هَذِهِ صِفَتُهُ وَلَا نَشَأ بَيْنَ قَوْم لَهُمْ عِلْمٌ وَلَا قِرَاءَةٌ لشئ من هَذِهِ الأُمُورِ وَلَا عُرِفَ هُوَ قَبْلُ بشئ مِنْهَا قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)

_ (قوله ألق الذوة) بفتح الهمزة وكسر اللام، أي: أصلح مدادها (قوله وَلَا تُعَوِّرِ الْمِيمَ) بضم المثناة الفوقية، وفتح العين المهملة وتشديد الواو المكسورة (قوله سنه سنه) قال ابن الأثير: وفى رواية سنا سنا بتخفيف نونهما وتشديدهما، وفى أخرى سناه سناه بالتشديد والتخفيف فيهما (قوله الهرج) بفتح الهاء وسكون الراء بعدها جيم (قوله أشكنب درد) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح الكاف بعدها نون ساكنة فموحدة كذلك فدالين مهملتين أولهما مفتوحة وبينهما راء وأشكنب معناه بالفارسية: البطن، ودرد: الوجع (قوله مثافنة بمثلثة وفاء ونون تقدم تفسيره (*)

الآيَةَ: إنَّمَا كَانَتْ غاية معارف العر بالنسب وَأَخْبَارَ أوَائِلِهَا وَالشّعْرَ وَالْبَيَانَ وَإنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ لَهُمْ بَعْدَ التفرق لِعِلْمِ ذَلِكَ وَالاشْتِغَالِ بِطَلَبَهِ وَمُبَاحَثَهِ أهْلِهِ عَنْهُ، وَهَذَا الفَنُّ نُقْطَةٌ من بَحْرِ عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَبِيلَ إِلَى جَحْدِ الملحد لشئ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَلَا وَجَدَ الْكَفَرَةُ حِيلَةً فِي دَفْع مَا نَصَصْنَاهُ إلَّا قَوْلَهُمْ (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (وإنما يعلمه بشر) فَرَدَّ اللَّه قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مبين) ثُمَّ مَا قَالُوهُ مَكابَرَةُ الْعِيَانِ فَإِنَّ الَّذِي نَسَبُوا تَعْلِيمَهُ إليْهِ إِمَّا سَلْمَانُ أَو الْعَبْدُ الْرُّومِيُّ وسلمان إما عَرَفَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَنُزُولِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَظُهُورِ مَا لا يَنْعَدُّ مِنَ الآيَاتِ، وَأَمَّا الرُّومِيُّ فَكَانَ أسْلَمَ وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَقِيلَ بَلْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ عِنْدَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ وَكِلاهُمَا أَعْجَمِيُّ اللَّسَانِ وَهُمُ الْفُصَحاءُ اللُّدُّ وَالْخُطَبَاءُ اللُّسْنُ قَدْ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا أتَى بِهِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بَلْ عَنْ فَهْمِ وَصْفِهِ وَصُورَةِ تَألِيفِهِ وَنظمِهِ فَكَيْفَ بِأَعْجَمِيّ أَلْكَنَ؟ نَعَمْ وَقَدْ كَانَ سَلْمَانُ أَوْ بَلْعَامُ الرُّومِيُّ أَوْ يَعِيشُ أو جبر ويسار عَلَى اخْتِلافِهِمْ فِي اسْمِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يُكَلِّمُونَهُمْ مَدَى أَعْمَارِهِمْ فَهَلْ حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شئ من مِثْلِ مَا كان يجئ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَلْ عرف

_ (قوله اللد) جمع ألد وهو الشديد الخصومة (قوله اللسن) بضم اللام وإسكان السين المهملة جمع لسن بفتح اللام وكسر المهملة (قوله ألكن) الكنة العجمة في اللسان والعى في الكلام (*)

فصل ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم وكراماته وباهرآياته إنباؤه مع الملائكة والجن

وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمَعْرِفَةِ شئ من ذَلِكَ وَمَا مَنَعَ الْعَدُوَّ حِينَئذٍ عَلَى كَثْرَةِ عَدَدِهِ دؤوب طلبه وقوة حسده أنْ يَجْلِس إِلَى هذا فَيَأْخُذَ عَنْهُ أيْضًا مَا يُعَارِضُ به وَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى شِيعَتِهِ كَفِعْل النَّضْرِ بن الْحَارِثِ بِمَا كَانَ يُمَخْرِقُ بِهِ من أَخْبَارِ كُتُبِهِ وَلَا غَابَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْمِهِ وَلَا كَثُرَتِ اخْتِلافَاتُهُ إِلَى بلادِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُقَالُ إنَّهُ اسْتَمَدَّ مِنْهُمْ بَلْ لَمْ يَزَلْ بين أظهرهم يرعى في صغره وشبابه على عادة أنبيائهم ثم لم يخرج عن بلادهم إلا فِي سَفْرَةٍ أَوْ سَفْرَتَيْنِ لَمْ يَطُلْ فِيهِمَا مُكْثُهُ مُدَّةً يَحْتَمِلُ فِيهَا تَعْلَيمُ الْقَليل فَكَيْفَ الْكَثِيرُ؟ بَلْ كَانَ فِي سَفَرِهِ فِي صُحْبَةِ قَوْمِهِ وَرِفَاقِهِ وَعَشِيرَتِهِ لَمْ يَغِبْ عَنْهُمْ وَلَا خَالَفَ حَالُهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ من تَعْلِيمٍ وَاخْتِلَافٍ إِلَى حَبْرٍ أَوْ قَسٍّ أَوْ كَاهِنٍ بَلَ لَوْ كَانَ هَذَا بَعْدُ كُلُّهُ لَكَانَ مجئ مَا أَتَى بِهِ فِي مُعْجِز الْقُرْآنِ قَاطِعًا لِكُلّ عُذْرٍ وَمُدْحِضًا لِكُلّ حُجَّةٍ وَمُجَلِّيًا لِكُلّ أَمْرٍ فصل وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وكراماته وباهرآياته إنباؤه

_ (قوله كَفِعْل النَّضْرِ بن الحارث) قتل كافرا صبرا في توجيهه عليه السلام بعد بدر إلى المدينة (قوله يمخرق) بضم أوله وفتح ثانيه وسكون الخاء المعجمة بعدها راء مكسورة وقاف في الصحاح أما المخرقة فكلمة مولدة (قوله بين أظهرهم) أي بينهم (قوله إلى حبر) بفتح الحاء المهملة وكسرها (قوله أو قس) بفتح القاف وكسرها وتشديد السين، في الصحاح هو رئيس من رؤس النصارى في الدين والعلم وكذلك القسيس (*)

مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنّ وَإمْدَادُ اللَّه لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ وَطَاعَةُ الْجِنّ له ورؤية كثيرا من أَصْحَابِهِ لَهُمْ * قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ) الآيَةَ وَقَالَ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) وَقَالَ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي ممدكم) الآيَتَيْنِ، وَقَالَ (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن الآيَةَ * حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِ الْفَقِيهُ بِسَمَاعِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ نا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شعبة عن سلمان الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى) قَالَ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورتِهِ له ستمائة جَنَاحٍ، وَالْخَبَرُ فِي مُحَادَثَتِهِ مَعَ جِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا شَاهَدَهُ من كَثْرَتِهِمْ وَعِظَم صُورِ بَعْضِهمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مَشْهُورٌ وَقَدْ رَآهُمْ بِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ من أَصْحَابِهِ فِي مَوَاطِن مُخْتَلِفَةٍ فَرَأَى أَصْحَابه جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَرَأَى ابن عَبَّاسٍ وَأُسَامَةُ بن زَيْدٍ وَغَيْرهمَا عند جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ وَرَأَى سَعْدٌ عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهَمَا ثِيَابٌ بِيضٌ ومِثْلُهُ

_ (قوله ابن حبيش) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وفى آخره شين معجمة هو أبو مريم الأسدى (قوله دحية) بكسر الدال المهملة وفتحها (*)

عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَسَمِعَ بَعْضُهُمْ زَجْرَ الْمَلَائِكَةِ خَيْلَهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَبَعْضُهُمْ رَأَى تطاير الرؤس مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا يَرَوْنَ الضَّارِبَ وَرَأَى أَبُو سُفْيَانَ بن الْحَارِثِ يَوْمَئِذٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلِ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا يَقُومُ لها شئ وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُصَافِحُ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ وَأَرَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْزَةَ جِبْرِيلَ فِي الْكَعْبَةِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ وَرَأى عَبْد اللَّه بن مَسْعُودٍ الْجِنَّ لَيْلَةَ الْجِنّ وَسَمِعَ كَلامَهُمْ وَشَبَّهَهُمْ بِرِجَالِ الزُّطّ، وَذَكَرَ ابن سَعْدٍ أَنَّ مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ لَمّا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَخَذَ الرَّايَةَ مَلَكٌ عَلَى صُورَتِهِ فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ (تَقَدَّمْ يَا مُصْعَبُ) فقال لَهُ المَلَكُ لَسْتُ بِمُصْعَبٍ فَعَلِمَ أنَّهُ مَلَكٌ، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُصَنّفينَ عَنْ عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنه قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ بِيَدِهِ عَصًا فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَغَمَةُ الْجِنّ، من أنْتَ؟ قَالَ أَنَا هَامَةُ بن الهيم بن لاقس بن إِبْلِيسَ) فَذَكَرَ أنَّهُ لَقِيَ نُوحًا وَمَنْ بَعْدَهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ قَتْلَ خَالِدٍ عِنْدَ هَدْمِهِ الْعُزَّى لِلسَّوْدَاءِ التي

_ (قوله زجر الملائكة) بفتح الزاى وسكون الجيم، في الصحاح الزجر المنع والنهى، وزجر البعير ساقه (قوله برجال الزط) بضم الزاى وتشديد الطاء المهملة قوم من السودان طوال (قوله وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ سُوَرًا مِنَ القرآن) في الميزان: وفى حديثه المذكور أنه عليه السلام علمه المرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت والمعوذتين وقل هو الله أحد (*)

فصل ومن دلائل نبوته وعلامات رسالته ما ترادفت به الأخبار عن الرهبان والأحبار

خَرَجَتْ لَهُ نَاشِرَةً شَعْرَهَا عُرْيَانَةً فَجَزَلَهَا بِسَيْفِهِ وَأَعْلَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ تِلْكَ الْعُزَّى. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ شَيْطَانًا تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلاتِي فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ 7 أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا ينبغي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ فصل وَمِنْ دَلائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلامَاتِ رِسَالَتِهِ مَا تَرادَفَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنِ الرُّهْبَانِ والأحبار وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُتُبِ من صِفَتِهِ وَصِفَةِ أُمَّتِهِ واسمه وعلاماتاه وَذِكْرِ الْخَاتَمِ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَمَا وُجدَ من ذَلِكَ فِي أَشْعَارِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ من شعْرِ تُبَّعٍ وَالْأَوْسِ بن حَارِثَةَ وَكَعْبِ بن لُؤَيّ وَسُفْيَانَ بن مُجَاشِعٍ وَقَسّ بن سَاعِدَةَ وَمَا ذُكِرَ عَنْ سَيْفِ بن ذِي يَزَنٍ وَغَيْرِهِمْ وَمَا عَرَّفَ بِهِ من أَمْرِهِ زَيْدُ بن عَمْرو بن نُفَيْلٍ وَوَرَقَةُ بن نوفل وَعَثْكَلانٌ الْحميرِيُّ وَعُلَمَاءُ يَهُودَ وَشامُولُ عالمهم

_ (قوله فجزلها) بالجيم والزاى المفتوحتين: أي قطعها (قوله ولؤي بن كعب وفى بعض النسخ كعب بن لؤى وهو الصواب (قوله وقس) بضم القاف وتشديد السين المهملة والإيادى بكسر الهمزة، وإياد حى، وفى الصحاح وَقَسّ بن سَاعِدَةَ الإيادى أسقف نجران وكان أحد حكام العرب (قوله عثكلان) بفتح العين المهملة وسكون المثلثة (*)

صَاحِبُ تُبَّع من صِفَتِهِ وَخَبَرِهِ وَمَا أُلْفِيَ من ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِمَّا قَدْ جَمَعَهُ الْعُلمَاءُ وَبَيَّنُوهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُمَا ثِقَاتٌ من أَسْلَمَ مِنْهُمْ مِثْلُ ابن سلام وابنى سَعْيَة وَابْنِ يَامِينَ وَمُخَيريقَ وَكَعْبٍ وَأَشْبَاهِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ من عُلَمَاءِ يَهُودَ وَبَحِيرَاءَ وَنَسْطُورِ الْحَبَشَةِ وَصَاحِبِ بُصْرَى وَضَغَاطِرَ وَأُسْقُفِّ الشَّامِ وَالْجَارُودِ وَسَلْمَانَ والنَّجَاشِيّ وَنَصَارَى الْحَبَشَةِ وأساقف نجران غيرهم مِمَّنْ أَسْلَمَ من عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَقَد اعْتَرَفَ بِذَلِكَ هِرَقْلُ وَصَاحِبُ رُومَةَ عَالما النَّصَارَى وَرَئيسَاهُمْ وَمُقَوْقِسُ صَاحِبُ مِصْرَ وَالشَّيْخ صاحبه وابن صويا وَابْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ وَكَعْبُ بن أَسَدٍ وَالزُّبَيْرِ بن بَاطِيَا وَغَيْرِهِمْ من عُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِمَّنْ حَمَلَهُ الحذ وَالنَّفَاسَةُ عَلَى الْبَقَاءِ على الشقاء

_ (قوله وشامول) بالشين المعجمة والميم المضمومة وفى آخره لام (قوله وما ألفى) بضم الهمزة وكسر الفاء (قوله وابنى سعية) ابني بسكون الموحدة تثنية ابن، وسعية بفتح السين وسكون العين المهملتين بعدهما مثناة تحتية وفى بعض النسخ بنى سعية بفتح الموحدة جمع ابن وفى سيرة اليعمرى قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد وهم نفر من هذيل ليسوا من قريظة ولا النضر نسبهم فوق ذلك وهم بنوعم القوم أسلموا تلك الليلة التى نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم (قوله ومخيرق) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة (قوله ونسطور الحبشة احترز به عن نسطور الشام الذى رآه في رحلته صلى الله عليه وسلم تاجرا إلى الشام لخديجة (قوله وضغاطر) بالضاد والغين المعجمتين المفتوحتين بعدها ألف وطاء مهملة وراء هو الأسقف رومى، أسلم على يد دحية الكلبى وقت الرسلية فقتلوه، ذكره الذهبي في تجريد الصحابة (قوله والزبير) بفتح الزاى وكسر الموحدة هو والد عبد الرحمن الذى قلت امرأته بنت وهب إنما معه مثل هدبة الثوب (قوله بن باطيا) بموحدة فألف فطاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية، وفى غير الشفاء بالطاء بلا مد ولا همز (*)

وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرةٌ لَا تَنْحَصِرُ وَقَدْ قَرَّعَ أَسْمَاعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِمَا ذَكَرَ أنَّهُ فِي كتبهم من صِفَتِهِ وَصِفَةِ أصْحَابِهِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِم بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ من ذَلِكَ صُحُفُهُمْ وَذَمَّهُمْ بِتَحرِيفِ ذَلِكَ وَكِتْمَانِهِ وَلَيِّهِمْ أَلْسَنَتَهُمْ بِبَيَانِ أَمْرِهِ وَدَعْوتِهِمْ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ عَلَى الْكَاذِبِ فَمَا مِنْهُمْ إلَّا من نَفَرَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَإِبْدَاءِ مَا أَلْزَمَهُمْ من كُتُبِهِمْ إِظْهَارَهُ وَلَوْ وَجَدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ لَكَانَ إظْهَارُهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِم من بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَتَخْرِيبِ الدّيَارِ وَنَبْذِ الْقِتَالِ وَقَدْ قَالَ لَهُمْ (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إِلَى مَا أَنْذَرَ بِهِ الْكُهَّانُ مِثْلُ شَافِع بن كُلَيْبٍ وَشِقّ وَسَطِيحٍ وَسَوَادِ بن قَارِبٍ وَخُنَافِرٍ وَأَفْعَى نَجْرَانَ وَجِذْل بن جِذْلٍ الْكِنْدِيّ وَابْنِ خَلَصَةَ الدّوْسِي وَسَعْدِ بن بِنْتِ كُرَيْزٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ وَمَنْ لَا يَنْعَدُّ كَثْرَةً إِلَى مَا ظهر على ألسنته الأصْنَامِ من نُبُوَّتِهِ وحلول

_ (قوله وشق) بكسر المعجمة وتشديد القاف: كاهن من كهان العرب كان شق إنسان: يدا واحدة ورجلا واحدة وعينا واحدة (قوله وسطيح) بفتح السين المهملة وكسر الطاء المهملة بعدها مثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة: كاهن بنى ذئب وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ ما كان فيه عظم سوى رأسه، وقال محمد بن حبيب النسابة كان سطيح جسدا يلقى لا جوارح له فيما يذكرون ولا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس (قوله وخنافر) بضم الخاء المعجمة وتخفيف النون وكسر الفاء أحد كهان حمير أسلم على يد معاذ (قوله وأفعى) بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح العين المهملة (قوله وجدل) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة (قوله وابن خلصة) بفتح المعجمة واللام والصاد المهملة (قوله النعمان) قال المزى كل اسم على هذه الصيغة فهو بضم النون إلا نعمان بن قراد فإنه بفتحها (*)

فصل ومن ذلك ما ظهر من الآيات عند مولده وما حكته أمه ومن حضره من العجائب

وَقْتِ رِسَالتِهِ وَسُمِعَ من هَوَاتِفِ الْجَان وَمِنْ ذَبَائِح النُّصُبِ وَأَجْوَافِ الصُّوَرِ وَمَا وُجِدَ مِنَ اسْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرّسَالَةِ مَكْتُوبًا فِي الْحِجَارَةِ وَالْقُبُورِ بِالْخَطّ الْقَدِيمِ مَا أَكْثَرُهُ مَشْهُورٌ وَإِسْلَامُ من أَسْلَمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ فصل وَمِنْ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنَ الآيَاتِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ وَمَا حَكَتْهُ أُمُّهُ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْعَجَائِبِ وَكَوْنُهُ رَافِعًا رَأْسَهُ عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا رَأَتْهُ مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ عِنْدَ وِلادَتِهِ وَمَا رَأَتْهُ إِذْ ذَاكَ أُمُّ عثمان ابن أَبِي الْعَاصِ من تَدَلّي النُّجُومِ وَظُهُورِ النُّورِ عند ولاته حتى ما تنظر إلا النور وقول الشفا أم عبد الرحمن بن عوف: لما سقط صلى الله عليه وسلم على يدى وَاسْتَهَلَّ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ رَحِمَكَ اللَّه وَأَضَاءَ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الرُّوم. وَمَا تَعَرَّفَتْ بِهِ حَلِيمَة وَزَوْجُهَا ظِئْرَاهُ من بركته ودرور لبنيها لَهُ وَلَبَنِ شَارِفِهَا وَخِصْبِ غَنَمِهَا وَسُرْعَةِ شَبَابِهِ وَحُسْنِ نَشْأَتِهِ وَمَا جَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ مِنَ ارْتِجَاجِ إِيوَانِ كسْرَى وَسُقُوطِ شُرُفَاتِهِ وَغَيْضِ بُحَيْرةِ طَبَرِيَّة وخمود نار

_ (قوله وقول الشفا) بكسر الشين المعجمة بعدها فاء وألف مقصورة هي بنت عوف ابن عبد الزهرية من المهاجرات (قوله شرفاته) بضم الشين المعجمة وضم الراء فتحها وإسكانها جمع شرفة بضم الشين وإسكان الراء (قوله وَغَيْضِ بُحَيْرةِ طَبَرِيَّة) الغيض مصدر غاض يغيض أي قل، وطبرية مدينة معروفة بالشام ذات حصن في ناحية الأردن (*)

فَارسَ وَكَانَ لَهَا أَلْفُ عَامٍ لَمْ تَخْمَدْ وَأنَّهُ كَانَ إذَا أَكَلَ مَعَ عَمّهِ أَبي طَالِبٍ وَآلِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ شَبِعُوا وَرَوُوا فَإِذَا غَابَ فَأَكَلُوا فِي غَيْبَتِهِ لَمْ يَشْبَعُوا وَكَانَ سَائِرُ وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ يُصْبِحُونَ شُعْثًا وَيُصْبحُ صَلَّى الله عليه وسلم صقلا دهينا كَحِيلًا قَالَتْ أُمّ أَيْمَنَ حَاضِنتُه: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم شكى جُوعًا وَلَا عطَشًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا * وَمِنْ ذَلِكَ حِرَاسَةُ السَّمَاءَ بِالشُّهُبِ وَقَطْعُ رَصَدِ الشَّيَاطِين وَمَنْعُهُم اسْتِرَاقَ السَّمْعِ وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ من بُغْضِ الْأَصْنَامِ وَالْعِفّةِ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا خَصَّهُ اللَّه بِهِ من ذَلِكَ وَحمَاهُ حَتَّى فِي ستره في الخير الْمَشْهُور عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَخَذَ إِزَارَهُ لِيَجْعَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ ليَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ وَتَعَرَّى فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى رَدَّ إِزَارَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ مَا بَالُكَ؟ فَقَالَ (إِنِّي نُهِيتُ عَنِ التَّعَرِّي) وَمِنْ ذَلِكَ إِظْلَالُ اللَّه وَهِي دَاخِلَة فِي الأرض المقدسة بينها وبين بيت المقدس مرحلتين وبحيرتها معروفة والمعروف بالغيض إنما هو بحيرة ساوة كَمَا هُو فِي بعض النسخ إلا أن يريد المصنف عند خروج يأجوج ومأجوج فإنه ورد أن أوائل يأجوج ومأجوج يشرب بحيرة طبرية ويجئ آخرهم فيقول لقد كان بها ماء (قوله لم يخمد) يجوز فيه ضم الميم وفتحها فإنه ورد من باب نصر ينصر وباب علم يعلم (قوله وَكَانَ سَائِرُ وَلَدِ أَبِي طَالِبٍ) قَالَ الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص ومن أوهامهم الفاضحة وأغلاطهم الواضحة أنهم يستعملون سائر بمعنى الجميع وهو فِي كَلَام الْعَرَب بمعنى الباقي انتهى، وقال أبو عمرو ابن الصلاح لَا يلتفت إلى قول صاحب الصحاح سائر الناس جميعهم فانه لا يقبل ما يتفرد به، وقال النووي إن سائر بمعنى جميع لغة صحيحة لم يتفرد بها صاحب الصحاح بل ذكرها الجواليقى في شرح أدب الكاتب (قوله حَتَّى فِي سَتْرِهِ) بفتح السين المهملة وسكون المثناة الفوقية (*)

لَهُ بِالْغَمَامِ فِي سَفَرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ خَدِيجَةَ وَنِسَاءَهَا رَأَينهُ لَمّا قَدِمَ وَمَلَكَانِ يُظلانِهِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِمَيْسَرَةَ فَأَخْبَرَهَا أنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُنْذُ خَرَجَ مَعَهُ فِي سَفَرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَلِيمَةَ رأت غمامة نظله وَهُوَ عِنْدَهَا، وَرُويَ ذَلِكَ عَنْ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ * وَمِنْ ذَلِكَ أنَّهُ نَزَلَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ يَابَسَةٍ فَاعْشَوْشَبَ ما حَوْلَهَا وَأَيَنَعَتْ هِيَ فَأَشْرَقَتْ وَتَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَغَصَانُهَا بِمَحْضَرِ من رآه وميل فئ الشَّجَرَةِ إليْهِ فِي الخير الآخر بحتى أَظَلَّتْهُ وَمَا ذُكِرَ من أنَّهُ كَانَ لَا ظل شخصه فِي شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ لِأَنَّهُ كَانَ نُورًا وَأَنَّ الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى جَسَدِهِ وَلَا ثِيَابِهِ * وَمِنْ ذَلِكَ تَحْبِيبُ الْخلْوَةِ إليْهِ حَتَّى أُوحِيَ إليْهِ. ثُمَّ إِعْلامُهُ بِمَوْتِهِ وَدُنُوِّ أَجَلِهِ وَأَنَّ قَبْرَهُ فِي الْمَدِينَةِ وَفِي بَيْتِهِ وَأَنَّ بَيْنَ بَيْتِهِ وَبَيْنَ منْبَرِهِ رَوْضَةٌ من رِيَاضِ الْجَنةِ وَتَخْيِيرِ اللَّه لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْوَفَاةِ من كَرَامَاتِهِ وَتَشْرِيفِهِ وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى جَسَدِهِ عَلَى مَا رويناه في بغضها وَاسْتِئْذَانِ مَلَكِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ عَلَى غَيْرِهِ قَبْلَهُ وَنِدَائِهِمُ الَّذِي سَمِعُوهُ أنْ لَا تَنْزِعُوا الْقَمِيصَ عَنْهُ عِنْدَ غُسْلِهِ وَمَا رُوِيَ من تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ وَالْمَلَائِكَةِ أَهْلَ بَيْتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَى مَا ظَهَرَ عَلَى أَصْحابِهِ من كرامته وَبَرَكَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ كَاسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِعَمّهِ وَتَبَرُّكِ غَيْرِ واحد بذريته.

_ (قوله وأينعت) أي أدركت بموتها ونضجت (*)

فصل قال القاضى أبو الفضل رحمه الله قد أتينا في هذا الباب على نكت من معجزاته واضحة

فصل قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّه قَدْ أَتَيْنَا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى نُكَتٍ من مُعْجِزَاتِهِ وَاضِحَةٍ وَجُمَلٍ من عَلَامَاتِ نُبُوَّتِهِ مُقْنِعَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا الْكِفَايَةُ وَالْغُنيَةُ وَتَرَكْنَا الْكَثِيرَ سِوَى مَا ذَكَرْنَا وَاقْتَصَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الطّوَالِ عَلَى عَيْنِ الْغَرَضِ وَفَصّ الْمَقْصِدِ وَمِنْ كَثِيرِ الْأَحَادِيثِ وَغَرِيبِهَا عَلَى مَا صَحَّ وَاشْتَهَرَ إلَّا يَسِيرًا من غَرِيبهِ مِمَّا ذَكَرَهُ مَشَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ وَحَذَفْنَا الْإِسْنَادَ فِي جُمْهُورِهَا طَلَبًا لِلاخْتِصَارِ وَبِحَسْبِ هَذَا الْبَابِ لَوْ تُقُصّيَ أنْ يَكُونَ دِيوانًا جَامِعًا يَشْتَمِلُ عَلَى مُجَلَّدَاتٍ عِدَّةٍ * وَمُعْجِزَاتُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرُ من سَائِرِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا كَثْرَتُهَا وَأنَّهُ لَمْ يُؤْتَ نَبِيٌّ مُعْجِزَةٌ إلَّا وعند نَبِيّنَا مِثْلُهَا مو ما هو أبلغا مِنْهَا وَقَدْ نَبَّهَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَرَدْتَهُ فَتَأَمَّلْ فُصُولَ هَذَا الْبَابِ وَمُعْجِزَاتِ من تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَقِفْ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّه، وَأَمَّا كَوْنُهَا كَثِيرَةٌ فَهَذَا الْقُرْآنُ، وَكُلُّهُ مُعْجِزٌ وَأَقَلُّ مَا يَقعُ الْإِعَجَازُ فِيهِ عِنْدَ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ سورة (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أَوْ آيَةٌ فِي قَدْرِهَا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهُ كَيْفَ كَانَتْ مُعْجِزَةً وَزَادَ آخَرُونَ أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مُنْتَظِمَةٍ مِنْهُ مُعْجِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ من كَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ وَالْحَقّ مَا ذكرناه أولا لقول تَعَالَى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ من مثله) فَهُوَ أَقَلُّ مَا تَحَدَّاهُمْ بِهِ مَعَ مَا يَنْصُرُ هَذَا من نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ يَطُولُ بَسْطُهُ وَإذَا كَانَ هَذَا فَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلِمَاتِ نحو

_ (قوله وفص) بالفاء والصاد المهملة واحد الفصوص، ذكر ابن مالك وغيره أنه مثلث الفاء (قوله وبحسب) بإسكان السين المهملة أي يكفى (24 - 1) (*)

من سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَنَيّفٍ عَلَى عَدَدِ بَعْضهم وَعَدَد (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكوثر) عَشْرُ كَلِمَاتٍ فَتُجزِئُ الْقُرْآنَ عَلَى نِسْبَةِ عَدَدِ كَلِمَاتِ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أَزْيَدُ من سَبْعَةِ آلافِ جُزْءٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ إِعْجَازُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِوَجْهَيْنِ: طَرِيقِ بَلاغَتِهِ وَطَرِيقِ نَظْمِهِ فَصَارَ فِي كُلِّ جُزْءٍ من هَذَا الْعَدَدِ مُعْجِزَتَانِ فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ من هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهُ إِعْجَازٍ أُخَرَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِعُلُومِ الغايب فَقَدْ يَكُونُ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ من هَذِهِ التَّجْزِئَةِ الْخَبَرُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْغَيْبِ كُلَّ خَبَرٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ مُعجِزٌ فَتَضَاعَفَ الْعَدَدُ كَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ وَجُوهُ الْإِعْجَازِ الْأُخَرُ التي ذَكَرْنَاهَا تُوجِبُ التضْعيفَ، هَذَا فِي حَقّ الْقُرْآنِ فَلَا يَكَادُ يَأْخُذُ العَدُّ مُعْجِزَاتِهِ وَلَا يَحْوِي الْحَصْرُ بَرَاهِينَهُ، ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ وَالْأَخْبَارُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ، الْأَبَوابِ وَعَمَّا دَلَّ عَلَى أَمْرِهِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى جُمَلِهِ يَبْلُغُ نَحْوًا من هَذَا * الْوَجْهُ الثَّانِي وُضُوحُ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ كَانَتْ بِقَدْرِ هِمَم أَهْلِ زَمَانِهِمْ وَبِحَسَبِ الْفَنّ الَّذِي سَمَا فِيهِ قَرْنُهُ فَلَمّا كَانَ زَمَنُ مُوسَى غَايَةُ عِلْمِ أَهْلِهِ السّحْرُ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مُوسَى بِمُعْجِزَةٍ تَشْبِهُ مَا يَدّعُونَ قُدْرَتَهُمْ عَلَيْهِ فَجَاءَهُمْ مِنْهَا مَا خَرَقَ عَادَتَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِم وَأَبْطَلَ سِحْرَهُمْ، وَكَذَلِكَ زَمَنُ عِيسَى أَغْنَى مَا كَانَ الطّبُّ وَأَوْفَرَ مَا كَانَ أَهْلُهُ فَجَاءَهُمْ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَأتَاهُمْ مَا لَمْ يَحْتسِبُوهُ من إِحْيَاءِ الْمَيّتِ وَإِبْرَاءِ الْأَكمَهِ وَالْأَبَرصِ دُونَ مُعَالجَةٍ وَلَا طِبّ وهَكَذَا سَائِرُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ إنَّ الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وَجُمْلَةُ مَعَارِفِ الْعَرَبِ وَعُلُومِهَا

أَرْبَعَةٌ: الْبَلَاغَةُ وَالشّعْرُ وَالْخَبَرُ وَالْكَهَانَةُ فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْخَارِقَ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فُصُولٍ مِنَ الفَصَاحَةِ وَالْإيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ نَمَطِ كَلامِهِمْ وَمِنَ النَّظْمِ الْغَريبِ وَالْأُسْلُوبِ الْعَجيبِ الَّذِي لَمْ يَهْتَدُوا فِي الْمَنْظُومِ إِلَى طَرِيقِهِ ولاعلموا فِي أَسَالِيبِ الْأَوْزَانِ مَنْهَجَهُ وَمِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْكَوَائِنِ وَالْحَوَادِثِ وَالْأَسْرَارِ وَالْمُخَبَّآتِ وَالضَّمَائِرِ فَتُوجَدُ عَلَى مَا كَانَتْ وَيَعْتَرِفُ الْمُخبرُ عَنْهَا بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَصِدْقِهِ وإنْ كَانَ أَعْدَى الْعَدُوّ فَأَبْطَلَ الْكَهَانَةَ التي تَصْدُقُ مَرَّةً وَتَكْذِبُ عَشْرًا ثُمَّ اجْتَثَّهَا من أَصْلِهَا بِرَجْمِ الشُّهُب وَرَصْد النُّجُومِ وَجَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ وَأَنْبَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَم الْبَائِدَةِ وَالْحَوَادِثِ الْمَاضِيَةِ مَا يُعْجِزُ من تَفَرَّغَ لهذه الْعِلْم عَنْ بَعْضِهِ عَلَى الْوُجُوهِ التي بَسَطْنَاهَا وَبَيَّنَّا الْمُعْجِزَ فِيهَا ثُمَّ بَقِيَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ الْجَامِعَةُ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَى الْفُصُولِ الْأُخَرِ التي ذَكَرْنَاهَا فِي مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ ثَابِتةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَيّنَةَ الْحُجَّةِ لِكُلّ أُمَّةٍ تَأْتِي لَا يَخْفَى وُجُوهُ ذَلِكَ عَلَى من نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَ وُجُوهَ إِعْجَازِهِ إِلَى ما أَخْبَرَ بِهِ من الغيوب عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ فَلَا يَمُرُّ عَصْرٌ وَلَا زَمَنٌ إلَّا ويظهر في صِدْقُهُ بِظُهُورِ مُخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ فَيَتَجَدَّدُ الْإِيمَانُ وَيَتَظَاهَرُ الْبُرْهَانُ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، وَلِلْمُشَاهَدَة زِيَادَةٌ فِي الْيَقِينِ وَالنَّفْسُ أَشَدُّ طُمَأْنِينَةً إِلَى عَيْنٍ الْيَقِينِ مِنْهَا إِلَى عِلْمِ الْيَقِينِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ عِنْدَهَا حَقًّا وَسَائِرُ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ انْقَرَضَتْ

_ (قوله والكهانة) في الصحاح يقال كهن يكهن كهانة مثل كتب يكتب كتابة قال وإذا أردت أنه صار كاهنا قلت كهن بالضم كهانة بالفتح (قوله ثم اجتثها) بجيم فمثناة فوقية فمثلثة أي اقتلعها من أصلها) (قوله مخبرة) بسكون المعجمة وفتح الموحدة (*)

بِانْقِرَاضِهِمْ وَعُدِمْت بِعَدَمِ ذَوَاتِهَا وَمُعْجِزَةِ نَبِينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِيدُ وَلَا تَنْقَطِعُ وَأيَاتُهُ تَتَجدَّدُ وَلَا تَضْمَحِلُّ وَلِهَذَا أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِيمَا حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو إسحاق وَأَبُو الْهَيْثَمِ قَالُوا حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أكَثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هَذَا مَعْنَي الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَظُهُورِ مُعْجِزَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَعْنًى آخَرَ من ظُهُورِهَا بِكَوْنِهَا وَحْيًا وَكَلَامًا لَا يُمْكِنُ التخيل فِيهِ وَلَا التَّحيُّلُ عَلَيْهِ وَلَا التَّشْبِيهُ فَإِنَّ غَيْرَهَا من مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ قَدْ رَامَ الْمُعَانِدُونَ لَهَا بِأَشْيَاءَ طَمِعُوا فِي التخبيل بِهَا عَلَى الضُّعَفَاءِ كَإلْقَاءِ السَّحَرةِ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وشه هَذَا مِمَّا يُخَيّلُهُ الساحر أو يتحيل فِيهِ، وَالْقُرْآنُ كَلَامٌ لَيْسَ لِلْحِيلَةِ وَلَا للسّحْرِ فِي التَّخْيِيلِ فِيهِ عَمَلٌ فَكَانَ من هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ أَظْهَرَ من غَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَمَا لَا يَتِمُّ لِشَاعِرٍ وَلَا خَطِيبٍ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا أَوْ خَطِيبًا بِضَرْبٍ مِنَ الحِيَلِ والتَّمْوِيهِ، وَالتَّأْوِيلِ الأَوَّلِ أَخْلَصُ وَأَرْضَى وَفِي هَذَا التَّأوِيلِ الثَّانِي مَا يُغَمَّضُ عَلَيْهِ الْجَفْنُ

_ (قوله ولا يضمحل) يقال اضمحل السحاب أي تقشع (قوله ما يغمض) بضم المثناة التحتية وتشديد الميم المفتوحة، والجفن بفتح الجيم (*)

ويُغْضَى * وَجْهٌ ثَالِثٌ عَلَى مَذْهَبِ من قَالَ بِالصَّرْفَةِ وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ فِي مَقْدُور الْبَشَرِ فَصُرِفُوا عَنْهَا أَوْ عَلَى أَحَدِ مَذْهَبَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ من أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ من جلس مَقْدُورِهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْلُ وَلَا يَكُونُ بَعْدُ لأن اللَّه تَعَالَى لَمْ يُقْدِرْهُمْ وَلَا يُقْدِرُهُمْ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَرْقٌ بَيِّنٌ وَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَتَرْكُ الْعَرَبِ الْإِتْيَانَ بِمَا فِي مَقْدُورِهِمْ أَوْ مَا هُوَ من جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِالْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ والسّبَاءِ وَالْإِذْلَالِ وَتَغْيِير الْحَالِ وَسَلْبِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالتَّقرِيع وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّعْجِيزِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ أَبْيَنُ آيَةٍ لِلْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَالنُّكُولِ عَنْ مُعَارضَتِهِ وَأَنَّهُمْ منعوا عن شئ هُوَ من جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ، وَإِلي هَذَا ذَهَبَ الْإِمَام أَبُو الْمَعَالي الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ قَالَ وَهَذَا عِنْدَنَا أَبْلَغُ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْأَفْعَالِ الْبَديعَةِ في أنفسهما كَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَنَحْوِهَا فَإنَّهُ قَدْ يَسْبِقُ إِلَى بَالِ النَّاظِرِ بدَارًا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اخْتِصَاصِ صاحِبِ ذَلِكَ بِمَزِيدِ مَعْرِفَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَنّ وَفَضْلِ عِلْمٍ إِلَى أنْ يَرُدَّ ذَلِكَ صَحِيحُ النَّظَرِ وَأَمَّا التَّحَدّي لِلْخَلَائِقِ الْمِئِينَ مِنَ السّنِينَ بِكَلام من جِنْسِ كلامِهِمْ لِيَأْتُوا بِمثلِهِ فَلَمْ يَأْتُوا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَوَفُّرِ الداعي عَلَى الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ عذمها إلَّا أَن مَنَعَ اللَّه الْخَلْقَ عَنْهَا بِمَثَابَة مَا لَوْ قَالَ نَبِيّ آيَتِي أنْ يَمْنَعَ اللَّه الْقِيَامَ عن الناس مع مقدرتهم عليه وارتفاع الزمانة عنهم فلو كان ذلك وعجزهم اللَّه تعالى عن القيام لَكَانَ ذَلِكَ من أبهر آيَةٍ وَأَظْهَرِ دِلالَةٍ وَبِالله التَّوْفِيقُ، وَقَدْ غَابَ عَنْ بَعْضِ الْعُلمَاءِ وَجْهُ ظُهُورِ آيَتِهِ عَلَى سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاء حَتَّى احْتَاجَ لِلْعُذْرِ عَنْ

_ (قوله والجلاء) بفتح الجيم والمد أي الخروج من البلد (قوله مقدرتهم) بضم الدال وفتحها أي قدرتهم (*)

الشفا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ المُصْطَفَى العلامة القاضى أبى الفضل عياض اليحصبى 544 هـ مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء للعلامة أحمد بن محمد بن محمد الشمني 873 هـ الجزء الثاني دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

القسم الثاني (فيما يجب على الأنام من حقوقه صلى الله عليه وسلم)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقِسْمُ الثاني (فِيمَا يجب عَلَى الأنام من حقوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّه وَهَذَا قِسْمٌ لَخّصْنَا فِيهِ الْكَلَامَ فِي أرْبَعَةِ أبوابٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّل الْكِتَابِ ومَجْمُوعُهَا فِي وُجُوبِ تَصْدِيقِهِ وَاتّبَاعِهِ فِي سُنَّتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَحَبتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَبِرّهِ وَحُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ والتَّسْلِيمِ وزِيارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (الْبَابُ الأَوَّلُ) (فِي فرض الْإِيمَان بِهِ ووجوب طاعته وأتباع سنته) إذَا تَقَرَّرَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ثُبُوتُ نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةُ رِسالَتِهِ وَجَبَ الإيمانُ بِهِ وَتَصْديقُهُ فِيمَا أَتَى بِهِ * قَالَ اللَّه تَعَالَى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أنزلنا) ، وَقَالَ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وَقَالَ (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ) الآيَةَ، فالايمانُ بالنبيّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبٌ مُتَعَيّنٌ لَا يَتِمّ إيمَانٌ إلَّا بِهِ وَلَا يَصِحُّ إِسْلَامٌ إلَّا مَعَهُ قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا

للكافرين سعيرا) * حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُشَنِيُّ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا إِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَمْرَوَيْهِ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا رَوْحٌ عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يشهدوا أن لا إلا إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) * قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّه، وَالْإِيمَان بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ تَصْدِيقُ نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَةِ اللَّه لَهُ وَتَصْدِيقُهُ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَمَا قَالَهُ وَمُطَابَقَةُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ شَهَادَة اللّسَانِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ التَّصْدِيقُ بِهِ بالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ بِذَلِكَ بِاللّسَانِ تم الْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نفسِهِ من رِوايَةِ عَبْد اللَّه بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا (أُمِرْتُ) أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أن لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه) وَقَدْ زَادَهُ وُضُوحًا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ إِذْ قَالَ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَام فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنْ تَشْهَدَ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه) وَذَكَرَ أَرْكَانَ الْإِسْلَام ثُمَّ سَألَهُ عَنِ الْإِيمَان فَقَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الْحَدِيثَ، فَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْإِيمَان بِهِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَقْدِ بِالْجِنَانِ وَالْإِسْلَام بِهِ مُضْطَرٌ إِلَى النُّطْقِ باللسان

_ (قوله ابن بسطام) بكسر الموحدة وفتحها. (*)

وَهَذِهِ الْحَالَةُ الْمَحْمُودَةُ التامة، وأما الحال الْمَذْمُومَةُ فالشَّهَادَةُ بِاللَّسَانِ دُونَ تَصْدِيق الْقَلْبِ وَهَذَا هُوَ النّفَاقُ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لكاذبون) أَيْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَتَصْدِيِقهِمْ وَهُمْ لَا يَعْتَقدُونَهُ فَلَمّا لَمْ تُصَدّقْ ذَلِكَ ضَمَائِرُهُمْ لَمْ يَنْفَعْهُمْ أنْ يَقُولُوا بِألْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فَخَرَجُوا عَنِ اسْمِ الْإِيمَان وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ حُكْمُهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ إيمَانٌ وَلَحِقُوا بِالْكَافِرينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَبَقِيَ عَلَيْهِم حُكْمُ الْإِسْلَام بإظْهَارِ شَهَادَةِ اللّسَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا الْمُتَعَلّقَةِ بِالْأَئِمَّةِ وَحُكَّامِ المسلمن الَّذِينَ أَحْكَامُهُمْ عَلَى الظَّوَاهِرِ بِمَا أظْهَرُوهُ من عَلَامَةِ الْإِسْلَام إِذْ لَمْ يُجْعَلْ لِلْبَشَر سَبِيلٌ إلى السَّرَائِرِ وَلَا أُمِرُوا بِالْبَحْثِ عَنْهَا بَلْ نَهى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّحَكُّمِ عَلَيْهَا وَذَمَّ ذَلِكَ وَقَالَ (هلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟) وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَقْدِ مَا جُعلَ فِي حَدِيث جِبْرِيلَ: الشّهَادَةُ مِنَ الْإِسْلَام وَالتّصْدِيقُ مِنَ الْإِيمَان، وَبَقِيَتْ حَالَتَان أُخْرَيَانِ بَيْنَ هذَيْنِ إحْدَاهُمَا: أنْ يُصَدّقَ بِقَلْبِهِ ثُمَّ يُخْتَرَمَ قَبْلَ اتسّاع وَقْتٍ للشهادة بلسانه فاحتلف فِيهِ فَشَرَطَ بَعْضُهُمْ من تَمَامِ الْإِيمَان الْقَوْلَ وَالشَّهَادَةَ بِهِ وَرَآهُ بَعْضُهُمْ مُؤْمِنًا مُسْتَوجِبًا لِلْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَخْرُجُ مِن النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرّةِ مِنْ إِيمَانٍ فَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى مَا فِي الْقَلْبِ وهذا مُؤْمِنٌ بِقَلْبِهِ غَيْرُ عَاصٍ وَلَا مَفَرّطٍ بِتَرْكِ غَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ في هذا الوجه. الثانية

_ (قوله ثم يخترم) بضم أوله وسكون المعجمة مبنى للمفعول. (*)

أنْ يُصَدّقَ بِقَلْبِهِ وَيُطَوّلَ مَهَلَهُ، وَعَلِمَ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا جُمْلَةً وَلَا اسْتَشْهَدَ فِي عُمُرِهِ وَلَا مَرَّة، فَهَذَا اخْتُلِفَ فِيهِ أيْضًا فَقِيلَ هُوَ مُؤْمِنٌ لِأَنَّهُ مُصَدّقٌ وَالشَّهَادَةُ من جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ فَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكهَا غَيْرُ مُخَلَّدٍ، وَقِيلَ لَيْسَ بِمُؤْمِن حَتَّى يقارن عقده شاهدة اللّسَانِ، إِذِ الشَّهَادَةُ إنْشَاءُ عَقْدٍ وَالتِزَامُ إيمانٍ وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ مَعَ العَقْدِ وَلَا يَتِم التَّصْدِيقُ مَعَ المُهْلَةِ إلَّا بِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهَذَا نَبْذٌ يُفْضِي إِلَى مُتّسَعٍ مِنَ الْكَلَام فِي الْإِسْلَام والإيمان أبوابهما وَفِي الزّيَادَةِ فِيهِمَا وَالنُّقْصَانِ، وَهَل التَّجَزّي مُمْتَنعٌ عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ لَا يَصِحُّ فِيهِ جُمْلَةً وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ من عَمِل، أَوْ قَدْ يُعْرَضُ فِيهِ لاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ وَتَبَايُنِ حَالاتَهِ من قُوَّةِ يَقِينٍ وَتَصْمِيمِ اعْتِقَادٍ وَوُضُوحِ مَعْرفَةٍ وَدَوَامِ حَالَةٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ؟ وَفِي بَسْطِ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ غَرَضِ التَّأْلِيفِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا غُنيَةٌ فيما قَصَدْنَا إنْ شَاءَ الله تعالى

_ (قوله مهله) المهل بفتح الميم والهاء النؤدة (قوله مع المهلة) بضم الميم وإسكان الهاء هي الاسم من أمهله إذا أنظره (قوله وهذا نبذ) بفتح النون وسكون الموحدة بعدها ذال معجمة أي شئ يسير وفى بعض النسخ وهذه نبذ بضم النون وفتح الموحدة جمع نبذة وهى القطعة (قوله أَوْ قَدْ يُعْرَضُ فيه) في الصحاح عرض له أمر كذا يعرض أي ظهر وعرض العود على الإناء والسيف على فخذه يعرضه ويعرضه أيضا فهذه وحدها بالضم وعرضت له القول وعرضت أيضا بالكسر يقال مرنى فلان فما عرضت وما عرضت ولا يعرض له ولا يعرض له لغتان جيدتان (*)

فصل وأما وجوب طاعته

فصل وَأَمَّا وُجُوبُ طَاعَتِهِ: فَإِذَا وَجَبَ الْإِيمَان بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أتى بِهِ قَالَ اللَّه تعالى (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّه وَرَسُولِهِ) وَقَالَ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وأطيعوا الرسول) وَقَالَ: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وَقَالَ (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تهتدوا) وَقَالَ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وَقَالَ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وَقَالَ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ) الآية، وَقَالَ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله) فَجَعَلَ تَعَالَى طَاعَةَ رَسُولِهِ طاعَتَهُ وَقَرَنَ طَاعَتَهُ بطاعته وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ وَأوْعَدَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِسُوءِ العِقَابِ وَأوْجَبَ امْتِثَالَ أمْرِهِ واجْتنَابَ نَهْيِهِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَئِمَّةُ طَاعَةُ الرَّسُولِ فِي التِزَامِ سُنَّتِهِ وَالتّسْلِيمِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَقَالُوا: مَا أَرْسَلَ اللَّه من رَسُولٍ إلَّا فَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى من أرْسَلَهُ إِلَيْهِ وَقَالُوا من يُطِعِ الرَّسُولَ فِي سَنَّتِهِ يُطِع اللَّه فِي فَرَائِضِهِ، وَسُئِلَ سَهْلُ بن عَبْد اللَّه عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَام فَقَالَ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فخذوه) : وَقَالَ السَّمْرَقَنْدِيُّ يُقَالُ: أَطِيعُوا اللَّه فِي فَرَائِضِهِ والرَّسُولَ فِي سُنَّتِهِ وَقِيلَ: أطيعُوا اللَّه فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَالرَّسُولَ فِيمَا بَلَّغَكُمْ وَيُقَالُ: أطِيعُوا اللَّه بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالنَّبِيّ بِالشَّهَادَة لَهُ بالنُّبُوَّةِ * حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابٍ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ حَدَّثَنَا محمد بن

يُوسُفَ حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي) فَطَاعَةُ الرَّسُول من طاعَةِ اللَّه، إِذ اللَّه أَمَرَ بِطَاعَتِهِ، فَطَاعَتُهُ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّه بِهِ وَطَاعَةٌ لَهُ * وَقَدْ حَكَى اللَّه عَنِ الْكُفّارِ فِي دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) فَتَمَنَّوْا طَاعَتَهُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ التَّمَنّي، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شئ فاجتنبوه وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) * وَفِي حَدِيث أبي هريرة رضي الله عنه، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَّنةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّه بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتى قَوْمًا فَقَالَ يَا قَوْمِ إِنّي رَأْيتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنَّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ فَأَطَاعهُ طَائِفَةٌ من قَوْمِهِ فَأدْلَجُوا فَانْطَلقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وكذبت

_ (قوله وَإِنَّي أَنَا النَّذِيرُ العريان) هَذَا مَثْلٌ ضَرَبَهُ عليه السلام مبالغة في صدق النذارة لأن النذير إذا كان عريانا كان أبين وقيل كان النذير يجرد ثيابه ويلوح بها ليجتمع إليه (قوله فالنجاء) بالمد (قوله فأدلجوا) في القاموس الدلجة بالضم والفتح السير من أول الليل وقد أدلجوا إذا ساروا من آخره فادلجوا بالتشديد (قوله على مهلهم) بفتح الميم والهاء أي تؤدتهم. (*)

فصل وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهدية

طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكُهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ من أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَ ما جِئْتُ بِهِ، ومثل من عَصَانِي وَكَذّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقّ) وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ فِي مَثَلِهِ: كَمَثَلِ من بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ يُجِبِ الدَّاعِي لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم فمن أطاع محمد فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ) . فصل وَأَمَّا وَجُوبُ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالِ سُنَّتِهِ وَالاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وَقَالَ (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تهتدون) وَقَالَ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - تسليما) أي يَنْقَادُوا لِحُكْمِكَ، يقال سَلَّمَ وَاسْتَسْلَمَ وَأَسْلَمَ إذَا انْقَادَ. وَقَالَ تَعَالَى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسول

_ (قوله واجتاحهم) بالجيم في أوله والحاء المهملة في آخره أي استأصلهم (قوله مأدبة) بضم الدال المهملة وفتحها، في القاموس: هي طعام صنع لدعوى أو عرس (قوله فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ) بإسكان الراء أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بالإيمان من المؤمنين وعدمه من الكافرين (قوله بهدية) بفتح الهاء وسكون الدال أي بطريقه ومذهبه. (*)

الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر) الآيَةَ، قَالَ مُحَمَّد بن عَلِيٍّ التَرْمِذيّ: الْأُسْوَةُ فِي الرَّسُول الاقْتِدَاءُ بِهِ وَالاتّبَاعُ لِسُنّتِهِ وَتَرْكُ مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسّرِينَ بِمَعْنَاهُ وَقِيلَ هُوَ عِتَابٌ لِلْمُتَخَلّفِينَ عَنْهُ وَقَالَ سَهْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) قَالَ بِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ فَأَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذَلِكَ وَوَعَدَهُمُ الاهْتِدَاءَ بِاتِّبَاعِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُزَكِّيَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيَهْدِيَهُمْ إلى صراط فمستقيم وَوَعَدَهُمْ مَحَبَّتَهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ الْأُخْرَى وَمَغْفِرَتِهِ إِذَا اتَّبَعُوهُ وَآثَرُوهُ عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَمَا تَجْنَحُ إليْهِ نُفُوسُهُمْ وَأَنَّ صِحّةَ إيمَانهِمْ بانْقِيَادِهِمْ لَهُ وَرِضَاهُمْ بِحُكْمِهِ وَتَرْكِ الاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَرُويَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ أَقْوَامًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّه أنا نُحِبُّ اللَّه فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله) الآيَةَ، وَرُوِيَ أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَنَحْنُ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) أَنْ تَقْصِدُوا طَاعَتَهُ فافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، إِذْ مَحَبَّةُ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ طَاعَتُهُ لَهُمَا وَرِضَاهُ بِمَا أَمَرَا وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ عَفْوُهُ عَنْهُمْ وَإنْعَامُهُ عَلَيْهِم بِرَحْمَتِهِ، وَيُقَالُ الْحُبُّ مِنَ اللَّه عِصْمَةٌ وَتَوْفِيقٌ وَمِنَ الْعِبَادِ طَاعَةٌ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: تَعْصي الإلهَ وَأَنْتَ تُظْهرُ حُبَّهُ؟ * هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ!

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صادقًا لأطَعْتَهُ * إنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطيعُ! وَيُقَالُ مَحَبَّة الْعَبْدِ لله تَعْظِيمُهُ لَهُ وَهَيْبَتُهُ مِنْهُ وَمحبَّة اللَّه لَهُ رَحْمَتُهُ لَهُ وَإرَادَتُهُ الجيل لَهُ وَتَكُونُ بِمَعْنَي مَدْحِهِ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فَإِذَا كَانَ بِمَعْنَي الرَّحْمَةِ وَالإرَادَةِ والمَدْح كَانَ من صِفاتِ الذَّاتِ وَسَيَأْتِي بَعْدُ فِي ذكر محبة مَحَبَّةِ الْعَبْدِ غَيْرُ هَذَا بِحَوْلِ اللَّه تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو إسحاق إبراهيم ابن جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَصْبَغِ عِيسَى بْنُ سَهْلٍ وَحَدَّثْنَا أَبُو الْحَسَنِ يُونُسُ بْنُ مُغِيثٍ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالا حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدثنا أَبُو حَفْصٍ الجُهَنِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الجَوْزِيُّ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ وَحُجْرٍ الكَلَاعِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ فِي حَدِيثِهِ فِي مَوْعِظَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) زاد

_ (قوله الجوزى) بالجيم المفتوحة والزاى المكسورة إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى كذا ذكره ابن ماكولا وغيره (قوله عن عبد الرحمن بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ) كذا في بعض النسخ وصوابه السلمى بضم السين المهملة وفتح اللام كما في سنن أبى داود وجامع الترمذي وأطراف المزى وكتب الأسماء (قوله بالنواجذ) بالذال المعجمة قال النووي هي الأنياب وقيل الأضراس وفى النهاية أن النواجذ مشتهرة بأواخر الأسنان وفى الصحاح الناجذ آخر الأضراس، ولإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان بعد الأرجاء ويسمى ضرس الحلم لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. (*)

فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَعَنَاهُ (وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) وَفِي حَدِيث أَبِي رَافِعٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ) وَفِي حَدِيث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا صَنع رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وَسَلَّمَ شَيْئًا تَرَخّصَ فِيهِ فَتَنَزّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّه ثُمَّ قَالَ (مَا بَالُ قَوْمٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشئ أصنعه؟ فو الله إِنِّي لِأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً، وَرُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ (الْقُرْآنُ صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ عَلَى من كَرِهَهُ، وَهُوَ الْحَكَمُ، فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِحَدِيثِي وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ جَاءَ مَعَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْقُرْآنِ وَحَدِيثِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، أُمِرَتْ أُمَّتِي أَنْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِي وَيُطيعُوا أَمْرِي وَيَتَّبِعُوا سُنَّتِي، فَمَنْ رَضِيَ بقوله فقدر رَضِيَ بِالْقُرْآنِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) الآيَةَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه

_ (قوله وفي حديث أبي رافع) هو مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل اسمه إبراهيم وقيل ثابت وقيل هرمز (قوله لا ألفين) بضم الهمزة وكسر الفاء وفتح المثناة التحتية وتشديد النون أي لا أجدن (قوله على أريكته) الأريكة السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى السرير منفرد أريكة وقيل هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة قاله ابن الأثير، وفى الصحاح الأريكة سرير مزين في قبة أو بيت وَإذَا لَم يَكُن فيه سرير فهو حجد والجمع الأرائك (قوله مستصعب) بكسر العين من استصعب الأمر بمعنى صعب (قوله وهو الحكم) بفتح الحاء والكاف. (*)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ (إنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأمور محدثاتها) وَعَن عَبْد اللَّه بن عَمْرو بن العاص رصي اللَّه عَنْهُ: قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَةٌ مُحَكَمَةٌ أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ) وَعَنِ الْحَسَنِ بن أَبِي الْحَسَنِ رَحِمهما اللَّه تَعَالَى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عليه السلام وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ تَمَسَّكَ بِهَا) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ (الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ أُمَّتِي تَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ كُلُّهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَةً) قَالُوا وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي) وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ) وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلالِ بْنِ الْحَارِثِ (مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ

_ (قوله وخير الهدى) بفتح الهاء وسكون الدال بمعنى السمت والطريقة، أو بضم الهاء وفتح الدال ضد الضلال (قوله أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ) قال ابن الأثير أراد العدل في القسمة أي معدلة على السهام المذكور في الكتاب والسنة من غير جور، ويحتمل أن يريد أنها مستنبطة مِن الْكِتَاب وَالسُّنَّة فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخر عنها انتهى (قوله وعن الحسن بن أبى الحسن) هو البصري. (*)

(فصل) وأما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته

مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا) (فصل) وأما وَرَدَ عَنِ السّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنِ اتّبَاعِ سُنّتِهِ والاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي تَلِيدٍ الْفَقِيهُ سَمَاعًا عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ وَوَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ قَالا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ أنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نَجِدُ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَصَلَاةَ الْحَضَرِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السَّفَرِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووُلَاةُ الأمْرِ بَعْدَهُ سُنَنًا الأخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ بِكِتَابِ اللَّه وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّه وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّه لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُها وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْي من خَالَفَهَا، مَنِ اقْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا فَهُوَ مَنْصُورٌ وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ وَلَّاهُ اللَّه مَا تَوَلَّى وأصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ بن أَبِي الْحَسَنِ: عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ من

_ (قوله خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ) بفتح الهمزة وكسر السين المهملة. (*)

عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ، وَقَالَ ابن شِهَاب بَلَغَنَا عَنْ رِجَال من أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: الاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَكَتَبَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى عُمَّالِهِ بِتَعَلُّمِ السُّنَّةِ وَالفَرَائِضِ وَاللَّحْنِ أَي اللُّغَةِ وَقَالَ إنَّ ناسًا يُجَادلُونَكُمْ - يَعْنِي بِالْقُرْآنِ - فَخُذُوهُمْ بالسُّنَنِ فَإِنَّ أصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَاب اللَّه، وَفِي خَبَرِهِ حِينَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ، وَعَنْ عَلِيٍّ حِينَ قَرَنَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ تَرَى أَنِّي أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُ وَتَفْعَلُهُ؟ قَالَ لَمْ أَكُنْ أَدَعُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَعَنْهُ: إلَّا أنَّي لَسْتُ بِنَبِيّ وَلَا يُوحى إِلَيَّ وَلَكِنّي أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّه وَسُنَّةِ نَبِيّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَكَانَ ابن مَسْعُودٍ يَقُولُ: القَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي البِدْعَةِ، وَقَالَ ابن عُمَرَ: صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ، وَقَالَ أُبَيُّ بن كَعْبٍ عَلَيْكُمْ بِالسّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإنَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ من عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّه فِي نَفْسِهِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ من خَشْيَةِ رَبِّهِ فَيُعَذّبُهُ اللَّه أبَدًا، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ من عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّه فِي نَفْسِهِ فاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ من خَشْيَةِ اللَّه إلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبِسَ وَرَقُهَا فَهِيَ كَذَلِكَ إِذْ

_ (قوله واللحن) بإسكان الحاء المهملة (قوله بذى الحليفة) ماء من مياه بنى جشم على ستة أميال وقيل سبعة من المدينة (قوله القَصْدُ فِي السُّنَّةِ) أي الوسط بين الطرفين الإفراط والتفريط (قوله مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كفر) أي من خالفها مستحلا مخالفتها أو المراد بالكفر كفر النعمة. (*)

أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا إلَّا حُطَّ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَات عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا، فَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ وَمُوافَقَةِ بِدْعَةٍ، وَانْظُرُوا أنْ يَكُونَ عَمَلكُمْ إنْ كَانَ اجتهدا أَوِ اقْتِصَادًا أنْ يَكُونَ عَلَى مِنْهَاج الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ * وَكَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عُمَرَ بِحَالِ بَلَدِهِ وَكَثْرَةِ لُصُوصِهِ: هَلْ يَأْخُذُهُمْ بِالظّنَّةِ أَوْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْبَيّنَةِ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ؟ فَكَتَبَ إليْهِ عُمَرُ خُذْهُمْ بِالبَيّنَةِ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فإنْ لَمْ يُصْلِحْهُمُ الْحَقُّ فَلَا أصْلَحَهُمُ اللَّه، وَعَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شئ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول) أَيْ إِلَى كِتَابِ اللَّه وَسَنَّةِ رَسُولِ اللَّه صلى اله عله وَسَلَّمَ، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا اتّبَاعُهَا، وَقَالَ عُمَرُ وَنَظَرَ إِلَى الحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ وَلَوْلَا أَنّي رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ثُمَّ قبله، رؤى عبد الله بن عمر يدبر ناقَتَهُ فِي مَكَانٍ فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ لَا أدْرِي إلَّا أَنّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فَفْعَلْتُهُ، وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيريُّ: من أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ نَطَقَ بِالْبِدْعَة، وقال

_ (قوله فتحات) بالحاء المهملة أي فتناثر (قوله بالظنة) بكسر الظاء المعجمة المشالة وتشديد النون المفتوحة أي التهمة (قوله وقال أبو عثمان الحيرى) بحاء مهلمة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فراء وياء للنسبه إلى محلة بنيسابور تعرف بالحيرة هو شيخ الصوفية بنيسابور، ذكره القشيرى في الرسالة وذكر هَذَا الْحَدِيث عَنْه. (*)

فصل ومخالفة أمره وتبديل سنته ضلال وبدعة متوعد من الله عليه بالخذلان والعذاق

سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ أُصُولُ مَذْهَبِنَا ثَلاثَةٌ: الاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ والأفْعَالِ، والأكْلُ مِنَ الحَلَالِ، وإخْلَاصُ النّيَّةِ فِي جَمِيعِ الأعْمَالِ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أنَّهُ الاقْتِدَاءُ بِرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُكِيَ عَنْ أحْمَدَ بن حَنْبَلٍ قَالَ كُنْتُ يَوْمًا مَعَ جَمَاعَةٍ تَجَرَّدُوا وَدَخَلُوا المَاءَ فاسْتَعْمَلْتُ الْحَدِيثَ (من كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ) وَلَمْ أتَجَرَّدْ فَرَأْيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَائِلًا لي يَا أَحْمَدُ أبْشرْ فَإِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لَكَ باسْتِعْمالِكَ السُّنَّةَ وَجَعَلكَ إمامًا يُقْتَدَى بِكَ، قُلْتُ من أنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. فصل وَمُخَالَفَةُ أمْرِهِ وَتَبْدِيلُ سُنَّتِهِ ضَلَالٌ وَبِدْعَةٌ مُتَوَعَّدٌ مِن اللَّه عَلَيْهِ بالخِذْلانِ والعذاق قَالَ اللَّه تَعَالَى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَقَالَ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تولى) الآيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا قالا حدثنا أبو القاسم خاتم بن محمد حدثنا أبو الحسن القابسي حدثنا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ مَسْرُورٍ الدَّبَّاغُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن أَبِي سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سحنون ابن سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ العلاء بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ

عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى المَقْبَرَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي صِفَةِ أُمَّتِهِ وَفِيهِ (فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ فَأُنَادِيهِم أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا) وَرَوَى أَنَسٌ أنت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنَّي) وَقَالَ (من أَدْخَلَ فِي أمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ) وَرَوَى ابن أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا ألفين أحدكم متكئا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ) زَادَ فِي حَدِيثِ المِقْدَادِ (أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) وقال صلى الله عليه وسلم وجئ بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ (كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا - أَوْ قال ضلال - أنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ أَوْ كِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِمْ) فَنَزَلَتْ (أو لم يكفهم أنا أنزنا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عليهم) الآيَةَ، وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم (هل كالمتنطعون) وقال أبو بكر

_ (قوله فيلذادن) كذا رواه أكثر الرواة عن مالك الموطأ ومعناه ليطردن ورواه يحيى وابن أبى نافع ومطرف فلا يذادن ومعناه فلا تفعلوا فعلا يوجب ذلك ومنه فلا ألفين أحدكم على رقبته بعير أي لا تفعلوا ما يوجب ذلك (قوله ألا هلم) أي تعالوا وأقبلوا لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث في لغة الحجازيين خلافا لنبى تميم وبلغة الأولين جاء القرآن قال الله تعالى (قل هلم شهداءكم) وقال تعالى (والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) (قوله فسحقا) بإسكان الحاء المهملة وضمها أي فبعدا (قوله المتنطعون) قيل معناه المتعمقون المبالغون في الأمور. (2 - 2) (*)

الباب الثاني في لزوم محبته صلى الله عليه وسلم

الصّدّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إلَّا عَمِلْتُ بِهِ إنّي أخْشى إنْ تَرَكْتُ شَيْئًا من أمْرِهِ أنْ أزيغَ الْبَابِ الثاني: فِي لزوم محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها) الآيَةَ، فَكَفى بِهذَا حصا وَتَنْبِيهًا وَدِلَالَةً وَحُجَّةً عَلَى إلْزَامِ مَحَبَّتِهِ وَوُجُوب فرضا وَعِظَمِ خَطَرِهَا وَاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَرَّعَ تَعَالَى من كَانَ مَالُهُ وَأَهْلُهُ وَوَلَدُهُ أَحَبَّ إليْهِ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ وَأوْعَدَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بأمره ثُمَّ فَسَّقَهُمْ بِتَمَامِ الآيَةِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ من ضَلَّ وَلَمْ يَهْدِهِ اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو عَلَيٍّ الغَسَّانِيُّ الْحَافِظُ فِيمَا أَجَازَنِيهِ وَهُوَ مِمَّا قَرَأْتُهُ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سِرَاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي حدثنا أبو محمد الأصيلي حَدَّثَنَا المَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يعقوب ابن إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزُ بْنِ صُهَيبٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَحْوَهُ وَعَنْ أَنَسٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وأن يحب

_ (قوله وعظم) بكسر العين وفتح الظاء المعجمة.

فصل في ثواب محبته صلى الله عليه وسلم

الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّه قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شئ إِلَّا نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ) فَقَالَ عُمَرُ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم (الآنَ يَا عُمَرُ) قَالَ سَهْلٌ من لَمْ يَرَ وِلايَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الأحْوَالِ وَيَرَى نَفْسَهُ فِي مِلْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَذُوقُ حَلَاوَةَ سُنَّتِهِ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ) الْحَدِيثَ. فصل فِي ثواب محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَتَّابِ بقراءتي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ خَلَفٍ حَدَّثَنَا أَبُو زيد المروزي حدثنا محمد ابن يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أنَّ رَجُلًا أَتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَتَى السَّاعةُ يَا رسول الله؟ قال:

_ (قوله أن رجلا) في الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابن مَسْعُود إنّ هذا السائل هو الأعرابي الذى بال في المسجد، وفى جزء أبى الحميم أنه عمير بن قتادة وفى المعلم الذهبي إنه عمر بن الخطاب. (*)

مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) وَعَنْ صفوان ابن قُدَامَةَ هَاجَرْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَاوِلْنِي يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَنَاوَلَنِي يَدَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ قَالَ (المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ) وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الله ابن مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ وَعَنْ أَبِي ذَرّ بِمَعْنَاهُ وَعَنْ عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ حَسَنٍ وَحُسَيْن فَقَالَ (مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وأُمَّهُمَا كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَرُويَ أَنَّ رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه لأنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَإِنِّي لِأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى أجئ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ وَإِنِّي ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ فَعَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مع النبين وإن دخلتها لَا أَرَاكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أولئك رفيقا) فَدَعَا بِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ * وَفِي حَدِيث آخَرَ كَانَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ لَا يَطْرِفُ فَقَالَ (مَا بَالُكَ؟) قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَتَمَتَّعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْكَ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفَعَكَ اللَّهُ

_ (قوله وَرُويَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال لأنت أحب إلي من أهلى) قال البغوي في تفسيره: أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في ثوبان مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن النقاش أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عبد الله بن زيد بن عبد ربه. (*)

فصل فيما روى عن السلف والأئمة (من محبتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وشوقهم له)

بِتَفْضِيلِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ * وَفِي حَدِيث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (مَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ) فصل فِيمَا رُوِيَ عَنِ السلف والأئمة (من محبتهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشوقهم له) حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ حدثنا العذري حدثنا الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يكونون بعدى يوم أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ) وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، وَتَقَدَّمَ حَدِيث عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَوْلُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي مِثْلِهِ، وَعَنْ عَمْرو بن العاصِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَا كَانَ أَحَدٌ أحب إلي من رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عَبْدَةَ بِنْتِ خَالِد بن مَعْدَانَ قَالَتْ مَا كَانَ خَالِدٌ يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ إلَّا وَهُوَ يَذْكُرُ من شَوْقِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى أصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يُسَمِّيهِمْ وَيَقُولُ هُمْ أصْلِي وَفَصْلِي وَإِلَيْهِمْ يحنُّ قَلْبِي طَالَ شَوْقِي إِلَيْهِمْ فَعَجّلْ رَبّ قَبْضِي إِلَيْكَ حَتَّى يَغْلِبَهُ النَّوْمُ، وَرُويَ عَنْ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عنه

_ (قوله هُمْ أصْلِي وَفَصْلِي) في الصحاح قال الكسائي قولهم لا أصل له ولا فصل: الأصل الحسب والفصل اللسان انتهى، وقال ثعلب قولهم لا أصل له ولا فصل: الأصل الوالد والفصل الولد. (*)

أنه قال للنبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لإِسْلَامُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ إِسْلَامِهِ - يعنى أباه أبا قُحَافَةَ - وَذَلِكَ أَنَّ إِسْلَامَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَقَرَّ لِعَيْنِكَ وَنَحْوَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ ابن إِسْحَاق أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قُتِلَ أبُوها وأخُوها وَزَوْجُهَا يوم أحُدٍ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا خَيْرًا هُوَ بِحَمْدِ اللَّه كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرِنيهِ حَتَّى أنْظُرَ إليْهِ فَلَمّا رَأَتْهُ قَالَتْ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ، وَسُئِلَ عَلِيّ بن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَيْفَ كَانَ حُبُّكُمْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ كَانَ والله أَحَبَّ إِلَيْنَا من أَمْوَالِنَا وَأَوْلادِنَا وَآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا وَمِنَ المَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَإِ، وَعَنْ زَيْدِ بن أسْلَمَ خَرَج عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَيْلَةً يَحْرُسُ النَّاسَ فَرَأى مِصْبَاحًا فِي بَيْتٍ وَإذَا عَجُوزٌ تنقش صُوفًا وَتَقُولُ: عَلى مُحَمَّدٍ صَلَاةُ الأَبْرَارْ * صَلَّى عَلَيْهِ الطَّيّبُونَ الأخيار

_ (قوله يعنى أباه أبا قحافة) هو والد أبي بكر الصديق واسمه عثمان بن عامر أسلم يوم الفتح وتوفى سنة أربع عشرة بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه وخصه من تركة أبي بكر رضي الله عنه السدس فرده في أولاده وليس لنا والد خليفة تأخرت وفاته عن أبيه الخليفة وورث منه إلا أبو قحافة رضي الله عنه، وفى الصحابة آخر يسمى قحافة وهو ابن عفيف المزني (قوله جلل) بفتح الجيم واللام الأولى أي هين وضعة ويطلق الجلل أيضا ويراد به العظيم فهو من الأضداد (قوله على الظلماء) بالهمزة مع القصر والمد. (*)

قَدْ كُنْتَ قَوَّامًا بُكًا بالْأَسْحَارْ * يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالمَنَايَا أَطْوَارْ هَلْ تَجْمَعُنِي وَحَبِيبِي الدّارْ تَعْنِي النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَبْكِي وَفِي الْحِكَايَةِ طُولٌ * وَرُويَ أَنَّ عَبْد اللَّه بن عُمَرَ خَدِرَتْ رجْلُهُ فَقِيلَ لَهُ اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ يَزُلْ عَنْكَ فَصَاحَ يَا مُحَمَّدَاهُ فانْتَشَرَتْ، ولما احْتُضِرَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ نَادتِ امْرَأتُهُ: واحزناه فقال واضرباه غَدًا ألْقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحِزْبَه * وَيُرْوَى أَنَّ امْرَأةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا اكْشِفِي لِي قَبْرَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَشَفَتْهُ لَهَا فَبَكَتْ حَتَّى مَاتَتْ، ولما أَخْرجَ أَهْلُ مَكَّةَ زَيْدَ بن الدَّثِنَةِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانُ بن حَرْبٍ أنْشُدُكَ اللَّه يَا زَيْدُ أتُحِبُّ أَنَّ محمدا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا الآن فِي مَكانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أهْلِي، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا * وَعَنِ ابن عَبَّاس كَانَت المَرْأةُ إذَا أتَتِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَهَا بِالله مَا خَرَجَتْ من بُغْضِ زَوْجٍ

_ (قوله تنفش) بضم الفاء (قوله خدرت) بالخاء المعجمة والدال المهملة المكسورة (قوله ابن الدثنة) بدال مهملة مفتوحة فمثلثة مكسورة وقد تسكن فنون، قال ابن دريد هو من قولهم دثن الطائر إذ طار حول وكره ولم يسقط عليه (قوله أنشدك الله) أي أسألك بالله، ذكر أبو الفتح اليعمرى في سيرته عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ كما قال المصنف، وذكر ابن عقبة أن الذى قيل له أتحب هو حبيب بن عدى حين رفع على الخشمة. (*)

فصل في علامة محبته صلى الله عليه وسلم

وَلَا رَغْبَةً بِأَرِضٍ عن أرض وَمَا خَرَجتْ إلَّا حُبًّا لله وَرَسُولِهِ، وَوَقَفَ ابن عُمَرَ عَلَى ابن الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بَعْدَ قَتْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَقَالَ كُنْتَ والله مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا تُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ. فصل فِي علامة محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْلَمْ أَنَّ من أَحَبَّ شَيْئًا آثره وَآثَرَ مُوَافَقَتَهُ وَإلَّا لَمْ يَكُنْ صَادقًا فِي حُبّهِ وَكَانَ مُدَّعِيًا فالصَّادِقُ فِي حُبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تَظْهَرُ علامة ذَلِكَ عَلَيْهِ وَأوَّلُهّا: الاقْتِدَاءُ بِهِ وَاسْتِعْمَالُ سُنّتِهِ وَاتّبَاعُ أقْوَالِهِ وَأفْعَالِهِ وَامْتِثَالُ أوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ فِي عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَمَنْشَطِهِ وَمَكْرهِهِ وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني يحبكم الله) وَإِيثَارُ مَا شَرَعَهُ وَحَضَّ عَلَيْهِ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ وَمُوافَقَةِ شَهْوَتِهِ قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَالَّذِينَ تبوؤا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خصاصة) وَإسْخَاطُ الْعِبَادِ فِي رِضَى اللَّه تَعَالَى * حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سعيد بن الْمُسَيِّبِ قَالَ أَنَسُ بن

_ (قوله ومنشطه ومكرهه) بفتح أولهما وثالثهما مصدران. (*)

مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ) ثُمَّ قَالَ لِي (يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أحْيَا سُنَّتِي فقد أحبني ومن أحبى كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ) فَمَنِ اتَّصَفَ بِهِذِهِ الصّفَةِ فَهُوَ كَامِلُ الْمَحَبَّةِ لله وَرسولِهِ وَمَنْ خَالَفَهَا فِي بَعْضِ هَذِهِ الأُمُورِ فَهُوَ نَاقِصُ الْمَحَبَّةِ وَلَا يَخْرُجُ عَنِ اسْمِهَا، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي حَدُّهُ فِي الْخَمْرِ فَلَعَنَةُ بَعْضُهُمْ وَقَالَ مَا أَكْثَرُ مَا يُؤْتى بِهِ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَلْعَنْهُ فَإنَّهُ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ) وَمِنْ عَلَامَاتِ مَحَبَّةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَةُ ذِكِْرهِ لَهُ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ وَمِنْهَا كَثْرَةُ شَوْقِهِ إلى لِقَائِهِ فَكُلُّ حَبِيبٍ يُحِبُّ لِقَاءَ حَبِيبِه وَفِي حَدِيث الأشْعَرِيّينَ عِنْدَ قُدُومِهِمُ الْمَدِينَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْتَجِزُونَ (غدا نلق الْأَحِبَّهْ * مُحَمَّدًا وَصَحْبَهْ) وَتَقَدَّمَ قَوْلُ بِلَالٍ وَمِثْلُهُ قَالَ عَمَّارٌ قَبْلَ قَتْلِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ من قِصَّةِ خَالِد بن مَعْدَانَ * وَمِنْ عَلَامَاتِهِ مَعَ كثرة

_ (قوله الذى حَدُّهُ فِي الْخَمْرِ) في صحيح الْبُخَارِيّ هو عبد الله الملقب بحمار وقال الحافظ الدمياطي في حواشيه على البخاري: هذا وهم واسمه نعيمان تصغير نعمان شهد العقبة مع السبعين وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد وأتى به في شرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلده أربعا أو خمسا فقال رجل من القوم اللهم العنه مَا أَكْثَرُ مَا يشرب وأكثر ما يجلد فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَلْعَنْهُ فَإنَّهُ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ، وكان صاحب مزاح انتهى (قوله قَالَ عَمَّارٌ قَبْلَ قتله) الذى قتل عمارا هو أبو العادية يسار بالمثناة التحتية المفتوحة والسين المهملة ابن سبع، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام وسمع منه (لا ترجعوا بعدى كفارا) الحديث. وكان إذا استأذن على معاوية يقول: قاتل عمار بالباب. (*)

ذِكْرِهِ تَعْظِيمُهُ لَهُ وَتَوْقيرُهُ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَإظْهَارُ الْخُشُوعِ وَالانْكِسَارِ مَعَ سَمَاعِ اسْمهِ، قَالَ إِسْحَاق التُّجِيبِيُّ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ لَا يَذْكُرُونَهُ إلَّا خَشَعُوا وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ وَبَكَوْا وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ من يَفْعَلُ ذَلِكَ مَحَبَّة لَهُ وَشَوْقًا إليْهِ، وَمِنْهُمْ من يَفْعَلُهُ تَهيُّبًا وتَوْقِيرًا * وَمِنْهَا مَحَبَّتُهُ لِمَنْ أَحَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ هُوَ بِسَبَبهِ من آل بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ من المهاجرين والأنصار وعداوة من عاداهم وَبُغْضُ من أبْغَضَهُمْ وَسَبَّهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَحَبَّ من يُحِبُّ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا) وَفِي رِوَايَة فِي الْحَسَنِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحَبَّ مَنْ يُحِبُّهُ) وَقَالَ (مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمِنْ أَحَبَّنِي فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ وَمَنْ أبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ) وَقَالَ (اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فيحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه) وقال فِي فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا (إِنَّهَا بِضْعَةٌ من يغضبني ما أغضيها) وَقَالَ لِعَائِشَةَ فِي أسامة بن زيد (أحيه فَإنّي أُحِبُّهُ) ، وَقَالَ: (آيَةُ الْإِيمَان حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيةُ النّفَاقِ بُغْضُهُمْ) وَفِي حَدِيث ابن عُمَرَ (من أَحَبَّ الْعَرَبَ فَبِحُبِّي

_ (قوله اسحاق التجيبى) تجيب بضم أوله عند المحدثين وكثير من الأدباء وبفتحه عنه الباقين، والتاء عند هؤلاء أصلية، اسم لقبيلة من كنده (قوله غرضا) بفتح العين المعجمة والراء أي هدفا يرمى عليه (قوله يوشك) أي يقرب ويسرع. (*)

أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ فَبِالْحَقِيقَةِ مَنْ أحب شيئا أحب كل شئ يحبه) وهذه سِيرةُ السَّلَفِ حَتَّى في الْمُبَاحَاتِ وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ حِينَ رَأى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبّاءَ من حَوَالي الْقَصْعَةِ فَمَا زِلْتُ أُحِبُّ الدُّبَّاء من يَوْمَئِذٍ، وَهَذَا الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ وَعَبد الله ابن عَبَّاسٍ وَابْنُ جَعْفَرِ أتَوْا سَلَمى وَسَألُوهَا أنْ تَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا مِمَّا كَانَ يُعْجِبُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابن عُمَرَ يَلْبَسُ النّعَال السَّبْتِيَّة وَيصْبُغُ بالصُّفْرَةِ إِذْ رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ نَحْو ذَلِكَ * وَمِنْهُا بُغْضُ من أبْغَضَ اللَّه وَرَسُولهُ وَمُعَادَاةُ من عَادَاهُ وَمُجَانَبَةُ من خَالَفَ سُنَّتَهُ وَابْتَدَعَ فِي دِينِهِ وَاسْتِثْقَالُهُ كُلَّ أمر يُخَالِف شَرِيعَتَهُ قَالَ الله تعالى (لا نجد قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورسوله) وَهَؤْلَاءِ أصْحَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَتَلُوا أحِبَّاءَهُمْ وَقَاتَلُوا آباءَهُمْ وَأبْنَاءَهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ وَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بنُ عَبْد اللَّه بن أبي: لَوْ شِئْتَ لأتَيْتُكَ بِرَأْسِهِ

_ (قوله الدباء) بالمد وحكى المصنف فيه القصر أيضا جمع دباة وهو الفرع (قوله من حوالى) بفتح اللام (قوله أتَوْا سَلَمى وَسَألُوهَا) قال المزى في الأطراف كانت سلمى مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم ويقال مولاة لصفية وهى زوج أبى رافع وداية فاطمة الزهراء أو قابلة إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وغاسلة فاطمة الزهراء مع أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ (قوله السبتية) السبت بكسر السين المهملة جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال، سميت بذلك لأن شهرها قد سبت عنها أي أزيل وحلق، وقيل لأنها أسبتت بالدباغ أي لانت وقال ابن قرقول عن الدراوردى منسوبة إلى موضع يقال له سوق السبت. (*)

يَعْنِي أبَاهُ. وَمِنْهَا أَن يُحِبَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أتى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدَى بِهِ وَاهْتَدَى وَتَخَلّقَ بِهِ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ وَحُبُّهُ لِلْقُرْآنِ تِلَاوَتُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَتَفَهُّمُهُ وَيُحِبُّ سُنَّتَهُ وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهَا، قَالَ سَهْلُ بن عَبْد اللَّه: عَلَامَةُ حُبّ اللَّه حُبُّ الْقُرْآنِ وَعَلَامَةُ حُبّ الْقُرْآنِ حُبُّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَامَةُ حُبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبُّ السُّنَّةِ وَعَلَامَةُ حُبّ السُّنَّةِ حُبُّ الآخِرَةِ وَعَلَامَةُ حُبّ الآخِرَةِ بُغْضُ الدُّنْيَا وَعَلَامَةُ بُغْضِ الدُّنْيَا أنْ لَا يَدَّخِرَ مِنْهَا إلَّا زَادًا وَبُلْغَةً إِلَى الآخِرَةِ، وَقَالَ ابن مَسْعُودٍ لَا يَسْألُ أَحَدٌ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا الْقُرْآن فإنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ. وَمِنْ عَلَامَاتِ حُبّهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَقَتُهُ عَلَى أمَّته وَنُصْحُهُ لَهُمْ وَسَعْيُهُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَرَفْعُ الْمَضَارّ عَنْهُمْ، كَمَا كان صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُؤْمِنينَ رؤوفا رَحِيمًا. وَمِنْ عَلَامَةِ تَمَامُ مَحَبَّتِهِ زُهْدُ مُدَّعِيهَا فِي الدُّنْيَا وَإيثَارُهُ الْفَقْر وَاتّصَافُهُ بِهِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي: (إنَّ الْفَقْرَ إِلَى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أسْرَعُ مِنَ السيْلِ مِنْ أَعْلَى لوادى أَوِ الْجَبَلِ إِلَى أَسْفَلِهِ) وَفِي حَدِيث عَبْد اللَّه بن مُغَفَّلٍ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّه إِنِّي أُحِبُّكَ فَقَالَ (انْظُرْ مَا تَقُولُ) قَالَ وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - قَالَ (إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا) ثُمَّ ذَكَرَ نَحْو حديث أبي سعيد بمعناه.

_ (قوله وبلغة) بضم الموحدة ما يتبلغ به من العيش (قوله ابن مغفل) بضم الميم وفتح الغين المعجمة والفاء المشددة (قوله تجفافا) بكسر المثناة الفوقية بعدها جيم = = ساكنة شئ من سلاح يترك على الفرس يقيه الأذى وقد يلبسه الإنسان أيضا، وجمعه تجافيف ويروى جلباب وهو الإزار، قال القتيبى معناه أن يرفض الدنيا ويزهد فيها ويصبر على الفقر والتقلل فكنى بالتجفاف والجلباب عن الصبر لأنه يستر الفقير كما يستران البدن. (*)

فصل في معنى المحبة للنبى صلى الله عليه وسلم وحقيقتها

فصل فِي مَعْنَي الْمَحَبَّةِ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقيقتها اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِ مَحَبَّةِ اللَّه وَمَحَبَّةِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَثُرَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَتْ تَرْجِعُ بِالحَقِيقَةِ إلى اخْتِلافِ مَقَال وَلَكِنَّهَا اخْتِلَافُ أَحْوَالٍ فَقَالَ سُفْيَانُ المَحَبَّةُ اتّبَاعُ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأنَّهُ التَفَتَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتبعوني) الآية، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَحَبَّةُ الرَّسُولِ اعْتِقَادُ نُصْرَتِهِ والذَّبُّ عَنْ سُنَّتِهِ والانْقِيَادُ لَهَا وَهَيْبَةُ مُخَالَفَتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ المَحَبَّةُ دَوَامُ الذِّكْرِ لِلْمَحْبُوبِ، وَقَالَ آخَرُ: إِيثَارُ المَحْبُوبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ المَحَبَّةُ الشَّوْقُ إِلَى المَحْبُوبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ المَحَبَّةُ مُوَاطَأَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادِ الرَّبِّ يُحِبُّ مَا أحَبَّ وَيَكْرَهُ مَا كَرِهَ، وَقَالَ آخَرُ: المَحَبَّةُ مَيْلُ القَلْبِ إِلَى مُوَافِقٍ لَهُ وأكْثَرُ العِبَارَات المُتَقَدّمَةِ إشَارَةٌ إِلَى ثَمَراتِ المَحَبَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا وَحَقِيقَةُ المَحَبَّةِ المَيْلُ إلى مَا يُوَافِقُ الْإِنْسَانَ وَتَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لَهُ إِمَّا لاسْتِلْذَاذِهِ بإدْرَاكِهِ كَحُبّ الصُّوَرِ الجَمِيلَةِ وَالْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالْأَطْعِمَةِ والأشربة الذيذة وأشْبَاهِهَا مِمَّا كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ مَائِلٌ إِلَيْهَا لِمُوَافَقتِهَا لَهُ، أَوْ لاسْتِلْذَاذِهِ بإدْرَاكِهِ بِحَاسَّةِ عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ مَعَانِيَ بَاطِنَةً شَرِيفَةً كَحُبّ الصَّالِحِينَ وَالعُلَمَاءِ وأهْلِ المَعْرُوفِ

المَأْثُورِ عَنْهُمُ السّيَرُ الجَمِيلَةُ وَالْأَفْعَالُ الحَسَنَةُ فَإنّ طَبْعَ الْإِنْسَان مَائِلٌ إِلَى الشَّغَفِ بأمْثَالِ هَؤْلَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ التَّعَصُّبُ بِقَوْمٍ لِقَوْمٍ وَالتَّشَيُّعُ من أمَّةٍ فِي آخرِينَ مَا يُؤدّي إلى الجَلاءِ عَنِ الْأَوْطَانِ وهتك الحرم واخترام النُّفُوسِ أَوْ يَكُونَ حُبُّهُ إيّاهُ لِمُوَافَقَته لَهُ من جِهَةِ إحْسَانِهِ لَهُ وَإنْعَامِهِ عَلَيْهِ فَقَدْ جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى حُبِّ من أَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا نَظَرْتَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمْتَ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعٌ لِهذِهِ المَعَانِي الثَّلاثَةِ المُوجِبَةِ للمحبة. أَمَّا جَمَالُ الصُّورَةِ والظّاهِرِ وكمالِ الْأَخْلَاقِ وَالبَاطِنِ فَقَدْ قَرَّرْنا مِنْهَا قَبْلُ فِيمَا مَرَّ من الكتاب مالا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ. وَأَمَّا إحْسَانُهُ وَإنْعَامُهُ عَلَى أمَّتِهِ فَكَذلِكَ قَدْ مَرَّ مِنْهُ فِي أوْصَافِ اللَّه تَعَالَى لَهُ من رَأْفَتِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِ إيّاهُمْ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمُ وَاسْتِنْقَاذِهِمْ بِهِ مِنَ النَّارِ وأنه بالمؤمنين رؤف رَحِيمٌ وَرَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّه بِإِذْنِهِ وَيَتْلُوا عَلَيْهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَأيُّ إحْسَان أجَلُّ قَدْرًا وَأَعْظَمُ خَطَرًا من إحْسَانِهِ إِلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنينَ، وأيُّ إِفْضَالٍ أَعَمُّ مَنْفَعةً وَأَكْثَرُ فَائِدةً من إنْعَامِهِ عَلَى كَافَّةِ المُسْلِمِينَ؟ إِذْ كَانَ ذَرِيعَتُهُمْ إِلَى الهِدَايَةِ وَمُنِْقذُهُمْ مِنَ العَمَايَةِ وَدَاعِيَهُمْ إِلَى الفَلاحِ وَالكَرَامَةِ وَوَسيلَتَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ وَشَفيعَهُمْ وَالمُتَكَلِّمَ عَنْهُمْ وَالشَّاهِدَ لَهُمْ وَالمُوجِبَ لَهُمُ الْبَقَاءَ الدَّائِمَ وَالنَّعِيمَ السَّرْمَدَ فَقَد اسْتَبَانَ لَكَ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُسْتَوْجِبٌ لِلْمَحَبَّةِ الحقيقة شرعا

_ (قوله واخترام النفوس) بالخاء المعجمة.

فصل في وجوب مناصفته صلى الله عليه وسلم

بِمَا قَدَّمْناهُ من صَحِيحِ الآثارِ وَعَادَةً وَجِبلَّةً بِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا لإفاضَتِهِ الإحْسَانَ وَعُمُومِهِ الإجْمَالَ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يُحِبُّ من مَنَحَهُ فِي دُنْيَاهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ مَعْرُوفًا أَو اسْتَنْقَذَهُ من هَلَكَةٍ أَوْ مَضَرَّةٍ مُدّةَ التَّأذّي بِهَا قَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ فَمَنْ مَنَحَهُ مَا لَا يَبِيدُ مِنَ النَّعِيمِ وَوَقَاهُ ما لا يفى من عَذَابِ الجَحِيمِ أوْلى بالحُبّ، وَإذَا كَانَ يُحبُّ بالطّبْعِ ملك لِحُسْنِ سِيرَتِهِ أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أَوْ كَرَمِ شِيمَتِهِ فَمَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ عَلَى غَايَةِ مَرَاتِبِ الْكَمَال أَحَقُّ بِالْحُبّ وَأوْلَى بِالْمَيْلِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أحَبَّهُ وَذَكَرْنا عَنْ بَعْض الصَّحَابَةِ أنَّهُ كَانَ لَا يَصْرفُ بَصَرَهُ عَنْهُ مَحَبَّةً فِيهِ. فصل فِي وجوب مناصفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّه تَعَالَى (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِذَا كَانُوا مُخْلِصِينَ مُسْلِمِينَ فِي السّرّ والْعَلانَيَّة. حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بكر

_ (قوله لما يشاد) بضم المثناة التحتية وتخفيف الشين المعجمة وفى آخره دال مهملة مخففة، في الصحاح أشاد بذكره أي يرفع من قدره (قوله شيمته) بكسر الشين المعجمة أي خلقته. (*)

لتمار حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ (إِنَّ الدِّينَ النَصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) قَالَ أئِمَّتُنَا: النَّصِيحَةُ لله ولرسوله وأئمة المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) قَالَ أئِمَّتُنَا: النَّصِيحَةُ لله ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم واجبة قال الإمام أبو سليمان البستي: النصيحة كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ إرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَلَيْسَ يُمْكِنُ أن يعبر عنها بكلمة واحدة تحصرها، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ الإخْلَاصُ من قَوْلِهِمْ نَصَحْتُ الْعَسَلَ إذَا خَلَّصْتَهُ من شَمْعِهِ وَقَالَ أَبُو بكر ابن أَبِي إِسْحَاقَ الخَفَّافُ: النصح فعل الشئ الَّذِي فِيهِ الصَّلَاحُ والملاءمة، مأخوذ مِنَ النّصَاحِ وَهُوَ الخِيطُ الَّذِي يُخَاطُ بِهِ الثو، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجَاجُ نَحْوهُ، فَنَصِيحةُ اللَّه تَعَالَى صِحَّةُ الاعتقاد له بالوحدانية وَوَصْفُهُ بِمَا هُوَ أهْلُهُ وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابّه وَالْبُعْدُ من مَسَاخِطِهِ وَالإخْلَاصُ فِي عِبَادَتِهِ والنصحية لِكِتَابِهِ: الْإِيمَانُ بِهِ والعمل

_ (قوله تميم الدارى) ويقال الديرى، فالأول نسبة إلى جده الدار والثانى نسبة إلى دير كان يتعبد فيه قبل الإسلام، أسلم سنة تسع من الهجرة وكان نصرانيا قبل ذلك (قوله إن الدين النصيحة) ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث ونسبه إلى أبى داود وقد أخرجه أبو داود في الأدب ولفظه (الدين النصيحة) من غير تكرار وكذلك لفظ مسلم ولفظ النسائي (إن الدين النصيحة) من غير تكرار أيضا (قوله قال الإمام أبو سليمان البستى) هو الخطابى (قوله والملاءمة) بضم الميم وتخفيف اللام بعدها ألف وهمزة: هي الموافقة بين الأشياء (قوله من النصاح) بكسر النون وتخفيف الصاد والحاء المهملتين (*)

بِمَا فِيهِ وَتَحْسِينُ تلاوته والتخسع عنده وتعظم لَهُ وَتَفَهُّمُهُ وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ وَالذَّبُّ عَنْهُ من تَأْوِيلِ الْغَالِينَ وطعن الملحدين، والصحيحة لِرَسُولِهِ التَّصْدِيقُ بِنُبُوّتِهِ وَبَذْلُ الطّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهى عَنْهُ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ، وَقَالَ أبو بكر: وموازرته وَنُصْرَتُهُ وَحِمَايَتُهُ حَيًّا وَمَيّتًا، وَإِحْيَاءُ سُنّتِهِ بالطَّلَبِ وَالذَّبّ عَنْهَا وَنَشْرِهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلاقِهِ الكَرِيمَةِ وَآدَابِهِ الجملية، وَقَالَ أَبُو إبْرَاهِيمُ إِسْحَاقُ التُّجِيبيُّ: نَصِيحةُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْدِيقُ بِمَا جاء بِهِ وَالاعْتِصَامُ بِسُنّتِهِ وَنَشْرُهَا وَالحَضُّ عَلَيْهَا وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّه وَإِلَى كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وإليها إلى الْعَمَلِ بِهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ بن مُحَمَّدٍ من مَفْرُوضَاتِ الْقُلُوبِ اعْتِقَادُ النَّصِيحَةِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجُرّيُّ وَغَيْرُهُ النُّصْحُ لَهُ يَقْتَضِي نُصْحَيْنِ نُصْحًا فِي حَيَاتِهِ وَنُصْحًا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَفِي حَيَاتِهِ نُصْحُ أَصْحَابِهِ لَهُ بِالنَّصْرِ وَالمُحَامَاةِ عَنْهُ وَمُعَادَاةِ من عَادَاهُ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَبَذْلِ النُّفُوسِ وأموال دُونَهُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآيَةَ، وَقَالَ (وَيَنْصُرُونَ الله ورسوله) الآيَةَ، وَأَمَّا نَصِيحَةُ الْمُسْلِمينَ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فالتِزَامُ التَّوْقِيرِ وَالإجْلالِ وشِدَّةُ المَحَبَّة لَهُ وَالمُثَابَرَةُ عَلَى تعلم سنته والنفقة فِي شَرِيعَتِهِ وَمَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ وأصْحَابِهِ وَمُجَانَبَةُ من رَغِبَ عَنْ سُنّتِهِ وَانْحَرَفَ عَنْهَا وَبُغْضُهُ وَالتَّحْذِيِرُ مِنْهُ وَالشَّفَقَةُ عَلَى أُمَّتِهِ وَالْبَحْثُ عَنْ تَعَرُّفِ أَخْلَاقِهِ وَسِيَرِهِ وَآدَابِهِ وَالصّبْرُ عَلَى ذَلِكَ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ تَكُونُ النَّصِيحَةُ إحْدَى ثَمْراتِ المَحَبَّةِ وَعَلَامَةً من عَلَامَاتِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَحَكى (قوله التجيبى) بضم المثناة الفوقانية وفتحها وكسر الجيم (3 - 2) (*)

الباب الثالث في تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره

الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ عَمْرو بن اللَّيْثِ أَحَد مُلُوكِ خُرَاسَانَ وَمَشَاهِيرِ الثُّوَّارِ المَعْرُوفَ بِالصَّفّارِ رؤى فِي النَّوْمِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّه بك؟ فَقَالَ غَفَرَ لِي، فَقِيلَ بِمَاذَا؟ قَالَ صَعِدْتُ ذِرْوَةَ جَبَلٍ يَوْما فَأشْرَفْتُ عَلَى جُنُودِي فأعجبتى كَثْرَتُهُمْ فَتَمَنَّيْتُ أَنّي حَضَرْتُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأعْنتُهُ وَنَصْرتُهُ فَشَكَرَ اللَّه لِي ذَلِكَ وَغَفَرَ لِي * وما النُّصْحُ لْأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ فَطَاعَتُهُمْ فِي الْحَقّ وَمَعُونَتُهُمْ فِيهِ وَأمْرُهُمْ بِهِ وَتَذْكِيرُهُمْ إيّاهُ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا غَفَلُوا عَنْهُ وَكُتِمَ عَنْهُمْ من أُمُور المُسْلِمينَ وَتَرْكُ الخُرُوجِ عَلَيْهِمُ وَتَضْرِيبِ النَّاسِ وَإفْسَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمُ والصح لِعَامَّةِ المُسْلِمينَ إرْشَادُهُمْ إِلَى مَصَالِحِهمْ وَمَعُونَتُهُمْ فِي أمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِالْقَوْلِ وَالفِعْلِ وَتَنْبِيهُ غَافِلهِمْ وَتَبْصِيرُ جَاهِلِهمْ وَرَفْدُ مُحْتَاجِهِمْ وَسَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ وَدَفْعُ المضار عنهم وجل المَنَافِعِ إِلَيْهِمْ الْبَابِ الثالث (فِي تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره) قَالَ اللَّه تَعَالَى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وتعزروه وتوقروه) وقال (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تقدموا

_ (قوله الثوار) بالمثلثة وتشديد الواو وفى آخره راء: أي الأبطال (قوله صعدت) بكسر العين (قوله ذروة) بكسر المعجمة وضمها (قولها فَشَكَرَ اللَّه لِي) قال ابن قرقول في قوله فشكر الله: أي أثابه وقيل قبل عمله وقيل أثنى عليه بذلك وذكره لملائكته (قوله وتضريب) بالضاد المعجمة، في الصحاح التضريب بين الناس الإغراء (*)

بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورسوله، و: (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي) الثلاث آيات وَقَالَ تَعَالَى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بعضا) فأوجب تعالى تعذيره وَتَوْقِيرَهُ وَألْزَمَ إكْرَامَهُ وتعظيمه، وقال ابن عَبَّاس تُعَزّرُوهُ تُجِلُّوُه وَقَالَ المُبَرّدُ تُعَزّرُوهُ تُبَالغُوا فِي تَعْظِيمِهِ، وَقَالَ الْأخْفَشُ تَنْصُرُونَهُ، وقَالَ الطَّبَرِيُّ تُعِينُونَهُ، وَقُرِئَ تعززوه براءين مِنَ العِزّ، وَنَهى عَنِ التَّقَدُّمِ بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام على قول ابن عباس وغيره هو اختيار ثعلب، قال سهل ابن عبد اللَّه لا تقولوا قبل أن يقول وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا، ونهوا عن التقدم وَالتَّعَجُّلِ بِقَضَاءِ أمْرٍ قبل قضاء فِيه وَأَنْ يَفْتَاتُوا بشئ فِي ذَلِكَ من قَتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ من أمْرِ دِينِهِمْ إلَّا بأمْرِهِ وَلَا يَسْبِقُوهُ بِهِ، وَإِلَى هَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُ الحسن ومجاهد والصحاك وَالسُّدّيّ وَالثَّوْرِيّ ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ فَقَالَ (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ اتَّقُوه يَعْنِي فِي التَّقَدُّمِ، وَقَالَ السُّلَمِيُّ اتَّقُوا اللَّه فِي إِهْمَالِ حَقِّهِ وَتَضْيِيعِ حُرْمَتِهِ إنَّهُ سَمِيعٌ لِقَوْلِكُمْ عَلِيمٌ بِفِعْلِكُمْ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ وَالجَهْرِ لَهُ بِالقَوْلِ كَمَا يَجْهَرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَقِيلَ كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِاسْمِهِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكّيٌّ أَيْ لَا تُسَابِقُوهُ بِالكَلَامِ وَتُغْلِظُوا له بالخطاب ولا تنادوه باسْمِهِ نِدَاءَ بَعْضِكُمْ

_ قوله تعزيره) بالراء أي تعظيمه وتوقيره (*)

لِبَعْضٍ وَلِكنْ عَظِّمُوهُ وَوَقِّرُوهُ وَنَادُوهُ بأشْرَفِ مَا يُحِبُّ أنْ يُنَادَى بِهِ: يَا رَسُولَ اللَّه يَا نَبِيَّ اللَّه، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الآيَة الْأُخْرى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ وَقَالَ غَيْره لَا تحاطبوه إلَّا مُسْتَفْهِمِينَ، ثُمَّ حوفهم اللَّه تَعَالَى بِحَبْطِ أَعْمَالِهِمْ إنْ هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ، قِيلَ نَزَلَت الآيَةُ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَقِيلَ فِي غَيْرِهِمْ أتَوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادُوهُ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا فَذَمَّهُمُ اللَّه تَعَالَى بالجَهْلِ وَوَصَفَهُمْ بِأنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَقِيلَ نَزَلَتِ الآيَةُ الْأُولَى فِي مُحَاوَرَةٍ كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتِلَافٍ جَرَي بَيْنَهُمَا حَتَّى ارْتَفَعتْ أصْوَاتُهُمَا وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ خَطِيبِ النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم في مخافرة بَنِي تَمِيمٍ وَكَانَ فِي أُذُنَيْهِ صَمَمٌ فَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ وَخَشِيَ أَنَّ يَكُونَ حَبِطَ عَمَلُهُ ثُمَّ أتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللَّه لَقَدْ خَشِيتُ أنْ أكُونَ هَلَكْتُ، نَهَانَا اللَّه أنْ نَجْهَرَ بِالْقَولِ وَأنا امْرُؤ جَهِيرُ الصَّوْتِ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَا ثَابِتُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟) فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَرُويَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ والله يَا رَسُولَ اللَّه لَا أُكَلّمُكَ بَعْدَهَا إلَّا كأخِي السّرَارِ وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا حَدّثَه حَدّثَه كَأخِي السّرَارِ مَا كَانَ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ فأنْزَلَ الله

_ (قوله كأخى السرار) وهو بكسر السين المهملة النجوى، وقال ابن الأثير المساررة (*)

فصل في عادة الصحابة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلاله

تَعَالَى فِيهِمْ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عظيم) وَقِيلَ نَزَلَتْ (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحجرات) فِي غَيْرِ بَنِي تَمِيمٍ نَادَوْهُ بِاسْمِهِ، وَرَوَى صَفْوَانُ بن عَسَّال بَيْنَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيّ أيا مُحَمَّدُ أيا مُحَمَّدُ أيا مُحَمَّدُ فَقُلْنَا لَهُ اغضُضْ من صَوْتِكَ فَإنَّكَ قَدْ نُهيتَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ، وقال الله تعالى (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تقولوا راعنا) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ هِيَ لُغَةٌ كَانَتْ فِي الْأَنْصَارِ نُهُوا عَنْ قَوْلِهَا تَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتبْجِيلًا لَهُ لِأَنَّ مَعْنَاهَا ارْعَنَا نرعك فَنُهُوا عَنْ قَوْلِهَا إِذْ مُقْتَضَاهَا كَأنَّهُمْ لَا يَرْعَوْنَهُ إلَّا بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ بَلْ حَقُّهُ أنْ يُرْعَى عَلَى كُلّ حال وَقِيلَ كَانَت اليَهُودُ تُعَرّضُ بها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرُّعُونَةِ فَنُهِيَ المُسْلِمُونَ عَنْ قَوْلِهَا قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ ومنها للتَّشَبُّهِ بهم فِي قَوْلِهَا لِمُشَارَكَةِ اللَّفْظَةِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا فصل فِي عادة الصَّحَابَةِ فِي تعظيمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوقيره وإجلاله حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ وَأَبُو بَحْرٍ الأَسَدِيُّ بِسَمَاعِي عَلَيْهِمَا فِي آخَرِينَ قَالُوا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ حدثنا محمد بن

_ (قوله ابن عسال) بالعين والسين المشددة المهملتين (قوله جهورى) أي: شديد عال نسبة إلى جهور بفتح الجيم وسكون الهاء وفتح الواو، في الصحاح جهر بالقول رفع به وجهور وهو رجل جهورى الصوت وجهير الصوت (*)

عِيسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالُوا حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ عَنْ عَمْرٍو قَالَ وَمَا كَانَ أحد أحب إلي من رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنِي مِنْهُ إِجْلَالًا له وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنَّي لَمْ أَكُنْ أملأ عينى وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى أصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وهم جُلُوسٌ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ بَصَرَهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَإِنَّهُمَا كَانَا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا وَيَتَبَسَّمَانِ إِلَيْهِ وَيَتَبَسَّمُ لَهُمَا، وَرَوَى أسَامَةُ بن شَرِيكٍ قَالَ أتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصْحَابُهُ حَوْلَهُ كأنما على رؤسهم الطَّيْرُ، وَفِي حَدِيث صِفَتِهِ إذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جلساؤه كأنما على رؤسهم الطَّيْرُ، وَقَالَ عروة بن مَسْعُودٍ حِينَ

_ (قوله حيرو بن شريح) بالشين المعجمة المضمومة وفى آخره حاء مهملة (قوله عن أبى شماسة) بضم المعجمة وفتحها وتخفيف الميم بعدها ألف فسين مهملة (قوله المهرى) بفتح الميم وسكون الهاء (قوله وَفِي حَدِيث صِفَتِهِ) بكسر الصاد المهملة وفتح الفاء بعدها مثناة فوقية وهاء للضمير وهو الحديث المتقدم الذى رواه الحسن بن علي بن أبي طالب عن هِنْدَ بْنَ أَبِي هالة وفى بعض النسخ صفية بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد المثناة التحتية اسم امرأة وهو تصحف لأن الصفاة ثلاث أم المؤمنين وبنت الزبير وبنت شبية العبدرية (*)

وَجَّهَتْهُ قُرَيْشٌ عام القَضِيَّةِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأى من تَعْظِيم أصْحابِهِ لَهُ مَا رَأَى وَأنَّهُ لَا يَتَوَضَّأ إلا ابتدروا وضوئه وكادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا وَلَا يتخم نُخَامَةً إلَّا تَلَقَّوْهَا بِأكْفّهِمْ فَدَلكُوا بِهَا وُجُوهَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ وَلَا تَسْقُطُ مِنْهُ شَعَرَةٌ إِلَّا ابْتَدَرُوهَا وَإِذَا أمَرَهُمْ بِأَمْرٍ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْواتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدّونَ إليه النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَلَمّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي جئت كِسْرى فِي مُلْكِهِ وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِ وَإِنَّي والله مَا رَأَيْتُ مَلِكًا فِي قَوْمٍ قَطُّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ فِي أصْحَابِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ إنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظّمُهُ أصْحابُهُ مَا يعظم محمد أصْحَابُهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ أبدًا، وَعَنْ أَنَسٍ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى الله عليه وسلم والحلاق يَحْلِقُهُ وَأطَافَ بِهِ أصحابه فما يرويدن أنْ تَقَعَ شَعَرَةٌ إلَّا فِي يَد رَجُلٍ وَمِنْ هَذَا لَمّا أذِنَتْ قُريْشٌ لِعُثْمَانَ فِي الطّوَافِ بِالبَيْتِ حِينَ وَجَّهَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي القَضِيَّةِ أَبَى وَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيث طَلْحَةَ أَنَّ أصْحَابَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم

_ وليس لواحدة منهن في هذا شئ (قوله عام القضية) يريد العام الذى جرت فيه القضية أي الصلح وهو عام الحديبية ولا يريد عام القضاء لأن عام القضاء في السنة السابعة بعد الحديبية بسنة (قوله والحلاق يحلقه) الذى حلق له عليه السلام في عمرة الجعرانة أبو هند وهو حلق له فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ في شرح مسلم للنووي المشهور أنه معمر بن عبد الله العدوى وقيل اسمه خراش بن أمية بن ربيعة الكليبي بضم الكاف منسوب إلى كليب بن حبيشة (قوله في القضية) أي قضية صلح الحديبية لأنه إنما (*)

فصل واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته

قَالُوا لْأَعْرَابِيّ جاهِلٍ سَلْهُ عَمَّنْ قَضى نَحْبَهُ، وكانوا يَهَابُونَهُ وَيُوقّرُونَهُ، فَسَألَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ إِذْ طَلَعَ طَلْحَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا مِمَّنْ قَضى نَحْبَهُ، وَفِي حَدِيث قَيْلَةَ: فَلَمّا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسًا القُرْفُصَاءَ أُرْعدْتُ مِنَ الفَرَقِ وَذَلِكَ هَيْبَةً لَهُ وَتَعظِيمًا، وَفِي حَدِيث المُغِيرَة كَانَ أصْحَابُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِرِ، وَقَالَ البَرَاءُ بن عازِبٍ لَقَدْ كُنْتُ أُرِيدُ أنْ أسْألَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَنِ الْأَمْر فأؤخّرُ سِنِينَ من هَيْبَتِهِ فصل وَاعْلَمْ أَنَّ حُرْمَةَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَوْقِيرَهُ وَتَعْظِيمَهُ لازِمٌ كَمَا كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وذكر حَدِيثِهِ وَسُنّتِهِ وَسَمَاعِ اسْمِهِ وَسِيرَتِهِ وَمُعَامَلَةِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ وَتَعْظِيمِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ قَالَ أَبُو إبراهيم التّجِيبيُّ وَاجِبٌ عَلَى كُلّ مُؤْمِن مَتَى ذَكَرَهُ أَوْ ذُكِرَ عِنْدَهُ أنْ يَخْضَعَ وَيَخْشَعَ ويتوقر وَيَسْكُن من حَرَكَتِهِ وَيَأْخُذَ فِي هَيْبَتِهِ وَإجْلالِهِ بِمَا كَانَ يَأْخُذُ بِهِ نَفْسَهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيتَأدَّبَ بِمَا أدَّبَنَا اللَّه بِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةُ سَلَفِنَا الصَّالِحِ وَأَئِمَّتِنَا الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَدَّثَنَا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن

_ أرسله في عام الحديبية (قوله إِذْ طَلَعَ طَلْحَةُ) هو بن عبد الله بن عثمان أحد العشرة وفى الصحابة أيضا طلحة بن عبيد الله لكن اسم جده شافع (قوله وعترته) بمثناة فوقية وعترة الرجل أهله الأدنون (*)

الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بن بَقِيٍّ الْحَاكِمُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فيما أجازونيه قالو أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن عُمَرَ بن دِلْهَاثٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بن فِهْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بن أَحْمَدَ بن الفَرَجِ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بن المُنْتَابِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بن إِسْحَاقَ بن أَبِي إِسْرَائِيلَ حَدَّثَنَا ابن حميد قال ناظرا أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ مَالِكًا فِي مَسْجِدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لَهُ مَالِكٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي هَذَا المَسْجِدِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَدَّبَ قَوْمًا فَقَالَ (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي) الآيَةَ، وَمَدَحَ قَوْمًا فَقَالَ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رسول الله) الآيَةَ، وَذَمَّ قَوْمًا فَقَالَ (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ) الآيَةَ وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ وَلم تَصْرفْ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ عيه السَّلَامُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ بَلِ اسْتَقْبِلْهُ واسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعهُ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظلموا أنفسهم) الآيَةَ وَقَالَ مَالِك - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أيُوبَ السَّخْتِيَانِي - مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أحَدٍ إلَّا وَأيُّوبُ أفْضَلُ مِنْهُ، قَالَ وَحَجَّ حَجَّتَيْنِ فَكُنْتُ أرْمُقُهُ وَلَا اسْمَعُ مِنْهُ غيرا أنَّهُ كَانَ إذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكى حَتَّى أرْحَمَهُ فَلَمّا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا رَأَيْتُ وَإجْلَالَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ كَتَبْتُ عَنْهُ، وَقَالَ مُصْعَبُ بن عَبْد الله

_ (قوله السختيانى) قال ابن قرقول هو بفتح السين ومنهم من يضمها، وبكسر المثناة الفوقية، كان يبيع السختيان وهى الجلود (*)

كَانَ مَالِكٌ إذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ وَيَنْحَنِي حَتَّى يَصْعُبَ ذَلِكَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقِيلَ لَهُ يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَوْ رَأيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَما أنْكَرْتُمْ عَليَّ مَا تَرَوْنَ وَلَقَدْ كُنْتُ أرَى مُحَمَّدَ بن الْمُنْكَدِرِ وَكَانَ سَيّدَ الْقُرّاءِ لَا نكاد سأله عَنْ حَدِيثٍ أبَدًا إلَّا يَبْكِي حَتَّى نَرْحَمَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أرَى جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ وَالتَّبَسُّم فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وَسَلَّمَ اصْفَرَّ وَمَا رأته يُحَدَّثُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ، وَلَقَد اخْتَلَفْتُ إليْهِ زَمَانًا فَمَا كُنْتُ أرَاهُ إلَّا عَلَى ثَلَاثِ خِصَال إِمَّا مُصَلّيًا وإما صامتا وَإِمَّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يعْنِيهِ وَكَانَ مِنَ الْعُلمَاءِ وَالْعُبّادِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَلَقَدْ كَانَ عَبْد الرَّحْمنِ بن الْقَاسِمِ يَذْكُرُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنْظَرُ إِلَى لَوْنِهِ كَأنَّهُ نُزِفَ مِنْهُ الدَّمُ وَقَدْ جَفَّ لِسَانُهُ فِي فَمِهِ هَيْبَةً مِنْهُ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ كُنْتُ آتي عَامِرَ بن عَبْد اللَّه بن الزُّبَيْرِ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكى حَتَّى لَا يَبْقَى فِي عَيْنَيْه دُمُوعٌ، وَلَقَدْ رَأيْتُ الزُّهْرِيَّ وَكَانَ من أهْنَأ النَّاسِ وَأقْرَبِهِمْ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأنَّهُ مَا عَرَفَكَ ولا عرفته، لقد كُنْتُ آتي صَفْوَانَ بن سُلَيْمٍ وَكَانَ مِنَ المتعبدين

_ (قوله الدعابة) بالدال المهملة المضمومة هي المزاح (قوله وَلَقَدْ كَانَ عَبْد الرَّحْمنِ بن الْقَاسِمِ) يعنى ابن مُحَمَّد بن أَبِي بكر الصديق ولد زمن عائشة كان أفصل أهل زمانه (قوله تزف) بضم النون وكسر الزاى (قوله وقد جف) بفتح الجيم من الجفاف (قوله وَكَانَ من أهْنَأ) بنون وهمزة في آخره من غير مد (قوله صفوان بن سليم) بضم السين المهملة وفتح اللام هو الامام القوة يقال إنه لم يضع حنه إلى الأرض أربعين سنة (*)

فصل في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته

المُجْتَهِدِينَ فَإِذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكى فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى يَقُوم النَّاسُ عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ، وَرُويَ عَنْ قَتَادَةَ أنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الحديث أحذه العَوِيلُ وَالزَّويلُ ولما كَثُرَ عَلَى مَالِكٍ النَّاس قِيلَ لَهُ لو جَعَلْتَ مُسْتَملِيًا يُسْمِعُهُمْ، فَقَالَ قَالَ الله تعالى (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي) وَحُرْمَتُهُ حَيًّا وَمَيّتًا سَوَاء، وَكَانَ ابن سِيرِينَ رُبَّمَا يَضْحَكُ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشَعَ وَكَانَ عَبْد الرَّحْمنِ بن مَهْدِيّ إذَا قَرَأ حَدِيثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَرَهُمْ بِالسُّكُوتِ وَقَالَ (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صوت النبي) وبتأول أنه يجيب لَهُ مِنَ الإنْصَاتِ عِنْدَ قِرَاءةِ حَدِيثِهِ مَا يَجِبُ لَهُ عِنْدَ سِمَاع قَوْلِهِ فصل فِي سيرة السلف فِي تعظيم رِوَايَةِ حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بن مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بن خَيْرُونَ حدَّثَنَا أَبُو بَكْر البَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيّ بن مُبَشّرِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن سِنِان القَطَّانُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بن هَارُونَ حَدَّثَنَا المَسْعُودِي عَنْ مُسْلِم البَطِينِ عَنْ عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ اخْتَلَفْتُ إِلَى ابن

_ (قوله أخَذَهُ العَوِيلُ وَالزَّويلُ) العويل بفتح المهملة وكسر الواو رفع الصوت، والزويل بفتح الزاى وكسر الواو، قال ابن الأثير القلق والانزعاج بحيث لا يستقر على مكان، وهو والزوال بمعنى (قوله البطين) بفتح الموحدة وكسر الطاء المهملة هو ابن عمران الكوفى (*)

مَسْعُودٍ سَنَةً فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُ حَدَّثَ يَوْمًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَلَاهُ كَرْبٌ حَتَّى رَأَيْتُ العَرَقَ يَتَحَدَّرُ عَنْ جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه أَوْ فَوْقَ ذَا أَوْ مَا دُونَ ذَا أَوْ مَا هُوَ قَرِيبٌ من ذا، وَفِي رِوَايَة فَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَفِي رِوَايَة وَقَدْ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ وانفخت أوْدَاجُهُ: وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بن عَبْد اللَّه بن قُرَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي المدِينَةِ مَرَّ مالك ابن أَنَسٍ عَلَى أَبِي حازِم وَهُوَ يُحَدّثُ فَجَازَهُ وَقَالَ إنّي لَمْ أجِدْ مَوْضِعًا أجْلِسُ فِيهِ فَكَرِهْتُ أَن آخُذَ حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَائِم وَقَالَ مَالِكٌ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابن الْمُسَيّبِ فَسَألَهُ عَنْ حَدِيثٍ وهو مضطجع فجلس وَحَدَّثَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ وَدِدْتُ أنك لَمْ تَتَعَنَّ فَقَالَ إنّي كَرِهْتُ أنْ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنَا مُضْطَجِع * وَرُويَ عَنْ مُحَمَّدِ بن سِيرِينَ أنَّهُ قَدْ يَكُون يَضْحَكُ فَإِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشَعَ * وَقَالَ أَبُو مُصْعَب كَانَ مَالِكُ بن أَنَسٍ لَا يُحَدّثُ بِحَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ إجْلَالًا لَهُ * وَحَكَى مَالِكٌ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرِ بن محمد، وقال مصعب ابن عَبْد اللَّه كَان مَالِك بن أَنَس إذَا حَدَّث عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه

_ (قَوْله فتربد) بفتح المثناة الفوقية والراء وتشديد الموحدة بعدها دال مهملة أي تغير (قوله ابن قريم) بضم القاف وفتح الراء (قوله عَلَى أَبِي حازِم) بالحاء المهملة والزاى هو الإمام سلمة بن دينار (*)

وَسَلَّم تَوَضَّأ وَتَهَيَّأ وَلَبِس ثِيَابَه ثُمّ يُحَدث قَال مُصْعَب فَسُئِل عَن ذَلِك فَقَال إنَّه حَدِيث رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال مُطَرّف كَان إذَا أتَى النَّاس مَالِكًا خَرَجَت إِلَيْهِم الْجَارِيَة فَتَقُول لَهُم يَقُول لَكُم الشَّيْخ تُرِيدُون الْحَدِيث أَو الْمَسَائِل؟ فَإن قَالُوا الْمَسَائِل خَرَج إِلَيْهِم وَإن قَالُوا الْحَدِيث دَخَل مُغْتَسَلَه واغْتَسَل وبطيب وَلَبِس ثِيَابًا جُدُدًا وَلَبِس سَاجَه وَتَعَمَّم وَوَضَع عَلَى رَأْسِه رِدَاءَه وَتُلْقَى لَه مصة فَيَخْرُج فَيَجْلِس عَلَيْهَا وَعَلَيْه الْخُشُوع وَلَا يَزَال يُبَخّر بِالعُود حَتَّى يَفْرُغ من حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال غَيْرِه وَلَم يَكُن يَجْلِس عَلَى تِلْك الْمِنَصَّة إلَّا إذَا حَدَّث عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، قَال ابن أَبِي أُوَيْس فَقِيل لِمَالِك فِي ذَلِك فَقَال أُحِبّ أن أنظم حَدِيث رَسُول اللَّه صلى الله عليه وَسَلَّم وَلَا أُحَدّث بِه إلَّا عَلَى طَهَارَة مُتَمَكّنًا، قَال وَكَان يَكْرَه أن يُحَدّث فِي الطّرِيق أَو وَهُو قَائِم أو مُسْتَعْجِل وَقَال أُحِبّ أن أُفَهّم حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال ضِرار بن مُرَّة كَانُوا يَكْرَهُون أن يُحَدّثُوا عَلَى غَيْر وُضُوء وَنَحْوَه عَن قَتَادَة وكان الأعمش

_ (قوله قال مطرف) بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء المشددة (قوله جددا) بضم الجيم والمهملة الأولى جمع جديد كسرير وسرر (قوله ولبس ساجه) الساج بالسين المهملة والجيم الطيلسان، وفى القاموس الطيلسان الأخضر والأسود (قوله منصة) بكسر الميم وفتح النون وتشديد الصاد المهملة سرير العروس، قاله ابن الأثير، وفى القاموس والعروس أقعدها على المنصد بالكسر وهى ما ترفع عليه فانتصت (قوله ان يحدث) بكسر الدال المشددة (قوله أن أفهم) بضم الهمزة وفتح الفاء وتشديد الهاء (قوله إلى العقيق) هو واد على ثلاثة أميال وقيل على ميلين من المدينة عليه مال من أموال أهلها وهما عقيقان أحدهما عقيق المدينة الذى عق عن حربها أي قطع وهو العقيق الأصفر وفيه بئر رومية والعقيق الأحمر أكبر من هذا وفيه بئر عروة (*)

إذَا حَدَّث وَهُو عَلَى غَيْر وُضُوء تَيَمَّم، قَال عَبْد اللَّه بن الْمُبَارَك كُنْت عِنْد مَالِك وَهُو يُحَدّثُنَا فَلَدَغَتْه عَقْرَب سِتّ عَشْرَة مَرَّة وَهُو يَتَغَيَّر لَوْنُه وَيَصْفَرّ وَلَا يَقْطَع حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمّا فَرَغ مِن الْمَجْلِس وَتَفَرَّق عَنْه النَّاس قُلْت لَه يَا أَبَا عَبْد اللَّه لَقَد رَأيْت مِنْك الْيَوْم عَجَبًا قَال نَعَم إنَّمَا صَبَرْت إجْلَالًا لِحَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم. قَال ابن مَهْدِيّ مَشَيْت يَوْمًا مَع مَالِك إِلَى الْعَقِيق فَسَألْتُه عَن حَدِيث فاتتهرنى وَقَال لِي كُنْت فِي عَيْنِي أجَلّ من أَنّ تَسْأل عَن حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَنَحْن نَمْشِي، وَسَأَلَه جَرِير ابن عَبْد الحمِيد الْقَاضِي عَن حَدِيث وَهُو قَائِم فَأمَر بِحَبْسِه، فَقِيل لَه إنَّه قَاض، قَال: الْقَاضِي أَحَقّ من أُدّب، وَذُكِر أَنّ هِشَام بن الْغَازِي سَأل مَالِكًا عَن حَدِيث وَهُو وَاقِف فَضَرَبَه عِشْرين سَوْطًا ثُمّ أشْفَق عَلَيْه فَحَدَّثَه عِشْرِين حَدِيثًا فَقَال هِشَام وَدِدْت لَو زادني سِيَاطًا وَيَزِيدُنِي حَدِيثًا، قَال عَبْد اللَّه بن صَالِح كَان مَالِك وَاللَّيْث لَا يَكْتُبَان الْحَدِيث إلَّا وَهُمَا طَاهِرَان، وَكَان قَتَادَة يَسْتَحِبّ أن لَا يَقْرَأ أَحَادِيث

_ (قوله وَذُكِر أَنّ هِشَام بن العازى) قال الحافظان الرشيد العطار والمزى: الصواب هشام بن عمار الدمشقي لأن هِشَام بن الْغَازِي لا يعرف له رواية عن مالك لأنه توفى سنة ست وخمسين ومائة قبل وفاة مالك وقد ذكر هذه الحكاية جماعة من المؤرخين عن هشام بن عمار الدمشقي (قوله وددت) بكسر الدال الأولى (*)

فصل ومن توقيره صلى الله عليه وسلم وبره بر آله وذريته وأمهات المؤمنين

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَلَى وُضُوء وَلَا يُحَدّث إلَّا عَلَى طَهَارَة، وَكَان الْأَعْمَش إذَا أرَاد أن يُحَدّث وَهُو عَلَى غَيْر وُضُوء تَيَمَّم فصل وَمِن تَوْقِيرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَبِرّه بر آلِه وَذُرّيَّتِه وَأُمَّهَات الْمُؤْمِنين أَزْوَاجِه كَمَا حَضّ عَلَيْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَسَلَكَه السَّلَف الصَّالِح رَضِي اللَّه عَنْهُم قَال اللَّه تَعَالَى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) الآية: وقال تعالى (وأزواجه أمهاتهم) * أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ مِنْ كِتَابِهِ وَكَتَبْتُ مِنْ أَصْلِهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِي الْفَرْغَانِيُّ حَدَّثَتْنِي أُمُّ الْقَاسِمِ بِنْتُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ الْخَفَّافُ قَالَتْ حَدَّثَنِي أَبِي حديثا حَاتِمٌ هُوَ ابْنُ عُقَيْلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْحِمَّانِيُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ عَنْ زَيْدٍ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَهْلَ بَيْتِي - ثَلَاثًا -) قُلْنَا لِزَيْدٍ مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ قَال آلُ عَلِيٍّ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْعَبَّاسِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ به لم تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرِفَةُ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم براءة

_ (قوله الحمانى) بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم (قوله عَنْ يَزِيدَ بْنِ حيان) بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية (*)

مِنَ النَّارِ وَحُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ جَوَازٌ عَلَى الصَّرَاطِ وَالْوِلايَةُ لآلِ مُحَمَّدٍ أَمَانٌ مِنَ الْعَذَابِ قَال بَعْض الْعُلمَاء مَعْرِفَتُهُم هِي مَعْرِفَة مَكَانِهِم مِن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَإذَا عَرَفَهُم بِذَلِك عَرَف وُجُوب حَقّهم وَحُرْمَتَهُم بِسَببِه * وَعَن عُمَر بن أَبِي سَلَمَة لَمّا نَزَلَت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت) الآية - وذلك فِي بَيْت أمّ سَلَمَة - دَعَا فَاطِمَة وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُم بِكِسَاء وَعَلِيّ خَلْف ظَهْرِه ثُمّ قَال اللَّهُمّ هَؤْلَاء أَهْل بَيْتِي فأذْهِب عَنْهُم الرّجْس وَطَهّرْهُم تَطْهِيرًا * وَعَن سَعْد بن أَبِي وقاص لَمّا نَزَلَت آية المُبَاهَلَة دَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَفَاطِمَة وَقَال (اللَّهُمّ هَؤْلَاء أَهْلِي) وَقَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي عَلِيٍّ (مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ) وَقَالَ فِيهِ (لَا يُحبُّكَ إِلا مومن وَلَا يُبْغِضُكَ إِلا مُنَافِقٌ) وَقَال للْعَبَّاسِ (وَالَّذِي نفسه بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ حَتَّى يحبك لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ آذَى عَمِّي فَقَدْ آذَانِي، وَإِنَّمَا عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) وَقَال لِلعباس (اغْدُ عَلَيَّ يَا عَمِّ مَعَ وَلَدِكَ) فَجَمَعَهُمْ وَجَلَّلَهُمْ بِمُلاءَتِهِ وَقَالَ (هَذَا عَمِّي وَصِنْوُ أَبِي وَهَؤْلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَاسْتُرْهُمْ مِنَ النَّارِ كَسَتْرِي إِيَّاهُمْ) فَأَمَّنَتْ أُسْكُفَّةُ الْبَابِ وَحَوَائِطُ الْبَيْتِ آمِينَ آمِينَ، وَكَانَ يَأخُذ بِيَد أُسَامَة بن زيد والحسن

_ (قوله فججلهم بالجيم وتشديد اللام الأولى (قوله صنو أبيه) بكسر الصاد المهملة وسكون النون بعدها واو: أي مثل (قوله بملاءته) بضم الميم وتخفيف اللام والمد (*)

وَيَقُول (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا) وَقَال أَبُو بَكْر رَضِي اللَّه عَنْه ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْل بَيْتِه، وَقَال أيْضًا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَقَرَابَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَحَبّ إِلَيّ أن أصِل من قَرَابَتِي، وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حَسَنًا) وَقَال (مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ - وَأَشَارَ إِلَى حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ - وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ أَهَانَ قُرَيْشًا أَهَانَهُ اللَّهُ) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم (قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا) وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِأُمّ سَلَمَة (لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَة) ومن عُقْبَة بن الْحَارِث رَأَيْت أَبَا بَكْر رَضِي اللَّه عَنْه وَجَعَل الْحَسَن عَلَى عُنُقِه وَهُو يقول: بِأَبِي شَبيه بِالنَّبِيّ * لَيْس شَبِيهًا بِعَلِي. وَعَلِيّ رَضِي اللَّه عَنْه يَضْحَك * وَرُوي عَن عَبْد اللَّه بن حَسَن بن حُسَيْن قَال أتَيْت عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز فِي حَاجَة فَقَال لِي إذَا كَان لَك حَاجَة فَأَرْسِل إِلَيّ أَو اكْتُب فَإنّي أسْتَحْيِي مِن اللَّه أن يَرَاك عَلَى بَابِي * وعن الشعبى

_ (قوله ارقبوا محمدا) أي: ارعوه واحترموه (قوله بِأَبِي شَبيه بِالنَّبِيّ) قيل المشهور بالشبه للنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ الحسن بن علي وجعفر بن أبي طالب وقثم بن العباس والسائب بن يزيد من أجداد الشافعي وأبو سفيان بن الحرث بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ ويشبهه الحسن بن علي بن أبي طالب بنصفه الأسفل ويشبه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ويشبهه كَابِس بن رَبِيعَة بن مالك السامى بالسين المهملة رجل من أهل البصرة وجه إليه معاوية وأقطعه قطيعة، ويشبهه أيضا عبد الله بن عامر بن كريز بضم الكاف وفتح الراء، ويشبهه أيضا مسلم بن مغيث في سيرة أبى الفتح اليعمرى ومن نظمه: بخمسة شبه المختار من مضر * يا حسن ما حولوا من شبهه الحسن بجعفر وابن عم المصطفى قثم * وسائب وأبى سفيان الحسن (4 - 2) (*)

قَال صَلَّى زَيْد بن ثَابت عَلَى جِنَازَة أُمّه ثُمّ قربت له بَغْلَتُه لِيَرْكَبَهَا فَجَاء ابن عَبَّاس فَأَخَذ بِرِكَابِه فَقَال زيد خَلّ عَنْه يَا ابن عَمّ رَسُول الله فقال هكذا نَفْعَل بِالْعُلمَاء فَقَبَّل زَيْد يَد ابن عَبَّاس وَقَال هكَذَا أُمِرْنَا أن نَفْعَل بِأَهْل بَيْت نَبِيّنَا، وَرَأَى ابن عُمَر مُحَمَّد بن أسَامَة بن زيد فَقَال لَيْت هَذَا عَبْدِي فَقِيل لَه هُو مُحَمَّد بن أُسَامَة، فَطَأْطَأ ابن عُمَر رَأْسَه وَنَقَر بِيَدِه الْأَرْض وَقَال لَو رَآه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لأحَبَّه، وَقَال الْأَوزَاعِيّ دَخَلَت بِنت أسَامَة بن زيد صَاحِب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز وَمَعَهَا موْلى لَهَا يُمْسِك بِيَدِهَا فَقَام لَهَا عُمَر وَمَشَى إِلَيْهَا حَتَّى جَعَل يَدَيْهَا بَيْن يَدَيْه وَيَدَاه فِي ثِيَابِه وَمَشَى بِهَا حَتَّى أَجْلَسَهَا عَلَى مَجْلِسَه وَجَلَس بَيْن يَدَيْهَا وَمَا تَرَك لَهَا حَاجَة إلَّا قصاها ولما فرص عُمَر بن الْخَطَّاب لابْنِه عَبْد اللَّه فِي ثَلَاثَة آلاف وَلِأُسَامَة بن زيد فِي ثَلَاثَة آلاف وخمسمائة

_ (قوله عبدى) قال ابن قرقول بالياء من العبودية للبيهقي وللكافة بالنون، والأول أوجه (قوله على مجلس) قال ابن برى في كتاب الفروق، المسجد، اسم الميت الذى يسجد فيه، والموضع الذى يوضع فيه الجبهة المسجد بفتح الجيم ومثله المجاس بكسر اللام البيت، وبفتحها موضع التكرمة وهو الذى نهى الشارع عن الجلوس فيه بغير إذن صاحبه (قوله ولما فَرَض عُمَر بن الْخَطَّاب لابْنِه عَبْد اللَّه) فِي ثلاثة آلاف قيل ما الجمع بين هذا وبين ما رواه البخاري في الهجرة عن نافع أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لابن عمر ثلاث آلاف وخمسمائة فَقِيل لَه هُو من المهاجرين فلم نقصته عن أربعة آلاف؟ قال إنما هاجر به أبواه يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه؟ وأجيب بأن ابن عمر فرض له مرتان أو لها ثلاثة آلاف والأخرى (*)

قَال عَبْد اللَّه لِأَبِيه لَم فَضَّلْتَه فو الله مَا سَبَقَنِي إِلَى مَشْهَد؟ فَقَال لَه لِأَنَّ زَيْدًا كَان أَحَبّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من أبِيك وَأُسَامة أَحَبّ إليْه منْك فَآثرْت حُبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى حُبّي * وَبَلَغ مُعَاوِيَة أنّ كَابِس بن رَبِيعَة يُشْبِه بِرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَلَمّا دَخَل عَلَيْه من بَاب الدّار قَام عَن سَرِيرِه وَتَلَقّاه وَقَبَّل بَيْن عَيْنَيْه وَأقْطَعَه الْمرْعَاب لِشَبَهِه صُورَة رسول الله صلى الله عليه وسلم * وَرُوي أَنّ مَالِكًا رَحِمَه اللَّه لَمّا ضَرَبَه جَعْفَر بن سلميان وَنَال مِنْه مَا نَال وَحُمِل مَغْشِيًّا عَلَيْه دخل عَلَيْه النَّاس فَأفَاق فَقَال أُشْهِدُكُم أنّي جَعَلْت ضَارِبِي فِي حِلّ، فُسُئِل بَعْد ذلك فعال خِفْت أن أمُوت فَأَلْقَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَأَسْتَحيي مِنْه أن يَدْخُل بَعْض آلِه النَّار بِسَبَبِي. وَقِيل إن المنصور أفاده من جَعْفَر فَقَال لَه أَعُوذ بِالله وَالله مَا ارْتَفَع مِنْهَا سَوْط عَن جِسْمِي إلَّا وَقَد جَعَلْتُه فِي حِلّ لِقَرَابَتِه من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بَكْر بن عَيَّاش لَو أَتانِي أَبُو بَكْر وعمر

_ ثلاث آلاف وخمسمائة فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قال هاجر به أبواه وأمه زينب بنت مظعون ماتت بمكة قبل أن يهاجر؟ وأجيب بأن المراد بالأبوين هنا الأب وزوجة الأب (قوله فَآثرْت حُبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم على حبى) بضم الحاء وكسرها في الموضعين (قوله وأقطعه المرعاب) بكسر الميم وسكون الراء وتخفيف العين المهملة في آخره موحدة (قوله لَمّا ضَرَبَه جَعْفَر) هو ابن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس فهو ابن عم أبى جعفر المنصور، نقلوا له عن مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يرى الأيمان ببيعتهم لازمة لأنه يرى أن يمين المكره ليست بلازمة (قوله أقاده) أي طلب أن يقتص له، في الصحاح أقدت القاتل بالفتيل أي: طلبته به (قوله وقال أبو بكر بن عياش) آخره شين معجمة ابن سالم الأسدى الخياط المقرئ أحد الأعلام (*)

فصل ومن توقيره وبره صلى الله عليه وسلم توقير أصحابه

وَعَلِيّ لَبَدَأْت بِحَاجَة عَلِيّ قَبْلَهُمَا لِقَرَابَتِه من رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلِأَن أخِرّ مِن السَّمَاء إِلَى الْأَرْض أَحَبّ إِلَى من أن أُقَدّمَه عَلَيْهَمَا، وَقِيل لابن عباس مَاتَت فُلَانَة - لِبَعْض أزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم - فَسَجَد فَقِيل لَه أتَسْجُد هَذِه السَّاعَة؟ فَقَال أَلَيْس قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا) ؟ وَأَي آية أعْظَم من ذَهَاب أزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم؟ وَكَان أَبُو بَكْر وعمر يَزُورَان أُمّ أيْمَن مَوْلاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَيَقُولَان كَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَزُورُهَا ولما وَرَدَت حَلِيمَة السَّعْدِيَّة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بَسَط لَهَا رَدَاءَه وَقَضَى حَاجَتَهَا، فَلَمّا تُوُفي وَفَدَت عَلَى أَبِي بَكْر وعمُر فَصَنَعَا بِهَا مِثْل ذَلِك. فصل وَمِن تَوَقِيرِه وَبِرّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم تَوْقِير أصْحَابِه وَبرُّهُم وَمَعْرِفَة حَقّهِم وَالاقْتِدَاء بِهِم وَحُسْن الثَّنَاء عَلَيْهِم وَالاسْتِغْفَار لَهُم وَالْإِمْسَاك عَمَّا شَجَر بَيْنَهُم وَمُعَادَاة من عَادَاهُم وَالإضْرَاب عَن أخْبَار المُؤَرّخِين وَجَهَلَة الرُّوَاة وَضُلَّال الشّيعَة وَالمُبْتَدِعِين القَادِحَة فِي أحِد مِنْهُم وَأن يُلْتَمَس لَهُم فِيمَا نُقِل عَنْهُم من مِثْل ذَلِك فِيمَا كَان بَيْنَهُم مِن الفِتَن أحْسَن التَّأْويلات وَيُخَرَّج لَهُم أصْوَب المَخَارِج إِذ هُم أَهْل ذَلِك وَلَا يُذْكَر

_ (قوله عَمَّا شَجَر بَيْنَهُم) أي عما اختلف بينهم يقال شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم (*)

أحد مِنْهُم بِسُوء وَلَا يُغْمَص عَلَيْه أمْر بل نذكر حَسَناتُهُم وَفَضَائِلُهُم وَحَمِيد سِيرَهِم وَيُسْكَت عَمَّا وَرَاء ذَلِك كَمَا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إذَا ذُكِر أصْحَابِي فَأَمْسِكُوا) قَال اللَّه تَعَالَى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم) إِلَى آخِر السُّورَة، وَقَال (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المهاجرين والأنصار) الآية وقال تَعَالَى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وقال (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآيَةَ. حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ وَأَبُو الْفَضْلِ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رَبْعيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اقتدا بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) وَقَال (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ) وَعَن أَنَس رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَثْلُ أَصْحَابِي كَمَثَلِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ لَا يَصْلُحُ الطَّعَامُ إِلَّا بِهِ) وَقَال (اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذى الله ومن آذى الله يوشك أن

_ (قوله ولا يغمص) بسكون الغين المعجمة بعدها صاد مهملة أي يعاب (قوله الحسين بن الصباح) هو البزار - بالراء في آخره (قوله عَنْ رَبْعيِّ بْنِ حراش) ربعى بكسر الراء وسكون الموحدة وحراش بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وفى آخره شين معجمة (*)

يَأْخُذَهُ وَقَال لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ وَقَالَ مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أجمعين، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَقَالَ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا وَقَال فِي حَدِيث جَابِر إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاخْتَارَ لِي مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيًّا فَجَعَلَهُمْ خَيْرَ أَصْحَابِي وَفِي أَصْحَابِي كُلِّهِمْ خَيْرٌ) وَقَال (مَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَحَبَّنِي وَمِنْ أَبْغَضَ عُمَرَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي وَقَال مَالِك بن أَنَس وَغَيْرُه: مَنْ أَبْغَضَ الصَّحَابَةَ وَسَبَّهُم فَلَيْس لَه في فئ الْمُسْلِمِينَ حَقٌّ وَنَزع بِآية الحَشْر (وَالَّذِينَ جاؤا من بعدهم) الآيَة، وَقَال: من غَاظَه أصْحَاب مُحَمَّد فَهُو كَافِر قَال اللَّه تَعَالَى (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وَقَال عَبْد اللَّه بن الْمُبَارَك: خَصْلَتَان من كَانَتَا فِيه نَجَا: الصّدْق وَحُبّ أصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، قَال أيُّوب السَّخْتِيَانِيّ: من أحَبّ أَبَا بَكْر فَقَد أقام الدّين وَمِن أحَبّ عُمَر فَقَد أوْضَح السَّبِيل وَمِن أحَبّ عُثْمَان فَقَد اسْتَضَاء بِنُور اللَّه وَمِن أَحَبّ عَلِيًّا فَقَد أَخَذ بِالْعُرْوَة الْوُثْقَى وَمِن أَحْسَن الثَّنَاء عَلَى أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَد بَرِئ مِن النّفَاق وَمِن انْتَقَص أحَدًا منهم فَهُو مُبْتَدع مُخَالِف لِلسُّنَّة وَالسَّلِف الصَّالِح وأخاف أن

_ (قوله نصيفه) بفتح النون وكسر الصاد المهملة يقال نصف بكسر النون وضمها نصيف (قوله صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) الصرف بفتح المهملة: التوبة، وقيل الحيلة والعدل بفتح العين المهملة. وقيل الفريضة (*)

لَا يَصْعَد لَه عَمَل إِلَى السَّمَاء حَتَّى يُحبَّهُم جَمِيعًا وَيَكُون قَلْبُه سَلِيمًا * وَفِي حَدِيث خَالِد بن سَعِيد أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال (أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَاضٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَاعْرَفُوا لَهُ ذَلِكَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَاضٍ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ عُثْمَانَ وَطلْحَةَ والزبير وسعد سعيد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَاعْرَفُوا لَهُمْ ذَلِكَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لأَهْلِ بَدْرٍ وَالْحُدَيْبِيَةَ، أيها الناس احْفَظُونِي فِي أَصْحَابِي وَأَصْهَارِي وَأَخْتَانِي لَا يُطَالِبَنَّكُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَظْلِمَةٍ فَإِنَّهَا مَظْلَمَةٌ لَا تُوهَبُ فِي الْقِيَامَةِ غَدًا) وَقَال رَجُل لِلْمُعَافَى بن عِمْرَان: أَيْن عمر بن عَبْد الْعَزِيز من مُعَاوِيَة فَغَضِب وَقَال لَا يُقَاس بِأصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أحَد: مَعَاويَة صَاحِبُه وَصِهْرُه وَكَاتبُه وَأمينُه عَلَى وَحْي اللَّه، وَأتِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِجِنَازَة رَجُل فَلَم يُصلّ عَلَيْه وَقَال (كان يغض عثمانا فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ، وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الْأَنْصَار (اعفوا عن مسيئهم وَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ) وَقَال (احْفَظُونِي فِي أَصْحَابِي وَأَصْهَارِي فَإِنَّهُ مَنْ حَفِظَنِي فِيهِمْ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْنِي فِيهِمْ تَخَلَّى اللَّهُ مِنْهُ وَمَنْ تَخَلَّى اللَّهُ مِنْهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ) وَعَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ حَفِظَنِي فِي أَصْحَابِي كُنْتُ لَهُ حَافِظًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَقَالَ (مَنْ حَفِظَنِي فِي

_ (قوله خَالِد بن سَعِيد) قيل هو خالد بن عمرو بن سعيد بن العاصى، فسعيد جده، والحديث من روايته عَنْ سَهْل بن يوسف بن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قَالَ لَمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع المدينة صعد المنبر فَحَمِدَ اللَّه ثُمَّ قَال: أَيُّهَا النَّاسُ - إلى آخر الحديث (قوله بمظلمة) بكسر اللام وفتحها، في الصحاح ما نطلبه عند الظالم لك وهو اسم ما أخذ منك (*)

فصل ومن إعظامه وإكباره إعظام جميع أسبابه وإكرام مشاهده وأمكنته من مكة والمدينة ومعاهده وما لمسه صلى الله عليه وسلم أو عرف به

أَصْحَابِي وَرَدَ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْنِي فِي أَصْحَابِي لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَلَمْ يَرَنِي إِلَّا مِنْ بَعِيدٍ) قَال مَالِك رَحِمَه اللَّه هَذَا النَّبِيّ مؤدّب الْخَلْق الَّذِي هَدَانَا اللَّه بِه وَجَعَله رَحمَة لِلْعَالَمِين يَخْرُج فِي جَوْف اللَّيْل إِلَى الْبَقيع فَيَدْعُو لَهُم وَيَسْتَغْفِر كَالْمُوَدّع لَهُم وَبِذَلِك أمَرَه اللَّه وَأَمَر النبي بِحُبّهِم وَمُوَالاتِهِم وَمُعَادَاة من عَادَاهُم، وَرُوي عَن كَعْب لَيْس أحَد من أصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إلَّا لَه شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة، وَطَلَب مِن الْمُغيرَة بن نَوْفَل أَن يَشْفَع لَه يَوْم الْقِيَامَة قَال سَهْل بن عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ: لَم يُؤْمِن بِالرَّسُول من لَم يُوقّر أصْحَابَه وَلَم يُعِزّ أوَامِرَه فصل وَمِن إعْظَامِه وَإِكْبَارِه إِعْظَام جَمِيع أسْبَابِه وَإكْرَام مَشَاهِدِه وَأمْكِنَتِه من مَكَّة وَالْمَدِينَة وَمَعَاهِدِه وَمَا لَمَسَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو عُرِف بِه وَرُوي عَن صَفِيَّة بِنْت نَجْدَة قَالَت كَان لأبي مَحْذُورَة قِصَّة فِي مُقَدَّم رَأْسِه إذَا قَعَد وَأرْسَلَهَا أَصَابَت الْأَرْض فَقِيل لَه ألا تَحِْلقُهَا فَقَال لَم أكُن بالَّذِي أحْلِقُهَا وَقَد مَسَّهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِيَدِه، وكانت قَلَنْسُوَة خَالِد بن الْوَلِيد شَعَرَات من شَعَرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَسَقَطَت قَلَنْسُوتُه فِي بَعْض حُرُوبِه فَشَدّ عَلَيْهَا شَدَّة أنْكَر عَلَيْه أصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَثْرَة من قُتِل فِيهَا فَقَال لَم أَفْعَلْهَا بِسَبَب الْقَلَنْسُوَة بَل لِمَا تَضَمَّنَتْه

_ (قوله قصة) بضم القاف وتشديد الصاد المهملة: ما على الجبهة من شعر الرأس (قوله في قلنسوة خالد) أي قبعته (*)

من شَعَرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِئَلَّا أُسْلَب بَرَكَتَهَا وَتَقَع فِي أيْدِي المشركين، ورؤى ابن عُمَر وَاضِعًا يَدَه عَلَى مَقْعَد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِه، ولهذا كَان مَالِك رَحِمَه اللَّه لَا يَرْكَب بِالْمَدِينَة دَابَّة وَكَان يَقُول أسْتَحْيي مِن اللَّه أن أطَأ تُرْبَة فِيهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِحَافِر دَابّة، وَرُوي عَنْه أنَّه وَهَب لِلشَّافِعِيّ كُرَاعًا كَثِيرًا كَان عِنْدَه فَقَال الشَّافِعِيّ أمْسِك مِنْهَا دَابَّة فَأَجَابَه بِمِثْل هَذَا الْجَوَاب وَقَد حَكَى أَبُو عَبْد الرَّحْمن السُّلَمِيّ عَن أَحْمَد بن فَضْلُوَيْه الزّاهِد وكان من العزاة الرُّمَاة أنَّه قَال: مَا مَسسْت الْقَوْس بِيَدِي إلَّا عَلَى طَهَارة مُنْذ بَلَغَنِي أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَخَذ الْقَوْس بِيَدِه، وَقَد أَفْتى مَالِك فِيمَن قَال تُرْبَة الْمَدِينَة رَدِيَّة يُضْرب ثَلَاثِين دِرَّة وَأَمَر بحسبه وَكَان لَه قَدْر وَقَال مَا أحْوَجَه إِلَى ضرْب عُنُقِه: تُرْبَة دُفِن فِيهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَزْعُم أَنَها غَيْر طَيّبَة! وَفِي الصَّحِيح أنَّه قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الْمَدِينَة (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) وَحُكِي أَن جهْجَاهًا الغِفَاريّ أَخَذ قَضِيب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من يَد عُثْمَان رَضِي اللَّه عَنْه وَتَنَاولَه لَيكْسِرَه عَلَى رُكْبَتِه

_ (قوله مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا) قال ابن الأثير: الحدث الأمر المنكر الذى ليس بمعتاد ولا معروف في السنة، والمحدث يروى بكسر الدال وفتحها فمعنى الكسر من نضر خائنا أو آواه وأجاره من خصمه، ومعنى الفتح. الأمر المبتدع نفسه فيكون معنى الإيواء فيه الرضى والصبر عليه فإنه إذا رضى البدعة وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه فقد آواه (*)

فَصَاح بِه النَّاس فَأَخَذَتْه الأَكِلَة فِي رُكْبَتِه فَقَطَعَهَا وَمَات قَبْل الحَوْل وَقَال صَلَّى اللَّه عليه وسلم (من خلف عَلَى مِنْبَرِي كَاذِبًا فليتبوأ مقعد، مِنَ النَّارِ) وَحُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيّ لَمّا وَرَد الْمَدِينَة زَائِرًا وَقرب من بُيُوتهَا تَرَجَّل وَمَشى بَاكِيًا مُنْشِدًا وَلَمّا رَأَيْنَا رَسْم من لَم يَدَع لَنَا * فُؤَادًا لِعِرْفَان الرُّسوم وَلَا لُبَّا نَزَلْنَا عَن الأكْوَار نَمْشِي كَرَامَة * لِمَن بان عَنْه أن نلم به رَكْبَا وَحُكِي عَن بَعْض المُريدِين أنَّه لَمّا أشْرَف عَلَى مَدِينَة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أنْشَأ يَقُول مُتَمَثّلًا رُفِع الْحِجَاب لَنَا فَلَاح لِنَاظِر * قَمَر تَقَطّع دُونَه الأوْهَام وَإذَا المَطيّ بِنَا بلعن مُحَمَّدًا * فَظَهُورُهُنّ عَلَى الرَّحَال حَرَام قَرَّبْنَنَا من خَيْر من وطئ الثرى * فلها عليا حُرْمَة وَذِمَام وَحُكِي عَن بَعْض الْمَشَايخ أنه حج ماشى فَقِيل لَه فِي ذَلِك فقال الْعَبْد الأبِق يَأْتِي إِلَى بَيْت مَوْلاه رَاكِبًا لَو قَدَرْت أن أمْشي عَلَى رَأْسِي مَا مَشَيْت عَلَى قَدَمَيّ، قَال الْقَاضِي وَجَدِير لِمواطِن عُمرت بالْوَحْي وَالتَّنْزِيل وَتَرَدَّد بِهَا جِبْرِيل ومِيكَائِيل وَعَرَجَت مِنْهَا الْمَلَائِكَة وَالرُّوح وَضَجَّت عَرَصَاتُهَا بالتَّقْدِيس وَالتَّسْبِيح وَاشْتَمَلَت تُرْبَتُهَا عَلَى جَسَد سيد البشر

_ (قوله ولما رأينا) هذا البيتان لأبى طالب أحمد بن الحسين المتنبي (قوله رفع الحجاب) هذه الأبيات لأبى نواس الحكمى يمدح بها أمين الدولة (قوله فَظَهُورُهُنّ عَلَى الرَّحَال) هو بالمهملة جمع رحل، كذا رأيت بخط شيخنا كمال الدين الدميري الشافعي (*)

وَانْتَشَر عَنْهَا من دِين اللَّه وَسُنَّة رَسُولِه مَا انْتَشَر مَدَارِس آيَات وَمَسَاجِد وَصَلَوات وَمَشَاهِد الْفَضَائِل وَالْخَيْرَات وَمَعَاهِد الْبَرَاهِين وَالْمُعْجِزَات وَمَنَاسِك الدّين وَمَشَاعِر الْمُسْلِمِين وَمَوَاقِف سَيّد الْمُرْسَلِين وَمُتَبَوّأ خَاتَم النَّبِيّين حَيْث انْفَجَرَت النُّبُوَّة وَأَيْن فَاض عُبَابُهَا وَمَوَاطِن طويت فيها لرسالة وَأَوَّل أَرْض مَسّ جِلْد الْمُصْطَفى تُرَابَهَا أن نعظم عَرَصَاتُهَا وَتُتَنَسَّم نَفَحَاتُهَا وَتُقَبَّل رُبُوعُهَا وَجُدُرَاتُهَا يَا دَار خَيْر الْمُرْسَلِين وَمَن بِه * هُدَى الْأَنَام وَخُصّ بِالآيَات عِنْدِي لِأَجْلِك لَوْعَة وَصَبَابَة * وَتَشَوُّق مُتَوَقّد الْجَمَرَات وَعَلِيّ عَهْد إن مَلأْت مَحَاجِرِي * من تِلْكُم الْجُدرَات وَالْعَرَصَات لَأُعَفّرَنّ مَصُون شَيْبِي بَيْنَهَا * من كَثْرَة التَّقْبِيل وَالرَّشَفَاتِ لَوْلَا الْعَوَادِي وَالْأَعَادِي زُرْتُهَا * أبَدًا وَلَو سَحْبا على الْوَجَنَات لَكِن سَأهْدِي من حَفِيل تَحِيَّتِي * لقطين تلك الدّار وَالْحُجُرَات أزْكَى مِن الْمِسْك الْمُفَتَّق نَفْحَة * تَغْشَاه بِالآصَال وَالْبُكُرَات وَتَخُصُّه بِزَوَاكِي الصَّلَوَاتِ * وَنَوامِي التَّسْلِيم والبركات

_ (قوله عبابها) العباب بضم العين المهملة وبموحدتين: معظم السيل وارتفاعه وكثرته (قوله يَا دَار خَيْر المرسلين) الظاهر أن هذه الأبيات للمصنف (قوله صبابة) هي رقة الشوق (قوله من حفيل) بفتح الحاء المهلمة وكسر الفاء أي جميع، في الصحاح حفل القوم واحتفلوا أي اجتمعوا (قوله لقطين) بفتح القاف وكسر الطاء المهملة: أي المقم (قوله المفتق) بتشديد المثناة الفوقية المتفوحة أي المستخرج الرائحة (*)

الباب الرابع في حكم الصلاة عليه والتسليم وفرض ذلك وفضيلته

الباب الرابع في حكم الصلاة عليه والتسليم وفرض ذَلِك وفضيلته قَال اللَّه تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي) الآيَةَ، قَال ابْنُ عَبَّاس مَعْنَاه أَنّ اللَّه وَمَلَائِكَتَه يُبَارِكُون عَلَى النَّبِيّ، وَقِيل إنّ اللَّه يَتَرَحَّم عَلَى النَّبِيّ وَمَلَائِكَتَه يَدْعُون لَه قَال الْمُبَرّد وَأَصْل الصَّلَاة التَّرَحُّم فَهِي مِن اللَّه رحمة فَهِي مِن اللَّه رَحْمَة وَمِن الْمَلَائِكَة رِقَّة وَاسْتدعَاء لِلرَّحْمَة مِن اللَّه، وَقَد وَرَد فِي الْحَدِيث (صِفَة صَلَاة الْمَلَائِكَة عَلَى من جَلَس يَنْتَظِر الصَّلَاة اللَّهُمّ اغْفِر لَه اللَّهُمّ ارْحمْه) فَهَذَا دُعَاء، وَقَال بَكْر الْقُشَيْرِيّ: الصَّلَاة مِن اللَّه تَعَالَى لِمَن دُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم رَحْمة وللنبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم تَشْرِيف وَزِيَادَة تَكْرِمَة، وَقَال أَبُو الْعَالِيَة: صَلَاة اللَّه وَثَنَاؤُه عَلَيْه عِنْد الْمَلَائِكَة وَصَلَاة الْمَلَائِكَة الدُّعَاء قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل: وَقَد فَرَّق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي حَدِيث تَعْلِيم الصَّلَاة عَلَيْه بيْن لَفْظ الصَّلَاة وَلفْظ الْبَرَكَة فَدَلّ أَنَّهُمَا بِمَعْنَيين، وَأَمَّا التَّسْلِيم الَّذِي أمر اللَّه تَعَالَى بِه عِبَادَه فَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْر بن بُكَيْر نزلت هَذِه الآيَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَأَمَر اللَّه أصْحَابَه أن يُسَلّمُوا عَلَيْه وَكَذَلِك من بعْدَهُم أُمِرُوا أن يُسَلّمُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عِنْد حُضُورِهِم قَبْرَه وعند ذِكْرِه، وَفِي معني السَّلَام عَلَيْه ثَلَاثَة وُجُوه: أحدهما السَّلامَة لَك وَمَعَك، وَيَكُون السَّلَام مَصْدَرًا كَاللَّذَاذ وَاللَّذَاذَة. الثَّانِي أَي السَّلَام عَلَى حِفْظَك وَرِعَايَتِك مُتوَلّ

فصل اعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على الجملة غير محدد بوقت

لَه وَكَفِيل بِه وَيَكُون هنا السَّلَام اسم اللَّه. الثَّالِث أَنّ السَّلَام بِمَعْنَي المُسَالمة لَه والانْقِيَاد كَمَا قَال (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فصل اعْلَم أَنّ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَرْض عَلَى الجُمْلَة غَيْر محَدَّد بوَقْت لِأَمْر اللَّه تَعَالَى بِالصَّلَاة عَلَيْه وَحَمْل الْأَئِمَّة وَالْعُلمَاء لَه عَلَى الْوُجُوب وَأجْمَعُوا عَلَيْه وَحَكى أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ أَنّ مَحْمِل الآيَة عِنْدَه عَلَى النَّدْب وَادَّعى فِيه الإجْمَاع وَلَعَلَّه فِيمَا زَاد عَلَى مَرَّة وَالْوَاجِب مِنْه الَّذِي يَسْقُط بِه الحَرَج وَمَأْثَم تَرْك الفَرْض مَرَّة كالشَّهَادَة لَه بالنُّبُوَّة وَمَا عَدَا ذَلِك فَمَنْدُوب مُرَغَّب فِيه من سُنَن الْإِسْلَام وَشِعَار أَهْلِه، قَال الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن بن الْقَصَّار: المَشْهُور عَن أصْحَابِنَا أَنّ ذَلِك وَاجِب فِي الجُمْلَة عَلَى الْإِنْسَان وَفَرْض عَلَيْه أن يَأتِي بِهَا مَرَّةّ من دَهْرِه مَع الْقُدْرَة عَلَى ذَلِك، وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْر بن بُكَيْر: افْتَرَض اللَّه عَلَى خَلْقِه أن يُصَلُّوا عَلَى نَبِيّه وَيُسَلّمُوا تَسْلِيمًا وَلَم يَجْعَل ذَلِك لِوَقْت مَعْلُوم فَالْوَاجِب أن يُكْثِر الْمَرْء مِنْهَا وَلَا يَغْفُل عَنْهَا، قَال الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بن نَصْر: الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَاجِبَة فِي الجُمْلَة قَال الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بن سَعِيد: ذَهَب مَالِك وَأَصْحَابُه وَغَيْرِهِم من أَهْل الْعِلْم أَنّ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَرْض بِالجُمْلَة بِعَقْد الْإِيمَان لَا يَتَعَيَّن فِي الصَّلَاة

وَأَنّ من صَلَى عَلَيْه مَرَّةّ وَاحِدَة من عُمُرِه سَقَط الْفَرْض عَنْه. وَقَال أَصْحَاب الشَّافِعِيّ: الفَرْض مِنْهَا الَّذِي أَمَر اللَّه تَعَالَى بِه وَرَسُولُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم هُو فِي الصَّلَاة، وقالوا وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا خِلَاف أنَّهَا غَيْر وَاجِبَة وَأَمَّا فِي الصَّلَاة فَحَكى الإمامان أَبُو جَعْفَر الطبري والصحاوى وَغَيْرِهِمَا إِجْمَاع جَمِيع المُتَقَدَّمِين وَالمُتَأخّرِين من عُلَمَاء الْأُمَّة عَلَى أَنّ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي التَّشَهُّد غَيْر وَاجِبَة، وَشَذّ الشَّافِعِيّ فِي ذَلِك فَقَال من لَم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم من بعده التَّشَهُّد الآخِر قَبْل السَّلَام فَصَلاتُه فَاسِدَة وَإِنّ صَلَّى عَلَيْه قَبْل ذَلِك لَم تُجْزِه وَلَا سَلَف لَه فِي هَذَا القَوْل وَلَا سُنَّة يَتَّبِعُهَا وَقَد بَالَغ فِي إنْكَار هَذِه المَسْأَلَة عَلَيْه لِمُخَالفَتَه فِيهَا من تَقَدَّمَه جَمَاعَة وَشَنَّعُوا عَلَيْه الْخِلَاف فِيهَا مِنْهُم الطَّبَرِيّ وَالْقُشَيْرِيّ وَغَيْر وَاحِد، وَقَال أَبُو بَكْر بن المُنْذِر: يُسْتَحَبّ أن لا يُصَلّي أَحَد صَلَاة إلى صَلَّى فِيهَا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فإن تَرَك ذَلِك تَارك فَصَلاتُه مُجْزِئَة فِي مَذْهَب مَالِك وَأَهْل الْمَدِينَة وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَأَهْل الكُوفَة من أصْحَاب الرَّأي وَغَيْرِهِم وَهُو قَوْل جُمَل أَهْل الْعِلْم وَحُكِي عَن مَالِك وسفيان

_ (قوله وَشَذّ الشَّافِعِيّ فِي ذلك) قال النووي نقل أصحابنا فريضة الصلاة في التشهد عن عمر بن الخطاب وابنه ونقله الشيخ أبو حامد عن ابن مسعود وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِي ورواه البيهقى وغيره عن الشعبى وهو أحد الروايتين عن أحمد (قوله ولا ستة يتبعها) قيل له سنة وهى ما رآه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود الأنصاري أنهم قالوا كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فَقَالَ (قُولُوا اللَّهُمَّ صلى عليه محمد - إلى آخر الحديث) (*)

أنَّهَا فِي التَّشَهُّد الأخر مُسْتَحَبَّة وَأَنّ تَارِكَهَا في التشهد مسئ، وشذا الشَّافِعِيّ فَأَوْجَب عَلَى تَارِكِهَا فِي الصَّلَاة الإعَادَة وَأَوْجَب إِسْحَاق الإعادَة مَع تَعَمُّد تَرْكِهَا دُون النّسْيَان وَحَكى أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زَيْد عَن مُحَمَّد بن المَوَّاز أَنّ الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَرِيضَة، قَال أَبُو مُحَمَّد يُرِيد لَيْسَت من فَرَائِض الصَّلَاة، وَقالَه مُحَمَّد بن عَبْد الْحَكَم وَغَيْرُه وَحَكى ابن القَصَّار وَعَبُد الْوَهَّاب أَنّ مُحَمَّد بن المَوَّاز يَرَاهَا فَرِيَضَة فِي الصَّلَاة كَقَوْل الشَّافِعِيّ وَحَكى أَبُو يَعْلَى العَبْدِيّ المَالِكِيّ عَن المَذْهَب فِيهَا ثَلَاثَة أقْوَال: الْوُجُوب والسُّنَّة وَالنّدْب وَقَد خَالَف الْخَطَّابِيّ من أصْحَاب الشَّافِعِيّ وَغَيْرُه الشَّافِعِيّ فِي هَذِه المَسْألَة قَال الْخَطَّابِيّ وَلَيْسَت بِوَاجِبَة فِي الصَّلَاة وَهُو قَوْل جَمَاعَة الفُقَهَاء إلَّا الشَّافِعِيّ وَلَا أعْلَم لَه فِيهَا قُدْوَة وَالدَّليل عَلَى أنَّهَا لَيْسَت من فُرُوض الصَّلَاة عَمَل السَّلَف الصَّالِح قَبْل الشَّافِعِيّ وَإجْمَاعُهُم عَلَيْه، وَقَد شَنَّع النَّاس عَلَيْه هَذِه المسألة جد وَهَذَا تَشَهُّد ابن مَسْعُود الَّذِي اخْتَارَه الشَّافِعِيّ وَهُو الَّذِي عَلَّمَه لَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَيْس فِيه الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَكَذَلِك كُلّ من رَوَى التَّشَهُّد عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَابْن عُمَر وَأَبِي سَعِيد الْخُدْرِي وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعَبُد اللَّه بن الزُّبَيْر لَم يَذْكَرُوا فِيه صَلَاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد

_ (قوله وأوجب إسحاق) هو ابن إبراهيم بن مخلد الإمام أبا يعقوب بن راهويه المروزى عالم خراسان (قوله وَهَذَا تَشَهُّد ابن مسعود) ذكر ابن الملقن التشهدات الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في تخريج أحاديث الرافعى فبلغت ثلاثة عشر تشهدا (*)

فصل في المواطن التى يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

قَال ابن عَبَّاس وَجَابِر كَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُعَلّمُنَا التَّشَهُّد كَمَا يُعَلّمُنَا السُّورَة مِن الْقُرْآن، وَنَحْوَه عَن أَبِي سَعِيد، وَقَال ابن عُمَر كَان أَبُو بَكْر يُعَلّمُنَا التَّشَهُّد عَلَى الْمِنْبَر كَمَا يُعَلّمُون الصّبْيَان فِي الْكِتَاب، وَعَلَّمَه أيْضًا عَلَى الْمِنْبَر عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِي اللَّه عَنْه وَفِي الْحَدِيث (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ) قَال ابن القَصَّار مَعْنَاه كَامِلَة أَو لِمَن لَم يُصَلّ عَلِيّ مَرَّة فِي عُمُرِه، وَضَعّف أَهْل الْحَدِيث كلُّهم رِوايَة هَذَا الْحَدِيث وَفِي حَدِيث أَبِي جَعْفَر عَن ابن مَسْعُود عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يُصَلِّ فِيهَا عَلَيَّ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ) قَال الدَّارَقُطْنِيّ: الصواب أنَّه من قول أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بن الْحُسَيْن لَو صَلَّيْت صَلَاة لَم أُصَلّ فِيهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَا عَلَى أَهْل بَيْتِه لَرَأَيْت أنَّهَا لَا تَتِمّ فصل فِي المواطن التي يستحب فِيهَا الصَّلَاة والسَّلَام عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَيُرَغَّب من ذَلِك فِي تَشَهُّد الصَّلَاة كَمَا قَدَّمْناه وَذَلِك بَعْد التَّشَهُّد وَقَبْل الدُّعَاء حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ رحمه الله بقراءتي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِي عسيى الْحَافِظِ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن يزيد المقرى حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلانِيّ أَنَّ عمرو بن

_ (قوله وفي حديث أبي جعفر) هو الإمام محمد بن علي بن الحسين (قوله أبو هانئ) بهمزة في آخره (قوله أن عمرو بن مالك الجنبى) بجيم ونون فموحدة وياء للنسبة إلى جنب بطن من مذحج (*)

مَالِكٍ الْجَنْبِيَّ أَخْبَرَهُ أنَّه سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُول سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِه فَلَم يُصَلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (عَجِلَ هَذَا) ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ (إِذَا صَلَّى أحدكم فتيبدأ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ) وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ هَذَا السد بِتَمْجِيدِ اللَّهِ وَهُوَ أَصَحُّ * وَعَن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِي اللَّه عَنْه قال الدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَلَا يَصْعَدُ إِلَى الله منه شئ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن عَلِيّ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِمعناه: وَعَن عَلِيّ، وَعَلَى آل مُحَمَّد وَرُوي أَنّ الدُّعَاء مَحْجُوب حَتَّى يُصَلّي الدّاعِي عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَعَن ابن مَسْعُود إذَا أرَاد أَحَدُكُم أن يَسْأَل اللَّه شَيْئًا فتيبدأ بِمَدْحِه وَالثَّنَاء عَلَيْه بِمَا هُو أهْلُه ثُمّ يُصَلّ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم ثُمّ ليَسْأل فَإنَّه أَجْدَر أَن يَنْجَح، وَعَن جَابِر رَضِي اللَّه عَنْه قَال: قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ فَإِنَّ الرَّاكِبَ يَمْلأُ قَدَحَهُ ثُمَّ يَضَعُهُ وَيَرْفَعُ مَتَاعَهُ فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى شَرَابٍ شَرِبَهُ أَوِ الوضوء وضأ وَإِلَّا هَرَاقَهُ وَلَكِنِ اجْعَلُونِي فِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَأَوْسَطَهُ وَآخِرَهُ) * وَقَال ابن عَطَاء: لِلدُّعَاء أرْكَان وَأجنِحَة وَأسْبَاب وَأوْقَات فَإِن وَافَق أرْكَانَه قَوِي وَإن وَافَق اجْنَحَته طَار فِي السَّمَاء وَإن

_ (قوله فإنه أجدر) بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة أي حق (قوله كقدح) بفتح القاف والدال قال الهروي أراد لا تؤخروني في الذكر كالراكب يعلق قدحه في آخر رحله ويجعله خلفه (قوله هراقه) يقال أراق الماء يريقه وهراقة يريقه بفتح الهاء (5 - 2) (*)

وَافَق مَوَاقِيتَه فَاز وَإن وَافَق أسْبَابَه أنْجَح فَأرْكَانُه حُضُور الْقَلْب وَالرّقَّة وَالاسْتِكَانَة وَالْخُشُوع وَتَعلُّق الْقَلْب بِالله وَقَطْعُه مِن الْأَسْبَاب وَأجْنِحَتُه الصّدْق وَمَواقِيتُه الأسْحَار وَأَسْبَابُه الصَّلَاة عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم. وَفِي الْحَدِيث (الدُّعَاءُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ لَا يُرَدُّ) وَفِي حَدِيث آخر (كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٍ دُونَ السَّمَاءِ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّلَاةُ عَلَيَّ صَعِدَ الدُّعَاءُ) وَفِي دُعَاء ابن عَبَّاس الَّذِي رواه عَنْه حَنَش فَقَال فِي آخِرِه (وَاسْتَجِبْ دُعَائِي) ثُمَّ تَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ أَفْضَلَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ أَجْمَعِينَ آمِينَ، وَمِن مَوَاطِن الصَّلَاة عَلَيْه عِنْد ذِكْرِه وَسَمَاع اسْمِه أو كِتَابِه أَو عِنْد الْآذَان وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم (رغم أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ على) وكره ابن حَبِيب ذِكْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عِنْد الذَّبْح وَكَرِه سُحْنُون الصَّلَاة عَلَيْه عِنْد التَّعَجُّب وَقَال لَا يُصَلَّى عَلَيْه إلَّا عَلَى طَرِيق الاحْتِسَاب وَطَلَب الثَّوَاب، وَقَال أصْبَغ عَن ابن الْقَاسِم مَوْطِنَان لَا يُذْكَر فِيهِمَا إلَّا اللَّه الذَّبِيحَة وَالْعُطَاس فلا نقل فيهما تعد ذِكْر اللَّه مُحَمَّد رسول الله وَلَو قَال بَعْد ذِكْر اللَّه صلى اللَّه عَلَى مُحَمَّد لَم يَكُن تَسْمِيَة لَه مَع اللَّه، وَقَالَه أشْهَب قَال وَلَا يَنْبِغِي أن تُجُعَل الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم فيه استبانا وَرَوَى النَّسَائِي عَن أوْس بن أوْس عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الْأَمْر بِالْإِكْثَار مِن الصَّلَاة عَلَيْه يَوْم الْجُمُعَة، وَمِن مَوَاطِن الصَّلَاة وَالسَّلَام دُخُول الْمَسْجِد قَال أَبُو إِسْحَاق بن شعبان وَيَنْبِغي لِمَن دَخَل الْمَسْجِد أن يُصَلّي على النبي صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِه وَيَتَرَحَّم عَلَيْه وَيُبَارِك عَلَيْه وَعَلَى آلِه وَيُسَلّم تسليما ويقول

_ (قوله رغم أنف) أي ذل حتى كأنه ملصق بالرغام - بفتح الراء - أي التراب (*)

اللهم اغفر لي دوبى وَافْتح لِي أَبْوَاب رَحْمَتِك وَإذَا خَرَج فَعَل مِثْل ذَلِك وَجَعَل مَوْضع رَحْمَتِك فصلك، وقال عَمْرَو بْنَ دِينَار فِي قَوْلِه تَعَالَى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) قَال إن لَم يَكُن فِي البَيْت أحَد فَقُل السَّلَام عَلَى النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاتُه السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين السلام على أهل بيت وَرَحْمَة اللَّه وبَرَكَاتُه قَال قَال ابن عَبَّاس المُرَاد بِالْبُيُوت هنا المَسَاجِد وَقَال النَّخَعِيّ إذَا لَم يَكُن فِي الْمَسْجِد أَحَد فَقُل: السَّلَام على رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّم وَإذَا لَم يَكُن فِي البَيْت أَحَد فَقُل: السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِين. وَعَن علقمة إذَا دَخَلْت الْمَسْجِد أَقُول السَّلَام عَلَيْك أيُّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاتُه صَلّى اللَّه وَمَلَائِكَتُه عَلَى مُحَمَّد، وَنَحْوَه عَن كَعْب إذَا دَخَل وَإذَا خَرَج وَلَم يَذْكُر الصَّلَاة: وَاحْتَجّ ابن شَعْبَان لَما ذَكَرَه بِحدِيث فَاطِمَة بِنْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَانَ يَفْعَلُهُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَمِثْلُه عَن أَبِي بَكْر ابن عَمْرو بن حَزْم وَذَكَر السَّلَام وَالرَّحْمَة وَقَد ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيث آخِر القِسْم والاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظِه وَمِن مَوَاطِن الصَّلَاة عَلَيْه أيْضًا الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز وَذُكِر عَن أَبِي أُمَامَة أنَّهَا مِن السُّنَّة * وَمِن مَوَاطِن الصَّلَاة التي مَضى عَلَيْهَا عَمَل الْأُمَّة وَلَم تُنْكِرْهَا: الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وآلِه فِي الرَّسَائِل وَمَا يسكتب بعد البسملة

_ (قوله وَذُكِر عَن أَبِي أمامة) هو سعد بن سهل بن حنيف الأنصاري ولد في زمنه صلى الله عليه وسلم وكناه، وحديثه الذى لم يذكر فيه الصحابي مرسل والذى أشار إليه المصنف رواه الحاكم من طريق يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن أبي أمامة أنه أخبره رجال من الصحابة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم (*)

وَلَم يَكُن هَذَا فِي الصَّدْر الأَوَّل وَأُحْدِث عِنْد وِلايَة بنى هاشم فمصى بِه عَمَل النَّاس فِي اقْطَار الْأَرْض وَمِنْهُم من يَخْتِم بِه أيْضًا الْكُتُب، وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلِ الملائكة تستغفر له مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ) وَمِن مَوَاطِن السَّلَام عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم تَشَهُّد الصَّلَاة * حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي الْخَطِيبُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرُهُ قَالَ حَدَّثَتْنِي كَرِيمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ قَالَتْ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ - فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ هَذَا أَحَدُ مَوَاطِنِ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، وَسُنَّتُهُ أَوَّلُ التَّشَهُّدِ وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَشَهُّدٍ وَأَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَاسْتَحَبَّ مَالِك فِي المَبْسُوط أن يُسَلّم بِمِثْل ذَلِك قَبْل السَّلَام قَال مُحَمَّد بن مَسْلَمَة أرَاد مَا جَاء عَن عَائِشَة وَابْن عمر أنها كَانَا يَقُولان عِنْد سَلامهِمَا. السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِين، السَّلَام عَلَيْكُم، وَاسْتَحَبّ أَهْل العلم أن يروى الإنْسَان حِين سَلَامِه كُلّ عَبْد صَالِح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض مِن الْمَلَائِكَة وَبَنَي آدَم وَالْجِنّ، قَال مالك في؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ وَأحِبّ لِلْمَأْمُوم إذَا سَلَّم إمَامُه أن يَقُول السَّلَام عَلَى النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاتُه السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِين السَّلَام عَلَيْكُم

فصل في كيفية الصلاة عليه والتسليم

فصل فِي كيفية الصلاة عَلَيْه والتسليم حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الأَصْبَغِ نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ وَاقِدٍ وَغَيْرُهُ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: (قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأزْوَاجِهِ: ذريته كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتْ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وَفِي رِوَايَة مَالِك عَن أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيّ قَال (قُولُوا اللَّهُمَّ صلى عليه مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عُلِّمْتُمْ، وَفِي رِوَايَة كَعْب بن عُجْرَة (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَعَن عُقْبَة بن عَمْرو فِي حَدِيثِه (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ) وَفِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد الْخُدْرِي (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ) وَذَكَر مَعْنَاه وَحَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ سَمَاعًا عَلَيْهِ وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ طَرِيفٍ النَّحْوِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَعْدَانَ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا

_ (قوله عن أبى سلم الزرقى) سلم بضم السين المهملة وفتح اللام الزرقى بضم الزاى وفتح الراء (قوله والسلام كما قد علمتم) بضم العين وتشديد اللام وبفتحها وتخفيف اللام السلام يعنى في التحيات وهو السلام عليك أيها النبي إلى آخره (قوله ابن عجرة) بضم العين وسكون الجيم (*)

أَبُو بَكْرٍ الْمُطَّوِعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَارِمٍ الْحَافِظُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْعِجْلِيِّ عَنْ حَرْبِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُسَاوِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَالِدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ عَدَّهُنَّ فِي يَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ (عَدَّهُنَّ فِي يَدَي جِبْرِيلُ وَقَالَ هَكَذَا نَزَلَتْ مِنْ عِنْدَ رَبِّ الْعِزَّةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَنَّنْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وعلى آل إبراهيم إنك حميد مَجِيدٌ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا سَلَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) * وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم (من سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إِذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلُ الْبَيْتِ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزُوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وَفِي رِوَايَة زيد بن خارِجَة الْأَنْصَارِيّ سَألْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَيْف نُصَلّي عَلَيْك؟ فَقَال: (صَلُّوا وَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ ثُمَّ قُولُوا اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) وَعَن سَلَامَة الْكِندِيّ كَان عَلِيّ يُعَلّمُنَا الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم اللهم داحى الْمَدْحُوَّات وَبَارِئ الْمسْمُوكَات اجعل شرائف

_ (قوله عن زيد بن على) هُو مُحَمَّد بن الباقر (قوله زيد بن خارجة الأنصاري) هو الحارثى المتكلم بعد الموت زمن عثمان وقد تقدم (قوله داحى المدحوات) أي باسط المبسوطات (قوله وبارئ المسموكات) أي رافع المرفوعات (*)

صلوات وَنَوَامِي بَرَكَاتِك وَرَأْفَة تَحَنُّنِك عَلَى مُحَمَّد عَبْدِك وَرَسُولِك الفَاتِح لَما أُغْلِق وَالخَاتِم لَما سَبَق وَالمُعْلِن الحق بالحق وَالدّامغ لِجَيْشَات الْأَبَاطِيل كما حمل فاطلع بأمْرِك لِطَاعَتِك مُسْتَوْفِزًا فِي مَرْضَاتِك وَاعِيًا لَوَحْيِك حافظ لِعَهْدك مَاضِيًا عَلَى نَفَاذ أمْرِك حَتَّى أوْرَى قَبَسًا لِقَابِس، آلاء اللَّه تَصِل بِأهْلِه أسْبَابَه، بِه هُدِيَت القُلُوب بَعْد خَوْضَات الفِتَن وَالإثْم وَأبْهَج مُوضِحَات الْأعْلَام وَنائِرَات الْأحْكام وَمُنِيرَات الْإِسْلَام فهو أميك المأمول وخازن عليك المَخْزُون وَشَهِيدُك يَوْم الدين وَبَعِيثُك نِعْمَة وَرَسُولُك بِالحَقّ رَحْمَة اللهم افصح لَه فِي عَدْنِك وَاجْزه مُضَاعَفَات الخَيْر من فضلك مهيئات لَه غَيْر مُكَدَّرَات من فَوْز ثَوَابِك المَحْلُول وَجَزِيل عَطَائِك المعلول اللهم أعسل عَلَى بِنَاء النَّاس بِنَاءَه وأكْرِم مَثْوَاه لَدَيْك نزله وَأَتِمّ لَه نُورَه وَاجْزِه مِن ابْتِعَاثِك لَه مَقْبُول الشَّهَادَة ومرضى

_ (قوله لما أغلق) بضم الهمزة وكسر اللام (قوله كما حمل) بضم الحاء وكسر الميم المشددة (قوله فاضطلع) بالضاد المعجمة أي نهض (قوله على نفاذ) بالفاء والذال المعجمة (قوله حَتَّى أوْرَى قَبَسًا) في الصحاح وروى الزند بالفتح يورى إذا خرجت ناره وفيه لغة أخرى: ورى الزند يرى بالكسر فيهما وآريته أنا وكذلك وريته والقبس: الشملة من النار (قوله آلاء الله) أي نعمه وهو مبتدأ خبره تَصِل بِأهْلِه أسْبَابَه (قوله بِه هُدِيَت القُلُوب) بضم الهاء وكسر الدال ورفع القلوب أو بفتح الهاء والدال ونصب القلوب (قوله في عدنك) بفتح العين المهملة وسكون الدال أي جنتك في الصحاح عدنت البلد توطئته وعدنت الإبل بمكان كذا ألزمته فلم يبرح ومنه (جنات عدن) أي جنات إمة (قوله واجزه) بهمزة وصل قال الله تعالى (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) (قوله المعلول) من العلل: بفتح المهملة واللام الأولى وهو الشرب الثاني بعد النهل بفتحتين وهو الشرب الأول (قوله ونزله) بضم النون والزاى (*)

الْمَقَالة ذا مَنْطِق عدل وخصة فَصْل وَبُرْهَان عَظيم * وَعَنْه أيْضًا فِي الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي) الآية لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ رَبِّي وَسَعْدَيْك صَلَوَات اللَّه الْبَرّ الرحيم وَالْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبِين وَالنَّبِيّين وَالصّدّيقِين والشهداء والصحالين وما سنح لك من شئ يَا رَبّ العَالَمِين عَلَى مُحَمَّد بن عَبْد اللَّه خَاتَم النَّبِيّين وَسَيّد الْمُرْسَلِين وَإمَام الْمُتَّقِين وَرَسُول رَبّ الْعَالَمِين الشَّاهِد الْبَشِير الدّاعي إِلَيْك بِإذْنِك السّرَاج الْمُنِير وعليه السَّلَام) * وَعَن عَبْد اللَّه بن مَسْعُود اللَّهُمّ اجْعَل صَلَوَاتِك وَبَركَاتِك وَرَحْمَتَك عَلَى سَيَّد الْمُرْسَلِين وَإمَام الْمُتَّقِين وَخَاتِم النَّبِيّين مُحَمَّد عَبْدِك وَرَسُولِك إمام الخَيْر وَرَسُول الرَّحْمَة اللَّهُمّ ابْعَثْه مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُه فِيه الأوَّلُون والآخِرُون اللَّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل مُحَمَّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيم إنَّك حَمِيد مَجِيد وَبارِك عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيم إنَّك حَمِيد مَجِيد) * وَكَان الْحَسَن الْبَصْرِيّ يقول: من أرَاد أن يَشْرَب بِالْكَاس الأوْفى من حَوْض المُصْطَفى فَلْيَقُل اللَّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آله وَأَصْحَابِه وَأوْلادِه وَأزْوَاجِه وَذُرَّيَّتِه وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأصْهَارِه وَأنْصَارِه وَأشْيَاعَه ومحبيه وأمته عليا مَعَهُم أجْمَعِين يَا أرْحَم الرَّاحِمِين * وَعَن طاوُس عَن ابن عَبَّاس أنَّه كَان يَقُول اللَّهُمّ تَقَبَّل شَفَاعَة مُحَمَّد الكُبْرَى وَارْفَع دَرَجَتَه الْعُلْيَا وآتِه سُؤْلَه فِي الآخِرَة وَالْأُولَى كما آتيْت إبْرَاهِيم وَمُوسَى * وَعَن وُهَيْب بن الْوَرْد أنَّه كَان يَقُول فِي دُعَائِه اللَّهُمّ أعْط مُحَمَّدًا

_ (قوله وخطة فصل) الخطة الأمر والقصد والفصل القطع (قوله شَفَاعَة مُحَمَّد الكُبْرَى) هي التى للفصل بين أهل الموقف (قوله وَعَن وُهَيْب بن الورد) بالتصغير وهو عبد الوهاب المكى (*)

أفْضَل مَا سَألَك لِنَفْسِه وَأَعْط مُحَمَّدًا أفْضَل مَا سَألَك لَه أَحَد من خَلْقِك وَأَعْط مُحَمَّدًا أفضل مَا أنْت مسؤل لَه إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة وَعَن ابن مَسْعُود رَضِي اللَّه عَنْه أنَّه كَان يَقُول إذَا صَلَّيْتُم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَأَحْسِنُوا الصَّلَاة عَلَيْه فَإنَّكُم لَا تَدْرُون لَعَلّ ذَلِك يُعْرَض عَلَيْه وَقُولُوا اللهم اجْعَل صَلَوَاتِك وَرَحْمَتَك وَبَرَكَاتِك عَلَى سَيّد الْمُرْسَلِين وَإمَام الْمُتَّقِين وَخَاتِم النَّبِيّين مُحَمَّد عبدك ورسولك إمام الْخَيْر وَقَائِد الْخَيْر وَرسُول الرَّحْمَة اللَّهُمّ ابْعَثْه مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُه فِيه الأوَّلُون والآخِرُون اللَّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنَّك حَمِيد مَجِيد * وَمَا يُؤْثَر من تَطْوِيل الصَّلَاة وَتَكْثِير الثَّنَاء عَن أَهْل البيت وَغَيْرِهِم كَثِير وَقَوْلُه وَالسَّلَام كَمَا قَد عُلّمْتُم هُو مَا عَلَّمَهُم فِي التَّشَهُّد من قَوْلِه السَّلَام عَلَيْك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصالِحِين وَفِي تَشَهُّد عَلِيّ السَّلَام عَلَى نَبِيّ اللَّه السَّلَام عَلَى أنبِياء اللَّه ورُسله السَّلَام على رسول الله السَّلَام عَلَى مُحَمَّد بن عَبْد اللَّه السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُؤْمِنين والمؤمِنَات من غَاب مِنْهُم وَمِن شهد الله اغْفِر لِمُحَمَّد وتَقَبّل شَفَاعَتَه واغْفِر لِأَهْل بَيْتِه وَاغْفِر لِي وَلِوَالِدَيّ وَمَا وَلَدَا وَارْحَمْهُمَا السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عباد اللَّه الصالِحِين السَّلَام عَلَيْك أيُّهَا النَّبِيّ ورحمة اللَّه وبركاتُه جاء فِي هَذَا الْحَدِيث عَن عَلِيّ: الدُّعَاء لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بالغُفْرَان * وَفِي حَدِيث الصَّلَاة عَلَيْه عَنْه أيْضًا قَبْل: الدُّعَاء لَه بالرمة وَلَم يَأْت فِي غَيْرِه مِن الْأَحَادِيث الْمَرْفُوعة المعرُوفَة وَقَد ذَهَب أَبُو عُمَر بن عَبْد البَرّ وَغَيْرُه إِلَى أنَّه لَا يُدْعى للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم

_ (قوله ولوالدي) إنَّمَا قَال ذَلِك للتعليم لا الدعاء (*)

فصل في فضيلة الصلاة على النبي والتسليم عليه والدعاء له

بالرَّحْمَة وَإِنَّمَا يُدْعى لَه بالصَّلَاة وَالْبَرَكَة الَّتِي تَخْتَصّ بِه وَيُدْعى لِغَيْرِه بِالرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة وَقَد ذَكَر أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد فِي الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صلى عَلَيْه وَسَلَّم اللَّهُمّ ارْحَم مُحَمَّدًا وآل مُحَمَّد كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيم وآل إبْرَاهِيم وَلَم يَأْت هَذَا فِي حَدِيث صحيح وَحُجَّتُه قَوْلُه فِي السَّلَام: السَّلَام عَلَيْك أيُّهَا النَّبِيّ ورحمة اللَّه وبركاتُه فصل فِي فضيلة الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ والتسليم عَلَيْهِ والدُّعاء لَهُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مِنْ كِتَابِهِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي يُونُسُ بْنُ مُغِيثٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا النَّسَائِيُّ أَنْبَأَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ أَخْبَرَنِي كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ مَوْلَى نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلِيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا لي الوسيلة فإنها مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ لوسيلة حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ وَرَوَى أَنَس بن مَالِك أَنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال (مر صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحَطَّ عنه عشر خطئات وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ) وَفِي رِوَايَة وَكَتَب لَه عَشْر حسنات. وعز أنس عنه صلى الله عليه وسلم (إن

_ (قوله الوسيلة) أي القرب من الله والمنزلة عنده وفى الحديث أنها دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ (قوله النصرى) بالنون والصاد المهملة والأصح عند الذهبي أنه تابعي وحديثه مرسل (*)

جِبْرِيلَ نَادَانِي فَقَال مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَرَفَعَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ) وَمِن رِوَايَة عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (لَقِيتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ لِي إِنِّي أُبَشِّرُكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ. وَنَحْوَهُ من رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة ومالك بن أوْس بن الحَدَثان وَعُبَيْد اللَّه بن أَبِي طلحة وَعَن زَيْد بن الْحُبَاب سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَقُول (مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَنْزِلْهُ الْمَنْزِلَ الْمُقَرَّبَ عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً) وَعَن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغَفِرْ لَهُ مَا بَقِي اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ) وَعَن عامِر بن رَبِيعَة سَمِعْت النبي صلى الله عليه وسلم يقول مَنْ صَلَّى صَلَاة صَلَّت عَلَيْه الْمَلَائِكَة مَا صَلَّى عَلَيّ فليقل من ذَلِك عَبْد أَو لِيُكْثِر) وَعَن أبَيّ بن كَعْب كَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إذَا ذَهَب رُبُع اللَّيْل قَام فَقَال (يَا أيُّهَا النَّاس اذْكُرُوا اللَّه جَاءَت الرَّاجِفَة تَتْبَعُهَا

_ (قوله ابن الحدثان) بفتح الحاء والدال مهملتين بعدهما مثلثة (قوله وعن زيد ابن الحباب) بضم الحاء المهملة قال الحافظ يحيى بن على القرشى المشهور بالرشيد العصار هذا وهم فان زَيْد بن الْحُبَاب هذا ليس من الصحابة ولا من التابعين ولا من أتباعهم وإنما يروى عَنْ مَالِكِ بْنِ أنس والضحاك وأمثالهم وليس له في السحابة نظير في اسمه واسم أبيه معا وهذا الحديث محفوظ من رواية رويفع بن ثابت الأنصاري وقد رواه زَيْد بن الْحُبَاب هذا عن لهيعة عن بكر بن سوادة بن زياد بن نعم عن وفاء بن سريج الحضرمي عن رويفع بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب بأن المصنف عند كتابته أسقط ما عدا زَيْد بن الْحُبَاب لأنه لا غرض له في ذكر الرواة (*)

الرَّادِفَة جاء الْمَوْت بِمَا فِيه) فَقَال أُبَيّ بن كَعْب يَا رَسُول اللَّه إنّي أُكْثِر الصَّلَاة عَلَيْك فكم أَجْعَل لَك من صَلَاتِي؟ قَال: (مَا شِئْت) قَال: الرّبْع؟ قَال: (مَا شِئْت وَإن زِدْت فَهُو خير) قَال: الثُّلُث؟ قَال: (مَا شِئْت وَإن زدت فهو خير) قَال، النّصْف؟ قَال: (مَا شِئْت وَإن زِدْت فَهُو خَيْر) قَال: الثُّلُثَيْن؟ قَال: (مَا شِئْت وَإن زِدْت فَهُو خَيْر) قَال: يَا رَسُول اللَّه فَاجْعَل صَلَاتِي كُلَّهَا لَك قَال إذَا تُكْفَى وَيُغْفَر ذَنْبُك. وَعَن أَبِي طلحة: دَخَلْت عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَرَأيْت من بشره وطلافته ولم أرَه قَطّ فَسَألْتُه، فقال (وما يمنعى وَقَدْ خَرَجَ جِبْرِيلُ آنِفًا فَأَتَانِي بِبِشَارَةٍ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي إِلَيْكَ أُبَشِّرُكَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ يُصَلِّي عَلَيْكَ إِلَّا صلى الله عليه وسلم وَمَلَائِكَتُهُ بِهَا عَشْرًا وَعَن جَابِر بن عَبْد اللَّه قَال قَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَعَن سَعْد بن أَبِي وَقَّاص مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ. وَرَوَى ابن وَهْب أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال (مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ عَشْرًا فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً) وَفِي بَعْض الآثار (لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ مَا أَعْرِفُهُمْ إِلَّا بِكَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ عَلَيَّ) وَفِي آخَرَ إِنَّ أَنْجَاكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا وَمَوَاطِنِهَا أَكْثَرُكُمْ عَلَيَّ صَلَاةً) وَعَنْ أَبِي بَكْر الصديق الصَّلَاة عَلَى النَّبِيّ صلى الله

_ (قوله فكم أَجْعَل لَك من صلاتي) قيل الصلاة هنا بمعنى الدعاء والمعنى أن لى زمانا أدعو فيه لنفسي فكم أَجْعَل لَك من ذلك الزمان الصلاة عليك (*)

فصل في ذم من لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم وإثمه

عَلَيْه وَسَلَّم أَمْحَق لِلذُّنُوب مِن الْمَاء الْبَارِد لِلنَّار، وَالسَّلَام عليه أفْضَل من عِتْق الرّقَاب فصل فِي ذم من لَم يصل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وإثمه حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا أبو الفضل بن خيرون وأبو الحسن الصَّيْرَفِيُّ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبراهيم الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا رَبْعِيُّ ابن إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فلم يصل على وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دخل رمصان ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرُ فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَظُنُّهُ قَالَ أَوْ أَحَدُهُمَا. وَفِي حَدِيثٍ آخَر أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم صعَد الْمِنْبَر فَقَال آمِينَ ثُمَّ صَعِدَ فَقَالَ آمِينَ ثُمَّ صَعِدَ فَقَالَ آمِينَ فَسَأَلَهُ مُعَاذٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ سُمِّيتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ يدخل النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ آمِينَ فَقُلْتُ آمِينَ وَقَالَ فِيمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَمَاتَ مِثْلَ ذَلِكَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا فَمَاتَ مِثْلَهُ) وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (الْبَخِيلُ الَّذِي ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فلم

_ (قوله وأبو الحسين) بالتصغير (قوله الدورقى) نسبة إلى نوع من القلانس، وقال المزى تبعا لأبى أحمد الحاكم في الكنى هو منسوب إلى بلد (*)

فصل في تخصيصه صلى الله عليه وسلم بتبليغ صلاة من صلى عليه أو سلم من الأنام

يُصَلِّ عَلَيَّ) وَعَنْ جَعْفَرِ بن مُحَمَّد عَن أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ على أحطئ بِهِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ. وَعَن عَلِيّ بن أَبِي طَالِب أَنّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال (إِنَّ الْبَخِيلَ كُلَّ الْبَخِيلِ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ) وَعَن أَبِي هريرة قَال أَبُو الْقَاسِم صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (أَيُّمَا قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا ثُمَّ تَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ وَيُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (من نَسِي الصَّلَاةَ عَلَيَّ نَسِيَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ) وَعَن قَتَادَة عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مِنَ الْجَفَاءِ أَنْ أُذْكَرَ عِنْدَ الرَّجُلِ فَلَا يُصَلَّي عَلَيَّ) وَعَن جَابِر عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى غَيْرِ صَلاةٍ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم إِلَّا تَفَرَّقُوا عَلَى أَنْتَنِ مِنْ رِيحِ الْجِيفَةِ) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا يَجْلِسُ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَا يُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الثَّوَابِ وَحَكى أَبُو عِيسَى التَرْمِذيّ عَن بَعْض أَهْل الْعِلْم قَال: إذَا صَلَّى الرَّجُل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَرَّة فِي المَجْلِس أجْزَأ عَنْه مَا كَان فِي ذَلِك المَجْلِس فصل فِي تخصيصه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بتبليغ صَلَاة من صَلَّى عَلَيْه أَو سلم مِن الأنامِ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ حدثنا الحسين بن محمد حدثنا أبو عمر

_ (قوله ترة) بكسر المثناة الفوقية وفتح الراء المخففة أي نقص وقيل تبعة (قوله من الجفاء) بفتح الجيم والمد هو ترك البر والصلة (*)

الْحَافِظُ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا ابْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْفٍ حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ عَنْ أَبِي صَخْرٍ حُمَيْدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ) وَذَكَر أَبُو بَكْر بن أَبِي شَيْبَة عَن أَبِي هُرَيْرَة قَال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْتُهُ) . وَعَنِ ابن مَسْعُود: إنّ الله مَلَائِكَةُ سَيَّاحِينَ فِي الأرض بلغوني عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ) وَنَحْوَه عَن أَبِي هُرَيْرَة. وَعَن ابن عُمَر: أكْثِرُوا مِنَ السَّلَامِ عَلَى نَبِيِّكُمْ كُلَّ جُمُعَةٍ فَإِنَّهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْكُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايَة: فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ صَلَاتُهُ عَلَيَّ حِينَ يَفْرُغَ مِنْهَا. وَعَنِ الْحَسَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَّا بُلِّغَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عُرِضَ عَلَيْهِ اسْمُهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم فإن رسول الله

_ (قوله ابن عوف) هُو مُحَمَّد بن عوف بن سفيان الحمصى شيخ أبى داود والنسائي (قوله المقرى) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن بريد أحد الشيوخ البخاري (قوله نائيا) أي بعيدا (قوله بلغته) بضم الباء الموحدة وكسر اللام المشددة (قوله وعن أبى مسعود) كذا وَقَع فِي كثير من النسخ والصواب ابن مسعود (قوله إلا بلغه) بضم الموحدة وكسر اللام المشددة (*)

فصل في الاختلاف في الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام

صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ) وَفِي حَدِيث أوْس (أكْثِروا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) وَعَنْ سُلَيْمَان بن سُحَيْم: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤْلَاءِ الَّذِينَ يَأتُونَكَ فَيُسَلَّمُونَ عَلَيْكَ أَتَفْقَهُ سَلامَهُمْ؟ قَالَ (نَعَمْ وَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ) وَعَن ابن شِهَاب: بَلَغَنَا أَنّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال: (أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الزَّهْرَاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ فَإِنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ عَنْكُمْ وَإِنَّ الأرض لا نأكل أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا حَمَلَهَا مَلَكٌ حَتَّى يُؤَدِّيهَا إِلَيَّ وَيُسَمِّيهِ حَتَّى إِنَّه لَيَقُولُ إِنَّ فُلانًا يَقُولُ كَذَا وَكَذَا) فصل فِي الاختلاف فِي الصَّلَاة عَلَى غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وسائر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَامُ قَال الْقَاضِي وَفَّقَه اللَّه عَامَّة أَهْل الْعِلْم مُتَّفِقُون عَلَى جَوَاز الصَّلَاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وَرُوي عَن ابن عَبَّاس أنَّهُ لَا تَجُوزُ الصلاة على غير

_ (قوله لا تتاخذوا بيتى عيدا) المراد بالبيت هنا القبر لأنه دفن في بينه ومعناه النهى عن الاجتماع لزيارته كالاجتماع للعيد فيحتمل أن يكون نهيه عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذلك لدفع المشقة عن أمته وأن يكون مخافة أن يتجاوزوا في تعظيم قبره الحد (قوله وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قبورا) معناه عند البخاري لا يجعلوها كالمقابر التى لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فيها، ومعناه عند غيره: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا لأن الميت لا يصلى في قبره (قوله وَفِي حَدِيث أوْس بن أوس الثقفى الصحابي) أخرج هَذَا الْحَدِيث عَنْه الترمذي في الصلاة وابن ماجه في الجنائز (*)

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِيَ عَنْهُ لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا النَّبِيِّينَ، وَقَالَ سُفْيَانُ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَوَجَدْتُ بِخَطِّ بعض شيوخ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يصل عَلَى أحَد مِن الْأَنْبِيَاء سِوَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَهَذَا غَيْر معروف من مَذْهِبه، وَقَد قَال مَالِك فِي المْبسُوط لِيَحْيَى ابن إِسْحَاق أكْرَه الصَّلَاة على غير الأنيباء وما ينبغى لما أَن نَتَعَدَّى مَا أمِرْنَا بِه قَال يَحْيَى بن يَحْيَى لسْت آخُذ بِقَوْلِه وَلَا بَأْس بِالصَّلَاة عَلَى الْأَنْبِيَاء كلهم وَعَلَى غَيْرِهِم. وَاحْتَجّ بِحَدِيث ابن عُمَر وبما جاء فِي حَدِيث تَعْليم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الصَّلَاة عَلَيْه وَفِيه وَعَلَى أزْوَاجِه وَعَلَى آلِه وَقَد وَجَدْت مُعَلَّقًا عَن أبى عمران الفارسى رَوَى عَن ابن عَبَّاس رَضِي اللَّه عَنْهُمَا كَرَاهَة الصَّلَاة عَلَى غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال وَبِه نَقُول وَلَم يَكُن يُسْتَعْمَل فِيمَا مَضَى، وَقَد رَوَى عَبْد الرَّزَّاق عَن أَبِي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صَلُّوا عَلَى أنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بعثنى) قالوا: والأساند عَن ابن عَبَّاس لَيّنَة والصَّلَاة فِي لِسَان العَرَب بَمَعْنَي التَّرَحُّم والدُّعَاء وَذَلِك عَلَى الإطْلاق حَتَّى يَمْنَع مِنْه حَدِيث صحيح أَو إجماع، وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عليكم وملائكته الآيَةَ وَقَال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وصل عليهم الآيَةَ. وَقَال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورحمة: وَقَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم: اللَّهُمّ صل على آل أبي أوفى وكان إذا أتاه قَوْم بِصَدَقَتِهِم قَال: اللم صل على آل فلان، وفي حديث الصلاة: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَفِي آخر: وَعَلَى آل مُحَمَّد، قِيل أتْبَاعُه وَقِيل أمَّتُه وَقِيل آل بَيْتِه وَقِيل الْأَتْبَاع ولرهط وَالْعَشِيرَة وَقِيل آل الرَّجُل وَلَدُه وَقِيل قَوْمُه، (6 - 2) (*)

وَقِيل أَهْلُه الَّذين حُرِّمَت عَلَيْهِم الصَّدَقَة، وَفِي رِوَايَة أَنَس سُئِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم من آل مُحَمَّد؟ قال (كل نفسي) ويجئ عَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ أَنَّ المُرَادَ بِآلِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدٌ نَفْسُهُ فَإنَّه كَان يَقُول فِي صلاته عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم اللَّهُمّ اجْعَل صَلَوَاتِك وَبَرَكَاتِك عَلَى آل مُحَمَّد يُرِيد نَفْسَه لِأَنَّه كان لا يُخِلّ بِالفَرْض وَيأْتِي بالنَّفْل لِأَنّ الفَرْض الَّذِي أمَر اللَّه تَعَالَى بِه هُو الصَّلَاة عَلَى مُحَمَّد نَفْسِه وَهَذَا مِثْل قَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ) يُرِيد من مَزَامِير دَاوُد، وَفِي حَدِيث أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ فِي الصَّلَاة اللَّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمَّد وَأزْوَاجِه وَذُرِّيَّتِه، وَفِي حَدِيث ابن عُمَر أنَّه كَان يُصَلَّي عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَعَلَى أَبِي بَكْر وعمر ذَكَرَه مَالِك فِي المُوطّإ من رِوَايَة يَحْيَى الأنْدَلُسِيّ وَالصَّحِيح من رِوَايَة غَيْرِه وَيَدْعُو لأبي بَكْر وعمر. وَرَوَى ابن وَهْب عَن أَنَس بن مَالِك كُنَّا نَدْعُو لِأَصْحَابِنَا بالغَيْب فَنَقُول اللَّهُمّ اجْعَل مِنْك عَلَى فُلان صَلَوَات قَوْم أبْرَار الذين يَقُومُون باللَّيْل وَيصُومُون بالنَّهَار قَال الْقَاضِي وَالَّذِي ذَهَب إلَيْه المُحَقّقُون وَأمِيل إليه مَا قَالَه مَالِك وَسُفْيَان رَحِمَهُمَا اللَّه، وَرُوي عَن ابن عَبَّاس، واخْتَارَه غَيْر وَاحِد مِن الفُقَهَاء وَالمُتَكَلّمِين أنَّه لا يُصَلَّى عَلَى غَيْر الْأَنْبِيَاء عِنْد ذِكْرِهِم بَل هو شئ يُخْتَصّ بِه الْأَنْبِيَاء توقيرا وتعزيزا كما يخص اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ ذكره بالتنزيه والتقديس والتعظيم ولا يشاركه فيه غيره كذلك يجب تَخْصِيص النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَسَائِر الْأَنْبِيَاء بِالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم وَلَا يُشَارَك فِيه سِوَاهُم كَمَا أمر الله به بِقَوْلِه (صَلُّوا عَلَيْهِ وسلموا تسليما) وَيُذُكَر من سِوَاهُم مِن الْأَئِمَّة وَغَيْرِهِم بِالغُفْرَان وَالرّضَى كَمَا قَال تَعَالَى (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان) وقال (والذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله

فصل في حكم زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وفضيلة من زاره سلم عليه وكيف يسلم ويدعو

عنهم) أيْضًا فَهُو أمْر لَم يَكُن مَعْرُوفًا فِي الصَّدْر الأَوَّل كَمَا قَال أَبُو عِمْرَان وَإِنَّمَا أحدَثَه الرَّافِضَة وَالمُتِشَيّعَة فِي بَعْض الْأَئِمَّة فَشَارَكُوهُم عِنْد الذّكْر لَهُم بِالصَّلَاة وَسَاوَوْهُم بِالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي ذَلِك وأيْضًا فَإِنّ التَّشَبُّه بِأَهْل الْبِدَع مَنْهِيّ عَنْه فَتجِب مُخَالَفَتُهُم فِيمَا الْتَزَمُوه من ذَلِك وَذَكَر الصَّلَاة عَلَى الآل وَالْأزْواج مَع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم بحكم التبع وَالْإضَافَة إليْه لَا عَلَى التَّخْصِيص قَالُوا وَصَلَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى من صَلَّى عَلَيْه مَجْرَاهَا مَجْرَى الدُّعَاء وَالمُوَاجَهة لَيْس فِيهَا مَعْنَي التَّعْظِيم وَالتَّوْقِير قَالُوا وَقَد قَال تَعَالَى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بعضا) فكذلك يَجِب أَن يَكُون الدُّعَاء لَه مُخَالِفًا لِدُعَاء النَّاس بَعْضُهُم لِبَعْض، وَهَذَا اخْتِيَار الْإِمَام أَبِي الْمُظَفَّر الإسِفَرائِنِيّ من شُيُوخِنَا، وبه قَال أبو عمر بن عبد البر فصل فِي حكم زيارة قبره صَلَّى اللَّه عليه وسلم وفضيلة من زاره سلم عَلَيْه وكيف يسلم ويدعو وزيارة قَبْرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم سُنَّة من سُنَن الْمُسْلمين مُجْمَع عليها وفضيلة مُرَغَّب فِيهَا * حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاضِي الْمَحَامِلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا محمد بن عبد الرزاق قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هِلالٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي) وَعَن أَنَس بن مَالِك قَال قال رسول الله صلى اله عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ زَارَنِي فِي الْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا كَانَ فِي جِوَارِي وَكُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِي حَدِيث آخَر (مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي

فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي) وَكَرِه مَالِكٌ أَن يقال زُرْنَا قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَقَد اخْتُلِف فِي مَعْنَي ذَلِك فَقِيل كَرَاهِيَة الاسْم لما وَرَد من قَوْلِه صَلَّى الله عليه وسلم (لعن الله زوارات القبور) وهذا يرده قوله (نهيتم عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَقَوْلُه (مَنْ زَارَ قَبْرِي) فَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الزِّيَارَةِ وَقِيلَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمَّا قِيلَ إِنَّ الزَّائِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَزُورِ وَهَذَا أَيْضًا ليس بشئ إِذْ لَيْسَ كُلُّ زَائِرٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ هَذَا عُمُومًا، وَقَد وَرَد فِي حَدِيث أَهْل الْجَنَّةِ زيارتهم لربهم وَلَم يُمْنَع هَذَا اللَّفْظ فِي حَقّه تَعَالَى وَقَال أَبُو عِمْرَان رَحِمَه اللَّه إنَّمَا كَرِه مَالِك أَن يقال طَواف الزّيَارَة وَزُرْنَا قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لاسْتِعْمَال النَّاس ذَلِك بَيْنَهُم بَعْضِهم لِبَعْض وكَرِه تَسْويَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَع النَّاس بَهَذَا اللَّفْظ وَأحَبّ أن يُخَصّ بِأَن يقال سَلَّمْنَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأيْضًا فَإِنّ الزّيَارَة مُبَاحَة بَيْن النَّاس وَوَاجِب شَدّ الْمُطِيّ إِلَى قَبْرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُرِيد بالْوُجُوب هنا وُجُوب نَدْب وَتَرَغِيب وَتَأْكِيد لَا وُجُوب فَرْض وَالْأَوْلَى عندي أَنّ مَنْعَه وَكَرَاهَة مَالِك لَه لإضَافَتِه إِلَى قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأنَّه لَو قَال زُرْنَا النبي لَم يَكْرَهْه لِقَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (اللَّهُمَّ لَا تعجعل قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)

_ (قوله وَكَرِه مَالِكٌ أَن يقال) قَال أَبُو عُمَر بن عَبْد البَرّ إنَّمَا كَرِه مَالِك أَن يقال طَواف الزّيَارَة وزيارة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لاسْتِعْمَال النَّاس ذلك بعضهم لبعض فكره تَسْويَة النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم بهذا اللفظ مع الناس وَأحَبّ أن يُخَصّ بِأَن يقال سَلَّمْنَا عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، قال وأيضا الزّيَارَة مُبَاحَة بَيْن النَّاس وَوَاجِب شَدّ الْمُطِيّ إِلَى قَبْرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، يُرِيد وجوب التبرع لا وجوب الفرائض (*)

فَحَمَى إضَافَة هَذَا اللّفْظ إِلَى القَبْر وَالتَّشَبُّه بِفِعْل أولئِك قَطْعًا لِلذّرِيعَة وَحَسْمًا لِلْبَاب والله أَعْلَم، قَال إِسْحَاق بن إبْرَاهِيم الْفَقِيه: ومما لَم يَزَل من شَأْن من حَجّ المُرُور بالمَدِينَة وَالْقَصْد إِلَى الصَّلَاة فِي مسجد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَالتَّبَرُّك بِرُؤْيَة رَوْضَتِه وَمنْبَرِه وَقَبْرِه وَمَجْلِسِه وَمَلامِس يَدَيْه وَمَوَاطِئ قَدَمَيْه وَالعَمُود الذى كان يستبد إليْه وَيَنْزِل جِبْرِيل بِالْوَحْي فِيه عَلَيْه وَبِمَن عمره وقصده مِن الصَّحَابَة وأئِمَّة المُسْلِمين والاعْتِبَار بِذَلِك كُلّه، وقال ابن أَبِي فُديْك سَمِعْت بَعْض من أَدْرَكْت يَقُول: بَلَغَنَا أنَّه من وَقَف عِنْد قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَتَلَا هَذِه الآيَة: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) ثُمَّ قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْك يَا مُحَمَّد من يَقُولُهَا سَبْعِين مَرَّة، نادَاه مَلَك صَلَّى اللَّه عَلَيْك يَا فُلان وَلَم تَسْقُط لَه حَاجة وَعَن يَزِيد ابن أَبِي سَعِيد المَهْرِيّ قَدِمْت عَلَى عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز فَلَمّا وَدَّعْتُه قَال: لِي إِلَيْك حاجة: إذَا أتَيْت الْمَدِينَة سَتَرَى قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَأَقْرِه منّي السَّلَام، قَال غَيْرُه وَكَان يُبْرِد إلَيْه البَرِيد مِن الشَّام قَال بَعْضُهُم رَأَيْت أَنَس بن مَالِك أتى قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَوَقَف فَرَفَع يَدَيْه حَتَّى ظَنَنْت أنَّه افْتتح الصَّلَاة فَسَلَّم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ثُمّ انْصَرَف وَقَال مَالِك فِي رِوَايَة ابن وَهْب إذَا سَلَم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّم وَدَعَا يقف ووجه إِلَى القَبْر لَا إِلَى القِبْلَة وَيَدْنُو وَيُسَلّم وَلَا يَمَسّ القَبْر بِيَدِه وَقَال في المَبْسُوط لَا أرَى أَن يَقِف عِنْد قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَدْعُو وَلكِن يُسَلّم ويَمْضِي، قَال ابن أَبِي مُلَيْكَة من أحَبّ أن يقوم وجاء

_ (قوله وَكَان يُبْرِد إلَيْه البريد) المراد بالبريد هنا الرسول المستعجل (*)

النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَلْيَجْعَل القْندِيل الَّذِي فِي القِبْلَة عِنْد القَبْر عَلَى رَأْسِه، وَقَال نافِع: كَان ابن عُمَر يُسَلّم عَلَى القَبْر رَأيْتُه مِائَة مرة وأكثر يجئ إِلَى القَبْر فَيَقُول السَّلَام عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم السَّلَام عَلَى أَبِي بَكْر السَّلَام عَلَى أَبِي ثُمّ ينصرف، وروى ابن عُمَر وَاضِعًا يَدَه عَلَى مَقْعَد النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم من المنبر ثم وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِه. وَعَن ابن قُسَيْط وَالْعُتْبِيّ كَان أصْحَاب النبي صلى الله عليه وسلم إذَا خلَا الْمَسْجِد حَسُّوا رُمَّانَة الْمِنْبَر التي تَلِي القَبْر بِمَيَامِنِهِم ثُمّ اسْتَقْبَلُوا القِبْلَة يَدْعُون، وَفِي المُوَطّأ من رِوَايَة يحيى بن يَحْيَى اللَّيْثِيّ أنَّه كَان يَقِف عَلَى قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَيُصَلّي عَلَى النبي وَعَلَى أَبِي بَكْر وعمر وعند ابن الْقَاسِم والقَعْنَبِيّ وَيَدْعُو لأبي بَكْر وَعُمَر قَال مَالِك فِي رِوَايَة ابن وَهْب يَقُول المُسَلّم السَّلَام عَلَيْك أيُّهَا النَّبِيّ ورحمة اللَّه وَبَرَكَاتُه، قَال فِي المَبْسُوط وَيُسَلّم عَلَى أَبِي بَكْر وعمر قَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد البَاجِيّ وَعِنْدِي أنَّه يَدْعُو للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِلَفْظ الصَّلَاة وَلأبِي بَكْر وعمر كَمَا فِي حَدِيث ابن عُمَر من الْخِلَاف، وَقَال ابن حَبِيب وَيَقُول إذَا دَخَل مَسْجِد الرَّسُول باسْم اللَّه وَسَلام عَلَى رَسُول اللَّه السَّلَام عَلَيْنَا من رَبّنَا وصلى اللَّه وملائكة عَلَى مُحَمَّد اللَّهُمّ اغْفِر لِي ذُنُوبي وَافْتَح لِي أبْوَاب رَحْمَتِك وَجَنّتِك وَاحْفَظْنِي مِن الشَّيْطَان الرَّجِيم ثُمّ اقْصِد إِلَى الرَّوْضَة وَهِي مَا بَيْن القَبْر وَالْمِنْبَر فَارْكَع فِيهَا رَكْعَتَيْن قَبْل وُقُوفِك بالْقَبْر تحمد الله فبهما وَتَسْألُه تَمَام مَا خرجت

_ (قوله القنديل) بكسر القاف وأما بفتحها فالعظيم الرأس (قوله وفى العتبية) بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية بعدها موحدة وياء للنسبة إلى فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبى القرطبى مصنفها وهو ابن موالى عُتْبَةَ بن أَبِي سفيان (*)

إليْه وَالعَوْن عَلَيْه وإن كانت كعتاك فِي غَيْر الرَّوْضَة أجزأناك وَفِي الرَّوْضَة أَفْضَل وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ ترع الجنة) ثم تَقِفْ بِالْقَبْرِ مُتَوَاضِعًا مُتَوَقِّرًا فَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَتُثْنِي بِمَا يَحْضُرُكَ وَتُسَلِّم عَلَى أَبِي بَكْر وعمر وَتَدْعُو لهما وأكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالليل والنهار ولا تدع أن تأتي مسجد قبا وَقُبُور الشُّهَدَاء، قَال مَالِك فِي كِتَاب مُحَمَّد: وَيُسَلّم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إذَا دَخَل وَخَرج يَعْنِي فِي الْمَدِينَة وَفِيمَا بَيْن ذَلِك قَال مُحَمَّد وَإذَا خَرَج جَعَل آخِر عَهْدِه الوُقُوف بِالْقَبْر وَكَذَلِك من خَرَج مُسَافِرًا، وَرَوَى ابن وَهْب عَن فاطِمة بِنْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال (إذَا دَخَلْت الْمَسْجِد فَصَلّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم وقل اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لِي أبْوَاب رَحْمَتِك وإذا خَرَجَت فَصَلّ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وقل اللهم اغْفِر لِي ذُنُوبِي وَافْتَح لِي أبْوَاب فَضْلِك وَفِي رِوَايَة أخرى فَلْيُسَلّم مَكان فَلْيُصَلّ فِيه وَيَقُول إذَا خَرَج اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ وَفِي أُخْرَى (اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَعَنْ مُحَمَّد بن سِيرين: كَان النَّاس يَقُولُون إذا دَخَلُوا الْمَسْجِد صَلَّى اللَّه وملائِكتُه عَلَى مُحَمَّد السَّلَام عَلَيْك أيُّهَا النَّبِيّ ورحمة اللَّه وبركاتُه بِاسم اللَّه دَخَلْنَا وبِاسم اللَّه خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّه تَوَكَّلْنَا، وكانوا يقولون إذَا خَرَجُوا مِثْل ذَلِك، وَعَن فاطمة أيْضًا كَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إذَا دَخَل الْمَسْجِد قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، ثُمّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيث فاطمة قَبْل هَذَا وَفِي رِوَايَة حَمِد اللَّه وَسَمَّى وَصَلَّى عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم وَذَكَر مِثْلُه، وَفِي رِوَايَة باسم اللَّه والسلام عَلَى رَسُول الله، وَعَن غَيْرِهَا

كان رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّم إذَا دَخَل الْمَسْجِد قَال (اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَيَسِّرْ لِي أَبْوَابَ رِزْقِكَ) وَعَن أَبِي هُرَيْرَة إذَا دَخَل أحَدُكُم الْمَسْجِد فَلْيُصَلّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلْيَقُل (اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي) وَقَال مَالِك فِي الْمَبْسُوط وَلَيْس يَلْزَم من دَخَل الْمَسْجِد وَخَرَج مِنْه من أَهْل الْمَدِينَة الْوُقُوف بِالْقَبْر وَإِنَّمَا ذَلِك لِلْغُرَبَاء وَقَال فِيه أيْضًا لَا بَأس لمن قَدِم من سَفَر أَو خَرَج إِلَى سفر أَنّ يَقِف عَلَى قَبْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَيُصَلَّي عَلَيْه وَيَدْعُو لَه وَلِأَبِي بَكْر وعمر فَقِيل لَه إنّ نَاسًا من أَهْل الْمَدِينَة لَا يَقْدُمُون من سَفَر وَلَا يُريدُونَه يَفْعَلُون ذَلِك فِي الْيَوْم مَرَّة أَو أكْثَر ورُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمُعَة أَو فِي الأيام الْمَرَّة أَو الْمَرَّتَيْن أَو أكْثَر عِنْد الْقَبْر فيسلمون ويدعو سَاعة فَقَال لَم يَبْلُغْنِي هَذَا عَن أَحَد من أَهْل الْفِقْه بِبَلَدِنَا وَتَرْكُه وَاسِع وَلَا يُصْلِح آخِر هَذِه الْأُمَّة إلَّا مَا أصْلَح أوَّلَهَا وَلَم يَبْلُغْنِي عَن أَوَّل هَذِه الْأُمَّة وَصَدْرِهَا انهم كَانُوا يَفْعلُون ذَلِك: ويُكْرَه إلَّا لِمَن جَاء من سَفَر أَو أرادَه، قَال ابن الْقَاسِم وَرَأَيْت أَهْل الْمَدِينَة إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَو دَخَلُوهَا أتَوا الْقَبْر فَسَلَّمُوا، قَال وَذَلِك رَأْي قَال الباجيّ فَفَرْق بَيْن أَهْل الْمَدِينَة وَالْغُرَبَاء لِأَنّ الْغُرَبَاء قَصَدُوا لِذَلِك وَأَهْل الْمَدِينَة مُقِيمُون بِهَا لَم يَقْصِدُوها من أجْل الْقَبْر وَالتّسْلِيم، وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مَسَاجِدَ) وَقَال (لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا) وَمِن كِتَاب أَحْمَد بن سَعِيد الهِنْدِيّ فِيمن وَقَف بِالقبر: لَا يَلْصَق بِه وَلَا يَمَسّه وَلَا يَقِف عِنْدَه طَوِيلًا، وَفِي الْعُتْبِيَّة يَبْدَأ بالرُّكوع قَبْل السَّلَام فِي مسجد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأحَبّ مَوَاضِع التّنَفُّل

فصل فيما يلزم من دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من الأدب سوى ما قدمناه وفضله وفضل الصلاة فيه وفى مسجد مكة وذكر قبره ومنبره وفصل سكنى المدينة ومكة

فِيه مُصَلَّى النَّبِيّ حَيْث الْعَمُود الْمُخَلَّق، وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَة فَالتَّقَدُّم إِلَى الصُّفُوف والتنفل فِيه لِلْغَُربَاء أحَبّ إلى من التنفل فِي البيوت فصل فِيمَا يَلْزَم من دَخَل مَسْجِد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن الْأَدَب سِوَى مَا قَدَّمْنَاه وَفَضْلِه وَفَضْل الصَّلَاة فِيه وَفِي مَسْجِد مَكَّة وَذَكَر قبْرِه وَمَنْبَرِه وفصل سُكْنى الْمَدِينَة ومَكَّة. قَال اللَّه تَعَالَى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تقوم فيه) روي أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّم سُئِلَ أَيُّ مَسْجِدٍ هُوَ؟ قَالَ (مَسْجِدِي هَذَا) وَهُوَ قول ابن المسيب وزيد بن ثابت وَابْن عُمَر ومالك بن أَنَس وَغَيْرِهِم. وَعَن ابن عَبَّاس أنَّه مَسْجِد قُبَاء حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ حدثنا أبو عُمَرَ النَّمَرِيُّ حَدَّثَنَا أبو محمد بن عبد المومن حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن سعيد ابن الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تُشَدُّ الرَّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقَصَى) وَقَد تَقَدمَت الآثار فِي الصَّلَاة والسَّلَام عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عِنْد دُخُول الْمَسْجِد) وَعَن عَبْد اللَّه بن عَمْرو بن العاص أَنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَخَل الْمَسْجِد قَال: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَال مَالِك

_ (قوله روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أي مجسد) أخرج هذا الحديث مسلم في آخر المالك والترمذي والكسائي في التفسير (*)

رَحِمَه اللَّه سَمِع عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِي اللَّه عَنْه صَوْتًا فِي الْمَسْجِد فَدَعَا بِصَاحِبه فَقَال مِمَّن أنْت؟ قَال: رَجُل من ثَقِيف، قَال لَو كُنْت من هَاتَيْن الْقَرْيَتَيْن لِأَدَّبْتُك إنّ مَسْجِدَنَا لَا يُرْفَع فِيه الصوت، قال مُحَمَّد بن مَسْلمَة: لَا يَنْبَغِي لأحَد أن يَعْتَمِد الْمَسْجِد بِرَفْع الصّوْت ولا بشئ مِن الْأَذَى وأن يُنَزَّه عَمَّا يُكْرَه، قَال الْقَاضِي حَكَى ذَلِك كُلَّه الْقَاضِي إِسْمَاعِيل فِي مَبْسُوطِه فِي باب فضل مسجد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَالْعُلَمَاء كُلُّهُم مُتَّفِقُون أَنّ حُكْم سَائِر الْمَسَاجد هَذَا الحُكُم، قَال الْقَاضِي إِسْمَاعِيل وَقَال مُحَمَّد بن مَسْلَمَة وَيُكْرَه فِي مَسْجِد الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الْجهْر عَلَى الْمُصَلّين فِيمَا يُخَلّط عَلَيْهِم صَلاتهُم وَلَيْس مِمَّا يُخَصّ بِه الْمَسَاجِد رَفْع الصوت وَقَد كَرِه رَفْع الصَّوْت بالتَّلْبِيَة فِي مَسَاجِد الْجَمَاعَات إلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِدنَا وَقَال أَبُو هُرَيْرَة عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَي هَذَا الاستثناء على اختلفاهم فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَذَهَبَ مَالِكٌ في رواية أشْهَب عَنْه وقاله ابن نافه صاحِبُه وجماعة أصحابه إِلَى أن مَعْنَي الْحَدِيث أَنّ الصَّلَاة فِي مسجد الرَّسُول أفضل مِن الصلاة في سائر المساجد بألف

_ (قوله لَو كُنْت من هاتين القريتين) يريد مكة والمدينة (قوله الْقَاضِي إِسْمَاعِيل فِي مبسوطه) هو ابن اسحاق بن اسماعيل بن حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ الأزدي مولاهم البغدادي المالكى توفى فجاءه سنة اثنين وثمانين ومائتين (قوله إِلَى أن مَعْنَي الْحَدِيث أَنّ الصَّلَاة فِي مسجد الرسول إلى آخره) قيل يرد هذا التأويل ما في مسند أحمد من حديث عبد الله ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هذا أفضل مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفْضَل مِن مائة صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هذا) قال حديث حسن (*)

صَلَاة إلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام فَإِنّ الصَّلَاة فِي مسجد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أفْضَل مِن الصَّلَاة فِيه بِدُون الألْف، وَاحْتَجُوا بِمَا روي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عَنْه (صَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام خَيْر من مِائَة صَلَاة فِيمَا سِوَاه فَتَأْتِي فَضِيلَة مسجد الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِتِسْعمِائَة وَعَلَى غَيْرِه بِألْف وهذا مَبْنِيّ عَلَى تَفْضِيل الْمَدِينَة عَلَى مكة عَلَى مَا قَدَّمْنَاه وَهُو قَوْل عُمَر بن الْخَطَّاب ومالك وَأكْثَر الْمَدنيّين وَذَهَب أَهْل مَكَّة وَالْكُوفَة إِلَى تَفْضَيل مَكَّة وَهُو قَوْل عَطَاء وَابْن وَهْب وَابْن حَبِيب من أصْحَاب مَالِك وَحَكاه البَاجِيّ عَن الشَّافِعِيّ وَحَمَلُوا الاسْتِثْنَاء فِي الْحَدِيث المُتَقدّم عَلَى ظَاهِرِه وَأَنّ الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفْضَل وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَبْد اللَّه بن الزُّبَيْر عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِمِثْل حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَفِيه (وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أفْضَل مِن الصَّلَاة فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَة صَلَاة) * وَرَوَى قَتَادَة مِثْلَه، فَيَأْتِي فَضْل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام عَلَى هَذَا عَلَى الصَّلَاة فِي سَائِر الْمَسَاجِد بِمِائَة ألف وَلَا خِلَاف أن مَوْضع قَبْرِه أفْضَل بِقَاع الْأَرْض، قَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيد الباجيّ: الَّذِي يَقْتَضِيه الْحَدِيث مُخَالفَة حَكْم مَسْجِد مَكَّة لِسَائِر الْمَسَاجِد وَلَا يُعْلَم مِنْه حُكْمُهَا مَع الْمَدِينَة، وَذَهَب الطَّحَاويّ إِلَى أَنّ هذا التفضيل إنَّمَا هُو فِي صَلَاة الفَرْض، وذَهَب مُطَرّف من أصْحَابِنَا إِلَى أَنّ ذَلِك فِي النَّافِلَة أيْضًا قَال وَجُمُعَةٌ خَيْر من جُمُعَة وَرَمَضَان خَيْر من رَمَضَان وَقَد ذَكَر عَبْد الرَّزَّاق فِي تَفْضِيل رمضان بِالْمَدِينَة وَغَيْرِهَا حديثًا نَحْوَه وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَا بَيْنَ بيتى ومنبرى

_ (قوله وحكاه الباجى) هو الحافظ أبو يحيى زكريا بن يحيى العتبى البصري، أخذ الأشعري عنه مقالة أهل الحديث (*)

رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) ومثله عَن أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي سَعِيد وَزَاد (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) وَفِي حَدِيث آخَر (مَنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ) قَال الطَّبَرِيّ فِيه مَعْنَيَان أحَدُهُمَا أَنّ المُرَاد بِالْبَيْت بَيْت سُكْنَاه عَلَى الظَّاهِر مَع أنَّه رُوِي مَا يُبَيِّنُه (بَيْنَ حُجْرَتِي وَمِنْبَرِي) والثَّاني أَنّ البَيْت هنا القَبْر وَهُو قَوْل زَيْد بن أسْلَم فِي هَذَا الْحَدِيث كَمَا رُوِي بَيْن قَبْرِي وَمِنْبَرِي، قَال الطَّبَرِيّ وَإذَا كَان قَبْرُه فِي بَيْتِه اتَّفَقَت مَعَانِي الرّوَايات وَلَم يَكُن بَيْنَهَا خِلَاف لِأَنّ قَبْرَه فِي حُجْرَتِه وَهُو بَيْتُه، وَقَوْلُه (وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي) قِيل يَحْتَمِل أنَّه مِنْبَرُه بِعَيْنِه الَّذِي كَان فِي الدُّنْيَا وَهُو أظْهَر وَالثَّانِي أَنْ يَكُون لَه هناك مِنْبَر وَالثَّالث أَنّ قَصْد مِنْبَرِه وَالْحُضُور عِنْدهُ لملازمة الأعمال الصلالحة يُورد الْحَوْض وَيُوجب الشُّرْب مِنْه قَالَه البَاجِيّ، وَقَوْلُه (رَوْضَة من رِيَاض الْجَّنة) يَحْتَمِل معْنَيَيْن أحَدُهُمَا أنَّه مُوجِب لِذَلِك وَأَنّ الدُّعَاء وَالصَّلَاة فِيه يَسْتَحِقّ ذَلِك مِن الثَّوَاب كَمَا قِيل: الْجَّنة تحت ظلال السيوف والثانى أَنّ تِلْك البُقْعَة قَد يَنْقُلُهَا اللَّه فَتَكُون فِي الْجَّنة بِعَيْنَهَا، قَالَه الدَّاوُديّ * وَرَوَى ابن عُمَر وَجَمَاعَة مِن الصَّحَابَة أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال فِي الْمَدِينَة (لَا يَصْبِرُ عَلَى لأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَقَالَ فَيمَنْ تَحَمَّلَ عَنِ الْمَدِينَةِ (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وَقَال (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا) وَقَال (لَا يَخْرُجُ

_ (قوله على لأوائها) أي شتائها وصيفها (قوله شفيعا أو شهيدا) أي شفيعا لبعضهم أو شهيدا لبعضهم، فأو: هنا للتقسيم وليس للشك من الراوى لأنه رواه عدة من الصحابة بهذا اللفظ (قوله كالكير) قال ابن الأثير: كير الحداد هو المبنى من الطين وقيل الزق الذى ينفخ به النار، والمبنى من الطين: الكور (*)

أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْه. وَرُوي عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ) وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ (بُعِثَ مِنَ الآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا) * وَقَال تَعَالَى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا) إِلَى قَوْلِهِ: (آمِنًا) قَال بَعْض الْمُفَسِّرِين آمِنًا مِن النَّار وَقِيل كَان يَأْمَن مِن الطَّلَب من أحْدَث حَدَثًا خَارجًا عَن الْحَرَم وَلَجَأ إليْه فِي الْجَاهِلِيَّة. وَهَذَا مِثْل قَوْلِه: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) على قوله بَعْضِهِمْ * وَحُكِي أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا سَعْدُون الْخَوْلانِيّ بِالْمُنَستير فَأَعْلَمُوه أَنّ كُتَامَة قَتَلُوا رَجُلًا وَأضْرَمُوا عَلَيْه النَّار طُول اللَّيْل فَلَم تَعْمَل فِيه شَيْئًا وَبَقِي أبْيَض الْبَدَن فَقَال: لَعَلَّه حَجّ ثَلَاث حِجَج؟ قَالُوا نَعَم، قَال حُدِّثْتُ أَنَّ مَنْ حَجَّ حَجَّةً أَدَّى فَرْضَهُ وَمَنْ حَجَّ ثَانِيَةً دَايَنَ رَبَّهُ، وَمَنْ حَجَّ ثَلاثَ حِجَجٍ حَرَّمَ اللَّهُ شَعَرَهُ وَبَشَرَهُ عَلَى النَّارِ، وَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ: (مَرْحَبًا بِكَ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكَ وَأَعْظَمَ حُرْمَتِكَ) وَفِي الْحَدِيث عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) وَكَذَلِك عِنْدَ الْمِيزَابِ، وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الآمِنِينَ) قال الفقيه

_ (قوله سعدون) بفتح السين المهملة، والقياس صرفه وصرف حمدون، وقد وقعا في كتب الحديث المعتمدة غير مصروفين (قوله بالمنستير) بميم مضمومة فنون مفتوحة فسين مهملة ساكنة فمثناة فوقية مكسورة: مكان بالقيروان (*)

القاضي أبو الفضل فرأت على القاضى الحافظى أَبِي عَلِيّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْعُذْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ محمد الْهَرَوِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابن رَشِيقٍ سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ سَمِعْتُ الْحُمَيْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (مَا دَعَا أحد شئ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ) قَال ابن عباس وأنا فما دعوت الله شئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استجيب لي، وقال عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ وأنا فما دعوت الله تعالى بشئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابن عباس إلَّا اسْتُجِيب لِي، وقال سفيان وأنا فما دعوت الله بشئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من عَمْرو إلَّا استجيب لي، قَال الْحُمَيْدِيّ وَأَنَا فَمَا دعوت الله شئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من سُفْيَان إلَّا اسْتُجِيب لِي، وَقَال مُحَمَّد بن إدريس وأنا فما دعوت الله بشئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا مِن الْحُمَيْدِيّ إلَّا اسْتُجِيب لِي، وَقَال أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بن الْحَسَن وَأَنَا فَمَا دَعَوْت اللَّه بشئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من مُحَمَّد بن إدريس إلَّا استجِيب لِي: قَال أَبُو أُسَامَة وَمَا أذكُر الْحَسَن بن رَشِيق قَال فِيه شَيْئًا وَأَنَا فَمَا دعوت اللَّه بشئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا مِن الْحَسَن بن رشيق إلَّا استجيب لِي من أمْر الدُّنْيَا وَأَنَا أرْجُو أن يُسْتَجَاب لِي من أمْر الآخِرَة قَال العُذْرِيّ وَأَنَا فَمَا دعوت الله بشئ في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أَبِي أُسَامَة إلَّا استجيب لِي قَال أَبُو عَلِيّ وَأَنَا فَقَد دَعَوت اللَّه فِيه بِأشْيَاء كثيرة استجيب

_ (قوله الملتزم) هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، قال الأزرقي هو قدر أربعة أذرع، سمى بذلك لان الناس يلتزمونه في الدعاء (*)

القسم الثالث فيما يجب للنبى صلى الله عليه وسلم وما يستحيل في حقه

لِي بَعْضُهَا وأنا أرْجُو من سِعَة فَضْلِه أَنْ يَسْتَجِيب لِي بَقِيَّتَهَا، قَال الْقَاضِي أَبُو الفضل ذَكَرْنَا نُبَذًا من هذه النّكَت فِي هَذَا الْفَصْل وَإِنْ لَم تَكُن مِن الْبَاب لتملقها بالْفَصْل الَّذِي قَبْلَه حرْصًا عَلَى تَمَام الفَائِدة والله المُوَفَّق لِلصّوَاب بِرَحْمَتِه الْقَسَم الثالث فِيمَا يَجب للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمَا يَسْتَحِيل فِي حَقّه أَو يَجُوز عَلَيْه وَمَا يَمْتَنِع أَو يَصِحّ مِن الأحْوَال البَشَرِيّة أن يضاف إليه: قال اللَّه تَعَالَى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ حلت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفائن مات أو قتل) الآية، وقال تعالى (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطعام) وَقَال (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق) وَقَال تَعَالَى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) الآيَةَ فَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَسَائِر الْأَنْبِيَاء مِن البشر أرسلوا إلى البَشَر وَلَوْلَا ذَلِك لَما أطَاق النَّاس مُقَاوَمَتَهُم وَالقَبُول عَنْهُم وَمُخَاطَبَتَهُم قَال اللَّه تَعَالَى) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا) أَي لَما كَان إلا في صُورَة البَشَر الذين يُمْكِنُكُم مُخَالَطَتُهُم إذ لَا تُطِيقُون مُقَاوَمَة الملك ومحاطبته وَرُؤْيَتِه إذَا كَان عَلَى صُورَتِه، وَقَال تَعَالَى (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا) أَيْ لَا يُمْكِن فِي سُنَّة اللَّه إرْسَال المَلَك إلَّا لِمَن هُو من جِنْسِه أَو من خصه الله تعالى واصطفاه وفواه عَلَى مُقَاوَمَتِه كَالْأَنْبِيَاء والرسل فالأنبياء وَالرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَسَائِط بَيْن اللَّه تَعَالَى وبين

خنقه يُبَلّغُونَهُم أوَامِرَه وَنَواهِيه وَوَعْدَه وَوَعِيدَه وَيُعَرِّفُونَهُم بِمَا لَم يَعْلَمُوه من أمره وحلقه وَجَلالِه وَسُلْطَانِه وَجَبَرُوتِه وَمَلَكُوتِه فَظَوَاهِرُهُم وَأَجْسَادُهُم وَبِنْيَتُهُم مُتَّصفَة بِأَوْصَاف الْبَشَر طَارِئ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأ عَلَى البشر من الأعراض وَالْأسْقَام وَالْمَوْت وَالفَنَاء وَنُعُوت الإنْسَانِيّة وَأرْوَاحُهُم وَبَواطِنُهُم مُتّصِفَة بِأَعْلَى من أَوْصَاف الْبَشَر مُتَعَلّقَة بِالْمَلإ الْأَعْلَى مُتَشَبِّهَة بِصِفَات الْمَلَائِكَة سَلِيمَة مِن التَّغَيُّر والآفات لا يلحفها غَالِبًا عَجْز الْبَشَريَّة وَلَا ضَعْف الإنْسَانِيَّة إِذ لَو كَانَت بواطنهم خالصة للبشيرة كَظَوَاهِرِهِم لَما أطَاقُوا الْأخْذ عَن الْمَلَائِكَة وَرُؤْيَتَهُم ومخاطبتهم ومخالتهم كَمَا لَا يُطِيقُه غَيْرهم مِن الْبَشَر وَلَو كَانَت أجْسَادُهُم وَظَوَاهِرُهُم مُتّسمة بِنُعُوت الْمَلَائِكَة وَبِخِلَاف صِفَات الْبَشَر لَما أطَاق الْبَشَر وَمن أُرْسِلُوا إليْه مُخَالطَتَهُم كَمَا تَقَدَّم من قول اللَّه تَعَالَى. فَجُعِلُوا من جهة الْأجْسَام وَالظَّوَاهِر مَع الْبَشَر وَمِن جِهَة الْأَرْوَاح وَالْبَوَاطِن مَع الْمَلَائِكَة، كَمَا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (لَو كُنْت مُتَّخِذًا من أُمَّتِي خَلِيلًا لاتَّخَذْت أَبَا بكر خليلا ولكن أحوة الْإسْلام لَكِن صَاحِبُكُم خَلِيل الرَّحْمن) وكما قَال (تام عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) إنّي لَسْت كَهَيْئَتِكُم إنّي أظَلّ يُطْعِمُني رَبّي وَيُسْقِيني فَبَوَاطنُهُم مُنزَّهَة عَن الآفات مُطَهَّرَة عَن القائص والاعتلالات، وهذا جُمْلَة لَن يَكْتَفَي بِمَضْمُونهَا كُلّ ذي هِمَّة بَل الْأَكْثَر يَحْتاج إِلَى بَسْط وتفضيل عَلَى مَا نَأْتِي بِه بَعْد هَذَا فِي الْبَابَيْن بَعَوْن اللَّه تَعَالَى وَهُو حَسبي وَنِعْم الوكيل

_ (قوله إنى أظل) بفتح الظاء المعجمة (قوله يطعمنى) قيل على ظاهره وإطعام أهل الجنة لا يفطر وقيل معناه يجعله في قوة الطاعم والشارب (*)

الباب الأول فيما يختص بالأمور الدينية والكلام في عصمة نبينا عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم

الْبَاب الأَوَّل فِيمَا يَخْتَصّ بِالْأُمُور الدَّينِيَّة والْكَلَام فِي عِصْمَة نَبِيّنَا عَلَيْه الصَّلَاة والسَّلَام وسائِر الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِم: قَال الْقَاضِي أبو الفضل وَفَّقَه اللَّه: اعْلَم أن الطّوَارِئ مِن التَّغَيُّرَات وَالآفَات عَلَى آحَاد الْبَشَر لَا يَخْلُو أَن تَطْرَأ عَلَى جِسْمِه أو عَلَى حَوَاسّه بِغَيْر قَصْد وَاخْتِيار كَالْأَمْرَاض وَالْأسْقَام أَو تَطْرَأ بقصد واحتيار وَكُلُّه فِي الْحَقِيقَة عَمَل وَفِعْل وَلكِن جَرَى رَسْم الْمَشَايخ بَتَفْصِيلِه إِلَى ثَلَاثَة أنْوَاع: عَقْد بِالْقَلْب وَقَوْل باللّسَان وَعمَل بِالْجَوَارِح وَجَميع الْبَشَر تَطْرَأ عَلَيْهِم الآفَات والتغيرات بالاحتيار وَبِغَيْر الاخْتِيَار فِي هَذِه الوُجُوه كُلّهَا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وإن كَان مِن الْبَشَر ويجوز على جبله يَجُوز عَلَى جِبِلَّة الْبَشَر فَقَد قَامَت الْبَرَاهِين القاطعة ونمت كَلْمَة الْإجْماع عَلَى خُرُوجِه عَنْهُم وَتَنَزْيِهه عَن كَثِير مِن الآفَات التي تَقَع عَلَى الاخْتِيار وَعَلَى غَيْر الاخْتيار كَمَا سَنبّيَّنُه إن شَاء اللَّه تَعَالَى فِيمَا نَأتِي بِه مِن التّفَاصِيل فصل فِي حكم عقد قلب النَّبِيّ صَلَّى الله عليبه وَسَلَّم من وقت نبوته اعْلَم مَنَحَنَا اللَّه إياك تَوْفِيقَه أنّ مَا تَعَلَّق مِنْه بِطَرِيق التَّوْحِيد وَالْعِلْم بِالله وَصِفَاتِه وَالْإِيمَان بِه وَبِمَا أُوحِي إليْه فَعَلَى غَايَة الْمَعْرِفَة وَوُضُوح الْعِلْم وَاليِقِين وَالانْتِفَاء عَن الْجَهْل شئ من ذَلِك وَالشَّكّ أَو الرّيْب فِيه. العصمة من كُلّ مَا يُضَاد الْمَعْرِفَة بِذَلِك وَالْيَقين، هذا ومع إجْمَاع المسلمين عَلَيْه، وَلَا يَصِحّ بِالْبَرَاهِين الْوَاضِحَة أن يَكُون فِي عُقُود الْأَنْبِيَاء سواه وَلَا يعترص عَلَى هَذَا بِقَول إِبْرَاهِيم عَلَيْه [7 - 2]

السَّلَام قَال بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي، إِذ لَم يَشُكّ إبْرَاهِيم فِي إخْبَار اللَّه تَعَالَى لَه بِإحْيَاء الْمَوْتَى وَلكِن أرَاد طُمَأْنِينَة الْقَلْب وَتَرْك الْمُنَازَعَة لِمُشَاهَدَة الْإحْيَاء فَحَصَل لَه الْعِلْم الأَوَّل بِوُقُوعِه وَأرَاد الْعِلْم الثَّانِي بِكَيْفِيَّتِه وَمُشَاهَدَتِه * الْوَجْه الثَّانِي أَنّ إبْرَاهِيم عَلَيْه السَّلَام إِنَّمَا أراد احتبار مَنْزِلَتِه عِنْد رَبّه وَعِلْم إِجَابَتِه دَعْوَتَه بِسُؤَال ذَلِك من رَبّه ويَكُون قَوْله تعالى (أو لم تؤمن) أي تُصَدّق بِمَنْزِلَتِك مِنّي وَخُلَّتِك وَاصْطِفَائِك * الْوَجْه الثالث أنَّه سَأل زِيَادَة يَقِين وَقُوَّة طُمَأْنِينَة وَإِنّ لَم يَكُن فِي الأَوَّل شَكّ إِذ الْعُلُوم الضَّرُورِيَّة والنَّظَرِيّة قَد تَتَفَاضَل فِي قُوَّتِهَا، وَطَرَيَان الشُّكُوك عَلَى الضَّرُورِيَّات مُمْتَنِع ومُجَوَّز فِي النَّظَرِيَّات، فَأرَاد الانْتِقَال مِن النظر أو الخير إلى مشاهدة وَالتَّرَقّي من عِلْم الْيَقِين إِلَى عَيْن اليقين فليس الْخَبَر كَالْمُعَاينة، ولهذا قَال سَهْل بن عَبْد اللَّه سَأل كَشْف غِطَاء الْعِيَان لِيَزْدَاد بِنُور الْيَقِين تَمَكُّنًا فِي حَالِه * الْوَجْه الرابع أنَّه لَمّا احْتَجّ عَلَى المُشْرِكِين بأنّ رَبَّه يُحْيِي وَيُمِيت طَلَب ذَلِك من رَبّه لِيَصِحّ احْتِجَاجُه عِيَانًا * الوجه الخامس قول بَعْضهم هُو سُؤال عَلَى طَرِيق الْأَدَب، المراد أقْدِرْني عَلَى إحْيَاء الْمَوْتَى، وَقَوْلُه لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي عن هَذِه الْأُمْنِية * الْوَجْه السادس أنَّه أرَى من نَفْسِه الشَّكّ وَمَا شَكّ لكِن لِيُجَاوَب فَيزْدَاد قُرْبُه وقول نبِينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم نَحْن أحَقّ بالشَّكّ من إبْرَاهِيم نَفْي لِأَن يَكون إبْرَاهِيم شَكّ وإبْعَاد للخواطر الضعفية أن تَظُنّ هَذَا بِإبْرَاهِيم أَي نَحْن مُوقِنُون بِالْبَعث وَإحْيَاء الله موتى، فلو شَكّ إبْرَاهِيم لكنَّا أوْلى بالشَّكّ مِنْه إِمَّا عَلَى طريق الأدب

_ (قوله فليس الْخَبَر كَالْمُعَاينة) روى أحمد في مسنده عن ابن عباس مرفوعا: ليس الخبر كالمعاينة. (*)

أَو أن يُرِيد أمَّتَه الذين يَجُوز عَلَيْهِم الشك أَو عَلَى طَرِيق التَّوَاضُع وَالإشْفَاق أن حُمِلَت قِصَّة إبْرَاهِيم عَلَى اختيار حَالِه أو زِيادَة يَقِينه * فَإِنّ قُلْت فَمَا معني قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يقرؤن الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) الآيَتَيْنِ - فَاحْذَرْ ثَبَّتَ اللَّه قَلْبَك أن يَخْطُر بِبَالِك مَا ذَكَرَه فِيه بَعْض الْمُفَسّرِين عَن ابن عَبَّاس أَو غَيْرِه من إثْبَات شَكّ لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِيمَا أُوحِي إليْه وَأنَّه مِن البَشَر، فَمِثْل هَذَا لَا يَجُوز عَلَيْه جُمْلَة بَل قَد قَال ابن عَبَّاس لَم يَشُكّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَم يَسْأل، وَنَحْوَه عَن ابن جُبَيْر والحسن، وَحَكَى قَتَادَة أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال مَا أشُكّ وَلَا أَسْأل، وَعَامَّة الْمُفَسّرِين عَلَى هذا، واخْتَلَفُوا فِي مَعْنَي الآيَة فَقِيل المُرَاد قُل يَا مُحَمَّد لِلشاكّ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شك) الآيَة، قَالُوا وَفِي السُّورَة نَفْسِهَا مَا دَلّ عَلَى هذا التَّأْويل: قَوْله (قُلْ يا أيها الانس إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الآيَة، وَقِيل المُرَاد بالخطاب العرب وغير النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عملك) الآية، الخطاب لَه وَالمُرَاد غَيْره ومِثْلُه (فَلا تَكُ فِي مربة مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ) وَنَظِيرُهُ كَثِير، قَال بَكْر بن الْعَلَاء أَلَا تراه يقوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) الآية وهو صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان المُكَذَّب فِيمَا يَدْعُو إليْه فَكَيْف يَكُون مِمَّن كَذَّب بِه؟ فَهَذَا كُلُّه يَدُلّ عَلَى أَنّ المُرَاد بِالْخِطَاب غَيْره وَمِثْل هَذِه الآيَة قَوْله (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خبيرا) المَأْمُور هَهُنَا غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِيَسْأل النَّبِيّ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم هُو الخبير المَسْئول لَا المُسْتَخْبر السَّائِل وَقَال إن هَذَا الشَّكّ الَّذِي أُمِر بِه غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِسُؤال الذين يقرؤن الْكِتَاب إنَّمَا هُو فِيمَا قَصَّه اللَّه من أخْبَار الْأُمَم

لَا فِيمَا دَعَا إليْه مِن التَّوْحِيد وَالشَّرِيعَة وَمِثْل هَذَا قَوْله تَعَالَى (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) الآيَة المُرَاد بِه المُشْرِكُون وَالخِطَاب مُوَاجهَة لِلنَّبِيّ صلى الله وسلم قاله العتبى، وَقِيل مَعْنَاه سلْنَا عَمَّن أَرْسَلْنَا من قَبْلِك فَحُذِف الخَافِض وَتَمّ الكَلَام ثُمّ ابدأ (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرحمن) إِلَى آخر الآيَة عَلَى طَرِيق الإنْكَار أَي مَا جَعَلنا، حَكاه مَكّيّ، وَقِيل أُمِر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أن يَسْأل الْأَنْبِيَاء ليلة الْإِسْرَاء عَن ذَلِك فَكَان أشَدّ يَقِينًا من أَنّ يَحْتَاج إِلَى السُّؤَال فَرُوِي أَنَّه قَال (لَا أسْأل قَد اكفيت) قاله ابن زَيْد، وَقِيل سَل أُمَم من أرْسَلْنَا هَل جاؤهم بِغَيْر التَّوْحِيد؟ وَهُو مَعْنَي قَوْل مُجَاهِد وَالسُّدّيّ وَالضّحَّاك وَقَتَادَة وَالمُرَاد بِهَذَا وَالَّذِي قَبْلَه إعْلامُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِمَا بُعثِت بِه الرسل وَأنَّه تَعَالَى لَم يَأْذَن فِي عِبَادَة غَيْرِه لأحَد رَدًّا عَلَى مُشْرِكِي العَرَب وَغَيْرِهِم فِي قَوْلِهِم: إنَّمَا نَعْبُدُهُم ليقربو إلى الله زلفى، وكذلك قَوْله تَعَالَى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الممترين) أَي فِي عِلْمِهِم بِأنَّك رَسُول اللَّه وَإن لَم يُقرّوا بِذَلِك وَلَيْس المُرَاد بِه شَكَّه فِيمَا ذُكر فِي أوَّل الآيَة وَقَد يَكُون أيْضًا عَلَى مِثْل مَا تَقَدَّم أَي قُل يَا مُحَمَّد لِمَن امْتَرَى فِي ذَلِك لَا تَكُونَنّ مِن المُمْتَرِين بِدَلِيل قَوْله أَوَّل الآيَة: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حكما) الآيَة: وَأَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُخَاطِب بِذَلِك غيره وقيل

_ (قوله قال القتيبى) وفى بعض النسخ القتبى وكلاهما أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة صاحب المصنفات (قوله إنَّمَا نَعْبُدُهُم لِيُقَرّبُونا إلى الله زلفى) هكذا وقع في كثير من الأصول والتلاوة إنما هي * (ما نعبدهم إلا لِيُقَرّبُونا إِلَى اللَّه زلفى) * وحكي عن أبي عبيد هو معمر بن المثنى (*)

هُو تَقْرِير كَقَوْلِه (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟) وَقَد عَلِم أنَّه لَم يَقُل، وَقِيل مَعْنَاه مَا كُنْت فِي شَكّ فَاسْأل تَزْدَد طُمَأْنِينَة وَعِلْمًا إِلَى عِلْمِك وَيَقِينِك، وَقِيل إن كُنْت تَشُكّ فِيمَا شَرَّفْنَاك وَفَضَّلْنَاك بِه فَاسْأَلْهُم عَن صِفَتِك فِي الْكُتُب وَنَشْر فَضَائِلِك، وَحُكِي عَن أَبِي عُبَيْدة أَنّ المُرَاد إنّ كُنْت فِي شَكّ من غَيْرِك فيما أنزلنا. فَمَا مَعْنَي قَوْله (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قد كذبوا) عَلَى قِرَاءَة التَّخَفِيف؟ قُلْنَا الْمَعْنَى فِي ذَلِك مَا قَالَتْه عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا (مَعَاذَ اللَّه أَن تَظُنّ ذَلِك الرُّسُل بِرَبّهَا وَإِنَّمَا مَعْنَي ذَلِك أَنّ الرُّسُل لَمّا اسْتَيْأَسُوا ظَنُّوا أَنّ من وَعَدَهُم النَّصْر من أتْبَاعِهِم كَذَبُوهُم وَعَلَى هَذَا أكْثَر الْمُفَسّرِين) وَقِيل إنّ ضَمِير (ظنوا) عائد على الأتباع والأمم لا عَلَى الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل، وَهُو قَوْل ابن عَبَّاس وَالنَّخْعِي وَابْن جُبَيْر وَجَمَاعَة مِن الْعُلمَاء وَبَهَذَا الْمَعْنَى قَرَأ مُجَاهِد كَذَبُوا بِالْفَتْح فَلَا تَشْغَل بَالَك من شَاذّ التَّفْسِير بِسِوَاه مِمَّا لَا يلق بِمَنْصِب الْعُلمَاء فَكَيْف بالْأَنْبِيَاء؟ وَكَذَلِك مَا وَرَد فِي حَدِيث السّيرة وَمَبْدَإ الْوَحْي من قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِخديجَة (لَقَد خَشِيت عَلَى نَفْسِي) لَيْس مَعْنَاه الشَّك فِيمَا آتاه اللَّه بَعْد رُؤْيَة المَلك وَلكِن لَعَلَّه خَشِي أن لَا تَحْتَمِل قُوَّتُه مُقَاوَمَة الْمَلَك وَأَعْبَاء الْوَحْي فَيَنْخَلِع قَلْبُه أَو تَزْهَق نَفْسُه، هَذَا عَلَى مَا وَرَد فِي الصَّحِيح أنَّه قَالَه بَعْد لِقَائِه المَلَك أَو يَكُون ذَلِك قَبْل لِقَائِه وَإعْلَام اللَّه تَعَالَى لَه بالنُّبُوَّة لَأوّل مَا عُرضَت عَلَيْه مِن الْعَجَائِب وَسَلَّم عَلَيْه الْحَجَر وَالشَّجَر وَبَدَأتْه المَنَامَات وَالتَّبَاشِير كَمَا رُوِي فِي بَعْض طُرُق هَذَا الْحَدِيث أَنّ ذَلِك كَان أوَّلًا فِي المَنَام ثُمّ أُري فِي الْيَقَظَة مِثْل ذَلِك تَأْنِيسًا له عليه السَّلَام لِئَلَّا يَفْجَأه الأمْر مُشَاهَدَة وَمُشَافَهَة فَلَا يحتمل لَأوّل حَالَة بِنْيَة الْبَشَرِيَّة وَفِي الصَّحِيح

عَن عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا: أَوَّل مَا بُدَئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، قَالَتْ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَقَالَتْ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ (الْحَدِيث) وَعَن ابن عَبَّاس: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ وَلَا يَرَى شَيْئًا وَثَمَانِ سِنينَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَذَكَرَ جِوَارَهُ بِغَارِ حِرَاءٍ، قَالَ (فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟) وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي غَطِّهِ لَهُ وَإقْرَائِهِ لَهُ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) السُّورَة قَال: (فَانْصَرَف عَنّي وَهَبَبْت من نَوْمِي كَأَنَّمَا صُوّرَت فِي قَلْبي وَلَم يَكُن أبْغَض إِلَيّ من شَاعِر أو مَجْنُون، قُلْت لَا تَحَدّث عني قُرَيْش بهذا أبَدًا لأعْمِدَنّ إِلَى حَالِق مِن الجَبَل فَلأطْرَحَنّ نفسي سنة فَلأَقْتُلَنَّهَا: فَبَيْنَا أَنَا عَامِد لِذَلِك إِذ سَمِعْت مُنَاديًا يُنَادي مِن السَّمَاء يَا مُحَمَّد أنْت رَسُول اللَّه وَأَنَا جِبْرِيل فَرَفَعْت رَأْسِي فإذا جِبْرِيل عَلَى صُورَة رَجُل - وَذَكَر الْحَدِيث) فَقَد بَيَّن فِي هَذَا أَنّ قَوْلَه لَمّا قَال وَقَصْدَه لَمّا قَصَد إنَّمَا كَان قَبْل لِقَاء جِبْرِيل عَلَيْهَمَا السَّلَام وقيل إعلام الله تعالى له

_ (قوله بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سنة) هذا يتأنى على القول المرجوح وهو أنه عليه السلام عاش خمسا وستين سنة والصحيح أنه عاش ثلاثا وستين سنة، أقام منها بعد النبوة بمكة ثلاثة عشر سنة على الصحيح وفى المدينة عشرا بلا خلاف (قوله جواره) بكسر الجيم وضمها أي ملازمته واعتكافه (قوله وَهَبَبْت من نَوْمِي) انتهيت (قوله لا تحدث) بفتح المثناة الفوقية وأصله تتحدث فحذف منه إحدى التاءين (قوله لأعمدن) بكسر الميم أي لأقصدن (قوله إلى حالق) بالحاء المهملة واللام المكسورة والقاف، قال الهروي: أي جعل عال (*)

بالنُّبُوَّة وَإظْهَارِه وَاصْطِفَائِه لَه بالرّسَالَة وَمِثْلُه حَدِيث عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيل أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال لِخَدِيجَة (إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يكون هذا لِأَمْرٌ) وَمِنْ رِوَايَة حَمَّاد بن سَلَمَة أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال لخدِيجة: إني لأَسْمَع صَوْتًا وَأَرَى ضَوْءًا وَأخْشَى أَنّ يَكُون بي جُنُون وعلى هذا يتأول لو صح قوله فِي بَعْضِ هَذِهِ الأحاديث إن الأبعد شَاعِر أو مَجْنُون وَألْفَاظًا يُفْهَم مِنْهَا مَعَانِي الشك فِي تَصْحِيح مَا رَآه وَأنَّه كَان كُلُّه فِي ابْتِدَاء أمْرِه وَقَبْل لِقَاء الْمَلَك لَه وَإعْلام اللَّه لَه أنَّه رسولُه فَكَيْف وَبَعْض هَذِه الألْفَاظ لَا تَصِحّ طُرُقُهَا، وَأَمَّا بَعْد إعْلَام اللَّه تَعَالَى لَه وَلِقَائِه الْمَلَك فَلَا يَصِحّ فِيه رَيْب وَلَا يَجُوز عَلَيْه شَكّ فيمَا أُلْقِي إليْه وَقَد رَوَى ابن إِسْحَاق عَن شُيُوخِه أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَان يُرْقَى بِمَكَّة مِن الْعَيْن قَبْل أن يُنْزَل عَلَيْه فَلَمّا نَزَل عَلَيْه الْقُرْآن أصَابَه نَحْو مَا كَان يُصِيبُه فَقالت لَه خدِيجة أُوَجّه إِلَيْك من يَرْقيك قَال أَمَّا الآن فَلَا، وَحَدِيث خديجة وَاخْتِبَارُها أمْر جِبْرِيل بِكَشْف رَأْسهَا (الْحَدِيث) إنَّمَا ذَلِك فِي حَقّ خَدِيجَة لتحقق صحَّة نُبُوَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأَنّ الَّذِي يَأْتِيه مَلَك وَيَزُول الشَّكّ عَنْهَا لِأَنّهَا فَعَلَت ذَلِك لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلِيَخْتَبِر هُو حَاله بِذَلِك بَل قَد وَرَد فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن عُرْوَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة أَنّ وَرَقَة أمَر خَديجة أن تُخْبِر الأمْر بِذَلِك، وَفِي حَدِيث إِسْمَاعِيل ابن أَبِي حكيم أنَّهَا قَالَت لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَا ابن عمّ هَل

_ (قوله عمرو بن شرحبيل) هو أبو ميسرة الهمداني (*)

تَسْتَطِيع أن تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك إذَا جَاءَك؟ قَال نَعَم فَلَمّا جَاء جِبْرِيل أخْبَرَهَا فَقَالَت لَه اجْلِس إِلَى شقّي، وَذَكَر الْحَدِيث إِلَى آخرِه وَفِيه فَقَالَت مَا هَذَا بِشَيْطَان هَذَا الْمَلَك يَا ابن عمّ فَاثْبُت وَأبْشِر، وَآمَنَت بِه، فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أنَّهَا مُسْتَثْبِتَة بِمَا فَعَلَتْه لِنَفْسِهَا وَمُسْتَظهِرَة لإيمَانِهَا لَا لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وقول مَعْمَر فِي فَتْرَة الْوَحْي فَحَزِن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِيمَا بلغناه حُزْنًا غَدَا مِنْه مِرَارًا كَي يَتَرَدَّى من شَوَاهِق الْجِبَال: لَا يَقْدَح فِي هَذَا الأصْل، لِقول مَعْمَر عَنْه فِيمَا بلغنا ولم يسده وَلَا ذَكَر رُوَاتَه ولا من حَدَّث بِه وَلَا أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَالَه وَلَا يُعْرَف مِثْل هَذَا إلَّا من جِهة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَع أنَّه قَد يُحْمَل عَلَى أنه كَان أَوَّل الأمْر كَمَا ذَكَرْنَاه أَو أنَّه فَعَل ذَلِك لَمّا أخَْرَجَه من تَكْذِيب من بَلَّغَه كَمَا قال تَعَالَى. (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحديث أسفا) وَيُصَحّح مَعْنَي هَذَا التّأوِيل حَدِيث رواه شَرِيك عَن عَبْد اللَّه بن مُحَمَّد بن عَقِيل عَن جَابِر بن عَبْد اللَّه أنّ الْمُشْرِكِين لَمّا اجْتَمَعُوا بِدَار النَّدْوَة لِلتَّشاوُر فِي شَأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَاتَّفَق رَأْيُهُم عَلَى أن يَقُولُوا إنَّه سَاحِر اشْتَدّ ذَلِك عَلَيْه وَتَزَمَّل فِي ثِيَابه وَتَدَثَّر فِيهَا فَأتَاه جِبْرِيل فَقَال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر) أو خاف

_ (قوله مُحَمَّد بن عَقِيل) بفتح العين المهملة ابن علي بن أبي طالب (قوله بدار الندوة) بفتح النون وإسكان الدال المهملة وهى دار بناها قصى بن كلاب وجعل بابها إلى الكعبة ليجتمع فيها العرب للمشاورة وللختان وللنكاح وإذا قدمت غير نزلت وإذا ارتحلت منا وسميت بدار الندوة من الندى - بتشديد الياء - وهو المجتمع، وهى الآن من الحرم (*)

أَنّ الفَتْرَة لِأَمْر أَو سَبَب مِنْه فَخَشِي أن تَكُون عُقُوبَة من رَبّه فَفَعَل ذَلِك بِنَفْسِه وَلَم يَرِد بَعْد شَرْع بِالنَّهْي عَن ذَلِك فَيُعْتَرَض بِه، ونحو هذا فِرَار يُونُس عَلَيْه السَّلَام خَشيَة تَكْذِيب قَوْمِه لَه لَمّا وَعَدَهُم بِه مِن العَذَاب وقول اللَّه فِي يُونُس (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه) مَعْنَاهُ أن لَن نُضَيّق عَلَيْه، قَال مَكّيّ طَمِع فِي رَحِمَة اللَّه وَأَن لَا يُضَيّق عَلَيْه ملكه فِي خُرُوجِه وَقِيل حَسَّن ظَنَّه بِمَوْلاه أنَّه لا يقصى عَلَيْه العُقُوبَة وَقِيل نُقَدّر عَلَيْه مَا أصَابَه، وَقَد قُرِئ نُقَدّر عَلَيْه بِالتّشْدِيد وقيل نواحذه بِغَضَبِه وَذَهَابِه، وَقَال ابن زَيْد مَعْنَاه أفظن أن لَن نَقْدِر عَلَيْه؟ عَلَى الاسْتِفْهَام وَلَا يَلِيق أَن يُظَنّ بِنَبِيّ أَنّ يَجْهَل صفَة من صِفَات رَبّه، وَكَذَلِك قَوْله (إِذْ ذَهَبَ مغاضبا الصَّحِيح مُغَاضِبًا لِقَوْمِه لِكُفْرِهِم وَهُو قَوْل ابن عَبَّاس والضَّحَّاك وَغَيْرِهِمَا لَا لِرَبّه عَزّ وَجَلّ إِذ مُغَاضَبَة اللَّه مُعَادَاة لَه وَمَعادَاة اللَّه كفر لا لميق بِالْمُؤْمِنين فَكَيْف بِالْأَنْبِيَاء؟ وقيل مستحيبا من قومه أن يَسِمُوه بِالْكَذِب أَو يَقْتُلُوه كَمَا وَرَد فِي الْخَبَر وَقِيل مُغَاضِبًا لِبَعْض الْمُلُوك فِيمَا أَمَرَه بِه مِن التَّوَجُّه إِلَى أمر أمره اللَّه بِه عَلَى لِسان نَبِيّ آخر فَقَال لَه يُونُس غَيْرِي أقْوَى عَلَيْه مِنّي فَعَزَم عَلَيْه فَخَرَج لِذلِك مُغَاضِبًا، وَقَد رُوِي عَن ابن عَبَّاس أَنّ إرْسَال يُونُس وَنُبُوَّتَه إنَّمَا كَان بَعْد أَنْ نَبَذَه الْحُوت وَاسْتُدِلّ مِن الآيَة بِقَوْلِه (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ. هو سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ ألف) وَيُسْتَدَل أيْضًا بِقَوْلِه (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) وَذَكَر الْقِصَّة ثُمّ قَال (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) فَتَكُون هَذِه الْقِصَّة إذا

_ (قوله وَقَال ابن زَيْد) كذا في أكثر النسخ وفى تفسير البغوي، والظاهر أنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفى بعض النسخ أبو يزيد (*)

قَبْل نُبُوَّتِه فإن قِيل فَمَا مَعْنَي قَوْله صلى الله عليه وسلم (أنه ليغان على قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) وَفِي طَرِيقٍ (فِي الْيَوْمِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ) فَاحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِبَالِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَيْن وَسْوَسَة أو رَيْبًا وَقَع فِي قَلْبِه عَلَيْه السَّلَام بَل أصْل الغَيْن فِي هَذَا مَا يَتَغَشَّى القَلْب وَيُغَطّيه، قَالَه أَبُو عُبَيْد وَأَصْلُه من غَيْن السَّمَاء وَهُو إِطْبَاق الْغَيْم عَلَيْهَا، وَقَال غيره والغين شئ يُغَشّي القَلْب وَلَا يُغَطّيه كُلّ التّغْطِيَة كالغَيْم الرَّقِيق الَّذِي يُعْرِض فِي الْهَوَاء فَلَا يَمْنَع ضَوْء الشَّمْس وَكَذَلِك لَا يُفْهَم مِن الْحَدِيث أنَّه يُغَان عَلَى قَلْبِه مِائَة مَرَّة أو أَكْثَر من سَبْعِين فِي الْيَوْم إِذ لَيْس يَقْتَضِيه لَفْظُه الَّذِي ذَكَرْنَاه وَهُو أَكْثَر الرَّوَايَات وَإِنَّمَا هذا عَدَد للاسْتِغْفَار لَا لِلْغَيْن فَيَكُون المُرَاد بَهَذَا الْغَيْن إشَارَة إِلَى غَفَلات قَلْبِه وَفَتَرات نَفْسِه وَسَهْوِهَا عَن مُدَاوَمَة الذَّكْر وَمُشَاهَدَة الحَقّ بِمَا كَان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم دُفِع إليه من مُقَاسَاة البَشَر وَسِيَاسَة الْأُمَّة ومعناة الأهْل وَمُقَاوَمَة الوَلِيّ وَالعَدُوّ وَمَصْلَحَة النَّفْس وَكَلَّفَه مِن أعْبَاء أداء الرِّسَالَة وَحَمْل الأمَانَة وَهُو فِي كُلّ هَذَا فِي طَاعَة رَبَّه وَعِبَادَة خَالقِه وَلَكِن لَمّا كَان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَرْفَع الخَلْق عِنْد اللَّه مَكَانَة وَأعْلَاهُم دَرَجَة وَأتَمَّهُم بِه مَعْرِفَة وَكَانَت حَالُه عِنْد خُلُوص قَلْبِه وَخُلُو هَمّه وَتَفَرّدِه بِرَبَّه وَإقْبَالِه بِكُلَّيَّتِه عَلَيْه ومقامه هنا لك أرْفَع حَالَيْه رَأى صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حَال فَتْرَتِه عَنْهَا وَشُغْلِه بِسِواها غَضًّا من عَلِيّ حَالِه وَخَفْضًا من رَفِيع مَقَامِه فَاستَغْفَر اللَّه من ذَلِك، هَذَا أوْلَى وُجُوه الْحَدِيث وَأشْهَرُهَا وَإلى مَعْنَي مَا أشَرْنا بِه مَال كَثِير مِن النَّاس وَحَام حَوْلَه فَقَارَب وَلَم يَرد وَقَد قَرَّبْنَا غَامِض مَعْنَاه وَكَشَفْنَا لِلْمُسْتَفِيد مُحَيَّاه وَهُو مَبْنِيّ عَلَى جَوَاز الفَتَرَات وَالغَفَلات وَالسَّهْو فِي غَيْر طَرِيق البَلاغ عَلَى مَا سَيَأتِي

وذَهَبَت طَائِفَة مِن أرْبَاب القُلُوب وَمَشْيَخَة المُتَصَوَّفة مِمَّن قَال بِتَنْزِيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن هَذَا جُمْلَة وَأَجَلَّه أَنّ يَجُوز عَلَيْه فِي حَال سَهْو أَو فَتْرَة إلى أَنّ مَعْنَي الْحَدِيث مَا يُهِمّ خَاطِرَه وَيَغُمّ فِكْرَه من أمْر أمَّتَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لاهْتَمَامِه بِهِم وَكَثْرَة شَفَقَتِه عَلَيْهِم فَيسْتَغْفَر لَهُم، قَالُوا وَقَد يَكُون الْغَيْن هنا عَلَى قَلْبِه السَّكِينَة تَتَغَشّاه لِقَوْلِه تَعَالَى (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سكينته عليه) وَيَكُون اسْتِغْفَارُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عِنْدَهَا إظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّة والافْتِقَار، قَال ابن عَطَاء اسْتِغْفَارُه وَفِعْلُه هَذَا تَعْرِيف لِلْأُمَّة يَحْمِلُهُم عَلَى الاستِغْفَار، قَال غَيْرِه وَيَسْتَشِعرون الْحَذَر وَلَا يَرْكَنُون إِلَى الْأَمْن، وَقَد يَحْتَمِل أن تَكُون هَذِه الإعَانَة حَالَة حشية وَإعْظَام تَغْشى قَلْبَه فَيْسَتْغِفر حِينَئِذ شُكْرًا لله وَمُلازَمَة لِعُبُودِيَّتِه كَمَا قَال فِي مُلازَمَة الْعِبَادة (أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟) وَعَلَى هَذِه الْوُجُوه الْأَخِيرَة يُحْمَل مَا رُوِي فِي بَعْض طُرُق هَذَا الْحَدِيث عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِنَّهُ لَيُغَانِ عَلَى قَلْبِي فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَإن قلت فَمَا مَعْنَي قَوْله تَعَالَى لمحمد صَلَّى اللَّه عليه وآلِه وسلم (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وقوله لنوح عليه السلام (فلا تسألني مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الجاهلين) ؟ فَاعْلَم أنَّه لَا يُلْتفَت فِي ذَلِك إِلَى قَوْل من قال في آيَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا تَكُونَنّ مِن يَجْهَل أَن اللَّه لَو شَاء لَجَمَعَهُم عَلَى الهُدَى وفي آية نوح لَا تَكُونَنّ مِمَّن يَجْهَل أَنّ وَعْد اللَّه حَقّ لِقوله وَإِنّ وَعْدَك الْحَقّ إِذ فِيه إثْبَات الْجَهْل بصفَة من صِفَات اللَّه وَذَلِك لَا يَجُوز عَلَى الْأَنْبِيَاء وَالْمَقْصُود وَعْظُهُم أن لَا يَتَشَبَّهُوا فِي أمورهم

_ (قوله بهم) بمثناة تحتية وكسر الهاء، يقال أهمنى الأمر: أفلقني (*)

بِسِمَات الجَاهِلِين كَمَا قَال إنّي أعِظُك وَلَيْس فِي آية مِنْهَا دَلِيل عَلَى كَوْنِهِم عَلَى تِلْك الصّفَة التي نَهَاهُم عَن الْكَوْن عَلَيْهَا فَكَيْف وَآية نُوح قبلها (فلا تسألني مَا لَيْسَ لَكَ به علم) فَحَمْل مَا بَعْدَهَا عَلَى ما قَبْلَهَا أوْلَى لِأَنّ مِثْل هَذَا قَد يَحْتَاج إِلَى إذْن وَقَد تَجُوز إباحَة السُّؤال فِيه ابْتِدَاء فَنَهَاه اللَّه أن يَسْالَه عَمَّا طَوَى عَنْه عِلْمَه وَأَكَنَّه من غَيْبِه مِن السَّبَب الْمُوجِب لِهَلَاك ابْنه ثم أكل اللَّه تَعَالَى نِعْمَتَه عَلَيْه بإعْلامِه ذَلِك بِقَوْلِه (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) حَكى مَعْنَاه مَكّيّ كَذَلِك أُمِر نَبِيُّنَا فِي الآيَة الْأُخْرَى بالتِزَام الصَّبْر عَلَى إعْرَاض قَوْمِه وَلَا يحرج عِنْد ذَلِك فَيُقَارب حال الجاهل بِشِدَّة التَّحسُّر، حَكاه أَبُو بكر بن فورك وقيل معنى الخطاب لأمة محمد أي فلا تكونوا من الجالين، حكاه أبو مُحَمَّد مَكّيّ، وَقَال مِثْلُه فِي القرآن كثير، فَبِهذا الْفَضْل وَجَب الْقَوْل بعِصْمة الْأَنْبِيَاء مِنْه بَعْد النُّبُوَّة قَطْعًا فَإن قُلْت فإذ قَرَّرْت عِصْمَتَهُم من هَذَا وَأنَّه لَا يَجُوز عليهم شئ من ذَلِك فَمَا مَعْنَي إذَا وعِيد اللَّه لِنبيَّنا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى ذَلِك إن فَعَلَه وَتَحْذِيرِه مِنْه كَقَوْلِه (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ليحبطن عملك) الآيَة وَقَوْلُه تَعَالَى (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ الله مالا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) الآيَة وَقَوْلُه تَعَالَى (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ) الآيَة وَقَوْلُه (لأَخَذْنَا منه باليمين) وَقَوْلُه (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سبيل الله) وقوله (وأن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ على قلبك) وقوله (فإن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلغت رسالته) وَقَوْلُه (اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) فَاعْلَم وَفقنا اللَّه وَإيَّاك أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا يَصِحّ وَلَا يَجُوز عَلَيْه أَنّ لا يُبَلّغ وَلَا يُخَالِف أمْر رَبَّه وَلَا أَنّ يُشْرِك بِه وَلَا يَتَقَوَّل عَلَى اللَّه مَا لَا يُحِبّ أَو يَفْتَرِي عَلَيْه أَو يَضِلّ أَو يُخْتَم

فصل وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة

على؟ ؟ ؟ أَو يُطيع الكافرِين لِكن يَسَّر أمْرَه بِالمُكَاشَفَة وَالْبَيَان فِي البَلاغ لِلْمُخَالِفِين وَأَنّ إبْلاغَه إن لَم يَكُن بِهَذِه السّبِيل فَكأنَّه مَا بَلَّغ وَطيَّب نَفْسَه وَقَوَّي قلبه بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الناس) كَمَا قَال لِمُوسَى وهارون (لا تَخَافَا) لتشد بصَائِرُهُم فِي الْإِبْلاغ وَإظْهَار دين اللَّه وَيُذْهِب عَنْهُم خَوْف الْعَدُوّ الْمَضعِف لِلنَّفْس * وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى (ولو نقول عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ) الآية وقوله (إذا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ) فَمَعْنَاه أَنّ هَذَا جَزَاء من فَعَل هَذَا وَجَزاؤُك لَو كُنْت مِمَّن يَفْعَلُه وهو لَا يَفْعَلُه وَكَذَلِك قَوْله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فالمراد غَيْرِه كَمَا قَال (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كفروا) الآيَة وَقَوْلُه (فَإِنْ يشإ الله يخسم على قلبك) : (ولئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وَمَا أشْبَهَه فالمراد غَيْرِه وأنّ هَذِه حَال من أشْرَك وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا يَجُوز عَلَيْه هَذَا وَقَوْلُه (اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ) فَلَيْس فِيه أنَّه أطاعهم والله ينهاء عَمَّا يَشَاء وَيَأمُرُه بِمَا يَشَاء كَمَا قَال (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآيَة: وَمَا كَان طَرَدَهُم صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَا كَان مِن الظَّالمِين فصل وَأَمَّا عِصْمَتَهُم من هَذَا الْفَنّ قَبْل النُّبُوَّة فَلِلنَّاس فِيه خِلَاف * وَالصَّوَاب أَنَّهُم مَعْصُومُون قَبْل النُّبُوَّة مِن الْجَهْل بِالله وَصِفَاتِه وَالتَّشَكُك في شئ من ذَلِك وَقَد تَعَاضَدَت الْأَخْبَار وَالآثَار عَن الْأَنْبِيَاء بِتَنْزِيهِهِم عن هذه النقيصة مُنْذ وُلِدُوا وَنَشْأتِهِم عَلَى التَّوحْيد وَالْإِيمَان بَل عَلَى إشْرَاق أنوار المعارف نفحات أَلْطَاف السَّعَادَة كَمَا نبهنا عليه في الباب الثَّانِي مِن القِسِم الأَوَّل من كِتَابِنَا هَذَا وَلَم يَنْقُل أحَد من أهل الأخبار أن أحد النبي

وَاصْطُفِي مِمَّن عُرِف بِكُفْر وَإشْرَاك قَبْل ذَلِك وَمُسْتَنَد هَذَا الْبَاب النَّقْل وَقَد اسْتَدَلّ بَعْضُهُم بأن الْقُلُوب تَنْفِر عَمَّن كَانَت هَذِه سَبِيلُه وَأَنَا أقُول إن قُرَيْشًا قَد رَمَت نَبِيَّنًا بِكُلّ مَا افترته، وغير كُفّار الْأُمَم أنْبِيَاءَهَا بِكُلّ مَا أمْكَنَهَا وَاخْتَلَقَتْه مِمَّا نَصّ اللَّه تَعَالَى عَلَيْه أَو نَقَلَتْه إلَيْنَا الرُّوَاة وَلَم نَجِد في شئ من ذلك تعييرا لِوَاحِد مِنْهُم بِرَفْضِه آلِهَتَه وَتَقْرِيعِه بِذَمَّة بِتَرْك مَا كَان قَد جَامَعُهُم عَلَيْه وَلَو كَان هَذَا لَكَانُوا بِذَلِك مُبَادِرِين وبتَلَوَّنُّه في معبوده محتجين ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من تَوْبِيخِه بِنَهيهم عَن تَرْكِهِم آلِهَتَهُم وَمَا كَان يَعْبُد آبَاؤُهُم من قَبْل فَفِي إطْبَاقِهِم عَلَى الْإعْرَاض عَنْه دَليل عَلَى أَنَّهُم لَم يَجِدُوا سَبيلًا إليْه إذ لَو كَان لنُقِل وَمَا سَكَتُوا عَنْه كَمَا لَم يَسْكُتُوا عِنْد تَحْويل القِبْلة وقالوا مَا وَلَّاهُم عَن قِبْلَتِهِم التي كَانُوا عَلَيْهَا كَمَا حَكَاه اللَّه عَنْهُم وَقَد اسْتَدَلّ الْقَاضِي الْقُشَيْرِيّ عَلَى تَنْزِيهِهِم عَن هَذَا بِقَوْلِه تَعَالَى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ) الآيَة وبِقَوْلِه تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) إِلَى قَوْله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولتنصرنه) قَال وطَهَّرَه اللَّه فِي الْمِيثَاق وَبعِيد أن يَأخُذ مِنْه الْمِيثَاق قَبْل خَلْقِه ثُمّ يَأْخُذ مِيثَاق النَّبِيّين بالإيمَان بِه ونَصْرِه قَبْل مَولِدِه بِدُهُور وَيَجُوز عَلَيْه الشّرْك أَو غَيْرِه مِن الذنوب، بهذا مَا لَا يُجَوّزُه إلا مُلْحِد، هَذَا مَعْنَي كَلَامِه، وكيف يَكُون ذَلِك وَقَد أتاه جِبْرِيل عَلَيْه السَّلَام وَشَقّ قَلْبَه صَغِيرًا وَاسْتَخْرَج مِنْه عَلَقَة وَقَال هَذَا حظ

_ (قوله وَقَد اسْتَدَلّ الْقَاضِي القشيرى) هو الْإِمَامُ أَبُو نَصْرِ عبد الرحيم ابن الأستاذ أبى القاسم عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هوازن القشيرى النيسابوري انتفع على والده وعلى إمام الحرمين وتوفى سنة أربع وخمسمائة بنيسابور نقل الرافعى عنه في البدل (*)

الشيطان مِنْك ثُمّ غَسَلَه وَمَلأه حِكْمَة وَإيمانًا كَمَا تَظَاهَرَت بِه أَخْبَار المَبْدإ وَلَا يُشَبَّه عَلَيْك بِقَوْل إِبْرَاهِيم فِي الْكَوْكَب وَالقَمَر وَالشَّمْس هَذَا رَبّي فَإنَّه قَد قِيل كَان هَذَا فِي سِنّ الطُّفُولِيَّة وَابْتِدَاء النَّظَر وَالاسْتِدْلال وَقَبْل لُزُوم التَّكْلِيف وَذَهَب مُعْظَم الحُذَاق مِن الْعُلمَاء وَالْمُفَسّرِين إِلَى أنَّه إنَّمَا قَال ذَلِك مُبَكّتًا لِقَوْمِه وَمُسْتَدِلًا عَلَيْهِم وَقِيل مَعْنَاه الاسْتِفْهَام الْوَارِد مَوْرِد الإنْكَار، وَالمُرَاد فَهَذَا رَبّي، قَال الزَّجّاج قَوْله (هَذَا رَبِّي) أَي عَلَى قولِكُم كَمَا قَال أَيْنَ شُرَكَائِيَ؟ أَي عِنْدَكُم، وَيَدُلّ عَلَى أنَّه لَم يَعْبُد شَيْئًا من ذَلِك وَلَا أشْرَك قَطّ بالله طَرْفَة عَيْن: قَوْل اللَّه عَزّ وَجَلّ عَنْه (إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ) ثم قَالَ: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ) وَقَال: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أَي مِنَ الشِّرْكِ، وَقَوْلُه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) فَإِن قُلْت فَمَا مَعْنَي قَوْله: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضالين) قِيل إنَّه إنّ لَم يُؤَيّدْنِي بِمَعُونَتِه أكُن مِثْلَكُم فِي ضَلَالَتِكُم وَعِبَادَتِكُم عَلَى مَعْنَي الإشْفَاق وَالحَذَر وَإلَّا فَهُو مَعْصُوم في الأزل من الضَّلَال فِإن قُلْت فَمَا مَعْنَي قَوْلِه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا) ثُمّ قَال بَعْد عَن الرُّسُل (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ منها) فَلَا يُشْكل عَلَيْك لَفْظَة العَوْد وَأنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُم إنَّمَا يعودون إِلَى مَا كَانُوا فِيه من مِلَّتِهِم فَقَد تَأْتِي هَذِه اللّفْظَة فِي كَلَام الْعَرَب لَغَيْر مَا ليس

_ (قوله مبكتا) أي معتفا (*)

لَه ابْتِدَاء بِمَعْنَي الصَّيْرُورَة كَمَا جاء فِي حَدِيث الجَهنميين عَادُوا حُمَمًا وَلَم يَكُونُوا قَبْل كَذَلِك، ومثل قَوْل الشَّاعِر: - تِلْك المَكارِم لَا قَعْبَان من لَبَن * شِيبا بماء فعادا بَعْد أبْوَالا وما كان قَبْل كَذَلِك، فَإِنّ قلت فما معنى قوله: (وجدك ضالا فهدى) فَلَيْس هُو مِن الضَّلال الَّذِي هُو الكُفْر؟ قِيل ضَالًا عَن النُّبُوَّة فَهَدَاك إِلَيْهَا، قاله الطَّبَرِيّ، وَقِيل وَجَدَك بَيْن أَهْل الضَلَال فَعَصَمَك من ذَلِك وَهَدَاك بالإيمان وَإلَى إرْشَادِهِم وَنَحْوَه عَن السُّدّيّ وَغَيْر وَاحِد، وَقِيل ضالًا عَن شَرِيعَتِك أَي لَا تَعْرِفُهَا فَهَدَاك إِلَيْهَا، وَالضَّلَال ههُنَا التَّحَيُّر وَلِهَذَا كان صلى الله عليه وسلم يخلو بِغَار حِرَاء فِي طَلَب مَا يَتَوَجَّه بِه إِلَى رَبَّه وَيَتَشَرَّع بِه حَتَّى هَدَاه اللَّه إِلَى الْإِسْلَام قَال مَعْنَاه المشيرى وَقِيل لَا تَعْرِف الْحَقّ فَهَدَاك إليْه، وَهَذَا مِثْل قَوْلِه تَعَالَى:) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) قَالَه عَلِيّ بن عِيسَى، قَال ابن عَبَّاس لَم تَكُن لَه ضَلَالَة مَعَصِيَة وَقِيل هَدَى: أَي بَيْن أمْرَك بِالْبَرَاهِين وقيل: (وجدك ضالا) بين مكة والمدينة فهدك إِلَى الْمَدِينَة وَقِيل الْمَعْنَى وَجَدَك فَهَدَى بك ضَالًا * وَعَن جعفر ابن مُحَمَّد (وَوَجَدَكَ ضَالا) عَن مَحَبَّتِي لَك فِي الْأَزَل أي لَا تَعْرِفُهَا فَمَنَنْت عَلَيْك بِمَعْرفَتِي، وَقَرأ الحسن بن علي (ووجدك ضال فَهَدَى) أَي اهْتَدَى بك، وَقَال ابن عَطَاء: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أَي: مُحِبًا لِمَعْرفَتِي والضَّالّ الْمُحِبّ كما قَال: (إِنَّكَ لَفِي ضلالك القديم) أَي مَحَبَّتِك الْقَدِيمَة

_ (قوله حمما) بضم الحاء المهملة أي فحما جمع حممة (قوله ومثله قَوْل الشَّاعِر) هو أمية بن أبى الصلت، قاله من جملة أبيات، وأوله. تِلْك المَكارِم لَا قَعْبَان من لَبَن * شِيبا بماء فعادا بعد أبوالا (*)

وَلَم يُرِيدُوا ههُنا فِي الدّين إذ لو قَالُوا ذَلِك فِي نَبِيّ اللَّه لَكَفرُوا وَمِثْلُه عِنْد هَذَا قَوْله إنا لَنَرَاهَا فِي ضَلال مُبِين أَي مَحَبَّة بَيَّنَة، وَقَال الجُنَيْد وَوَجَدَك مُتَحَيرًا فِي بَيَان مَا أنزل إِلَيْك فَهَدَاك لِبَيَانِه لقوله (وأنزلناه إليك الذكر) الآيَة، وَقِيل وَوَجَدَك لَم يَعْرِفْك أحَد بالنُّبُوَّة حَتَّى أظْهَرَك فَهَدَى بك السُّعَدَاء وَلَا أعْلَم أحَدًا قَال مِن الْمُفَسّرِين فِيهَا ضالًا عَن الْإِيمَان، وَكَذَلِك فِي قِصَّة مُوسَى عَلَيْه السَّلَام قَوْله: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضالين) أي مِن المُخْطِئِين الْفَاعِلِين شَيْئًا بِغَيْر قَصْد. قالَه ابن عَرَفَة، وَقَال الْأَزْهَريّ: مَعْنَاه مِن النَّاسِين وَقَد قِيل ذَلِك فِي قَوْلِه (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) أَي ناسيًا كَمَا قَال تَعَالَى: (أَنْ تَضِلَّ إحداهما) فإن قُلْت فَمَا مَعْنَي قَوْلِه: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) فالجَواب: أَنّ السَّمْرَقَنْدِيّ قَال: مَعْنَاه مَا كُنْت تَدْرِي قَبْل الْوَحْي أن تَقْرَأ الْقُرْآن وَلَا كَيْف تَدْعُو الخَلْق إِلَى الْإِيمَان، وَقَال بَكْر الْقَاضِي نَحْوَه، قَال وَلَا الْإِيمَان الَّذِي هُو الْفَرَائض وَالأحْكَام، قال: فكان قيل مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِه ثُمّ نَزَلَت الْفَرَائض التي لَم يَكُن يَدْريهَا قبل

_ (قوله وقال الجنيد) هو أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الحراز القواريرى الزاهد أصله من نهاوند ومنشؤه ومولده بالعراق، شيخ الطريقة وسيد الطائفة تفقه على أبى ثور وكان يفتى بحلقته وله من العمر عشرون سنة، كذا في الطبقات للسبكي، واختص بصحبة السرى السقطى والحارث بن أسد المحاسبى وأبى حمزة البغدادي كَانَ يَقُولُ مَا أخذنا التصوف عن القيل والقال ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات وكان يقول طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به، توفى سنة سبع وتسعين ومائتين بالشونيزية عند خاله السرى (قوله قالَه ابن عَرَفَة) هو العبدى المؤدب، يروى عن ابن المبارك (8 - 2) (*)

فَزَاد بالتَّكْلِيف إيمَانًا وَهُو أحْسَن وَجُوهِه قُلْت فما معني قوله: (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) فاعْلَم أنَّه لَيْس بمعنى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتنا غافلون) بَل حَكى أَبُو عَبْد اللَّه الهَرَويّ أَنّ مَعْنَاه لَمِن الْغَافِلين عَن قِصَّة يسف إذ لَم تَعْلَمهَا إلَّا بِوَحْينَا وَكَذَلِك الْحَدِيث الَّذِي يَرْويِه عُثْمَان بن أَبِي شَيْبَة بِسَنَدِه عَن جَابِر رَضِي اللَّه عَنْه أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَدْ كَانَ يَشْهَدُ من الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ فَسَمِعَ ملكين حلفه أحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ اذْهَب حَتَّى تَقُوم خَلْفَه فَقَال الآخَر كَيْف أقُوم خَلْفَه وعهده بالستلاء الْأَصْنَام؟ فَلَم يشْهَدْهُم بَعْد، فَهَذَا حَدِيث أنْكَرَه أَحْمَد بن حَنْبَل جِدًا وَقَال هُو مَوْضُوع أَو شَبِيه بالمَوْضُوع، وَقَال الدَّارَقُطْنِي يُقَال إنّ عُثْمَان وهم فِي إسناده، وَالْحَدِيث بالجُمْلَة مُنْكَر غَيْر مُتَّفَق عَلَى إسْنَادِه فَلَا يُلْتَفَت إليْه، وَالْمَعْرُوف عن النبي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِه وسلم خِلافُه عِنْد أَهْل الْعِلْم من قَوْلِه (بُغِّضَتْ إِلَيَّ الأَصْنَامُ) وَقَوْلُه فِي الْحَدِيث الآخَر الَّذِي رَوَتْه أُمّ أيْمَن حِين كَلَّمَه عَمُّه وآلُه فِي حُضُور بَعْض أعْيَادِهِم وَعَزَمُوا عَلَيْه بَعْد كراهتِه لِذَلِك فَخَرَج مَعَهُم وَرَجَع مرعوبا فقال (كلما دَنَوْت مِنْهَا من صَنَم تَمَثَّل لِي شَخْص أبْيَض طَويل يَصِيح بي وَرَاءَكَ لَا تَمَسَّهُ) فَمَا شَهِد بَعْد لَهُم عِيدًا، وَقَوْلُه فِي قِصَّة بَحِيرَا حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات وَالعُزّى إِذ لقِيَه بالشَّام فِي سَفْرِتِه مَع عَمَّه أَبِي طَالِب وَهُو صَبيّ وَرَأى فِيه سلامات النُّبُوَّة فاختبره بِذَلِك فَقَال لَه النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّم (لَا تَسْأَلْنِي بهما فو الله مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا) فَقَالَ لَهُ بحيرا فبالله إِلَّا مَا أَخْبرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَقَال (سل عَمَّا بدا لَك) وَكَذَلِك المعروف من سيرته صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وتوفيق اللَّه لَه أنَّه كَان

فصل

قَبْل نبوته يُخَالف المشركين فِي وُقُوفِهِم بمزدلفة فِي الحج فَكَان يقف هُو بعرفة لِأَنَّه كَان موقف إبْرَاهِيم عَلَيْه السَّلَام. فصل قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَفَّقَه اللَّه قَد بَان بِمَا قدمناه عُقُود الْأَنْبِيَاء فِي التَّوْحِيد وَالْإِيمَان وَالَوَحَي وَعِصْمَتُهُم فِي ذَلِك عَلِيّ مَا بيناه، فأما مَا عَدَا هَذَا الْبَاب من عُقُود قُلُوبهِم فجماعها أنَّهَا مملوءة علما ويقينا عَلَى الجملة، وأنها قَد احتوت مِن المعرفة والعلم بأمور الدين والدنيا ما لا شئ فوقه وَمِن طالع الأحبار واعتني بالحديث وَتأمل مَا قلناه وجده وَقَد قدمنا مِنْه في حَقّ نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الْبَاب الرابع أَوَّل قسم من هَذَا الْكِتَاب مَا ينبه عَلَى مَا وراءه الا أَنّ أحوالهم فِي هَذِه المعارف تختلف، فأما مَا تعلق مِنْهَا بأمر الدُّنْيَا فلا يشترط فِي حَقّ الْأَنْبِيَاء العصمة من عدم معرفة الْأَنْبِيَاء ببعضها أَو اعتقادها عَلَى خِلَاف مَا هِي عَلَيْه وَلَا وصم عَلَيْهِم فِيه إِذ هممهم متعلقة بالآخرة وأنبائها وأمر الشريعة وقوانينها، وأمور الدُّنْيَا تضادها بخلاف غَيْرِهِم من أَهْل الدُّنْيَا الذين يعلمون ظاهرا مِن الحياة الدُّنْيَا وهم عَن الآخرة هُم غافلون كَمَا سنبين هَذَا فِي الْبَاب الثاني أَنّ شَاء اللَّه ولكنه لَا يقال انهم لَا يعلمون شَيْئًا من أمر الدُّنْيَا فان ذَلِك يؤدي إلى الغفلة والبله وهم المنزهون عَنْه بَل قَد أرسلوا إلى أهل الدُّنْيَا وقلدوا سياستهم وهدايتهم والنظر فِي مصالح دينهم ودنياهم، وَهَذَا لَا يَكُون مَع عدم الْعِلْم بأمور الدُّنْيَا بِالكلية، وأحوال الْأَنْبِيَاء وسيرهم فِي هَذَا الْبَاب معلومة ومعرفتهم بِذَلِك كله مشهورة وَأَمَّا إنّ كَان هَذَا

العقد مِمَّا يتعلق بالدين فَلَا يصح مِن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إلا الْعِلْم بِه وَلَا يجوز عَلَيْه جهله جملة لِأَنَّه لَا يخلو أن يَكُون حصل عِنْدَه ذَلِك عَن وحي مِن اللَّه فَهُو مَا لَا يصح الشك مِنْه فِيه عَلَى مَا قدمناه فكيف الجهل؟ بَل حصل لَه الْعِلْم اليقين أَو يَكُون فعل ذَلِك باجتهاده فِيمَا لَم ينزل عليه فيه شئ عَلَى القول بتجويز وقوع الاجتهاد مِنْه فِي ذَلِك عَلَى قول المحققين وَعَلَى مقتضى حَدِيث أم سَلَمَة إنّي إنما أقضى بينكم برأى فيما لم ينزل على فيه شئ خَرجه الثقات، وكَقِصَّة أَسْرَى بَدْر وَالإذْن للْمُتخّلِفين عَلَى رأي بَعْضُهُم فَلَا يَكُون أيْضًا مَا يعتقده مِمَّا يثمره اجتهاده إلَّا حقا وصحيحا، هَذَا هُو الْحَقّ الَّذِي لَا يلتفت إلى خِلَاف من خالف فِيه مِمَّن أجاز عَلَيْه الخَطَإ فِي الاجْتِهَاد لَا عَلَى القول بتصويب المجتدين الَّذِي هُو الْحَقّ والصواب عندنا وَلَا عَلَى القول الآخر بأن الْحَقّ فِي طَرَف وَاحِد لِعصْمَة نَبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن الخَطَإ فِي الاجْتِهَاد فِي الشَّرْعِيَّات وَلِأَنّ الْقَوْل فِي تَخْطِئَة المُجْتَهِدِين إنَّمَا هُو بَعْد اسْتِقْرَار الشَّرْع وَنَظَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَاجْتِهادُه إنَّمَا هُو فِيمَا لَم يُنْزَل عَلَيْه فيه شئ وَلَم يُشْرَع لَه قَبْل، هَذَا فِيمَا عَقد عَلَيْه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَلْبَه فأمَّا مَا لَم يَعْقِد عَلَيْه قَلْبَه من أمْر النَّوَازِل الشَّرْعِيَّة فَقَد كَان لَا يَعْلَم مِنْهَا أوَّلًا إلَّا مَا عَلَّمَه اللَّه شَيْئًا شَيْئًا حَتَّى اسْتَقَرّ عِلْم جُمْلَتِهَا عِنْدَه إِمَّا بِوَحْي مِن اللَّه أَو إذْن أن يَشْرَع فِي ذَلِك وَيَحْكُم بِمَا أرَاه اللَّه وَقَد كَان يَنْتَظِر الْوَحْي فِي كَثِير مِنْهَا وَلكِنَّه لَم يَمُت حَتَّى اسْتَفْرَغ عِلْم جَمِيعِهَا عِنْدَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَقَرَّرَت مَعَارِفُهَا لَدَيْه عَلَى التَّحْقِيق وَرَفْع الشَّكّ وَالرَّيْب وَانْتِفَاء الجَهْل وَبِالجُمْلَة فَلَا يَصِحّ منه الجهل بشئ من تَفَاصِيل الشَّرْع الَّذِي أمر بالدَّعْوَة إليْه إذ

فصل واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان

لَا تَصِحّ دَعْوَتُه إلى مَا لا يَعْلَمُه وَأَمَّا مَا تَعَلَّق بَعَقْدِه من مَلَكُوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَخَلق اللَّه وَتَعْيين أسْمَائِه الْحُسْنى وَآيَاتِه الْكُبْرَى وَأُمُور الآخِرَة وَأشْرَاط الساعة وأحْوَال السُّعَدَاء وَالأشْقِيَاء وَعِلْم مَا كَان وَمَا يَكُون مِمَّا لَم يعلمه إلا بِوَحْي فَعَلى مَا تَقَدَّم من أنَّه مَعْصُوم فِيه لَا يَأْخُذُه فِيمَا أُعْلِم مِنْه شَكّ وَلَا رَيْب بَل هُو فِيه عَلَى غَايَة اليَقِين لكنَّه لَا يُشْتَرَط لَه الْعِلْم بِجَمِيع تَفَاصِيل ذَلِك وَإن كَان عِنْدَه من عِلْم ذَلِك مَا لَيْس عِنْد جَمِيع الْبَشَر لِقَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنِّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي رَبِّي) وَلِقَوْلِه وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرة أعين) وَقَوْل مُوسَى لِلخضر (هل أتبعك لى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا علمت رشدا) وَقَوْلُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (أَسْألُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتَ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ) وَقَوْلُه (أَسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوِ لتأثرت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قَال زيد بن أسلم وَغَيْرُه حَتَّى يَنْتَهِي الْعِلْم إِلَى اللَّه وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِه إذ مَعْلُومَاتُه تَعَالَى لَا يُحَاط بِهَا وَلَا مُنْتَهى لَهَا، هَذَا حُكْم عَقْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي التَّوْحِيد وَالشَّرْع وَالْمَعَارِف وَالْأُمور الدَّينِية فصل وَاعَلم أَنّ الْأُمَّة مُجْمعة عَلَى عِصْمة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن الشَّيْطَان وَكِفَايَتِه مِنْه لَا فِي جِسمِه بِأنْوَاع الأَذَى وَلَا عَلَى خَاطِرِه بِالوْسَاوِس وَقَد أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الْحَافِظ أَبُو عَلِيّ رَحِمَه الله قَال حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ الْعَدْلُ حدثنا أبو بكر البرقاني وغيره حدثنا أَبُو الْحَسَنِ

الدَّارَقُطْنِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ التَّرْقُفِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (وَإِيَّايَ وَلِكِنَّ اللَّهَ تعالى أعاني عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ) * زَاد غَيْرِه عَن منصور (فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ) وَعَن عَائِشَة بمعناه رُوِي فَأسْلَم بِضَم المِيم أَي فَأسْلَم أَنَا مِنْه وَصَحَّح بَعْضُهُم هَذِه الرَّوَايَة وَرَجَّحَهَا، وَرُوي فَأسْلَم يعني القَرِين أنَّه انْتَقَل عَن حَال كُفْرِه إِلَى الْإِسْلَام فَصَار لَا يَأْمُر إلَّا بِخَيْر كَالمَلك، وَهُو ظَاهِر الْحَدِيث، وَرَوَاه بَعْضُهُم فَاسْتَسْلَم قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَفَّقَه اللَّه فَإِذَا كَان هَذَا حُكْم شَيْطَانِه وقرينه المسلط عَلَى بَنِي آدَم فَكَيْف بِمَن بَعْد مِنْه وَلَم يَلْزَم صُحْبَتَه وَلَا أُقْدِر عَلَى الدُّنُوّ مِنْه؟ وَقَد جَاءَت الآثار بِتَصَدّي الشَّيَاطِين لَه في غير موطن رغبة في إطماء نُوره وَإماتَة نَفْسِه وَإدْخَال شُغْل عَلَيْه إِذ يئِسُوا من إغْوَائِه فانْقَلبُوا خَاسِرين كَتَعَرُّضِه لَه فِي صَلَاتِه فَأخَذَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأسَرَه * فَفِي الصَّحَاح قَال أَبُو هُرَيْرَة عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي - قَال عبد الرَّزَّاق فِي صُورَةِ؟ ؟ ؟ - فَشَدَّ عَلَيَّ يَقْطَعُ عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكنِنِي اللَّهُ

_ (قوله عباس الترقفى) عباس بالموحدة والسين المهملة، الترقفى بفتح المثناة الفوقية وسكون الراء وضم القاف وكسر الفاء وياء النسبة (قوله فشد على فدعته) شد جمل ودعته بالعين المهملة قال ابن الأثير: الدعت بالدال والذال الدفع العنيف، والذعت أيضا المعك في التراب قال النووي وأنكر الخطابى المهملة وقال لا يصح، وصححها غيره وصوبها وإن كانت المعجمة أوضح وأشهر، وقال ابن قرقول وعند ابن الحذاء في حديث ابن أبى شيبة فذغته بذال وغين معجمتين (*)

مِنْهُ فَذَعَتُّهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصِبحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي ملكا) الآيَةَ، فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا) * وَفِي حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء عَنْه صلى الله عليه وسلم (إن عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ جَاءَنِي بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَذَكَرَ تَعَوذَهُ بِاللَّهِ مِنْهُ ولعنه لَهُ ثُمَّ أَرَدْتُ آخُذُهُ) ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَال (لأَصْبَحَ مُوثَقًا يَتَلاعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ فِي الْإِسْرَاء (وَطَلَب عفريت له بشعلة نار فعلمه جبريل ما يتعوذ به منه) ذكره في الموطإ، ولما لم يقدر على أداه بِمُبَاشَرَتِه تَسَبَّب بالتَّوَسُط إلى عِدَاه كَقَضيته مَع قُرَيْش فِي الائْتِمَار بِقَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَصوُّرِه فِي صُورَة الشَّيْخ النَّجْدِيّ وَمَرَّة أخْرَى فِي غَزْوَة يَوْم بَدْر فِي صُورَة سُرَاقَة بن مالك وَهُو قَوْله (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) الآيَة، وَمَرَّة يُنْذر بِشَأنِه عِنْد بَيْعَة العفية، وَكُلّ هَذَا فَقَد كَفَاه الله أمْرَه وَعَصَمَه ضُرَّه وَشَرَّه وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُفِيَ مِنْ لَمْسِهِ فَجَاءَ لِيَطْعَنَ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ وُلِدَ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ) وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لُدَّ فِي مَرَضِهِ وَقِيل لَه خَشينا أن يكون بك

_ (قوله فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سليمان) قال المصنف في شرح مسلم معناه أنه مختص بهذا فامتنع صلى الله عليه وسلم من ربطه إلا لأنه لم يقدر عليه لذلك وما لأنه لما تذكر ذلك لما يتعاط ذلك لظنه أنه يقدر عليه أو تواضعا أو تأديا انتهى (قوله أبى الدرداء) اسمه عويمر بن عامر (قوله لشهاب) أي شعلة (قوله الشيخ النجدي) إنما انتسب اللعين إلى نجد لأنهم قالوا عند تعاقدهم لا تدخلوا منكم أحدا من أهل تهامة إن هواهم مع محمد (قوله في الحجاب) أي الغشاة الذى يكون الجنين في داخله وهو للشيمة، وقيل حجاب بين الشيطان وبين مريم (*)

ذَات الجَنْب فَقَال (إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهُ عَلَيَّ) فَإِن قِيل فَمَا مَعْنَي قَوْلِه تَعَالَى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) الآيَة؟ فَقَد قَال بَعْض الْمُفَسّرِين إنها رَاجِعَة إِلَى قَوْلِه (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ثُمَّ قَال وإما يَنْزَغَنَّكَ أَي يَسْتَخِفَّنَّكَ غَضَبٌ يَحْمِلُكَ عَلَى تَرْكِ الإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقِيلَ النزع هُنَا الْفَسَاد كَمَا قَال (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) وقيل ينرغنك يغرينك ويخركنك، والنزع أدْنى الْوَسْوَسَة فأمَرَه اللَّه تَعَالَى أنَّه مَتَى تَحَرَّك عَلَيْه غَضَبٌ عَلَى عَدُوِّهِ أَو رَام الشَّيْطَان من إغْرَائِه بِه وَخَوَاطِر أدْنى وَسَاوِسِه مَا لم يُجعَل لَه سَبِيل إليْه أن يَسْتَعِيذ مِنْه فَيُكْفى أمْرُه وَيَكُون سبب نمام عِصْمِته إذ لَم يُسَلَّط عَلَيْه بِأكْثَر مِن التَّعَرُّض لَه وَلَم يُجْعَل لَه قُدْرَة عَلَيْه وَقَد قِيل فِي هَذِه الآيَة غَيْر هَذَا وَكَذَلِك لَا يَصِحّ أن يُتَصَور لَه الشَّيْطَان فِي صُورَة المَلَك وَيُلَبَّس عَلَيْه لَا فِي أَوَّل الرّسَالة وَلَا بَعْدَهَا وَالاعْتِمَاد فِي ذَلِك دَلِيل المُعْجِزة بَل لَا يَشُكّ النَّبِيّ أَنّ مَا يَأتِيه مِن اللَّه المَلَك وَرَسُولُه حَقِيقَة إِمَّا بِعِلْم ضَرُورِي يَخْلُقُه اللَّه لَه أَو بِبُرْهَان يُظْهِرُه لديه لِتَتمّ كلمة رَبّك صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدّل لِكَلِمَاتِه. فَإِن قِيل فَمَا مَعْنَي قوله تعالى: (وما أرسلنا منى قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآيَة؟ فاعلم أَنّ لِلنَّاس فِي مَعْنَي هَذِه الآيَة أقاوِيل مِنْهَا السَّهْل وَالْوَعْث *

_ (قوله ذات الجنب) هي قرحة تصيب الإنسان في داخل جنبه (قوله ويلبس) بكسر الموحدة أي يخلط (قوله والوعث) بفتح الواو وسكون العين المهملة بعدها مثلثة: في الصحاح الوعث المكان السهل الكبير الدهش تغيب فيه الأقدام ويسبق على من يمشى فيه والدهش المكان السهل لا يبلغ أن يكون رملا وليس ترابا ولا طينا (*)

وَالسَّمِين والغَثّ، وَأوْلى مَا يُقَال فِيهَا مَا عَلَيْه الجمهور من المفسرين أن التمنى ههُنَا التَّلاوَة وَإلْقَاء الشَّيْطَان فِيهَا إشْغَاله بِخَوَاطِر وَأذَكَار من أمور الدنيا لليالي حَتَّى يُدْخِل عَلَيْه الْوَهْم وَالنّسْيَان فِيمَا تَلاه أَو يُدْخِل غَيْر ذَلِك عَلَى أفهَام السَّامِعِين مِن التحريف وَسُوء التَّأوِيل مَا يُزِيلُه اللَّه وَيَنْسَخُه وَيَكْشِف لَبْسَه وَيُحْكم آياتِه وَسَيَأتَي الْكَلَام عَلَى هَذِه الآيَة بعد بِأشْبَع من هَذَا إن شَاء اللَّه، وَقَد حكى السَّمْرَقَنْدِيّ إنْكَار قَوْل من قال بتسلط الشَّيْطَان عَلَى مُلْك سليمان وغلبته عليه وَأَنّ مِثْل هَذَا لَا يَصحّ وَقَد ذَكَرْنا قِصَّة سُلَيْمَان مُبَيَنَة بَعْد هَذَا وَمِن قَال إنّ الجَسَد هُو الوَلَد الَّذِي وُلِد لَه، وَقَال أَبُو مُحَمَّد مَكّيّ فِي قِصَّة أيُّوب وَقَوْلُه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وعذاب) أنه لا يجوز لأحد أن ينازل أَنّ الشَّيْطَان هُو الَّذِي أمْرَضه وَألْقَى الضُّرّ فِي بَدَنِه ولا يَكُون ذَلِك إلَّا بِفِعْل اللَّه وَأمْرِه لِيَبْتَلِيَهُم وَيُثِيبهُم. قَال مَكّيّ: وَقِيل إنّ الَّذِي أصَابَه الشَّيْطَان مَا وَسْوَس بِه إِلَى أهله فَإِنّ قُلْت: فَمَا مَعْنَي قَوْلِه تَعَالَى عَن يوشَع: - وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ) وَقَوْلُه عَن يُوسُف: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) وقَوْل نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حِين نَام عَن الصَّلَاة يَوْم الْوَادِي: (إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ) وَقَوْل مُوسَى عَلَيْه السَّلَام فِي وَكْزَتِه: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) فاعْلَم أَنّ هَذَا الْكَلَام قَد يَرد فِي جميع خذا عَلَى مَوْرِد مُسْتَمِرّ كَلَام الْعَرَب فِي وَصْفِهِم كُلّ قَبح من شَخْص أَو فَعْل بالشَّيْطَان أَو فِعْلِه كَمَا قَال تَعَالَى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رؤس الشياطين) وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) ، وأيضا فَإِنّ قَوْل يُوشَع لَا يَلْزَمُنَا الجواب

_ (قوله ويثبتهم) من التثبيت وفى نسخة ويثيبهم من الثواب (*)

عَنْه، إذ لَم يَثْبُت لَه فِي ذَلِك الوقت نُبُوَّة مَع مُوسَى، قَال اللَّه تَعَالَى: (وإذ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) وَالمَرْوِيّ أنَّه إنَّمَا نبى بَعْد مَوْت مُوسَى وَقِيل: قُبَيْل مَوْتِه، وقول مُوسَى كَان قَبْل نُبُوَّتِه بِدَلِيل الْقُرْآن وقصة يُوسُف قَد ذُكِر أنَّهَا كَانَت قَبْل نُبُوَّتِه، وقد قال المفسرون في قوله: (أنساه الشيطان) قَوْلَيْن: أحَدُهُمَا: أَنّ الَّذِي أنْسَاه الشَّيْطَان ذَكَر رَبَّه أحد صَاحِبي السّجْن وَرَبَّه المَلك: أَي أنْسَاه أَنّ يَذْكُر لِلْمَلِك شَأْن يُوسُف عَلَيْه السَّلَام، وأيضا فَإِنّ مِثْل هَذَا من فعل الشَّيْطَان لَيْس فِيه تسلط عَلَى يُوسُف ويوشع بوساوس ونزغ وَإِنَّمَا هُو بشغل خواطر هما بِأُمُور أُخَر وَتَذْكِيرِهِما من أُمُورِهِمَا مَا يُنْسِيهِمَا مَا نَسِيَا، وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ) فَلَيْس فِيه ذِكْر تَسَلُّطِه عَلَيْه وَلَا وَسْوَسَتِه لَه بَل إنّ كَان بِمُقْتَضى ظَاهرِه فَقَد بَيْن أمْر ذَلِك الشَّيْطَان بِقَوْلِه: (إن شيطان أَتَى بِلالًا فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ) فَاعْلَم أَنّ تَسَلُّط الشَّيْطَان فِي ذَلِك الْوَادِي إنَّمَا كَان عَلَى بلال الْمُوَكَّل بِكَلاءَة الْفَجْر، هَذَا إنّ جَعَلْنَا قَوْله: (إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ) تَنْبِيهًا عَلَى سَبَب النّوْم عَن الصَّلَاة، وَأَمَّا إنّ جَعَلْنَاه تَنْبِيهًا عَلَى سَبَب الرَّحِيل عَن الْوَادِي وَعِلَّة لِتَرْك الصَّلَاة بِه وَهُو دَلِيل مَسَاق حَدِيث زَيْد بن أسْلَم فَلَا اعْتِرَاض بِه فِي هَذَا الْبَاب لِبَيَانِه وإرتفاع إشكاله.

_ (وقوله يهدئه) بسكون الهاء وكسر الدال المخففة بعدها همزة، في الصحاح أهدأت الصبى إذا جعلت تضرب عليه بكفك وتسكنه لينام (قوله بكلاءة) أي بحراسة (*)

فصل وأما أقواله صلى الله عليه وسلم فقد قامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه

فصل وَأَمَّا أقْوَالُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَد قَامَت الدَّلائِل الْوَاضِحَة بصحَّة المُعْجِزَة عَلَى صِدْقِه وَأَجْمَعَت الْأُمَّة فِيمَا كَان طَرِيقُه البَلاغ أنَّه مَعْصُوم فِيه من الأخبار عن شئ مِنْهَا بِخِلَاف مَا هُو بِه لَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا أَمَّا تَعَمُّد الخنف فِي ذَلِك فمنْتَف بِدَلِيل المعجزة القائِمَة مَقَام قول اللَّه صَدَق فِيمَا قَال اتّفَاقًا، وَبإطْبَاق أَهْل المِلَّة إجْماعًا وَأما وُقُوعُه عَلَى جِهَة الغَلَط فِي ذَلِك فَبِهَذَه السَّبِيل عِنْد الأُسْتَاذ أَبِي إِسْحَاق الإسْفَرائِني وَمِن قَال بِقَوْلِه وَمِن جهة الإجْمَاع فَقَط وَوُرُود الشَّرْع بانْتِفَاء ذَلِك وعصمة النبي لَا من مُقْتَضَى المُعْجِزَة نَفْسِهَا عِنْد الْقَاضِي أَبِي بَكْر الْبَاقِلَّانِي وَمِن وافقه لاختلاف بَيْنَهُم فِي مُقْتَضَى دَلِيل الْمُعْجِزَة لَا نُطَوّل بِذِكْرِه فَنَخْرُج عَن غَرَض الْكِتَاب فَلْنَعْتَمد عَلَى مَا وَقَع عَلَيْه إجْمَاع المُسْلِمين أنَّه لَا يَجُوز عَلَيْه خُلْف فِي القَوْل إبْلاغ الشَّرِيعَة وَالإعْلام بِمَا أخْبَر بِه عَن رَبَّه وَمَا أوْحَاه إليْه من وَحْيِه لَا عَلَى وَجْه العَمْد وَلَا عَلَى غَيْر عَمْد وَلَا فِي حَالي الرَّضَى وَالسَّخْط وَالصَّحّة وَالمَرض، وَفِي حَدِيث عَبْد الله ابن عَمْرو قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأَكْتُبُ كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَال (نَعَم) قُلْتُ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبَ؟ قَالَ نَعَمْ فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا حَقًّا) وَلْنَزِدْ مَا أَشَرْنَا إليْه من دَلِيل الْمُعْجِزَة عَلَيْه بَيَانًا: فَنَقُول إذَا قامت الْمُعْجِزَة عَلَى صَدْقِه وَأنَّه لَا يَقُول إلَّا حَقًّا وَلَا يُبَلّغ عَن اللَّه إلَّا صِدْقًا وَأَنّ الْمُعْجِزَة قَائِمة مَقَام قَوْل اللَّه لَه صَدَقْت فِيمَا تَذْكُرُه عني وَهُو يَقُول إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لا بلغكم مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إليكم وأبين لَكُمْ مَا نُزِّلَ عَلَيْكُمْ (وَمَا يَنْطِقُ

فصل وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين سؤالات

عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) وَقَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبَّكُمْ، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ الْغَلَطَ وَالسَّهْوَ لَمَا تَمَيَّزَ لَنَا مِنْ غَيْرِهِ ولا اختلط الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَالْمُعْجِزَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَصْدَيقِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غير خصوص فتبريه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذَلِك كُلَّه وَاجِب بُرْهَانًا وَإجْماعًا كَمَا قاله أَبُو إِسْحَاق فصل وَقَد تَوَجَّهَت ههُنا لِبَعْض الطاعِنِين سُؤَالات مِنْهَا مَا رُوِي من أَنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة وَالنَّجْم وَقَال (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى) قَال تِلْك الغَرَانِيق العُلى وَإِنّ شَفَاعَتَهَا لِتُرْتَجى وَيُرْوَى تُرْتَضَى، وَفِي رِوَايَة إن شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، وأنها لَمَع الغَرَانِيق العُلى وَفِي أُخْرَى وَالغَرَانِقَة العُلَى تِلْك الشَّفَاعَة تُرْتَجى، فَلَمّا خَتَم السُّورَة سَجَد وَسَجَد مَعَه الْمُسْلِمُون وَالكُفَّار لَمّا سَمِعُوه أثْنى عَلَى آلِهتِهِم وَمَا وقَع فِي بَعْض الروايات أَنّ الشَّيْطَان ألفاها عَلَى لِسَانِه وَأَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان يَتَمَنَّى أَنّ لَو نَزَل عَلَيْه شئ يُقَارِب بَيْنَه وَبَيْن قَوْمِه * وَفِي رِوَايَة أُخْرَى

_ (قوله بخلاف مخبره) بضم الميم وفتح الموحدة (قوله الغرانيق) في الصحاح الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق، وإذا وصف بها الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون فيهما وغرنوق وغرانق وهو الشاب الناعم والجمع الغرانق بالفتح والغرانيق والغرانقة انتهى (*)

أَنّ لَا يَنْزِل عليه شئ يُنَفَّرُهُم عَنْه وَذَكَر هَذِه الْقِصَّة وَأَنّ جِبْرِيل عَلَيْه السَّلَام جَاءَه فَعَرَض عَلَيْه السُّورَة فَلَمّا بَلَغ الكلمتين قال له مَا جئْتُك بِهَاتَيْن، فَحَزِن لِذَلِك النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فأنْزل اللَّه تَعَالَى تَسْلِيَة لَه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ولا نبى) الآيَة وَقَوْلُه (وَإِنْ كادوا ليفتنونك) الآيَة، فاعْلَم أَكْرَمَك اللَّه أَنّ لَنَا فِي الْكَلَام عَلَى مُشْكل هَذَا الْحَدِيث مَأْخَذيْن أحَدُهُمَا فِي تَوْهِين أصْلِه وَالثَّاني عَلَى تَسْلِيمِه، أَمَّا الْمَأْخَذ الأوّل فَيَكْفِيك أَنّ هَذَا حَدِيث لَم يُخَرَّجْه أَحَد من أَهْل الصّحَّة وَلَا رَوَاه ثِقَة بِسَنَد سَلِيم مُتّصِل وَإِنَّمَا أُولِع بِه وَبمِثْلِه الْمُفَسِّرُون وَالْمُؤَرّخُون الْمُولَعُون بِكُلّ غَريب الْمُتَلَقّفُون من الصحف كُلّ صحيح وَسَقِيم وَصَدَق الْقَاضِي بَكْرُ بن الْعَلَاء الْمَالِكيّ حَيْث قَال لَقَد بُلِي النَّاس بِبَعْض أَهْل الأهْوَاء وَالتَّفْسِير وَتَعَلَّق بِذَلِك الْمُلحِدُون مَع ضَعْف نَقَلَتِه وَاضْطِرَاب رِوَايَاتِه وَانْقِطَاع إسْنَادِه وَاختِلَاف كَلِمَاتِه فَقَائِل يَقُول إنَّه فِي الصَّلَاة، وآخَر يَقُول قالها فِي نَادِي قَوْمِه حِين أُنْزِلَت عَلَيْه السُّورَة، وآخر يقول قالها وقد أصابته سنة، وَآخَر يَقُول بَل حدث نفسه فيها، وآخر يقول إن الشيطان قَالَهَا عَلَى لِسَانِه وَأَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَمّا عَرَضَهَا عَلَى جِبْرِيل قَال مَا هكذا أقْرَأْتُك، وَآخَر يَقُول بَل أَعْلَمَهُم الشَّيْطَان أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَرَأَهَا، فَلَمّا بَلَغ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ذَلِك قَال والله مَا هكَذَا نَزلَت، إِلَى غَيْر ذَلِك مِن اخْتِلَاف الرُّوَاة، وَمِن حُكِيَت هَذِه الحِكَايَة عَنْه مِن الْمُفَسّرِين وَالتَّابِعِين لَم يُسْندْهَا أحَد مِنْهُم وَلَا رَفَعَهَا إِلَى

_ (قوله المولعون) بضم الميم وفتح اللام (قوله لَقَد بُلِي النَّاس) بضم الموحدة وكسر اللام (قوله سنة) بكسر السين وفتح النون أي نعاس. (*)

صَاحِب وَأكْثَر الطُّرُق عَنْهُم فِيهَا ضَعِيفَة وَاهِية وَالمَرْفُوع فِيه حَدِيث شُعْبَة عَن أَبِي بِشْر عَن سَعِيد بن جُبَيْر عَن ابن عَبَّاس قَال فِيمَا أحْسِب الشك فِي الْحَدِيث أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان بِمَكَّة وَذَكَر الْقِصَّة قَال أَبُو بَكْر الْبَزَّار هَذَا الْحَدِيث لَا نَعْلَمُه يُرْوَى عَن النَّبِيّ صَلَّى الله علبه وَسَلَّم بِإسْنَاد مُتَّصِل يَجُوز ذِكْرُه إلَّا هَذَا وَلَم يُسْنِدْه عَن شُعْبَة إلَّا أُمَيَّة بن خَالِد وَغَيْرُه يُرْسِلُه عَن سَعِيد بن جُبَيْر وَإِنَّمَا يُعْرَف عَن الكَلْبِيّ عَن أَبِي صالح عَن ابن عَبَّاس فَقَد بَيْن لَك أَبُو بَكْر رحمه اللَّه أنَّه لَا يُعْرَف من طَرِيق يَجُوز ذِكْرُه سِوَى هَذَا وَفِيه مِن الضَّعْف مَا نَبَّه عَلَيْه مَع وُقُوع الشك فِيه كَمَا ذَكَرَنَاه الَّذِي لَا يُوثَق بِه وَلَا حَقِيقَة مَعَه، وَأَمَّا حَدِيث الْكَلْبِي فمِمَّا لَا تَجُوز الرَّواية عَنْه وَلَا ذِكْرُه لِقُوَّة ضَعْفِه وَكَذِبِه كَمَا أشَار إليْه الْبَزَّار رَحِمَه اللَّه وَالَّذِي مِنْه فِي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَرَأَ وَالنَّجْمِ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ، هَذَا تَوْهِينُهُ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَأَمَّا من جِهة الْمَعْنَى فَقَد قَامَت الْحُجَّة وَأَجْمَعت الأُمَّة عَلَى عِصْمَتِه صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّم وَنَزَاهِتِه عَن مثل هذه الرذبلة إِمَّا من تَمَنَّيه أن يُنْزَل عَلَيْه مِثْل هَذَا من مَدْح آلِهة غَيْر اللَّه وَهُو كُفْر أَو أن يَتَسَوَّر عَلَيْه الشَّيْطَان وَيُشَبَّه عَلَيْه الْقُرْآن حَتَّى يَجْعل فِيه مَا لَيْس مِنْه وَيَعْتقَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَنّ مِن الْقُرْآن مَا لَيْس مِنْه حَتَّى يُنَبّهَه جِبْرِيل عَلَيْه السَّلَام وَذَلِك كُلُّه مُمْتَنِع فِي حَقَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو يَقُول ذَلِك النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من قِبَل نَفْسِه عَمْدًا - وَذَلِك كُفْر - أَو سَهْوًا وهو مَعْصُوم من هَذَا كله وَقَد قَرَّرْنا بِالبَرَاهِين وَالإجْماع عِصْمَتَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من جَرَيان

_ (قوله عَن أَبِي بِشْر) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة. (*)

الْكُفْر عَلَى قَلْبِه أَو لِسَانِه لَا عَمْدًا وَلَا سَهُوًا أَو أن يَتَشَبّه عَلَيْه مَا يُلْقِيه الْمُلْك مِمَّا يُلْقي الشَّيْطَان أَو يَكُون لِلشَّيْطَان عَلَيْه سَبِيل أَو أن يَتَقَوَّل عَلَى اللَّه لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا مَا لَم يُنْزَل عَلَيْه وَقَد قَال اللَّه تَعَالَى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل) الآية، وقال تَعَالَى (إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) الآيَة، وَوَجْه ثان وَهُو اسْتِحَالة هَذِه الْقِصَّة نَظَرًا وَعُرْفًا وَذَلِك أَنّ هَذَا الْكَلَام لَو كَان كما رُوِي لكان بعيد الالْتِئَام مُتَنَاقِض الْأَقْسَام مُمْتَزِج المدح بالضم مُتَخاذِل التَّأْلِيف وَالنّظْم وَلَمَّا كَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَا من بِحَضْرَتِه مِن الْمُسْلِمِين وَصَنَادِيد المُشْرِكِين مِمَّن يَخْفى عَلَيْه ذَلِك وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أدْنى مُتَأمّل فَكَيْف بِمَن رَجَح حِلْمُه وَاتَّسَع فِي باب الْبَيَان؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ فَصِيح الْكَلَام عِلْمُه، وَوَجْه ثالث أنَّه قَد عُلِم من عَادَة المُنَافِقِين وَمُعَانِدِي المُشْرِكِين وضَعَفَه الْقُلُوب وَالجَهَلَة مِن المُسْلِمِين نُفُورُهُم لأوَّل وَهْلَة وَتَخْلِيط الْعَدُوّ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِأَقَلّ فِتْنَة وَتَعْييرُهُم المُسْلِمِين وَالشَّمَاتَة بِهِم الْفَيْنَة بَعْد الْفَيْنَة وَارْتِدَاد من فِي قَلْبِه مَرَض مِمَّن أظْهَر الإسلام لأدنى شُبْهَة وَلَم يَحْك أحَد فِي هَذِه الْقِصَّة شَيْئًا سوى هَذِه الرّوَايَة الضَّعِيفَة الْأَصْل وَلَو كَان ذَلِك لَوَجَدَت قُرَيْش بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِين الصَّوْلَة وَلأقَامَت بِهَا الْيَهُود عَلَيْهِم الْحُجَّة كَمَا فَعَلُوا مُكَابَرَة فِي قِصَّة الْإِسْرَاء حَتَّى كَانَت فِي ذلك لبعض

_ (قوله متخاذل) بالخاء والذال المعجمتين (قوله وصناديد) جمع صنديد بكسر الصاد المهملة وهو السيد الشجاع (قوله والشمات) بضم الشين المعجمة وتشديد الميم: جمع شامت (قوله الْفَيْنَة بَعْد الْفَيْنَة) بفاء مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة ونون؟ ؟ ؟ ؟ بعد الحين (*)

الضُّعَفَاء رِدَة وَكَذَلِك مَا رُوِي فِي قِصَّة القضِيَّة وَلَا فِتْنَة أعْظَم من هَذِه البلية لَو وُجِدَت وَلَا تَشْغِيب للمُعَادِي حِينئذ أشَد من هَذِه الحَادِثَة لَو أمْكَنَت فَمَا رُوِي عَن مُعَانِد فِيهَا كَلِمة وَلَا عَن مُسْلِم بسببها بِنْت شَفَة فَدَلّ عَلَى بُطْلِها واجْتثَاث أصْلِها وَلَا شَكّ فِي إدْخَال بَعْض شَيَاطِين الإنس أَو الجِنّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى بَعْض مُغَفَّلي المحدثين ليلبسن بِه عَلَى ضُعَفاء الْمُسْلِمِين. وَوَجْه رَابع ذَكَر الرُّوَاة لِهَذِه القَضِيَّة أَنّ فِيهَا نَزَلَت (وَإِنْ كَادُوا ليفتنونك) الآيَتَيْن، وَهَاتان الآيتان تَرُدَّان الخَبَر الَّذِي رَوَوْه لِأَنّ اللَّه تَعَالَى ذَكَر انهم كَادُوا يَفْتِنُونَه حَتَّى يَفْتَرِي وَأنَّه لولا أن ثبته لَكَاد يَرْكَن إِلَيْهِم فَمَضْمُون هَذَا وَمَفْهُومُه أن الله تعالى عصمه من أَنّ يَفْتَرى وَثَبَّتَه حَتَّى لَم يَرْكَن اليهم قلِيلًا فَكَيْف كَثِيرا وهم يرون فِي أخْبَارِهم الْوَاهِيَة أنَّه زَاد عَلَى الرُّكُون وَالافْتِرَاء بِمَدْح آلِهَتِهِم وَأنَّه قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (افْتَرَيْتَ عَلَى اللَّهِ وَقُلْتَ مَا لَمْ يَقُلْ) وَهَذَا ضِدّ مَفْهُوم الآية وَهِي تضعف الْحَدِيث لَو صَحّ فَكَيْف وَلَا صِحَّة لَه؟ وَهَذَا مِثْل قَوْلِه تَعَالَى فِي الآيَة الأخرى (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يضرونك من شئ) وَقَد رُوِي عَن ابن عَبَّاس كُلّ مَا فِي الْقُرْآن كاد فَهُو مَا لَا يَكُون قَال اللَّه تَعَالَى (يَكَادُ سنابرقه يذهب بالأبصار) وَلَم يَذْهَب وَأَكَاد أُخْفِيهَا وَلَم يَفْعَل، قَال الْقُشَيْرِيّ الْقَاضِي وَلَقَد طَالَبَه قُرَيْش وَثَقيف إذ مَرّ بآلِهتِهِم أن يُقْبل بوَجْهِه إِلَيْهَا وَوَعَدُوه الْإِيمَان بِه إنّ فعل فما فَعَل وَلَا كَان لِيَفْعَل، قَال ابن الأنْبَارِيّ مَا قَارَب الرَّسُول وَلَا رَكَن وَقَد ذُكرَت فِي مَعْنَي هَذِه الآيَة تَفَاسِير

أُخَر مَا ذَكَرَناه من نص اللَّه عَلَى عِصْمَة رسوله تَرُدّ سِفْسافَهَا فَلَم يَبْق فِي الآيَة إلَّا أَنّ اللَّه تَعَالَى امْتَنّ عَلَى رسوله بِعِصْمِتِه وتَثْبِيتِه بِمَا كادَه بِه الكُفَّار وَرَامُوا من فِتْنَتِه وَمُرَادُنَا من ذَلِك تَنْزِيهُه وَعِصْمَتُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَهُو مَفْهُوم الآيَة، وَأَمَّا المَأْخَذ الثاني فَهُو مَبْنِي عَلَى تَسِليم الْحَدِيث لَو صَحّ وَقَد أعاذَنا اللَّه من صِحَّتِه وَلَكِن عَلَى كُلّ حَال فَقَد أجَاب عَن ذَلِك أئمة الْمُسْلِمِين بأجْوبة مِنْهَا الغَثّ وَالسَّمِين فَمِنْهَا مَا رَوَى قَتَادَة وَمُقَاتِل أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أصَابَتْه سِنَة عِنْد قِرَاءَتِه هَذِه السُّورَة فَجَرَى هَذَا الْكَلَام عَلَى لِسَانِه بِحُكْم النَّوْم وَهَذَا لَا يَصِحّ إِذ لَا يَجُوز عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِثْلُه فِي حَالَة من أحْوالِه وَلَا يَخْلُقُه اللَّه عَلَى لِسَانِه وَلَا يَسْتَوْلِي الشَّيْطَان عَلَيْه فِي نَوْم وَلَا يَقَظَة لِعِصْمَتِه فِي هَذَا الْبَاب من جَمِيع الْعَمْد وَالسَّهْو وَفِي قَوْل الْكَلْبِيّ أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حَدَّث نَفْسَه فَقَال ذَلِك الشَّيْطَان عَلَى لِسَانِه، وَفِي رِوَايَة ابن شِهَاب عَن أَبِي بَكْر بن عَبْد الرَّحْمن قَال وَسَهَا فَلَمّا أُخْبِر بِذَلِك قَال إنَّمَا ذَلِك مِن الشَّيْطَان وَكُلّ هذه لَا يَصِحّ أن يَقُولَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا سَهْوًا وَلَا قَصْدًا وَلَا يَتَقَوَّلِه الشَّيْطَان عَلَى لِسَانِه وَقِيل لَعَلّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قالَه أثْنَاء تِلاوَتِه عَلَى تَقْدِير التَّقْرِير وَالتَّوْبِيخ لِلْكُفّار كقَوْل إبْرَاهِيم عَلَيْه السَّلَام هَذَا رَبِّي عَلَى أَحَد التَّأْوِيلات وَكَقَوْلِه بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا بَعْد السَّكُت وَبَيَان الْفَصل بَيْن الْكَلامَيْن ثُمّ رَجَع إِلَى تلاوته وهذا يمكن مَع بَيَان الْفَصل وَقَرِينَة تَدُلّ عَلَى الْمُرَاد وَأنَّه لَيْس مِن الْمَتْلُو وَهُو أَحَد مَا ذَكَرَه الْقَاضِي أَبُو بَكْر وَلَا يُعْتَرَض عَلَى هَذَا بِمَا رُوِي أنه

_ (قوله سفسافها) بسينين مهملتين وفاءين: أي حقيرها ورذلها. (9 - 2) (*)

كَان فِي الصَّلَاة فَقَد كَان الْكَلَام قَبْل فِيهَا غَيْر مَمْنُوع والذي يَظْهَر وَيَتَرَجَّح فِي تأْوَيله عِنْدَه وعند غَيْرِه مِن الْمُحَقّقين عَلَى تَسْلِيمِه أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان كَمَا أمَرَه ربه يُرَتّل الْقُرْآن تَرْتِيلًا وَيُفَصّل الآي تَفْصِيلًا فِي قِرَاءَتِه كَمَا رَوَاه الثّقَات عَنْه فَيُمْكِن تَرَصُّد الشَّيْطَان لِتِلْك السَّكَتَات وَدَسُّه فيها ما اختلفه من تِلْك الْكَلِمَات مُحَاكِيًا نَغْمَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بَحَيْث يَسْمَعُه من دَنَا إليْه من الكفا فَظَنُّوها من قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأشَاعُوهَا وَلَم يَقْدَح ذَلِك عِنْد الْمُسْلِمِين بِحْفظ السُّورَة قَبْل ذَلِك عَلَى مَا أنْزَلَهَا اللَّه وَتَحَقُّقِهم من حَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي ذَمّ الْأَوْثَان وعيبها عُرِف مِنْه وَقَد حَكى مُوسَى بن عُقْبَة فِي مَغَازِيه نَحْو هَذَا، وَقَال إنّ الْمُسْلِمِين لَم يَسْمَعُوهَا وَإِنَّمَا ألْقَى الشَّيْطَان ذَلِك فِي أسْمَاع الْمُشْرِكِين وَقُلُوبِهِم وَيَكُون مَا رُوِي من حُزْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لهذه الإشَاعَة وَالشُّبْهَة وَسَبَب هَذِه الفِتْنَة وَقَد قَال الله تعالى (وما أرسلنا من قبلكم مِنْ رَسُولٍ وَلا نبى) الآيَة فَمَعْنَي تَمَنَّى: تلا، قَال اللَّه تَعَالَى: (لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ) أَي تِلَاوَة وَقَوْلُه (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشيطان) أَي يُذْهِبُه وَيُزِيِل اللَّبْس بِه وَيُحْكِم آياتِه، وَقِيل مَعْنَي الآيَة هُو مَا يَقَع لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن السَّهْو إذَا قَرَأ فَيَنْتَبِه لِذَلِك وَيَرْجع عَنْه وَهَذَا نَحْو قول الكلْبِيّ فِي الآيَة أنه حَدَّث نَفْسَه وَقَال إذَا تَمَنَّى أَي حَدَّث نَفْسَه، وَفِي رِوَايَة أَبِي بَكْر بن عَبْد الرَّحْمن نَحْوَه وَهَذَا السَّهْو فِي القِرَاءَة إنَّمَا يَصِحّ فِيمَا لَيْس طَرِيقُه تَغْيير المَعَانِي وتبديل الألفاظ

_ (قوله وَقَد حَكى مُوسَى بن عقبة) أي ابن أبى عباس وفى بعض النسخ محمد بن عقبة، وليس بصواب. (*)

وَزِيَادَة مَا لَيْس مِن القرآن بَل السَّهْو عن إسقاط آية منه أو كلمة ولكنه لا يقر على هذا السهو بَل يُنَبَّه عَلَيْه وَيُذَكَّر بِه لِلحِين عَلَى مَا سَنَذْكُرُه فِي حُكْم مَا يَجُوز عَلَيْه مِن السهو وَمَا لَا يَجُوز وَمِمَّا يَظْهَر فِي تأْويلِه أيْضًا أَنّ مُجَاهِدًِا رَوَى هَذِه الْقِصَّة وَالغَرَانِقَة العُلَى فإن سَلَّمْنا الْقِصَّة قُلْنَا لَا يَبْعُد أَنّ هَذَا كَان قُرْآنًا وَالمُرَاد بِالْغَرانِقَةِ الْعُلَى وأن شفاعتهن لتربحي الْمَلَائِكَة عَلَى هَذِه الرّوَايَة وبهذا فَسَّر لكلى الغَرَانِقَة أنَّهَا الْمَلَائِكَة وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الْأَوثَان وَالْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه كَمَا حَكى اللَّه عَنْهُم وَرَد عَلَيْهِم فِي هَذِه السُّورَة بِقَوْلِه (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى) فأنكَر اللَّه كُلّ هَذَا من قَوْلِهم وَرَجَاء الشَّفَاعَة مِن الْمَلَائِكَة صَحِيح فَلَمّا تَأوَّلَه المُشْرِكُون عَلَى أَنّ المُرَاد بَهَذَا الذكر آلهتهم وليس عَلَيْهِم الشَّيْطَان ذَلِك وزَيَّنَه فِي قُلُوبِهِم وَألْقَاه إلَيْهِم نَسَخ اللَّه مَا ألقى الشَّيْطَان وأحْكَم آياتِه وَرَفَع تِلَاوَة تِلْك اللَّفْظَتْين اللَّتَيْن وَجَد الشَّيْطَان بهما سَبيلًا للإلْباس كَمَا نُسِخ كَثِير مِن الْقُرْآن وَرُفِعَت تِلَاوَتُه وَكَان فِي إنْزَال اللَّه تَعَالَى لِذَلِك حِكْمَة وَفِي نَسْخِه حِكْمَة لِيُضِلّ بِه من يَشَاء وَيَهْدي من يَشَاء وَمَا يُضِلّ بِه إلَّا الفاسِقين وَ (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) الآية - وَقِيل إن النبي صلى اللَّه عليه وَسَلَّم لَمّا قَرَأ هَذِه السُّورَة وَبَلَغ ذكرت اللات وَالعُزَّى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى خَاف الكُفَّار أن يَأتِي بشئ من ذَمّهَا فَسَبَقُوا إلى مدحها

_ (قوله وَرَفَع تِلَاوَة تِلْك اللفظين) الظاهر أن يقال تينك كَمَا وَقَعَ فِي بعض النسخ وكذا قوله بتلك الكلمتين: الظاهر أن يقال بتينك (*)

بِتِلَك الكلِمَتْين لِيُخَلّطُوا فِي تِلَاوَة النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم وبشنعوا عَلَيْه عَلَى عَادِتِهِم وقوْلِهِم (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ونُسِب هَذَا الفِعْل إِلَى الشَّيْطَان لِحَمْلِه لَهُم عَلَيْه وَأَشَاعُوا ذَلِك وَأَذَاعُوه وَأَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قالَه فَحَزِن لِذَلِك من كَذبِهِم وَافتِرَائِهِم عَلَيْه فَسَلَّاه اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِه (وَمَا أَرْسَلْنَا من قبلك) الآيَة، وَبَيْن لِلنَّاس الْحَقّ من ذَلِك مِن الْبَاطِل وَحَفِظ الْقُرْآن وَأحْكَم آياتِه وَدَفَع مَا لَبَّس بِه العَدُوّ كَمَا ضَمِنَه تَعَالَى من قَوْلِه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون) وَمِن ذَلِك مَا رُوِي من قِصَّة يُونُس عليه السلام أنَّه وَعَد قَوْمَه العذاب عن رَبَّه فَلَمّا تَابُوا كُشِف عَنْهُم العذاب فَقَال لَا أرْجِع إِلَيْهِم كَذَّابًا أبدًا فَذَهَب مُغَاضِبًا. فاعْلَم أَكْرَمَك اللَّه أَنّ لَيْس فِي خَبَر مِن الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب أَنّ يُونُس عَلَيْه السَّلَام قَال لَهُم إنّ اللَّه مُهْلِكَهُم وَإِنَّمَا فِيه أنَّه دَعَا عَلَيْهِم بالْهَلاك، وَالدُّعَاء لَيْس بِخَبَر يُطْلَب صِدْقُه من كَذبِه، لكنه قَال لَهُم إنّ العذاب مُصَبّحُكُم وقت كذا وكذا فكان ذلك كَمَا قَال ثُمّ رَفَع اللَّه تَعَالَى عَنْهُم العذاب وَتَدَارَكَهُم، قَال اللَّه تَعَالَى (إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ) الآيَة وَرُوي فِي الْأَخْبَار أَنَّهُم رَأَوْا دَلَائِل الأعذاب وَمَخَايِلَه، قاله ابن مَسْعُود، وَقَال سَعِيد بن جُبَيْر غَشَّاهُم الْعَذَاب كما يُغَشّى الثَّوْب الْقَبَر. فإن قُلْت فَمَا مَعْنَي مَا رُوِي أَنّ عَبْد اللَّه بن أَبِي سَرْح كَان يَكْتُب لِرَسُول اللَّه صلى الله عليه وآلِه وسلم ثُمّ ارْتَدّ مُشْرِكًا وَصَار إِلَى قُرَيْش فَقَال لَهُم إنّي كُنْت أُصَرّف مُحَمَّدًا حَيْث أُرِيد كَان يُمْلِي عَلِيّ عَزيز حَكِيم

_ (قوله ابن أبى سرح) بسين مهملة وراء ساكنة وحاء مهملة (*)

فَأقُول أَو عَلِيم حَكِيم؟ فَيَقُول نَعَم كُلّ صَوَاب، وَفِي حَدِيث آخَر فَيَقُول لَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (اكْتُبْ كَذَا) فَيَقُولُ أَكْتُبُ كَذَا: فَيَقُولُ: (اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ) وَيَقُولُ اكْتُبْ عَلِيمًا حَكِيمًا فَيَقُولُ اكْتُبْ سَمِيعًا بَصِيرًا؟ فَيَقُولُ لَهُ اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَصْرَانِيًّا كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَكَانَ يَقُولُ مَا يَدْرِي مُحَمَّد إلَّا مَا كَتَبْت لَه: اعلم ثَبّتَنَا اللَّه وَإيّاك عَلَى الْحَقّ وَلَا جَعَل لِلشَّيْطَان وَتَلْبِيسِه الْحَقّ بِالبَاطِل إِلَيْنَا سَبِيلًا أَنّ مِثْل هذه الحكاة أوّلًا لَا تُوقِع فِي قَلْب مُؤْمِن رَيْبًا إِذ هِي حِكَاية عَمَّن ارْتَدّ وَكَفَر بالله وَنَحْن لَا نَقْبَل خَبَر المسلم الْمُتَّهَم فَكَيْف بِكَافر افْتَرَى هُو وَمِثْلُه عَلَى اللَّه ورسوله مَا هُو أعْظَم من هَذَا؟ وَالْعَجَب لِسَلِيم العَقْل يَشْغَل بِمِثَل هَذِه الحِكَايَة سِرَّه وَقَد صَدَرَت من عَدُوّ كافر مبغض للدين مفتر على الله وَرَسُولِه وَلَم يَرِد على أحد من السملمين وَلَا ذَكَر أَحَد مِن الصَّحَابَة أنَّه شَاهَد مَا قاله وَافْترَاه عَلَى نَبِيّ اللَّه وَإِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِب الذين لَا يُؤمِنُون بِآيات اللَّه وَأُولئِك هُم الْكَاذِبون، وَمَا وَقَع من ذِكْرِهَا فِي حَدِيث أَنَس رَضِي اللَّه عَنْه وَظَاهِر حِكَايَتِهَا فليس فِيه مَا يَدُلّ عَلَى أنَّه شَاهَدَها وَلَعَلَّه حَكى مَا سَمِع وَقَد عَلَّل البزاز حَدِيثه ذَلِك وَقَال: رَوَاه ثَابِت عَنْه وَلَم يُتَابَع عَلَيْه، وَرَوَاه حَمِيد عَن أَنَس قَال وأظن حميدًا إنَّمَا سَمِعَه من ثابت، قَال الْقَاضِي أبو الفضل وَفَّقَه اللَّه ولهذا والله أَعْلَم لَم يُخَرّج أَهْل الصَّحِيح حَدِيث ثابت وَلَا حَمِيد والحصحيح حَدِيث عَبْد اللَّه بن عزيز بن رفيع عَن أَنَس رَضِي اللَّه عَنْه الَّذِي خَرَّجَه أَهْل الصّحَّة وَذَكَرْناه وَلَيْس فِيه عَن أَنَس قول شئ من ذلك من قَبْل نَفْسِه إلَّا من حِكَايَتِه عَن المُرْتَد النّصْرَانيّ

وَلَو كَانَت صَحِيحَة لَمّا كَان فِيهَا قَدْح وَلَا تَوْهِيم لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِيمَا أُوحِي إليْه وَلَا جَوَاز لِلنّسْيَان وَالغَلَط عَلَيْه وَالتَّحْرِيف فِيمَا بَلَّغَه وَلَا طَعْن فِي نَظْم الْقُرْآن وأن من عِنْد اللَّه إِذ لَيْس فِيه لَو صَحّ أَكَثَر من أَنّ الكاتِب قَال لَه عَلِيم حَكِيم أَو كَتَبَه فَقَال لَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَذَلِك هُو فَسَبَقَه لِسَانُه أَو قلمه لِكَلِمَة أَو كَلِمَتَيْن مِمَّا نُزّل عَلَى الرَّسُول قَبْل إظْهَار الرَّسُول لَهَا إِذ كَان مَا تَقَدَّم مِمَّا أمْلَاه الرَّسُول يَدُلّ عَلَيْهَا وَيَقْتَضَي وُقُوعَهَا بِقُوَّة قُدْرَة الكاتِب عَلَى الْكَلَام وَمَعْرِفَته بِه وَجَوْدَة حِسّه وَفِطْنَتِه كَمَا يَتَّفِق ذَلِك لِلْعَارِف إذَا سَمِع البَيْت أن يَسْبِق إلى قافِيَتِه أَو مُبْتَدإ الْكَلَام الْحَسَن إلى مَا يَتِمّ بِه وَلَا يَتَّفِق ذَلِك فِي جُمْلَة الْكَلَام كَمَا لَا يَتَّفِق ذَلِك فِي آية وَلَا سُورَة، وَكَذَلِك قَوْلُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أن صَحّ كُلّ صَوَاب فَقَد يَكُون هَذَا فِيمَا فِيه من مَقَاطِع الآي وَجْهَان وقراءتان أنزلنا جَميعًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَأَمْلى إحْدَاهُمَا وَتَوَصَّل الكاتب بِفِطْنَتِه وَمَعْرِفَتِه بِمُقْتَضى الْكَلَام إلى الْأُخْرَى فَذَكَرَهَا لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَصَوَّبَهَا لَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ثُمّ أَحْكَم اللَّه من ذَلِك مَا أَحْكَم وَنَسَخ مَا نَسَخ كَمَا قَد وجد ذَلِك فِي بَعْض مقاطيع الآى مثله قَوْلِه تَعَالَى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم) وَهَذِه قِرَاءَة الجُمْهُور وَقَد قَرَأ جَمَاعَة فإنَّك أنْت الغَفُور الرحيم وَلَيْسَت مِن المُصْحَف وَكَذَلِك كَلِمَات جَاءَت عَلَى وَجْهَيْن فِي غَيْر المَقَاطِع قَرَأ بهما معًا الْجُمْهُور وَثَبَتَتَا فِي المُصْحَف مِثْل (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ ننشرها، وننشزها - - ويقضى اللحق، وَيَقُصّ الْحَقّ) وَكُلّ هَذَا لَا يُوجِب رَيْبًا وَلَا يُسَبّب لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم غَلَطًا وَلَا وَهْمًا وَقَد قِيل إنّ هَذَا يحتمل

فصل هذا القول فيما طريقه البلاغ

أَنّ يَكُون فِيمَا يَكْتُبُه عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِلَى النَّاس غَيْر الْقُرْآن فَيَصِف اللَّه وَيُسَمّيه فِي ذَلِك كيف شَاء. فصل هَذَا القول فِيمَا طَرِيقُه الْبَلَاغ وَأَمَّا مَا لَيْس سبيله سبيل الْبَلَاغ مِن الْأَخْبَار التي لَا مُسْتَند لَهَا إِلَى الأحْكام وَلَا أَخْبَار الْمعَاد وَلَا تُضَاف إِلَى وَحْي بَل فِي أُمُور الدُّنْيَا وَأحْوَال نَفْسِه فالَّذِي يَجِب تَنْزِيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن أن يَقَع خَبَرُه فِي شئ من ذَلِك بِخِلَاف مُخْبَرِه لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا وَأنَّه مَعْصُوم من ذَلِك فِي حَال رِضَاه وَفِي حَال سَخَطِه وَجدّه وَمَزْحِه وَصِحَّتِه وَمَرَضِه وَدَلِيل ذَلِك اتَّفَاق السَّلَف وَإجْماعُهُم عَلَيْه وَذَلِك أَنَا نَعْلَم من دِين الصَّحَابَة وَعَادَتهِم مُبَادَرتَهُم إِلَى تَصْديق جَميع أحْوالِه وللثقة بِجميع أخْبَارِه فِي أَي بَاب كَانَت وَعَن أي شئ وَقَعَت وَأنَّه لَم يَكُن لَهُم تَوَقُّف وَلَا تَرَدُّد فِي شئ مِنْهَا وَلَا اسْتِثْبَات عَن حاله عِنْد ذَلِك هَل وَقَع فِيهَا سَهْو أم لَا، ولما احْتَجّ ابن أَبِي الْحُقَيْق الْيَهُودِيّ عَلَى عُمَر حِين أجْلاهُم من خَيْبَر بإقْرَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَهُم واحْتَجّ عَلَيْه عُمَر رَضِي اللَّه عَنْه بِقَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم: (كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ؟) فَقَالَ الْيَهُودِيُّ كَانَتْ هُزَيْلَةُ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وأيضًا فَإِنّ أخْبَارَه وَآثَاره وَسِيرَه وَشَمَائِلَه مُعْتَنَى بِهَا مُسْتَقْصّى تَفَاصِيلُهَا وَلَم يَرِد فِي شئ مِنْهَا اسْتِدْرَاكُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِغَلَط فِي قَوْل قاله أَو اعْتِرَافُه بوَهْم فِي شئ أخْبَر بِه وَلَو كان

_ (قوله وجده) بكسر الجيم: ضد الهزل. (*)

ذَلِك لَنُقِل كَمَا نُقِل من قِصَّتِه عَلَيْه السَّلَام رُجُوعُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَمَّا أشَار بِه عَلَى الْأَنْصَار في تلقيح النحل وَكَان ذَلِك رَأيًا لَا خَبَرًا وَغَيْر ذَلِك مِن الْأُمُور التي لَيْسَت من هَذَا الْبَاب كَقَوْلِه وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأُرَى غَيْرُهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا فَعَلْتُ الَّذِي حَلَفْتُ عَلَيْهِ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَقَوْلُهُ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ - الْحَدِيث - وَقَوْلُه اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يبلغ الماء الجدر كَمَا سَنُبَيِّنُ كُلَّ مَا فِي هَذَا مِنْ مُشْكِلِ مَا فِي هَذَا الْبَاب وَالَّذي بَعْدَه إن شَاء اللَّه مَع أشْبَاهِهِمَا وَأيْضًا فإن الْكَذِب مَتَى عُرف من أحَد فِي شئ مِن الْأَخْبَار بِخِلَاف مَا هُو عَلَى أَي وَجْه كَان اسْتُرِيب بِخَبَره واتُّهم فِي حَديثه وَلَم يَقَع قَوْله فِي النُّفُوس مَوْقعًا ولهذا تَرَك المُحَدّثُون وَالْعُلمَاء الْحَدِيث عَمَّن عُرِف بِالْوَهْم وَالْغَفْلَة وَسُوء الْحِفْظ وَكَثْرَة الْغَلَط مَع ثِقَتِه وَأيْضًا فَإنّ تَعَمُّد الْكَذِب في أُمُور الدُّنْيَا مَعْصِيَة وَالإكْثَار مِنْه كَبِيرَة بِإجْمَاع مُسْقِط لِلْمُرُوءَة وَكُلّ هَذَا مِمَّا يُنَزَّه عَنْه مَنْصِب النُّبُوَّة وَالمَرَّة الْوَاحِدَة مِنْه فِيمَا يستبشع ويستشنع مِمَّا يُخِلّ بِصَاحِبهَا ويزري بقائلها لا حقة بِذَلِك وَأَمَّا فِيمَا لَا يَقَع هَذَا الموْقِع فإن عَدَدْناهَا مِن الصَّغَائِر فهل تَجْرِي عَلَى حُكْمهَا فِي الخِلَاف فِيهَا مُخْتَلف فِيه وَالصَّوَاب تَنْزِيه النُّبُوَّة عَن قَلِيلِه وَكَثِيرِه وَسَهْوِه وَعَمْدِه إِذ عُمْدَة النُّبُوَّة الْبَلَاغ وَالإعْلَام وَالتَّبْيين وَتَصْدِيق مَا جاء بِه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم وتجويز شئ من هَذَا قَادِح فِي ذَلِك وَمُشَكّك فِيه مُنَاقِض لِلْمُعْجِزَة فَلْنَقْطَع عَن يَقِين بَأنَّه لَا يَجُوز

_ (قوله فِي تَلْقِيح النَّخْل) أي تبيرها وهو جعل شئ من النخل (الذكر في الأنثى) (قوله الجدر) بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة قيل المراد هنا أهل الحائط وقيل أصول الشجر وقيل جدر المشارب التى يجتمع فيها الماء في أصول الشجر (*)

فصل فإن قلت فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السهو

عَلَى الْأَنْبِيَاء خُلْف فِي القَوْل فِي وَجْه مِن الْوُجُوه لَا بِقَصْد وَلَا بِغَيْر قَصْد وَلَا نَتَسَامَح مَع من تسامح في تجوز ذَلِك عَلَيْهِم حَال السَّهْو فِيمَا لَيْس طَرِيقُه الْبَلَاغ، نَعَم وَبِأَنَّه لَا يَجُوز عَلَيْهِم الكَذِب قَبْل النُّبُوَّة وَلَا الاتّسَام بِه فِي أُمُورِهِم وَأحْوَال دُنْيَاهُم لِأَنّ ذَلِك كَان يُزْرِي وَيُرِيب بهم وَيُنَفّر القُلُوب عَن تَصْدِيقهِم بَعْد وَانْظُر أحْوَال عَصْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من قُرَيْش وَغَيْرِهَا مِن الْأُمَم وسُؤَالهِم عن حالِه فِي صِدْق لِسانِه وَمَا عُرِفُوا بِه من ذَلِك وَاعْتَرَفُوا بِه مِمَّا عُرِف وَاتَّفَق النَّقْل عَلَى عِصْمَة نَبيَّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِنْه قَبْل وبعد وَقَد ذَكَرْنا مِن الآثار فِيه فِي الْبَاب الثاني أَوَّل الْكِتَاب ما يُبَيّن لَك صِحَّة مَا أشَرْنا إليْه فصل فَإِنّ قُلْت فَمَا مَعْنَي قَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي حَدِيث السَّهْو الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْفَقِيهُ أَبُو إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا القاضي أبو الأصبغ ابن سَهْلٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الفَخَّارِ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ نَا يحيى عَنْ دَاوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَة رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ

_ (قوله ابن الحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين (قوله فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) اسمه الحرباق السلمى كان ينزل بذى خشب من ناحية المدينة له صحبة، قال الحسينى في رجال المسند وكان يقال له ذو الشمالين وليس هو بذى الشمالين إنما ذو الشمالين عمير ابن عبد عمرو بن حبلة الخزاعى استشهد ببدر، وقال الذهبي وهو ذو الزوائد. (*)

يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَفِي الرّوَايَة الأخْرَى ما قَصَرْتُ الصَّلَاةَ وَمَا نَسِيتُ - الْحَدِيث بِقِصَّتِه - فأخْبَر بِنَفْي الحَالَتَيْن وَأنَّهَا لَم تَكُن وَقَد كَان أَحَد ذَلِك كَمَا قَال ذُو اليَدَيْن قَد كَان بَعْض ذَلِك يَا رَسُول اللَّه، فاعْلَم وَفَّقَنَا الله ذَلِك كَمَا قَال ذُو اليَدَيْن قَد كَان بَعْض ذَلِك يَا رَسُول اللَّه، فاعْلَم وَفَّقَنَا الله وإياك أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِك أجْوبَة بَعْضُهَا بِصَدَد الإنْصَاف وَمِنْهَا مَا هُو بِنِيَّة التَّعَسُّف والاعْتِسَاف وها أَنَا أقُول أَمَّا عَلَى القَوْل بِتَجْوِيز الْوَهْم وَالغَلَط مِمَّا لَيْس طَرِيقُه مِن القَوْل الْبَلَاغ وَهُو الَّذِي زَيَّفْنَاه مِن القَوْلَيْن فَلَا اعْتِرَاض بَهَذَا الْحَدِيث وَشِبْهِه وَأَمَّا عَلَى مَذْهَب من يَمْنَع السَّهْو وَالنّسْيَان فِي أفْعَالِه جُمْلَة وَيَرَى أنَّه فِي مِثْل هَذَا عَامِد لِصُورَة النّسْيَان لِيَسُنّ فَهُو صَادِق فِي خَبَره لِأَنَّه لَم يَنْس وَلَا قَصُرَت وَلكِنه عَلَى هَذَا القول تَعَمَّد هذا الفعل في هذه الصورة ليسنه لِمَن اعْتَرَاه مِثْلُه وَهُو قَوْل مَرْغُوب عَنْه نَذْكُرُه فِي مَوْضِعِه وَأَمَّا عَلَى إحَالَة السَّهْو عَلَيْه فِي الْأَقْوَال وَتَجْويز السهو عليه فِيمَا لَيْس طَرِيقُه القَوْل كَمَا سَنَذْكُرُه فَفيه أجْوِبَة مِنْهَا أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أخْبَر عَن اعْتِقَادِه وَضَمِيره أَمَّا إنْكار القَصْر فَحَقّ وصِدْق بَاطنًا وَظَاهِرًا وَأَمَّا النّسْيَان فأخْبَر صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن اعْتِقَادِه وَأنَّه لَم يَنْس فِي ظَنّه فَكأنه قَصَد الخبر بَهَذَا عَن ظَنّه وإن لَم يَنْطِق بِه وَهَذَا صدق أيضا

_ (قوله أقصرت الصلاة) قال ابن الأثير يروى على ما لم يسم فاعله وعلى تسمية الفاعل بمعنى النقص، وقال المزى: الصحيح بناء أقصرت لما لم يسم فاعله من قبل الرواية ومن قبل المعنى لأن غيرها قصرها ولموافقة لفظ القرآن هو أن تقصروا من الصلاة (قوله بنية التعسف) أي بقصد الأخذ على غير الطريق، والتعسف والمعسف والاعتساف بمعنى واحد. (*)

وَوَجْه ثَان أَنّ قَوْلَهُ وَلَم أنْس رَاجِع إِلَى السَّلَام أَي أَنّي سَلَّمْت قَصْدًا وَسَهَوْت عَن العدد أَي لَم أسْه فِي نَفْس السَّلَام وَهَذَا مُحْتَمل وَفِيه بَعْد وَوَجْه ثَالِث وَهُو أبْعَدُهَا مَا ذَهَب إليْه بَعْضُهُم وَإِنِ احْتَمَله اللَّفْظ من قوله كل ذلك لم يكن أي لم يجتمع القصر والنسيان بل كان احدهما ومفهوم اللفظ خِلافُه مَع الرّوَايَة الْأُخْرَى الصحيحة وَهُو قَوْله مَا قَصُرَت الصَّلَاة وَمَا نَسِيت، هَذَا مَا رَأَيْت فِيه لأئمَّتَنَا وَكُلّ من هَذِه الْوُجُوه مُحْتَمِل لِلَّفْظ عَلَى بَعْد بَعْضَهَا وَتَعَسُّف الآخَر مِنْهَا، قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَفَّقَه اللَّه والذي أقُول وَيَظْهَر لِي أنَّه أقْرَب من هَذِه الْوُجُوه كلها أن قَوْله لَم أنْس إنْكار لِلَّفْظ الذي نَفَاه عَن نَفْسِه وَأنْكَرَه عَلَى غَيْرِه بِقَوْلِه: بِئْسَمَا لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنَّهُ نُسِّيَ، وَبِقَوْلِه فِي بَعْض رِوَايات الْحَدِيث الآخَر لَسْتُ أَنْسَى وَلكِنْ أُنَسَّى فَلَمّا قَال لَه السَّائِل أقَصَرْتَ الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيتَ أنْكَر قَصْرَهَا كَمَا كان ونسيانه هو من قبل نفسه وَأنَّه إنّ كَان جرى شئ من ذَلِك فَقَد نُسّي حَتَّى سَأل غير فَتَحَقَّق أنَّه نُسّي وَأُجْري عَلَيْه ذَلِك ليَسُنّ فَقَوْلُه عَلَى هَذَا لَم أنْس وَلَم تُقْصَر وَكُلّ ذَلِك لَم يَكُن صِدْق وَحَق لَم تُقْصَر وَلَم يَنْس حَقِيقَة وَلَكِنَّه نُسّي * وَوَجْه آخَر اسْتَثَرْتُه من كَلَام بَعْض المَشَايخ وَذَلِك أنَّه قَال إنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان يَسْهُو وَلَا يَنْسى وَلِذَلِك نَفى عَن نَفْسِه النّسْيَان قَال لِأَنّ النّسْيَان غَفْلَة وَآفَة وَالسَّهْو إنَّمَا هُو شُغْل. قَال فكان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَسْهُو فِي صَلاتِه وَلَا يَغْفُل عَنْهَا وكان يَشْغَلُه عَن حَرَكات الصَّلَاة مَا فِي الصلاة

_ (قوله ولكنه نسى) بضم النون وكسر السين المهملة المشددة. (قوله ولكن أنسى) بضم الهمزة وفتح النون وتشديد السين المفتوحة. (*)

شُغْلًا بِهَا لَا غَفْلَة عَنْهَا فَهَذَا إن تَحَقَّق عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَم يَكن فِي قَوْلِه (مَا قَصَرْتُ وَمَا نَسِيتُ) خُلْف فِي قول وعند أَنّ قَوْله: (مَا قَصَرْتُ الصَّلَاةَ وَمَا نَسِيتُ) بِمَعْنَي التَّرْك الَّذِي هُو أَحَد وَجْهَي النّسْيَان أرَاد والله أعْلَم أَنّي لَم أُسَلّم من رَكْعَتَيْن تَارِكًا لإكمَال الصَّلَاة ولكِنّي نَسِيت وَلَم يَكُن ذَلِك من تِلْقَاء نَفْسِي وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِك قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الْحَدِيث الصَّحِيح إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى، لِأَسُنَّ. وَأَمَّا قِصَّةُ كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورَةُ أنها كَذِباتُهُ الثَّلَاث المَنْصُوصَة فِي الْقُرْآن مِنْهَا اثْنَتَان قَوْله: (إِنِّي سقيم - بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وَقَوْلُه لِلْمَلِك عَن زَوْجَتِه: إنَّهَا أُخْتي: فاعْلَم أكْرَمَك اللَّه أن هذه كلها خَارِجَة عَن الكَذِب لَا فِي القَصْد وَلَا فِي غَيْرِه وَهِي دَاخِلَة فِي باب المعاريض التي فِيهَا مَنْدُوحَة عَن الكَذِب أَمَّا قَوْلُه: (إِنِّي سَقِيمٌ) فَقَال الْحَسَن وَغَيْرُه مَعْنَاه: سَأسْقَم أَي: أَنّ كُلّ مَخْلُوق مُعَرَّض لِذَلِك فاعْتَذَر لِقَوْمِه مِن الخُرُوج مَعَهُم إِلَى عِيدِهِم بِهَذا وَقِيل بَل سَقِيم بِمَا قُدّر عَلِيّ مِن المَوْت وَقِيل سَقِيم القَلْب بِمَا أُشاهِدُه من كُفْرِكُم وَعِنَادِكُم وَقِيل بَل كانت الحُمّى تَأْخُذُه عِنْد طُلُوع نَجْم مَعْلُوم فَلَمّا رآه

_ (قوله للملك) قال السهيلي على بن قتيبة إن اسمه صادوف وقيل سنان بن علوان (قوله إنها أختى) قيل إنما لم يقل إنها زوجتى لأن ذلك الجبار كان على دين المجوس وفى دينهم أن أخا الأخت أحق بها من غيره فأراد إبراهيم عليه السلام أن يستعصم من الجبار بذكر الشرع الذى عليه ذلك الجبار، واعترض بأن الذى جاء بدين المجوس زرادشت وهو متأخر عن إبراهيم، وأجيب بأن دين المجوس متقدم على زرادشت وإنما زرادشت زاد فيه أمورا، وفى حاشية التفتازانى على الكشاف إنه إنما لم يقل زوجتى لأن ذلك الجبار كان لا يتعرض إلا لذوات الأزواج. (قوله مندوحة) أي سعة: من ندحت الشئ إذا وسعته. (*)

اعْتَذَر بِعَادتِه وَكُلّ هَذَا لَيْس فِيه كَذِب بَل خَبَر صحيح صِدْق وَقِيل: بَل عَرَّض بِسَقَم حُجَّتِه عَلَيْهِم وَضَعْف مَا أَرَاد بَيَانَه لَهُم من جِهَة النُّجُوم التي كَانُوا يَشْتَغلُون بِهَا وَأنَّه أثْنَاء نَظَرِه فِي ذَلِك وَقَبْل اسْتِقَامَة حُجَّتِه عَلَيْهِم فِي حال سَقْم وَمَرَض مَع أنَّه لَم يَشُكّ هُو وَلَا ضَعُف إيمَانُه وَلكِنَّه ضَعُف فِي اسْتدْلالِه عليهم وسقم نظره كمال يقا حجة سقيمة ونظر معلول حتى ألهمه الله باستدلاله وَصِحّة حُجَّته عَلَيْهِم بالكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر مَا نَصَّه اللَّه تَعَالَى وَقَدَّمْنَا بَيَانَه وَأَمَّا قَوْله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) الآيَة فَإنَّه عَلَّق خَبَرَه بِشَرْط نُطْقِه كأنه قَال إنّ كَان يَنْطِق فَهُو فِعْلُه عَلَى طَرِيق التَّبْكِيت لِقَوْمِه وَهَذَا صِدْق أيْضًا وَلَا خُلْف فِيه، وَأَمَّا قَوْله أُخْتِي فَقَد بَيْن فِي الْحَدِيث وَقَال: فإنك أُخْتِي فِي الْإِسْلَام وَهُو صِدْق والله تَعَالَى يَقُول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة) فإن قُلْت: فَهَذَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَد سَمّاهَا كَذِبَات وَقَال لَم يَكْذِب إبْرَاهِيم إلَّا ثَلَاث كَذِبَات وَقَال فِي حَدِيث الشَّفَاعَة وَيَذْكُر كَذِباتِه فَمَعناه أنَّه لَم يَتَكَلَّم بِكَلَام صُورَتُه صُورَة الْكَذِب وإن كَان حَقًّا فِي الْبَاطِن إلَّا هَذِه الكلام ولما كَان مَفْهُوم ظَاهِرهَا خِلَاف باطنِهَا أشْفَق إبْرَاهِيم عَلَيْه السَّلَام بِمُؤَاخَذَتِه بِهَا وَأَمَّا الْحَدِيث كَان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد

_ (قوله ونظر معلول) الأجود أن يقال معل، قال ابن الصلاح: قول المحدثين والفقهاء معلول مرذول عند أهل العربية واللغة قال النووي إنه لحن، وقال صاحب المحكم: والمتكلمون يستعملون لفظة المعلول كثيرا ولست على ثقة ولا ثلج، لأن المعروف إنما هو علة فهو معل، اللهم إلا أن يكون على مَا ذَهَب إليْه سيبويه في قولهم مجنون ومسلول من أنهما جاءا على جننته وسللته ولم يستعملا في الكلام، استغنى عنها: ما فعلت وإذا أرادوا جن وسل فإنما يقول جعل فيه الجنون والسل. (*)

غَزَوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا فَلَيْس فِيه خُلْف فِي الْقَوْل إنَّمَا هُو سَتْر مَقْصِدِه لِئَلَّا يَأْخُذ عَدُوُّه حذره وكتم وجه ذَهَابِه بِذِكْر السُّؤال عَن موْضِع آخَر والْبَحْث عَن أخْبَارِه وَالتَّعْرِيض بِذِكْرِه لَا أنَّه يَقُول تَجَهَّزُوا إِلَى غزوة كذا أو وِجْهَتُنَا إلى موضع كذا خِلَاف مَقْصَدِه فَهَذَا لَم يَكُن والأول لَيْس فِيه خَبَر يَدْخُلُه الخُلْف. فإن قُلْت فما معني قوله مُوسَى عَلَيْه السَّلَام، وَقَد سُئِل أَي النَّاس أعْلَم؟ فَقَال أنا أعلم فتعب اللَّه عَلَيْه ذَلِك إِذ لَم يَرُدّ الْعِلْم إليه - الْحَدِيث - وَفِيه قَال بَل عَبْد لَنَا بِمَجْمع الْبَحْرَين أعْلَم مِنْك وهذا خبر قد أنبأ اللَّه أنه ليس كذلك فاعلم أنه وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصَّحِيحَة عَن ابن عَبَّاس هَل تَعْلَم أحَدًا أعْلَم مِنْك؟ فَإِذَا كَان جُوَابُه عَلَى عِلْمِه فَهُو خَبَر حَق وَصِدْق لَا خُلْف فِيه ولا شبهة، وعلى الطريق الآخر فمحمله على ظنه ومعتقده كما لو صرح به لأن حاله في النبوة والاصطفاء يقتضي ذلك فيكون إخباره بذلك أيضا عن اعتقاده وحسبانه صدقا لَا خُلْف فِيه وَقَد يُرِيد بِقَوْلِه أَنَا أعْلَم بِمَا يَقْتَضِيه وَظَائِف النُّبُوَّة من عُلُوم التَّوْحِيد وَأمُور الشَّرِيعَة وَسِيَاسَة الْأُمَّة وَيَكُون الخَضر أَعْلَم مِنْه بِأُمُور أخَر مِمَّا لَا يَعْلَمُه أحَد إلَّا بإعْلام اللَّه من عُلُوم غَيْبِه كَالقِصَص المَذْكُورَة فِي خَبَرِهِمَا فكان مُوسَى عَلَيْه السَّلَام أعْلَم عَلَى الْجُمْلَة بِمَا تَقَدَّم وَهَذَا أَعْلَم عَلَى الْخُصُوص بِمَا أُعْلِم وَيَدُلّ عَلَيْه قَوْله تَعَالَى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لدنا علما) وَعَتْب اللَّه ذَلِك عَلَيْه فِيمَا قَالَه الْعُلمَاء إنْكَار هَذَا القَوْل عَلَيْه لِأَنَّه لَم يَرُدّ الْعِلْم إليه كَمَا قَالَت الْمَلَائِكَة لَا عِلم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتنَا أو لِأَنَّه لَم يَرْض قَوْله شَرْعًا وَذَلِك والله أعْلَم لِئَلَّا يَقْتَدي بِه فِيه من لَم يَبْلُغ كماله فِي تَزْكِيَة نَفْسِه وَعُلُوّ دَرَجته من أمَّتَه فَيَهْلِك لَمّا تَضَمَّنَه من مَدْح الْإِنْسَان نَفْسَه

فصل وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال

ويروثه ذَلِك مِن الْكِبْر وَالعُجْب والتَّعَاطِي والدَّعْوَى وإن نُزّه عَن هَذِه الرَّذَائِل الْأَنْبِيَاء فَغَيْرُهُم بمَدْرَجَة سَبِيلِهَا وَدَرَك لَيلِها إلَّا من عَصَمَه اللَّه فالتّحَفُّظ مِنْهَا أوْلَى لِنَفْسِه وَلِيُقْتَدَى بِه، ولهذا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم تَحَفُظًا من مِثْل هذا مما قَد عُلِم بِه (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ) وَهَذَا الْحَدِيثُ إحدى حججا لقائلين بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ لِقَوْلِهِ فِيهِ أَنَا أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى وَلَا يَكُونُ الْوَلِيُّ أَعْلَمَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وأما الأنبياء فيتفاضلون فِي الْمَعَارِفِ وَبِقَوْلِهِ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، فَدَلَّ أَنَّهُ بِوَحْيٍ، وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ قَالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ بِأَمْرِ نَبِيٍّ آخَرَ، وَهَذَا يَضْعُفُ لِأَنَّهُ مَا علما أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى نَبِيٌّ غَيْرُهُ إِلَّا أَخَاهُ هَارُونَ وَمَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَعَلْنَا أَعْلَمَ مِنْكَ لَيْسَ عَلَى الْعُمُومِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْخُصُوصِ وَفِي قَضَايَا مُعَيَّنَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِثْبَاتِ النبوة خِضْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشَّيُوخِ كَان مُوسَى أَعْلَم مِن الخَضر فِيمَا أخَذ عَن اللَّه وَالخَضِر أَعْلَم فِيمَا دُفِع إليْه من مُوسَى، وَقَال آخَر إنَّمَا أُلجِئ مُوسَى إِلَى الخَضِر لِلتَّأْدِيب لَا لِلتَّعْلِيم فصل وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بالجَوَارِح مِن الْأعْمَال وَلَا يَخْرُج من جُمْلَتِهَا القول باللسان

_ (قوله لِقَوْلِهِ فِيهِ أَنَا أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى) هكذا وقع في كثير من الأصول وهو غير صواب لأن الضمير المضاف إليه القول عائد حينئذ على الخضر والضمير المجرور بقى عائد على الحديث السابق وليس فيه أن الخضر قال أَنَا أَعْلَمُ مِنْ موسى والصواب ما في بعض النسخ وهو لقوله فيه إنه أَعْلَمُ مِنْ مُوسَى ويكون المضير المضاف إليه القول عائدا على الله تعالى والضمير المنصوب بأن عائد على الخطر وقد سبق أن في الحديث: بَل عَبْد لَنَا بِمَجْمع الْبَحْرَين أعْلَم مِنْك. (*)

فِيمَا عَدَا الْخَبَر الَّذِي وَقَع فِيه الْكَلَام وَلَا الاعْتِقَاد بالْقَلْب فِيمَا عدا التَّوْحِيد وَمَا قَدَّمْنَاه من مَعَارِفِه الْمُخْتَصة بِه فأجْمَع الْمُسْلِمُون عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاء مِن الْفَوَاحِش وَالْكَبَائِر الْمُوبِقات وَمُسْتَنَد الْجُمْهُور فِي ذَلِك الإجْماع الَّذِي ذَكَرَنَاه وهو مذهب الْقَاضِي أَبُو بَكْر وَمَنَعَهَا غَيْرِه بِدَلِيل الْعَقْل مَع الإجْماع وَهُو قَوْل الكَافة، واختار الْأَسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق وَكَذَلِك لَا خِلَاف أَنَّهُم مَعْصُومُون من كِتْمَان الرِّسَالَة وَالتَّقْصِير فِي التَّبْلِيغ، لِأَنّ كُلّ ذلك يَقْتَضِي الْعِصْمَة مِنْه الْمُعْجِزَة مَع الإجْماع عَلَى ذَلِك مِن الْكَافَّة، وَالْجُمْهُور قائل بِأَنَّهُم مَعْصُومُون من ذَلِك من قَبْل الله معتصمون باخْتِيَارِهِم وَكَسبِهِم إلَّا حُسَيْنًا النَّجَار فَإنَّه قَال لَا قدر لهم على المَعَاصِي أصْلًا، وَأَمَّا الصَّغَائِر فَجَوَّزَهَا جَمَاعَة مِن السَّلَف وَغَيْرِهِم عَلَى الْأَنْبِيَاء وَهُو مَذْهب أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَغَيْرُه مِن الْفُقَهَاء وَالْمُحَدّثِين وَالْمُتَكَلّمِين، وَسنُورِد بعد هذا ما احْتجوا بِه، وذَهَبَت طائفة أخرى إلى الْوَقْف وقالوا الْعَقْل لَا يُحِيل وُقُوعَها مِنْهُم ولم يَأْت فِي الشّرْع قاطع بِأحد الْوَجهَين، وذَهَبَت طَائِفَة أُخْرَى مِن المُحَقّقِين مِن الْفُقَهَاء وَالْمُتَكَلَّمِين إِلَى عِصْمَتِهم مِن الصَّغَائِر كعِصْمَتِهِم مِن الْكَبَائِر، قَالُوا: لاخْتِلَاف النَّاس فِي الصَّغَائِر وتعيينها من الْكَبَائِر، وَإشْكال ذَلِك وَقَوْل ابن عَبَّاس وَغَيْرُه إنّ كُلّ مَا عُصِي اللَّه بِه فَهُو كَبِيرَة وَأنَّه إنَّمَا سُمّي مِنْهَا الصَّغِير بالإضَافَة إلى مَا هُو أكْبَر مِنْه وَمَخَالفة الْبَاري فِي أي أمْر كَان يَجِب كَوْنُه كَبيرَة، قَال الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد

_ (قوله والموبقات) بكسر الموحدة أي المهلكات (قوله وتعيينها) هو بالجر عطف على الصغائر (قوله وإشكال ذلك) هو بالجر عطف على اختلاف الناس وذلك إشارة إلى تعيينها. (*)

عَبْد الوَهَّاب لَا يُمْكِن أن يُقَال إنّ فِي مَعَاصِي اللَّه صَغِيرَة إلَّا عَلَى مَعْنَي أنَّهَا تُغُتَفَر باجْتِنَاب الكَبَائِر وَلَا يَكُون لَهَا حُكم مَع ذَلِك بِخِلَاف الكَبَائِر إذَا لَم يُتب مِنْهَا فلا يحبطها شئ والمَشِيئَة فِي العَفْو عَنْهَا إِلَى اللَّه تَعَالَى وَهُو قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْر وجماعة أئمة الأشْعَريَّة وَكَثِير من أئمَّة الفُقَهاء، وَقَال بَعْض أئِمَّتنا: وَلَا يَجِب عَلَى القَوْلَيْن أن يَخْتَلِف أَنَّهُم مَعْصُومُون عَن تَكْرار الصَّغَائِر وَكَثْرَتِهِا إذ يُلْحِقُهَا ذَلِك بالكَبَائِر وَلَا فِي صَغِيرة أدَّت إِلَى إزَالة الحِشْمَة وأسقطت المروؤة وَأوْجَبَت الإزْرَاء وَالخَسَاسَة، فَهَذَا أيْضًا مِمَّا يُعْصَم عَنْه الْأَنْبِيَاء إجْماعًا، لِأَنّ مِثْل هَذَا يَحُطّ مَنْصِب المتسيم بِه وَيُزرِي بِصَاحِبه وَيُنَفّر القُلُوب عَنْه وَالْأَنْبِيَاء مُنَزَّهُون عَن ذَلِك، بَل يَلْحَق بَهَذَا مَا كَان من قَبيل المُبَاح فَأدّى إِلَى مِثْلُه لخُرُوجِه بِمَا أدَّى إليْه عَن اسْم المُبَاح إِلَى الحَظْر، وَقَد ذَهَب بَعْضُهُم إِلَى عِصْمَتِهم من مُوَاقَعَة المَكْرُوه قَصْدًا، وَقَد اسْتَدَلّ بَعْض الْأَئِمَّة عَلَى عصمتهم مِن الصَّغَائِر بالمَصِير إِلَى امتثال أفعالهم واتَّبَاع آثارِهِم وسِيرَهِم مُطْلَقًا، وَجُمْهُور الفُقَهَاء عَلَى ذَلِك من أصْحَاب مَالِك والشافعي وَأَبِي حَنِيفَة من غَيْر الْتِزَام قَرِينَة بَل مُطْلَقًا عِنْد بَعْضُهُم وَإِنّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْم ذَلِك، وَحَكى ابن خويز منداذ وَأَبُو الفَرَج عَن مَالِك التِزام ذَلِك وُجُوبًا وَهُو قَوْل الأبْهَرِيّ وَابْن القَصّار وأكْثَر أصْحَابِنا وَقَوْل أكْثَر أَهْل العِرَاق وَابْن سُرَيْج والإصْطَخْرِيّ

_ (قوله إلى الحظر) بالحاء المهملة والظاء المعجمة: أي المنع (قوله وابن سريج) بالسين المهملة والجيم هو أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن عمر بن سريج البغدادي: أخذ عن الأنماطي، كانت وفاته سنة ست وثلاثمائة (قوله والاصطخري) هو أبو سعيد الحسن بن أحمد بن بريد، توفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد (10 - 2) (*)

وَابْن خَيْران مِن الشَّافِعِيَّة وَأكْثَر الشَّافعِيَّة عَلَى أَنّ ذَلِك نَدْب، وذهبت طائِفَة إِلَى الإبَاحَة. وَقَيَّد بَعْضُهُم الاتّبَاع فِيمَا كَان مِن الْأُمُور الدينِيَة وعُلِم بِه مَقْصِد الْقُرْبَة وَمِن قَال بالإبَاحَة فِي أفعاله لم يقبد قَال فَلَو جَوَّزْنَا عَلَيْهِم الصَّغَائِر لَم يُمْكِن الاقْتِدَاء بهم فِي أفْعَالِهِم، إِذ لَيْس كُلّ فِعْل مِن أفْعَالِه يَتَمَيَّز مقصد به مِن القُرْبَة أَو الإبَاحَة أَو الحَظَر أَو المَعْصِيَة، وَلَا يصح أو يُؤْمَر المَرء بِامْتِثال أمْر لَعَلَّه مَعْصِيَة لَا سِيمَّا عَلَى من يَرَى مِن الأُصُولِيّين تَقْدِيم الفِعْل عَلَى القَوْل إذَا تعارضا، ونزيد هَذَا حُجَّة بأن نَقُول من جَوَّز الصَّغَائِر وَمِن نَفَاها عَن نَبِيّنا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مُجْمِعُون عَلَى أنَّه لَا يُقِرّ عَلَى مُنْكَر من قَوْلُ أَو فِعْل وَأنَّه مَتَى رَأَى شَيْئًا فَسَكَت عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم دَلّ عَلَى جَوَازِه فَكَيف يَكُون هَذَا حالُه فِي حَقّ غيرهن ثُمّ يُجَوَّز وُقُوعُه مِنْه فِي نَفْسِه وَعَلَى هَذَا المَأْخَذ تَجِب عِصْمَتُه من مُوَاقَعَة المَكْرُوه كَمَا قيل وإذ الحظْر أَو النَّدْب عَلَى الاقْتِدَاء بِفِعْلِه يُنَافي الزَّجْر وَالنَّهْي عَن فِعْل المكْرُوه، وأيضا فَقَد علم من دين الصَّحَابَة قَطْعًا الاقْتِدَاء بِأفْعَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَيْف تَوَجَّهَت وَفِي كُلّ؟ ؟ كالاقْتِدَاء بِأمْوَالِه فَقَد نَبَذُوا خَواتيمَهُم حِين نَبَذ خَاتَمَه، وَخَلَعُوا نِعَالَهُم حِين خَلَع وَاحْتِجَاجُهُم بِرُؤْيَة ابن عُمَر إيّاه جَالسًا لِقَضَاء حَاجَتِه مُسْتَقْبلًا بَيْت الْمَقْدِس وَاحْتَجّ غَيْر وَاحِد مِنْهُم فِي غير شئ مِمَّا بابُه العِبَادة أَو العَادَة بِقَوْلِه رَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُه وَقَال: (هَلا خَبَّرْتِيهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ) وَقَالَت عَائِشَةُ مُحْتَجَّةً: (كُنْتُ أَفْعَلُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغَضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِي أَخْبَرَ بِمِثْلِ هَذَا عَنْهُ

_ (قوله وابن خيران) هو أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بن صالح بن خيران البغدادي. (*)

فصل وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة

فقال يحل الله لِرَسُولِهِ مَا يَشَاءُ وَقَالَ: (إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ) وَالآثَارُ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نُحِيطَ بِهَا لَكِنَّهُ يُعْلَم من مَجْمُوعِهَا عَلَى الْقَطْع اتّبَاعُهُم أفْعَالَه واقْتِدَاؤُهُم بِهَا ولو جوزوا عليه المخالفة في شئ منها لما اتسق هذا وليقل عنهم وظهر بحثهم عن ذلك ولما أنْكَر صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى الآخَر قَوْله وَاعْتِذَارُه بِمَا ذَكَرَنَاه، وَأَمَّا الْمُبَاحَات فَجَائِز وُقُوعُهَا منم إِذ لَيْس فِيهَا قَدْح بَل هِي مَأْذُون فِيهَا وَأيْدِيهم كأيدي غيرهم مسلمة عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهُم بِمَا خُصُّوا بِه من رَفِيع المَنْزلَة وَشُرحَت لَهُم صُدُورُهُم من أَنْوار الْمَعْرِفَة وَاصْطُفُوا بِه من تَعَلُّق بالهمْ بالله وَالدَّار الآخِرَة لَا يَأْخُذُون مِن المْبَاحات إلَّا الضَّرُورَات مِمَّا يتقون بِه عَلَى سُلُوك طَرِيقِهِم وَصَلَاح دِينِهِم وَضَرُورَة دُنْيَاهُم وَمَا أُخِذ عَلَى هذه السبيل التحقق طَاعَة وَصَار قُرْبَة كَمَا بَيَّنَا مِنْه أَوَّل الْكِتَاب طَرَفًا فِي خِصَال نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، فَبَان لَك عَظِيم فَضْل اللَّه عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَى سائر أنيبائه عَلَيْهِم السَّلَام بأن جَعَل أفْعَالَهُم قُرُبات وَطَاعات بَعِيدَة عَن وَجْه المُخَالَفَة وَرَسْم المَعْصِيَة. فصل وَقَد اخْتُلِف فِي عصْمَتِهِم من المعاصي قبل النُّبُوَّة فمَنَعَهَا قَوْم وَجَوَّزَهَا آخَرُون وَالصَّحِيح إن شَاء اللَّه تَنْزِيهُهُم من كُلّ عَيْب وَعِصْمَتَهُم من كُلّ مَا يُوجِب الرَّيْب فَكَيْف وَالْمَسْأَلَة تَصَوُّرُهَا كَالْمُمْتَنِع فَإِنّ الْمَعَاصِي وَالنَّواهِي إنَّمَا تكون بَعْد تَقَرّر الشَّرْع وَقَد اخْتُلِف النَّاس فِي حال نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَبْل أن يُوحى إليْه هَل كَان مُتَّبعًا لِشَرْع قَبْلَه أم لَا؟

فَقَال جَمَاعَة لم يكن متبعا لشئ وَهَذَا قَوْل الجُمْهُور فالْمَعَاصِي عَلَى هَذَا الْقَوْل غَيْر مَوْجُودَة وَلَا مُعْتَبَرَة فِي حَقَّه حِينَئذ إِذ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إنَّمَا تتعلق بالأوامر وَالنَّوَاهِي وَتَقَرُّر الشَّرِيعَة ثم احتلفت حُجَج الْقَائِلِين بِهَذِه الْمَقَالَة عَلَيْهَا فَذَهَب سَيْف السُّنَّة وَمُقْتَدَى فِرَق الْأُمَّة الْقَاضِي أَبُو بَكْر إِلَى أن طَرِيق الْعِلْم بِذَلِك النَّقْل وَمَوَارِد الخَبَر من طريق السَّمْع وَحُجَّتُه أنَّه لَو كان ذَلِك لَنُقل ولما أمْكَن كَتْمُه وَسَتْرُه فِي الْعَادَة إِذ كَان من مُهِمّ أَمْرِه وَأَوْلى مَا اهْتُبِل بِه من سِيرَتِه وَلَفَخَر بِه أَهْل تِلْك الشَّريعَة وَلَا احْتَجّوا بِه عَلَيْه ولم يؤثر شئ من ذَلِك جُمْلَة، وَذَهبَت طَائِفَة إِلَى امْتنَاع ذَلِك عَقْلًا قَالُوا: لِأَنَّه يَبْعُد أن يَكُون متْبُوعًا من عرفا تابعًا، وَبَنَوْا هَذَا على التحسين والتقبيح وهى طريفة غَيْر سَدِيدَة وَاسْتِنَاد ذَلِك إِلَى النَّقْل كَمَا تقدم للقاضى أبى بكر أولى وَأظْهَر، وَقَالَت فِرْقَة أُخْرى بالْوَقْف فِي أمْرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَرْك قَطْع الْحُكْم عَلَيْه بشئ فِي ذَلِك إِذ لَم يُحِل الْوَجْهَيْن مِنْهَا الْعَقْل وَلَا اسْتَبَان عندها فِي أحَدِهُمَا طَرِيق النَّقْل وَهُو مَذْهَب أَبِي المَعَالِي، وَقَالَت فِرْقَة ثَالِثَة إنَّه كَان عَامِلًا بِشَرْع من قَبْلَه، ثم اختلوا هَل يَتَعَيَّن ذَلِك انشرع أم لَا فَوَقَف بَعْضُهُم عَن تَعْيينِه وَأَحْجَم وَجَسَر بَعْضُهُم عَلَى التَّعيِين وَصَمَّم، ثُمّ اخْتلَفَت هَذِه الْمُعَيّنة فيمن كَان يَتَّبع فَقِيل نُوح وَقِيل إبْرَاهِيم وَقِيل مُوسَى وَقِيل عِيسَى صَلَوات اللَّه عَلَيْهِم، فهذه جُمْلَة المَذَاهِب فِي هَذِه المَسْألَة وَالْأَظْهَر فِيهَا مَا ذَهَب إليْه الْقَاضِي أَبُو بَكْر وَأَبْعدُهَا مَذَاهِب الْمُعَيّنين إِذ لَو كان شئ من ذَلِك لَنُقِل كَمَا قَدَّمْناه وَلَم يَخف جُمْلَة وَلَا حُجَّة لَهُم فِي أَنّ عِيسَى آخِر الْأَنْبِيَاء فَلَزمَت شَريعَتُه من جاء بَعْدَهَا إذ لَم يَثْبُت عُمُوم دَعْوة عِيسَى بل الصَّحِيح أنَّه لَم

فصل هذا حكم ما تكون المخالفة فيه من الأعمال عن قصد

يَكُن لنبي دَعْوَة عامة إلا لنبيا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَلَا حُجَّة أيضا لِلآخَر فِي قَوْلِه (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وَلَا للآخَرِين فِي قَوْلِه تَعَالَى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نوحا) فَمَحْمل هَذِه الآيَة عَلَى إتباعهم فِي التَّوْحِيد كَقَوْلِه تَعَالَى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) وَقَد سَمَّى اللَّه تَعَالَى فِيهِم من لَم يُبْعَث ولم تَكُن لَه شَريعَة تَخُصَّه كَيُوسُف ابن يَعْقُوب عَلَى قَوْل من يَقُول إنَّه لَيْس بِرَسُول وَقَد سَمَّى اللَّه تَعَالَى جَمَاعَة مِنْهُم فِي هَذِه الآيَة شَرَائِعُهُم مُخْتَلِفَة لَا يُمْكِن الجَمْع بَيْنَهَا، فَدَلّ أَنّ المُرَاد مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْه مِن التَّوْحِيد وَعِبَادَة اللَّه تَعَالَى وبعد هَذَا فَهَل يَلْزَم من قَال بِمَنْع الاتّبَاع هَذَا القَوْل فِي سَائِر الْأَنْبِيَاء غَيْر نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو يُخَالِفُون بَيْنَهُم أَمَّا من مَنَع الاتّبَاع عَقْلًا فَيَطّرِد أصْلُه فِي كُلّ رَسُول بِلَا مِرْيَة وَأَمَّا من مال إِلَى النَّقْل فأيْنَمَا تُصُوّر لَه وتُقُرّر اتَّبَعَه، وَمِن قَال بالوَقْف فَعَلَى اصْلِه، وَمِن قَال بِوُجُوب الاتَّبَاع لِمَن قَبْلَه يَلْتَزِمُه بِمَسَاق حُجّتِه فِي كُلّ نَبِيّ فصل هَذَا حُكْم ما تكون المُخَالَفَة فِيه مِن الأعمال عَن قَصْد وَهُو مَا يُسَمَّى مَعْصيَة وَيَدْخُل تَحْت التكلف، وَأَمَّا مَا يَكُون بِغَيْر قَصْد وَتَعَمُّد كالسَّهْو وَالنّسْيَان فِي الوضائف الشَّرْعِيَّة مِمَّا تَقَرَر الشَّرْع بِعَدَم تَعَلُّق الخِطَاب بِه وَتَرْك المُؤَاخَذَة عَلَيْه فأحْوَال الْأَنْبِيَاء فِي تَرَك المُؤَاخَذَة بِه وَكَونه لَيْس بِمَعْصِيَة لَهُم مَع أُمَمهم سواء ثُمّ ذَلِك عَلَى نَوْعَيْن مَا طَرِيقُه البَلَاغ وَتَقْرِير الشَّرْع وَتَعَلُّق الأحْكام وَتَعْلِيم الْأُمَّة بالفعْل وَأخْذُهُم باتّبَاعِه فِيه وَمَا

هُو خَارِج عَن هَذَا مِمَّا يَخْتَصّ بِنَفْسِه، أَمَّا الأوّل فَحُكْمُه عِنْد جَمَاعَة مِن الْعُلمَاء حُكْم السَّهْو فِي القَوْل فِي هَذَا الْبَاب، وَقَد ذَكَرَنا الاتّفَاق عَلَى امْتنَاع ذَلِك فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَعِصْمَتِه من جوازه عليه قَصْدًا أو سَهْوًا، فكذلك قَالُوا الأفْعَال فِي هَذَا الْبَاب لَا يَجُوز طُرُوّ المُخَالَفَة فِيهَا لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا لِأَنّهَا بِمَعْنَي القَوْل من جهة التَّبْلِيغ وَالأَداء وَطُرُوّ هَذِه العَوَارِض عَلَيْهَا يُوجِب التَّشكِيك وَيُسَبَّب المَطَاعِن، واعتذوا عَن أحَاديث السَّهْو بِتَوْجِيهَات نَذْكُرُها بَعْد هَذَا وإلى هَذَا مال أبو إسحاق، وذهب الأكَثْر مِن الفُقَهاء وَالمُتَكَلمِين إِلَى أَنّ المُخَالَفَة فِي الأفْعَال البَلاغِيَّة وَالأحْكَام الشَّرْعِيّة سَهْوًا وَعَن غَيْر قَصْد مِنْه جَائز عَلَيْه كَمَا تفرر من أحَاديث السَّهْو في الصلاة وترقوا بَيْن ذَلِك وَبَيْن الأقْوَال البَلاغِيَّة لِقِيَام الْمُعْجِزَة عَلَى الصّدْق فِي القَوْل وَمُخَالَفَة ذَلِك تُناقِضُهَا وَأَمَّا السَّهْو فِي الأفْعَال فغير مناقص لَهَا وَلَا قادِح فِي النُّبُوَّة بَل غَلَطَات الفعل وعفلات القَلْب من سِمَات البشر كَمَا قَال صَلَّى الله عليه وسلم (إنما أنا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) نَعَمْ بَلْ حَالَهُ النِّسْيَانُ وَالسَّهْو هُنَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبُ إِفَادَةِ عِلْمٍ وَتَقْرِيرِ شَرْعٍ كما قال صلى الله عليه وسلم (إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ) بَلْ قد رُوِيَ (لَسْتُ أَنْسَى وَلَكِنْ أُنسَّى لِأَسُنَّ) وَهَذِه الحالة زيادة لَه فِي التبليغ وتمام عليه فِي النّعْمَة بعيدة عَن سمات النقص وأغراض الطعن فإن القائلين بتجويز ذَلِك يشترطون أَنّ الرُّسُل لَا تُقَر عَلَى السهو والغلط بَل ينبهون عَلَيْه ويعرفون حكمه بالفور عَلَى قَوْل بَعْضُهُم وَهُو الصَّحِيح وَقَبْل انقراضهم عَلَى قَوْل الآخرين وَأَمَّا مَا لَيْس طريقه الْبَلَاغ وَلَا بيان الأحكام من

_ (قوله لا يجوز طروه) بهمزة في آخره أو بواو مشددة لغتان فيه. (*)

فصل في الكلام على الأحاديث المذكور فيها السهو منه صلى الله عليه وسلم

أفعاله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمَا يختص بِه مِن أمور دينه وأذكار قلبه مِمَّا لَم يفعله ليتبع فِيه فالأكثر من طبقات علماء الْأُمَّة عَلَى جواز السهو والغلط عَلَيْه فِيهَا ولحوق الفترات والغفلات بقلبه وَذَلِك بِمَا كلفه من مقاساة الْخَلْق وسياسات الْأُمَّة ومعاناة الأهلي وملاحظة الاعداء وَلَكِن لَيْس عَلَى سبيل التكرار وَلَا الاتصال بَل عَلَى سبيل الندور كَمَا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ) وَلَيْس فِي هَذَا شئ يحط من رتبته ويناقض معجزته وذهبت طائفة إلى منع السهو والنسيان والغفلات والفترات فِي حقه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم جملة وهو مذهب جَمَاعَة المتصوفة وأصحاب علم القلوب والمقامات ولهم فِي هَذِه الأحاديث مذاهب نذكرها بَعْد هَذَا إن شَاء اللَّه. فصل فِي الْكَلَام عَلَى الْأَحَادِيث المذكور فِيهَا السهو مِنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ وَقَد قَدَّمْنَا فِي الْفُصُول قَبْل هَذَا مَا يَجُوز فِيه عَلَيْه السَّهْو صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمَا يَمْتَنِع وَأَحَلْنَاه فِي الْأَخْبَار جُمْلَة، وَفِي الأقْوَال الدينية قَطْعًا، وَأجزْنَا وَقُوعَه فِي الْأَفْعَال الدّينِية عَلَى الْوَجْه الَّذِي رَتَّبْنَاه وَأشَرْنَا إلى مَا وَرَد فِي ذَلِك وَنَحْن نَبْسُط القَوْل فِيه الصحيح مِن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي سَهْوِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الصَّلَاة ثَلَاثَة أحاديث: أولها حديث ذي الْيَدَيْن فِي السَّلَام مِن اثْنَتَيْن، الثَّاني حَدِيث ابن بحينة في القام من اثنتين،

_ (قوله ابن بحينة) بضم الموحدة وفتح الحاء المهملة بعدها مثناة تحتية ساكنة ونون: هو عبد الله بن مالك بن القشب - بكسر القاف وسكون الشين المعجمة بعدها موحدة - وبحينة أمه

الثَالِث حَدِيث ابن مَسْعُود رَضِي اللَّه عَنْه أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّهْوِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَحِكْمَةُ اللَّهِ فِيهِ لِيُسْتَنَّ بِهِ إِذِ الْبَلَاغُ بالْفِعْلِ أَجْلَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ وَأَرْفَعُ لِلاحْتِمَالِ وَشَرْطُهُ أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى السَّهْوِ بَلْ يُشْعَرُ بِهِ لِيَرْتَفِعَ الالْتِبَاسُ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْحِكْمَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَأَنَّ النِّسْيَانَ وَالسَّهْوَ فِي الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُضَادٍّ لِلْمُعْجِزَةِ وَلَا قَادِحٍ فِي التَّصْدِيقِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) وَقَالَ (رَحِمَ اللَّهُ فُلانًا لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أُسْقِطُهُنَّ - وَيُرْوَى - أُنْسِيتُهُنَّ) وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ) قِيل هَذَا اللَّفْظ شَكّ مِن الرَّاوي وَقَد رُوِي (إِنِّي لَا أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى لِأُسُنَّ) وذهب ابن نافِع وَعِيسَى بن دِينَار أنَّه لَيْس بِشَكّ وَأَنّ مَعْنَاه التقسيم أَي: أنْسى أَنَا أَو يُنْسِينِي الله، قال القاضي أبو الْوَلِيد الْبَاجِي يَحْتَمِل مَا قالاه أن يُريد إنّي أنْسى فِي الْيَقْظَة وَأُنَسّى فِي النَّوْم أَو أنْسى عَلَى سبيل عَادَة الْبَشَر مِن الذُّهُول عَن الشئ وَالسَّهْو أَو أنَسّى مَع إقْبَالِي عَلَيْه وَتَفرُّغي لَه فأضَاف أحَد النَّسْيَانَيْن إِلَى نَفْسِه إِذ كَان لَه بَعْض السَّبَب فِيه وَنَفى الآخَر عَن نَفْسِه إِذ هُو فِيه كَالمُضْطَرّ، وَذَهَبَت طَائِفَة من أصْحَاب المعاني والكلام عَلَى الْحَدِيث إِلَى أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْهُو فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَنْسَى لِأَنّ النّسْيَان ذُهُول وَغَفْلَة وَآفة قَال وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مُنَزّة عَنْهَا وَالسَّهْو شُغْل فكان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَسْهُو فِي صلاته وَيُشْغِلُه عَن حَرَكَات الصَّلَاة مَا فِي الصَّلَاة شغلا

_ (قوله رَحِمَ اللَّهُ فُلانًا) هو عبد الله بن يزيد الخطمى الأنصاري، قاله النووي عن الخطيب البغدادي. (*)

بِهَا لَا غَفْلَة عَنْهَا وَاحْتَجّ بِقَوْلِه فِي الرّوَايَة الْأُخْرَى إني لَا أنْسى، وَذَهَبَت طَائِفَة إِلَى مَنْع هَذَا كُلّه عَنْه وقالوا: إنّ سَهْوَة عَلَيْه السَّلَام كَان عَمْدًا وَقَصْدًا لِيَسُنّ وَهَذَا قَوْل مَرْغُوب عَنْه مُتَنَاقِض المَقَاصِد لَا يُحْلَى مِنْه بِطائِل لِأَنَّه كَيْف يَكُون مُتَعْمّدًا سَاهِيًا فِي حَال وَلَا حُجَّة لَهُم فِي قَوْلِهِم إنَّه أمِر بِتَعَمُّد صُورَة النّسْيَان ليَسُنّ لِقَوْلِه: (إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أنسى) وقد أثبت أَحَد الوصفين وَنَفَى مناقضة التَّعَمُّد وَالقَصْد وَقَال (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ) وَقَد مال إِلَى. هَذَا عَظِيم مِن المُحَقّقِين من أئِمَّتِنَا وَهُو أبو المُظَفَّر الاسْفِرَائنيّ وَلَم يَرْتَضِه غَيْرِه مِنْهُم وَلَا أرْتَضِيه وَلَا حُجَّة لِهَاتَيْن الطّائِفَتَيْن فِي قَوْلِه (إِنِّي لَا أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى) إِذ لَيْس فِيه نَفْي حُكْم النّسْيَان بالْجُمْلَة وَإِنَّمَا فِيه نَفْي لَفْظِه وَكَرَاهَة لقبله كَقَوْلِه (بَئْسَمَا لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَلكِنَّهُ نُسِّيَ) أَو نَفْي الغَفْلَة وقله الاهْتِمَام بِأمْر الصَّلَاة عَن قَلْبِه لَكِن شغل بِهَا عَنْهَا ونسى بَعْضَهَا ببعضها كَمَا تَرَك الصَّلَاة يَوْم الخَنْدَق حَتَّى خَرَج وَقْتُهَا وَشُغِل بالتَّحَرُّز مِن العَدُوّ عَنْهَا فَشُغِل بِطاعَة عَن طَاعَة وَقِيل إنّ الَّذِي تُرِك يَوْم الخَنْدُق ارْبَع صَلَوات، الظُّهْر، وَالعَصْر، والمَغْرِب، وَالعِشَاء، وَبِه احْتَجّ من ذهب إلى جواز تأخير الصَّلَاة فِي الخوف إذَا لَم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن وَهُو مذهب الشاميين والصحيح أَنّ حكم صَلَاة الخوف كَان بَعْد هَذَا فَهُو ناسِخ لَه. فَإِنّ قُلْت فَمَا تقول في نَوْمِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن الصَّلَاة يَوْم الْوادِي وَقَد قَال: (إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) : فاعْلَمْ أن للعلماء عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ مِنْهَا أَنّ الْمُرَاد بأن هَذَا حُكْم قَلْبِه عِنْد نَوْمِه وَعَيْنَيْه فِي

_ (قَوْلِه لَا يحلى) بضم المثناة التحتية وسكون الحاء المهملة. (*)

غافل الْأوْقات وَقَد يَنْدر مِنْه غَيْر ذَلِك كَمَا يَنْدُر من غَيْرِه خِلاف عادته وَيُصَحَّح هَذَا التّأْوِيل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الْحَدِيث نَفْسِه (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا) وقول بِلَال فِيه: مَا أُلْقِيَت عَلِيّ؟ ومة مثلها قط، وَلَكِن مِثْل هَذَا إنَّمَا يَكُون مِنْه لأمر يُرِيدُه اللَّه من إثْبَات حُكْم وَتَأْسِيس سُنَّة وإظْهَار شَرْع، وكما قَال فِي الْحَدِيث الآخَر لَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَيْقَظَنَا وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ، الثاني أَنّ قَلْبَه لَا يَسْتَغْرِقُه النَّوْم حَتَّى يَكُون مِنْه الحدث فيما لَمّا رُوِي أنَّه كَان مَحْرُوسًا وَأنَّه كَان يَنَام حَتَّى يَنْفُخ وحتى يُسْمَع غطِيطُه ثُمّ يُصَلّي وَلَا يَتَوَضَّأ وَحَدِيث ابن عَبَّاس المَذْكُور فِيه وُضُوءُه عِنْد قِيامه مِن النَّوْم فِيه نَوْمُه مَع أهْله فَلَا يُمْكِن الاحْتِجَاج بِه عَلَى وُضُوئِه بمُجَرَّد النَّوْم إِذ لَعَلّ ذَلِك لملامة الْأَهْل أَو لِحَدَث آخر فَكَيف وَفِي آخِر الْحَدِيث نفسه ثُمّ نام حَتَّى سَمِعْت غَطِيطَه ثُمّ أقيمت الصَّلَاة فَصَلّى وَلَم يَتَوَضَّأ وَقِيل لَا يَنَام قَلْبُه من أجْل أنَّه يُوحى إليْه فِي النَّوْم وَلَيْس فِي قِصَّة الْوَادي إلَّا نَوْم عَيْنَيْه عَن رؤية الشمس وَلَيْس هَذَا من فِعْل القَلْب وَقَد قَال صَلَّى الله عليه وسلم: إن الله قبض أرواحا وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِليْنَا فِي حِينِ غَيْرُ هَذَا. فَإِن قِيل فَلَوْلَا عَادَتُه مِن اسْتِغْرَاق النَّوْم لَمّا قَال لِبِلال أكْلَأ لَنَا الصُّبْح، فَقِيل فِي الجَوَاب إنَّه كَان من شَأْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم التَّغْلِيس بالصُّبْح وَمُرَاعاة أَوَّل الفَجْر لَا تَصِحّ مِمَّن نَامَت عَيْنُه إذ هُو ظَاهر يُدْرَك بالجَوَارِح الظّاهِرَة فَوَكَّل بلالًا بمُرَاعاة أوَّلِه لِيُعْلِمَه بِذَلِك كما لَو شُغل بِشُغْل غَيْر النَّوْم عَن مُرَاعاتِه. فَإِنّ قِيل فَمَا مَعْنَي نَهِيه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن القَوْل نَسيت وَقَد قَال صلى الله عليه وَسَلَّم (إِنِّي أَنْسَى

_ (قوله اكلأ لنا) أي: احفظ لنا. (*)

فصل في الرد على من أجاز عليهم الصغائر

كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) وَقَال (لَقَد أذْكَرَني كَذَا وكَذَا آيَة كُنْت أُنْسِيتُها) فاعْلَم أكْرَمَك اللَّه أنَّه لَا تَعَارُض فِي هَذِه الْأَلْفَاظ، أَمَّا نَهْيُه عَن أَنّ يُقَال نَسِيت آيَة كَذَا فَمَحْمُول عَلَى مَا نُسِخ نَقْلُه مِن الْقُرْآن أَي أَنّ العفلة فِي هذا لَم تَكُن مِنْه وَلَكِن اللَّه تَعَالَى اضْطَرَّه إليها ليمحو مَا يَشَاء وَيُثبت وَمَا كان من سَهْو أَو غَفْلَة من قِبَلِه تَذَكَّرَهَا صَلُح أن يُقَال في أنس يوقد قِيل إنّ هَذَا مِنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى طريق الاستحباب أَنّ يُضِيف الْفِعْل إِلَى خَالِقِه وَالآخَر عَلَى طريق الجَوَاز لاكْتِسَاب الْعَبْد فِيه وَإسْقَاطُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَمّا أسْقَط من هَذِه الآيات جَائز عَلَيْه بَعْد بَلَاغ مَا أُمِر بِبَلَاغَة وَتَوصِيله إِلَى عِبَادِه ثُمّ يَسْتَذْكِرُهَا من أمَّتَه أَو من قَبْل نَفْسِه إلَّا ما قَضى اللَّه نَسْخَه وَمَحْوَه مِن الْقُلُوب وَتَرْك اسْتذْكَارِه، وَقَد يجُوز أن يَنْسى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَا هَذَا سَبيلُه كَرَّة وَيَجُوز أن يُنَسّيَه مِنْه قَبْل الْبَلَاغ مَا لَا يُغَيّر نَظْمًا وَلَا يُخَلّط حُكْمًا مِمَّا لَا يُدْخِل خَلَلًا فِي الخَبَر ثُمّ يُذَكّرُه إيّاه وَيَسْتَحيل دَوَام نِسَيَانِه لَه لِحِفْظ اللَّه كِتَابِه وَتَكْلِيفِه بَلَاغَه. فصل فِي الرد عَلَى من أجاز عَلَيْهِم الصغائر والكلام عَلَى ما احتجوا بِه فِي ذَلِك اعْلَم أن الْمُجَوّزِين لِلصَّغَائِر عَلَى الْأَنْبِيَاء مِن الْفُقَهَاء وَالْمُحَدّثِين وَمِن شَايَعَهُم عَلَى ذَلِك مِن الْمُتَكَلَّمِين احْتَجُّوا عَلَى ذَلِك بِظوَاهِر كَثِيرَة مِن

_ (قوله ومن شايعهم) أي تابعهم: من شيعة الرجل وهم أتباعه. (*)

الْقُرْآن وَالْحَدِيث إن التزموا ظَوَاهِرَهَا أفْضَت بهم إِلَى تَجْوِيز الْكَبَائِر وَخَرْق الإجْماع وَمَا لَا يَقُول بِه مُسْلِم فَكيْف وَكُلّ مَا احْتَجُّوا بِه مِمَّا اخْتُلِف الْمُفَسِّرُون فِي مَعْنَاه وَتَقَابَلَت الاحْتِمَالات فِي مُقْتَضَاه وَجَاءت أقاويل فِيهَا لِلسَّلَف بِخِلَاف مَا الْتَزَمُوه من ذَلِك فَإِذَا لَم يَكُن مَذْهَبُهُم إجْمَاعا وكان الخِلَاف فِيمَا احْتَجُّوا بِه قَدِيمًا وَقَامَت الدّلَالة عَلَى خَطَإ قَوْلِهِم وَصِحَّة غَيْرِه وَجَب تَرْكُه وَالمصِير إِلَى مَا صَحّ وَهَا نَحْن نَأْخُذ فِي النّظَر فِيهَا إن شَاء اللَّه، فمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى لِنَبِيّنا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ، وقوله (فاستغفر لذنبك والمؤمنين والمؤمنات) وقوله (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) وقوله (عفا الله عنك لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وقوله (لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عظيم) وقوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءه الأعمى) الآيَة وَمَا قَصّ من قِصَص غَيْرِه مِن الْأَنْبِيَاء كَقَوْلِه (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فغوى) وقوله (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ) الآيَة وَقَوْلُه عَنْه (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) الآية وَقَوْلُه عَن يُونُس (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظالمين) وَمَا ذَكَرَه من قِصَّة دَاوُد، وَقَوْلُه (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فتاه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) إِلَى قَوْله (مآب) وقوله (ولقد همت به وهم بها) وَمَا قَصّ من قصته مَع إخوتِه، وَقَوْلُه عَن مُوسَى (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وقول النبي صلى القله عَلَيْه وَسَلَّم فِي دُعَائِه (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ) وَنَحْوَهُ من أدْعِيَتِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم

وَذَكَر الْأَنْبِيَاء فِي المَوْقِف ذُنُوبَهُم فِي حَدِيث الشَّفَاعَة، وَقَوْلُه (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفَرُ اللَّهَ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة (إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ (وَإِلا تَغْفِرْ لى وترحمني) الآيَةَ، وَقَدْ كَانَ قَالَ اللَّه لَه (وَلا تخاطبي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إنهم مغرقون) وَقَال عَن إبْرَاهِيم (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يوم الدين) وَقَوْلُه عَن مُوسَى (تبت إليك) وَقَوْلُه (وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان) إِلَى مَا أشْبَه هَذِه الظَّوَاهِر، فأمَّا احْتِجَاجُهُم يقوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) فَهَذَا قَد اخْتُلِف فِيه الْمُفَسِّرُون، فَقِيل المُرَاد مَا كَان قَبْل النُّبُوَّة وَبَعْدَهَا، وَقِيل المُرَاد مَا وَقَع لَك من ذَنْب وَمَا لَم يَقَع أعْلَمَه أنَّه مغَفُور لَه، وَقِيل المُتَقَدّم مَا كَان قَبْل النُّبُوَّة وَالمُتأخّر عِصْمتُك بَعْدَهَا، حَكَاه أَحْمَد بن نَصْر، وَقِيل المُرَاد بِذَلِك أمَّتَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَقِيل المُرَاد مَا كَان عَن سَهو وَغَفْلَة وَتَأوِيل، حَكاه الطَّبَرِيّ واخْتَارَه الْقُشَيْرِيّ، وَقِيل مَا تَقَدَّم لِأَبِيك آدَم وَمَا تَأخَّر من ذُنُوب أُمَّتِك، حَكاه السَّمْرَقَنْدِيّ والسُّلَمِيّ عَن ابن عطاء وَبِمِثْلِه وَالَّذِي قَبْلَه يُتَأوّل قَوْله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) قَال مَكّيّ مُخَاطَبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ههُنَا هي مخالطبة لُأمَّتَه، وَقِيل إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لما أمر أن يَقُول (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بكم) سُرّ بِذَلِك الكُفَّار فَأنْزَل اللَّه تَعَالَى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) الآيَة وَبمآل الْمُؤْمِنين فِي الآية الْأُخْرَى بَعْدَهَا، قاله ابن عَبَّاس، فَمَقْصِد الآيَة أنك مَغْفُور لَك غَيْر مُؤَاخَذ بِذَنْب أَنّ لَو كَان، قال بَعْضُهُم: المَغْفِرَة ههُنَا تَبْرِئَة مِن الْعُيُوب، وَأَمَّا قَوْله (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)

فَقِيل مَا سَلَف من ذَنْبَك قَبْل النُّبُوَّة وَهُو قَوْل ابن زَيْد والحسن وَمَعْنَي قَوْل قَتَادَة، وَقِيل مَعْنَاه أنَّه حُفِظ قَبْل نبوته منها وعصم، ولولا ذَلِك لأثقلت ظهره، حكى مَعْنَاه السَّمْرَقَنْدِيّ، وَقِيل المُرَاد بِذَلِك مَا أثقل ظهره من أعباء الرسالة حَتَّى بَلَّغهَا) حكاه الْمَاوَردِيّ والسُّلَمِيّ، وَقِيل حَطَطنْا عنك ثِقَل أيام الْجَاهِلِيَّة، حَكاه مَكّيّ، وَقِيل ثِقَل شُغْل سِرّك وحَيْرتك وطلب شريعتك حَتَّى شرعنا ذَلِك لك، حكى مَعْنَاه الْقُشَيْرِيّ، وَقِيل مَعْنَاه خففنا عَلَيْك مَا حُمَّلْت بِحِفْظنَا لَمّا استحفظت وحفظى عَلَيْك، ومعنى انقض ظهرك أَي كاد ينقصه فيكون الْمَعْنَى عَلَى من جَعَل ذَلِك لم قَبْل النُّبُوَّة اهْتِمَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِأُمُور فَعَلَهَا قَبْل النُّبُوَّة وحُرَّمَت عَلَيْه بَعْد النُّبُوَّة فَعَدَّها أوْزَارًا وَثَقُلَت عَلَيْه وأشْفَق مِنْهَا، أَو يَكُون الْوَضْع عِصْمَة اللَّه له وكِفَايَتَه من ذُنُوب لو كانت لأنفضت ظَهْرَه، أَو يَكُون من ثِقَل الرَّسَالَة أَو مَا ثَقُل عَلَيْه وَشَغَل قَلْبه من أُمُور الْجَاهِلِيَّة وإعْلَام اللَّه تَعَالَى لَه بِحِفْظ مَا استحفظيه من وَحْيِه، وَأَمَّا قَوْله (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لهم) فَأمْر لَم يَتَقَدَّم للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِيه مِن اللَّه تَعَالَى نَهْي فَيُعَدّ معصية وَلَا عَدَّه اللَّه تَعَالَى عَلَيْه مَعْصِيَة بَل لَم يَعُدَّه أَهْل الْعِلْم مُعَاتَبَة، وَغَلَّطُوا من ذَهَب إلى ذَلِك، قَال نِفْطَويْه وَقَد حَاشاه اللَّه تَعَالَى من ذَلِك بَل كَان مُخيَّرًا فِي أَمْرَيْن قَالُوا وَقَد كَان لَه أن يَفْعَل مَا شَاء فِيمَا لَم يُنْزَل عَلَيْه فِيه وَحْي فَكَيْف وَقَد قَال اللَّه تَعَالَى (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ منهم) فَلَمّا أذِن لَهُم أعْلَمَه اللَّه بِمَا لَم يَطَّلِع عَلَيْه من سِرّهم أنَّه لَو لَم يَأْذَن لَهُم لَقَعَدُوا وَأنَّه لَا حَرَج عَلَيْه فِيمَا فَعَل وَلَيْس (عفا) ههُنَا بِمَعْنَي غَفَر بَل كَمَا قَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم) عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ) وَلَمْ

تجِب عَلَيْهِم قَطّ أَي لَم يُلْزمْكُم ذَلِك، وَنَحْوَه لِلْقُشَيْرِيّ، قَال: وَإِنَّمَا يَقُول الْعَفْو لَا يَكُون إلَّا عَن ذَنْب: من لَم يَعْرف كَلَام الْعَرَب، قَال وَمَعْنَي عفا اللَّه عنك أَي لَم يلزمك ذنبا، قَال الدَّاوُديّ: رُوِي أنَّهَا كَانَت تَكْرِمه، قَال مكى هو استفحتاح كَلَام مِثْل أصْلَحَك اللَّه وَأعَزَّك، وَحَكى السَّمْرَقَنْدِيّ أَنّ مَعْنَاه عَافاك اللَّه، وَأَمَّا قَوْلُه فِي أُسَارى بد (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) الآيَتَيْنِ فَلَيْس فِيه إلزام ذنب للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بَل فِيه بَيَان مَا خُصّ بِه وَفُضّل من بَيْن سائر الْأَنْبِيَاء فَكَأنه قَال مَا كَان هَذَا لِنبيّ غيرك كَما قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لنَّبِيٍّ قَبْلِي) فَإِنّ قِيل فَمَا مَعْنَي قَوْله تَعَالَى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا) الآية، قيل معنى: الْخِطَاب لمن أرَاد ذَلِك مِنْهُم وَتَجَّرد غَرَضُه لِغرَض الدُّنْيَا وَحدَه وَالاسْتِكْثَار مِنْهَا وَلَيْس المراد بَهَذَا النبي صلى الله عليه ولم وَلَا عَلَيْه أصْحَابِه، بَل قَد رُوِي عَن الضحاك أنها نَزَلَت حِين انْهَزَم المُشْرِكُون يَوْم بَدْر وَاشْتَغَل النَّاس بالسَّلَب وَجَمْع الْغَنَائِم عَن القِتَال حَتَّى خَشِي عُمَر أن يَعْطِف عَلَيْهِم الْعَدُوّ ثُمّ قال تَعَالَى: (لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) فاخْتَلَف الْمُفَسِّرُون فِي مَعْنَي الآيَة فَقِيل: مَعْنَاهَا لولا أنَّه سَبَق مني أَنّ لَا أُعَذّب أحَدًا إلَّا بَعْد النَّهْي لَعَذَّبْتُكُم، فَهَذَا يَنْفِي أن يَكُون أمْر الأسْرى مَعْصِيَة، وَقِيل الْمَعْنَى: لولا إيمَانُكُم بِالْقُرْآن وَهُو الْكِتَاب السابق فاستوجبتم بِه الصَّفْح لَعُوقبْتُم عَلَى الغنائم، وَيُزَاد هَذَا القول تفسيرا

_ (قوله ولا علية) بكسر العين المهملة وسكون اللام: في الصحاح وعلى في الشرف بالكسر يعلى علا، ويقال أيضا بالفتح وفلان من علية الناس. وهو جمع رجل على: أي شريف رفيع، مثل صبى وصبية. (*)

وَبَيَانًا بأن يُقَال لَوْلَا مَا كُنْتُم مُؤْمِنين بالقرآن وَكُنْتُم مِمَّن أُحِلَّت لَهُم الْغَنَائِم لَعُوقِبْتُم كَمَا عُوقِب من تَعَدَّى، وَقِيل: لَوْلَا أنَّه سَبَق فِي اللّوح المَحْفُوظ أنَّهَا حَلَال لكم لَعُوقِبْتُم، فَهَذَا كله ينفي الذنب والمعصية لِأَنّ من فعل مَا أحل له لَم يعص، قَال اللَّه تَعَالَى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طيبا) وَقِيل: بَل كَان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قد خير فِي ذَلِك، وَقَد رُوِي عَن عَلِيّ رضي الله عَنْه قَال جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ خَيْرُ أَصْحَابِكَ فِي الأُسَارَى إن شاؤا القتل وإن شاؤا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يقتل منهم فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِثْلُهُمْ، فَقَالُوا الْفِدَاءُ وَيَقْتَلُ مِنَّا، وَهَذَا دليل عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا وَأَنَّهُم لَم يَفْعَلُوا إلَّا مَا أُذَن لَهُم فِيه لكِن بَعْضَهُم مال إلى أضْعَف الْوَجْهيْن مِمَّا كَان الْأَصْلَح غَيْرَه مِن الإثْخَان وَالقَتْل فعونبوا عَلَى ذَلِك وَبَيْن لَهُم ضَعْف اخْتيارِهِم وَتَصَويب اخْتِيَار غَيْرِهِم وَكُلُّهُم غَيْر عُصَاة وَلَا مُذْنِبِين وَإِلَى نَحْو هَذَا أشَار الطَّبَرِيّ، وَقَوْلُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي هَذِه الْقَضيَّة (لَو نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ) إِشَارَةً إِلَى هَذَا مِنْ تَصْويِبِ رَأْيِهِ وَرَأْيِ مَنْ أَخَذَ بِمَأْخَذِهِ فِي إِعْزَازِ الدِّينِ وَإظْهَار كَلِمَتِه وَإبادَة عَدُوّه وَأَنّ هَذِه القضية لو استوجبت عذابا نجا مِنْه عُمَر وعين عُمَر لِأَنَّه أَوَّل من أشَار بِقَتْلِهِم وَلَكِن اللَّه لَم يُقَدّر عَلَيْهِم فِي ذَلِك عَذَابًا لِحلّه لَهُم فِيمَا سَبَق، وَقَال الدَّاوُدِيّ والخَبَر بَهَذَا لَا يَثْبُت، وَلَو ثَبَت لَمّا جَاز أن يُظَنّ أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حَكَم بِمَا لَا نَصّ فِيه وَلَا دَلِيل من نَصّ وَلَا جُعِل الْأَمْر فِيه إليْه وَقَد نَزَّهَه اللَّه تَعَالَى عَن ذَلِك، وَقَال الْقَاضِي بَكْر بن الْعَلَاء أخبر الله تعالى نبه فِي هَذِه الآيَة أَنّ تَأْوِيلَه وَافق مَا كَتَبَه لَه من إحْلَال

الغنائم وَالفداء وَقَد كان قبل هَذَا فادَوْا فِي سرية عَبْد اللَّه بن جَحْش التي قُتِل فِيهَا ابن الْحَضْرَمِيّ بِالْحَكَم بن كَيْسَان وَصَاحِبِه فَمَا عَتَب الله عليهم وذلك قبل بَدْر بأزْيَد من عَام، فهذا كله يَدُلّ عَلَى أن فِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي شَأْن الأسْرَى كَان عَلَى تأوِيل وَبَصِيرَة وَعَلَى مَا تَقَدّم قَبْل مِثْلُه فَلَم ينكره اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِم لَكِن اللَّه تَعَالَى أرَاد لِعِظَم أمْر بَدْر وَكَثْرَة أسْرَاهَا والله اعْلَم إظَهَار نِعْمَتِه وَتَأكِيد منَّتِه بِتَعْرِيفهِم مَا كَتَبَه فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ من حِلّ ذَلِك لَهُم لَا عَلَى وَجه عِتَاب وَإنْكَار وَتَذْنِيب، هَذَا مَعْنَي كلامه، وَأَمَّا قَوْله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآيات فَلَيْس فِيه إثْبَات ذَنْب لَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بَل إعْلَام اللَّه أَنّ ذَلِك المُتَصَدّي لَه مِمَّن لَا يَتَزَكَّى وأن الصَّوَاب وَالأوْلَى كَان لَو كُشِف لَك حَال الرَّجُلَيْن الإقْبَال عَلَى الأعْمَى وَفِعْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَمّا فَعَل وَتَصَدّيه لِذاك الكافر كان طَاعَة لله وتَبْلِيغًا عَنْه وَاسْتِئْلَافًا لَه كَمَا شَرَعَه اللَّه لَه لَا مَعْصِيَة وَمُخَالَفَة لَه وَمَا قِصَّة اللَّه عَلَيْه من ذَلِك إعْلَام بِحال الرَّجُلَيْن وتَوْهِين أمر الكافِر عِنْدَه وَالإشَارَة إِلَى الإعْرَاض عَنْه بِقَوْلِه وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَقِيل أرَاد بِعَبَس وَتَوَلَّى الكافِر الَّذِي كَان مَع النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قالَه أَبُو تُمَّام * وَأَمَّا قِصَّة آدَم عَلَيْه السَّلَام وَقَوْلُه تَعَالَى (فَأَكَلا منها) بعد قوله (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) وقوله (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تلكما الشجرة)

_ (قوله فِي سرية عَبْد الله بن جحش) هذه السرية كانت في رجب من السنة الثانية وكان مع عبد الله ثمانية رهط من المهاجرين ولم يكن معه من الأنصاري أحد (قوله وذلك قبل بَدْر بأزْيَد من عام) قيل بل كلاهما في سنة واحدة، تلك في رجب وبدر في رمضان. (*)

وَتَصْريحُه تَعَالَى عَلَيْه بالمَعْصِيَة بِقَوْلِه تَعَالَى (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فغوى) أَي جهل وَقِيل أخْطَأ فإنّ اللَّه تَعَالَى قَد أخْبَر بعذره بقوله (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ له عزما) قَال ابن زَيْد نَسِي عَدَاوَة إبْلِيس لَه وَمَا عَهِد اللَّه إليْه من ذَلِك بِقَوْلِه (إن هَذَا عَدُوٌّ لَكَ لزومك) الآيَة، قِيل نَسِي ذَلِك بِمَا أظْهَر لهما، وَقَال ابن عَبَّاس إنَّمَا سُمّي الْإِنْسَان إنْسانًا لِأَنَّه عُهد إليْه فَنَسِي وَقِيل لَم يَقْصِد الْمُخَالَفة اسْتِحْلالًا لَهَا وَلكِنَّهُمَا اغْتَرَّا بِحَلِف إبْلِيس لهما (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) تَوَهَّمَا أَنّ أحَدًا لَا يَحْلِف بالله حانِثًا وَقَد رُوِي عُذْر آدَم بمثْل هَذَا فِي بَعْض الآثار، وَقَال ابن جُبَيْر حَلَف بالله لهما حَتَّى غَرَّهُمَا وَالْمؤْمِن يُخْدع وَقَد قِيل نسِي وَلَم يَنْو الْمُخَالَفَة فَلِذَلِك قَال (وَلَمْ نَجِدْ له عزما) أَي قَصْدًا لِلْمُخَالفَة وَأكْثَر الْمُفَسّرِين عَلَى أَنّ العَزْم هنا الْحَزْم وَالصّبْر وَقِيل كَان عِنْد أكْلِه سكران وهذا فيه ضعف لِأَنّ اللَّه تَعَالَى وَصَف خَمْر الْجَّنة أنَّهَا لَا تُسْكِر فَإِذَا كَان ناسِيًا لَم تكن مَعْصِيَة وَكَذَلِك إن كَان ملبسًا عَلَيْه غَالِطًا إِذ الاتّفَاق عَلَى خُرُوج النّاسِي والسَّاهي عَن حُكْم التَّكلِيف، وَقَال الشَّيْخ أَبُو بَكْر بن فورك وغيره إنَّه يُمْكن أن يَكُون ذَلِك قَبْل النُّبُوَّة ودليل ذَلِك قَوْله (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عليه وهدى) فَذَكَر أَنّ الاجْتِبَاء والهِدَاية كَان بَعْد العِصْيَان وَقِيل بَل أكَلَهَا متَأوّلًا وَهُو لَا يعلم أنَّهَا الشجرة التي نهي عَنْهَا لِأَنَّه تأول نهى اللَّه عَن شجرة مخصوصه لَا عَلَى الجنس، ولهذا قِيل إنَّمَا كَانَت التَّوْبَة من ترك التحفظ لَا مِن المخالفة، وَقِيل تأول أَنّ اللَّه لم ينهه عَنْهَا نهي تحريم. فَإِنّ قِيل فعَلَى كُلّ حال فَقَد قَال اللَّه تَعَالَى (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فغوى، وقال: فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) وَقَوْلُه فِي حَدِيث الشَّفَاعَة ويذكر ذنبه وإني

نهيت عَن أكل الشجرة فعصيت: فسيأتي الجواب عَنْه وَعَن أشباهه مجملًا آخر الْفَصْل إن شَاء اللَّه، وَأَمَّا قِصَّة يُونُس فَقَد مَضَى الْكَلَام عَلَى بَعْضَهَا آنفا وليس فِي قِصَّة يونس نص عَلَى ذنب وِإنما فِيهَا أبق وذهب مغاضبًا وَقَد تكلمنا عَلَيْه، وقيل إنما نقم اللَّه عَلَيْه خروجه عَن قومه فارا من نزول العذاب، وَقِيل بَل لَمّا وعدهم العذاب ثُمّ عفا اللَّه عَنْهُم قَال: والله لَا ألقاهم بوجه كذاب ابدًا وَقِيل بَل كَانُوا يقتلون من كذب فخاف ذَلِك، وَقِيل ضعف عَن حمل أعباء الرسالة. وَقَد تقدم الْكَلَام أنَّه لَم يكذبهم، وَهَذَا كله لَيْس فِيه نص عليه معصية إلَّا عَلَى قوله مرغوب عَنْه وَقَوْلُه (أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قَال الْمُفَسِّرُون تباعد، وَأَمَّا قَوْله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فاظلم وضع الشئ فِي غَيْر موضعه فَهَذَا اعتراف مِنْه عِنْد بَعْضُهُم بِذَنْبِه فإمَّا أَنّ يَكُون لِخُرُوجِه عَن قَومِه بِغَيْر إذْن رَبَّه أَو لِضَعْفِه عَمَّا حمَّلَه أَو لِدُعَائِه بالْعَذَاب عَلَى قومه، وَقَد دَعَا نُوح بِهَلَاك قَوْمِه فَلَم يُؤاخَذ، وَقَال الوَاسِطيّ فِي مَعْنَاه نَزَّه رَبَّه عَن الظُّلْم وَأضَاف الظُّلْم إِلَى نَفْسِه اعْتِرَافًا وَاستِحْقَاقًا ومثل هَذَا قَوْل آدَم وَحوَاء (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) إذ كانا السَّبَب فِي وَضْعِهِمَا فِي غَيْر المَوْضِع الَّذِي انْزلا فِيه وَإخْرَاجِهِمَا مِن الْجَّنة وَإِنْزَالِهَمَا إلى الْأَرْض * وَأَمَّا قِصَّة دَاوُد عَلَيْه السَّلَام فَلَا يَجِب أن يُلْتَفَت إلى مَا سَطَّرَه فِيه الأخْبَارِيُّون عَن أَهْل الكِتَاب الَّذِين بَدّلُوا وغَيَّرُوا وَنَقَلَه بَعْض الْمُفَسّرِين وَلَم يَنُصّ اللَّه عَلَى شئ من ذَلِك وَلَا وَرَد فِي حَدِيث صحيح والذي نَصّ اللَّه عَلَيْه قَوْله: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) إِلَى قَوْله: (وحسن مآب) وقوله في أواب فمعنى

_ (قوله إنما نقم) بفتح القاف، وقد تكسر. (*)

فتناه اخبرناه وأوَّاب قَال قتادة مُطيع وَهَذَا التَّفْسِير أوْلى، قَال ابن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود: مَا زَاد دَاوُد عَلَى أَنّ قَال لِلرَّجُل أنْزل لِي عَن امْرَأتِك وَأكْفِلْنِيهَا فَعَاتَبَه اللَّه عَلَى ذَلِك وَنَبَّهَه عَلَيْه وَأنْكَر عَلَيْه شُغْلَه بالدُّنْيَا وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي أن يُعَوَّل عَلَيْه من أمْرِه وَقِيل خَطَبَهَا عَلَى خِطْبَتِه، وَقِيل بَل أخب بَقَلْبِه أن يُسْتَشْهَد، وحَكَى السَّمْرَقَنْدِيّ أَنّ ذَنْبَه الَّذِي اسْتَغْفَر مِنْه قَوْله لأحَد الخَصْمَيْن لَقَدْ ظَلَمَكَ فَظَلَّمَه بَقَوْل خَصْمِه، وَقِيل بَل لَمّا خَشِي عَلَى نَفْسِه وظَنّ مِن الْفِتْنَة بِمَا بُسَط لَه مِن الْمُلْك وَالدُّنْيَا، ولى نَفْي مَا أضِيف فِي الْأَخْبَار إِلَى دَاوُد ذَهَب أَحْمَد بن نَصْر وَأَبُو تَمَّام وَغَيْرِهِمَا مِن المُحَقّقِين، قَال الدَّاوُدِيّ: لَيْس فِي قِصَّة دَاوُد وَأُورِيا خَبَر يثْبُت وَلَا يُظَنّ بِنَبِيّ مَحَبَّة قَتْل مُسْلِم وَقِيل إنّ الخَصْمَيْن اللَّذِين اخْتَصَمَا إليْه رَجُلَان فِي نِتَاج غَنَم عَلَى ظَاهِر الآية * وَأَمَّا قِصَّة يُوسُف وَإخْوَتِه فَلَيْس عَلَى يُوسُف مِنْهَا تَعَقَّب وَأَمَّا إخْوَتُه فَلَم تَثْبُت نُبُوَّتُهُم فَيلْزَم الْكَلَام عَلَى أفْعَالِهِم وَذِكْر الْأَسْبَاط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء، قال المفسرون يريد مِنْ نَبِيٍّ مِنَ أبناء الأسباط وَقَد قِيل إنَّهُم كَانُوا حِين فَعَلُوا بِيُوسُف مَا فَعَلُوه صِغَار الأسْنَان ولهذا لَم يُمَيّزُوا يُوسُف حِين اجْتَمَعُوا بِه ولهذا قَالُوا أَرْسِلْه معنا غَدًا نَرْتَع وَنَلْعَب وإن ثَبَتَت لَهُم نُبُوَّة فَبَعْد هَذَا والله أَعْلَم، وَأَمَّا قَوْل اللَّهُ تَعَالَى فِيه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أن رأى برهان ربه) فَعَلى مَذْهَب كثير من الفقهاء والمحدثين أنهم النَّفْس لَا يُؤَاخُذ به وليس سَيّئة لِقَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن ربه (إذ هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً) فَلَا مَعْصِيَة فِي هَمّه إذا

_ (قوله أو رياء) بفتح الهمزة وسكون الواو كسر الراء بعدها مثناة تحتية وهمزة ممدودة (*)

وَأمَّا عَلَى مَذْهَب المُحَقّقِين مِن الفُقَهَاء وَالْمُتكلّمِين فَإِنّ الْهَمّ إذا وظنت عَلَيْه النَّفْس سَيّئَة وَأَمَّا مَا لَم تُوَطَّن عَلَيْه النَّفْس من هُمُومِهَا وَخَوَاطِرِهَا فَهُو الْمَعْفُوّ عَنه وَهَذَا هُو الْحَقّ فَيَكُون إن شَاء اللَّه همّ يُوسُف من هَذَا وَيَكُون قَوْله (وما أبرى نفسي) الآيَة أَي مَا أُبَرَّئُهَا من هَذَا الهَمّ أَو يَكُون ذَلِك مِنْه عَلَى طرق التّوَاضُع وَالاعْتِرَاف بِمُخَالَفَة النَّفْس لَمّا زُكّي قَبْل وبرى فَكَيْف وَقَد حكى أَبُو حَاتِم عَن أَبِي عَبِيدة أَنّ يُوسُف لَم يَهُم وَأَنّ الْكَلَام فِيه تقديم وتأخير أَي وَلَقَد همت بِه ولولا أَنّ رَأَى برهان رَبَّه لَهُم بِهَا وَقَد قَال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَن المرأة (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وَقَال تَعَالَى (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) وَقَال تَعَالَى (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ الله إنى رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) الآيَة قِيل فِي رَبّي اللَّه وَقِيل الْمُلْك وَقِيل هَمّ بِهَا أَي بزجْرِهَا وَوَعظها وَقِيل همّ بِهَا أَي غَمَّهَا امتناعه عنها وَقِيل هم بِهَا نَظَر إِلَيْهَا وَقِيل هُم بضربها دفعها وَقِيل هَذَا كله كَان قَبْل نبوته، وَقَد ذَكَر بَعْضُهُم مَا زال النّسَاء يملن إِلَى يُوسُف ميل شهوة حَتَّى نبأه اللَّه فألقى عَلَيْه هيبة النُّبُوَّة فشغلت هيبته كُلّ من رآه عَن حسنه * وَأَمَّا خبر موسى صلى الله عليه وسلم مَع قَتِيلِه الَّذِي وَكَزَه وَقَد نص اللَّه تَعَالَى أنَّه من عَدُوّه وَقِيل كَان مِن القِبْط الَّذِين عَلَى دِين فِرْعَوْن وَدَلِيل السُّورَة فِي هَذَا كله أنَّه قَبْل نُبُوَّة مُوسَى، وَقَال قَتَادَة وَكَزَه بالعَصَا وَلَم يَتَعَمَّد قَتْلَه فَعَلَى هَذَا لَا مَعْصيَة فِي ذَلِك، وَقَوْلُه هَذَا مِنْ عَمَلِ الشطان وَقَوْلُه ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لى

_ (قوله وقد حكى أبو حاتم) هو الإمام الحافظ الكبير محمد بن إدريس المنذر توفى سنة سبع وسبعين ومائتين. (*)

قَال ابن جُرَيج قَال ذَلِك من أجل أنَّه لَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أن يَقْتُل حَتَّى يُؤْمَر، وَقَال النَّقَّاش: لَم يَقْتُلْه عَن عَمْد مُرِيدًا لِلْقَتْل وَإِنَّمَا وَكَزَه وَكزَة يُريد بِهَا دَفْع ظُلْمِه قَال وَقَد قِيل أن هَذَا كان قبل النبوة وهو مقتضى للتلاوة وَقَوْلُه تَعَالَى فِي قصته (وفتناك فتنا) أي ابْتَلَيْناك ابْتِلَاء بَعْد ابْتِلَاء قِيل فِي هَذِه الْقِصَّة وَمَا جَرَى لَه مَع فِرْعَوْن وَقِيل إلماؤه فِي التَّابُوت وَاليَمّ وَغَيْر ذَلِك وَقِيل معناه أخْلَصْنَاك إخْلاصًا قَاله ابن جُبَيْر وَمُجَاهِد من قَوْلِهِم فَتَنْت الفِضَّة فِي النَّار إذَا خَلَّصْتَهَا وَأَصْل الفتنة معنى الاحتبار وإظْهَار مَا بَطَن إلَّا أنَّه اسْتُعْمِل فِي عَرْف الشَّرْع وفى اخْتِبَار أدَّى إلى مَا يُكْرَه وَكَذَلِك مَا رُوِي فِي الْخَبَر الصَّحِيح من أَنّ مَلَك الْمَوْت جاءَه فَلَطَم عَيْنَه فَفَقَأها (الْحَدِيث) لَيْس فِيه مَا يُحْكَم عَلَى مُوسَى عَلَيْه السَّلَام بالتَّعَدّي وَفِعْل مَا لَا يَجِب إِذ هُو ظَاهِر الأَمْر بَيْن الْوَجْه جائز الفِعْل لَأن مُوسَى دَافَع عَن نَفْسِه من أتاه لإتْلافِهَا وَقَد تُصُوّر لَه فِي صورة آدمِي وَلَا يُمْكِن أنَّه عَلِم حِينَئذ أنَّه مُلْك المَوْت فَدَافَعَه عَن نَفْسِه مُدَافَعَة أدّت إِلَى ذَهَاب عَيْن تِلْك الصُّورَة التي تَصَوَّر لَه فِيهَا المَلك امْتِحَانًا مِن اللَّه فَلَمّا جاءَه بَعْد وَأعْلَمَه اللَّه تَعَالَى أنَّه رَسُولُه إليْه اسْتَسْلَم، وَلِلْمُتَقَدّمِين وَالمُتأخَرِين عَلَى هَذَا الْحَدِيث أجْوِبَة هَذَا أسَدُّها عِنْدِي وَهُو تَأْوِيل شَيْخِنَا الْإِمَام أَبِي عَبْد اللَّه المازِرِيّ وَقَد تَأوَّلَه قَدِيمًا ابن عَائِشَة وَغَيْرِه عَلَى صَكّه وَلَطْمِه بالحُجَّة وفقء عَيْن حُجَّتِه وَهُو كَلَام مُسْتَعْمَل فِي هذا الْبَاب فِي اللُّغَة وَمَعْرُوف * وَأَمَّا قِصَّة سُلَيْمَان وَمَا حَكى فِيهَا أَهْل التَّفَاسِير من ذَنْبِه وَقَوْلُه وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان فَمَعْنَاه ابْتَلَيْنَاه وابْتِلاؤُه مَا حُكِي عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أنَّه قَال: (لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ

_ (قوله أسدهما) بالسين المهملة، من السداد. (*)

كُلُّهُنَّ يَأْتِينَ بِفَارسَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يقل. فلم تحمل منهن إلَّا وَاحِدَة جَاءَت بِشقّ رَجُل قَال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَال أَصْحَاب المَعَاني: وَالشَّقّ هُو الجَسَد الَّذِي أُلْقِي عَلَى كُرْسِيّه حِين عُرِض عَلَيْه وَهِي عُقُوبَتُه وَمِحْنَتُه وَقِيل بَل مات فَأُلْقِي عَلَى كُرْسِيّه مَيّتًا، وَقِيل ذَنْبُه حِرْصُه عَلَى ذَلِك وَتَمَنّيه، وَقِيل لِأَنَّه لَم يَسْتَثْن لَمّا اسْتَغْرَقَه مِن الْحِرْص وَغَلَب عَلَيْه مِن التَّمَنّي وَقِيل عُقُوبَتُه أن سُلِب مُلْكه وَذَنْبُه أن أحَبّ بِقَلْبِه أن يَكُون الْحَقّ لأخْتَانِه عَلَى خَصْمِهِم وَقِيل أوخِذ بِذَنْب قارَفَه بَعْض نِسَائِه وَلَا يَصِحّ مَا نَقَلَه الأخْبَارِيُّون من تَشبُّه الشَّيْطَان بِه وَتَسَلُّطِه عَلَى مُلْكِه وَتَصرُّفِه في أمته بالجور فِي حُكْمِه لِأَنّ الشياطين لَا يُسَلَّطُون عَلَى مِثْل هَذَا، وَقَد عُصِم الْأَنْبِيَاء من مِثِلِه، وإن سُئِل لِمَ لَمْ يَقُل سُلَيْمَان فِي الْقِصَّة المَذْكُورَة إن شَاء اللَّه؟ فَعَنْه أجْوبَة أَحَدُهَا مَا رُوِي فِي الْحَدِيث الصَّحِيح أنَّه نَسي أن يَقُولَهَا وَذَلِك ليفذ مُرَاد اللَّه، والثاني أنَّه لَم يَسْمَع صَاحِبَه وَشُغْل عَنْه وَقَوْلُه (وَهَبْ لِي مُلْكًا لا ينبغي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) لَم يَفْعَل هَذَا سُلَيْمَان غَيْرِه عَلَى الدُّنْيَا ولا نقاسة بِهَا وَلَكِن مَقْصِدُه فِي ذَلِك عَلَى مَا ذَكَرَه الْمُفَسِّرُون أن لَا يُسَلَّط عَلَيْه أَحَد كما سُلّط عَلَيْه الشَّيْطَان الَّذِي سَلَبَه إيَّاه مسدة امتحانه على قوله من قَال ذَلِك. وَقِيل بَل أرَاد أن يَكُون لَه مِن اللَّه فَضِيلَة وَخَاصَّة يَخْتَصّ بِهَا كاخْتِصَاص غَيْرِه من أنْبِيَاء اللَّه ورُسُلِه بِخَوَاصّ مِنْه، وَقِيل لِيَكُون دَليلًا وَحُجَّة عَلَى نبوته كإلابة الحَدِيد لأبِيه وَإحْيَاء المَوْتى لِعِيسَى وَاخْتصَاص مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بالشَّفَاعَة ونحو هَذَا * وَأَمَّا قِصَّة نوح عَلَيْه السَّلَام

فَظَاهِرَة العُذْر وَأنَّه أخَذ فِيهَا بالتّأْوِيل وَظَاهِر اللّفْظ لِقَوْلِه تَعَالَى وَأَهْلَك، فَطَلَب مُقْتَضى هَذَا اللَّفْظ وَأَرَاد عِلْم مَا طُوِي عَنْه من ذَلِك لَا أنَّه شَكّ فِي وَعْد اللَّه فَبيَّن اللَّه عَلَيْه أنَّه لَيْس من أهله الَّذِين وَعَدَه بِنَجاتِهِم لِكُفْرِه وَعَمَلِه الَّذِي هُو غَيْر صَالِح وَقَد أعْلَمَه أنَّه مُغْرِق الَّذِين ظَلَمُوا وَنَهَاه عَن مُخَاطَبِتِه فِيهِم فووخذ بِهَذا التأويل وَعُتب عَلَيْه وَأشْفَق هُو من إِقْدامِه عَلَى رَبَّه لِسُؤَالِه مَا لَم يُؤْذَن له في السؤال فيه وَكَان نُوح فِيمَا حَكاه النَّقَّاش لَا يَعْلَم بِكُفْر ابْنِه وَقِيل فِي الآيَة غَيْر هَذَا وَكُلّ هَذَا لَا يَقْضِي عَلَى نُوح بِمَعْصِيَة سِوَى مَا ذَكَرْنَاه من تَأْوِيلِه وَإقدامِه بالسُّؤَال فِيمَن لم يُؤْذَن لَه فِيه وَلَا نُهَي عَنْه، وَمَا رُوِي فِي الصَّحِيح من أَنّ نَبِيًّا قَرَصَتْه نَمْلَة فَحَرَّق قَرْيَة النَّمْل فَأَوْحى اللَّه إليْه: (إِنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحْرَقَتْ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ) فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَتَى مَعْصَيةٌ بَلْ فَعَلَ مَا رَآهُ مَصْلَحَةً وَصَوَابًا بِقَتْلِ مَنْ يُؤْذِي جِنْسُهُ وَيَمْنَعُ المنْفَعَةَ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ هذا النبي كَان نازِلًا تحت الشَّجَرَة فَلَمّا آذَتْه النَّمْلَة تَحَوَّل بِرَحْلِه عَنْهَا مَخَافَة تكْرَار الأذَى عَلَيْه وَلَيْس فِيمَا أوْحى اللَّه إليْه مَا يُوجِب عَلَيْه مَعْصِيَة بَل نَدَبَه إِلَى احْتِمَال الصَّبْر وَتَرْك التَّشَفي كَمَا قَال تَعَالَى: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خير للصابرين) إِذ ظَاهِر فِعْلِه إنَّمَا كَان لأجْل أنَّهَا آذَتْه هُو فِي خَاصَّتِه فكان نتقاما لِنَفْسِه وَقَطْع مَضَرّه يتَوَقَّعُهَا من بَقِيَّة النَّمْل هُنَاك وَلَم يَأْت فِي كُلّ هَذَا أمْرًا نُهِي عَنْه فَيُعَصَّى بِه ولا نص فيها أوْحى اللَّه إليْه بِذَلِك وَلَا بالتَّوْبَة والاسْتِغْفَار مِنْه والله أعلم

_ (قوله أَنّ نَبِيًّا قَرَصَتْه نملة) قال الزكي المنذرى إنه موسى وإن قيل جاء مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ إنه عزير، ونقل المحب الطبري عن الحكيم الترمذي أنه موسى. (*)

فصل فإن قلت فإذا نفيت عنهم صلوات الله عليهم الذنوب والمعاصي

فَإِنّ قِيل فَمَا مَعْنَي قَوْله عَلَيْه السَّلَام مَا من أَحَد إلَّا أَلَمّ بِذَنْب أَو كَاد إلا يحيى ابن زَكَرِيَّا أَو كَمَا قَال عَلَيْه السَّلَام؟ فالْجَوَاب عَنْه كَمَا تَقَدَّم من ذُنُوب الْأَنْبِيَاء التي وَقَعَت عن غَيْر قَصْد وَعَن سَهْو وَغَفْلَة فصل فَإِن قُلْت فَإِذَا نَفيْت عَنْهُم صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِم الذُّنُوب والمَعَاصِي بِمَا ذَكَرَتَه مِن اخْتِلَاف الْمُفَسّرِين وَتأوِيل المحققين فَمَا مَعْنَي قَوْله تَعَالَى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فغوى) وَمَا تكرر فِي الْقُرْآن والحديث الصَّحِيح مِن اعْتِرَاف الْأَنْبِيَاء بذنوبهم وتوبتهنم وَاسْتِغْفَارِهِم وَبُكائِهِم عَلَى ما سلف منهم وَإشْفاقِهِم وَهَل يُشْفَق وَيُتَاب وَيُسْتَغْفَر من لَا شئ؟ فاعلم وفقنا اللَّه وَإيَّاك أن دَرَجَة الْأَنْبِيَاء فِي الرّفْعَة وَالعُلُوّ والمعرفة بالله وَسُنَّتِه فِي عبادة وعظم سلطانه وقوة بطشه مِمَّا يحملهم عَلَى الخوف مِنْه جل جلاله والإشفاق مِن المؤاخذة بِمَا لَا يؤاخذ بِه غَيْرِهِم وَأَنَّهُم فِي تصرفهم بأمور لَم ينهوا عَنْهَا وَلَا أمروا بِهَا ثُمّ ووخذوا عَلَيْهَا وعوتبوا بسببها وحذروا مِن المؤاخذة بِهَا وأتوها على وجه التأويل أَو السَّهْو أَو تزيد من أمور الدنيا المباحة خائفون وجلون وَهِي ذنوب بالإضافة إِلَى عَلِيّ منصبهم ومعاص بالنسبة إِلَى كمال طاعتهم لَا أنَّهَا كَذُنُوب غَيْرِهِم ومَعَاصِيهِم فَإِنّ الذنب مَأْخُوذ من الشئ الدنى الرَّذْل وَمِنْه ذَنَب كل شئ أَي آخِرُه وَأذْناب الناس

_ (قوله فإن قيل فما مَعْنَي قَوْلِه مَا من أحد إلا ألم بذنب) أجاب النووي عن ذلك بأن هذا الحديث ضعيف لا يجوز الاحتجاج به رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده وفى إسناده عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بن جدعان. (*)

رُذَّالُهُم فكان هَذِه أدْنى أفْعالِهِم وَأسْوَأ مَا يَجْرِي من أحْوَالِهِم لِتَطْهِيرِهِم وَتنْزِيههِم وَعِمَارة بَوَاطِنِهم وَظَوَاهِرِهم بالعَمَل الصالح والكلم الطيب والذّكْر الظَّاهِر والخَفَيّ والخَشْيَة لله وَإعْظَامِه فِي السّرّ والعَلَانِيَة وَغَيْرِهِم يَتَلوَّث مِن الكَبَائِر وَالقَبَائِح والفَوَاحِش مَا تَكُون بالإضافة إلى هذه الهَنَات فِي حَقَه كالحَسَنَات كَمَا قِيل حَسَنَات الأبْرَار سَيّئَات المُقَربِين أَي يَرَوْنَهَا بالإضَافَة إلى عَلِيّ أحْوَالِهِم كالسَّيّئات وَكَذَلِك العِصْيَان التَّرْك وَالمُخَالَفَة فَعَلَى مُقْتَضى اللَّفْظَة كَيْفَمَا كانت من سَهْو أَو تَأويل فهى مخالفة وترك وَقَوْلُه غوى أَي جهل أَنّ تِلْك الشجرة هِي التي نهي عَنْهَا والغي الجهل وَقِيل أخطأ مَا طلب مِن الخلود إِذ أكَلَهَا وخابَت أُمْنِيَّتُه وَهَذَا يُوسُف عَلَيْه السَّلَام قد ووخذ بِقَوْلِه لأحد صاحِبَي السّجْن (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سنين) قِيل أُنْسِي يُوسُف ذَكَر اللَّه، وَقِيل أُنْسِي صاحبُه أن يَذْكُرَه لِسَيَّده المَلك، قَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (لَوْلَا كَلِمَةُ يُوسُفَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ) قَال ابن دِينَار: لَمَّا قَال ذَلِكَ يُوسُفُ قِيلَ لَه اتخذت من دُونِي وَكِيلًا لَأُطِيلَنّ حَبْسَك، فَقَال: يَا رَبّ أنْسَى قَلْبي كَثْرَة البَلْوى، وَقَال بَعْضُهُم: يُؤَاخِذ الْأَنْبِيَاء بمثاقيل الذَّرّ لمكانتهم عنده ويجاوز عَن سائر الْخَلْق لقلة مبالاته بهم فِي أضْعَاف مَا أتَوْا بِه من سُوء الأدَب وَقَد قَال المُحْتَجّ للفرقة

_ (قوله رذالهم) بضم الراء وتخفيف الذال، ذكره الفارابى في ديوان الأدب، يقال هو رذال المال وغيره يعنى خسيسه (قوله الهيئات) بمثناة تحتية ساكنة بعد الهاء فهمزة وفى بعض النسخ: (الهنات) بنون مخففة من غير همزة، جمع هنة، وهى خصلة الشر. (*)

الأُولَى عَلَى سِيَاق مَا قُلْنَاه إذَا كَان الْأَنْبِيَاء يُؤاخَذُون بِهَذا مِمَّا لَا يُؤَاخَذ بِه غَيْرِهِم مِن السَّهْو وَالنّسْيَان وَمَا ذَكَرْتَه وَحَالُهُم ارْفَع فَحَالُهُم إذَا فِي هَذَا أسْوَأ حَالًا من غَيْرِهِم، فاعْلَم أكْرَمَك اللَّه أَنَا لَا نُثْبِت لَك المُؤَاخَذَة فِي هَذَا عَلَى حد مُؤَاخَذَة غَيْرِهِم، بَل نَقُول إنَّهُم يُؤَاخَذُون بِذَلِك فِي الدُّنْيَا لِيكون ذَلِك زيادة فِي درجاتهم ويبتلون بِذَلِك ليكون استشعارهم لَه سببًا لمنماة رتبهم كَمَا قَال (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) وَقَال لداود (فَغَفَرْنَا له ذلك) لآية وَقَال بَعْد قَوْل مُوسَى تُبْت إِلَيْك. (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الناس) وَقَال بَعْد ذِكْر فِتْنَة سُلَيْمَان وَإنابَتِه (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ) إِلَى (وَحُسْنَ مَآبٍ) وَقَال بَعْض المُتَكلّمين زَلَّات الْأَنْبِيَاء فِي الظَّاهِر زَلَّات وَفِي الْحَقِيقَة كَرَامَات وَزُلَف وَأشار إِلَى نَحْو مِمَّا قدمناه وأيضًا فلينبه غَيْرِهِم مِن البشر مِنْهُم أَو مِمَّن لَيْس فِي درجتهم بمؤاخذتهم بِذَلِك فيستشعروا الحذر ويعتقدوا المحاسبة ليلتزموا الشكر عَلَى النعم ويعدوا الصبر عَلَى المحن بملاحظة مَا وَقَع بأهل هَذَا النصاب الرفيع المعصوم فكيف بمن سواهم، ولهذا قَال صَالِح المري ذِكْر دَاوُد بَسْطَة للتوابين، قَال ابن عَطَاء لَم يَكُن مَا نص اللَّه تَعَالَى من قِصَّة صَاحِب الحُوت نَقْصًا لَه وَلَكِن اسْتِزادة من نَبِيّنا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وأيضًا فَيُقَال لَهُم فإنَّكُم وَمِن وَافَقَكُم تَقُولُون بِغُفْرَان الصَّغَائِر باجتناب الكبائر ولا خلاف فِي عِصْمَة الْأَنْبِيَاء مِن الكبائر فَمَا جَوَّزْتُم من وُقُوع الصغائر علهيم هِي مَغْفُورَة عَلَى هَذَا فَمَا مَعْنَي

_ (قوله ويعدوا) بضم أوله وكسر ثانيه مضارع أعد (قوله صالح المرى) بضم الميم وتشديد الراء وياء للنسبة إلى مرة الواعظ الزاهد ابن بشير بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة (*)

فصل قد استبان لك أيها الناظر مما قررناه

المُؤَاخَذَة بِهَا إذَا عِنْدَكُم وَخَوْف الْأَنْبِيَاء وَتَوْبَتِهُم مِنْهَا وَهِي مغفورة لو كانت فَمَا أجَابُوا بِه فَهُو جَوَابُنا عَن المُؤَاخَذَة بأَفْعَال السَّهْو وَالتَّأْوِيل، وَقَد قِيل إنّ كَثْرَة اسْتِغْفَار النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَوبَتِه وَغَيْرُه مِن الْأَنْبِيَاء عَلَى وَجْه مُلازَمَة الخُضُوع وَالْعُبُودِيَّة والاعْتِراف بالتَّقْصِير شُكْرًا لله عَلَى نِعَمْه كَمَا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَقَد أمِن مِن المُؤَاخَذَة بِمَا تقدم وَمَا تَأخَّر (أَفَلَا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) وَقَال (إِنِّي أَخْشاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي) قَال الحَارِث بن أسَد: خَوْف الْمَلَائِكَة وَالْأَنْبِيَاء خَوْف إعْظَام وَتَعَبُّد لله لأنهم آمنُون. وَقِيل فَعَلُوا ذَلِك ليُقْتَدَى بهم وَتَسْتَنَّ بهم أُمَمُهُم كَمَا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم (لو تعلمون ما أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ مَعْنَي آخر لطيفا أشار إليْه بَعْض الْعُلمَاء وَهُو استدعاء محبة اللَّه قَال اللَّه تَعَالَى (إن الله يحب التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فإحْدَاث الرُّسُل والأنبياء الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة والإنابة والأوْبَة فِي كُلّ حِين اسْتِدْعَاء لِمَحَبَّة اللَّه وَالاسْتِغْفَار فِيه مَعْنَي التَّوْبَة، وَقَد قَال اللَّه لِنَبّيه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بَعْد أن غَفَر له ما تقدم من ذنبه وَمَا تَأخَّر (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) الآيَة وَقَال تَعَالَى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ توابا) فصل قَد استبان لَك أيُّهَا الناظر مما قررناه مَا هُو الْحَقّ من عصمته صَلَّى الله

_ (قوله وقد أمن) بضم الهمزة وكسر الميم المشددة (قوله وقال الحارث) هو الحاسبى - بضم الميم - نسبة إلى محاسبة النفس. (*)

عَلَيْه وَسَلَّم عَن الجهل بالله وصفاته أَو كونه عَلَى حالة تنافي الْعِلْم شئ من ذَلِك كله جملة بَعْد النُّبُوَّة عقلًا وإجماعًا وقبلها سماعًا ونقلًا وَلَا بشئ مِمَّا قررناه من أمور الشرع وأداه عَن رَبَّه مِن الْوَحْي قَطْعًا وعقْلًا وشَرْعًا وَعِصْمَتِه عَن الكَذِب وَخُلْف القَوْل مُنْذ نَبَّأه اللَّه وأَرْسَلَه قَصْدًا أَو غَيْر قَصْد وَاسْتِحَالَة ذَلِك عَلَيْه شَرْعًا وَإجْمَاعًا وَنَظَرًا وَبُرْهانًا وتَنْزيهِه عَنْه قَبْل النُّبُوَّة قَطْعًا وَتَنْزِيهِه عَن الكبائر إجْمَاعًا وَعَن الصَّغَائِر تَحْقِيقًا وَعَن اسْتِدَامَة السَّهْو وَالغَفْلَة وَاسْتِمْرَار الغَلَط وَالنّسْيَان عَلَيْه فِيمَا شَرَعَه للأمة وَعَصْمَتِه فِي كُلّ حَالاتِه من رضى وَغَضَب وَجَد وَمَزْح فَيَجب عَلَيْك أَنّ تَتَلقَّاه باليَمِين وَتَشُدّ عَلَيْه يد الضَّنين وَتَقْدُر هَذِه الفُصُول حَقّ قَدْرِهَا وَتَعْلَم عَظِيم قائدتها وَخَطَرها فَإِنّ من يَجْهَل مَا يَجِب لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو يَجُوز أَو يَسْتَحِيل عَلَيْه وَلَا يَعْرِف صُوَر أحْكَامِه لَا يَأْمن أن يَعْتَقِد فِي بَعْضَهَا خِلَاف مَا هِي عَلَيْه وَلَا يُنَزّهُه عَمَّا لَا يَجِب أن يُضَاف إليْه فَيَهْلِك من حَيْث لَا يَدْرِي وَيَسْقُط فِي هُوَّة الدَّرْك الأسْفَل مِن النَّار إِذ ظَنّ البَاطِل بِه اعْتِقَاد مَا لَا يَجوز عَلَيْه يُحلّ بِصَاحِبِه دَار البَوَار ولهذا مَا احْتَاط عَلَيْه السَّلَام عَلَى الرَّجُلَيْن اللذين رَأياه لَيْلًا وَهُو مُعْتِكف فِي المَسْجِد مَع صَفِيَّة فَقَال لهما: إنه صَفِيَّة، ثُمّ قَال لهما: إِنَّ الشَيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا فَتَهْلِكَا) * هَذِه أكْرَمَك اللَّه إحْدَى فوائِد مَا تَكَلَّمْنا عَلَيْه فِي هَذِه الفُصُول وَلعَّل جَاهِلًا لَا يَعْلَم

_ (قوله وخطرها) بفتح الخاء والطاء المهملة أي قدرها (قوله فِي هُوَّة الدَّرْك) الهوة العميقة في الصحاح ودركات النار منازل أهلها والنار دركات والجنة درجات والقعر الآخر درك ودرك. (*)

فصل في القول في عصمة الملائكة

بِجَهْلِه إذَا سَمِع شَيْئًا مِنْهَا يَرَى أَنّ الْكَلَام فِيهَا جُمْلَة من فُضُول الْعِلْم وَأَنّ السُّكُوت أوْلَى وَقَد اسْتَبَان لَك أنَّه مُتَعَيَّن لِلْفَائِدَة التي ذَكَرْنَاهَا وفائدة ثانية يظطر إِلَيْهَا فِي أُصُول الْفَقْه وَيُبْتَنى عَلَيْهَا مَسَائِل لا تتعد مِن الْفِقْه وَيُتَخَلَّص بها من تشعيب مختلفي الفقهاء فِي عِدَّة مِنْهَا وَهِي الحكم فِي أقوال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وأفعاله وَهُو بَاب عظيم وأصل كَبير من أصول الفقه وَلَا بُد مِن بنائه عَلَى صَدَق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي أخباره وبلاغه وَأنَّه لَا يجوز عَلَيْه السَّهْو فِيه وعصمته مِن المخالفة فِي أفعاله عَمْدًا وَبِحَسَب اختلافهم فِي وقوع الصَّغَائِر وَقَع خِلَاف فِي امتثال الفعل بَسْط بَيَانِه فِي كُتُب ذَلِك الْعِلْم فَلَا نُطَوّل بِه وَفَائِدَة ثالِثَة يحتاج إليها الحاكم والمفتي فيمن أضاف إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم شَيْئًا من هَذِه الأمور ووصفه بِهَا فعن لَم يعرف مَا يجوز وَمَا يمتنع عَلَيْه وَمَا وَقَع الإجماع فِيه والخلاف كَيْف يصمم فِي الفتيا فِي ذَلِك وَمِن أَيْن يدري هَل مَا قاله في نقص أَو مدح فإما أَن يجترئ عَلَى سفك دم مُسْلِم حرام أَو يسقط حقا ويضيع حرمة للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم؟ وبسبيل هَذَا مَا قَد اخْتُلِف أرْباب الأصُول وأئمة الْعُلمَاء والمحققين فِي عصمة الْمَلَائِكَة فصل فِي القَوْل فِي عصمة الْمَلَائِكَةِ أجمع الْمُسْلِمُون عَلَى أَنّ الْمَلَائِكَة مؤمنون فضلاء وأتفق أئِمَّة الْمُسْلِمِين أَنّ حُكْم المُرْسَلِين مِنْهُم حُكْم النَّبِيّين سواء فِي العِصْمَة مِمَّا ذَكَرْنَا عِصْمتَهُم مِنْه وَأَنَّهُم فِي حُقُوق الْأَنْبِيَاء والتَّبْلِيغ إِلَيْهِم كالْأَنْبِيَاء مَع الْأُمَم واختلفوا فِي غَيْر الْمُرْسَلِين مِنْهُم فذهبت طائفة إِلَى عصمة جميعهم عَن

المعاصي واحتجُّوا بِقَوْلِه تَعَالَى (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وبقوله (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وبقوله (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يفترون) وبقوله (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادته) الآية، وبقوله (كرام بررة) و (لا يَمَسُّهُ إِلا المطهرون) وَنَحْوَه مِن السَّمْعِيَّات، وذهبت طائفة إن أَنّ هَذَا خُصُوص لِلْمُرْسَلِين مِنْهُم وَالمُقَرَّبِين، واحْتَجُّوا بأشْيَاء ذَكَرَهَا أهْل الْأَخْبَار والتَّفَاسِير نَحْن نَذْكُرُهَا إن شَاء اللَّه بَعْد وتبين الْوَجْه فِيهَا أن شَاء اللَّه، والصواب عصمة جميعهم وتنزيه نصابهم الرفيع عَن جميع مَا يحط من رتبتهم ومنزلتهم عَن جليل مقدارهم ورأيت بَعْض شيوخنا أشَار بأن لَا حاجة بالفقيه إِلَى الْكَلَام فِي عصمتهم. وَأَنَا أقول إن للكلام فِي ذَلِك مَا للكلام فِي عصمة الْأَنْبِيَاء مِن الْفَوَائِد التي ذَكَرْنَاهَا سوى فائدة الْكَلَام فِي الأقوال والأفعال فهي ساقطة ههنا، فما احْتَجّ بِه من لَم يُوجِب عصمة جميعهم قِصَّة هاروت وماروت وَمَا ذَكَر فيها أهل الْأَخْبَار ونَقَلَة الْمُفَسّرِين وَمَا رُوِي عَن عَلِيّ وَابْن عَبَّاس فِي خبرهِمَا وابْتلائِهِمَا، فاعلم أكْرَمَك اللَّه أَنّ هَذِه الأخْبَار لَم يُرْو منها شئ لَا سَقِيم وَلَا صَحِيح عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَيْس هُو شَيْئًا يُؤْخَذ بِقِيَاس وَالَّذِي مِنْه فِي الْقُرْآن اخْتَلف الْمُفَسِّرُون فِي مَعْنَاه، وَأنْكَر مَا قَال بَعْضُهُم فِيه كَثير مِن السَّلَف كَمَا سنذكره، وهذه الْأَخْبَار من كُتُب اليَهُود وَافْتِرَائِهِم كَمَا نَصَّه اللَّه أَوَّل الآيات مِن افْتِرَائِهِم بِذَلِك عَلَى سُلَيْمَان وتَكْفِيرِهِم إيَّاه، وَقَد انْطَوَت الْقِصَّة عَلَى شُنَع عَظِيمَة وها نحن نحبر فِي ذَلِك مَا يشكف غِطَاء هَذِه

الإشْكَالات إنّ شَاء اللَّه فاخْتُلِف أوَّلًا فِي هَارُوت ومَارُوت هَل هما مَلَكَان أَو إنْسِيَّان، وَهَل هما المُرَاد بَالْمَلَكَيْن أم لَا، وهل القراءة مَلَكَيْن أو ملِكَيْن، وهل مَا فِي قَوْله (وَمَا أنزل) (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أحد) نافية أو موجية؟ فَأكْثَر الْمُفَسّرِين أَنّ اللَّه تَعَالَى أمْتَحَن النَّاس بِالْمَلَكَيْن لِتَعْلِيم السّحْر وَتَبيينِه وَأن عَمَلَه كُفْر، فَمَن تَعَلَّمَه كَفَر، وَمِن تَرَكَه آمَن، قَال اللَّه تَعَالَى (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) وتعليمهما النَّاس لَه تَعْلِيم إنْذَار أَي يَقُولان لِمَن جَاء يَطْلُب تَعَلُّمَه لَا تَفْعَلُوا كذا فَإنَّه يُفَرَّق بَيْن الْمَرْء وَزَوْجِه وَلَا تَتَخَيَّلُوا بِكَذَا فَإنَّه سِحْر فَلَا تَكْفُرُوا فَعَلَى هَذَا فِعْل الْمَلَكَيْنِ طَاعَة وَتَصَرُّفُهُمَا فِيمَا أمرا بِه لَيْس بِمَعْصِيَة وَهِي لغَيْرِهِمَا فِتَْنَة، وَرَوَى ابن وَهْب عَن خَالِد بن أَبِي عِمْرَان أنَّه ذَكَر عِنْدَه هاروت وماروت وأنهما يُعَلّمَان السّحْر فَقَال نَحْن ننزههما عَن هَذَا فَقَرأ بعضهم (وما أنزل على الملكين) فَقَال خَالِد لَم يُنْزَل عَلَيْهَمَا فَهَذَا خَالِد عَلَى جَلَالَتِه وعلمه نزههما عَن تعليم السحر الَّذِي قَد ذَكَر غَيْرِه انهما مأذون لهما فِي تعليمه بشريطة أن يبيننا أنَّه كفر وَأنَّه امتحان مِن اللَّه وابتلاء، فكيف لَا ينزههما عَن كبائر المعاصي والكفر المذكورة فِي تِلْك الْأَخْبَار، وقوله خَالِد لَم ينزل يريد أَنّ (مَا) نافية وَهُو قَوْل ابن عَبَّاس، قَال مَكّيّ وتقدير الْكَلَام وَمَا كفر سُلَيْمَان يريد بالسحر الَّذِي افتعلته عَلَيْه الشياطين واتبعهم فِي ذَلِك اليهود وَمَا أنزل عَلَى الملكين، قَال مَكّيّ هما جِبْرِيل وميكائيل ادعى اليهود عليهما المجئ بِه كَمَا ادعوا عَلَى سُلَيْمَان فأكذبهم اللَّه فِي ذَلِك وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. ببابل هاروت وماروت:

قِيل: هما رَجُلان تعلماه، قَال الْحَسَن: هارُوت ومارُوت علجان من أهل بابل، وقرأ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِكَسْر اللَّام وتكون (مَا) إيجَابًا عَلَى هَذَا، وَكَذَلِك قراءة عَبْد الرَّحْمن بن أبزى بكسر اللام، ولكنه قَال الملكان هُنَا دَاوُد وسليمان وتكون (مَا) نفيًا عَلَى مَا تقدم، وَقِيل: كانا ملكين من بَنِي إسرائيل فمسخهما اللَّه، حكاه السَّمْرَقَنْدِيّ والقراءة بكسر اللام شاذة فمحمل الآيَة عَلَى تقدير أَبِي مُحَمَّد مَكّيّ حَسَن ينزه الْمَلَائِكَة ويذهب الرجس عَنْهُم ويطهرهم تطهيرا وَقَد وصفهم اللَّه بأنهم مطهرون و (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) و (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) ومما يذكرونه قِصَّة إبليس وَأنَّه كَان مِن الْمَلَائِكَة ورئيسا فبهم ومِن خزان الْجَّنة إِلَى آخر مَا حكوه وَأنَّه استثناه مِن الْمَلَائِكَة بِقَوْلِه (فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ) وَهَذَا أيْضًا لَم يتفق عَلَيْه بَل الأكثر ينفون ذَلِك وَأنَّه أَبُو الجن كَمَا آدَم أو الإنس وهو قوله الْحَسَن وقتادة وَابْن زَيْد، وَقَال شهر بن حوشب كَان مِن الجِنّ الَّذِين طَرَدَتْهُم الْمَلَائِكَة فِي الْأَرْض حِين أفْسَدُوا، وَالاسْتثْنَاء من غَيْر الجنْس شَائع فِي كَلَام الْعَرَب سائغ وَقَد قَال اللَّه تَعَالَى (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ومما رووه في الْأَخْبَار أَنّ خلقًا مِن الْمَلَائِكَة عصوا اللَّه فحرقوا وأمروا أَنّ يسجدوا لآدم فأبوا فحرقوا ثُمّ أخرون كَذَلِك حَتَّى سجد لَه من ذَكَر اللَّه إلَّا إبليس فِي أخبار لَا أصل لَهَا تردها صحاح الْأَخْبَار فَلَا يشتغل بِهِا والله أعلم

_ (قوله علجان) العلج بكسر العين المهملة وسكون اللام بعدها جيم: الرجل من كفار العجم وغيرهم (قوله أبزى) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفى آخره الف مقصورة اختلف في صحبته (قوله ابن حوشب) بفتح الهاء المهملة وسكون الواو وفتح الشين المعجمة بعدها موحدة (12 - 2) (*)

الباب الثاني فيما يخصهم في الأمور الدنيوية وما يطرأ عليهم من العوارض البشرية

الْبَاب الثاني فيما يخصهم فِي الأمور الدنيوية وَمَا يطرأ عَلَيْهِم مِن العوارض البشرية قَد قَدَّمْنَا أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَسَائِر الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل مِن البشر وَأَنّ جسمه وظاهره خالص للبشر يجوز عليه من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام وتجزع كأس الحمام مَا يجوز عَلَى البشر وَهَذَا كله لَيْس بنقيصة فِيه لِأَنّ الشئ إنَّمَا يسمى ناقصًا بالإضافة إِلَى مَا هُو أتم مِنْه وأكمل من نوعه وَقَد كَتَب اللَّه تَعَالَى عَلَى أَهْل هَذِه الدار فِيهَا يحيون وفيها يموتون وَمِنْهَا يخرجون وخلق جميع البشر بمدرجة الغير فَقَد مرض صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم واشتكى وأصابه الحر والقر وأدركه الجوع والعطش ولحقه الغضب والضجر وناله الإعياء والتعب ومسسه الضعف والكبر وسقط فجحش شقه وشجه الكفار وكسروا رباعيته وسقي السم وسحر وتداوى واحتجم وتنشر وتعوذ ثُمّ قضى نحبه فتوفي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ولحق بالرفيق الأعلى وتخلص من دَار الامْتِحَان وَالبَلْوَى وَهَذِه سِمَات البَشَر

_ (قوله بمدرجة الغير) المدرجة بفتح الميم وسكون الدال: المذهب والمسلك، والغير بكسر الغين المعجمة وفتح المثناة التحتية: الاسم من قولك غيرت الشئ فتغير (قوله فجحش) بضم الجيم وكسر الحاء المهملة بعدها شين معجمة: أي خدش (قوله السم) بتثليث السين والأفصح فتحها ويليه بضم (قوله وتنشر) من النشرة وهى الرقية والتعويذ (قوله بالرفيق الأعلى) قال ابن الأثير وهو الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون وقيل هو مرتفق الجنة، وقيل الرفيق الأعلى: الله تعالى لأنه رفيق بعباده وقال ابن قرقول: أهل اللغة لا يعرفون هذا، ولعله تصحيف من الرفيع (*)

التي لَا مَحِيص عَنْهَا وَأَصَاب غَيْرِه مِن الْأَنْبِيَاء مَا هُو أَعْظَم مِنْه فَقُتّلُوا قَتْلًا وَرُمُوا في النار ونشروا بالْمَنَاشِير وَمِنْهُم من وَقَاه اللَّه ذَلِك فِي بَعْض الأوْقَات وَمِنْهُم من عَصَمَه كَمَا عُصِم بَعْد نَبِيُّنَا مِن النَّاس فَلَئِن لَم يَكْف نَبَيَّنَا رَبَّه يَد ابن قَمِئَة يَوْم أُحُد وَلَا حَجَبَه عَن عُيُون عِدَاه عِنْد دَعْوَتِه أَهْل الطَّائِف فَلَقَد أَخَذ عَلَى عُيون قُرَيْش عِنْد خُرُوجِه إِلَى ثَوْر وَأمْسَك عَنْه سَيْف غَوْرَث وَحَجَر أَبِي جَهْل وَفَرَس سُرَاقَة وَلَئِن لَم يَقِه من سِحْر ابن الأعْصَم فلقد وَقَاه مَا هُو أعْظَم من سَمّ اليَهُودِيَّة وهكذا سَائِر أنْبِيَائِه مُبْتَلى وَمُعَافى وَذَلِك من تَمَام حِكْمَتِه لِيُظْهِر شَرَفَهُم فِي هَذِه المَقَامَات وَيُبَيَّن أمْرَهُم وَيُتِمّ كَلِمَتَه فِيهِم وَلِيُحَقَّق بامْتِحَانِهِم بَشَرِيَّتَهُم وَيَرْتَفِع الالْتِبَاس عَن أَهْل الضعف فِيهِم لئلًا يَضلُّوا بِمَا يَظْهَر مِن العَجَائِب عَلَى أيديهم ضَلَال النصاري بِعِيسَى ابن مَرْيَم وليكون فِي محنهم تسلية لأممهم ووفور لأجورِهِم عِنْد ربهم تَمَامًا عَلَى الَّذِي أحسن إِلَيْهِم، قَال بَعْض المُحَقَّقِين وهذه الطوارى وَالتَّغْييرَات المَذْكُورَة إنَّمَا تَخْتَصّ بِأجْسَامِهِم الْبَشَريَّة المقصود بِهَا مُقَاومَة البشر ومعناة بَنِي آدَم لمُشَاكَلة الجِنْس وَأَمَّا بوَاطِنُهُم فمنزهه غالبًا عَن ذَلِك معصومة منه متعلقة بالملإ الأعْلَى وَالْمَلَائِكَة لأخْذِهَا عَنْهُم وَتَلَقّيهَا الوَحْي مِنْهُم قال وقد قال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) وَقَال (إِنِّي لَسْتُ كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) وَقَالَ (لَسْتُ أَنْسَى وَلَكِنْ أُنَسَّى لِيُسْتَنَّ بِي) فَأخْبَر أَنّ سِرَّه وَباطِنَه وروحه خلاف جسمه وظاهره وَأَنّ الآفات التي تحل ظاهرة من ضعف وجوع وسهر

_ (قوله ووشروا) يقال أشرت الخشبة إشراء ووشرتها وشرا: إذا شققتها، مثل نشرتها، والمئشار بالهمزة: المنشار بالنون، وقد تترك الهمزة (*)

فصل فإن قلت فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم سحر

ونوم لَا يحل منها شئ باطنه بخلاف غَيْرِه مِن البشر فِي حكم الباطن لِأَنّ غَيْرِه إذَا نَام اسْتَغْرَق النَّوْم جِسْمَه وَقَلْبَه وَهُو صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي نَوْمِه حَاضِر القَلْب كَمَا هُو فِي يَقْظَتِه حَتَّى قَد جاء فِي بَعْض الآثار أنَّه كَان مَحْرُوسًا مِن الحدث فِي نَوْمِه لِكَوْن قَلْبه يَقْظَان كَمَا ذَكَرْنَاه وَكَذَلِك غَيْرِه إذَا جَاع ضَعُف لِذَلِك جِسْمُه وَخَارَت قُوَّتُه فَبَطَلَت بِالْكُلّيَّة جُمْلَتُه وَهُو صَلَّى الله عليه وسلم قد أخْبَرَ أنَّهُ لَا يَعْتَرِيه ذَلِك وَأنَّه بِخِلَافِهِم لِقَوْلِه (إِنِّي لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني رَبِّي وَيَسْقِينِي وَكَذَلِك أقُول إنَّه فِي هَذِه الأحوال كُلّهَا من وَصَب وَمَرَض وَسِحْر وَغَضَب لَم يَجْر على بَاطِنِه مَا يُخلّ بِه وَلَا فَاض مِنْه عَلَى لِسَانِه وَجَوَارِحِه مَا لَا يَلِيق بِه كَمَا يَعْتَري غَيْرِه مِن البَشَر مِمَّا نَأْخُذ بَعْد فِي بَيَانِه فصل فَإِنّ قُلْت فَقَد جَاءَت الْأَخْبَار الصحيحة أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم سُحِر كَمَا حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو محمد العتابي بقراءتي عَلَيْهِ قَالَ نَا حَاتِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ نا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ خَلَفٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ نا الْبُخَارِيُّ نا عبيد ابن إِسْمَاعِيلَ نا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فعل الشئ وَمَا فَعَلَهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ (الْحَدِيث) وَإذَا كَان هَذَا مِن الْتِبَاس الأمْر عَلَى المَسْحُور

_ (قوله وخارت) بالخاء المعجمة: أي ضعفت (قوله من وصب) بفتح الواو والصاد المهملة: أي مرض (*)

فَكَيْف حَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي ذَلِك وَكَيْف جَاز عَلَيْه وَهُو مَعْصُوم؟ فاعلم وفقنا اللَّه وَإيَّاك أَنّ هَذَا الْحَدِيث صحيح متفق عَلَيْه وَقَد طَعَنَت فِيه المُلْحِدَة وَتَدَرَّعت بِه لِسُخْف عُقُولِهَا وتَلْبِيسِهَا عَلَى أمْثَالهَا إِلَى التَّشْكيك فِي الشَّرْع وَقَد نَزَّه اللَّه الشَّرْع وَالنَّبِيّ عَمَّا يُدْخِل في أمْره لَبْسًا وَإِنَّمَا السَّحْر مرض مِن الأمْرَاض وعَارِض مِن العِلَل يَجُوز عَلَيْه كأنْواع الأمْرَاض مِمَّا لَا يُنَكَر وَلَا يَقْدَح فِي نُبُوَّتِه * وَأَمَّا مَا وَرَد أنَّه كَان يُخَيَّل إليْه أنَّه فَعَل الشئ وَلَا يَفْعَلُه فَلَيْس فِي هَذَا مَا يُدْخل عَلَيْه دَاخِلَة في شئ من تَبْلِيغِه أَو شَرِيعَتِه أو يَقْدَح فِي صدْقِه لِقِيام الدّلِيل والإجْماع عَلَى عِصْمتَه من هَذَا وإنما هَذَا فِيمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ عَلَيْه فِي أمْر دُنْيَاه التي لَم يُبْعَث بِسَبَبِها وَلَا فُضل من أجْلِهَا وَهُو فِيهَا عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد أن يخيل إليْه من أمورها مَا لَا حقيقة لَه ثُمّ ينجلي عَنْه كَمَا كَان وأيضا فَقَد فَسَر هذا الفضل الْحَدِيث الآخَر من قَوْلِه (حَتَّى يُخَيَلَ إِلَيْهِ أنى يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِنَّ) وَقَد قَال سُفْيَان: هَذَا أشَدّ مَا يَكُون مِن السّحْر وَلَم يَأت في خير منها أنه نقبل عَنْه فِي ذَلِك قَوْل بِخِلَاف مَا كَان أخْبَر أنَّه فَعَلَه ولم يَفْعَلْه وَإِنَّمَا كَانَت خَوَاطِر وَتَخْييلات. وَقَد قِيل إنّ المُرَاد بالحديث أنَّه كَان يَتَخَيّل الشئ أنَّه فَعَلَه وَمَا فَعَلَه لكنه تَخْيِيل لَا يَعْتَقِد صِحَّتَه فَتَكُون اعْتِقَادَاتُه كلها عَلَى السداد وأقْوَالُه عَلَى الصّحَّة، هَذَا مَا وَقَفْت عَلَيْه لأئِمَّتِنَا مِن الأجْوبَة عَن هَذَا الْحَدِيث مَع مَا أوْضَحْنَا من مَعْنَي كلامهم وَزِدْنَاه بَيَانًا من تَلْوِيحَاتِهِم وَكُلّ وَجْه مِنْهَا مُقْنِع لكنه قَد ظَهَر لِي فِي الْحَدِيث تَأْوِيل أجْلَى وأبْعَد من مطاعن

_ (قوله وتدرعت) أي لبست الدرع (*)

ذَوِي الأضَالِيل يُسْتَفَاد من نَفْس الْحَدِيث وَهُو أَنّ عَبْد الرَّزَّاق قَد رَوَى هَذَا الْحَدِيث عَن ابن الْمُسَيّب وعروة بن الزُّبَيْر، وَقَال فِيه عَنْهُمَا سَحَرَ يَهُودُ بَنِي زُرَيْقٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلُوهُ فِي بِئْرٍ حَتَّى كَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْكِرَ بَصَرَهُ ثُمَّ دَلَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا صَنَعُوا فَاسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْبِئْرِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْوَاقِدِيّ وَعَن عَبْد الرَّحْمن بن كَعْب وعمر بن الحكم وَذَكَر عَن عَطَاء الخُرَاسَانِيّ عَن يَحْيَى بن يَعْمَر حُبِسَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عَائِشَةَ سَنَةً فَبَيْنَا هُوَ نَائِمٌ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عند رَأْسِهِ وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ (الْحَدِيثَ) ، قَال عَبْد الرَّزَّاقِ: حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ خَاصَّةً سَنَةً حَتَّى أَنْكَرَ بَصَرَهُ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْد عَن ابن عَبَّاس مَرِض رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَحُبِس عَن النّسَاء والطَّعام وَالشَّرَاب فَهَبَط عَلَيْه مَلَكَان وَذَكَر الْقِصَّة، فَقَد اسْتَبَان لَك من مَضْمُون هذه الروايات أَنّ السّحْر إنَّمَا تَسَلَّط عَلَى ظَاهِرِه وَجوَارِحه لَا عَلَى قَلْبِه وَاعْتِقَادِه وَعَقْلِه وَأنَّه إنَّمَا أثَّر فِي بَصَرَه وَحَبَسَه عَن وَطء نِسَائِه وطَعَامِه وأضْعَف جِسْمَه وأمْرَضَه وَيَكُون مَعْنَي قَوْلِه: يُخَيَّل إليْه أنَّه يأْتي أهْلَه وَلَا يَأْتِيهِنّ، أَي: يَظْهَر لَه من نَشَاطِه وَمُتَقَدّم عَادَتِه القُدْرَة عَلَى النّسَاء فإذا دَنا مِنْهُنّ أصَابَتْه أُخْذَه السَّحْر فَلَم يَقْدِر عَلَى إتْيَانِهِنّ كَمَا يعتري من أُخِذ واعْتُرض، ولعله لِمثْل هَذَا أشار سُفْيَان بِقَوْلِه: وَهَذَا أشد مَا يكون

_ (قوله عطاء الخراساني) هو ابن أبى مسلم مولى المهلب بن أبى صفرة (قوله ابن يعمر) بفتح أوله وضم ثالثه (قوله أتاه ملكان) في سيرة الدماطى أنهما جبريل وميكائيل (قوله أخذة السحر (بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة بعدها ذال معجمة، في الصحاح الأخذة بالضم رقية السحر وخرزة تؤخذ النساء بها الرجال من التأخيذ (*)

فصل هذا حاله في جسمه

مِن السحر وَيَكُون قوله عَائِشَة فِي الرّوَايَة الْأُخْرَى إنَّه لِيُخَيَّل إليْه أنه فعل الشئ وَمَا فَعَلَه من باب اما اخْتَلّ من بَصَرَه كَمَا ذُكِر فِي الْحَدِيث فَيَظُنّ أنَّه رَأَى شَخْصًا من بَعْض أزْوَاجِه أَو شَاهَد فِعْلًا من غَيْرِه وَلَم يَكُن على ما يخيل إليْه لَمّا أصَابَه في بصره وضعف نظره لا لشئ طرأ عليه في ميزه وإذا كان هذا لَم يَكُن فِيمَا ذَكَر من إصابة السحر لَه وتأثيره فِيه مَا يُدخل لبسا وَلَا يجد بِه الملحد المعترض أُنْسًا فصل هَذَا حَالُه فِي جِسْمِه، فأمَّا أحْوَالُه فِي أُمُور الدنيا فنحن نَسْبِرُهَا عَلَى أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل، أَمَّا العَقْد مِنْهَا فَقَد يَعْتَقِد فِي أُمُور الدنيا الشئ عَلَى وَجْه وَيْظَهر خِلافُه أَو يَكُون مِنْه عَلَى شَكّ أَو ظَنّ بخلاف أُمُور الشَّرْع كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو بَحْرٍ سُفْيَانُ بْنُ الْعَاصِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ سَمَاعًا وَقِرَاءَةً قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، قَال حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَمْرَوَيْهِ حَدَّثَنَا ابْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ وَعَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ وَأَحْمَدُ الْمَعْقِرِيُّ قَالُوا حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا رَافِعُ

_ (قوله في ميزه) بفتح الميم وسكون المثناة التحتية بعدها زاى وهاء للضمير أي تمييزه وإفرازه (قوله نسبرها) بنون في أوله مفتوحة أو مضمومة وسين مهملة ساكنة بعدها موحدة يقال سبرته وأسبرته أي حزبته وجربته (قوله وعباس العنبري) عباس بباء موحدة وسين مهملة هو ابن عبد المنعم ابن اسماعيل بن نوبة (قوله المعقرى) بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف، ويقال أيضا بكسر الميم وفتح القاف ويقال أيضا بضم الميم وفتح العين وكسر القاف المشددة: منسوب إلى معقرة، ناحية باليمن (قوله أبو النجاشي) بفتح النون وتخفيف الجيم والشين المعجمة: هو عطاء بن صهيب يروى عن مولاه رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ ويروى عنه الأوزاعي وغيره (*)

ابن خَدِيجٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُأَبِّرُونَ النَّخْلَ فَقَالَ: (مَا تَصْنَعُونَ؟) قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: (لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا) فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أمرتكم بشئ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بشئ من رأى فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ (إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظنا فلا تؤاخذني بِالظَّنِّ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْخَرْصِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ فَمَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا قُلْتُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أخطئ وَأُصِيبُ) وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاه فِيمَا قاله من قِبَل نَفْسِه فِي أُمُور الدُّنْيَا وظنه من أحوالها لَا مَا قاله من قَبْل نفسه واجتهاده فِي شرع شرعه وسنة سنها وكما حكى ابن إسحاق إنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَمَّا نَزَلَ بأدنى مياه بدر قَال لَه الحباب ابن المنذر: أهذا منزل أنزلكه اللَّه لَيْس لَنَا أَنّ نتقدمه أم هُو الرأي والحرب والمكيدة؟ قَال (لَا بَل هُو الرَّأي والْحَرْب والمكيدة) قَال فَإنَّه لَيْس بِمَنْزِل، أنْهَض حَتَّى نَأْتِي أدْنى ماء من القوم فننزله ثُمّ نَغَوَّر مَا وراءه

_ (قوله ابن خديج) بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وفى آخره جيم (قوله يأبرون) بموحدة مخففة قبل الراء، وفى رواية الطبري يؤبرون بهمزة مفتوحة وموحدة مشددة (قوله فنفضت) بنون وفاء وضاد معجمة أي أسقطت حملها، قال ابن قرقول مَا عَدَا هَذَا الرواية تصحيف (قوله الخرص) بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها صاد مهملة: أي الحزر والتقدير (قوله الحباب) بضم الحاء المهملة وبموحدتين (قوله حتى تعور) بالعين المهملة أو المعجمة وتشديد الواو، قال السهيلي بضم العين المهملة وسكون الواو، قال وقد جاء على لغة من يقول قول القول وبوع للباع انتهى وقال الحافظ المرى تعوير القلب - بالعين المهملة - إفساده وتغويره بالمعجمة - إزالة المأمنة وَلَيْس هَذَا من مقدور البشر بخلاف الأول (*)

فصل وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه

مِن القَلْب فَنَشْرَب وَلَا يَشْرَبُون، فَقَال (أشَرْت بالرَّأْي) وفعل مَا قاله، وَقَد قَال اللَّه تَعَالَى لَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (وَشَاوِرْهُمْ في الأمر) وأراد مصالحة بَعْض عدوه عَلَى ثلث تمر الْمَدِينَة فاستشار الْأَنْصَار فَلَمّا أخبروه برأيهم رجع عَنْه، فمثل هَذَا وأشباهه من أمور الدُّنْيَا التي لَا مدخل فِيهَا لعلم ديانة وَلَا اعتقادها وَلَا تعليمها يجوز عَلَيْه فِيهَا مَا ذكرناه، إِذ لَيْس فِي هَذَا كله نقيصة وَلَا محطة وَإِنَّمَا هِي أُمُور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بِهَا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة مقيد البال بمصالح الْأُمَّة الدينية والدنيوية وَلَكِن هَذَا إنَّمَا يَكُون فِي بَعْض الأمور ويجوز في النادر وَفِيمَا سبيله التدقيق فِي حراسة الدُّنْيَا واستثمارها لَا فِي الكثير المؤذن بالبله والغفلة وَقَد تواتر بالنقل عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن المعرفة بأمور الدُّنْيَا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها مَا هُو معجز فِي البَشر مِمَّا قَد نبهنا عَلَيْه فِي باب معجزاته من هَذَا الْكِتَاب. فصل وَأَمَّا مَا يعتقده فِي أمور أحكام البشر الجارية عَلَى يديه وقضاياهم ومعرفة المحق مِن المبطل وعلم المصلح مِن المفسد فبهذه السبيل لِقَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أسمع،

_ (قوله ألحن بحجته) في الصحاح اللحن - بالتحريك - الفطنة وقد لحن وفى الحديث (ولعل أحدكم ألحن بحجته) أي أفطن بها، ومنه قَوْل عُمَر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم فاطنهم انتهى (*)

فَمَنْ قَضيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بشئ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) * حَدَّثَنَا الْفَقِيه أَبُو الْوَلِيد رَحِمَه الله حدثنا الحسين بن محمد الحافظ حدثنا أبو عُمَر حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن كثير أَخْبَرَنَا سُفْيَان عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أبيه عن زَيْنَبَ بِنْت أُمّ سَلَمَة عَن أم سَلَمَة قَالَت قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (الْحَدِيث) وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة) فَلَعَلَّ بَعْضُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِيَ لَهُ) ويُجْري أحْكَامَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى الظَّاهِر وَمُوجَب غَلبَات الظَّنّ بِشِهَادَة الشَّاهِد وَيَمين الحَالف وَمُراعَاة الأشْبَه وَمَعْرِفَة العْفَاص وَالْوِكَاء مَع مُقْتَضَى حِكْمَة اللَّه فِي ذَلِك فَإنَّه تَعَالَى لَو شَاء لأطْلَعَه عَلَى سَرَائِر عِبَادِه وَمُخَبّآت ضَمَائر أُمَّتِه فَتَولَّى الحُكْم بَيْنَهُم بِمُجَرَّد يَقِينِه وَعِلْمِه دون حَاجَة إِلَى اعْتِرَاف أَو بَيَّنَة أَو يَمِين أَو شُبْهَة وَلَكِن لَمّا أمَر اللَّه أمَّتَه باتباعه والاقتداء بِه فِي أفْعَالِه وَأحْوَالِه وَقَضَايَاه وَسِيَرِه وَكَان هَذَا لَو كَان مِمَّا يَخْتَصّ بِعِلْمِه وَيُؤْثِرُه اللَّه بِه لَم يَكُن للْأُمَّة سَبِيل إلى الاقْتِدَاء بِه فِي شئ من ذَلِك وَلَا قَامَت حُجَّة بِقَضِيَّة من قَضَايَاه لأحد فِي شَرِيعته لأنَّا لَا نَعْلَم مَا أُطْلِع عَلَيْه هُو فِي تِلْك الْقَضِيَّة بحكْمِه هُو إذَا في ذلك

_ (قوله ابن كثير) هو بفتح الكاف وكسر المثلثة (قوله العفاص) بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء وفى آخره صاد مهملة: هو الوعاء الذى يكون فيه الشئ وفيه عفاص القارورة للجلد أي بلبسه رأسها (قوله والوكاء) بكسر الواو والمد هو الخيط الذى يشد به الوعاء، ثم استعمل فِي كُلّ مَا يربط به: صرة أو غيرها (*)

فصل وأما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله وأحوال غيره

بالمكنون مِن إعلام اللَّه لَه بِمَا أطلعه عَلَيْه من سرائرهم وَهَذَا مَا لَا تَعْلَمُه الأمة فأَجْرَى اللَّه تَعَالَى أحْكامَه عَلَى ظَوَاهِرِهِم التي يَسْتَوي فِي ذَلِك هُو وَغَيْرُه مِن الْبَشَر ليُتِمّ اقْتَداء أمَّتَه بِه فِي تَعْيين قَضَايَاه وَتَنْزِيل أحْكامِه ويأْتُون ما أتَوْا من ذَلِك عَلَى عِلْم وَيَقِين من سُنّتِه، إِذ الْبَيَان بالْفِعْل أوْقَع مِنْه بالقَوْل وأرفع الاحتمال اللَّفْظ وتأويل المُتَأوَّل وَكَان حُكْمُه عَلَى الظَّاهِر أجْلى فِي البَيَان وَأوْضَح فِي وُجُوه الأحْكَام وَأكْثَر فائِدَة لِمُوجِبَات التَّشَاجُر والخِصَام وَلِيقْتَدِي بِذَلِك كله حُكَام أمَّتَه ويُسْتَوْثَق بِمَا يُؤْثَر عَنْه ويَنْضَبِط قَانُون شَرِيعتِه وَطيّ ذَلِك عَنْه من عِلْم الغَيْب الَّذِي اسْتَأْثَر بِه عَالِم الغَيْب فَلَا يُظْهِر عَلَى غَيْبِه أحَدًا إلَّا من ارْتَضَى من رَسُول فيعلمه مِنْه بما شاء ويستأثر بِمَا شَاء وَلَا يقدح هَذَا فِي نبوته وَلَا يفصم عُرْوَة من عصمته فصل وَأَمَّا أقواله الدنيوية من أخباره عَن أحواله وأحوال غَيْرِه وَمَا يَفْعَلُه أَو فعله فَقَد قدمنا أَنّ الخُلْف فِيهَا ممتنع عَلَيْه فِي كُلّ حال وَعَلَى أي وجه من عمد أَو سهو أَو صحة أَو مرض أَو رَضِي أَو غضب وَأنَّه معصوم مِنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم. هَذَا فِيمَا طريقه الخبر المحض مِمَّا يدخله الصدق والكذب فأما المعاريض الموهم ظاهرها خِلَاف باطنها فجائز ورودها مِنْه فِي الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة لَا سِيَّمَا لِقَصْد المَصْلَحَة كَتَوْريَته عَن وَجْه

_ (قوله بما أتوا) بقصر الهمزة أي بما جاؤا (قوله ولا يفصم) بالفاء والصاد المهملة: من فصم الشئ كسره من غير أن بين (*)

مَغَازيِه لِئَلًا يأْخُذ العَدُوّ حذّرَه وكما رُوِي من ممازَحِتِه وَدُعَابَتِه لِبَسْط أمَّتَه وتطبيب قُلُوب الْمُؤْمِنين من صَحَابِتِه وتأْكِيدًا فِي تَحَبُّبِهم وَمَسَرَّة نُفُوسِهِم كَقَوْلِه لأَحْمِلَنَّكَ عَلَى ابْنِ النَّاقَةِ وَقَوْلُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا: (أَهُوَ الَّذِي بِعَيْنِهِ بَيَاضٌ؟) وَهَذَا كُلُّه صِدْق لِأَنّ كُلّ جمَل ابن ناقة وَكُلّ إنْسَان بِعَيْنِه بَيَاض؟) وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (إِنِّي لأَمْزَحُ وَلَا أَقُولُ إِلَّا حَقًا، هَذَا كُلُّه فِيمَا بابُه الخَبَر * فَأَمَّا مَا بابُه غَيْر الخَبَر مِمَّا صُورَتُه صُورَة الأمْر وَالنَّهْي فِي الْأُمُور الدُّنْيَويَّة فَلَا يَصِحّ مِنْه أيْضًا وَلَا يَجُوز عليه أن يأمرا أحدا بشئ أَو يَنْهي أحدًا عن شئ وَهُو يُبْطِن خلافه وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَا كان لنبي أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ) فَكَيْفَ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ قَلْبٍ؟ فَإِنْ قلت فما معني قوله تعالى في قِصَّةِ زَيْدٍ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زوجك) الآية؟ فاعْلَم أَكْرَمَك اللَّه وَلَا تَسْتَرِب فِي تَنْزِيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن هَذَا الظَّاهِر وأن يَأْمُر زَيْدًا بإمْسَاكِهَا وَهُو يُحبّ تَطْليقَه إيَّاهَا كما ذُكِر عَن جَمَاعَة مِن الْمُفَسّرِين وَأصَحّ مَا فِي هَذَا مَا حَكَاه أَهْل التَّفْسير عَن عَلِيّ بن حسين أَنّ اللَّه تَعَالَى كَان أَعْلَم نَبِيَّه أن زَيْنَب سَتَكُون من أزَوَاجِه فَلَمّا

_ (قوله ودعابته) بضم الدال المهملة أي مزاحه (قوله لأَحْمِلَنَّكَ عَلَى ابْنِ الناقة) هو بكسر الكاف خطاب لحاضنته أم أيمن لما روى سعد بإسناده أن أم أيمن جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت احملني قال (احملك على ولد الناقة) فقالت إليه إنه لا يطيقني. فقال (لا أحملك إلا على ولد الناقة والإبل كلها ولد النوق) (قوله خائنة الأعين) قال ابن الصلاح في مشكله قيل هي الإيماء بالعين وقيل مفارقة النظر (قوله في قصة زيد) هو ابن حارثة مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهه في غزوة مؤنة (قوله أن زينب) هي بنت جحش وفى أزواجه عليه السلام زينب أخرى بنت (*)

شَكَاهَا إليْه زيد قَال لَه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) وأخْفَى مِنْه فِي نَفْسِه ما أعلمه الله به من أنه يتزوجها بما اللَّه مُبْديِه وَمُظْهِرُه بِتَمَام التَّزْوِيج وَطَلَاق زَيْد لَهَا، وَرَوَى نحو عَمْرو بن فائِد عَن الزُّهْرِيّ قَال نَزَل جِبْرِيل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُعْلِمُه أَنّ اللَّه يُزَوَّجُه زَيْنَب بِنت جَحْش فَذَلِك الَّذِي أخْفَى فِي نَفْسِه، ويُصَحَّح هَذَا قَوْل الْمُفَسّرِين فِي قَوْلِه تَعَالَى بَعْد هَذَا (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) أي لَا بُدّ لَك أن تَتَزَوَّجَهَا، وَيُوضِح هَذَا أَنّ الله لَم يُبْد من أمْرِه معها غَيْر زَوَاجِه لَهَا، فَدَلّ أنَّه الَّذِي أخْفَاه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِمَّا كَان أعْلَمَه بِه تَعَالَى وَقَوْلُه تَعَالَى فِي الْقِصَّة: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ الله) الآيَة، فَدَلّ أنَّه لَم يَكُن عَلَيْه حرج فِي الأمر، قَال الطَّبَرِيّ مَا كَان اللَّه ليؤثم نبيه فِيمَا أحل لَه مثال فعله لمن قبله مِن الرُّسُل، قَال اللَّه تَعَالَى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي مِن النَّبِيّين فِيمَا أحل لَهُم وَلَو كَان عَلَى مَا رُوِي فِي حَدِيث قَتَادَة من وُقُوعهَا من قَلْب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عِنْد مَا أعْجَبَتْه ومحبته طلاق زيد لَهَا لكان فِيه أعظم الحرج وَمَا لَا يليق بِه من مد عَيْنَيْه لَمّا نُهِي عَنْه من زهرة الحياة الدُّنْيَا ولكان هَذَا نفس الحسد المذموم الَّذِي لَا يرضاه وَلَا يتسم بِه الأتقياء، فكيف سَيّد الْأَنْبِيَاء؟ قَال الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وبفضله وكيف يقال رآها فأعجبته وَهِي بِنْت عمته وَلَم يزل يراها

_ خريمة تزوجها فِي شَهْرِ رَمَضَانَ على رأس أخذ وثلاثين شهرا من الهجرة ومكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت ودفنت بالبقيع (قوله ابن فائد) بالفاء وكذا ذكره ابن ماكولا (قوله وَهِي بِنْت عمته) لأن أمها أمية بنت عبد المطلب (*)

مُنْذ ولدت وَلَا كَان النّسَاء يحتجبن مِنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَهُو زوجها لزيد؟ وَإِنَّمَا جَعَل اللَّه طلاق زيد لَهَا وتزويج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كَمَا قَال: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) * وقال (لكيلا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ) ، وَنَحْوَه لابن فورك، وَقَال أَبُو اللَّيْث السَّمْرَقَنْدِيّ فَإِنّ قِيل فَمَا الفائدة فِي أمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِزَيْد بإمْسَاكِهَا فَهُو أَنّ اللَّه أَعْلَم نبيه أنَّهَا زوجته فنهاه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن طلاقها إِذ لَم تكن بَيْنَهُمَا ألفة وأخفى فِي نفسه مَا أعلمه اللَّه بِه فَلَمّا طلقها زيد خشي قَوْل النَّاس يتزوج امْرَأَة ابنه فأمره اللَّه بزواجها ليُبَاح مِثْل ذَلِك لأمته كما قال تعالى (لكيلا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ) وَقَد قِيل كَان أمره لزيد بإمساكها قمعًا للشهوة وردًا للنفس عَن هواها وهذا إذا جوزنا عَلَيْه أنَّه رآها فجأة واستحسنها ومثل هَذَا لَا نكرة فِيه لَمّا طبع عَلَيْه ابن آدَم مِن استحسانه الْحَسَن ونظرة الفجأة معفو عنها ثُمّ قمع نفسه عَنْهَا وأمر زيدًا بإمساكها وَإِنَّمَا تنكر تِلْك الزيادات الَّتِي فِي الْقِصَّة والتعويل والأولى مَا ذكرناه عَن عَلِيّ بن حسين وحكاه السَّمْرَقَنْدِيّ وهو قول ابن عَطَاء واستحسنه الْقَاضِي الْقُشَيْرِيّ وعليه عول أَبُو بَكْر بن فورك وَقَال إنَّه مَعْنَي ذَلِك عِنْد المحققين من أَهْل التَّفْسِير، قَال وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم منزه عَن استعمال النفاق فِي ذَلِك وإظهار خِلَاف مَا فِي نفسه وَقَد نزهه اللَّه عَن ذَلِك بِقَوْلِه تَعَالَى (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهَ لَهُ) قَالَ ومن ظن ذَلِك

_ (قوله فجأة) بفتح الفاء وسكون الجيم بعدها همزة. وبضم الفاء وفتح الجيم والمد (*)

فصل فإن قلت قد تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم

بالنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَد أخطأ قَال وَلَيْس مَعْنَي الخشية هُنَا الخوف وَإِنَّمَا مَعْنَاه الاستحياء أَي يستحيي مِنْهُم أَنّ يقولوا تزوج زَوْجَة ابنه وَأَنّ خشيته صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن النَّاس كَانَت من إرجاف المنافقين واليهود تشغيبهم عَلَى الْمُسْلِمِين بقولهم تزوج زَوْجَة ابنه بَعْد نهيه عَن نكاح حلائل الأبناء كَمَا كَان فَعتَبَه اللَّه عَلَى هَذَا ونَزَّهَه عَن الالْتِفَات إِلَيْهِم فِيمَا أحَلّه لَه كَمَا عَتَبَه عَلَى مُرَاعَاة رَضِي أزواجه في سورة التحريم بقوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) الآيَة، كَذَلِك قَوْله: لَه ههُنَا (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أن تخشاه) وَقَد رُوِي عَن الْحَسَن وعائشة: لَو كَتَم رَسُول اللَّه صلى الله عليه وَسَلَّم شَيْئًا لَكَتم هذا الآيَة لَمّا فِيهَا من عَتْبِه وَإبْدَاء مَا أخْفَاه فصل فَإِنّ قُلْت قَد تَقَرّرَت عِصْمَتُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي أقْوَاله فِي جَمِيع أَحْوَالِه وَأنَّه لَا يَصِحّ مِنْه فِيهَا خُلْف وَلَا اضْطِرَاب فِي عَمْد وَلَا سَهْو وَلَا صِحَّة وَلَا مَرَض وَلَا جَدّ وَلَا مَزْح وَلَا رِضّى وَلَا غَضَب وَلَكِن مَا مَعْنَي الْحَدِيث فِي وَصِيَّتِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو الهيثم وَأَبُو إِسْحَاقَ قَالُوا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ عُبَيْدِ اللَّهِ

_ (قوله عَبْد الرَّزَّاق) عَن همام عن معمر) هذا يقع في كثير من النسخ والصواب ما في بعضها وهو عبد الراق بن همام أو عَبْد الرَّزَّاق عَن معمر لأن عبد الرزاق لا يروى = (*)

ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَلُمُّوا أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ (الْحَدِيثَ) وَفِي رِوَايَة (آتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا) فَتَنَازَعُوا فقالوا ماله أَهَجَرَ: اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ (دَعُونِي فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ) وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهْجُرُ. وَفِي رِوَايَة هَجَر ويُرْوى أهُجْر، ويروى أهجرًا، وَفِيه فَقَال عُمَر إنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَد اشتد بِه الوجع وعندنا كِتَاب اللَّه حسبنا وكثر اللعط فمال قُومُوا عَنَّي وَفِي رِوَايَة وَاخْتَلَف أَهْل البَيْت وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُم من يَقُول قَرِّبوا يَكْتُب لَكُم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كِتَابًا وَمِنْهُم من يَقُول ما قَال عُمَر، قَال أئِمَّتُنَا فِي هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم غَيْر معصوم مِن الأمْرَاض وَمَا يَكُون من عَوَارِضِهَا من شِدة وَجَع غشى وَنَحْوَه مِمَّا يَطْرَأ عَلَى جِسْمِه مَعْصُوم أن يَكُون مِنْه مِن القَوْل أثْنَاء ذَلِك مَا يَطْعَن فِي مُعْجِزَتِه وَيُؤَدِي إلى فَسَاد فِي شَرِيعَتِه من هَذَيَان أَو اخْتِلال فِي الكلام. وَعَلَى هَذَا لَا يَصِحّ ظَاهِر رِوَايَة من روى فِي الحديث هجر

_ = عن همام واسم أبيه همام. ويروى عن معمر. ومعمر بفتح الميمين وسكون العين المهملة (قوله أهجر) بفتح الهمزة والهاء والجيم وَفِي رِوَايَة هَجَر بفتح الهاء والجيم من غير همزة. وفى رواية أهجر بفتح الهمزة وضم الهاء قال ابن الأثير أي هل تغير كلامه واختلط لما به من المرض. وهذا أحسن ما يقال فيه ولا يجعل إخبارا فيكون من الفحش والهذيان والقائل كان عمر لا يظن به ذلك انتهى، وقد أفرد ابن دحية هذه اللفظة بتأليف (*)

إِذ مَعْنَاه هذى يُقَال هَجر هُجْرًا إذ هذى، وأهجر هجرا إذَا أفْحَش، وَأَهَجَر تَعْدية هَجَر، وَإِنَّمَا الأصَحّ وَالأوْلى أَهَجَر؟ عَلَى طَرِيق الإنْكار عَلَى من قَال لا يكتب، هكذا رِوايَتُنَا فِيه في صحيح الْبُخَارِيّ من رِوَايَة جميع الرُّوَاة فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ المُتَقَدّم، وَفِي حَدِيث مُحَمَّد بن سَلَام عَن ابن عُيَيْنَة وَكَذَا ضبَطَه الأصِيلِيّ بِخَطَّه فِي كِتابه وَغَيْرُه من هذه الطُّرُق وكذا رَوَيْنَاه عَن مُسْلِم فِي حَدِيث سُفْيَان وَعَن غَيْرِه وَقَد تحمل عَلَيْه رِوَايَة من رَوَاه هجر عَلَى حذف أَلْف الاستفهام والتقدير أهجر؟ أَو أن يُحْمَل قَوْل القائل هجر أَو أهجر دَهْشَة من قَائل ذَلِك وحيرة لعظيم مَا شاهد من حال الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وشدة وجعه والمقام الَّذِي اخْتُلِف فِيه عَلَيْه والأمْر الَّذِي هَمّ بالكتاب فِيه حَتَّى لَم يَضبط هَذَا القائل لفظه وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع لَا أنَّه اعتقد أنَّه يجوز عَلَيْه الهجر كَمَا حملهم الإشفاق عَلَى حراسته والله يَقُول (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ونحو هَذَا * وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة أهُجْرا - وَهِي رِوَايَة أَبِي إِسْحَاق المُسْتَمْلِي فِي الصَّحِيح فِي حديث ابن جُبَيْر عَن ابن عَبَّاس من رِوَايَة قُتَيْبَة - فَقَد يَكُون هَذَا رَاجعًا إِلَى المُخْتَلِفِين عِنْدَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ومُخَاطَبَة لَهُم من بَعْضُهُم أَي جِئْتُم باختلافكم عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَبَيْن يَدَيْه هُجْرًا ومنكرا

_ (قوله في حَدِيث مُحَمَّد بن سلام) هو السكندرى، قال الذهبي ما ذكر فيه الخطيب ولا ابن ماكولا سوى التخفيف، وقال ابن قرقول والمصنف في المشارق نقله الأكثر (قوله وأجرى الهجر) بفتح الهاء وإسكان الجيم وهو الهذيان (قوله مجرى) بضم الميم لأنه من أجرى (قوله أهجرا) بفتح الهاء (قوله المستملى) بمثناة فوقية بعد السين المهملة (قوله هجرا) بضم الهاء وسكون الجيم: اسم من الإهجار (13 - 2) بمعنى الإفحاش في النطق (*)

مِن القَوْل، والهُجْر بِضَمّ الْهَاء: الفُحْش فِي المَنْطِق وَقَد اخْتُلِف الْعُلمَاء فِي مَعْنَي هَذَا الْحَدِيث وَكَيْف اخْتَلَفُوا بَعْد أمْرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أن يَأْتُوه بالكتَاب، فَقَال بَعْضُهُم أوَامِر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُفْهَم إيجَابُهَا من نَدْبِهَا من إباحَتِهَا بِقَرَائِن، فَلَعَلّ قَد ظَهَر من قَرَائِن قَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِبَعْضُهُم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة بل أمر رده إلى اختيارهم وبعضهم لَم يَفْهَم ذَلِك فَقَال: اسْتَفْهِمُوه، فَلَمّا اخْتَلَفُوا كَفّ عَنْه إِذ لَم يَكُن عَزْمَة ولما رَأَوْه من صَوَاب رَأْي عُمَر: ثُمّ هَؤْلَاء قَالُوا وَيَكُون امْتِنَاع عُمَر إِمَّا إشْفَاقًا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من تَكْلِيفه فِي تِلْك الحَال إمْلَاء الْكِتَاب وأن تَدْخُل عَلَيْه مَشَقَّة من ذَلِك كَمَا قَال إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم اشْتَدّ بِه الْوَجَع، وَقِيل خَشِي عُمَر أَنّ يكْتُب أُمُورًا يَعْجَزُون عَنْهَا فَيَحْصَلُون فِي الحَرَج بالْمُخَالفَة وَرَأى أن الأرفق بِالْأُمَّة فِي تِلْك الأمور سِعَة الاجْتِهَاد وَحكْم النَّظَر وَطَلب الصَّوَاب فَيَكُون المُصِيب والْمُخِطِئ مَأْجُورًا، وَقَد علم عُمَر تقَرّر الشّرْع وَتَأْسِيس المِلّة وَأَنّ اللَّه تَعَالَى قَال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينكم) وَقَوْلُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (أُوِصيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَعِتْرَتِي) وقوله عُمَرَ: حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ رَدَّ عَلَى ما نَازَعَهُ لَا عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُمَرَ خَشِيَ تَطَرُّقَ المُنَافِقِين وَمِن فِي قَلْبه مَرَض لَمّا كُتِب فِي ذَلِك الْكِتَاب فِي الخَلْوَة وأن يَتَقَوَّلُوا فِي ذَلِك الأقاويل كادّعاء الرّافِضَة الوَصِيّة وَغَيْر ذَلِك، وَقِيل إنَّه كَان مِن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَهُم عَلَى طَرِيق المَشْورَة وَالاخْتِبَار وهل يَتّفقُون عَلَى ذَلِك أم يختلفوا)

_ (قوله المشورة) في الصحاح: المشورة الشورى وكذلك المشورة بضم الشين، تقول منه شاورته واستشرته (*)

فصل فإن قيل فما وجه حديثه أيضا

فَلَمّا اخْتَلَفُوا تَرَكَه، وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى: أن مَعْنَي الْحَدِيث أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم كَان مُجيبًا فِي هَذَا الْكِتَاب لَمّا طُلِب مِنْه لَا أنَّه ابتَدَا بالأمْر بِه بَل اقْتَضَاه مِنْه بَعْض أصْحَابِه فَأجَاب رَغْبَتَهم وَكَرَه ذَلِك غيرهم لِلْعِلَل الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَاسْتُدِلّ فِي مِثْل هَذِه الْقِصَّة بقول الْعَبَّاس لِعَلِيّ: انْطَلِق بنا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَإِنّ كَان الأمْر فينا عَلِمْنَاه، وَكَرَاهَة عَلِيّ هَذَا وقولِه: والله لَا أفْعَل - الْحَدِيث - وَاسْتُدِلّ بِقَوْلِه دَعُونِي فَإِنَّ الَّذِي أَنَا فيه خير: أَي الَّذِي أَنَا فِيه خَيْر من إرْسَال الأمْر وَتَرْكِكُم وَكِتَاب اللَّه وأن تَدَعُوني مِمَّا طَلَبْتُم، وَذَكَر أَنّ الَّذِي طُلِب كِتَابَه أمْر الخِلَافَة بَعْدَه وَتَعْيِين ذَلِك فصل فَإِنّ قِيل فما وجه حَدِيثَه أيْضًا الذى حدثنا الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُشَنِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْجُلُودِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ قَال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ وَإِنَّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) * وفي رواية (فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه

_ (قوله مولى النصريين) بنون وصاد مهملة هو سالم بن عبد الله النصرى بالنون والصاد المهملة (*)

دَعْوَةً، وَفِي رِوَايَة (لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ) ، وَفِي رِوَايَة (فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَصَلَاةً وَرَحْمَةً) وكيف يَصحّ أن يَلْعَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من لَا يَسْتَحِقّ اللَّعْن وَيَسُبّ من لَا يَسْتَحِقّ السب وَيَجْلِد من لَا يَسْتَحِقّ الْجَلْد أَو يَفْعَل مِثْل ذَلِك عِنْد الْغَضَب وَهُو مَعْصُوم من هَذَا كُلِّه، فَاعْلَم شَرَح اللَّه صَدْرَك أَنّ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أولًا (لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ) أَي عِنْدَك يَا رَبّ فِي بَاطِن أمره فإن أمْره فَإِنّ حُكْمَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى الظَّاهِر كَمَا قَال ولِلْحِكْمَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَحَكَم صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِجَلْدِه أَو أدّبَه بِسَبّه أَو لَعْنِه بِمَا اقْتَضَاه عِنْدَه حال ظاهره ثُمّ دعا لَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِشَفَقَتِه عَلَى أمَّتَه وَرَأْفَتِه وَرَحْمتِه للْمُؤْمِنين الَّتِي وَصَفَه اللَّه بِهَا وَحَذَرِه أن يَتَقَبَّل اللَّه فيمن دَعَا عَلَيْه دَعْوَتَه أن يَجْعَل دُعَاءَه وَفِعْلَه لَه رحمة وَهُو مَعْنَى قَوْلِه (لَيْس لَهَا بأهل) ، لَا أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَحْمِلُه الغَضَب وَيَسْتَفِزُّه الضَّجَر لِأَن يَفْعَل مِثْل هَذَا بِمَن لَا يَسْتَحِقُّه من مُسْلِم، وَهَذَا مَعْنًى صحيح، وَلَا يُفْهَم من قَوْلِه (أغَضَب كَمَا يَغْضَب الْبَشَر أن الغَضَب حَمَلَه عَلَى مَا لَا يجب بَل يَجُوز أن يَكُون المُرَاد بَهَذَا أَنّ الغضب لله حمَلَه عَلَى مُعَاقَبَتِه بِلَعْنِه أَو سَبَّه وَأنَّه مِمَّا كَان يَحْتمِل وَيَجُوز عَفوُه عَنْه أَو كَان مِمَّا خُيَّر بَيْن المُعَاقَبَة فِيه والعفو عَنْه، وَقَد يحمل عَلَى أنه خَرَج مَخْرَج الإشْفَاق وَتَعْلِيم أمَّتَه الخَوْف وَالْحَذَر من تَعَدّي حُدُود اللَّه وَقَد يُحْمَل مَا وَرَد من دُعائِه هنا ومن دَعَوَاتِه عَلَى غَيْر وَاحِد فِي غَيْر مَوْطِن عَلَى غَيْر الْعَقْد وَالْقَصْد بَل بما جَرَت بِه عَادَة الْعَرَب وَلَيْس الْمُرَاد بِهَا الإجَابَة

كَقَوْلِه، تَرِبَتْ يَمِينُكَ، ولا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَكَ، وعقرى حَلْقَى) وَغَيْرِهَا من دَعَوَاته، وَقَد وَرَد فِي صِفَتِه فِي غَيْر حَدِيث أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَم يَكُن فَحَاشًا، وَقَال أَنَس لَم يَكُن سَبَّابًا وَلَا فَاحِشًا وَلَا لَعَّانًا وَكَان يَقُول لأحَدِنَا عِنْد المَعْتَبَة (مَا لَه؟ تَرب جَبِينُه) فَيَكُون حَمْل الْحَدِيث عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، ثُمّ أشفَق صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من مُوَافَقَة أمْثَالهَا إجَابَة فَعَاهَد رَبَّه كَمَا قَال فِي الْحَدِيث أَنّ يَجْعَل ذَلِك لِلْمَقُول لَه زَكاة وَرَحْمَة وَقُرْبَة، وَقَد يَكُون ذلك إشفاقًا عَلَى المدعو عَلَيْه وتأنيسًا لَه لئلًا يَلْحَقَه مِن استِشْعَار الْخَوْف والحَذَر من لَعْن النبي صلى الله عَلَيْه وَسَلَّم وَتَقبُّل دعائه ما يَحْمِلُه عَلَى اليَأْس والقُنُوط، وَقَد يَكُون ذَلِك سُؤَالًا مِنْه لِرَبَّه لمن جَلَدَه أَو سَبَّه عَلَى حَقّ وبوَجْه صحيح أن يَجْعَل ذَلِك لَه كَفَّارَة لَمّا أصَابَه وَتَمْحِيَة لَمّا اجْتَرَم وأن تَكُون عُقُوبَتُه لَه فِي الدُّنْيَا سَبَب العَفْو وَالغُفْرَان كَمَا جاء فِي الْحَدِيث الآخَر (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ، فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَي حَدِيثِ الزُّبَيْر وقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَه حِينَ تَخَاصُمِهِ مَع الْأَنْصَارِيّ فِي شِرَاج الحَرَّة (اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ) فَقَالَ له

_ (قوله تربت يمينك) قاله لأم سلمة وفى رواية لعائشة (قوله ولا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَكَ) الذى في صحيح مسلم في كتاب الأدب عن ابن عباس قال كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب فجاء فخطاني خطاه وقال اذهب ادع لى معاوية، قال فجئت فقلت هو يأكل، قال: ثُمَّ قَالَ لِي اذهب فادع لى معاوية، قال فجئت فقلت هو يأكل، فقال لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بطنه (قوله عقرى حلقى) قاله لصفية بنت حبى بن أخطب فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (قوله عند المعتبة) بفتح المثناة الفوقية وكسرها (قوله فِي شِرَاج الحَرَّة) الشراج بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء وفى آخره جيم جمع شرجة وهى مسيل الماء والحرة بفتح الحاء المهملة: أرض ذات حجارة سود (*)

الْأَنْصَارِيُّ أَنْ كَانَ يا رسول الله ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَال: (اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يبلغ الجدر) الْحَدِيث فالجواب أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مُنَزّه أن يَقَع بِنَفْس مُسْلِم مِنْه فِي هَذِه الْقِصَّة أمْر يُريب ولكنه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم نَدَب الزُّبَيْر أوَّلًا إلى الاقْتِصَار عَلَى بَعْض حَقَّه عَلَى طريق التَّوَسُّط وَالصُّلْح فَلَمّا لَم يَرْض بِذَلِك الآخَر وَلَجّ وَقَال مَا لَا يَجِب اسْتَوْفَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِلزُّبَيْر حَقَّه ولهذا تَرْجَم الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيث: (باب إذَا أشَار الْإِمَام بالصُّلْح فأبى) حَكَم عَلَيْه بالحُكْم: وَذَكَر فِي آخِر الْحَدِيث: فاسْتَوْعى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حِينَئِذ للزُّبَيْر حَقّه. وَقَد جَعَل الْمُسْلِمُون هَذَا الْحَدِيث أصْلًا فِي قَضِيَّتِه، وَفِيه الاقْتِدَاء بِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي كُلّ مَا فَعَلَه فِي حال غَضَبه وَرِضَاه وَأنَّه وإن نَهى أن يَقْضِي الْقَاضِي وَهُو غَضْبَان فَإنَّه فِي حُكْمِه فِي حال الغضَب وَالرّضى سَوَاء لِكَوْنِه فِيهَا مَعْصُومًا، وَغَضَب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي هَذَا إنَّمَا كَان لله تَعَالَى لَا لِنَفْسِه كَمَا جاء فِي الْحَدِيث الصَّحِيح، وَكَذَلِك الْحَدِيث فِي إقَادَتِه عُكَاشَة من نَفْسِه لَم يَكُن لِتَعَمُّد حَمَلَه الغَضَب عَلَيْه بَل وَقَع فِي الْحَدِيث نَفْسِه أَنّ عُكَاشَة قَال لَه: وَضَرَبْتَني بالقَضَيب، فَلَا أدْرِي أعْمدًا أم أرَدْت ضَرْب النَّاقَة؟ فَقَال النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (أُعيذُك بالله يَا عُكَاشَة أن يَتَعَمّدَك رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم) وَكَذَلِك فِي حَدِيثَه الآخَر مَع الْأَعْرَابِيّ حِين طَلب عَلَيْه السَّلَام الاقْتصَاص مِنْه، فَقَال الْأَعْرَابِيّ

_ (قوله أن كان ابن عمتك) أي من أجل ذلك حكمت له، وعمته هي صفية أم الزبير (قوله ولج) بفتح اللام وتشديد الجيم (*)

فصل وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم الدنيوية

قد عَفَوْت عَنْك، وَكَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَد ضَرَبَه بالسَّوْط لتَعلُّقِه بِزِمَام نَاقَته مَرَّة بعد أُخْرَى وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَنْهَاه وَيَقُول لَه (تُدْرَكُ حَاجَتُكَ) وَهُوَ يأتي فَضَرَبَهُ بَعْدُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِمَنْ لَمْ يقف منذ نَهْيِهِ صَوَابٌ وَمَوْضعُ أَدَبٍ، لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشْفَق إِذ كَان حَقّ نَفْسِه مِن الأمْر حَتَّى عَفَا عَنْه: وَأَمَّا حَدِيث سَوَاد بن عَمْرو: أتَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ فَقَالَ (وَرْسَ وَرْسَ حُطَّ حُطَّ) وَغَشِيَنِي بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ فِي بَطْنِي فَأَوْجَعَنِي، قُلْتُ الْقِصَاصُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَشَفَ لِي عَنْ بَطْنِهِ: إِنَّمَا ضَرَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّم لِمُنْكَر رَآه بِه وَلَعَلَّه لَم يُرِد بِضَرْبِه بالْقَضِيب إلَّا تَنْبِيهَه، فَلَمّا كَان مِنْه إيجَاع لَم يَقْصِدْه طلب التَّحَلُّل منه عن مَا قَدَّمْنَاه فصل وأما أفعاله صَلَّى اللَّه عليه وسلم الدُّنْيَوِيَّةُ فَحُكْمُهُ فِيهَا مَنْ تَرَقّي المَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَات مَا قَدّمْنَاه وَمِن جواز السَّهْو والغلط فِي بَعْضَهَا مَا ذَكَرْنَاه وَكُلُّه غَيْر قَادح فِي النُّبُوَّة بَل إنّ هَذَا فِيهَا عَلَى الندور إذ عامة أفعله عَلَى السَّداد وَالصَّوَاب بَل أكْثَرُهَا أَو كُلُّهَا جَارَية مَجْرَى الْعِبَادات والْقُرَب عَلَى مَا بَيّنَا إِذ كَان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا يَأخُذ مِنْهَا لِنَفْسِه إلَّا ضَرُورَتَه وَمَا يُقِيم رَمق جِسْمِه وَفِيه مَصْلحَة ذَاتِه الَّتِي بِهَا يَعْبُد رَبَّه وَيُقِيم شَرِيعَتَه ويسوس أمته

_ (قوله سَوَاد بن عَمْرو) سواد بتخفيف الواو، قال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ سَوَاد بن عَمْرو القارى الأنصاري رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نهى عن الحلوق مرة أو ثلاثة وأنه رآه متحلقا فطعنه في بطنه بجريدة وليست هذه القصة لسواد بن عمر انتهى (*)

وَمَا كَان فِيمَا بَيْنَه وَبَيْن النَّاس من ذَلِك فَبَيْن مَعْرُوف يَصْنَعُه أَو بِرّ يُوَسعُه أَو كلام حسن يقوله أَو يسمعه أَو تألف شارد أَو قَهْر معاند، أَو مداراة حَاسِد وَكُلّ هَذَا لاحِق بصَالِح أعْمَالِه مُنْتَظِم فِي زَاكِي وَظَائف عِبَادَاته وَقَد كَان يُخَالف فِي أفْعَاله الدُّنْيَويَّة بِحسَب اخْتِلَاف الأحْوَال ويُعِدّ للأمُور أشْبَاهَهَا فَيَرْكَب فِي تَصَرُّفِه لَمّا قَرُب الْحِمَار وَفِي أسْفَارِه الرّاحلَة وَيَرْكَب الْبَغْلَة فِي مَعَارِك الْحَرْب دَلِيلًا عَلَى الثّبَات وَيَرْكَب الْخَيْل وَيُعِدّها لِيَوْم الْفَزَع وَإجَابَة الصّارخ وَكَذَلِك فِي لِبَاسِه وَسَائِر أحْوَاله بِحَسَب اعْتِبَار مَصَالحِه وَمَصَالح أمَّتَه وكذلك يَفْعَل الْفعْل من أُمُور الدُّنْيَا مُسَاعَدَة لأمَّتَه وَسِيَاسَة وَكَرَاهِيَة لِخَلافِهَا وإن كان قد يرى غَيْرِه خيرًا مِنْه كَمَا يَتْرُك الْفَعْل لهذا وَقَد يَرَى فَعْلَه خَيْرًا مِنْه وَقَد يَفْعَل هَذَا فِي الأمور الدّينيّة مِمَّا لَه الْخِيرَة فِي أَحَد وَجْهَيْه كَخُروجِه مِن الْمَدِينَة لأُحُد وَكَان مَذْهَبُه التَّحَصُن بِهَا وَتَرْكِه قَتْل المُنَافِقِين وَهُو عَلَى يَقِين من أمْرِهِم مُؤَالَفَة لِغَيْرِهِم ورِعَايَة للْمُؤْمِنين من قَرَابَتِهِم وَكَرَاهَة لِأَنّ يَقُول النَّاس إنّ مُحَمَّدًا يَقْتُل أصْحَابَه كَمَا جاء فِي الْحَدِيث وتَرْكِه بِنَاء الكَعْبَة عَلَى قَوَاعِد إبْرَاهِيم مُراعَاة لِقُلُوب قُرَيْش وَتَعْظِيمهم لتَغَيُّرِهَا وَحَذَرًا من نَفَار قُلُوبهم لذلك وَتَحْرِيك متقدم عداوتهم للدِين وأهله فَقَال لعائشة فِي الْحَدِيث الصَّحِيح: (لَوْلَا حِدْثَانٌ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدَ إِبْرَاهِيمَ) ويفعل الفعل ثم يتركه لكون

_ (قوله وبعدها بضم أوله (قوله الخيرة) بكسر الخاء المعجمة وفتح المثناة التحتية (*)

غَيْرِه خيرًا مِنْه كانتقاله من أدنى مياه بدر إِلَى أقربها للعدو من قريش وكقوله: (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهدى) ويبسط وجهه للكاف والعدو رجاء استئلافه ويصبر للجاهل وَيَقُول: (إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ الناس لشر) وَيَبْذُل لَه الرّغائِب لِيُحَبَّب إليْه شَرِيعَتَه ودين رَبَّه وَيَتَوَلّى فِي مَنْزِلِه مَا يتولى الخادم من مِهْنَتِه، وَيَتَسَمّت فِي مُلاءَتِه حَتَّى لَا يبدو منه شئ من أطرافه وحتى كأن على رؤس جُلسَائِه الطّيْر وَيَتَحَدَّث مَع جُلِسَائِه بِحَدِيث أوّلِهِم وَيَتَعَجّب مِمَّا يَتَعَجّبُون مِنْه وَيَضْحَك مِمَّا يَضْحكُون مِنْه وَقَد وسع النَّاس بِشْرُه وَعَدْلُه لَا يَسْتَفِزُّه الغَضَب وَلَا يُقَصّر عَن الْحَقّ وَلَا يُبْطن عَلَى جُلسَائِه يَقُول: (مَا كَانَ لنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ) فَإِن قُلْت فَمَا مَعْنَي قَوْلِه لِعَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا فِي الداخل عَلَيْه (بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ) فَلَمَّا دَخَلَ أَلانَ لَهُ القَوْل وَضَحِك مَعَه، فَلَمّا خَرَج سَالته عَن ذَلِك قَال: (إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ، وكيف جاز أن يُظْهِر لَه خِلَاف مَا يُبْطِن وَيَقُول فِي ظَهْرِه مَا قَال؟ فالجَوَاب أَنّ فِعْلَه صَلَّى الله عليه وسلم كَان اسْتئْلَافًا لِمثْلِه وتطييبا لِنَفْسِه لِيتَمَكّن إيمانُه وَيَدْخُل فِي الْإِسْلَام بِسَبَبِه أتْبَاعُه وَيَرَاه مِثْلُه فَيَنْجذِب بِذَلِك إلى الْإِسْلَام، ومثل هَذَا عَلَى هَذَا الوَجْه قَد خَرَج من حَد مُدَارَاة الدُّنْيَا إلى السّيَاسَة الدّينيّة وَقَد كَان يَسْتَأْلِفُهُم بأمْوَال اللَّه العَرِيضَة فَكَيْف بالكلِمَة اللّيّنة؟ قَال صَفْوَان لَقَد أعْطَانِي وَهُو أبغض الْخَلْق إِلَيّ فَمَا زال يعطيني حَتَّى صار أحب

_ (قوله في مهنته) بفتح الميم وكسرها: أي خدمته (قوله ويتسمت) أي يقصد سمته (قوله في ملاءته بضم الميم والمد (*)

الخلق إلى، قوله فِيه بئس ابن العشيرة هُو غَيْر غيبة بَل هُو تعريف مَا علمه مِنْه لمن لَم يعلم ليحذر حاله ويحترز مِنْه وَلَا يوثق بجانبه كُلّ الثقة لا سيما وَكَان مطاعًا متبوعًا، ومثل هَذَا إذَا كَان لضرورة ودفع مضرة لَم يَكُن بغيبة بَل كَان جائزًا بَل واجبًا فِي بَعْض الأحيان كَعَادَة المحدثين فِي تجريح الرواة والمزكين فِي الشهود، فإن قِيل فَمَا مَعْنَي المُعْضِل الوَارِد فِي حَدِيث بَرِيرَة من قَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِعَائِشَة وَقَد أخْبَرَتْه أَنّ موَالِي بَرِيرَة أَبَوْا بَيْعَهَا إلَّا أَنْ يكون لَهُم الْوَلَاء فَقَال لَهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (اشْتَرِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ) فَفَعَلَتْ، ثُمَّ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ) وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَهَا بِالشَّرْطِ لَهُمْ وَعَلَيْهِ بَاعُوا ولولاه والله أَعْلَم لَمّا باعوها من عائشة كَمَا لَم يبيعوها قَبْل حَتَّى شرطوا ذَلِك عليها ثُمّ أبطله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَهُو قَد حرم الغش والخديعة؟ فأعلم أكرمك اللَّه أن النبي صلى الله عليه وسلم منزة عَمَّا يقع فِي بال الجاهل من هَذَا ولتنزيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَن ذلك مَا قَد أنكر قوم هذا الزيادة قَوْلِه (اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ) إِذ لَيْس فِي أَكْثَر طُرُق الْحَدِيث ومع ثَبَاتِها فَلَا اعْتِرَاض بِهَا إِذ يقع لَهُم بِمَعْنَي عَلَيْهِم قال الله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) وقال (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) فعلى هَذَا اشترطي عَلَيْهِم الولاء لَك وَيَكُون قيام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ووعظه

_ (قوله المعضل) بكسر الضاد المعجمة، اسم فاعل. وهو الذى لا يهتدى وجهه (قوله بريرة) هي بنت صفوان، قيل كانت قبطية وقيل حبشية (*)

لَمّا سلف لَهُم من شرط الولاء لأنفسهم قَبْل ذَلِك * وَوَجْه ثان أَنّ قَوْله صَلَّى الله عليه وسلم (اشترط لَهُمُ الْوَلَاءَ) لَيْس عَلَى مَعْنَي الأمْر لَكِن عَلَى مَعْنَي التَّسْوِيَة والإعْلام بأنّ شَرْطَه لَهُم لَا يَنْفَعُهُم بَعْد بَيَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَهُم قَبْل أَنّ الْوَلَاء لمن أعْتَق فَكَأنه قال: (اشترطي أولا تَشْتِرِطِي فَإِنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ نَافِعٍ، وَإِلَى هَذَا ذهب الداوودى وَغَيْرُهُ وَتَوْبِيخُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ وَتَقْرِيعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِمْ بِهِ قَبْلَ هَذَا * الْوَجْه الثّالِث أَنّ مَعْنَي قَوْلِه (اشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ) أي: أظْهِرِي لَهُم حُكْمَه وَبَيّنِي عِنْدَهُم سَنّتَه أَنّ الْوَلَاء إنَّمَا هُو لِمَن أعْتَق، ثُمّ بَعْد هَذَا قَام هُو صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مُبَيّنًا ذَلِك وَمُوَبّخًا عَلَى مُخَالَفَة مَا تَقَدّم مِنْه فِيه، فَإِنّ قِيل فَمَا مَعْنَي فعل يُوسُف عَلَيْه السَّلَام بأخِيه إِذ جَعَل السّقَايَة فِي رَحْلِه وَأخَذِه باسْم سَرِقَتِهَا وَمَا جَرَى عَلَى إخْوتِه فِي ذلك وقوله إنكم لسارقون وَلَم يَسْرِقُوا؟ فاعْلَم أكْرَمَك اللَّه أَنّ الآيَة تَدُلّ عَلَى أَنّ فِعْل يُوسُف كَان من أمْر الله لقومه تعالى (كذلك؟ ؟ ؟ ؟ لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) الآيَة فَإِذَا كَان كَذَلِك فَلَا اعْتِرَاض بِه كَان فِيه مَا فِيه، وأَيْضًا فَإِنّ يُوسُف كَان أعْلَم أخاه بأنّي أَنَا أخُوك فَلَا تَبْتَئِس فكان مَا جرى عَلَيْه بَعْد هَذَا من وَفَّقَه ورغبته وَعَلَى يقين من عقى الخَيْر لَه بِه وَإزَاحَة السُّوء وَالمَضَرَة عَنْه بِذَلِك، وَأَمَّا قَوْله (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) فَلَيْس من قَوْل يُوسُف فَيَلْزَم عَلَيْه جَوَاب يَحِلّ شُبَهَه ولعل قائله

_ (قوله كَان فِيه مَا فيه) هو بدل من قوله فَلَا اعْتِرَاض بِه جواب لإذا، والذى فيه هو أنه كيف يجوز أن يأمر الله بمثل هذا؟ (*)

فصل فإن قيل فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدتها عليه

إن حُسّن لَه التّأوِيل كائِنًا من كَان ظنّ عَلَى صُورَة الحَال ذَلِك وَقَد قِيل قَال ذَلِك لِفِعْلِهِم قَبْل بِيُوسُف وَبَيْعِهِم لَه وَقِيل غَيْر هَذَا وَلَا يَلْزَم أن نُقَوّل الْأَنْبِيَاء مَا لَم يَأْت أَنَّهُم قالُوه حَتَّى يُطْلَب الخَلَاص مِنْه وَلَا يَلْزَم الاعْتِذَار عَن زَلَّات غَيْرِهِم. فصل فَإِنّ قِيل فَمَا الحِكْمَة فِي إجْرَاء الأمْرَاض وَشِدّتِهَا عَلَيْه وَعَلَى غَيْرِه مِن الْأَنْبِيَاء عَلَى جميعهم السَّلَام، وَمَا الْوَجْه فِيمَا ابْتَلاهُم اللَّه بِه مِن الْبَلَاء وَامْتِحَانِهِم بِمَا امتحنوا بِه كَأَيُّوب وَيَعْقُوب وَدَنْيَال وَيَحْيَى وزَكَرِيَّا وَعِيسَى وإِبْرَاهِيم وَيُوسُف وَغَيْرِهِم صلوات اللَّه عَلَيْهِم وهم خِيَرتُه من خَلْقِه وَأحبّاؤُه وَأصْفِيَاؤُه؟ فاعْلَم وفَّقَنَا اللَّه وإياك أَنّ أفْعَال اللَّه تَعَالَى كلها عَدْل وَكَلِمَاتِه جميعا صِدْق لَا مُبَدّل لِكَلِمَاتِه يَبْتَلي عِبَادَه كَمَا قَال لَهُم لننظر كيف تعلمون، (وليبلوكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمنوا مِنْكُم، وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركم) فامْتحَانُه إيّاهُم بِضُرُوب الْمِحَن زيَادَة فِي مَكانِتِهِم وَرفْعَة فِي دَرَجَاتِهِم وَأسْبَاب لاسْتِخْرَاج حَالات الصَّبْر وَالرّضَى وَالشُّكر وَالتّسْلِيم وَالتّوكُّل والتّفْويض وَالدُّعَاء وَالتّضَرُّع مِنْهُم وتأْكِيد لِبَصَائِرِهِم فِي رَحْمَة الْمُمْتحِنين وَالشّفَقَة عَلَى الْمُسْلِمِين وَتَذْكِرَة لِغَيْرِهِم وَمَوْعِظَة لسَوَاهُم لِيَتأسّوْا فِي الْبَلَاء بهم وَيَتَسَلّوْا

فِي الْمحَن بِمَا جَرَى عَلَيْهِم وَيَقْتَدُوا بهم فِي الصَّبْر محو لهنَات فَرَطَت مِنْهُم أَو غَفَلَات سَلَفَت لَهُم لِيَلْقَوا اللَّه طَيّبين مُهَذَّبِين وَلِيَكُون أجْرُهُم أكْمَل وَثَوَابُهُم أوفر وَأجْزَل. حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أبو الحسين الصيرفي وأبو الفضل بن خيرون قَالا حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ (الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خطيئته) ، وكما قَال تَعَالَى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثير) الآيَاتِ الثَّلاثَ وَعَن أَبِي هُرَيْرَة مَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَعَنْ أَنَسٍ عنه صلى الله عليه وسلم (إذ أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلاهُ لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ) وَحَكَى السَّمْرَقَنْدِيُّ أَنَّ كُلَّ من كَان أَكْرَم عَلَى اللَّه تَعَالَى كَان بَلاؤُه أشَدّ كى يتبين فَضْلُه وَيَسْتَوْجِب الثّوَاب كَمَا رُوِي عَن لقمان أنَّه قَال يَا بُنَيَّ الذَهَبُ وَالْفِضَّةُ يُخْتَبَرَانِ بِالنَّارِ وَالْمُؤْمِنُ يُخْتَبَرُ بِالْبَلَاءِ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ ابْتِلاء يَعْقُوب بِيُوسُف كان سببه التفاته في صلاته إليه ويوسف نائم

_ (قوله عَنْ عَاصِمِ بْنِ بهدلة) قال الذهبي في ترجمته قال يحيى القطان ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلا وجدته ردئ الحفظ (*)

محبة له، وقيل: بل اجتمع يوما هو وابنه يوسف عَلَى أكْل حَمَل مَشْوِيّ وهما يَضْحَكَان وَكَان لَهُم جَار يَتِيم فَشَمّ ريحَه وَاشْتهَاه وَبَكَى وَبَكَت لَه جَدَّة لَه عَجُوز لِبُكَائِه وبينهما جِدَار وَلَا علم عِنْد يَعْقُوب وابْنِه فَعُوقِب يَعْقُوب بالبُكَاء أسفًا عَلَى يُوسُف إلى أن سألت حدثتاه وَابْيَضَّت عَيْناه مِن الْحُزْن فَلَمّا علم بِذَلِك كَان بَقِيَّة حَيَاتِه يَأْمُر مُنَادِيًا يُنَادي عَلَى سَطْحِه أَلَا من كَان مُفْطِرًا فَلْيَتَغَد عِنْد آل يَعْقُوب وَعُوقِب يُوسُف بالمِحْنَة الَّتِي نص اللَّه عَلَيْهَا، وَرُوي عَن اللَّيْث أَنّ سبب بلاء أيوب أنَّه دخل مَع أَهْل قريته عَلَى ملكهم فكلموه فِي ظلمه وأغلظوا لَه إلَّا أيوب فَإنَّه رفق بِه مخافة عَلَى زرعه فعاقبه اللَّه ببلائه، ومحنة سُلَيْمَان لَمّا ذكرناه من نيته فِي كون الْحَقّ فِي جنبه أصهاره أَو للعمل بالمعصية فِي داره وَلَا علم عِنْدَه وَهَذِه فائدة شدة المرض والوجع بالنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، قَالَت عَائِشَة مَا رَأَيْت الوجع عَلَى أَحَد أشد مِنْه عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَعَن عَبْد اللَّه رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي مرضه يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا فَقُلْتُ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ) قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ قَالَ (أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ) وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ

_ (قوله أكل حمل) بفتح الحاء المهملة والميم، وهو من الضأن الجذع أو دونه، قال ابن دريد والجذع من الضأن ما تمت له سنة وقيل أقل منها (قوله بالمحنة) بنون بعد الحاء المهملة (قوله فِي جنبه أصهاره) بجيم ونون وموحدة: في القاموس. الجنبة والجانبة والجنب، شق إنسان (قوله وعن عبد الله هو ابن مسعود (*)

أَضَعُ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ) وَعَنْ أَنَسٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ الله أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به) أَنَّ الْمُسْلِمَ يُجْزَى بِمَصَائِبَ الدُّنْيَا فَتَكُونُ لَهُ كَفَّارَةً، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَأبي ومُجَاهِد، وَقَال أَبُو هُرَيْرَة عَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) وَقَال فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا) وَقَال فِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد (مَا يُصِيب الْمُؤْمِنَ من نصف وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ الله بها من خَطَايَاهُ) وَفِي حَدِيث ابن مَسْعُود (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ) وَحِكْمَة أُخْرَى أوْدَعَهَا اللَّه فِي الأمراض لأجسامهم ونعاقب الأَوْجَاع وَشِدَّتِهَا عِنْد مَمَاتِهِم لِتَضْعُف قُوَى نُفُوسِهِم فَيَسْهُل خُرُوجُهَا عِنْد قَبْضِهِم وَتَخفّ عليهم مونة النّزْع وَشِدَّة السّكَرَات بَتَقَدُّم المَرَض وَضَعْف الجسْم والنَّفْس لِذَلِك خِلَاف مَوْت الفُجَأة وَأخْذه كَمَا يُشَاهَد مِن اخْتِلَاف أحْوَال المَوْتى فِي الشَّدّة واللَّين والصُّعُوبَة وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم (مثل

_ (قوله وعكا) بفتح العين وإسكانها (قوله من نصب) بفتح الصاد المهملة أي تعب (قوله ولا وصب) بفتحتين أي مرض (*)

الْمُؤْمِنِ مِثْلُ خَامَةِ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا الرَّيحُ هَكَذَا وَهَكَذَا) وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ (مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تَكْفِؤُهَا فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكْفَأُ بِالْبَلَاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةٍ حَتَّى يَقْصِمَهُ اللَّهُ) مَعْنَاه أَنّ الْمُؤْمِن مُرَزَّء مُصَاب بِالْبَلَاء وَالأمراض رَاض بِتَصْرِيفِه بَيْن أقْدَار اللَّه تَعَالَى مُنْطَاع لِذَلِك لَيَّن الجَانِب بِرِضَاه وَقِلَّة سَخَطِه كَطَاعَة خَامَة الزَّرْع وَانْقِيَادها لِلرَّيَاح وتَمَايُلها لِهُبُوبِهَا وَتَرَنُّحِهَا من حَيْث مَا أتَتْهَا فَإِذَا أزَاح اللَّه عَن الْمُؤْمِن رِيَاح الْبَلايا واعْتَدَل صَحِيحًا كَمَا اعْتَدَلَت خَامَة الزرع عِنْد سُكُون رياح الْجَوّ رَجَع إلى شُكْر رَبَّه وَمَعْرِفَة نِعْمَتِه عَلَيْه بِرَفْع بلائه مُنْتَظِرًا رَحْمَتَه وُثَوَابَه عَلَيْه، فَإِذَا كَان بِهَذِه السَّبيل لَم يَصْعُب عَلَيْه مرض المَوْت وَلَا نُزُولُه وَلَا اشْتَدَّت عَلَيْه سَكَرَاتُه وَنَزْعُه لِعَادَتِه بِمَا تقَدَّمَه مِن الآلام وَمَعْرفَة مَا لَه فِيهَا مِن الأجْر وَتَوطِينِه نَفْسَه عَلَى الْمَصَائِب وَرِقَّتِهَا وَضَعْفِهَا بِتَوَالي الْمَرَض أَو شِدّتِه وَالْكَافِر بِخِلَاف هَذَا مُعَافَي فِي غَالِب حَالِه مُمَتَّع بَصِحَّة جِسْمِه كَالْأَرزَة الصَّمّاء حَتَّى إذَا أرَاد اللَّه هَلَاكَه قَصَمَه لحينه

_ (قوله خامة الزرع) بخاء معجمة: في الصحاح: الخامة الغضة الرطبة من النبات، وفى الحديث (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مِثْلُ الخامة من الزرع يميلها الريح) (قوله تكفؤها بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه أي تقلبها (قوله مثل الأرزة) قال ابن قرقول: الأرزة بفتح الهمزة وسكون الراء، كذا الرواية، هي الصنوبر، وقال أبو عبيد إنما هو الآرزة على وزن الفاعلة ومعناه النابتة في الأرض، وأنكر هذا أبو عبيد، انتهى وقال ابن الأثير الأرزة بسكون الراء وفتحها: شجرة الأرز وهو خشب معروف وقيل هو الصنوبر (قوله معتدلة) أي مكنزة ولا يجلجل فيها، قاله ابن الأثير (*)

عَلَى غِرَّة وَأَخَذَه بَغْتَة من غَيْر لُطْف وَلَا رِفْق فَكَان مَوْتُه أشدّ عَلَيْه حَسْرَة وَمقَاسَاة نَزْعِه مَع قُوَّة نَفْسَه وَصِحّة جِسْمِه أشَدّ ألمَا وَعَذَابًا وَلَعَذَاب الآخِرَة أشّدّ كانْجِعَاف الْأَرْزَة وكما قَال تَعَالَى (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يشعرون) وَكَذَلِك عَادَه اللَّه تَعَالَى فِي أعْدَائِه كَمَا قَال اللَّه تَعَالَى (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصيحة) الآية، فَفَجَأ جميعهم بالمَوْت عَلَى حال عُتُوّ وَغَفْلَة وَصَبّحَهُم بِه عَلَى غَيْر اسْتِعْدَاد بَغْتَة ولهذا ذُكِر عَن السَّلَف أَنَّهُم كَانُوا يَكْرَهُون مَوْت الفجأة وَمِنْه فِي حَدِيث إبْرَاهِيم كَانُوا يَكْرَهُون أخْذَة كَأخْذَة الأسَف أَي الغَضَب يُرِيد موت الفجأة * وحِكْمَة ثالِثة أَنّ الأمْرَاض نَذِير المَمَات وَبِقَدْر شِدَّتِهَا شِدَّة الخَوْف من نُزُول المَوْت فَيَسْتَعِدّ من إصابته وعلم تعهدها له للبقاء رَبَّه وَيُعْرِض عَن دَار الدُّنْيَا الكَثِيرَة الأنْكَاد وَيَكُون قَلْبُه مُعَلَّقًا بالمَعاد فَيَتَنَصّل من كُلّ مَا يخشى تباعته من قَبْل اللَّه وَقَبْل العباد ويؤدي الحقوق إِلَى أهلها وينظر فِيمَا يحتاج إليْه من وصية فيمن يخلفه أَو أمر يعهده وَهَذَا نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم المغفور لَه مَا تقدم وَمَا تأخر قَد طلب التنصل في مرضه مِمَّن كَان لَه عَلَيْه مال أَو حَقّ فِي بدن وأقاد من نفسه وماله وأمكن مِن القصاص مِنْه عَلَى مَا ورد في حَدِيث الْفَضْل وحديث

_ (قوله كانجعاف) بكسر الجيم: أي كانقلاع (قوله ولهذا ما كره السلف موت الفجاءة) (ما) هنا زائدة وكذلك فيما يقع في بعض النسخ ولهذا ما ذُكِر عَن السَّلَف أَنَّهُم كَانُوا يَكْرَهُون مَوْت انفجاءة (قوله كأخذة الأسف) الأخذة بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة، والأسف بفتح السين المهملة الغضب (قوله تباعته) بكسر أوله: أي تبعته (قوله من قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة (14 - 2) (*)

الوفاة وأوصى بالثقلين بَعْدَه: كِتَاب اللَّه وعترته، وبالأنصار عيبته، ودعا إلى كُتُب كِتَاب لِئَلَّا تضل أمَّتَه بَعْدَه إِمَّا في النص عليه الخلافة أو اللَّه أَعْلَم بمراده ثُمّ رَأَى الإمساك عَنْه أفضل وخيرًا وهكذا سيرة عباد الله الْمُؤْمِنين وأوليائه المتقين وَهَذَا كُلُّه يحرمه غالبًا الكفار لإمْلَاء اللَّه لَهُم لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَيَسْتَدْرجَهُم من حَيْث لَا يَعْلَمُون، قَال اللَّه تَعَالَى (مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ولذلك قال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي رَجُل مات فُجْأة: (سُبْحَانَ اللَّهِ كَأَنَّهُ عَلَى غَضَبٍ الْمَحْرُومُ مِنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ) وَقَال: (مَوْتُ الْفُجْأَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ) وَذَلِك لِأَنّ الموت يأتي الْمُؤْمِن غالبا مُسْتَعِد لَه مُنْتَظِر لِحُلُولِه فَهَان أَمْرُه عَلَيْه كَيْفَمَا جاء وَأَفْضى إِلَى راحَتَه من نَصَب الدُّنْيَا وأَذاهَا كَمَا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مُسْتَريحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، وتأْتِي الكافِر وَالفَاجِر مَنِيَّتُه عَلَى غَيْر اسْتِعْدَاد وَلَا أُهْبَة وَلَا مُقَدّمات مُنْذِرَة مُزْعِجَة (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) فكان المَوْت أشد شئ عَلَيْه وفِراق الدُّنْيَا أفْظَع أمْر صَدَمَه وأكْرَه شئ لَه. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أشَار صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِقَوْلِه: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ الله لقاءه، ومنكره لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لقاءه)

_ (قوله بالأنصار عيبته) بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية أراد أنهم موضع سره وأمانته كعيبة الثياب التى يضع فيها الشخص متاعه (قوله أفظع) بالفاء والظاء المعجمة أي أعظم وأشد (*)

القسم الرابع في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه عليه الصلاة والسلام

الْقَسَم الرابع فِي تصرف وجوه الأحكام فيمن تَنَقَّصَه أَوْ سبَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة والسَّلَامُ قَال الْقَاضِي أبو الفضل وفقه الله قَد تقدَّم مِن الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإجْمَاع الْأُمَّة مَا يَجِب مِن الحُقُوق للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمَا يَتَعَيَّن لَه من برّ وَتَوْقِير وَتَعْظِيم وَإكْرَام وَبحَسَب هَذَا حَرَّم اللَّه تَعَالَى أذَاه فِي كَتَابِه وَأجْمَعَت الْأُمَّة عَلَى قَتْل مُتَنَقَّصِه مِن الْمُسْلِمِين وسابك قال الله تعالى: (إن الذى يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) وقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَقَال اللَّه تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ الله عظيما) وقال تعالى في تحريم التّعْرِيض لَه: (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا واسمعوا) الآيَة، وَذَلِك أَنّ الْيَهُود كَانُوا يَقُولُون رَاعِنَا يَا مُحَمَّد: أَي أرْعِنَا سَمْعَك وَاسْمَع مِنَّا، وَيُعَرّضُون بالكلمة يريدون الرعوبة فَنَهى اللَّه الْمُؤْمِنين عَن التّشَبُّه بِهِم وَقَطَع الذَّرِيعَة بِنَهْي الْمُؤْمِنين عَنْهَا لِئَلَّا يَتَوَصَّل بِهَا الْكافِر وَالْمُنَافِق إِلَى سَبّه والاسْتِهْزَاء بِه وَقِيل بل لما فيه من مُشَارَكَة اللفظ لِأَنّهَا عِنْد الْيَهُود بِمَعْنَي اسْمَع لَا سَمِعْت، وَقِيل: بَل لَمّا فِيهَا من قلَّة الأدَب وعدم تَوْقِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَعْظِيمه لِأَنّهَا فِي لُغَة الْأَنْصَار بِمَعْنَي ارْعَنَا نرعك فنهوا عن ذلك إِذ مُضْمَنُه أَنَّهُم لا يرعون إلا برعايته لهم

_ (قوله وبحسب هذا) بفتح السين أي بقدر (قوله ويعترضون) بتشديد الراء المكسورة (قوله الرعونة) بضم الراء أي الحمق (قوله إذ مضمنه) بضم الميم الأولى وفتح الضاد المعجمة (*)

وَهُو صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَاجِب الرّعَايَة بِكُلّ حَال وَهَذَا هُو صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَد نَهَى عَنِ التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ فَقَال: (سَمُّوا بِاسْمِي وَلَا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي) صَيَانَةً لِنَفْسِه وَحِمَايَة عَن أذَاه إِذ كَان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم اسْتَجَاب لِرَجُل نَادَى يَا أَبَا الْقَاسِم، فَقَال: لَم أعْنِك، إنَّمَا دَعَوْت هَذَا، فَنَهى حِينَئِذ عَن التَّكَنّي بِكُنْيَتِه لِئَلَّا يَتَأذَّى بإجَابَة. دَعْوَة غَيْرِه لِمَن لَم يَدْعُه وَيجد بذلك المنافقون والمستهزؤن ذَرِيعَة إِلَى أذَاه وَالإزْرَاء بِه فَيُنَادُونَه فَإِذَا الْتَفَت قَالُوا: إنَّمَا أرَدْنَا هَذَا لِسِوَاه. تَعْنِيتًا لَه وَاسْتخْفَافًا بِحَقَّه عَلَى عادَة المُجَّان وَالْمُسْتَهْزِئِين فَحمى صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حِمى أذَاه بِكُلّ وجه، فحمل محققوا الْعُلمَاء نَهْيَه عَن هَذَا عَلَى مُدَّة حَيَاتِه وَأجَازُوه بَعْد وَفاتِه لارْتِفَاع العِلَّة، وَللنَّاس فِي هَذَا الْحَدِيث مَذَاهِب لَيْس هَذَا مَوْضِعَهَا وَمَا ذَكَرْنَاه هُو مَذْهَب الجُمْهُور وَالصَّوَاب إنّ شَاء اللَّه أَنّ ذَلِك عَلَى طريق تعظيمه وتوقيره وعلى سبيل الندب والاستحباب لَا عَلَى التحريم وَلِذَلِك لَم ينه عَن اسْمُه لِأَنَّه قد كَان اللَّه منع من ندائه بِه بِقَوْلِه: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) وَإِنَّمَا كَان الْمُسْلِمُون يَدْعُونَه يَا رَسُول اللَّه يَا نَبِيّ اللَّه وَقَد يَدْعُونَه بِكُنْيَتِه أَبَا الْقَاسِم بَعْضُهُم فِي بَعْض الأحْوَال، وَقَد رَوَى أَنَس رَضِي اللَّه عَنْه عنه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَا يَدُلّ عَلَى كَرَاهَة التَّسَمي باسْمِه وَتَنْزِيهِه عَن ذَلِك إذَا لَم يُوَقَّر، فَقَال (تُسَمُّونَ أَوْلادَكُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ) وَرُوي

_ (قوله تعنينا) بعين مهملة فنون مكسورة يقال عنته تعنيتا إذا شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه أداؤه، كذا في القاموس (قوله المجان) بضم الميم وتشديد الجيم في الصحاح المجون أن لا يبالى الإنسان ما صنع وقد مجن بالفتح يمجن مجونا فهو ماجن (*)

أَنّ عُمَر رَضِي اللَّه عَنْه كَتَب إِلَى أَهْل الكُوفَة لَا يُسَمّى أَحَد باسْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم) حَكَاه أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ، وَحَكَى مُحَمَّد بن سَعْد أنَّه نَظَر إِلَى رَجُل اسْمُه مُحَمَّد وَرَجُل يُسَبُّه وَيَقُول لَه فعل اللَّه بك يَا مُحَمَّد وَصَنَع، فَقَال عُمَر لابن أخيه مُحَمَّد بن زيد بن الْخَطَّاب: لَا أرَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُسَبّ بِك والله لَا تُدْعى مُحَمَّدًا مَا دُمْت حَيًّا وَسَمَّاه عَبْد الرَّحْمن وَأرَاد أن يَمْنَع لهذا أن يُسَمَّى أحَد بِأسْمَاء لأنبياء إكْرَامًا لَهُم بِذَلِك وَغَيْر أسْمَاءَهُم وَقَال لَا تُسَمُّوا بأسْمَاء الْأَنْبِيَاء ثُمّ أمْسَك، وَالصُّوَاب جَوَاز هَذَا كُلُّه بَعْدَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِدَلِيل إطْبَاق الصَّحَابَة عَلَى ذَلِك وَقَد سَمَّى جَمَاعَة مِنْهُم ابته مُحَمَّدًا وَكَنَّاه بِأَبِي الْقَاسِم وَرُوي أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أذِن فِي ذَلِك لِعَلِيّ رَضِي اللَّه عَنْه وَقَد أخْبَر صلى اللَّه عليه وسلم أَنّ ذَلِك اسم الْمَهْدِيّ وَكُنْيَتُه وَقَد سَمَّى بِه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مُحَمَّد بن طَلْحَة وَمُحَمَّد بن عمرو ابن حزم وَمُحَمَّد بن ثابت بن قيس وَغَيْر واحد وَقَال: (مَا ضَرَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدَانِ وَثَلَاثَةٍ، وَقَد فَصّلْت الْكَلَام فِي هَذَا القِسْم عَلَى بَابَيْن كَمَا قدمناه

_ (قوله وَقَد سَمَّى بِه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مُحَمَّد بن طلحة) قال سَمَّى بِه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم غير مُحَمَّد بن طَلْحَة قال الذهبي محمد بن خليفة شهد الفتح فيما يقال وكان اسمه عبد مناف فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحاكم فيمن دخل خراسان من الصحابة محمد مَوْلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان اسمه ناهية وكان مجوسيا فسافر بتجارة إلى الحجاز فأسلم وسماه النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا. قال الذهبي رواه الحاكم بسند مظلم ومحمد بن نبيط بن جابر ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسماه محمد وحنكه فيما قيل ومحمد بن هلال بن المعلى سماه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد الفتح، قاله أبو موسى (*)

الباب الأول في بيان ما هو في حقه صلى الله عليه وسلم سب أو نقص من تعريض أو نص

الباب الأول في بيان ما هو في حقه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم سب أَو نقص من تعريض أَو نص اعْلَم وفقنا اللَّه وإياك أَنّ جَمِيع من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو عَابَه أَو ألْحَق بِه نَقْصًا فِي نَفْسِه أَو نَسَبِه أَو دِينه أَو خَصْلَة من خِصَالِه أَو عَرّض بِه أو شبهة بشئ عَلَى طريق السَّبّ لَه أَو الأِزْرَاء عَلَيْه أو التَّصْغِير لِشَأْنِه أَو الْغَضّ مِنْه وَالْعَيْب لَه فَهُو سَاب لَه وَالْحُكْم فِيه حُكْم السَّابّ يقْتَل كَمَا نُبَيّنُه وَلَا نَسْتَثْنِي فَصْلًا من فُصُول هَذَا الْبَاب عَلَى هَذَا المقصد وَلَا يمترى فِيه تصريحا كَان أَو تلويحا وَكَذَلِك من لعنه أَو دعا عَلَيْه أَو تمنى مضرة لَه أو نسب إليه مَا لَا يليق بمنصبه عَلَى طريق الذم أَو عبث فِي جهَتِه العَزِيزَة بسُخْف مِن الْكَلَام وَهُجْر وَمُنْكَر مِن الْقَوْل وَزُور أَو عيره بشئ مِمَّا جَرَى مِن الْبَلَاء والْمِحْنَة عَلَيْه أَو غَمَصَه بِبَعْض الْعَوَارض الْبَشَرِيّة الْجَائِزَة وَالْمَعْهُودَة لَدَيْه وَهَذَا كُلُّه إجْماع مِن الْعُلمَاء وَأئِمَّة الْفَتْوَى من لَدُن الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِم إِلَى هَلُمّ جَرّا، قال أبو بكر بن

_ (قوله أَو الأِزْرَاء عَلَيْه) أي النهاون به (قوله أو عبث) بفتح المهملة وكسر الموحدة بعدها مثلثة أي لعب (قوله وهجر) بضم الهاء وسكون الجيم من الإهجار وهو الإفحاش في النطق (قوله أو عيره) بفتح العين المهملة وتشديد المثناة التحتية (قوله أو غمصه) بفتح الغين المعجمة والميم والصاد المهمل ة: أي عابه أو استصغره (قوله إِلَى هَلُمّ جَرّا) في الصحاح هلم بمعنى تعالى. قال الخليل: أصله لم من قولك لم الله شعثه: أي جمعه. كأنه أراد لم نفسك إليا أي أقرب وها لتنبيه وإنما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوى فيه الواحد والجمع والتأنيث في لغة أهل الحجاز وأهل نجد يصرفونها وجرا من الجر وهو السحب وانتصابه على المصدر أو الحال (*)

المُنْذر أجْمَع عَوامّ أهلى الْعِلْم عَلَى أن من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُقْتَل وَمِمَّن قَال ذَلِك مَالِك بن أَنَس وَاللَّيْث وَأَحْمَد وإسحاق وَهُو مَذْهَب الشَّافِعِيّ قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَهُو مُقْتَضَى قَوْل أَبِي بَكْر الصَّدّيق رَضِي اللَّه عَنْه وَلَا تُقْبَل تَوْبَتُه عِنْد هَؤْلَاء، وَبِمِثْلِه قَال أَبُو حنيفة وأصحابُه والثَّوْرِيّ وَأَهْل الكُوفَة وَالْأَوزَاعِيّ فِي الْمُسْلِمِين لكِنَّهُم قَالُوا: هِي رِدَّة، وَرَوَى مِثْلُه الْوَلِيد بن مُسْلِم عَن مَالِك وحَكَى الطَّبَرِيّ مِثْلُه عَن أَبِي حنيفة وأصحابه فيمن تَنَقَّصَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو برئ مِنْه أَو كَذَّبَه وَقَال سُحْنُون فيمن سَبَّه: ذَلِك ردّة كَالزَّنْدَقَة وَعَلَى هَذَا وَقَع الخِلَاف فِي استنابته وتَكْفِيرِه وهل قَتْلُه حَد أَو كُفْر كَمَا سَنُبَيَّنُه فِي الْبَاب الثاني أن شَاء اللَّه تَعَالَى، وَلَا نَعْلَم خِلَافًا فِي اسْتِبَاحَه دَمِه بَيْن عُلَمَاء الأمْصَار وَسَلَف الْأُمَّة وَقَد ذَكَر غَيْر وَاحِد الإجْمَاع على قَتْلِه وَتَكْفِيرِه وأشَار بَعْض الظَّاهِرِيَّة وَهُو أَبُو مُحَمَّد عَلِيّ بن أَحْمَد الفارسيّ إِلَى الخِلَاف فِي تَكْفير المسخف بِه وَالْمَعْرُوف مَا قَدَّمْنَاه قَال مُحَمَّد بن سُحْنُون أجْمَع الْعُلمَاء أَنّ شَاتِم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الْمُتَنَقّص لَه كَافِر وَالْوَعِيد جَار عَلَيْه بِعَذَاب

_ (قوله كالزندقة) قال ابن قرقول: الزنادقة من لا يعتقد ملة من الملل المعروفة ثم استعمل ذلك فيمن عطل الأديان وأنكر الشرائع وفيمن أظهر الإسلام وأسر غيره وأصله من كان على مذهب مانى ونسبوا إلى كتابه الذى وضعه في إبطال النبوة ثم عربته العرب انتهى (قوله وأشَار بَعْض الظَّاهِرِيَّة) هو المعروف بابن حر علي بن أحمد ابن سعيد بن حزم اليزيدى الأموي القرطبى الطاهري توفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة (*)

اللَّه لَه وَحُكْمُه عند الأمة قتل وَمِن شَكّ فِي كُفْرِه وَعَذَابِه كَفَر، وَاحْتَجّ إبْرَاهِيم بن حُسَيْن بن خَالِد الْفَقِيه فِي مِثْل هَذَا بِقَتْل خَالِد بن الْوَلِيد مَالِك ابن نُوَيْرَة لِقَوْلِه عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم صَاحِبُكُم، وَقَال أَبُو سُلَيْمَان الخطَّابِيّ لَا أَعْلَم أَحَدا من الْمُسْلِمِين اخْتُلِف فِي وُجُوب قَتْلِه إذَا كَان مُسْلِمًا، وَقَال ابن الْقَاسِم عَن مَالِك فِي كِتَاب ابن سَحْنُون وَالْمَبْسُوط وَالْعُتْبَيّة وَحَكَاه مُطَرَّف عَن مَالِك فِي كِتَاب ابن حبيب من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن الْمُسْلِمِين قُتِل وَلَم يُستَتَب، قَال ابن الْقَاسِم فِي الْعُتْبِيَّة من سَبَّه أَو شَتَمَه أَو عَابَه أَو تَنَقَصَّه فَإنَّه يُقْتَل وَحُكْمُه عِنْد الْأُمَّة الْقَتْل كَالزَّنْدِيق وَقَد فَرَض اللَّه تَعَالَى تَوْقِيرَه وَبرَّه وَفِي الْمَبْسُوط عَن عُثْمَان بن كِنَانَة من شَتَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن الْمُسْلِمِين قُتِل أَو صُلِب حَيًّا وَلَم يُسْتَتَب، والْإِمَام مُخَيّر فِي صَلْبِه حَيًّا أَو قَتْلِه، وَمِن رِوَايَة أَبِي الْمُصْعَب وَابْن أَبِي أوَيْس سمعنا مالِكًا يَقُول: مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ شَتَمَهُ أَوْ عَابَهُ أَوْ تَنَقَّصَهُ قُتِلَ: مُسْلِمًا كَانْ أَوْ كَافِرًا وَلَا يُسْتَتَابُ، وَفِي كِتَاب مُحَمَّد أَخْبَرَنَا أَصْحَاب مَالِك أنَّه قَال: من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو غَيْرِه مِن النَّبِيّين من مُسْلِم أَو كَافِر قُتِل وَلَم يُسْتَتَب، وَقَال أصْبَغ، يُقْتَل عَلَى كُلّ حَال أسَرّ ذَلِك أو أظهره وَلَا يُسْتَتَاب لِأَنّ تَوْبَتَه لَا تُعْرَف، وَقَال عَبْد اللَّه بن عَبْد الْحَكم من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من مُسْلِم أو كافر قُتِل وَلَم يستتب) وَحَكَى الطَّبَرِيُّ مثله

_ (قوله ابن نويرة) بضم النون وفتح الواو بعدها مثناة تحتية ساكنة. (*)

عَن أشْهَب عَن مَالِك، وَرَوَى ابن وَهْب عَن مَالِك من قال إن رداءه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم - وَيُرْوَى زِرّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم - وَسِخ أرَاد بِه عَيْبَه قُتِل، وَقَال بَعْض عُلَمَائِنَا أجْمَع الْعُلمَاء عَلَى أَنّ من دَعَا عَلَى نَبِيّ من الأنبياء بالويل أو بشئ مِن الْمَكْرُوه أنَّه يُقْتَل بِلَا اسْتِتَابَة وَأفْتى أَبُو الْحَسَن القابِسيّ فِيمَن قَال فِي النبي صلى الله عليه وسلم الْجَمَّال يَتِيم أَبِي طَالِب بالْقَتْل، وَأفْتى أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد بِقَتْل رَجُل سَمِع قَوْمًا يَتَذَاكَرُون صِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِذ مر بِهِم رَجُل قَبِيح الْوَجْه وَاللَّحْيَة فَقَال لَهُم تُريدُون تَعْرفُون صِفَتَه هي فِي صِفَة هَذَا الْمَارّ فِي خَلْقِه وَلِحْيَتِه قال ولا تقب لتوبته وَقَد كَذَب لَعَنَة اللَّه وَلَيْس يخرج من قلب سُلَيْم الْإِيمَان وَقَال أَحْمَد بن أَبِي سليمان صاحب سحنون من قَال إنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان أسْوَد، يُقْتِل، وَقَال فِي رَجُل قِيل لَه لَا وحق رَسُول اللَّه، فَقَال فعل اللَّه برسول اللَّه كذا - وَذَكَر كَلَامًا قَبِيحًا - فَقِيل لَه مَا تَقُول يَا عدو اللَّه؟ فَقَال أشد من كلامه الأول ثُمّ قَال: إنَّمَا أرَدْت برسول اللَّه العَقْرَب فَقَال ابن أَبِي سُلَيْمَان للذي سَألَه أشْهَد عَلَيْه وَأَنَا شَرِيكُك، يريد فِي قتله وثواب ذَلِك. قَال حبيب بن أبى الربيع لِأَنّ ادَّعَاء التأويل فِي لفظ صراح لَا يقبل أنه استهان وَهُو غَيْر معزر لرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَا موقر لَه فوجب إباحة دمه، وأفتى أَبُو عَبْد اللَّه بن عتاب في عشار قَال لرجل أد واشْك إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَقَال إن سَأَلْت أَو جَهِلْت

_ (قوله الجمال) بفتح الجيم وتشديد الميم (*)

فقد جَهِل وسَأل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم: بالْقَتْل وَأفْتى فُقَهَاء الأنْدَلُس بِقَتْل ابن حَاتِم المُتَفَقَّة الطُّلَيْطُلِيّ وَصَلْبِه بِمَا شُهد عَلَيْه بِه مِن اسْتِخْفَافِه بحَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَسْمِيَتِه إيَّاه أثْنَاء مُنَاظَرَتِه باليَتِيم وَخَتَن حَيْدَرَة وَزَعْمِه أَنّ زُهْدَه لَم يَكُن قَصْدًا وَلَو قَدَر عَلَى الطَّيّبَات أكَلَهَا إلى أشْبَاه لهذا، وأفنى فُقَهَاء القيرَوَان وَأَصْحَاب سُحْنُون بِقَتْل إبْرَاهِيم الفَزَارِيّ وَكَان شاعِرًا مُتَفَنَّنًا فِي كثير مِن العُلُوم وَكَان مِمَّن يَحْضُر مَجْلِس الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاس بن طَالِب لِلْمُنَاظَرَة فَرُفِعَت عَلَيْه أُمُور مُنْكَرَة من هَذَا الْبَاب فِي الاسْتِهْزَاء بالله وَأنْبِيَائِه وَنِبَيَّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فأحْضَر لَه الْقَاضِي يَحْيَى بن عُمَر وَغَيْرُه مِن الفُقَهَاء وَأَمَر بِقَتْلِه وَصَلْبِه فَطُعِن بالسَّكّين وَصُلِب مُنَكّسًا ثُمّ أُنْزِل وَأُحْرِق بالنَّار، وَحَكَى بَعْض المؤرخين أنَّه لَمّا رفعت خشبته وزالت عَنْهَا الأيدي استدارت وحوله عَن القبلة فكان آية للجميع وكبر النَّاس، وجاء كلب فولغ فِي دمه فَقَال يَحْيَى بن عُمَر صَدَق رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلم وذكر حديثا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَال: (لَا يَلَغُ الْكَلْبُ فِي دَمِ مُسْلِمٍ) وَقَال

_ (قوله الطليطلى) بضم الطائين وفتح اللام الأولى وكسر الثانية (قوله وختن حيدرة) في الصحاح الختن كُلَّ من كَان من المرأة مثل الأب والأخ وعند العامة ختن الرجل زوج ابنته. وحيدرة بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية الأسد. والمراد هنا علي بن أبي طالب فان أمه فاطمة بنت أسد سمته في أول ولادته باسم أبيها وكان أبو طالب غائبا فلما قدم سماه عليا فغلب على تسمية أبى طالب وفى صحيح مسلم من إنشاد على * أنا الذى سمتن أمي حيدره * (قوله لا يلغ) بفتح أوله وثانيه ويقال ولغ بفتح اللام وكسرها يلغ بفتح اللام (*)

فصل في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه وسلم

الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّه بن المُرَابِط: (من قَال إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّه بن المُرَابِط: (من قَال إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم هُزم يُسْتَتَاب فَإِنّ تَاب وإلا قتل لا أنه تَنَقُّص إِذ لَا يَجُوز ذَلِك عَلَيْه فِي خاصّتِه إِذ هُو عَلَى بَصِيرَة من أمْرِه وَيَقِين من عِصْمَتِه، وَقَال حبيب بن ربيع القرويّ: مَذْهَب مَالِك وأصحابه أن من قَال فِيه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَا فِيه نَقْص قُتِل دون اسْتِتَابَة، وَقَال ابن عَتَاب: الْكِتَاب والسُّنَّة مَوجِبَان أَنّ من قَصَد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِأذى أو نَقْص مُعَرَضًا أَو مُصَرَّحًا وإن قَلّ فَقَتْلُه وَاجِب، فَهَذَا الْبَاب كُلُّه مِمَّا عده الْعُلمَاء سَبًّا أَو تَنَقُّصًا يجب قَتْل قائِلِه لَم يَخْتَلف فِي ذَلِك مُتَقَدّمُهُم وَلَا متأخرهم وَإِنّ اخْتَلَفُوا فِي حُكْم قَتْلِه عى مَا أشَرْنا إليه وَنُبَيّنُه بَعْد وَكَذَلِك أقُول حُكْم من غَمَصَه أَو غَيْرِه بِرعَايَة الغَنَم أَو السَّهْو أَو النَّسْيَان أَو السَّحْر أَو مَا أصَابَه من جُرْح أَو هَزِيمَة لِبَعْض جُيُوشِه أَو أذى من عدوه أَو شدة من زمنه أَو بالميل إِلَى نسائه فحكم هَذَا كُلُّه لِمَن قصد بِه نقصه القتل وَقَد مضى من مذاهب الْعُلمَاء فِي ذَلِك ويأتي مَا يدل عَلَيْه. فصل فِي الحجة فِي إيجاب قتل من سبه أَو عَابَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ فَمِن الْقُرْآن لَعْنُه الله تَعَالَى لِمُؤْذِيه فِي الدُّنْيَا والآخِرَة وقِرَانُه تَعَالَى أذَاه بِأَذَاه وَلَا خِلَاف فِي قَتْل من سَبّ اللَّه وَأَنّ اللَّعْن إنَّمَا يَسْتَوْجِبه من هُو كافِر وَحُكْم الكافر الْقَتْل فَقَال (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله ورسوله) الآيَة وَقَال فِي قاتِل الْمُؤْمِن مِثْل ذَلِك فَمَن لَعْنَتِه فِي الدُّنْيَا القَتْل قَال اللَّه تعالى

(مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أخذوا وقتولا تقتيلا) وَقَال فِي المحَاربين وَذِكْر عُقُوبَتِهم (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا) وَقَد يَقَع القَتْل بِمَعْنَي اللَّعْن قَال (قُتِلَ الخراصون) و (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أنى يؤفكون) أَي لَعَنَهُم اللَّه وَلِأَنَّه فَرّق بَيْن أذّاهُمَا وَأذَى الْمُؤْمِنين وَفِي أذَى الْمُؤْمِنين مَا دُون القَتْل مِن الضَّرْب وَالنَّكَال فَكَان حُكْم مُؤذِي اللَّه ونَبِيَّه أشَدّ من ذَلِك وَهُو الْقَتْل وَقَال اللَّه تَعَالَى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بينهم) الآيَة فَسَلَب اسْم الْإِيمَان عَمَّن وجَد فِي صَدْرِه حَرَجًا من قَضَائِه وَلَم يُسَلَّم لَه وَمِن تَنَقَّصَه فَقَد نَاقَض هَذَا وَقَال اللَّه تعالى (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - إِلَى قوله - أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) وَلَا يُحْبط العَمَل إلَّا الْكُفْر وَالْكافِر يُقْتَل وَقَال اللَّه تعالى (وإذا جاؤك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) ثُمّ قَال (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وَقَال تَعَالَى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) ثُمّ قَال (وَالَّذِينَ يؤذون الرسول اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أليم) وَقَال تَعَالَى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نحوذ ونلعب) إلى قوله (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم) قَال أَهْل التَّفْسِير كَفَرْتُم بِقَوْلِكُم فِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأَمَّا الإجْمَاع فَقَد ذَكَرْنَاه وَأَمَّا الآثار فَحَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَلْبُونَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ إِجَازَةً قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَبَالَةَ حدثنا

_ (قوله ابن زبالة) بفتح الزاى وتخفيف الموحدة (*)

عبد الله بن مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ محمد بن علي بت الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَاقْتُلُوهُ وَمَن سَبَّ أَصْحَابِي فَاضْرِبُوهُ) * وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح أمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بقَتْل كَعْب ابن الأشْرَف وَقَوْلُه: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ فَإِنَّهُ يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ غِيلَةً دُونَ دَعْوَة بخلاف غَيْرِه مِن المشركين وعلل بأذاه لَه فدل أَنّ قتله إياه لغير الإشراك بَل للأذى وَكَذَلِك قتل أَبَا رافع، قَال البراء وَكَان يؤذي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ويعين عَلَيْه وَكَذَلِك أَمْرُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَجَارِيَتَيْهِ اللَّتَيْنِ كانتا تُغَنِّيَانِ بِسَبِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * وَفِي حَدِيث آخَر أَنّ رَجُلًا كَان يَسُبُّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَال (مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟) فَقَالَ خَالِدٌ أَنَا فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ وَكَذَلِك أمَر بِقَتْل جَمَاعَة مِمَّن كَان يُؤْذِيه مِن الكُفَّار وَيسبُّه كالنَّضْر بن الحَارِث وَعُقْبَة بن أَبِي مُعَيْط وعَهِد بِقَتْل جَمَاعَة مِنْهُم قَبْل الْفَتْح وَبَعْدَه فَقُتِلُوا إلَّا من بادَر بإسْلَامِه قَبْل القُدْرَة عَلَيْه وَقَد رَوَى البَزّار عَن ابن عَبَّاس أَنّ عُقْبَة بن أَبِي مُعَيْط نادى يَا مَعَاشِر قُرَيْش مالى أُقْتَل من بَيْنِكُم صَبْرًا؟ فَقَال لَه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (بِكُفْرِكَ وَافْتِرَائِكَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم) وذكر عَبْد الرَّزَّاق أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم سَبَّهُ رَجُلٌ فَقَالَ (مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟ فَقَالَ

_ (قوله غيلة) بكسر الغين المعجمة (*)

الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَبَارَزَهُ فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ. وَرُوي أيضًا أَنّ امْرَأة كَانَت تَسُبُّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَال (مَنْ يَكْفِينِي عَدُوَّتِي؟) فَخَرَجَ إِلَيْهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَتَلهَا، وَرُوي أَنّ رَجُلًا كَذَب عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَبَعَث عليا والزبير إليه ليَقتلاه، وَرَوَى ابن قانِع أَنّ رَجُلًا جاء إِلَى النَّبِيّ صلى القه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَال يَا رَسُول اللَّه سَمِعْت أَبِي يَقُول فيك قولًا قَبيحًا فقتله فَلَم يشُقّ ذَلِك عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَبَلَغ الْمُهَاجِر بن أَبِي أُمَيَّة أَمِير الْيَمَن لأبي بَكْر رَضِي اللَّه عَنْه أَنّ امْرَأة هناك فِي الرّدّة غَنَّت بِسَبّ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَطَع يَدَهَا وَنَزَع ثَنِيّتَهَا فبَلَغ أَبَا بَكْر رَضِي اللَّه عَنْه ذَلِك فَقَال لَه لَوْلَا مَا فَعَلْت لأمَرْتُك بِقَتْلِهَا لِأَنّ حَدّ الْأَنْبِيَاء لَيْس يُشْبه الحُدُود وَعَن ابن عَبَّاس هَجَت امْرَأة من خَطْمَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَالَ (مَنْ لِي بِهَا؟) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَهَضَ فَقَتَلَهَا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال (لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عنزان) وعن أبى عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْتُمُهُ فَقَتَلَهَا وَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَهْدَرَ دَمَهَا، وَفِي حَدِيث أَبِي بَرْزَة الأسلمي كُنْت يَوْمًا جَالِسًا عِنْد أَبِي بَكْر الصديق فَغَضب عَلَى رَجُل مِن الْمُسْلِمِين وَحَكَى الْقَاضِي إِسْمَاعِيل وَغَيْر وَاحِد مِن الْأَئِمَّة فِي هَذَا الْحَدِيث أنه سَبّ أَبَا بكر وَرَوَاه النَّسَائِي: أتيت أَبَا بَكْر وَقَد أغلظ لرجل فرد عَلَيْه قَال فَقُلْت

_ (قوله ولا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ) أي لا يجرى فِيهَا خُلْف وَلَا نزاع (قوله أبى برزة) بموحدة مفتوحة وراء ساكنة بعدها زاى اسمه فضلة بن عبيد على الصحيح (*)

يَا خليفة رَسُول اللَّه دعني أضرب عنقه فَقَال: اجلس فليس ذَلِك لأحد إلَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، قَال الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بن نصر وَلَم يُخَالِف عَلَيْه أَحَد، فَاسْتَدَلّ الْأَئِمَّة بَهَذَا الْحَدِيث عَلَى قَتْل من أغْضَب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِكُلّ مَا أغْضَبه أو آداه أَو سَبّه وَمِن ذَلِك كِتَاب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إِلَى عَامِله بِالكُوفَة وَقَد استشَارَه فِي قَتْل رَجُل سَبّ عُمَر رَضِي اللَّه عَنْه فَكَتَب إليْه عُمَر: أنَّه لَا يَحِلّ قَتْل امْرِئ مُسْلِم بسَبّ أحد مِن النَّاس إلَّا رَجُلًا سَبّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَمَن سَبَّه فَقَد حَلّ دَمُه، وَسَأل الرَّشيد مالِكًا فِي رَجُل شَتَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَذَكَر لَه أَنّ فُقَهَاء الْعِرَاق افْتَوْه بِجَلْدِه فَغَضب مَالِك وَقَال: يَا أَمِير الْمُؤْمِنين مَا بَقَاء الْأُمَّة بَعْد شَتْم نَبِيّهَا؟ من شَتَم الْأَنْبِيَاء قُتِل وَمِن شَتَم أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم جُلِد. قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل: كذا وَقَع فِي هَذِه الحكاية رواها غَيْر وَاحِد من أَصْحَاب مناقب مَالِك ومؤلفي أخباره وَغَيْرِهِم وَلَا أدري من هَؤْلَاء الفقهاء بالعراق الَّذِين أفتوا الرشيد بِمَا ذَكَر وَقَد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله ولعلهم مِمَّن لَم يشهر بعلم أو من لَا يوثق بفتواه أو يميل بِه هواه أو يَكُون مَا قاله يحمل عَلَى غَيْر السب فيكون الخِلَاف هَل هُو سَبّ أو غَيْر سَبّ أو يَكُون رجع وتاب عَن سبه فَلَم يقله لمالك عَلَى أصله وَإِلَّا فالإجماع عَلَى قَتْل من سَبَّه كَمَا قَدّمْنَاه وَيَدُل عَلَى قَتْلِه من جِهَة النّظَر وَالاعتْبَار أَنّ من سَبَّه أو تَنَقّصَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَد ظَهَرَت عَلَامَة مَرَض قَلْبِه وَبُرْهَان سرطويته وَكُفْرِه، ولهذا مَا حَكَم لَه كَثِير مِن

فصل فإن قلت فلم لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي الذى قال له السام عليكم

الْعُلمَاء بالرَّدّة وَهِي رِوَايَة الشّامِيّين عَن مَالِك والأوْزَاعِيّ وقول الثَّوْرِيّ وأبي حنيفة وَالكوَفِيّين والقول الآخر أنَّه دليل عَلَى الكُفْر فَيُقْتَل حَدًّا وإن لَم يُحْكَم لَه بالكُفْر إلَّا أَنّ يُكُون مُتَمَادِيًا عَلَى قَوْلِه غَيْر مُنْكِر لَه وَلَا مُقْلِع عَنْه فَهَذَا كافِر، وَقَوْلُه إِمَّا صَرِيح كُفْر كالتّكْذِيب وَنَحْوِه أو من كَلِمَات الاسْتِهْزَاء وَالذَّمّ فاعْتِرَافُه بِهَا وَتَرَك تَوْبَتِه عَنْهَا دَلِيل اسْتِحْلالِه لِذَلِك وَهُو كُفْر أيْضًا فَهَذَا كَافِر بِلَا خِلَاف قَال اللَّه تَعَالَى فِي مِثْلِه (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كلمة الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسلامهم) قَال أَهْل التَّفْسِير هِي قَوْلُهُم إن كَان مَا يَقُول مُحَمَّد حَقًا لَنَحْن شَرّ مِن الْحَمِير وَقِيل بَل قَوْل بَعْضُهُم مَا مثلنا ومِثْل مُحَمَّد إلَّا قَوْل القائل سَمّن كَلْبَك يأْكُلك و (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ منها الأذل) وَقَد قِيل إن قائل مِثْل هَذَا إن كَان مُسْتَتِرًا بِه أَنّ حُكْمَه حُكْم الزَّنْدِيق يُقْتَل ولِأَنَّه قَد غَيّر دِينَه وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ) ولأن لِحُكْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي الْحُرْمَة مَزِيَّة عَلَى أمَّتَه وَسَابّ الْحُرّ من أمَّتَه يُحَدّ فَكَانَت العُقُوبَة لِمَن سَبَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم القَتْل لِعَظِيم قَدْرِه وَشُفُوف مَنْزِلَتِه عَلَى غَيْرِه فصل فَإِنّ قُلْت فَلَم لَم يَقْتُل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم اليَهُودِيّ الَّذِي قَال لَه السَّام عَلَيْكُم وَهَذَا دُعَاء عَلَيْه وَلَا قَتَل الآخَر الَّذِي قَال لَه إن هَذِه لَقِسْمَة

_ (قوله وشفوف) بضم الشين المعجمة وتخفيف الفاء أي فضل منزلته (*)

مَا أُريد بِهَا وجْه اللَّه وَقَد تَأذّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من ذَلِك وَقَال قَد أُوذِي مُوسَى بأكْثَر من هَذَا فَصَبَر وَلَا قَتَل المُنَافِقِين الَّذِين كَانُوا يُؤْذُونه فِي أَكْثَر الأحْيَان؟ فَاعْلَم وفقنا اللَّه وإياك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أَوَّل الْإِسْلَام يَسْتَألِف عَلَيْه النَّاس وَيُمَيّل قُلُوبَهُم وَيَمِيل إليْه ويجيب إِلَيْهِم الْإِيمَان وَيُزَيّنُه فِي قُلُوبِهِم وَيُدَارِئُهُم وَيَقُول لأصحابه إنَّمَا بُعثْتُم مُيَسَرِين وَلَم تُبْعَثُوا مُنَفّرِين وَيَقُول (يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا) وَيَقُول (لَا يَتَحَدَّثِ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) وَكَان صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُدَارِي الكُفّار والْمُنَافِقِين وَيُجْمل صُحْبَتَهُم وَيُغْضِي عَنْهُم وَيَحْتَمِل من أذَاهُم وَيَصْبِر عَلَى جَفَائهِم مَا لَا يَجُوز لَنَا الْيَوْم الصّبْر لَهُم عَلَيْه وَكَان يُرْفِقُهُم بالْعَطَاء وَالإحْسَان وبذلك أمَرَه اللَّه تَعَالَى فَقَال تَعَالَى (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وَقَالَ تَعَالَى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ ولى حميم) وَذَلِك لِحَاجَة النَّاس لِلتَّألُّف أَوَّل الْإِسْلَام وَجَمْع الْكَلِمَة عَلَيْه فَلَمّا اسْتَقَرّ وَأظْهَرَه اللَّه عَلَى الدَّين كُلُّه قَتَل من قَدَر عَلَيْه واشْتَهَر أمْرُه كَفِعْلِه بابن خَطِل وَمِن عهد بِقَتْله يَوْم الْفَتْح وَمِن أمْكَنَه قَتْلُه غِيلَة من يَهُود وَغَيْرِهِم أَو غَلبَة مِمَّن لَم يُنْظِمْه قَبْل سِلْك صُحْبَتِه والانحراط فِي جُمْلة مُظْهِري الإيمَان بِه مِمَّن كَان يُؤْذِيه كَابْن

_ (قوله ويرفقهم بالعطاء) في الصحاح الرفق ضد العنف وقد رفق به يرفق. وحكى أبو زيد رفقت به بمعنى (15 - 2) (*)

الأشْرَف وأبي رافِع والنظر وعُقْبَة وَكَذَلِك نَدَر دم جمَاعَة سواهم ككعب ابن زهير وابن زبعر وَغَيْرِهِمَا مِمَّن آذَاه حَتَّى ألْقَوْا بأيْدِيهِم ولَقُوه مسلمين وَبوَاطِن المنافقين مُسْتَتِرَة وَحُكْمُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى الظَّاهِر وأكْثَر تِلْك الكلمات إنَّمَا كَان يَقُولُهَا القَائِل مِنْهُم خُفْيَة ومع أمْثَالِه وَيَحْلِفُون عَلَيْهَا إذَا نُمِيَت وَيُنْكِرُونَهَا وَيَحْلِفُون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وَكَان مَع هَذَا يَطْمَع فِي فَيْأَتِهِم وَرُجُوعِهِم إِلَى الْإِسْلَام وَتَوْبَتِهِم فَيَصْبر صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم عَلَى هَنَاتِهِم وَجَفْوَتِهِم كما صبر أولو العَزْم مِن الرُّسُل حَتَّى فاء كثير مِنْهُم باطنًا كَمَا فاء ظاهرًا وأخلص سرًا كَمَا أظهر جهرًا ونفع اللَّه بعد بكثير مِنْهُم وقام مِنْهُم للدين وزراء وأعوان وحماة وأنصار كَمَا جَاءَت بِه الْأَخْبَار وبهذا أجاب بَعْض أئمتنا رحمهم اللَّه عَن هَذَا السؤال قَال ولعله لَم يثبت عِنْدَه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم من أقوالهم مَا رُفِع وَإِنَّمَا نَقَلَه الوَاحِد وَمِن لَم يَصِل رُتْبَة الشّهَادَة فِي هَذَا الْبَاب من صَبيّ أو عَبْد أَو امْرَأة وَالدّمَاء لَا تُسْتَبَاح إلَّا بِعَدْلَيْن وَعَلَى هَذَا يُحْمَل أمْر اليَهُودِيّ فِي السَّلَام وَأَنَّهُم لَوَّوْا بِه ألْسِنَتَهُم وَلَم يُبَيّنُوه أَلَا تَرَى كَيْف نَبّهَت عَلَيْه عَائِشَة وَلَو كَان صَرّح بِذَلِك لَم تَنْفَرِد بِعِلْمِه ولهذا نَبّه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أصْحَابَه عَلَى فِعْلِهِم وَقِلّة صِدْقِهِم فِي فِعْلِهِم وَقِلّة صِدْقِهِم فِي

_ (قوله وابن الزبعرى) بكسر الزاى وفتح الموحدة وسكون العين المهملة والقصر في الأصل السيئ الخلق، وقال أبو عبيدة: الكثير شعر الوجه والحاجبين واللحيين (قوله فيأتهم) أي رجوعهم (قوله حتى فاء) بالمد: أي رجع (*)

سَلامِهِم وخيَانَتِهِم فِي ذَلِك ليًا بِأَلْسَنَتِهِم وطَعْنًا فِي الدين فَقَال إنّ اليَهُود إذَا سَلّم أحدُهُم فَإنَّمَا يَقُول السَّام عَلَيْكُم فَقُولُوا عَلَيْكُم وَكَذَلِك قَال بَعْض أصْحَابِنَا البَغْدَادِيّين إنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَم يَقْتُل الْمُنَافِقِين بِعِلْمِه فِيهِم وَلَم يَأْت أنَّه قامِت بينه على نِفَاقِهِم فلذلك تَرَكَهُم وأيضا فَإِنّ الأمر كَان سِرًّا وباطِنًا وَظَاهِرُهُم الْإِسْلَام والإيمان وإن كَان من أَهْل الذَّمّة بالعَهْد وَالجِوَار وَالنَّاس قَرِيب عَهْدُهُم بالْإِسْلَام لَم يَتَميّز بَعْد الخَبِيث مِن الطيب وَقَد شَاع عَن المَذْكُورِين فِي الْعَرَب كَوْن من يُتَّهَم بالنَّفَاق من جُمْلَة الْمُؤْمِنين وَصَحَابَة سَيّد الْمُرْسَلِين وَأنصار الدّين بحُكْم ظَاهِرِهم فلو قَتَلَهُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِنفَاقِهِم وَمَا يَبْدُر مِنْهُم وَعِلْمِه بِمَا أسَرُّوا فِي أنْفُسِهِم لوَجَد المُنَفَّر مَا يَقُول ولا ارتبا الشَّارِد وَأرْجَف المُعَانِد وَارْتَاع من صُحْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَالدُّخُول فِي الْإِسْلَام غَيْر وَاحِد وَلَزَعَم الزَّاعِم وَظَنّ الْعَدُوّ الظّالِم أَنّ الْقَتْل إنَّمَا كَان لِلْعَدَاوة وَطَلَب أخْذ التّرة وَقَد رَأَيْت مَعْنَي مَا حَرَرْتُه مَنْسُوبًا إِلَى مالك بن أنس رحمه الله ولهذا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَا يَتَحَدَّثِ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ أُولِئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ وَهَذَا بِخِلَافِ إِجْرَاءِ الأَحْكَام الظَّاهِرة عَلَيْهِم من حدود الزنا وَالْقَتل وَشبْهِه لِظُهُورِهَا وَاسْتِوَاء النَّاس فِي عِلْمِهَا وَقَد قَال مُحَمَّد بن المَوّاز لَو أَظْهَر الْمُنَافِقُون نَفَاقَهُم لَقَتَلَهُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وقاله الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن بن الْقَصّار، وَقَال قَتَادَة في تفسير

_ (قوله أخذ الترة) بكسر المثناة الفوقفية وتره يتره ترة إذا لم يدرك دم قتيله (*)

قَوْلِه تَعَالَى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا سُنَّةَ اللَّهِ) الآيَة، قَال مَعْنَاه إذَا أظْهَرُوا النّفَاق، وَحَكى مُحَمَّد بن مَسْلَمَة فِي المَبْسُوط عَن زَيْد بن أسْلَم أَنّ قَوْلَه تعالى (يا أيها النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) نَسَخَها مَا كَان قبلها وَقَال بَعْض مَشَايِخَنَا لَعَلّ القَائِل هَذِه قِسْمَة مَا أُرِيد بِهَا وَجْه اللَّه وَقَوْلُه أعْدِل لَم يَفْهَم النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منه اطعن عَلَيْه وَالتَّهَمَة لَه وَإِنَّمَا رَآهَا من وَجْه الغَلَط فِي الرَّأْي وَأُمُور الدُّنْيَا وَالاجْتِهَاد فِي مَصَالِح أهْلِهَا فَلَم يَر ذَلِك سَبًّا وَرَأى أنَّه مِن الأذَى الَّذِي لَه العَفْو عَنْه والصّبْر عَلَيْه فلذلك لَم يُعَاقِبْه وكَذَلِك يُقَال فِي اليَهُود إِذ قَالُوا السَّام عَلَيْكُم لَيْس فِيه صَرِيح سَبّ وَلَا دُعَاء إلَّا بِمَا لَا بُد مِنْه مِن الموت الَّذِي لَا بُد من لِحَاقِه جميع البَشَر وَقِيل بَل المراد؟ ؟ ؟ لون دِينَكُم وَالسّأْم وَالسّآمة المَلَال وَهَذَا دُعَاء عَلَى سَآمة الدين لَيْس بِصَريح سَبّ ولهذا تَرْجَم الْبُخَارِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيث (باب إذَا عَرَّض الذّمّيّ أَو غَيْرِه بِسَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم) قَال بَعْض عُلَمَائِنَا وَلَيْس هَذَا بِتَعْرِيض بالسّبّ وَإِنَّمَا هُو تَعْرِيض بالأذَى قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل قَد قَدَّمْنَا أَنّ الأذَى والسّبّ فِي حَقّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم سَوَاء وَقَال الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بن نَصْر مُجيبًا عَن هَذَا الْحَدِيث ببعض مَا تقدم ثُمّ قَال ولم يذكر

_ (قوله نَسَخَها مَا كَان قبلها) كذا في كثير من النسخ والصواب ما في بعضها وهو (نسخت مَا كَان قبلها) لأن الناسخ لا يكون قبل المنسوخ (قوله فَلَم يَر ذَلِك سبا) بالسين المهملة والموحدة المشددة وفى بعض النسخ شيئا بالمعجمة والهمزة (*)

فِي الْحَدِيث هَل كَان هَذَا اليَهُودِيّ من أَهْل العَهْد والذّمّة أَو الْحَرْب وَلَا يترك موجب الأدلة للأمر المحتمل والأولى فِي ذَلِك كُلُّه والأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف والمداراة عَلَى الدين لعلهم يؤمنون وَلِذَلِك ترجم الْبُخَارِيّ عَلَى حَدِيث القسمة والخوارج (باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر النَّاس عَنْه) ولما ذكرنا مَعْنَاه عَن مَالِك وقررناه قَبْل وَقَد صبر لَهُم صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى سحره وسمه وَهُو أعظم من سبه إِلَى أَنّ نصره اللَّه عَلَيْهِم وأذن لَه فِي قتل من حينه مِنْهُم وإنزالهم من صياصبهم وقذف فِي قلوبهم الرعب وكتب عَلَى من شاء منهم الجلاء وأخرجهم من ديارهم وخرب بيوتهم بأيديهم وأيدي الْمُؤْمِنين وكاشفهم بالسب فَقَال يَا إخوة القردة والخنازير وحكم فِيهِم سيوف الْمُسْلِمِين وأجلاهم من جوارهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم لتكون كلمة اللَّه هِي العليا وكلمة الَّذِين كفروا السفلى فَإِنّ قُلْت فَقَد جاء فِي الْحَدِيث الصَّحِيح عَن عَائِشَة رضي اللَّه عَنْهَا أنَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شئ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ) فاعْلَم أَنّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أنَّه لَم يَنْتَقِم مِمَّن سَبَّه أَو آذَاه أَو كَذّبَه فَإِنّ هَذِه من حُرُمات اللَّه الَّتِي انْتَقَم لَهَا وَإِنَّمَا يَكُون مَا لَا يَنتَقِم مِنْه لَه فِيمَا تَعَلّق بِسُوء أدَب أَو مُعَامَلَة مِن القَوْل والفِعْل بالنّفْس وَالمَال مِمَّا لم يَقْصُد فاعِلُه بِه أذَاه لَكِن مِمَّا جُبِلَت عَلَيْه

_ (قوله من حينه) بمهملة مفتوحة ومثناة تحتية مشددة ونون أي أراد هلاكه من الحين بفتح المهملة وهو الهلاك (قوله من صياصهم) أي حصونهم (*)

الأعراب مِن الجَفَاء والجهل أو جبل عَلَيْه البَشَر مِن السّفَه كَجَبْذ الْأَعْرَابِيّ إزَارَه حَتَّى أثّر فِي عُنُقِه وكرَفْع صَوْت الآخَر عِنْدَه وَكَجَحْد الْأَعْرَابِيّ شِرَاءَه مِنْه فَرَسَه الَّتِي شهد فِيهَا خزيمة وكما كَان من تظاهر زوجيه عَلَيْه وأشباه هَذَا مِمَّا يحسن الصفح عَنْه وَقَد قَال بَعْض علمائنا إنّ أذى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حرام لَا يجوز بفعل مباح وَلَا غَيْرِه وَأَمَّا غَيْرِه فيجوز بفعل مباح مِمَّا يجوز للانسان فعله وَإِنّ تأذى بِه غَيْرِه واحتج بعموم قَوْلِه تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الدنيا والآخرة) وبقوله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي حَدِيث فاطمة (إنما بِضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا أَلَا وَإِنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنْ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَةُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا) أَو يَكُون هَذَا مِمَّا آذَاه بِه كَافِر رَجَا بَعْد ذَلِك إسلامه كَعَفْوه عَن اليهودي الَّذِي سحره وَعَن الْأَعْرَابِيّ الَّذِي أراد قتله وَعَن اليهودية الَّتِي سمته وَقَد قِيل قتلها ومثل هَذَا مِمَّا يبلغه من أذى أَهْل الْكِتَاب والمنافقين فصفح عَنْهُم رجاء استئلافهم واستئلاف غَيْرِهِم كَمَا قررناه قَبْل وبالله التوفيق

_ (قوله كَجَبْذ الْأَعْرَابِيّ إزَارَه) قال المزى لا يصح أن يكون للإزار ذكر هنا لأن الإزار ما يتزر به الإنسان في وسطه والرداء ما يجعله على عاتقه وأكتافه والرواية في الحديث بردائه ويقع ذَلِك فِي بَعْض النسخ (قوله زوجيه) بمثناة تحتية ساكنة (*)

فصل قال القاضى تقدم الكلام في قتل القاصد لسبه والإزراء به

فصل قَال الْقَاضِي تقدم الْكَلَام فِي قَتْل القاصِد لِسَبّه وَالإزْرَاء بِه وَغَمْصِه بأيّ وَجْه كَان من مُمْكِن أَو مُحَال فَهَذَا وَجْه بَيْن لَا إشْكَال فِيه * الْوَجْه الثاني لَا حَقّ بِه فِي الْبَيَان وَالْجَلَاء وَهُو أن يَكُون الْقَائِل لَمّا قَال فِي جِهَتِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم غَيْر قَاصِد لِلسّبّ وَالْإزْرَاء وَلَا مُعْتِقَد لَه ولكنه تَكَلّم فِي جِهَتِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِكَلِمَة الْكُفْر من لَعْنِه أَو سَبَّه أَو تَكذيبِه أَو إضَافَة مَا لَا يَجُوز عَلَيْه أَو نَفْي مَا يجيب لَه مِمَّا هُو فِي حَقّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم نَقِيصَة مِثْل أَنّ يَنْسِب إليْه إتْيَان كَبِيرَة أَو مُداهَنَة فِي تبليغ الرّسَالة أَو فِي حُكْم بَيْن النَّاس أَو يَغُضّ من مَرْتبته أَو شَرَف نَسَبَه أَو وُفُور عِلْمِه أَو زُهْدِه أَو يُكَذّب بِمَا اشْتَهَر من أُمُور أخْبَر بِهَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وتَوَاتَر الْخَبَر بِهَا عَن قصْد لِرَد خَبَرِه أَو يَأْتِي بِسَفَه مِن الْقَوْل أَو قَبِيح مِن الْكَلَام ونوع مِن السَّبّ فِي جِهَتِه وإن ظَهَر بِدَلِيل حَالِه أنَّه لَم يَعْتَمِد ذَمّه وَلَم يَقْصِد سَبَّه إِمَّا لِجَهَالَة حملته عَلَى مَا قاله أَو لِضَجِر أَو سُكْر أضْطَرّه إليْه أَو قِلّة مُرَاقَبَة وَضَبْط لِلسَانِه. وعَجْرَفَة وَتَهَوُّر فِي كَلَامِه فَحُكْم هَذَا الْوَجْه حُكْم الْوَجْه الأوّل الْقَتْل دون تَلَعْثُم إِذ لَا يُعْذَر أَحَد فِي الْكُفْر بِالْجَهَالَة وَلَا بدعوى زلل اللسان ولا بشئ مِمَّا ذكرناه إذَا

_ (قوله أو لضجر) أي لقلق (قوله وعجرفة) في الصحاح جمل به تعجرف وعجرفة كان فيه خرقا وقلة مبالاة لسرعته (قوله وَتَهَوُّر فِي كَلَامِه) التهور الوقوع في الشئ بقلة مبالاة (قوله دون تلعثم) في الصحاح تلعثم الرجل في الأمر إذا تمكث فيه (*)

فصل الوجه الثالث أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله

كَان عقله فِي فطرته سليمًا إلَّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وبهذا أفتى الأندلسيون عَلَى ابن حَاتِم فِي نَفْيه الزُّهْد عَن رسول الله صلى الله تَعَالَى عليه وآله وسلم الَّذِي قَدّمْنَاه وَقَال مُحَمَّد بن سُحْنُون فِي المَأمُور يَسُبّ النَّبِيّ صلى الله تعالى عَلَيْه وَسَلَّم فِي أيْدِي العَدُوّ يُقْتَل إلَّا أن يُعْلَم تَبَصُّرُه أَو إكْرَاهُه وَعَن أَبِي محمد ابن أَبِي زيد لَا يُعْذَر بدَعْوَى زَلَل اللسان فِي مِثْل هَذَا وَأفْتى أبو الحسن القابسي فِيمَن شَتَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي سُكْره يُقْتَل لِأَنَّه يُظَنّ بِه أنَّه يَعْتَقِد هَذَا ويَفْعَلُه فِي صَحْوِه وَأيْضًا فَإنَّه حَد لَا يُسْقِطُه السُّكْر كَالْقَذْف وَالْقَتْل وَسَائِر الحُدُود لِأَنَّه أدْخَلَه عَلَى نَفْسِه لِأَنّ من شَرِب الخَمْر عَلَى عِلْم من زَوَال عَقْلِه بِهَا وَإتْيَان مَا يُنْكَر مِنْه فَهُو كَالْعَامِد لَمّا يَكُون بِسَبَبِه وَعَلَى هذا ألْزَمْنَاه الطّلَاق وَالْعِتَاق وَالْقِصَاص وَالحُدُود وَلَا يُعْتَرَض عَلَى هَذَا بِحَدِيث حَمْزَة وَقَوْلُه للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وهل أنْتُم إلا عبيد لأبى قَال فَعَرَف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أنَّه ثمل فَانْصَرَف لِأَنّ الخَمْر كَانَت حِينَئِذ غَيْر مُحَرّمة فَلَم يَكُن فِي جِنَايَاتَها إثْم وَكَان حُكْم مَا يَحْدُث عَنْهَا مَعْفُوا عَنْه كَمَا يَحْدُث مِن النّوْم وَشُرْب الدّوَاء الْمَأْمُون فصل الْوَجْه الثالث أَنّ يقصد إِلَى تَكْذيبه فِيمَا قاله أَو أتى بِه أَو وُجُودَه أَو يَكْفُر أَو يَنْفِي نُبُوّتَه أو رسالته بِه انْتَقَل بِقَوْلِه ذَلِك إلى دِين آخر غير

_ ثمل بفتح المثلثة وكسر الميم: أي سكران، يقال ثمل الرجل بالكسر، ثملا: إذا أخذ فيه الشراب. (*)

مِلّتِه أم لَا؟ فَهَذَا كَافِر بإجْمَاع يَجِب قَتْلُه ثُمّ يُنْظَر فإن كَان مُصَرّحًا بِذَلِك كَان حُكْمُه أشْبَه بِحُكْم الْمُرْتَد وَقِوي الخِلَاف فِي اسْتِتَابِتِه وَعَلَى القَوْل الآخَر لَا تُسْقِط القَتْل عنه تَوْبَتُه لِحَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إنّ كَان ذَكَرَه بِنقِيصَة فِيمَا قاله من كَذِب أَو غَيْرِه وَإِنّ كَان متسترا بِذَلِك فَحُكْمُه حُكْم الزَّنْدِيق لَا تُسْقِط قَتْلَه التّوْبَة عِنْدَنَا كَمَا سَنُبَيّنُه قَال أَبُو حنيفة وأصحابه من برئ من مُحَمَّد أَو كَذب بِه فَهُو مُرْتَد حَلَال الدَّم إلَّا أن يَرْجِع وَقَال ابن الْقَاسِم فِي المسلم إذَا قَال إنّ مُحَمَّدًا ليس بنبي أو لَم يُرْسَل أَو لم ينزل عليه قُرْآن وَإِنَّمَا هُو شئ تَقَوّلَه يُقْتَل وَقَال وَمِن كَفَر بِرسول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وأنْكَرَه مِن الْمُسْلِمِين فَهُو بِمَنْزِلَة المُرْتَد وَكَذَلِك من أعْلَن بِتَكْذِيبه أنَّه كَالْمُرْتَد يُسْتَتَاب وَكَذَلِك قَال فِيمَن تَنَبّأ وزعم أنه يُوحَى إليه وقاله سُحْنُون وَقَال ابن الْقَاسِم دعا إِلَى ذَلِك أَو جهرا وقال أصبغ وَهُو كَالْمُرْتَد لِأَنَّه قَد كَفَر بِكِتَاب اللَّه مَع الْفِرْيَة عَلَى اللَّه وَقَال أشْهَب فِي يَهُودِيّ تَنَبّأ أَو زَعَم أنَّه أُرْسل إِلَى النَّاس أَو قَال بَعْد نَبِيكُم نَبِيّ أنَّه يُسْتَتَاب إنّ كَان مُعْلِنًا بِذَلِك فإن تَاب وَإِلَّا قُتِل وَذَلِك لِأَنَّه مُكَذّب للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي قَوْلِه لَا نَبِيّ بَعْدِي مفتر عَلَى اللَّه فِي دعواه عَلَيْه الرسالة والنبوة، وَقَال مُحَمَّد بن سحنون من شك فِي حرف مِمَّا جاء بِه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم عن اللَّه فَهُو كافر جاحد، وَقَال: من كذب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كَان حكْمُه عِنْد

فصل الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل ويلفظ من القول بمشكل

الْأُمَّة القتل، وَقَال أَحْمَد بن أَبِي سُلَيْمَان صاحب سحنون: من قال إن النبي صلى الله عَلَيْه وَسَلَّم أسْوَد قتل. لم يمكن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بأَسْوَد وَقَال نَحْوَه أَبُو عُثْمَان الْحدَّاد قَال: لَو قَال إنَّه مات قَبْل أن يَلْتَحِي أَو أنَّه كان بناهرت وَلَم يَكُن بِتِهَامَة قتل لِأَنّ هَذَا نَفْي قَال حبيب بن ربيع تَبْدِيل صِفَتِه وَمَوَاضِعِه كُفْر والْمُظْهرُ له كافِر وَفِيه الاسْتِتَابَة وَالمُسِرّ لَه زِنْدِيق يُقْتَل دون اسْتِتَابَة فصل الْوَجْه الرابع أن يَأْتِي مِن الْكَلَام بِمُجْمَل وَيَلْفظ مِن القَوْل بِمُشْكِل يمكن حمله عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو غَيْرِه أَو يُتَرَدّد فِي المُرَاد بِه من سَلَامِتِه مِن الْمَكْرُوه أَو شَرّه فَههُنَا مُتَرَدّد النَظَر وَحَيْرَة الْعِبَر وَمَظنَّه اخْتِلَاف المُجْتَهِدِين ووقفة اسْتِبْرَاء المُقَلّدِين لِيَهْلِك من هلك عَن بَيّنَة وَيَحْيَا من حَيّ عَن بَيّنَة فَمِنْهُم من غَلّب حُرْمَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَحَمى حِمى عِرْضِه فَجَسَر عَلَى الْقَتْل وَمِنْهُم من عَظّم حُرْمَة الدم

_ ثمل الرجل بالكسر ثملا إذا أخذ فيه الشراب (قوله بتهامة) بكسر الفوقية اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز ومكة من التهم بفتح التاء والهاء وهو شدة الحر وركود اللريح وقال ابن قرقول سميت بذلك لتغير هوائها يقال تهم الرهن إذا تغير (قوله متردد) بفتح الراء والدال الأولى المشددة (قوله وحيرة العبر) الحيرة بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية والعبر بكسر العين المهملة وفتح الموحدة (قوله ومظنة) بفتح الميم وكسر الظاء المعجمة وتشديد النون، في الصحاح مظنة الشئ موضعه ومألفه الذى يظن كونه فيه (*)

وَدَرَأ الحَد بالشّبْهَة لاحْتِمَال القَوْل وَقَد اخْتُلِف أئِمّتُنا فِي رَجُل أغْضَبَه غَريمُه فَقَال لَه صلّ عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَال لَه الطَّالِب لَا صَلَّى اللَّه عَلَى من صَلَّى عَلَيْه فَقِيل لِسُحْنُون هَل هُو كَمَن شَتَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو شَتم الْمَلَائِكَة الَّذِين يُصَلُّون عَلَيْه؟ قَال: لَا إذَا كَان عَلَى مَا وَصَفْت من الغَضَب لأنه لم يَكُن مُضْمِرًا الشّتْم، وَقَال أَبُو إِسْحَاق البَرْقِيّ وأصْبَغ بن الفَرَج لَا يُقْتَل لِأَنَّه إنَّمَا شَتَم النَّاس وَهَذَا نَحْو قَوْل سُحْنُون لِأَنَّه لَم يَعْذِرْه بالغضَب فِي شَتَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ولكنه لَمّا احْتَمَل الْكَلَام عِنْدَه وَلَم تكن مَعَه قَرِينَة تَدُلّ عَلَى شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو شَتْم الْمَلَائِكَة صَلَوات اللَّه عَلَيْهِم وَلَا مُقَدّمَة يُحْمِل عَلَيْهَا كلامه بَل القرينة تدل عَلَى أَنّ مراده النَّاس غَيْر هَؤْلَاء لِأَجْل قَوْل الآخر لَه صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ فحمل قَوْله وسبه لِمَن يُصَلّي عَلَيْه الآن لأجْل أمْر الآخَر لَه بَهَذَا عِنْد غضبه هَذَا معنى قوله سُحْنُون وهو مطابق لعلة صاحبيه وذهب الحَارِث بن مسكين الْقَاضِي وَغَيْرُه فِي مِثْل هَذَا لإلى القتل وتوقف أَبُو الْحَسَن القابسي فِي قَتْل رَجُل قَال كُلّ صَاحِب فُنْدُق قَرْنان وَلَو كَان نَبِيًّا مُرْسلًا فأمَر بِشَدّه بالقُيُود وَالتّضْيِيق عَلَيْه حَتَّى يُسْتَفْهَم البَيّنَة عَن جُمْلَة ألفَاظِه وَمَا يَدُلّ عَلَى مَقْصدِه هَل أرَاد أصْحَاب الفَنَادق الآن فَمَعْلُوم أنَّه لَيْس فِيهِم نَبِيّ مُرْسل فيكون أمْرُه أخفّ قَال وَلَكِن ظَاهِر لَفْظِه العُمُوم لِكُلّ صَاحِب فُنْدُق مِن المُتَقَدّمِين وَالْمُتأخّرِين

وَقَد كَان فِيمَن تَقدّم مِن الْأَنْبِيَاء والرُّسُل مِن اكْتَسَب الْمَال قَال وَدَم المسلم لَا يُقْدَم عَلَيْه إلَّا بِأَمْر بَيْن وَمَا تُرَدّ إليه التأويلات لَا بُد من إمْعان النَّظَر فِيه هَذَا مَعْنَي كلامه وحُكي عَن أَبِي مُحَمَّد بن أَبِي زَيْد رَحِمَه اللَّه فِيمَن قَال لَعَن اللَّه العَرَب وَلَعَن اللَّه بَنِي إِسْرَائِيل ولعن اللَّه بَنِي آدَم وَذَكَر أنَّه لَم يُرد الْأَنْبِيَاء وَإِنَّمَا أرَدْت الظّالمِين مِنْهُم أَنّ عَلَيْه الأدَب بِقَدْر اجْتِهَاد السُّلْطَان وَكَذَلِك أفْتى فِيمَن قَال: لعن اللَّه من حرم المسكر وَقَال لَم أَعْلَم من حَرّمَة وفيمن لَعَن حَدِيث لَا يَبَع حاضَر لِبَاد ولعن مَا جاء بِه أنَّه إنّ كَان يُعْذَر بالجَهل وعدم معرفة السُّنَن فَعَلَيْه الأدب الْوَجِيع وَذَلِك أَنّ هَذَا لَم يَقْصد بِظَاهِر حاله سَبّ اللَّه وَلَا سَبّ رَسُولِه وَإِنَّمَا لعن من حَرّمَه مِن النَّاس عَلَى نَحْو فَتْوى سُحْنُون وأصحابه فِي المَسْأَلَة المُتَقَدّمَة ومثل هَذَا مَا يَجْرِي فِي كَلَام سُفَهَاء النَّاس من قوله بَعْضُهُم لِبَعْض - يَا ابْن أَلْف خِنْزِير، ويا ابن مِائَة كَلْب - وَشِبْهِه من هُجْر القَوْل وَلَا شك أنَّه يَدْخل فِي مِثْل هَذَا العدد من آبائه وأجْدَادِه جَمَاعَة مِن الْأَنْبِيَاء وَلَعَلّ بَعْض هَذَا العَدَد مُنْقَطِع إِلَى آدَم عَلَيْه السلام فيبلغني الزّجْر عَنْه وتبيين مَا جهل قائله مِنْه وشدة الأدَب فِيه وَلَو علم أنَّه قَصَد سَبّ من فِي آبائِه مِن الْأَنْبِيَاء عَلَى علم لَقُتِل وَقَد يُضَيَّق القَوْل فِي نَحْو هَذَا لَو قال لرجل هاشمى لعن الله بنى هاشم، وقال: أرَدْت الظّالمِين مِنْهُم أو قَال لِرَجُل من ذُرّيّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَوْلًا قَبيحًا فِي آبائِه أَو من نَسْلِه أَو وَلَدِه عَلَى علم مِنْه أنَّه من ذُرّيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَلَم تكن

قَرِينَة فِي المَسْأَلَتَيْن تَقْتَضِي تَخْصِيص بَعْض آبائه وإخْرَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِمَّن سَبَّه مِنْهُم وَقَد رَأَيْت لأبي مُوسَى بن مَنَاس فِيمَن قَال لِرَجُل لَعَنَك اللَّه إِلَى آدَم عَلَيْه السَّلَام أنَّه إن ثَبَت عَلَيْه ذَلِك قُتِل قَال الْقَاضِي وَفَّقَه اللَّه وَقَد كَان اخْتَلَف شُيُوخُنَا فِيمَن قَال لِشَاهِد شَهِد عليه بشئ ثُمّ قَال لَه تَتّهِمُنِي؟ فَقَال لَه الآخَر: الْأَنْبِيَاء يُتّهَمون فَكَيْف أنْت؟ فكان شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاق بن جَعْفَر يرى قَتْلَه لِبَشَاعَة ظَاهِر اللفظ وَكَان الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بن مَنْصُور يتوقف عَن القتل الاحتمال اللَّفْظ عِنْدَه أن يَكُون خَبَرًا عَمَّن اتّهَمَهُم مِن الْكُفَّار وَأفْتَى فِيهَا قاضِي قُرْطُبَة أَبُو عَبْد اللَّه بن الْحَاجّ بِنَحْو من هَذَا وَشَدَّد الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد تَصْفِيدَه وَأطَال سجْنَه ثُمّ اسْتحْلَفَه بَعْد عَلَى تَكْذِيب مَا شُهد بِه عليه إذ دَخَل فِي شَهَادَة بعض من شهد عليه وهن ثم أطْلَقَه وَشَاهَدْت شَيْخَنَا الْقَاضِي أَبَا عَبْد اللَّه بن عِيسَى أيام قَضَائِه أُتِيّ بِرَجُل هَاتَر رَجُلًا اسْمُه مُحَمَّد ثُمّ قَصَد إِلَى كَلْب فَضَرَبَه برجْلِه وَقَال لَه: قم يَا مُحَمَّد فَأنْكَر الرَّجُل أن يَكُون قَال ذَلِك وَشَهِد عَلَيْه لفف مِن النَّاس فأمر بِه إِلَى السجن وتقصّى عَن حاله وهل يَصْحَب من يُسْتَرَاب بِدِينه فَلَمّا لم يَجد مَا يُقَوّى الرّيبَة باعْتِقَادِه ضَرَبَه بالسّوْط وأطلقه

_ (قوله ابن مناس) بفتح الميم وتخفيف النون وفى آخره سين مهملة (قوله هاتر رجلا) أي فاتحه في القول من الهترة وهو الباطل والسقط من الكلام (قوله لَفِيف مِن النَّاس) أي ما اجتمع من الناس من قبائل شتى (*)

فصل الوجه الخامس أن لا يقصد نقصا ولا يذكر عيبا

فصل الْوَجْه الخامس أن لَا يَقْصِد نَقْصًا وَلَا يَذْكُر عَيْبًا وَلَا سَبًّا لكنه يَنْزَع بِذِكْر بَعْض أوْصَافِه أَو يَسْتَشْهِد بِبَعْض أَحْوَالِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الْجَائزَة عَلَيْه فِي الدُّنْيَا عَلَى طَرِيق ضَرْب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو عَلَى التشبه بِه أَو عِنْد هضيمة نالته أو غضاضة لحقته لَيْس عَلَى طريق التأسي وطريق التحقيق بَل عَلَى مَقْصِد التَّرْفِيع لِنَفْسِه أَو لِغَيْرِه أَو عَلَى سَبِيل التّمْثِيل وعدم التّوْقِير لِنَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو قَصْد الْهَزْل وَالتّنْذِير بِقَوْلِه كقول القائِل إن قِيل فِي السُّوء فَقَد قِيل فِي النَّبِيّ أَو إن كُذّبْت فَقَد كُذّب الْأَنْبِيَاء أَو إن أذْنَبْت فَقَد أذْنَبُوا أَو أَنَا أسْلَم من ألْسِنَة النَّاس وَلَم يَسْلَم مِنْهُم أنبِيَاء اللَّه ورسله أَو قَد صَبَرْت كَمَا صَبَر أُولُو العَزْم أَو كَصَبْر أَيُّوب أَو قَد صَبَر نَبيّ اللَّه عَن عِدَاة وَحَلُم عَلَى أكْثَر مِمَّا صَبَرْت وكقول المتنى: أَنَا فِي أُمَّة تَدَارَكَهَا اللَّه غَرِيب كَصَالِح فِي ثَمُود

_ (قوله ولا سبا) بالسين المهملة والموحدة (قوله أَو عِنْد هضيمة) بفتح الهاء وكسر الضاد المعجمة وهى أن يهتضمك القوم شيئا أي يظلمونك أياه (قوله غضاضة) بغين معجمة وضادين معجمتين أي ذلة ومنقصة (قوله المتنبي) هو أبو الطلب أحمد بن الحسين الجعفي الكوفى ولد سنة ثلاث وثلاثمائة ونشأ بالبادية والشام ومات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قال السمعاني في الأنساب إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه كثير من كلب وغيرهم فخرج إليهم لؤلؤ أمير حمص بالأخشيدة فأسره وسجنه طويلا ثم أشهد عليه أنه تاب وكذب نفسه فيما ادعاه وأطلقه (*)

وَنَحْوَه من أشْعَار الْمُتَعَجْرِفِين فِي الْقَوْل الْمُتَسَاهِلِين فِي الْكَلَام كقول المَعَرّي كُنْت مُوسَى وَافَتْه بِنْت شُعَيْب * غَيْر أن لَيْس فِيكُمَا من فَقِير عَلَى أَنّ آخِر الْبَيْت شديد وَدَاخل فِي الإزْرَاء وَالتَّحْقِير بالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم وتفضيل حال غَيْرِه عَلَيْه وَكَذَلِك قَوْله لَوْلَا انْقِطَاع الْوَحْي بَعْد مُحَمَّد * قُلْنَا مُحَمَّد عَن أَبِيه بَدِيل هُو مِثْلُه فِي الْفَضْل إلَّا أنَّه * لَم يَأْتِه بِرِسَالَة جِبْرِيل فَصَدْر البَيْت الثاني من هَذَا الفَصْل شَديد لِتَشْبِيهه غَيْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي فَضْلِه بالنبي والعَجُز مُحْتَمِل لِوَجْهِين أحَدُهُمَا أَنّ هَذِه الفضيلة نَقّصَت الْمَمْدُوح وَالآخَر اسْتِغْنَاؤُه عَنْهَا وَهَذِه أشَدّ ونحو مِنْه قَوْل الآخِر وَإذَا مَا رُفِعَت رَاياتُه * صَفّقَت بَيْن جَنَاحَي جَبْرِين وقول الآخَر من أَهْل العَصْر فَرّ مِن الخُلْد وَاسْتَجَار بنا * فَصَبَّر اللَّه قَلْب رضوان وكقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس فِي مُحَمَّد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أَبِي بَكْر بن زيدون

_ (قوله كقول المعرى) هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان توفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة

كأن أَبَا بَكْر أَبُو بَكْر الرضا * وحَسّان حَسَّان وَأنْت مُحَمَّد إِلَى أمثال هَذَا وَإِنَّمَا أكثرنا بشاهدها مَع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ولتساهل كثير مِن النَّاس فِي ولوج هَذَا الْبَاب الضنك واستخفافهم فادح هَذَا العبء وقلة علمهم بعظيم مَا فِيه مِن الوزر وكلامهم مِنْه بِمَا لَيْس لَهُم بِه علم وتحسبونه هينا وَهُو عِنْد اللَّه عظيم لَا سيما الشعراء وأشدهم فِيه تصريحًا وللسانه تسريحًا ابن هانئٍ الأندلسي وَابْن سُلَيْمَان المعري بَل قَد خرج كثير من كلامهما إِلَى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر وَقَد أجبنا عَنْه وغضرنا الآن الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل الَّذِي سقنا أمثلته فَإِنّ هذا كلها وَإِنّ لَم تَتَضمن سبًّا وَلَا أضافت إِلَى الْمَلَائِكَة والأنبياء نقصا وَلَسْت أعْنِي عَجُزَي بَيْتِي المَعَرّي وَلَا قَصَد قائلها إزارة وَغَضًّا فَمَا وَقّر النُّبُوَّة وَلَا عَظّم الرسالة ولا غزر حُرْمَة الاصْطِفَاء وَلَا عزز حُظْوَة الكَرَامَة حَتَّى شَبّه من شَبّه فِي كَرَامَة نالَهَا أَو مَعَرَّة قَصَد الانْتِفَاء مِنْهَا أَو ضرب مثل لتطبيب مَجْلِسِه أَو إغْلاء فِي وَصْف لِتَحْسِين كَلَامِه بمَن عَظّم اللَّه خَطَرَه وَشَرّف قَدْرَه وَألزَم تَوْقِيرَه وَبِره ونهى عَن جهر

_ (قوله الضنك) أي الضيق (قوله فادح) بالفاء وبالدال المكسورة أي شاف (قوله ابن هانئٍ الأندلسي) هو أبو القاسم محمد الشاعر شاعر العرب كالمتنبي في الشرق توفى سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وعمره ست وثلاثون سنة وقيل اثنان وأربعون سنة ببرقة متوجها من مصر إلى المغرب أضافه شخص فعربدوا عليه فقتلوه وقيل بل وجد مخنوقا وقيل بل نام فوجد ميتا (*)

القَوْل لَه ورفع الصوت عِنْدَه فحق هَذَا إن درئ عَنْه القتل: الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح مَا نطق بِه ومألوف عادته لمثله أَو ندوره وقرينة كلامه أو ندمه عَلَى ما سبق مِنْه وَلَم يزل المتقدمون ينكرون مِثْل هَذَا مِمَّن جاء بِه وَقَد أنكر الرشيد عَلَى أَبِي نواس قَوْله فإن يَك باقي سِحْر فِرْعَوْن فِيكُم * فَإِنّ عَصَا مُوسَى بِكَفّ خَصِيب وَقَال لَه يابن اللّخْنَاء أنْت المُسْتَهْزِئ بِعَصَا مُوسَى وأمَر بإخْرَاجِه عَن عَسْكَرِه من لَيْلَتِه وَذَكَر اليقتبى أَنّ مِمَّا أُخِذ عَلَيْه أيْضًا وَكُفّر فِيه أَو قَارَب قَوْله فِي مُحَمَّد الْأَمِين وتَشْبِيهِه إيَاه بالنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حَيْث قَال: تَنَازَع الأحْمَدَان الشّبْه فاشْتَبَهَا * خَلْقا وَخُلقًا كَمَا قَد الشّراكَان وَقَد أنْكَرُوا عَلَيْه أيْضًا قَوْله كيف لا يدينك من أَمَل * من رَسُول اللَّه من نَفَرِه

_ (قوله عَلَى أَبِي نواس) هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح توفى سنة خمس وقيل ست وقيل ثمان وتسعين ومائة ببغداد (قوله يا بن اللخناء) لخن السقاء بالسر أي أنتن وقال ابن الأثير في حديث ابن عمر يا بن اللخناء هي المرأة التى لم تختن وقيل اللخن النتن وقد لخن السقاء يلخن انتهى (قَوْله فِي مُحَمَّد الأمين) هو ابن الرشيد بن المهدى (قوله وقد أنكروا) أيضا عليه أي عَلَى أَبِي نواس (قوله من رسول الله) بفتح الميم (قوله من نفره) النفرة بالتحريك عدة رجال من ثلاث إلى عشرة (16 - 2) (*)

لِأَنّ حَقّ الرَّسُول وموجب تعظيمه وإناقة مَنْزلَتِه أن يُضَاف إليْه وَلَا يُضَاف فَالْحُكْم فِي أمْثَال هَذَا مَا بَسَطْنَاه فِي طَرِيق الْفُتْيَا على هَذَا المَنْهج جَاءَت فُتْيَا إمام مَذْهِبنَا مَالِك بن أنس رَحِمَه اللَّه وأصحابه في النّوَادِر من رِوَايَة ابن أَبِي مَرْيَم فِي رَجُل غَيْر رَجُلًا بالْفَقْر فَقَال: تعيرني بالْفَقْر وَقَد رَعَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الغَنَم فَقَال مَالِك قَد عَرّض بِذِكْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فِي غَيْر مَوْضِعه أرى أَنّ يُؤَدّب قَال: وَلَا يَنْبَغِي لأهل الذُّنُوب إذَا عُوتِبُوا أَنّ يَقُولُوا قَد أخْطَأت الْأَنْبِيَاء قبْلَنَا، وَقَال عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز لِرجل: (أنْظُر لَنَا كَاتِبًا يَكُون أبُوه عَرَبيًّا) فَقَال كَاتِب لَه: قَد كَان أَبُو النَّبِيّ كَافِرًا. فَقَال: (جَعَلْت هَذَا مَثلًا) فعَزَلَه وَقَال: (لَا تَكْتُب لِي أبدًا) وَقَد كَرِه سُحْنُون أن يصلى على النبي صلى الله عليه وَسَلَّم عِنْد التَّعَجُّب إلَّا عَلَى طَرِيق الثَّوَاب وَالاحْتِسَاب تَوْقِيرًا لَه وَتَعْظِيمًا كَمَا أمرنا اللَّه وسئل القابسي عَن رَجُل قَال لرجل قبيح كَأنَّه وجه نكير، ولرجل عبوس كَأنَّه وجه مالك الغضبان فقال أي شئ أراد بَهَذَا ونكير أَحَد فتاني القبر وهما ملكان فَمَا الَّذِي أراد أروع دخل عَلَيْه حِين رآه من وجهه أم عاف النظر إليْه لدمامة خلقه فَإِنّ كَان هَذَا فَهُو شديد لِأَنَّه جرى مجرى التحقير والتهوين فَهُو أشد عقوبة وليس فيه تصريح بالسب للملك

_ (قوله لدمامة خلقه) الدمامة بتفح الدال المهملة وتخفيف الميم القبح والحلق بفتح الهاء المهملة قال المزى الدمامة بالدال المهملة في الخلق بفتح الخاء المعجمة والذمامة بالذال المعجمة في الخلق بضم الخاء المعجمة (*)

وأنما السب واقع عَلَى المخاطب وَفِي الأدب بالسوط والسجن نَكال لِلسُّفَهَاء، قَال: (وَأَمَّا ذَاكِر مَالِك خازن النَّار فَقَد جفا الَّذِي ذَكَرَه عِنْد مَا أنكر حاله من عُبُوس الآخَر إلَّا أَنّ يَكُون المُعَبّس لَه يَد فَيُرْهَب بِعبْسَتِه فَيُشَبّهَه الْقَائِل عَلَى طريق الذّمّ لهذا في فعليه ولزومه فِي ظلمه صفة مَالِك الْمُلْك المطيع لربه فِي فعله فَيَقُول كَأنَّه لله يَغْضَب غضبه مَالِك فيَكُون أخفّ وما كان يَنْبَغِي لَه التعرض لمثل هذا ولو كَان أَثْنَى عَلَى العبوس بعبسته واحتج بِصِفَة مَالِك كَان أشَد وَيُعَاقَب الْمُعَاقَبَة الشَّدِيدَة وَلَيْس فِي هَذَا ذَم لِلْمَلَك ولو قَصَد ذَمّه لقُتِل وَقَال أَبُو الْحَسَن أيضا فِي شابّ معروف بالْخَيْر قَال لِرَجُل شَيْئًا فَقَال لَه الرجل اسْكُت فإنك أمَّيّ فَقَال الشابّ ألْيس كَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أُمّيًّا فَشُنّع عَلَيْه مَقَالُه وَكَفّرَه النَّاس وَأشْفَق الشَّابّ مِمَّا قَال وَأظْهَر النّدَم عَلَيْه فَقَال أَبُو الْحَسَن أَمَّا إطْلَاق الْكُفْر عَلَيْه فَخَطَأ لكنه مُخْطِئ فِي استشهادته بَصِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وكَوْن النبي أُمّيّا آيَة لَه وَكَوْن هَذَا أُمّيّا نَقِيصَة فِيه وَجَهَالَة وَمِن جَهَالتِه احْتِجَاجُه بِصِفَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لكنه إذَا اسْتَغْفَر وتَاب واعْتَرَف وَلَجَأ إِلَى اللَّه فَيُتْرَك لِأَنّ قَوْله: (لَا يَنْتَهي إِلَى حد الْقَتْل وَمَا طَرِيقُه الأدب فَطَوع فاعله بالدم عَلَيْه يوجب الكف عَنْه ونزلت أيْضًا مسألة استفتى فِيهَا بَعْض قُضاة الأندلس شيخنا الْقَاضِي أَبَا مُحَمَّد بن مَنْصُور رَحِمَه اللَّه فِي رَجُل تنقصه آخر بشئ فَقَال لَه إنَّمَا تريد

فصل الوجه السادس أن يقول القائل ذلك حاكيا عن غيره

نقضي بقولك - وَأَنَا بِشْر وجميع البشر يلحقهم النقص حَتَّى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم - فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاع أدبه إِذ لَم يقصد السب وَكَان بَعْض فُقَهَاء الأندلس أفتى بقتله فصل الْوَجْه السادس أَنّ يَقُول القائل ذَلِك حاكيا عن غَيْرِه وَآثِرًا لَه عَن سِوَاه فَهَذَا يُنْظَر فِي صُورَة حِكَايَتِه وَقِرينَة مَقَالَتِه وَيَخْتَلف الحُكْم باختلاف ذَلِك عَلَى أربعة وُجُوه: الْوُجُوب، وَالنّدْب، والكَرَاهَة، والتّحْرِيم فإن كَان أخْبَر بِه عَلَى وَجْه الشّهَادَة وَالتّعْرِيف بقائله والإنكار والإعلام بِقَوْلِه والتّنْفِير مِنْه والتّجْرِيح لَه فَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي امْتِثَالُه وَيُحْمد فاعِلُه وَكَذَلِك إن حَكاه فِي كِتَاب أو فِي مجلس عَلَى طريق الرَّد لَه والنَّقْض عَلَى قائله والفُتْيَا بِمَا يَلْزَمُه وَهَذَا منه مَا يَجِب وَمِنْه مَا يُسْتَحَب بحسَب حَالَات الحاكي لِذَلِك وَالمَحْكي عَنْه فإن كان القائل لِذَلِك مِمَّن تَصَدّى لأن يُؤْخذ عَنْه الْعِلْم أو رِواية الحديث أَو يُقْطَع بحُكْمِه أَو شَهَادَتِه أَو فُتْيَاه فِي الحُقُوق وَجَب عَلَى سَامِعِه الإشادَة بِمَا سُمع مِنْه وَالتّنْفِير للنَّاس عَنْه والشهادة عَلَيْه بِمَا قاله ووجب عَلَى من بلغه ذَلِك من أئِمَّة الْمُسْلِمِين إنكاره وبيان كفره وفساد قَوْله بقطع ضرره عَن الْمُسْلِمِين وقيامًا بحقّ سَيّد الْمُرْسَلِين وَكَذَلِك إن كَان مِمَّن يعظ العَامّة أَو يُؤدّب الصّبْيَان فَإِنّ من هَذِه سَرِيرَتُه لا يؤمن عَلَى إلقاء ذَلِك فِي قلوبهم فيتأكد فِي هَؤْلَاء الإيجاب لحق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ولحق شريعته

وَإِنّ لَم يَكُن القائِل بِهَذِه السّبيل فالْقِيَام بحَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَاجِب وَحِمَايَة عِرْضِه مُتَعَيّن وَنُصْرَتُه عَلَى الأذى حَيًّا وَميتًا مُسْتَحقّ عَلَى كُلّ مُؤْمِن لكنه إذا قَام بَهَذَا من ظَهَر بِه الْحَقّ وَفُصِلَت بِه القَضِيّة وبان بِه الأمْر سَقَط عَن الباقي الفَرْض وَبَقِي الاسْتِحْبَاب فِي تكْثِير الشَّهَادَة عَلَيْه وعَضْد التّحْذِير مِنْه وَقَد أجْمَع السّلَف عَلَى بَيَان حال المُتّهَم فِي الْحَدِيث فَكَيْف بِمِثْل هَذَا وَقَد سُئِل أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زَيْد عَن الشّاهِد يَسْمع مِثْل هَذَا فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى أيَسعُه أن لَا يؤدى شهادته قَال: إن رَجا نَفَاذ الحُكْم بِشهادته فليشهد وَكَذَلِك إن عَلِم أَنّ الْحَاكِم لَا يَرَى القتل بِمَا شهد بِه ويرى الاستتابه والأدب فليشهد ويلزمه ذَلِك وَأَمَّا الإباحة لحكاية قَوْله لغير هذين المقصدين فلَا أرى لَهَا مدخلًا فِي هَذَا الْبَاب فليس التفكه بعرض رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم والتمضمض بسوء ذكره لأحد لَا ذاكرًا وَلَا آثرا لغير غرض شرعي بمباح وَأَمَّا للأغراض المتقدمة فمتردد بَيْن الإيجاب والاستحباب وَقَد حكى اللَّه تَعَالَى مقالات المفترين عَلَيْه وَعَلَى رسله فِي كِتَابِه عَلَى وجه الإنكار لقولهم والتحذير من كفرهم والوعيد عليه والرد عليهم بِمَا تلاه اللَّه عَلَيْنَا فِي محكم كِتابِه وَكَذَلِك وَقَع من أمثاله فِي أحاديث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم الصحيحة عَلَى الوجوه المتقدمة وأجمع السلف والخلف من أئِمَّة الهدى عَلَى حكايات مقالات الكفرة والملحدين فِي كتبهم ومجالسهم ليبينوها للناس وينقضوا شبهها عَلَيْهِم وَإِنّ كَان وَرَد

لأحمد بن حَنْبَل إنكار لبعض هَذَا عَلَى الحَارِث بن أسد فقد صنع أَحْمَد مِثْلُه فِي رده عَلَى الجهمية والقائلين بالمخلوق وَهَذِه الوجوه الشائعة الحكاية عنها فَأَمَّا ذكرها عَلَى غَيْر هَذَا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه عَلَى وجه الحكايات والأسمار والطرف وأحاديث النَّاس ومقالاتهم فِي الغث والسمير ومضاحك المجان ونوادر السخفاء والخوض فِي قِيل وقال ومالا يَعْنِي فكل هَذَا ممنوع وبعضه أشد فِي المنع والعقوبة من بَعْض فَمَا كَان من قائله الحاكي لَه عَلَى غَيْر قصد أو معرفة بمقدار مَا حكاه أَو لَم تكن عادته أَو لَم يَكُن الْكَلَام مِن البشاعة حيث هُو ولَم يظهر على حاكيه استحسانه واستصوابه زُجر عَن ذَلِك ونهي عَن العودة إليْه وَإِنّ قوم ببعض الأدب فَهُو مستوجب لَه وَإِنّ كَان لفظه من البشاعة حَيْث هُو كَان الأدب أشد، وَقَد حكي أَنّ رجلًا سَأل مالكًا عَمَّن يَقُول الْقُرْآن مخلوق فَقَال مَالِك كافر فاقْتلُوه فَقَال إنما حكيته عَن غَيْرِي فَقَال مَالِك إنَّمَا سمعناه مِنْك وَهَذَا من مَالِك رَحِمَه اللَّه عَلَى طريق الزجر والتغليظ بدليل أنَّه لَم ينفذ قتله وَإِنّ اتهم هَذَا الحاكي فِيمَا حَكاه أنه اختلقه ونسبه إِلَى غَيْرِه أو كَانَت تِلْك عادة له أَو ظهر استحسانه لِذَلِك أَو كَان مولعًا بِمِثْلِه والاستخفاف لَه أو التحفظ لمثله وطلبه ورواية أشْعَار هجوه صَلَّى اللَّه

_ (قوله على الجهمية) هم أتباع جهم بن صفوان أبى محرز السمرقندى هلك في زمان صغار التابعين أعنى من رأى من الصحابة واحدا أو اثنين (قوله والطرف) بضم الطاء المهملة جمع طرفة (*)

فصل الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم

عَلَيْه وَسَلَّم وسبه فَحُكْم هَذَا حُكَم السَّابّ نَفْسِه يُؤَاخَذ بِقَوْلِه وَلَا تَنْفَعُه نسْبَتُه إِلَى غَيْرِه فيبادر بقتله ويعجآ إلى الْهَاوِيَة أُمَّه وَقَد قَال أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بن سَلَام فِيمَن حَفِظ شَطْر بَيْت مِمَّا هُجِي بِه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَهُو كُفْر وَقَد ذَكَر بَعْض من أَلْف فِي الإجْمَاع إجْمَاع الْمُسْلِمِين عَلَى تَحْرِيم رِوَايَة مَا هُجِي بِه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وكِتَابَتِه وَقِرَاءَتِه وَتَرْكِه مَتَى وُجِد دُون محْو وَرَحِم اللَّه أسْلَافَنَا المُتّقِين المُتَحَرّزين لِدِينِهِم فَقَد أسْقَطُوا من أحاديث المغازي والسير مَا كَان هَذَا سَبِيلَه وَتَرَكُوا روايَتَه إلَّا أشْيَاء ذَكَروهَا يَسِيرَة وَغَيْر مُسْتَبْشَعَة عَلَى نَحْو الْوُجُوه الأوّل لِيُرُوا نِقْمَة اللَّه من قائِلِهَا وأخْذَه المُفْتَرِي عَلَيْه بِذَنْبِه وَهَذَا أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بن سَلَام رَحِمَه اللَّه قَد تحرى فِيمَا اضطر إِلَى الاستشهاد بِه من أهاجي أشعار الْعَرَب فِي كتبه فكنى عَن اسم المهجو بوزن اسْمُه استبراء لدينه وتحفظًا مِن المشاركة فِي ذم أَحَد بروايته أَو نشره فكيف بِمَا يتطرق إِلَى عرض سَيّد البشر صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فصل الْوَجْه السابع أَنّ يذكر مَا يجوز عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو يختلف فِي جوازه عَلَيْه وَمَا يطرأ من الأمور البشرية بِه ويمكن إضافتها إليه أو يذكر مَا امتحن بِه وصبر فِي ذات اللَّه عَلَى شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم لَه ومعرفة ابتداء حاله وسيرته وَمَا لقيه من بؤس

زمنه ومر عَلَيْه من معاياة عيشته كُلّ ذَلِك عَلَى طريق الرّوَايَة ومذاكرة الْعِلْم ومعرفة مَا صحت مِنْه العصمة للأنبياء وَمَا يجوز عَلَيْهِم فَهَذَا فن خارج عَن هَذِه الفنون الستة إِذ لَيْس فِيه غمص وَلَا نقص وَلَا أزراء وَلَا استخفاف لَا فِي ظاهر اللَّفْظ وَلَا فِي مقصد اللافظ لَكِن يجب أَنّ يَكُون الْكَلَام فِيه مع أَهْل الْعِلْم وفهماء طلبة الدين مِمَّن يفهم مقاصده ويحققون فوائده ويجنب ذَلِك من عساه لَا يفقه أَو يخشى بِه فتنته فَقَد كره بَعْض السلف تلعيم النساء سورة يُوسُف لَمّا انطوت عَلَيْه من تِلْك القصص لضعف معرفتهن ونقص عقولهن وإدراكهن فَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مخبرًا عن نفسه باستيجاره لرعاية الغنم في ابتداء حاله وقال (مَا مِنْ نبى إلا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ) وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا لَا غَضَاضَةَ فِيهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِمَنْ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِهِ بِخِلافِ مَنْ قَصَدَ بِهِ الْغَضَاضَةَ وَالتَّحْقِيرَ بَل كَانَت عادة جميع الْعَرَب، نَعَم فِي ذَلِك للأنبياء حكمة بالغة وتدريج لله تعالى لَهُم إِلَى كرامته وتدريب برعايتها لسياسة أممهم من خليقته بِمَا سبق لهم من الكرامة فِي الأزل ومتقدم الْعِلْم وَكَذَلِك قَد ذَكَر اللَّه يتمه وعيلته عَلَى طريق المنة عَلَيْه والتعريف بكرامته لَه فذكر الذاكر لَهَا عَلَى وجه تعريف حاله والخَبَر عَن مُبْتَدَئِه والتّعجُّب من مَنِح اللَّه قِبَلَه وعَظِيم مِنّتِه عِنْدَه لَيْس فِيه غَضَاضَة بَل فِيه

_ (قوله وفهماء) بضم الفاء والمد (*)

دَلَالَة عَلَى نُبُوَّتِه وصحَّة دَعْوَتِه إِذ أظْهَرَه اللَّه تَعَالَى بَعْد هَذَا عَلَى صَنَادِيد الْعَرَب وَمِن نَاوأَه من أشْرَافِهِم شيئا فشيئا وَنَمى أمْرُه حَتَّى قَهَرَهُم وَتَمَكّن من مِلْك مَقَالِيدِهِم وَاسْتِباحَه مما لك كثير مِن الْأُمَم غَيْرِهِم بإظْهَار اللَّه تَعَالَى لَه وتأييده بنصره وبالمؤمنين وألف بَيْن قُلُوبِهِم وإمْدَادِه بِالْمَلَائِكَة الْمُسَوّمِين وَلَو كَان ابن مُلْك أَو ذا أشْياع متقدمين لحسب كثير مِن الجهال أَنّ ذَلِك موجب ظهوره ومقتضى علوه ولهذا قَال هرقل حِين سَأَل أَبَا سُفْيَان عنه هل فِي آبائه من مُلْك؟ ثُمّ قَال: وَلَو كَان فِي آبائه مُلْك لَقلنا رَجُل يَطْلُب مُلْك أبيه وَإذَا الْيُتْم من صِفَتِه وإحْدَى عَلَامَاتِه فِي الْكُتُب الْمُتَقَدّمَة وأخْبَار الْأُمَم السّالِفة وَكَذَا وَقَع ذِكْرُه في كِتَاب أرْميَاء وبهذا وصَفَه ابن ذِي يَزَن لعبد المُطلب وَبَحيرًا لأبي طَالِب وَكَذَلِك إذَا وُصِف بأنَّه أُمّيّ كَمَا وصَفَه اللَّه فهي مِدْحَة لَه وَفَضِيلَة ثَابِتَة فِيه وَقَاعِدَة مُعْجِزَتُه إذ معجزته الْعُظمَى مِن الْقُرْآن العَظِيم إنَّمَا هِي مُتَعَلقَة بِطَريق المَعَارِف وَالْعُلُوم مَع مَا مُنَح صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَفُضَّل بِه من ذَلِك كَمَا قَدّمْنَاه فِي القِسْم الأول وَوُجُود مِثْل ذَلِك من رَجُل لَم يَقْرأ وَلَم يَكْتُب وَلَم يُدارِس وَلَا لُقّن مُقْتَضَى العَجَب وَمُنْتَهَى الْعِبَر وَمُعْجِزَة الْبَشَر وَلَيْس فِي ذَلِك نَقيصَة إِذ المطلوب مِن الكِتَابَة والقراءة المَعْرفَة وَإِنَّمَا هي آلة.

_ (قوله على صناديد) جمع صنديد وهو الشجاع السيد (قوله ونمى) بتشديد الميم (قوله في كتاب أرميا) بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الميم والقصر (قوله وليس فيه ذلك نقيصة) الضمير المجرور بفى عائد إلى الرجل في قوله وَوُجُود مِثْل ذَلِك من رجل والإشارة بذلك راجعة إلى ما أشير إليه بذلك (*)

لَهَا وَوَاسِطَة مُوَصّلة إِلَيْهَا غَيْر مُرَادَة فِي نَفْسِهَا فَإِذَا حَصَلَت الثَّمْرَة وَالمَطْلُوب اسْتُغْنِي عَن الْوَاسِطَة وَالسّبَب، وَالْأُمّيَّة فِي غَيْرِه نَقِيصَة لِأَنّهَا سَبَب الْجَهَالَة وَعُنْوَان الْغَبَاوَة فَسُبْحَان من بايَن أمْرَه من أمْر غَيْرِه وَجَعَل شَرَفَه فِيمَا فِيه محطة سواه وحياته فِيمَا فِيه هلاك من عداه هَذَا شَقّ قلبه وإخْرَاج حُشْوَتِه كَان تَمَام حَيَاتِه وَغَايَة قوة نفسه وثبات روعه وَهُو فِيمَن سواه منتهى هلاكه وحتم موته وفنائه وهلم جَرّا إِلَى سائر مَا رُوِي من أخباره وسيره وتقلله مِن الدُّنْيَا وَمِن الملبس والمطعم والمركب وتواضعه ومهنته نفسه في أمور وَخِدْمَة بَيْتِه زُهْدًا وَرَغْبَة عَن الدُّنْيَا وَتَسْوِيَة بَيْن حَقِيرِهَا وَخَطِيرِهَا لِسُرْعَة فَنَاء أُمُورِها وتَقَلُّب أحْوَالِهَا كُلّ هَذَا من فَضَائِلِه وَمآثِرِه وَشَرَفه كَمَا ذَكَرْنَاه فَمَن أوْرَد شَيْئًا مِنْهَا موردة وقصد بِهَا مقصده كَان حَسَنًا وَمِن أوْرَد ذَلِك عَلَى غَيْر وَجْهِه وعُلِم مِنْه بِذلِك سُوء قَصْدِه لَحِق بالفصول التى قدمناه وَكَذَلِك مَا وَرَد من أخْبَارِه وأخْبَار سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْأَحَادِيث مِمَّا فِي ظَاهِرِه إشْكال يَقْتَضِي أُمُورًا لَا تَلِيق بِهِم بِحَال وَتَحْتَاج إِلَى تأويل

_ (قوله وإخراج حشوته) الحشوة بكسر الحاء المهملة وضمها وبالشين المعجمة الأمعاء (قوله روعه) بضم الراء وفى آخره هاء الضمير أي قلبه - قوله وحتم موته) بفتح الحاء المهملة وسكون التاء الفوقية (قوله مهنته) بفتح الميم وحكى الكسائي كسرها وأنكره الأسمعي (قوله ومآثره) أي مكارمه ومفاخره التى تؤثر عنه (*)

وَتَرَدُّد احْتمال فَلَا يَجِب أن يُتَحَدّث مِنْهَا إلا بالصحيح وَلَا يُرْوَى مِنْهَا إلَّا المَعْلُوم الثّابِت وَرَحِم اللَّه مَالكًا فلقد كَرَه التَّحَدُّث بمِثْل ذَلِك مِن الْأَحَادِيث المُوهِمَة لِلتَّشْبيه وَالمُشْكلة الْمَعْنَى وَقَال: مَا يَدْعُو النَّاس إِلَى التَّحَدُّث بِمِثْل هَذَا فَقِيل لَه إنّ ابن عَجْلان يُحَدَّث بِهَا فَقَال لَم يَكُن مِن الفُقَهَاء وَلَيْت النَّاس وَافَقُوه عَلَى تَرْك الْحَدِيث بِهَا وَسَاعَدوه عَلَى طَيّهَا فأكْثَرُهَا ليس تحتع عَمَل وَقَد حُكِي عَن جَمَاعَة مِن السَّلَف بَل عَنْهُم عَلَى الْجُمْلَة أَنَّهُم كَانُوا يَكْرَهُون الْكَلَام فِيمَا لَيْس تَحْتَه عَمَل وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أوْرَدَهَا عَلَى قْوم عَرَب يَفْهَمُون كَلَام الْعَرَب عَلَى وَجْهِه وَتَصَرفَاتِهِم فِي حَقِيقَتِه وَمَجَازِه وَاسْتِعَارَتِه وَبَلِيغِه وَإيجَازِه فَلَم تَكُن فِي حَقَّهَم مُشْكِلَة ثُمّ جاء من غَلَبَت عَلَيْه العُجْمَة وَدَاخَلَتْه الْأُمّيَّة فَلَا يَكاد يَفْهَم من مَقَاصِد الْعَرَب إلَّا نَصَّها وَصَرِيحَهَا وَلَا يَتَحَقَّق إشَارَاتِهَا إِلَى غَرَض الإيجَاز ووحْيِهَا وَتَبْلِيغَهَا وَتَلْويحِهَا فَتَفَرّقُوا فِي تأويلهَا أَو حَمْلِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا شَذر مَذَر فمنهم من آمَن بِه وَمِنْهُم من كَفَر فَأَمَّا مَا لَا يَصِحّ من هَذِه الْأَحَادِيث فَوَاجِب أن لَا يُذْكَر مِنْهَا شئ فِي حَقّ اللَّه وَلَا فِي حَقّ أنْبِيَائِه وَلَا يُتَحَدّث بِهَا وَلَا يُتَكَلَّف الْكَلَام عَلَى مَعَانِيهَا، وَالصَّوَاب طَرْحُهَا وَتَرْك الشُّغْل بِهَا إلَّا أن تُذْكَر عَلَى وَجْه التّعْرِيف بِأنَّهَا ضَعِيفَة الْمَقَاد وَاهِيَة الإِسْنَاد وَقَد أنْكَرَ الأشْيَاخ عَلَى أَبِي بَكْر بن فُورَك تَكَلُّفَه فِي مُشْكِلِه الْكَلَام عَلَى أحاديث ضعيفة

_ (قوله شذر مذر) بكسر الشين المعجمة والميم وبفتحهما في الصحاح تفرقوا شذر مذر بالتحريك والنصب وشذر مذر بالكسر إذا ذهبوا في كل وجه (*)

فصل ومما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز

مَوْضُوعَة لَا أصْل لَهَا أَو مَنْقُولَة عَن أَهْل الكِتَاب الَّذِين يَلْبِسُون الْحَقّ بالبَاطِل كَان يَكْفِيه طرحها ويعنيه عَن الْكَلَام عَلَيْهَا التَّنْبِيه عَلَى ضَعْفهَا إِذ المَقْصُود بِالْكَلَام عَلَى مُشْكل مَا فِيهَا إزَالَة اللّبْس بِهَا وَاجْتِثَاثُهَا من أَصْلهَا وَطَرْحُهَا أكْشَف اللبس وأشْفَى للنَّفْس فصل ومما يَجِب عَلَى المُتَكَلَّم فِيمَا يَجُوز عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمَا لَا يَجُوز وَالذَّاكِر من حَالاتِه مَا قَدّمْنَاه فِي الفَصْل قَبْل هَذَا عَلَى طَرِيق المُذَاكَرَة والتعْلِيم أن يَلْتَزِم فِي كَلَامِه عِنْد ذَكْرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وذِكْر تِلْك الأَحْوَال الْوَاجِب من تَوْقِيرِه وَتَعْظِيمِه وَيُرَاقب حَال لِسَانِه وَلَا يُهْمِلَه وَتَظْهَر عَلَيْه عَلَامات الأَدَب عِنْد ذِكْرِه فَإِذَا ذَكَر مَا قاساه مِن الشَّدَائِد ظَهَرَ عليه الإشْفَاق والارْتِمَاض والغَيْظ عَلَى عَدُوّه وَمَوَدَّة الفِدَاء لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لَو قَدَر عَلَيْه وَالنُّصرَة لَو أمْكَنَتْه وَإذَا أخَذ فِي أبْوَاب العِصْمَة وَتَكَلّم عَلَى مَجَاري أعماله وأقواله صلى الله عليه وسلم تَحَرَّى أحَسَن اللَّفْظ وَأدَب الْعِبَارَة مَا أَمْكَنَه وَاجْتَنَب بَشِيع ذَلِك وَهَجَر مِن الْعَبَارَة مَا يَقْبُح كَلْفَظَة الْجَهْل وَالكَذِب وَالمَعْصِيَة فَإِذَا تَكَلّم فِي الأَقْوَال قَال هَل يَجُوز عَلَيْه الْخُلْف فِي القَوْل وَالْإِخبار بِخِلَاف مَا وَقَع سَهْوًا

_ (قوله يلبسون) بكسر الموحدة أي يخلطون (قوله والارتماض) بالضاد المعجمة يقال ارتمض الرجل من كذا أي اشتد قلقه (قوله تحرى) بالحاء المهملة أي توخى وقصد (*)

أَو غَلَطًا وَنَحْوَه مِن الْعِبَارَة وَيَتَجَنَّب لَفْظَة الكَذِب جُمْلَة وَاحَدَة وَإذَا تَكَلّم عَلَى الْعِلْم قَال هَل يَجُوز أن لَا يَعْلَم إلَّا مَا علم وهل يُمْكِن أن لَا يَكُون عِنْدَه علم من بَعْض الأشْيَاء حَتَّى يُوحَى إليْه وَلَا يَقُول بِجَهْل لِقُبْح اللَّفْظ وَبَشَاعَتِه وإذا تكلم فِي الأفْعَال قَال هَل يَجُوز منه الْمُخَالَفَة فِي بَعْض الْأَوَامِر وَالنَّوَاهِي وَمُوَاقَعَة الصَّغَائِر فَهُو أوْلَى وآدب من قَوْلِه هَل يَجُوز أن يَعْصِي أَو يُذْنِب أَو يَفْعَل كذا وكذا من أنْواع المَعَاصِي فهذا من حَقّ تَوْقِيرِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمَا يَجِب لَه من تعزيز وَإعْظَام وَقَد رَأَيْت بَعْض الْعُلمَاء لَم يَتَحَفّظ من هَذَا فَقُبّح مِنْه. وَلَم أَسْتَصْوب عِبارَتَه فِيه وَوَجَدْت بَعْض الْجَائِرِين قَوْله لأجْل تَرْك تَحَفُّظِه فِي الْعِبَارَة مَا لَم يَقُلْه وَشَنَّع عَلَيْه بِمَا يأباه وَيُكَفَّر قائِلُه وَإذَا كَان مِثْل هَذَا بَيْن النَّاس مُسْتَعْملًا فِي آدابِهِم وَحُسن مُعَاشَرِتِهِم وَخِطَابِهِم فَاسْتِعْمَالُه فِي حَقَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أوْجَب وَالْتِزَامُه آكَد فَجَوْدَة العبارة تقبح الشئ أَو تُحَسّنُه وَتَحْرِيرُهَا وتهذيبا يُعَظّم الأمْر أَو يُهَوّنُه ولهذا قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا فَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ عَلَى جِهَةِ النَّفْيِ عَنْهُ وَالتَّنْزِيه فَلَا حَرَج فِي تَسْريح العِبارَة وتصريها فِيه كَقَوْلِه لَا يَجُوز عَلَيْه الكَذِب جُمْلَة ولا

_ (قوله إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لسحرا) قال ابن قرقول قيل أورده مورد الذم لشبهة بعمل السحر في قلب القلوب وجلب الأفئدة وتزيين القبيح وتقبيح الحسن وقيل أورده مورد المدح أي يترضى به الساخط ويستزل به الصعب ولذلك قالوا فيه السحر الحلال ويشهد له (إن من الشعر لحكمة) الحديث (*)

الباب الثاني في حكم سابه وشانئه ومتنقصه مؤذبه وعقوبته وذكر استتباته ووراثته

إتْيَان الكبائر بِوجْه وَلَا الْجَوْر فِي الحكم عَلَى حَال وَلَكِن مَع هَذَا يَجِب ظُهُور تَوْقِيرِه وَتَعْظِيمِه وَتَعْزِيزِه عِنْد ذكره مُجَرّدًا فَكَيْف عِنْد ذَكَر مِثْل هذا وقد كَان السَّلَف تَظْهَر عَلَيْهِم حَالَات شَديدَة عِنْد مُجَرَّد ذِكْرِه كَمَا قَدَّمْنَاه فِي القسْم الثَّاني وَكَان بَعْضُهُم يَلْتَزِم مِثْل ذَلِك عِنْد تِلَاوَة آي مِن الْقُرْآن حَكَى اللَّه تَعَالَى فِيهَا مَقَال عِدَاه وَمِن كفر بآياته وَافْتَرَى عَلَيْه الكَذِب فَكَان يَخْفِض بِهَا صَوْتَه إعْظَامًا لِرَبَّه وَإجْلالا له وَإشْفَاقًا مِن التّشَبُّه بِمَن كَفَر بِه الْبَاب الثاني فِي حكم سابه وشانئه ومتنقصه مؤذبه وعقوبته وذكر استتباته ووراثته قَد قَدَّمْنَا مَا هُو سَبّ وأذَى فِي حَقّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَذَكَرْنَا إجْمَاع الْعُلمَاء عَلَى قَتْل فاعِل ذَلِك وقائِلِه وتَخْيير الْإِمَام فِي قَتْلِه أَو صَلْبِه عَلَى مَا ذَكَرْنَاه وَقَرّرْنا الْحُجَج عَلَيْه وبعد فاعْلَم أَنّ مشْهُور مَذْهَب مَالِك وأصحابه وقوْل السَّلَف وجُمهُور الْعُلمَاء قَتْلُه حَدًّا لَا كُفْرًا إن أظْهَر التَّوْبَة مِنْه ولهذا لَا تُقْبَل عندهم توْبَتُه وَلَا تَنْفَعُه اسْتِقَالَتَه وَلَا فَيْأتُه كَمَا قَدَّمْنَاه قَبْل وَحُكْمه حُكْم الزَّنْدِيق وَمُسِرّ الكُفْر فِي هَذَا القَوْل وسواء كَانَت تَوْبَتُه عَلَى هَذَا بَعْد القُدْرَة عَلَيْه والشَّهادَة عَلَى قَوْله (أو جاء تائِبًا من قَبْل نفسه لِأَنَّه حَد وَجَب لَا تُسْقطُه التّوْبَة كَسَائِر الْحُدُود قَال الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن القابسيّ رَحِمَه اللَّه إذَا

أقَرّ بالسَّبّ وتاب مِنْه وأظْهَر التَّوْبَة قُتِل بالسَّبّ لِأَنَّه هُو حَدُّه وَقَال أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زَيْد مِثْلُه وَأَمَّا مَا بَيْنَه وَبَيْن اللَّه فَتَوْبَتُه تَنْفَعُه، وَقَال ابن سُحْنُون من شَتَم النبي صلى الله عليه وسلم مِن المُوَحّدِين ثُمّ تَاب عَن ذَلِك لَم تزل توبته عنه القَتْل وَكَذَلِك قَد اخْتُلِف فِي الزّنْدِيق إذَا جاء تائبًا فحكى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَن بن الْقَصّار فِي ذَلِك قَوْلَيْن، قَال من شُيُوخَنَا: من قَال أقْتُلُه بإقْرَارِه لِأَنَّه كَان يَقْدِر عَلَى سَتْر نَفْسِه فَلَمّا اعْتَرَف خِفْنَا أنَّه خَشِي الظُّهُور عَلَيْه فَبَادر لِذَلِك وَمِنْهُم من قَال اقْبَل تَوَبتَه لأني أسْتَدِلّ عَلَى صحّتِهَا بمَجِيئِه فَكَأنّنَا وَقَفْنَا عَلَى باطِنِه بِخِلَاف من أسَرَتْه البَيّنَة قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَهَذَا قَوْل أصْبَغ وَمَسْألَة سَابّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أقْوَى لَا يُتَصَوّر فِيهَا الخِلَاف عَلَى الأصل المتقدم لِأَنَّه حَقّ مُتَعَلق للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ولأمّتِه بِسَبَبه لَا تُسْقطُه التّوْبَة كَسَائِر حُقُوق الآدَميّين وَالزّنْدِيق إذَا تَاب بَعْد القُدْرَة عَلَيْه فَعِنْد مَالِك وَاللَّيْث وَإِسْحَاق وَأَحْمَد لَا تُقْبَل تَوْبَتُه وعند الشَّافِعِيّ تُقْبَل وَاخْتُلِف فِيه عَن أَبِي حنيفة وَأَبِي يُوسُف وَحَكَى ابن المُنْذِر عَن عَلِيّ بن أَبِي طَالِب رَضِي اللَّه عَنْه يُسْتَتَاب، قَال مُحَمَّد بن سُحْنُون وَلَم يَزُل الْقَتْل عَن المسلم بالتّوْبَة من سَبّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِأَنَّه لَم يَنْتَقل من دِين إِلَى غَيْرِه وَإِنَّمَا فعل

_ (قوله وأبى يوسف) هو القاضى صاحب أبى حنفية يعقوب بن إبراهيم بن خبيب بن حبيش بن سعد بن خيثمة الأنصاري توفى سنة اثنين وثمانين ومائة وهو ابن تسع وستين سنة روى عنه أحمد بن حنبل وابن معين وغيرهما (*)

شَيْئًا حَدُّه عِنْدَنَا القَتْل لَا عَفْو فِيه لأحد كالزّنْدِيق لأنه لم ينتفل من ظَاهِر إِلَى ظاهر، وَقَال الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد بن نَصْر مُحْتَجًّا لِسُقُوط اعْتِبَار تَوْبَتِه وَالْفَرْق بَيْنَه وَبَيْن من سَبّ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَشْهُور القَوْل باسْتَتَابَتِه أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بَشَر وَالْبَشَر جِنْس تَلْحقُه المَعَرة إلَّا من أكْرَمَه اللَّه بِنُبُوَّتِه وَالْبَارِي تعالى مُنَزَّه عَن جميع المَعَايب قَطْعًا وَلَيْس من جِنْس تَلْحَق المَعَرَّة بِجِنْسِه وَلَيْس سَبُّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم كالارْتِدَاد المَقْبُول فِيه التَّوْبَة لِأَنّ الْارتدَاد مَعْنَي يَنْفَرِد بِه المُرْتَدّ لَا حَقّ فِيه لِغَيْرِه مِن الآدميين فقبلت تَوْبَتُه وَمِن سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم تَعَلّق فِيه حَقّ لآدَميّ فكان كالمُرْتَد يَقْتُل حِين ارْتِدَادِه أَو يَقْذِف فَإِنّ تَوْبَتَه لَا تُسْقط عَنْه حد القَتْل وَالْقَذْف وَأيْضًا فَإِنّ تَوْبَة المُرْتَد إذَا قُبِلَت لَا تُسْقط ذُنُوبَه من؟ ؟ ؟ وَسَرِقَة وَغَيْرِهَا وَلَم يُقْتَل سابّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِكُفْرِه لَكِن لمعنى يَرْجِع إلى تعظيم حُرْمَتِه وَزَوَال المَعَرّة بِه وَذَلِك لَا تُسْقطُه التَّوْبَة، قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل يُريد والله أَعْلَم لِأَنّ سَبَّه لَم يَكُن بِكَلِمَة تَقْتضي الْكُفْر وَلَكِن بِمَعْنَي الإزْرَاء وَالاسْتِخْفَاف أَو لِأَنّ بَتَوْبَتِه وإظْهَار إنابَتِه ارْتَفَع عَنْه اسْم الْكُفْر ظاهرًا والله أَعْلَم بِسَرِيرَتِه وبقي حُكْم السب عَلَيْه، وَقَال أَبُو عمران العابسى من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ثُمّ ارْتَد عَن الْإِسْلَام قُتِل وَلَم يُسْتَتَب، لِأَنّ السب من

_ (قوله كالمرد يقتل) هو بفتح المثناة التحتية في أوله (*)

حُقُوق الآدَميَّين الَّتِي لَا تُسْقط عَن المُرْتَدّ وكلام شُيُوخِنَا هَؤْلَاء مَبْنِيّ عَلَى القَوْل بِقَتْلِه حَدًّا لَا كُفْرًا وَهُو يَحْتَاج إِلَى تَفْصِيل * وَأَمَّا عَلَى رِوَايَة الوليد ابن مُسْلِم عَن مَالِك وَمِن وافقه عَلَى ذَلِك مِمَّن ذَكَرْنَاه وَقَال بِه من أَهْل الْعِلْم فقد صَرحُوا أنَّه رِدَّة قَالُوا وَيُسْتَتَاب مِنْهَا فإن تاب نُكّل وإن أَبِي قُتِل فَحُكِم لَه بحُكْم المُرَتَد مُطَْلقًا فِي هَذَا الْوَجْه والوجه الأوّل أشْهَر وَأظْهَر لَمّا قَدَّمْنَاه وَنَحْن نَبْسُط الْكَلَام فِيه فَنَقَوْل من لَم يَرَه رِدّة فَهُو يُوجِب القَتْل فِيه حَدًّا وَإِنَّمَا نقول ذَلِك مَع فَصْلَيْن: إِمَّا مَع إنْكَارِه مَا شُهِد عَلَيْه به أو إظهاره الإقْلاع وَالتَّوْبَة عَنْه فَنَقْتُلُه حَدًّا لِثَبَات كَلِمَة الكُفْر عَلَيْه فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَحْقِيرِه مَا عَظّم اللَّه من حَقّه وأجْرَيْنَا حُكْمَه فِي ميراثِه وَغَيْر ذَلِك حُكْم الزَّنْدِيق إذَا ظُهِر عَلَيْه وأنْكَر أَو تاب فإن قِيل فَكَيْف تُثْبِتُون عَلَيْه الكُفْر وَيَشْهَد عَلَيْه بِكَلِمَة الكُفْر وَلَا تَحْكُمُون عَلَيْه بحُكْمِه مِن الاسْتِتَابَة وتَوَابِعِهِا قُلْنَا نَحْن وإن أثْبَتْنا لَه حُكْم الكافِر فِي القَتْل فَلَا نَقْطَع عَلَيْه بِذَلِك لإقْرَارِه بالتَّوْحِيد والنُّبُوَّة وإنْكارِه مَا شُهِد بِه عَلَيْه أَو زَعْمِه أَنّ ذَلِك كَان مِنْه وَهَلًا ومعصية وَأنَّه مقلع عَن ذَلِك نادم عَلَيْه وَلَا يمتنع إثبات بَعْض أحكام الكفر عَلَى بَعْض الأشخاض وَإِنّ لَم تثبت لَه خصائصه كقتل تارك الصَّلَاة وَأَمَّا من علم أنَّه سبه معتقدًا لاستحلاله فلا

_ (قوله وهلا) في الصحاح الوهل بالتحريك الفزع قال أبو زيد: وهل يوهل في الشئ وعن الشئ وهلا إذا غلط فيه وسها (17 - 2) (*)

فصل إذا قلنا بالاستتابة

شك فِي كفره بِذَلِك وَكَذَلِك إنّ كَان سبه فِي نفسه كفر كتكذيبه أو تكفير، وَنَحْوَه فَهَذَا مِمَّا لَا إشكال فِيه ويقتل وَإِنّ تاب مِنْه لأنا لَا نقبل توبته ونقتله بَعْد التَّوْبَة حدًا لِقَوْلِه ومتقدم كفره وأمره بَعْد إِلَى اللَّه المطلع عَلَى صحة إقلاعه العالم بسره وَكَذَلِك من لَم يظهر التَّوْبَة واعترف بِمَا شهد بِه عَلَيْه وصمم عَلَيْه فَهَذَا كافر بقوله وباستحلاله هتك حرمة اللَّه وحرمة نبيه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يقتل كافرًا بِلَا خِلَاف فعلى هَذِه التفضيلات خذ كَلَام الْعُلمَاء ونزل مختلف عباراتهم فِي الاحتجاج عَلَيْهَا وأجر اختلافهم فِي الموارثة وَغَيْرِهَا عَلَى ترتيبها تتضح لَك مقاصدهم إنّ شَاء اللَّه تَعَالَى فصل إذَا قُلْنَا بالاستِتابَة حَيْث تَصِحّ فالاخْتِلاف عَلَى الاختلاف فِي تَوْبَة المُرْتَد إِذ لَا فَرْق بَيْنَهُمَا وَقَد اخْتُلِف السَّلَف فِي وجوبها وصورتها ومُدّتها فَذَهَب جُمْهُور أَهْل الْعِلْم إِلَى أَنّ المُرْتَدّ يُسْتَتَاب وَحَكى ابن القَصَّار أنَّه إجْماع مِن الصَّحابَة عَلَى تَصْويب قَوْل عُمَر فِي الاسْتِتابَة وَلَم يُنْكرْه واحد مِنْهُم وَهُو قَوْل عُثْمَان وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود وبه قَال عَطَاء بن أَبِي رَبَاح والنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيّ ومالك وأصحابُه والْأَوزَاعِيّ والشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وإسحاق وأصحاب الرأي وَذَهَب طاوُس وَعُبَيْد بن عُمَيْر والحسن فِي إحْدى الرّوايَتَيْن عَنْه أنَّه

لَا يُسْتَتاب وقاله عَبْد الْعَزِيز بن أَبِي سَلَمَة وَذَكَرَه عَن مُعاذ وأنْكَرَه سُحْنُون عَن مُعَاذ وحكاه الطّحَاويّ عَن أَبِي يُوسُف وَهُو قَوْل أَهْل الظاهِر قَالُوا وَتَنْفَعُه تَوْبَتُه عِنْد اللَّه وَلَكِن لا ندرأ القَتْل عَنْه لِقَوْلِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وحُكِيَ عَن عَطَاء أنَّه إن كَان مِمَّن وُلِد فِي الْإِسْلَام لَم يُسْتَتب ويُسْتَتاب الإسْلامِي وجُمْهُور الْعُلمَاء عَلَى أَنّ المُرْتَدّ والمرتدة فِي ذَلِك سواء وَرُوي عَن عَلِيّ رَضِي اللَّه عَنْه لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ وَتُسْتَرَقُّ قَالَه عَطَاء وقتادة وَرُوي عَن ابن عَبَّاس لَا تُقْتَل النّساء فِي الرَّدّة وبه قَال أَبُو حَنِيفَة قَال مَالِك والْحُرّ والعَبْد والذّكَر والأنْثى فِي ذَلِك سواء وَأَمَّا مُدَّتُها فَمَذْهَب الجُمْهُور وَرُوي عَن عُمَر أنَّه يُسْتَتاب ثَلَاثَة أيَّام يُحْبَس فِيهَا وَقَد اخْتلف فِيه عَن عُمَر وَهُو أحَد قَوْلَي الشَّافِعِيّ وقول أَحْمَد وإسحاق واسْتَحْسَنَه مَالِك وَقَال لَا يَأْتي الاسْتِظْهَار إلَّا بِخَيْر وَلَيْس عَلَيْه جَمَاعَة النَّاس قَال الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد يريد فِي الاستيناء ثلاثا وَقَال مَالِك أيْضًا الَّذِي آخُذ بِه فِي المرتد قَوْل عُمَر يحبس ثَلَاثَة أيام ويعرض عَلَيْه كُلّ يَوْم فَإِنّ تاب وَإِلَّا قتل وَقَال أَبُو الْحَسَن بن القصار فِي تأخيره ثلاثا روايتان عَن مَالِك هَل ذَلِك واجب أو مستحب واستحسن الاستتابة والاستيناء ثلاثا أَصْحَاب الرّأي وَرُوي عَن أَبِي بَكْر الصديق أنه اسْتَتَاب امْرَأة فَلَم نتب فقتلها، وَقَال الشافعي مرة فقال إن لَم يَتُب مكانه قتل واستحسنه المزني وَقَال الزُّهْرِيّ يدعى

إِلَى الْإِسْلَام ثَلَاث مرات فَإِن أَبَى قتل وَرُوي عَن عَلِيّ رَضِي اللَّه عَنْه يستتاب شهرين، وَقَال النخعي يستتاب أبدًا وبه أخذ الثَّوْرِيّ مَا رجيت توبته، وَحَكَى ابن القصار عَن أبي حنيفة أنَّه يستتاب ثَلَاث مرات فِي ثَلَاثَة أيَّام أَو ثَلَاث جُمَع كُلّ يَوْم أَو جُمُعة مَرَّة وَفِي كِتَاب مُحَمَّد عَن ابن الْقَاسِم يُدْعَى المُرْتَدّ إِلَى الْإِسْلَام ثَلَاث مرات فَإِن أبى ضُرِبَت عُنُقُه واخْتُلِف عَلَى هَذَا هَل يُهَدَّد أَو يُشَدَّد عَلَيْه أيَّام الاسْتِتابَة لِيَتُوب أم لَا فَقَال مَالِك مَا عَلِمْت فِي الاسْتِتابَة تَجْويعًا وَلَا تَعطيشًا وَيُؤْتى مِن الطَّعَام بِمَا لَا يَضُرَّه وَقَال أصْبَغ يُخَوف أيَّام الاستتابة بالقتل وبعرض عَلَيْه الْإِسْلَام وَفِي كِتَاب أَبِي الْحَسَن الطَّابثي يُوعَظ فِي تِلْك الأيَّام وَيُذَكَّر بالْجَّنة وَيُخَوَّف بالنَّار قَال أصْبَغ وأيّ المَوَاضِع حُبس فِيهَا مِن السُّجُون مَع النَّاس أَو وَحْدَه إذَا اسْتُوثِق مِنْه سَوَاء وَيُوقَف مالُه إذَا خِيف أن يُتْلِفَه عَلَى الْمُسْلِمِين ويُطْعَم مِنْه وَيُسْقى وَكَذَلِك يُسْتَتَاب أبدًا كُلَّمَا رَجَع وارْتَدّ وَقَد اسْتَتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم نَبْهَان الَّذِي ارْتَدّ أرْبَع مَرَّات أَو خَمْسًا قَال ابن وَهْب عَن مَالِك يُسْتَتَاب أبدا كُلَّمَا رجع وَهُو قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وقاله ابن الْقَاسِم وَقَال إِسْحَاق يُقْتَل فِي الرَّابِعَة وَقَال أَصْحَاب الرَّأْي إن لَم يَتُب فِي الرَّابِعَة قُتِل دُون اسْتتَابة وإن تاب ضُرِب ضَرْبًا وجِيعًا وَلَم يَخْرُج مِن السَّجْن حَتَّى يَظْهَر عَلَيْه خُشُوع التَّوْبَة قَال ابن المُنْذِر وَلَا نَعْلَم أحدا

_ (قوله أَبِي الْحَسَن الطَّابثي) هو بطاء مهملة وباء موحدة مكسورة وثاء مثلثة (*)

فصل هذا حكم من ثبت عليه ذلك

أوْجَب عَلَى المُرْتَد فِي المَرَّة الأولى أدبًا إذَا رجع وَهُو عَلَى مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالكوفي فصل هَذَا حكم من ثبت عَلَيْه ذَلِك بِمَا يجب ثبوته من إقرار أَو عدول لَم يدفع فِيهِم فَأَمَّا من لَم تَتِمّ الشَّهَادَة عليه بِمَا شَهِد عَلَيْه الْوَاحِد أَو اللَّفِيف مِن النَّاس أَو ثَبَت قَوْلُه لَكِن احْتمَل وَلَم يَكُن صريحا وَكَذَلِك إن تاب عَلَى القَوْل بقبول توبته فَهَذَا يدرأ عَنْه القَتْل ويتسلط عَلَيْه اجتهاد الْإِمَام بقدر شهرة حاله وقوة الشَّهَادَة عَلَيْه وضعفها وكثرة السماع عَنْه وصوره حاله مِن التهمة فِي الدين والنبر بالسفه والمجون فَمَن قوي أمره أذاقه من شديد النكال مِن التضييق فِي السجن والشد فِي القيود إلى العاية الَّتِي هِي منتهى طاقته مِمَّا لَا يمنعه القيام لضرورته وَلَا يقعده عَن صلاته وَهُو حكم كُلّ من وجب عَلَيْه القَتْل لَكِن وقف عَن قتله لمعنى أوجبه وتربص بِه لإشكال وعائق اقتضاه أمره وحالات الشدة فِي نكاله تختلف بحسب اخْتِلَاف حاله وَقَد رَوَى الْوَلِيد عَن مالك والْأَوزَاعِيّ أَنَها رِدَّة فَإِذَا تاب نكل ولمالك فِي العتبية وكتاب مُحَمَّد من رِوَايَة أشهب إذَا تاب

_ (قوله والنبر) بالنون المفتوحة والموحدة الساكنة والراء مصدر نبره ينبره نبرا أي لقنه (*)

فصل هذا حكم المسلم فأما الذمي

المرتد فَلَا عقوبة عَلَيْه وقاله سُحْنُون وأفتى أَبُو عَبْد اللَّه بن عتاب فِيمَن سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فشهد عَلَيْه شاهدان عدل أحَدُهُمَا بالأدب الموجع والتنكيل والسجن الطويل حَتَّى تظهر توبته وَقَال القابسي فِي مِثْل هَذَا وَمِن كَان أقصى أمره القتل فعاق عائِق أشْكَل فِي القَتْل لَم يَنْبَغ أن يُطْلَق مِن السَّجْن وَيُسْتَطَال سِجْنُه وَلَو كَان فِيه مِن المُدَّة مَا عسى أَنّ يُقِيم ويُحْمَل عَلَيْه مِن القَيْد مَا يُطِيق وَقَال فِي مِثْلِه مِمَّن أشْكَل أمْرُه يُشَدّ فِي القُيُود شَدًّا وَيُضَيَّق عَلَيْه فِي السّجْن حَتَّى يُنْظَر فِيمَا يَجِب عَلَيْه، وَقَال فِي مَسْأَلَة أُخْرَى مِثْلِهَا وَلَا تُهْرَاق الدّماء إلَّا بالأمْر الواضِح وَفِي الأدَب بالسّوْط والسّجْن نكال للسفهاء ويعاقب عقوبة شديدة فَأَمَّا إن لَم يشهد عَلَيْه سوى شاهدين فأثبت من عداوتهما أَو جرحتهما مَا أسقطهما عَنْه وَلَم يُسْمَع ذَلِك من غَيْرِهِمَا فَأمْرُه أخَفّ لِسُقُوط الْحُكْم عَنْه وكأنه لَم يُشْهَد عَلَيْه إلَّا أَن يَكُون مِمَّن يَليق بِه ذَلِك وَيَكُون الشاهدان من أَهْل التَّبْرِيز فأسْقَطَهُما بِعَداوَة فَهُو وَإن لَم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فَلَا يدفع الظن صدقهما وللحاكم هُنَا فِي تنكيله موضع اجتهاد والله ولي الإرشاد فصل هَذَا حُكْم المسلم فَأَمَّا الذَّمّيّ إذَا صَرَّح بِسَبّه أَو عَرّض أَو اسْتَخَفّ بِقَدْرِه أَو وَصَفَه بغير الوَجْه الَّذِي كَفَر بِه فَلَا خِلَاف عِنْدَنَا فِي قتله إن

_ (قوله عتاب) بفتح العين المهمة وتشديد المثناة الفوقية (*)

لَم يُسْلم لأنا لَم نُعْطِه الذَّمَّة أَو العَهْد عَلَى هَذَا وَهُو قَوْل عامّة الْعُلمَاء إلَّا أَبَا حَنِيفَة والثَّوْرِيّ وأتْباعَهُما من أَهْل الكُوفَة فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يُقْتَل لِأَنّ مَا هُو عَلَيْه مِن الشّرْك أعظم وَلَكِن يُؤْدّب ويعذر واسْتَدَلّ بَعْض شُيُوخنا عَلَى قَتْلِه بِقَوْلِه تَعَالَى (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دينكم) الآيَة، وَيُسْتَدَلّ أيْضًا عَلَيْه بِقَتْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لابن الأشْرَف وأشْباهِه ولأنَّا لَم نُعاهِدْهُم وَلَم نُعْطِهِم الذَّمّة عَلَى هَذَا وَلَا يَجُوز لَنَا أن نَفْعَل ذَلِك مَعَهُم فَإِذَا أتَوْا مَا لَم يُعْطَوْا عَلَيْه العَهْد وَلَا الذّمَّة فَقَد نَقَضُوا ذِمَّتَهُم وصارُوا كُفّارًا أَهْل حَرْب يُقْتَلُون لِكُفْرِهِم وأيضًا فَإِنّ ذِمَّتَهُم لَا تُسْقط حُدود الْإِسْلَام عَنْهُم مِن القَطْع فِي سَرِقَة أمْوالِهِم والقَتْل لِمَن قَتَلُوه مِنْهُم وَإِنّ كَان ذَلِك حلالًا عندهم فكذلك سبهم للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يقتلون بِه ووردت لأصحابنا ظواهر تقتضي الخِلَاف إذَا ذكره الذمي بالوجه الَّذِي كفر بِه ستقف عَلَيْهَا من كَلَام ابن الْقَاسِم وَابْن سُحْنُون بَعْد وَحَكَى أَبُو المصعب الخِلَاف فِيهَا عَن أصحابه المدنيين واختلفوا إذَا سبه ثُمّ أسلم فَقِيل، يسقط إسلامه قتله لِأَنّ الْإِسْلَام يجب مَا قبله بخلاف المسلم إذَا سبه ثم ناب لأنا نعلم باطنة الكافر فِي بغضه لَه وتنقصه بقلبه لكنا منعناه من إظهاره فَلَم يزدنا مَا أظهره إلَّا مخالفة للأمر ونقضًا للعهد فَإِذَا رجع عَن دينه الأوّل إِلَى الْإِسْلَام سقط مَا قبله، قَال اللَّه تَعَالَى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) والمُسْلِم بخلافه

إِذ كَان ظَنُّنا بِباطِنِه حُكْم ظاهِرِه وخلاف مَا بَدا مِنْه الآن فَلَم نَقْبَل بَعْد رُجُوعَه وَلَا اسْتَنَمْنا إِلَى باطِنِه إذ قَد بدت سرائره وما ثَبت عَلَيْه مِن الأحْكام باقية عَلَيْه لَم يسقطها شئ وَقِيل لَا يُسْقط إسلام الذَّمّيّ السابّ قتله لِأَنَّه حَقّ للنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَجَب عَلَيْه لانْتَهاكِه حُرْمته وقَصْدِه إلْحَاق النَّقِيصَة والمَعَرّة بِه فَلَم يَكُن رُجُوعُه إِلَى الْإِسْلَام بالذي يُسْقِطُه كَمَا وجب عَلَيْه من حقوق الْمُسْلِمِين من قَبْل إسْلامِه من قَتْل وَقَذْف وَإذَا كُنَّا لَا نَقْبَل تَوْبَة المسلم فَأِنّ لَا نقبل توبة الكافر أولى. قَال مَالِك فِي كِتَاب ابن حبيب المبسوط وَابْن الْقَاسِم وَابْن الماجِشُون وَابْن عَبْد الحَكَم وأصْبَغ فِيمَن شَتَم نَبِيّنا من أَهْل الذّمَّة أَو أَحَدًا مِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قتل إلَّا أَن يُسْلم وَقَالَه ابن الْقَاسِم فِي العتبية وعند مُحَمَّد وَابْن سُحْنُون وَقَال سُحْنُون وأصبغ لَا يقال لَه أسلم وَلَا لَا تسلم وَلَكِن إن أسلم فَذَلِك لَه توبة وَفِي كِتَاب مُحَمَّد أَخْبَرَنَا أَصْحَاب مَالِك أنَّه قَال من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو غَيْرِه مِن النَّبِيّين من مُسْلِم أَو كافر قُتِل وَلَم يُسْتَتَب وَرُوي لَنَا عَن مَالِك إلَّا أن يُسْلِم الكافر وَقَد رَوَى ابن وَهْب عَن ابن عمر أَنّ رَاهِبًا تَنَاوَل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَقَال ابن عُمَر فَهَلا قتلتموه وَرَوَى عِيسَى عَن ابن الْقَاسِم فِي ذمي قَال إنّ مُحَمَّدًا لَم يُرْسَل إِلَيْنَا إنَّمَا أرسل إِلَيْكُم وَإِنَّمَا نبينا موسى أَو عِيسَى ونحو هَذَا لَا شئ

_ (قوله في كتاب محمد) هو أبو المواز (*)

عَلَيْهِم لِأَنّ اللَّه تَعَالَى أقَرَّهُم عَلَى مِثْله وَأَمَّا إن سَبَّه فَقَال لَيْس بِنَبِيّ أَو لَم يُرْسَل أَو لَم يُنْزَل عَلَيْه قُرْآن وإنما هو شئ تقوله أَو نَحْو هَذَا فَيُقْتَل قَال ابن الْقَاسِم وَإذَا قَال النَّصْرَانِيّ دِينُنَا خَيْر من دِينِكُم إنَّمَا دِينُكُم دِين الْحَمِير ونحو هَذَا مِن القبيح أَو سَمِع المؤذن يَقُول أشهد أَنّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه فَقَال كَذَلِك يعطيكم اللَّه ففي هَذَا الأدب المُوجِع والسَّجْن الطويل قَال وَأَمَّا إن شَتَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم شَتْمًا يُعْرَف فَإنَّه يقتل إلَّا أَن يُسْلِم قاله مَالِك غَيْر مَرَّة وَلَم يقل يستتاب قَال ابن الْقَاسِم ومحمل قَوْله عِنْدِي إن أسلم طائعًا، وَقَال ابن سُحْنُون فِي سؤالات سُلَيْمَان بن سالم فِي اليهودي يقول لمؤذن إذَا تَشَهّد كَذَبْت يُعَاقَب العُقُوبة المُوجِعَة مَع السجن الطويل وَفِي النوادر من رِوَايَة سُحْنُون عَنْه من شتم الْأَنْبِيَاء مِن الْيَهُود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضرب عنقه إلا أن يُسْلِم قَال مُحَمَّد ابن سُحْنُون فإن قِيل لَم قَتَلْتَه في سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَمِن دِينِه سَبَّه وتكذيبه قِيل لأنَّا لَم نُعْطِهِم العَهْد عَلَى ذَلِك وَلَا عَلَى قَتْلِنَا وأخْذ أمْوالِنَا فَإِذَا قَتَل واحدًا منا قتلناه وإن كَان من دينه استحلاله فكذلك إظهاره لسب نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم قَال سُحْنُون كَمَا لَو بذل لَنَا أَهْل الْحَرْب الْجزْيَة عَلَى إقْرَارِهِم عَلَى سَبَّه لَم يَجُز لَنَا ذَلِك فِي قَوْل قائل كَذَلِك يْنَتَقِض عهد من سَبّ مِنْهُم ويحل لَنَا دمه وكما لَم يُحَصّن الْإِسْلَام من سَبَّه مِن القَتْل كَذَلِك لَا تُحَصّنُه الذّمَّة قَال الْقَاضِي أَبُو

الْفَضْل مَا ذَكَرَه ابن سُحْنُون عَن نفسه وَعَن أَبِيه مُخَالِف لِقَوْل ابن الْقَاسِم فِيمَا خفَّف عُقُوبَتَهُم فِيه مِمَّا بِه كَفُروا فَتَأمّلْه وَيَدُلّ عَلَى أنَّه خِلَاف مَا رُوِي عَن المدنيين فِي ذَلِك فحَكى أَبُو المُصْعَب الزُّهْرِيّ قَال أُتيت بِنَصْرَانِيّ قَال والذي اصْطَفَى عِيسَى عَلَى مُحَمَّد فاخْتُلِف عَلَيّ فِيه فَضَربْتُه حَتَّى قَتَلْتُه أَو عَاش يَوْمًا وَلَيْلَة وأمَرْت من جر بِرِجْلِه وطُرح عَلَى مزْبَلَة فَأَكَلَتْه الكلاب وسئل أَبُو المصعب عَن نصراني قَال عِيسَى خلق مُحَمَّدًا فَقَال يُقْتَل وَقَال ابن الْقَاسِم سَألنا مالكًا عَن نَصْرَانِيّ بِمِصْر شُهِد عَلَيْه أنَّه قَال مِسْكِين مُحَمَّد يُخبرُكُم أنَّه فِي الجنة ماله لم ينفع نَفْسَه إِذ كَانَت الكلاب تَأْكُل سَاقَيْه لَو قَتَلُوه اسْتَرَاح مِنْه النَّاس قَال مَالِك أرَى أَن تُضْرَب عُنُقُه قَال وَلَقَد كدت أن لَا أتكلم فِيهَا بشئ ثُمّ رَأَيْت أنَّه لَا يسعني الصمت قَال ابن كنانة فِي المبسوطة من شتم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن الْيَهُود والنّصَارَى فَأرى للإمام أَن يحرقه بالنار وَإِن شَاء قَتَله ثُمّ حَرَق جثته وَإِن شَاء أحرقه بالنار حَيًّا إذَا تهافتوا فِي سبه وَلَقَد كُتِب إِلَى مَالِك من مصر وَذَكَر مسألة ابن الْقَاسِم المُتَقَدّمَة قَال فأمَرَنِي مَالِك فَكَتَبْت بأن يقتل وتضرب عنقه فَكَتَبْت ثُمّ قُلْت يَا أَبَا عَبْد اللَّه وأكتب ثُمّ يحرق بالنار فَقَال إنَّه لحقيق بِذَلِك وَمَا أولاه بِه فكتبته بيدي بَيْن يديه فَمَا أنْكَرَه وَلَا عَابَه ونفذت الصحيفة بِذَلِك فَقُتِل وحرق، وأفنى عبيد اللَّه بن يَحْيَى وَابْن لُبَابَة فِي جَمَاعَة

_ (قوله على مزبلة) بفتح الميم وتثليث الموحدة (*)

فصل في ميراث من قتل في سب النبي صلى الله عليه وسلم وغسله والصلاة عليه

سلف أصحابنا الأنْدَلُسِيّين بِقَتْل نَصْرَانِيّة اسْتَهْلّت بنفي الرُّبُوبِيّة ونُبُوَّة عِيسَى لله وتَكْذِيب مُحَمَّد فِي النُّبُوَّة وبقَبُول إسْلَامِهَا وَدَرْء القَتْل عَنْهَا بِه قَالَ غَيْر وَاحِد مِن المُتَأَخّرِين، مِنْهُم القَابِسِيّ وَابْن الْكَاتِب، وَقَال أَبُو الْقَاسِم ابن الجَلَّاب فِي كِتابِه من سَبّ اللَّه وَرَسُولَه من مُسْلِم أَو كَافِر قُتِل وَلَا يُسْتَتَاب وَحَكى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّد فِي الذَّمّيّ يَسُبّ ثُمّ يُسْلِم رِوَايَتَيْن فِي دَرْء القَتْل عَنْه بإسْلَامِه، وَقَال ابن سُحْنُون وحدّ القَذْف وشِبْهُه من حُقُوق العِبَاد لَا يُسْقطُه عَن الذَّمّيّ إسْلَامُه وَإِنَّمَا يَسْقُط عَنْه بإسْلَامِه حُدُود اللَّه فَأَمَّا حَدّ القَذْف فَحَقّ لِلْعِبَاد كَان ذَلِك لِنَبيّ أَو غَيْرِه فأوْجَب عَلَى الذَّمّيّ إذَا قَذَف النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ثُمّ أسْلَم حَد الْقَذْف وَلَكِن انْظُر ماذا يَجِب عَلَيْه هَل حَدّ القَذْف فِي حَقّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَهُو القَتْل لِزيَادَة حُرْمَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى غيره أم هل يسقط القَتْل بإسلامه ويحد ثمانين فتأمله فصل فِي ميراث من قتل فِي سَبّ النبي صلى الله عَلَيْه وَسَلَّم وغسله والصلاة عَلَيْه اخْتُلِف العلماء فِي ميرَاث من قُتِل بسَبّ النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم

_ (قوله استهلت) أي رفعت صوتها (*)

فَذَهِب سُحْنُون إِلَى أنَّه لِجمَاعَة الْمُسْلِمِين من قِبَل أَن شَتْم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم كفر يشبه كفر الزّنْدِيق، وَقَال أَصْبَغ مِيرَاثُه لِوَرَثَتِه مِن الْمُسْلِمِين إن كَان مُسْتَسِرا بِذَلِك وإن كَان مُظْهِرًا لَه مستهلا بِه فميراثه للمسلمين ويقتل عَلَى كُلّ حال وَلَا يستتاب، قَال أَبُو الْحَسَن القابسي: (إن قتل وَهُو منكر للشهادة عَلَيْه فالحكم فِي ميراثه عَلَى مَا أظهر من إقراره يَعْنِي لورثته والقتل حد ثبت عَلَيْه لِيس من الميراث في شئ وَكَذَلِك لَو أقر بالسب وأظهر التَّوْبَة لقتل إِذ هُو حده وحكمه فِي ميراثه وسائر أحكامه حكم الْإِسْلَام وَلَو أقر بالسب وتمادى عَلَيْه وأبى التَّوْبَة مِنْه فقتل عَلَى ذَلِك كَان كافرًا وميراثه للْمُسْلِمِين وَلَا يغسل وَلَا يصلى عَلَيْه وَلَا يكفن وتستر عورته ويوارى كَمَا يفعل بالكفار وقول الشَّيْخ أَبِي الحسن فِي المجاهر المتمادي بَيْن لَا يمكن الخِلَاف فِيه لِأَنَّه كافر مرتد غَيْر تائب وَلَا مقلع وَهُو مِثْل قَوْل أَصْبَغ وَكَذَلِك فِي كِتَاب ابن سُحْنُون فِي الزّنْدِيق يتمادى عَلَى قَوْلِه، وَمِثْلُه لابن الْقَاسِم فِي العُتْبيّة وِلِجَمَاعَة من أَصْحَاب مَالِك فِي كِتَاب ابن حَبيب فِيمَن أعْلَن كُفْرَه مِثْلُه، قَال ابن الْقَاسِم وحُكْمُه حُكْم الْمُرْتَدّ لَا تَرِثُه مِن الْمُسْلِمِين وَلَا من أَهْل الدّين الَّذِي ارْتَد إليْه وَلَا يَجُوز وَصاياه وَلَا عِتْقُه، وَقَالَه أَصْبَغ قُتِل عَلَى ذَلِك أَو مات عَلَيْه وَقَال أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد وَإِنَّمَا يُخْتَلَف فِي ميراث الزَّنْدِيق الَّذِي يَسْتَهِلّ بِالتَّوْبَة فَلَا تُقْبَل مِنْه فَأَمَّا المُتَمَادِي فَلَا خِلَاف أنَّه لَا يُورَث، وَقَال

أَبُو مُحَمَّد فيمَن سَبّ اللَّه تَعَالَى ثُمّ مات وَلَم تُعَدَّل عَلَيْه بَيّنَه أَو لَم تُقْبَل إنَّه يُصَلَّى عَلَيْه، وَرَوَى أَصْبَغ عَن ابن الْقَاسِم فِي كِتَاب ابن حبيب فِيمَن كَذَّب برَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو أعْلَن دِينًا مِمَّا يُفَارِق بِه الْإِسْلَام أنّ ميراثه للْمُسْلِمِين، وَقَال: بقول مالك إن مِيراث المُرْتَد للْمُسْلِمِين وَلَا تَرِثُه وَرَثَتُه رَبِيعَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن أَبِي لَيْلَى واختلف فِيه عَن أَحْمَد وَقَال عَلِيّ بن أَبِي طَالِب رَضِي اللَّه عَنْه وَابْن مَسْعُود وابن المسيب والحسن والشعبى وعمر بن عبد العزيز والحكم والأوزاعي والليث وإسحاق وَأَبُو حنيفة يَرِثُه ورثتُه مِن الْمُسْلِمِين وَقِيل ذَلِك فِيمَا كسبه قَبْل ارْتِدادِه وَمَا كسبه فِي الارتداد فَلِلْمُسْلِمِين وتفصيل أَبِي الْحَسَن فِي باقي جوابه حَسَن بين وهو على رأي أَصْبَغ وخلاف قَوْل سُحْنُون واختلافهما عَلَى قولي مَالِك فِي ميراث الزّنْدِيق فمرة ورثه ورثته مِن الْمُسْلِمِين قامت عَلَيْه بِذَلِك بَيّنَة فأنْكَرَها أو اعْتَرَف بِذَلِك وأظْهَر التَّوْبَة، وقاله أَصْبَغ وَمُحَمَّد بن مَسْلَمَة وَغَيْر واحِد من أصحابه لِأَنَّه مُظْهِر للإسلام بإنْكاره أَو تَوْبَتِه وَحُكْمُه حُكْم المنافقين الذين

_ (قوله أم لم تقتل) بضم المثناة الفوقية أوله (قوله ربيعة) هو ابن أبى عبد الرحمن واسم أبى عبد الرحمن فروخ مولى المنكدر قَال مَالِك رَحِمَه الله ذهبت حلاوة الفقه منذ مات أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وابنه محمد كانا يجلسان في حلقته استقدمه أبو العباس السفاح إلى الأنبار لتوليته القضاء فلم يفعل. توفى سنة ست وثلاثين ومائة (*)

الباب الثالث في حكم من سب الله تعالى وملائكته وأنبياءه وكتبه وآل النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وصحبه

كَانُوا عَلَى عهد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَرَوَى ابن نافِع عَنْه فِي العُتْبية وكتاب مُحَمَّد أَنّ ميراثَه لِجَمَاعَة الْمُسْلِمِين لِأَنّ مَالَه تَبَع لِدَمِه، وَقَال بِه أيضًا جَمَاعَة من أصحابه، وقاله أشهَب والمُغِيرَة وَعَبُد الْمَلِك وَمُحَمَّد، وسُحْنُون وَذَهَب ابن قاسم فِي العُتْبيَّة إِلَى أنَّه إن اعتَرَف بِمَا شُهِد عَلَيْه بِه وتاب فَقُتل فَلَا يُورَث وإن لم يُقرّ حَتَّى مات أَو قُتِل وُرّث، قَال وَكَذَلِك كُلّ من أسَرّ كُفْرًا فَإِنَّهُم يَتَوارَثُون بوِراثَة الْإِسْلَام وسُئِل أَبُو الْقَاسِم بن الكاتِب عَن النصراني يَسُبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَيُقْتَل هَل يَرِثُه أَهْل دينِه أم الْمُسْلِمُون فَأَجَاب أنَّه للْمُسْلِمِين لَيْس عَلَى جهَة الْمِيراث لِأَنَّه لَا تَوارُث بَيْن أَهْل ملّتَيْن وَلَكِن لِأَنَّه من فَيئِهِم لنَقْضِه العَهْد هَذَا مَعْنَي قَوْلِه واخْتصارُه الْبَاب الثالث فِي حكم من سَبّ اللَّه تَعَالَى وملائكته وأنبياءه وكتبه وآل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وأزواجه وصحبه لَا خِلَاف أَنّ سابّ اللَّه تَعَالَى من الْمُسْلِمِين كافر حلال الدّم واختلف فِي استِتَابته فَقَال ابن الْقَاسِم فِي الْمَبْسُوط وَفِي كِتَاب ابن سُحْنُون وَمُحَمَّد وَرَوَاه ابن الْقَاسِم عَن مَالِك فِي كِتَاب إِسْحَاق بن يحى يمن سَبّ اللَّه تَعَالَى مِن الْمُسْلِمِين قُتل وَلَم يُسْتَتَب إلَّا أن يَكُون افْتراء عَلَى اللَّه بارْتداده إِلَى دِين دان بِه وأظْهَرَه فَيُسْتَتَاب وإن لَم يُظْهِرْه لَم يُسْتَتب، وَقَال فِي الْمَبْسُوطَة مُطَرّف

وَعَبُد الْمَلك مِثْلُه، وَقَال الْمَخْزُومِيّ وَمُحَمَّد بن مَسْلَمَة وَابْن أبي حازم لا يقتل الملم بالسّبّ حَتَّى يستتاب وَكَذَلِك اليَهُودِيّ والنّصْرَانِيّ فإن تابُوا قبل مِنْهُم وإن لَم يَتُوبُوا قُتلوا وَلَا بُد مِن الاسْتِتابَة وَذَلِك كُلُّه كالرّدّة وَهُو الَّذِي حَكاه الْقَاضِي ابن نَصْر عَن المَذْهَب وأفْتى أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد فِيمَا حُكِي عَنْه فِي رَجُل لَعَن رَجُلًا وَلَعن اللَّه فَقَال إنَّمَا أردْت أن الْعَن الشَّيْطَان فَزَلّ لِساني فَقَال يقتل بظاهر كفره وَلَا يقبل عذره وَأَمَّا فِيمَا بينه وَبَيْن اللَّه تَعَالَى فمعذور واختلف فُقَهَاء قُرْطُبَة فِي مسالة هارون ابن حبيب أخي عَبْد الْملك الْفَقِيه وَكَان ضَيّق الصّدْر كثير التَّبَرُّم وَكَان قَد شُهِد عَلَيْه بِشَهَادَات مِنْهَا أنَّه قَال عِنْد اسْتِلاله من مرض لقيت فِي مَرَضي هَذَا مَا لَو قَتَلْت أَبَا بَكْر وعمر لَم استوجب هَذَا كُلّه فَأفتى إبْرَاهِيم ابن حسين بن خَالِد بقتله وَأَنّ مضمن قَوْله تجوير لله تَعَالَى وتظلم مِنْه والتعريض فِيه كالتصريح وأفتى أخُوه عَبْد الْمَلك بن حَبيب وإِبْرَاهِيم بن حُسَيْن بن عاصِم وسعيد بن سُلَيْمَان الْقَاضِي بِطَرْح القَتْل عَنْه إلَّا أَنّ الْقَاضِي رَأى عَلَيْه التَّثْقِيل فِي الحَبْس والشَّدّة فِي الأدَب لاحْتمال كلامه وصرفه إلا التَّشكّي فَوَجّه من قَال فِي سابّ اللَّه بالاستتابة أنَّه كُفْر وَرِدّة مَحْضَة لَم يتَعَلّق بِهَا حَقّ لِغَيْر اللَّه فَأشْبَه قَصْد الكُفْر بِغَيْر سَبّ اللَّه وإظْهَار الانْتقال إلى دِين آخَر مِن الأدْيان المُخَالِفَة لِلْإِسْلَام

_ (قوله كثير التبرم) بفتح المثناة الفوقية والموحدة مصدر تبرم بمعنى تشاءم (*)

فصل وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به

وَوَجْه تَرْك اسْتِتَابِته أنه لما ظَهَر مِنْه ذَلِك بَعْد إظْهار الْإِسْلَام قَبْل اتهمناه وظننا أَنّ لسانه لَم ينطق بِه إلَّا وَهُو معتقد لَه إِذ لَا يَتَسَاهَل فِي هَذَا أَحَد فَحُكِم لَه بحكم الزَّنْدِيق وَلَم تُقْبَل توبته وَإذَا انْتَقَل من دِين إلى دِين آخَر وأظْهَر السّبّ بِمَعْنَي الارْتِدَاد فَهَذَا قَد أعْلَم أنَّه خَلَع رِبْقَه الْإِسْلَام من عُنُقِه بِخِلَاف الأوّل المستمسك بِه وحُكْم هَذَا حُكْم المُرْتَد يُسْتَتَاب عَلَى مَشْهُور مَذاهِب أَكْثَر الْعُلمَاء وَهُو مَذْهَب مَالِك وأصحابه عَلَى ما بَيَّنَاه قَبْل وَذَكَرْنا الخِلَاف فِي فُصُولِه فصل وَأَمَّا من أضاف إِلَى اللَّه تَعَالَى مَا لَا يَلِيق بِه لَيْس عَلَى طريق السَّبّ وَلَا الرّدَّة وَقَصْد الكُفْر وَلَكِن عَلَى طَرِيق التَّأْوِيل والاجْتِهاد والخَطَإ المُفْضِي إِلَى الْهَوَى والبدعَة من تَشْبيه أَو نَعْت بِجارحَة أَو نَفْي صِفَة كَمَال فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَف السَّلَف وَالْخَلَف فِي تَكْفِير قائِلِه ومُعْتقِدِه واخْتَلف قَوْل مَالِك وأصحابِه فِي ذَلِك وَلَم يَخْتِلِفُوا فِي قِتالِهِم إذَا تَحَيَّزُوا فِئَة وَأَنَّهُم يُسْتَتابُون فإن تابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي المُنْفَرِد مِنْهُم فأكْثَر قَوْل مَالِك وأصحابِه تَرْك القَوْل بِتَكْفِيرِهِم وتَرْك قَتْلِهِم وَالْمُبَالغَة فِي عُقُوبَتِهِم وإطالَة سِجْنِهِم حَتَّى يَظْهَر إقْلاعُهُم وتَسْتَبين تَوْبَتُهُم كَمَا فعل

_ (قوله ربقة الإسلام) بكسر الراء وسكون الموحدة أي أحكام الإسلام وأصل الربقة عروة في حبل يجعل في عنق البهيمة أو يدها بمسكها (*)

عُمَر رَضِي اللَّه عَنْه بِصَبِيغ وَهَذَا قول مُحَمَّد بن المَوّاز فِي الخَوارِج وَعَبُد الملك بن الماجِشُون وقول سُحْنُون فِي جميع أَهْل الأهْوَاء، وبه فُسّر قوله مَالِك فِي المُوَطَّإ وما رواه عَن عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز وَجَدَّه وعمه من قولهم فِي القدرية يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، وقال عيسى بن القاسم في أهل الأهواء من الإباضية والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف لتأويل كتاب اللَّه يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه فإن تابوا وإلا قتلوا وميراثهم لورثتهم، وقال مثله أيضا ابن القاسم في كتاب محمد في أهل القدر وغيرهم قال واستتابتهم أن يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه ومثله في المبسوط في الإباضِيَّة وَالقَدَرِيَّة وَسائِر أَهْل البِدَع قَال وهُم مُسْلِمُون وَإِنَّمَا لِرَأْيِهِم السُّوء وبهذا عمل عمر ابن عَبْد الْعَزِيز، قَال ابن الْقَاسِم: (من قَال إن اللَّه لَم يُكَلّم مُوسَى تَكْلِيمًا اسْتُتيب فإن تاب وَإِلَّا قُتل) وَابْن حَبِيب وَغَيْره من أصْحَابِنا يرى تكفيرهم

_ (قوله بصبيغ) بفح الصاد المهملة وكسر الموحدة وفى آخره غين معجمة هو ابن عسل بكسر العين وسكون السين المهملتين قال يحيى بن معين كان يتبع مشكل القرآن ويسأل عنه عمر فضربه عمر وأمر أن لا يجالس (قوله من الإباضية) بكسر الهمزة وتخفيف الموحدة والضاد المعجمة وتشديد المثناة أصحاب عبد الله بن إباض التميمي الخارجي ظهر في زمن مروان بن محمد آخر بنى أمية وقيل في آخر أمره، يزعمون أن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين يجوز قتالهم وغنيمة سلاحهم وكراعم عند الحرب دون غيره ودارهم دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم كذا في المواقف (18 - 2) (*)

وَتَكْفِير أمْثَالِهِم مِن الخَوَارِج وَالقَدَرِيَّة وَالمُرْجِئَة، وَقَد رُوِي أيْضًا عَن سُحْنُون مِثْلُه فِيمَن قَال لَيْس لله كَلَام أنَّه كافر واختلفت الروايات عَن مَالِك فَأطْلَق فِي رِوَايَة الشامِيَّين أَبِي مُسْهِر وَمَرْوَان بن مُحَمَّد الطاطِريّ: (الكُفْر عَلَيْهِم) وَقَد شُووِر فِي زَواج القَدَرِيّ فَقَال: لَا تُزَوّجْه) قَال اللَّه تَعَالَى: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مشرك) وروى عند أيْضًا أَهْل الأهْواء كُلُّهُم كُفّار وَقَال من وَصَف شَيْئًا من ذات اللَّه تعالى وأشار إلى شئ من جَسَدِه يَد أَو سَمْع أَو بَصَر قُطِع ذَلِك مِنْه لِأَنَّه شَبّه اللَّه بنَفْسِه وَقَال فِيمَن قَال الْقُرْآن مَخْلُوق كافر فاقْتُلُوه وَقَال أيْضًا فِي رِوَايَة ابن نافع يُجْلَد ويوجع ضربا ويحبس حَتَّى يتوب وَفِي رِوَايَة بِشْر بن بَكْر التنيسي عَنْه يقتل وَلَا تقبل توبته قَال الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّه البرنكاني والقاضي أَبُو عَبْد اللَّه التُّسْتَرِيّ من أئِمَّة العراقيين جوابه مختلف يقتل المستبصر الداعية وَعَلَى

_ (قوله والقدرية) هم طائفة ينكرون أن الله قدر الأشياء في القدم وقد انقرضوا وصار القدرية لقبا للمعتزلة لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم القدر فيها كذا في شرح مسلم للنووي (قوله والمرجئة) لقبوا بذلك لأنهم يرجئون العمل عن النية أي يؤخرون في الرتبة عنها وعن الاعتقاد من أرجاء آخره وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (أرجه وأخاه) أو لأنهم يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة فهم يعطلون الرجاء وعلى هذا ينبغى أن يهمز لفظ المرجئة كذا في المواقف (قوله الطاطرى) بطائين مهملتين ثانيهما مفتوحة نسبة إلى نوع من الثياب البيض كان يبيعها (قوله بشر التنيسى) بشر بالموحدة والشين المعجمة الساكنة والتنيسى بمثناة فوقية ونون مشددة مكسورة وسين مهملة نسبه إلى تنيس قرية بقرب تونة وكلاهما بقرب دمياط وقد أكلهما البحر وصارا بحيرة ماء (قوله بقتل المستبصر) بقتل بالباء الموحدة في أوله (*)

هَذَا الخِلَاف اختلف قَوْله فِي إعادة الصَّلَاة خلفهم وَحَكَى ابن المنذر عَن الشَّافِعِيّ لَا يستتاب القدري وأكثر أقوال السَّلَف تكفيرهم وممن قَال بِه اللَّيْث وابن عيينة وبن لهيعة روى عَنْهُم ذَلِك فِيمَن قَال بخلق الْقُرْآن وقاله ابن المُبَارَك والأودي ووكيع وحفص بن غياث وَأَبُو إِسْحَاق الفزارى؟ ؟ ؟ ؟ وعلي بن عاصم فِي آخرين وهُو من قَوْل أَكْثَر الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فيهم وفى الخوارج والقدرية وَأَهْل الأهواء المضلة وأصحاب البدع المتأولين وَهُو قَوْل أَحْمَد بن حَنْبَل وَكَذَلِك قالوا فِي الوافقة والشاكة فِي هَذِه الأصول وممن رُوِي عَنْه مَعْنَي القَوْل الآخر بترك تكفيرهم عَلِيّ بن أَبِي طَالِب وَابْن عُمَر والحسن الْبَصْرِيّ وَهُو رأي جَمَاعَة مِن الفُقَهَاء النظار والمتكلمين واحتجوا بتوريث الصَّحَابَة والتابعين ورثة أَهْل حروراء وَمن عرف بالقدر مِمَّن مات مِنْهُم ودفنهم فِي مقابر الْمُسْلِمِين وجرى أحكام الْإِسْلَام عَلَيْهِم، قَال إِسْمَاعِيل الْقَاضِي وإنما قَال مَالِك فِي القدرية وسائر أَهْل البدع يستتابون فَإِن تابوا وَإِلَّا قتلوا لِأَنَّه مِن الفساد فِي الْأَرْض كَمَا قَال فِي المحارب إن رَأَى الإمام قتله وَإِن لَم يقتل قتله وفساد المحارب إنَّمَا هُو فِي الأموال

_ بقتل بالباء الموحدة في أوله (قوله وحفص بن غياث) بالغين المعجمة المكسورة والمثناة التحتية الخفيفة (قوله حروراء) بفتح الحاء المهملة والمد قرية بقرب الكوفة على ميلين فيها اجتمع الخوارج وتعاقدوا فنسبوا إليها (*)

فصل في تحقيق القول في إكفار المتأولين

ومصالح الدُّنْيَا وَإِن كَان قَد يدخل أيْضًا فِي أمر الدّين من سبيل الحج والجهاد، وفساد أَهْل البدع معظمه عَلَى الدّين وَقَد يدخل فِي أمر الدُّنْيَا بِمَا يلقون بَيْن الْمُسْلِمِين مِن العداوة فصل فِي تحقيق القَوْل فِي إكفَار الْمُتَأوّلِين * قَد ذَكَرْنَا مذاهب السَّلَف فِي إكْفَار أَصْحَاب البدع وَالأهْوَاء المُتَأوّلين مِمَّن قَال قَوْلا يُؤَدّيه مَسَاقُه إِلَى كُفْر هُو إذَا وُقِف عَلَيْه لَا يَقُول بِمَا يُؤَدّيه قَوْله إليْه وَعَلَى اخْتِلَافِهِم اخْتلف الفُقَهَاء والمُتَكَلّمُون فِي ذَلِك فَمنهُم من صَوّب التّكْفِير الَّذِي قَال بِه الجُمْهُور مِن السَّلَف وَمِنْهُم من أباه وَلَم يَر إخْرَاجَهُم من سَوَاد الْمُؤْمِنين وَهُو قَوْل أَكْثَر الفُقَهَاء والمتكلمين وقالوا هُم فُسّاق عُصَاة ضُلّال ونُورّثُهُم مِن الْمُسْلِمِين ونحْكُم لَهُم بِإحْكامهم ولهذا قَال سُحْنُون لَا إعادَة عَلَى من صَلَّى خَلْفَهُم قَال وَهُو قَوْل جميع أَصْحَاب مَالِك المُغِيرَة وَابْن كِنَانَة وَأشْهَب قَال لِأَنَّه مُسْلِم وَذَنْبُه لَم يُخْرِجْه مِن الْإِسْلَام واضْطَرب آخرُون فِي ذَلِك وَوَقَفُوا عَن القَوْل بالتَّكْفِير أَو ضِدَّه وَاختلاف قولي مَالِك فِي ذَلِك وتَوَقُّفُه عَن إعَادَة الصَّلَاة خَلْفَهُم مِنْه وَإِلَى نَحْو من هَذَا ذهب الْقَاضِي أَبُو بَكْر إمام أَهْل التّحْقِيق وَالْحَقّ وَقَال إنَّهَا من الْمُعْوصات إذا الْقَوْم لَم يُصَرّحُوا باسم

_ (قوله المعوصات) بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر الواو من التعويض في المسائل وغيرها وهو استخراج ما يصعب معناه (*)

الكُفْر وَإِنَّمَا قَالُوا قَوْلًا يُؤَدّي إليْه واضطرب قَوْلِه فِي المسألة عَلَى نَحْو اضْطِرَاب قَوْل إمامه مَالِك بن أَنَس حَتَّى قاله فِي بَعْض كَلَامه إنَّهُم عَلَى رَأْي من كَفّرَهُم بالتَّأْويل لَا تَحِلّ مُنَاكَحَتُهُم وَلَا أكْل ذَبَائِحِهم وَلَا الصَّلَاة عَلَى مَيّتِهِم وَيُخْتَلف فِي مُوَارَثَتِهِم عَلَى الخِلَاف فِي ميراث المُرْتَد وقال أيضا نورث ميتهم ورثتهم مِن الْمُسْلِمِين وَلَا نورثهم من المسلمين وأكثر ميله إلى ترك التّكْفِير بالمَآل وَكَذَلِك اضْطَرَب فِيه قَوْل شَيْخِه أَبِي الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ وَأكْثَر قَوْلِه تَرْك التكْفِير وَأَنّ الكُفْر خَصْلَة وَاحِدَة وَهُو الْجَهْل بِوُجُود الْبَارِي تَعَالَى وَقَال مَرَّة مِن اعْتَقَد أَنّ اللَّه جِسْم أو المسِيح أَو بَعْض من يَلْقَاه فِي الطُّرُق فليس بِعَارِف بِه وَهُو كَافِر وَلِمِثْل هَذَا ذَهَب أَبُو المعالي رَحِمَه اللَّه فِي أجْوبَتِه لأبي مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ وَكَان سَألَه عَن المَسْألة فاعْتَذَر لَه بأن الغَلَط فِيهَا يَصْعُب لِأَنّ إدْخَال كافِر فِي المِلّة وَإخْرَاج مُسْلِم عَنْهَا عَظِيم فِي الدّين وقال غَيْرُهُمَا مِن المُحَقّقِين: الَّذِي يَجِب الاحْتِرَاز مِن التّكْفِير فِي أَهْل التَّأْوِيل فَإِنّ اسْتِبَاحَة دِمَاء المُصَلّين المُوَحّدِين خَطَر والخَطَأ فِي تَرْك ألْف كافِر أهْون مِن الخَطَإ فِي سَفْك مَحْجَمَة من دم مُسْلِم وَاحِد وَقَد قَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَإِذَا قَالُوهَا يَعْنِي الشَّهَادَة عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأموالهم إلا بححقها وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ

_ (قوله فِي أجْوبَتِه لأبي مُحَمَّد عَبْد الْحَقّ) هو عن صاحب الأحكام لأن الإمام كانت وفاته قبل مولد عبد الحق صاحب الأحكام (قوله محجمة) بكسر الميم الأولى هي قارورة الحجام (*)

فالِعصْمَة مَقْطُوع بِهَا مَع الشَّهَادَة وَلَا تَرْتَفِع وَيُسْتَبَاح خِلافُهَا إلا بقاطع ولا قاطع من شَرْع وَلَا قِيَاس عَلَيْه وألفاظ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب مُعَرَّضة لَلتأويل فَمَا جَاء مِنْهَا فِي التّصْرِيح بِكُفْر القَدَرِيَّة وَقَوْله لَا سَهْم لَهُم فِي الْإِسْلَام وَتَسْمِيَتُه الرَّافِضَة بالشَّرْك وإطْلاق اللَّعْنَة عَلَيْهِم وَكَذَلِك فِي الْخَوَارِج وَغَيْرِهِم من أَهْل الأهْوَاء فَقَد يحتْج بِهَا من يَقُول بالتَّكْفِير وَقَد يُجِيب الآخر بأنَّه قَد وَرَد مِثْل هَذِه الألفاظ فِي الْحَدِيث فِي غَيْر الكَفَرة عَلَى طريق التَّغْلِيظ وكُفْر دُون كُفْر وإشْرِاك دُون إشْرَاك وَقَد وَرَد مِثْلُه فِي الرّياء وعُقُوق الوالدين والزَّوْج والزُّور وَغَيْر معصية وَإذَا كَان محتملًا للأمْرَيْن فَلَا يُقْطَع عَلَى أحَدهمَا إلَّا بِدَلِيل قاطِع، وَقَوْلُه فِي الخَوَارِج هُم من شَرّ البَرِيَّة وَهَذِه صِفَة الكُفَّار، وَقَال شَرّ قَبِيل تَحْت أدِيم السَّمَاء طُوبي لِمَن قَتَلهُم أَو قَتَلُوه، وَقَال: (فَإِذَا وَجَدْتموهُم فاقتلوهم قَتْل عَاد) وظاهِر هَذَا الكُفْر لا سيما مَع تَشْبِيهِهِم بِعَاد فَيَحْتَجّ بِه من يَرَى تكفيرهم فيقول لَه الآخر إنَّمَا ذَلِك من قتلهم لخروجهم عَلَى الْمُسْلِمِين وبغيهم عليهم بدليله مِن الْحَدِيث نفسه يقتلون أَهْل الْإِسْلَام فقتلهم ههنا حد لَا كفر وَذَكْر عاد تشبيه للقتل وحله لَا للمقتول وَلَيْس كُلّ من حكم بقتله يحكم بكفره ويعارضه بقول خَالِد فِي الْحَدِيث دعني أضرب عنقه يَا رَسُول اللَّه فَقَال لعله يصلي فَإِن احتجوا بِقَوْلِه صلى الله عليه وسلم يقرؤن الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ فأخبر

أَنّ الْإِيمَان لَم يدخل قلوبهم وَكَذَلِك قَوْله (يَمْرُقُونَ مِنَ الدين مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمْيَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فَوْقِهِ) وبقوله (سبق الفرث والدم) يدل عَلَى أنَّه لَم يتعلق مِن الْإِسْلَام بشئ أجابه الآخرون أَنّ مَعْنَي لَا يجاوز حناجرهم لَا يفهمون معانيه بقلوبهم وَلَا تنشرح لَه صدورهم وَلَا تعمل بِه جوارحهم وعارضوهم بِقَوْلِه ويتمارى فِي الفوق وَهَذَا يقتضي التشكك فِي حاله وَإِن احتجوا بقول أَبِي سَعِيد الْخُدْرِي فِي هَذَا الْحَدِيث. سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يَقُول: يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ) وَلَم يقل (مِنْ هَذِهِ) وتحرير أَبِي سَعِيد الرّوَايَة وإتقانه اللَّفْظ أجابهم الآخرون بأن العبارة بفي لَا تقتضي تصريحًا بكونهم من غَيْر الْأُمَّة بخلاف لفظه مِن - الَّتِي هِي للتبعيض وكونهم مِن الْأُمَّة مَع أنَّه قَد رُوِي عَن أَبِي ذَرّ وعلي وأبي أمامة وَغَيْرِهِم في هَذَا الْحَدِيث يخرج من أُمَّتِي، وسيكون من أُمَّتِي، وحروف المعاني مشتركة فَلَا تعويل عَلَى إخراجهم مِن الْأُمَّة؟ ؟ ؟ وَلَا عَلَى إدخالهم فيما بمن لَكِن أَبَا سَعِيد رَضِي اللَّه عَنْه أجاد مَا شَاء فِي التّنْبِيه الَّذِي نَبّه عَلَيْه وَهَذَا مِمَّا يَدُلّ عَلَى سِعَة فقه الصَّحَابَة وتحقيقهم للمعاني واستنباطها مِن الألْفاظ وتحْرِيرِهِم لَهَا وتَوَقّيهِم فِي الرّوَايَة هَذِه المذاهب المَعْرُوفَة لأهل السنة ولغيرهم

_ (قوله من الرمية) أي المرمية من الصيد (قوله على فوقه) الفوق بضم الفاء موضع الوتر من السهم (قوله سبق الفرث والدم) أي مر سريعا فلم يعلق بشئ من دمها وفرثها (*)

مِن الفِرَق فِيهَا منالات كَثِيرَة مُضْطَرِبَة سَخِيفَة أقْرَبُهَا قَوْل جَهْم وَمُحَمَّد ابن شبيب أَنّ الكُفْر بالله الْجَهْل بِه لَا يَكْفُر احد بغير ذَلِك وَقَال أَبُو الهُذَيْل إنّ كُلّ متأول كان تأوليه تَشْبيهًا لله بَخَلْقِه وتجْويرًا لَه فِي فِعْلِه وتَكْذِيبًا لِخَبَرِه فَهُو كافِر وكُلّ من أثْبَت شَيْئًا قديمًا لَا يُقَال لَه اللَّه فَهُو كافر وَقَال بَعْض المتكلمين إن كَان مِمَّن عَرّف الأصْل وبنى عَلَيْه وَكَان فِيمَا هُو من أوْصاف اللَّه فَهُو كافر وإن لَم يَكُن من هَذَا الْبَاب ففاسق إلَّا أن يَكُون مِمَّن لَم يعرف الأصل فَهُو مخطئ غَيْر كافر وذهب عُبَيْد اللَّه بن الْحَسَن العنبري إِلَى تصويب أقوال المجتهدين فِي أصُول الدّين فِيمَا كَان عُرْضَة لِلتَّأْوِيل وفارَق فِي دلك فِرَق الْأُمَّة إِذ أجْمَعُوا سِواه عَلَى أَنّ الْحَقّ فِي أُصُول الدّين فِي واحد والمُخْطِئ فِيه آثم عاص فاسِق وَإِنَّمَا الخِلَاف فِي تكفيره وَقَد حكى الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِي مِثْل قَوْل عُبَيْد اللَّه عَن دَاوُد الأَصْبَهَانِيّ وَقَال وحكى قوم عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا ذَلِك فِي كُلّ من علم الله سبحانه من حالِه اسْتِفْراغ الْوُسْع فِي طَلَب الْحَقّ من أَهْل مِلّتِنَا أَو من غير هم وَقَال نَحْو هَذَا القَوْل الجاحظ وثمامة فِي أَنّ كثيرًا مِن العامة والنساء والبُلْه ومُقَلّدَة النصارى واليهود

_ (قوله عَن دَاوُد الأَصْبَهَانِيّ) هو إمام أهل الظاهر (قوله الجاحظ) هو عمرو بن بحر، إليه تنسب الجاحظية من المعتزلة، توفى سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة (قوله وثمامة) هو ابن اشر بن أبى معين التميرى قال الذهبي كان من كبار المعتزلة ورؤس الضلالة وكان له أيضا اتصال بالرشيد ثم المأمون وكان ذا نوادر وملح (*)

وَغَيْرِهِم لَا حُجَّة لله عَلَيْهِم إِذ لَم تَكُن لَهُم طِباع يُمْكن معها الاسْتِدْلال وَقَد نحا الغزالي قريبًا من هَذَا المَنْحى فِي كِتَاب التَّفْرِقَة وقائِل هَذَا كُلُّه كافر بالإجْماع على كفر من لم يكذر أحدًا مِن النَّصَارَى واليَهُود وَكُلّ من فَارَق دِين الْمُسْلِمِين أَو وَقَف فِي تكفير هم أوشك قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْر لِأَنّ التّوقِيف والإجْماع اتّفَقَا عَلَى كُفْرِهِم فَمَن وقف فِي ذَلِك فَقَد كذّب النَّصّ والتّوْقِيف أَو شَكّ فِيه والتكذيب أو الشك فِيه لَا يقع إلا من كافر

_ (قوله الغزالي) بفتح العين المعجمة وتشديد الزاى قال النووي في التبيان في أداه حملة القرآن بتخفيف الزاى نسبة إلى غزالة قرية من قرى طوس وقال ابن الأثير إن التخفيف خلاف المشهور قال وأظن أن هذه النسبة في التشديد إلى الغزال على عادة أهل جرجان وخوارزم كالقصارى إلى القصار، قال وحكى لى بعض من يُنْسَبُ إليْهِ مِنَ أهل طوس أنه منسوب إلى غزالة بنت كعب الأحبار انتهى وفى الطبقات للسبكي وكان والده يغزل الصوف ويبيعه بدكان بطوس ولما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير وقال له إن لى تأسفا على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في ولدى فعلهما الخط ولا عليك ان تنفد في ذلك جميع ما خلفته لهما فلما مات أبوهما أقبل الصوفى على تعليمهما إلى أن فنى الذى خلفه لهما أبوهما وتعذر على الصوفى القيام يفوتهما قال لهما أرى أن تلجأ إلى مدرسة كأنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما ففعلا ذلك فكان السبب في سعادتهما وكان الغزالي يقول طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، ولد رحمه الله سنة خمسين وأربعمائة بطوس وتوفى سنة خمس وخمسمائة (*)

فصل في بيان ما هو من المقالات كفر

فصل فِي بيان مَا هُو مِن المقالات كفر وَمَا يتوقف أَو يختلف فِيه وَمَا لَيْس بكفر اعْلَم أَنّ تحْقيق هَذَا الْفَصْل وكَشْف اللّبْس فِيه مَوْرِدُه الشَّرْع وَلَا مجَال لِلْعَقْل فِيه والفصل البَيّن فِي هَذَا أَنّ كُلّ مَقَالَة صَرّحَت بِنَفْي الرُّبُوبيّة أَو الْوَحْدَانِيّة أَو عِبَادة أحد غَيْر اللَّه أَو مَع اللَّه فهي كُفْر كَمَقَالَة الدَّهْرِيّة وَسَائِر فِرَق أَصْحَاب الاثْنَيْن مِن الدّيصَانِيّة وَالمَانَوِيّة وأشْبَاهِهِم مِن الصّابِئِين وَالنَّصَارَى وَالمَجُوس وَالَّذِين أشركوا بعبادة الأوثان أَو الْمَلَائِكَة أَو الشيطاين أَو الشمس أَو النجوم أَو النَّار أَو أحد غَيْر اللَّه من مُشْركي الْعَرَب وَأَهْل الهنْد والصّين والسُّودَان وَغَيْرِهِم مِمَّن لَا يَرْجع إِلَى كِتَاب وَكَذَلِك القَرَامِطة وَأَصْحَاب الحُلُول والتّنَاسُخ مِن الباطِنّية وَالطّيَارَة مِن الرّوَافض وَكَذَلِك مِن اعْتَرَف بإلاهيّة الله

_ (قوله الدهرية) بفتح الدال طائفه مخلدون جمع دهري بفتحها والدهرى بالضم الشيخ الكبير، قال ثعلب هما جميعا منسوبان إلى الدهر وإنما غيروا في النسب كما قالوا سهلى المنسوب إلى الأرض السهلة (قوله من الديصانية) بكسر الدال المهملة وسكون المثناة التحتية وتخفيف الصاد قوم يقولون بالنور والظلمة كالمانية إلا أن المانية يقولون النور والظلمة حيان والديصانة يقولون النور حى والظلمة ميت (قوله المانية) وفى بعض النسخ المانوية نسبة إلى مانى الزنديق ظهر في زمن سابور بن أردشير وادعى النبوة وادعى أن للعالم أصلين نورا وظلمة وهما قديمان فقبل قوله سابور فلما ملك بهرام ساخه وحشا حلده تبنا وقتل أصحابه وهرب بعضهم إلى الصين (*)

ووحْدانِيّتِه ولكنه اعْتَقَد أنَّه غَيْر حَيّ أَو غَيْر قديم وَأنَّه مُحْدَث أَو مُصَوّر أَو ادّعَى لَه وَلَدًا أَو صَاحَبَة أَو وَالِدًا أو متولد من شئ أَو كائن عَنْه أَو أَنّ مَعَه فِي الأزل شَيْئًا قديمًا غَيْره أَو أنثم صَانِعًا للعالم سواه أَو مُدَبّرًا غَيْره فَذَلِك كُلُّه كُفْر بإجْماع الْمُسْلِمِين كَقَوْل الإلهيين مِن الْفَلاسِفَة والمُنَجّمِين وَالطّبَائِعِيّين وَكَذَلِك مَن ادّعى مُجَالسَة اللَّه وَالْعُرُوج إليْه وَمُكَالَمَتَه أَو حُلُوله فِي أَحَد الأشْخَاص كتول بَعْض المُتَصوّفَة والباطنية النصارى والقرامطة وَكَذَلِك نَقْطَع عَلَى كفر من قَال بقدم العالم أَو بقائه أَو شك فِي ذَلِك عَلَى مذهب بَعْض الفلاسفة والدهرية أَو قَال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد فِي الأشخاص وتعذيبها أَو تنعمها فِيهَا بحسب زكائها وخبثها وَكَذَلِك مِن اعترف بالإلهية والوحدانية ولكنه جحد النُّبُوَّة من أصلها عمومًا أو نُبُوَّة نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم خصوصًا أَو أحد مِن الْأَنْبِيَاء الَّذِين نص اللَّه عَلَيْهِم بَعْد عِلْمِه بذلك فَهُو كافِر بِلَا رَيْب كالبَرَاهِمَة ومُعْظَم اليَهُود والأرُوسِيّة مِن النصاري والغُرَابِيّة مِن الروافض الزاعمين أَنّ عليًّا كَان المبعوث إليْه جِبْرِيل وَكالْمُعَطِّلَة والقرامطة والإسماعيلية والعنبرية مِن الرافضة وَإِن كَان بَعْض هَؤْلَاء قَد أشْرَكُوا فِي كُفر آخَر مَع من قَبْلَهُم وَكَذَلِك من دَان بالوحْدَانِيّة وصحة النبوة

_ (قوله والغرابية) بضم الغين المعجمة قالوا محمد بعلى أشبه مِن الغُرَاب بالغراب والدواب بالدواب وبعث الله جبريل إلى على فغلظ فيلعنون - لعنهم الله - صاحب الريش ويعنون به جبريل عليه السلام (*)

ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وَلَكِن جَوّز عَلَى الْأَنْبِيَاء الكَذِب فِيمَا أتَوا بِه ادعى فِي ذَلِك المصلحة نزعمه أو لم يذعها فَهُو كافر بإجْماع كالمتفلسفين وبعض الباطنية والروافض وغلاة المتصوفة وأصحاب الإباحة فَإِنّ هَؤْلَاء زعموا أَنّ ظواهر الشَّرْع وأكثر مَا جَاءَت بِه الرُّسُل مِن الْأَخْبَار عَمَّا كَان وَيَكُون من أُمُور الآخِرَة والحَشْر، وَالْقِيَامَة، والْجَنة، وَالنَّار لَيْس مِنْهَا شئ عَلَى مقْتَضَى لفظها ومفهوم خطابها وَإِنَّمَا خاطبُوا بِهَا الخَلْق عَلَى جِهَة المَصْلَحَة لَهُم إِذ لَم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع وتعطيل الأوامر والنواهي وتكذيب الرُّسُل والارتياب فِيمَا أتوا بِه وَكَذَلِك من أضاف إلى نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم تعمد الكَذِب فِيمَا بلغه وأخبر بِه أَو شك فِي صدقه أَو سبه أَو قَال إنَّه لَم يبلغ أَو استخف بِه أَو بأحد مِن الْأَنْبِيَاء أَو أزرى عَلَيْهِم أو آذاهم أَو قتل نَبيًّا أَو حاربه فَهُو كافر بإجماع وَكَذَلِك نكفر من ذهب مذهب بَعْض القدماء فِي أَنّ فِي كُلّ جنس مِن الحيوان نذيرا ونبيًا مِن القردة، والخنازير والدواب والدود ووغير ذَلِك، ويحتج بِقَوْلِه تَعَالَى (وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فيها نذير) إذ ذَلِك يؤدي إِلَى أن يُوصَف أنبياء هَذِه الأجْنَاس بصفاتهم المذمومة وفيه مِن الإزْرَاء عَلَى هذا المنصف المُنِيف مَا فِيه مَع إجْماع الْمُسْلِمِين عَلَى خلافه وتَكْذِيب قائله وَكَذَلِك نُكَفّر من اعترف مِن الْأُصُول الصَّحِيحة بِمَا تقدم ونُبُوَّة نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم

وَلَكِن قَال كَان أسْوَد أَو مات قَبْل أن يلتحي أَو لَيْس الَّذِي كَان بمكّة والحجاز أَو لَيْس بقرشي لِأَنّ وصفه بغير صفاته المعلومة نفي لَه وتكذيب بِه وَكَذَلِك من ادعى نُبُوَّة أَحَد مَع نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو بَعْدَه كالعيسوية مِن اليَهُود القائلين بتخصيص رسالته إِلَى الْعَرَب وكالخرمية القائلين بتواتر الرُّسُل وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة عَلِيّ فِي الرسالة للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَبَعْدَه فكذلك كُلّ إمام عِنْد هَؤْلَاء يقوم مقامه فِي النُّبُوَّة والحَجَّة وكالْبَزيغيّة والبَيَانِيّة مِنْهُم القَائِلِين بِنُبُوَّة بِزِيغ وَبَيَان وَأشْبَاه هَؤْلَاء أَو من ادّعى النُّبُوَّة لِنَفْسِه أَو جوّز اكْتِسَابَهَا والبُلُوغ بِصَفَاء القَلْب إلى مَرْتَبَتِهَا كالفَلَاسِفَة وغُلاة المُتَصَوّفَة وَكَذَلِك مَن ادّعى مِنْهُم أنَّه يوحى إليْه وإن لَم يدَّع النُّبُوَّة أَو أنَّه يَصْعَد إِلَى السَّمَاء وَيَدْخُل الْجنة وَيَأْكُل من ثِمَارِهَا وَيُعَانِق الْحور العين فهؤلاء كُلُّهُم كُفَّار مُكَذّبُون للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِأَنَّه أخْبَر صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أنَّه خَاتَم النَّبِيّين لَا نَبِيّ بَعْدَه وأخْبَر عن الله

_ (قوله كالعيسوية) نسبة إلى أبى عيسى بن إسحاق بن يعقوب الأصبهاني كان موجودا في خلافة المنصور وخالف اليهود في أشياء منها أنه حرم الذبائح (قوله وكخرمية) بالخاء المعجمة المضمومة في الصحاح: تخرم: دان بدين الخرمية وهم أصحاب التناسخ والإباحة (قوله وكالبزيغية والبيانية) البزيغية بالموحدة والزاى المكسورة والغين المعجمة نسبة إلى بزيغ والبيانية إلى بيان بن سمعان النهدي التميمي قال إن روح الله جل وعلا حلت في على ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبى هاشم ثم في بيان (*)

تَعَالَى أنَّه خَاتَم النَّبِيّين وَأنَّه أرْسِل كافّة لِلنّاس وأجْمَعَت الْأُمَّة عَلَى حَمْل هَذَا الْكَلَام عَلَى ظاهِرِه وَأَنّ مَفْهُومَه المُرَاد بِه دُون تَأْويل وَلَا تَخْصيص فَلَا شَكّ فِي كُفْر هَؤْلَاء الطّوَائِف كلها قَطْعًا إجْماعًا وسمعا وكذلك وقَع الإجْماع عَلَى تَكْفِير كُلّ مِن دافع نص الكتاب أو خص حديثا مجمعا عَلَى نَقْلِه مَقْطُوعًا بِه مُجمَعًا عَلَى حَمْلِه عَلَى ظَاهِرِه كَتَكْفِير الخَوَارِج بإبْطال الرّجْم ولهذا نُكَفّر من لم يُكَفّر من دَان بِغَيْر ملّة الْمُسْلِمِين مِن المِلَل أَو وَقَف فِيهِم أَو شَكّ أَو صَحَّح مَذْهَبَهُم وإن أظْهَر مَع ذَلِك الْإِسْلَام وَاعْتَقَدَه وَاعْتَقَد إبْطَال كُلّ مذْهَب سِواه فَهُو كَافِر بإظْهَارِه مَا أظْهَر من خِلَاف ذَلِك وَكَذَلِك نَقْطَع بِتَكْفِير كُلّ قائِل قَال قَوْلًا يُتَوصّل بِه إلى تَضْلِيل الْأُمَّة وتكْفِير جميع الصَّحَابَة كَقَوْل الكُمَيْلِيّة مِن الرافِضَة بِتَكْفِير جَمِيع الْأُمَّة بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِذ لَم تُقَدّم عَليًّا وكفرت عليا إِذ لَم يَتَقَدّم وَيَطْلُب حَقّه فِي التّقْديم فهؤلاء قَد كفروا من وُجُوه لأنهم أبْطَلُوا الشّرِيعَة بأسْرِها إذ قع انْقَطَع نَقْلُهَا ونَقْل الْقُرْآن إِذ نَاقِلُوه كفرة عَلَى زَعْمِهِم وَإِلَى هَذَا والله أَعْلَم أشار مَالِك فِي أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على

_ (قوله الكميلية) ليس من الفرق ما يلقب بالكميلية وإنما منهم فرقة من الشيعة ثلقب بالكاملية نسبة إلى أبى كامل قال بكفر الصحابة بترك بيعة على وبكفر على بترك طلب الحق وقال بالتناسخ في الأرواح عند الموت وإنما الإمامة نور ينتقل من شخص إلى آخر وقد يصير في شخص نبوة بعد ما كانت في آخر إمامة (*)

مقتضى قولهم وَزَعْمِهِم أنَّه عهد إِلَى عَلِيّ رَضِي اللَّه عَنْه وَهُو يَعْلَم أنَّه يَكْفُر بَعْدَه عَلَى قولهم لعنة اللَّه عَلَيْهِم وصلى اللَّه عَلَى رَسُولِه وآلِه وَكَذَلِك نُكَفّر بكل فعْل أجْمَع الْمُسْلِمُون أنَّه لَا يَصْدُر إلَّا من كافر وإن كَان صاحِبُه مُصَرّحًا بالْإِسْلَام مَع فِعْلِه ذَلِك الفعل كالسُّجُود لِلصّنْم وللشّمْس والقَمَر والصّلِيب والنار والسعي إِلَى الكنائس والبيع مَع أهلها والتزيي بزيهم من شد الزنانير وفحص الرؤس فَقَد أجمع الْمُسْلِمُون أَنّ هَذَا لَا يوجد إلَّا من كافر وَأَنّ هَذِه الأفعال علامة عَلَى الكُفْر وَإِن صَرّح فاعِلُها بالْإِسْلَام وَكَذَلِك أجْمَع الْمُسْلِمُون عَلَى تَكْفِير كُلّ مِن اسْتَحَلّ القَتْل أَو شُرْب الخَمْر أو الزّنا مِمَّا حَرّم اللَّه بَعْد عِلْمِه بِتَحْرِيمِه كَأصْحاب الإبَاحَة مِن القَرامطَة وبعض غُلاة المُتَصَوّفَة وَكَذَلِك نَقْطَع بِتَكْفِير كُلّ من كَذّب وأنْكَر قاعِدَة من قَوَاعِد الشَّرْع وَمَا عُرِف يَقِينًا بالنّقْل الْمُتَواتِر من فِعْل الرَّسُول وَوَقَع الإجْماع الْمُتّصِل عَلَيْه كمن أنْكَر وُجُوب الصّلوات الخَمْس وعَدَد رَكَعاتِها وسَجَداتِها وَيَقُول إنَّمَا أوْجَب اللَّه عَلَيْنَا فِي كِتابِه الصَّلَاة عَلَى الْجُمْلَة وَكَوْنُها خَمْسًا وَعَلَى هَذِه الصّفات والشُّرُوط لَا أعْلَمُه إِذ لَم يَرِد فِيه فِي الْقُرْآن نص جَليّ والخبر بِه عَن الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم خبر واحد وَكَذَلِك أجمع عَلَى تَكْفِير من قَال من الْخَوارِج إن

_ (قوله وفحص الرؤس) بفاء مفتوحة وحاء وصاد مهملتين في الصحاح، وفى الحديث فحصوا عن رؤسهم: كأنهم حلقوا وسطها وتركوها مثل أفاحيص القطا (*)

الصَّلَاة طَرَفي النهار وَعَلَى تَكْفِير الباطِنيّة فِي قولهم إنّ الفَرائِض أسْماء رجال أُمِرُوا بولايتهم والخَبَائث والْمَحَارِم أسماء رجال أُمُرِوا بالبراءة مِنْهُم وقول بَعْض المتصوفة إنّ العبادة وطول المجاهدة إذَا صفت نفوسهم أفضت بِهِم إِلَى إسْقاطها وإباحَة كل شئ لَهُم ورَفْع عُهَد الشّرائِع. عَنْهُم وَكَذَلِك إن أنْكَر مُنْكِر مَكَّة أَو البيت أَو الْمَسْجِد الْحَرَام أَو صِفَة الحَجّ أَو قَال الحَجّ واجب فِي الْقُرْآن واسْتِقْبَال القِبْلَة كَذَلِك وَلَكِن كوْنُه عَلَى هذه الهيأة المُتَعارَفَة وَأَنّ تِلْك البُقْعَة هِي مَكَّة والبَيْت وَالْمَسْجِد الْحَرام لَا أَدْرِي هَل هِي تِلْك أَو غَيْرِهَا ولعل الناقِلين أَنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فسرها بِهَذِه التفاسير غَلِطُوا ووَهِمُوا فَهَذَا ومِثْلُه لَا مِرْيَة فِي تَكْفِيرِه إن كَان مِمَّن يُظَنّ بِه علم ذَلِك وممن خالَط الْمُسْلِمِين وامْتَدّت صُحْبَتُه لَهُم إلَّا أَن يَكُون حَدِيث عَهْد بإسْلام فَيُقَال لَه سَبِيلك أن تَسْأل عَن هَذَا الَّذِي لَم تَعْلَمْه بَعْد كافّة الْمُسْلِمِين فَلَا تَجِد بَيْنَهُم خِلافًا كافّة عَن كافّة إِلَى مُعَاصِر الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَنّ هَذِه الْأُمُور كَمَا قِيل لَك وَأَنّ تِلْك البُقْعَة هِي مَكَّة والبَيْت الَّذِي فِيهَا هُو الكعبة والقِبْلَة الَّتِي صَلَّى لَهَا الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم والْمُسْلِمُون وحَجُّوا إِلَيْهَا وطَافُوا بها وَأَنّ تِلْك الأفْعَال هِي صِفَات عِبَادَة الْحَجّ والمُرَاد بِه وَهِي الَّتِي فعلها النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم والْمُسْلِمُون وَأَنّ صِفَات الصّلَوَات المَذْكُورَة هِي الَّتِي فعل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلم

وَشَرَح مُرَاد اللَّه بِذَلِك وَأبان حُدُودَهَا فَيَقَع لَك العلْم كَمَا وَقَع لَهُم وَلَا تَرْتاب بِذَلِك بَعْد والمرتاب فِي ذَلِك والمنكر بَعْد البحث وصحبته الْمُسْلِمِين كافر باتفاق وَلَا يعذر بِقَوْلِه لَا أدري وَلَا يصدق فِيه بَل ظاهره التستر عَن التكذيب إِذ لَا يمكن أنَّه لَا يدري وأيضا فَإنَّه إذَا جوز عَلَى جميع الْأُمَّة الوهم والغلط فِيمَا نقلوه من ذَلِك وأجمعوا أنَّه قَوْل الرَّسُول وفعله وتفسير مراد اللَّه بِه أدخل الاسترابة فِي جميع الشريعة إِذ هُم الناقلون لَهَا وللقرآن وانحلت عرى الدّين كرة وَمَن قال هَذَا كافر وَكَذَلِك من أنكر الْقُرْآن أَو حرفا مِنْه أَو غَير شَيْئًا مِنْه أَو زاد فِيه كفعل الباطنية والإسماعيلية أَو زعم أنَّه لَيْس بحجة للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو لَيْس فِيه حجة وَلَا مُعْجِزَة كقول هِشَام الفوطي ومعمر الصيمري إنَّه لَا يدل عَلَى اللَّه وَلَا حجة فيها لرسوله وَلَا يَدُلّ عَلَى ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَلَا حُكْم وَلَا مَحَالَة فِي كُفْرِهِمَا بِذَلِك القَوْل وَكَذَلِك نُكَفرهُما بإنْكارِهِمَا أن يَكُون فِي سائِر مُعْجِزَات النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حجة لَه أَو فِي خلق السَّمَوَات والأرض دَليل على الله لمخالفهتهم الإجْماع والنّقْل المُتَوَاتِر عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم باحْتِجَاجِه بَهَذَا كُله وَتَصْرِيح الْقُرْآن بِه وَكَذَلِك من أنكر شَيْئًا مِمَّا نص فِيه الْقُرْآن بَعْد علمه أنَّه من الْقُرْآن الَّذِي فِي أيدي النَّاس ومصاحف لمسلمين ولم يكن

_ (قوله كرة) بفتح الكاف وتشديد الراء هي المرة (19 - 2) (*)

جاهلًا بِه وَلَا قريب عهد بالْإِسْلَام واحْتَجّ لإنْكاره إِمَّا بأنه لم يصبح النّقْل عِنْدَه وَلَا بَلَغَه الْعِلْم بِه أَو لِتَجْوِيز الْوَهْم على نافله فنتكفره بالطريقين المتقدمين لِأَنَّه مُكَذّب للقرآن مُكَذّب للنبي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم لكنه تَسَتّر بدَعْوَاه وَكَذَلِك من أنْكَر الْجَّنة أَو النَّار أَو البَعْث أَو الحساب أو القيامة فهو كافِر بإجْماع لِلنصّ عَلَيْه وإجْماع الْأُمَّة عَلَى صِحّة نَقْله مُتَوَاترًا وَكَذَلِك من اعْتَرَف بِذَلِك ولكنه قَال إنّ المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب مَعْنَي غَيْر ظاهره وَأنَّهَا لذات روحانية ومعان باطنة كقول النَّصَارَى والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة وزعم أن مَعْنَي الْقِيَامَة الموت أو فناه محض ولتنقاض هيئة الأفلاك وتحليل العالم كقول بَعْض الفلاسفة وَكَذَلِك نقطع بتكفير غلاة الرافضة فِي قولهم إنّ الْأَئِمَّة أفضل مِن الْأَنْبِيَاء فَأَمَّا من أنكر مَا عرف بالتواتر مِن الْأَخْبَار والسير والبِلاد الَّتِي لَا يَرْجع إلى إبْطال شَرِيعة وَلَا يُفْضِي إِلَى إنْكار قاعِدَة مِن الدّين كإنكْار غزوة تبوك أو مؤنة أَو وجود أَبِي بَكْر وعمر أَو قتل عثمان أَو خلافه عَلِيّ مِمَّا علم بالنقل ضرورة وليس في إنكار وجحد شَرِيعة فَلَا سَبِيل إلى تَكْفِيرِه بِجحْد ذَلِك وإنكار وُقُوع الْعِلْم لَه إِذ لَيْس فِي ذَلِك أكْثَر مِن المُبَاهَتَة كإنْكار هِشَام وَعَبّاد وَقْعَة الجَمَل ومُحَارَبَة عَلِيّ من خَالفَه فَأَمَّا إن ضَعّف ذَلِك من أجل تهمة

_ (قوله وأنها لذات) بفتح اللام وتشديد الذال المعجمة: جمع لذة (*)

النّاقلين ووهم الْمُسْلِمِين أجمع فنكفره بِذَلِك لسريانه إِلَى إبطال الشريعة فَأَمَّا من أنكر الإجماع المجرد الَّذِي لَيْس طريقه النقل المتواتر عَن الشارع فأكثر المتكلمين وَمِن الفُقَهَاء والنظار فِي هَذَا الْبَاب قَالُوا بتكفير كُلّ من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عَلَيْه عمومًا وحجتهم قَوْله تَعَالَى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى) الآية وَقَوْلُه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رَبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقُهِ) وحكوا الإجْمَاع عَلَى تَكْفِير من خالف الإجْماع وَذَهَب آخَرُون إِلَى الْوُقُوف عَن الْقَطْع بِتَكْفِير من خَالَف الإجْماع الَّذِي يَخْتَصّ بِنَقْلِه الْعُلمَاء وذهب آخَرُون إِلَى التَّوَقُّف فِي تَكْفِير من خَالَف الإجْمَاع الكائِن عَن نظَر كتَكْفِير النَّظّام بإنْكارِه الإجْماع لِأَنَّه بِقَوْلِه هَذَا مُخَالِف إجْمَاع السَّلَف عَلَى احْتَجَاجِهِم بِه خارِق للإجْماع، قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْقَوْل عِنْدِي أَنّ الكُفْر بالله هُو الجَهْل بِوُجُودِه والإيمَان بالله هُو الْعِلْم - بوجوده وَأنَّه لَا يُكَفّر أَحَد بِقَوْل وَلَا رَأْي إلَّا أن يَكُون هُو الْجَهْل بالله فإن عَصى بِقَوْل أَو فِعْل نَصّ اللَّه وَرَسُولِه أو أجْمَع الْمُسْلِمُون أنَّه لَا يوجد إلَّا من كافِر أَو يَقُوم دَلِيل عَلَى ذَلِك فَقَد كَفَر لَيْس لأجْل قَوْله أَو فِعْلِه لَكِن لما يُقَارِنه مِن الكْفُر فالْكُفْر بالله لَا يَكُون إلَّا بأحَد

_ (قوله كتكفير النظام) هو إبراهيم بن سيار مولى بنى الحارث بن عباد كان أحد فرسان المتكلمين من المعتزلة وكان في دولة المعتصم (*)

ثَلَاثَة أمور أحَدُهَا الْجَهْل بالله تَعَالَى وَالثاني أن يَأْتِي فِعْلًا أَو يَقُول قَوْلًا يُخْبِر اللَّه وَرَسُولُه أَو يُجْمِع الْمُسْلِمُون أَنّ ذَلِك لَا يَكُون إلَّا من كافر كالسُّجُود لِلصّنَم وَالمْشي إِلَى الكَنَائِس بالتِزَام الزّنَّار مَع أَصْحَابِهَا فِي أعْيَادِهِم أَو يَكُون ذَلِك القَوْل أَو الْفِعْل لَا يُمْكِن مَعَه الْعِلْم بالله قَال فهذان الضّرْبَان وإن لَم يَكُونا جَهْلًا بالله فَهُمَا عَلَم أَنّ فاعِلَهُمَا كافِر مُنْسِلخ مِن الْإِيمَان فَأَمَّا من نَفَى صِفَة من صِفَات اللَّه تَعَالَى الذَّاتِيَّة أَو جَحَدَهَا مُسْتَبْصِرًا فِي ذَلِك كَقَوْلِه: لَيْس بِعَالِم ولا قادر وَلَا مُريد وَلَا مُتَكَلّم وَشِبْه ذَلِك من صِفَات الكَمَال الْوَاجِبَة لَه تَعَالَى فَقَد نصّ أئِمّتُنَا عَلَى الإجماع عَلَى كُفْر من نَفَى عَنْه تَعَالَى الوَصْف بِهَا وَأعْرَاه عَنْهَا وَعَلَى هَذَا حُمَل قَوْل سُحْنُون من قَال لَيْس لله كلام فهو كافر وَهُو لَا يُكَفّر المُتَأَوَّلِين كَمَا قَدَّمْنَاه فَأَمَّا من جَهِل صِفَة من هذه الصفات فاخْتَلَف الْعُلمَاء ههنا فَكَفّرَه بَعْضُهُم وحُكِي ذَلِك عَن أَبِي جَعْفَر الطَّبَرِيّ وَغَيْرُه وَقَال بِه أَبُو الْحَسَن الْأَشْعَرِيّ مَرَّة وذَهَبَت طَائِفَة إِلَى أَنّ هَذَا لَا يُخْرِجُه عَن اسْم الْإِيمَان وَإليْه رَجَع الْأَشْعَرِيّ قَال: لِأَنَّه لَم يَعْتَقِد ذَلِك اعْتَقَادًا يَقْطَع بِصَوَابِه وَيَرَاه دِينًا وَشَرْعًا وَإِنَّمَا يَكْفُر مَنِ اعتَقَد أَنّ مَقَالَه حَقّ واحَتجّ هَؤْلَاء بِحَدِيث السّوْدَاء وَأَنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنما

_ (قوله وَهُو لَا يُكَفّر) بسكون الهاء وفتح الواو ضمير غيبة عائد على سحنون (قوله لحديث السوداء) هو ما رواه أبو داود في الإيمان والنسائي في الوصايات من حديث الشريد بن سويد الثقفى أن أمه أوصته أن يعتق عنها رقبة مؤمنة فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وَقَالَ يَا رَسُولَ الله إن أمي أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية فذكر نحو حديث معاوية بن الحكم السلمى إلى أن قال أين الله؟ قالت في السماء، قال من أنا؟ قالت: أنْت رَسُول اللَّه، قال أعتقها فإنها مؤمنة (*)

طَلَبَ مِنْهَا التَّوْحِيدَ لَا غَيْرَ وَبِحَدِيث الْقَائِل لَئِن قَدَر اللَّه علي وَفِي رِوَايَة فِيه لَعَلّي أضِلّ اللَّه ثُمّ قَال: فَغَفَر اللَّه لَه قَالُوا وَلَو بوحِث أكْثَر النَّاس عَن الصّفات وُكوشِفُوا عَنْهَا لَمّا وُجِد من يَعْلمها إلَّا الأقَلّ، وَقَد أجاب الآخر عَن هَذَا الْحَدِيث بِوُجُوه مِنْهَا أَنّ قَدَر بمعنى قدر وَلَا يَكُون شَكُّه فِي القُدْرَة عَلَى إحْيَائِه بَل فِي نَفْس البَعْث الَّذِي لَا يُعْلَم إلَّا بِشَرْع ولعله لَم يَكُن وَرَد عِنْدَهُم بِه شَرْع يُقْطَع عَلَيْه فَيكُون الشَّكّ فِيه حِينَئِذ كُفْرًا فَأَمَّا مَا لَم يرد بِه شَرْع فَهُو من مُجَوّزَات العُقُول أَو يَكُون قَدَر بِمَعْنَي ضَيّق وَيَكُون مَا فعله بِنَفْسِه إزْراء عَلَيْهَا وَغَضبًا لِعِصْيانِها وَقِيل: إنَّمَا قَال مَا قاله وَهُو غَيْر عاقِل لِكَلامه وَلَا ضابط لِلفْظِه مِمَّا استولى عَلَيْه مِن الْجَزَع والْخَشْيَة الَّتِي أذْهَبَت لُبَّه فَلَم يُؤاخَذ بِه وَقِيل كَان هَذَا فِي زَمَن الفَتْرَة وَحَيْث يَنْفَع مُجَرّد التَّوْحِيد وَقِيل بَل هَذَا من مَجَاز كَلَام الْعَرَب الَّذِي صُورَتُه الشّكّ وَمَعْنَاه التَّحْقِيق وَهُو يُسَمَّى تَجَاهُل العارِف وله أمْثِلَة فِي كَلَامَهِم كَقَوْلِه تَعَالَى (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضلال مبين) فَأَمَّا من أثْبَت الْوَصْف ونَفَى الصّفَة فَقَال أقُول عالِم

_ (قوله لَعَلّي أضِلّ اللَّه) قال صاحب الصحاح: أضل عنه أي: أخفى عليه وأغيب، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى (أئذا ضللنا في الأرض) أي خفينا وغبنا، وقال ابن الأثير: لَعَلّي أضِلّ اللَّه: أفوته ويخفى عليه مكاني، وقيل: لعلى أغيب عن عذاب الله (*)

وَلَكِن لَا عِلْم لَه وَمُتَكَلّم وَلَكِن لَا كَلَام لَه وهكذا فِي سائِر الصّفات عَلَى مَذْهَب المُعْتَزِلَة فَمَن قَال بالمَآل لما يُؤَدّيه إليْه قَوْلُه ويَسُوقُه إليْه مَذْهَبُه كَفّرَه لِأَنَّه إذَا نَفَى العِلْم انْتفى وَصْف عالم إِذ لَا يُوصف بِعالِم إلَّا من لَه علم فكأنَّهُم صَرَّحُوا عِنْدَه بِمَا أدى إليْه قَوْلُهُم وهكذا عِنْد هَذَا سائِر فِرَق أَهْل التَّأْوِيل مِن المُشَبّهَة وَالقَدَرِيَّة وَغَيْرِهِم وَمَن لَم يَر أخْذَهُم بِمآل قولِهِم وَلَا ألْزَمَهُم مُوجِب مذهبم لَم يَر إكفَارَهُم قَال لأنهم إذَا وُقفوا عَلَى هَذَا قَالُوا لَا نقول لَيْس بِعالِم ونْحن نَنْتَفِي مِن القَوْل بالمال الَّذِي ألْزَمْتُمُوه لَنَا ونَعَتْقِد نَحْن وَأنْتُم أنَّه كُفْر بَل نقول إنّ قولنا لا يؤول إليْه عَلَى مَا أصَّلْنَاه فعلى هذيْن المَأخَذَيْن اخْتَلَفَ النَّاس فِي إكْفَار أَهْل التَّأْوِيل وَإذَا فَهِمْتَه اتَّضَح لَك المُوجِب لاخْتِلاف النَّاس فِي ذَلِك والصَّوَاب تَرْك إكفارهم والإعراض عن الْحَتْم عَلَيْهِم بالْخُسْران وإجْراء حُكْم الْإِسْلَام عَلَيْهِم فِي قِصاصِهِم ووِراثاتِهِم ومُنَاكَحاتِهِم ودِيَاتِهِم والصلواة عَلَيْهِم وَدَفْنِهِم فِي مَقَابِر الْمُسْلِمِين وسائِر مُعامَلاتِهِم لكِنَّهُم يُغَلّظ عَلَيْهِم بِوَجيع الأدَب وشَدِيد الزَّجْر والهَجْر حَتَّى يَرْجِعُوا عَن بِدْعَتِهِم وَهَذِه كَانَت سِيرَة الصَّدْر الأوّل فِيهِم فَقَد كَان نَشَأ عَلَى زمن الصَّحَابَة وَبَعْدَهُم فِي التابعين من قَال بِهذِه الأقْوال مِن القَدَر وَرأي الْخَوارِج والاعْتِزَال فَمَا أزاحُوا لَهُم قَبْرًا وَلَا قَطَعُوا لأحد مِنْهُم مِيراثًا لكِنَّهُم هَجَرُوهم وأدّبُوهُم بالضَّرْب والنَّفْي والقَتْل عَلَى قَدْر أحْوالهم لأنهم فُسّاق ضُلَّال عُصَاة أَصْحَاب كبائر

فصل هذا حكم المسلم الساب لله تعالى وأما الذمي

عِنْد المُحَقَّقِين وَأَهْل السُّنَّة مِمَّن لَم يَقُل بِكُفْرِهِم مِنْهُم خلافًا لِمَن رَأَى غَيْر ذَلِك والله الْمُوَفّق للصّواب قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْر وَأَمَّا مَسائِل الْوَعْد والْوِعيد والرُّؤْيَة والْمَخْلُوق وخَلْق الأفْعال وبَقَاء الأعْراض والتَّوَلُّد وشِبْهها مِن الدَّقائق فالمَنْع فِي إكْفار الْمُتَأوّلِين فِيهَا أوْضَح إِذ لَيْس فِي الْجَهْل بشئ مِنْهَا جَهْل بالله تَعَالَى وَلَا أجْمَع الْمُسْلِمُون عَلَى إكْفار من جَهل شَيْئًا مِنْهَا وَقَد قَدّمْنا فِي الفَصْل قَبْلَه مِن الْكَلَام وصُورَة الخِلَاف فِي هَذَا مَا أغْنى عَن إعادَته بحَوْل اللَّه تَعَالَى فصل هَذَا حُكْم الْمُسْلِم السّابّ لله تَعَالَى وَأَمَّا الذمّيّ فَرُوِي عَن عبد الله ابن عُمَر فِي ذمّيّ تَناول من حُرْمَة اللَّه تَعَالَى غَيْر مَا هُو عَلَيْه من دِينِه وحاجّ فِيه فَخَرَج ابن عُمَر عَلَيْه بالسَّيْف فَطَلَبَه فَهَرَب وَقَال مَالِك فِي كِتاب ابن حَبِيب والْمَبْسُوطَة، وَابْن الْقَاسِم فِي الْمَبْسُوط وكتاب مُحَمَّد وَابْن سُحْنُون: من شَتَم اللَّه مِن اليَهُود والنَّصارى بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي كفر بِه قُتِل وَلَم يُسْتَتَب قَال ابن الْقَاسِم إلَّا أن يُسْلِم قَال فِي المَبْسُوطَة طَوْعًا قَال أصْبَغ لِأَنّ الْوَجْه الَّذِي بِه كَفَرُوا هو دِينُهُم وعليه عُوهِدُوا من دَعْوَى الصاحبَة والشّريك والْوَلَد وَأَمَّا غَيْر هَذَا مِن الفِرْيَة والشَّتْم فَلَم يُعاهَدُوا عَلَيْه فَهُو نَقْض لِلْعَهْد قَال ابن الْقَاسِم فِي كِتَاب مُحَمَّد وَمن شَتَم من غَيْر

فصل هذا حكم من صرح بسبه

أَهْل الأديان اللَّه تَعَالَى بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي ذُكِر فِي كِتابِه قُتِل إلَّا أَن يُسْلِم وَقَال المَخْزُومِي فِي المَبْسُوطَة وَمُحَمَّد بن مَسْلَمَة وَابْن أَبِي حازِم لَا يُقْتَل حَتَّى يُسْتَتَاب، مُسْلِمًا كَان أَو كافِرًا فإن تاب وَإِلَّا قُتِل وَقَال مُطَرّف وَعَبُد الْمَلِك مِثْل قَوْل مَالِك وَقَال أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد من سَبّ اللَّه تَعَالَى بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي بِه كَفَر قُتِل إلَّا أَن يُسْلِم وَقَد ذَكَرْنَا قَوْل ابن الْجَلَاب قَبْل وَذَكَرْنا قَوْل عُبَيْد اللَّه وَابْن لُبَابَة وشُيُوخ الأنْدَلُسِيّين فِي النَصْرَانِيّة وفُتْياهُم بقَتْلِها لِسَبّها بالْوَجْه الَّذِي كَفَرت بِه اللَّه وَالنَّبِيّ وإجْماعَهُم عَلَى ذَلِك وَهُو نَحْو القَوْل الآخَر فِيمَن سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِنْهُم بالْوَجْه الَّذِي كَفَر بِه وَلَا فَرْق فِي ذَلِك بَيْن سَبّ اللَّه وسب نَبِيّه لأنَّا عاهَدْناهُم عَلَى أن لا يُظْهِرُوا لَنَا شَيْئًا من كُفْرِهِم وأن لَا يُسْمِعُونا شَيْئًا من ذَلِك فَمَتى فَعَلُوا شَيْئًا مِنْه فَهُو نَقْض لِعَهْدِهِم واختلف الْعُلمَاء فِي الذّمّيّ إذَا تَزَنْدَق فَقَال مَالِك ومُطَرَّف وَابْن عَبْد الحكم وأصْبَغ لَا يُقْتَل لِأَنَّه خَرَج من كُفْر إلى كُفْر وَقَال عَبْد الْمَلِك بن المَاجِشُون يُقْتَل لِأَنَّه دِين لَا يُقَرّ عَلَيْه أَحَد ولا يوخذ عليه جِزْيَة قَال ابن حَبِيب وَمَا أَعْلَم من قاله غَيْرِه فصل هَذَا حُكْم من صَرَّح بِسَبّه وإضافة مَا لَا يَلِيق بِجَلالِه وإلهِيّتِه * فَأَمَّا مُفْتَرِي الكَذِب عَلَيْه تَبارَك وَتَعَالَى بادّعاء الإلهيّة أَو الرَّسالة أَو النَّافي

أن يَكُون اللَّه خالقَه أَو رَبَّه أَو قَال لَيْس لِي رَبّ أَو الْمُتَكَلّم بِمَا لَا يُعْقَل من ذَلِك فِي سُكْرِه أَو غَمْرَة جُنُونِه فَلَا خِلَاف فِي كُفْر قائِل ذَلِك ومُدَّعِيه مَع سَلامَة عَقْلِه كَمَا قَدّمْناه لكنه تُقْبَل تَوْبَتُه عَلَى الْمَشْهُور وَتَنْفَعُه إنابَتُه وتُنْجِيه مِن القَتْل فَيْأته لكنه لَا يَسْلَم من عَظِيم النَّكَال وَلَا يُرَفَّه عَن شدِيد الْعِقَاب لِيَكُون ذَلِك زجْرًا لمثله عَن قَوْلِه وله عَن العَوْدَة لِكُفْرِه أَو جَهْلِه إلَّا من تَكَرَّر مِنْه ذَلِك وعُرف اسْتِهانَتُه بِمَا أتى بِه فَهُو دَلِيل عَلَى سُوء طَوِيَّتِه وكَذِب تَوْبَتِه وصار كالزّنْدِيق الَّذِي لَا نَأمَن باطِنَه وَلَا نَقْبَل رُجُوعَه وحُكْم السَّكْران فِي ذَلِك حُكْم الصاحِي وَأَمَّا الْمَجْنُون والْمَعْتُوه فَمَا علم أنه قال من ذَلِك فِي حال غَمْرَتِه وذَهاب مَيْزِه فَلَا نَظَر فِيه وَمَا فَعَلَه من ذَلِك فِي حال ميزه وَإِن لَم يَكُن مَعَه عقله وسقط تكليفه أدب عَلَى ذَلِك لينزجر عَنْه كَمَا يؤدب عَلَى قبائح الأفعال ويوالى أدبه عَلَى ذَلِك حَتَّى ينكف عنها كَمَا تؤدب البهيمة عَلَى سوء الْخلق حَتَّى تراض وَقَد أحرق عَلِيّ بن أَبِي طَالِب رَضِي اللَّه عَنْه من ادَّعى لَه الإلِهِيَّة وَقَد قَتَل عَبْد المَلِك بن مَرْوَان الحَارِث المتنب وصَلَبَه وفَعَل ذَلِك غَيْر وَاحِد مِن الخُلَفَاء والمُلُوك بأشْبَاهِهِم وأجْمَع علماء وَقْتِهِم عَلَى صَوَاب فِعْلِهِم والمُخَالِف فِي ذَلِك من كُفْرِهِم كافِر وأجْمَع فُقَهَاء بَغْدَاد أيَّام المُقْتَدِر مِن

_ (قوله فيأته) بفتح الفاء وكسرها أي رجوعه (قوله طويته) بفتح الطاء المهملة أي: ضمرته (*)

المَالِكِيَّة وقاضِي قُضاتِهَا أبو عم الْمَالِكِيّ عَلَى قَتْل الْحَلَّاج وصَلْبِه لِدَعْوَاه الإلهِيَّة والقول بالحُلُول وَقَوْلُه: - أَنَا الْحَقّ - مَع تمسُّكه فِي الظّاهِر بالشّرِيعَة وَلَم يَقْبَلُوا تَوْبَتَه وَكَذَلِك حَكَمُوا فِي ابن أَبِي العَزَافِير وَكَان عَلَى نَحْو مَذْهَب الحَلَّاج بَعْد هَذَا أيام الرّاضِي بالله وقاضي قُضاة بغداد يَوْمَئِذ أَبُو الْحُسَيْن بن أَبِي عُمَر المالكي، وَقَال ابن عَبْد الحَكَم فِي المبسوط من تَنَبَّأ قُتِل، وَقَال أَبُو حَنِيفَة وأصْحَابُه: من جَحَد أَنّ اللَّه تَعَالَى خالِقُه أَو رَبُّه أَو قَال لَيْس لِي رَبّ فَهُو مُرْتَد، وَقَال ابن الْقَاسِم فِي كِتَاب ابن حبيب وَمُحَمَّد فِي العُتْبيَّة فِيمَن تنبأ يستتاب أسَرّ ذَلِك أَو أعلنه وهو كالمرتد وقاله سحنون وغيره وقاله أشْهَب فِي يَهُودِيّ تَنَبَّأ وادّعى أنَّه رسول إِلَيْنَا إن كَان؟ ؟ ؟ ؟ ؟ بِذَلِك اسْتُتِيب فإن تاب وَإِلَّا قُتِل. وَقَال أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زيد فَمَن لَعَن بارئَه وادّعى أَنّ لِسَانِه زَلّ وَإِنَّمَا أراد لَعْن الشَّيْطَان يُقْتَل بِكُفْرِه وَلَا يُقْبَل عُذْرُه وَهَذَا عَلَى القَوْل الآخَر من أنَّه لَا تُقْبَل تَوْبَتُه وَقَال أَبُو الْحَسَن القابِسيّ فِي سَكْرَان قَال: أَنَا اللَّه أَنَا اللَّه إن تاب أدَّب فإن عاد إِلَى

_ (قوله الحلاج) هو الحسين بن منصور من أهل البيضاء بلدة بفارس نشأ بواسط والعراق وصحب الجنيد وغيره، ضرب ألف سوط وقطعت أطرافه وحز رأسه وأحرقت جثته في ذى القعدة سنة تسع وثلاثمائة بأمر المقتدر (قوله وَكَذَلِك حَكَمُوا فِي ابن أَبِي العَزَافِير) بفتح المهملة وتخفيف الزاى وبعد الألف فاء مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فراء: هكذا في النسخ، وفى تاريخ الذهبي محمد بن علي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بن أبى العزافر بغير ياء الزنديق أحدث مذهبا في الرفض ببغداد ثم قال بالتناسخ ومخرق على الناس وظهر منه ادعاء الربوبية (*)

فصل وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ

مِثْل قَوْلِه طُوِلب مُطَالَبَة الزّنْدِيق لِأَنّ هَذَا كُفْر المُتَلَاعبِين فصل وَأَمَّا من تَكَلَّم من سَقَط القَوْل وَسُخْف اللَّفْظ مِمَّن لَم يَضْبِط كَلَامَه وأهْمَل لِسَانَه بِمَا يَقْتَضِي الاسْتخْفَاف بِعَظَمَة رَبِّه وَجَلالَة مَوْلاه أَو تَمثَّل فِي بَعْض الأشياء بِبَعْض مَا عَظَّم اللَّه من مَلَكُوتِه أَو نَزَع مِن الْكَلَام لِمَخْلُوق بِمَا لَا يَلِيق إلَّا فِي حَقّ خالِقِه غَيْر قاصِد لِلْكُفْر والاسْتِخْفَاف وَلَا عامِد لِلْإلْحَاد فَإِن تَكَرّر هَذَا مِنْه وَعُرِف بِه دَلّ عَلَى تلاعبه بدينه واستخفافه بحُرْمَة رَبّه وَجَهْلِه بِعَظِيم عِزَّتِه وكِبْرِيائِه وَهَذَا كُفْر لَا مِرْيَة فِيه وَكَذَلِك إن كَان مَا أوْرَدَه يُوجِب الاسْتِخْفَاف والتَّنْقُّص لِرَبّه وَقَد أفْتى ابن حبيب وأصْبَغ بن خَلِيل من فُقَهَاء قُرْطُبَة بِقَتْل المَعْرُوف بابن أخي عَجَب وَكَان خَرَج يَوْمًا فأخذه المطر فَقَال: بدأ الخراز يرش جلوده، وَكَان بَعْض الفُقَهَاء بِهَا أَبُو زيد صَاحِب الثمانية وَعَبد الأَعْلَى بن وَهْب وأبان بن عِيسَى قَد توقفوا عَن سفك دمه وأشاروا إلى أنَّه عبث مِن القَوْل يكفي فِيه الأدب وأفتى بِمِثْلِه الْقَاضِي حِينَئِذ مُوسَى بن زياد فَقَال ابن حبيب: دمه فِي عنقي، أيُشْتَم رَبّ عبدناه ثُمّ لَا ننتصر لَه؟ إنا إذَا لعبيد سُوء مَا نَحْن لَه بعابدين، وبَكَى ورُفع الْمَجْلِس إلى الأمير بِهَا عَبْد الرَّحْمن

_ (قوله الخراز) بالخاء المعجمة والراء المشددة وفى آخره زاى (قوله صاحب الثمانية) بضم المثلثة في أوله وكسر النون وتشديد المثناة تحتية (*)

ابن الحَكَم الأمَوِيّ وكانت عَجَب عَمَّه هَذَا الْمَطْلُوب من حَظَاياه وَأَعْلَم باختلاف الفُقَهَاء فخرج الإذْن من عِنْدَه بالأخْذ لقول ابن حبيب وصاحبه وأمر بقتله فقتل وَصُلِب بحَضْرَة الْفَقِيهَين وَعَزَل الْقَاضِي لِتُهْمَتِه بالمُدَاهَنَة فِي هَذِه الْقِصَّة وَوَبَّخ بَقِيَّة الفُقَهَاء وَسَبَّهُم. وَأَمَّا من صَدَرَت عَنْه من ذَلِك الهَنَة الوَاحِدَة وَالْفَلْتَة الشَّارِدة ما لم يكن تقصا وَإزْرَاء فَيُعَاقَب عَلَيْهَا وَيُؤَدَّب بِقَدْر مُقْتَضَاهَا وَشُنْعَة مَعْنَاهَا وَصُورَة حال قائِلِهَا وَشَرْح سَببهَا وَمُقَارِنهَا، وَقَد سُئِل ابن الْقَاسِم رَحِمَه اللَّه عَن رَجُل نادَى رَجُلًا باسْمِه فَأجَابَه لَبَّيْك اللَّهُمّ لَبَّيْك قَال إن كَان جاهِلًا أو فاله عَلَى وجْه سَفَه فلا شئ عَلَيْه قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَشَرْح قَوْله أنَّه لَا قَتْل عَلَيْه والجَاهِل يُزْجَر ويُعَلَّم وَالسَّفِيه يُؤَدّب وَلَو قالها عَلَى اعْتِقَاد إنْزَالِه مَنْزِلَة رَبّه لكَفَر، هَذَا مُقَتَضَى قَوْلِه وَقَد أسْرَف كثير من سُخَفَاء الشُّعَرَاء ومُتَّهَمِيهِم فِي هَذَا الْبَاب واسْتَخَفُّوا عَظِيم هذه الْحُرْمَة فأتَوْا من ذَلِك بِمَا نُنَزَّه كِتَابَنَا وَلِسَانَنَا وَأقْلَامَنَا عَن ذِكْرِه ولوْلَا أَنَّا قَصَدْنَا نَصّ مَسَائِل حَكَيْناهَا لَما ذَكَرْنَا شَيْئًا مِمَّا يَثْقُل ذِكْرُه عَلَيْنَا مِمَّا حَكَيْنَاه فِي هَذِه الْفُصُول، وَأَمَّا مَا وَرَد فِي هَذَا من أَهْل الجَهَالَة وأغَالِيط اللّسَان كَقَوْل بَعْض الأعْرَاب

_ (قوله من سخفاء) جمع سخيف أي رقيقا العقل (قوله كَقَوْل بَعْض الأعْرَاب) قال ابن الأثير وسمع سليمان رجلا من الأعراب في سنة مجدبة يقول رب العباد إلى آخره فحمله سليمان أحسن محمل وَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ لا أبا له ولا صاحبة ولا ولد انتهى قال ابن الأثير وأكثر ما يستعمل لا أبا لك في المدح أي لا كافى لك غير نفسك وقد يذكر في معرض الذم وقد يذكر في معرض التعجب ودفع العين وقد يذكر في معنى جد في أمرك وشمر له (*)

رب العباد مالنا ومالكا * قَد كُنْت تَسْقِينا فما بَدَا لَكَا أنْزِل عَلَيْنَا الْغَيْث لَا أَبَا لَكا فِي أشْبَاه لهذا من كَلَام الجُهَّال وَمن لَم يُقَوّمْه ثِقَاف تأدِيب الشريعة والعلم فِي هَذَا الباب فلما يصدر إلَّا من جاهل يَجِب تَعْلِيمُه وَزَجْرُه وَالإغْلَاظ لَه عَن الْعوْدَة إِلَى مِثْلِه قَال أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيّ وَهَذَا تَهَوُّر مِن القَوْل والله مُنَزَّه عَن هَذِه الْأُمُور وَقَد رَوَيْنَا عَن عَوْن بن عَبْد اللَّه أنَّه قَال لِيُعَظّم أحَدُكُم رَبَّه أَن يُذْكَر اسْمُه فِي كل شئ حَتَّى لَا يَقُول أخْزَى اللَّه الْكَلْب وَفَعَل بِه كَذَا وكَذَا وَكَان بَعْض من أدْرَكْنا من مشايخنا فلما يَذْكُر اسم اللَّه تَعَالَى إلَّا فِيمَا يَتَّصِل بِطَاعَتِه وَكَان يَقُول للإنسان جُزيت خَيْرًا وَقَلَّمَا يَقُول جَزاك اللَّه خَيْرًا إعْظَامًا لاسْمِه تَعَالَى أَنّ يُمْتَهَن فِي غَيْر قُرْبَة، وحَدَّثَنَا الثقَة أَنّ الْإِمَام أَبَا بَكْر الشَّاشِيّ كَان يَعيب عَلَى أَهْل الْكَلَام كَثْرَة خَوْضِهِم فِيه تَعَالَى وَفِي ذكر صِفَاتِه إجْلالًا لاسْمه تَعَالَى يقول هَؤْلَاء يَتَمَنْدَلُون بالله عَزّ وَجَلّ وَيُنَزَّل الْكَلَام فِي هَذَا البَاب تَنْزيلَه فِي باب سابّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى الْوُجُوه الَّتِي فَصَّلْنَاهَا والله الموفق

_ (قوله ثقاف) بكسر المثلثة وتخفيف الفاء وهو في الأصل اسم لما يسوى به الرماح (قوله تَهَوُّر مِن القَوْل) التهور بفتح المثناة الفوقية والهاء وضم الواو تشديدها الوقوع في الشئ بقلة مبالاة (قوله يتمندلون) في الصحاح المنديل معروف تقول منه تمندلت بالمنديل (*)

(فصل) وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى وملائكته

(فصل) وَحُكْم من سَبّ سَائِر أنْبيَاء اللَّه تَعَالَى وَمَلائكَتَه واسْتَخَفّ بِهِم أو كَذَّبَهُم فِيمَا أتوا بِه أَو أنْكَرَهُم وَجَحَدَهُم حُكْم نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلَى مَساق مَا قَدَّمْنَاه قَال اللَّه تَعَالَى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورسله) الآيَة وَقَال تَعَالَى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إبراهيم) الآيَة إِلَى قَوْلِه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحد منهم) وقال (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) قَال مَالِك فِي كِتَاب ابن حبيب وَمُحَمَّد وَقَال ابن الْقَاسِم وَابْن الماجشُون وَابْن عَبْد الْحَكَم وأصْبَغ وسُحْنُون فِيمَن شَتَم الْأَنْبِيَاء أَو أحدا مِنْهُم أَو تَنَقَّصَه قُتِل ولم يُسْتَتَب وَمَنْ سَبَّهُم من أَهْل الذّمَّة قُتِل إلَّا أَنْ يُسْلِم وَرَوَى سُحْنُون عَن ابن الْقَاسِم: من سَبّ الْأَنْبِيَاء مِن اليَهُود والنَّصَارَى بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي بِه كفر فَاضْرب عُنُقَه إلَّا أن يُسْلِم وَقَد تَقَدَّم الْخلاف فِي هَذَا الأصْل وَقَال الْقَاضِي بِقُرْطُبَة سَعِيد بن سُلَيْمَان فِي بَعْض أجْوبتِه من سَبّ اللَّه وملائكته قتل، وَقَال سُحْنُون من شَتَم مَلَكًا مِن الْمَلَائِكَة فَعَلَيْه القَتْل، وَفِي النَّوادِر عَن مَالِك فِيمَن قَال إن جِبْرِيل أخْطأ بالْوَحْي وَإِنَّمَا كَان النبي عَلِيّ بن أَبِي طَالِب اسْتُتِيب فإن تاب وَإِلَّا قُتِل وَنَحْوَه عَن سُحْنُون وَهَذَا قَوْل الغُرَابِيَّة مِن الرّوافِض سُمُّوا بِذَلِك لقولهم كَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أشْبَه بِعَلِيّ مِن الغُرَاب بالغراب وَقَال أَبُو حَنِيفَة وأصْحابُه عَلَى أصْلِهِم من كَذَّب بِأحَد مِن الْأَنْبِيَاء أَو تَنَقَّص

أحدا منهم أو يرى مِنْهُم فَهُو مُرْتَد وَقَال أَبُو الْحَسَن القابسي فِي الَّذِي قَال لآخَر كَأنَّه وَجْه مَالِك الغَضْبَان لَو عُرِف أنَّه قَصَد ذمّ الْمَلِك قُتِل قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل وَهَذَا كُلّه فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين أو على معين ممن حققنا كَوْنِه مِن الْمَلَائِكَة والنَّبِيّين مِمَّن نَصّ اللَّه عَلَيْه فِي كِتابِه أَو حَقَّقْنَا عليه بالْخَبَر الْمُتَوَاتِر وَالْمُشْتَهِر المتفق عليه بالإجماع القاطع لجبريل ومِيكائِيل وَمَالِك وخَزَنَة الْجَنَّة وجَهَنَّم والزَّبَانِيَة وحَمَلة العَرْش الْمَذْكُورِين فِي الْقُرْآن مِن الْمَلَائِكَة وَمِن سُمّي فِيه من الْأَنْبِيَاء وكَعَزْرائيل وإسرافيل ورضوان والحَفَظَة ومُنْكَر ونَكير مِن الْمَلَائِكَة المُتَّفَق عَلَى قَبُول الخبر بهما فَأَمَّا من لَم تَثْبُت الْأَخْبَار بِتَعْيينِه وَلَا وقَع الإجْماع عَلَى كَوْنِه مِن الْمَلَائِكَة أَو الْأَنْبِيَاء كَهارُوت ومارُوت فِي الْمَلَائِكَة والْخضر ولُقْمَان وذِي القَرْنَين ومريم وآسِيَة وخالد بن سنان المذكورة أنَّه نَبِيّ أَهْل الرس وزرادشت الَّذِي تَدَّعِي الْمَجْوس وَالْمُؤَرّخُون نُبُوَّتَه فَلَيْس الْحُكْم فِي سابّهِم والكافِر بِهِم كالْحُكْم فِيمَن قَدمناه إِذ لَم تثبت لَهُم تِلْك الحرمة وَلَكِن يزجر من تنقصهم وآذاهم ويؤدب بقدر حال المنقول فِيه لا سيما من عرفت صديقيته وفضله مِنْهُم وإن لَم تَثْبُت نُبُوَّتُه وَأَمَّا إنْكار نُبُوّتِهِم أَو كَوْن الآخَر مِن الْمَلَائِكَة فإن كَان الْمُتَكَلّم فِي ذلك

_ (قوله ومنكر) بفتح الكاف كذا قيده ابن العربي المكى الْقَاضِي أَبُو بَكْر (قوله وزرادشت) بزاى مفتوحة وراء فألف فدال مضمومة فشين معجمة فمثناة صاحب كتاب المجوس (*)

(فصل) واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف

من أَهْل الْعِلْم فَلَا حَرج لاخْتِلاف الْعُلمَاء فِي ذَلِك وَإِن كَان من عَوَامّ الناس زُجِر عَن الْخَوْض فِي مِثْل هَذَا فِإن عاد أُدّب إِذ لَيْس لَهُم الْكَلَام فِي مِثْل هَذَا وَقَد كَرِه السَّلَف الْكَلَام فِي مِثْل هَذَا مِمَّا لَيْس تَحْتَه عَمَل لأهل الْعِلْم فَكَيْف لِلْعَامَّة؟ (فصل) وأَعْلَم أن مِن اسْتَخَفّ بالْقُرْآن أَو الْمُصَحف أَو بشئ مِنْه أَو سَبَّهُما أَو جَحَدَه أَو حَرْفًا مِنْه أَو آيَة أَو كَذَّب بِه أَو بشئ مِنْه أَو كَذّب بشئ مِمَّا صُرّح بِه فِيه من حُكْم أَو خَبَر أَو أثْبَت مَا نَفاه أَو نَفَى مَا أثْبَتَه عَلَى عِلْم مِنْه بِذَلِك أَو شك في شئ من ذَلِك فَهُو كَافِر عِنْد أَهْل الْعِلْم بإجْماع قَال اللَّه تَعَالَى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) حَدَّثَنَا الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا ابْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عمرو عن أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال (الْمِرَاءُ فِي الْقُرْآنِ كفر) تؤول بِمَعْنَى الشَّكّ وَبِمَعْنَى الْجِدَال، وَعَن ابن عَبَّاس عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّم (مَنْ جَحَدَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حَلَّ ضَرْبُ عُنُقِهِ) وَكَذَلِكَ إِنْ جَحَدَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَكُتُبَ اللَّهِ المُنَزَّلَة أَو كَفَر بِهَا أَو لَعَنَهَا أَو سَبَّهَا أَو اسْتَخَفّ بِهَا فَهُو كَافِر وَقَد أَجْمَع الْمُسْلِمُون أَنّ الْقُرْآن الْمَتْلُوّ فِي جَمِيع أَقْطَار الأَرْض الْمَكْتُوب

فِي الْمُصْحَف بِأَيْدِي الْمُسْلِمِين مِمَّا جَمَعَه الدَّفَّتَان من أَوَّل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين - إِلَى آخِر - قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) إِنَّه كَلَام اللَّه وَوَحْيُه المُنَزَّل عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَأَنّ جَمِيع مَا فِيه حَقّ وَأَنّ من نَقَص مِنْه حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِك أَو بَدَّلَه بِحَرْف آخَر مَكَانَه أَو زَاد فِيه حَرْفًا مِمَّا لَم يَشْتَمِل عَلَيْه المُصْحَف الَّذِي وَقَع الإِجْمَاع عَلَيْه وأُجْمِع عَلَى أَنَّه لَيْس مِن الْقُرْآن عَامِدًا لِكُلّ هَذَا أَنَّه كَافِر وَلِهَذَا رَأَى مَالِك قَتْل من سَبّ عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا بِالْفِرْيَة لأَنَّه خَالَف الْقُرْآن وَمَن خَالَف الْقُرْآن قُتِل أَي لأَنَّه كَذَّب بِمَا فِيه، وَقَال ابن الْقَاسِم من قَال إِنّ اللَّه تَعَالَى لَم يُكَلِّم مُوسَى تَكْلِيمًا يُقْتَل وَقَالَه عَبْد الرَّحْمَن بن مَهْدِيّ وَقَال مُحَمَّد بن سُحْنُون فِيمَن قَال الْمُعَوَّذَتَان لَيْسَتَا من كِتَاب اللَّه يُضْرَب عُنُقُه إِلَّا أَن يَتُوب وَكَذَلِك كُلّ من كَذَّب بِحَرْف مِنْه قَال وَكَذَلِك إِن شَهِد شَاهِد عَلَى من قَال إِنّ اللَّه لَم يُكَلِّم مُوسَى تَكْلِيمًا وشَهِد آخَر عَلَيْه أَنَّه قَال إِنّ اللَّه لَم يَتَّخِذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا لأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّه كَذَّب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَقَال أَبُو عُثْمَان الْحَدَّاد جَمِيع من يَنْتَحِل التَّوْحِيد مُتَّفِقُون أَنّ الْجَحْد لِحَرْف مِن التَّنْزِيل كُفْر وَكَان أَبُو الْعَالِيَة إِذَا قَرَأ عِنْدَه رَجُل لَم يَقُل لَه لَيْس كَمَا قَرَأْت وَيَقُول أَمَّا

_ (قوله المعوذتان) قال النووي أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن وأن من جحد شيئا منها كفر وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه، قال ابن حزم في أول كتاب المجلى هذا كذب على ابن مسعود موضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زيد بن حنيس عن عبد الله بن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتان انتهى (*)

أَنَا فَأَقْرَأ كَذَا فَبَلَغ ذَلِك إِبْرَاهِيم فَقَال أَرَاه سَمِع أَنَّه من كَفَر بِحَرْف مِنْه فَقَد كَفَر بِه كُلِّه وَقَال عَبْد اللَّه بن مَسْعُود من كَفَر بِآية مِن الْقُرْآن فَقَد كَفَر بِه كُلِّه وَقَال أَصْبَغ بن الفَرَج من كَذَّب بِبَعْض الْقُرْآن فَقَد كَذَّب بِه كُلِّه وَمَن كَذَّب بِه فَقَد كَفَر بِه وَمَن كَفَر بِه فَقَد كَفَر بِاللَّه وَقَد سُئِل القَابِسِيّ عَمَّن خاضم يَهُودِيًّا فَحَلَف لَه بِالتَّوْرَاة فَقَال الآخَر لَعَن اللَّه التَّوْرَاة فَشَهِد عَلَيْه بِذَلِك شَاهِد ثُمّ شَهِد آخَر أَنَّه سَأَلَه عَن الْقَضِيَّة فَقَال إِنَّمَا لَعَنْت تَوْرَاة الْيَهُود فَقَال أَبُو الْحَسَن الشَّاهِد الْوَاحِد لَا يُوجِب الْقَتْل وْالثَّانِي عَلَّق الأَمْر بِصِفَة تَحْتَمِل التَّأْوِيل إِذ لَعَلَّه لَا يَرَى الْيَهُود مُتَمَسِّكِين بشئ من عِنْد اللَّه لِتَبْدِيلِهِم وتَحْرِيفِهِم وَلَو اتَّفَق الشَّاهِدَان عَلَى لعن التوراة مجرد لَضَاق التَّأْوِيل، وَقَد اتفق فُقَهَاء بغداد عَلَى استتابة ابن شنبوذ المقرئ أَحَد أئِمَّة المقرئين المتصدرين بِهَا مَع ابن مُجَاهِد لقراءته وإقرائه بشواذ مِن الحروف مِمَّا لَيْس فِي المصحف وعقدوا عَلَيْه

_ (قوله ابن شنبوذ) قيل إنه بإسكان النون وهو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت المقرئء البغدادي قال ابن خلكان كان من مشاهير القراء ذادين وسلامة صدر وقيل كان كثيرا اللحن قليل العلم تفرد بقراءة من الشواذ كان يقرأ بها في المحراب فانكب على وبلغ أمره الوزير بن مقلة في شهر ربيع الآخر سَنَة ثَلَاث وَعِشْرِين وثلاثمائة فاعتقله بداره واستحضره هو والقاضى أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ وجماعة من أهل الفرات فأغلظ القول عليهم فأمر الوزير بضربه فضرب سبع؟ ؟ ؟ فدعا على الوزير بقطع يده وتشتيت شمله فكان الأمر كذلك ثم كتب محضرا بما كان يقرؤه واستتيب أن لَا يَقْرَأ إلا بمصحف أمير المؤمنين عثمان وكتب خطه في آخره وأطلق

(فصل) وسب آل بيته وأزواجه وأصحابه

بالرجوع عَنْه والتوبة مِنْه سجلًا أشْهَد فِيه بِذَلِك عَلَى نَفْسِه فِي مَجْلِس الوَزِير أَبِي عَلِيّ بن مُقْلَة سَنَة ثَلَاث وَعِشْرِين وَثَلَاثِمائة وَكَان فِيمَن أفْتى عَلَيْه بِذَلِك أَبُو بَكْر الأبهريّ وَغَيْرُه وأفْتى أَبُو مُحَمَّد بن أَبِي زَيْد بالأدَب فِيمَن قَال لِصَبيّ لَعَن اللَّه مُعلّمَك وَمَا عَلّمَك وَقَال أرَدْت سُوء الأدب وَلَم أُرِد الْقُرْآن قَال أَبُو مُحَمَّد وَأَمَّا من لَعَن المُصْحَف فَإنَّه يُقْتَل (فصل) وَسَبّ آل بَيْتِه وَأزْوَاجِه وَأصْحَابِه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَتَنقّصُهُم حَرَام مَلْعُون فاعِلُه * حَدَّثَنَا الْقَاضِي الشَّهِيدُ أَبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ الْعَدْلُ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حدثنا يعقوب ابن إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بن أبى رابطة عَن عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الله ابن مُغَفَّلٍ قَال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تتخذوهم غَرَضًا بَعْدِي فَمَنْ أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم

_ (قوله الوَزِير أَبِي عَلِيّ) هُو مُحَمَّد بن علي بن الحسين بن مقلة الكاتب كَانَ فِي أَوَّلِ أمره يتولى بعض أعمال فارس ويجبى خراجها ويتقلب أحواله إلى أن استوزره المقتدر سنة ست عشرة وثلاثمائة ثم قبض عليه في جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة ونفاه إلى فارس بعد أن صادره ولما ولى القاهرة أحضره في يوم الأضحى سنة عشرين وخلع عليه ولم يزل وزيره إلى أن اتهمه على الفتك به وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر في أول شعبان سنة إحدى وعشرين ولما ولى الراضي بالله في جمادى الأولى سنة اثنين وعشرين استوزره أيضا توفى رحمه الله سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (قوله عُبَيْدَةُ بْنُ أَبِي رابطة) بفتح العين المهملة وكسر الموحدة نص عليه ابن ماكولا (*)

ومن آذاهم فقد آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يَأْخُذَهُ) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أجمعين لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) وَقَال صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَإِنَّهُ يجئ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَسُبُّونَ أَصْحَابِي فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ وَلَا تُصَلُّوا مَعَهُمْ وَلَا تُنَاكِحُوهُمْ وَلَا تُجَالِسُوهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ) وَعَنْه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَاضْرِبُوهُ) وَقَد أَعْلَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَنَّ سَبَّهُم وَأَذَاهُم يُؤْذِيه وَأَذَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم حَرَام فَقَال (لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي) وَقَال (لا تُؤْذُونِي فِي عَائِشَةَ) وَقَال فِي فَاطِمَة (بَضْعةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا وَقَد اخْتَلَف الْعُلمَاء فِي هَذَا فَمَشْهُور مَذْهَب مَالِك فِي ذَلِك الاجْتِهَاد وَالأَدَب الْمُوجِع، قَال مَالِك رحمه الله من شتم النبي صلى الله عليه وَسَلَّم قُتِل وَمَن شَتَم أَصْحَابَه أُدِّب وَقَال أَيْضًا من شَتَم أَحَدًا من أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَبَا بَكْر أَو عُمَر أَو عُثْمَان أَو مُعَاوِيَة أَو عَمْرَو بن الْعَاص فَإِن قَال كَانُوا عَلَى ضَلال وَكُفْر قُتِل وَإِن شَتَمَهُم بِغَيْر هَذَا من مُشَاتَمَة النَّاس نُكِّل نَكَالًا شَدِيدًا، وَقَال ابن حَبِيب من غَلَا مِن الشِّيعَة إِلَى بَغْض عُثْمَان وَالْبَرَاءَة مِنْه أُدِّب أَدَبًا شَدِيدًا وَمَن زَاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه

_ (قوله بضعة منى) بفتح الموحدة أي قطعة (*)

أَشَدّ وَيُكَرَّر ضَرْبُه وَيُطَال سِجْنُه حَتَّى يَمُوت وَلا يُبْلَغ بِه الْقَتْل إِلَّا في سب النبي صلى الله عليه وَسَلَّم وَقَال سُحْنُون من كَفَّر أَحَدًا من أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم عَلِيًّا أَو عُثْمَان أَو غَيْرهمَا يُوجَع ضَرْبًا وَحَكَى أَبُو محمد ابن أَبِي زَيْد عَن سُحْنُون فِيمَن قَال فِي أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ إِنَّهُم كَانُوا عَلَى ضَلال وكُفْر قُتِل وَمَن شَتَم غَيْرَهُم مِن الصَّحَابَة بِمِثْل هَذَا نُكِّل النَّكَال الشَّدِيد * وَرُوِي عَن مَالِك من سَبّ أَبَا بَكْر جُلِد وَمِن سَبّ عَائِشَة قُتِل، قِيل لَه لِم؟ قَال من رَمَاهَا فَقَد خالف الْقُرْآن وَقَال ابن شعبان عَنْه لِأَنّ اللَّه يَقُول (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كنتم مؤمنين) فَمَن عاد لِمِثْله فَقَد كَفَر * وَحَكَى أَبُو الْحَسَن الصقَّلّيّ أَنّ الْقَاضِي أَبَا بكر ابن الطَّيَّب قَال إنّ اللَّه تَعَالَى إذَا ذَكَر فِي الْقُرْآن مَا نَسَبَه إليْه المُشْرِكُون سَبَّح نَفْسَه لِنَفْسِه كَقَوْلِه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سبحانه) فِي آي كَثِيرَة وَذَكَر تَعَالَى مَا نَسَبَه الْمُنَافَقُون إِلَى عَائِشَة فَقَال (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سبحانك) سَبّح نَفْسَه فِي تَبْرِئَتِهَا مِن السُّوء كَمَا سَبَّح نَفْسَه في تبرته مِن السُّوء وَهَذَا يَشْهَد لِقَوْل مَالِك فِي قَتْل من سَبّ عَائِشَة وَمَعْنَي هَذَا والله أَعْلَم أَنّ اللَّه لَمّا عَظَّم سَبَّهَا كَمَا عَظَّم سَبَّه وَكَان سَبُّهَا سَبًّا لِنَبِيّه وَقَرَن سَبّ نَبِيَّه وأذاه بأذاه تَعَالَى وَكَان حُكْم مُؤْذِيه تَعَالَى القَتْل كَان مُؤْذِي نَبِيَّه كَذَلِك كَمَا قَدّمْنَاه، وَشَتَم رَجُل عَائِشَة بالكُوفَة فَقُدّم إِلَى مُوسَى بن عِيسَى

العَبّاسِيّ فَقَال من حَضَر هَذَا فَقَال ابن أَبِي ليلى أَنَا فجُلِد ثَمَانِين وحَلَق رَأسَه وأسْلَمَه لِلْحَجّامِين وَرُوي عَن عُمَر بن الخطاب أنَّه نَذَر قَطع لِسان عُبَيْد اللَّه ابن عُمَر إذ شَتَم الْمِقْدَاد بن الأسْود فَكُلم فِي ذَلِك فَقَال دَعُونِي أقْطَع لِسانَه حَتَّى لَا يَشْتم أحَد بَعْد أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم وَرَوَى أَبُو ذَرّ الْهَرَوِيّ أَنّ عُمَر بن الْخَطَّاب أُتِي بأعرابى يهجو الأنْصار فَقَال لَوْلَا أَنّ لَه صُحْبَة لَكَفَيْتُكُمُوه قَال مَالِك مِن انْتَقَص أحدًا من أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَلَيْس لَه في هذا الفئ حَقّ قَد قَسَم الله الفئ فِي ثَلَاثَة أصْناف فَقَال (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) الآيَة ثُمّ قَال (والذين تبوؤا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قبلهم) الآيَة وهؤلاء هُم الْأَنْصَار ثُمّ قَال (وَالَّذِينَ جاؤا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان) الآيَة فَمَن تَنَقصَهُم فَلَا حَق لَه فِي فئ الْمُسْلِمِين، وَفِي كِتَاب ابن شَعْبَان من قَال فِي وَاحِد مِنْهُم إنَّه ابن زانِيَة وأمُّه مُسْلِمَة حُدّ عِنْد بَعْض أصْحَابِنا حَدّيْن حَدًّا لَه وَحَدًّا لأُمِّه وَلَا أجْعَلُه كَقَاذِف الْجَمَاعَة فِي كَلِمَة لِفَضْل هَذَا عَلَى غَيْرِه ولقوله صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم (وَمِنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَاجْلِدُوهُ) قَال وَمَنْ قَذَف أمّ أحَدِهِم وَهِي كَافِرَة حُدّ حَدّ الفِرْيَة لِأَنَّه سَبّ لَه فإن كان أحد من وُلِد هَذَا الصَّحابيّ حَيًّا قام بِمَا يَجِب لَه وَإِلَّا فَمَن قام مِن الْمُسْلِمِين كَان عَلَى الإمام قَبُول قِيَامِه قَال وَلَيْس هَذَا كَحُقُوق غَيْر الصَّحَابَة لِحُرْمَة هَؤْلَاء بِنَبِيِّهِم صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ولو سَمِعَه

الْإِمَام وأشْهَد عَلَيْه كَان وَليّ القيام بِه قَال وَمِن سَبّ غَيْر عَائِشَة من أزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم فَفِيهَا قَوْلان أحَدُهُمَا يُقْتَل لِأَنَّه سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم بِسَبّ حَلِيلَتِه والآخَر أنَّهَا كَسَائِر الصَّحَابَة يُجْلَد حَدّ المُفْتَرِي قَال وبِالأوّل أقُول وَرَوَى أَبُو مُصْعَب عَن مَالِك فِيمَن سَبّ مِن انْتَسَب إِلَى بيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم يُضْرَب ضَرْبًا وَجِيعًا ويُشْهَر ويُحْبَس طَويلًا حَتَّى تَظْهَر تَوبَتُه لِأَنَّه اسْتِخْفَاف بِحَقّ الرَّسُول صَلَّى الله عليه وسلم وأفنى أَبُو المُطَرّف الشَّعْبِيّ فيه ما لفة فِي رَجُل أنْكَر تَحْلِيف امْرَأة باللَّيْل وَقَال لَو كَانَت بِنْت أَبِي بَكْر الصّدّيق مَا حنفت إلَّا بالنَّهَار وَصَوَّب قوله بعض المتسميين بالفِقْه فَقَال أَبُو المُطَرّف ذِكْر هَذَا لابْنَة أَبِي بَكْر فِي مِثْل هَذَا يُوجِب عَلَيْه الضَّرْب الشَّدِيد والسّجْن الطَّوِيل والفَقِيه الَّذِي صَوَّر قَوْله هُو أخَصّ باسْم الفِسْق مِن اسْم الفِقْه فَيُتَقَدّم إليْه فِي ذَلِك ويُزْجَر وَلَا تُقْبَل فَتْوَاه وَلَا شَهَادَتُه وَهِي جُرْحَة ثَابِتَة فِيه وَيُبْغَض فِي اللَّه وَقَال أَبُو عِمْرَان فِي رَجُل قَال لَو شَهِد عَلَيّ أَبُو بَكْر الصّدّيق أنَّه إنّ كَان أرَاد أَنّ شهادته فِي مِثْل هَذَا لَا يَجُوز فِيه الشَّاهِد الْوَاحِد فَلَا شئ عَلَيْه وإن كَان أرَاد غَيْر هَذَا فَيُضْرَب ضَرْبًا يَبْلُغ بِه حَدّ المَوْت وَذَكَرُوهَا رِوَايَة * قَال الْقَاضِي أَبُو الْفَضْل هُنَا انْتَهى القَوْل بِنَا فِيمَا حَرّرْنَاه وانتجز الغرض

_ (قوله وانتجز الغرض) أي انقضى (*)

الَّذِي انْتَحَيْنَاه واسْتُوفِي الشَّرْط الَّذِي شَرَطْنَاه مِمَّا أرْجُو أَنّ فِي كُلّ قِسْم مِنْه لِلْمُرِيد مَقْنَع وَفِي كُلّ باب مَنْهج إلى بُغْيَتِه وَمَنْزَع وَقَد سَفَرْت فِيه عَن نُكَت تُسْتَغْرَب وَتُسْتَبْدَع وَكَرَعْت فِي مَشَارب مِن التَّحْقِيق لَم يُورَد لَهَا قَبْل فِي أكْثَر التَّصَانِيف مَشْرَع وأوْدَعْتُه غَيْر مَا فَضْل وَدِدْت لَو وجَدْت من بَسَط قَبْلي الْكَلَام فِيه أَو مقتدى يُفِيدُنِيه عَن كِتابِه أَو فِيه لأكْتَفَى بِمَا أرْويه عَمَّا أُرَوّيه وَإِلَى اللَّه تَعَالَى جَزِيل الضَّرَاعَة والمِنَّة بِقَبُول مَا مِنْه لوجهه ولعفو عَمَّا تَخَلَّلَه من تَزَيُّن وَتَصَنُّع لِغَيْرِه وأن يَهَب لَنَا ذَلِك بِجَمِيل كَرَمِه وَعَفْوِه لِمَا أوْدعنَاه من شَرَف مُصْطَفاه وأمين وَحْيه وأسْهَرْنَا بِه جفوتنا لِتَتَبُّع فَضَائِلِه وَأعمَلْنَا فِيه خَوَاطِرَنا من إبْرَاز خَصَائِصِه وَوَسَائِلِه وَيَحْمِي أعْرَاضَنَا عَن نَارِه المُوقَدَة لِحِمَايَتِنَا كريم عرضه ويجعلنا ممن

_ (قوله انتحيناه) بالحاء أي اعتمدناه (قوله بغيته) بكسر الموحدة أي حاجته (قوله ومنزع) بفتح الميم والزاى (قوله مشرع) بفتح الميم والراء مورد الشاربة (قوله وددت) بكسر الدال الأولى (قوله بِمَا أرْويه عَمَّا أرويه) الأولى بفتح الهمزة وسكون الراء والثانية بضم الهمزة وفتح الراء وتشديد الواو (قوله الضراعة) بضاد معجمة أي الخضوع (*)

لَا يذاد إذَا ذيد المبدل عَن حوضه ويجعله لَنَا ولمن تهمم باكتتابه واكتسابه سبيا يصلنا بأسبابه وذخيرة نجدها يَوْم تَجد كُلّ نَفْس مَا عَملَت من خَيْر مُحْضَرًا نَحُوز بِهَا رِضَاه وَجَزِيل ثَوَابِه ويَخُصَّنَا بِخصَّيصي زُمْرَة نَبِيَّنَا وَجَمَاعَتِه وَيَحْشرَنا فِي الرّعيل الأوّل وَأَهْل الباب الأيْمَن من أَهْل شَفَاعَتِه، ونَحْمَدُه تَعَالَى عَلَى مَا هَدَى إليْه من جَمْعِه وألْهَم وَفَتَح البَصِيرَة لِدَرْك حَقَائِق مَا أوْدَعْنَاه وَفَهَّم، وَنَسْتَعِيذُه جَلّ اسْمُه من دُعاء لَا يُسْمَع وعلْم لَا يَنْفَع وَعَمَل لَا يُرْفَع فَهُو الْجَوَاد الَّذِي لَا يُخَيَّب من أمَّله وَلَا يُنْتَصَر من

_ (قوله لا يذاد) بذال معجمة ثم دال مهملة (قوله بخصيصى) بكسر الخاء المعجمة وبصادين مهملتين الأولى مكسورة مشددة والثانية مفتوحة مخففة، في الصحاح خصه بالشئ خصوصا وخصوصية وخصوصية والفتح أفصح وخصيصى (قوله في الرعل) بتفح الراء وكسر العين المهملة في الصحاح الرعلة القطعة من الخيل وكذلك الرعيل (قوله الجواد) بتخفيف الواو (قوله لا يخيب) بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد ثالثه وكسره وَالْحَمْد لله رَبّ العالمين وصلواته على سيد المرسلين وَإمَام الْمُتَّقِين وَخَاتِم النبيين سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ومجد. تم بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ كتاب مزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء في العشر الأخير من ذى القعدة سنة سبع وأربعين وثمانمائة (*)

خَذَلَه وَلَا يَرُدّ دَعْوَة القَاصِدِين وَلَا يُصْلح عمل المُفْسِدِين وَهُو حَسْبُنا وَنِعْم الْوَكِيل، وَصَلاتُه عَلَى سَيّدنا وَنبيّنَا مُحَمَّد خَاتِم النَّبِيّين وَعَلَى آلِه وصَحْبِه أجْمَعِين وَسَلَّم تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَالْحَمْد لله رَبّ العالمين تم الجزء الثاني من كتاب الشفا، وبه تم الكتاب

§1/1